حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع
جمع
الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي
الحنبلي رحمه الله
(1312-1392هـ)
الطبعة الأولى
1397 هـ(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مؤلف الحاشية
هو الشيخ الإمام العالم العلامة العامل المحقق المدقق المجتهد المتفنن عبد الرحمن ابن محمد بن قاسم العاصمي نسبة إلى عاصم وهو جد القبيلة المشهورة بنجد من قبائل قحطان ولد رحمه الله سنة 1312 هـ في بلدة البير القرية المعروفة شمال الرياض وابتدأ في صغره بحفظ القرآن الكريم حتى أتقنه عن ظهر قلب ثم قرأ في مبادئ العلوم على مشايخ بلده ومن بقربه ثم انتقل إلى الرياض وكانت إذ ذاك حافلة بالعلماء الكبار فواصل دراسته وجد واجتهد في التعلم بعد أن ذاق حلاوة العلم وأدرك من نفسه إقبالاً كلياً على القراءة والحفظ والاستفادة حتى فاق أقرانه ومن أشهر مشايخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف والشيخ حمد بن فارس والشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ عبد الله العنقري والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ محمد بن مانع وغيرهم من علماء ذلك الزمان. ولم يزل مكبا على الدراسة والحفظ والاستفادة حتى حصل على جانب كبير في أكثر العلوم وتضلع في علم التوحيد والفقه والحديث ونحوها من العلوم الدينية. وكان رحمه الله حسن الخط سريع الكتابة فنسخ بيده شيئاً كثيراً ورزقه الله الصبر والقوة بحيث لا يعتريه ملل ولا سآمة فأكب على المطالعة والبحث والاستفادة والتنقيب عن أفراد المسائل وأماكن الأدلة حتى نال ما تمناه، ثم حرص على العمل والتطبيق فانطبعت في أخلاقه آثار تلك الفوائد فلا يخلو حديثه من فائدة دينية أو مسألة فقهية أو استشهاد بآية أو حديث.
وكان رحمه الله غيورًا على حرمات الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر يصدع(1/3)
بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم ثم هو مع ذلك حسن السمت دمث الأخلاق دائم البشر، كريم النفس متعززًا عن رزائل الأمور وسفاسف الأخلاق وكان متواضعًا لربه لا يستنكف ولا يرفع نفسه عن إجابة الصغير والكبير ومحادثة الغني والفقير مع ما رزقه الله من الهيبة والاحترام في قلوب الخاص والعام.
وقد نفع الله بعلومه وبارك في أوقاته فصنف عدة كتب في مختلف الفنون فمنها في الحديث:
1- (أصول الأحكام) مختصر قيم انتقى فيه الأدلة الواضحة الصحيحة بإيجاز.
2- (الأحكام شرح أصول الأحكام) وقد طبع منه ثلاثة أجزاء في حياته رحمه الله ثم طبع الجزء الرابع الأخير هذا الزمان. ومنها في الفقه.
3- حاشية على كتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع وتقع في عدة مجلدات هذا المجلد هو الأول منها والبقية تهيأ للطبع.
4- حاشية على نظم الرحبية في علم الفرائض تكرر طبعها.
5- نبذة مفيدة في تحريم حلق اللحى وقد طبعت مراراً.
6- وظائف رمضان نبذة لخصها من لطائف المعارف.
ومنها في علوم القرآن:
7- مقدمة في أصول التفسير مفيدة في بابها.
8- حاشية مقدمة التفسير. وهي شرح للنبذة المذكورة وقد نشرت في حياة المؤلف ومنها في النحو:
9- حاشية على متن الآجرومية طبعت ونشرت فانتفع بها.
ومنها في التوحيد:
10- (السيف المسلول في الرد على عابد الرسول طبع قديماً وانتشر) .(1/4)
11- حاشية ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب تكرر طبعها في حياة المؤلف وبعد وفاته.
12- حاشية (كتاب التوحيد) طبعت قريباً وهي من أنفس ما كتب على هذا الكتاب.
13- الدرر السنية في الأجوبة النجدية، ترتيب رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى زمن المؤلف وقد بذل جهدا في استقصائها وتتبعها في مختلف البلاد وصبر على ما لقي من صعوبات ونفقات وأخطار وسهر وتعب في البحث والنسخ والمقابلة والتصحيح ثم قسمها فنونا ورتبها على الكتب والأبواب فجاءت مجموعة ضخمة بلغت أحد عشر جزءا مختلفة الأحجام.
14- تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، ذيل به الدرر السنية في جزء مستقل هو الجزء الثاني عشر، وقد أحسن في السناء على أولئك المشايخ بما هم أهله.
15- ترتيب مجموعة رسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، عثر على بعضها أثناء جمعه لرسائل علماء نجد فواصل البحث في المكاتب القريبة والبعيدة بمساعدة ابنه محمد وقد تكبد في سبيل جمعها من الشدة والمشقة ما يرجى له به جزيل البر والأجر عند الله وقد رتبها وقسمها فنونا وأبوابا وأضاف إليها المطبوع من الرسائل الصغيرة والفتاوى فبلغت خمسة وثلاثين مجلدا احتوت على علم جم لا يقدر قدره ثم عمل عليها ابنه محمد وفقه الله فهرسا مفصلا كان كالتقريب لها ويقع في مجلدين ضخمين.
وقد اشتغل المؤلف رحمه الله أيضا بالتحقيق لكثير من الكتب المفيدة التي طبعت بعد أن تولى تصحيحها والتعليق عليها.
وأما أعماله الإدارية فقد تنقل مدة تزيد على اثنين وثلاثين عاما بين التدريس في المساجد وإدارة المكاتب والإشراف على طبع الكتب ونحو ذلك وقد أدى جهدا كبيرا وأنتج ثمرة يانعة لا يزال أثرها باقيا بين المسلمين.(1/5)
وقبل وفاته بثمان سنين طلب الإحالة للتقاعد فهناك تفرغ للكتابة وإتمام ما ابتدأ فيه من المؤلفات وأصيب بألم في الرأس بسبب حادث سيارة لازمه عدة سنوات حتى وافاه الأجل المحتوم وذلك لثمان خلت من شعبان عام 1392 هـ فوقع بالمسلمين الخطب الجسيم والكارثة العظمى حيث فقدوا الرجل الفذ العامل المخلص الناصح للأمة فرحمه الله وأكرم مثواه.
ولم ينقطع عمله والحمد لله حيث خلف علماً جماً ينتفع به من بعده كما خلف ذرية صالحين إن شاء الله يخلفونه بخير ويزودونه بالدعوات والصدقات، وقد رثاه كثير من العلماء وأظهروا الحزن والأسى على فقده فمن ذلك مرثية للشيخ محمد بن عبد العزيز بن هليل جزاه الله خيراً مطلعها:
مصاب على الإسلام بين العوالم ... على العلم والدين القوي الدعائم
رحيل رجال العلم والمجد والتقى ... أولي الصدق والإخلاص من كل عالم
نجوم الهدى والرشد والحق والعلى ... رجوم العدا من كل غاو وآثم
فكم فاضل حبر جليل مهذب ... حكيم حليم ثابت الجأش حازم
تصرمت الأيام أيام عمره ... وبات بأطباق الثرى المترادم
وفي اليوم ذا تجري الدموع غزيرة ... كهتان وبل من خلال السواجم
وتتقد الأحشاء حزنا ولوعة ... تجيش بها الأشجان مثل الضرائم
لفد التقي الألمعي أخي الوفا ... أخي السبق في شأو العلى والمكارم
هو العابد الرحمن نجل محمد ... أكيد الإخا الشيخ الأديب ابن قاسم
هو الصالح المحبوب والناصح الذي ... يسير على النهج المنير المعالم
على الأصل والتقوى وحسن عقيدة ... وصحة إيمان ورشد القوادم
عفاف وزهد صادق وتورع ... وحسن اعتناء في الأدا والتفاهم
ونصح وإرشاد وحزم وغيره ... بحكمة داع مشفق غير ناقم
وحرب على الإلحاد والغي والردى ... وكل انحراف زائغ أو جرائم
سخاء ونبل فائق وسماحة ... وعون مع الإخوان أوفى مساهم(1/6)
وترتيل آيات الكتاب تدبرا ... وخشية رب بالسرائر عالم
مفيد بما يدري وما صح علمه ... بحسن بيان واضح غير كاتم
وما ليس بالمعنيه عنه بمعزل ... وعن كل خوض سيئ أو تخاصم
له في سبيل العلم والحق والهدى ... جهاد بمجهود الدءوب الملازم
حريص على نشر العلوم ونصرها ... وتأليفها والجمع بين الملازم
فنون بحوث ضم بعضا لبعضها ... بترتيب فن لائق متلائم
له القلم الموهوب عزما وقوة ... بخط رشيد شيق السطر راقم
بعزم وجد واهتمام مواظب ... ولم يثنه وهن ولا لوم لائم
إلى آخر ما قال والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
بقلم المشرف على الطبع والتصحيح
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبرين(1/7)
مقدمة
ينبغي لكل مبتدئ في فن من فنون العلم أن يعرف مبادئه قبل الشروع فيه، ولما كان فن الفقه من أنفع العلوم وأهمها، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: «الفقه عليه مدار العلوم، فإن اتسع الزمان للتزيد فليكن من الفقه، فإنه الأنفع، وقيد المهم من كل علم، فهو سيد العلوم» انتهى، فلذلك نذكر المبادئ العشرة المشارة إليها في قول بعضهم، ونمثل لها بالفقه وهي هذه:
إن مبادئ كل فن عشره ... الحد والموضوع ثم الثمره
وفضله ونسبة والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
فالمهم من ذلك معرفة الحد وهو أصل كل علم، ومعناه الوصف المحيط الكاشف عن ماهية الشيء، وشرطه طرد وعكس، ومعنى الطرد إدخال المحدود، والعكس إخراج ما عداه، فإن لم يطرد وينعكس فليس بحد، والموضوع وهو ما يقصد بيانه، والثمرة ويقال لها الفائدة أيضا، وهي ما ينتجه، إذا عرفت ذلك فحد الفقه: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وموضوعه أعمال المكلفين من العبادات والمعاملات، وثمرته الاحتراز من الخطأ في القيام بالعبودية، وفضله ما فضل به على غيره، ونسبته إلى العلوم كنسبة الفرع إلى أصله، والواضع هو الله تعالى، والاسم يعني الفقه، والاستمداد يعني من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وحكمه أنه فرض عين فيما يجب، وفرض كفاية فيما زاد على ذلك، ومسائله ما يذكر في كل باب من أبوابه، وهي جمع مسألة وهي القضايا المبرهن عنها في العلم، ويقال في كل فن من العلم كما في فن الفقه، فافهم ذلك والله أعلم.(1/8)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتوحد في الكمال، الأحد الصمد الحكم العدل ذي العزة والجلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أكمل الله به الدين، وأوضح به السبيل للسالكين، فاتضح الحرام من الحلال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين أعلام الهداية والبيان، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فإن زاد المستقنع وشرحه وقد رغب فيهما طلاب العلم غاية الرغب، واجتهدوا في الأخذ بهما أشد اجتهاد وطلب، لكونهما مختصرين لطيفين، ومنتخبين شريفين، حاويين جل المهمات، فائقين أكثر المطولات والمختصرات، بحيث إنه يحصل منهما الحظ للمبتدي، والفصل للمنتهي، وخدمهما علماء العصر كالشيخ عبد الله أبا بطين، والشيخ عبد الله العنقري، عبد الوهاب بن فيروز بالحواشي مفردة، وعلى الهوامش، من لا أحصيهم مكثر ومقل. فتطلفت بوضع هذه الحاشية منتخبة من تلك الحواشي، ومن تقرير شيخنا محمد بن إبراهيم آل الشيخ ومن كتب الأصحاب. كالتنقيح والمغني والزركشي والشرح والمبدع، والمطلع والمحرر، والفروع والتصحيح، والإنصاف، والإقناع والمنتهى، وحواشيهما ومن كتب فتاوى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وابن رجب، ومن كتب الحديث وشروحها، وكتب أهل المذاهب كالبغوي، والنووي وابن رشد وغيرهم، مجتهدا في نقل الإجماع عمن تقدم ذكرهم، وعن ابن جرير وابن كثير وابن عبد البر وابن المنذر، وابن هبيرة وغيرهم من أهل التحقيق، مفتشا على خلاف يعتبر ومجتهدا في إبراز الدليل والتعليل، وتوضيح القول الصحيح (1) .
__________
(1) إثبات المسألة بدليلها تحقيق، وبدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق العبارة ترقيق، وبمراعاة علم المعاني والبديع في تركيبها تنميق، والسلامة فيها من اعتراض الشرع توفيق، ونسأل الله بأسمائه الحسنى الهداية والتوفيق، لما اختلف فيه من الحق إلى أقوم طريق.(1/9)
وقد انتشرت في هذا العصر فكرة التوسع في الاطلاع على المذاهب الأربعة وغيرها، والأخذ منها، وعدم الاقتصار على مذهب واحد، ليبنى الحكم على الأقوى دليلا، فأذكر غالبا ما أجمع عليه إن كان، أو ما عليه الجمهور أو ما انفرد به أحد الأئمة وساعده الدليل حسب الإمكان، بحيث يغني عن مطالعة الأسفار الضخمة، ولست وإن بذلت الجهد قد بلغت النهاية، بل خطوة في البداية، فميدان العمل فيه سعة لمن شحذ همته، وبذل نصحه، وشرعه لمن خلصت نيته، وأحرص إن شاء الله أن لا أطيلها إلا بقواعد وبراهين ومهمات تثلج الصدر وتبرد الوحر، ويطمئن لها قلب من له طلب مليح. وقصد صحيح، إذ لا التفات لكراهة ذوي البطالة والمهانة، بل قال ابن رشد: ما من مسألة وإن كانت جلية في ظاهرها إلا وهي مفتقرة إلى الكلام على ما يخفى من باطنها. وقد يتكلم الشخص على ما يظنه مشكلا، وهو غير مشكل على كثير من الناس، وقد يشكل عليهم ما يظنه هو جليا، والكلام على بعض المسائل دون بعض تعب وعناء بدون فائدة تامة. وإنما الفائدة التامة التي يعظم نفعها، ويستسهل العناء فيها، أن يتكلم الشخص على جميع المسائل كي لا يشكل على أحد مسألة إلا وجد التكلم عليها، والشفاء مما في نفسه منها، والحال دون ما ذكر ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.(1/10)
أصول وقواعد وتنبيهات
(أصول الأحكام)
قال شيخ الإسلام وغيره: أجمع المسلمون على أن الأصول ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب والسنة فهما أصل الأصول، وكلية الشريعة وعمدة الملة والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، ولا طريق إلى الجنة إلا بالكتاب والسنة، وليسا بمحتاجين إلى تقريب واستدلال، والأصل الثالث الإجماع.
قال: ويجب تقديمه على ما يظن من معاني الكتاب والسنة، وعلى المجتهد أن ينظر إليه أول شيء في كل مسألة، فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه، لكونه دليلا قاطعا، ثابتا في نفس الأمر، قالعا للشواغب، لا يقبل نسخا ولا تأويلا، ولا شك أن مستنده الكتاب والسنة، وأنه قطعي معصوم فإن أهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام، ولا تحريم حلال، وكثير من الفرائض التي لا يسع أحدًا جهلها إذا قلت أجمع الناس لا تجد أحدا يقول: هذا ليس بإجماع، ومجرد النزاع لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع.
قال: ومعنى الإجماع أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة لم يكن لأحد أن يخرج عنه فإنها لا تجتمع على ضلالة، فقد عصمها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما هو مضمون قوله (ويتبع غير سبيل المؤمنين) ومفهوم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) ، ولكن كثيرا من المسائل يحكي بعض الناس فيها إجماعا، ولا يكون الأمر كذلك، بل قد يكون فيها قول آخر أرجح في الكتاب والسنة، وقول بعض الأئمة كالأربعة وغيرهم ليس حجة لازمة، ولا إجماعا باتفاق المسلمين، وإذا خرج من خلافهم متوخيا مواطن الاتفاق مهما أمكنه كان آخذا بالحزم، وعاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن، وتوخى ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى، ما لم يخالف كتابا أو سنة، قال: وكل مسألة دائرة بين نفي وإثبات لا بد فيها من حق ثابت في نفس الأمر، أو تفصيل، وإن كان لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية، تبين الحق.(1/11)
إحاطة الشرع بالأحكام
وأجمع المسلمون على أن الله أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثير، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، وبهذا الوجه تكون النصوص المحيطة بأحكام أفعال العباد، ولا ينكر ذلك إلا من لا يفهم معاني النصوص العامة وشمولها قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .
قواعد تدور عليها الأحكام
وقال هو وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: تدور الأحكام على قواعد. منها أن الله أكمل لنا الدين، فلا يحتاج إلى زيادة، وتقدم قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومنها أن كل ما سكت عنه فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه قال تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقال - صلى الله عليه وسلم - «وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» ومنها أن الله حرم القول عليه بلا علم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فجعل تعالى منزلة القول عليه بلا علم فوق منزلة الشرك، وقال عليه الصلاة والسلام «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، ومنها أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بلفظ متشابه هو طريق أهل الزيغ، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» فالواجب اتباع المحكم، فإن عرف معنى المتشابه وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، ومنها أن الحرام بين والحلال بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن لم يتفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم في كل مسألة بكلام فاصل فقد ضل وأضل.(1/12)
حفظ الأحكام
قيض الله سبحانه لحفظ كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتمييز الصحيح من السقيم، حتى استقر الثابت المعمول به فحولا جهابذة أئمة للمسلمين، ورثة لسيد المرسلين، وسائط ووسائل بين الناس وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغون الناس ما قاله، ويفهمونهم مراده، يقولون هذا عهده إلينا، ونحن عهدناه إليكم، وهكذا يتلقاه خالف عن سالف، قال عليه الصلاة والسلام «يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» فهموا عن الله ورسوله، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من الكتاب والسنة، تارة من نفس القول، وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه، واحتيج في إيضاحها إليه، وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة، وكثيرا ما يتبين الحق فيكون فهمهم من النصوص هو الذي تشهد العقول والفطر بأنه هو العلم النافع، ومن تمام العصمة أن جعل تعالى عددا من العلماء إذا أخطأ الواحد في شيء كان الآخر قد أصاب فيه، حتى لا يضيع الحق، وجاء بعدهم من تعقب أقوالهم، فبين ما كان خطأ عنده، كل ذلك حفظ لهذا الدين، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
سؤال أهل العلم بها
ولما كان كثير من المسائل لا يعرفها كثير من الناس، أمروا بسؤال أهل العلم بالأحكام، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ *} وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال» فالواجب على المكلف إذا لم تكن فيه أهلية لمعرفة الدليل من الكتاب والسنة سؤال أهل العلم، وليس المراد التقليد المذموم، وهو أن يقلد الرجل شخصًا بعينه في التحريم والتحليل، بغير دليل، بل المراد الاقتداء الذي لا يعرف الحق إلا به، وهو الاقتداء بمن يحتج لقوله بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في الحقيقة، بمقلد بل متبع لتلك الأدلة الشرعية، مجتهد فيما اختاره، داخل تحت قوله {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.(1/13)
صفة المسئول
ينبغي أن يكون عارفا بآثار السلف، ومقاصد أفعالهم، وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصحيح، الذي لا يتصور أن يناقض ذلك، عالما بقول من تقدمه، وإلا لم يمكنه أن يقول بمبلغ علمه، وإن كان عنده شواهد وبينات مما شاهده أو وجده أو عقله أو عمله، وذلك قد ينتفع به هو في نفسه إن وافق، فإن بصيرة المؤمن قد تنطق بالحكمة، وإن لم يسمع أثرا، فإذا جاء الأثر كان نورا على نور، وأما حجة الله على عباده فهي الكتاب والسنة.
إذا اجتهد
وإذا اجتهد الفاضل بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، وكان مقصوده متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحسب إمكانه، فبان له الحق، فله أجران، وإن اقتضى اجتهاده قولا آخر فعليه أن يعمل به، لا لأنه أمر بذلك القول، بل لأن الله أمره أن يعمل بما يقتضيه اجتهاده، وبما يمكنه معرفته، وهو لم يقدر إلا على ذلك، وهو مأجور غير مؤاخذ بما أخطأ، وهذا حكم من الله من جهة العمل بما قدر عليه من الأدلة، وإن كان في نفس الأمر دليل معارض راجح لم يتمكن من معرفته، فليس عليه اتباعه إلا إذا قدر عليه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها أمر لا ينضبط وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
وتمكن
ومن تمكن من الحكم بنفسه بالقوة القريبة من الفعل، لكونه أهلا للاجتهاد فلا خلاف في أنه لا يجوز له تقليد غيره، سواء كان الغير أعلم منه أم لا، مع ضيق الوقت أو سعته، ويجب عليه اتباع النص، وإن لم يفعل كان متبعا للظن {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} ومن أكبر العصاة لله ولرسوله، ومن بلغته السنة، وتبين له حقيقة الحال لم يبق له عذر، ولا يجوز له أن يرغب عما شرعه الله ورسوله، لأجل اجتهاد غيره، وقد أجمع أهل العلم على تحريم التقليد بعد ظهور الحجة، وتحريم تقليد من ليس بأهل أن يؤخذ بقوله: أو تقليد واحد من الناس في جميع ما قال دون غيره.(1/14)
إذا نظر في مسألة متنازع فيها
ومن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها، ورأى مع أحد القولين نصا لم يعلم له معارضا، فهو بين أمرين، إما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنص، وهو واجبه فقد أجمع المسلمون على تحريم القول في دين الله بما يخالف النص، ويسقط حينئذ الاجتهاد والتقليد، وإما أن يتبع قول القائل لمجرد كونه إمامًا اشتغل على مذهبه، وقد علم بالضرورة من كلام الأئمة الأربعة وغيرهم أن من قلد أحدا منهم أو من غيرهم في نازلة بعد ظهور كون رأيه فيها مخالفًا نص كتاب أو سنة أو إجماعا أو قياسا جليا عند القائل به فهو كاذب في دعواه التقليد له، متبع لهواه وعصبتيه، فقد أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، ولا يلتفت إلى الآراء مع وجود سنة تخالفها.
القول الصحيح يخرج على مذاهبهم
وكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة الأربعة بلا ريب، فقد اتفقوا على أصول الأحكام، فإذا تبين رجحان قول وصحة مأخذه خرجوا على قواعد إمامه، فهو مذهبه، وقد صرحوا بأن النصوص الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما فهموا من النصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يقال قول هذا صواب دون قول هذا إلا بحجة.
أقوالهم يحتج لها
أقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، وتذكر وتورد في المعارضات والالتباس، والعلم بها من أسباب الفهم عن الله ورسوله، فإنهم قصدوا تجريد المتابعة، للرسول صلى الله عليه وسلم، والوقوف مع سنته، ولم(1/15)
يلتفتوا إلى خلاف أحد، بل أنكروا على من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنا من كان، ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف، فإن تعليلها بذلك علة باطلة في نفس الأمر، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يسلكه إلا من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في نفس الأمر، لطلب الاحتياط.
تدوينها
حكاية القولين والثلاثة إنما دونت لفائدة، وهي التنبيه على مدارك الأحكام، واختلاف القرائح والآراء، وربما يستنير أهل العلم ممن بعدهم بما فيها من الآراء، وربما يظهر من مجموعها ترجيح بعضها، وذلك من المطالب المهمة، والقياس أن لا تدون تلك الأقوال، وهو أقرب إلى ضبط الشرع، إذ ما لا عمل عليه لا حاجة إليه، فتدوينه تعب محض، ولكن جرت طريقة أهل العلم في طلب أقوال العلماء، وضبطها والنظر فيها، وعرضها على الكتاب والسنة، فما وافق ذلك قبلوه وقضوا به وإلا لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، ولا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدا، ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، بل قد نهونا عن الأخذ بما يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة، وكانوا أول العاملين بها، الداعين إليها، ولم يكتبوا كتبا بآرائهم في الدين، يكلفون الناس العمل بها، والكتب المنسوبة إليهم إنما كتبها خلفهم، لنشر آرائهم، وإظهار اجتهادهم ورأى بعضهم من يكتب عنه كل ما يقول فنهاه، وقال أتكتب عني رأيا فتجعله دينا للناس؟ وربماأرجع عنه غدا.
ما لا يجوز نقله
لا يجوز لمطلع على قول مخالف لأصل شرعي، من كتاب أو سنة أو إجماع
نقله للناس إلا للتنبيه عليه، ولا يجوز له أن يفتي به في دين الله، فإن الفتوى بغير(1/16)
شرع الله حرام، وإن لم يعص صاحب القول، بل يؤجر لاجتهاده، بخلاف المطلع عليه المخالف عمدا فيأثم.
الاحتياط
رجح عامة العلماء الدليل الحاظر على الدليل المبيح، وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام، بناء على هذا، وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة، والاحتياط ما لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط اتباعها، فإن أفضى الاحتياط إلى خلافها كان خطأ، والعلماء متفقون على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر.
الاعتناء بالشرع
يتعين الاعتناء بالكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} في غير موضع من كتابه، أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، واعتنوا بهما، ففيهما الهدى والنور، وحذر عن مخالفتهما، فعلى المتمسكين بالمذاهب أن يعتنوا بالشريعة المطهرة أكثر، ويعرضوا أقوال الأئمة عليها، ليعلموا بذلك مذاهب أئمتهم الحقة، وعليهم أن يرجعوا إلى الأدلة الشرعية التي اشتهر العمل بها بين علماء المسلمين، خلاف ما لهج به غالب المتأخرين من أتباع الأئمة، من اقتصارهم على الكتب الخالية من الدليل، وإعراضهم عن الكتاب والسنة وعن نقل بعض ما صح عن أئمتهم المطابق للكتاب والسنة وكثير من الآراء التي يعتقدونها مذاهب لأئمتهم، بعضها مخالف لمذاهب أئمتهم. فضلا عن الكتاب والسنة، وما عليه جمهور الأمة، وما كان كذلك ليس بمذهب لأحد من الأئمة، كما علم ذلك عنهم.
كتب المتأخرين
وقال مجدد هذه الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
أكثر ما في الإقناع والمنتهى مخالف لمذاهب أحمد ونصه، فضلا عن نص رسول الله(1/17)
صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك من عرفه، وقال نحو ذلك في كتب المتأخرين من أهل المذاهب، ولشيخ الإسلام عن أهل عصره نحو ذلك، فكيف بكتب عصرنا؟ وقال ابن القيم: المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة، ويبينونها على ما لم يكن لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثم يلزمهم من طرد لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين الناس بجاه الأئمة، ويفتي به، ويحكم به، والإمام لم يقله قط، بل يكون نص على خلافه، وقال لا يحل أن ينسب إلى إمامه القول، ويطلق عليه أنه قوله، بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه، فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة، وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم، فليس كل ما في كتبهم منصوصا عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه لا نص لهم فيه وكثير منهم يخرج على فتاويهم وكثير منهم أفتوا به بلفظه، أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه، إلا أن يعلم يقينا أنه قوله ومذهبه اهـ.
وإذا تتبع المنصف تلك الكتب، واستقرأ حال تلك الأتباع، وعرضها على الكتاب والسنة، وعلى أصول الأئمة، وما صح عنهم، وجدها كما قالوا رحمهم الله، وقد يؤصل أتباعهم ويفصلون على ما هو عن مذاهب أئمتهم الصحيحة بمعزل يعرف ذلك من كان خبيرا بأصولهم ونصوصهم، ومع ذلك عند بعضهم كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، لا يلتفت إلى ما سواه، ولو جاءته الحجة كالشمس في رابعة النهار.
التأويل
وكثير منهم إذا رأى حديثا يخالف مذهبه تلقاه بالتأويل، وحمله على خلاف ظاهره، مهما وجد إليه سبيلا، فإن جاءه ما يغلبه فزع إلى دعوى الإجماع على خلافه، فإذا رأى من الخلاف ما لا يمكنه معه دعوى الإجماع، فزع إلى القول بأنه منسوخ، أو إلى أن متبوعه أعلم، وأنه ما خالفه إلا وقد صح عنده ما يقتضي مخالفته.(1/18)
وليست هذه طريقة السلف، بل كلهم على خلاف هذه الطريقة، فإنهم إذا وجدوا سنة صحيحة لم يبطلوها بتأويل، ولا دعوى إجماع، ولا نسخ ولا ادعاء علم متبوع، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ الأئمة لا تضيع نقل سنة صحيحة متأخرة وتحفظ المنسوخ.
التعصب
التعصب إلى المذاهب والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض، والدعوى إلى ذلك، والموالاة عليه من دعوى الجاهلية، بل كل من عدل عن الكتاب والسنة فهو من أهل الجاهلية، والواجب على المسلم أن يكون أصل قصده طاعة الله وطاعة رسوله، يدور على ذلك ويتبعه أينما وجده، ولا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصار مطلقا عاما إلا لأصحابه فإن الهدى يدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دار ويدور مع أصحابه دون غيرهم، خلاف ما درج عليه بعض متأخري الأصحاب وغيرهم، حتى قال أبو الحسن الكرخي الحنفي، الأصل قول أصحابنا فإن وافقه نصوص الكتاب والسنة فذاك، وإلا وجب تأويلها، وجرى العمل عليه، وفي جامع الراموز وغيره، المذاهب أنه لا يقلد أحد من الصحابة ولا التابعين إلا أبا حنيفة، بل منهم من أدخل في الإسلام المذهب، وادعى الجويني وغيره وجوب انتحال مذهب الشافعي على كافة المسلمين حتى على العوام الطغام، بحيث لا يبغون عنه حولا، ولا يريدون به بدلا، وقيل غير ذلك مما يستحي العاقل من حكايته فضلا عن نقله.
فضل الأئمة
فضل الأئمة الأربعة وكذا غيرهم من أئمة الدين، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بغضهم وأذاهم، فقد تظاهرت به الآيات وصحيح الأخبار
والآثار، وتواترت به الدلائل العقلية والنقلية، وتوافقت، وهم أهل الفضل علينا، ونقلوا الدين إلينا، وعول جمهور المسلمين على العمل بمذاهبهم، من صدر الإسلام إلى(1/19)
يومنا هذا، بل لا يعرف العلم إلا من كتبهم، ولم يحفظ الدين إلا من طريقهم. فيجب احترامهم، وتوقيرهم والاعتراف بقدرهم وتحسين الظن بهم، فهم من خيار الأمة، وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أقوالهم سبب للإصابة ومعرفة الحق، لا سيما أهل الحديث فإنهم أعظم الناس بحثا عن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وطلبا لعلمها، وأرغب الناس في اتباعها، وأبعد الناس عن اتباع ما يخالفها ومقدمهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي قال فيه شيخ الإسلام وغيره: أحمد أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ولا يكاد يوجد له قول يخالف نصا، كما يوجد لغيره، لكن لا ندعي فيه ولا في أحد منهم العصمة، ولا نتخذهم أربابا من دون الله، وما وجد في بعض كتبهم من خطأ فمردود على قائله مع إحسان الظن به، والفقهاء المنتسبون إليهم لم يختاروا مذاهبهم عند عدم الدليل، إلا عن اجتهاد، لا مجرد رأي وتقليد، كما ظنه من لم يحقق النظر في مصنفاتهم، ومع ذلك فليسوا بمعصومين.
التمذهب
ولا يجب التزام مذهب معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله، فإنما يكون متبعا لهواه فإنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو محرما، ثم يعتقد الواجب حراما والمحرم واجبا، بمجرد هواه، كمسألة الجد وشرب النبيذ وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول بدليل، أو رجحان مفت فيجوز بل يجب، والعاجز إذا اتبع من هو من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره أرجح، فهو محمود مثاب، والله الموفق للصواب.(1/20)
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله الذي شرح صدر من أراد هدايته للإسلام (2) وفقَّه في الدين من أراد به خيرا (3) ، وفهمه فيما أحكمه من
__________
(1) لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يكتب «باسمك اللهم» حتى نزلت عليه {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الحافظ: وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالتسمية، وكذا معظم كتب الرسائل، وقدمت هنا على التعوذ دون القرآن لأن التعوذ هناك للقراءة، والبسملة من القرآن فقدم التعوذ عليها وابتدئ بها هنا للتبرك.
(2) الحمد: هو الثناء بالقول على المحمود، قال شيخ الإسلام: الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، وشرح أي وسع قلب من أراد هدايته وتوفيقه وإرشاده لاتباع الرسل، وفي الحديث قالوا: يا رسول الله كيف يشرح صدره؟ قال: «نور يقذفه فيه فينشرح له وينفسح» ، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وفيه اقتباس، وهو أن يضمن المتكلم كلامه بشيء من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه، ولا يضر فيه التغيير، لا لفظا ولا معنى، وشرح فيه أيضا إشارة إلى أن هذا الكتاب شرح: ومثل هذا يسمى براعة الاستهلال، وهو من المحسنات البديعة، وكذا قوله: فقه: و: من الأحكام، وبيان الحلال والحرام.
(3) أي علم وأرشد من أراد به خيرا، والخير كلمة جامعة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الطاعات، ضد الشر، يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» ، والدين الإسلام، والعبادة، والطاعة، والذل، والتوحيد، واسم لجميع ما يتعبد به.(1/21)
الأحكام (1) . أحمده أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس (2) وخلع علينا خلعة الإسلام خير لباس (3) وشرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وأوحاه إلى محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام (4) ، وأشكره وشكر المنعم واجب على
__________
(1) أي علمه وعرفه، فيما أحكمه أبرمه وأتقنه، من الأحكام جمع حكم، وهو مدلول خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين، وينقسم إلى خمسة أقسام: واجب، وحرام ومستحب ومباح، ومكروه.
(2) أي أصفه بالجميل على أن جعلنا من أمة هي خير الأمم، وأنفع الناس للناس، وفيه إشارة إلى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وكرر الحمد إيذانا بتكرره، حيث أعاده بالجملة الفعلية، واتباعا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الحمد لله نحمده ونستعينه» .
(3) أي جعل علينا خلعة الإسلام، وكذا الإيمان، لا ستلزام كل واحد منهما الآخر عند الانفراد خير لباس وأجمله، لمن أخذ به، وخلعة بكسر الخاء ما يخلع على الإنسان، وخير بالنصب صفة لخلعة، ولم يؤنثه لأنه اسم تفضيل مضاف لنكرة.
(4) أي وسن لنا طريقا واضحا من الدين الذي تطابقت على صحته الأنبياء، وهو ما أوحاه تعالى وأمر به، وعهده إلى هؤلاء الخمسة، وخصهم لأنهم أفضل الأنبياء، وأصحاب الشرائع المعظمة، والأتباع الكثيرة، وأولو العزم من الرسل عليه، وعليهم أسنى الثناء وأزكى التحية، والشرع لغة البيان والإظهار، يقال شرع الله كذا، أي جعله طريقا ومذهبا، واصطلاحا تجويز الشيء أو تحريمه، والشريعة ما شرعه الله لعباده على ألسن رسله والشرائع ثلاث منزلة ناسخة أو منسوخة، فالناسخة شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمنسوخة جميع الشرائع والثانية المبدلة وهي التي لم تشرع أصلا، والثالثة المؤولة وهي المستنبطة من النصوص
وربما يصيب التأويل وربما يخطئ، فالمنزلة يجب العمل بها، والمبدلة يحرم العمل بها والمؤولة سائغ العمل بها.(1/22)
الأنام (1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام (2) وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله (3) .
__________
(1) ثنى بالشكر، وهو مثل الحمد، إلا أن الحمد أعم منه، واجب أي لازم، يقال وجب وجوبا إذا ثبت ولزم، والواجب ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وهو مرادف للفرض، والأنام الجن والإنس، وقيل ما على وجه الأرض من جميع الخلق.
(2) معطوف على الجملة الاسمية، أي أقطع وأجزم أن لا معبود بحق إلا الله، وحده: حال من الاسم الشريف، تأكيد للإثبات، لا شريك له، تأكيد للنفي، قال الحافظ: تأكيد بعد تأكيد اهتمام بمقام التوحيد، ذو الجلال والإكرام، العظمة والكبرياء، فهو سبحانه الجليل الكامل في صفاته، الكريم الذي لا ينفد عطاؤه، له الجلال المطلق، والكمال المطلق، من جميع الوجوه، ولأبي داود من حديث أبي هريرة (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء) وجاءت كلمة لا إله إلا الله في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن.
(3) أي وأقطع أن سيدنا، أي أفضلنا، ويطلق على الشريف والرئيس والكريم، ومتحمل أذى قومه، ونبيًا أي أشرفنا، مأخوذ من النبوة وهي الارتفاع، لرفعته وشرفه على سائر الخلق، وآثر لفظ النبي لما فيه من الشرف والرفعة، ومحمد علم منقول من التحميد، مشتق من الحميد، والحميد اسم من أسماء الله تعالى، وإليه أشار حسان بقوله:
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
ومحمد أشرف أسمائه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: اسم مفعول، من حمد فهو محمد، إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها من المضاعف للمبالغة
فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر، وعبده أشرف اسم فإنه لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى، وقدمه لأنه أحب الأسماء إليه، وأشرفها لديه تعالى، ولذا وصفه به في أشرف المقامات، ورسوله أي مرسله وسفيره بأداء شريعته، قال ابن الأنباري الرسول في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بعثه.(1/23)
وحبيبه وخليله المبعوث لبيان الحلال والحرام (1) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم الكرام (2) أما بعد فهذا شرح لطيف على مختصر المقنع (3) .
__________
(1) حبيبه بمعنى محبوبه، والله سبحانه يحب ويحب، وخليله أي صفيه والخلة فوق المحبة، وفي الصحيح «إن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا» والمبعوث المرسل، أرسله الله إلى الثقلين لبيان أي: لتوضيح الحلال والحرام وهما ضدان والحلال شرعا: ما خلا عن مدح وذم لذاته، ويسمى مباحا وطلقا، والحرام ما ذم فاعله شرعا ولو قول وعمل قلب، ويسمى محظورا وممنوعا وغير ذلك.
(2) آله أتباعه على دينه على المشهور، أو أهل بيته وعليه الأكثر واختاره الشيخ وتلميذه وفي اللغة يرجع إلى الجميع، وأصحابه جمع صاحب بمعنى الصحابي، وهو من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لحظة ومات مؤمنا به، ويأتي وتابعيهم أي السائرين على منهاجهم إلى يوم القيامة، الكرام أي الجامعين لأنواع الخير والشرف والفضائل، وذكر ابن عبد البر عن بعضهم أنه قال: يجب أي من جهة الصناعة، على كل شارع في تصنيف أربعة أمور البسملة والحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتشهد، ويسن له ثلاثة أمور تسمية نفسه، وتسمية كتابه، والإتيان بما يدل على المقصود، وهو المعروف ببراعة الاستهلال.
(3) أي بعدما تقدم ولما كانت أما متضمنة لمعنى الشرط أتى بعدها بالفاء الجزائية فقال: فهذا إشارة إلى المرتب الحاضر في الذهن، سواء تقدمت الديباجة أو تأخرت، إذ لا حضور للألفاظ المرتبة ولا لمعانيها في الخارج، وبعد ظرف مبهم لا يفهم معناه إلا بالإضافة لغيره، هو زمان متراخ عن السابق، واسم الإشارة وإن كان وضعه للأمور المبصرة الحاضرة في مرئي المخاطب، فقد يستعمل في الأمور المعقول لنكتة وهي الإشارة إلى إتقانه لهذه المعاني، حتى صار لكمال علمه بها كأنها مبصرة عنده، والشرح الكشف، تقول شرحت الغامض إذا فسرته، والمراد هنا ما يوضح المعاني ويكشفها، من شرحه شرحا كشفه وفسره وبينه، ولطيف فعيل من اللطافة، والمراد بها هنا صغر الحجم، وبديع الصناعة، والاختصار ضم بعض الشيء إلى بعض للإيجاز ويأتي.(1/24)
للشيخ الإمام العلامة (1) والعمدة القدوة الفهامة (2) وهو شرف الدين أبو النجا (3) موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى المقدسي الحجاوي ثم الصالحي الدمشقي (4) تغمده الله برحمته (5) وأباحه بحبوحة جنته (6) .
__________
(1) إطلاق الشيخ على العالم باعتبار الكبر في العلم والفضيلة، والإمام من يؤتم به أي يقتدى به من رئيس وغيره، والعلامة العالم جدا، والهاء للمبالغة.
(2) العمدة ما يعتمد عليه، والقدوة مثلثة من يستن به والأسوة، يقال فلان قدوة أي يقتدى به، والفهامة صيغة مبالغة، من فهم أي علم وعرف.
(3) الشرف المجد والعلو، ويجب تأخير اللقب مع الاسم، ويخير مع الكنية.
(4) مفتي الحنابلة بدمشق والصالحي نسبة إلى بلدة الصالحية بظاهر دمشق وله كتاب الإقناع، وحاشية التنقيح، وغيرهما، واشتهر بالحجاوي نسبة إلى حجة، قرية من قرى نابلس، توفي سنة تسعمائة وثمان وستين.
(5) أي غمده فيها وغمره بها، من غمد السيف وهو غلافه، وفي الحديث «إلا أن يتغمدني الله برحمته» قال أبو عبيد: يتغمدني يلبسني ويتغشاني ويغمرني بها.
(6) أي أسكنه وسطها، وفي الحديث «من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة» .(1/25)
يبين حقائقه (1) ويوضح معانيه ودقائقه (2) مع ضم قيود يتعين التنبيه عليها (3) وفوائد يحتاج إليها (4) مع العجز وعدم الأهلية لسلوك تلك المسالك (5) لكن ضرورة كونه لم يشرح اقتضت ذلك (6) .
__________
(1) أي يكشف هذا الشرح مسائل زاد المستقنع ويبينها وحقيقة الشيء منتهاه، وأصله المشتمل عليه وكماله الخاص.
(2) أي يبين ما يتضمنه اللفظ ويدل عليه ويبين دقائقه يعني غوامضه جمع دقيقة، والدقائق هي المسائل الغامضة، وصدق رحمه الله فلقد أوضحها غاية الإيضاح، واعتني بحل عباراته، وبيان إشاراته وإبراز فوائده وتقييد شوارده.
(3) أي مع جمع وإضافة قيود إليه، جمع قيد وهو ما جيء به لجمع أو منع أو بيان واقع، وهو ما يقيد المعنى المطلق، ويحصل بصفة أو غيرها، ويتعين من تعين عليه الشيء لزمه بعينه، والتنبيه الإيقاظ مصدر نبه، والمراد بيان الشيء قصدا، بعد سبقه ضمنا، على وجه لو توجه إليه السامع الفطن لعرفه، ولكن لكونه ضمنيا ربما يغفل عنه ونبهته على الشيء أوقفته عليه.
(4) أي ومع ضم فوائد جمع فائدة يفتقر إلى طلبها، والفائدة ما استفيد به علم أو مال، مما يكون الشيء به أحسن حالا منه بدونه.
(5) أي ومع الضعف وعدم القدرة والاستعداد، والصلاحية لدخل تلك المداخل، متعلق بيوضح، وهذا تواضع منه رحمه الله، وإلا فهو أهل لذلك، كما هو مشهور عنه وظاهر باستقراء مصنفاته.
(6) أي لكن الضرورة الداعية إلى كشف مسائله استدعت واستوجبت له شرحه، ولقد شرحه رحمه الله شرحًا وافيًا، وبين ما أشكل منه بيانا شافيا، ولم يكن يوجد له شرح قبل هذا، ويذكر أن الشيخ سليمان بن علي شرحه، فالتقى بمنصور في الحج فلما اطلع على شرحه اكتفى به.(1/26)
والله المسئول بفضله أن ينفع به كما نفع بأصله (1) وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم (2) وزلفى لديه في جنات النعيم المقيم (3) «بسم الله الرحمن الرحيم» (4) أي بكل اسم للذات الأقدس (5) .
__________
(1) فضل الله صفة من صفاته تعالى كرحمته توسل إلى الله تعالى بفضله أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بأصله زاد المستقنع في مختصر المقنع فإنه اشتهر أي اشتهار وعكف على الاستفادة منه المبتدي والمنتهي، وصار يحفظ عن ظهر قلب، وكذا الشرح اشتهر وعم نفعه، وهذا الدعاء من هذا العبد الصالح يرغبك فيه، ونسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفع بهذه الحاشية عليهما إنه لا يضيع أجر المصلحين.
(2) أي صافيا من شائبة الرياء، لله تعالى وحده الكريم الذي لا أكرم منه، جلت عظمته وتقدست أسماؤه.
(3) أي مقربا لديه، وسببا موصلا للسكنى في جنات النعيم المقيم الدائم وسميت بالنعيم لما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والسرور، وقرة العيون نسأل الله من فضله النعيم المقيم.
(4) حذفت الألف لكثرة الاستعمال، وطولت الباء عوضا عنها، وقيل لما أسقطوا الألف ردوا طولها على الباء، ليكون دالا على سقوط الألف، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه: طولوا الباء، وأظهروا السين وفرجوا بينهما ودوروا الميم، تعظيما لكتاب الله، وكذا أسقطوا ألف الجلالة، وألف الرحمن، بقاء على قاعدة المصحف، ولا بد من إثباتها في اللفظ، وبعض العامة يقول: لا والله فيحذف الألف، واسم الله يجل أن ينطق به إلا على أجمل الوجوه وأكملها، والاسم مشتق من السمو وهو العلو، فكأنه علا على معناه وظهر عليه، فصار معناه تحته.
(5) أي بكل اسم من أسماء الله، سمي به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحدا من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، والأقدس الأطهر، وقدس يقدس قدسا طهر وتبارك، والقدس بالضم وبفتحتين الطهر اسم ومصدر وتقدس تنزه.(1/27)
المسمى بهذا الاسم الأنفس (1) الموصوف بكمال الإنعام وما دونه، أو بإرادة ذلك (2) أؤلف مستعينا أو ملابسا على وجه التبرك (3) .
__________
(1) وهو الله تعالى، والله أعرف المعارف، الجامع لمعاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولذا يضاف لجميع الأسماء، فيقال الرحمن من أسماء الله، وكذا الباقي، ولا يضاف هو إلى شيء، وخصت الإضافة إليه لأنه يدل على غيره، فيكون ذكره ذكرا لباقي الأسماء، ولأنه لا يطلق على غيره، فالإضافة إليه أولى وهو مشتق، أي دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية وأصله (الإله) حذفت همزته وأدغمت اللام في اللام فقيل الله، ومعناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأكثر العلماء على أنه اسم الله الأعظم، وقد ذكر في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا من القرآن.
(2) يعني الإنعام، وله سبحانه الكمال المطلق من جميع الوجوه، والإنعام مصدر أنعم ونعمة الله ما أعطاه للعبد، مما لا يتمنى غيره، أن يعطيه إياه، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} وتأويله الرحمة بالإنعام، أو بإرادة الإنعام جرى على طريقة الأشعرية، والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات صفة الرحمة، مع القطع بأنها ليست كرحمة المخلوق ومن ثمرتها الإنعام، وإرادة الشيء قصده والعزيمة عليه.
(3) إشارة إلى أن الباء إما للاستعانة، أو الملابسة، ليكون التقدير بسم الله أؤلف حال كوني مستعينا بذكره، متبركا به، والتبرك التيمن والفوز بالبركة، وكذا يضمر فعل ما جعلت التسمية مبدأ له، فيضمر المسافر أسافر، والآكل آكل، ليفيد تلبس الفعل جميعه بالتسمية، ولحذف العامل فوائد: منها أنه مواطن لا ينبغي أن يتقدم فيه سوى ذكر اسم الله تعالى، ولأنه إذا حذف الفاعل صح الابتداء بالتسمية في كل قول وعمل، ولأن الحذف أبلغ فلا حاجة إلى النطق بالفعل، لدلالة الحال أن كل فعل إنما هو باسم الله، وإضافته للجلالة من إضافة العام للخاص، ليفيد أن الاستعانة والتبرك بذكر اسمه تعالى.(1/28)
وفي إيثار هذين الوصفين المفيدين للمبالغة في الرحمة إشارة لسبقها وغلبتها، من حيث ملاصقتها لاسم الذات، وغلبتهامن حيث تكرارها على أضدادها، وعدم انقطاعها (1) وقدم الرحمن لأنه علم في قول أو كالعلم، من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى (2) لأن معناه المنعم الحقيقي (3) .
__________
(1) ويحقق أن في إيثار لفظ الرحمن الرحيم إشارة لسبق الرحمة وغلبتها ما في الحديث القدسي، «سبقت رحمتي غضبي» ، وفي الترمذي وغيره «إن الله لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» .
(2) ولأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وتقديم الكلم في اللسان، على حسب المعاني في الجنان، والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء، إما بالزمان، وإما بالطبع وإما بالرتبة، وإما بالفضل، والكمال، أو بأكثرها، وربما ترتب بحسب الخفة والثقل، وكونه علما لوروده غير تابع لاسم قبله، في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وصوب هذا القول ابن هشام، والتحقيق ما ذكره ابن القيم وغيره أنه لا منافاة بين العلمية والوصفية في جميع الأسماء الحسنى، فإنها دالة على صفات كماله، ونعوت جلاله، والرحمن الرحيم اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، فالرحمن رحمة عامة لجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، والرحمن دال على الصفة القائمة به، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، والرحمن عام المعنى خاص اللفظ، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى.
(3) يعني: لأن ما عداه طالب عوض بلطفه وإنعامه، يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء، وتأويله أيضًا الرحمة بالنعمة مذهب الأشاعرة، أخذه عن غيره،
ولم يتفطن له، ويقع كثيرا في كلام غيره، يذكرون عبارات لم يتفطنوا لمعناها ومذهب أهل السنة إثبات الصفات لله، الواردة في الكتاب والسنة، على ما يليق بجلال الله وعظمته، ومعناه اتصافه بما دل عليه اسمه حقيقة، ولا تكيف صفاته، ولا تشبه بصفات خلقه.(1/29)
البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره (1) وابتدأ بها تأسيا بالكتاب العزيز (2) وعملا بحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» أي: ناقص البركة (3) ، وفي رواية «بالحمد لله» (4) .
__________
(1) أي: البلوغ في الرحمة غايتها منتهاها، أو فائدتها المقصودة، لا يصدق إلا على الله عز وجل، لا على غيره، والغاية مدى الشيء.
(2) أي: ابتدأ بالبسملة تأسيا بالقرآن الكريم، فإن الله ذكر فيه الحمد بعد البسملة في الفاتحة وغيرها.
(3) أي: وإن تم حسا، والحديث رواه الخطيب بهذا اللفظ، والرهاوي وابن ماجه بلفظ «أقطع» وحسنه ابن الصلاح وغيره، و «ذي بال» أي شرف وشأن وحال يهتم به شرعا.
(4) «فهو أجذم» وهذا تشبيه بليغ، وفي رواية بالحمد، رواه أبو داود، ولأحمد بذكر الله فهو أبتر أو أقطع، قال النووي: وهو حديث حسن حجة عند الأئمة، رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي، وأبو عوانة في صحيحه المخرج على صحيح مسلم، وروى ابن مردويه وغيره عن جابر لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم، هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح. وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزته وجلاله لا يسمى باسمه على شيء إلا بارك فيه، فتكتب أوائل الكتب، كما كتبها سليمان، ونبينا عليهما الصلاة والسلام، بل تذكر في ابتداء جميع الأفعال، وعند دخول المنزل، والخروج
منه، ونحو ذلك للبركة، وهي تطرد الشيطان، وإنما تستحب إذا ابتدأ فعلا تبعا لغيرها، لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة، ونحوهما ويأتي أنها تجب وتسن وتكره في أ/ر دون أمور.(1/30)
فلذلك جمع بينهما فقال الحمد لله (1) أي جنس الوصف بالجميل، أو كل فرد منه (2) مملوك أو مستحق للمعبود بالحق (3) المتصف بكل كمال على الكمال (4) .
__________
(1) بدأ الماتن وكذا الشارح بالحمدلة بعد البسملة اقتداء بالقرآن العظيم وبالنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، في ابتدائه بالحمد في جميع خطبه، وعملا بجميع روايات الحديث المشهور السابق، ويستحب البداءة بالحمدلله، لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيبت وخاطب ومزوج ومتزوج، وبين يدي سائر الأمور المهمة، والابتداء إما حقيقي وإما إضافي، والحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة، وقدمت البسملة عملا بالكتاب والسنة والإجماع، وثني بالحمدلة عملا بما تقدم قريبا، فإن قيل: لكل من البسملة والحمدلة أمر ذو بال، فيحتاج إلى سبق مثله وتسلسل قيل: المراد الأمر الذي يقصد لذاته بحيث لا يكون وسيلة لغيره، وإن كلا من البسملة والحمدلة كما يحصل به البركة لغيره، ويمنع نقصه، كذلك يحصل به مثل ذلكلنفسه كالشاة من أربعين تزكي نفسها وغيرها.
(2) أي من الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، وفيه إشارة إلى أن أل للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد، وهو حقيقة الحمد وماهيته.
(3) ضد الباطل، والحق من أسمائه تعالى فهو الحق، وقوله الحق، جلت عظمته وتقدست أسماؤه.
(4) تعالى وتقدس، فله الكمال المطلق من جميع الوجوه، وجميع أنواع الثناء له لا لغيره تبارك وتعالى.(1/31)
والحمد والثناء بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا (1) وفي الاصطلاح فعل ينبنئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره (2) والشكر لغة هو الحمد اصطلاحا (3) واصطلاحا صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خلق لأجله (4) .
قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (5) وأثر لفظه
__________
(1) يعني سواء كان الثناء بالصفات الجميلة، والأفعال الحسنة، في مقابلة نعمة أسداها المحمود على الحامد، أو لم يكن، يقال حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على حسنه وشجاعته، والثناء بما ليس للمرء فيه اختيار، كالجمال ونحوه يسمى مدحا لا حمدا.
(2) ينبئ أي يدل على تعظيم المنعم من حيث إنه منعم، واصلة تلك النعمة أو غير واصلة، وفيه إشارة إلى أن الحمد متعلقه الإنعام، كما تقدم وليس كذلك عند أهل التحقيق، بل يتعلق بجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال.
(3) اللغة اللسان، وحده أصوات وحروف دالة على المعاني أو الكلام المصطلح عليه بين كل قبيلة من لغي بالشيء لهج به، ولغوت بكذا لفظت به وتكلمت والاصطلاح هو العرف الخاص، وهو عبارة عن اتفاق القوم على وضع الشيء ويقال إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر، لبيان المراد منه، لمناسبة بينهما أو مشاركة في أمر، أو مشابهة في وصف، أو غير ذلك.
(4) أي الشكر في الاصطلاح هو صرف العبد ما أنعم الله به عليه من السمع والبصر وغيرهما فيما خلقه الله له من توحيده وطاعته، وقالوا أيضا الشكر الثناء عليه بإنعامه، ومن اعترف بالنعمة وقام بالخدمة وأكثر من ذلك سمي شكورا. وقال الشاعر:
أفادتاكم النعماء منِّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
(5) الصواب الاستدلال بأول الآية {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي اعملوا بطاعة الله شكرا على نعمه، ومورد الحمد اللغوي هو اللسان وحده، ومتعلقه يعم النعمة وغيرها. ومورد العرفي. أي الاصطلاحي، يعم اللسان وغيره، ومتعلقه يكون النعمة وحدها، فاللغوي أعم باعتبار المتعلق، وأخص باعتبار المورد، والعرفي بالعكس، فبين الحمدين عموم وخصوص وجهي، وبين الحمد والشكر اللغويين عموم وخصوص من وجهين، فعموم الحمد أنه لمبدئ النعم على الحامد وغيره، وخصوصه أنه لا يكون إلا باللسان، وعموم الشكر أنه يكون بغير اللسان، وخصوصه أنه لا يكون إلا لمبدئ النعمة، فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص سببا والحمد أعم سببا وأخص متعلقا، فما يحمد الله عليه أعم مما يشكر عليه، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه، ويشكر على نعمه، وفي الحديث «الحمد رأس الشكر» ، فما شكر الله عبد لا يحمده، وقال ابن عباس: الحمد كلمة الشكر، فالحمد والشكر متقاربان، ورجح بعض أهل العلم اتحاد الحمد والشكر، بدليل إيقاع جميع أهل المعرفة بلسان العرب كلا منهما مكان الآخر، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفر.(1/32)
الجلالة دون باقي الأسماء كالرحمن والخالق، إشارة إلى أنه كما يحمد لصفاته، يحمد لذاته (1) ولئلا يتوهم اختصاص استحقاقه الحمد بذلك الوصف دون غيره (2) .
__________
(1) بما هو أهله من الجلال والإكرام، ولا شيء في العقول والفطر أحسن من الثناء عليه ولا أنفع للعبد منه.
(2) لاشتماله على جميع صفات الجلال والكمال، وعلى الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ولأن لفظ الجلالة لا يطلق على غيره تعالى، ولجمعه معاني الأسماء والصفات وغير ذلك.(1/33)
(حمدا) مفعول مطلق، مبين لنوع الحمد (1) لوصفه، بقوله (لا ينفد) بالدال المهملة وفتح الفاء ماضيه نفد بكسرها، أي لا يفرغ (2) (أفضل ما ينبغي) أي يطلب (أن يحمد) أي يثنى عليه ويوصف (3) وأفضل منصوب على أنه بدل من حمدا، أو صفته أو حال منه (4) وما موصول اسمي، أو نكرة موصوفة، أي أفضل الحمد الذي ينبغي، أو أفضل حمد ينبغي حمده به (5) .
__________
(1) والمفعول المطلق هو الذي ليس بمفعول فيه، ولا لأجله ولا معه، فحمدا مفعول لعامل محذوف، من حمد يحمد حمدا، ومحمدة شكره، ومدحه، والفرق بين الحمد والمدح، أن الحمد يتضمن الثناء مع العلم بما يثنى به، فإن تجرد عن العلم كان مدحا وكل حمد مدح دون العكس.
(2) ولا يفنى ولا ينقطع فله الحمد في الأولى والآخرة.
(3) لما يقتضيه جل وعلا من عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه وأسمائه وصفاته.
(4) وأفضل اسم تفضيل ينبئ بزيادة الفضل، والبدل العوض، وعند النحويين هو التابع المقصود بالحكم بلا واسطة، وصفة الشيء نعته وتوضيحه، والحال الوقت، واصطلاحا ما بين هيئة الفاعل أو المفعول.
(5) فهو المستحق لذلك لما له من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وما اقتضت أفعاله من الحكم الباهرة، ولما له من النعم الباطنة والظاهرة، وقد شهد له جميع المخلوقات بالحمد، بل الحمد كله له، ملكا واستحقاقا، وله الثناء والمجد.(1/34)
وصلى الله قال الأزهري معنى الصلاة من الله تعالى الرحمة (1) ومن الملائكة الاستغفار (2) ومن الآدميين التضرع والدعاء (3) وسلم من السلام بمعنى التحية (4) .
__________
(1) وكذا عند كثير من المتأخرين، وقال ابن القيم وغيره: قد غاير تعالى بينهما فقال: «عليهم صلوات من ربهم ورحمة» ، وسؤال الرحمة مشروع لكل مسلم والصلاة مختصة والرحمة عامة، وصوب هو وغيره ما حكاه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، وقالوا أيضا ثناؤه عليه وتشريفه وزيادة تكريمه، ورفع ذكره ومنزلته صلى الله عليه وسلم، والأزهري هو محمد بن أحمد أبو منصور، الهروي أحد الأئمة في اللغة والأدب، وغيرهما ولد بهراة بخراسان واشتهر بالفقه، ثم غلب عليه التبحر في العربية، فرحل في طلبها، وقصد القبائل وصنف كتبا منها التهذيب في اللغة وغريب الألفاظ عشر مجلدات وتوفي سنة ثلاثمائة وسبعين.
(2) وقال ابن القيم رحمه الله: صلاة الملائكة عليه هي ثناؤهم عليه، وكذا الآدميون، وسؤالهم من الله أن يثني عليه، ويزيده تشريفا وتكريما.
(3) أن يعلي الله ذكره، ويزيده تعظيما وتشريفا، وأخبر الله أنه يثني عليه في الملأ الأعلى وملائكته، وأمرنا بسؤال الله أن يفعل به ذلك ليجتمع الثناء عليه من العالم العلوي والسفلي، وقال ابن القيم أيضًا: الصلاة بمعنى الدعاء مشكل، من وجوه: أحدها أن الدعاء يكون بالخير والشر، والصلاة لا تكون إلا بالخير، (الثاني) أن دعوت يتعدى باللام، وصليت لا يتعدى إلا بعلى، ودعا المعداة بعلي ليست بمعنى صلى، وهذا يدل على أن الصلاة ليست بمعنى الدعاء (الثالث) أن الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا له، تقول دعوت الله لك بالخير، وفعل الصلاة لا يقتضي ذلك، لا تقول صليت الله لك، ولا عليك، فدل على أنه ليس بمعناه.
(4) واسم مصدر من: سلم ومصدره تسليم، مشتق من السلام اسم من أسماء الله تعالى.(1/35)
أو السلامة من النقائص والرذائل، أو الأمان (1) والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم مستحبة (2) تتأكد يوم الجمعة وليلتها (3) وكذا كلما ذكر اسمه (4) وقيل بوجوبها إذًا (5) .
__________
(1) من النقائص أي التعري من الآفات الظاهرة والباطنة، ومن الرذائل والرذل من كل شيء الرديء منه، أو السلامة الأمان ضد الخوف، دعاء له وطلب السلامة له، أو اسم الله عليه، إذا كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيه، وانتفاء عوارض الفساد عنه، والسلام اسم من أسماء الله تعالى لسلامته من كل عيب ونقص، ومنه الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات.
(2) في كل حال، واجبة في الجملة وركن في التشهد الأخير، وخطبتي الجمعة كما يأتي، وتواتر الأمر بها، وفي كيفيتها وفضلها، وفي الصحيح «من صلَّى علىَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا» ، اللهم صل وسلم على محمد.
(3) لقوله - صلى الله عليه وسلم - «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة» ، رواه ابن ماجه، ولأبي داود فيه «فأكثروا علي من الصلاة فيه» ، ولقوله: «أكثروا الصلاة علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة» رواه البيهقي بإسناد جيد.
(4) أي وكذا الصلاة عليه تتأكد كلما ذكر اسمه لقوله - صلى الله عليه وسلم - «رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل علي» ، رواه الترمذي.
(5) أي وقت ذكر اسمه، قاله الطحاوي وجماعة من الحنفية، والحليمي وجماعة من الشافعية وحكي عن اللخمي من المالكية، وابن بطة، والبلباني، وذكر أنه أقوى لقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} والأمر يقتضي الوجوب، قال الشيخ: ويحتمل وهو الأشبه أنه تجب الصلاة عليه في الدعاء، ولا تجب مفردة، لقول عمر وعلي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم، وتقدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس.(1/36)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وروي (من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب) (2) .
__________
(1) «أي قولوا اللهم صلِّ وسلم على محمد» وأكد التسليم بالمصدر تنبيها على تأكده، قال بعض المفسرين أخبر سبحانه إنه وملائكته يثنون عليه فصلوا أنتم عليه، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه، وتسلموا تسليما، لما نالكم ببركة رسالته.
(2) رواه الطبراني وغيره بسند ضعيف، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات وروي من كلام جعفر بن محمد موقوفا عليه، قال المنذري وهو أشبه، وروي تستعمل في الضعيف كما هو الصواب هنا، واستعمالها في الصحيح والحسن حيد عن الصواب، كاستعمال كثيرين: قال وفعل وأمر ونهى وروى عنه فلان وذكر وأخبر، وهو ضعيف فإنه لا ينبغي أن يطلق نحو هذا إلا فيما صح، وإلا كان في معنى الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم، واستغفار الملائكة هو أن تقول «اللهم اغفر له» وفي لفظ تصلي عليه، يعني على من كتب اسمه صلى الله عليه وسلم فيه. مقرونا بالصلاة عليه، كما في بعض الطرق، وصرح به ابن وضاح، وقد استدل به على وضع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطب والمراسلات، وأول من فعله أبو بكر رضي الله عنه، وكتاب بمعنى مكتوب، وقد غلب الكتاب في العرف العام على جميع الكلمات المفردة بالتدوين، ولما كانت الكمالات الدينية والدنيوية، بل جميع ما فيه صلاح المعاش والمعاد فائض من الجناب الأقدس جل وعلا علينا بواسطة هذا النبي الكريم، الذي هو عين جميع هذه المخلوقات وأشرفها، أتبع المصنف الحمد بالصلاة
والسلام عليه صلى الله عليه وسلم أداء لبعض ما يجب له صلوات الله وسلامه عليه، وعملا بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال مجاهد وغيره: لا أذكر إلا ذكرت معي، وامتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «كل كلام لا يذكر الله فيه فيبدأ به وبالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة» ، أخرجه الديلمي وابن المديني
والرهاوي وابن مندة بلفظ فهو أقطع أكتع، وضعفه البخاري ولما تقدم، وغير ذلك مما ورد من الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إنما هي على الوجه الذي أمر به من التعظيم لحقه، والرغبة في الثواب عند ذكره، أو ذكر شيء من أمره، ويروى «لا يصلى على إلا في موضع احتساب أو رجاء ثواب» ، فتكره في الأماكن القذرة، وأماكن النجاسة، وعند الذبح، وعند العطاس، وعند الجماع، والعثرة، والتعجب، وشهرة المبيع، ونحو ذلك.(1/37)
وأتى بالحمد بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، لثبوت مالكية الحمد واستحقاقه له أزلا وأبدا (1) وبالصلاة بالفعلية الدالة على التجدد أي الحدوث، لحدث المسئول وهو الصلاة أي الرحمة من الله (2) على أفضل المصطفين محمد بلا شك (3) لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (4) وخص ببعثه إلى الناس كافة (5) .
__________
(1) أي قديما وحالا ودائما في الدنيا والآخرة.
(2) على القول به، وتقدم أنه الثناء من الله عليه في الملأ الأعلى.
(3) فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخالصين الطيبين المختارين من جميع الخلق بإجماع المسلمين.
(4) رواه أحمد والترمذي وغيرهما في حديث طويل، أي لا أقوله تبجحا، ولكن شكرًا لله وتحدثا بنعمته، والفخر هو التعاظم على الغير.
(5) قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} وقال صلى الله عليه وسلم «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» ، ولمسلم «أرسلت إلى الناس كافه، وختم بي النبيون» وخص بالبناء للمفعول، أي خصه الله، وإنما حذفه للعلم به والخصائص جمع خصيصة، وهي الصفة الخاصة، سواء كانت في ذاته أو في صفاته، أو فيما يصدر عنه من معجزاته وكراماته.(1/38)
وبالشفاعة (1) والأنبياء تحت لوائه (2) والمصطفون جمع مصطفى وهو المختار، من الصفوة (3) وطاؤه منقلبة عن تاء (4) ومحمد من أسمائه صلى الله عليه وسلم سمي به لكثرة خصاله الحميدة (5) سمي به قبله سبعة عشر شخصا على ما قاله ابن الهائم عن بعض الحفاظ (6) .
__________
(1) أي وخص بالشفاعة العظمى، وهو المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وذلك شفاعته في أهل الموقف ليقضى بينهم بعد ما يستغيثون بآدم وأولي العزم، ويتراجعونها بينهم فيقول: أنا لها.
(2) اللواء الراية، وفي الحديث لواء الحمد بيدي يوم القيامة، وخص بالنصر بالرعب مسيرة شهر، وإحلال الغنائم له، وجعل الأرض مسجدا وطهورا وإعطاء جوامع الكلم، والختم والإسراء وغير ذلك مما يفوت الحصر.
(3) وهو الخلوص من الكدر، والصفوة من كل شيء خالصه فإن الإنسان لا يصطفى إلا إذا كان خالصا طيبا، وهو صلى الله عليه وسلم أخلص الخلق وأطيبهم وخيرهم بلا نزاع. ,
(4) لوقوعها بعد حرف الإطباق وهو الصاد، وقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها فصفو من فعل نقل إلى افتعل، فثقل النطق به، فقيل اصطفى.
(5) من حسن الخلق والكرم والجود والشجاعة، وغير ذلك ما خصه الله به من الخصال الرفيعة التي لا تحصر وهو الذي يحمده الله وملائكته وعباده المؤمنون.
(6) ابن الهائم هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عماد بن علي المصري، ثم المقدسي، المشهور بابن الهائم المتوفى سنة ثمانمائة وخمس عشرة، وله مؤلفات في الفرائض والحساب.(1/39)
بخلاف أحمد فإنه لم يسم به قبله (1) وعلى آله أي أتباعه على دينه نص عليه أحمد (2) وعليه أكثر الأصحاب (3) ذكره في شرح التحرير (4) وقدمهم للأمر بالصلاة عليهم (5) .
__________
(1) ولا في زمنه، ولا في زمن أصحابه، حماية لهذا الاسم الذي بشر به الأنبياء، وهو علم مشتق من حمد بالبناء للمفعول، يعني حمدا أكمل من غيره، وصفة أيضا اجمتعا في حقه صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم أسمائه وأشرفها وأشهرها.
(2) وصححه صاحب تصحيح الفروع وغيره لقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} أي أتباعه، وقال الشيخ رحمه الله: آله أهل بيته، وإنه نص أحمد، وقاله الموفق وغيره، واختاره الشريف، ومنهم بنو هاشم، وأفضل أهل بيته من أدار عليهم الكساء، وخصهم بالثناء، وقال الشيخ وأصل آل أول تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فقيل آل ومن قال أهل فقد غلط، فآل الشخص هم من يأوون له، ويئولون إليه، ويرجعون إليه، ويضافون إليه، ويؤوله أي يسوسه يكون مآله إليه، ونفسه هي أولى من يئول إليه، فطلبت تبعا له، وهو الأصل.
(3) أي أكثر أصحاب الإمام أحمد على أن آله أتباعه، ومنهم أبو حامد وأبو حفص، واختاره القاضي وغيره، وقدمه في المغني والشرح وجمع.
(4) في أصول الفقه، لعلاء الدين علي بن سليمان بن محمد بن أحمد بن محمد السعيديِّ المرداوي، ثم الصالحي الحنبلي، صاحب الإنصاف وغيره، المتوفى سنة ثمانمائة وخمس وثمانين، ثم اختصره ابن النجار.
(5) في قوله - صلى الله عليه وسلم - «قولوا اللهم صلِّ على محمد وآل محمد» ونحو ذلك.(1/40)
وإضافته إلى الضمير جائزة عند الأكثر، وعمل أكثر المصنفين عليه، ومنعه جمع منهم الكسائي والنحاس والزبيدي (1) وأصحابه: جمع صاحب بمعنى الصحابي (2) وهو من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا ومات على ذلك (3) .
__________
(1) أي منع جمع من اللغويين، إضافة الآل للضمير، لتوغله في الإبهام منهم الكسائي علي بن حمزة النحوي المشهور، المتوفى بالري سنة مائة وإحدى وثمانين، ومنهم النحاس أبو جعفر، أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس النحوي التونسي له تصانيف في التفسير والنحو، مات سنة ثلاثمائة وثمان وثلاثين، ومنهم الزبيدي بالضم محمد بن الحسن النحوي، من أئمة اللغة العربية، مات سنة ثلاثمائة وتسع وسبعين.
(2) وجمع الأصحاب أيضا صحابة وصحابة وأصاحيب، والصحابة في الأصل مصدر صحبه يصحبه صحابة وصحبة، فهو صاحب، عاشره ورافقه، وهو لفظ يضاف إلى من له أدنى ملابسة بأي شيء، وجمع الصاحب صحب، والصاحب الملازم مشتق من الصحبة بلا خلاف، يقال: صحبه شهرا ويوما وساعة والصحابة علم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ووجه الثناء على الآل والأصحاب وهو الوجه في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الرب تبارك وتعالى، لأنهم الواسطة في إبلاغ الشرائع إلى العباد، فاستحقوا سؤال الثناء عليهم من الله عز وجل، ولإتيانه عليه الصلاة والسلام بذكرهم في الصلاة عليه، فلا يتم الامتثال بالصلاة التي علمها أمته إلا بذكرهم.
(3) هذا مذهب أهل الحديث كما نقله البخاري، وهذا لشرفه - صلى الله عليه وسلم - أعطوا كل من رآه حكم أصحابه، سواء كان مؤمنا حكما، أو اختيارا.(1/41)
وعطفهم على الآل من عطف الخاص على العام (1) وفي الجمع بين الصحب والآل مخالفة للمبتدعة لأنهم يوالون الآل دون الصحب (2) ومن تعبد أي عبد الله تعالى (3) والعبادة ما أمر به شرعا (4) من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي (5) .
__________
(1) على القول المشهور أن آله أتباعه على دينه، وأما على القول الثاني الذي اختاره الشيخ وغيره، وصوبه ابن القيم وغيره، أنهم أهل بيته، فهو من عطف العام على الخاص، وسائغ ذكر العام ثم الخاص، تنويها بشأنه وتعظيما لأمره، وتفخيما لحاله كما في الكتاب والسنة، وجاء ذكر العام بعد الخاص.
(2) كالرافضة يتبرءون منهم ويسبونهم.
(3) وعبده يعبده عبودية وحده وأطاع له، وخضع وذلك وانقاد والتزم شرائع دينه، فالعبادة تتضمن غاية الذل لله والانقياد له، مع غاية المحبة له.
(4) أي ما أمر الله به في الشرع، بأن لم يعلم طريقه إلا من الشارع، ويحرم اعتقاد غير المشروع مشروعا وطاعة وقربة ودينا، والأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله، وفي العادات الحل إلا ما حظره الله ورسوله، وفي الفروج التحريم إلا ما أباحه الله ورسوله، والعقود الأصل فيها الصحة إلا ما أبطله الله ورسوله والمطاعم الأصل فيها الإباحة إلا ما حرمه الله ورسوله، قاله الشيخ وغيره.
(5) قاله الفخر وأبو البقاء وغيرهما، أي ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم، وفيه قصور، والتعريف الجامع المانع الشامل، قول شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين، والذكر، والدعاء، والمحبة والخشية، والإنابة، وغير ذلك، وقال أيضا: هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسن رسله.(1/42)
(أما بعد) أي بعد ما ذكر من حمد الله والصلاة والسلام على رسوله (1) وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره (2) ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يأتي بها في خطبة وشبهها (3) حتى رواه الحافظ عبد القاهر الرهاوي في الأربعين التي له عن أربعين صحابيا (4) ذكره ابن قندس في حواشي المحرر (5) .
__________
(1) صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمره - صلى الله عليه وسلم - واتباعا لسبيل السلف من المصنفين وغيرهم.
(2) أي يأتي بها المتكلم إذا كان في كلام وأراد الانتقال إلى غيره، ولا يؤتى بها في أول الكلام، وأسلوب بالضم أي من الطريق أو فن جمعه أساليب.
(3) وهل أول من ابتدأ بها داود عليه السلام، أو قس بن ساعدة، أو كعب ابن لؤي، أو يعرب بن قحطان، أو سحبان فصيح العرب، أقوال، قالوا والأول أشبه.
(4) أورد فيها ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفصل بأما بعد، في الخطب والمراسلات على سبيل من صنف في الأربعينات، لما روى «من حفظ على أمتي أربعين حديثا» إلخ وعبد القاهر بالهاء وفي بعض النسخ بالدال بدل الهاء وهو الصواب كما في كشف الظنون وغيره نسبة إلى رها، بضم الراء بلدة بالجزيرة محدث حنبلي، مولى لبعض أهل الموصل فأعتقه، توفي سنة ستمائة واثنتي عشرة.
(5) أي ذكر أن عبد القادر روى ذلك، وابن قندس هو الشيخ تقي الدين أبو بكر إبراهيم بن قندس البعلي الحنبلي صاحب حواشي المحرر، والفروع المشهورين، وغيرهما المتوفى سنة ثمانمائة وإحدى وستين، والحواشي مجلد ضخم، له على كتاب المحرر المشهور في الفقه، للإمام مجد الدين بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله.(1/43)
وقيل إنها فصل الخطاب المشار إليه في الآية (1) والصحيح أنه الفصل بين الحق والباطل (2) والمعروف بناء بعد على الضم (3) وأجاز بعضهم تنوينها مرفوعة ومنصوبة (4) والفتح بلا تنوني على تقدير المضاف إليه (5) فهذا إشارة إلى ما تصوره في الذهن (6) وأقامه مقام المكتوب المقروء الموجود بالعيان (7) .
__________
(1) وهي قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} وبه قال أبو موسى والشعبي.
(2) أي أن فصل الخطاب المذكور في الآية هو الفصل بين الحق والباطل في الكلام والحكم، وهو المراد بالآية، وإنما يقال: (لأما بعد) فصل الخطاب لأنها تفصل بين الكلامين، أي تحجز بينهما.
(3) إذا قطعت عن الإضافة مع نية المضاف إليه نحو {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} إذ الضم لا يدخلها إعرابا، لأنه لا يصلح وقوعا موقع الفاعل، ولا المبتدأ والخبر.
(4) إخراجا لها عن الظرفية، ولقطعها عن الإضافة، مع عدم نية المضاف إليه لفظا ومعنى، وتعرب إذا أضيفت كقوله: (من بعدهم) و (أما) فيها معنى الشرط أو حرف شرط، و (بعد) قائم مقام الشرط، والأصل: مهما يكن من شيء بعد.
(5) إذ لم تكن غاية وغاية الكلام ما بقي بعد الحذف.
(6) بالكسر الذكاء والفطنة والفهم والعقل، والقوة في العقل وحفظ القلب، والجمع أذهان ولما كانت أما متضمنة معنى الشرط أتى بالفاء الجزائية.
(7) بكسر العين، من عاين الشيء معاينة وعيانا، رآه بعينه، ومقام بضم الميم، لأن ماضيه رباعي، يعني أنه لما تأكد عزمه على تصنيفه عامله معاملة الموجود فأشار إليه وهذا المعروف في اللغة وقال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} وقيل بل ترك موضع الخطبة مبيضا إلى أن فرغ من تصنيف الكتاب، ثم كتب الخطبة وتكون إشارة إلى موجود، والأول هو المعروف، ويقع الثاني.(1/44)
(مختصر) أي موجز وهو ما قل لفظه وكثر معناه (1) قال علي رضي الله عنه: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل (2) (في الفقه) وهو لغة الفهم (3) .
__________
(1) ويقال تجريد اللفظ اليسير، من اللفظ الكثير، مع بقاء المعنى، وفي الكليات، تقليل المباني، مع إيفاء المعاني، وبالغ رحمه الله في اختصاره، لئلا تنفر النفس منه.
(2) بضم الطاء المهملة، من طال المجرد ويمل بضم الياء المثناة مبني للمجهول أي يسأم منه، ويضجر من طوله، وعلي هو ابن أبي طالب، أمير المؤمنين، وصهر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول من آمن به من الصبيان، والخليفة الرابع، ولد قبل البعثة بعشر، وقتله ابن ملجم سنة أربعين، بمسجد الكوفة، وفضائله رضي الله عنه مشهورة، معروفة.
(3) وقال ابن القيم: الفقه فهم المعنى المراد، ويقال: العلم بالشيء والفهم له، ويقال: الفطنة وقد غلب على علم الدين لشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، وقال: الفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت الناس في هذا تفاوت مراتبهم في الفقه والعلم اهـ. وجعلته العرب خاصا بعلم الشريعة، وتخصيصا بعلم الفروع منها، ولغة نصب على نزع الخافض، أو على الحال، أو على التمييز، والأول أحسنها، ومثله عرفا، وشرعا واصطلاحا وتقدم تعريف اللغة. والفهم بفتح الفاء وسكون الهاء إدراك معنى الكلام، لا جودة الذهن، وفي الواضح: إدراك معنى الشيء بسرعة، وفي الفتح: فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من
قول أو فعل وفي الصحيح «من يرد الله به خيرا يفقهه» والتفقه أخذ الفقه شيئا فشيئا وفقه غاص علما لاستخراج معنى القول، فمعناه استخراج الغوامض، والاطلاع على أسرار الكلم، ويقال فقه بالكسر لمطلق الفهم، وبالضم إذا كان له سجية، وبالفتح إذا ظهر على غيره، والفقيه من عرف الأحكام الشرعية بأدلتها وعند عامة العقلاء والفقهاء أنه لايمكن الخوض في علم من العلوم إلا بعد تصور ذلك العلم، والتصور مستفاد من التعريفات.(1/45)
واصطلاحا: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية (1) بالاستدلال بالفعل (2) أو بالقوة القريبة (3) .
__________
(1) أخرج العقلية والأصولية، والأحكام جمع حكم، وهو ثبوت أمر لأمر أو نفيه عنه، والحكم الشرعي هو مدلول خطاب الشرع.
(2) الاستدلال استفعال، من دل يدل طلب الدليل بالفعل، أي طلب الحكم بالنظر في الأدلة واستخراجها حالا إذا أورد عليه السائل مسألة قال كذا وكذا، وقال بعضهم: الاستدلال إقامة الدليل من نص أو إجماع أو قياس أو غيرها.
(3) أي من الفعل: وهي الأهلية لاستخراج الأحكام بالاستدلال، ولو لم يكن حالا، لكنه معه قوة يستخرج بها الدليل من الكتاب والسنة بالبحث والمطالعة فخرج المقلد ويقال: التهيئ ومعرفة مكان المسألة إذا طلبها لمعرفتها، فإن إطلاقه على التهيئ شائع عرفا، وأفضل العلوم بعد أصل الدين الفقه، وهو الأحكام الفاصلة بين الحلال والحرام، وحده: علم شرعي عملي، مكتسب من دليل تفصيلي، وموضوعه: أفعال المكلفين، واستمداده: من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وسائر الأدلة المعروفة، كالاستصحاب، وفائدته امتثال: أوامر الله، واجتناب نواهيه، المحصلين للفوائد الدنيوية والأخروية، وحكمه: الوجوب العيني، أو الكفائي، وواضعه: الأئمة المجتهدون.(1/46)
(من مقنع) أي من الكتاب المسمى بالمقنع (1) تأليف (الإمام) المقتدى به شيخ المذهب (الموفق أبي محمد) عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة (2) المقدسي (3) تغمده الله برحمته (4) وأعاد علينا من بركته (5) .
__________
(1) المشتهر أي اشتهار، عند علماء المذهب، وعكف الناس عليه وخدموه بالشروح والحواشي، منها الشرح الكبير، والإنصاف والممتع والمبدع والمطلع وغيرها.
(2) ابن مقدام بن نصر بن عبد الله بن حذيفة بن محمد بن يعقوب بن القاسم ابن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) الأصل: ثم الدمشقي، الصالحي أحد الأعلام الزاهد الورع الفقيه المشهور ومن بعده عيال عليه ولد بجماعيل، سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقدم دمشق، ورحل إلى بغداد، ثم رجع وصنف ودرس، كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، قال شيخ الإسلام: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه منه، وقال ابن الصلاح: ما رأيت مثل الموفق، توفي رحمه الله سنة ستمائة وعشرين.
(4) أي غمره بها، وتقدم.
(5) أعاد وأرجع وكرر، والبركة النماء والزيادة قال شيخ الإسلام، قول القائل: أنا في بركة فلان، إن أراد بركة مستقلة بتحصيل المصالح، ودفع المضار، فكذب وشرك، وإن أراد أن فلانا دعا لي فانتفعت بدعائه، أو أنه علمني وأدبني فأنا في بركة ما انتفعت به وتأديبه فصحيح، وإن أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع، ويدفع المضار، أو مجرد صلاحه ودينه قربة من الله ينفعني، من غير أن أطيع الله فكذب وقال أيضا قول القائل ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه أو ما أمره به وعلمه من الخير، وبركة معاونته على الحق، وموالاته في الدين ونحو ذلك.
وهذه كلها معان صحيحة، لا استقلاله بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه أو غير قادر عليه فمن البدع.(1/47)
(على قول واحد) وكذلك صنعت في شرحه، فلم أتعرض للخلاف طلبا للاختصار (1) (وهو) أي ذلك القول الواحد الذي يذكره ويحذف ما سواه من الأقوال إن كانت هو القول (الراجح) أي المعتمد (2) (في مذهب) إمام الأئمة وناصر السنة (3) أبي عبد الله (أحمد) بن محمد بن حنبل (4) .
__________
(1) تقدم معنى الاختصار وقد بلغا الغاية فيه، فلم يتعرضا للخلاف لا مطلقا ولا بين الأصحاب، إلا الشارح نادرا والاختلاف بين الأصحاب إنما يكون لقوة الدليل من الجانبين، وكل واحد ممن قال بتلك المقالة إمام يقتدى به فيجوز تقليده ما لم يظهر رجحان غيره بحجة، ويكون في الغالب مذهبا لإمامه، ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع، وتقدم أن المرء مأمور أن يجتهد، ويتقي الله ما استطاع.
(2) في الغالب، وسيمر بك ما ليس بمعتمد، بل مخالف لنص أحمد، فضلا عن نص الشرع، وقوله إن كانت أي وجدت فكان هنا تامة.
(3) أي في طريق ومعتقد قدوة الأئمة، وناصر السنة، أي منجي الطريقة المحمدية، ومخلصها مما أحدثه المبتدعة، لقب بذلك لنصرته لها حيث ماجت البدع، بإبرازه الحجج وصبره على المحن.
(4) ابن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس ابن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان، البطن المتسع الشعوب في صدر الإسلام.(1/48)
الشيباني نسبة لجده شيبان بن ذهل بن ثعلبة (1) والمذهب في الأصل الذهاب أو زمانه أو مكانه (2) ثم أطلق على ما قاله المجتهد بدليل ومات قائلا به (3) وكذا ما أجري مجرى قوله من فعل أو إيماء ونحوه (4) .
__________
(1) ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، البطن المعروف، ولد الإمام أحمد رحمه الله ببغداد سنة 164 هـ ورحل إلى المدينة ومكة واليمن والشام والكوفة والبصرة والجزيرة، وأخذ عن بشر منهم: ابن علية وسفيان، وهشيم، وعبد الرزاق، ومعتمر، وغيرهم، وعنه البخاري، ومسلم، وابن مهدي، والشافعي، وخلق قال الشيخ: كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين، ولهذا لا يكاد يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى، وأكثر مفاريده يكون قوله فيها راجحا، ومن مصنفاته المسند ثلاثون ألف حديث، والتفسير مائة وخمسون ألف حديث، ولم يؤلف رحمه الله في الفقه، وإنما أخذ أصحابه مذهبه من أقوال وأفعاله وأجوبته ونحو ذلك، توفي رحمه الله سنة مائتين وإحدى وأربعين، وكان يوما مشهودا.
(2) مفعل من ذهب يذهب إذا مضى، والمقصود به هنا المصدر، أي ظاهر ذهابه و: في الأصل: يعني في اللغة.
(3) والمجتهد في الشيء الباذل الواسع والطاقة في طلب ما فيه كلفة ومشقة وكان المذهب عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية.
(4) كتصحيح خبر، أو تحسينه أو تدوينه، أو تعليل قول وكتنبيه ويطلق المذهب عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، من باب إطلاق الشيء على جزئه الأهم، ومجرى بضم الميم، لأنه من أجرى الرباعي.(1/49)
(وربما حذفت منه مسائل) جمع مسألة من السؤال وهي ما يبرهن عنه في العلم (1) (نادرة) أي قليلة (الوقوع) لعدم شدة الحاجة إليها (2) (وزدت) على ما في المقنع من الفوائد (ما على مثله يعتمد) أي يعول لموافقته الصحيح (3) (إذ الهمم قد قصرت) (4) تعليل لاختصاره المقنع (5) .
__________
(1) أي ربما حذف الماتن مما في المقنع مسائل نادرة الوقوع، فلم يذكرها في هذا المتن، يعني زاد المستقنع طلبا للاختصار، ويأتي تعليله وهو قوله: إذ الهمم قد قصرت إلخ.
(2) ويكون الغرض من ذلك العلم معرفتها، أو استدعاء معرفتها، أو ما يؤدي إليها، وتطلق على القضية المطلوب بيانها في العلم، والنبذة من بعض الأبواب وبرهن الشيء وعليه وعنه أقام عليه البرهان، والبرهان الحجة الفاصلة البينة، والعلم ما يستدل به على الطريق وسمي العالم البارع بذلك لأنه يهتدى به.
(3) أي زاد رحمه الله في هذا المتن عما في المقنع، وأشار لمدحه من وجوه كثيرة، كونه في الفقه، وكونه مختصرا، وكون اختصاره من كتاب المقنع، وكون المقنع للموفق، وهما هما، وكونه على قول واحد، وكون ذلك القول هو الراجح من مذهب أحمد، وكونه حذف ما ندر وقوعه، وزاد ما على مثله يعتمد.
(4) قصر عن الأمر يقصر قصورا من باب قعد، انتهى وعنه عجز وبالتشديد كل عنه.
(5) العلة المرض الشاغل، جمعها علات وعلل، وجمع الجمع أعلال، وهذه علة هذا أي سببه، أو حكمة الشيء، وعلل بين علته، وشرعا عبارة عما يجب الحكم به معه.(1/50)
والهمم جمع همة بفتح الهاء وكسرها، يقال هممت بالشيء إذا أردته (1) (والأسباب) جمع سبب وهو ما يتوصل به إلى المقصود (2) (المثبطة) أي الشاغلة (3) (عن نيل) أي إدراك (المراد) أي المقصود (قد كثرت) لسبق القضاء بأنه «لا يأتي عليكم زمان إلا وما بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» (4) (و) هذا المختصر (مع صغر حجمه حوى) أي جمع (ما يغني عن التطويل) (5) .
__________
(1) بفتح التاء، فإن فسر بأي فبالضم قال بعضهم.
إذا كنيت بأي فعلاً تفسره ... فضم تاءك فيه ضم معترف
وإن تكون بإذا يومًا تفسره ... ففتحك التاء أمر غير مختلف
(2) وقال في النهاية: وأصله من السبب: وهو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى الشيء.
(3) وقيل المقعدة: وهو أولى قال بعض أهل العلم: ازدحام العلوم مضلة أفهام.
(4) رواه البخاري وغيره، والمراد القضاء الكوني القدري، لا الشرعي الديني فإنه سبحانه يريد الخير ويأمر به، ولم يأمر بالشر بل نهى عنه، ولم يرضه دينا، وشرعا، وإن كان مريدا له خلقا وقدرا، بل أرسل الرسل وأنزل الكتب، إعذارا وإنذارا، {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
(5) حجم الشيء ضخامته وجيده، وملمسه الناتئ تحت يدك، وفي الحديث «لا يصف حجم عظامها» والتطويل مصدر طول الشيء جعله طويلا، أي ما يغني عن جعل اللفظ زائدا على أصل المراد، لا لفائدة، فهو كتاب صغر حجمه وكثر علمه، وجمع فأوعى، وفاق أضرابه جنسا ونوعا، لم تسمح قريحة بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله.(1/51)
لاشتماله على جل المهمات التي يكثر وقوعها ولو بمفهومه (1) (ولا حول ولا قوة إلا بالله) أي لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك إلا بالله (2) وقيل لا حول عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله (3) والمعنى الأول أجمع وأشمل (4) (وهو حسبنا) أي كافينا (5) (ونعم الوكيل) جل جلاله أي المفوض إليه تدبير خلقه (6) .
__________
(1) أي لاشتمال هذا المختصر صغير الحجم على جل: بضم الجيم أي معظم الأمور العظيمة، ولو بمفهومه أي ولو كان اشتماله على ذلك بالمفهوم إذ المفهوم على جميع أنواعه حجة على الصحيح، والمفهوم هو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، نحو {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل على تحريم ما هو أعظم منه كالضرب.
(2) متبرئا من حول نفسه ومن قوته إلا بالله وحده.
(3) روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وفي النهاية الحول ههنا الحركة يقال حال الشخص يحول إذا تحرك المعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله، وقيل: الحول الحيلة والأول أشبه اهـ. والحول معناه الحيلة والمحاولة والتحيل، يقال ما للرجل حول ولا احتيال، والقوة معناها القدرة وقال الخطابي: معناه إظهار الفقر، وطلب المعونة من الله على ما يزاوله من الأمور أي يعالجه، وفي بعض النسخ: ولا قدرة على ذلك إلا بالله.
(4) قاله شيخ الإسلام وغيره لدخول غيره في معناه.
(5) ومغنيا عن غيره، وكل ما في الوجود منه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لا منع، لا إله غيره، ولا رب سواه، و (حسبنا) من أحسبه إذا كفاه.
(6) الموكول إليه أمورهم أو نعم الموكول إليه هو سبحانه قال النحاس وقول حسبي الله، أحسن من قوله: وحسبنا، لما في الثاني من التعظيم، ورجح شيخ الإسلام وغيره ضمير الجمع في الدعاء، لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين.(1/52)
والقائم بمصالحهم أو الحافظ (1) ونعم الوكيل إما معطوف على: وهو حسبنا، والمخصوص محذوف، أو على: حسبنا: والمخصوص هو الضمير المتقدم (2) .
__________
(1) أي أو الوكيل الحافظ، فلا يغيب عنه شيء ولاينساه.
(2) أي: نعم الوكيل الله، كنعم العبد أيوب، وعلى الثاني، وهو نعم الوكيل.(1/53)
كتاب الطهارة
(كتاب) (1) هو من المصادر السيالة التي توجد شيئا فشيئا (2) يقال: كتبت كتابا وكتبا، وكتابة (3) وسمي المكتوب به مجازا (4) ومعناه لغة الجمع، من: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا (5) .
__________
(1) خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب، أو مبتدأ خبره محذوف أو مفعول لفعل محذوف، وقد يعبر عن الكتاب بالباب، وبالفصل وقد يجمع بين الثلاثة فيقدم الكتاب ثم الباب ثم الفصل، والكتاب يفصل بالأبواب أو بالفصول والباب بالفصول، والحكمة في تفصيل المصنفات بالكتب والأبواب والفصول وتنشيط النفس، وبعثها على الحفظ، والتحصيل، بما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء، كالمسافر إذا قطع مسافة شرع في أخرى، ومن ثم كان القرآن العظيم سورا وفي ذلك تسهيل للمراجعة.
(2) أي مصدر بعد مصدر كالكلام ونحوه.
(3) لجمعه ما وضع له، والكتابة اسم للمكتوب، وجمع كتاب كتب تضم التاء وتسكن.
(4) به أي بالمصدر، لجمع أبوابه وفصوله، ومسائله، وحروفه، والمجاز ضد الحقيقة، ولم يعرف في القرون المفضلة، ويطلقه بعض المتأخرين على اللفظ المستعمل لغير ما وضع له، وقد صار حقيقة عرفية في المكتوب، ثم جعل اسما للمؤلف.
(5) واجتمع القوم ضد تفرقوا، وتكتب الرجل جمع عليه ثيابه.(1/54)
ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة (1) والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف (2) والمراد به هنا المكتوب أي هذا مكتوب جامع لمسائل (الطهارة) مما يوجبها (3) ويتطهر به ونحو ذلك (4) بدأ بها لأنها مفتاح الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين (5) .
__________
(1) لاجتماعها والكتيبة الجيش وقيل القطعة منه.
(2) ويقال: كتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة أو سير، قال الشاعر:
.................................. ... على قلوصك واكتبها بأسيار
(3) أي تسبب عنه وجوبها مما لا يحل فعله إلا بها، وإلا فالموجب الشارع.
(4) مما يتطهر له، أو يتطهر منه، وغير ذلك، والطهارة كل صفة أصلية كطهارة الماء والأرض والتراب وغير ذلك، وطهارة مطلوبة للصلاة ونحوها تحصل بحصول سببها في محله قصدا أو اتفاقا بشروط تذكر في مواضعها.
(5) اللتين هما أساس الملة، وأصل التوحيد، وله كتب مستقلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالصلاة قبل الزكاة والصوم والحج وغيرها، وإذا ثبت تقديم الصلاة بعد التوحيد، فينبغي تقديم مقدماتها، ومنها الطهارة، وفي الحديث «مفتاح الصلاة الطهور» رواه الخمسة إلا النسائي، وذلك أن الحدث مانع منها، فهو كالقفل يوضع على المحدث حتى إذا توضأ انحل القفل.
والمفتاح شأنه التقديم على ما جعل مفتاحا له، وما كان مفتاحا لشيء وشرطا له فهو مقدم عليه طبعا، فيقدم وضعا، وبدأ بالطهارة اتباعا لسنة المصنفين، ولأن الطهارة أوكد شروط الصلاة التي يطالب المكلف بتحصيلها، إذ هي أهم العبادات، ومن شأن الشرط أن يتقدم المشروط، وقدموا العبادات اهتماما بالأمور الدنيوية، ثم المعاملات لأن من أسبابها الأكل والشرب ونحوه
من الضروري الذي يحتاج إليه الكبير والصغير، وشهوته مقدمة على شهوة النكاح، وقدموه على الجنايات، والحدود والمخاصمات، لأن وقوعها في الغالب بعد الفراغ من شهوة البطن والفرج.(1/55)
ومعناها لغة النظافة والنزاهة عن الأقذار (1) مصدر طهر يطهر بضم الهاء فيهما (2) وأما طهر بفتح الهاء فمصدره طهرا كحكم حكما (3) وفي الاصطلاح ما ذكره بقوله وهي (ارتفاع الحدث) أي زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها (4) .
__________
(1) أي الوساخة، أو من كل عيب حسي أو معنوي، ويطلق على الغائط.
(2) أي الطهارة مصدر طهر يطهر طهارة، حسية كانت الطهارة أو معنوية.
(3) وفي المصباح وغيره بفتح الهاء وضمها، يطهر بالضم طهارة، والاسم الطهر فيهما.
(4) أي الطهارة الشرعية باتفاق المسلمين هي زوال الوصف المذكور، باستعمال الماء في جميع البدن أو في الأعضاء الأربعة على وجه مخصوص، وعبر في جانب الحدث بالارتفاع، لأن المراد به هنا الأمر المعنوي، وفي جانب الخبث بالزوال، لأن الإزالة لا تكون إلا في الأجرام غالبا، وعبر بعضهم برفع ما يمنع من الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء، أو رفع حكمه بالتراب، والحدث وهو وجود الشيء بعد أن لم يكن، يطلق على الخارج من السبيلين، وعلى خروجه، وعلى المعنى القائم بالبدن، الحاصل بخروج ذلك الخارج، وحكم هذا الوصف المنع من الصلاة، والطواف، ومس المصحف، ونحو ذلك، ويطلق على نفس المنع، فناسب تفسيره هنا بالوصف القائم بالبدن، وفي الرعاية، الحدث ما اقتضى وضوءا أو غسلا أو هما، أو استجمارا أو استنجاء أو مسحا أو تيمما قصدا كوطء وبول ونحوهما غالبا، أو اتفاقا، كحيض ونفاس واستحاضة ونحوها، واحتلام نائم ومجنون ومغمى عليه، وخروج ريح منهم، والمحدث من لزمه الصلاة ونحوها وضوء أو غسل، أو هما، أو استنجاء أو استجمار، أو مسح أو تيمم، أو استحب له ذلك.(1/56)
(وما في معناه) أي: معنى ارتفاع الحدث (1) كالحاصل بغسل الميت (2) والوضوء والغسل المستحبين (3) وما زاد على المرة الأولى في الوضوء ونحوه (4) وغسل يدي القائم من نوم الليل ونحو ذلك (5) أو بالتيمم عن وضوء أو غسل (6) .
__________
(1) وعلى صورته وما في محل رفع عطف على ارتفاع، وأعاد الضمير عليه دون الحدث، لأن الأصل في عود الضمير وإعادته على مثل الثاني نادر أو قليل ولما في إعادته على الثاني من الإبهام.
(2) الكاف هنا تمثيلية لا تنظيرية والفرق بينهما أنه إذا لم يدخل ما بعد الكاف فيما قبلها فهي تنظيرية كقولك زيد كعمرو، وإن دخل ما بعدها فيما قبلها فهي تمثيلية، ولا يمثل لشيء إلا لنكتة، من رفع إبهام، أو تحذير من هفوة، أو إشارة لخلاف، أو تعيين لمشهور، أو تنبيه بالأدنى على الأعلى، أو عكسه، أو محاذاة نص كتاب، أو غير ذلك، لما سيظهر لمن فتح الله عليه، ومن قاعدته كغيره أنه إذا جمع مسائل مشتركة في الحكم والشرط نسقها بالواو، فإذا جاء بعدها بقيد علمنا أنه منطبق على الجميع، وإن كان القيد مختصا ببعضها أدخل عليه كاف التشبيه فإذا جاء بالقيد علمنا أنه لما بعد الكاف.
(3) أي: هما في معنى ارتفاع الحدث لمشابهتهما الوضوء والغسل الرافعين في الصورة.
(4) أي: الغسل لاستحبابه عندهم.
(5) كغسل الذكر والأنثيين من المذي، إن لم يصبهما وكوضوء نحو المستحاضة إن قيل لا يرفع الحدث.
(6) أي في معنى ارتفاعه لقيامة مقامهما.(1/57)
(وزوال الخبث) أي النجاسة أو حكمها بالاستجمار أو بالتيمم في الجملة على ما يأتي في بابه (1) فالطهارة ما ينشأ عن التطهير (2) وربما أطلقت على الفعل كالوضوء والغسل (3) المياه باعتبار ما تتنوع إليه في الشرع ثلاثة (4) .
__________
(1) أي في باب التيمم، لقيام الاستجمار، أو التيمم مقام الماء، وعبر بالإزالة لأنه قد يكون جرما، وتزول النجاسة بنحو مغصوب، لأن إزالتها من أقسام التروك بخلاف رفع الحدث، و (في الجملة) قيد للثاني فقط، لأن التيمم لا يكون إلا عند التعذر بخلاف الأول والفرق بين قولهم: في الجملة وبالجملة، أن بالجملة يعم ذلك المذكور، وفي الجملة يكون مختصا بشيء منه لا في كل صورة.
(2) أي: الأثر الذي ينشأ عن التطهير، لا هو نفسه، فالوضوء والغسل ليسا طهارة وإنما يترتب عليهما الطهارة وسمي الوضوء والغسل طهارة لكونه ينقي من الذنوب والآثام كما ورد في الآثار.
(3) أي وقل إطلاقها على الفعل، وهو التطهير، كما أطلقت الطهارة على الوضوء والغسل فرب للتقليل وتأتي للتكثير، ولهما معا.
(4) أي تعلم بالاستقراء والمياه جمع ماء، وهو جمع كثرة، وهي ما فوق العشرة لزيادة أنواع الماء عليها، وجمع الماء في القلة أمواه، وهو اسم جنس والألف واللام فيه لبيان حقيقة الجنس، لا للجنس الشامل، لأنه مستحيل فتكون للعهد الذهني والماء جوهر بسيط سيال بطبعه وبدأ بالكلام عليه، لأن الطهارة المائية هي الأصل، ولا تحصل إلا بالماء المطلق فاحتاج إلى تمييزه من غيره وقدمه لشرفه وتقسيمهم الماء إلى ثلاثة، طهور وطاهر ونجس، لكونه عندهم لا يخلو: إما أن يجوز الوضوء به أو لا، فإن جاز فهو الطهور، وإن لم يجز فلا يخلو: إما أن يجوز شربه أو لا فإن جاز فهو الطاهر، وإلا فهو النجس، ومرادهم بالطاهر
يعني غير المطهر وعليه الأكثر وعنه طهور وفاقا لمالك، ورواية عن أبي حنيفة والشافعي وطوائف من السلف، واختاره الشيخ وابن عقيل وأبو البقاء وغيرهم فإن الماء كله طهور، إلا ما تغير بنجاسة أو خرج عن اسم الماء، كماء ورد، قال شيخ الإسلام: ينقسم إلى طاهر ونجس، وإثبات قسم طاهر غير مطهر لا أصل له في الكتاب والسنة.(1/58)
أحدها (طهور) أي: مطهر قال ثعلب: طهور بفتح الطاء الطاهر في ذاته المطهر لغيره اهـ (1) قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) (لا يرفع الحدث) غيره (3) .
__________
(1) وقال الجوهري: اسم لما تطهرت به، وقال النووي: طهور بفتح الطاء اسم لما يتطهر به، وبالضم اسم للفعل، هذه اللغة المشهورة التي عليها الأكثر من أهل اللغة قال: الشيخ والمفسرون وغيرهم، التحقيق أنه ليس معدولا عن طاهر، ولكنه من أسماء الآلات كوجور وسحور، وثعلب هو: أبو العباس أحمد بن يحيى ابن زيد بن سيار الشيباني مولاهم، الحنبلي، إمام اللغة المشهور قال ابن الجوزي: لا يرد القيامة أعلم بالنحو من ثعلب، مات سنة مائتين وإحدى وتسعين.
(2) أي: من الأحداث والجنابة وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا *} وهو الطاهر في ذاته المطهر لغيره، وقال عليه الصلاة والسلام «اللهم طهرني بالثلج والبرد» والماء البارد، وقال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» وقال في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وهذا قول أهل العلم قاطبة حكاه غير واحد، إلا ما ذكر عن ابن عمر في ماء البحر، التيمم أعجب إلي منه، ولكن حديث «هو الطهور ماؤه» تلقته الأمة بالقبول، وتداوله فقهاء الأمصار، ورواه الأئمة الكبار، وصححوه وقالوا: إنه أصل من أصول الإسلام، وقد بلغ حد التواتر، حتى قال الشافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة.
(3) أي: غير الماء الطهور إجماعا، حكاه ابن المنذري والغزالي وغيرهما ولم
ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه الوضوء بغير الماء، وما روي عن عكرمة وأبي حنيفة من جوازه بالنبيذ لما روي عن ابن مسعود فلا يثبت.(1/59)
والحدث ليس بنجاسة، بل معنى يقوم بالبدن، يمنع الصلاة ونحوها (1) والطاهر ضد المحدث والنجس (2) ولا يزيل النجس الطاري على محل طاهر فهو النجاسة الحكمية (غيره) أي غير الماء الطهور (3) والتيمم مبيح لا رافع، وكذا الاستجمار (4) (وهو) أي الطهور (الباقي على خلقته) أي صفته التي خلق عليها (5) .
__________
(1) كالطواف ومس المصحف ومعنى يقوم بالبدن أي وصف شرعي يقوم بالأعضاء سببه الحدث نحوه.
(2) المحدث من قام به الحدث، والنجس بالكسر: الشيء المتنجس وبالفتح عين النجاسة، محمول على الوصف بالمصدر، وهو في اللغة: المستقذر وفي الشرع: قذر مخصوص، وهو ما يمنع جنسه الصلاة، كالبول والدم، والخمر فالطاهر الخالي منها.
(3) أي لا يزيل النجس الطاري على محل طاهر كالثوب وهو النجاسة الحكمية التي يمكن تطهيرها غير الماء الطهور وأخرج بالحكمية العينية التي لا يمكن تطهيرها بحال، وهي كل عين يابسة كانت أو رطبة يمنع منها الشرع بلا ضرورة لا لأذى فيها طبعا، ولا لحق الله أو غيره شرعا، كالبول والعذرة.
(4) أي التيمم مبيح مزيل للحكم فقط ويأتي أنه مطهر، وأن الاستجمار مطهر لحديث وجعلت تربتها لنا طهورا، وحديث إنهما يعني: الروث والعظم لا يطهران المفيد لرفع النجاسة.
(5) وبقي عليها سواء كان من الماء النازل من السماء كالمطر وذوب الثلج
والبرد، أو ماء الأنهار والعيون والآبار والبحار، ولو تصاعد ثم قطر، كبخارات الحمامات، وما يستخرج بالكنداسات ونحوها، وأو استهلك فيه يسير مستعمل أو مائع طاهر لم يغيره، بل بقي على صفته التي خلق عليها، فلم يقيد بوصف دون آخر، ولم يضف إلى اسم شيء غيره، كماء البقول والحمص والعصفر ونحو ذلك، ولو كان شريفا كماء زمزم، والخلقة الفطرة، وفطرة الشيء أول وجوده، والمراد استمراره على الصفة التي كان عليها وقت ظهوره إلينا.(1/60)
إما حقيقة بأن يبقى على ما وجد عليه، من برودة أو حرارة أو ملوحة ونحوها (1) أو حكما كالمتغير بمكث (2) أو طحلب ونحوه مما يأتي ذكره (3) (فإن تغير بغير ممازج) أي مخالط (كقطع كافور) (4) وعود قماري (5) .
__________
(1) كعذوبة أو بياض وغير ذلك.
(2) أي أو كان باقيا على صفته في الحكم، بأن جعل كالأول في الحكم ولم يلتفت إلى التغير بالمكث بتثليث الميم، أي بسب طول اللبث، مصدر مكث بفتح الكاف وضمها.
(3) في قوله: من نابت فيه وورق شجر وطحلب بضم اللام وفتحها وهو الأخضر الذي يخرج من أسفل الماء حتى يعلوه، ويقال له العرمض وثور الماء.
(4) طيب معروف يستخرج من شجر كبار من جبال بحر الهند والصين وغيرهما، أبيض شفاف قليل الذوبان في الماء، ومفهومه أنه إذا سحق ووقع في الماء أنه يسلبه الطهورية، لتغيره تغير ممازجة ومخالطة لتحلل أجزائه فيه.
(5) صفة لعود. بفتح القاف، نسبة إلى قامر بلدة بالهند، شجره يشبه شجر الخوخ تأكل منه الأرض رديئة إذا وقفت التغذية عنه، ويحتقن بمادة دهنية عطرية، فيضوع منه رائحة ذكية، وفي الصحيح «عليكم بالعود الهندي» ، وقال ابن القيم: العود نوعان: أحدهما يستعمل في الأدوية، وهو الكست ويقال له القسط، والثاني يستعمل في الطيب ويقال له الألوة وهو أنواع: أجودها الهندي، ثم الصيني ثم القماري، ثم المندلي، وقيل هو أجوده وأجوده الأسود ثم الأزرق الصلب الرزين الدسم، وأقله جودة ما خف وطفى على الماء.(1/61)
(أو دهن) طاهر على اختلاف أنواعه (1) قال في الشرح: وفي معناه ما تغير بالقطران (2) والزفت والشمع (3) لأن فيه دهنية يتغير بها الماء (4) .
__________
(1) سواء دهن الحيوانات أو الأشجار كزيت وشيرج وسمسم.
(2) بفتح القاف وكسر الطاء، عصارة الأبهل والأرز ونحوهما، يطبخ فيتحلل منه، والمراد به ما لا يمازج، وأما الذي يمازج فيسلبه الطهورية، وأما المتغير بمحل تطهير، كزعفران وعجين على عضو طاهر تغير به الماء وقت غسله، فلا يمنع حصول الطهارة به، والمراد بالشرح هو الشرح الكبير المشهور على المقنع، للإمام أبي الفرج شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر بن أحمد بن قدامة، المقدسي ثم الصالحي سمع من أبيه وعمه الموفق، وقرأ عليه المقنع، وشرحه في عشر مجلدات مستمدا من المغني انتهت إليه رئاسة المذهب، بل العلم في عصره، أخذ عنه جماعة منهم شيخ الإسلام، توفي سنة ستمائة واثنتين وثمانين.
(3) الزفت بكسر الزاي القار، والمزفت المطلي به، والشمع هو الذي يستصبح به، أوموم العسل.
(4) لا عن ممازجة بل عن مجاورة فيكره للاختلاف في سلبه الطهورية وذكر غير واحد استحباب الخروج من الخلاف في مسائل الاجتهاد، لكن إذا كان الخلاف مخالفا سنة صحيحة فلاحرمة له، ولا يستحب الخروج منه لأن صاحبه لم تبلغه وإن بلغته وخالفها فمحجوج بها.(1/62)
(أو بملح مائي) (1) لا معدني فيسلبه الطهورية (2) (أو سخن بنجس كره) مطلقا (3) إن لم يحتج إليه (4) سواء ظن وصولها إليه، أو كان الحائل حصينا أو لا، ولو بعد أن يبرد (5) .
__________
(1) كره وهو الماء الذي يرسل على السباخ، فيصير ملحا، أضيف إليه لأنه منعقد من الماء، فلا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، وقيل كالملح البحري، لأن أصله لماء، واختاره الشيخ وحكم التراب إذا تغير به الماء كالملح البحري، لكن إن ثخن الماء بوضع التراب فيه بحيث لا يجري على الأعضاء لم تجز الطهارة به.
(2) يعني إن تغير به، والمعدني نسبة إلى المعدن، كالجبلي، فإنه يضر التغير الكثير به، إن لم يكن بمقر الماء، أو ممره، وقال شيخ الإسلام: منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره، وبين الملح المائي والجبلي، وليس على شيء من هذه الأقوال دليل لا من نص ولا قياس ولا إجماع وصوب النووي جواز الطهارة بالماء الذي ينعقد منه ملح ما دام جاريا.
(3) صوبه في الإنصاف، للاختلاف في طهوريته ومذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين لا كراهة فيه، والمكروه ضد المحبوب، وهو ما يثاب على تركه، ولا يعاقب على فعله، والإطلاق لا يكون إلا في مقابلة تقييد سابق، أو لاحق ومعناه هنا ما ذكره المصنف بقوله: سواء ظن وصولها إليه إلخ.
(4) أي حاجة غير شديدة، بأن كان عنده غيره، إلا أن في استعماله رفقا به، فتزول الكراهة قال الشيخ: فإن احتيج إليه زالت الكراهة، وكذا المشمس، قال: وليس بنجس باتفاق الأئمة، إذا لم يحصل له ما ينجسه.
(5) أي المسخن بنجس، فإن علم وصول النجاسة إليه، وكان يسيرا، فنجس على ما سيأتي.(1/63)
لأنه لا يسلم غالبا من وصول أجزاء لطيفة إليه (1) وكذا ما سخن بمغصوب (2) وماء بئر بمقبرة (3) وبقلها وشوكها (4) واستعمال ماء زمزم في إزالة خبث (5) لا وضوء ولا غسل (6) .
__________
(1) أو لكون استعمال النجاسة مكروها،، أن السخونة حصلت بفعل مكروه وما لم يعلم وصول شيء من أجزاء النجاسة إليه فطهوريته باقية بلا خلاف.
(2) فيكره لاستعمال المغصوب فيه.
(3) بتثليث الباء مع فتح الميم، وبكسر الباء مع كسر الميم، وظاهره في أكل وشرب وطهارة وغيرها، فيكره نص عليه ويكره أيضا ماء بئر حفرها غصب أو أجرتها غصب وكذا ما ظنت نجاسته، وماء بئر ذروان التي ألقي فيها سحر النبي صلى الله عليه وسلم وماء بئر برهوت التي بحضرموت قال ابن الأثير: تجتمع فيها أرواح الفجار، ولا يباح غير بئر الناقة من آبار ديار ثمود، لأمره عليه الصلاة والسلام أن يهريقوا ما استقوا من آبارها، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة، متفق عليه، وبئر الناقة هي البئر الكبيرة التي تردها الحاج اليوم، استمر علم الناس بها قرنا بعد قرن، وهي طوية محكمة البناء، واسعة الأرجاء، ولا يحكم بنجاسة غيرها من تلك الآبار لأن الشارع لم يتعرض لنجاستها.
(4) فيكره لكونها عندهم مظنة النجاسة والبقل ما نبت في بزره وقيل البقل ما ينبت الربيع من العشب، والشوك مصدر، وهو ما يخرج من النبات ما يدق ويصلب منه، شبيها بالإبر معروف الواحدة شوكة.
(5) يكره تكريما له، وقال عليه الصلاة والسلام: إنها طعام طعم وشفاء سقم.
(6) أي فلا يكره وهو قول جمهور العلماء لقول علي: ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بسجل من ماء فشرب منه وتوضأ رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بإسناد صحيح، وللنصوص الصحيحة الصريحة المطلقة في المياه بلا فرق
ولم يزل المسلمون على الوضوء منه بلا إنكار، وما يقال عن العباس من النهي عن الاغتسال به فغير صحيح قاله النووي وغيره، وعن أحمد يكره الغسل وحده اختاره الشيخ، وعلل بأنه يجري مجرى إزالة النجاسة من وجه، ولهذا يعم البدن ولأن حدثها أغلظ، وظاهر كلامهم لا يكره الغسل ولا الوضوء بما جرى على الكعبة.(1/64)
(وإن تغير بمكثه) أي بطول إقامته في مقره (1) وهو الآجن لم يكره (2) لأنه عليه الصلاة والسلام توضأ بماء آجن (3) وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ قوله من أهل العلم (4) .
__________
(1) من أرض أو آنية من أدم أو نحاس، أو غيرها لمشقة الاحتراز منه.
(2) حيث إن تغيره من غير مخالطة شيء يغيره فهو باق على طهوريته.
(3) أي متغير رواه البيهقي. والآجن الدائم الذي لا يجري، ولأنه توضأ من بئر كأن ماءها نقاعة الحناء.
(4) أي حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم أن الوضوء بالماء الآجن المتغير بمكثه من غير نجاسة حلت فيه جائز، وحكاه الشيخ وغيره، وقال الإجماع أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم فإنها لا تجتمع على ضلالة، والإجماع هو الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة، ويجب تقديمه على ما يظن من معاني الكتاب والسنة، فإنه لا بد أن يكون منصوصا، قال وعامة التنازعات إنما هي في أمور مستحبات لا في واجبات ومحرمات اهـ. والإجماع في اللغة الاتفاق، يقال أجمعت الجماعة على كذا، إذا اتفقت عليه ويطلق بإزاء تصميم العزم،
وفي الشرع، اتفاق مجتهدي عصر من الأعصار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين وابن المنذر هو محمد بن إبراهيم الحافظ أبو بكر النيسابوري صاحب التصانيف المفيدة التي يحتاج إليها كل الطوائف توفي سنة ثلاثمائة وتسع وعشرين قال النووي لا شك في إتقانه، وتحقيقه، وكثرة اطلاعه على السنة ومعرفته بالدلائل الصحيحة وعدم تعصبه.(1/65)
سوى ابن سيرين (1) (أو بما) أي بطاهر (يشق صون الماء عنه من نابت فيه (2) وورق شجر) وسمك (3) وما تلقيه الريح أو السيول من تبن ونحوه (4) فإن وضع قصدا (5) وتغير به الماء ممازجة سلبه الطهورية (6) .
__________
(1) فإن كره ذلك، ولا يفعل صلى الله عليه وسلم ما يكره فعله، ولا يقال ذلك فيه، فلعله رحمه الله خفي عليه، وابن سيرين اسمه محمد ابن أبي عمرة وسيرين أبوه نسب إليه وهو مولى لأنس بن مالك، ثقة مشهور زاهد ورع توفي بالبصرة سنة مائة وعشر.
(2) أي: في الماء، وكذا ما يجري عليه الماء من الكبريت والقار ونحوه، فلا يكره لأجل تغيره بذلك.
(3) ونحوه، وجراد ونحوه، مما لا نفس له سائلة، فلا يكره واحترز بالورق من الثمار الساقطة فيه، سواء كانت رطبة أو يابسة.
(4) أي: وإن تغير بما يشق صون الماء عنه مما تلقيه الريح، أو السيول، من تبن ونحوه كحشيش وعيدان، وطحلب ونحو ذلك، فلا يكره، لعدم إمكان التحرز منه.
(5) بأن كان الواضع مميزًا عاقلاً، لأن من دون التمييز لا عبرة به، وإن لم يكن الطحلب وورق الشجر ونحوهما الموضوعان قصدا متفتتين ولم يتحلل منهما شيء، فهما قياس قطع الكافور.
(6) أي فإن كان المطروح فيه من جنس قرار الماء، كالتراب والملح، لم يسلبه الطهورية قال الشيخ: ومذهب أبي حنيفة وأحمد في المنصوص عنه أنه لا
فرق بين التغير بأصل الخلقة وغيره، ولا بما يشق صون الماء عنه وما لا يشق، فما دام يسمى ماء، ولم يغلب عليه أجزاء غيره، كان طهورا قال: وهو الصواب قال في الفروع: واختار الشيخ وغيره أن تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين أصلي وطارئ يمكن الاحتراز منه.(1/66)
(أو) تغير (بمجاورة ميتة) أي بريح ميتة إلى جانبه، فلا يكره، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه (1) (أو سخن بالشمس (2) أو بطاهر) مباح ولم يشتد حره (لم يكره) (3) .
__________
(1) وقاله الشارح والنووي وغيرهما، لأنه تغير مجاورة، كإن كان إلى جانب الماء جيفة، أو عذرة أو غيرهما، فنقلت الريح رائحة ذلك إلى الماء فتغير ومنه لو سد فم الإناء بشجر أو نحوه فتغير منه الماء من غير مخالطة لشيء منه وينضبط المجاور بما يمكن فصله، والممازج بما لا يمكن فصله، وإن كان مما يسمى مخالطة عند الإطلاق مجاورة في الحقيقة، فالنظر إلى تصرف اللسان، فإن أرباب اللسان قسموا التغير إلى مجاورة ومخالطة، والمبدع شرح المقنع تأليف العلامة إبراهيم ابن محمد الأكمل، بن عبد الله بن محمد بن مفلح، المقدسي الصالحي، أربع مجلدات ممزوج الأصل وله «مرقاة الوصول» ، والمقصد الأرشد، وغيرها توفي سنة ثمانمائة وأربع وثمانين.
(2) لم يكره وفاقا، وما روي أنه قال لعائشة وقد سخنت ماء في الشمس «لا تفعلي فإنه يورث البرص» فقال النووي: ضعيف باتفاق المحدثين ومنهم من يجعله موضوعا وأجمع أهل الطب أنه لا أثر له في البرص.
(3) قال الشارح وغيره: لا نعلم فيه خلافا إلا عن مجاهد، وقول الجمهور أولى، لخبر رواه الطبراني، والمراد بالمباح غير المغصوب، كحطب ونحوه، وإلا فيكره لاستعمال المغصوب فيه.(1/67)
لأن الصحابة دخلوا الحمام، ورخصوا فيه، ذكره في المبدع (1) ومن كره الحمام فعلة الكراهة خوف مشاهدة العورة (2) أو قصد التنعم بدخوله (3) لا كون الماء مسخنا (4) فإن اشتد حره أو برده كره، لمنعه كمال الطهارة (5) (وإن استعمل) قليل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة) أو عيد ونحوه (6) .
__________
(1) أي ذكر صاحب المبدع أنهم دخلوه، ورخصوا في دخوله، وذكره عنهم غير واحد قال شيخ الإسلام: وإنما صح فيه عن الصحابة رضي الله عنهم قال ابن القيم وغيره، إذا اشتهر قول الصحابي، ولم يخالفه صحابي آخر، فالجماهير على أنه إجماع وحجة, وإن لم يشتهر أو لم يعلم أنه اشتهر أم لا فجمهور الأمة على أنه حجة اهـ.
والحمام هو المغتسل المعروف وجمعه حمامات ويأتي.
(2) هي السوأة وكلما يستحي منه، للنهي عن النظر إليها، وتقدم أن العلة في اللغة المرض الشاغل، قال في المصباح: أعله جعله ذا علة، ومنه إعلالات الفقهاء واعتلالاتهم.
(3) ففي الأثر «إن عباد الله ليسوا بالمتنعمين» .
(4) أي ليست علة الكراهة كون الماء مسخنا فإن تسخينه لا يؤثر في كراهته قال في المبدع: هذا إجماع منهم على أن سخونة الماء لا توجب كراهته.
(5) بسبب شدة الحرارة أو البرودة قال النووي: وذلك متفق عليه عندنا ودليل الكراهة أنه يتعرض للضرر، ولأنه لا يمكنه استيفاء الطهارة به على وجهها اهـ وذلك إذا لم يحتج إليه، وذكر ابن القيم وغيره أن الوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية.
(6) كبقية الأغسال المستحبة كره، وكذا إن استعمل في غسل كافر كره للاختلاف فيه، والفرق بين الغسل الواجب والمستحب أن ما شرع بسبب ماض كان واجبا، كالغسل من الجنابة والحيض والنفاس، وما شرع لمعنى مستقبل كان مستحبا كأغسال الحج والجمعة والعيدين.(1/68)
(وغسلة ثانية وثالثة) في وضوءٍ أو غسلٍ (كره) للخلاف في سلبه الطهورية (1) فإن لم تكن الطهارة مشروعة كالتبرد لم يكره (2) (وإن بلغ) الماء (قلتين) تثنية قلة (3) وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا (4) والمراد هنا الجرة الكبيرة من قلال هجر (5) .
__________
(1) وظاهر الفروع والمنتهى والإنصاف وغيرها عدم الكراهة، وذهب إلى ذلك طوائف من أهل العلم للأدلة على عدم الكراهة ولأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا فبقي مطهرا غير مكروه بوجه من الوجوه.
(2) قال في الإنصاف: بلا نزاع وذكر الشارح وغيره أنه لا خلاف فيه لأنه باق على إطلاقه، وأن الماء إذا خالطه طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وإذا وقع في الماء ماء مستعمل يسير عفي عنه، أو كمله بمائع آخر لم يغيره جاز الوضوء به لبقاء اسم الماء عليه.
(3) بالضم والجمع قلال، وهي شبه حب يسع جرارا، أو مزادة من الماء.
(4) سميت القلة بذلك لارتفاعها، أو لأنها تقل بالأيدي، أي ترفع، وقال الأزهري: لأن الرجل القوي يقلها أي يحملها، قال: والقلال مختلفة بالقرى العربية وقلال هجر من أكبرها.
(5) بفتح الهاء والجيم، نسبت إليها لأنها تعمل بها، وقدر بقلالها لأنها معروفة الصفة والمقدار، لا تختلف كالصيعان، وتقديره الماء بها فيه مناسبة فإن القلة وعاء الماء.(1/69)
وهي قرية كانت قرب المدينة (1) وهو الكثير اصطلاحا (2) (وهما) أي القلتان (خمسمائة رطل) بكسر الراء وفتحها (3) (عراقي تقريبا) فلا يضر نقص يسير كرطل ورطلين (4) وأربعمائة وستة وأربعون رطلا وثلاث أسباع رطل مصري (5) ومائة وسبعة وسبع رطل دمشقي (6) وتسعة وثمانون وسبعا رطل حلبي (7) .
__________
(1) وفي اللسان: من قرى المدينة، قال النووي: تعمل فيها تلك القلال وليست هي هجر البحرين قال الزركشي: وقيل هجر البحرين، وبه قال الأزهري وهو الأشبه، قال السمهودي: ولذا لم يذكرها المجلد اهـ، ومال شيخنا وغيره إلى الأول لكونها تستعمل في الماء ولقربها من المدينة، وفي الحديث «وإذا نبقها مثل قلال هجر» .
(2) إشارة إلى أنه إذا أطلق الكثير فهو قلتان فأكثر، وإذا أطلق القليل فهو ما دونهما وهو كذلك عند عامة الفقهاء.
(3) قال الكسائي: الرطل الذي يوزن به بكسر الراء ويجوز فتحها.
(4) تفريع على ما تقدم من أن تقدير القلتين بخمسمائة رطل تقريب، قال الشيخ: على أصوب القولين، وصححه النووي وغيره واختاروه، وفي وجه أنه تحديد فيضر نقص ورطل ورطلين، وصححه النووي في تحقيقه أنه لا يضر نقص قدر لا يظهر بنقصه تفاوت في التغير بقدر معين من الأشياء المغيرة.
(5) وما وافقه كالمدني والمكي.
(6) بكسر الدال وفتح الميم على المشهور، وما وافقه كصفد وعكة.
(7) وما وافقه كالبيروتي.(1/70)
وثمانون رطلا وسبعان ونصف سبع رطل قدسي (1) فالرطل العراقي تسعون مثقالا (2) سبع القدسي وثمن سبعه، وسبع الحلبي وربع سبعه، وسبع الدمشقي ونصف سبعه، ونصف المصري وربعه وسبعه (3) (فخالطته نجاسة) قليلة أو كثيرة (غير بول آدمي (4) أو عذرته المائعة) أو الجامدة (5) إذا ذابت فيه (فلم تغيره) فطهور (6) لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» (7) .
__________
(1) وما وافقه كالنابلسي والحمصي، وأحد وسبعون رطلا وثلاثة أسباع رطل بعلي، وكل رطل اثنا عشرة أوقية في كل البلدان وأوقية العراقي عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم، وأوقية المصري اثنا عشر درهما، وأوقية الدمشقي خمسون درهما، وأوقية الحلبي ستون درهما، وأوقية القدسي ستة وستون وثلثا درهم.
(2) والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، وتسع وسبعون شعيرة، وقيل ثنتان وسبعون والدرهم ستة دوانق قال الشيخ: الدراهم هي هذه التي هي من زمان عبد الملك كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل.
(3) أي: أن الرطل العراقي نسبته إلى غيره من الأرطال سبع القدسي إلخ، ومساحة القلتين ذراع وربع في ذراع وربع طولا وعرضا إجماعا، بذراع اليد قال الشيخ: وقدرها بالصاع ثلاثة وتسعون صاعا، وثلاثة أرباع صاع.
(4) ظاهره ولو لم يأكل الطعام.
(5) أي اليابسة: ضد الذائبة يعني المائعة.
(6) إجماعة حكاه غير واحد.
(7) وأصله أنه سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع فقال ذلك.(1/71)
وفي رواية: «لم يحمل الخبث» رواه أحمد وغيره (1) ، قال الحاكم: على شرط الشيخين (2) وصححه الطحاوي (3) وحديث «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» (4) وحديث «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه» (5) .
__________
(1) فرواه أصحاب السنن وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر وصححه ابن خزيمة (ويحمل) أي يدفع عن نفسه كما يقال: فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عنه.
(2) أي: قال في صحيحه: هذا حديث صحيح، على شرط الشيخين البخاري ومسلم في رجال الصحيح، فقد احتجا جميعا بجميع رواته، ولم يخرجاه والحاكم هو: إمام المحققين أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع صاحب التصانيف سمع من نحو ألفي شيخ وتوفي سنة خمس وأربعمائة.
(3) الإمام المشهور. أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحنفي، المتوفى سنة ثلاثمائة وإحدى وثلاثين وضعفه ابن عبد البر والمجد وغيرهما للاضطراب في متنه وسنده.
(4) رواه أبو داود والنسائي، وحسنه الترمذي، وصححه أحمد من حديث أبي سعيد في بئر بضاعة.
(5) على تقدير ثبوته، رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وضعفه أبو حاتم، لأنه من رواية رشدين بن سعد، وقال الشافعي، لا يثبت أهل العلم مثله، إلا أنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلافا، ولذلك قال أحمد: ليس فيه حديث، ولكن الله حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا يحل له وغلب، أي قهر أحد هذه الثلاثة صفة الماء التي خلق عليها.(1/72)
يحملان على المقيد السابق (1) وإنما خصت القلتان بقلال، هجر لوروده في بعض ألفاظ الحديث (2) ولأنها كانت مشهورة الصفة معلومة المقدار (3) .
__________
(1) وهو قوله: «إذا بلغ الماء قلتين» الحديث، وقال شيخ الإسلام حديث القلتين إذا صح فمنطوقه موافق لغيره، وأما مفهومه فلا يلزم أن يكون كلما لم يبلغ القلتين ينجس، ولم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة، والتخصيص إذا كان له سبب لم يبق حجة بالاتفاق، والمسئول عنه كثير، أو من شأنه أنه لا يحمل الخبث، فدل على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا، فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته، فصار حديث القلتين موافقا لقوله «الماء طهور لا ينجسه شيء» ، لم يرد أن كل ماء لم يبلغ القلتين فإنه يحمل الخبث فإن هذا مخالفة للحس، إذ قد يحمل وقد لا يحمل، ونكتة الجواب أن كونه يحمل أو لا يحمل أمر حسي يعرف بالحس، فإنه إذا كان الخبث موجودا فيه كان محمولا وإن كان مستهلكا لم يكن محمولا.
وقال ابن القيم: الذي تقتضيه الأصول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس، فإنه باق على أصل خلقته، وهو طيب فيدخل في قوله {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح اهـ، وإذا وقعت نجاسة في ماء، هل يقتضي القياس أنه كاختلاط الحلال والحرام، إلى أن يقوم دليل على تطهيره، أو إلى أن تظهر النجاسة؟ صوب الشيخ الثاني.
(2) أي حديث القلتين ولفظه «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر» ، رواه الخطابي بإسناده إلى ابن جريج مرسلا.
(3) معروفة وكان صلى الله عليه وسلم يمثل بها كما في حديث سدرة المنتهى
(وإذا نبقها مثل قلال هجر) ، والتمثيل لا يكون بمختلف متفاوت، قال الشيخ: ومن عادته صلى الله عليه وسلم أن يقدر المقدرات بأوعيتها، فتقدير الماء بالقلال مناسب، لأنها وعاء الماء.(1/73)
قال ابن جريج: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة تسع قربتين وشيئا، والقربة مائة رطل بالعراقي (1) والاحتياط أن يجعل الشيء نصفا (2) فكانت القلتان خمسمائة بالعراقي (3) (أو خالطه البول أو العذرة) من آدمي (4) (ويشق نزحه) (5) .
__________
(1) القربة بالكسر من الأسقية الوطب من اللبن، وقد تكون للماء، أو هي المخروزة من جانب واحد، جمعها قرب وقربات بتثليث الراء، وابن جريج هو أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي القرشي الأموي مولاهم، وأصله لامي، من كبار فقهاء عصره، قال أحمد: أول من صنف مات سنة مائة وثمانين.
(2) أي يجعل قول ابن جريج «وشيئا» نصف قربة، فيكون المجموع خمس قرب بقرب الحجاز كل واحدة تسعمائة رطل عراقية باتفاق القائلين بتحديد الماء بالقرب.
(3) على هذا التقدير وعليه الجمهور.
(4) قال الزركشي: العذرة لا تكون إلا من الآدميين، وفي المصباح وغيره، الخرأ والغائط، وأردأ ما يخرج من الطعام، وتطلق على فناء الدار لأنهم كانوا يلقون الخرأ فيه.
(5) أي عرفا: والمراد ما يشق على الرجل المعتدل القوة، إذ إرادة جميع الناس أو أكثرهم غير مراد، وإرادة عدد مخصوص يتوقف على نص، فيحمل على المتيقن.(1/74)
كمصانع طريق مكة فطهور) ما لم يتغير (1) قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافًا (2) ومفهوم كلامه أن ما لا يشق نزحه ينجس ببول الآدمي أو عذرته المائعة أو الجامدة إذا ذابت فيه، ولو بلغ قلتين، وهو قول أكثر المتقدمين والمتوسطين (3) قال في المبدع: ينجس على المذهب (4) وإن لم يتغير (5) لحديث أبي هريرة يرفعه (6) : «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه (7) .
__________
(1) والمصانع كالأحواض يجمع فيها ماء المطر، واحدها مصنع، والمراد بالمصانع: المصانع الكبار التي كانت موردا للحجاج، يصدرون عنها ولا تنفد، والمصانع الكبار لا تنجس بالاتفاق إلا بالتغير.
(2) وحكى الإجماع عليه غير واحد، منهم شيخ الإسلام وابن المنذر.
(3) كالقاضي والشريف وابن البناء وابن عبدوس، قال القاضي: اختاره الخرقي، وشيوخ أصحابنا وقال الشارح: وهو اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ومذهب الشافعي وأكثر أهل العلم.
(4) أي على ما اصطلحوه، ويأتي ونص عليه في رواية صالح والمروذي وأبي طالب.
(5) أي الماء الواقع فيه البول أو العذرة ولا يشق نزحه، وتمامه: ما لم يبلغ الماء حدًّا يشق نزحه.
(6) أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الرحمن بن صخر بن عامر بن عبد ذي الشرى، الدوسي لازم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد أكثر حديثا منه، توفي سنة سبع وخمسين.
(7) أي اتفق على تخريجه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة وما كان فيهما أو في أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث، لأنهما اشترطا الصحة وتلقتهماالأمة بالقبول، واتفق السلف على أنه ليس بعد كتاب الله أصح منهما، لتجريدهما الصحيح فيهما، قال الشيخ: وما فيهما متن يعلم أنه غلط اهـ وهذا الحديث رواه غيرهما أيضا ولكن ما فيهما أو أحدهما غني عن التقوية بالإضافة إلى ما سواهما، وكثيرا ما يقتصر هو وغيره عليهما، أو أحدهما، ويجوز الاحتجاج بما صححه أحد الأئمة المعتبرين أو حسنه عند الجمهور وقوله منه أي من ذلك الماء، والألف واللام فيه لبيان حقيقة الجنس، لا للجنس الشامل، لأنه مستحيل فيكون للعهد الذهني.
قال الشيخ: والنهي عن البول لا يدل على أنه يصير نجسا، بل لما يفضي إليه البول بعد البول من إفساده، أو لما يؤدي إلى الوسواس، كما نهى عن بول الرجل في مستحمه، وكذا نهيه عن الاغتسال فيه، وقال: لا نزاع بين المسلمين أن النهي عن البول في الماء الدائم لا يعم جميع المياه، فماء البحر والمصانع الكبار التي لا يمكن نزحها، ولا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر، لا ينجسه البول بالاتفاق وصوب النووي أنه يحرم البول في الماء القليل الراكد، لأنه ينجسه، ويتلف ماليته ويغر غيره باستعماله، وأن التغوط كالبول وأقبح، وأما انغماس من لم يستنج في الماء ليستنجي فيه فإن كان قليلا بحيث ينجس بوقوع النجاسة فيه فحرام، لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء وإن كان كثيرا جاريا فلا بأس.(1/75)
وروى الخلال بإسناده أن عليا رضي الله عنه سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها (1) .
__________
(1) أي فيحمل على أنه دون القلتين، والصبي الغلام وهو دون الفتى، ومن لم يفطم بعد والخلال هو أبو بكر صاحب الإمام أحمد، واسمه أحمد بن محمد بن هارون، صاحب الجامع والعلل والسنة، جمع في كتابه أكثر الروايات عن أحمد، توفي سنة ثلاثمائة وإحدى عشرة.(1/76)
وعنه أن البول والعذرة كسائر النجاسات (1) فلا ينجس بهما ما بلغ قلتين إلا بالتغير، قال في التنقيح، اختاره أكثر المتأخرين وهو أظهر اهـ (2) ولأن نجاسة بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب (3) ولا يرفع حدث رجل وخنثى (4) .
__________
(1) أي عن الإمام أحمد رحمه الله، وإن لم يتقدم له ذكر لكونه معلوما، فعنه جار ومجرور متعلق بمحذوف، تقديره: نقل عنه، فعله المتأخرون اختصارا، فكذا كل ما ذكر: وعنه وكثيرا ما يستعمله الأصحاب وكذا غيرهم عن أئمتهم لظهوره عندهم وسائر أي باقي: قال الأزهري: اتفق أهل اللغة على أن معنى سائر الباقي اهـ، فالأكثر في سائر الشيء أن يكون بمعنى باقيه، وقد يستعمل بمعنى جميعه.
(2) يعني كلام القاضي علاء الدين علي بن سليمان السعدي المرداوي، تقدم وكانوا يلقبونه بالمنقح، نقح المقنع في كتابه التنقيح المشبع، اختصره من كتابه الإنصاف، ويسمونه المجتهد في تصحيح المذهب، وقال ناظم المفردات: هذا قول الجمهور، وقال الشيخ: اختارها أكثر المتأخرين، وقال السامري: وعليها التفريع، قال ابن منجا: عدم النجاسة أصح، واختاره أبو الخطاب وابن عقيل والموفق والمجد وغيرهم، قال في الإنصاف: وهو المذهب وهو مذهب الشافعي، قال شيخنا: والصحيح أنه لا فرق بين بول الآدمي وغيره من سائر النجاسات، وهو المذهب وقول جمهور الفقهاء.
(3) بل نجاسة الكلب أزيد، وحديث أبي هريرة لا يدل على نجاسة الماء، وحديث القلتين أرجح لموافقته القياس.
(4) أي بالغ. لاحتمال أنه رجل، وقيل: يرتفع حدث الخنثى المشكل، لاحتمال أنه أنثى.(1/77)
(طهور يسير) دون القلتين (خلت به) كخلوة نكاح (امرأة) مكلفة ولو كافرة (1) ، (لطهارة كاملة عن حدث) (2) (لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) رواه أبو داود وغيره (3) وحسنه الترمذي (4) وصححه ابن حبان (5) .
__________
(1) إشارة إلى الخلاف، فإنه لا نية للكافرة، ومكلفة أي بالغة عاقلة، لا صغيرة أو مراهقة وظاهره لا خنثى، لاحتمال أنه رجل، والجار والمجرور متعلق بخلت أي بأن لم يكن ثم من يشاهدها، فإن كان ولو مميزا أو كافرًا أو امرأة لم يؤثر.
(2) أي مجتمعة شروطها وفروضها، عن حدث أصغر أو أكبر، لا خبث وشرب وطهر مستحب، فلو اختل شيء من ذلك فطهور لا تؤثر خلوتها به.
(3) أبو داود هو الإمام المشهور سليمان بن الأشعث بن إسحق بن بشير الأزدي، السجستاني الحنبلي، أحد الحفاظ توفي بالبصرة، سنة مائتين وخمس وسبعين، ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وقالا وضوء المرأة.
(4) الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي، نسبة لترمذ بلدة قديمة بطرف جيحون توفي بها سنة مائتين وتسع وسبعين، والمراد بالحسن في اصطلاحه رحمه الله تعالى ما ليس في رواته من هو متهم بالكذب ولا يكون شاذا، ولا مخالفا للأحاديث الصحيحة، ويروى من غير وجه.
(5) بكسر المهملة وتشديد الموحدة، الحافظ محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي الدارمي التميمي، قال الحاكم: كان من أوعية العلم، توفي سنة ثلاثمائة وأربع وخمسين، وله شاهد عند أبي داود والنسائي (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) قال الحافظ: رجاله ثقات.(1/78)
قال أحمد في رواية أبي طالب: أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك (1) وهو تعبدي (2) وعلم مما تقدم أنه يزيل النجس مطلقا (3) .
__________
(1) منهم عبد الله بن عمر. وعبد الله بن سرجس، وعنه طهور، اختاره أبو البقاء وابن عقيل والشيخ تقي الدين قال في الشرح: وهو أقيس، لما روى مسلم وأحمد وغيرهما عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يغتسل بفضل ميمونة) ، وروى أحمد وابن ماجه عن ميمونة، (أنه توضأ بفضل غسلها من الجنابة) ، وروى أيضا أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، والحاكم وقال: لم يحفظ له علة، عن ابن عباس: (اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء ليتوضأ منها، فقالت: إني كنت جنبا، فقال: إن الماء لا يجنب) وأكثر أهل العلم على الرخصة للرجل من فضل طهور المرأة، والأخبار بذلك أصح، قاله غير واحد من أهل العلم، وقال البغوي: لا كراهة في وضوء الرجل بفضل المرأة، للأحاديث الصحيحة فيه اهـ، فحمل النهي على التنزيه أولى، وقال الوزير، أجمعوا على جواز وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة، وإن خلت بالماء إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكى النووي وغيره الإجماع على جواز ذلك وأما تطهر المرأة بفضل الرجل فجائز بالإجماع، ولم يختلف في تطهر الرجل والمرأة جميعا من إناء واحد، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب هو أحمد بن حميد المشكاني، المتخصص بصحبة الإمام أحمد، وروى عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد رحمه الله يكرمه، مات سنة مائتين وأربع وأربعين.
(2) أي لا يظهر لنا وجهه، لا أنه الذي لا وجه له، لأن لكل حكم وجها، لأن الأحكام مربوطة بالمصالح، ودرء المفاسد، فما لم تظهر لنا مصلحته أو مفسدته اصطلحوا على أن يسموه تعبدا.
(3) سواء استعمله رجل أو خنثى أو امرأة، وسواء احتيج إليه أم لا لمفهوم
الخبر، وعدم عقل معناه، فلم يقس عليه، وما تقدم هو قوله: ولا يرفع حدث رجل إلخ.(1/79)
وأنه يرفع حدث المرأة والصبي، وأنه لا أثر لخلوتها بالتراب، ولا بالماء الكثير، ولا بالقليل إذا كان عندها من يشاهدها (1) أو كانت صغيرة (2) أو لم تستعمله في طهارة كاملة، ولا لما خلت به لطهارة خبث (3) فإن لم يجد الرجل غير ما خلت به لطهارة الحدث استعمله ثم تيمم وجوبا (4) .
النوع الثاني من المياه الطاهر غير المطهر (5) .
__________
(1) أو يشاهد الماء، وليس المراد المشاهدة بالبصر، لأن الأعمى تثبت الخلوة بحضوره، ولا يؤثر الصبي أو كافر أو امرأة.
(2) أي من خلت بالطهور اليسير فلا أثر لخلوتها به.
(3) أي نجاسة، لأنها من قسيم التروك، ولا تحتاج إلى نية فلا تأثير.
(4) ظاهر تعبيره بثم اشتراط الترتيب لا التعقيب، فلو توضأ وبقي مدة لم تنتقض طهارته فيها فتيمم صح، وعبارة المنتهى تقتضي عدم ذلك، وعلى ما ذكروه من الوضوء والتيمم استعماله واجب، لأن الحدث لم يرتفع، لكون الماء غير طهور، قال إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: زعم بعضهم أنه لا يرفع الحدث، وولدوا عليه من المسائل ما يشغل الإنسان، ويعذب الحيوان، وأكثر أهل العلم أنه مطهر رافع للحدث، للأدلة القاطعة، وإنما نهى عنه نهي تنزيه وتأديب إذا قدر على غيره.
(5) وحكمه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث ولا يستعمل في طهارة مندوبة، وإنما يستعمل في العادات دون العبادات، وجعلوه في الوسط لسلب أحد الوصفين منه، وبقاء الآخر، قال في المبدع وغيره، وهو قسمان، أحدهما غير مطهر بالإجماع، وهو ما خالطه طاهر يمكن أن يصان الماء عنه، والمراد بالمخالطة هنا الممازجة، بحيث يستهلك جرم الطاهر في جرم الماء، ويتلاقى جميع أجزائهما فيغير الممازج اسم الماء، بأن صار صبغا، أو خلا، أو غلب على أجزائه فصيره حبرا، أو طبخ فيه فصار مرقا، قال الشارح وغيره، لا يجوز الغسل ولاالوضوء به، لا نعلم فيه خلافا، وقال النووي: لا يصح رفع الحدث، وإزالة النجاسة إلا بالماء المطلق، بلا خلاف عندهم، وهو قول جماهير السلف والخلف، وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه لا يجوز الوضوء بماء الورد والشجر، والعصفر وغيره، مما لا يقع عليه اسم الماء، وما روي من وضوئه صلى الله عليه وسلم بالنبيذ فقال الطبراني والخلال: موضوع وقال جماعة: لم يكن ابن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، وقال الطحاوي: إنما ذهب أبو حنيفة إلى الوضوء بالنبيذ اعتمادا على حديث ابن مسعود، ولا أصل له.(1/80)
وقد أشار إليه بقوله (وإن تغير لونه أو طعمه أو ريحه) (1) أو كثير من صفة من تلك الصفات لا يسير منها (2) .
__________
(1) لون الشيء ما فصل بينه وبين غيره، أو هيئته كالسواد والبياض والحمرة وطعمه حلاوته ومرارته، وما بين ذلك في الطعام والشراب، وطعم كعلم: ذاق والرائحة لما يدرك بحاسة الشم.
(2) أي لا يسير صفة من صفاته: وهي اللون والطعم والريح، ولو كان الكثير في غير الرائحة قال الشارح: ولم يفرق الأصحاب بينها، واشترط الخرقي الكثرة في الرائحة لسرعة سرايتها، وكونها تحصل عن مجاورة أو مخالطة، فاعتبرت الكثرة، ليعلم أنها عن مخالطة اهـ، وعلم من ذلك أنه إن كان التغير اليسير من صفات الثلاث: أثر، وكذا الكثير من صفة، وإن كان اليسير من صفتين أو ثلاث لا يعدل الكثير من صفة: اغتفر فإن زال تغيره عادت طهوريته، فإن تغير بعضه فما لم يتغير طهور.(1/81)
(بطبخ) طاهر فيه (1) (أو) بطاهر من غير جنس الماء لا يشق صونه عنه (ساقط فيه) كزعفران (2) لا تراب ولو قصدا (3) ولا ما لا يمازجه مما تقدم (4) فطاهر لأنه ليس بماء مطلق (5) (أو رفع بقليله حدث) مكلف أو صغير فطاهر (6) .
__________
(1) أي في الماء كالباقلا والحمص فغير أحد الأوصاف الثلاثة.
(2) ولبن وعسل ونحوها من الطاهرات والزعفران نبات له أصل كالبصل وزهره أحمر والزعفران الشعري خيوط نبات، يلتف بعضها على بعض كالشعر.
(3) فلا يسلب طهوريته إذا خلط بتراب، ولو وضع فيه قصدا، لأنه أحد الطهورين وأصل مقره، ما لم يصر طينا لعدم الإسباغ به.
(4) أي في قسم الطهور مما لا يمازج الماء، كدهن وملح مائي.
(5) أي لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء ومعناه، بل صار بسبب ذلك مقيدا، بقولهم ماء زعفران، ونحو ذلك وعنه طهور، قال الموفق في الكافي: إنها أكثر الروايات عنه لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وهو عام في كل ماء، لأنه نكرة في سياق النفي، فلم يجز التيمم عند وجوده، ولأنه لم يسلبه اسمه ولا رقته، أشبه المتغير بالدهن، وهذا مذهب أبي حنيفة، واختاره أبو البقاء وابن عقيل، والشيخ تقي الدين وقال: يجوز الطهارة بالمتغير بالطاهرات، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل بالسدر في ثلاثة مواضع، ولاغتساله عليه الصلاة والسلام هو وميمونة من قصعة فيها أثر العجين، رواه أحمد فتغيره بالطاهرات لا يسلبه الطهورية، وهو مذهب جمهور العلماء وأنص الروايات عن أحمد.
(6) أي رفع بقليله وهو ما دون القلتين حدث مكلف أي بالغ عاقل، أو حدث صغير أي مميز وهو الذي يصح الوضوء منه، فطاهر وعنه مطهر اختاره الشيخ وأبو البقاء وابن عقيل، وطوائف من العلماء، ومال إليه في الشرح وقواه
في الإنصاف، وفي الحديث (إن الماء لا يجنب) ، صححه الترمذي وقد صب عليه الصلاة والسلام على جابر من وضوئه، (وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه) رواه البخاري، ولأنه ماء طاهر لاقى أعضاء طاهرة، فلم يسلبه الطهورية، أشبه ما لو تبرد به.(1/82)
لحديث أبي هريرة (لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) رواه مسلم (1) وعلم منه أن المستعمل في الوضوء والغسل المستحبين طهور كما تقدم (2) وأن المستعمل في رفع الحدث إذا كان كثيرا طهور (3) لكن يكره الغسل في الماء الراكد (4) .
__________
(1) اختلف في تعليله فقيل لأنه أزال به مانعا من الصلاة، أشبه الماء المزال به النجاسة، وقيل لكونه استعمل في عبادة على وجه الإتلاف، وتقدم قول الشيخ أنه لما يفضي إلى إفساده، أو إلى الوسواس، وقال النووي: إذا كان النهي راجعا إلى النفس المنهي عنه ضر، وإذا كان لأمر خارج لم يقتض الفساد على الصحيح المختار لأهل الأصول انتهى، وبدن الجنب طاهر بالإجماع، والماء الطاهر إذا لاقى محلا طاهرا لم ينجس بالإجماع، وقوله: الدائم أي الراكد، ومسلم هو ابن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري الحافظ، صاحب الصحيح وغيره، المتوفى سنة مائتين وإحدى وستين.
(2) أي في قوله (وإن استعمل في طهارة مستحبة إلخ وقوله (منه) أي من قول الماتن: حدث.
(3) أي إذا كان قلتين فأكثر، لحديث القلتين.
(4) لحديث لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب.(1/83)
ولا يضر اغتراف المتوضئ لمشقة تكرره (1) بخلاف من عليه حدث أكبر (2) فإن نوى وانغمس هو أو بعضه في قليل لم يرتفع حدثه، وصار الماء مستعملا (3) ويصير الماء مستعملا في الطهارتين بانفصاله، لا قبله ما دام مترددا على الأعضاء (4) .
__________
(1) إذا لم ينو غسلها، وأما إذا نوى ذلك بعد وجهه لا قبله اعتبارا بالترتيب فيضر، وقال الشارح وغيره، «من توضأ من ماء يسير يغترف منه بيده عند غسل يديه لم يؤثر ذلك» ، وفي الصحيحين (ثم أدخل يده في الإناء فغسل يديه إلى المرفقين) .
(2) سواء كان جنابة أو حيضا أو نفاسا أو غيرها، فإنه إذا غمس بعض عضو ولو يده بعد نية ضر.
(3) ومفهومه أنه إن كان كثيرا لم يصر مستعملا بمجرد انغماس الجنب ونحوه فيه، ويرتفع حدثه، وصرح البغوي والنووي وغيرهما أن الجنب إذا نزل في ماء واغتسل فيه فإن كان قلتين ارتفعت جنابته وأنه لا يصير مستعملا بلا خلاف، وكذا لو اغتسل فيه جماعة متفرقين أو مجتمعين، وقال الشيخ: يجوز التطهر في الحياض التي في الحمامات، سواء كانت فائضة أو لم يكن، وسواء كان الأنبوب يصب فيها أو لم يكن، وسواء كان الماء نابيا فيها أو لم يكن، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ولم يغتسل إلا وحده واعتقد ذلك دينا فهو مبتدع، مخالف للشريعة مستحق للتعزير الذي يردعه وأمثاله، عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به اهـ، وقيل: يرتفع حدثه بانغماسه في القليل، ولا يصير مستعملا اختاره الشيخ وقال: ما يطير من بدن المغتسل أو المتوضئ من الرشاش في إناء الطهارة لا يجعله مستعملا.
(4) فما دام مترددا على الأعضاء فطهور، كالكثير قبل انفصاله لا بعده، وقال الشيخ: فإذا انتقل من عضو إلى عضو لم يتصل به مثل أن يعصر الجنب شعر رأسه على لمعة.(1/84)
(أو غمس فيه) أي في الماء القليل كل (يد) مسلم مكلف (قائم من نوم ليل (1) ناقض لوضوء) قبل غسلها ثلاثا فطاهر (2) نوى الغسل بذلك الغمس أو لا (3) وكذا إذا حصل الماء في كلها (4) ولو باتت مكتوفة (5) أو في جراب ونحوه (6) .
__________
(1) للحديث لا نهار واليد أصلها يدي، ولم تبن مع كونها على حرفين لكون الثالث يعود إليها في التثنية والجمع، والنوم قيل إنه غشية ثقيلة، تقع على القلب فتبطل عمل الحواس، وهو رحمة من الله على عبده ليستريح البدن عند تعبه وتنعكس الحرارة إلى الباطن، فينهضم الطعام.
(2) وعنه طهور وفاقا، واختاره الخرقي والموفق والشارح والشيخ، وجزم به في الوجيز وذكر في الشرح أنه الصحيح لأنه ماء لاقى أعضاء طاهرة فكان على أصله، ونهيه عليه الصلاة والسلام عن غمس اليد إن كان لوهم النجاسة فهو لا يزيل الطهورية، كما لا يزيل الطاهرية، وإن كان تعبديا اقتصر على مورد النص، وهو مشروعية الغسل.
(3) أي أو لم ينو الغسل بذلك الغمس، فهو طاهر.
(4) أي من غير غمس، بأن صب على جميع يده من الكوع إلى أطراف الأصابع.
(5) أي مشدودة بالكتاف إلى خلفه قالوا لأن الأمر تعبدي، لا لأجل النجاسة فالمتيقن والشاك سواء.
(6) ككيس ضيق، والجراب بكسر الجيم، ولا يفتح أو يفتح لغة عند بعضهم، وهو المزود أو الوعاء جمعه جرب وجرب وأجربة.(1/85)
لحديث (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا (1) فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) رواه مسلم (2) ولا أثر لغمس يد كافر وصغير ومجنون وقائم من نوم نهار أو ليل إذا كان نومه يسيرا لا ينقض الوضوء (3) والمراد باليد هنا إلى الكوع (4) .
__________
(1) أي ثلاث مرار، والإناء أخرج البرك والحياض التي لا تفسد بغمس اليد فيها، وقال الشيخ الإناء الذي للماء المعتاد لإدخال اليد، وهو الصغير.
(2) وفي لفظ لهما «فلا يغمس يده في الإناء» الحديث لكنه لا يقتضي سلبه الطهورية كما تقدم، وفي هذا الحديث دليل على استحباب الاحتياط للعبادات وغيرها، بحيث لا ينتهي إلى الوسوسة، وقال النووي وغيره، النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها مجمع عليه، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء، ولم يأثم الغامس، والأصل في الماء واليد الطهارة، فلا ينجس بالشك، وقواعد الشرع متظاهرة على هذا وليس مخصوصا بالقيام من نوم الليل فقط، بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها.
(3) أي نوم الليل اختاره المجد وصححه في تصحيح الفروع وغيره، وإن كان الماء في إناء لا يقدر على الصب منه، كالحوض المبني بل على الاغتراف وليس عنده ما يغترف به، فيغترف ببعض يده ويغسلها ثلاثا، وقال الشارح: إذا وجد ماء قليلا ويداه نجستان وليس معه ما يغترف به: فإن أمكنه أن يأخذ بفيه، أو يغمس خرقة أو غيرها ويصب على يديه فعل، وإلا تيمم لئلا ينجس الماء ويتنجس به وقال شيخ الإسلام: ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنه يكره استعمال الماء الذي فيه.
(4) وهو طرف الزند الذي يلي الإبهام، ونبه على اليد هنا لأن اليد في الأصل إلى المنكب، ثم تستعمل بقرينة في الوضوء إلى المرفق، للآية وفي السرقة إلى الكوع، للخبر وكذا هنا.(1/86)
ويستعمل هذا الماء إن لم يجد غيره ثم يتيمم (1) وكذا ما غسل به الذكر والأنثيان لخروج مذي، دونه لأنه في معناه (2) وأما ما غسل به المذي فعل ما يأتي (3) (أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها) وانفصل غير متغير (فطاهر) (4) .
__________
(1) أي يستعمل الماء الذي غمس فيه كل يد المكلف القائم من نوم الليل الناقض للوضوء في وضوء وغسل، وإزالة نجاسة بدن، أو ثوب، أو بقعة، أو غسل يديه من نوم ليل، ولا يرتفع به الحدث، ولا ما في معناه، ولا يزول به الخبث، فمتى وجد طهورا استعمله، وتلزمه الإعادة، لا فيما إذا كان المتنجس ثوبه وصلى فيه لعدم غيره، ويغسل به الميت مع التيمم كالحي، وتقدم أنه طهور، وقال ابن عبد البر: من أدخل يده في الإناء قبل غسلها لم يضر ذلك وضوءه، وكان الصحابة يدخلون أيديهم في الماء وهم جنب، والنساء حيض فلا يفسد ذلك بعضهم على بعض، وقرب لإبراهيم النخعي وضوءه فأدخل يده قبل أن يغسلها، فقيل له: أمثلك يفعل؟ فقال: أرأيت المهراس الذي كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون فيه كيف كانوا يصنعون به؟ وكان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ويشرعون فيه جميعا صححه البخاري وغيره.
(2) أي في معنى ما غمس فيه يد القائم من نوم الليل، ولو لم يغسل إلا البعض منهما، لأن الحكم إذا علق بالمظنة لم تعتبر حقيقة الحكم، كالعدة لاستبراء الرحم من الصغيرة والآيسة، قال الخلوتي: ولو توضأ واغتسل مع ترك غسلهما عمدا فصلاته صحيحة.
(3) أي بأنه نجس إذا كان قليلا، وإن وجد ماء متغيرا ولم يعلم سبب تغيره فهو طاهر، ولو غلب على ظنه نجاسته.
(4) رواية واحدة إن كان المحل أرضا، وكذا إن كان غيرها وفاقا للشافعي، واختاره غير واحد، لانفصاله عنها طاهرا، فإن كان متغيرا فنجس وإن لم ينفصل فطهور وإن تغير بالنجاسة ما دام ي محل التطهير، وقال منصور: الحدث يرتفع عند أول جزء لاقى، والماء يصير مستعملا بأول جزء انفصل، على الصحيح، وقال شيخ الإسلام: التفريق بينهما بوصف غير مؤثر لغة وشرعا، واختار تأثيره في محل التطهير، وقال إذا تغير في محل التطهير قبل انفصاله فهو نجس، وعمله باق، وتطهيره ويكون مخففا للنجاسة، وأما كونه طاهرا غير مطهر، فلم نر من قاله غير المتقدمين، وليس له وجه اهـ، وغسالة النجاسة إذا انفصلت متغيرة الطعم أو اللون أو الريح بالنجاسة فهي نجسة بالإجماع، والمحل المغسول باق على نجاسته، وقال ابن القيم: إذا تغير في محل التطهير فهو نجس، وهو في حال تغيره لم يزلها، وإنما خففها ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير اهـ وإن لم يتغير فإن كان قلتين فطاهر بلا خلاف ودونها تقدم الكلام فيه.(1/87)
لأن المنفصل بعض المتصل والمتصل طاهر (1) .
النوع الثالث النجس (2) وهو ما أشار إليه بقوله (والنجس ما تغير بنجاسة) قليلا كان أو كثيرا (3) وحكى ابن المنذر الإجماع عليه (4) .
__________
(1) وتقدم ووصل الشيء بغيره فاتصل به ضد فصله نحاه أو قطعه فانفصل.
(2) بتثليث الجيم وتسكينها المستقذر وضد الطاهر، ويحرم استعماله مطلقا في العبادات وغيرها، ولو لم يوجد غيره إلا لضرورة كدفع لقمة غص بها ولا طاهر عنده، أو عطش معصوم، أو طفي حريق ونحوها، قياسا على الطعام النجس، وصوبه المرداوي وغيره، وقال الشيخ: نجاسة الماء ليست عينية لأنه يطهر غيره، فنفسه أولى، وأنه كالثوب النجس، ولهذا يجوز بيعه.
(3) هذا هو القسم الأول من أقسام النجس، والثاني قوله: أو لاقاها إلخ، وقيده بالنجاسة، فإن لم يعلم بأي شيء تغير، أو بطاهر فطاهر بلا خلاف.
(4) وحكاه جماعات من العلماء، فإن العمدة في نجاسة ما تغير أحد أوصافه الثلاثة بنجاسة هو الإجماع، وتقدم أنه أحد الأصول الثلاثة، وذكر غير واحد أن عصمة هذه الأمة من الخطأ وأنها لا تجتمع على ضلالة، متواتر، ولا ينكره إلا كافر، وقال الشيخ: ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم مسألة واحدة أنه لا نص فيها، وقال: إذا تغير الماء بالنجاسات فإنه نجس باتفاق العلماء وتقدم قول الشافعي: فيه حديث لا يثبت مثله أهل العلم، وهو قول العامة، لا أعلم بينهم خلافا، وقال ابن رشد وغيره، لا خلاف أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسات، إلا أن يغير أحد أوصافه ونصر ابن رجب وغيره العفو عن يسير الرائحة، واختاره الشيخ وابن القيم وغيرهما، لما تقدم من سرعة سرايتها وحصولها عن مجاورة.(1/88)
(أو لاقاها) أي لاقى النجاسة (وهو يسير) أي دون القلتين فينجس بمجرد الملاقاة (1) ولو جاريا (2) .
__________
(1) أي القليل دون القلتين ينجس بمجرد ورود النجاسة عليه، وإن لم يتغير والذي دلت عليه السنة وعليه الصحابة وجمهور السلف أن الماء لا ينجس إلا بالتغير وإن كان يسيرا، وهو قول أهل المدينة، واختاره ابن المنذر وغيره، ونص عليه أحمد واختاره جماعة من الأصحاب، والشيخ تقي الدين، وهو المفتي به، لحديث بئر بضاعة (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ، ويعضده حديث (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) ، وهو منطوق حديث القلتين وفي التمهيد في اليسير كآنية وضوء وغسل أصابته نجاسة فلم تغير شيئا من أوصافه فطهور، وقال: هو الصحيح من النظر، وجيد الأثر، واختاره الروياني وغيره، وذكر أنه أصح مذهبا، وقال إمام هذه الدعوة، من قال ينجس وإن لم يتغير بنجاسة فقد قال ما لم يعلم قطعا، والصواب قول من قال أكرهه ولا أستحبه، مع وجود غيره.
(2) بحيث لو ركد لأمكن سريان النجاسة فيه ولا يقال بتنجيس الأعلى إذا كان الجاري نازلا من أعلى إلى أسفل، فإنه إذا تنجس الأسفل لا يحكم بنجاسة الأعلى، لعدم إمكان سريان النجاسة إليه، والجرية ما أحاط بالنجاسة من الماء يمنة ويسرة وعلوا وسفلا، وقال الشيخ: ما انتشرت إليه عادة أمامها ووراءها، وقال هو والإمام أحمد وغيرهما: ماء الحمام بمنزلة الجاري إذا كان يفيض من الحوض و (لو) إشارة إلى خلاف مالك المفصل بين الجاري والراكد، وهي رواية عن أحمد أنه لا ينجس إلا بالتغير، قليلا كان أو كثيرا، وهو القديم من قولي الشافعي، واختاره البغوي وجماعة، وقال النووي هو قوي، واختاره الموفق في العمدة والشيخ وجماعة وقال هي: أنص الروايتين.(1/89)
لمفهوم حديث إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء (1) أو انفصل عن محل نجاسة متغيرا (2) أو (قبل زوالها) فنجس (3) فما انفصل قبل السابعة نجس (4) وكذا ما انفصل قبل زوال عين النجاسة ولو بعدها أو متغيرا (5) (فإن أضيف إلى الماء النجس) قليلا كان أو كثيرا (طهور كثير) (6) بصب أو إجراء ساقية إليه ونحو ذلك طهر (7) .
__________
(1) أي وإن لم يبلغ قلتين ينجس وإن لم يتغير، وتقدم تنظير هذا المفهوم.
(2) أي فينجس بمجرد الملاقاة إجماعا، لأنه تغير بالنجاسة.
(3) ولو غير متغير بناء على تنجيس الطاهر بمجرد ملاقاة النجاسة من غير تغير.
(4) بناء على وجوب السبع الغسلات، وأن النجاسة لا تزول بدونها.
(5) أي بعد السابعة فنجس، لحصول عين النجاسة فيه، أو انفصل متغيرا بها فنجس.
(6) لا يسير ولو زال به التغير، لأنه لا يدفع عن نفسه، وقال الشارح: الوجه الثاني يطهر لأن علة النجاسة زالت وهو التغير.
(7) أي الماء النجس بإضافة طهور كثير إليه بما ذكر ونحوه، بلا خلاف حكاه النووي وغيره كأن نبع فيه، أو سال إليه ماء المطر، أو نحو ذلك، ولا يشترط الاتصال في الصب.(1/90)
لأن هذا القدر المضاف يدفع النجاسة عن نفسه وعما اتصل به (1) (غير تراب ونحوه) (2) فلا يطهر به نجس (3) (أو زوال تغير) الماء (النجس الكثير بنفسه) من غير إضافة ولا نزح (4) (أو نزح منه) أي من النجس الكثير (فبقي بعده) أي بعد المنزوح (كثير غير متغير طهر) (5) لزوال علة تنجسه وهي التغير (6) .
__________
(1) فظهر أن نجاسة الماء حكمية، وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: لأنه يطهر غيره فنفسه أولى، وذكر بعضهم أنها مجاورة سريعة الإزالة.
(2) من الأجزاء الأرضية، كالرمل والنورة، أو من المائعات الطاهرة، وكذا كلما لا يدفع النجاسة عن نفسه.
(3) أي بالتراب ونحوه، وهذا استثناء منقطع، لأن التراب لا مدخل له في التطهير، والذي يفترق فيه الحكم بين القليل والكثير هو الماء لا التراب ونحوه، فإنه لو أضيف أحد هذه الأشياء إلى الماء الكثير المتنجس لم يطهر بإضافته إليه، لكون المضاف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ولو زال به التغير على أظهر الوجهين.
(4) طهر هو والحفرة الكائن فيها، كدن الخمرة تنقلب خلاًّ، فتطهر هي ودنها.
(5) بلا نزاع، حكاه جماعة.
(6) يعني بالأوصاف الثلاثة أو أحدها، وإذ زالت زال الحكم بزوالها، وإن ورد على المتغير أحد أوصافه بنجاسة ما له طعم أو لون أو ريح فأزال تغيره لم يطهر قال النووي: بلا خلاف.(1/91)
والمنزوح الذي زال مع نزحه التغير طهور، وإن لم تكن عين النجاسة فيه (1) وإن كان النجس قليلاً أو كثيرًا، مجتمعا من متنجس يسير فتطهيره بإضافة كثير مع زوال تغيره إن كان (2) ولا يجب غسل جوانب بئر نزحت للمشقة (3) .
تنبيه (4)
محل ما ذكر إن لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته فتطهير ما تنجس بهما من الماء إضافة ما يشق نزحه إليه (5) أو نزح يبقى بعده ما يشق نزحه (6) أو زوال تغير ما يشق نزحه بنفسه (7) .
__________
(1) فإن كانت فلا.
(2) أي حصل تطهير المتنجس القليل أو الكثير المجتمع من متنجس بإضافة كثير إليه مع زوال تغيره، لا بإضافة يسير، وكان هنا تامة، أي مكتفية بمرفوعها عن منصوبها فتكون بمعنى وجد أو حصل.
(3) والحرج في ذلك، سواء حصلت النجاسة بجوانبها، أو بأرضها، بخلاف رأسها، ويعفى عن جوانبها، واسعة كانت أو ضيقة فإنه لو وضع فيها مائع حكمنا بنجاسته، وظاهر كلامهم غسل آلة النزح، لكن مقتضى قولهم: المنزوح طهور بشرطه، أن الآلة لا يعتبر فيها ذلك للحرج، والمشقة من شق عليه الأمر، أي صعب.
(4) هو لغة الإيقاظ واصطلاحا الإعلام بتفصيل ما علم إجمالا مما قبله وتقدم.
(5) مع زوال التغير، وعلم منه أن المضاف إذا لم يشق نزحه لم يطهر الماء.
(6) مع زوال التغير قبل المنزوح أو أكثره.
(7) كالخمرة تنقلب خلا، فيطهر.(1/92)
على قول أكثر المتقدمين ومن تابعهم، على ما تقدم (1) (وإن شك في نجاسة ماء أو غيره) من الطاهرات (2) (أو) شك في (طهارته) أي طهارة شيء علمت نجاسته قبل الشك (بنى على اليقين) الذي علمه قبل الشك (3) ولو مع سقوط عظم أو روث شك في نجاسته (4) لأن الأصل بقاؤه على ما كان عليه (5) .
__________
(1) في النوع الأول من أنواع المياه من قوله: إن ما لا يشق نزحه ينجس ببول الآدمي إلخ، وتقدم توضيحه، والمتقدمون من الإمام إلى القاضي أبي يعلى، والمتوسطون منه إلى الموفق، والمتأخرون من الموفق إلى الآخر.
(2) كثوب وإناء، ولو كان الشك في نجاسة مع تغير الماء بنى على أصله، والشك هو كما قال ابن القيم: التردد بين وجود الشيء وعدمه، استوى الاحتمالان أو رجح أحدهما، وقال النووي: هذا معناه في اللغة واستعمال الفقهاء، قال صلى الله عليه وسلم «فليطرح الشك، وليبن على اليقين» .
(3) لأن الشيء إذا كان على حال فانتقاله عنها يفتقر إلى عدمها ووجود الأخرى فإذا شك في نجاسة ماء مثلا، فالأصل طهارته، أو شك في طهارته بعد العلم بنجاسته، فالأصل بقاؤه عليها، فيعمل بالأصل، وهو اليقين، الذي علمه قبل، واليقين طمأنينة القلب على حقيقة الشيء، ضد الشك، والعلم الحاصل عن نظر واستدلال، وتحقيق الأمر، واصطلاحا اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال.
(4) أي فطاهر استصحابا للأصل، فإن الضابط العمل بالأصل، لكنه يكره استعمال ما ظنت نجاسته احتياطا، لحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أي: دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه، ولغيره من الأحاديث.
(5) تعليل لقوله: بنى على اليقين، وقال شيخ الإسلام الاحتياط بمجرد
الشك في أمور المياه ليس مستحبا، ولا مشروعا، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك بل المشروع أن نبقي الأمر على الاستصحاب، فإن قام دليل على النجاسة نجسناه وإلا فلا يستحب أن يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة.(1/93)
وإن أخبره عدل بنجاسته (1) وعين السبب لزمه قبول خبره (2) ، (وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما) (3) إن لم يمكن تطهير النجس بالطهور (4) .
__________
(1) أي بنجاسة شيء وينبغي أن يقال كذلك لو أخبره بسلب طهورية ماء وعين السبب، لأنه إذا قبل في الأغلظ قبل في الأخف من باب أولى، وقد يقال: أو طهارته يعني كونه طاهرا غير مطهر، إذ لا فرق، ويقبل العدل ولو ظاهرا، رجل أو امرأة حر أو عبد، لا كافر أو فاسق، بلا نزاع، وغير بالغ، وقطع به الجمهور لأنه لا يوثق بقوله.
(2) أي عين المميز العدل المكلف، ولو مستورا، السبب الذي تنجس به بأن يقول: هذا متنجس بكذا، مما يقتضي النجاسة، لزم قبول خبره بلا نزاع ولا يلزم السؤال عما لم يتيقن نجاسته، اختاره الشيخ، وصححه في تصحيح الفروع، فإن لم يعين لم يلزم قبوله، وإن كان فقيها موافقا، وإن أصابه ماء ميزاب ونحوه، ولا أمارة على نجاسته، كره سؤاله نص عليه لقول عمر: لا تخبرنا يا صاحب الميزاب، قال الشيخ لا يجب غسله، بل ولا يستحب، على الصحيح، وكذلك لا يستحب السؤال عنه، على الصحيح، وأوجب الآزجي إجابته إن علم نجاسته وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ وكذلك إذا أصاب رجليه أو ذيله بالليل شيء رطب، ولا يعلم ما هو، ولم يجب عليه أن يشمه، ويتعرف ما هو واحتج بالقصة.
(3) أي اشتبه كل منهما بالآخر حتى التبسا حرم استعمالهما إلا لضرر قال شيخ الإسلام: إذا اشتبه الطاهر بالنجس فاجتنابهما جميعا واجب، لأنه يتضمن لفعل المحرم، وتحليل أحدهما تحكم، وقال: استعمال الحرام المختلط بالحلال لا أعلم أحد جوزه.
(4) قيده الشارح بهذا الشرط كما في المنتهى وغيره.(1/94)
فإن أمكن بأن كان الطهور قلتين فأكثر (1) وكان عنده إناء يسعهما، وجب خلطهما واستعمالهما (2) (ولم يتحر) أي لم ينظر أيهما يغلب على ظنه أنه الطهور فيستعمله، ولو زاد عدد الطهور (3) ويعدل إلى التيمم إن لم يجد غيرهما (4) ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما لأنه غير قادر على استعمال الطهور (5) أشبه ما لو كان الماء في بئر لا يمكنه الوصول إليه (6) .
__________
(1) والنجس مجتمع من متنجس وطاهر، وأشكل عليه الطهور.
(2) ليتمكن به من الطهارة الواجبة.
(3) أو المباح فيستعمله أو كان النجس غير بول فلا يتحرى، ولا يستعمل واحدا منها، ولو أدى اجتهاده إلى أنه الطهور المباح، ولا يصح وضوءه منه، ويعيد ما صلاه به، ولو تبين بعد أن الطهور المباح، والتحري هو طلب الصواب، والتفتيش عن المقصود والتحري والاجتهاد والتأخي بمعنى واحد.
(4) أي المشتبهين ولا يعيد الصلاة إذا تيمم وصلى إذا ولو علم الطهور المباح بعد.
(5) حكما لا حسا، صححه في التصحيح وتصحيح الفروع، واختاره ابن عقيل والشارح وشيخ الإسلام وغيرهم، لأنه عادم للماء حكما لا حسا، قال الشارح: فإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما بغير خلاف.
(6) فيتيمم وأشبه ما لو كان أي: مثل ما لو كان إلخ، وشبهت الشيء بالشيء أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما.(1/95)
وكذا لو اشتبه مباح بمحرم فيتيمم إن لم يجد غيرهما (1) ويلزم من علم النجس إعلام من أراد أن يستعمله (2) (وإن اشتبه) طهور (بطاهر) أمكن جعله طهورا به أم لا (3) (توضأ منهما وضوءا واحدا) (4) ولو مع طهور بيقين (5) (من هذا غرفة ومن هذا غرفة) (6) ويعم بكل واحدة من الغرفتين المحل (7) .
__________
(1) أي المباح والمحرم.
(2) بخلاف ميزاب، لأنه قد بلي به، فلا يلزم من علم أنه نجس إعلام من أصابة، وتقدم، وعلم الشيء كسمعه علما بالكسر، عرفه وعلم هو في نفسه، وعالم وعليم جمعه علماء وتقدم أن حد العلم معرفة المعلوم على ما هو به، ولعل محله إذا كان نجسا عندهما، لا عند أحدهما وأن مثله الطاهر إذا رأى من يريد أن يتوضأ به، ويلزم من اشتبه عليه طاهر ونجس التحري لحاجة أكل وشرب، لأنه حال ضرورة.
(3) أي: أو لم يمكن جعله طهورا به.
(4) أي من الطهور والطاهر معا، من كل واحد وضوءا كاملا، هذا المذهب لا من كل واحد، كما جزم به الموفق وغيره، قال الجوهري توضأ مهموز ويجوز ترك الهمزة وقال ابن مالك يجوز توضيت لغة في توضأت.
(5) أي يجوز. وإلا فمعلوم أن الطهور بيقين أفضل.
(6) الغرفة بالفتح المرة الواحدة، وبالضم اسم للمغروف منه قال النووي: ويحسن الضم في قوله يأخذ غرفة، وفي المطلع: ويحسن الأمران هنا.
(7) أي لزوما لأن الوضوء الواحد على الوجه المذكور مجزوم به بنية كونه رافعا، بخلاف الوضوئين فلا يدري أيهما الرافع للحدث؟ قال الخلوتي: ويصح
أن يتوضأ وضوئين كاملين بنية واحدة، مع قرب زمنيهما وهذا غير القول الثاني، لأن عليه أن يتوضأ وضوئين بنيتين، فتكون النية الثانية مشكوكا فيها، هل هي بعد الرفع أولا؟ وفي شرح المنتهى حكم الغسل وإزالة النجاسة حكم الوضوء، وهذا كله تفريع على تقسيم الماء إلى ثلاثة، وتقدم رجحان أنه إما طاهر وإما نجس، وتقدم أيضا قول الشيخ: إن قام دليل على النجاسة وإلا فلا، والماء في الأحواض مباح، ذكره ابن القيم وغيره، وهو مذهب الشافعي، إذا علم رضى صاحبه، أو كان عرفا، وما سبل للشرب لا يتوضأ به، ما لم يدل عرف أو قرينة، ومثله ماء جهل حاله، ولا يحمل منه شيئا إلى غير محله، ما لم يضطر إليه.
وإذا أفرغ دلوا في الحمام للغسل لم يجز لآخر أن يسبقه، إلا بإذنه وأما إذا أفرغها في الحمام الذي جعل للوضوء فلكل الوضوء منه لأنه وضع للعموم فلا يختص به أحد، ويحرم منع المحتاج إلى الطهارة بتشديد الهاء الميضأة المعدة للتطهير والتخلي، قال الشيخ ولو وقفت على طائفة معينة كمدرسة ورباط، ولو في ملكه لأنه بموجب الشرع والعرف مبذولة للمحتاج، وفي المبدع: لا تصح الصلاة بماء مغصوب، كثوب غصب اهـ وعنه تصح اتفاقا وتكره، قال في الإنصاف: لأن الطهارة به صحيحة، من حيث الجملة، وإنما عرض له مانع وهو الغصب اهـ، ولو توضأ من ماء قليل وصلى ثم وجد نجاسة، أو من كثير ثم وجده متغيرا بنجاسة، وشك هل كان قبل وضوئه أو بعده؟ فالأصل صحة طهارته، وإن علم أن ذلك قبل وضوئه بأمارة أعاد إجماعا.(1/96)
(وصلى صلاة واحدة) (1) قال في المغني والشرح: بغير خلاف نعلمه (2) .
__________
(1) أي صلى الفرض مرة واحدة.
(2) وعللاه بأنه أمكنه أداء فرضه بيقين، من غير حرج، فلزمه ذلك، والشرح تقدم تعريفه، والمغنى هو شرح متن الخرقي، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة وتقدم.(1/97)
فإن احتاج أحدهما للشرب تحرى (1) وتوضأ بالطهور وتيمم، ليحصل له اليقين (2) (وإن اشتبهت ثياب طاهرة بـ) ثياب (نجسة) يعلم عددها (3) (أو) اشتبهت ثياب مباحة بثياب (محرمة) يعلم عددها (صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس) من الثياب (أو المحرم) منها ينوي بها الفرض احتياطا (4) كمن نسي صلاة من يوم (5) (وزاد) على العدد (صلاة) ليؤدي فرضه بيقين (6) .
__________
(1) أي طلب ما هو الأحرى بالاستعمال أو أحرى الأمرين أي أولاهما والفرق بين الحاجة والضرورة، أن الحاجة ما يمكن الاستغناء عنه، والضرورة ما لا يستغنى عنه.
(2) يعني بالتيمم احتياطا، إن لم يجد طهورا غير مشتبه، وظاهره عدم الترتيب وعبر في الإقناع بما يقتضي الترتيب، وهذا التفريع على تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام.
(3) أي الثياب النجسة، والثياب اللباس مما يلبسه الناس من الكتان والقطن.
(4) أي أخذًا لنفسه بالثقة، ومرادهم بيان الصحة وسقوط الفرض عنه بذلك لو فعله لا أنه يجب عليه ذلك، بل ولا يجوز فيصلي عريانا ولا يعيد، لأنه اشتبه المباح بالمحظور في موضع لا تبيحه الضرورة فهو عادم للسترة حكما، وإلا فما الفرق بينه وبين من اشتبه عليه طهور بمحرم، مع أن كلا من الطهارة والسترة شرط للصلاة والمباحة ضد المحظورة والمباح مااستوى طرفاه بين فعله وتركه، وهو ما لا يعاقب على فعله.
(5) يعني أنه يقضي جميع صلوات ذلك اليوم.
(6) أي فيلزم أن يزيد صلاة على عدد النجسة، أو المحرمة: كمن نسي صلاة من يوم وجهلها ليخرج منها على يقين.(1/98)
فإن لم يعلم عدد النجسة أو المحرمة لزمه أن يصلي في كل ثوب صلاة حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر، ولو كثرت (1) ولا تصح في ثياب مشتبهة مع وجود طاهر يقينا (2) وكذا حكم أمكنة ضيقة (3) ويصلي في واسعة حيث شاء بلا تحر (4) .
__________
(1) لأن هذا يندر جدا فألحق بالغالب، وينوي بكل صلاة الفرض احتياطا وتكفي نيتها ظهرا مثلا، إذ لا تتعين الفرضية، كما يأتي في باب النية، واختار الشيخ وغيره: يصلي فيما غلب على ظنه طهارته، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
قلت أو كثرت. وقال فإن الله تعالى لم يوجب على العبد صلاة مرتين، إلا إذا حصل منه إخلال بالواجب، أو فعل محرم فإنه يعيد ما أخل فيه.
(2) ولو كثرت لندرته، ولا تصح إمامة من اشتبهت عليه الثياب، وقال الشيخ: إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين، وغلب على ظنه صحت وإن كان نجسا في نفس الأمر، وهذا القول ظاهر، وهو قياس المذهب، وإذا أصابه نجاسةونضحه كان حسنا.
(3) أي كالثياب النجسة إذا اشتبهت فلا يتحرى بل إن اشتبهت منها زاوية طاهرة بنجسة، ولا سبيل إلى مكان طاهر بيقين صلى مرتين في زاويتين منه، وإن تنجست اثنتان فثلاث صلوات، وهكذا وإن لم يعلم عدد النجسة صلى حتى يتيقن أنه صلى في مكان طاهر احتياطا وتقدم أنه يصلي فيما أداه اجتهاده، وغلب على ظنه أنه الطاهر.
(4) دفعا للحرج والمشقة، وتقدم أن التحري والاجتهاد والتوخي متقاربة ومعناها بذل المجهود في طلب المقصود، وكيفيته أن ينظر إلى ما يغلب على الظن كتغير، ويشترط له شرطان: أن يكون للمشتبهين أصل في الحل، والثاني بقاؤهما.(1/99)
باب الآنية (1)
هي الأوعية، جمع إناء (2) لما ذكر الماء ذكر ظرفه (3) (كل إناءٍ طاهر) كالخشب والجلود والصفر والحديد (4) .
__________
(1) أي هذا باب يذكر فيه مسائل من أحكام الآنية، وثياب الكفار، وأجزاء الميتة، والباب لغة المدخل إلى الشيء، والطريق الموصل إليه، واصطلاحا اسم لجملة من العلم، تحته فصول ومسائل غالبا، وليس مرادهم الباب في كذا الحصر بل إنه المقصود بالذات والمعظم، فلو ذكروا غيره نادرا، أو بالتبعية أو استطرادا لم يضر.
(2) وجمع الآنية أوان، والأصل أءان وهي الأوعية لغة وعرفا، والوعاء الظرف يوعى فيه الشيء، سمي بذلك لأنه يجمع ما فيه.
(3) كأنه جواب سؤال تقديره: ما وجه ذكرهم الآنية بعد الماء؟ فأجاب: لما ذكر الماء وكان سيالا محتاجا إلى ظرف لا يقوم إلا به ناسب ذكر ظرفه، جمعه ظروف وذكر ما يتعلق به ويناسبه.
(4) الخشب بضمتين وبإسكان الثاني: ما غلظ من العيدان، واحدته خشبة، والجلود: جمع جلد، بالكسر المسك من كل حيوان، والصفر بالضم وبكسر: ضرب من النحاس الذي تعمل منه الأواني، وأنكر بعضهم الكسر فيه، وفي حديث عبد الله بن زيد: «فأخرجنا له تورا من صفر فتوضأ» رواه البخاري، وتوضأ من جفنة وتور حجارة ومن إداوة وقربة، وغيرها، وتخصيصه المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما في الجملة، ويستثني من العموم النجس، والحديد معروف سمي به لمنعته قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته.(1/100)
(ولو) كان (ثمينًا) (1) كجوهر وزمرد (2) (يباح اتخاذه واستعماله) بلا كراهة (3) غير جلد آدمي وعظمه فيحرم (4) (إلا آنية ذهب
وفضة (5) .
__________
(1) لعدم العلة التي لأجلها حرم الذهب والفضة، لأن هذه الجواهر لا يعرفها إلا خواص الناس فلا تكسر قلوب الفقراء، كذا علله بعض الفقهاء.
(2) الجوهر فارسي معرب، واحدته جوهرة، وهو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به والزمرد بالضمات وتشديد الراء، وبالذال المعجمة والمهملة جوهر معروف وكبلور وياقوت.
قال في المبدع: وهذا قول عامة العلماء من غير كراهة، ولا يصح
قياسها على الأثمان من وجوه كثيرة، منها تخصيص الذهب والفضة وندور اتخاذها.
(3) أي أخذه وتناوله وإعماله فيما يعدله قال الشارح: وغيره في قول عامة أهل العلم.
(4) لحرمته وكذا شعره ويستثنى المغصوب، وليس بوارد على المصنف، لأن استعماله مباح من حيث الجملة، ولكن عرض له ما أخرجه عن أصله، وهو الغصب.
(5) الذهب مصدر ذهب، التبر، سمي ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، وجمع ابن مالك أسماءه في قوله:
نضرٌ نضر نضار زبرج سيرا ... وزخرف عسجد عقيان الذهب
والتبر ما لم يذب واشركوا ذهبا ... مع فضة في سبيك هكذا العرب
والفضة النوع المعروف وهو جوهر أبيض، نقي يتولد من المادة الزئبقية والكبريتية منعقد في الأرض، يضرب منه أصناف من النقود والحلي، وفي الآية (قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي هي مع صفائها آمنة من الكسر، وسميت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى، وتسمى اللجين، والنسيك والغرب، ويطلقان على الذهب أيضا.(1/101)
ومضببا بهما) أو بأحدهما (1) غير ما يأتي (2) وكذا المموه والمطلي والمطعم والمكفت بأحدهما (3) (فإنه يحرم اتخاذها) (4) لما فيه من السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء (5) .
__________
(1) أي الذهب والفضة، والضبة من حديد ونحوه، يضبب بها شق الباب ونحوه، بوضع صفيحة علية تضمه وتحفظه، أو يشعب بها الإناء، وقال الشيخ: المضبب بالفضة من الآنية وما يجري مجراها من الآلات سواء سمي الواحد من ذلك إناء أو لم يسم، وما يجري مجرى المضبب، كالمباخر والمجامر والطشوت والشمعدانات وأمثال ذلك، فإذا كانت الضبة يسيرة لحاجة، مثل شعب القدح وشعيرة السكين ونحو ذلك، مما لا يباشر بالاستعمال، فلا بأس بذلك.
(2) أي في قوله: إلا ضبة يسيرة لحاجة، وما يأتي في زكاة الأثمان.
(3) أي بالذهب أو الفضة، والتمويه أن يذاب الذهب أو الفضة، ويلقى فيه الإناء من نحاس أو نحوه، فيكتسب من لونه، والمطلي ما يجعل كالورق ويلصق بالإناء، والتطعيم أن تحفر حفر ويجعل فيها قطع ذهب أو فضة بقدرها، والمكفت أن يبرد الإناء حتى يصير فيه شبه المجاري، ويوضع فيه شريط ونحوه، ويدق عليه حتى يلصق.
(4) أي اصطناعها على هيئة الآنية، قال الشيخ: إذ الأصل أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كآلات الملاهي اهـ. وكذا تحصيلها بنحو شراء أو اتهاب، ولو لم يقصد استعمالها بخلاف اتخاد الرجل ثياب الحرير، لأن الآنية محرمة مطلقًا. والثياب تباح للنساء. وفي الحرب ونحو ذلك.
(5) قال ابن القيم: والصواب أن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة
والحالة المنافية للعبودية، منافاة ظاهرة، ولهذا علل عليه الصلاة والسلام بأنها للكفار في الدنيا. إذ ليس لهم نصيب في العبودية التي ينالونها بها في الآخرة. فلا يصلح استعمالها لعبيد الله. وإنما يستعملها من خرج عن عبوديته، ورضي بالدنيا وعاجلها من الآخرة.(1/102)
(واستعمالها) في أَكل وشرب وغيرهما (1) (ولو على أُنثى) لعموم الأَخبار وعدم المخصص (2) وإنما أبيح التحلي للنساءِ لحاجتهن إلى التزين للزوج (3) وكذا الآلات كلها (4) .
__________
(1) أي غير الأكل والشرب، كالغسل والوضوء والإدهان والاكتحال منها لما في الصحيحين «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» وللبخاري «الذي يشرب في آنية الذهب» ولمسلم «والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، والتوعد بالنار يدل على آكدية التحريم. وهو متفق عليه. وقال النووي: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب فيها، وجميع أنواع الاستعمال في معنى الأكل والشرب بالإجماع، وحكى غيره إجماع الأمة على ذلك. وقال الشيخ: ما حرم استعماله حرم اتخاذه. كآلة اللهو. فكذا تحصيلها بنحو شراء أو اتهاب ولو لم يقصد الاستعمال.
(2) التخصيص هو قصر العام على بعض منه بدليل مستقل ولم يوجد، والخبر مرادف للحديث والحديث اسم من التحديث وهو الإخبار أو الحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والخبر عن غيره. والأثر ما روي عن الصحابة ويجوز إطلاقه على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم والمراد هنا المرفوعة. ولا يخفى شموله لتحريمها على الأنثى، وكذا الخنثى، مكلفًا كان أو غيره، قال الشيخ: اتفقوا على أن استعمال آنية الذهب والفضة حرام على الذكر والأنثى.
(3) فلم ينه عنه، ولم يزل يتخذ من غير نكير فهو إجماع.
(4) أي وكما حرم اتخاذ الآنية واستعمالها حرم اتخاذ الآلات كلها واستعمالها كذلك، وحكاه القرطبي وغيره قول الجمهور، وقال ابن القيم: بل يعم سائر وجوه الإنتفاع، وهذا أمر لا يشك فيه عالم.(1/103)
كالدواة والقلم والمسعَط (1) والقنديل والمجمرة والمدخنة (2) حتى الميل ونحوه (3) (وتصح الطهارة منها) أي من الآنية المحرمة (4) وكذا الطهارة بها وفيها وإليها (5) وكذا آنية مغصوبة (6) (إلاّ ضبة يسيرة) عرفًا (7) .
__________
(1) بضم الميم، إناء يجعل فيه السعوط.
(2) القنديل هو المصباح. وجمعه قناديل. والمجمرة بالكسر والضم اسم للشيء
الذي يجعل فيه الجمر للبخور، والمدخنة بالكسر أيضًا وهي المجمرة جمعها مداخن.
(3) كسرير وكرسي وخفين ونعلين وشرابة وملعقة وأبواب ورفوف وطشوت وشمعدانات وأمثال ذلك، كالآلات في تحريم اتخاذها واستعمالها.
وقال الشيخ يباح الإكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجة وبياحان لها، والميل الذي يكتحل به، وهو بالرفع عطف على: وكذا الآلات أو مبتدأ خبره محذوف.
(4) مع الحرمة وفاقًا، لأن الإناء ليس بشرط ولا ركن في العبادة، فلم يؤثر فيها، وقال بعض أهل العلم: لا تصح. اختاره أبو بكر والقاضي والشيخ. لإتيانه بالعبادة على وجه محرم. أشبه الصلاة في المحل المغصوب ويأتي.
(5) أي وكما تصح الطهارة منها تصح بها. أي بالآنية المذكورة بأن يغترف الماء بها (وفيها) كأن يكون الإناء كبيرا يسع قلتين فيغتسل، أو يتوضأ داخله (وإليها) بأن يجعلها مصبًّا لما ينفصل عن الأعضاء وفاقًا، ولا تصح عند أبي بكر وأبي الحسن والشيخ وغيرهم. كما تقدم.
(6) أي وكما تصح الطهارة في آنية الذهب أو الفضة كذلك تصح في آنية مغصوبة.
(7) أي في عرف الناس، لأنه لم يرد الشرع بتقديرها. وقال الشيخ: لا بأس بالشرب بقدح مضبب، إذا لم يقع فمه على الضبة. مثل العلم في الثوب وقال: هذا
بين في أن الفضة تباح على سبيل التبع كالحرير. قال: ومقتضى هذه الرواية أنه يباح الكثير إذا كان أقل مما هو فيه ولم يستعمل. وهذا هو الصواب.(1/104)
لا كبيرة (من فضة) لا ذهب (1) (لحاجة) وهي أن يتعلق بها غرض غير الزينة فلا بأس بها (2) لما روى البخاري عن أنسَ رضي الله عنه، أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة (3) .
__________
(1) يعني فلا يباح بحال نص عليه. قال الشيخ: وقد غلط طائفة من الأصحاب حيث حكوا قولاً بإباحة يسير الذهب في الآنية عن أبي بكر. وإنما قاله في اللباس والتحلي وهما أوسع.
(2) أي الضبة كشعب قدح ونحوه، غير ما يتزين به من الفضة. قال الشيخ: ومراد الفقهاء بالحاجة هنا إلى تلك الصورة. كما يحتاج إلى التشعيب والشعيرة. سواء كان من فضة أو نحاس أو حديد أو غير ذلك. وليس مرادهم أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذا يسمونه في مثل هذا ضرورة. والضرورة تبيح الذهب والفضة مفردًا وتبعًا، وقال: كلام أحمد لمن تدبره لم يتعرض للحاجة وعدمها. وإنما فرق بين ما يستعمل وبين ما لايستعمل، فإنه قال: رأس المكحلة والميل حلقة المرآة إذا كان من الفضة فهو من الآنية، وما لا يستعمل فهو أهون في مثل الضبة في السكين والقدح، وإذا ضبب الإناء تضبيبًا جائزًا جاز استعماله مع وجود غيره بلا خلاف. وذكر أيضًا أن أحمد إنما كره الحلقة في الإناء اتباعًا لابن عمر. والمنع هنا مقتضى النص والقياس. فإن تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه. إلا ما استثني إذ النهي عن الشيء نهي عن بعضه.
(3) وفي لفظ له وكان «انصدع فسلسلة بفضة» ، وذكر القرطبي عن البخاري في نسخة أنه رآى هذا القدح بالبصرة. وشرب فيه. وكان اشتري من ميراث النضر ابن أنس بثمانمائة درهم اهـ.
والقدح إناء يروي الرجلين. واسم يجمع الصغار والكبار جمعه أقداح، ولا يسمى قدحًا إلا إذا كان فارغًا، فإذا كان فيه شراب قيل له كأس وانكسر وتكسر انشق. من: كسره يكسره كسرًا. والشعب والصدع والشق الذي فيه. والسلسلة بكسر السين القطعة. وبالفتح إيصال الشيء بالشيء، كأنه سد الشقوق بخيوط من فضة، فصارت مثل السلسلة. وأنس هو ابن مالك بن النضر النجاري الأنصاري. خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين ومات سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة، والبخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي، جبل الحفظ وإمام الدنيا. وصحيحه أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، توفي رحمه الله سنة مائتين وست وخمسين.(1/105)
وعلم منه أن المضبب بذهب حرام مطلقًا (1) وكذا المضبب بفضة لغير حاجة (2) أو بضبة كبيرة عرفًا، ولو لحاجة (3) لحديث ابن عمر «من شرب في إناء ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» رواه الدارقطني (4) .
__________
(1) أي سواء كان يسيرًا أو لا لحاجة أو لا لضرورة.
(2) حرام. وقال الشيخ: يباح إذا كان التضبيب أقل مما هو فيه ولم يستعمل.
(3) يعني فهو حرام، وتقدم ما ذكر شيخ الإسلام عن أحمد أنه لم يتعرض للحاجة، ولم يقيده بالقلة، وأنه إنما فرق بين ما يستعمل وما يفرد.
(4) ورواه البيهقي، وكلاهما من طريق يحيي بن محمد الجاري، قال غير واحد: ليس بالقوي، وقال الشيخ: إسناده ضعيف، ومقصود المصنف منه قوله «أو إناء فيه شي من ذلك» ، وقال الحاكم: لم نكتب هذه اللفظة. إلا بهذا الإسناد
قال البيهقي: والمشهور أنه موقوف. اهـ ولا يعارض به ما صح من حديث أنس وغيره، و (يجرجر) بكسر الجيم الثانية و (نار) بالنصب جزم به المحققون واختاروه وروي بالرفع، ولم يذكره الأكثر. ولمسلم «نار من جهنم» ، ولأبي عوانة «إنما يجرجر في جوفه نارا» ، من الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج، ويقال: جرجر فلان الماء إذا جرعه جرعًا متواترًا، له صوت بانحداره إلى جوفه والمعنى كأنما يجرع نار جهنم، وسمي جهنم لبعد قعرها، أو من الجهومة وهي الغلظ لغلظ أمرها في العذاب، وابن عمر هو عبد الله أسلم مع أبيه وهو صغير، وأجازه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، كان من أهل العلم والورع أفتى ستين سنة وبلغ ستًّا وثمانين، ومات بمكة سنة ثلاث وسبعين، والدارقطني هو الحافظ صاحب السنن وغيرها، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي، سمع من البغوي وغيره، وتوفي سنة ثلاثمائة وخمس وثمانين.(1/106)
(وتكره مباشرتها) أي الضبة المباحة (لغير حاجة) لأَن فيه استعمالاً للفضة (1) فإن احتاج إلى مباشرتها كتدفق الماءِ ونحوه ذلك لم يكره (2) و (تباح آنية الكفار) إن لم تعلم نجاستها (3) (ولو لم تحل ذبائحهم) كالمجوس (4) لأنه صلى الله عليه وسلم توضأَ من مزادة مشركة. متفق عليه (5) .
__________
(1) بلا حاجة في الجملة جزم به الموفق وغيره وصححه في تصحيح الفروع ولا تحرم المباشرة لإباحة الاتخاذ والمباشرة مصدر باشره أي وليه ببشرته.
(2) دفعًا للحرج وتدفقُ الماء: تصببه لو شرب من غير جهتها ونحوه.
(3) وفاقًا: لأبي حنيفة والشافعي، فهي طاهرة مباحة الاستعمال، للأخبار فإن علمت غسلت لخبر «فاغسلوها» ، وكغيرها من أواني المسلمين إذا تنجست.
(4) إشارة إلى خلاف مالك، وقال القاضي هي نجسة لأنها لا تخلو من أطعمتهم.
(5) من حديث عمران بن حصين في حديث طويل، والجمع بينه وبين حديث
أبي ثعلبة «إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها» قيل: الأولى عدم استعمالها إذا وجد غيرها، والمزادة هي ما يحمل فيها الماء، ولا تكون إلا من جلدين، والمجوس أمة يعبدون الشمس والقمر، أو يعبدون النار، والمجوسية نحلتهم أي ملتهم وطائفتهم أو دعواهم، وأماأهل الكتاب فلا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ولحديث عبد الله بن مغفل «دلي جراب من شحم» الحديث متفق عليه.(1/107)
(و) تباح (ثيابهم) أَي ثياب الكفار، ولو وليت عوراتهم كالسراويل (1) (إن جهل حالها) ولم تعلم نجاستها (2) لأَن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك (3) وكذا ما صبغوه أَو نسجوه (4) .
__________
(1) والأزر أي ولو وليت ثياب الكفار أهل الكتاب أو المجوس أو عبدة الأوثان عوراتهم كما تليها السروايل فمباحة وكره لبسها أبو حنيفة والشافعي والسراويل معروفة، والجمع السراويلات، قال سيبويه: السراويل واحدة، وهي أعجمية أعربت فأشبهت من كلامهم ما لا ينصرف.
(2) كما لو علمت طهارتها، فإن علمت نجاستها لم تبح قبل غسلها، لخبر «فاغسلوها» .
(3) كما أنا لا تنجس ثيابنا بالشك.
(4) أي الكفار كلهم، وسئل أحمد عن صبغ اليهود بالبول فقال: المسلم والكافر في هذا سواء ولا يبحث ولا يسأل عنه: فإن علمت فلا تصل فيه حتى تغسله وقال عمر: نهانا الله عن التعمق والتكلف وفي الشرح، لا نعلم خلافًا في إباحة لبُس الثوب الذي نسجه الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج الكفار.(1/108)
وآنية من لابس النجاسة كثيرًا، كمدمن الخمر، وثيابهم (1) وبدن الكافر طاهر (2) ، وكذا طعامه وماؤه (3) لكن تكره الصلاة في ثياب المرضع والحائض والصبي ونحوهم (4) ولا (يطهر جلد الميتة بدباغ) (5) روي عن عمر وابنه، وعائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهم (6) .
__________
(1) طاهرة ما لم تعلم نجاستها، ومدمن المخمر هو المداوم على شربها، وكذا آنية الحائض والمرضع والجزار والدباغ ونحوهم. وثيابهم طاهرة، ما لم تعلم نجاستها، وقيل: التوقي لذلك أولى. لاحتمال النجاسة فيه. أو للاستقذار.
(2) لأنه لا يجب بجماع الكتابية غير ما يجب بجماع المسلمة. ولو حرمت رطوباتهم لا استفاض نقله.
(3) أي الكافر لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .
(4) كالنفساء والمربية، وكمد من الخمر والجزار، وإنما كره مراعاة للخلاف واحتياطًا للعبادة، وتباح الصلاة في ثياب الصبيان والمربيات، وفي ثوب المرأة الذي تحيض فيه إذا لم تتحقق نجاسته، لحمله صلى الله عليه وسلم أمامة وتوقي ذلك أولى، لاحتمال النجاسة.
(5) الميتة اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال ميتة حكمًا كذبيحة المرتد، وفي المصباح: الميتة ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، والدباغ هو ما يدبغ به من قرظ وغيره ينزع فضوله، من لحم ودم ونحوهما مما يعفنه، ويمنع النتن والفساد، ولو جف ولم يستحل لم يطهر، والمراد هنا الميتة النجسة، لا ما لا ينجس بالموت، كالجراد والسمك، والجنين بعد ذكاة أمه، والصيد إذا قتله الجارح، أو السهم بشرطه أو الآدمي واستعماله حرام بالإجماع.
(6) أي أنهم أفتوا بعدم طهارته لحديث «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا
عصب» وعمر هو ابن الخطاب بن نفيل أبو حفص القرشي ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، ولد قبل البعثة بثلاثين سنة، وقتله أبو لؤلؤة سنة ثلاث وعشرين، وابن هو عبد الله، وعائشة هي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنتين ولها سبع، أفضل النساء وأفقههن، توفيت رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين، وعمران بن حصين هو ابن عبيد بن خلف بن عبد نهم الخزاعي أسلم عام خيبر أفقه من قدم البصرة من الصحابة، مات رضي الله عنه سنة اثنتين وخمسين، وروي عن عمر أيضًا وعائشة وابن عباس وابن مسعود أنه يطهر وإليه رجع أحمد نقله عنه جماعة وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وجماهير العلماء، واختاره الموفق والشارح وابن حمدان والشيخ وغيرهم، وورد في تطهيره بالدباغ خمسة عشر حديثًا، منها حديث ابن عباس «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه» رواه مسلم وغيره، وحديث ميمونة «يطهر الماء والقرظ» و «دباغ الأديم طهوره» متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن نجاسة جلد الميتة طارئة فنزول بالمعالجة، وفي المصباح وغيره: الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ، وقوله «أيما إهاب دبغ» ، يدل عليه، وقال النضر وغيره من علماء اللغة قال الشيخ: والتحقيق أن يقال: ليس في حديث ابن عكيم، نهي عن استعمال المدبوغ اهـ وهو ضعيف لا يحتج به لعلل شتى.(1/109)
وكذا لا يطهر جلد غير مأْكول بذكاة كلحمه (1) (ويباح استعماله) أَي استعمال الجلد (بعد الدبغ) (2) .
__________
(1) غير المأكول كالكلب والفهد والأسد، لأنه ليس محلاًّ للذكاة، فهو ميتة، وهذا مذهب الشافعي، وأما الذكاة في المأكول فسبب لبقاء طهارته كلحمه.
(2) لا غير إذ لانزاع في نجاسة إهاب الميتة قبل دبغه، وقال الشارح: لا يجوز بيعه قبل الدبغ لا نعلم فيه خلافًا، وقيل يجوز بيعه مع نجاسته كثوب نجس وزبل، وأجاز شيخ الإسلام الانتفاع به قبل الدبغ فيما لم ينجسه، وكذا يجوز الانتفاع به في اليابس وأن المراد من الآية تحريم الأكل، لأنه المقصود منها عرفًا، ولا يجوز أكله لأنه جزء من الميتة، قال الشارح: في قول عامة أهل العلم، ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل، وفي الصحيحين «إنما حرم من الميتة أكلها» .(1/110)
بطاهر منشف للخبث، قال في الرعاية: ولا بد فيه من زوال الرائحة الخبيثة (1) وجعلُ المصران والكرش وترادباغ (2) ولا يحصل بتشميس ولا تتريب (3) ولا يفتقر إلى فعل آدمي (4) فلو وقع في مدبغة فاندبغ جاز استعماله (5) (في يابس) (6) .
__________
(1) فضابطه أن يطيب به ريح الجلد، بحيث لو وقع في الماء بعده لم يعد إليه الفساد، كالشب والشت والقرظ وقشور الرمان والعفص، وغير ذلك مما يحصل به مقصود الدباغ، والرعاية المراد بها الرعاية الكبرى لأحمد بن حمدان بن شبيب ابن حمدان النميري الحراني الفقيه الحنبلي، وله الرعاية الصغرى وغيرها، توفي سنة ستمائة وخمس وتسعين.
(2) أي يكون ذلك دباغًا له، لأنه المعتاد فيه، والمصران بالضم واحدها مصير بالفتح الأمعاء، والكرش بالفتح والكسر لكل مجتر، بمنزلة المعدة للإنسان والأمعاء والوتر بالتحريك أحد أوتار القوس، وإذا دبغ الجلد بنجس أو دهن بدهن متنجس طهر بالغسل، لأن الذي يبقي عرض.
(3) لاشتراط الدبغ وليس التشميس ولا التتريب دبغًا لقوله: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه» .
(4) لأن إزالة النجاسة من التروك فلا تفتقر إلى نية.
(5) لاندباغه في موضع الدباغ.
(6) متعلق باستعماله لأن نجاسته لا تمنع الانتفاع به فيه.(1/111)
لا مائع، ولو وسع قلتين من الماء (1) إذا كان الجلد (من حيان طاهر في الحياة) مأكولاً كان كالشاة (2) أَو لا كالهر (3) أَما جلود السباع كالذئب ونحوه مما خلقته أَكبر من الهر ولا يؤكل (4) فلا يباح دبغه، ولا استعماله قبل الدبغ ولا بعده، ولا يصح بيعه (5) ويباح استعمال مُنخل من شعر نجس، في يابس (6) .
__________
(1) سواء كان المائع من ماء أو غيره، لأنه يفضي إلى تعدي النجاسة، وهذا على القول بعدم طهارته بالدبغ.
(2) والظباء والبقر، والإبل.
(3) أي أو غير مأكول كالهر، أي السنور، وما دونه خلقه كابن عُرْس فيجوز استعماله في يابس.
(4) كالأسد والنمر والفهد والكلب ونحوها، وكالقرد والدب.
(5) وفاقًا، واختاره الشيخ وغيره، لأن الدباغ إنما يزيل النجاسة الحادثة بالموت، وقال: لا يطهر جلود السباع، وهو أرجح، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع وعليه الجمهور وقال أيضا: الذي عليه الجمهور أن جلود الكلاب وسائر السباع لا تطهر بالدباغ، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع، وأما قوله «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، فضعفه أحمد وغيره من أئمة الحديث وقال: وفي هذا القول جمع بين الأحاديث ولا يجوز ذبحه لذلك وقال: ولو في النزع.
(6) لا رطب، والمنخل بضم الميم والخاء وتفتح، ما ينخل به، لعدم تعدي النجاسة كركوب البغل والحمار.(1/112)
وَ (لبنها) أَي لبن الميتة (1) (وكل أَجزائها) كقرنها وظفرها وعصبها وعظمها وحافرها (2) وإِنفحتها وجلدتها (نجسة) فلا يصح بيعها (3) (غير شعر ونحوه) كصوف ووبرويش من طاهر في الحياة (4) .
__________
(1) نجس وفاقًا لمالك والشافعي: لأنه لاقى وعاء نجسًا، فتنجس به، وعنه طاهر وفاقا لأبي حنيفة وغيره، واختاره الشيخ، لأن الصحابة أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن وهو يعمل بالإنفحة ومجرد ملاقاة النجاسة لا يوجب تنجيسه إلا بالتغير بها.
(2) أي الميتة وكذا أصول شعرها، وأصول ريشها نجسة، لأنها من جملة أجزاء الميتة أشبهت سائرها هذا المذهب.
(3) أي لأنها من جملة أجزاء الميتة والإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء وتكسر وشد الحاء شيء يستخرج من بطن الحمل، أو الجدي الرضيع، أصفر فيعصر في اللبن فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي فهو كرش، وجلدتها أي جلدة الإنفحة نجسة، فلا يصح بيعها وقال شيخ الإسلام، عظم الميتة وقرنها وظفرها وما هو من جنسه كالحافر والشعر والريش طاهر وهو مذهب أبي حنيفة، وقول في مذهب مالك وأحمد، وهو الصواب، لأن الأصل فيها الطهارة، ولا دليل على النجاسة، وأيضًا هذه الأعيان من الطيبات ليست من الخبائث، فتدخل في آية التحليل، ولم تدخل في آية ما حرم الله من الخبائث فإن الله حرم الميتة، وهذه الأعيان لا تدخل فيما حرم الله لا لفظًا ولا معنى فإن الله يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ولا يدخل فيها الشعور وما أشبهها، وليس فيها دم مسفوح فلا وجه لتنجيسها أي فيصح بيعها وهو قول جمهور السلف، واختاره صاحب الفائق وجزم به ابن رزين وغيره وقال الشيخ: إذا كان الحيوان الحساس المتحرك بالإرادة لا ينجس لكونه لا دم له سائل، فكيف ينجس العظم الذي ليس فيه دم سائل.
(4) ولو غير مأكول كالهر، ويشترط أن يقصه بمقراظ فلو نتفه كان نسجًا لأنه لا يخلو من أن يتعلق فيه شيء منها، ورخص أبو حنيفة ومالك في الانتفاع بشعر الخنزير في الخرز وكرهه أحمد، وقال: الحرز بالليف أحب إلي، قال الحافظ: وأجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية، وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية فدل على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها.(1/113)
فلا ينجس بموت، فيجوز استعماله (1) ولا ينجس باطن بيضة مأكول صلب قشرها بموت الطائر (2) (وما أبين من) حيوان (حي فهو كميتتة) طهارة ونجاسة (3) فما قطع من السمك طاهر (4) ، وما قطع من بهيمة الأَنعام ونحوها مع بقاءِ حياتها نجس (5) .
__________
(1) لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} ولا يجوز استعمال شعر الآدمي لحرمته، و (يجوز) تستعمل تارة بمعنى يحل، وتارة بمعنى يصح، وتارة تصلح للأمرين وهنا الأول.
(2) لأنها منفصلة عنه أشبهت ولد الميتة إذا خرج حيًّا، و (صلب) أي اشتد قشر بيضة المأكول كالدجاج، حتى كان صلبًا، فإن لم يصلب فنجسة لأنهامن أجزاء الميتة.
(3) أبين) : أي فصل من سنام وألية ونحوهما، لقوله عليه الصلاة والسلام لما سأل عن قوم يجزون أسنمة الإبل وأليات الغنم، فقال: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، وقال الشيخ: وهذا متفق عليه بين العلماء.
(4) وكذا الجراد لحل ميتته قال عليه الصلاة والسلام «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالجراد والحوت» ، وأجمعوا على طهارتهما.
(5) إجماعًا، وبهيمة الأنعام الإبل والبقر والغنم، ونحوها الظباء والطيور ونحوها، وسميت بهيمة لما في صوتهامن الإبهام، وفي القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم، ولو في الماء وكل حي لا يميز، وقوله (مع) بفتح العين، وقال النووي: في اللغة المشهورة، وحكي إسكانها، قال أهل اللغة: هي كلمة للمصاحبة وتضم الشيء إلى الشيء.(1/114)
غير مسك وفأْرته (1) والطريدة وتأْتي في الصيد (2) .
__________
(1) لأنه منفصل بطبعه، أشبه الولد، قال الشيخ: طاهر عند جماهير العلماء كما دلت عليه السنة الصحيحة وعمل المسلمين، وذكر أنه بمنزلة البيض والولد ليس مما يبان من البهيمة وهي حية وحكي النووي وغيره الإجماع على طهارته ولو أخذ بعد الموت، لأنه استحال عن جميع صفات الدم، وخرج عن اسمه إلى صفات واسم يختص بها فطهر لذلك، كما يستحيل الدم إلى اللحم فيكون طاهرًا والمسك بكسر الميم وسكون السين فارسي معرب، كانت العرب تسمية المشموم وهو طيب معروف، وفأرته دم ينعقد في سرة حيوان، يعيش في بلاد حارة قرب الصين يسمى بغزال المسك، وهو نوع من الظباء، بري، يتميز بهذا الكيس يحمله الذكر البالغ منه في وقت معلوم يتميز أجوده بالرائحة الذكية.
(2) لم يذكرها رحمه الله، وهي الصيد بين قوم لا يقدرون على ذكاته فيأخذونه قطعًا، حتى يؤتي عليه وهو حي، قال الحسن لا بأس بالطريدة، كان الناس يفعلون ذلك في مغازيهم واستحسنه أحمد، وكذا الناد من الإبل وغيرها، ما أبين من ذلك وهو حي فطاهر، ويسن أن يقول العبد في كل شيء يعزم عليه: إن شاء الله، امتثالا لأمر الله، وقال عليه الصلاة والسلام في قصة سليمان: «لو قال إن شاء الله لم يحنث» وكان دركا لحاجته متفق عليه.(1/115)
باب الاستنجاء (1)
من نجوت الشجرة أي قطعتها (2) فكأنه قطع الأذى (3) والاستنجاء إزالة الخارج من سبيل بماءٍ (4) أو إزالة حكمه بحجر ونحوه (5) .
__________
(1) وآداب التخلي الاستنجاء والاستطابة والاستجمار إزالة النجو، وهو العذرة فالأولات يكونون بالماء والحجر، والاستجمار لا يكون إلا بالحجارة وأما الاستبراء فهو طلب البراءة من الخارج بشيء مما ذكر، حتى يستيقن زوال الأثر، والاستنقاء طلب النقاوة، وهو أن يدلك المقعدة بالأحجار ونحوها، أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء، وأما الاستطابة فسميت بذلك لأنها تطيب نفسه بإزالة الخبث.
(2) بضم التاء، كما عرف مما تقدم.
(3) أي عنه باستعمال الماء، وقال ابن قتيبة وغيره: هو مأخوذ من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض، لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها، أو هو من النجو وهو القشر والإزالة.
وقيل: أصل الاستنجاء نزع الشيء من موضعه وتخليصه، وقال الخلوتي، لم يجعلوا الاستنجاء مأخوذا من النجو، وهو الخارج من السبيل الذي تطلب إزالته مع أنه أقرب من غيره.
(4) أي الاستنجاء شرعا إزالة خارج، سواء كان معتادا أولا، من سبيل أصلي قبل أو دبر بماء، وإنما قيل بالأصلي لكون الاستنجاء لا يطلق إلا عليه وإلا فيقال إزالة نجاسة.
(5) كخرق وخشب وخزف وتراب، و (أو) للتنويع والسنة دلت على
إزالته كقوله في الروث والعظم: «إنهما لا يطهران» ، أي فغيرهما من الأحجار ونحوها تطهر.(1/116)
ويسمى الثاني استجمارًا من الجمار، وهي الحجارة الصغيرة (1) (يستحب عند دخول الخلاء) ونحوه (2) وهو بالمد الموضع المعد لقضاء الحاجة (3) .
__________
(1) لأنه يستعملها في استجماره.
(2) أي يستحب إذا أراد دخول لمكان المعد لقضاء الحاجة، ونحو داخل الخلاء كالمريد قضاء الحاجة بنحو صحراء، في أول الشروع عند تشمير ثيابه، وفسر بعضهم نحوه بالحمام، والمغتسل ونحوهما: قول بسم الله إلخ، وتقدم تعريف المستحب بأنه ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم مرة وتركه أخرى، وأحبه السلف ويسمى مندوبا وأدبا وفضيلة ونفلا وتطوعا، كما جري عليه الأصوليون، فمستحبا من حيث أن الشارع يحبه ويؤثره ومندوبا من حيث أنه بين ثوابه، وفضيلة ونفلا من حيث أنه زائد على الفرض والواجب، وتطوعا من حيث أن فاعله يفعله تبرعا من غير أن يؤمر به حتما، وقد يطلق عليه اسم السنة، وهو ما لم يثبت فيه نص بخصوصه، والماتن والشارح رحمهما الله وكذا بعض المتأخرين من الأصحاب وغيرهم قد يجعلون المسنون مستحبا وبالعكس، وعبر في الإقناع والمنتهى هنا بلفظ يسن، وهو أولى فقد ورد في رواية على شرط مسلم «إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله» إلخ.
(3) وهو في الأصل المكان الخالي، نقل إلى البناء المعد لقضاء الحاجة عرفا، وسمي خلاء لخلوه، يقال: خلا المكان خلاء إذا فرغ، ولم يكن فيه أحد، وقال أبو عبيد: يقال لموضع الخلاء المذهب والمرفق والمرحاض اهـ، ويقال له أيضا الكنيف، للاستتار فيه، والبراز للتبرز فيه لقضاء الحاجة، ويقال غير ذلك، والتخلي التفرد.(1/117)
(قول بسم الله) لحديث علي: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله» (1) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: ليس إسناده بالقوي (2) (أعوذ بالله من الخبث) (3) بإسكان الباء، قال القاضي عياض، هو أكثر روايات الشيوخ (4) .
__________
(1) أي عند إرادة الدخول، وصرح به البخاري في الأدب المفرد، من حديث أنس بلفظ: «كان إذا أراد أن يدخل» وهذا في الأمكنة المعدة لذلك، وأما في غيرها ففي أول الشروع عند تشمير الثياب، كما تقدم والستر بالفتح نفس الفعل، وبالكسر ما يغطى به، والجن اسم جمع، والواحد جني ضد الإنس، أرواح هوائية تتشكل بأشكال مختلفة، وهم مكلفون في الجملة إجماعا، والعورات جمع عورة سوأة الإنسان، وكل ما يستحي منه، وتقدم، والكنيف كأسير المرحاض، وقيل للمرحاض كنيف لأنه يستر قاضي الحاجة.
(2) قال النووي وغيره: هذا الأدب متفق على استحبابه وابن ماجه هو محمد بن يزيد الربعي مولاهم، بفتح الراء والموحدة القزويني أبو عبد الله صاحب السنن والتفسير والتاريخ المتوفى سنة مائتين وثلاث وسبعين.
(3) معنى أعوذ بالله ألوذ به وألتجئ وأستجير وأعتصم، يقال: عذت به أعوذ عوذا وعياذا لجأت إليه، وقدم البسملة هنا لأنه يبتدأ بها للتبرك، بخلاف القراءة لأن البسملة من القرآن والاستعاذة من أجل القراءة.
(4) أي رواية الخبث بإسكان الباء، وقال النووي: صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة، منهم أبو عبيد، قال في النكت، وقاله عامة أصحاب الحديث، وهو غلط والصواب الخبث بضم الباء والقاضي عياض هو ابن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض، اليحصبي السبتي الغرناطي المالكي، صاحب التصانيف المشهورة، وقاضي سبتة بالمغرب، المتوفى سنة خمسمائة وأربع وأربعين.(1/118)
وفسره بالشر (والخبائث) الشياطين فكأنه استعاذ من الشر وأهله (1) وقال الخطابي: هو بضم الباء (2) وهو جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة فكأنه استعاذ من ذكرانهم وإناثهم (3) واقتصر المصنف على ذلك تبعا للمحرر والفروع وغيرهما (4) .
__________
(1) وكذا فسره أبو عبيد وغيره، وقال ابن الأعرابي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار اهـ وهذا الذكر مجمع على استحبابه.
(2) لا يجوز غيره، وقاله ابن حبان وغيره، وتعقب بأنه يجوز ككتب وكتب قال ابن سيد الناس، وهذا الذي أنكره الخطابي هو الذي حكاه أبو عبيد وحسبك به جلالة، وقال النووي: هو جائز تخفيفا بلا خلاف عند أهل النحو والتصريف اهـ والخطابي هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب (قال اسمي حمد الذي سميت به، لكن الناس كتبوا أحمد فتركته عليه.) من ولد زيد بن الخطاب. أخي عمر بن الخطاب البستي، نسبة إلى مدينة بستة ببلاد كابل، محدث ففيه لغوي، أخذ اللغة والأدب عن أبي عمر وأبي علي وأبي جعفر وغيرهم، وعنه ابن البيع وغيره، وله كتب أشهرها غريب الحديث، وهو في غاية الحسن والبلاغة، وله أعلام السنن، ومعالم السنن، في شرح البخاري وأبي داود، توفي ببستة سنة ثلاثمائة وثمان وثمانين.
(3) وكذا قاله ابن حبان وغيره، قال الحافظ: وكان يستعيذ إظهارا للعبودية ويجهر بها للتعليم.
(4) كالغنية والإقناع يعني على قول «بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث» .(1/119)
لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» متفق عليه (1) .
وزاد في الإقناع والمنتهى تبعا للمقنع وغيره (2) «الرجس النجس الشيطان الرجيم» (3) .
__________
(1) وللبخاري في الأدب: إذا أراد دخوله، وهو ظاهر في الأمكنة المعدة لذلك، ومعنى (اللهم) يا الله، قال ابن القيم: لا خلاف في ذلك، والميم حرف شفوي يجمع، الناطق به شفتيه فوضعته العرب علما على الجمع، وألحقوها في هذا الاسم الذي يسأل الله به في كل حاجة، وكل حال، إيذانا بجمع أسمائه وصفاته، فإذا قال السائل: اللهم إني أسألك كأنه قال أدعوا الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، بأسمائه وصفاته، فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بأسمائه كلها، كما في الحديث «أسألك بكل اسم هو لك» قال الحسن: اللهم مجمع الدعاء وقال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها، ولما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جمع الاسم جعلوها أيضا عوضا من حرف النداء، فلم يجمعوا بينهما.
(2) كالمستوعب والشرح والبلغة والوجيز وأما الإقناع فلعله سهو من الناسخ.
(3) الرجس القذر، ويحرك وتفتح الراء، وتكسر الجيم، قاله في القاموس وغيره، وهو لفظة أعجمية ويقال بالكاف وتكسر السين فيها، وتفتح والنجس اسم فاعل، ضد الطاهر، وهو من عطف الخاص على العام، قال الفراء: إذا قالوه مع الرجس أتبعوه إياه بكسر النون وسكون الجيم، وفي الكليات: الرجس النجس متقاربان لكن الرجس أكثر ما يقال في المستقذر طبعا، والنجس أكثر ما يقال في المستقذر عقلا وشرعا و (الشيطان) اسم كل جني كافر عات متمرد، من شطن أي بعد، لبعده من رحمة الله وتمرده، أو من الحبل الطويل كأنه طال في التمرد. أو من شاط أي هلك لهلاكه بمعصية الله. و (الرجيم) المرجوم الملعون فسر بكل منها فقيل بمعنى راجم لأنه يرجم غيره بالإغواء، أو بمعنى مرجوم لأنه يرجم بالكواكب، إذا استرق السمع، أي أستجير بالله من هذا الشيطان الرجيم، أن يمسني بسوء وهو أيضا من عطف الخاص على العام، لدخوله في الخبث والخبائث.(1/120)
لحديث أبي أمامة: «لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم» (1) (و) يستحب أن يقول (عند الخروج منه) أي من الخلاء ونحوه (2) (غفرانك) أي أسألك غفرانك من الغفر وهو الستر (3) .
__________
(1) رواه ابن ماجه، واقتصر عليه في الوجيز، وجمع بين الخبرين في المقنع والمنتهى وغيرهما والمرفق بالكسر لا غير، واحد المرافق الكنيف والحش، والعجز والضعف، لا يعجز أي لا يضعف، وأصله التأخر عن الشيء، وأبو أمامة اسمه صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، قال ابن عبد البر غلبت عليه كنيته، كان يسكن حمص، وقال الحافظ: مشهور بكنيته وممن روى عنه القاسم، روي عنه هذا الحديث توفي سنة إحدى وثمانين، وله إحدى وتسعون.
(2) كصحراء بعد فراغه وعبر في الإقناع والمنتهى بيسن، وفي الحديث «إذا خرج أحدكم فليقل» الحديث.
(3) منصوب بفعل مقدر، أو مصدر أي اغفر غفرانك، والعف هو المحو مع الستر، استغفر الله من تقصيره في شكر الله على إخراج ذلك الخارج من بعد أن أنعم عليه، فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروجه عليه، ويقال: إن مناسبة سؤال المغفرة في هذا الموضع أنه دخل ثقيلا وخرج خفيفا، فذكر ثقل الذنب يوم القيامة فسأل الله المغفرة، وقيل: من تركه الذكر وقت قضاء الحاجة، والأول أولى لما يأتي.(1/121)
لحديث أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال «غفرانك» ) رواه الترمذي وحسنه (1) .
وسن له أيضا أن يقول (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) لما رواه ابن ماجه عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» (2) .
(و) يستحب له (تقديم رجله اليسرى دخولا) أي عند دخول الخلاء ونحوه من مواضع الأذى (3) .
(و) يستحب له تقديم (يمنى) رجليه (خروجا (4) عكس مسجد) ومنزل (و) لبس (نعل) وخف (5) .
__________
(1) ورواه الخمسة من حديث عائشة وصححه ابن خزيمة والحاكم والنووي وغيرهم وظاهر حديث أنس أنه كان يجهر بهذا الذكر فيحسن الجهر به.
(2) أي من احتباسه ورواه النسائي وابن السني عن أبي ذر وقال الحافظ: سنده حسن، وفي حمده إشعار بأن هذه نعمة جليلة، فإن انحباس ذلك الخارج من أسباب الهلاك فخروجه من النعم.
(3) كحمام ومغتسل وكمزبلة ومجزرة.
(4) منه لأنها أحق بالتقديم إلى الأماكن الطيبة، وأحق بالتحرز عن الأذى ومحله وفي غير البنيان يقدم يسراه إلى موضع جلوسه، ويمناه عند منصرفه منه مع إتيانه بما تقدم وهذا الأدب متفق على استحبابه.
(5) فإنه يقدم فيها رجله اليمنى دخولا، واليسرى خروجا، والعكس في اللغة رد الشيء إلى طريقه الأول، وفي الاصطلاح عبارة عن تعليق نقيض الحكم
المذكور بنقيض علته. وضد الطرد والعكس: المستوي وهو جعل الأول ثانيا. والثاني أولا، وعكس النقيض وهو جعل نقيض الثاني أولا والأول ثانيا.(1/122)
فاليسرى تقدم للأذى واليمنى لما سواه (1) وروى الطبراني في المعجم الصغير عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا خلع فليبدأ باليسرى» (2) وعلى قياسه القميص ونحوه (3) .
__________
(1) أي سوى الأذى، والأذى هو ما تستكرهه النفس الزكية، مما مر ونحوه وكخلع الثوب، وفعل المستقذرات، وما سواه: هو جميع الأعمال الصالحة، كدخول مسجد، ولبس نعل ونحوهما.
(2) ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عنه قال: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرها تنزع» ، وعن أنس: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى) صححه الحاكم وغيره، وأدلة هذه القاعدة كثيرة شهيرة فإن البداءة باليمين مشروعة في الأعمال الصالحة، للندب على تقديمها فيها، ولفضل اليمين حسا في القوة والجرأة والصلاحية للأعمال مما ليس لليسار حتى إن الخاتم يضيق في اليمنى ويتسع في اليسرى، وانتعل وتنعل ونعل ينعل نعلا لبس النعل، والنعل مصدر وهو الحذاء أي ما وقيت به القدم من الأرض، والطبراني هو سليمان بن أحمد بن أيوب الحافظ المعمر، طاف البلاد وأخذ عن أكثر من ألف شيخ، وله المعاجم الثلاثة وغيرها، وتوفي سنة ثلاثمائة وستين.
(3) أي قياس الخف كالقباء والسراويل، فيدخل يده اليمنى قبل اليسرى في اللبس، ويقدم اليسرى في الخلع، لقوله «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بميامنكم» رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد.(1/123)
(و) يستحب له (اعتماده على رجله اليسرى) حال جلوسه لقضاء الحاجة (1) لما روي الطبراني في المعجم والبيهقي عن سراقة بن مالك: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكئ على اليسرى، وأن ننصب اليمنى) (2) .
(و) يستحب (بعده) إذا كان (في فضاء) حتى لا يراه أحد (3) لفعله عليه السلام، رواه أبو داود، من حديث جابر (4) .
__________
(1) فيستوطئها ويتوكأ على ركبته اليسرى، ويضع أصابع اليمنى على الأرض ويرفع عرقوبها إكراما لها.
(2) لكن قال الحازمي:
في إسناده من لا نعرفه، وعلله بعض أهل العلم بأنه أسرع وأسهل لخروج الخارج، وأعون عليه، أو ليقل مع ذلك استعمال اليمنى لشرفها، وسراقة بن مالك هو ابن جعشم بن مالك بن عمرو بن تيم، المدلجي الكناني وهو الذي ساخت فرسه عند إدراكه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجره من مكة، وكتب له أمانا، توفي سنة أربع وعشرين، والبيهقي هو الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الشافعي، صاحب السنن والشعب وغيرهما، طاف البلاد، وتوفي سنة أربعمائة وثمان وخمسين، وبيهق قرية من قرى نيسابور.
(3) بالاتفاق: ولا يسمع له صوتا، ولا يشم له ريحا، وإلا وجب، وللبول بحيث يستتر ويأمن الصوت، وفي الإقناع والمنتهى، يسن وهو الأولى، للأمر به، واستمرار فعله عليه الصلاة والسلام لذلك، والفضاء الساحة، وما اتسع من الأرض، يقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء.
(4) ولفظه: (كان إذا أتى البراز أبعد حتى لا يراه أحد،) ورواه النسائي وأبو داود والترمذي وصححه من حديث المغيرة بلفظ (كان إذا ذهب أبعد) وفي الصحيحين (فانطلق حتى توارى عني) . وهذه الأحاديث وغيرها تدل على مشروعية الإبعاد لقضاء الحاجة.(1/124)
(و) يستحب (استتاره) (1) لحديث أبي هريرة قال: من أتى الغائط فليستتر رواه أبو داود (2) (وارتياده لبوله مكانا رخوا) بتثليث الراء، لينا هشا (3) .
__________
(1) بالاتفاق يستر أسافله مهما أمكن، من بناء أو شجر أو كثيب رمل أو غير ذلك، من: ستر الشيء أخفاه واستتر وتستر تغطى قال النووي: وأقل الساتر طولا ثلثا ذراع وبعده عنه ثلاثة أذرع، فأقل وعرضا بقدر ما يستر.
(2) ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الحافظ: إسناده حسن، وصححه ابن حبان والحاكم، وفيه (فإن لم يجد إلا كثيبا من رمل فليستتر به، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم) ولمسلم، (كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل) ، ويستتر ولو بإرخاء ذيله. ومحل الاستحباب بل السنية إذا لم يكن ثم من ينظره ممن يحرم عليه نظره، لقوله في آخر الحديث (من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج) ، وإلا وجب عليه الاستتار، والغائط اسم فاعل، والمراد به العذرة، وأصل الغائط المطمئن من الأرض الواسع، وكان الرجل إذا أراد أن يقضي الحاجة أتى الغائط وقضى حاجته، فقيل لكل من قضى حاجته، قد أتى الغائط، كنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره باسمه الصريح.
(3) بالاتفاق. لئلا يترشش عليه، فإن كان صلبا لينه بأن يأخذ حجرا أو عودا فيعالجه ويثير ترابه، ليصير دمثا سهلا فلا يرد بوله عليه، فارتياده طلبه وتحريه محلا سهلا لينا، ومنه الرائد لا يكذب أهله، وهو الرجل يبعثه القوم يطلب لهم الماء والكلأ، يقال: رادهم يرودهم ريادا، وارتاد لهم ارتيادا، طلب لهم، والهش الرخو اللين، واللين ضد الصلب والخشن.(1/125)
لحديث: «إذا بال أحدكم فليرتد لبوله» ، رواه أحمد وغيره (1) وفي التبصرة ويقصد مكانا علوا لينحدر عنه البول (2) فإن لم يجد مكانا رخوا ألصق ذكره ليأمن بذلك من رشاش البول (3) (و) يستحب (مسحه) أي أن يمسح (بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره) أي من حلقة دبره، فيضع إصبعه الوسطى تحت الذكر، والإبهام فوقه، ويمر بهما (إلى رأسه) أي رأس الذكر (ثلاثا) لئلا يبقى من البول فيه شيء (4) .
__________
(1) ولفظ أبي داود عن أبي موسى: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبول فأتى دمثا في أصل حائط فبال، ثم قال: «إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله موضعا» ، والحديث وإن كان فيه مجهول فأحاديث التنزه من البول تفيد ذلك.
(2) العلو المرتفع وينحدر أي ينهبط من العلو إلى السفل، والتبصرة في الفقه لأبي محمد عبد الرحمن بن محمد الحلواني الحنبلي المعروف بأبي الفتح، المتوفى سنة خمسمائة وست أربعين.
(3) لحديث: «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» ، وألصق ذكره أي ألزقه بصلب، بضم الصاد أي شديد وفي الإنصاف يكره أن يستقبل الريح دون حائل يمنع.
(4) أي بعد إمرار يده عليه، وهو الدرز والدرزة المرة، وحلقة الدبر بسكون اللام معروفة، والدبر ضد القبل، والاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل ثابت. وقال الشيخ وغيره، وما ذكروه من المسح والنتر كله بدعة. وقال: يستحب أن يمكث قليلا بعد بوله، أي قبل الاستنجاء، حتى ينقطع أثر البول. وقاله الموفق وغيره، ليستبرئ من البول، لحديث الذين يعذبان في قبريهما قال عليه الصلاة والسلام «أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول» ، متفق عليه، والاستبراء طلب البراءة من الحدث، وذلك باستفزاع ما في المخرج من الخبث، والأحاديث دالة على وجوب توقيه، والاحتراز منه، وهو إجماع وما ذكروه من المسح والنتر يدر البول غالبا ويورث السلس.(1/126)
(و) يستحب (نتره) بالمثناة (ثلاثا) أي نتر ذكره ثلاثا، ليستخرج بقية البول منه (1) لحديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثا» رواه أحمد وغيره (2) .
__________
(1) أي من ذكره والنتر بالمثناة الجذب بجفا وفي القاموس: استتر من بوله اجتذبه، واستخرج بقيته من الذكر عند الاستنجاء وأنكره الشيخ وتلميذه وغيرهما وذكروا أنه يحدث السلس، وكثيرا ما يطلق الأصحاب رحمهم الله وغيرهم الاستحباب على ما ليس بمستحب.
(2) وضعفه شيخ الإسلام وغيره، لأنه من رواية عيسى بن يزداد بن فسأة وقال النووي، اتفقوا على ضعفه، وقال ابن معين: لا يعرف هو ولا أبوه، وذكر جماعة من الأصحاب وغيرهم، ويتنحنح زاد بعضهم، ويمشي خطوات قال الشيخ: وكل ذلك بدعة، وكذا تفقده الفيئة بعد الفيئة، ولأنه من الوسواس، ولو احتاج إليه لأنه وسواس.
وقال في موضع: لكن إن احتاج للنتر فعله كأن يكون إن لم يفعله أصابه سلس اهـ وينبغي لمن استنجى بالماء أن ينضح فرجه وسراويله قطعا للوسواس، وللمادة فإن تأثير الماء البارد في قطعها معلوم، وروى أبو داود والترمذي وغيرهما من طرق أمره وفعله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم في خصال الفطرة الانتضاح، وقال أحمد فيمن ظن خروج شيء (لا تلتفت إليه حتى تيقن، وإله عنه فإنه من الشيطان، وإنه يذهب إن شاء الله) ، وسئل سليمان بن يسار عن
البلل يجده قال: (انضح من تحت ثوبك بالماء، واله عنه) ، وقال القاسم بن محمد: (إذا استبرأت وفرغت فارشش بالماء وقل: هو الماء) ، وينبغي أن لا يتبع الأوهام، فإنه يؤدي إلى تمكن الوسوسة من القلب، وهي تضر بالدين، وقال ابن الحاج المالكي: إذا قام المستبرئ من البول فلا يخرج إلى الناس وذكره بيده، وإن كانت تحت ثوبه، فإن ذلك شوهة، وكثير من الناس يفعله وقد نهى عنه.(1/127)
(و) يستحب (تحوله من موضعه ليستنجي) في غيره (إن خاف تلوثا) باستنجائه في مكانه، لئلا يتنجس (1) ويبدأ ذكر وبكر بقبل، لئلا تتلوث يده إذا بدأ بالدبر وتخير ثيب (2) (ويكره دخوله) أي دخول الخلاء ونحوه (بشيء فيه ذكر الله تعالى) (3) .
__________
(1) فاستحباب التحول تباعد عن النجاسة، وظاهر المبدع وجوبه، وليستجمر كما صرح به في الإقناع والمنتهى، وفيما سيأتي وعن عبد الله بن مغفل مرفوعا (لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه، فإن عامة الوسواس منه) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وقال غريب.
وقال النووي: إسناده حسن، ونحوه عن أبي هريرة بإسناد صحيح، ولفظه «أو يبول في مغتسله» وقال غير واحد: إنما هو في الحفيرة، فأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقبر والإسمنت، فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس، وتوقيه أولى، فإن كان في الأبنية المتخذة لذلك لم ينتقل للمشقة، أو كان بالحجر فكذلك لئلا يتضمخ بالنجاسة.
(2) لبروز ذكر الذكر، ولوجود عذرة البكر دون الثيب.
(3) تعظيمًا لله عن موضع القاذورات، ولحديث أنس: (كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه) صححه الترمذي وكان نقشه: (محمد رسول الله) متفق عليه الله سطر، ورسول سطر، ومحمد سطر، ولهذا ورد عن كثير من السلف كتابة ذكر الله على خواتيمهم ونحو داخل الخلاء مريد قضاء الحاجة بنحو صحراء
وإن دخل به لحاجة، أو ذهول غيبة في فيه أو بطن يده، أو عمامته ونحو ذلك، صيانة له عن المحال المستخبثة.(1/128)
غير مصحف فيحرم (1) إلا لحاجة (2) لا دراهم ونحوها وحرز للمشقة (3) .
__________
(1) قطعا من غير حاجة، ولا يتوقف في تحريمه عاقل، وبعض المصحف كالمصحف وهو بضم الميم ويأتي.
(2) أي فلا يكره دخوله بما فيه ذكر الله، إذا لم يجد من يحفظه، وخاف ضياعه.
(3) تعليل لمحذوف أي فلا يكره ولو كان فيها يعني الدراهم ونحوها كالدنانير أو الحرز شيء فيه ذكر الله، أو القرآن صرح به أحمد وغيره للمشقة وجزم به جماعة، وقال الشيخ: الدراهم إذا كتب عليها لا إله إلا الله، وكانت في منديل أو خريطة ويشق عليه مسكها يجوز أن يدخل بها بيت الخلاء، وقال في تصحيح الفروع، ظاهر كلام أحمد أن حمل الدراهم كغيرها في الكراهة، وذكر ابن رجب أن أحمد نص على كراهة ذلك، واختلف العلماء في جواز تعليق التمائم من القرآن، وأسماء الله فقيل يجوز، ولا حجة لذلك، وقال أكثر أهل العلم: لا يجوز هو الصواب لوجوه أحدها عموم النهي، كقوله عليه الصلاة والسلام «إن الرقي والتمائم والتولة شرك» ، وقوله: «من تعلق تميمة فقد أشرك» ، وغير ذلك من الأحاديث، ولم يجئ مخصص، والثاني سد الذريعة، والثالث امتهانة والرابع كونه صلى الله عليه وسلم رقى ورقي، ولم يأمر به ولم يرد ما يدل على إجازته له، ولا فعله هو ولا أصحابه مع توفر الدواعي، والحرز العوذة، جمعه أحراز، وهو في الأصل بالسين.(1/129)
ويجعل فص خاتم احتاج للدخول به بباطن كف يمنى (1) (و) يكره استكمال (رفع ثوبه قبل دنوه) أي قربه (من الأرض) بلا حاجة (2) فيرفع شيئا فشيئا (3) ولعله يجب إن كان ثم من ينظره قاله في المبدع (4) (و) يكره (كلامه فيه) ولو برد سلام (5) .
__________
(1) إذا كان مكتوبا عليه اسم الله نص عليه لئلا يلاقي النجاسة أو يقابلها والخاتم بفتح التاء: حلي يجعل للأصبع، وفصه ما ركب فيه من ياقوت وغيره.
(2) إلى ذلك، جزم به الشيخ وغيره لما روى أبو داود عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) ولأن ذلك أستر له.
وقال النووي وغيره: يستحب أن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض بالاتفاق، وإذا قام أسبل عليه قبل انتصابه، وهذا كله فيما إذا بال قاعدا وهو السنة، ودنوه إشارة إلى أن محله إذا بال قاعدا، واختلفوا في البول قائما.
وقال ابن المنذر وغيره: البول جالسا أحب إلي، وقائما مباح، وكل ذلك ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائما) ، وقال الشيخ: السنة أن يبول قاعدا، ولا يكره قائما إن أمن تلوثا.
(3) صفة مصدر أي يرفع قليلا قليلا وإن خاف تنجسه رفع قدر حاجته.
(4) أي ولعل الرفع شيئا فشيئا يجب، والسدل كذلك بقدر الحاجة، فإنه يحرم كشف عورته بلا حاجة، وغير حال البول مثله وأولى قال الشيخ: يجب ستر عورته، ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما يكشف عند التخلي.
(5) أي في الخلاء، لما روي أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد حسن عن أبي
سعيد مرفوعا «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك» ، ونحوه للحاكم وصححه، ولمسلم عن ابن عمر قال: (مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل فسلم عليه وهو يبول) ، فلم يرد عليه، قال أبو داود: يروى أنه تيمم ورد ويكره السلام عليه ولا يجب رده.(1/130)
وإن عطس حمد بقلبه (1) ويجب عليه تحذير ضرير وغافل عن هلكة (2) وجزم صاحب النظم بتحريم القراءة في الحش وسطحه (3) وهو متوجه على حاجته (4) (و) يكره (بوله في شق) بفتح الشين (5) .
__________
(1) أي المتخلي وأجاب المؤذن بقلبه، ويكره بلفظه، وعنه لا يكره لحديث: (كان يذكر الله على كل أحيانه) قال الشيخ: يجيب المؤذن في الخلاء كأذكار المخافتة.
(2) بأن يحذره عن بئر أو حية أو نحوهما، لأنه موضع ضرورة، فاستثني مما تقدم، ولأن حفظ المعصوم أهم.
(3) الحش مثلثة البستان، ويكنى به عن الذي يتغوط فيه، وجمعه حشوش وحشون وفي الحديث: «إن هذه الحشوش محتضرة» والسطح مصدر، ظهر البيت وأعلى كل شيء، وصاحب النظم هو محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي الحنبلي، له النظم المشهور نحو ستة آلاف بيت، والآداب وغيرهما توفي سنة ستمائة وتسع وتسعين.
(4) وقاله في الفروع أي أن القول بالتحريم متوجه، إذا كان المتخلي جالسا على حاجته بهذا القيد وصوب في الإنصاف لا إن لم يكن على حاجته أو كان على سطحه.
(5) واحد الشقوق، وهو الثقب والخرم الواقع في الشيء، والصدع والموضع المشقوق.(1/131)
(ونحوه) كسرب وهو ما يتخذه الوحش والدبيب بيتا في الأرض (1) ويكره أيضا بوله في إناء بلا حاجة (2) ومستحب غير مقير أو مبلط (3) ومس فرجه أو فرج زوجته ونحوها (بيمينه) (4) .
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه، ولحديث أبي قتادة، (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجُحر) قال قتادة يقال: إنها مساكن الجن، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة، وخشية خروج دابة من الأرض فتؤذيه فينبغي اتقاؤه وقال ابن القيم وغيره: لأنه ذريعة إلى خروج حيوان يؤذيه وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول، فربما آذوه والجحر هو الثقب أيضا، والثقب لما يقل ويصغر، وهو الخرق النازل في الأرض المستدير ويسمى السرب بفتحتين، وهو الشق المستطيل والحفرة في الأرض عبارة عن الثقب وهو جحر الوحش ويقال للضب أيضا واليربوع والفأرة والحية والنملة وسائر الحشرات.
(2) لا خلاف في جوازه لحديث أميمة كان له عليه الصلاة والسلام قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه، رواه أبو داود وغيره، فتقييده بالحاجة لا حاجة إليه.
(3) أي يكره بوله في مستحم، وهو الموضع الذي يغتسل فيه، أو يتوضأ فيه لئلا يصيبه من البول شيء حال الغسل، سمي المستحم باسم الحميم، وهو الماء الحار الذي يغتسل به، ثم قيل للاغتسال بأي ماء كان استحمام، واستثني المقير، وهو المطلي بالقار، والقار شيء أسود يطلى به السفن والإبل، أو هو الزفت، واستثني أيضا المبلط أي المفروش بالبلاط، وهو صفائح الحجارة الملساء، أي فإن كان مقيرا أو مبلطا فلا كراهة وكذا المجصص والمفروش بالإسمنت ونحوها.
(4) تشريفا وصيانة لها عن الأقذار، وللخبر الآتي في البول ونحوه، ونحو زوجته أمته، ومن دون سبع قياسا على فرجه، وفي المبدع: وظاهره اختصاص النهي بحالة البول، قال ابن منجا، إنما لم يذكره المؤلف لوضوحه.(1/132)
(و) يكره (استنجاؤه واستجماره بها) أي بيمينه (1) لحديث أبي قتادة «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه (2) واستقبال النيرين أي الشمس والقمر، لما فيهما من نور الله تعالى (3) .
__________
(1) لغير ضرورة كقطع يده، وحاجة كجرحها، وإلا فلا يكره، صرح به في الإنصاف وغيره، والاستنجاء باليسار أن يغسل بها، ويصب باليمين، قال الحافظ، أما إذا باشر الماء بها فحرام غير مجزئ بلا خلاف، واليسرى في ذلك كاليمنى اهـ وبالحجر إن كان غائطًا أخذ الحجر بيساره فمسح به دبره، وإن كان بولا والحجر كبير أمسك ذكره بشماله، ومسحه عليه أو صغير جعله بين عقبيه أو إبهامي رجليه فإن عسر حمله بيمينه ومسح الذكر عليه بيساره، قال في المبدع، وبكل حال تكون اليسرى هي المحركة، لأن الاستجمار إنما يحصل بالمتحركة.
وقال المجد: يتوخى الاستجمار بجدار أو موضع نات من الأرض، أو حجر ضخم لا يحتاج إلى إمساكه، فإن اضطر إليه جعله بين عقبيه، أو بين أصابعه، وتناول ذكره بشماله، فمسحه فإن لم يمكنه أمسك الحجر بيمينه، ومسح بشماله، وصححه هو والزركشي وغيرهما، وفي الصحيحين عن عائشة قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، ويده اليسرى لخلائه وما كان من أذى) .
(2) أبو قتادة هو الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: توفي بالكوفة كبر عليه علي ستًا، وقال الواقدي: بالمدينة سنة أربع وخمسين، ومسكت بالشيء أخذت به، وأمسكته بيدي إمساكا قبضته باليد، والمسح إمرار اليد على الشيء السائل، أو المتلطخ لإذهابه، كالتمسيح والمسح ولحديث (نهانا أن نستنجي باليمين) .
(3) سميا بالنيرين يعني المنيرين لاستنارتهما من بين سائر الكواكب وأورد
بعض الفقهاء في كراهة استقبالهما حديثا، قال في المبدع: روي أن معهما ملائكة وأن أسماء الله مكتوبة عليهما، وأنهما يلعنانه وغير ذلك قال النووي والحافظ، إنه باطل لا أصل له.
وقال ابن القيم: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلمة واحدة، لا بإسناد صيح ولا ضعيف ولامرسل ولا متصل وليس لهذه المسألة أصل في الشرع اهـ فكراهة استقبالهما لا أصل له.
قال في الإنصاف، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، وفي حديث أبي أيوب الآتي دلالة ظاهرة على جواز استقبالهما واستدبارهما إذ لا بد أن يكونا أو أحدهما في الشرق أو الغرب.(1/133)
(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها) حال قضاء الحاجة (1) (في غير بنيان) (2) لخبر أبي أيوب مرفوعا (3) «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» متفق عليه (4) .
__________
(1) إجماعا للأحاديث الآتية وغيرها.
(2) لحديث ابن عمر (إنما نهى عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) ، رواه أبو داود.
وقال الشيخ: هذا المنصور عند الأصحاب، وعنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء والبنيان، جزم به في الوجيز وغيره، واختاره أبو بكر عبد العزيز والشيخ وابن القيم وصاحب الفائق وغيرهم، ولصحة أحاديث النهي.
قال ابن القيم: لا فرق بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلا، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة وليس مع من فرق ما يقاومها ألبتة.
(3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أيوب هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، من أكابر الصحابة، نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم حال قدومه المدينة، مات غازيا سنة خمسين بالروم.
(4) القبلة هي الكعبة، وأمره بالتشريق أو التغريب خطاب منه لأهل المدينة
ومن جري مجراهم أن يتوجهوا إلى المشرق أو المغرب، وأما من كان في جهة الشرق أو الغرب فإنه يتحول إلى الجنوب أو الشمال، ولمسلم من حديث أبي هريرة «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» ومن حديث سلمان لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، قال الحافظ: جاء النهي عن استقبال القبلة واستدبارها في غير ما حديث صحيح تغني شهرته عن ذكره، لكونه نهيًا مجردًا، قال الشيخ: والأحاديث دلت على المنع من استقبالها أو استدبارها ببول أو غائط وهذه الحال تتضمن أمرين (أحدهما) بخروج الخارج المستقذر. (والثاني) كشف العورة اهـ ولأن جهة القبلة أشرف الجهات فصينت عن ذلك.(1/134)
ويكفي انحرافه عن جهة القبلة (1) وحائل ولو كمؤخرة الرحل (2) ولا يعتبر القرب من الحائل (3) .
__________
(1) أي انحراف المتخلي ولو يسيرا يمنة أو يسرة وقال في الإنصاف ظاهر كلامه لا يكفي الانحراف وهو ظاهر كلام المجد والشيخ تقي الدين وغيرهما والانحراف اليسير في الصلاة لا يضر، فلا يكفي هنا، فينبغي الانحراف كثيرا اهـ ومع النسيان ينحرف ويستغفر، الله عز وجل يعني مما أتوه غلطا وسهوا، وذلك في مراحيض قد بنيت نحو الكعبة
(2) أي ويكفي حائل بينه وبين القبلة من دابة وجدار ونحوه، وإرخاء ذيل ونحوه، ولو كان الحائل كمؤخرة الرحل بضم فسكون، ومنهم من يشدد الحاء وهي لغة قليلة في آخرة الرحل وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب، والرحل للبعير، وهو أصغر من القتب أي فيكفي الاستتار به لحصول الستر به لأسافله.
(3) كما لو كان في بيت وفي الفروع يتوجه كسترة صلاة، وتقدم أنه لا فرق بين الفضاء والبنيان، فلا فرق بين حائل ولا غيره، ولا قرب ولا بعد، ولو كان هناك فرق لكانت الجبال والمسافات كافية، وسقط النهي العام المتواتر.(1/135)
ويكره استقبالها حال الاستنجاء (1) (و) يحرم (لبثه فوق حاجته) (2) لما فيه من كشف العورة بلا حاجة (3) وهو مضر عند الأطباء (4) (و) يحرم (بوله) وتغوطه في طريق مسلوك (5) (وظل نافع) (6) ومثله متشمس بزمن الشتاء، ومتحدث الناس (7) .
__________
(1) قاله في الفروع والمبدع وغيرهما، وقال في الإنصاف: يتوجه التحريم.
(2) في الخلاء، واللبث بفتح اللام مصدر، وبضمها اسم مصدر، يقال لبث في المكان لبثا ولبثا مكث وأقام.
(3) وكشف العورة بلا حاجة قد حكي الإجماع على تحريمه.
(4) يعني إطالة اللبث أنه يدمي الكبد، ويورث الباسور.
(5) الطريق السبيل تذكر وتؤنث وجمعه أطرق وطرق وسلك الطريق دخله وسار فيه، لحديث أبي هريرة مرفوعا اتقوا «اللاعنين قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم» ، رواه مسلم وغيره، أي اتقوا الأمرين الجالبين للعن، الباعثين الناس عليه فإنه سبب للعن من فعله في هذا الموضع، فنسب إليهما بصيغة المبالغة، وعن أبي هريرة مرفوعا، «من سل سخيمته على طريق عامر من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، رواه البيهقي والطبراني، وله أيضا «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنة الله» .
(6) أي مستظل الناس الذي يستظلون به، ويعتادون الجلوس فيه، أويتخذونه مقيلا ومناخا، للحديث السابق، وإضافة الظل إليهم دليل على إرادة المنتفع به، وليس كل ظل يحرم القعود عنده لقضاء الحاجة، فقد قضاها صلى الله عليه وسلم تحت حائش ومعلوم إن له ظلا، وفي الحديث (وكان أحب إليه حائش نخل، أو حائط) ، والحائش النخل المتلف.
(7) لأنهما في معناه، والمراد الحديث المباح، أما المكروه أو المحرم فلا
يكره، بل يندب أن يفرقهم ما استطاع، إذا كان الحديث بنحو غيبة وهذا في المتحدث المملوك أو المباح، أما إذا كان ملك الغير فيحرم، حيث علم أنه لا يرضى به أو لم يؤذن له، وقال ابن القيم: وإن اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجة إلى التخلي فيه فله ذلك وإذا لم يجد موضعا سواه، إما لضيق الطريق، أو لتتابع المارين فيها.(1/136)
(وتحت شجرة عليها ثمرة) لأنه يقذرها (1) وكذا في موارد الماء (2) وتغوطه بماء مطلقا (3) .
__________
(1) لما رواه الطبراني وغيره من النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري، من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وسواء كانت الثمرة تؤكل أو لا صيانة لها عن التلويث، ولعموم النهي، لأنه يفسدها وتعافها النفس، وعدم احترام لها، فإن لم يكن عليها ثمرة لم يحرم، إن لم يكن ظلا نافعا، ويحرم تغوط ونحوه على ما نهي عن استجمار به، لحرمته كطعام لا على ما نهي عن استجمار به لنجاسته أو ملاسته.
(2) أي مجاريه ومشارعه، والطرق إليه، أحدها مورد، لحديث معاذ مرفوعا، «اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد، وقارعة الطريق والظل» رواه أبو داود وابن ماجه وقال: مرسل والبيهقي وقال النووي: إسناد جيد، واتقاؤها متفق عليه، وعن ابن عباس نحوه رواه أحمد وفيه ضعف، والملاعن جمع ملعنة، وهي الفعلة التي يلعن فاعلها، كأنها مظنة اللعن ومحل له لأن الناس إذا مروا به لعنوا فاعله أو سميت بذلك لأنها سبب اللعن.
(3) قليلا كان أو كثيرا جاريا أو غير جار لأنه يقذره ويمنع الناس الانتفاع به، بخلاف البول فلا يكره إلا في الراكد لحديث «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد» متفق عليه، ويرد على إطلاقه الماء الكثير، كالبحار والأنهار الكبار، والماء القليل في المطاهر المعد لذلك فإنه لا يكره تغوطه فيه وعبارة الإقناع:
ويحرم بوله وتغوطه على ما نهي عن الاستجمار به، كروث وعظم، وعلى ما يتصل بحيوان كذنبه ويده ورجله، ويد المستجمر، وعلى ماله حرمة كالمطعوم، وعلى قبور المسلمين وعلى علف دابة ونحوها اهـ ولأبي داود عن مكحول: (نهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال بأبواب المساجد) .(1/137)
(ويستجمر) بحجر أو نحوه (1) (ثم يستنجي بالماء) لفعله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وغيره من حديث عائشة وصححه الترمذي (2) فإن عكس كره (3) ويجزئه الاستجمار حتى مع وجود الماء (4) .
__________
(1) كخشب وخرق وتراب ونحو ذلك، ويجزئه عند الجمهور كما سيأتي.
(2) ورواه النسائي ولفظه (مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء فإني أستحييهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله) ، واحتج به أحمد ولفظ الترمذي بدل يتبعوا (يستطيبوا بالماء) ، وقال: العمل عليه عند أهل العلم يختارون الاستنجاء بالماء، وإن كان الاستنجاء بالحجارة يجزئ عندهم، يستحبون الاستنجاء بالماء، ورأوه أفضل اهـ ولأنه أبلغ في الإنقاء، لأن الحجر يزيل عين النجاسة فلا تباشرها يده، والماء يزيل ما بقي، وقد أثنى الله على أهل مسجد قباء فقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قالوا: (إنا نتبع الحجارة الماء) رواه البزار.
(3) نص عليه وذلك بأن استنجى بالماء ثم استجمر لأنه لا فائدة فيه.
(4) في قول أكثر أهل العلم لحديث جابر مرفوعا «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أحمد وأبو داود، وصححه الدارقطني ويجزئ بضم أوله، مهموز الآخر، أي يخرج عن العهدة الاستجمار بكل جامد منق، وأجزأني الشيء كفاني، قال الشيخ وغيره، الاستجمار بالأحجار وتواترت به السنة، وأجمع المسلمون على جواز الاجتراء به، ولا يكره الاقتصار
عليه على الأصح، وقال الشارح وغيره، يجزئ الاستجمار بثلاثة أحجار إذا حصل الإنقاء بغير خلاف علمناه للنص والإجماع.(1/138)
لكن الماء أفضل (1) (إن لم يعد) أي يتجاوز (الخارج موضع العادة) (2) مثل أن ينتشر الخارج على شيء من الصفحة (3) أو يمتد إلى الحشفة امتدادا غير معتاد، فلا يجزئ فيه إلا الماء (4) كقبلي الخنثى المشكل (5) .
__________
(1) أي من الحجر لأن الماء يزيل العين، ولحديث أبي هريرة في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال: (يستنجون بالماء) ، قال الشيخ: المشهور على أن الاقتصار على الماء أفضل، ولو مع مباشرة النجاسة نص عليه وهو قول أكثر الفقهاء لحديث أنس «فيستنجى بالماء» متفق عليه.
(2) المستمرة وهو ما عاد إليه مرة بعد أخرى.
(3) يعني باطن الألية المستتر بالانطباق عند القيام.
(4) للمتعدي فقط، لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء، وإنما رخص في الاستجمار لتكرر النجاسة على المحل المعتاد فإذا جاوزوه خرج عن حد الرخصة وحده الشيخ: بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر، وإذًا يتعين الماء، وصرح به ابن عقيل وغيره، وفي الاختيارات ويجزئ الاستجمار ولو تعدى الخارج إلى الصفحتين لعموم الأدلة، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك تقدير.
(5) أي وكذا الخارج من أحدهما فلا يجزئ فيه إلا الماء، لأن الأصلي منهما غير معلوم، والاستجمار لا يصح إلا في أصلي، قال النووي: والمشكل أن يكون له فرج المرأة وذكر الرجل، أو لا يكون له واحد منهما، بل له ثقبة يخرج منها الخارج، ولا تشبه واحدا منهما.(1/139)
ومخرج غير فرج (1) وتنجس مخرج بغير خارج (2) ولا يجب غسل نجاسة وجنابة بداخل فرج ثيب (3) ولا داخل حشفة أقلف
غير مفتوق (4) ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوها كخشب وخرق (5) .
__________
(1) سواء تنجس بخارج منه أو بغيره، فلا يجزئ فيه إلا الماء، ولو انسد المخرج المعتاد، لأنه نادر فلا يثبت له أحكام الأصلي، من انتقاض وضوء بلمس، ومن تعلق أحكام الوطء بالإيلاج فيه ونحو ذلك.
(2) منه أو به وجف قبل استجمار فلا يجزئ فيه إلا الماء.
(3) فلا تدخل يدها ولا أصبعها مهما أمكن بل ما ظهر فقط نص عليه واختاره المجد والشيخ وغيرهما، وصححه في تصحيح الفروع وغيره.
(4) الأقلف بين القلفة، وهو الذي لم يختن، بخلاف المفتوق مشقوق القلفة فيجب غسلها، لعدم المشقة فيه، جزم به غير واحد.
(5) وتراب ونحو ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام «بثلاثة أحجار أو بثلاثة أعواد أو بثلاث حثيات من تراب» ، رواه الدارقطني، وللبيهقي عن طاوس نحوه.
وروي عن مولى ابن عمر قال: (كان إذا بال قال: ناولني شيئا استنجي به فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطا يتمسح به، أو يمسه الأرض، ولم يكن يغسله) وقال: إنه أصح ما في الباب وأعلاه اهـ ولقوله «بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع» ، ولنهيه «أن يستنجى بعظم أو روث» فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه، لما كان للاستثناء معنى ولا حسا.
وقال الشيخ: أمر بالاستجمار بثلاثة أحجار. فمن لم يجد فثلاث حثيات
من تراب، وأمره بالاستجمار بالأحجار، لم يخص الحجر، إلا لأنه كان
الموجود غالبا، لا لأن الاستجمار بغيره لا يجوز، بل الصواب قول
الجمهور في جواز الاستجمار بغيره، كما هو أظهر الروايتين عن أحمد لنهيه عن الاستجمار بالعظم والروث، وقال أبو حامد هو قول كافة العلماء، إلا داود وقال أبو الطيب: مذهبه الجواز، وقال الشارح: هو قول أكثر أهل العلم، وقال ابن القيم: فلو ذهب معه بخرقة وتنظف أكثر من الأحجار، أو بقطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز، وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز وأولى.(1/140)
(أن يكون) ما يستجمر به (طاهرا) مباحا (1) (منقيا (2) غير عظم وروث) ولو طاهرين (3) .
__________
(1) فلا يصح بنجس وفاقا للشافعي، لما رواه البخاري «ولا تأتني بعظم ولا روث» ولحديث ابن مسعود (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال «هذا رجس» ) أي نجس رواه البخاري ولأنه إزالة النجاسة أشبه الغسل ولا يصح بمغصوب أو ذهب أو فضة، لأنه رخصة فلا يستباح بها، وعنه يصح وفاقا، واختاره الشيخ، وهو ظاهر كلام الموفق، لأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقي بل لإفساده.
(2) اسم فاعل من أنقى فلا يجزئ بأملس من نحو زجاج إذا المقصود الإنقاء، ولا يحصل به لعدم حصول المقصود منه، ولا يجزئ بشيء رخو، وندي ورطب لامتزاجه بالخارج فيزيد المحل نجاسة. ويجزئ الاستجمار بعده بمنق.
(3) أي العظم والروث، فلا يجزئ لحديث «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم والترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، وعن أبي هريرة (نهى أن يستنجى بعظم أو روث) ، وقال: «إنهما لا يطهران» رواه ابن خزيمة وغيره، وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إسناده جيد، وقال الشيخ: الاستنجاء بالرجيع لا يجوز بحال، إما لنجاسته، وإما لكون علفا لدواب إخواننا من الجن، وقد تنازع العلماء إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار، أو استجمر بمنهي عنه كالروث والرمة واليمين هل يجزئه؟ والصحيح أنه إذا استجمر بأقل من ثلاثة أحجار فعليه تكميل المأمور به، وأما إذا استجمر بالعظم واليمين فإنه قد يجزئه، فإنه قد حصل المقصود بذلك، وإن كان عاصيا، والإعادة لا فائدة فيها، ولكن يؤمر بتنظيف العظم مما لوثه به، قال الزركشي، وهو جيد والروث للفرس والبغل والحمار والخثي بكسر فسكون للبقر والفيل، والبعر للإبل والغنم والأرانب، والعذرة للإنسان.(1/141)
(وطعام) ولو لبهيمة (1) (ومحترم) ككتب علم (2) (ومتصل بحيوان) كذنب البهيمة (3) وصوفها المتصل بها (4) ويحرم الاستجمار بهذه الأشياء (5) وبجلد سمك أو حيوان مذكى مطلقا (6) أو حشيش رطب (7) .
__________
(1) لما تقدم من النهي عن طعام الجن، فطعام الإنس أولى وقال الشيخ: الاستجمار بطعام الآدميين وعلف دوابهم أولى بالنهي عنه من طعام الجن وعلف دوابهم.
(2) شرعي تعظيما وما فيه ذكر الله تعالى قال في الإنصاف: هذا لا شك فيه، ولا نعلم ما يخالفه، وقيل وكتب مباحة كالعروض ونحوه، وصريح كلامهم أن الحروف ليست محترمة لذاتها.
(3) وكيدها، ورجلها.
(4) لأن له حرمة، فهو كالطعام.
(5) المستثناة كلها، للنهي عن الاستجمار بها من غير وجه.
(6) دبغ أولا ويحتمل أيضا أن معناه سواء يؤكل أم لا متصلا، أم لا.
(7) لأنه زاد البهائم، فهو أولى من الروث الذي هو علف بهائم الجن، كما تقدم ولا يحصل به الانقاء، ومفهومه أن اليابس يصح، وهو مقيد بما إذا لم يكن طعاما وإلا فلا لوجود العلة والحكم يدور مع علته.(1/142)
(ويشترط) للاكتفاء بالاستجمار (ثلاثة مسحات منقية (1) فأكثر) إن لم يحصل بثلاث، ولا يجزئ أقل منها (2) ويعتبر أن تعم كل مسحة المحل (3) ولو كانت الثلاث بحجر ذي شعب، أجزأت إن أنقت (4) وكيفما حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأ (5) وهو أن يبقي أثر لا يزيله إلا الماء (6) .
__________
(1) أي منظفة، ونقي بالكسر نقاوة بالفتح فهو نقي أي نظيف، والتنقية التنظيف ولأحمد «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا» وعن سلمان «نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار» رواه مسلم وهذا نص صحيح صريح في أن استيفاء الثلاث لا بد منه وذلك إن لم يستعمل الماء فإنه لا بد من الثلاث الأحجار أو ما يقوم مقامها واشتراط الإنقاء مجمع عليه حكاه النووي وغيره.
(2) أي الثلاث مسحات، للأخبار، قال الشيخ: عليه تكميل المأمور به، وإن أنقى بدونه اهـ، وإن لم ينق كرر، لأن الغرض إزالة النجاسة فيجب التكرار إلى أن تزول ليحصل المقصود ولأحمد «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات نصف الحشفة والألية» ، وصوب النووي وغيره وجوب الثلاث.
(3) لأنها إن لم تكن كذلك لم تكن مسحة بل بعضها.
(4) لما روي أحمد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات» فبين أن الغرض عدد المسحات لا الأحجار، ولأنه يحصل بالشعب الثلاث ما يحصل بالأحجار الثلاثة من كل وجه، فلا فرق، وهذا إن أنقت وإلا زاد حتى ينقي، والشعب الأطراف، والشعبة الطائفة والقطعة من الشيء، قال ابن عقيل: لو مسح بالأرض أو الحائط في ثلاثة مواضع فهو كالحجر الكبير، ولا يكرره في موضع واحد خشية التلويث.
(5) أي: وأي صفة حصل بها الإنقاء كفى، لأن المقصود إزالة النجاسة.
(6) قال الشيخ: علامة الإنقاء أن لايبقى في المحل شيء يزيله الحجر.(1/143)
وبالماء عود خشونة المحل كما كان، مع السبع الغسلات (1) ويكفي ظن الإنقاء (2) ويسن قطعه أي قطع ما زاد على الثلاث على وتر (3) فإن أنقى برابعة زاد خامسة وهكذا (4) ويجب الاستنجاء بماء أو حجر ونحوه (5) لكل خارج من سبيل (6) .
__________
(1) أي كما كان قبل خروج الخارج، لزوال لزوجة النجاسة وآثارها مع السبع الغسلات، أي فلا بد من اعتبار العدد، وعنه لا يعتبر قال الشيخ: هذا المشهور، وصححه في تصحيح المحرر والفروع وغيرهما، ولم يحد الشارع في ذلك عددا ويأتي.
(2) أي ويكفي في زوال النجاسة غلبة الظن، جزم به جماعة، لأن اعتبار اليقين هنا حرج، وهو منتف شرعا، ويسترخي قاضي الحاجة قليلا فلا يضم شرج مقعدته لئلا يبقى شيء.
(3) بكسر الواو وفتحها، لغتان مشهورتان فصيحتان، نقلهما الزجاج وغيره فبالكسر لغة أهل نجد، وبالفتح لغة أهل الحجاز، والوتر الفرد، وما لم يشفع بعدد.
(4) أي إن انقى بسادسة زاد سابعة، لحديث «من استجمر فليوتر» متفق عليه، وليس بواجب لقوله، «من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» رواه أبو داود.
(5) كخرق وخشب وتراب.
(6) معتادا كان الخارج كالبول أولا كالمذي، ولو نادرا كالدود، لقوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فعم كل مكان ومحل من ثوب وبدن، ولعموم الأحاديث، والقول به في الجملة قول أكثر أهل العلم، وقال في الإنصاف: أما النجس الملوث فلا نزاع في وجوب الاستنجاء منه.(1/144)
إذا أراد الصلاة ونحوها (1) (إلا الريح) (2) والطاهر وغير الملوث (3)
(ولا يصح قبله) أي قبل الاستنجاء بماء أو حجر ونحوه (وضوء ولا تيمم) (4) لحديث المقداد المتفق عليه: «يغسل ذكره ثم يتوضأ» (5) .
__________
(1) كمس مصحف ووجوب الشرط بوجوب المشروط قال ابن الجوزي: لا تجب الطهارة عن حدث ونجس قبل إرادة الصلاة، بل تستحب.
(2) لأن الغسل إنما يجب لإزالة النجاسة، ولا نجاسة فيها، وقال أحمد: ليس في الريح استنجاء لا في كتاب الله ولا سنة رسوله اهـ وهو مذهب مالك وغيره، وقول فقهاء الأمصار، قاله الشيخ وغيره، وقال الشارح: لا نعلم فيه خلافا ولأنه عرض بإجماع الأصولين.
(3) أي وإلا الخارج الطاهر كالمني، والولد العاري عن الدم، وغير الملوث أي غير الخارج النجس الملوث، كالبعر الناشف والحصا، لأن الاستنجاء إنما شرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف، وقال: كيف يستنجي أو يستجمر من طاهر، وهذا من أشكل ما يكون.
(4) أي لايصح وضوء قبل الاستنجاء بماء أو حجر ونحوه إذا كان على المخرج نجاسة، اختاره الأكثر، وقال الشيخ هذا الأشهر، لأنه طهارة يبطلها الحدث فاشترط تقديم الاستنجاء عليه، ولا يصح تيمم لأنه لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، ولا تباح مع قيام المانع، وظاهره سواء كان التيمم عن حدث أصغر أو أكبر أو نجاسةوعنه يصح الوضوء وفاقا، وجزم به في الوجيز، قال في مجمع البحرين، هذا أقوى الروايتين، واختاره الموفق والشارح وغيرهما، وصححه في النظم والتصحيح وغيرهما، وكذا التيمم قياسا على الوضوء.
(5) وهذا لفظ النسائي، وقال الحافظ منقطع ولفظ مسلم «يغسل ذكره ويتوضأ» ولأحمد وأبي داود ونحوه، ولفظ البخاري «توضأ واغسل ذكرك»
قال الحافظ: ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاري بالعكس، وفي لفظ لمسلم «اغسل ذكرك وتوضأ» وفي بعض الروايات «توضأ وانضح فرجك» ، والواو لا تقتضي الترتيب، بل لمطلق الجمع على المشهور، قال النووي: والسنة أن يستنجي قبل الوضوء، ليخرج من الخلاف ويأمن انتقاض طهره اهـ ومشروعيته قبل الوضوء والتيمم لا نزاع فيها، والمقداد هو عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود النهراني، وقيل الحضرمي، أصاب دما في قومه، فلحق بحضرموت فحالف الأسود بن عبد يغوث الكندي فقيل المقداد بن الأسود، أول فارس في الإسلام توفي سنة ثلاث وثلاثين.(1/145)
ولو كانت النجاسة على غير السبيلين (1) أو عليهما غير خارجة منهما صح الوضوء والتيمم قبل زوالها (2) .
__________
(1) صح الوضوء والتيمم قبل زوالها.
(2) أي النجاسة: لأنها غير خارجة من السبيلين، لكنها مقيدة بكونها غير مانعة، وإلا فلا، والفرق بين ما إذا كانت النجاسة خارجة منه، وبين ما إذا كانت عليه غير خارجة منه، ففي الأولى موجبة للطهارة، فاشترط لصحتها زوالها مهما أمكن أثرا أو عينا فقط، بخلاف الثانية فإنها غير موجبة للطهارة فلم يشترط لصحتها زوالها، ولهذا لا يجزئ الاستجمار فيها بخلاف الأولى.(1/146)
باب السواك وسنن الوضوء (1)
وما ألحق بذلك من الإدهان والاكتحال (2) والاختتان والاستحداد ونحوها (3) .
__________
(1) قيل: إن أول من استاك الخليل عليه السلام وأنه أول من شاب وهو ابن مائة وخمسين سنة، وأول من اختتن، وجاء أنه من سنن المرسلين، والسواك يذكر ويؤنث والأكثر على تذكيره وجمعه سوك ككتب ويقال سؤك بالهمزة مشتق من التساوك وهو التمايل، والتردد ومنه جاءت الإبل تساوك، أي تمايل هزالا لأن السواك يتردد في الفم، أو من ساك الشيء إذا دلكه، واستن الرجل استنانا استاك، والوضوء بالضم اسم للفعل الذي هو المصدر، وبالفتح اسم للماء الذي يتوضأ به.
(2) أي ما ألحق بالسواك وسنن الوضوء لما له به من التعلق، أو المقاربة من الإدهان بالكسر، والدهن بالفتح مصدر، والدهن بالضم الاسم، من دهن الشيء إذا بله، وكذا الاكتحال، وهو مصدر وكحل العين يكحلها كحلا جعل فيها الكحل، والكحل الإثمد وكلما وضع في العين يستشفي به، والإكحال أصناف كثيرة معروفة، لها أسماء متعددة، يصنعونها من مواد تناسب أمراض العيون.
(3) أي نحو ما ألحق بذلك كتقليم الأظفار، وقص الشارب، وإعفاء اللحيةوإبقاء شعر الرأس، وغير ذلك وأدخلوها في الباب لكونها من خصائص الفطرة فإنهم قد يذكرون في الباب أشياء لها تعلق بمقصود الباب، وإن لم تكن مما ترجم له وذكر سنن الوضوء في هذا الباب لكون السواك من آكدها، والاختتان مصدر والختان اسم من الختن، وموضع القطع من الذكر والأنثى، والاستحداد هو حلق العانة سمي استحدادا لاستعمال آلة الحديد فيه وهي الموسى ونحوها.(1/147)
السواك والمسواك: اسم للعود الذي يستاك به، ويطلق السواك على الفعل (1) أي دلك الفم بالعود لإزالة نحو تغير، كالتسوك (2) (التسوك بعود لين) سواء كان رطبا أو يابسا (3) مندى من أراك أو زيتونا أو عرجون أو غيرها (4) (منق) للفم (غير مضر) (5) .
__________
(1) قاله الشيخ وغيره، والمسواك بكسر الميم.
(2) أي والسواك شرعا استعمال العود في الأسنان لإزالة نحو تغير كصفرة ورائحة، كالتسوك أي كما يطلق التسوك على الفعل يطلق عليه السواك، فالمراد بالسواك الاستياك.
(3) الرطب ضد اليابس، وهو الأخضر وهو أبلغ في الإنقاء.
(4) أي مما يستاك به، كقتاد ونحوه، واقتصر بعضهم على الثلاثة، وقال الآزجي، لا يعدل عنها إلا لتعذرها والمندى المبلول قال ابن القيم: وأجود ما استعمل مبلولا بماء الورد اهـ ثم بالماء ثم بالريق، ثم اليابس غير المندى، والأراك واحدته أراكة. شجر من الحمض معروف له حمل كعناقيد العنب، يستاك بفروعه وعروقه، وهي أجود، وهو أفضل ما استيك به، وأكثر ما استعمل عند العرب، وفي حديث أبي خيرة وكان في وفد عبد القيس، قال: فأمر لنا بأراك فقال: استاكوا بهذا، ولأبي يعلي عن ابن مسعود: كنت اجتنيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأحمد عنه موقوفا، والزيتون شجر عظيم النفع، طويل البقاء في الأرض، حتى إنه قد يجاوز ألف سنة وهي يحي ويثمر، ويقال لدهنه الزيت ولثمره الزيتون، والعرجون واحد العراجين وهو شماريخ العذق، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العراجين.
(5) أي منظف: غير جالب للضرر.(1/148)
احترازا من الرمان والآس وكل ما له رائحة طيبة (1) (لا يتفتت) ولا يجرح (2) ويكره بعود يجرح أو يضر أو يتفتت (3) و (لا) يصيب السنة من استاك (بإصبعه وخرقة) ونحوهما (4) .
__________
(1) أي وكل عود ذكي الرائحة، والآس هو المعروف بالريحان عند بعض العامة وهو شجر ورقة عطر، قيل إنه مضر بلحم الفم.
(2) أي لا يتكسر وفتات الشيء بضم الفاء ما تكسر منه، ولا يجرح أي لا يشق وجرحه كقطعه.
(3) أي يجرح فمه أو يضره كالرمان، والطرفاء، والقصب الفارسي ونحوها، أو يتفتت في فيه، لأن ذلك مضاد لغرض السواك.
(4) كإشنان أي يخطئ السنة، والصواب الحق، وضد الخطأ والأمر الثابت في نفس الأمر، الذي لا يسوغ إنكاره وقالت طائفة من أهل العلم: بل يصيب السنة، واختاره ابن عبدوس، وصححه في التصحيح والنظم، وقالت طائفة: عند عدم السواك قال في الإنصاف: وما هو ببعيد واختار المجد وغيره بالإصبع في المضمضة، وقال النووي وغيره: وبأي شيء استاك مما يزيل التغير حصل الاستياك كالخرقة والسعد والإشنان والإصبع، وهذا مذهب أبي حنيفة، لعموم ما ورد، وفي المغني والشرح وغيرهما أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن أكثرها، وذكرا أنه الصحيح، وروى البيهقي والحافظ في المختارة وقال: لا بأس بإسناده عن أنس مرفوعا، يجزي من السواك الأصابع، وفي المغني بلفظ أصبعيك سواك، عند وضوئك أمرهما على أسنانك وعن علي في صفة الوضوء: فأدخل بعض أصابعه في فيه، رواه أحمد، وروي عنه أيضا التشويص بالمسبحة والإبهام سواك، وفي الطبراني عن عائشة قالت: يدخل إصبعه في فيه، وإصبع بكسر الهمزة وفتح الباء معروفة، تذكر وتؤنث، وفيها عشر لغات، فتح الهمزة، وضمها وكسرها مع الحركات الثلاث في الباء، والعاشرة أصبوع.(1/149)
لأن الشرع لم يرد به (1) ولا يحصل به الإنقاء كالعود (2) (مسنون كل وقت) خبر قوله: التسوك أي يسن كل وقت لحديث «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» (3) رواه الشافعي وأحمد وغيرهما (4) (لغير صائم بعد الزوال) فيكره فرضا كان الصوم أو نفلا (5) .
__________
(1) وكذا حكاه بعض الأصحاب ولعل من قال به لم يبلغه ما ورد مما تقدم وغيره.
(2) أي لا يحصل بالإصبع والخرقة ونحوهما الإتقاء، كما يحصل بالعود.
(3) بأن يكون في حال كمال ونظافة إظهارًا لشرف العبادة، والرب بالتعريف لا يطلق إلى على الله تعالى، ومطهرة بفتح الميم وكسرها كل آلة يتطهر بها، شبه السواك بها لأنه ينظف الفم، والطهارة النظافة، وورد في فضل السواك أكثر من مائة حديث، حتى عد في المتواتر، واتفق العلماء على أنه سنة مؤكدة، لحث الشارع ومواظبته عليه، وترغيب فيه، وندبه إليه، قال في المبدع: وليس بواجب إجماعا لخبر أبي هريرة وغيره، وقيل بوجوبه، وقال النووي: سنة وليس بواجب في حال من الأحوال، لا في الصلاة ولا في غيرها بإجماع من يعتد به في الإجماع اهـ.
وقول بعض أهل العلم بوجوبه يدل على آكدية سنيته، قال الشارح: لا نعلم خلاف في استحبابه وتأكده وإن أكل نجسا وجب إزالة دسومته بسواك أو غيره.
(4) فرواه النسائي وابن خزيمة والبخاري تعليقا عن عائشة مرفوعا، قال النووي: بأسانيد صحيحة، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم، القرشي المكي أحد الأئمة الأربعة المتوفي سنة أربع ومائتين.
(5) هذا المذهب وهو قول الشافعي.(1/150)
وقبل الزوال يستحب له بيابس (1) ، ويباح برطب (2) لحديث «إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشى» ، أخرجه البيهقي عن علي رضي الله عنه (3) (متأكد) خبر ثان للتسوك (4) (عند صلاة) فرضًا كانت أو نفلاً (5) .
__________
(1) قولا واحدا.
(2) يعني قبل الزوال، والفرق بين الرطب واليابس: أن الرطب له أجزاء تتحلل واليابس ليس له أجزاء تتحلل.
(3) لكن قال الحافظ: إسناده ضعيف ولا يعارض به ما تواتر من الأحاديث المطلقة وعن أحمد يسن مطلقا، اختاره الشيخ وتلميذه وغيرهما، واستظهره في الفروع، وقال الزركشي، هو أظهر دليلا وهو قول أكثر العلماء، وهو المختار لحديث عائشة «خير خصال الصائم السواك» ، رواه ابن ماجه، ولحديث عامر رأيته ما لا أحصي يستاك وهو صائم، رواه أصحاب السنن والبخاري تعليقا، وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخره، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر وابن عباس وعائشة وجمع، ومذهب مالك وأبي حنيفة عدم الكراهة ونقل عن الشافعي، واختاره جماعة من أصحابه، قاله غير واحد فهو مذهب جمهور الأئمة، وأكثر الأحاديث الواردة فيه تدل على استحبابه للصائم بعد الزوال، كما يستحب قبله، والإطلاق في سائرها يدل عليه، ولم يثبت في كراهته شيء، والخلوف ليس في محل السواك إنما هو من أبخرة المعدة، ومرضاة الرب أطيب من ريح المسك، والقياس يقول بموجبه، حكاه الشيخ وغيره.
(4) أي التسوك مسنون استنانا متأكدا، بمعنى أن طلبه مؤكد زيادة على سائر الأوقات ولهذا كانت السنة المؤكدة قريبة من الواجب في لحوق الإثم.
(5) لحديث أبي هريرة مرفوعا لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند
كل صلاة رواه الجماعة، وروى أبو نعيم بسند جيد لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي بسبعين ركعة، يعني بلا سواك، ولأنا مأمورون في كل حال من أحوال التقرب إلى الله أن نكون في حال كمال ونظافة، لا سيما طرق ومجاري الذكر والتلاوة، إظهار لشرف العبادة.(1/151)
(و) عند (انتباه) من نوم ليل أو نهار (1) (و) عند (تغير) رائحة (فم) بمأكول أو غيره (2) وعند وضوء وقراءة (3) .
__________
(1) أي عند استيقاظ من نبهه من نومه، أيقظه لحديث حذيفة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، رواه الجماعة إلا الترمذي، والشوص الدلك ولأحمد وأبي داود عن عائشة: لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ وله شواهد.
(2) ككثرة كلام، وإطالة سكوت، أو وجوع، أو عطش لأن السواك مشروع لتطيب الفم، وإزلة رائحته، فتأكد عند تغيره، وحكى الوزير الاتفاق على استحبابه عند تغير الفم، والفم مثلث الفاء، أصله فوه حذفت منه الهاء فعوضت منها الميم، واقتصر المنقح والموفق وغيرهما على هذه الثلاثة، والأدلة ظاهرة في تأكدها.
(3) أي ومتأكد عند وضوء حال المضمضة لحديث أبي هريرة لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، ورواه أحمد ومالك وغيرهما بإسناد صحيح. والبخاري تعليقا وله شواهد قال الحافظ بعضها حسن، وقال بعض أهل العلم: مستحب لأن السنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم والذين نقلوا وضوءه لم يذكروه، فغاية ما يفيد هذا الخبر الندب، فيكفي التعبد به أحيانا. ويستحب عند قراءة القرآن، تطييبا للفم، لحديث علي مرفوعا إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك، رواه ابن ماجه وأبو نعيم والبزار، ولفظه طيبوا أفواهكم بالقرآن والموقوف أشبه، وحكى ابن الجوزي وغيره الاستحباب فيهما.(1/152)
زاد الزركشي والمصنف في الإقناع: ودخول مسجد، ومنزل، وإطالة سكوت، وخلو المعدة من الطعام، واصفرار الأسنان (1) .
__________
(1) الزركشي هو محمد بن عبد الله بن محمد المصري صاحب شرح الخرقي الذي لم يسبق إلى مثله، وله غيره توفي سنة سبعمائة وأربع وسبعين والمصنف الحجاوي، مصنف المتن (زاد المستنقع) وله الإقناع الكتاب المشهور في مذهب أحمد، وعليه المعول في الديار الشامية والمصرية والحجازية والنجدية وغيرها، أي زاد تأكد السواك عند دخول مسجد ومنزل إلخ، وسألت عائشة: بأي شيء كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يته؟ قالت: بالسواك، رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي, والمسجد أولى، وكذا يتأكد عند إطالة سكوت، لما يتولد من البلغم، وعند خلو المعدة من الطعام، لما يتولد منه من الرائحة المستكرهة، والمعدة هي مقر الطعام والشراب، وموضع هضمه قبل انحداره إلى الأمعاء، سميت بذلك لشدتها أو لجذبها الطعام، أو لدفعها إياه.
ويتأكد عند الطواف والخطبة، وأكل المنتن ونحوه، وبعد الوتر وفي السحور وغير ذلك، ويتأكد عند اصفرار الأسنان، جمع سن بكسر السين، والإصفرار مصدر، والصفرة لون الأصفر، فالسواك باعتدال يطيب الفم، والنكهة ويجلو الأسنان، ويقويها ويشد اللثة ويزيل رخاوتها ويمنع الحفر والسلاق وهو التقشر في أصول الأسنان أو صفرة تعلوها، ويقطع البلغم، ويصفي الحلق، والصوت، ويفصح اللسان ويقوي القلب، ويزيد في العقل، ويذكي الفطنة، ويحسن الخلق بفتح الخاء، ويحلو البصر، ويقطع الرطوبة من العين، ويقوي عصبها، ويصحح المعدة، ويقيم الصلب، ويعين على الهضم، ويشهي الطعام، ويسهل مجاري الدم، وينشط، ويطرد النوم، ويخفف عن الرأس وفم المعدة، ويضاعف الأجر، ويرضي الرب، ويسخط الشيطان. ويزيد في ثواب الصلاة. والذكر. ونحو ذلك.(1/153)
(ويستاك عرضا) استحبابا بالنسبة إلى الأسنان (1) بيده اليسرى على أسنانه ولثته ولسانه (2) ويغسل السواك (3) ولا بأس أن يستاك به اثنان فأكثر (4) .
__________
(1) لا بالنسبة إلى الفم، لأنه إذا فعل طولا أدمي اللثة، وأفسد عمور الأسنان وإنما ينبغي أن يستاك من ثناياه إلى أضراسه، وذلك عرض بالنسبة إلى الأسنان وطول بالنسبة إلى شق الفم، وروى أبو داود في مراسيله أنه عليه الصلاة والسلام قال: استاكوا عرضا ورواه الطبراني والضياء بلفظ: أنه كان يستاك عرضا، وضعفه.
(2) على الصحيح من المذهب وجزم به في الفائق، وقال الشيخ: ما علمت إماما خالف في الاستياك باليسرى، لأن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم، وهذه العلة متفق عليها اهـ على أسنانه أي يضع طرف السواك على أسنانه، وعلى لثته بكسر اللام وفتح المثلثة مخففة، هي ما حول الأسنان من اللحم، قاله الجوهري وقال غيره: هي اللحم الذي تنبت فيه الأسنان، فأما اللحم الذي يتخلل الأسنان فهو عمر، بفتح فسكون وجمعه عمور وكذا يضع طرف السواك على لسانه كما في الصحيحين والسواك على لسانه وفيهما عن أبي موسى، فرأيته يستاك على لسانه ولأحمد وهو يستاك وهو واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق فوصف حماد كأنه يرفع سواكه، قال ووصفه غيلان كأنه يستاك طولا، فإن سقطت أسنانه استاك على لثته ولسانه، قال في الشرح: إن استاك على لسانه أو حلقه فلا بأس أن يستاك طولا.
(3) أي يغسل ما على السواك إن كان، للحديث الآتي وغيره.
(4) لحديث عائشة: كان يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه، وعنها كان يستن وعنده رجلان، فأوحي إليه، أعط السواك أكبرهما رواهما أبو داود.(1/154)
قال في الرعاية: ويقول إذا استاك: اللهم طهر قلبي ومحص ذنوبي (1) قال بعض الشافعية: وينيوي به الإتيان بالسنة (2) (مبتدئا بجانب فمه الأيمن) (3) فتسن البداءة بالأيمن في سواك (4) وطهور وفي شأنه كله (5) غير ما يستقذر (6) (ويدهن) استحبابا (غبا) يوما يدهن ويوما لا يدهن (7) لأنه صلى الله
__________
(1) استحبابه في هذا الموضع فيه نظر، لعدم وروده فيه بخصوصه، وإن كان الدعاء به ونحوه مشروعا في الجملة.
(2) القائل به ابن حجر كما صرح به في الإمداد، وذلك لأن السواك مما يتعبد به.
(3) قال في المبدع والإقناع، من ثناياه إلى أضراسه.
(4) قال في الإنصاف: مستحب بلا نزاع أعلمه.
(5) طهور بضم الطاء. أي تطهر كوضوء وغسل، وإزالة نجاسة، لحديث عائشة كان يحب التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله متفق عليه ولأبي داود وسواكه قال منصور: وقد يحمل على أنه كان يبدأ بشق فمه الأيمن في السواك.
(6) مما تقدم بيانه في باب الاستنجاء، من دخول خلاء ونحوه وغير ذلك مما فيه مرجوحية.
(7) غب عن القوم يغب غبا أتاهم يوما وترك يوما، وغبت الماشية شربت يوما وظمئت يوما، وقال النووي: هو أن يدهن ثم يترك حتى يجف، ثم يدهن ثانيا، وقال في الفروع: وظاهره أن اللحية كالرأس وفي شرح العمدة: ودهن البدن.(1/155)
عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غبا (1) رواه النسائي والترمذي وصححه (2) والترجل تسريح الشعر ودهنه (3) (ويكتحل) في كل عين (وترا) ثلاثا، بالإثمد المطيب (4) كل ليلة قبل أن ينام لفعله عليه السلام، رواه أحمد وغيره عن ابن عباس (5) .
__________
(1) والمراد النهي عن المواظبة عليه، لأنه مبالغة في التزيين وتهالك في التحسين ونهى عليه الصلاة والسلام أن يمتشط كل يوم، ويجوز كل يوم لحاجة، لخبر أبي قتادة: وكان له جمة، فأمره أن يحسن إليها، رواه النسائي، ورجاله رجال الصحيح.
واختار الشيخ فعل الأصلح للبدن، كالغسل بماء حار ببلد رطب، لأن المقصود ترجيل الشعر، ولأنه فعل الصحابة، وأن مثله نوع الملبس والمأكل ولما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباسه اهـ ويستحب إصلاحه إذا شعث لقوله: أما يجد ما يسكن به شعره؟ رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(2) أي الترمذي، ورواه أحمد وأبو داود وغيرهم.
(3) تسريحه إرسال وحله قبل المشط، يقال سرح الشعر خلص بعضه من بعض.
(4) بالمسك ونحوه في كل عين، لحديث أبي هريرة من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والإثمد بالكسر معدن، حجر معروف، يكتحل به، أسود سريح التفتت، وإذا تفتت كان لفتاته بريق ولمعان، ولكان ذا صفائح، أملس الباطن، ومعدنه بأصبهان، وهو أجوده وبالمغرب وهو أصلب، والكحل المطيب أي المضمخ بالطيب.
(5) ولفظه: كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال، ورواه ابن ماجه والترمذي وحسنه، وقال: روي من غير وجه أنه قال: عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر، وكان له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه، ولأبي داود: إن خيرا كحالكم الإثمد وللطبراني فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذى مصفاة للبصر.(1/156)
ويسن نظر في مرآة (1) وتطيب (2) (وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر) (3) .
__________
(1) ليزيل ما عسى أن يكون بوجهه من أذى. ويفطن إلى نعمة الله عليه في خلقه، ويقول ما ورد، ومنه اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي، وحرم وجهي على النار رواه ابن مردوية من حديث أبي هريرة، ولأحمد وابن حبان عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرأة قال اللهم كما أحسنت خلقي فحسن خلقي قال المنذري: رواته ثقات.
(2) أي ويسن تطيب، لحديث أبي أيوب مرفوعا أربع من سنن المرسلين الحياء، والتعطر والسواك، والنكاح، رواه أحمد وعن أنس أنه قال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة، رواه أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم، وأفضله المسك، لحديث أبي سعيد مرفوعا قال في المسك، هو أطيب طيبكم رواه مسلم، وعن عائشة: كان يتطيب بذكارة المسك، والعنبر رواه النسائي وغيره، وكان ابن عمر يتجمر بالألوة يعني العود غير مطراة وبكافور يطرح مع الألوة.
ويقول: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستحب للرجال بما ظهر ريحه ويخفي لونه، كالمسك والعنبر والعطر والعود، وعكسه النساء إذا كانت في غير بيتها، وفيه تطيب بما شاءت، لحديث أبي هريرة إن طيب الرجال بما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وعن أبي موسى مرفوعا كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية صححه الترمذي، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب، وروى مسلم من عرض عليه ريحان فلا يرده ولأحمد وغيره بلفظ من عرض عليه طيب فلا يرده، فإن خفيف المحمل طيب الرائحة.
(3) ضد النسيان وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب وإذا كان
الذكر بالضمير فمضموم الذال، وإذا كان باللسان فمكسروها قاله القرطبي، وقال ابن مالك: الذكر بالقلب يضم ويكسر وقال غيره: هما لغتان ومعناهما واحد وذكر بعض أهل العلم في التسمية أربعة أقسام، قسم تجب فيه، وهو الوضوء والغسل. والتيمم وعند الصيد والتذكية وقسم تسن فيه، عند قراءة القرآن والأكل والشرب. والجماع، وعند دخول الخلاء، ونحو ذلك، وقسم لا تسن فيه، كالصلاة والأذان والحج، والأذكار، والدعوات، وقسم تكره فيه: وهو المحرم، والمكروه، لأن المقصود بالتسمية البركة والزيادة وهذان لا يطلب ذلك فيهما، لفوات محلهما، وقيل تحرم عند أكل الحرام، وفي البزازية: اختلف في كفره.(1/157)
أي أن يقول بسم الله لا يقوم غيرها مقامها (1) لخبر أبي هريرة مرفوعا «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وغيره (2) .
__________
(1) كالتسمية المشروعة على الذبيحة، وعند أكل الطعام، ونحو ذلك، ومحلها اللسان بعد النية، قال النووي: والتسمية أن يقول بسم الله، فتحصل السنة. وإن لم يقل الرحمن الرحيم، والأكمل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم اهـ وليس هذا على إطلاقه, وتكفي الإشارة بها من أخرس ونحوه.
(2) فرواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما بسند ضعيف، وروى الترمذي الجملة الأخيرة منه، وله طرق لا تخلو من مقال، إلا أنه قد يقوي بعضها بعضا قال ابن أبي شيبة: تثبت أنه صلى الله عليه وسلم قاله.
وقال المنذري: تتعاضد وتكسبه قوة وبالغ السيوطي حتى عده في المتواتر، وفي التلخيص مجموعها يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا، وقال ابن كثير: يشد بعضها بعضا، فهو حديث حسن أو صحيح اهـ.
وقال بعض أهل العلم: لا وضوء حقيقة في نفسه، فهو نص في أنها ركن أو شرط، وعن أحمد سنة وفاقا. اختاره الخرقي والموفق والشارح وابن المنذر
وغيرهم قال الخلال إنه الذي استقرت عليه الرواية لأن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء ولم يذكر إيجاب التسمية، والحديث قال فيه الحافظ وغيره: يروى بأسانيد كلها ضعاف لا تقوم بها حجة، ولأنها طهارة فلا تفتقر إلى التسمية، وعبادة فلا تجب فيه كسائر العبادات.
قال الشيخ: ولا تشترط التسمية في الأصح، قال أحمد: لا يثبت فيه شيء، ولا أعلم فيه حديثا له إسناد جيد، وقال: أرجو أن يجزئه الوضوء، لأنه ليس في التسمية حديث أحكم به، وقال ابن سيد الناس: روى في بعض الروايات: لا وضوء كاملا، وقال: إن صح فيحمل على تأكد الاستحباب ونفي الكمال بدونها.(1/158)
وتسقط مع السهو (1) وكذا غسل وتيمم (2) (ويجب الختان) عند البلوغ (3) (ما لم يخف على نفسه) (4) .
__________
(1) نص عليه، وإن ذكر في أثنائه سمى وبنى، قال الحجاوي: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب.
(2) أي وكما تجب في الوضوء تجب في الغسل والتيمم قياسا على الوضوء، وتسقط فيهما مع السهو ومع الجهل أيضا في الثلاثة قياسا على واجب صلاة.
(3) لأنه قبله لم يكن مكلفا ولقول ابن عباس: كانوا لا يختتون الرجل حتى يدرك رواه البخاري، وقال الشيخ: يجب إذا وجبت الطهارة والصلاة اهـ والمراهق ينبغي أن يختن لئلا يبلغ إلا وهو مختون، والمقصود تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة وإن تركه من غير ضرر وهو يعتقد وجوبه فقيل يفسق.
(4) تلفا أو ضررا فيسقط وجوبه، قال الشيخ: عليه أن يختتن إذا لم يخف ضرر الختان، فإن ذلك مشروع مؤكد للمسلمين باتفاق الأئمة، وهو واجب عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، قال: وكان ابن عباس يشدد في أمره، حتى قد روي عنه أنه قال: لا حج له ولا صلة، وعند مالك وأبي حنيفة سنة لكن يأثم بتركه واستدل من أوجبه بحديث ألق عنك شعر الكفر واختتن رواه أحمد وأبو داود، وقال الحافظ: فيه انقطاع وبحديث من أسلم فليختتن وقال الزهري: كان الرجل إذا أسلم أمر بالاختتان، وإن كان كبيرا ولقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} وثبت أنه ختن نفسه بالقدوم، ولكشف العورة له، ولو لم يكن واجبا لم يجز كشفا له، وقال ابن المنذر: ليس في وجوب الختان خبر يرجع إليه، والمتيقن السنة، لقوله خمس من الفطرة، وذكر الختان متفق عليه، لكن قد يقرن المختلفان، ويرجع في الضرر إلى الأطباء الثقات، وإذا كان يضره في الصيف أخره إلى الشتاء.(1/159)
ذكرا كان أو خنثى أو أنثى (1) فالذكر بأخذ جلدة الحشفة (2) والأنثى بأخذ جلدة فوق محل الإيلاج تشبه عرف الديك (3) .
__________
(1) أي سواء كان المختون ذكرا أو خنثى أو أنثى، وعنه سنة في حق النساء، لقوله إذا التقى الختانان قال في المغني والشرح: مكرمة للنساء، وليس بواجب عليهن، هذا قول كثير من أهل العلم، ولأنه إنما وجب على الرجال لما يستر الكمرة من الجلدة المدلاة عليها، من أجل أنه لا ينقى ما تحتها، والمرأة ليست كذلك.
(2) أي فختان الذكر بأخذ جلدة غاشية الحشفة، ويقال لها القلفة والغرلة وإن اقتصر على أكثرها جاز. جزم به المجد وغيره.
(3) أي وخفض الجارية بأخذ جلدة فوق محل مدخل الذكر، وهو مخرج الحيض والولد والمنى، وتحت مخرج البول، وتلك الجلدة عالية على الفرج رقيقة مثل الورقة بين الضرة والشفرين، والشفران محيطان بالجميع، فتلك الجلدة الرقيقة تقطع منها في الختان، ويسمى الخفض، فالختان مخصوص بالذكر، والخفاض بالأنثى والإعذار مشترك بينهما، والمقصود من ختان الرجل تطهيره من النجاسة المحتقنة في القلفة ومن المرأة تقليل شهوتها، وعرف الديك لحمة مستطيلة في أعلى رأسه، يشبه به بضر الجارية.(1/160)
ويستحب أن لا تؤخذ كلها (1) والخنثى بأخذهما (2) وفعله زمن صغر أفضل (3) وكره في سابع يوم ومن الولادة إليه (4) .
__________
(1) فإن المقصود هو تعديل شهوتها، فالقلفاء شديدة الشهوة، فإذا قطع من غير مبالغة حصل المقصود باعتدال لقوله صلى الله عليه وسلم أشمى ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه، وأحضى عند الزوج رواه الحاكم والطبراني وغيرهما.
(2) أي أخذ القلفة من ذكره، والجلدة من فرجها، احتياطا والخنثى غير المشكل لا يجب عليه إلا ختن ذكره، إن حكم بأنه رجل، ولا يسن إلا خفض فرجها، إن حكم بأنه امرأة.
(3) وعليه الجمهور لأنه أسرع برءا ولينشأ على أكمل الأحوال قال الشيخ زمن الصغر أفضل، إلى التمييز هذا هو المشهور.
وقال النووي: استحباب ختانه في الصغر هو المذهب الصحيح المشهور، الذي قطع به الجمهور وقال مكحول: ختن إبراهيم ابنه إسحق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة.
قال الشيخ: فكان سنة في ولد إسحاق وولد إسماعيل اهـ.
ولا توقيت في ذلك فمتى ختن قبل البلوغ كان مصيبا وينبغي أن يزاد على الثلاثة المواضع التي المسنون فيها أفضل من الواجب.
قال السيوطي:
الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر
إلا التطهر قبل وقت وابتدا ... ء بالسلام كذاك إبرا معسر
زاد الخلوتي:
وكذا ختان المرء قبل بلوغه ... تمم به عقد الإمام المكثر
(4) أي إلى اليوم السابع للتشبه باليهود قال في الفروع: ولم يذكر كراهته الأكثر وعنه لا يكره، قال الخلال، العمل عليه، وقال ابن المنذر: وليس فيه نهي يثبت ولا لوقته حد يرجع إليه، ولا سنة تتبع، والأشياء على الإباحة، ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة، ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة، وقال أحمد لم أسمع فيه شيئا.(1/161)
(ويكره القزع) وهو حلق بعض الرأس وترك بعض (1) وكذا حلق القفا لغير حجامة ونحوها (2) ويسن إبقاء شعر الرأس، قال أحمد: هو سنة لو نقوى عليه اتخذناه ولكن له كلفة ومؤنة (3) .
__________
(1) مأخوذ من قزع السحاب، وهو تقطعه، وكل شيء يكون قطعا متفرقة فهو قزع، والقزعة الخصلة من الشعر، وتترك على رأس الصبي، وعن ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع متفق عليه. زاد أبو داود وغيره قال: احلقه كله أو دعه كله، وروي أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم وقال احلقوه كله أو دعوه كله، قال ابن القيم: وهو أربعة أنواع: أن يحلق من رأسه مواضع من ههنا ومن ههنا، وأن يحلق وسطه ويترك جوانبه وأن يحلق جوانبه ويترك وسطه، وأن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، فهذا كله من القزع.
(2) أي يكره حلق القفا منفردا عن الرأس لغير حجامة ونحوها، كقروح قال أحمد: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وقال عمر: حلق القفا من غير حجامة مجوسية، والمراد بالقفا مؤخر العنق، جمعه أقف وأقفية، وأقفاء يذكر ويؤنث، ويكره حلق رأس امرأة وقصة لغير ضرورة لا حلق رأس ذكر، كقصه وكره نتف شيب وتغييره بسواد، قال في الفروع، وظاهر كلام أبي المعالي يحرم، وهو متجه وقال النووي: لو قيل يحرم لم يبعد للنهي الصريح، وقال أيضا: الصحيح بل الصواب أنه حرام، وعده بعض أهل العلم من الكبائر.
(3) قال في الفروع: ويتوجه لا إن شق إكرامه.(1/162)
ويسرحه ويفرقه (1) ويكون إلى أذنيه وينتهي إلى منكبيه كشعره عليه السلام (2) ولا بأس بزيادة (3) وجعله ذؤابة (4) ويعفي لحيته (5) ويحرم حلقها ذكره الشيخ تقي الدين (6) .
__________
(1) أي يسن أن يغسله ويسرحه متيامنا لحديث من كان له شعر فليكرمه رواه أبو داود ورجاله ثقات.
قال الحافظ: إسناده جيد، وله شاهد وأخرج مالك يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان، والثائر الشعث بعيد العهد بالدهن والترجيل ويسن أن يفرق شعر رأسه بضم الراء، والفرق الطريق، في شعر الرأس والمفرق وسط الرأس وهو الذي يفرق فيه الشعر.
(2) ففي الصحيحين كان يضرب شعره منكبيه وفي لفظ كان بين أذنيه وعاتقه وللخمسة وصححه الترمذي فوق الوفرة ودون الجمة والمنكب بكسر الكاف مجتمع رأس الكتف والعضد مذكر وجمعه مناكب.
(3) أي على منكبيه وثبت عند أبي داود وغيره عن وائل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ولي شعر طويل فقال ذباب ذباب، قال فجزته والذباب الشؤم أي هذا شؤم.
(4) أي لا بأس يجعله ذؤابة بضم الذال وفتح الهمزة الضفيرة من الشعر إذا كانت مرسلة فإن كانت ملمومة فهي عقيصة.
(5) يعفي بضم الياء أي يوفرها ويتركها على حالها، فلا يأخذ منها شيئا واللحية بكسر اللام، جمعها لحى، بكسر اللام وضمها، اسم للشعر النابت على الخدين والذقن وفي الصحيحين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى، وفيهما خالفوا المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب، وفي رواية أوفوا اللحى أي اتركوها وافية.
(6) وغير واحد من أهل التحقيق، للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد من أهل
العلم وحكى ابن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، والشيخ تقي الدين هو شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية النمري الحراني الدمشقي قريعة الدهر، فارس المعقول والمنقول، بل لم يرزق الإسلام والمسلمون عالما صحيح النظر نير البصيرة متضلعا من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء يضارعه من زمانه إلى يومنا هذا، ولد سنة ستمائة واثنتين وستين وله أكثر من ألف مصنف يكتب الكراسة في المجلس الواحد، وإذا أطلق أكثر متأخري الأصحاب شيخ الإسلام أو الشيخ فمرادهم بذلك شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه، والسلف لا يطلقون شيخ الإسلام إلا على المتبع لكتاب الله وسنة رسوله، مع التبحر في العلوم من المعقول والمنقول. وعلو كعبه في ذلك مشهور، وكان الأصحاب قبل يلقبون الموفق، فلما جاء الله بهذا الحبر اعترف الكل له بهذا اللقب، حيث لم يوجد له نظير. وكثيرا ما نكتفي باختياره، إذ اختياره وترجيحه من الصحة ومساعدة الأدلة بمكان لا يخفى على المطلع المنصف ولا ندعي فيه العصمة، لكن الله خوله الحفظ والفهم، توفي قدس الله روحه بقلعة دمشق سنة سبعمائة وثمان وعشرين.(1/163)
ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة منها (1) وما تحت حلقه (2) ويحف شاربه وهو أولى من قصه (3) .
__________
(1) لفعل ابن عمر، لكنه إنما فعله في الحج، رواه البخاري. وأكثر العلماء يكرهه، وهو أظهر للنهي عنه، فإن الحجة في رواية الصحابي لا في رأيه، وهو رضي الله عنه قد روى النهي عن الأخذ منها.
(2) أي لا يكره أخذ ما تحت حلقه لأنه ليس من مسمى اللحية، ولا بأس بالصبغ بورس وزعفران وأجوده الحناء والكتم، للأمر به، واستعماله له صلى الله عليه وسلم.
(3) أي يسن أن يحف شاربه، لحديث أحفوا الشوارب متفق عليه ولقوله من لم
يأخذ شاربه فليس منا صححه الترمذي، ومنه السبالان، هما طرفاه لما روى أحمد وغيره قصوا سبالاتكم ولا تشبهوا باليهود والشارب ما سال على الفم من الشعر. جمعه شوارب، ويحفه بفتح الياء وضم الحاء أي يحفيه، من حف شاربه يحفه حفا أي أحفاه. قال في النهاية: إحفاء الشوارب أن يبالغ في قصها اهـ. ومعناه الاستقصاء في أخذه، ومنه حتى أحفوه بالمسألة وحفه أولى من قصه، نص عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وما روي بلفظ القص لا ينافي الإحفاء لأن رواية الإحفاء في الصحيحين ومبينة للمراد، وللمرأة حلق وجهها، وحفه نص عليه لا نتفه، ولها تحسينه وتحميره ونحوه مما فيه تزيين له.(1/164)
ويقلم أظفاره مخالفا (1) وينتف إبطه (2) ويحلق عانته (3) .
__________
(1) لحديث خمس من الفطرة الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط رواه الجماعة، ولمسلم عشر من الفطرة والأظفار جمع ظفر. بضم الظاء المشالة، والفاء، على اللغة الفصحى، ويقلم بالتشديد ماضيه: قلم بالتشديد أيضا، وبالتخفيف مع الواحد، ويقال بالتشديد أيضا وتقليمها سنة إجماعا، وصفة المخالفة: أن يبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة، ثم إبهام اليسرى، ثم الوسطى، ثم الخنصر، ثم السبابة ثم البنصر كما قيل: فيمناها خوابس ويسراها أو خسب.
وقال ابن دقيق العيد: ما اشتهر من قصها على وجه مخصوص لا أصل له في الشريعة ولا يجوز اعتماد استحبابه، لأن الاستحباب شرعي لا بد له من دليل.
(2) أي يسن قلع شعر إبطه إجماعا، والإبط بكسر الهمزة وسكون الباء باطن المنكب، جمعه آباط ونتف الشعر ينتفه نتفا نزعها.
(3) أي يسن للرجل والمرأة حلقها إجماعا لحديث أبي هريرة قال النووي: وهل يجب على الزوجة إذا أمرها زوجها أو لا؟ الأصح الوجوب إذا لم يفحش بحيث ينفر التواق، وإلا وجب قطعا، وقال بعضهم: المستحب في حق المرأة النتف، لأن الحلق يكثر الشعر، وقال آخرون: الحلق أولى، لأن النتف يرخي المحل
وكذا التنوير والحلق يشده والعانة منبت الشعر فوق قبل المرأة، وذكر الرجل والشعر النابت عليها يقال له الأسب، والشعرة واستعان حلقه وله قصه ورجح النووي والجمهور أخذ ما عليها، وما حولها.(1/165)
وله إزالتها بما شاء (1) والتنوير فعله أحمد في العورة وغيرها (2) ويدفن ما يزيله من شعر وظفر ونحوه (3) ويفعله كل أسبوع يوم الجمعة قبل الزوال (4) ولا يتركه فوق أربعين يوما (5) وأما الشارب ففي كل جمعة (6) .
__________
(1) أي إزالة الشعر النابت على العانة، ولو ذكره بضمير المذكر لكان أولى، وهو كذلك في نسخة بخط ابن عمير.
(2) من جسده مما له أخذه والتنوير الطلي بالنورة والنورة السمة أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر، وفعله النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه.
(3) كدمه قيل لأحمد: يلقيه أم يدفنه؟ قال: يدفنه وقال كان ابن عمر يفعله.
(4) لما روي البغوي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أظفاره وشاربه كل جمعة.
(5) قيل لأحمد: كم يترك؟ قال أربعين: وفي الصحيح عن أنس: وقت لهم في حلق العانة، ونتف الإبط ونحو ذلك أن لا يترك أكثر من أربعين يوما وليس المراد بالتأخير مطلقا، بل إن أخروها، فمتى طالت أخذوها، ويختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
(6) قال أحمد: لأنه يصير وحشيا، ولا بأس بالحناء إذا اختضب به الرجل في
يديه ورجليه غير قاصد التشبه بالنساء، ولا يريد به الزينة، وقال الشيخ: هو بلا حاجة مختص بالنساء لأنه عليه الصلاة والسلام إذا اشتكى شيئا خضبه بالحناء، ويحرم الوشم للعنه عليه الصلاة والسلام الواشمة والمستوشمة.(1/166)
(ومن سنن الوضوء) وهي جمع سنة وهي في اللغة الطريقة (1) وفي الاصطلاح: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه (2) وتطلق أيضا على أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم (3) وسمي غسل الأعضاء على الوجه المخصوص وضوءا لتنظيفه المتوضئ وتحسينه (4) (السواك) وتقدم أنه يتأكد فيه ومحله عند المضمضة (5) .
__________
(1) والسيرة مرضية كانت أو غير مرضية، بتثليث السين وفتح النون وضمها، وقال الأزهري: الطريقة المحمودة المستقيمة. والسنة من الله حكمه وأمره ونهيه، أي شريعته جمعها سنن مثل غرفة وغرف.
(2) وفي التعريفات: هي الطريقة المسلوكة في الدين، من غير افتراض ولا جواب اهـ فالسنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك أحيانا.
(3) أي وتطلق السنة في الاصطلاح أيضا على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم مما أمر به، ونهى عنه، وندب إليه وأفعاله وتقريراته فإذا سكت عن إنكار فعل أو قول بحضرته أو زمنه عالما به دل على جوازه أو سنيته.
(4) المخصوص أي لا العام، والوجه المخصوص منه هو غسل الأعضاء الأربعة الوجه واليدين والرجلين بنية رفع الحدث.
(5) أي فالسواك من سنن الوضوء، قال في الإنصاف: بلا نزاع، والسواك مبتدأ مؤخر، وخبره ما تقدم من قوله: ومن سنن الوضوء.(1/167)
(وغسل الكفين ثلاثا) في أول الوضوء (1) ولو تحقق طهارتهما (2) (ويجب) غسلهما ثلاثا بنية وتسمية (من نوم ليل ناقض لوضوء) لما تقدم في أقسام المياه (3) .
__________
(1) أي: ومن سنن الوضوء غسل الكفين ثلاثا في أوله، لما رواه أحمد والنسائي عن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا، أي غسل كفيه ثلاثا، ولأن الذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه يغسل كفيه ثلاثا في أوله، ولأنهما آلة نقل الماء إلى الأعضاء، ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، وسميت الكف كفا لأنها تكف عن البدن الأذى.
(2) وإلا وجب غسلهما فعلى هذا يغسل يديه ثلاثا للنوم، وثلاثا لسنة الوضوء لظاهر الحديث، وقال غير واحد: يحتمل إنه إذا غسلهما ثم توضأ في الحين من غير فصل فقد حصل المقصود من غسلهما قبل الوضوء، والذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه غسل يديه بعد الغسل الأول، واختلفت عباراتهم في أول سنن الوضوء، فعبر بعضهم بالتسمية، وبعضهم بغسل الكفين، وآخرون بالنية، وآخرون بالسواك، وجمع الرملي بينهم بحمل الأولى على القولية، والثانية على الفعلية التي ليست منه، فيسمى الله ناويا الوضوء وغاسلا كفيه ثم يستاك.
(3) من حديث إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه الحديث ولفعله عليه الصلاةوالسلام كما ذكره من وصف وضوءه، وعنه سنة قال الشيخ: اختاره الخرقي وجماعة، واختاره الموفق والشارح وغيرهما لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} شمل القائم من النوم، لا سيما وقد فسره زيد بن أسلم بالقيام من الليل، ولم يذكر سبحانه غسل اليدين، والأمر السابق للندب لأنه عليه الصلاة والسلام علل بتوهم النجاسة، وذلك يقتضي الندبية لا الوجوب استصحابا للأصل.(1/168)
ويسقط غسلهما والتسمية سهوا (1) وغسلهما لمعنى فيهما (2) فلو استعمل الماء ولم يدخل يده في الإناء لم يصح وضوءه وفسد الماء (3) (و) من سنن الوضوء (البداءة) قبل غسل الوجه (بمضمضة ثم استنشاق) ثلاثا ثلاثا بيمينه (4) .
__________
(1) فليس غسلهما شرطا لصحة الطهار، فيسقط سهو، وكذا جهلا، قياسا على واجب صلاة ولا يفسد ما حصل فيهما إذا للمشقة، وإذا تذكر في الأثناء لا يستأنف ولو أراد طهارة أخرى لم يجب، لأن غسلهما للقيام من النوم.
(2) أي غسل اليدين للنوم المذكور لمعنى في اليدين غير معقول لنا لا لإدخالهما الإناء.
وقال الشيخ: أو لخوف نجاسة تكون على اليد لقوله لا يدري أحدكم أين باتت يده فتكون علة من العلل، أو أنه من مبيت يده ملامسة للشيطان، كما في الصحيحين فإن الشيطان يبيت على خيشومه معللا بمبيته فقوله لا يدري أين باتت يده، يمكن أن يراد به ذلك، فتكون من العلل المؤثرة التي يشهد لها النص بالاعتبار.
(3) التقييد بالوضوء، جرى على الغالب، فلا مفهوم له، وفساد الماء هنا سلب طهوريته، فما حصل في يده قبل غسلها ثلاثا بنية من نوم ليل فسد، وإن لم يدخلها الإناء جزم به في الإقناع والمنتهى، وروي أنه لأجل إدخالها الإناء، فيصح وضوءه ولا يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال، وتقدم أنه لا يقتضي سلب طهورية الماء.
(4) البداءة بالضم ويكسر ويفتح وبدأ به ابتدأ وبدأه فعله ابتداء والبداءة بالشيء تقديمه على غيره، وبدأ الله الخلق وأبدأهم بمعنى، والمضمضة لغة التحريك، ومضمض الماء في الإناء حركه، واصطلاحا تحريك الماء في الفم، والاستنشاق من النشق، وهو جذب الماء ونحوه بريح الأنف إلى داخله، أي ومن سنن الوضوء تقديم المضمضة وهي بأن يجعل الماء في فيه ثم يدبره ثم يمجه وإن شاء ابتلعه ثم
الاستنشاق وهو إدخال الماء في أنفه، وجذبه بالنفس ليزول ما في الأنف، ثلاثا ثلاثا، أي يمضمض ثلاثا، ويستنشق ثلاثا، يجمع بينهما بثلاث غرفات، بكف واحد لحديث عبد الله بن زيد توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا بكف واحد، وحديث علي مضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات، وكونه بيمينه لحديث عثمان وغيره، ثم غرف بيمينه ثم رفعها إلى فيه، فمضمض واستنشق واستتر بيساره وكلها في الصحيحين وغيرهما.(1/169)
واستنثاره بيساره (1) (و) من سننه (المبالغة فيهما) أي في المضمضة والاستنشاق (2) (لغير صائم) فتكره (3) .
__________
(1) لحديث عثمان، ولحديث علي أنه نثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاثا، ثم قال: هذا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم والاستنثار لغة طرح الماء من الأنف بالنفس، من نثرت الشيء إذا طرحته أو من النثرة وهي طرف الأنف، وقيل الأنف كله، وشرعا طرح الماء من أنفه بنفسه بعد الاستنشاق مع وضع إصبعي يساره على أنفه، قال النووي: عند جماهير أهل الحديث واللغة والفقه.
(2) إلى أقاصيهما قال في المبدع: هذا قول عامة المتأخرين: وإنما لم يجب لسقوطها بصوم النقل، والواجب لا يسقط بالنفل، وعنه وجوب المبالغة فيهما على المفطر فتتأكد السنية.
(3) صرح به الموفق والشيخ وغيرهما، لحديث وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، رواه الخمسة وصححه الترمذي والبغوي وغيرهما، وروي من طريق الثوري وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما ولأن المبالغة فيهما من جملة إسباغ الوضوء المأمور به، وقال النووي: المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف اهـ ووجه الكراهة للصائم للنهي عنه، ولخشية أن ينزل إلى جوفه ما يفطره، وقال الشيرازي، لا تجوز وقال الشارح وغيره: لا تستحب لا نعلم فيه خلافا، والمبالغة في الأمر والاجتهاد، وبذل الوسع، من بالغ في الأمر يبالغ مبالغة، اجتهد ولم يقتصر والمبالغة وصف يزيد على ما في الواقع.(1/170)
والمبالغة في المضمضة إدارة الماء بجميع فمه (1) وفي الاستنشاق جذبه بنفسه إلى أقصى الأنف (2) وفي بقية الأعضاء دلك ما ينبو عنه الماء للصائم وغيره (3) (و) من سننه (تخليل اللحية الكثيفة) بالثاء المثلثة وهي التي تستر البشرة (4) .
__________
(1) فلا يكفي وضع الماء فيه بلا إدارة، لأنه لا يسمى مضمضة والواجب الإدارة ولو ببعض الفم، قال النووي: والجمهور أن إدارة الماء في الفم لا تلزم.
(2) لحديث استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما فقوله: بالغتين أو ثلاثا، أي أنهما في أعلى نهاية الاستنثار، والواجب جذب الماء إلى باطن الأنف، وإن لم يبلغ أقصاه، ولا يكفي وضعه في أنفه بدون جذب، فإنه لا يسمى استنشاقا.
(3) دلك الشيء يدلكه دلكا مرسه وفركه ودعكه، من باب نصر، أي يعركها به، وينبو يتجافى ويتباعد، أي والمبالغة في بقية الأعضاء ذلك ما يتباعد عنه الماء، والمراد إمرار اليد على العضو احتياطا، ولعله مالم يتحقق عدم وصول الماء إليه، وإلا كان الدلك واجبا، لا مستحبا فقط، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأخرج الخمسة وغيرهم وصححه الترمذي وغيره أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، أي عمم الأعضاء، واستوعبها.
ومنه: ثوب سابغ ودرع سابغة، وفي هذا الحديث وغيره مشروعية الإسباغ، والمراد الإنقاء، واستكمال الأعضاء وفي الحديث إسباغا الوضوء شطر الإيمان، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وذلك لأن الإيمان يطهر نجاسة الباطن، والوضوء يطهر نجاسة الظاهر.
(4) أي الغليظة واللام مكسورة وجمعها لحى ولحى، بالكسر والضم، وتخليلها تفريق شعرها، أي وإسالة الماء بينها، وأصله من إدخال الشيء في خلال الشيء وهو وسطه ومن تخلل الشيء نفذ فيه، لحديث أنس مرفوعا، كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فجعله تحت حنكه، وخلل به لحيته وقال هكذا أمرني
ربي رواه أبو داود وروي ابن ماجه والترمذي وصححه أنه كان يخلل لحيته، قال ابن القيم: وكان يخلل لحيته أحيانا، ولم يكن يواظب على ذلك، وقال أحمد: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح.
وقال ابن أبي حاتم: لا يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وأما الخفيفة وهي التي لا تستر البشرة يعني ظاهر الجلد فيجب إيصال الماء لما تحتها قولا واحدا.(1/171)
فيأخذ كفا من ماء يضعه من تحتها بأصابعه مشتبكة، أو من جانبيها ويعركها (1) وكذا عنفقة (2) وباقي شعور الوجه (3) (و) من سننه تخليله الأصابع أي أصابع اليدين والرجلين (4) .
__________
(1) أي وصفه التخليل أن يشبك لحيته بأصابعه ويعركها، لحديث ابن عمر: عرك عارضيه بعض العرك، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها، من عركت الشيء إذا دلكته بيديك ويكون ذلك عند غسلهما لحديث عثمان وخلل لحيته حين غسل وجهه، وقال: رأيته فعل الذي رأيتموني فعلت. صححه الترمذي.
وقوله: فيأخذ كفا من ماء، لحديث أنس المتقدم، ولكن في الصحيح عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه، الحديث ولم يذكر أنه أخذ لها ماء، وإن شاء عركها إذا مسح رأسه نص عليه.
(2) أي يعركها والعنفقة بعين مهملة مفتوحة، فنون ساكنة، ففاء مفتوحة ثم قاف، فهاء شعيرات بين الشفة السفلى والذقن، قيل لها ذلك لخفتها وقلتها وربما أطلقت العنفقة على موضع تلك الشعيرات وجمعها عنافق.
(3) كالحاجب والشارب وأهداب العينين، يخللها إذا كانت كثيفة، ويجزئ غسل ظاهره.
(4) لحديث لقيط وخلل بين الأصابع، صححه الترمذي وغيره، وقال: العمل عليه عند أهل العلم أن يخلل أصابع رجليه في الوضوء وقيل: لا خلاف في
مسنونية تخليل أصابع الرجلين، وفي أصابع اليدين روايتان أشهرهما يسن، لعموم حديث لقيط، ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه البخاري والترمذي والرواية الثانية لا يسن إذ تفريجها يغني عن تخليلها قال الشارح: والأول أولى، وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يخلل الأصابع، ولم يكن يواظب على ذلك، وما رواه أهل السنن أنه إذا توضأ يدلك أصابعه بخنصره إن ثبت فإنما يفعله أحيانا، ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه اهـ، والأحاديث الواردة في التخليل في أسانيدها مقال. ولكن لا تقصر عن إثبات استحباب التخليل، لا السنية، لعدم ثبوت المواظبة وقيل: المراد بالأمر إيصال الماء إلى ما بينها وهو واجب.(1/172)
قال في الشرح: وهو في الرجلين آكد (1) ويخلل أصابع رجليه بخنصر يده اليسرى من باطن رجله اليمنى، من خنصرها إلى إبهامها (2) وفي اليسرى بالعكس (3) وأصابع يديه إحداهما بالأخرى (4) .
__________
(1) للآثار ولأنها ألصق من أصابع اليدين، وفي الإنصاف: يستحب بلا نزاع.
(2) لحديث المستورد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره رواه أهل السنن وحسنه الترمذي، والبداءة بخنصرها ليحصل التيامن في التخليل.
(3) أي من إبهامها إلى خنصرها.
(4) أي يخلل أصابع يديه، إحدى يديه يخللها بالأخرى، وإذا كان في إصبعه خاتم فلم يصل الماء إلى ما تحته وجب إيصال الماء إلى ما تحته بتحريكه، أو خلعه، وإن تحقق وصوله استحب تحريكه لفعل علي وابن عمر. وروي أنه صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه وسنده ضعيف.(1/173)
فإن كانت أو بعضها ملتصقة سقط (1) (و) من سننه (التيامن) بلا خلاف (2) (وأخذ ماء جديد للأذنين) بعد مسح رأسه (3) .
__________
(1) أي التخليل بين الملتزقة لعدم إمكانه.
(2) وحكاه الموفق والنووي وجمع وقالوا: ليس بواجب بالإجماع، وأجمعوا على أنه لا إعادة على من بدأ بيساره قبل يمينه، والتيامن البداءة باليمين في غسلها قبل اليسار ونحو ذلك، وفي الصحيحين كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهور وفي شأنه كله وفي السنن وصححه ابن خزيمة إذا توضأ أحدكم فليبدأ بيمينه واليمين من نوافل الخير، فلا يختص ذلك بالوضوء، بل يستحب الابتداء باليمين في كل أفعال الخير، فإن قاعدة الشرع أن ما كان من باب التشريف والتكريم يندب فيه التيامن، وما كان بضده يندب فيه التياسر.
(3) يعني خلاف الماء الذي مسح به رأسه. لما روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ماء لأذنيه غير الماء الذي أخذ لرأسه وهذا مذهب مالك والشافعي وعنه: لا يستحب أن يأخذ ماء جديدا لأذنيه، بل يمسحان بماء الرأس، وفاقا لأبي حنيفة، واختاره القاضي وأبو الخطاب والمجد والشيخ وغيرهم، وقال ابن القيم: لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديدا، قال ابن دقيق العيد: الذي في ذلك الحديث، ومسح رأسه بماء غير فضل يديه. قال الحافظ: وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وهو المحفوظ. وهو في صحيح ابن حبان. وفي رواية الترمذي وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم. وما ذكره رواة حديث صفة الوضوء أنه مسح رأسه وأذنيه مرة واحدة، ظاهر في أنه بماء واحد، وكذا حديث الأذنان من الرأس، يعني فلا حاجة إلى أخذ ماء منفرد لهما كما لا يؤخذ ماآن لعضو واحد، والأذن بضم الذال ويجوز إسكانها، مشتقة من الأذن بفتح الهمزة والذال، وهو الاستماع.(1/174)
ومجاوزة محل الفرض (1) (و) من سننه (الغسلة الثانية والثالثة) (2) وتكره الزيادة عليها (3) .
__________
(1) أي ومن سننه مجاوزة محل الفرض، وهو مذهب الشافعية، لما روى مسلم من حديث أبي هريرة غسل يده حتى أشرع في العضد وقال في الرجل: حتى أشرع في الساق، ثم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء» ولهما «إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء» .
قال أبو هريرة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل، وقوله: أشرع أي أدخل الغسل فيهما، والغرة بياض وجوههم باتفاق أهل اللغة وغيرهم. والتحجيل بياض مواضع الوضوء من الأيدي والأرجل، سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلا تشبيها بغرة الفرس، وعنه: لا تستحب الزيادة على محل الفرض، وهو مذهب مالك.
قال أحمد: لا يغسل ما فوق المرفق، قال في الفائق: لا تستحب الزيادة على محل الفرض في أنص الروايتين، اختاره شيخنا وقال ابن القيم: ولم يثبت أنه تجاوز المرفقين والكعبين، وقال ابن بطال المكي: أجمع المسلمون على أن الوضوء لا يتعدى به ما حد الله ورسوله، ولم يجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مواضع الوضوء فيما بلغنا.
(2) لحديث مرتين مرتين رواه البخاري وثلاثا ثلاثا رواه مسلم وهي سنة بلا نزاع قال القاضي وغيره: الأولى فريضة والثانية فضيلة، والثالثة سنة وفي المستوعب إذا قيل أي موضع تقدم فيه الفضيلة على السنة؟ فقل: هنا.
(3) أي الثلاث. لحديث عمرو بن شعيب أراه ثلاثا ثلاثا وقال: من زاد فقد أساء وظلم رواه أهل السنن إلا ابن ماجه، قال الحافظ: من طرق صحيحة وقال ابن القيم: لم يتجاوز الثلاث قط، وقال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه. وأن يجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحكى النووي وغيره الإجماع
على كراهة الزيادة على الثلاث إذا عمم في كل مرة العضو وحملوه على كراهة التحريم، وعبروا بعدم الجواز.
وقال البغوي وغيره: حرام، وقال ابن بشير المالكي، الرابعة ممنوعة إجماعا، ولأبي داود وغيره بإسناد صحيح سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء، وقال غير واحد، إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه، ولا يبطل وضوءه إجماعا.(1/175)
ويعمل في عدد الغسلات بالأقل (1) ويجوز الاقتصار على الغسلة الواحدة (2) والثنتان أفضل منها (3) والثلاث أفضل منهما (4) ولو غسل بعض أعضاء الوضوء أكثر من بعض لم يكره (5) ولا يسن مسح العنق (6) .
__________
(1) كما لو غسل عضوا مرتين وشك في الثالثة عمل بالأقل وجعلها اثنتين.
(2) إجماعا لحديث: توضأ مرة مرة وتجزئ إجماعا، حكاه ابن جرير وغيره.
(3) أي من الواحدة إجماعا.
(4) أي من الثنتين وأكمل، والغسلة التي تحسب من الثلاث هي البالغة، فلو لم يسبغ إلا بغرفات فهي واحدة، ويجب ترك التثليث لضيق الوقت، وقلة الماء واحتياج إلى الفاضل لعطش محترم ويسن ترك ذلك لإدراك جماعة، ما لم يرج أخرى ومن سننه تقديمه على الوقت لغير معذور، وصلاة ركعتين، وغير ذلك.
(5) إجماعا لورود غسل بعضها مرتين، وبعضها ثلاثا، في الأحاديث الصحيحة.
(6) قال النووي: بدعة وحديثه موضوع، وقال ابن القيم: لم يصح فيه حديث البتة وقال الشيخ: لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم مسح على عنقه ولهذا لم يستحب مسح العنق جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وذكر أن من
استحبه إنما اعتمد على أثر يروى عن أبي هريرة وحديث يضعفه نقله، ومثل ذلك لا يصلح عمدة ولا يعارض به ما دلت عليه الأحاديث.(1/176)
ولا الكلام على الوضوء (1) .
__________
(1) أي لا يسن الكلام على الوضوء بل يكره، قال في الإنصاف، وهو الصحيح من المذهب، وقال جماعة من الأصحاب يكره، قال في الفروع: بغير ذكر الله، كما صرح به جماعة، وظاهر كلام الأكثر لا يكره السلام عليه، ولا رده، وفي عطف المصنف إيهام، فلو قال: يسن ترك الكلام على الوضوء، لكان أولى وجهه أنه عبادة فناسب ترك الكلام على الوضوء من غير حاجة، وهذه العبارة ونحوها أنه قبيل الباب أو الكتاب من رعاية التناسب وحسن الختام، ومن سنن الوضوء استقبال القبلة قال في الفروع وغيره، وهو متجه في كل طاعة إلا لدليل كالخطبة.(1/177)
باب فروض الوضوء وصفته (1)
الفرض يقال لمعان، منها الحز والقطع (2) .
__________
(1) لما ذكر الماء الذي تحصل به الطهارة وآنيته وأردفه بالاستنجاء ثم بالسواك، أتبع ذلك بالكلام على مقاصد الطهارة، وبدأ بالوضوء لتكرره، ولأنه مطلوب مطلقا لكل صلاة، وهو من أعظم شروط الصلاة، وفي الصحيحين لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ولمسلم: لا يقبل الله صلاة بغير طهور، وله أيضا: الطهور شطر الإيمان، والأصل في الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، والوضوء بضم الواو فعل المتوضئ، وهو إمرار الماء على أعضائه من الوضاءة أي النضارة والحسن والنظافة، ووضوء الشيء يوضئ وضوءا ووضاءة صار نضرا حسنا نظيفا، لأنه ينضره ويحسنه وينظفه، وبفتحها الماء يتوضأ به، وحكي الضم والفتح فيهما، والأول هو المعروف في اللغة، وعبر بالفرض هنا، وفي الصلاة بالركن، لأن الصلاة لما امتنع تفريق النية على أفعالها كانت حقيقة واحدة مركبة من أجزاء فناسب عد أجزائها أركانا، بخلاف الوضوء، لما كان كل جزء منه مستقلا بلا تركيب عبر فيه بالفرض، وصفة الوضوء كيفية الكامل منه والمجزئ.
(2) أي الفرض شيء لازم للعبد كلزوم الحز للشيء، والقطع كالتفريض، وهو التحريز ومصدر بمعنى المفروض ومنه (فمن فرض فيهن الحج) فكل واجب موقت فهو مفروض، وفرض الله الصلاة وغيرها أوجبها، وفرض يفرض فرضا وقت. وفي القاموس: الفرض التوقيت، والحز في الشيء، كالتفريض، وفي المصباح اشتقاق الفرائض من الفرض الذي هو التقدير، لأن الفرائض مقدرات والفرض ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، وقال تعالى (نصيبا مفروضا) أي محدودا وفي المطلع: ما كان فعله راجحا على تركه مع
المنع من تركه مطلقا اهـ ويطلق الفرض شرعا على معنى آخر، وهو ما تتوقف عليه صحة العبادة، وجواز الإتيان بها، وقال ابن عقيل والموفق وغيرهما، الفرض هو الواجب على إحدى الروايتين، وهو قول الشافعي: والثانية هو آكد من الواجب فقيل هو اسم لما يقطع بوجوبه، كمذهب أبي حنيفة، وقيل ما لا يسامح في تركه عمدا ولا سهوا، نحو أركان الصلاة، قالت الحنفية: الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، والنزاع لفظي، وتأكد الفرض، على الواجب شرعا ظاهر موافق لمقتضاه لغة.(1/178)
وشرعا: ما أثيب فاعله وعوقب تاركه (1) والوضوء استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة (2) على صفة مخصوصة (3) .
__________
(1) قولهم: شرعا. إخراج للشيء عن المعنى اللغوي إلى الحقيقة الشرعية، وهي ماتلقي معناها عن الشارع، وإن لم يتلق عن الشارع سمي اصطلاحا وعرفا.
(2) المعهود لأهل الشرع على سبيل الغسل والمسح، والأربعة هي الوجه واليدان والرأس والرجلان، قال الشيخ: ولم يرد الوضوء، بمعنى غسل اليد والفم إلا في لغة اليهود.
(3) في الشرع. بأن يأتي بها مرتبة متوالية مع باقي الفروض والشروط وما يجب اعتباره، واختصت هذه الأعضاء الأربعة به، لأنها أسرع ما يتحرك من البدن للمخالفة، ورتب غسلها على ترتيب سرعة حركتها في المخالفة، تنبيها بغسلها ظاهرا على تطهيرها باطنا، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كلما غسل عضوا منها حط عنه كل خطيئة أصابها بذلك العضو، وأنها تخرج خطاياه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء وإن وضع وجهه لله خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه، ثم أرشد بعدها إلى تجديد الإيمان بالشهادتين، وقال بعد آية الوضوء {لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فوضع تعالى الشرائع لمصالح العباد، في العاجل والمعاد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.(1/179)
وكان فرضه مع فرض الصلاة كما رواه ابن ماجه، ذكره في المبدع (1) .
__________
(1) ولفظه أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو من طريق رشدين بن سعد، وأخرجه أحمد من طريق ابن لهيعة والطبراني من طريق الليث موصولا، والشارح نبه على ذلك، لأنه قد يفهم أن الصلاة إذ ذاك بلا وضوء إلى وقت نزول آية المائدة، مع أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء، فعلى هذا تكون آية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إلى آخرها مقررة للحكم الثابت، لا مؤسسة لأنها مدنية والوضوء فرض مع الصلاة بمكة وصلى بها صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل الهجرة، وكذلك أصحابه، قال ابن المنذر: معلوم عند جميع أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم افترض عليه بمكة الصلاة والغسل من الجنابة، ومعلوم أن الغسل من الجنابة لم يفرض قبل فرض الوضوء، وأنه لم يصل قط بمكة صلاة إلا بوضوء اهـ
وأخرج الحاكم أن فاطمة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: إن هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال ائتوني بوضوء فتوضأ، قال الحاكم: وهذا يصح ردا على من أنكر وجوده قبل الهجرة اهـ، وهو أيضا شرع لمن قبلنا، لما روى الإمام أحمد وغيره أنه قال عليه الصلاة والسلام هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، وفي البخاري فتوضأ وصلى، ومن قصة سارة مع الملك لما هم بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي. وجاء في قصة جريج الراهب أنه قام فتوضأ. قال النووي فهو حجة على أن الوضوء كان في غير هذه الأمة، وإنما اختصت بالغرة والتحجيل. وقال الشيخ: الوضوء من خصائص هذه الأمة، كما جاءت الأحاديث الصحيحة أنهم يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفهم بهذه السيماء، فدل على أنه لا يشاركهم فيها غيرهم. وقال فيما رواه ابن ماجه: ضعيف عند أهل العلم بالحديث، لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس له عند أهل الكتاب خبر عن
أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعا قبل.(1/180)
(فروضه ستة) أحدها (غسل الوجه) (1) لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) (والفم والأنف منه) أي من الوجه لدخولهما في حده (3) فلا تسقط المضمضة ولا الاستنشاق في وضوء ولا غسل لا عمدا ولا سهوا (4) .
__________
(1) إجماعا، والغسل في الأصل من: غسل الشيء، سال، بالفتح، وغسله يغسله غسلا طهره بالماء، وأزال الوسخ ونحوه عنه، بإجراء الماء عليه، فهو غاسل، والوجه في الأصل من المواجهة، وإضافة الغسل إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله، والفاعل محذوف أي غسل المتوضئ وجهه، ويرد عليه أن يكون صفة للفاعل وهو غير شرط، إذ لو أصابه الماء من غير فعل كفى.
(2) أي إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} بالماء فشرع غسله الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب، ويستب عند كل صلاة للآية، وللأمر به، وتجديده كل صلاة مستحب إجماعا، وتجوز الصلوات كلها بوضوء واحد.
(3) وكونهما في حكم الظاهر بدليل غسلهما من النجاسة، وفطر الصائم بعود القيء بعدوصوله إليهما وأنه لا يفطر بوصول شيء إليهما.
(4) لما في الصحيحين من توضأ فليستنشق، ولقوله: استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا، قال أحمد: وأنا أذهب إليه، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن ابن عباس، أنه توضأ فغسل وجهه أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر الحديث وفيه ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يتوضأ وللدارقطني بسند جيد عن أبي هريرة قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق ولغيرهما من الأحاديث، وكل من وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء لم يقل إنه ترك الاستنشاق ولا المضمضة وفعله إذا خرج بيانا كان حكمه حكم ذلك المبين، وتجب الموالاة بينهما وبين بقية الأعضاء، وعنه أنهما سنة، وفاقا لمالك والشافعي، لقوله: توضأ كما أمرك الله، قال ابن المنذر: لا خلاف في أن تاركهما لا يعيد اهـ، والمشهور الأول: لأن الله أمر بغسل الوجه وأطلق، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه، ولم ينقل أنه أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ، وقوله هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به، ولأنهما في حكم الظاهر كما تقدم، وعليه لا يسقطان ولو سهوا، وأما الغسل فأجمعوا على أن الوضوء معه غير واجب، والمضمضة والاستنشاق من توابعه.(1/181)
(و) الثاني (غسل اليدين) مع المرفقين (1) لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2) .
__________
(1) إجماعا والمرفق موصل الذراع في العضد، جمعه مرافق، وقال النووي وغيره: مجتمع العظمتين المتداخلين، وهما طرف عظم العضد، وطرف عظم الذراع، واليد أصلها يدي، وجمعها أيد ويدي، وجمع الأيدي أياد، جمع الجمع.
(2) أي مع المرافق، وإلى تستعمل بمعنى مع كقوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وفعله عليه الصلاة والسلام يبينه وفي حديث جابر أدار الماء على مرفقيه رواه الدارقطني، ولمسلم عن أبي هريرة غسل يده حتى أشرع في العضد، وذكروا أن المغيا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاث، غسل اليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين، يريد إدخال المرفقين والكعبين في الغسل، والتكبير المقيد يدخل فيه عصر آخر أيام التشريق، والله سبحانه شرع غسل اليدين بعد الوجه، لأنهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعده.(1/182)
(و) الثالث (مسح الرأس) كله (ومنه الأذنان) (1) لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجه (3) .
__________
(1) مسح الرأس فرض بالإجماع في الجملة، مع اختلاف في قدر الواجب، وقوله: كله، هو ظاهر الكتاب والسنة، وقول جمهور السلف، وعفا في المبهج والمترجم عن يسيره للمشقة، وصوبه في الإنصاف، واختاره الشيخ تقي الدين وظاهر كلام الأكثرين بخلافه قال الشيخ: اتفق الأئمة على أن السنة مسح جميع الرأس كله، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، والذين نقلوا وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد منهم إنه اقتصر على مسح بعضه، ومسحه مرة يكفي بالاتفاق، ولا يستحب ثلاثا، وحد الرأس من المقدم بحيث لا يسمى وجها، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفاء، وقوله: ومنه الأذنان أي الأذنان من الرأس، فيجب مسحهما معه، وعنه لا يجب بل يستحب، قال غير واحد من الأصحاب: هو الصحيح، وظاهر المذهب، واختاره الشيخ، وجمع قال الوزير: وأجمعوا على أن مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنة من سنن الوضوء، وذكر الوجوب رواية عن أحمد فقط.
(2) الباء للإلصاق أي إلصاق الفعل بالمفعول فكأنه قال: ألصقوا المسح برءوسكم يعني المسح بالماء، بخلاف ما لو قال اسمحوا رءوسكم فإنه لا يدل على الإلصاق كما يقال مسحت رأس اليتيم فشرع الله مسح جميع الرأس، وأقامه مقام غسله تخفيفا قال الزركشي، ومن قال إن الباء للتبعيض فغير مسلم دفعا للاشتراك ولإنكار الأئمة وما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم مسح مقدم رأسه، فمحمول على أن ذلك مع العمامة، كما جاء مفسرا في الصحيح في حديث المغيرة.
(3) والدارقطني وغيرهما من غير وجه، ولحديث ابن عباس، مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ولغيرهما من الأحاديث والآثار البالغة حد التواتر على أنهما من الرأس، فيمسحان معه، قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.(1/183)
(و) الرابع (غسل الرجلين) مع الكعبين (1) لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) (و) الخامس (الترتيب) على ما ذكر الله تعالى (3) : لأن الله أدخل الممسوح بين المغسولات ولا نعلم لهذا فائدة غير الترتيب (4) .
__________
(1) وهو فرض بإجماع الصحابة، حكاه ابن أبي ليلى وغيره، والكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدم، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، قال النووي وغيره: باتفاق أهل الحديث واللغة والفقه، بل وإجماع الناس، خلافا للشيعة فهذه الأعضاء الأربعة هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يعصى الله ويطاع.
(2) بالنصب أعاد الأمر إلى الغسل، وعلى القراءة بالخفض لا يخالف ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من غسل الرجلين، فإن المسح جنس تحته نوعان الإسالة وغير الإسالة. كما تقول العرب: تمسحت للصلاة فما كان بالإسالة فهو الغسل، وفي حديث عمرو ثم غسل رجليه كما أمره الله، قال الشيخ: والله أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين وهذا هو الغسل، وفي ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلة الصب على الرجلين، فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا و (إلى) بمعنى (مع) لأحاديث صفة الوضوء، ولما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ويل للأعقاب من النار.
(3) في آية المائدة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} والترتيب هو الفرض الخامس، وهو جعل كل شيء في مرتبته واصطلاحا جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتقدم والتأخر.
(4) الممسوح الرأس، والمغسولات بقية الأعضاء، ورتب بعضها على بعض
وهي جنس واحد، فدلت على الترتيب شرعا، فيما من شأنه أن يرتب والتقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية.(1/184)
والآية سيقت لبيان الواجب (1) والنبي صلى الله عليه وسلم رتب الوضوء وقال «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (2) فلو بدأ بشيء من الأعضاء قبل غسل الوجه لم يحسب له (3) .
__________
(1) وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال عند السعي أبدأ بما بدأ الله به، وفي لفظ النسائي ابدءوا بما بدأ الله به، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به، وإن كان في الصفا والمروة فهو دليل على البداءة في الوضوء بما بدأ الله به، وهذا مذهب الشافعي.
(2) رواه أبو داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم توضأ كما أمرك الله، ولأبي داود وغيره، إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم يمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين، قال الخطابي وغيره: فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء وتقديم ما قدمه الله في الذكر منه واجب، وذلك معنى قوله: حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي الترتيب من غير تراخ، وكل من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبا، وفعله محمول على الوجوب، وهو مفسر للآية وقال إمام الحرمين: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه تنكيس الوضوء، ولا التخيير فيه، ولا التنبيه على جوازه، ولم يؤثر من فعل علماء المسلمين وعامتهم إلا الترتيب كالصلاة، وقال شيخ الإسلام: ولم يتوضأ قط إلا مرتبا ولا مرة واحدة في عمره، كما لم يصل إلا مرتبا اهـ ولأن الوضوء عبادة ذات أجزاء فكان الترتيب فيها واجبا كالصلاة.
(3) أي بما غسله من الأعضاء قبله لفوات الترتيب.(1/185)
وإن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوءه إن قرب الزمن (1) ولو غسلها جميعا دفعة واحدة لم يحسب له غير الوجه (2) وإن انغمس ناويا في ماء، وخرج مرتبا أجزأه وإلا فلا (3) (و) السادس (الموالاة) (4) لأنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي في ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء رواه أحمد وغيره (5) .
__________
(1) بأن بدأ برجليه وختم بوجهه حصل له بكل مرة غسل عضو إن قرب الزمن فإن لم يقرب فلا، لأجل فوات الموالاة، قال الشيخ: ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس.
(2) كما لو وضأه أربعة في حالة واحدة.
(3) أي وإن لم يخرج مرتبا فلا يرتفع حدثه، ونص أحمد في رجل أراد الوضوء فانغمس في الماء ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه.
(4) أي الفرض السادس الموالاة، وهو عبارة عن الإتيان بجميع الطهارة في زمن متصل، من غير تفريق فاحش، مصدر وإلى الشيء يواليه إذا تابعه ويسقط كل من الترتيب والموالاة مع غسل من حدث أكبر متحقق، لاندراج الوضوء فيه كاندراج العمرة في الحج.
(5) فرواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وأعله المنذري ببقية بن الوليد، وإلى هذا ذهب مالك وهو قول للشافعي وعنه عدم الوجوب وفاقا لأبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وأخرج مسلم من حديث عمر مرفوعا، ارجع فاحسن وضوءك ولم يذكر فتوضأ والإحسان يحصل بمجرد الإسباغ، وأصرح من الحديث الذي استدل به حديث أبي وابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم توضأ على الولاء، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، إلا أن فيه مقالا لكن
الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم وصفوه على الولاء، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية فإذا وجد الشرط وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه، واختار الشيخ القول الثاني وذكر أنه الأشبه بأصول الشريعة ونصوص أحمد، وهو أن التارك لعذر قد فعل ما استطاع، وقال: لو فرق لضرورة لم يضره، وذكر التتابع في الكفارة وصلاة الخوف، وقصة ذي اليدين، وطرد ذلك في الترتيب، وقال: لو قيل بسقوطه للعذر كما إذا ترك غسل وجهه لمرض ونحوه ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اهـ وهو مذهب أبي حنيفة، وقال للشافعي، وقال مالك: إن تعمد التفريق بطل، وإلا فلا، وعن أحمد أن الموالاة سنة، ولم يذكرها الخرقي في فروض الوضوء، واللمعة على وزن رقعة الموضع لا يصيبه الماء في الوضوء أو الغسل، كأنه على التشبيه بلمعة الحلي لقلة المتروك.(1/186)
(وهي) أي الموالاة (أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله) (1) بزمن معتدل، أو قدره من غيره (2) ولا يضر إن جف لاشتغاله بسنة (3) .
__________
(1) أي أن يجف العضو الذي قبل المؤخر، وذلك بأن لا يؤخر غسل اليدين حتى يجف الوجه، ولا يؤخر مسح الرأس حتى تجف اليدان، ولا غسل الرجلين حتى يجف الرأس.
(2) أي أو قدر الزمن المعتدل من غيره، أي غير المعتدل، بأن كان حارا، أو باردا وهو معتدل ومزاجه معتدل، والمعتبر بآخر غسلة وعنه يعتبر طول الفصل قال الحلال: وهو أشبه بقوله والعمل عليه، وقال ابن عقيل: ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرع، وقال ابن رزين: هذا أقيس، لأنه لم يحد في الشرع فيرجع فيه إلى العادة.
(3) أي ولا يضر إن نشف العضو المغسول أو الممسوح قبل غسل أو مسح الذي بعده لاشتغاله المتوضئ بسنة من نحو ما مثل به.(1/187)
كتخليل وإسباغ وإزالة وسوسة أو وسخ (1) ويضره الاشتغال بتحصيل ماء (2) أو إسراف أو نجاسة أو وسخ لغير طهارة (3) وسبب وجوب الوضوء الحدث (4) ويحل جميع البدن كجنابة (5) .
__________
(1) لأن ذلك من الطهارة. والوسوسة هي أن يتردد هل غسل العضو مرتين أو ثلاثا فيجعلها مرتين، وتقدم ذكر التخليل وأما الإسباغ فقال في اللمعات يفسر بإكمال الوضوء وإبلاغ الماء كل ظاهر أعضائه، وهذا فرض، وبالتثليث وهو سنة، والتسييل، وهو شرط وإكثار الماء من غير إسراف، وهو فضيلة، ولعله المراد هنا، وقال النووي وغيره: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بإجماع المسلمين.
(2) أي تفوت الموالاة إن جف العضو، لأجل اشتغال المتوضئ بتحصيل ماء لأنه ليس من الطهارة.
(3) يعني أن الاشتغال بإزالة النجاسة أو الوسخ ونحوه إنما يضر إذا كان في غير أعضاء الوضوء، أما إن كان الوسخ ونحوه في أعضاء الوضوء لم يضره الاشتغال بإزالته لأنه إذا من أفعال الطهارة، والفرق بين اشتغاله بتحصيل الماء، واشتغاله بإزالة النجاسة أو الوسخ أنه مخاطب بتحصيل الماء قبل التلبس بالشروع في الطهارة بخلاف إزالة الوسخ والنجاسة.
(4) أي تسبب عنه وجوب الطهارة لا أنه يجب بالحدث فإن الموجب الشارع وقيل: بإرادة الصلاة، وقيل بدخول الوقت، قال الشيخ: وهو لفظي، فلا يجب الوضوء ولا الغسل إلا بعد دخول الوقت وإرادة الصلاة اهـ وحكى الإجماع غير واحد أنه لا يأثم بالتأخير عن الحدث، وأنه لا يجب الغسل ولا الوضوء حتى يدخل وقت الصلاة بالفعل أو الزمان، وأنهما جائزان قبل دخول الوقت لغير نحو المستحاضة.
(5) فإنه لا يمس المصحف بعضو مطلقا، ولا بعضو غسله حتى يتم وضوءه، ولو قلنا برفع الحدث عنه.(1/188)
(والنية) لغة القصد (1) ومحلها القلب (2) فلا يضر سبق لسانه بغير قصده (3) ويخلصها الله تعالى (4) (شرط) هو لغة العلامة (5) واصطلاحا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته (6) .
__________
(1) ومنه قول أهل الجاهلية: نواك الله بحفظه أي قصدك، وقال الأزهري، من قولك نويت بلدة كذا أي عزمت بقلبي قصدها، ونوى الشيء ينويه نواء ونية قصده وعزم عليه، والعزم والقصد والنية اسم للإرادة الحادثة، لكن العزم المتقدم عن الفعل، والقصد المقترن به، والنية المقترنة به مع دخوله تحت العلم بالمنوي وخصت في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور، ففي الوضوء هي القصد إليه بتخصيصه ببعض أحكامه.
(2) أي محل النية القلب إجماعا، لأنها من عمله.
(3) وإن لفظ بلسانه ولم يقصد بقلبه لم يجزئه إجماعا، ولو اقتصر عليه بقلبه أجزأه إجماعا.
(4) أي يخلص النية لله تعالى لأنها عبادة وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فإخلاصها لله ركنها الأعظم ويأتي حكم المشوب
(5) أي النية في العبادات شرط، والشرط لغة هو العلامة قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي علاماتها.
(6) فالأول احتراز من المانع، لأنه لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، والثاني احتراز من السبب ومن المانع أيضا. أما السبب فإنه يلزم من وجوده الوجود لذاته، وأما المانع فإنه يلزم من وجوده العدم، وقوله: لذاته احتراز من مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود، أو مقارنة الشرط قيام المانع، مثال الأول الطهارة يلزم من عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود صحتها، لجواز عدمها لعدم شرط آخر كعدم دخول الوقت، والذات والحقيقة والماهية بمعنى واحد، والكلام على النية من سبعة أوجه: جمعها بعضهم فقال:
حقيقة حكم محل وزمن ... كيفية شرط ومقصود حسن
فحقيقتها لغة القصد، وشرعا قصد الشيء مقترنا بفعله، كما تقدم، وحكمها الوجوب ومحلها القلب، وزمنها أول الواجبات وكيفيتها تختلف بحسب الأبواب، وشرطها إسلام الناوي، وتمييزه وعلمه بالمنوي، وعدم إتيانه بمنافيها، بأن يستصحبها حكما، والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز مراتب العبادة بعضها عن بعض، لتمييز ما هو الله، عما ليس له، أو تمييز مراتب العبادات في نفسها، فالأول كالغسل للعبادة أو التبرد، والثاني كالصلاة الفرض، أو النفل وتنقسم النية إلى فعلية موجودة وحكمية معدومة فإذا كان في أول العبادة فهذه نية فعلية، ثم إذا ذهل عنها فهذه نية حكمية بمعنى أن الشرع حكم باستصحابها وكذا الإيمان والرياء، وجميع هذا النوع من أحوال القلوب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت فعلية ثم إذا ذهل عنها، حكم صاحب الشرع ببقاء حكمها لمن اتصف بها.(1/189)
(لطهارة الأحداث كلها) (1) لحديث «إنما الأعمال بالنيات» (2) .
__________
(1) الغسل والوضوء والتيمم قال في المبدع وغيره بغير خلاف نعلمه للآية والأخبار، ولأن الإخلاص من عمل القلب، وهو محض النية، وهو مأمور به بالكتاب والسنة والإجماع، قال الوزير وغيره، أجمعوا على وجوب النية في طهارة الحدث والغسل من الجنابة، إلا أبا حنيفة فيشترطها في التيمم دون طهارة الماء، والآية والحديث وكونها عبادة: حجة واضحة عليه، ولمسلم الطهور شطر الإيمان فهو عبادة، وكل عبادة لا بد لها من نية ويستثنى غسل كتابية ومسلمة ممتنعة من غسل لزوج، فيغسلن قهرا، ولا نية إذ للعذر ويسقط اشتراطها.
(2) متفق عليه، أي إنما المنوي بحسب ما نواه العامل، وليس المراد صورة العمل، بل عن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، لنفيه أن يكون له عمل شرعي بدونها، وأكده بقوله: وإنما لكل امرئ ما نوى، وعن علي: لا عمل لمن لا نية له، فالنية سر العبودية وروحها ولبها، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ومعلوم أن إخلاص النية للمعبود أصل النية، والعمل الذي لم ينو ليس بعبادة، ولا مأمور به فلا يكون فاعله متقربا إلى الله، وهذا لا يقبل نزاعا، وكيف يؤدي وظائف العبودية من لا يخطر بباله التمييز بين العبادة والعادات، ولا بين مراتب تلك الوظائف هذا أمر ممتنع عادة وعقلا وشرعا كما قاله الشيخ وغيره.(1/190)
فلا يصح وضوء وغسل وتيمم ولو مستحبات إلا بها (1) (فينوي رفع الحدث (2) أو يقصد (الطهارة لما لا يباح إلا بها) أي بالطهارة (3) كالصلاة والطواف ومس المصحف (4) لأن ذلك يستلزم رفع الحدث (5) فإن نوى طهارة أو وضوءا أو أطلق أو غسل أعضاءه ليزيل عنها النجاسة، أو ليعلم غيره أو للتبرد لم يجزئه (6) .
__________
(1) أي بالنية لأنها طهارة عن حدث فلا تصح بغير نية، ولأن النية للتمييز والنص دل على الثواب في كل وضوء، ولا ثواب في غير منوي إجماعا.
(2) أي يقصد بطهارته زوال الوصف القائم بالأعضاء، قيام الأوصاف الحسية المانع من الصلاة ونحوها، قال ابن رشد وغيره، نية رفع الحدث من فرائض الوضوء اتفاقا.
(3) أو يقصد بطهارته أمرا تتوقف استباحته بها، أو امتثال أمرا الله تعالى بأداء ما افترض عليه والثلاثة متلازمة متى خطر بباله بعضها أجزأ عن جميعها.
(4) وكقصد الجنب بالغسل اللبث في المسجد ونحو ذلك. فإذا نوى ذلك صحت طهارته بلا خلاف عند القائلين باشتراطها ولو نوى مع رفع الحدث إزالة النجاسة، أو التبرد أو التنظيف أو التعليم صحت طهارته، لأنه نوى الطهارة وضم إليها ما لا ينافيها كمن نوى مع الحج رؤية البلاد النائية لكن ينقص الثواب، لحديث إنما الأعمال بالنيات إنما لكل امرئ ما نوى وإن نوى التبرد وما لا تشرع له الطهارة كالأكل والبيع ولم ينو الطهارة الشرعية لم يرتفع.
(5) أي لأن نية الصلاة ونحوها لما لا يباح إلا بها يستلزم رفعه ضرورة.
(6) لعدم إتيانه بالنية المعتبرة.(1/191)
وإن نوى صلاة معينة لا غيرها ارتفع مطلقا (1) وينوي من حدثه دائم استباحة الصلاة ويرتفع حدثه (2) ولا يحتاج إلى تعيين النية للفرض (3) فلو نوى رفع الحدث لم يرتفع في الأقيس قاله في المبدع (4) ويستحب نطقه بالنية سرا (5) .
__________
(1) وأجزأ لتلك الصلاة وغيرها، وكفى التعيين ولغى التخصيص.
(2) أي ينوي من به حدث دائم كالمستحاضة ومن به سلس البول وقروح سيالة ونحو ذلك استباحة الصلاة دون رفع الحدث، ويرتفع جعلا للدائم بمنزلة المنقطع على الصحيح، وقيل: لا يرتفع قال في الإنصاف، والنفس تميل إليه وإنما عليه أن يتقي الله ما استطاع.
(3) لأن طهارته ترفع الحدث.
(4) قاس الشيء بغيره قدره على مثاله، وقايست بين الأمرين قدرت، أي قال في المبدع: الأقيس أنه لا يرتفع لو نواه لمنافاته وجود نية رفعه.
(5) كذا استحبه كثير من المتأخرين من الأصحاب وغيرهم، ولفظ الفروع والتنقيح وغيرهما يسن ومنصوص أحمد وغيره من الأئمة المتبعين وجميع المحققين خلاف ذلك، وصوبه في الإنصاف وغيره.
وقال في الإقناع، والتلفظ بها بدعة وذكر شيخ الإسلام أن التلفظ بها بدعة، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولم ينقل مسلم عنه ولا عن أصحابه أنه تلفظ قبل الوضوء ولا غيره من العبادات بلفظ النية، لا سرا ولا جهرا، ولا أمر بذلك، فلما لم ينقله أحد علم قطعا أنه لم يكن، وحنيئذ فترك التلفظ بها هو السنة. وقال: اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها، ويأتي وأنه لم يستحبه أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وإنما استحبه بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وغيرهم، ورد عليهم محققوا مذهبه كالنووي وابن كثير وغيرهما، وقال ابن القيم: لم يكن صلى الله عليه وسلم يقول في أول الوضوء: نويت ارتفاع الحدث، ولا استباحة الصلاة لا هو ولا أحد من أصحابه
ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد بسند صحيح ولا ضعيف اهـ وكثيرا ما يطلقون الاستحباب على ما ليس بمستحب والسنة على ما ليس بسنة، وقال الشيخ: إذا أطلق الإنسان السنة على شيء ليس في السنة يصدق عليه قوله من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار اهـ والسنة إنما تطلق على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجب أن تجعل البدعة سنة وعبارة يستحب أهون من يسن عند أكثر أهل العلم: إذ الاستحباب يطلق على الاستحسان وعلى الأول، وعلى المندوب والسنة إنما تطلق على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الجمهور.(1/192)
تتمة (1)
ويشترط لوضوء وغسل أيضا إسلام (2) وعقل وتمييز (3) وطهورية ماء، وإباحته (4) .
__________
(1) التتمة هي ما يتم به الشيء وتتمة كل شيء تمام غايته، يقال: هذا تمام المائة أي ما تتم به وفي المعاني تتميم المعنى وفي عرفهم كالتذنيب يؤتي بها تابعة ومتممة لما قبلها.
(2) كما يشترط لسائر العبادات، ولو كان الوضوء والغسل مستحبين فلا يصحان من مشرك.
(3) أي: ويشترط عقل ضد الجنون قال الشيخ: العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، يراد به القوة التي بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك اهـ وهو غريزي كأنه نور يقذف في القلب، فيستعد لإدراك الأشياء، وله اتصال بالدماغ ويقل ويكثر ويختلف، فبعض الناس أكبر، لأن كمال الشيء ونقصه يعرف بكمال آثاره وأفعاله، ويقوي العقل ويضعف فإذا قوي قمع ملاحظة عاجل الهوى وأكثر الأصحاب يقولون: محله القلب، وبعضهم يقول: الدماغ ورجح المحققون أنه مشترك بينهما. مستمد منهما، ويشترط تمييز وهو الذي إذا انتهى إليه الإنسان عرف مضاره ومنافعه لتأتي النية.
(4) أي الماء، فلو توضأ بماء غير طهور أو بماء مغصوب، أو ما عقده فاسد
أو ما وقف للشرب، أو من الآبار المحرمة، لم يصح إذا كان عالما ذاكرا، كما صرحوا به، وإلا فيصح لعدم الإثم إذا.(1/193)
وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة (1) وانقطاع موجب (2) ولوضوء فراغ استنجاء أو استجمار (3) ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه (4) فإن نوى ما تسن له الطهارة (5) كقراءة قرآن وذكر، وأذان ونوم وغضب ارتفع حدثه (6) .
__________
(1) أي وصول الماء إلى البشرة. من طين أو عجين أو شمع أو دهن جامد أو وسخ على أعضاء الوضوء، أو على بدن في غسل، ليحصل الإسباغ، وأما الحناء ونحوه فعرض ليس له جرم يمنع وصول الماء إلى العضو.
(2) بكسر الجيم أي فراغ خروج خارج، سواء كان خارجا من سبيل أو غيره كقيء لمنافاته الوضوء.
(3) قبله. وتقدم في باب الاستنجاء.
(4) أي فرض ذلك الوقت، كالسلس، لأنها طهارة ضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم ويرتفع حدثه، ولا يحتاج إلى تعيين نية الفرض، وتقدم: قال الشيخ: الوضوء من الحدث الدائم لكل صلاة فيه أحاديث متعددة، وقد صحح بعضها غير واحد من العلماء، فقول الجمهور الذين يوجبون الوضوء لكل صلاة أظهر، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد اهـ فالحاصل أن شروط الوضوء عشرة، والغسل ثمانية.
(5) من قول أو فعل.
(6) لأنه نوى طهارة شرعية فحصلت له الطهارة لأنه عليه الصلاة والسلام توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال هكذا لمن ليس بجنب فهذا الوضوء مندوب وفي الصحيحين أنه دعا بوضوء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر، وقال: إذا غضب أحدكم فليتوضأ ويأتي الندب إليه عند النوم والأذان
ويندب لرفع شك وكلام محرم كالغيبة وفعل نسك من مناسك الحج، وكدخول مسجد وتدريس علم وأكل، وكل ما نواه لذلك ونحوه، يرتفع حدثه بذلك الوضوء.(1/194)
(أو) نوى (تجديدا مسنونا) بأن صلى بالوضوء الذي قبله (ناسيا حدثه ارتفع) حدثه (1) لأنه نوى طهارة شرعية (2) (وإن نوى) من عليه جنابة (غسلا مسنونا) كغسل جمعة (3) قال في الوجيز ناسيا (أجزأ عن واجب) (4) كما مر فيمن نوى التجديد (5) (وكذا عكسه) أي إن نوى واجبا أجزأ عن المسنون (6) .
__________
(1) أي أو نوى بوضوئه تجديدا مسنونا، بأن صلى بالوضوء الذي قبل وضوئه هذا الذي جدد به، وكان أحدث ولكن نوى التجديد ناسيا حدثه، ارتفع حدثه بالوضوء المسنون اختاره غير واحد، قال في الشرح: وهي أصح فإن نوى الوضوء المسنون أو التجديد عالما حدثه لم يرتفع حدثه لتلاعبه.
(2) فينبغي أن يحصل له لحديث لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة رواه أحمد والنسائي بسند صحيح، ولأبي داود من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات، وفي الصحيح: وكان يتوضأ لكل صلاة، وهذا ما لم يعارضه فضيلة أول الوقت، فتقدم عليه، ولا بأس أن يصلي الصلوات الخمس بالوضوء الواحد، ما لم يحدث بلا نزاع، ففي الصحيح وغيره عن أنس يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث ولمسلم صلى خمس صلوات بوضوء واحد.
(3) بخلاف غير المسنون كالغسل للتبرد ونحوه.
(4) وهو مقتضى قولهم فيما سبق والوجيز للحسن بن يوسف بن محمد بن أبي السري البغدادي الفقيه ألف الوجيز في الفقه، وله كتاب في أصول الدين ونزهة الناظرين وغيرها توفي سنة سبعمائة واثنتين وثلاثين.
(5) أي فارتفع حدثه، ولو قال: فيمن نوى وضوءا مسنونا ناسيا، لكان أولى.
(6) وذلك بطريق الأولى، لكن لا ثواب في غير المنوي منهما.(1/195)
وإن نواهما حصلا (1) والأفضل أن يغتسل ثم للمسنون كاملا (2) (وإن اجتمعت أحداث) متنوعة ولو متفرقة (3) (توجب وضوءا أو غسلا (4) فنوى بطهارته أحدها) لا على أن لا يرتفع غيره (5) (ارتفع سائرها) أي باقيها (6) لأن الأحداث تتداخل، فإذا ارتفع البعض ارتفع الكل (7) .
__________
(1) أي حصل له ثوابهما لأنه نواهما جميعا وأجزأ ذلك الغسل المنوي فيه عنهما.
(2) أي غسلا آخر كاملا لأنه أكمل، واستظهر أهل التحقيق الاكتفاء بأحدهما، لدخول المسنون في الواجب تبعا، كما يدخل غسل الجمعة في الغسل الواجب، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لواجب ومسنون مرتين في آن واحد، ولاستمرار الاجتزاء بالغسل الواحد، وكذا الوضوء الواحد، مع ترادف الأحداث فهنا أولى.
(3) في أوقات بأن لم توجد دفعة واحدة.
(4) كالبول والغائط والريح والنوم ومس الذكر، وكالجماع وخروج المني والحيض.
(5) فإن نوى أن لا يرتفع غيره لم يرتفع.
(6) يعني الأحداث قال ابن رجب: هذا المشهور صححه صاحب الفائق واختاره القاضي وغيره.
(7) أي يدخل بعضها في بعض فإذا نوى بعضها غير مقيد ارتفع جميعها كما لو نوى رفع الحدث وأطلق ولو كان عليه حدث نوم فغلط ونوى رفع حدث بول ارتفع حدثه.(1/196)
(ويجب الإتيان بها) أي بالنية (عند أول واجبات الطهارة (1) وهو التسمية) (2) فلو فعل شيئا من الواجبات قبل النية لم يعتد به (3) ويجوز تقديمها بزمن يسير كالصلاة (4) ولا يبطلها عمل يسير (5) .
(وتسن) النية (عند أول مسنوناتها) أي مسنونات الطهارة
كغسل اليدين في أول الوضوء (6) (إن وجد قبل واجب) أي قبل التسمية (7) .
__________
(1) لأن النية شرط فيعتبر وجودها في أول الوضوء، أو الغسل، أو التيمم أو غيرها من سائر العبادات.
(2) أي أول واجب التسمية، لحديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه وتقدم.
(3) لحديث إنما الأعمال بالنيات فتستحب إعادته بعد النية، ومتى جاء ليتوضأ أو أراد فعل الوضوء مقارنا له، أو سابقا عليه قريبا، فقد وجدت النية.
(4) أي يجوز تقديم النية على الطهارة، بزمن يسير، كما يجوز في الصلاة، قال في الإنصاف: بلا نزاع، ولا يجوز بزمن طويل على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب وقيل: يجوز مع ذكرها وبقاء حكمها، بشرط أن لا يقطعها.
قال القاضي: إذا قدمها واستصحب ذكرها حتى شرع في الطهارة جاز، وقال أبو الحسين: يجوز ما لم يعرض ما يقطعها من اشتغال بعمل ونحوه.
(5) أي قبل الشروع في الطهارة ونحوها، قال في المبدع: في الأصح، فإن كثر بطلت، واحتاج إلى استئنافها.
(6) أي لغير قائم من نوم ليل فيجب على ما تقدم.
(7) أي إن وجد ذلك المسنون كغسل اليدين قبل التسمية، بأن أراد أن يقدم غسل كفيه على التسمية، فيسن الإتيان بالنية عند غسلهما لتشمل النية مسنون الطهارة ومفروضها فيثاب عليهما وكذا عبارة شرح الإقناع والمنتهى، وفي شرح المنتهى لمصنفه وغيره: قبل المضمضة والاستنشاق وهو أولى لإيهامه عدم وجوب تقدم النية على التسمية.(1/197)
(و) يسن (استصحاب ذكرها) أي تذكر النية (1) (في جميعها) أي جميع الطهارة لتكون أفعاله مقرونة بالنية (2) (ويجب استصحاب حكمها) أي حكم النية (3) بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة (4) فإذا عزبت عن خاطره لم يؤثر (5) وإن شك في النية في أثناء طهارته استأنفها (6) إلا أن يكون وهما كالوسواس فلا يلتفت إليه (7) .
__________
(1) بقلبه بأن يكون مستحضرا لها بقلبه في أول الطهارة ثم لا ينوي قطعها.
(2) أي موصولة بها مجموعا بينهما وكذا كل عبادة تشترك لها النية.
(3) قاله الشيخ تقي الدين وغيره، واستصحاب مصدر، واستصحب الشيء لازمه أي يجب ملازمة حكم النية.
(4) وذلك بأن ينوي في أول الطهارة، ثم لا يقطعها إلى آخرها، وإن لم يكن ذاكرا.
(5) أي إن غابت النية عن باله لم يؤثر ذلك في الطهارة كما لا يؤثر في الصلاة ومحله إن لم ينو بالغسل نحو تنظيف أو تبرد، والخاطر اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو معنى.
(6) لأن النية هي القصد فمتى علم أنه جاء ليتوضأ أو أراد فعل الوضوء فقد وجدت منه النية، فمتى شك في وجود ذلك لم يصح ما مضى منها.
(7) لأنه من الشيطان ليفسد عليه طهارته.(1/198)
ولا يضر إبطالها بعد فراغه (1) ولا شكه بعده (2) (وصفة الوضوء) الكامل أي كيفيته (3) (أن ينوي ثم يسمي) وتقدما (4) (ويغسل كفيه ثلاثا) تنظيفا لهما (5) فيكرر غسلهما عند الاستيقاظ من النوم وفي أوله (6) .
__________
(1) أي لا يضر إبطال نيته بعد فراغه من طهارته إجماعا.
(2) أي لا يضر شكه في النية والطهارة بعد الفراغ، وكذا لو شك في غسل عضو أو مسحه بعده، أو المسح على الخفين إجماعا، أما قبل الفراغ فكمن لم يأت بما شك فيه، إلا أن يكون وهما كالوسواس فيطرحه، ولا يضر سبق لسانه بغير قصده.
(3) أي هيئته والكامل يعني المشتمل على الواجب والمسنون من كيف اسم استفهام، ومن شأنها أن يسأل بها عن حال الأشياء، فما يجاب به يقال فيه كيفية. وأما المجزئ فتقدم أنه مرة إجماعا.
(4) أي النية والتسمية ثم أعادهما في الصفة، وبدأ بهما لتقدمهما على الفعل وذلك بأن ينوي الوضوء للصلاة ونحوها، ورفع الحدث كما تقدم، ثم يسمى فيقول بسم الله، وليس التراخي مطلقا معتبرا إذ التراخي المطلق يصدق بما تفوت به الموالاة وأما الترتيب الذي لا يقتضي الموالاة فهو معتبر، (فثم) هنا أولى من الفاء.
(5) أي من الوسخ ولو تيقن طهارتهما و (ثلاثا) منصوب على الحال أي ثلاث مرات يبدأ بيمينه ندبا.
(6) أي يكرر غسل اليدين ثلاثًا عند الاستيقاظ من النوم، وفي أول الوضوء، وظاهر كلام الشارح أنه لا يكفي غسل اليدين من النوم الواجب عن المسنون، قال بعض المحققين والظاهر الاكتفاء بغسلهما عند الاستيقاظ فيدخل المندوب في الواجب تبعا، كما يدخل غسل الجمعة في الغسل الواجب، ونظائره كثيرة.(1/199)
(ثم يتمضمض ويستنشق) ثلاثا ثلاثا بيمينه (1) ومن غرفة أفضل (2) ويستنثر بيساره (3) (ويغسل وجهه) ثلاثا (4) وحده (من منابت شعر الرأس) المعتاد غالبا (5) .
__________
(1) أي يتمضمض ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات.
قال ابن القيم: ولم يتوضأ إلى تمضمض واستنشق، ولم يحفظ أنه أخل به مرة واحدة.
وقال شيخ الإسلام: ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه، لأنهما من جملته، لكن يستحب لأن الذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه بدأ بهما اهـ.
وقيل: الحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض لشرفهما وتأكد تنظيفهما.
(2) أي بثلاث غرفات، يجمعهما بغرفة واحدة، ولا يفصل بينهما، وحكى ابن رشد الاتفاق عليه، لحديث علي أنه مضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات متفق عليه، وفيهما أيضا: تمضمض واستنشق من كف واحد، فعل ذلك ثلاثا، وعند أحمد: فمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا، وقال: هذا وضوء نبيكم صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: ولم يجيء الفصل بينهما في حديث صحيح. وقال النووي: لم يثبت في الفصل حديث أصلا. بل الصواب تفضيل الجمع، للأحاديث الصحيحة المتظاهرة، وليس لها معارض.
(3) لحديث عثمان ولأنه من إزالة الأذى.
(4) للنص فيأخذ الماء بيديه جميعا عند الجمهور، أو بيمينه ويضم إليها الأخرى ويغسل بهما، لأنه أمكن وأسبغ، ويبدأ بأعلى وجهه، ثم يحذره، لفعله عليه الصلاةوالسلام ولأن أعلى الوجه أشرف، وذلك الفعل أمكن ليجري الماء بطبعه.
(5) يعني التي من شأنها في العادة أن ينبت فيها شعر الرأس والمعتاد في أغلب
الناس. فلا حاجة لذكره (غالبا) بعد المعتاد ولا عبرة بالأفرع الذي ينبت شعره في بعض جبهته ولا بالأجلح الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه، فيغسل الأفرع الشعر الذي ينزل على الوجه لا في الغالب، والأصلع يغسل إلى حد منابت الشعر في الغالب.(1/200)
(إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا) (1) مع ما استرسل من اللحية (2) (ومن الأذن إلى الأذن عرضا) (3) لأن ذلك تحصل به المواجهة (4) والأذنان ليسا من الوجه (5) بل البياض الذي بين العذار والأذن منه (6) .
__________
(1) اللحيين بكسر اللام وفتحها، جمعها لحى، وواحدها لحي، وهما عظمان في أسفل الوجه قد اكتنفاه والذقن بفتحتين ويكسر، جمعه أذقان وذقون، مجمع اللحيين من أسفلهما. و (طولا) نصب على التمييز أي من جهة الطول، فيجب غسل ذلك إجماعا، واللحى الأعلى والأسفل في الغسل سواء، وكذلك الذقن ولا خلاف في دخول في غسل الوجه.
(2) طولا وما خرج منه عن حد الوجه عرضا، لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام فإن اللحية من الوجه ولأنها تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة وهذا مذهب الشافعي، وصحح ابن رجب عدم وجوب غسل ما استرسل من اللحية.
(3) أي ما بين الأذنين وفاقا لأبي حنيفة والشافعي وجماهير أهل العلم، لدخوله في مسمى الوجه، ولو عبر ببين لكان أولى، احترازا من دخول الغاية في المغيا.
(4) أي المقابلة. من: واجهه بوجهه قابله.
(5) وتقدم أنهما من الرأس.
(6) أي من الوجه. فيجب غسله لدخوله في مسمى الوجه، نص عليه الخرقي وغيره، وهو مذهب الجمهور إلا أن مالكا قال: ليس من الوجه فلا يجب غسله لكن قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقوله هذا اهـ ونبه الشارح عليه لأنه يغفل الناس عنه، والبياض الذي فوق الأذنين من الرأس، فيجب مسحه معه.(1/201)
(و) يغسل (ما فيه) أي في الوجه (من شعر خفيف) يصف البشرة كعذار وعارض (1) وأهداب عين وشارب وعنفقة، لأنها من الوجه (2) لا صدغ وتحذيف، وهو الشعر بعد انتهاء العذار والنزعة (3) .
__________
(1) العذار جانب اللحية وعذار الرجل شعره النابت في موضع العذار، وهو العظم الناتئ سمت صماخ الأذن، أي خرقها السائل على اللحية، والعارض صفحة الخد، وهو ما تحت العذار إلى الذقن، فهو ما ينبت على الخد واللحيين ويستحب تعاهد المفصل بالغسل، وهو ما بين اللحية والأذن نص عليه.
(2) فيجب غسل تلك المذكورات وما تحتها، لأن الذي لا يستره شعره يشبه ما لا شعر عليه، وقال النووي: يغسلها مع الكثافة بلا خلاف اهـ إلا وجها مرجوحا وعلل بأن الكثافة فيها نادرة، وذكر أنه يجب غسل ما على اليد والرجل بلا خلاف لندوره وفي الجنابة مطلقا، لعدم المشقة فيه، لقلة وقوعه، وتقدم أن العنفقة شعيرات بين الشفة السفلى والذقن.
(3) فالصدغ بضم الصاد هو الشعر الذي بين انتهاء العذار، يحاذي رأس الأذن وينزل عنها قليلا، والتحذيف هو الشعر بعد انتهاء العذار الخارج إلى طرفين الجبين في جانبي الوجه، سمي تحذيفا لأن النساء والأشراف يحذفون الشعر عنه ليتسع الوجه، فلا يغسلهما مع الوجه، بل هما من الرأس، لاتصال شعر هما بشعر الرأس، لم يخرجا عن حده، وفي حديث الربيع، مسح برأسه وصدغيه رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ولم ينقل أنه غسلهما مع الوجه وقال النووي صحح الجمهور أن موضع التحذيف من الرأس وقوله: والنزعة بفتح الزاي وقد تسكن وصوابه بين النزعة وانتهاء العذار، كما هو واضح، وهو كذلك في المبدع والإقناع والمنتهى وغيرها.(1/202)
ولا النزعتان وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا من جانبيه (1) فهما من الرأس (2) ولا يغسل داخل عينيه ولو من نجاسة، ولو أمن الضرر (3) .
__________
(1) أي جانبي مقدمه، لأنه لا تحصل بهما المواجهة، ولدخولهما في حد الرأس.
(2) يعني النزعتين، لدخولهما في حد الرأس، قال النووي: وأما إذا تصلع الشعر عن ناصيته أي زال عن مقدم رأسه، فلا يجب غسل ذلك الموضع بلا خلاف، لأنه من الرأس، ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة فإن عمها وجب غسلها بلا خلاف.
(3) فلا يغسلهما في وضوء ولا غسل، ولو كان من نجاسة، فإنه يعفى عن النجاسة بعين، ولو أمن الضرر بغسلهما لأنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام فعله، ولا الأمر به، قال في الرعاية: يكره، وصححه في الإنصاف، قال مرعي: ويتجه ودمعه طاهر، ويستحب تكثير ماء الوجه، لأن فيه غضونا، وهي التثنى وأسارير جبهته وهي خطوط الجبهة والكف، وهي التكاسير والعطوف والطيات ألفاظ مترادفة ولأن فيه دواخل وخوارج، فيستحب تكثير الماء ليصل إلى جميعه لحديث وكان يتعاهد المأقين رواه أحمد وغيره ووثقه الحافظ، والمأقان هما طرفان الوترة، وهي الحاجز بين ثقبي الأنفن وظاهر شفته وما غار من الأجفان، وإن كانت هذه كلهاداخلة في تحديد الوجه، فنبه لها لأن الماء ينبو عنها، لا جرحا برأ أو خلقا غائرا كثيرا يشق إيصال الماء إليه.(1/203)
(و) يغسل الشعر (الظاهر) من (الكثيف (1) مع ما استرسل منه) (2) ويخلل باطنه وتقدم (3) (ثم) يغسل (يديه مع المرفقين) (4) وأظفاره ثلاثا (5) ولا يضر وسخ يسير تحت ظفر ونحوه (6) .
__________
(1) أي الملتف لحصول المواجهة به، فوجب تعلق الحكم به، قال النووي: لا خلاف في وجوب غسل اللحية الكثيفة، ولا يجب غسل باطنها، ولا البشرة تحته اتفاقا وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وقال ابن رشد: هذا مما لا أعلم فيه خلافا، وإذاكان كثيفا وخفيفا فلكل واحد حكمه.
(2) أي ويغسل ما استرسل من الشعر، أي تدلى ونزل وامتد وانبسط، حتى صار سبطا لا جعدا.
(3) أي في باب السواك وسنن الوضوء، وشعور الوجه تسعة عشر: اللحيان وهما ما نبت فيهما الأسنان السفلى من الأضراس إلى الثنايا، والذقن وهو مجمع اللحيين والعذران والعارضان وهما ما بين العذارين واللحيين، والحاجبان، وأهداب العينين، والحدان، والعنفقة، والشارب، والسبالان.
(4) إجماعا، ولنص الآية، ولحديث وائل: غسل يديه حتى جاوز المرفق، رواه البزار وغيره، ولما في الصحيح، غسل يده حتى أشرع في العضد، وغير ذلك من الأحاديث، والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وتقدم، سمي بذلك لأن المتكئ يرتفق به إذا أخذ براحته رأسه متكئا على ذراعه.
(5) قال في الرعاية: إجماعا وإن طالت وما ظهر من ثقب أو شق، فيجب إزالة ما به من نحو شمع، بخلاف المستتر منه، وقوله (ثلاثا) صفة للوضوء الكامل لحديث عثمان وغيره.
(6) كداخل أنف يمنع وصول الماء، وتصح طهارته اختاره الموفق وغيره، وصححه في الإنصاف، قال الشيخ وكل وسخ يسير في شيء من أجزاء البدن
وما يكون بشقوق الرجلين من الوسخ يعفى عنه، وألحق به كل يسير منع، حيث كان من البدن، كدم وعجين ونحوهما، واختاره، ولا يعيد من قلم ظفره أو حلق رأسه وكان الصحابة يحلقون بمنى ثم ينزلون إلى طواف الإفاضة، ولم ينقل عن أحد منهم أنه أعاد مسح رأسه إذا حلقه لطهارة الوضوء، ولأنه لا يعيده لطهارة الجنابة اتفاقا، فطهارة الوضوء أولا.(1/204)
ويغسل ما نبت بمحل الفرض من إصبع أو يد زائدة (1) (ثم يمسح كل رأسه) بالماء (2) .
__________
(1) قال النووي وغيره: بلا خلاف، لدخول ما نبت في محل الفرض من إصبع زائدة أو يد زائدة في مسمى ما نبت فيه، وكذا في غير محل الفرض، ولم يتميز ليخرج من العهد بيقين وإن تميزت عن محل الفرض ولو طويلة فلا لأنها حينئذ ليست داخلة في مسمى محل الفرض.
(2) أي بماء جديد غير ما فضل عن ذراعيه لخبر: ومسح رأسه بماء غير فضل يديه ولأن البلل الباقي في يده مستعمل، ومسح جميع الرأس واجب للآية ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح جميع رأسه، وفعله بيان للآية.
قال أبو داود، ولم يصح عنه في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة، وقال الشيخ: ولم ينقل أنه اقتصر على مسح بعض رأسه، وليس في القرآن ما يدل على جواز مسح بعض الرأس، وما يفعله بعض الناس من مسح شعرة أو بعض رأسه بل شعرة ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها.
وقال: اتفق الأئمة كلهم على أن السنة مسح جميع الرأس، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، والحسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم لم ينقل أحد منهم أنه اقتصر على بعض رأسه.
وقال النووي وغيره من محققي أصحاب المذاهب، مسح الرأس واجب
بالكتاب والسنة والإجماع، واستيعابه بالمسح مأمور به بالإجماع
وقياس مسح الرأس على مسح الوجه واليدين في التيمم في وجوب الاستيعاب والفعل والباء والأمر في الموضعين سواء، والرأس ما اشتملت عليه منابت الشعر المعتاد، وقال: ما ذهب إليه الشافعية من أن الواجب ما يطلق عليه الاسم ولو شعرة مذهب ضعيف اهـ ولا يجوز الاقتصار بالمسح على الأذنين عوضا عن مسح الرأس بالإجماع، ولا يعتبر الأفرع، ولا الأجلح، والنزعتان منه، والصدغان، على ما تقدم، والمطلوب مسح ظاهر الرأس، فلو مسح البشرة لم يجزئه، ولا على معقوص في محل الفرض، ولا على مخضوب بما يمنع وصول الماء، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، لعدم مشاركته للرأس، لا إن عقد النازل فوق الرأس فيمسحه.(1/205)
(مع الأذنين مرة واحدة) (1) فيمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه (2) .
__________
(1) لحديث ابن عباس: مسح برأسه وأذنيه باطنهما وظاهرهما، صححه الترمذي وغيره، وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم، فيجب مسحهما معه لأنهمامنه وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وعنه يستحب، قال الشارح: هذا ظاهر المذهب، واختاره الشيخ وجزم به في العمدة، وحكى ابن جرير وغيره الإجماع على صحة طهارة من ترك مسحهما ولا يستحب تكرار مسح الرأس، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، لأن أكثر من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح الرأس مرة واحدة، وقال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، وقال ابن القيم: والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه بل كان إذا كرر غسل الأعضاء أفرد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحا، ولم يصح عنه خلافا البتة اهـ وقال غير واحد، أجمع الناس قبل الشافعي على عدم التكرار، وحكي عنه مرة، واختاره البغوي والبيهقي وغيرهما.
(2) القفا مقصور، مقدم العنق، قال اللخمي: ولا خلاف أنه لو اقتصر على ذلك ولم يردهما لأجزأه اهـ والسنة ردهما إلى مقدم رأسه، كما سيأتي.(1/206)
ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه (1) ثم يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه (2) ويمسح بإبهاميه ظاهرهما (3) ويجزئ كيف مسح (4) .
__________
(1) لحديث عبد الله بن زيد أنه عليه الصلاة والسلام مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، رواه الجماعة قال بعض أهل العلم: يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما من مقدم رأسه ويضع الإبهامين على الصدغين ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه، نص عليه وهوالمشهور والمختار للأخبار وقيل غير ذلك، ولا فرق بين من خاف انتشار شعره وغيره، وهذه الصفة متفق عليها بين المسلمين اتباعا للسنة المتظاهرة.
(2) السبابة الإصبع التي تلي الإبهام سميت بذلك للإشارة بها عند السب، وهي المسبحة والصماخ بكسر الصاد الخرق المفضي من الإذن إلى الرأس، أي فيدخلهما فيهما ويديرهما.
(3) وهكذا وصف ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه النسائي، ولا يجب مسح ما استتر بالغضاريف، وهي دواخل قوف الإذن، لأن الرأس الذي هو الأصل لا يجب مسح ما استتر منه بالشعر، فالأذن أولى.
(4) أي على أي صفة مسح رأسه كفى، إذا عم جميعه بيده، أو بحائل خرقة مبلولة وغيرها، ويجزئ أيضا غسل رأسه مع إمرار يده، لحديث معاوية: غرف غرفة من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قطر الماء أو كاد يقطر، ثم مسح من مقدمه إلى مؤخره ومن مؤخره إلى مقدمه، رواه أبو داود، قال ابن المنذر: ولا نعلم خلافا في أن غسله يجزئ وهو خلاف الأولى اهـ ومن رحمة الله تعالى أن أقام مسحه في الوضوء مقام غسلة تخفيفا ورحمة إذ لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة، وإمساس العضو بالماء امتثالا لأمر الله وطاعة له وتعبدا يؤثر في نظافته وطهارته مالا يؤثر بالماء بدون نية.(1/207)
(ثم يغسل رجليه) ثلاثا (مع الكعبين) (1) أي العظمين الناتئين في أسفل الساق من جانبي القدم (2) (ويغسل الأقطع بقية المفروض) (3) .
__________
(1) أي كعبي كل رجل، لأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد، وغسل الرجلين مع الكعبين واجب بالكتاب والسنة والإجماع لآية (وأرجلكم) وللنصوص المتواترة المشهورة في الصحيحين وغيرهما، منها حديث عثمان، وحديث علي، وحديث ابن عباس وأبي هريرة، وعبد الله بن زيد والربيع وعمرو بن عبسة وغيرهم، وقيل: الواجب المسح، وقيل: يجمع بينهما قال الشيخ: وهذه المذاهب باطلة بإجماع المسلمين لآية (وأرجلكم) وللنصوص المتواترة وفي الصحيحين ويل للأعقاب من النار، ولحديث صاحب اللمعة، وحديث عمرو بن شعيب، وفيه: ثم غسل رجليه ثلاثا، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، وهو حديث صححه أئمة الحديث ولغير ذلك من الأحاديث، وقوله ثلاثا صفة للكامل، لحديث عثمان وغيره، والطهارة ثلاثا ثلاثا في غير مسح الرأس سنة إجماعا.
(2) قاله أبو عبيد وغيره، وتقدم ذكر الاتفاق عليه واشتاقه من التكعب وهو التوسع مع الاستدارة لما سبق ويصب الماء بيمينه يديه على كلتا رجليه ويغسلهما باليسرى ندبا.
(3) أي يغسل مقطوع اليد أو الرجل بقية المفروض أصلا وتبعا وجوبا بلا خلاف، ومن خلق بلا مرفق ونحوه غسل إلى قدره من غالب الناس، وكالوضوء تيمم، فالأقطع من مفصل يمسح محل القطع بالتراب، ومن دونه يمسح ما بقي من محل الفرض، ومن فوقه يستحب له مسح قطع بتراب.(1/208)
لحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه (1) (فإن قطع من المفصل) أي مفصل المرفق (غسل رأس العضد منه) (2) وكذا الأقطع من مفصل كعب يغسل طرف ساق (3) (ثم يرفع نظره إلى السماء) بعد فراغه (4) .
__________
(1) فإذا غسل بقية المفروض فقد أتى ما استطاع حسا وشرعا.
(2) أي من مفصل المرفق والمفصل كمجلس واحد مفاصل الأعضاء، وهو كل ملتقى عظمتين من الجسد، والعضد بالدال غليظ الذراع الذي بين المرفق والكتف.
(3) الساق مؤنثة مهموزة وجمعها سوق وسوق سيقان وأسوق، ما بين الركبة والقدم، أي ومثل الأقطع من مفصل المرفق في الحكم الأقطع من مفصل كعب، والأقطع من دونهما يغسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق شيء
من محل الفرض، بأن كان القطع من فوق مرفق وكعب سقط الغسل بلا نزاع، لعدم محله، لكن يستحب له مسحه بالماء، لئلا يخلو العضو من طهارة حكاه غير واحد.
وقال ابن القيم وغيره: وإن وجد أقطع ونحوه من يوضئه بأجرة مثل وقدر عليها بلا ضرر لزمه، فإن لم يجد ووجد من ييممه لزمه، وإن لم يجد صلى على حسب حاله.
وقال الموفق والنووي وغيرهما: لا نعلم فيه خلافا، ولا إعادة عليه، اختاره الموفق والمجد والشيخ وغيرهم، واستنجاء مثله، وإن تبرع أحد بتطهيره لزمه ذلك.
(4) أي يسن لمن فرغ من وضوئه رفع بصره إلى السماء، لما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ، وكذا الغسل والتيمم مثلهما قياسا عليهما وقيل: يستحب أن
يأتي بالذكر متوجها إلى القبلة كما في حالة الوضوء وغيره من الطاعات لما في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة فدعا على نفر من قريش.(1/209)
(ويقول ما ورد) (1) ومنه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (2) (وتباح معونته) أي معونة المتوضئ (3) .
__________
(1) أي يسن أن يقول بعد فراغه من الوضوء ما ورد من الأدعية في ذلك باتفاق أهل العلم، وكذا التيمم، لأنه طهارة كالوضوء فسن الذكر بعده كالوضوء.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث عمر ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد إلخ، إلا وفتحت له أبواب الجنة الثمانية، وزاد الترمذي وغيره، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، والتوابين جمع تواب، صيغة مبالغة وهو كثير التوبة، والمتطهر الذي لا ذنب له، زاد بعضهم واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ويستحب أن يضم إليه ما روى ابن ماجه والحاكم وغيرهما سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، ولما كان الوضوء طهارة الظاهر ناسب ذكر طهارة الباطن بالتوحيد والتوبة، وهما أعظم المطهرات وإذا اجتمع له الطهوران صلح للدخول على الله، والوقوف بين يديه، ومناجاته وأما الأذكار التي تقال عند غسل كل عضو من أعضاء الوضوء، فقال النووي: وغيره: كذب مختلق لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم منها شيء، ولا علمه أمته، ولا ثبت غير ما تقدم، وقال الشيخ وتلميذه وغيرهما، والأذكار التي تقولها العامة عند كل عضو بدعة لا أصل لها، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة.
(3) كتقريب ماء الغسل، أو الوضوء إليه، أو صبه عليه لحديث المغيرة
صببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة، متفق عليه، واستعان بأسامة في صب الماء على يديه، وصب عليه صفوان في الحضر والسفر، والمتوضئ من اتصف بالوضوء والمعونة والإعانة، بمعنى العون الظهير على الأمر والخادم، وقد استمر أمره عليه الصلاة والسلام بعدم الاستعانة فيه، وقال أحمد: ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد لأن عمر قال ذلك، فأما تقريب وضوئه ونحوه فلا بأس به، ولا يقال إنه خلاف الأولى، لما ثبت في مواطن كثيرة، وأما غسل أعضائه لغير عذر فيكره وكذا صب الماء فخلاف الأولى، قطع به البغوي وغيره.(1/210)
وسن كونه عن يساره (1) كإناء ضيق الرأس (2) وإلا فعن يمينه (3) (و) يباح له (تنشيف أعضائه) من ماء الوضوء (4)
__________
(1) ليسهل تناول الماء عند الصب، وأعون وأحسن في الأدب، وفي سنيته نظر، وليس في حديث المغيرة ولا أسامة ولا صفوان ولا غيرهم أنهم كانوا عن يساره.
(2) ليسكب الماء بيساره في يمينه.
(3) أي وإلا يكن الإناء ضيق الرأس، بل كان واسعا فيجعله عن يمينه لفعله عليه الصلاة والسلام ولأنه أمكن لنقل الماء إلى الأعضاء.
(4) أي مسحة بخرقة ونحوها، لحديث سلمان، توضأ ثم قلب جبة كانت عليه فمسح بها وجهه، رواه ابن ماجه وغيره، وحديث قيس بن سعد: ناوله ملحفة فاشتمل بها، رواه أحمد وأبو داود، وللبيهقي: كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء، ولأنه إزالة للماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه، وروي أخذ المناديل عن كثير من أهل العلم، ورخص فيه مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، ولا يستحب اتفاقا قال ابن عباس: كانوا لا يرون بالمنديل بأسا، ولكن يكرهون العادة وقطع جمهور المحققين باستحباب تركه، وحكاه إمام الحرمين عن الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يحرم إجماعا، وقال ابن القيم: لم يكن صلى الله عليه وسلم يعتاد تنشيف أعضائه بعد الوضوء، ولا صح عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث البتة، ولا يكره نفض يديه، لحديث ميمونة أتيته بالمنديل فرده، وجعل ينفض الماء بيديه متفق عليه.(1/211)
ومن وضأه غيره ونواه هو صح، إن لم يكن الموضئ مكرها بغير حق (1) وكذا الغسل والتيمم (2) .
__________
(1) أي وأي إنسان وضأه غيره ونوى المفعول به ذلك صح بلا خلاف يعتد به، لأنه المخاطب، سواء كان الفاعل مسلما أو كافرا، لوجود النية من الموضأ وفي الحديث وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن لم ينوه لم يصح ولو نواه الفاعل، وأبرز الضمير لئلا يتوهم أنه عائد على الفاعل، وهو ليس كذلك، ومفهومه أنه إن كان الفاعل مكرها بغير حق لم يصحن قال بعض الأصحاب، وقواعد المذهب تقتضي الصحة إذا أكره الصاب ولو بغير حق، لأن الصب ليس بركن ولا شرط، وإن كان مكرها بحق كرقيقه وأجيره صح بلا خلاف يعتد به.
(2) أي حكمهما حكم الوضوء في المعونة والتنشيف، وحكى النووي عن طائفة من أهل العلم أن الأفضل أن يلي المتوضئ، وكذا المغتسل والمتيمم ذلك بنفسه لنفسه فإن ولي ذلك غيره أجزأ وحكى عن طائفة منهم أن ذلك لا يجزئه قال: ومنهم مالك، والذي يظهر من مذهبه وقوله خلاف ذلك، إلا أن يفعله استنكافا عن عبادة الله واستكبارا عنها وتهاونا بها.(1/212)
باب مسح الخفين
وغيرهما من الحوائل (1) وهو رخصة (2) .
__________
(1) كالجوربين والجرموقين والعمامة والخمار والعصابة ونحو ذلك، وعبر بعضهم بمسح الحائل وهو أشمل، والمسح لغة: إمرار اليد على الشيء، وشرعا: إصابة البلة لحائل مخصوص في زمن مخصوص، والحف واحد الخفاف التي تلبس على الرجل، سمي بذلك لخفته، وهو شرعا: الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه، أعقبه الوضوء لأنه بدل عن غسل ما تحته، وحيث أنه يجوز أن يعدل إليه المتوضئ، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة في مسحه صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر وأمره بذلك وترخيصه فيه، قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين، وقال النووي: روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة، ويأتي قول الإمام أحمد: ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ونقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه، واتفق عليه أهل السنة والجماعة وقال ابن القيم: صح في الحضر والسفر، ولم ينسخ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومال الشيخ إلى أن السنة ليست معارضة لآية المائدة بل مبينة، ومال أيضا إلى أن حمل قراءة الآية بالخفض على مسح الخفين.
(2) أي المسح رخصة، وهي لغة الانتقال من صعوبة إلى سهولة، وشرعا، ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وفي الحديث إن الله يحب أن يؤخذ برخصة وعنه عزيمة وهي لغة: القصد المؤكد، وشرعا، حكما ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح، وهما وصفان للحكم الوضعي، والفرق بينهما أن الرخصة ما جاء على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، وهي لا تستباح بالمعاصي، والعزيمة، ما جاء على وفق دليل شرعي خال عن معارض راجح، وهي ما جاز فعلها، ولو في حال المعصية.(1/213)
وأفضل من غسل (1) ويرفع الحدث (2) ولا يسن أن يلبس ليمسح (3) (يجوز يوما وليلة) لمقيم (4) .
__________
(1) لقوله عليه الصلاة والسلام بهذا أمرني ربي، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولحديث صفوان: أمرنا أن لا ننزع خفافنا الحديث صححه الترمذي، ولحديث إن الله يحب أن تؤتي رخصه، ومخالفة لأهل البدع، ولأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه إنما طلبوا الأفضل.
وقال الشيخ: الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه، فالأفضل للابس الخف أن يمسح عليه ولا ينزع خفيه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والأفضل لمن قدماه مكشوفتان غسلهما، وقد يجب المسح كما سيأتي أو يكره.
(2) أي ويرفع المسح على الحائل الحدث عما تحته نص عليه، وإن كان موقتا لأنه طهارة بالماء أشبه الغسل، ولأن رفع الحدث شرط للصلاة مع القدرة فلو لم يحصل بالمسح لما صحت الصلاة به.
(3) أي لا يسن أن يلبس خفا ونحوه ليمسح.
قال الشيخ: ولا يتحرى لبس الخف ليمسح إنما كان عليه الصلاة والسلام يغسل قدميه إن كانتا مكشوفتين ويمسح إذا كان لابسا للخف، وقال ابن القيم: ولم يكن صلى الله عليه وسلم يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه، بل إن كانت في الخف مسح عليهما، وإن كانت مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه.
قال الشيخ: وهذا أعدل الأقوال.
(4) أي يجوز في الوضوء بدلا عن غسل الرجلين المسح على الخفين ونحوهما
لا على خف رجل واحدة مع غسل الأخرى، يوما وليلة لمقيم، قال النووي وغيره: بلا خلاف سواء سبق اليوم ليلته أو لا، ولو أحدث في أثناء النهار اعتبر قدر الماضي منه كما يأتي، وتعبيرهم (بيجوز) فيه تنبيه على أنه لا يجب ولا يسن، ولا يحرم، ولا يكره، إلا إن أحدث ومعه ماء يكفي المسح فقط، أو خاف فوت الجمعة أو الجماعة، أو عرفة أو إنقاذ أسير، أو تعينت عليه صلاة الميت، وخاف انفجاره، أو خاف خروج الوقت إذا اشتغل بالطهارة أو نحو ذلك، وجب وحرم تركه أو ترك المسح رغبة عن السنة، أو شكا في جوازه كره أو حرم.(1/214)
ومسافر لا يباح له القصر (1) (ولمسافر) سفرا يبيح القصر (ثلاثا) أيام (بلياليها) (2) لحديث علي يرفعه «للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوم وليلة» رواه مسلم (3) .
__________
(1) كعاص بسفره ونحوه، ثم يخلع كالمقيم، فلا يستبيح به الرخصة وكذا مسافر دون المسافة، وتعليل بعض الأصحاب لا يدل عليه نص من كتاب ولا سنة ولا قياس، بل الإطلاق يدل على جوازه مطلقا، وهو مذهب الجمهور.
(2) بلا خلاف قاله النووي وغيره، واختار الشيخ وغيره ما سمي سفرا، لعدم التحديد ويأتي في بابه.
(3) ورواه أهل السنن وأحمد وصححه وقال: هو مرفوع يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر إلخ وأخرج أحمد والترمذي وصححه عن صفوان أمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم، ولكن من جنابة، قال أحمد: هذا أجود حديث في المسح، لأنه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال البخاري: وليس في التوقيت أصح من حديث صفوان فدل على التوقيت وعلى اختصاصه بالوضوء دون الغسل وهو إجماع، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الحسنة والصحيحة، وقال الترمذي: هو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقال الخطابي: هو قول عامة الفقهاء، وقال الطحاوي: ليس لأحد أن يترك الآثار المتواترة في التوقيت إلى مثل حديث ابن عمارة.(1/215)
ويخلع عند انقضاء المدة (1) إن خاف أو تضرر رفيقه بانتظاره تيمم (2) فإن مسح وصلى أعاد (3) وابتداء المدة (من حدث بعد لبس (4) على طاهر) العين فلا يمسح على نجس ولو في ضرورة (5) .
__________
(1) لمفهوم أحاديث التوقيت.
(2) أي فإن خاف من النزع لنحو مرض تيمم، أو خاف تضرر رفيقه وفي الاختيارات، لا تتوقت مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس كالبريد.
(3) أي فإن مسح بعد انقضاء المدة وصلى أعاد، لانقضاء وقته، نص عليه، وقيل: يمسح كالجبيرة اختاره الشيخ، ويأتي قوله: لا ينتقض وضوءه بانقضاء المدة.
(4) أي ووقت ابتداء مدة المسح من وقت جواز مسح بعد حدث عند الجمهور، وفي رواية في حديث صوفان من الحدث إلى الحدث، ولأنها عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها لامن وقت مسح، وعنه منه اختاره المنذري وقال النووي: هو أصح دليلا بعد لبس بضم اللام إلى مثله من الثاني، وإلى الرابع: لأن وقت المسح يدخل بذلك فاعتبرت مدته منه، فيمسح فيها لما يشاء من الصلوات، وإن مضت المدة بع الحدث ولم يمسح فيها فليس له المسح، ويخلع لفراغ مدته، وما لم يحدث فلا تحتسب المدة، وكذا من المسح على القول به.
(5) لأن نجس العين منهي عنه، فلا يصح المسح عليه خفا كان أو غيره.(1/216)
ويتيمم معها لمستور (1) (مباح) فلا يجوز المسح على مغصوب (2) ولا على حرير لرجل (3) لأن لبسه معصية فلا تستباح به الرخصة (4) (ساتر للمفروض) (5) ولو بشده أوشرجه (6) .
__________
(1) أي يتيمم مع الضرورة من لبس نجسا ساترا للعضو كخف نجس العين، وكذا إن كان النجس عمامة أو جبيرة فإنه يتيمم عند الضرورة بدل غسل ما ستر بذلك النجس، وقالوا يعيد ما صلى به لأنه حامل للنجاسة، ومن فعل ما أمر به بحسب وسعه فلا إعادة عليه، وليس في الشريعة إيجاب الصلاة مرتين إلا بتفريط، فإن كان طاهر العين وتنجس باطنه صح المسح عليه، ويستبيح به مس المصحف، ولا صلاة إلا بغسله أو عند الضرورة.
(2) ولا تستباح به الرخصة قاله الشيخ وغيره، ولو لضرورة فقوله: (مباح) أي مطلقا مع الضرورة وعدمها، وقيل: إلا لضرورة برد ونحوه، وقيل: يجوز مطلقا، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن المعصية لا تختص اللبس، فلو تركه لم يزل إثم الغصب.
(3) ولو محرما لبسهما لحاجته، بأن لم يجد النعلين، لأن شرط الممسوح إباحته مطلقا، وهما لا يباحان للمحرم مطلقا، بل في بعض الأحوال.
(4) فإن صلى أعاد الطهارة والصلاة.
(5) أي فلا يجوز المسح على ما لا يستر محل الفرض، وهو القدم، قالوا: حكم ما استتر المسح، وما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فوجب الغسل، لأنه الأصل، قال الشيخ: وقولهم: إن فرض ما ظهر الغسل وما بطن المسح، خطأ بالإجماع، والشارع أجاز المسح على الخفين مطلقا، ولم يشترط الستر فلا أصل له.
(6) أي ربطه بخيط ونحوه، أو شرجه بالعري والأزرار قبل اللبس أو بعده، قبل الحدث، بحيث لا يظهر شيء من محل الفرض.(1/217)
كالزربول الذي له ساق وعرى يدخل بعضها في بعض (1) فلا يمسح ما لا يستر محل الفرض لقصره أو سعته أو صفائه (2) أو خرق فيه وإن صغر حتى موضع الخرز (3) فإن انضم ولم يبد منه شيء جاز المسح عليه (4) .
__________
(1) فيستتر بذلك محل الفرض فيصح بذلك المسح عليه، يعني على الزربول وهو نوع من الخفاف عامية جمعه زرابيل، والعرى هي العيون التي توضع فيها الأزرار، جمع عروة، كمدية ومدى.
(2) أي بحيث يظهر بعض محل الفرض لقصره، أو يرى بعض محل الفرض لسعته، أو يصف البشرة لصفائه، كزجاج رقيق، أو خفته كجورب رقيق، ويجب الغسل.
(3) أي ولا يمسح على الخف لخرق في الخف وإن صغر الخرق، قال الشيخ: ومذهب مالك وأبي حنيفة وابن المبارك وغيرهم أنه يجوز المسح على ما فيه خرق يسير، وهو أصح، وهو قياس أصول أحمد ونصوصه، واختار جواز المسح على المخرق، إلا أن يتخرق أكثره، مادام اسمه باقيا، والمشي فيه ممكنا، وإلا فكالنعل، وقال: معلوم أن الخفاف في العادة لا يخلو كثير منها عن فتق أو خرق، وكان كثير من الصحابة فقراء، والعادة في اليسير لا يرقع، ولما ورد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح حمل على الإطلاق، والتحديد لا بد له من دليل، قال: والشارع علق المسح بمسمى الخف، ولم يفرق بين خف وخف، فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ومن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقا لا أصل له.
(4) أي فإن انضم الخرق ونحوه بلبسه جاز المسح عليه، لحصول الشرط، وهو ستر محل الفرض، ولا يعتبر موالاة المشي فيه.(1/218)
(يثبت بنفسه) (1) فإن لم يثبت إلا بشده لم يجز المسح عليه (2) وإن ثبت بنعلين مسح إلى خلعهما ما دامت مدته (3) ولا يجوز المسح على ما يسقط (4) (من خف) بيان لطاهر (5) أي يجوز المسح على خف يمكن متابعة المشي فيه عرفا (6) قال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) .
__________
(1) في الساق، ولا يسترسل عند المشي.
(2) لفوات شرطه نص عليه، وقال الشيخ: فيه وجهان، أصحهما أنه يمسح عليه، وهذا الشرط لا أصل له في كلام أحمد، بل المنصوص عنه أنه يجوز المسح على الجوربين فغيرهما أولى، فلو لم يثبت الملبوس إلا بشده بخيط متصل أو منفصل جاز المسح عليه.
(3) أي مسح على أحدهما قدر الواجب إلى خلعهما ما دامت مدة المسح.
(4) أي لا يصح المسح على خف يسقط أي يخرج من القدم إلا بشده.
(5) أي في قولهما السابق: بعد لبس على طاهر العين.
(6) فلا يشترط كون الخف يمنع نفوذ الماء، ولا كونه معتادا، فيصح المسح على خف من جلود أو لبود أو خشب أو حديد أو زجاج لا يصف البشرة حيث أمكن المشي فيه، قيل: بقدر ما يتردد المسافر في حاجته، لأن ما لا يمكن متابعة المشي عليه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة، ولو قال: على خف طاهر يمكن إلخ لكان أولى,.
(7) وذكر ابن مندة من رواه فكانوا ثمانين صحابيا، منهم العشرة رضي الله عنهم.(1/219)
(وجورب صفيق) (1) وهو ما يلبس في الرجل على هيئة الخف من غير الجلد، لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين، رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي (2) (ونحوهما) أي نحو الخف والجورب كالجرموق (3) .
__________
(1) ضد الخفيف الذي يصف القدم من صوف أو غيره نعل أولا، وقال الزركشي: غشاء من صوف يتخذ للدفاء، أي فيجوز المسح عليه، قال في الإنصاف: بلا نزاع، إن كانا منعلين أو مجلدين، وكذا إن كانا من خرق على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وجمع الجوارب جوارب وجوارة أعجمي معرب.
(2) وصححه غيره، فرواه أحمد وأهل السنن عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وقال ابن المنذر، يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، قال في المبدع: فكان كالإجماع، ولأن الجورب في معنى الخف لأنه ساتر لمحل الفرض، وورد أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، رواه أبو داود وغيره، وحمل على أنه إذا لبسهما فوق الجوربين، وأما الخفان المقطوعان والنعلان وكلما يلبس تحت الكعبين من مداس وجمجم وغيرها فلا يجوز المسح عليه، قال شيخ الإسلام: باتفاق المسلمين.
(3) بضم الجيم، نوع من الخفاف، قال الجوهري: الذي يلبس فوقه لحفظه من الطين وغيره، وقال ابن سيدة: خف صغير، وقال النووي: شيء يشبه الخف فيه اتساع، يلبس فوق الخف في البلاد الباردة، وهو معرب يعني من سرموزة وكذا كل كلمة فيها جيم وقاف، قاله غير واحد من أهل اللغة، وتعريب الاسم العجمي وإعرابه هو أن يتفوه به العرب على مناهجها، بتغيير ما يقال: عربته العرب وأعربته.(1/220)
ويسمى الموق (1) وهو خف قصير، فيصح المسح عليه (2) لفعله عليه السلام رواه أحمد وغيره (3) (و) يصح المسح أيضا (على عمامة) مباحة (4) (لرجل) لا لامرأة (5) لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة، قال الترمذي: حسن صحيح (6) .
__________
(1) بضم الميم فارسي معرب من موزة.
(2) لأنه ساتر محل الفرض، أشبه الخف، وجواز المسح عليه مذهب جمهور العلماء، وقال أبو حامد، هو قول كافة العلماء.
(3) فرواه الترمذي وأبو داود عن بلال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الموقين، ومن تدبر ألفاظ الشريعة وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة في هذا الباب واسعة، وأن ذلك من محاسن الشريعة، ومن الحنيفية السمحة، والأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ومقصود الشارع من مشروعية الرخصة، الرفق عن تحمل المشاق، فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده.
(4) لا محرمة كمغصوبة أو حرير، والعمامة هي ما يلف على الرأس، جمعها عمائم وعمام.
(5) لأنها منهية عن التشبه بالرجال، فلا تمسح عليها، وقيل: يجوز لحاجة برد ونحوه، وأما ما تقدم من المسح على الخفين فحكمها حكم الرجل بلا نزاع، لأنه معتاد لها، ولأنه أقيم مقام الغسل فاستويا فيه كالتيمم.
(6) ومعناه عند مسلم وروي البخاري عن عمرو بن أمية: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على عمامته وخفيه، ولأبي داود عن ثوبان: أمرهم أن يمسحوا على العصائب، يعني العمائم، وله عن بلال ويمسح على عمامته، وأحاديث المسح عليها أخرجها غير واحد من الأئمة البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم من طرق قوية متصلة، ولأنه عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائل دونه كالرجل في الخف، وقال عمر: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله، وقال به أبو بكر وغيره، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهو مذهب جماعة من السلف وظاهر الأحاديث.(1/221)
هذا إذا كانت (محنكة) (1) وهي التي يدار منها تحت الحنك كور بفتح الكاف فأكثر (2) (أو ذات ذؤابة) بضم المعجمة وبعدها همزة مفتوحة (3) وهي طرف العمامة المرخى (4) فلا يصح المسح على العمامة الصماء (5) .
__________
(1) لأنها عمامة العرب، ويشق نزعها، وهي أكثر سترا قال الجوهري: الحنك ما تحت الذقن من الإنسان.
(2) أي أكثر من كور، والكور مصدر، وكل كور دور.
(3) سميت بذلك تشبيها لها بذؤابة الشعر.
(4) لأن إرخاءها سنة، وذكر شيخ الإسلام سبب إرخائها أنه صلى الله عليه وسلم اتخذها صبيحة المنام بالمدينة، لما رآى رب العزة، فقال فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع يده بين كتفي، فعلمت ما بين السماء والأرض صححه البخاري، وعن ابن عمر أنه كان يعتم بين كتفيه، وقال: عمم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع، أي فيصح المسح عليها إذا كانت كذلك، اختاره الموفق وابن عقيل والشيخ وغيرهم، وقال في شرح العمدة: يشترط أن يكون للعمامة ذؤابة أو محنكة، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن التشبه بهم، فلم يستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب.
(5) يعني غير المحنكة أوذات الذؤابة لأنها لم تكن عمة المسلمين، ولا يشق نزعها، وروي أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي ونهى عن
الإقتعاط وكان أحمد يكرهه كراهة شديدة وقال الشيخ: لا ترتقي إلى التحريم قال في الفروع، ولعل ظاهر من جوز المسح إباحة لبسها، وهو متجه لأنه فعل أبناء المهاجرين والأنصار وفي المبدع: ذكر ابن شهاب وغيره وجها بالجواز، وقالوا: لم يفرق أحمد، وفي مفردات، ابن عقيل، هو مذهبه، واختاره الشيخ تقي الدين وقال: هي كالقلانس المبطنة وأولى، لأنها في الستر ومشقة النزع لا تقصر عنها.(1/222)
ويشترط أيضا أن تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه (1) كمقدم الرأس والأذنين وجوانب الرأس فيعفى عنه لمشقة التحرز منه (2) بخلاف الخف (3) ويستحب مسحه معها (4) (و) على (خمر نساء مدارة تحت حلوقهن) (5) .
__________
(1) لأن العمامة نابت عن الشعر.
(2) ولا يجب مسح مقدم الرأس، ولا يجب مسح الأذنين معها، لأنه لم ينقل قال الشارح: لا نعلم فيه خلافا وكذا جوانب الرأس.
(3) أي فلا بد من ستر جميع المفروض.
(4) أي مسح ما جرت العادة بكشفه مع العمامة، كمقدم الرأس ونحوه، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح بناصيته، قال الشيخ: ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع، وأجزأه بدون العذر عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله تعالى.
(5) خمر بضم الخاء والميم وقد تسكن، جمع خمار، وهو النصيف والقناع، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، وكل ما ستر شيئا فهو خمار، أي يصح المسح على خمر نساء، مدارة تلك الخمر تحت حلوقهن، لأن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، ذكره ابن المنذر، وروى الإمام أحمد عن بلال عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالمسح على الخمار، ولفظ سعيد بن منصور: على النصيف. وقال الشيخ في خمر النساء من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة، وتوفق الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن خافت من البرد ونحوه مسحت على خمارها، فإن أم سلمة كانت تمسح على خمارها، وينبغي أن تمسح مع هذا بعض شعرها، وأما إذا لم يكن بها حاجة إلى ذلك ففيه نزاع بين العلماء اهـ، والنساء من الجموح التي لا واحد لها من لفظها كالرهط والقوم وكذا النسوة.(1/223)
لمشقة نزعها كالعمامة بخلاف وقاية الرأس (1) وإنما يمسح جميع ما تقدم (في حدث أصغر) (2) لا في حدث أكبر بل يغسل ما تحتها (3) (و) يمسح على (جبيرة) مشدودة على كسر أو جرح ونحوهما (4) (لم تتجاوز قدر الحاجة) وهو موضع الجرح والكسر وما قرب منه (5) .
__________
(1) أي فإنه لا يشق نزعها فتشبه طاقية الرجل قال الشارح وغيره: لا نعلم فيه خلافا لأنه لا يشق نزعها كطاقية الرجل.
(2) يعني ما تقدم من الخفين والعمامة ونحوهما.
(3) أي ما تحت الحوائل من خف وعمامة ونحوهما إجماعا.
(4) كوجع وعصابة شد بها رأسه أو غيرها، وسميتا جبيرة تفاؤلا، قال بعض أهل اللغة: وهي أعواد ونحوها تربط على الكسر أو الجرح ليلتئم فعلية بمعنى فاعلة، وقال الأزهري وغيره: هي الخشب التي تسوى فتوضع على موضع الكسر فتشد عليه حتى ينجبر على استوائها واحدتها جبارة بكسر الجيم، وجبيرة بفتحها وهما بمعنى، وفي الحاوي: الجبيرة ما كان على الكسر واللصوق بفتح اللام ما كان على قرح.
(5) وما لا بد من وضع الجبيرة عليه من الصحيح، لأنه لا بد أن توضح على طرفي الصحيح ليرجع على الكسر، والمسح على الجبيرة مجمع عليه.(1/224)
بحيث يحتاج إليه في شدها (1) فإن تعدى شدها محل الحاجة نزعها (2) فإن خشي تلفا أو ضررا تيمم لزائد (3) ودواء على البدن تضرر بقلعة كجبيرة في المسح عليه (4) .
__________
(1) لأنه موضع حاجة فتقدر بقدرها، أي فيجب تعميم الجبيرة التي تتجاوز قدر الحاجة مرة واحدة لضرورة المشقة بكشفها، وإلا فمسح الجرح البارز أولى من مسح الجبيرة نص عليه، والقياس والآثار تشهد بصحة ذلك.
(2) أي فإن تجاوز شدة الجبيرة محل الحاجة من وضعها نزعها، وظاهره أنه ينزع جميعها وجوبا، واستظهر بعضهم أنه لا يلزمه إلا نزع ما زاد على قدر الحاجة، إلا أن يصور ذلك بما إذا كان الشد بجميعه في غير محل الحاجة، ويمكن أن يصور أيضا بما إذا لم يتمكن من نزع الزائد إلا بنزع الكل، وقال الزركشي لأن المجاوزة إنما تقع غالبا لسهو أو غفلة أو دهشة فمنع الرخصة نادر في ذلك ومع الخوف من النزع فيه حرج ومشقة، وتعمد ذلك نادر فلا يفرد بحكم وفيه وجه يخزئ المسح على الزائد، اختاره الحلال وغيره، لأنه قد صارت ضرورة عليه، أشبهت موضع الكسر، وسهل فيه أحمد، لأنه مما لا ينضبط وهو شديد جدا، فلا بأس كيفما شدها.
(3) على قدر الحاجة، وغسل ما سوى ذلك، فيجمع إذا بين الغسل والمسح والتيمم قيل ذلك خروجا من الخلاف، وقال غير واحد، لا يحتاج مع مسحها إلى تيمم، لأنه محل واحد فلا يجمع فيه بين بدلين كالخف، وإن لم يكن عليه عصابة وضر مسحه غسل الصحيح وتيمم للجريح.
(4) وكذا لصوق على جرح ونحوه، ولو قارا في شق، أو كان بأصبعه فألقمها مرارة، أو فصاد وخاف انفجار الدم بإصابة الماء كجبيرة، فيجوز المسح عليه نص عليه، وروي عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة فألقمها مرارة، وكان يتوضأ عليها.(1/225)
(ولو في) حدث (أكبر) (1) لحديث صاحب الشجة (2) «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعضد أو يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود (3) .
__________
(1) فيجوز المسح عليها، لا على غير الجبيرة ونحوها في الطهارة الكبرى إجماعا لأن الضرر يلحق بنزعها بخلاف غيرها من الحوائل.
(2) اشتهر بذلك وهو: عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يقول بيديه هكذا الحديث.
(3) ورواه ابن ماجه وغيره وصححه ابن السكن لكن ما ورد عن ابن عباس بدون ذكر التيمم قال الحافظ لم يقع عن عطاء عن ابن عباس ذكر التيمم فثبت أن الزبير بن خريق تفرد بها، ويشهد له حديث علي: انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر، رواه ابن ماجه وروي عن ابن عمر أنه توضأ وكفه معصوبة فمسح عليهما وعلى العصابة، وغسل ما سوى ذلك، وقال في المبدع: وهو قول ابن عمر ولم يعرف له مخالف ولأنه عضو تعذر غسله بالماء فمسح ما فوقه كشعر الرأس، وقياسا على مسح الخفين، والعمامة وقال الشيخ: مسح الجبيرة يقوم مقام غسل نفس العضو، لأنه مسح على حائل فأجزأ من غير تيمم، كمسح الخف بل هو أولى اهـ. والعضد الضم، والعصب الشد، أي يمسح على تلك الشجة بعد العضد، أي ضم بعضها إلى بعض أو العصب أي الشد عليها بخرقة ونحوها، من عصب الشيء لواه وشده لأنه مسح أبيح للضرورة أشبه التيمم، والذي في سنن أبي داود يعصر، بدل يعضد قال شارحه أي يقطر عليها الماء، والمراد به أن يمسح على الخرقة.(1/226)
والمسح عليها عزيمة (1) (إلى حلها) أي يمسح على الجبيرة إلى حلها أو برء ما تحتها (2) وليس مؤقتا كالمسح على الخفين ونحوهما، لأن مسحها للضرورة فيتقدر بقدرها (3) .
__________
(1) فيمسح عليها العاصي بسفره، وتقدم تعريف العزيمة، والحاصل أنه إن كان في أعضاء الوضوء جرح وهو محدث الحدث الأصغر، أو في جسده جرح وهو محدث الحدث الأكبر، فإن قدر على غسل الجرح من غير ضرر وجب عليه غسله في الوضوء والغسل، وإن خاف من غسله بالماء ضرر بدنه وجب عليه غسله في الوضوء والغسل، وإن خاف من غسله بالماء ضرر بدنه أو زيادته أو تأخر برئه فله أن يمسح على ذلك العضو مباشرة، فإن خاف من وصول البلل إليه من المسح ضررا فإنه يجعل عليه جبيرة ثم يمسح على الجبيرة، والمسح واحدة ولو كان على موضع يغسل ثلاثا فإن شأن المسح التخفيف.
(2) حلها بفتح الحاء أن نقضها من حل العقدة يحلها حلا نقضها وفكها وفتحها، وإذا زالت فكخف، وقيل طهارته باقية، اختاره الشيخ مطلقا، كإزالة شعر، وقال: إذا قلع بعد الوضوء فيه نزاع، والأظهر أنه لا ينتقض الوضوء، لأن الجبيرة كالجزء من البدن.
(3) أي ليس المسح على الجبيرة ونحوها مؤقتا كالخفين، بل إلى حلها أو برء ما تحتها، لأن مسحها للضرورة فيتقدر بقدر الضرورة إليها، ويفارق مسح الجبيرة الخف في أشياء، منها أنه لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرورة بنزعها، ووجوب استيعابها بالمسح لعدم التضرر في ذلك، والمسح عليها من غير تأقيت، وجواز المسح عليها في الطهارة الكبرى للمشقة في نزعها حينئذ وأن المسح عليها عزيمة، ونظمها ابن نصر الله فقال:
عزيمة ضرورة لم يشمل ... والخرق والتوقيت فيها أهمل
وكلها امسح في الطهارتين ... وقبلها الطهر على قولين
زاد في الإنصاف: أنه يتعين على صاحب الجبيرة المسح بخلاف الخف، وأنه يجوز المسح عليها إذا كانت من حرير ونحوه، على رواية صحة الصلاة في ذلك، بخلاف الخف، وأنه يجوز في سفر المعصية، ثم قال: ويرجع ذلك كله أو معظمه إلى أن مسح الجبيرة عزيمة، ومسح الخف ونحوه رخصة، قال الشيخ: إذا لم يكن نزعها إلا بضرر صارت بمنزلة الجلد وشعر الرأس والظفر، ويمسح عليها وإن شدها على حدث عند أكثر العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب وقال: قياسها على الخفين قياس فاسد، وذكر الفرق بينهما من وجوه.(1/227)
(إذا لبس ذلك) أي ما تقدم من الخفين ونحوهما، والعمامة والخمار والجبيرة (بعد كمال الطهارة) بالماء (1) ولو مسح فيها على حائل (2) .
__________
(1) أما الخفان فإذا توضأ وضوءا كاملا ثم أدخلهما فله المسح بلا نزاع، لما في الصحيحين وغيرهما، ودعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، وروى الحميدي وغيره عن المغيرة: أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان، ولأحمد وابن خزيمة عن صفوان قال: أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر. صححه الخطابي والحافظ، وهذا واضح الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس. وقال النووي وغيره: إذا لبس محدثا لم يجز المسح إجماعا، وهذا سادس الشروط هنا وفي المنتهى ثمانية لكونه عد عدم وصفه للبشرة شرطا، وعدم سعته شرطا آخر، وهما معلومان من الشرط الثاني.
(2) بأن توضأ وضوءا كاملا مسح فيه على نحو عمامة أو جبيرة ثم لبس نحو خف فله المسح عليها، لأنها طهارة كاملة رافعة للحدث، كالتي لم يمسح فيها على حائل.(1/228)
أو تيمم لجرح (1) فلو غسل رجلا ثم أدخلها الخف، خلع ثم لبس بعد غسل الأخرى (2) ولو نوى جنب رفع حدثيه وغسل رجليه وأدخلهما الخف، ثم تمم طهارته (3) أو مسح رأسه ثم لبس العمامة ثم غسل رجليه (4) أو تيمم ولبس الخف أو غيره لم يمسح (5) ولو جبيرة (6) .
__________
(1) أي أو تيمم في طهارة بماء لجرح في بعض أعضائه ثم لبس نحو خف جاز المسح عليه، لتقدم الطهارة بماء في الجملة.
(2) لتكمل الطهارة، وعنه يجوز وفاقا لأبي حنيفة.
قال الشيخ: والصواب قول أبي حنيفة أن طهارة المسح يشترط لها دوام الطهارة دون ابتدائها، وقال: ومن غسل إحدى رجليه ثم أدخلها الخف قبل غسل الأخرى فإنه يجوز له المسح عليها من غير اشتراط خلع، ولبسه قبل إكمال الطهارة كلبسه بعدها.
(3) أي لم يجز له المسح، لأنه لم يلبسه بعد كمال الطهارة.
(4) خلع العمامة ثم لبسها ليوجد شرط المسح كالخف، وعنه: لا تشترط الطهارة لمسح العمامة، فلو لبس محدثا ثم توضأ وغسل رجليه جاز له المسح اختاره الشيخ وغيره، وقال: يتوجه أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على طهارة، ويكفي فيها الطهارة المستدامة، لأن العادة أن من توضأ مسح رأسه ورفع العمامة ثم أعادها، ولا يبقي مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء، وما قاله رواية عن أحمد حكاها عنه جماعة.
(5) أي لو تيمم لطهارة لعجزه عن استعمال الماء أو عدم الماء، فلا يمسح إذا وجد الماء، بل يخلع ويستأنف الطهارة.
(6) بناء على أن تقدم الطهارة على شدها شرط، وعنه: ليس بشرط اختاره جمع منهم الشيخ، ومال إليه الموفق والشارح والمجد، وصوبه في الإنصاف وغيره
لحديث صاحب الشجة وغيره، ولأن اشتراط الطهارة يشق، لأن الجرح يقع فجأة، أو في وقت لا يعلم الماسح وقوعه فيه، فلو اشترطت الطهارة والحالة هذه لأفضي إلى الحرج والمشقة، وهما منتفيان شرعا.(1/229)
فإن خاف نزعها تيمم (1) ، ويمسح من به سلس بول أو نحوه (2) إذا لبس بعد الطهارة لأنها كاملة في حقه (3) فإن زال عذره لزمه الخلع واستئناف الطهارة كالمتيمم يجد الماء (4) (وإن مسح في سفر ثم أقام) أتم مسح مقيم إن بقي منه شيء (5) وإلا خلع (6) (أو عكس) أي مسح مقيما ثم سافر، لم يزد على مسح مقيم، تغليبا لجانب الحضر (7) .
__________
(1) لغسل ما تحتها، لأنه موضع يخاف الضرر باستعمال الماء فيه، وهذا أيضا بناء على اشتراط تقدم الطهارة على شدها.
(2) كمستحاضة ومن به قروح سيالة.
(3) ولأن صاحب العذر أحق بالترخص من غيره، بل طهارته ترفع الحدث.
(4) بأن انقطع نحو سلس البول خلع، لأن طهارته إنما صحت للعذر، فإذا زال حكم ببطلانها.
(5) أي من اليوم والليلة، قال غير واحد: لا نعلم فيه خلافا، لأنه صار مقيما فلم يجز له أن يمسح مسح المسافر، والمراد إقامة تمنع القصر، وكذا قال الزركشي وغيره، إذا مسح أقل من يوم وليلة ثم أقام، أو قدم أتم مسح مقيم، لا خلاف في هذا نعلمه، لما تقدم من تغليب جانب الحضر.
(6) أي وإن لم يبق من المدة شيء، بأن مضى بعد الحدث يوم وليلة، أو أكثر خلع الخف، لانقطاع السفر، قال ابن تميم: رواية واحدة.
(7) وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، لأنه الأصل، وقال في المبدع
والفروع: اختاره الأكثر، وعنه مسح مسافر نقلها عنه جماعة، وفاقا لأبي حنيفة وغيره لقوله يمسح المسافر، إلخ وهذا مسافر، وكما لو أحدث وهو مقيم، ولم يمسح حتى سافر، وجعلها الخلال رواية واحدة، وقال: نقل عنه أحد عشر نفسا أنه يتم مسح مسافر، ورجع عن قوله: يتم مسح مقيم، واختاره هو وأبو بكر وأبو الخطاب.
قال في الفائق، وهو المختار، ولو مسح إحدى رجليه في الحضر والأخرى في السفر يتوجه خلاف، ومقتضى كلامهم لا يزيد على مسح مقيم تغليبا للأصل، والرواية الثانية ظاهرة.(1/230)
(أو شك في ابتدائه) أي ابتداء المسح هل كان حضرا أو سفرا؟ (فمسح مقيم) أي فيمسح تتمة يوم وليلة فقط، لأنه المتيقن (1) (وإن أحدث) في الحضر (ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر) لأنه ابتدأ المسح مسافر (2) (ولا يمسح قلانس) جمع قلنسوة (3) .
__________
(1) وفاقا للشافعي وغيره، لأن الأصل الغسل، وإن شك في بقاء المدة لم يجز المسح مقيما كان أو مسافرا اتفاقا، لأن الأصل الغسل، ولو خالف وفعل فبان بقاؤها صح وضوءه.
(2) قال غير واحد: لا نعلم فيه خلافا، بين أهل العلم، لقوله: يمسح المسافر إلخ ونقل الإجماع في ذلك النووي وغيره.
(3) بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين المهملة وفتح الواو، وقد تبدل ياء وقد تبدل ألفا وتفتح السين فيقال قلنساة، وقد تحذف النون بعدها هاء تأنيث وفي الاختيارات ويجوز المسح على العمامة الصماء، وهي القلانس، والمحكي عن أحمد الكراهة، والأقرب أنها كراهة لا ترتقي إلى التحريم ومثل
هذا لا يمنع الترخص وتحمل كراهة السلف لغير المحنكة من بعض الوجوه، وعن أحمد يجوز اختاره الخلال وجزم به في الوجيز، وقال: روي عن صحابيين عمر وأبي موسى، وروي عن أنس، ولأنه ملبوس معتاد ساتر للرأس أشبه العمامة المحنكة.(1/231)
وهي المبطنات، كدنيات القضاة، والنوميات (1) قال في مجمع البحرين: على هيئة ما تتخذه الصوفية الآن (2) (و) لا يمسح (لفافة) وهي الخرقة تشد على الرجل تحتها نعل أو لا، ولو مع مشقة لعدم ثبوتها بنفسها (3) (ولا) يمسح (ما يسقط من القدم (4) أو) خفا.
__________
(1) الدنيات قلانس كبار أيضا، كانت القضاة تلبسها قديما، تسميها العامة الشاشية شبهت بالدن، لاستواء صنعته في أسفله: كهيئة القوس، والنوميات قلانس تلبس عند النوم.
(2) مجمع البحرين لابن عبد القوي على المقنع ولم يتمه، والصوفية نسبة إلى الصوف، قال الشيخ: الصوفي المتبتل للعبادة وتصفية النفس من الأخلاق المذمومة، قانعا بالكفاية لا لابس خرقة، أو لزوم شكل مخصوص في اللبسة ونحوها.
(3) قال في الفروع: في الأصح، قال الشيخ: والصواب أنه يمسح على اللفائق، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، ومن ادعى في ذلك إجماعا فليس معه إلا عدم العلم، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين، وذكر أن علة المسح الحاجة إلى ستر الرأس والمشقة في نزع الساتر في الغسل، وأنه ليس لشكل الساتر ولا لجنسه ولا لثبوته بنفسه أو بغيره دخل في ذلك.
(4) لفوات شرطه، وهو ثبوته بنفسه.(1/232)
(يرى منه بعضه) أي بعض القدم، أو شيء من محل الفرض (1) لأن ما ظهر فرضه الغسل، ولا يجامع المسح (2) (فإن لبس خفا على خف قبل الحدث) ولو مع خرق أحد الخفين (فالحكم للـ) خف الـ (فوقاني) لأنه ساتر فأشبه المنفرد (3) وكذا لو لبسه على لفافة (4) وإن كانا مخرقين لم يجز المسح ولو سترا (5) .
__________
(1) أي فلا يمسح عليه، لعدم ستره محل الفرض.
(2) إذ لا يجمع بين البدل والمبدل في محل واحد، وكما لو غسل إحدى رجليه فيجب غسل الأخرى، وما بطن فرضه المسح فلا يجامعه، قال الشيخ: وقول القائل إن ما ظهر فرضه الغسل ممنوع، فإن الماسح على الخف لا يستوعبه بالمسح، كالمسح على الجبيرة، بل يمسح أعلاه دون عقبه، وكذلك يقوم مقام غسل الرجل، فمسح بعض الخف كاف عما يحاذي الممسوح، وما لا يحاذيه، فإذا كان الخرق في العقب لم يجب غسل ذلك الموضع ولا مسحه، ولو كان على ظهر القدم لم يجب مسح كل جزء من ظهر القدم، وباب المسح على الخفين مما جاءت السنة فيه بالرخصة، حتى جاءت بالمسح على الجوارب والعمائم وغير ذلك، فلا يناقض مقصود الشارع من التوسعة بالحرج والتضييق.
(3) قال عثمان: ويدخل في هذه العبارة أربع صور: لأنهما إما أن يكونا صحيحين أو مخرقين، أو الأعلى صحيحا، والأسفل مخرقا، أو عكسه، ففي الأولى يصح على أيهما شاء، وفي الثانية لا يصح على شيء منهما ولو سترا، وفي الثالثة يصح على الأعلى فقط، وفي الرابعة على أيهما شاء.
(4) أي جاز المسح عليه لأنه خف ساتر لمحل الفرض أشبه ما لو انفرد.
(5) لأن كل واحد منهما غير صالح للمسح على انفراده، ومسح كل من الخف الفوقاني والتحتاني بدل مستقل من الغسل على الصحيح من المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين لمالك والشافعي.(1/233)
وإن أدخل يده من تحت الفوقاني ومسح الذي تحته جاز (1) وإن أحدث ثم لبس الفوقاني قبل مسح التحتاني أو بعده لم يمسح الفوقاني، بل ما تحته (2) ولو نزع الفوقاني بعد مسحه لزم نزع ما تحته (3) (ويمسح) وجوبا (أكثر العمامة) (4) ويختص ذلك بدوائرها (5) (و) يمسح أكثر (ظاهر قدم الخف) والجرموق والجورب (6) .
__________
(1) لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح عليه، فإن كان أحدهما صحيحا جاز المسح على الفوقاني ولا يجوز على التحتاني، إلا أن يكون هو الصحيح.
(2) لأنه لبس الفوقاني على غير طهارة.
(3) وإعادة الوضوء، لأن محل المسح قد زال، ومفهومه أنه إذا كان قبل مسحه لم ينزع الثاني، وأنه إذا كان الممسوح الثاني فكذلك وعنه: لا يلزمه نزعه فيتوضأ، أو يمسح التحتاني منفردا، وأطلقهما في الفروع.
(4) لأنها ممسوحة على وجه البدل، فأجزأ فيها ذلك كالخف.
(5) وهي أكوارها دون وسطها، وإن كان تحت العمامة قلنسوة يظهر بعضها استحب المسح عليها، لأنهما صارا كالعمامة الواحدة، وما جرت العادة بكشفه من الرأس استحب أن يمسح عليه من العمامة، لأنه ثبت أنه مسح بناصيته وعمامته، ولا يجب مسح الأذنين معها، قال الشارح وغيره: لا نعلم فيه خلافا، لأنه لم ينقل.
(6) جعلا للأكثر كالكل، على الصحيح من المذهب، ولا يسن استيعابه، قال الوزير: أجمعوا على أن المسح يختص بما حاذى ظاهر الخف.(1/234)
وسن أن يمسح بأصابع يده (من أصابعه) أي أصابع رجليه (إلى ساقه) يمسح رجله اليمنى بيده اليمني ورجله اليسرى بيده اليسرى، ويفرج أصابعه إذا مسح (1) وكيف مسح أجزأ (2) ويكره غسله، وتكرار مسحه (3) (دون أسفله) أي أسفل الخف (وعقبه) فلا يسن مسحهما (4) .
__________
(1) هذه صفة المسح المسنون، لحديث المغيرة، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهور الخفين، رواه أحمد وأبو داود وصححه الترمذي، وقال البخاري: هو أصح من حديث رجاء بن حيوة، ولفظه مسح أعلى الخف وأسفله، وقال هو وأبو زرعة: ليس بصحيح، ولفظ البيهقي: مسح على خفيه، وضع يده اليمنى على خفه الأيمن، واليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح إلى أعلاه مسحة واحدة، وحكى ابن المنذر وغيره أنه يجزئ الاقتصار على مسح ظاهر الخف بلا خلاف.
(2) فإن بدأ من ساقه إلى أصابعه أجزأ، ولم يرد في كيفية المسح ولا الكمية حديث يعتمد عليه إلا حديث علي في بيان محل المسح، فحيث فعل المكلف ما يسمى مسحا لغة أجزأ، وقال أحمد: كيفما فعلت فهو جائز.
(3) أي يكره غسل الخف ونحوه، لعدوله عن السنة المأمور بها، ولإفساده الخف ونحوه، قال النووي: بلا خلاف، ويكره تكرار مسحه، لأنه لم يثبت فيه شيء، فلا يصار إليه، ولأنه في معنى غسله، ولا يسن إجماعا، وقال الشيخ: المسح لا يسن فيه التكرار، وأجمعوا على أن المسح على الخفين مرة واحدة مجزئ.
(4) لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يمسح ظاهره، قال ابن القيم: ولم يصح عنه مسح أسفلهما، وإنما جاءت في حديث منقطع، والأحاديث الصحيحة على خلافه، (وعقبه) بفتح العين وكسر القاف هذا الأصل ويجوز إسكان القاف مع فتح العين وكسرها.(1/235)
ولا يجزئ لو اقتصر عليه (1) (و) يمسح وجوبا (على جميع الجبيرة) لما تقدم من حديث صاحب الشجة (2) (ومتى ظهر بعض محل الفرض) ممن يمسح (بعد الحدث) بخرق الخف، أو خروج بعض القدم إلى ساق الخف (3) أو ظهر بعض رأس وفحش (4) .
__________
(1) بلا خلاف حكاه ابن المنذر وغيره.
وقال الموفق وغيره: إن مسح أسفله وعقبه لم يجزئه في قول أكثر العلماء، وأنه لم يقل بالأجزاء إلا أشهب وبعض الشافعية ولا حجة لهم في ذلك، لقول علي: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه، رواه أحمد وأبو داود والدارقطني، وقال الحافظ: إسناده صحيح.
(2) قريبا عن جابر، واستيعابها بالمسح مذهب أبي حنيفة والشافعي، لقيامه مقام الغسل، وذلك ما لم يتضرر فيعدل إلى التيمم.
(3) استأنف الطهارة لأن مسح الخف أقيم مقام غسل الرجلين، فإذا زال الساتر الذي جعل بدلا بطل حكم الطهارة، كالمتيمم يجد الماء، ولأن الإنتقاض لا يتجزأ وإن خرج منه شيء لسعة أو غيرها كخروج عقبة لم ينتقض إجماعا، وعنه يجزئ غسل قدميه وفاقا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقول مالك: إن غسل رجليه مكانه صحت، وقال الشيخ: ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور، واختار أنها لا تبطل كإزالة الشعر الممسوح عليه.
(4) بضم الحاء وفتحها أي كثر في الرأس فقط استأنف الطهارة ومقتضى الإطلاق طال الزمن أو لم يطل، لأن مسح العمامة قام مقام الرأس، وعلم منه أن
انكشاف يسير لا يضر وقال الشيخ: ورفع العمامة يسيرا لا يضر للمشقة، وقال أحمد: لا بأس إذا لم يفحش.(1/236)
أو زالت جبيرة استأنف الطهارة (1) فإن تطهر ولبس الخف ولم يحدث لم تبطل طهارته بخلعه، ولو كان توضأ تجديدا ومسح (2) (أو تمت مدته) أي مدة المسح (3) (استأنف الطهارة) (4) ولو في صلاة (5) لأن المسح أقيم مقام الغسل فإذا زال (6) وانقضت مدته بطلت الطهارة في الممسوح (7) .
__________
(1) لأن مسحها بدل من غسل ما تحتها، وقيل: طهارته باقية قبل البرء اختاره الشيخ وكذا بعده كإزالة الشعر.
(2) لبقائه على طهارته التي لبس فيها.
(3) وهي اليوم والليلة، أو الثلاثة من وقت جواز مسح بعد حدث، أو انتقض كور فأكثر من عمامته، أو انقطع دم مستحاضة، أو زال ضرر من به سلس البول ونحوه.
(4) وجها واحدا في الجملة وفاقا، إلا ما روي عن مالك للأحاديث الواردة في التوقيت، ولأن الحكم بطهارته إنما كان لوجود العذر فإذا زال حكم ببطلانها وذلك إذا كان عنده ماء وإلا فلا، وقال الشيخ: ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف بإنقضاء المدة على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور.
(5) أي ولو كان حين تمت مدة المسح في صلاة بطلت، واستأنف، لأنها طهارة مؤقتة فبطلت بانتهاء وقتها، وإن كان فيها ولا ماء مضى.
(6) أي المسح بطلت الطهارة في الممسوح.
(7) والمبطل حقيقة هو الحدث السابق، وقال الشارح وغيره: ونزع أحد
الخفين كنزعهما في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي اهـ، وأجمعوا على أنه متى نزع أحد الخفين وجب عليه نزع الآخر.(1/237)
فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض (1) .
__________
(1) وقيده بعضهم بالصغرى، والصحيح عند المحققين أن المسألة ليست مبنية على وجوب الموالاة، بل على أن المسح يرفع الحدث، وأن الحدث لا يتبعض في النقض، فإذا خلع عاد الحدث إلى العضو فسرى إلى بقية الأعضاء، فلا فرق قدمه الشيخ في شرح العمدة، وقال هو وأبو المعالي: إنه الصحيح من المذهب عند المحققين، وعنه: يجزئ مسح رأسه وغسل رجليه، وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وقول للشافعي، والقول ببطلان الطهارة من المفردات، وهذا على وجوب الموالاة عند أبي محمد، وعند: أبي البركات على رفع الحدث، ومن تيمم وعليه خف ونحوه ثم خلع بعد تيممه لم يبطل تيممه بذلك، اختاره الشيخ. قال الموفق وغيره: لأن مبطل الوضوء نزع ما هو ممسوح عليه فيه ولم يوجد ههنا، ولأن إباحة المسح لا يصير بها ماسحا، ولا بمنزلة الماسح.(1/238)
باب نواقض الوضوء
أي مفسداته (1) وهي ثمانية (2) أحدها الخارج من سبيل (3) وأشار إليه بقوله «ينقض» الوضوء (ما خرج من سبيل) أي مخرج بول أو غائط (4) .
__________
(1) نواقض جمع ناقض، وقولهم: فاعل لا يجمع على فواعل وصفا، إذا كان وصفا لعاقل، وما هنا ليس منه.
وفي المبدع: جمع ناقضة لا ناقض، لأنه يجمع على فواعل، والنقض في الأجسام: إبطال تركيبها وفي المعاني: إخراجها عن إفادة ما هو المطلوب منها، فنواقض الوضوء هي العلل المؤثرة في إخراج الوضوء عما هو المطلوب منه، وفسره بالمفسدات لأنه في الأصل من نقضت الشيء إذا أفسدته فنواقض الوضوء مفسدات الوضوء، يعني مبطلات الفائدة المطلوبة منه.
ويقال: النقض في الأصل حل المبرم، ثم استعمل في إبطال الوضوء بما عينه الشارع مبطلا، وحقيقة عرفية، ونواقضه أحداث وأسباب، فالأحداث ما نقض الوضوء بنفسه، والأسباب ما كان مظنة لخروجه كالنوم والمس.
(2) بالاستقراء، ومنها ما هو ناقض بالإجماع، وما هو مختلف في النقض به.
(3) متعلق بالخارج، والسبيل الطريق، ومنه مخرج البول والغائط.
(4) إلى ما هو في حكم الظاهر، أما الغائط فبنص الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} . وقال عليه الصلاة والسلام «ولكن من غائط أو بول» فثبت البول بالسنة وكذا بالإجماع، والقياس على الغائط وكذا المذي بالأحاديث الصحيحة، وحكى الإجماع على النقض به وبالمني والودي ابن المنذر والموفق وغيرهما، وقال الشيخ في المذي: ينقض، ويجب غسل ذكره وأنثييه اهـ
وأما دم الاستحاضة ففي قول عامة أهل العلم لحديث بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، قال: فتوضئي وصلي فإنما هو دم عرق، رواه أبو داود والدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات، فأمرها بالوضوء ودمها غير معتاد، وقيس عليه ما سواه، وأما الريح فبالأحاديث الصحيحة والإجماع، قال صلى الله عليه وسلم «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وقال «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» متفق عليه وقال ابن القيم: والحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بها بالغائط.(1/239)
ولو نادرا أو طاهرا كولد بلا دم (1) أو مقطرا في إحليله (2) أو محتشي وابتل (3) لا الدائم كالسلس والاستحاضة (4) .
__________
(1) أي ولو كان الخارج نادرا كالدود والدم ونحوهما فينقض وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، وكالريح من القبل وذكر الرجل، لعموم حديث لا وضوء إلا من حدث أو ريح، وصححه الترمذي، وقال في المغني: ولا نعلم وجوده في أحد، أو طاهرا كالمني والبعر الناشف والحصا، وكالولد العاري من الدم، وقال ابن عقيل: الأشبه لا ينقض.
(2) بفتح الطاء وتشديدها، بأن قطر في إحليله، وهو مجرى البول من ذكره دهن ونحوه ثم خرج فينتقض لأنه لا يخلو عن بلة نجسة تصحبه.
(3) بأن احتشى قطنا ونحوه في قبله أو دبره ثم خرج مبتلا ينتقض وضوءه، ومفهومه أنه إن لم يبتل لم ينقض، كما جزم به الفتوحي في القبل، وقيل ينقض، قال في تصحيح الفروع: وهو الصواب، وخروجه بلا بلة نادرة جدا، والحاصل أن للمحتشي ثلاث حالات: إحداها أن يكون في الدبر فينقض مطلقا، الثانية في القبل وابتل فينقض الثالثة: أن لا يبتل فلا ينقض، وإذا خرجت المقعدة فإن خرج معها ندى منفصل توضأ وإلا فلا، ولا تعتبر الرطوبة اللازمة، لأنها لا تنفك عنها.
(4) أو كالرعاف والقروح السيالة.(1/240)
فلا ينقض للضرورة (1) .
(و) الثاني (خارج من بقية البدن) سوى السبيل (2) (إن كان بولا أو غائطا) قليلا كان أو كثيرا (3) (أو) كان (كثيرا نجسا غيرهما) أي غير البول والغائط (4) .
__________
(1) والحرج والمشقة، ولقوله وتوضئي لكل صلاة، ويأتي في باب الحيض، قال الشيخ: والأحداث اللازمة كدم الاستحاضة، وسلس البول، لا تنقض الوضوء ما لم يوجد المعتاد وهو مذهب مالك.
(2) أي من غير الطريق المعتاد للبول والغائط.
(3) من تحت المعدة أو فوقها سواء كان السبيلان مفتوحين أو مسدودين، لعموم ما تقدم، ولأن ذلك خارج معتاد أشبه الخارج من المخرج.
(4) لأنه نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل وعنه: خروج: النجاسة من بقية البدن لا ينقض مطلقا، لأنه لا نص فيه، ولا يصح قياسه على السبيلين وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال الشيخ: الظاهر أنه لا يجب الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح، بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب، لعموم البلوى بذلك، لكن استحباب الوضوء من الحجامة والقيء ونحوهما متوجه ظاهر، وقال: الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أنه ليس من دينه، وذكر أصولا ثم قال: وبهذه الطرق يعلم أنه ليس يوجب الوضوء من ذلك، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويخرجون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج الدم، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر بالوضوء من ذلك، وقال في القيء وخروج الدم: ليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب الوضوء منه بل على الاستحباب، وعن أنس: احتجم وصلى ولم يتوضأ، رواه الدارقطني وابن الجوزي في حجة المخالف، ولم يضعفه، وعادته الجرح بما يمكنه.(1/241)
كقيء ولو بحاله (1) لما روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ (2) والكثير ما فحش في نفس كل أحد بحسبه (3) .
__________
(1) وهو الخارج بعد وصوله إلى المعدة، ولو كان ما تقيأه باقيا بحاله لم يتغير، كأن شرب نحو ماء وقذفه بصفته، لأن نجاسته بوصوله إلى الجوف، لا باستحالته، وكدم وقيح على المشهور من المذهب. وقال الخطابي: هو قول أكثر الفقهاء.
(2) قال الترمذي: هو أصح شيء في هذا الباب، ورواه أحمد وأبو داود وغيرهم، وقال ابن مندة: إسناده صحيح، واغفله البخاري ومسلم للاختلاف في إسناده، وقال البيهقي وغيره: لا تقوم به حجة، فالله أعلم، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أن القيء والدم والقيح ونحوها لا ينقض الوضوء ولو كثر، قال البغوي: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين اهـ، لكن يستحب الوضوء منه، واختاره الشيخ: وأنه لا يخرج من الصلاة لأجل اليسير الخارج من القيء والدم لما روي عن جابر في اللذين يحرسان في غزوة ذات الرقاع، فرمي أحدهما بسهم فنزعه ثم بآخر ثم بالثالث، وركع وسجد ودماؤه تجري، رواه أبو داود بسند حسن، ولما روي عن الصحابة فابن عمر عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ وابن أبي أوفي عصر دملا، وروي عن غيرهما نحو ذلك، قال الموفق والشارح وغيرهما: ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعا، ولأن الأصل عدم النقض حتى يثبت بالشرع، وقال النووي والشيخ وغيرهما، لم يثبت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الوضوء من ذلك، وقال مالك: هو الأمر عندنا.
(3) قال ابن عباس: الفاحش ما فحش في قلبك، وقال ابن عقيل: إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس، واختاره القاضي وجماعات كثير وصححه الناظم، وما إليه في الإنصاف، وأما اليسير فلا ينقض رواية واحدة، حكاه القاضي وغيره، وأما كثير القلس فقيل ينقض وهو طعام أو شراب يخرج من البطن ملء الفم أو دونه، سواء أعاده إلى بطنه أو لا، أو ألقاه، وليس بقيء، وإن غلبه فهو قيء.(1/242)
وإذا انسد المخرج وانفتح غيره لم يثبت له أحكام المعتاد (1) (و) الثالث (زوال العقل) أي تغطيته (2) قال أبو الخطاب وغيره: ولو تلجم، ولم يخرج منه شيء إلحاق بالغالب (3) .
__________
(1) أي بل أحكامه باقية له، فلا ينقض خروج ريح منه، ولا يمسه ولا بخروج يسير منه نجس، غير بول أو غائط، ولا يجزئ فيه استجمار، ولا غسل بإيلاج فيه بلا إنزال.
(2) صوابه: أو تغطيته كما عبروا به، وزواله هو ذهابه بجنون أو برسام، وتغطيته بإغماء أو سكر أو دواء أو نوم أو غيرها، لحديث صفوان ولكن من غائط وبول ونوم، رواه أحمد والشافعي والترمذي وصححه، وقال النووي: بأسانيد صحيحة، وما ذكر أبلغ من النوم الذي هو مظنة لخروج شيء من الدبر والمظنة للحديث أقيمت مقامه، لأن ما أنيط بالمظنة لا فرق بين وجوده وعدمه فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها قطعية كانت أو ظنية، فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتيب الأحكام مجرى القطع، فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار، والعقل غريزة كالنور يقذف في القلب فيستعد لإدراك الأشياء وتقدم والنوم فترة طبيعية تحدث للإنسان تمنع الحواس من العمل، قال النووي: وليس مزيلا للعقل اهـ أي بل هو ساتر، فيجاب أنه أراد بالزوال الغلبة على العقل، ولم يقل ارتفاعه ليعم ما ذكروا، وإن كان فيه تجوز، وخرج بزوال العقل النعاس، وحديث النفس، وأوائل نشوة السكر، فلا نقض بها، ومن علامات النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه.
(3) على الأصح قاله في الفروع (وتلجم) من اللجام وهو كالعصابة التي يشد بها، تصير مثل اللجام في فم الدابة.(1/243)
(إلا يسير نوم من قاعد أو قائم) (1) .
__________
(1) لأنهما لا ينفرج منهما مخرج الحدث فلا ينقض قال الشيخ: النوم اليسير من المتمكن بمقعدته لا ينقض الوضوء، عند جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، لأن النوم ليس بحدث، ولكنه مظنة للحدث اهـ، لحديث أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون رواه أبو داود وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم: نام القوم أو بعض القوم ثم صلوا، ورواه الترمذي وفيه: يوقضون للصلاة، وفيه: وإني لأسمع لأحدهم غطيطا، وفي رواية يضعون جنوبهم، وفي الصحيح عن ابن عباس وغيره: حتى رقد الناس واستيقظوا وغيرها من الأحاديث الصحيحة، والآثار، ويقيد بعدم الاستغراق فقد كان صلى الله عليه وسلم يضع جنبه بعد ركعتي الفجر ولا ينام. وفي الصحيحين كان ينام حتى ينفخ فيصلي ولا يتوضأ، لأنه كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، فلو خرج منه شيء لشعر به، ولحديث ابن عباس: فقمت إلي جنبه الأيسر فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، متفق عليه، والإفاء النوم أو النعاس، والفرق بين النوم والنعاس: أن النوم فيه غلبة على العقل، وسقوط حاسة البصر وغيرها، والنعاس، لا يغلب على العقل، وإنما تفتر فيه الحواس بغير سقوط، والمراد باليسير من النوم اليسير عرفا، لعدم حد الشارع له، وقيل في حد النوم اليسير هو ما لم يتغير عن هيئته كسقوطه ونحوه، وقيل: قدر صلاة ركعتين، وقال الموفق: لا حد لليسير، فمتى وجد ما يدل على الكثير مثل سقوط المتمكن وغيره انتقض وضوءه، وإن شك في كثرته لم ينتقض لأن الطهارة متيقنة فلا تزول بالشك، وقال ابن رشد بعد ذكر الأحاديث فيه، ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء من النوم على الكثير، وغير المسقطة للوضوء على القليل، وهو مذهب الجمهور، وهو أولى، وقال غير واحد: الصواب ما صرح به أهل التحقيق، أن النوم الناقض هو المستغرق الذي لا يبقى مع إدراك من مضجع أو مستلق لا على هيئة المصلي قال الزركشي وغيره: ولا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل، فمن سمع كلام غيره وفهمه فليس بنائم، ومن سمعه ولم يفهمه فيسير، إنما الناقض زوال العقل، فمتى كان ثابتا وحسه غير زائل لم يوجد سبب النقض، وعن أحمد: لا ينقض نوم مطلقا، واختار الشيخ إن ظن بقاء طهره.(1/244)
غير محتب أو متكئ أو مستند (1) وعلم من كلامه أن الجنون والإغماء والسكر ينقض كثيرها ويسيرها (2) ذكره في المبدع إجماعا (3) وينقض أيضا النوم من مضجع (4) .
__________
(1) أي فينقض مطلقا، كنوم المضطجع، وصفة الاحتباء أن يجلس على إليتيه، ضاما ركبتيه إلى نحو صدره، شادا ساقيه إلى نفسه بيديه، أو مديرا نحو ردائه من وراء ظهره إلى أن يبلغ ركبتيه محيطا من ظهره عليهما.
(2) لعموم قوله: وزوال العقل، وخرج منه يسير نوم ممن ذكر وبقي الباقي على الأصل، ولأن حسهم أبعد من حس النائم، لأنهم لا ينتبهون بالانتباه، ولأن العقل في الإغماء يكون مغلوبا، وفي الحنون يكون مسلوبا، ففي إيجاب الوضوء على النائم تنبيه على وجوب ما هو آكد منه، والجنون معروف، وصاحبه مسلوب العقل، فهو أبلغ من النوم، والإغماء غشية ثقيلة على القلب يزول معها الإحساس.
ويقال: آفة تعرض للدماغ، أو القلب، بسببها تتعطل القوى المدركة.
ويقال: من بلغم بارد غليظ، وحد بعضهم الجنون بزوال الاستشعار من القلب، مع بقاء الحركة والقوة في الأعضاء، والإغماء بزوال الاستشعار مع فتور الأعضاء.
(3) وحكاه الموفق والنووي وغيرهما، وقال: أجمعت الأمة على انتقاض الوضوء بالجنون وبالإغماء.
ونقل فيه الإجماع ابن المنذر وآخرون لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل، ثم أغمي عليه ثم أفاق فاغتسل.
(4) قليلا كان النوم أو كثيرا، لما في السنن ليس الوضوء على من نام قائما أو قاعدا أو راكعا أو ساجدا، لكن على من نام مضطجعًا فإنه إذا نام مضطجعًا استرخت مفاصله، فيخرج الحدث، بخلاف القيام والقعود والركوع والسجود، فإن الأعضاء متماسكة، فلم يكن هناك سبب يقتضي خروج الخارج، وتقدم لكن هذا الحديث قال فيه أبو داود: هو منكر.(1/245)
وراكع وساجد مطلقا (1) كمحتب ومتكئ ومستند (2) والكثير من قائم وقاعد (3) لحديث «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أحمد وغيره (4) .
__________
(1) أي قليلا كان النوم أو كثيرا، وتقدم ما رواه أهل السنن، وقال أبو العباس: لا ينقض اختاره القاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا، لما روى أحمد في الزهد عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وهو ساجد، فسماه ساجدا مع نومه، ولأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، ولأن بعض الاستمساك باق، إذ لو زال لسقط فلم يتم الاسترخاء.
(2) أي فينقض مطلقا، وتقدم.
(3) أي لا اليسير فلا ينقض.
(4) فرواه أهل السنن والدارقطني وغيرهم عن علي، وحسنه المنذري وغيره، والوكاء بكسر الواو الخيط تربط به القربة والخريطة ونحوهما والسه بفتح السين وكسر الهاء، والعينان كناية عن اليقظة، لأن النائم لا عين له تبصر، أي اليقظة وكاء الدبر، حافظ ما فيه من الخروج، لأنه ما دام مستيقظا يحس بما يخرج منه، ويمسك ما في بطنه، ما لم تنم عيناه، ومتى نام زالت قوته الماسكة، وظاهر حاله أن تنتقض طهارته، لانحلال الوكاء بالنوم، فدل على أن النوم مظنة للنقض، لا أنه ناقض بنفسه، ولكن أقيمت المظنة مقام الحقيقة.(1/246)
والسه حلقة الدبر (1) (و) الرابع (مس ذكر) آدمي (2) تعمده أو لا (3) (متصل) ولو أشل أو أقلف أو من ميت (4) لا الأنثيين ولا بائن أو محله (5) (أو) مس (قبل) من امرأة وهو فرجها الذي بين أسكتيها (6) .
__________
(1) وهو نقيض القبل، والدبر من كل شيء عقبه ومؤخره.
(2) أي الرابع من نواقض الوضوء مس ذكر آدمي كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، منه أو من غيره بشهوة أو غيرها، دون سائر الحيوانات، فلا ينقض، قال الشيخ: مس فرج الحيوان غير الآدمي لا ينقض باتفاق الأئمة.
(3) أي تعمد مس ذكره أو ذكر غيره، أو لم يتعمده، وقال الشيخ وغيره: إذا لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه.
(4) أي ينقض مس ذكر متصل لا منفصل، ولو كان أشل أي لا نفع فيه لبقاء اسمه وحرمته، أو ميت للعموم، ولبقاء حرمته، أو أقلف أي لم يختن، وعبارة غيره (قلفة) بضم القاف وسكون اللام وتحرك الغرلة أي جلدة رأس الذكر، لأنها من مسمى الذكر، وحرمته ما اتصلت به.
(5) أي لا ينقض مس الأنثيين، وهما الخصيتان إجماعا، ولا بائن أي منفصل لذهاب حرمته، أو محله أي مس محل ذكر مقطوع من أصول الأنثيين، جزم به وصححه غير واحد، ولا المرأة فرجها بفرج مثلها من غير استعمال اليد.
(6) بضم الهمزة، أي ناحيتي الفرج، وهو مخرج البول، والشفران طرفا الناحيتين، ويقال الأسكتان هما الشفران، ومناط المسألة الذكر، وغيره مبني ومفرع عليه.(1/247)
لقوله صلى الله عليه وسلم «من مس ذكره فليتوضأ» رواه مالك والشافعي وغيرهما (1) وصححه أحمد والترمذي (2) وفي لفظ من مس فرجه فليتوضأ صححه أحمد (3) .
__________
(1) فأخرجه الخمسة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود وغيرهم عن بسرة بنت صفوان.
(2) وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب، وصححه الدارقطني وغيره، وله شواهد وطرق قيل إنها تبلغ حد التواتر.
(3) من حديث أم حبيبة، وصححه أبو زرعة، ورواه ابن ماجه والأثرم وغيرهما، وقال ابن السكن، لا أعلم له علة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا أيما رجل مس ذكره فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ، رواه أحمد والترمذي وقال: قال البخاري: هذا عندي صحيح، ولأن مس الذكر مذكر بالوطء وهو في مظنة الانتشار غالبا، فأقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة، كما أقيم النوم مقام الحدث، وعن أحمد: لا ينقض مس ذكر آدمي مطلقا، وفاقا لأبي حنيفة وطوائف من السلف، لحديث طلق بن علي في الرجل يمس ذكره: أعليه وضوء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو بضعة منك، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، والدارقطني، وصححه عمرو بن الفلاس، وقال: هو عندنا أثبت من حديث بسرة، وقال الطحاوي، إسناده مستقيم غير مضطرب، بخلاف حديث بسرة، وصححه أيضا ابن حبان والطبراني وابن حزم وغيرهم.
وقال شيخ الإسلام، الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر، فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح، بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب، لكن الاستحباب متوجه ظاهر، وقال: والذين أوجبوا الوضوء بمس الذكر إنما أوجبوه بحديث مختلف فيه، معارض بمثله، واختار في موضع استحباب
الوضوء منه إذا تحركت شهوته، وتردد فيما إذا لم تتحرك، ومذهب مالك: إن مسه بشهوة انتقض وإلا فلا.(1/248)
ولا ينقض مس شفريها، وهما حافتا فرجها (1) وينقض المس بيد بلا حائل، ولو كانت زائدة (2) سواء كان (بظهر كفه أو بطنه) أو حرفه (3) من رءوس الأصابع إلى الكوع (4) لعموم حديث «من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء» ، رواه أحمد (5) لكن لا ينقض مسه بالظفر (6) .
__________
(1) والشفر حرف كل شيء، ومنه شفر الفرج لحرفه، أي طرفه، وهو بضم الشين وتفتح والفرج مأخوذ من الانفراج، وهو اسم لمخرج الحدث، ويتناول الذكر والدبر وفرج المرأة، ومنه يعلم الفرق بين قلفة الذكر وبين شفري وفرج المرأة، حيث قالوا بالنقض في الأول دون الثاني.
(2) للعموم، قال في الفروع: على الأصح.
(3) احتياطا، للعموم لأنه جزء من اليد، وقال الشيخ: بطن الكف يتناول الباطن كله، بطن الراحة والأصابع، ومذهب مالك والشافعي لا ينتقض وضوءه إلا بباطن كفه.
(4) أي هذا المراد باليد هنا كالقطع في السرقة.
(5) عن أبي هريرة ورواه البيهقي وغيره وابن حبان، وقال: صحيح سنده، عدول نقلته، وصححه الحاكم وابن عبد البر، وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب، والإفضاء لغة الوصول، وأفضي إلى كذا بلغة وانتهى إليه، وإلى فرجه مسه بيده، ومفهومه أنه لا ينتقض وضوءه بغير اليد، قال الوزير: اتفقوا على أن من مس فرجه بغير يده من أعضائه لا ينتقض وضوءه.
(6) لأنه في حكم المنفصل.(1/249)
(و) ينقض (لمسهما) أي لمس الذكر والقبل معا (من خنثى مشكل) لشهوة أولا، إذ أحدهما أصلي قطعا (1) (و) ينقض أيضا (لمس ذكر ذكره) أي ذكر الخنثى المشكل لشهوة، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كان امرأة فقد لمسها لشهوة (2) فإن لم يمسه لشهوة أو مس قبله لم ينتقض (3) (أو أنثى قبله) أي وينقض لمس أنثى قبل الخنثى المشكل (لشهوة فيهما) (4) أي في هذه والتي قبلها (5) لأنه إن كان أنثى فقد مست فرجها، وإن كان ذكرا فقد لمسته لشهوة (6) .
__________
(1) كما لو لم يكن معه زائد، سواء كان المس منه أو من غيره، ولمسه لمسا من باب قتل وضرب، أفضى إليه باليد، واستعمال غالب الفقهاء على أن المس باليد، واللمس أعم منه، وقال الجوهري: اللمس هو المس للشيء باليد، وقال خطيب الدهشة: المس مسك الشيء بيدك، وقال الشيخ: لفظ المس واللمس سواء، من فرق بينهما فقد فرق بين متماثلين، وقوله (معا) أي جميعا، لأن لمس الفرج متيقن.
(2) وعبارة المقنع وغيره: بشهوة، قال في المبدع: وهي أحسن، لتدل على المصاحبة والمقارنة واللام ربما تشعر بتقدم الشهوة، أو بتأخرها.
(3) أي ولو بشهوة، لاحتمال أن يكون زائدا.
(4) لأن الخنثى إن كان امرأة فقد لمست المرأة فرج امرأة، وإن كان ذكرا فقد لمسته بشهوة.
(5) يعني اشتراط اللمس بشهوة من خنثى مشكل، أو ذكر ذكره، أو أنثى قبله.
(6) وتقدم قول الشيخ في مس الذكر، فالخنثى من باب أولى.(1/250)
فإن كان المس لغيرها (1) أو مست ذكره لم ينتقض وضوءها (2) (و) الخامس (مسه) أي الذكر (امرأة بشهوة) (3) لأنها التي تدعو إلى الحدث، والباء للمصاحبة (4) .
__________
(1) أي بغير شهوة لم ينتقض الوضوء في المسألتين.
(2) ولو بشهوة لاحتمال أن يكون زائداِ.
(3) جمعا ين الآية والأخبار لقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وفي قراءة (أو لمستم) واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد، ولقول عائشة: فوقعت يدي على بطن قدميه وهما منصوبتان رواه مسلم، ولهما قالت: فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وصلى وهو حامل أمامة فاعتبرت الحالة التي يدعو المس فيها إلى الحدث، هي حالة الشهوة.
(4) أي فيعتبر مقارنتهما، وقال الشيخ: ظاهر مذهب أحمد كمذهب مالك والفقهاء السبعة أن اللمس إن كان بشهوة نقض وإلا فلا، وليس في المسألة قول متوجه غير هذا وقال: إذا مسها لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوءا، ولا يستحب الوضوء منه، وذكر الزركشي وغيره أن المراد اللمس للتلذذ، أما اللمس لغرض آخر فلا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك، لأن اللمس بشهوة هو المظنة لخروج المني، والمذي فأقيم مقامه كالنوم مع الريح، وعنه لا ينقض مطلقا، اختاره في الفائق، والآجري والشيخ: وقال الأظهر أنه لا يجب الوضوء من مس النساء، فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح، بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب، بل قال: لا يقدر أحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه بالوضوء من مس النساء، لعموم البلوى بذلك، وقبل صلى الله عليه وسلم وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقال: لا خلاف أنه لم ينقل عنه أنه توضأ من المس، وقال: الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى
هذا علم أنه ليس من دينه، وذكر أصولا ثم قال: وبهذه الطرق يعلم أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك مع أن الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة، أو بغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك، بل المراد بالملامسة الجماع، وذكر أن استحباب الوضوء من لمسهن بشهوة متوجه ظاهر، وصوبه في الإنصاف.(1/251)
والمرأة شاملة للأجنبية وذات المحرم والميتة والكبيرة والصغيرة المميزة (1) وسواء كان المس باليد أو غيرها (2) ولو بزائد لزائد أو أشل (3) (أو تمسه بها) أي ينقض مسها للرجل بشهوة كعكسه السابق (4) (و) ينقض (مس حلقة دبر) لأنه فرج (5) .
__________
(1) لعموم (أو لا مستم) ويستثنى الصغيرة لحمله أمامة وهو يصلي.
(2) من بشرته أو بشرتها.
(3) أي ولو كان المس لأشل أو به فنيقض المس، وزاد الشي يزيد زيدا وزيادة فهو زائد، والزائد اسم فاعل، وهو أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر، والزيادة ما يزاد أو يزيد، جمعه زيادات، والشلل اليبس أو الذهاب.
(4) في قوله: ومسه امرأة بشهوة، لأنها ملامسة تنقض الوضوء، فاستوى فيها الذكر والأنثى كالجماع، قال أحمد: هي شقيقة الرجل، يعجبني أن تتوضأ ومرادهم وجوب الوضوء، وتقدم استظهار الشيخ الاستحباب، وتمس بفتح الميم على المشهور وحكي ضمها.
(5) وتقدم حديث من مس فرجه فليتوضأ، وعنه لا ينقض مس حلقة الدبر،
اختاره جماعة منهم المجد، وقال الخلال: العمل عليه وصححه في
التصحيح واستظهره في الفروع والتنقيح وغيرهما، وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وأحد قولي الشافعي، وتقدم استحباب الشيخ الوضوء من مس الذكر والفرج يتناولهما.(1/252)
سواء كان منه أو من غيره (1) (لامس شعر وسن وظفر) منه أو منها (2) ولا المس بها (3) (و) لامس رجل لـ (أمرد) ولو بشهوة (4) (ولا) المس (مع حائل) لأنه لم يمس البشرة (5) (ولا) ينتقض وضوء (ملموس بدنه ولو وجد منه شهوة) ذكرا كان أو أنثى (6) .
__________
(1) أي سواء كان من الماس بأن مس حلقة دبر نفسه، أو من غيره، بأن مس حلقة دبر غيره، ذكرا كان أو أنثى.
(2) أي سواء كان الشعر والسن والظفر من الرجل أو المرأة، فلا ينقض، لأنه في حكم المنفصل، والسن مؤنثة جمعها أسنان، مثل حمل وأحمال.
(3) أي ولا ينقض المس بالشعر والسن والظفر، لأنها في حكم المنفصل.
(4) الأمرد هو الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته، قال الشيخ: وهو المشهور من مذهب الشافعي، والقول الثاني في مذهب أحمد وغيره أنه كمس النساء بشهوة فينقض وهو المشهور من مذهب مالك، والتلذذ بلمسه حرام بإجماع المسلمين، وكذا النظر إليه بشهوة، فحيث وجد اللمس بشهوة تعلق الحكم به.
(5) أي ظاهر الجلد أشبه لمس الثياب ولو بشهوة، كما لو وجدت من غير لمس شيء، لأن الشهوة لا توجب الوضوء بمجردها، وذلك إجماع ممن رأى النقض بالمس إلا مالكا إذا لم يكن الحائل من الصفاقة بحيث يمنع اللذة المعتبرة.
(6) لأنه لا نص فيه، وقياسه على الماس لا يصح لفرط شهوته، وكذا لا ينقض وضوء بانتشار ذكر عن فكر وتكرار نظر، لأنه لا نص فيه، وقال الشيخ: من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، أو مس الأمرد وغيره فانتشر فالتوضؤ عند
تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، لما في السنن، إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ وكذلك الشهوة الغالبة من الشيطان، والنار، والوضوء يطفئها، فهو مستحب.(1/253)
وكذا لا ينتقض وضوء ملموس فرجه (1) (وينقض غسل الميت) مسلما كان أو كافرا، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا (2) لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء (3) .
__________
(1) وفاقا، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الماس بالوضوء، ولو انتقض وضوء الملموس لأمره أيضا بالوضوء، وقياسه على الماس لا يصح.
(2) للعموم وميت مشدد ومخفف، وكذا غسل بعض ميت، ولو كان الغسل في قميص ونحوه.
(3) وعن أبي هريرة، أقل ما فيه الوضوء، وهو قول علي وحذيفة، وكان شائعا عنهم، قال الشارح: ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعا، ولأن الغاسل لا يسلم غالبا من مس عورة الميت، فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث، وعنه: لا ينقض وفاقا، واختاره جماعة من الأصحاب، وقال الشارح والموفق وغيرهما: هو قول أكثر العلماء، وقال: وهو الصحيح لأنه لم يرد فيه نص صحيح، ولا هو في معنى المنصوص عليه، وقال الشيخ: الأظهر أنه لا يجب الوضوء من غسل الميت، فإنه ليس مع الموجبين دليل صحيح، بل الأدلة الراجحة تدل على عدم الوجوب، لكن الاستحباب متوجه ظاهر، وكلام الإمام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب اهـ. ويشهد لهذا القول قوله صلى الله عليه وسلم ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم رواه البيهقي وغيره، وحسن الحافظ إسناده، وجوده في المبدع.(1/254)
والغاسل هو من يقلبه ويباشره ولو مرة (1) لا من يصب عليه الماء، ولا من ييممه (2) وهذا هو السادس (3) (و) السابع (أكل اللحم خاصة من الجزور) أي الإبل (4) فلا ينقض بقية أجزائها كالكبد (5) وشرب لبنها ومرق لحمها (6) سواء كان نيئا أو مطبوخا (7) .
قال أحمد: فيه حديثان صحيحان حديث البراء، وحديث جابر ابن سمرة (8) .
__________
(1) أي يقلب الميت ويباشر غسله، ولو مرة واحدة.
(2) فلا يسمى أحدهما غاسلا، ولا تجري عليه أحكامه.
(3) يعني غسل الميت هو السادس من نواقض الوضوء.
(4) بكسرتين وتسكن الباء، اسم جمع لا واحد له، وجمعه آبال، والجزور منها تقع على الذكر والأنثى، جمعها جزائر وجزر وجزرات، وجزر الشيء يجزره قطعه، واللحم هو المادة الحمراء الرخوة التي تؤكل.
(5) والقلب والطحال والكرش والشحم، والكلية بضم الكاف، واللسان، والرأس والسنام والأكارع والمصران، لأن النص لم يتناوله.
قال الشيخ: اختاره كثير من أصحابنا، وصححه في التصحيح، وابن عقيل، وجزم به في الوجيز وغيره.
(6) أي لا ينقض، لأن النص لم يتناوله.
(7) يعني لحم الإبل، لأن الأمر بالوضوء يقتضي ذلك، وقال الشيخ وغيره، وسواء كان قليلا أو كثيرا عالما أو جاهلا.
(8) فحديث البراء قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل قال: نعم توضئوا منها رواه أحمد وأهل السنن، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحه، وقال: لم أر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح
لعدالة ناقليه، وحديث جابر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم توضئوا من لحوم الإبل، رواه أحمد ومسلم، ولابن ماجه نحوه عن ابن عمر، وكذا أبو داود والترمذي، وله شواهد من وجوه أخر، ولأن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: إنها جن خلقت من جن، فأكل لحمها يورث قوة شيطانية، تزول بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وقال الزركشي وغيره: هي من الشياطين، كما في الحديث الصحيح، فإذا أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية، فشرع الوضوء منها ليذهب سورة الشيطان، وقال النووي: ذهب الأكثر إلى أنه لا ينقض وذهب إلى النقض به أحمد وابن المنذر وابن خزيمة والبيهقي، وحكي عن أصحاب الحديث مطلقا، وهذا المذهب أقوى دليلا وإن كان الجمهور على خلافه، فلعلهم لم يسمعوا هذه النصوص، أو لم يعرفوا العلة، وحكاه الماوردي وابن المنذر عن طائفة من الصحابة والتابعين، وكان أحمد يعجب ممن يدع حديث لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها، فيخرج على مذاهبهم فإن المذهب لا يكون خلاف ما فيه نص صحيح صريح أو إجماع كما صرحوا به، ولا ينقض طعام محرم، وهو مذهب الخلفاء قال الشارح وغيره: لا نعلم فيه خلافا، وعنه لحم الخنزير، قال الشيخ: الخبيث المباح للضورة كلحم السباع أبلغ من الإبل، فالوضوء منه أولى، والخلاف فيه بناء على أن الوضوء من لحم الإبل تعبدي، وقد بين الشارع العلة.(1/255)
(و) الثامن المشار إليه بقوله (كل ما أوجب غسلا) (1) كإسلام (2) .
__________
(1) أي تسبب عنه وجوبه، وإلا فالموجب الشارع.
(2) أي إسلام كافر، أصليا كان أو مرتدا، ولذلك أسقط الردة وقد قال تعالى:
{لئن أشركت ليحبطن عملك} لأنه إذا عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الغسل، وإذا وجب الغسل وجب الوضوء، قال الشيخ: يتطهر فيما إذا عاد إلى الإسلام، فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل، فإذا نواهما بالغسل أجزأ اهـ ومذهب جمهور العلماء الأئمة الثلاثة وغيرهم أن الردة لا تنقض الوضوء، لحديث لا وضوء إلا من صوت أو ريح، والمراد بالإحباط من مات على الردة، ولم يذكر القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب، وجمع الردة من النواقض والردة هي الإتيان بما يخرج من الإسلام، إما نطقا وإما اعتقادا وإما شكا، وقد تحصل بالفعل.(1/256)
وانتقال مني ونحوهما (1) (أوجب وضوءا (2) إلا الموت) فيوجب الغسل دون الوضوء (3) ولا نقض بغير ما مر (4) كالقذف والكذب والغيبة ونحوها (5) والقهقهة ولو في الصلاة (6) .
__________
(1) كالتقاء الختانين، والحيض والنفاس، وغير ذلك من موجبات الغسل.
(2) لأن وجوب الغسل وهو الطهارة الكبرى، لازم لوجوب الطهارة الصغرى.
(3) فلا يجب الوضوء بالموت بل يسن.
(4) أي من النواقض المشتركة بين المسح على الخفين وغيره، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، وأما المخصوصة كبطلان المسح بفراغ مدته، وخلع حائل ونحو ذلك فمذكور في أبوابه.
(5) كالسب نص عليه، قال الشيخ: ويستحب الوضوء عقب الذنب، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين: وصوبه النووي وغيره، وذكر غير واحد أنه يسن الوضوء من الكلام المحرم، وهو قول ابن مسعود وعائشة والشعبي وغيرهم، فإن الطهارة لها معنيان: الطهارة من الذنوب، والطهارة الحسية بالماء والتراب، وإنما أمر بهذه لتحقق تلك، فالفاعل للمنهي عنه خرج عن مقصود الطهارة، فيستحب له إعادة الوضوء.
(6) أي لا نقض بها، قال الشيخ: عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد، وهي معروفة بأن يقول قه قه، وقهقهة الرجل رجع في ضحكه وكرره.(1/257)
وأكل ما مست النار (1) غير لحم الإبل (2) ولا يسن الوضوء منهما (3) (ومن تيقن الطهارة وشك) أي تردد (في الحدث (4) .
__________
(1) أي لا نقض به لقول جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار، ورواه أبو داود والترمذي، وفي الصحيح أنه أكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ وأكل سويقا ولم يتوضأ.
(2) فينقض لأن أحاديث الأمر بالوضوء منه خاصة، وأحاديث عدم الوضوء مما مست النار عامة، والخاص مقدم على العام، وقال الشيخ: وهذا الخاص متأخر على العام، وقد اتفق العلماء على تقديم الخاص المتأخر، ولحم الإبل لم يتوضأ منه لأجل مس النار بل لمعنى يختص به.
(3) أي من القهقهة وأكل ما مست النار، بخلاف الكلام المحرم فيسن الوضوء منه، قال الشيخ: لا ينتقض عند الجمهور، ولكن يستحب في أقوى الوجهين، وقال في القهقهة كذلك، لكونه أذنب ذنبا، وللخروج من الخلاف، فإن مذهب أبي حنيفة: ينقض الوضوء اهـ، وما أوجب الطهارة لا فرق فيه بين التعبد وغيره، لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهي تكون باحتلام وغيره، وأمره في المذي بالوضوء، وهو يخرج بلا قصد وغير ذلك.
(4) بنى على يقين الطهارة، وتقدم أن اليقين ضد الشك، وفي الاصطلاح: اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا مطابقا للواقع غير ممكن الزوال، وقال الموفق: ما أذعنت النفس للتصديق به، وقطعت به وقطعت بأن قطعها به صحيح، والشك خلاف اليقين عند الفقهاء، وهو التردد بين شيئين سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر، وتقدم أن التردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى في اللغة وعند الفقهاء شكًا سواء المستوي والراجح والمرجوح وقال ابن القيم: مرادهم به التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء تساوي الاحتمالان أو رجح أحدهما.
والقاعدة: كل مشكوك اجعله كالعدم، ويأتي قول ابن عمر نهى عن صوم يوم الشك، اطراحا لأعمال الشك، فهو أصل عظيم من الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه من الحال المتيقنة إلا بيقين في انتقالها، فمتى تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو على الطهارة إجماعا، حكاه غير واحد إلا رواية عن مالك أنه يبنى على الحدث، وقال ابن رشد: لم يتابعه على هذا غيره، والثانية عنه كمذهب الجماعة.(1/258)
أو بالعكس) بأن تيقن الحدث وشك في الطهارة (1) (بنى على اليقين) (2) سواء كان في الصلاة أو خارجها (3) تساوى عنده الأمران أو غلب على ظنه أحدهما (4) لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) متفق عليه (5) .
__________
(1) بنى على يقين الحدث، لأن الحدث إذا يقين، فلزم ما تيقن، ولغا المشكوك بإجماع المسلمين.
(2) وهو الطهارة في الصورة الأولى، والحدث في الصورة الثانية بالإجماع، ولقوله صلى الله عليه وسلم ليطرح الشك، وليبن على ما استيقن.
(3) هذا مذهب علماء السلف والخلف، إلا رواية عن مالك فيما إذا كان شكه خارج الصلاة ولم يتابع على ذلك.
(4) أي الطهارة أو الحدث، لأن غلبة الظن إذا لم يكن لها ضابط في الشرع لم يلتفت إليها.
(5) من حديث عبد الله بن زيد في الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: لا ينصرف الحديث ولمسلم عن أبي هريرة إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا، أي لا ينصرف حتى يتيقن سماع الصوت، أو وجود الرائحة ولا
يشترط السماع، ولأن الأصل عدم النقض حتى يقوم ما يرفع الأصل، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين باليقين، لأن المعنى إذا كان أوسع من اللفظ كان الحكم للمعنى، وهذا أصل وقاعدة من قواعد الدين في أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك.(1/259)
(فإن تيقنها) أي تيقن الطهارة والحدث (1) (وجهل السابق) منهما (2) (فهو بضد حاله قبلهما) إن علمها (3) فإن كان قبلهما متطهرا فهو الآن محدث، وإن كان محدثا فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن زوال تلك الحالة إلى ضدها، وشك في بقاء ضدها، وهو الأصل، وإن لم يعلم حاله قبلهما تطهر (4) .
__________
(1) أي تيقن أنه مرة كان طاهرا ومرة كان محدثا.
(2) أي من الطهارة والحدث، بأن لم يدر الطهارة قبل الحدث أو بالعكس.
(3) أي تلك الحالة، لأن ما يغايره مشكوك فيه فلا يلتفت إليه.
(4) فإذا كان جهل حاله قبل الطهارة أو الحدث فلم يدر هل كان قبل الزوال مثلا متطهرا أو محدثا؟ تطهر وجوبا إذا أراد الصلاة ونحوها، لتيقنه الحدث في إحدى الحالتين، والأصل بقاؤه لأن وجود يقين الطهارة في الحالة الأخرى مشكوك فيه أكان قبل الحدث أو بعده، ولأنه لم يتحقق طهارته لا يقينا ولا ظنا، ومحل ما تقدم إذا كان الشك في الصلاة أو قبلها، وقال عثمان: إذا تيقن الحدث والطهارة بعد طلوع الشمس مثلا وجهل أسبقهما ففي ذلك ثمان صور: الأولى أن يتيقن الاتصاف بالطهارة والحدث: الثانية أن يتيقن فعل كل من الطهارة والحدث من غير أن يعلم أن الطهارة عن حدث أو لا، وأن الحدث ناقض لطهارة أو لا، الثالثة أن يتيقن الاتصاف بالطهارة، وفعل حدث لا يدري هل هو ناقض لطهارة أو لا
الرابعة أن يتيقن الاتصاف بالحدث وفعل طهارة لا يدري هل هي رافعة لحدثه أو لا؟ فهذه الصور الأربع حكمها واحد على الصحيح، وهو أنه إن جهل حاله قبلهما تطهر، وإلا فهو على ضدها، والخامسة أن يتيقن فعلهما رفعا لحدث ونقضا لطهارة، السادسة أن يعين وقتا لا يسعهما، كما لو قال توضأت وأحدثت عند قول المؤذن: الله أكبر، ففي هاتين الصورتين، إن جهل حاله قبلهما تطهر، وإلا فهو على مثلها السابعة تيقن أن الطهارة عن حدث ولم يدر هل الحدث ناقض لطهارة أولا؟ فهو في هذه الصورة متطهر مطلقا، سواء علم حاله قبلهما أولا، وسواء كان قبلهما متطهرا أو محدثا؟ الثامنة عكسها بأن تيقن أن الحدث ناقض لطهارة ولم يدر هل الطهارة عن حدث أو لا؟ فهو في هذه الصورة محدث مطلقا.(1/260)
وإذا سمع اثنان صوتا، أو شما ريحا من أحدهما لا بعينه فلا وضوء عليهما (1) ولا يأتم أحدهما بصاحبه، ولا يصاففه في الصلاة وحده (2) وإن كان أحدهما إماما أعادا صلاتهما (3) (ويحرم على المحدث مس المصحف) (4) .
__________
(1) لأن كل واحد منهما لم يتحققه، فهو متيقن الطهارة شاك في الحدث.
(2) حال من مفعول أمه أوصافه، قيد في إعادتهما وعلم منه أنه إن أمه مع غيره أوصافه معه فلا إعادة عليهما، وإلا فيجب على المؤتم منهما بالآخر الإعادة مطلقا لاعتقاده حدث إمامه وهو كالصريح في قولهم: ولا يأتم أحدهما بالآخر، وقال الشيخ: إذا تيقنا أن أحدهما أحدث ففيه قولان: الثاني أن ذلك بمنزلة الشخص الواحد وهو أقوى، لأن حكم الإيجاب يثبت قطعا في حق أحدهما فلا وجه لرفعه عنهما جميعا.
(3) لتيقن كل منهماأن أحدهما محدث.
(4) بتثليث الميم والضم أشهر ثم الكسر، من: أصحف بالضم أي جمعت فيه
الصحف قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ *} أي من الجنابة والحدث، وقال ابن عباس وغيره {إِلا الْمُطَهَّرُونَ *} يعني الملائكة، لا ينفي القول الذي قبله، قال الشيخ: مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يمس المصحف إلا طاهر، كما في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، لا يمس القرآن إلا طاهر، ورواه النسائي وغيره متصلا، قال ابن عبد البر: إنه أشبه التواتر لتلقي الناس له بالقبول، وشهد له عمر بن عبد العزيز والزهري وغيرهما بالصحة، وقال أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له، واحتج بحديث ابن عمر، لا يمس المصحف إلا على طهارة، وهو قول سلمان وعبد الله بن عمر وغيرهما، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وقال الوزير: أجمعوا أنه لا يجوز للمحدث مس المصحف، وقال الزركشي، إذا كتب بعض القرآن مفردا عن تفسير وغيره فإنه لا يجوز للمحدث مسه، وإن لم يسم مصحفا.(1/261)
وبعضه حتى جلده وحواشيه (1) بيد أو غيرها بلا حائل (2) لا حمله بعلاقة (3) أو في كيس أو كم من غير مس (4) .
__________
(1) أي نواحيه والورق الأبيض المتصل به، لشمول اسم المصحف له.
(2) أي يحرم مسه أو بعضه بيد أو غيرها من أعضائه ولو بصدره اتفاقا للعموم بلا حائل، لأن النهي إنما ورد عن مسه، والمس إذا للحائل، وكل شيء لاقي شيئا فقد مسه.
(3) بكسر العين في المحسوسات على الصحيح كعلاقة السيف ونحوه، وفتحها في المعقولات، كعلاقة الحب، أي فلا يحرم حمله إذا لعدم العلة.
(4) فلا يحرم لأن النهي إنما ورد عن اللمس، قال الشيخ: إذا حمله بكمه فلا بأس، لكن لا يمسه بيده، والكيس ما يخاط من خرقة ونحوها، سمي بذلك لأنه يجمع ما يجعل فيه ويضمه من دراهم وغيرها، وأما ما يشرج من أديم وخرق ونحوها فيقال له خريطة، والكم بضم الكاف مدخل اليد ويأتي.(1/262)
ولا تصفحه بكمه أو عود (1) ولا صغير لوحا فيه قرآن من الخالي من الكتابة (2) ولا مس تفسير ونحوه (3) ويحرم أيضا مس مصحف بعضو متنجس (4) وسفر به لدار حرب (5) وتوسده (6) .
__________
(1) ونحوه لأنه غير ماس له، وتصفحه قلب صفحاته وتفتيشها واحدة واحدة والصفحة من كل شيء جانبه، ومن الكتاب الوجه من الورق، وكذا نسخه بدون حمل ومس، قال أبو بكر: لا يختلف قوله في ذلك، وذكر عنه أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف لقلة من كان يكتبها.
(2) أي لا يحرم على وليه تمكينه من مس اللوح من المحل الخالي من الكتابة، دون المكتوب، ودون المصحف أو بعضه، فلا يجوز تمكينه منه بدون طهارة وجوزه بعض أهل العلم لحاجة تعلمه، ومشقة استمراه.
(3) ككتب حديث وفقه ورسائل فيها قرآن وظاهره قل أو كثر.
(4) لأنه أولى من الحدث، وكذا بعضو رفع عنه الحدث قبل كمال الطهارة لأن رفع الحدث مراعى، فإن أكمله ارتفع، وإلا فلا، كما استظهره صاحب الإنصاف، لا بعضو طاهر على غيره نجاسة، على الصحيح من المذهب، وقال في الفروع: وكذا مس ذكر الله بنجس فيحرم.
(5) لما في الصحيحين: نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولأنه عرضه إلى إلى استلاء الكفار عليه واستهانته.
(6) أي ويحرم توسده، ولو خاف سرقته، لأن ذلك ابتذال له وكذا استناد عليه، ووزن به، ويحرم جلوس عليه إجماعا، ويجب احترامه حيث كتب إجماعا، ويحرم دوسه أو دوس ذكر، وقال النووي: أجمع العلماء على وجوب صيانة المصحف واحترامه، فلو ألقاه والعياذ بالله في قاذورة كفر.(1/263)
وتوسد كتب فيها قرآن (1) ما لم يخف سرقة (2) ويحرم أيضا كتب القرآن بحيث يهان (3) وكره مد رجل إليه (4) واستدباره وتخطيه (5) وتحليته بذهب أو فضة (6) .
__________
(1) فيحرم أيضا، وإلا يكن فيها قرآن فيكره.
(2) أي سرقة الكتب التي فيها قرآن فلا يحرم، قال أحمد في كتب الحديث: إن خاف سرقة فلا بأس، وقال النووي وغيره: لو خاف المحدث على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه بيد كافر جاز أخذه مع الحدث صرح به الدارمي وغيره، بل يجب ذلك صيانة له اهـ والأولى وضع كتب النحو، ثم التعبير ثم الفقه، ثم الأخبار، ثم المواعظ، ثم الحديث، ثم التفسير، ثم القرآن الأعلى فالأعلى، رعاية للتعظيم.
(3) بأن يكتب ببول حيوان ونحوه، قال الشيخ: إجماعا، فتجب إزالته ويحرم كتابة ذكر الله بنجس، أو عليه أو فيه، ويجب غسله، وقال في الفنون: إن قصد بكتبه بنجس إهانته فالواجب قتله، وكذا دوسه، وتكره كتابته في الستور، وفيما هو مظنة بذله، ولو بلي المصحف أو اندرس دفن، لأن الصحابة دفنوا المصحاف بين القبر والمنبر، ولا يجوز لف شيء في كاغد فيه فقه ونحوه، لا طب ونحوه بعد محو ما فيه من ذكر الله عز وجل، أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
(4) إذا لم يقصد إهانته فإن قصد إهانته حرم، بل يكفر كما يأتي في حكم المرتد.
(5) ورميه إلى الأرض بلا وضع ولا حاجة، بل هو بمسألة التوسد أشبه، قاله صاحب الفروع وغيره، وكذا كتب علم فيها قرآن، قال الشيخ: وجعله عند القبر منهي عنه، ولو جعل للقراءة هناك.
(6) نص عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، وقيل: يكره تحليته للنساء، وقيل يحرم، جزم به الشيخ وغيره، ككتب العلم في الأصح، وقال ابن الزاغوني: يحرم كتبه بذهب.(1/264)
وتحرم تحلية كتب علم (1) (و) يحرم على المحدث أيضا (الصلاة) ولو نفلا (2) حتى صلاة جنازة (3) وسجود تلاوة وشكر (4) .
__________
(1) بذهب أو فضة على الصحيح، وتحرم مخالفة خط عثمان في ألف أو واو، أو ياء، أو غير ذلك نص عليه، واستفتاح الفأل فعله ابن بطة، قال الشيخ: ولم يره غيره، واختاره وحكى ابن العربي تحريمه، ولا يكره نقط المصحف وشكله، وكتابة الأعشار فيه، وأسماء السور وعدد الآيات، قال في تصحيح الفروع: وهو الصواب، وعليه عمل الناس، وجوز بعضهم تقبيله، لا جعله على عينيه لعدم نقله.
(2) إجماعا لحديث لا يقبل الله صلاة بغير طهور، رواه الجماعة إلا البخاري، وفيهما لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ وسواء كان عالما أو جاهلا لكن إن صلى جاهلا أو ناسيا فلا إثم عليه.
(3) فتحرم على المحدث، كما ثبت عن الصحابة، ودل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه الفقهاء من السلف والخلف، قال ابن القيم: صلاة الجنازة صلاة، لأن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وهو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف عنهم فيه خلاف، قول الأئمة الأربعة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها صلاة، وكذلك عن الصحابة، وحملة الشرع كلهم يسمونها صلاة، وكل ما كان تحريمه التكبير، وتحليله التسليم فلا بد من افتتاحه بالطهارة اهـ ويأتي أنه إن خاف فوتها تيمم، وحكى ابن حزم والنووي وغيرهما عن بعض العلماء جوازها بلا وضوء ولا تيمم، واختاره الشيخ، وألحق بذلك سجود التلاوة والشكر.
(4) قال الشيخ: والصحيح أنه يجوز، ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين، وقد يقال: يكره مع القدرة على الطهارة، لقوله عليه الصلاة والسلام للذي سلم عليه كرهت أن أذكر الله إلا على طهر.(1/265)
ولا يكفر من صلى محدثا (1) (و) يحرم على المحدث أيضا (الطواف) (2) لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام رواه الشافعي في مسنده (3) .
__________
(1) وفاقا لمالك والشافعي، ولو عالما، خلافا لأبي حنيفة، وقال الشيخ: من صلى بلا وضوء فيما تشترط له الطهارة بالإجماع كالصلوات الخمس، فجمهور العلماء على أنه يغرز، ولا يكفر، إلا إذا استحل ذلك، واستهزأ بالصلاة.
(2) بالبيت الحرام فرضا أو نفلا، وفاقا لمالك والشافعي.
(3) وسنده ضعيف، وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وغيرهم بلفظ إنما الطواف بالبيت صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام، قال الشيخ: أهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفا، وبكل حال فلا حجة فيه اهـ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ للطواف.(1/266)
باب الغسل (1)
بضم الغين الاغتسال (2) أي استعمال الماء في جميع بدنه (3) على وجه مخصوص (4) وبالفتح الماء أو الفعل (5) .
__________
(1) أي باب ما يوجب الغسل، وما يسن له، وصفة الكامل والمجزئ منه، وما يمنع منه الجنب وغير ذلك.
(2) اسم مصدر، وهو الذي تستعمل الفقهاء، وعند أهل اللغة بالفتح والضم لغتان.
(3) ويقال: سيلان الماء على جميع البدن، واسم البدن يقع على الظاهر والباطن إلا ما يتعذر إيصال الماء إليه أو يتعسر، فالمضمضة والاستنشاق جزء من مفهومه، فلا توجد حقيقة الغسل الشرعية بدونهما، وأجمعوا على أن الجنابة تحل جميع البدن.
(4) وستأتي كيفيته من نية وتسمية ما يتبع ذلك، وحقيقته، إفاضة الماء على الأعضاء بنية التطهر، والأصل فيه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} مع ما يأتي من السنة وإجماع الأمة، وذكر السهيلي وغيره أن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية، من بقايا دين إبراهيم، كما بقي فيهم الحج والنكاح، ولذا عرفوا مع قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ولم يحتاجوا إلى تفسيره، وقال الشيخ: كان مشروعا قبل.
(5) المراد بالفعل، هنا المصدر، أي غسل البدن، والفتح في المصدر أشهر من الضم وأفصح لغة، لأن فعله من باب ضرب، وقال ابن مالك: الغسل بضم أوله وسكون ثانيه الاغتسال، والماء الذي يغتسل به.(1/267)
وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره (1) (وموجبه) ستة أشياء (2) أحدها (خروج المني) من مخرجه (دفقا بلذة (3) لا) إن خرج
__________
(1) كسدر والخطمي بالفتح وفي القاموس بالكسر ويفتح قال الأزهري: من قال بالكسر فقد لحن اهـ وهو نبات معروف يغسل به، بين كل قصبتين منه زهر أحمر، وقد يكون أبيض، يستدير ويتفتح كالورد.
(2) أي الذي يتسبب عنه وجوب الغسل باعتبار أنواعه ستة أشياء بالاستقراء أيها وجد كان سببا لوجوب الغسل.
(3) من الذكر أو الأنثى، لحديث علي: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال في المذي الوضوء وفي المني الغسل، أخرجه أحمد وأهل السنن، وصححه الترمذي، وأخرجاه مختصرا.
قال الترمذي: وهو قول عامة أهل العلم، وقال الشارح: لا نعلم فيه خلافا، وحكاه غير واحد اتفاقا، والطبري إجماع المسلمين، والمراد خروجه من مخرجه المعتاد ولو دما، فإنه قد يخرج أحمر لقصور الشهوة عنه، ويصير كماء اللحم، وربما خرج دما عبيطا، وعند الشافعي وإن لم يقارنه لذة، وهو بفتح الميم وكسر النون وتشديد الياء، وحكي تخفيفا، سمي بذلك لأنه يمنى أي يصب ويراق ويدفق، وهو من الرجل في حالة صحته ماء غليظ أبيض يخرج عند اشتداد الشهوة، يتلذذ بخروجه ويعقب البدن بعد خروجه فتور، ورائحته كرائحة طلع النخل، يقرب من رائحة العجين، وإذا يبس ريحه ريح بياض بيض جاف.
وقال النووي: خواصه المعتمدة الخروج بشهوة، مع الفتور عقبه، والرائحة التي تشبه الطلع، والعجين، والخروج بتزريق، ودفق في دفعات، وكل واحدة من هذه الثلاث كافية في كونه منيا اهـ، ومن المرأة ماء رقيق أصفر، وقد يبيض لفضل قوتها، ولا خاصية له إلا التلذذ وفتور شهوتها عقيب خروجه، وفي صحيح مسلم وغيره ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، ومن المني يخلق الحيوان بإذن الله، لخروجه من جميع البدن، ولهذا يضعف البدن بكثرته فيجبر
بالغسل، وقوله: دفقا بلذة، يلزم من وجود اللذة أن يكون دفقا، ولهذا لم يعبر في المنتهى وغيره إلا باللذة.(1/268)
(بدونهما من غير نائم) ونحوه (1) فلو خرج من يقظان لغير ذلك كبرد ونحوه (2) من غير شهوة لم يجب به غسل، لحديث علي يرفعه «إذا فضخت الماء فاغتسل (3) وإن لم تكن فاضخا فلا تغتسل» رواه أحمد (4) والفضخ خروجه بالغلبة قاله إبراهيم الحربي (5) فعلى هذا يكون نجسا وليس بمذي قاله في الرعاية (6) .
__________
(1) كمجنون ومغمى عليه وسكران، فإنه لا لذة لهم يقينا لفقد إدراكهم وجعلت اللذة حاصلة في حقهم حكما، لحديث: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟
قال: نعم إذا رأت الماء، أي المني بعد الاستيقاظ متفق عليه، ولأحمد والنسائي وابن ماجه ليس عليها غسل حتى تنزل كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل.
(2) كمرض وكسر ظهر.
(3) الفضخ بالخاء المعجمة ويروى حذفت الماء وهي الرمي، ولا يكون بهذه الصفة إلا بشهوة.
(4) وعند أبي داود إذا فضخت المني فاغتسل وأصله في الصحيحين وغيرهما.
(5) هو ابن إسحاق بن إبراهيم بن بشير بن عبد الله بن ديسم الحربي نسبة إلى محلة غربي بغداد، إمام فاضل له تصانيف، منها غريب الحديث، روى عن أحمد وأبي نعيم، وتوفي سنة مائتين وخمس وثمانين، وقال: غيره خروجه على وجه الشدة.
(6) أي إن خرج من يقظان بغير لذة فنجس، ولا يوجب الغسل، وليس بمذي، والمذي بالذال المعجمة فيه لغات أفصحها فتح الميم وسكون الذال وتخفيف
الياء ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء رقيق أبيض لزج، يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع، أو إرادته، أو نظر أو غير ذلك، عند فتور الشهوة بلا شهوة، وربما لا يحس بخروجه، ويخرج عند مبادئ الشهوة، ويشترك الرجل والمرأة فيه.
قال الجويني: إذا هاجت خرج منها المذي، وهو أغلب فيهن منه في الرجال اهـ، وأما الودي فيخرج عقب البول، وهو غير لزج، وإنما هو أبيض ثخين يشبه المني في الثخانة، ويخالفه في الكدورة ولا رائحة له، قال النووي: أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بخروج المذي والودي، لما في الصحيحين وغيرهما عن علي وغيره، وأمر عليه الصلاة والسلام في المذي بالوضوء.(1/269)
وإن خرج المني من غير مخرجه كما لو انكسر صلبه فخرج منه لم يجب الغسل، وحكمه حكم النجاسة المعتادة (1) وإن أفاق نائم أو نحوه يمكن بلوغه فوجد بللا (2) فإن تحقق أنه مني اغتسل فقط (3) ولو لم يذكر احتلاما (4) .
__________
(1) يعني في التطهير لا وجوب الغسل، قال الزركشي، لا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه وإن وجد شرطه.
(2) أي وإن استيقظ نائم ونحوه كمغمى عليه ممن يمكن بلوغه كابن عشر وبنت تسع فوجد بللا أي نداوة في بدنه أو ثوبه، وقال بعضهم: بباطن ثوبه، وصححه في الإنصاف، واستظهر أنه مراد الأصحاب، فإن كان بظاهر ثوبه ولم يتحقق أنه منه لم يجب عليه غسل، وإذا وجد منيا في ثوب لا ينام فيه غيره فعليه الغسل وإعادة المتيقن من الصلاة.
(3) أي اغتسل لا غير، دون غسل ما أصابه من المني، وقط بالسكون بمعنى حسب، وهو الاكتفاء بالشيء، وإذا قلت ما فعلته قط فبالضم والتشديد.
(4) قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافا، وحكى ابن المنذر وغيره الإجماع
عليه والاحتلام افتعال من الحلم بضم المهملة وسكون اللام ما يراه في النوم، ثم غلب على ما يراه من الجماع يقال: احتلم الرجل، جامع في نومه، وإن احتلم ولم يجد بللا لم يجب الغسل، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، ولو وجد لذة الإنزال.(1/270)
وإن لم يتحققه منيا فإن سبق نومه ملاعبة أن نظر أو فكر ونحوه (1) أو كان به إبردة لم يجب الغسل (2) وإلا اغتسل وطهر ما أصابه احتياطا (3) (وإن انتقل) المني (ولم يخرج اغتسل له) (4) .
__________
(1) كبرد وانتشار فلا غسل عليه، وفاقا، ولا عب المرأة ملاعبة، لعب معها، وفكر في الشيء، أعمل النظر فيه وتأمله.
(2) الأبردة بكسر الهمزة والراء مرض يحدث بسبب غلبة البرد والرطوبة بغير شهوة الجماع، أو برودة تحصل في الجوف، وقال في ترويح الأرواح: علة معروفة تحصل من غلبة البرودة والرطوبة، أي أو كان به إبردة وخرج مني لم يجب الغسل لعدم يقين سبب وجوب الغسل، ويجب غسل ما أصاب من ثوبه وبدنه، لرجحان كونه مذيا لقيام سببه، إقامة للظن مقام اليقين.
(3) أي وإن لم يسبق نومه ملاعبة أو نظر أو فكر ونحوه اغتسل وجوبا، لوجود السبب المقتضي لذلك، فإن النوم مظنة الاحتلام، والغالب على النائم الاحتلام ولم يتقدم سبب يعارضه، وقد قام شاهد المظنة، وظاهر القياس بموجب شهادته ويطهر ما أصاب بدنه أو ثوبه ونحوه احتياطا، وهذا من باب الخروج من عهدة الواجب، واحتاط الرجل يحتاط احتياطا، أخذ بالحزم والثقة محافظة لنفسه.
(4) أي وإن أحس الرجل بتحول المني من صلبه، كأن قبل امرأة فأحس بانتقاله أو نزوله، فحبسه فلم يخرج اغتسل له، أو المرأة بتحوله عن ترائبها اغتسلت لأنه يبعد بعد انتقاله عدم خروجه.(1/271)
لأن الماء قد باعد محله، فصدق عليه اسم الجنب (1) ويحصل به البلوغ ونحوه مما يترتب على خروجه (2) (فإن خرج) المني (بعده) أي بعد غسله لانتقاله (لم يعده) لأنه مني واحد فلا يوجب غسلين (3) .
__________
(1) ولأن الغسل تراعى فيه الشهوة، وقد وجدت بانتقاله أشبه ما لو خرج، وعنه لا يجب الغسل بالانتقال حتى يخرج، قال غير واحد: وهو قول العلماء كافة، إلا أحمد في قول واختار عدم وجوب الغسل الموفق والشارح وجماعات، لأنه صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على رؤية الماء، فلا يثبت الحكم بدونه، وللإجماع على عدم الوضوء من الإحساس بالحدث، كالقرقرة والريح، ما لم يخرج منه شيء فكذا هنا، وكلام أحمد إنما يدل على أن الماء إذا انتقل لزم منه الخروج، وإنما يتأخر فكذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه، وأصل الجنابة في اللغة البعد، وتطلق في الشرع على من أنزل المني، وعلى من جامع، والجنب من خرج منه المني على وجه الشهوة، يقال: أجنب إذا قضي شهوته من المرأة، وسمي جنبا لأنه يجتنب الصلاة والمسجد والقراءة ويتباعد عنها.
(2) كثبوت حكم فطر، ووجوب بدنه في الحج، وتقدم الإجماع على عدم الوضوء بالقرقرة والريح قبل الخروج.
(3) لأن الخارج بعد الغسل هو ذلك المني المنتقل، فهو كبقية مني خرج بعد الغسل، والمراد بلا شهوة، فإن خرج بشهوة لزمه الغسل، وكذا إن خرج مني بعد غسله من جماع لم ينزل فيه بغير شهوة، أو خرجت بقية مني اغتسل له بغير شهوة لم يجب الغسل، لقول ابن عباس في الجنب يخرج منه الشيء بعد الغسل؟ قال: يتوضأ ونحوه عن علي، ولأنه مني، واحد فأوجب غسلا واحدا، وإن انتقل ولم يغتسل ثم خرج بعد فإنه يغتسل بلا نزاع.(1/272)
(و) الثاني (تغييب حشفة أصلية) (1) أو قدرها إن فقدت، وإن لم ينزل (2) (في فرج أصلي (3) قبلا كان أو دبرا) وإن لم يجد حرارة (4) فإن أولج الخنثى المشكل حشفته في فرج أصلي، ولم ينزل (5) أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى فلا غسل على واحد منهما إن لم ينزل (6) .
__________
(1) أي الثاني من موجبات الغسل تغييب حشفة، وهي الكمرة ما فوق الختان من رأس الذكر، وموضع القطع غير داخل في حكم الحشفة.
(2) أي أو تغييب قدر الحشفة الأصلية إن كانت مفقودة وإن لم ينزل إذ الموجب التغييب لا الإنزال إجماعا حكاه الوزير وغيره، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها فقد وجب الغسل زاد أحمد ومسلم وإن لم ينزل وكلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق حقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال، ولأحمد ومسلم عن عائشة مرفوعا إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختان الختان فقد وجب الغسل، وصححه الترمذي، ولفظه إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، وورد بلفظ الإلزاق، وبلفظ الملقاة قال القاضي: إذا غابت الحشفة في الفرج فقد وقعت الملاقاة، وقال ابن سيد الناس.
وهكذا معنى مس الختان الختان أي قاربه وداناه اهـ، ويجب بتغييبها كالوطء الكامل قريب من أربعمائة حكم، فإن لم يبق منه قدرها لم يتعلق به حكم.
(3) فلا غسل بتغييب حشفة أصلية في قبل زائد.
(4) أي من الفرج فيجب الغسل على كل واطئ وموطوء إذا كان من أهل الغسل إجماعا.
(5) فلا غسل على واحد منهما.
(6) لعدم تغييب الحشفة الأصلية بيقين، إلا أن تحققت جنابته كأن أولج
رجل في فرجه وأولج هو في فرج امرأة، أو دبر فيجنب يقينا، لأنه جامع أو جومع.(1/273)
ولا غسل إذا مس الختان الختان من غير إيلاج (1) ولا بإيلاج بعض الحشفة (2) .
__________
(1) أي إدخال ولا إنزال إجماعا، إذ الموجب ليس مس الختان الختان، وإنما الموجب هو التغييب، فقد انعقد الإجماع على أنه لو وضع ذكره على ختانها ولم يولجه لم يجب الغسل على واحد منهما، كما جاء مصرحا به من حديث عبد الله بن عمرو إذا التقى الختانان، وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل، رواه ابن أبي شيبة وغيره، وختان الرجل موضع القطع، وختان المرأة موضع قطع جلدة منها، كعرف الديك، فوق الفرج فإذا غابت الحشفة في الفرج فقد حاذى ختانه ختانها، وعرفه أبو حامد وغيره، فقالوا: ختان الرجل هو الذي يقطع منه في حال الختان، وهو ما دون حزة الحشفة، وأما ختان المرأة فمدخل الذكر، وهو مخرج الحيض والولد والمني، وفوق مدخل الذكر ثقب مثل إحليل الرجل، هو مخرج البول، وبين هذا الثقب ومدخل الذكر جلدة رقيقة، وفوق مخرج البول جلدة رقيقة مثل الورقة، بين الشفرين، والشفران تحيط بالجميع، فتلك الجلدة الرقيقة تقطع منها في الختان، وهي ختان المرأة فحصل أن ختان المرأة مستقل، وتحته مخرج البول، وتحت مخرج البول مدخل الذكر، ومخرج الحيض الذي هو مخرج الولد، وهو خرق لطيف، فإذا افتضت البكر، فصارت ثيبا، فالتقاء الختانين أن تغيب الحشفة في الفرج.
(2) بلا إنزال لعدم التقاء الختانين، وكل ما تقدم إذا كان بلا حائل، لأنه لا يسمى ملاق مع الحائل، وإن كانت الحشفة ملفوفة بخرقة مثلا، فإن وجد لذة الجماع بأن كانت الخرقة رقيقة بحيث يجد حرارة الفرج واللذة وجب، وهو ظاهر قوله إذا التقى الختانان.(1/274)
(ولو) كان الفرج (من بهيمة (1) أو ميت) أو نائم أو مجنون (2) أو صغير يجامع مثله (3) وكذا لو استدخلت ذكر نائم أو صغير ونحوه (4) (و) الثالث (إسلام كافر) أصليا كان أو مرتدا (5) .
__________
(1) لأنه إيلاج في فرج أشبه الآدمية، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلا أبا حنيفة، فلا يجب عنده إلا بالإنزال.
(2) فيجب الغسل، كما يجب على المجامعة، ولو كانت مجنونة أو نائمة أو مغمى عليها، لأن موجب الطهارة لا يشترط فيه القصد، كسبق الحدث، وإن قالت: بها جني يجامعها كالرجل، فقال في المبدع وغيره: لا غسل عليها لعدم الإيلاج والاحتلام.
(3) تجوز قراءته مبنيا أو مبنيا للمفعول، وهو ابن عشر وبنت تسع، بخلاف من لا يجامع مثله فلا يجب عليه غسل، فلو كان أحدهما يجامع مثله فلكل حكمه ولا يشترط البلوغ، لاغتسال عائشة ومعنى الوجوب أن الغسل شرط لصحة صلاته ونحوها، لا التأثيم بتركه، قال الشيخ: ومثل مسألة الغسل إلزامه باستجمار ونحوه، وتقدم قوله: إنه يجب لدخول الوقت، وإرادة الصلاة، وأجاب ابن الزاغوني وابن عقيل: إن كان له شهوة لزمه، وإن كان على سبيل اللعب لغير شهوة فلا.
(4) أي ومثل من غيب حشفة أصلية في فرج أصلي في وجوب الغسل من استدخلت ذكر نائم أو صغير، ولو طفلا أو مغمى عليه أو ميت، لعموم إذا التقى الختانان وجب الغسل، وكذا مستدخل ذكره، إلا ميتا أو طفلا لا يجامع مثله ويعاد غسل ميتة جومعت، ومن جومع في دبره، والأحكام المتعلقة بتغييب الحشفة كالأحكام المتعلقة بالوطء الكامل.
(5) ذكرا كان أو أنثى أو خنثى وفاقا لمالك واستحبه أبو حنيفة والشافعي.(1/275)
ولو مميزا (1) ولو لم يوجد في كفره ما يوجبه (2) لأن قيس بن عاصم أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر، رواه أحمد والترمذي وحسنه (3) ويستحب له إلقاء شعره (4) قال أحمد: ويغسل ثيابه (5) .
__________
(1) أي دخل في سن التمييز قبل سن التكليف، ووقت وجوب الغسل للميز إذا أراد ما يتوقف عليه غسل أو وضوء، لغير لبث، أو مات ولو شهيدا على ما يأتي.
(2) أي ولو كان لم يوجد في كفره ما يوجب الغسل، من نحو جماع أو إنزال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، وإقامة للمظنة مقام حقيقة الحدث، وقال الشيخ: إذا وجد منه سبب يوجب الغسل فاغتسل في حال كفره ثم أسلم لا يلزمه إعادة الغسل إن اعتقدوجوبه، بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم.
(3) وصححه هو وابن السكن ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم وروى الإمام أحمد أن ثمامة أسلم، فقال صلى الله عليه وسلم مروه أن يغتسل وقال المنقح وأبو بكر: لا يجب إلا إذا وجد منه حال كفره ما يوجبه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وحكي اتفاقا، لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا فلو أمر كل من أسلم به لنقل نقلا متواترا ظاهرا، وثمامة اغتسل ثم تشهد، رواه البخاري، ولم يذكر أنه أمره، وقيس أمره أن يغتسل بماء وسدر، والسدر غير واجب، فيحمل الحديثان على الاستحباب جمعا بين الأدلة، قال الخطابي: وهو قول أكثر أهل العلم، قال في الإنصاف: وهو أولى، وقيس بن عاصم هو ابن سنان ابن منقر التميمي، الذي قال به النبي صلى الله عليه وسلم هذا سيد أهل الوبر وقيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس.
(4) لقوله صلى الله عليه وسلم ألق عنك شعر الكفر واختتن ورواه أبو داود.
(5) يعني استحبابا، وإن قيل بنجاستها وجب وتقدم طهارتها.(1/276)
(و) الرابع (موت) (1) غير شهيد معركة ومقتول ظلما ويأتي (2) .
(و) الخامس (حيض و) السادس (نفاس) (3) ولا خلاف في وجوب الغسل بهما قاله في المغني (4) فيجب بالخروج (5) والانقطاع شرط (6) (لا ولادة عارية عن دم) فلا غسل بها (7) والولد طاهر (8) .
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم إغسلنها وغيره من الأحاديث الآتية وهو تعبد لا عن حدث، قال الزركشي: والموت موجب في الجملة بلا نزاع.
(2) أي في بابه في كتاب الجنائز أنهما لا يغسلان، ومعركة بفتح الراء وتضم.
(3) أي من موجبات الغسل، ويأتي تعريفهما في بابهما إن شاء الله تعالى.
(4) ونقل فيه الإجماع ابن المنذر وابن جرير والنووي وجماعة.
(5) أي يجب الغسل بسبب خروج دم الحيض والنفاس، لقوله صلى الله عليه وسلم وإذا ذهبت حيضتك فاغتسلي وصلي، وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} الآية والنفاس دم حيض مجتمع، وإن حاضت فيمكن أن يكون الخارج حال الحمل البعض لا الكل.
(6) أي لصحة الغسل له، وفاقا، فيتوقف الوجوب على حصول شرطه، وهو الانقطاع، والقيام للصلاة ونحوها شرط للفورية.
(7) أي لا غسل بالولادة العارية عن الدم، ولا يحرم الوطء بها، ولا يفسد الصوم وهو قول الجمهور.
(8) أي في هذه الصورة لعدم تلوثه بالنجاسة، ولأن الوجوب من الشارع، ولم يرد الشرع بالغسل، ولا هو في حكم المنصوص عليه فإنه ليس بدم ولا مني، ومع الدم يجب غسله كسائر الأشياء المتنجسة، ولا يجب الغسل بإلقاء نطفة أو علقة أو مضغة قال في الإنصاف والمبدع وغيرهما: بلا نزاع، والمراد بإلقاء مضغة لا تخطيط فيها، لأن ذلك ليس ولادة وإنما يثبت حكمه فيما يتبين فيه خلق الإنسان.(1/277)
(ومن لزمه الغسل) لشيء مما تقدم (1) (وحرم عليه) الصلاة والطواف ومس المصحف (2) و (قراءة القرآن) (3) أي قراءة آية فصاعدا (4) .
__________
(1) يعني من موجبات الغسل.
(2) تقدمت أدلة تحريم الصلاة على من حدثه أصغر والإجماع عليه، فالأكبر بطريق الأولى، ويأتي الكلام فيمن ترك شرطا من شروطها، وأما الطواف فلقوله {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} وتقدم تحريمه على المحدث، ومس المصحف أيضا تقدمت الأدلة على تحريمه، وحكاية الإجماع عليه فالأكبر أولى، وقد وقع الإجماع عليه بل خصه بعض السلف في تفسير الآية به، فيدل على تأكد منعه منه.
(3) قال الشيخ: فإن الأئمة متفقون على ذلك.
(4) أي يحرم قراءة آية فأكثر، لحديث علي: لا يحجبه من القرآن شيء ليس الجنابة، رواه الخمسة وغيرهم، ولفظ الترمذي، يقرؤنا القرآن ما لم يكن جنبا، وصححه هو وابن حبان وابن السكن والبغوي، وغيرهم، وأخرج أبو يعلي عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية، قال الهيثمي رجاله موثوقون، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورويت كراهته عن عمر وعلي، واختار الشيخ أنه يباح للحائض إذا خافت نسيانه بل يجب، والآية جمعها آيات، وهي طائفة من القرآن مترجمة، أقلها ستة أحرف ولو تقديرا كـ {لَمْ يَلِدْ} وقيل من العلامة على انقطاع الكلام، وعن الآية التي قلها، وعن التي بعدها، وانفصالها، أو لأنها جامعة حروفا من القرآن وطائفة منه، أو لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها.(1/278)
وله قول ما وافق قرآنا، إن لم يقصده (1) كالبسملة والحمدلة ونحوهما (2) كالذكر (3) وله تهجيه، والتفكر فيه (4) وتحريك شفتيه به، ما لم يبين الحروف (5) وقراءة بعض آية، ما لم تطل (6) ولا يمنع من قراءته متنجس الفم (7) ويمنع الكافر من قراءته ولو رجي إسلامه (8) .
__________
(1) أي يباح له قول ما صادف لفظه لفظ القرآن إن لم يقصد القرآن فإن قصده حرم.
(2) كقول مسترجع {إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *} وراكب: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} .
(3) أي كما يجوز له الذكر، لحديث عائشة: كان يذكر الله على كل أحيانه، رواه مسلم ويأتي لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ولابن أبي شيبة: كان إذا غشي أهله، قال: اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا.
(4) أي في القرآن لأن التفكر والتهجي ليسا بقراءة له، وتهجيه تعلمه، وتهجي الحروف عدها بأسمائها، والتفكر تردد القلب بالنظر والتدبر لطلب المعاني.
(5) فإن بانت فلا يباح له.
(6) كآية الدين فتحرم قراءة بعضها الذي هو كآية من غيرها، جزم به في التنقيح، وظاهره ولو كرر بعض آية لم تطل أبيح ما لم يحتل على قراءة تحرم.
(7) لكن يكره: فينبغي إزالتها بالغسل احتراما، وكذا ينبغي أن يكون الذاكر على أكمل الصفات.
(8) قياسا على الجنب وأولى، وصرح به بعض المفسرين للآية ولقوله:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ورجح البغوي وغيره جواز تعليمه إن رجي إسلامه، وقال: إن رآه معاندا لا يجوز بحال.(1/279)
(ويعبر المسجد) أي يدخله (1) لقوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي طريق (2) (لحاجة) وغيرها على الصحيح (3) كما مشى عليه في الإقناع (4) وكونه طريقا قصيرا حاجة (5) وكره أحمد اتخاذه طريقا (6) .
__________
(1) أي يجوز لمن وجب عليه غسل أن يدخل المسجد لغير لبث وكذا الحائض والنفساء إن أمنتا تلويثه.
(2) أي لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا ماري طريق، أي مجتازين فيه للخروج منه، ولأن الجنابة في الأصل البعد، وأنه إنما سمي بذلك لمباعدته المسجد والصلاة، وقراءة القرآن، ومجانبته لذلك ما لم يغتسل.
(3) جزم به المجد والموفق في المغني وغيرهما، وهو ظاهر إطلاق الآية، ولقوله لعائشة إن حيضتك ليست في يدك.
(4) ولفظه: ولجنب عبور مسجد ولو لغير حاجة، ورويت الرخصة في العبور عن ابن مسعود وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم، قال عبد الله بن زيد رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب، رواه ابن المنذر فكان إجماعا، والاستثناء من النهي إباحة، وأجابوا عن قوله: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب، بأنه عام مخصوص بالآية والأحاديث.
(5) كون. مبتدأ والضمير اسم الكون، وطريقا خبر للكون، وحاجة: خبر المبتدأ، أي كون ذلك الطريق قصيرا حاجة، إذ الطويل قد يفوت.
(6) جزم به الأصحاب عنه، احتراما لبيوت الله، ومنع شيخ الإسلام من اتخاذه طريقا.(1/280)
ومصلى العيد مسجد، لا مصلى الجنائز (1) (ولا) يجوز أن (يلبث فيه) أي في المسجد من عليه غسل (بغير وضوء) (2) فإن توضأ جاز اللبث فيه (3) ويمنع منه مجنون وسكران (4) ومن عليه نجاسة تتعدى (5) .
__________
(1) أي فليس مسجدا قولا واحدا، وأما مصلى العيد فيطلق عليه اسم المسجد وهو الصحيح من المذهب، واختاره الشيخ وغيره، فإن كل موضع يصلي فيه يسمى مسجدا، فتمنع منه الحائض ونحوها، لحديث وليعتزل الحيض المصلى.
(2) لحديث لا أحل المسجد لحائض ولا جنب، رواه أبو داود من حديث عائشة وصححه ابن خزيمة، ولا بن ماجه عن أم سلمة، أن المسجد لا يحل الحائض ولا جنب، ولهما شواهد، واللبث الإقامة، يقال: لبث بالمكان يلبث لبثا، بإسكان الباء وفتحها أي أقام.
(3) قال عطاء: رأيت رجالا، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة، قال في المبدع: إسناده صحيح، قال الشيخ: فحينئذ يجوز أن ينام في المسجد حيث ينام غيره، وإن كان النوم الكثير ينقض الوضوء، فذلك الوضوء الذي يرفع الحدث الأصغر، ووضوء الجنب لتخفيف الجنابة، وإلا فهذا الوضوء لا يبيح له ما يمنعه الحدث الأصغر من الصلاة ونحوها.
(4) أي يمنعان من عبور المسجد واللبث فيه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} والمجنون أولى من السكران بالمنع.
(5) اتفاقا لأنه مظنة تلويثه، ويجوز للمحدث اللبث فيه بإجماع المسلمين، سواء لبث لغرض شرعي أو لا، ويمنع منه الصغير غير المميز لغير مصلحة، إلا لصلاة وقرآن، لحديث جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم، قال في الاختيارات: فإن المساجد تصان حتى عن القذاة التي تقع في العين.(1/281)
ويباح به وضوء وغسل إن لم يؤذ بهما (1) وإذا كان الماء في المسجد جاز دخوله بلا تيمم (2) وإن أراد اللبث فيه للاغتسال تيمم (3) وإن تعذر الماء واحتاج للبث جاز بلا تيمم (4) (ومن غسل ميتا مسلما أو كافرا سن له الغسل (5) لأمر أبي هريرة رضي الله عنه بذلك، رواه أحمد وغيره (6) .
__________
(1) أي يؤذ المسجد أو من به بماء الوضوء أو الغسل، وحكى ابن المنذر الإباحة عن كل من يحفظ عنه إلا أن يبله، أو يتأذى الناس به، فيكره، وأما البول قرب البرك التي في المساجد مما ليس محلا للصلاة فقال الشيخ: هذا يشبه البول في القارورة في المسجد والأظهر جواز ذلك أحيانا للحاجة لا دائما.
(2) نص عليه، واحتج بأن وفد عبد القيس أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وربط فيه ثمامة.
(3) وذلك فيما إذا تعذر عليه الوضوء والغسل عاجلا، على الصحيح من المذهب.
(4) ابتداء ودواما، لحبس أو خوف على نفسه أو ماله ونحوه، وقال الموفق والشارح وغيرهما: القول بعدم التيمم غير صحيح.
(5) سواء كان الميت كبيرا أو صغير، ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا، وظاهره ولو في ثوب.
(6) وحسنه الترمذي، ولفظه من غسل ميتا فليغتسل وصحح جماعة وقفه عليه، وعن علي نحوه، قال أحمد وابن المديني والذهلي وابن المنذر وغيرهم، لم يثبت فيه حديث، وليس في حديث علي أنه غسله، وفي الموطأ أن أسماء غسلت أبا بكر، ثم سألت من حضرها من المهاجرين هل عليها من غسل؟ فقالوا: لا.
وقال ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد عدم الاستحباب وقال المزني: هذا الغسل ليس بمشروع وقال ابن عمر وابن عباس والشافعي، وأصحاب الرأي وغيرهم: لا غسل عليه، والجمهور مالك والشافعي وأحمد وغيرهم على الاستحباب وبه تجتمع الأدلة.(1/282)
(أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم) أي إنزال (سن له الغسل) (1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء متفق عليه (2) والجنون في معناه بل أولى (3) وتأتي بقية الإغسال المستحبة في أبواب ما تستحب له (4) .
__________
(1) أي منهما، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، فإن أنزل وجب الغسل، لأنه من جملة الموجبات للغسل كالنائم، وقوله: أو أفاق أي رجع إليه عقله، وخص الحلم بالإنزال لأنه غلب عليه دون غيره مما يراه النائم لكثرة استعماله، والحلم في الأصل ما يراه النائم من المنامات، يقال: حرم في منامه واحتلم، وحلمت بكذا واحتلمت بكذا.
(2) من حديث عائشة قالت: ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أصلى الناس؟» فقلنا: لا، هم ينتظرونك، فقال: (ضعوا لي ماء في المخضب) فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق، فاغتسل متفق عليه، ولا يجب حكاه ابن المنذر إجماعا.
(3) فإن المجنون مسلوب العقل، بخلاف المغمى عليه فإنه مغلوب كما تقدم وقال الزركشي، لا يجب من جنون أو إغماء لم يتيقن معه حكمه وإن وجد بلة، على المعروف من الروايتين لأنه معنى يزيل العقل، فلا يوجب الغسل كالنوم، ولأنه مع عدم البلة يبعد احتمال الجنابة، ومع وجودها يحتمل أن ذلك لغير شهوة، ويحتمل أن حصل على المرض المزيل للعقل فلا يجب الغسل مع الشك.
(4) كغسل الجمعة والعيد والإحرام وغيرها، وعدها بعضهم ستة عشر، ومنها ما ورد استحبابه، ويأتي التنبيه على ما لم يثبت استحبابه.(1/283)
ويتيمم للكل (1) ولما يسن له الوضوء لعذر (2) (و) صفة (الغسل الكامل) أي المشتمل على الواجبات والسنن (3) (أن ينوي) رفع الحدث (4) أو استباحة الصلاة أو نحوها (5) (ثم يسمى) (6) وهي هنا كوضوء، تجب مع الذكر وتسقط مع السهو (7) (ويغسل يديه ثلاثا) كما في الوضوء (8) وهو هنا آكد، لرفع الحدث عنهما بذلك (9) .
__________
(1) أي لكل ما يستحب له الغسل، لحاجة تبيح له التيمم، كما إذا عدم الماء، أو تضرر باستعماله ونحوه مما يبيح التيمم.
(2) أي ويتيمم لما يسن له الوضوء كقراءة وأذان وشك وغضب ونحوها لعذر يبيح التيمم، كتعذر الماء لعدم أو مرض، وتيمم عليه الصلاةوالسلام لرد السلام، وقال: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر.
(3) واجبا كان أو مستحبا، ولما أنهى الكلام على موجبات الغسل ومستحباته، شرع في بيان صفاته، لأن العلم بالموصوف مقدم على العلم بالصفة.
(4) الأكبر مثلا، أو غسل الجمعة، فلو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو اغتسل للتبرد لم يكن قربة ولا عبادة، ولم يرتفع حدثه بالاتفاق.
(5) كمس المصحف في حق من حدثه مستمر كالمستحاضة.
(6) أي يقول: بسم الله بعد النية.
(7) ومع الجهل كما مر، والذكر بضم الذال، وذكر اللسان بكسرها.
(8) لحديث ميمونة، ثم غسل كفيه مرتين أو ثلاثا، ويكون قبل إدخالهما الإناء، ويصب الماء بيمينه على شماله.
(9) أي غسل اليدين هنا آكد سنية من الوضوء، لرفع الحدث عنهما بذلك، إذا نوى الغسل، لعدم اعتبار الترتيب في الغسل، بخلاف الوضوء ولا يكفي غسل اليدين من نوم الليل عن الجنابة كالعكس على الأصح، لأنهما أمران مختلفان فيعتبر لكل منهما نية، وإن نواهما كفى، هذا المذهب وتقدم الاجتراء بأحدهما عن الآخر في الوضوء فكذا هنا.(1/284)
(و) يغسل (ما لوثه) من أذى (1) (ويتوضأ) كاملا (2) (ويحثي) الماء (على رأسه ثلاثا يرويه) أي يروي في كل مرة أصول شعره (3) لحديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا.
وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى
إذا ظن أنه قد روى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات. ثم
__________
(1) لحديث عائشة فيفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ولا فرق بين أن يكون ما لوثه أي لطخه على فرجه، أو بقية بدنه، وسواء كان نجسا كالمذي، أو طاهرا كالمني، ثم يضرب بيده الأرض أو الحائط، لحديث عائشة متفق عليه.
(2) وفاقا لقوله صلى الله عليه وسلم ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، قال النووي: وهو أشهر الروايات وأكملها وقدم غسل الأعضاء تشريفا لها، ولتكمل له الطهارتان، وفي حديث ميمونة وغيرها فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثا، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه، متفق عليه، وهو مذهب الجمهور والوضوء سنة في الغسل، وليس بواجب ولا شرط، ونقل ابن جرير وغيره الإجماع عليه، لأن الله أمر بالغسل، ولم يذكر الوضوء، وللأحاديث الدالة عليه، كقوله فأفرغ عليك، وقوله فأمسه جلدك.
(3) وفاقا، لتظاهر الأخبار بذلك، وحثيت وحثوث لغتان، والحثية الحفنة.(1/285)
غسل سائر جسده متفق عليه (1) (ويعم بدنه غسلا) (2) فلا يجزئ المسح (3) ثلاثا (4) حتى ما يظهر من فرج امرأة عند قعود لحاجة (5) .
__________
(1) وفي لفظ: يدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حثيات، ولقول ميمونة: ثم أفرغ على رأسه ثلاث حثيات وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة إنما كان يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات وعلم منه أنه لا ينقضه لجنابة، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب.
(2) غسل الشيء يغسله غسلا طهره بالماء، وأزال الوسخ ونحوه عنه بإجراء الماء عليه، وحقيقة الغسل إفاضة الماء على الأعضاء، لحديث ثم أفاض الماء على سائر جسده، وإفاضة الماء على جميع البدن وبشرته واجب بلا خلاف، وسواء كان الشعر الذي على البشرة خفيفا أو كثيفا.
(3) أي فلا يجزئه المسح بالماء أو الثلج، ولو ابتل به العضو، إلا أن يذوب ويجري على العضو.
(4) أي يعم بدنه غسلا ثلاثا، قياسا على الوضوء، هذا الصحيح من المذهب وعنه: مرة وفاقا لمالك، وهو ظاهر الخرقي والعمدة، واختاره الشيخ: وقال البخاري: باب الغسل مرة مرة، وفيه: ثم أفاض على جسده، وذكر إفاضة الماء على رأسه ثلاثا، ثم غسل سائر جسده، قال الحافظ: ولم يقيده بعدد، فيحمل على أقل ما يسمى، وهو المرة الواحدة، ولم ينقل أنه غسل جسده ثلاثا، قال الزركشي: وهو ظاهر الأحاديث، وكل من نقل غسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أنه غسل بدنه ثلاثا، ولا يصح قياسه على الوضوء، والسنة قد فرقت بينهما.
(5) أي عند قعودها على رجليها، لقضاء حاجة بول أو غائط، لا داخل فرجها، قال في الاختيارات، ولا يجب غسل باطن الفرج من حيض أو جنابة، وهو أصح القولين في مذهب أحمد.(1/286)
وباطن شعر (1) وتنقضه لحيض ونفاس (2) (ويدلكه) أي يدلك بدنه بيديه (3) .
__________
(1) سواء كان خفيفا أو كثيفا من ذكر وأنثى لأنه جزء من البدن فوجب غسله لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا» رواه أحمد وأبو داود.
وقال الحافظ: إسناده صحيح، ولقوله تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر، رواه أبو داود والترمذي، ولا خلاف في مشروعية تخليل الشعر بالماء في الغسل، ويجب إيصال الماء إلى جميعه وجميع البشرة إجماعا.
(2) أي تنقض الحائض والنفساء شعرها وجوبا لحيض ونفاس، واستحبه بعض الأصحاب وفاقا، جمعا بين الأخبار، وصححه الشارح وغيره، وقيده ابن الزاغوني بما إذا طال وتلبد، لا لجنابة.
قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافا، لمشقة تكرره، وتقدم حديث أم سلمة، وإن لم يصل الماء إلى البشرة إلا بنقضه وجب نقضه، ويجوز للمرأة ضفر شعرها، وإن كانت جنبا لأنه لا يلزم نقضه لغسل الجنابة، لكن لا بد أن تروي أصوله، سواء ضفر قبل لزوم الغسل، أو بعده ويأتي في باب الحيض قول الشيخ: لا حاجة للاستثناء وعنه: لا تنقضه لحيض وفاقا، واختاره الموفق والمجد والشيخ وغيرهم، لحديث أم سلمة: إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ وفي رواية: والحيضة؟ فقال لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، رواه مسلم وهو صريح في نفي الوجوب، ومذهب الجمهور: إذا وصل الماء إلى جميع شعرها ظاهره وباطنه من غير نقض لم يجب، وإلا وجب وما سواه على الندب، وإذا كان على بعض أعضائه أو شعره حناء أو عجين أو طين أو شمع ونحوه، ومنع وصول الماء إلى البشرة، أو إلى نفس الشعر لم يصح غسله.
(3) ندبا بلا نزاع، ليصل الماء إليه، وليس بواجب لقوله ثم تفيضين
عليك الماء فتطهرين رواه مسلم والإفاضة الإسالة، والغسل كذلك والإفاضة لا دلك فيها فكذا الغسل، ولأن الدلك أنقى لما في قوله: {فَاطَّهَّرُوا} من المبالغة والدلك الفرك والدعك ومقارنة الدلك لصب الماء أكمل، والمراد ما لا ينبو عنه الماء، وهو قول العلماء كافة، إلا مالكا والمزني فشرط عندهما وأما دلك ما ينبو عنه الماء فواجب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.(1/287)
ليتيقن وصول الماء إلى مغابنه وجميع بدنه (1) ويتفقد أصول شعره (2) وغضاريف أذنيه (3) وتحت حلقه وإبطيه وعمق سرته (4) وبين أليتيه وطي ركبتيه (5) (ويتيامن) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في طهوره (6) .
__________
(1) إجماعا والمغابن كالإبط والرفغ، من غبن الشيء إذا خبأه، ولأبي داود وغايره ثم غسل مرافغه بالغين أي مغابن البدن يعني مطاويه ولا تجب الإعانة يما عجز عنه، صوبه ابن رشد.
(2) لقوله عليه الصلاة والسلام تحت كل شعرة جنابة وقوله من ترك موضع شعرة فعل الله به وتقدم.
(3) أي مغابنها، وهي دواخل قوف الأذن.
(4) أي ويتفقد ما تحت حلقه وإبطيه وعمق سرته، وهو ما غار منها من المغابن، ويدلكه ليتيقن وصول الماء إليه، والعمق البعد إلى أسفل.
(5) أي ويتفقد ما بين أليتيه، بفتح الهمزة وما بين طي ركبتيه، ليتيقن وصول الماء إليه، قال في الصحاح، إذا ثنيت قلت أليان، فلا تلحق التاء، وهو مما ورد على خلاف القياس.
(6) متفق عليه من حديث عائشة ولغير ذلك من الأحاديث، وهو سنة بلا نزاع.(1/288)
(ويغسل قدميه) ثانيا (مكانا آخر) (1) ويكفي الظن في الإسباغ (2) قال بعضهم ويحرك خاتمه ليتيقن وصول الماء (3) (و) الغسل (المجزئ) أي الكافي (4) (أن ينوي) كما تقدم (5) (ويسمى) فيقول: بسم الله (ويعم بدنه بالغسل مرة) (6) .
__________
(1) لحديث ميمونة، توضأ ثم أفاض الماء عليه، ثم تنحى فغسل قدميه ولهما نحوه من حديث عائشة، وهو أكمل وفي رواية: غير قدميه، ثم أفاض الماء عليه، ثم تنحى فغسل قدميه، وعن عائشة بمعناه، قال الحافظ: وهو مذهب الجمهور، وقيل: لا يعيد غسلهما إلا لطين ونحوه، وهو مذهب مالك والشافعي وتكره إعادة الوضوء بعد الغسل، لحديث عائشة كان لا يتوضأ بعد الغسل، صححه الترمذي ولا يستحب وضوءان لغسل واحد اتفاقا.
(2) على الصحيح من المذهب، لحديث عائشة حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته والإسباغ الإبلاغ، وتقدم ويأتي أيضا.
(3) يعني إلى ما تحته، ويروى فيه حديث أنه صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه، لكن قال ابن القيم وغيره: إنه ضعيف، فإن علم عدم وصول الماء إلى ما تحته وجب، ليصل الماء إليه.
(4) يعني المشتمل على الواجبات فقط، الحاصل به الاستغناء في الغسل.
(5) أي في صفة الغسل الكامل، وفي المقنع، يغسل ما به من أذى وينوي، وعند أبي الخطاب وغيره، يغسل فرجه ثم ينوي، وظاهر الخرقي أنه لا بد من تقدم الاستنجاء على الغسل كالوضوء، وفي المبدع: ظاهر المذهب أنه لا يشترط في المجزئ.
(6) بلا نزاع قال ابن عبد البر: إذا عم بدنه فقد أدى ما عليه، وهذا إجماع إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء قبله.(1/289)
أي يغسل ظاهر جميع بدنه وما في حكمه من غير ضرر كالفم والأنف (1) والبشرة التي تحت الشعر ولو كثيفة (2) وباطن الشعر وظاهره مع مسترسلة (3) وما تحت حشفة أقلف إن أمكن شمرها (4) ويرتفع حدث قبل زوال حكم خبث (5) ويستحب سدر في غسل كافر أسلم وحائض (6) .
__________
(1) لا العينين فلا يجب ولا يسن.
(2) لعموم النصوص، وقال في الإنصاف، وهو المذهب وعليه جماهير الأصحاب.
(3) من ذكر وأنثى لقوله تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر، رواه أبو داود وغيره، وفي المغني وغيره، عند الأصحاب وغيرهم عدم وجوب غسل الشعر المسترسل، ولمسلم واغمزي قرونك قال الشيخ: فيه دليل على وجوب بل داخل الشعر المسترسل.
(4) بأن كان مفتوقا لأنها في حكم الظاهر وإلا فلا.
(5) أي يرتفع حدث أكبر وأصغر، من جنابة وحيض ونحوهما، قبل زوال الحكم بطهارة نجاسة على البدن، لا تمنع وصول الماء، وإلا وجبت إزالتها، ويبقى حكمها إلى أن تغسل وهذا بناء على أن الماء في محل التطهير لا يؤثر تغيره بالنجس أو الطاهر وقدم المجد وابن عبيدان ومجمع البحرين والحاوي وغيرهم وصححوه أن الحدث لا يرتفع إلا مع آخر غسلة طهر عندها، قال الزركشي: وهو المنصوص عن أحمد، وتقدم أن المتغير في محل التطهير مخفف لها.
(6) لأمره صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر، ويستحب في غسل حائض، لأمره عائشة وأسماء بذلك، رواه مسلم.(1/290)
وأخذها مسكا تجعلها في قطنة ونحوها (1) وتجعلها في فرجها (2) فإن لم تجد فطيبا (3) فإن لم تجد فطينا (4) (ويتوضأ بمد) استحبابا (5) والمد رطل وثلث رطل عراقي، ورطل وأوقيتان وسبعا أوقية مصري وثلاث أواق وثلاثة أسباع أوقية دمشقية وأوقيتان وأربعة أسباع أوقية قدسية (6) .
__________
(1) كخرقة مما يمسكه.
(2) بعد غسلها، لأمره أسماء أن تأخذ فرصة ممسكة، فتطهر بها، رواه مسلم، مع تفسير عائشة له بذلك في الخبر المتفق عليه، تطييبا للمحل، وهو متفق على استحبابه.
(3) أي فإن لم تجد مسكا فتجعل طيبا غير المسك إن لم تكن محرمة، لقيامة مقام المسك في ذلك.
(4) أي فإن لم تجد طيبا فتجعل طينا، ليقطع الرائحة، فإن تعذر فالماء الطهور كاف، لدفع الكراهة، ولحصول الطهارة به، لا عن السنة، أما المحرمة فيحرم عليها استعمال المسك والطيب وتستعمل شيئا من قسط أو أظفار، وكذا المحدة: ووضع الطيب في ذلك، قيل المقصود أن تزول به رائحة الدم، فيكمل استمتاع الزوج وقيل: لأنه يسرع إلى علوق الولد، ومن قال بالأول قال: إن أعوزها تستعمل ما كان خلاف منه في طيب الرائحة، ومن قال بالثاني قال: تستعمل ما قام مقامه في إسراع العلوق من القسط والأظفار، وفي وقت استعماله على الأول بعد الغسل، وعلى الثاني قبله.
(5) لما في الصحيحين عن أنس كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.
(6) ومائة وأحد وسبعون درهما وثلاثة أسباع درهم، ومائة وعشرون مثقالا.(1/291)
(ويغتسل بصاع) (1) وهو أربعة أمداد (2) وإن زاد جاز (3) لكن يكره الإسراف ولو على نهر جار (4) ويحرم أن يغتسل عريانا بين الناس (5) .
__________
(1) لحديث أنس ويغتسل بالصاع، قال الشيخ: مقدار طهور النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل ما بين ثمانية أرطال عراقية إلى خمسة وثلث، والوضوء ربع ذلك.
(2) فتكون زنته ستمائة وثمانين وخمسة أسباع درهم، وبالمثاقيل أربعمائة وثمانين مثقالا وبالأرطال خمسة أرطال وثلثا رطل عراقية، قال الشيخ: والجمهور على أن الصاع والمد في الطعام والماء واحد، وهو أظهر ولما سأل جابر عن الغسل قال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني فقال جابر: قد كفى من هو خير منك وأوفي شعرا، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) أي وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز، ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد الإسراف، والأحاديث ترشد إلى تقليل ماء الوضوء، والاكتفاء باليسير منه.
(4) لأنه صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف؟ فقال أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم ولو كنت على نهر جار رواه أحمد وابن ماجه، وفيه لين، وله شواهد، والإسراف هو الزيادة الكثيرة، والسرف ضد القصد وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أمته من يتعدى في الطهور.
وقال: إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء ولأن الزيادة تبذير وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} فظهر أن للشيطان دخلا في التبذير.
وقيل: يحرم الإسراف، وأجمعوا على النهي عنه في ماء الوضوء والغسل، ولو على شاطئ النهر.
(5) لحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يغتسل بالبراز فصعد المنبر
فقال إن الله حيي يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر، رواه أبو داود والنسائي، ورجاله رجال الصحيح، وعن ابن عباس نحوه، ولقوله: فإن الله أحق أن يستحيي منه.(1/292)
وكره خاليا في الماء (1) (فإن أسبغ بأقل) مما ذكر في الوضوء (2) أو الغسل أجزأه (3) والإسباغ تعميم العضو بالماء بحيث يجري، عليه ولا يكون مسحا (4) .
__________
(1) أي وكره اغتساله عريانا في الماء خاليا عن الناس، جزم به الشيخ، وقال: أكثر نصوص أحمد تدل عليه، ولقول الحسن والحسين، إن للماء سكانا ونقل القاضي عياض وغيره جواز الاغتسال عريانا في الخلوة عن جماهير العلماء، ولقصة اغتسال موسى عريانا، وأيوب كذلك متفق عليها قال في المبدع: واختاره جماعة وفاقا، وقال الشيخ: يجوز كشف عورته للاغتسال إن كان في خلوة، ولا يدع أحدا يراها ولا يمسها، قيما كان أو غيرها، وإن ستره إنسان بثوب فلا بأس فقد ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب، متفق عليه.
(2) بأن أسبغ بأقل من المد أجزأ لحديث عمارة أنه توضأ في إناء قدر ثلثي المد رواه أبو داود والنسائي وله أيضا بنحو ثلثي المد وصححه أبو زرعة.
(3) أي وأسبغ بأقل من الصاع في الغسل أجزأه، صوبه في الإنصاف وغيره، لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة من تور مثل الصاع أو دونه، رواه النسائي ورجاله ثقات، ولفظ مسلم من إناء واحد ثلاثة أمداد أو قريب منها، قال الموفق وغيره: هو مذهب أكثر أهل العلم، ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به، والقدر المجزئ من الماء ما يحصل به غسل أعضاء الوضوء أو الغسل سواء كان مدا في الوضوء وصاعا في الغسل، أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في الزيادة إلى حد السرف، والنقصان إلى حد لا يحصل به الواجب.
(4) وإيصال الماء إلى العضو واجب اتفاقا، فإن كان مسحا بأن أرسل الماء
من يديه ثم مر بهما على وجهه أو غيره من الأعضاء لم يجزئه، حكاه ابن رشد اتفاقا لأنه مسح وليس بغسل، أو أمر الثلج عليه لم تحصل الطهارة به، وإن ابتل به العضو لا إن ذاب وجري على العضو، قال ابن رشد: أجمعوا على أن الجنب إذا انغمس في النهر وتدلك فيه للغسل أن ذلك يجزئه وإن كان لم ينقل الماء بيديه إليه، ولا صبه عليه وكذلك الوضوء، ولا يلزم نقل الماء إلى العضو.(1/293)
(أو نوى بغسله الحدثين) أو الحدث وأطلق (1) أو الصلاةونحوها مما يحتاج لوضوء وغسل (2) (أجزأ) عن الحدثين (3) ولم يلزمه ترتيب ولا موالاة (4) .
__________
(1) أي فلم يقيده بالأكبر ولا بالأصغر، أو نوت غسل جنابة أو حيض حصلا بلا خلاف، وإن نوى أحدهما لم يرتفع غير المنوي لحديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وقال الشيخ: إذا نوى الأكبر ارتفع الأصغر، وقال فائدة ذلك تظهر فيما إذا عاد فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل فإن نواهما بالغسل أجزأه ولو لم ينتقض لم يجب عليه إلا الغسل، ولا يسن تجديد الغسل، بخلاف الوضوء فيسن وتقدم.
(2) كطواف ومس مصحف.
(3) لقوله: {فَاطَّهَّرُوا} وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فأمر الجنب بالتطهير، ولم يأمره معه بوضوء، وقال عليه الصلاة والسلام: أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا، رواه مسلم وظاهره الاجتراء بغير وضوء لشمول الحدث لهما، ولأنهما عبادة فتداخلتا في الفعل، كالعمرة تدخل في الحج، فإذا لم يتوضأ وعم جميع بدنه فقال ابن عبد البر وغيره: قد أدى ما عليه لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهو إجماع لا خلاف فيه اهـ فإن نواهما ثم أحدث أتم غسله ثم توضأ.
(4) لدخول الوضوء في الغسل، فيصير الحكم للغسل، فلو اغتسل وترك أعضاء وضوئه ثم أراد غسلها من الحدث لم يجب الترتيب فيها، ولا الموالاة، في قول أكثر أهل العلم، حكاه الموفق وغيره.(1/294)
(ويسن لجنب) ولو أنثى وحائض ونفساء انقطع دمها (غسل فرجه) لإزالة ما عليه من الأذى (1) ((والوضوء لأكل) وشرب لقول عائشة رضي الله عنها: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنب إذا أراد أن يأكل وشرب أن يتوضأ وضوءه للصلاة رواه أحمد بإسناد صحيح (2) (ونوم) لقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة متفق عليه (3) .
__________
(1) إذا أراد النوم أو الأكل أو الشرب أو الوطء ثانيا، لحديث عائشة وغيره، وتخفيفا لما أصابه، وأما الحائض والنفساء قبل انقطاع الدم فإن حدثهما دائم.
(2) ولفظ أحمد: إذا كان جنبا فأراد أن يأكل وينام توضأ، رواه مسلم ولأحمد وأبي داود والترمذي وصححه من حديث عمار: رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، فالوضوء عند إرادة الأكل والشرب والنوم ثابت من حديث عائشة وغيرها.
(3) ولهما من حديث عمر: أيرقد أحدنا هو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ فليرقد، ولمسلم من أراد أن ينام وهو جنب فليتوضأ وضوءه للصلاة وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة المتواترة الدالة على تأكد سنيته عند النوم، قال الشيخ: ويستحب الوضوء عند النوم لكل أحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم قل اللهم إني سلمت نفسي إليك، الحديث، وظاهر كلامهم إعادته إذا أحدث، لمبيته على الطهارة، وهو ظاهر كلام الشيخ، وقال النووي وغيره: يستحب الدوام على الطهارة.(1/295)
ويكره تركه لنوم فقط (1) (و) يسن أيضا غسل فرجه ووضوءه لـ (معاودة وطء) (2) لحديث «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءا» رواه مسلم وغيره (3) وزاد الحاكم فإنه أنشط للعود (4) والغسل أفضل (5) .
__________
(1) أي يكره ترك الجنب ونحوه الوضوء لنوم فحسب، لا أكل وشرب وذكر للأخبار، وفي كلام أحمد ما ظاهره وجوبه، ووجه كراهته، أن تقبض روحه وهو نائم، فلا تشهد الملائكة جنازته، وأن الأرواح تسجد تحت العرش، إذا نام على طهارة فالكبرى أولى، وهو أيضا من الثلاثة الذين لا تقربهم الملائكة وعد الجنب إلا أن يتوضأ.
قال ابن القيم: هي والله أعلم العلة التي أمر الجنب أن يتوضأ إذا أراد النوم اهـ وأمره صلى الله عليه وسلم بالوضوء يدل على أنه يرفع الجنابة الغليظة، وقال الزرقاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى الجواز بلا كراهة وعليه فقهاء الأمصار.
(2) الوطء مهموز تقول وطئت الشيء برجلي، ووطئ الرجل امرأته يطأها جامعها وتفتح الطاء.
(3) فرواه أحمد وأهل السنن وفي بعض ألفاظ الحديث ثم أراد أن يعود أي إلى إتيانها والأمر هنا يقتضي الندب.
(4) وزاده ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما والعود بفتح العين أي إلى إتيانها أيضا، يقال: عاد إلى الشيء وعادله وعاد فيه صار إليه، ورجع وقد عاد له بعدما كان أعرض عنه، وقيل: العودة تثنية الأمر عودا بعد بدء، يقال بدأ ثم عاد، وللبيهقي وابن خزيمة فليتوضأ وضوءه للصلاة.
(5) أي من الوضوء لكل ما تقدم لأنه أزكى وأطهر وروى أحمد وأبو داود من حديث رافع أنه صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه فاغتسل عند كل امرأة غسلا، وقال هذا أزكى وأطيب وأطهر ولأنه يخلف عليه ما تحلل بخروج المني، ويحدث له نشاطاوقوة وخفة، والحكمة في الغسل من المني دون البول أن المني يخرج من جميع البدن، والبول فضلة الطعام والشراب، والغسل من المني دونه من أعظم محاسن الشريعة ما اشتملت عليه من الحكم والمصالح، فإن تأثر البدن بخروجه أعظم من تأثره بخروج البول، والاغتسال منه من أنفع شيء للبدن والقلب والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن تقوي بالاغتسال، وكونه يخلف على البدن ما تحلل منه بخروج المني أمر يعرف بالحسن، وصرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته، وأنه من أنفع شيء له وأن تركه مضر، واستحباب مبادرة الجنب بالغسل من أول الليل مجمع عليه وجواز النوم والأكل والشرب للجنب والعودة إلى الجماع قبل الاغتسال مجمع عليه أيضا، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، ولمسلم وغيره يجنب ثم ينام.(1/296)
وكره الإمام أحمد بناء الحمام وبيعه وإجارته (1) وقال: من بنى حماما للنساء ليس بعدل (2) وللرجل دخوله بسترة مع أمن الوقوع في محرم (3) .
__________
(1) لما يقع فيه من كشف عورة وغيره، مشتق من الحميم أي الماء الحار مشدد، واحد الحمامات المبنية وأول من اتخذه سليمان عليه السلام.
(2) وفي رواية ابن الحكم: لا تجوز شهادة من بناه للنساء، وحرمه القاضي وغيره، وحمله الشيخ على غير البلاد الباردة، وقال: قد يقال بناء الحمام واجب حيث يحتج إليه لأداء الواجب العام، وأما إذا اشتمل على محظور مع إمكان الاستغناء فهذا محل نص أحمد، وقد يقال عنه، إنما يكره بناؤها ابتداء وكلامه إنما هو في البناء لا في الإبقاء.
(3) بأن يسلم من النظر إلى عورات الناس ومسها، ونظرهم إلى عورته
ومسه فإن لم يأمن كره، وإن علم الوقوع في المحرم حرم، لحديث أبي هريرة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر، ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تدخل الحمام رواه أحمد، وقال المنذري: أحاديث الحمام معلولة، وإنما يصح منها عن الصحابة، ودخل ابن عباس حماما كان بالجحفة.(1/297)
ويحرم على المرأة بلا عذر (1) .
__________
(1) الحديث ابن عمر إنها ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجل إلا بإزار، وامنعوا النساء إلا مريضة أو نفساء، رواه أبو داود وابن ماجه، وللنسائي من حديث جابر من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام إلا من عذر، قال الشيخ: ولم يذكر هذا الاستثناء الترمذي ولا غيره، وقيل إنه غلط، وأصح ما في الباب حديث عائشة ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب، رواه أبو داود والترمذي، وقيل يجوز لضرر يلحقها بتركه، لنظافة بدنها اختاره الشيخ، وقال: الأفضل تجنبها بكل حال مع الاستغناء عنها، لأنها مما أحدث الناس من رقيق العيش، وينبغي لمن دخله غسل قدميه وإبطيه بماء بارد عند دخوله، وأن يلزم الحائط ويقصد موضعا خاليا، ولا يدخل بيتا حارا حتى يعرق في البيت الذي قبله، ويقلل الالتفات، ولا يطيل المقام إلا بقدر الحاجة، ويغسل قدميه عند خروجه بماء بارد.(1/298)
باب التيمم (1) .
في اللغة القصد (2) وشرعا: مسح الوجه واليدين بصعيد (3) على وجه مخصوص (4) .
__________
(1) لما ذكر الطهارة بالماء، وكان الإنسان قد لا يجد الماء، أو لا يقدر على استعماله أعقبه بالتيمم، لأنه بدل منه وخلف عنه، والخلف يتبع الأصل، والتيمم مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} والسنة في ذلك مشهورة، وحكى الإجماع في ذلك غير واحد من أهل العلم، وهو فضيلة لهذه الأمة، ورخصة وقيل عزيمة لعدم الماء رخصة للعذر، وله شروط وفرائض وسنن ومبطلات تأتي مفصلات.
(2) أي مطلق القصد فيممه تيمما قصده، وأصل تيمم تأمم، أبدلت الهمزة ياء، ويقال: يممت فلانا، وتيممته إذا قصدته ومنه {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} .
وقال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضًا ... أريد الخير أيهما يليني
وقال آخر:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وفي المحكم: التيمم التوضؤ بالتراب، قال الجوهري: وأصله التعمد والتوخي ثم نقل في عرف الفقهاء إلى مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد وقال غيره: ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم اسمًا علما لمسح الوجه واليدين بالتراب، فإذا كان هو القصد إلى الصعيد الطاهر، فالاسم الشرعي فيه المعنى اللغوي.
(3) أي بتراب طهور مباح غير محترق ويأتي.
(4) وهو مسح الوجه واليدين من شخص مخصوص، وهو العادم للماء، أو من يتضرر باستعماله، قال في المبدع: وأحسن منه: مسح الوجه واليدين بشيء
من الصعيد من الحدث الأصغر أو الأكبر، وأجمعوا على أن التيمم مختص بالوجه واليدين سواء تيمم عن الحدث الأصغر أو الأكبر وعن كل الأعضاء أو بعضها.(1/299)
وهو من خصائص هذه الأمة، لم يجعله الله طهورا لغيرها (1) توسعة عليها، وإحسانا إليها (2) فقال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الآية (3) .
__________
(1) لما في الصحيحين وغيرهما أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وفي لفظ فعنده مسجده وطهوره، وللترمذي وغيره وصححه إن الصعيد الطيب طهور المسلم، قال الشيخ: وكل من امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى، فإن التيمم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وذكر هذا الحديث وعد النيسابوري وغيره أن الذي اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء أكثر من ستين خصلة وعدها بعض المتأخرين إلى ثلاثمائة والتحقيق أنها لا تحصر.
(2) يعني إلى هذه الأمة، والتوسعة ضد التضييق، والإحسان ضد الإساءة.
(3) أي اقصدوا ترابا طاهرا، وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وفي الحديث وجعلت تربتها لنا طهورا وقال ابن كثير: الصعيد هو كل ما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل، والحجر والنبات، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وقال الزجاج وغيره، لا أعلم بين أهل العلم خلافا في أن الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو غيره، وقال الفراء وغيره: التراب، ولاختلاف أهل اللغة اختلف أهل العلم، وذهب أهل التحقيق إلى أن المتعين التراب مع وجوده، وإلا فالرمال ونحوها، والطيب الطاهر بالإجماع والآية، بالنصب على تقدير: اقرأ الآية، وبالرفع على تقدير: الآية مقروءة.(1/300)
(وهو) أي التيمم (بدل طهارة الماء) (1) لكل ما يفعل بها عند العجز عنه شرعا (2) .
__________
(1) أي عوض، وخلف عن الماء، لأنه مرتب عليه يجب فعله عند عدمه، ولا يجوز مع وجوده إلا لعذر، وهذا شأن البدل، وقال صلى الله عليه وسلم فعنده مسجده وطهوره وعبارة المبدع: وهو مشروع، أي يجب حيث يجب التطهر بالماء، ويسن حيث يسن، والأكثر على أنه مبيح لا رافع، فلا يستبيح به إلا ما نواه، وقال بعضهم: يقوم مقام الماء مطلقا، يستبيح به كلما يستبيح بالماء، وهو قول كثير من أهل العلم ومذهب أبي حنيفة، والرواية الثانية عن أحمد، وقال: هذا هو القياس، أي أن التيمم بمنزلة الطهارة، يباح به كل ما يباح بالماء، قال الشيخ: وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار فإن الله جعل التيمم مطهرا، كما جعل الماء مطهرا، وفي الحديث وجعلت تربتها لنا طهورا ولأنه بدل فيساوي مبدله، إلا ما خرج بالدليل، فهو رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفعا مؤقتا، إلى أن يقدر على استعمال الماء، وعلى هذا القول الصحيح يتيمم قبل الوقت إن شاء ويصلي ما لم يحدث أو يقدر على استعمال الماء، وإذا تيمم لنفل صلى به فريضة، ويجمع بالتيمم الواحد بين فرضين ويقضي به الفائت، وأجمعوا على أنه يجوز للجنب كما يجوز للمحدث، لا فرق لكن إذا وجده الجنب وجب عليه الاغتسال إجماعا، للأحاديث الصحيحة المشهورة في أمره له به.
(2) أي التيمم بدل عن الطهارة بالماء لكل ما يفعل بطهارة الماء من الصلاة والطواف وسجود التلاوة وقراءة القرآن ونحو ذلك، عند العجز عن الماء، لعدم أو مرض ونحوهما وشرعا، أي بدل من جهة الشرع، وإن لم يعجز عنه حسا، بأن لم يكن موجودا أصلا، من غير فرق بين الجنب وغيره، إلا ما استثناه الشارع في وجود الجنب للماء، لقوله فليمسه بشرته، سوى نجاسة على غير بدن، ولبث بمسجد لحاجة، فإنه لا يصح في الأولى، ولا يجب في الثانية، ويباح لعدم الماء ونحوه مجامعة زوجته وسريته بلا كراهة، اختاره الشارح والشيخ وغيرهما.(1/301)
كصلاة وطواف ومس مصحف وقراءة قرآن ووطء حائض طهرت (1) ويشترط له شرطان (2) أحدهما: دخول الوقت (3) وقد ذكره بقوله (إذا دخل وقت فريضة) (4) أو منذورة بوقت معين (5) أو عيد أو وجد كسوف (6) أو اجتمع الناس لاستسقاء أو غسل الميت (7) أو يمم لعذر (8) .
__________
(1) وسجود تلاوة ولبث بمسجد ونحوه، وهل يكره لمن لم يخف العنت؟ فيه روايتان: إحداهما لا يكره اختاره الشيخ، وقال الشارح: الأولى إباحتها من غير كراهة، قال ابن رزين: وهو الأظهر.
(2) زيادة على شروط مبدله، وهو الماء، وعدها بعضهم: الإسلام والعقل والتمييز والنية، واستنجاء أو استجمار وإزالة ما على بدن من نجاسة ذات جرم، ومبالغة في استجمار وحك النجاسة من بدنه غير المعفو عنها.
(3) أي الوقت الذي يريد أن يتيمم له، فلا يجزئ قبله.
(4) يريد التيمم لها، فلا يجوز لصلاة مفروضة قبل دخول وقتها.
(5) كمن نذر صلاة ركعتين بعد الزوال بعشر درجات مثلا، والمطلقة كل وقت.
(6) أي يصح التيمم عند وجود كسوف إذا لم يكن وقت نهي.
(7) أي ويصح لصلاة جنازة إذا غسل الميت، وظاهره ولو لم يكفن.
(8) من نحو تقطع أو عدم ماء، فلو يمم الميت، وتيمم المصلون، ثم قبل الدخول في الصلاة وجد الماء يكفيه فقط بطل تيممه، وهل يبطل تيممهم لأنه يصدق عليه حينئذ أنه وجد قبل طهارة الميت؟ ظاهر كلامهم يبطل، وعموم قولهم: إذا غسل الميت يشمل ذلك.(1/302)
أو ذكر فائتة وأراد فعلها (1) (أو أبيحت نافلة) بأن لا يكون وقت نهي عن فعلها (2) الشرط: الثاني تعذر الماء (3) وهو ما أشار إليه بقوله (وعدم الماء) حضرا كان أو سفرا (4) .
__________
(1) صح عند إرادة فعلها، لصحة فعلها كل وقت.
(2) فلا يصح وإلا صح لأن ذلك وقتها وهذا قول مالك والشافعي، وعنه يصح قبل الوقت، قال ابن رزين وغيره: هي أصح. وهو قول أبي حنيفة، وفي المبدع: والقياس أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء أو يحدث، فعلى هذا يجوز قبله كالماء، ويشهد له عموم قوله صلى الله عليه وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم» ولأنه بدل، فيساوى بمبدله، واختاره الشيخ، وقال ابن رشد: التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي اهـ، ولأنها طهارة مشروطة للصلاة فأبيح تقديمها على الوقت، كسائر الطهارة، فيتيمم لفرض معين قبل وقته، ولنفل غير معين وقت النهي، وقال الشيخ: يتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت، وهو قول كثير من أهل العلم، وقال أحمد: هو القياس وهذا القول هو الصحيح، وعليه يدل الكتاب والسنة والآثار، والتيمم قبل الوقت مستحب، كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب، وقولهم: طهارة ضرورية فيتقدر بقدر الحاجة، قيل: نعم؟ والإنسان محتاج أن يزال على طهارة، فيتطهر قبل الوقت، فإنه محتاج إلى زيادة الثواب اهـ، والنافلة ما عدا الفريضة من التطوعات، سميت بذلك لأنها زائدة على الفريضة ويزيد بها الثواب.
(3) أي تعسر استعماله وتعذر الشيء، تمنع، والأمر تعصب.
(4) شرع التيمم اتفاقا، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وقوله صلى الله عليه وسلم «الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين» فلم يخص موضعا دون موضع، وقال الشيخ: اتفق المسلمون على أن المسافر إذا عدم الماء صلى بالتيمم
ولا إعادة عليه اهـ ويتصور عدمه في الحضر بحبس أو غيره، كعجزه عن تناوله من بئر ونحوها، كعجز مريض عن الحركة، وعمن يوضئه، والتقييد بالسفر في الآية خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، ومثل هذا لا يكون مفهومه حجة بالاتفاق.(1/303)
قصيرا كان أو طويلا (1) مباحا كان أو غيره (2) فمن خرج لحرث أو احتطاب ونحوهما (3) ولا يمكنه حمل الماء معه، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته فله التيمم ولا إعادة عليه (4) (أو زاد) الماء (على ثمنه) أي ثمن مثله في مكانه (5) بأن لم يبذل إلا بزائد (كثيرا) عادة (6) .
__________
(1) وهذا من الأحكام التي يستوي فيها الطويل من السفر والقصير، والثاني أكل الميتة، والثالث التطوع على الراحلة، وبقية الرخص تختص بالطويل على القول به.
(2) أي أو غير مباح يعني السفر تيمم، لأنه عزيمة كمسح الجبيرة فلا يجوز تركه، ولو كان سفر معصية.
(3) كأخذ حشيش أو صيد دياس ونحو ذلك.
(4) قال في الفروع: حمله في المنصوص إن أمكنه وتيمم إن فاتته حاجته برجوعه، ولا يعيد في الأصح فيهما اهـ والمراد حاجته المباحة، وقال الشيخ وغيره: وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه، وسواء كان العذر نادرا أو معتادا، وقاله أكثر العلماء.
(5) أي مكان تعذره.
(6) أي كثيرا عما جرت العادة به في شراء المسافر له في تلك البقعة أو مثلها تيمم على الصحيح، وإن لم يكن معه ثمن وهو يقدر عليه في بلده ووجده يباع بثمن في الذمة لم يلزمه وتيمم لأن عليه ضررا في إبقاء الدين في ذمته، وربما تلف ماله قبل أدائه.(1/304)
(أو) بـ (ثمن يعجزه) (1) أو يحتاج له (2) أو لمن نفقته عليه (3) (أو خاف باستعماله أي باستعمال الماء ضررا (4) .
__________
(1) تيمم لأن العجز عن الثمن يبيح الانتقال إلى البدل، كالعجز عن الرقبة في الكفارة، وكذا لو حمله وفقده، أو لم يحمله لغير عذر كما لو كانت حاجته في قرية أخرى، ولو كانت قريبا تيمم، لأنه لا فرق بين بعيد السفر وقريبه، لعموم {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} .
(2) إما لنفقة أو كسوة، أو قضاء دين لله أو لآدمي، حال أو مؤجل، يحل قبل وصوله، إلى وطنه أو بعده، ولا مال له هناك، تيمم وإلا وجب الشراء ولم يصح التيمم.
(3) أي أو يحتاج له لأجل نفقة تجب عليه كنفقة زوجته وابنه وأبيه ونحوهم، شرع له التيمم، وإلا فكواجد للماء، قال ابن القيم: وألحقت الأمة واجد ثمن الماء بواجده.
(4) في بدنه تيمم وفاقا وحكاه ابن المنذر إجماعا، سواء كان خوف الضرر من قروح أو جراحات ونحوها لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ولحديث صاحب الشجة أو برد شديد لحديث عمرو بن العاص، وليس المراد بخوف الضرر أن يخاف التلف، بل يكفي أن يخاف منه نزلة أو مرضا، ولو كان خوفه على نفسه من البرد حضرا، فيتيمم دفعا للضرر، أو خاف باستعماله احتياجه لعجن أو طبخ، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان معه ماء فخشي العطش أنه يبقي الماء للشرب ويتيمم.(1/305)
(أو) خاف بـ (طلبه: ضرر بدنه (1) أو) ضرر (رفيقه (2) أو) ضرر (حرمته) أي زوجته أو امرأة من أقاربه (3) (أو) ضرر (ماله (4) بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه) (5) .
__________
(1) كأن يكون بينه وبين الماء سبع أو حريق أو لص ونحوه، خوفا محققا لا جبنا أو كان خوفه بسبب ظنه، فتبين عدمه، كسواد رآه ليلا فظنه عدوا فتبين عدمه بعد أن تيمم، غير جبان يخاف بلا سبب يخاف منه، أو خافت امرأة فساقا تيمم وصلى وفاقا، ولم يعد وقال الشيخ وغيره في المرأة إن خافت فساقا، يحرم خروجها إليه، وقال: وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام، ولا تقدر على الاغتسال في البيت، وفي الإنصاف: لو خاف فوت رفقته ساغ له التيمم، وقيل ولو لفوت الإلف والإنس.
(2) أي أو خاف باستعماله ضرر رفيقه المحترم، من عطش ونحوه، شرع له التيمم وفاقا، لأن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على جواز تيمم من يحتاج الماء للعطش، وأنه كالعادم يتيمم مع وجود الماء.
(3) كعمته وخالته، وفي عبارته قصور، فلو قال كما في المنتهى، أو عطش نفسه أو غيره من آدمي أو بهيمة محترمين، لكان أولى، وعبارة المقنع: أو رفيقه أو بهيمة قال في المبدع: وكذا إن كانت لغيره، لأن للروح حرمة، وسقيها واجب، وقصة البغي مشهورة، قال ابن القيم: وألحقت الأمة من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم.
(4) أي أو خاف باستعمال الماء أو طلبه ضرر ماله شرع له التيمم وفاقا.
(5) كشرود أو سرقة أو فوات مطلوبه كعدو خرج في طلبه، أو آبق أو شارد يريد تحصيله لأن في فوته ضررا وهو منفي شرعا قال في الإنصاف وغيره: إذا خاف على نفسه العطش حبس الماء وتيمم بلا نزاع، وحكاه ابن المنذر إجماعا.(1/306)
كخوفه باستعماله تأخر البرء (1) أو بقاء أثر شين في جسده (2) (شرع التيمم) أي وجب لما يجب الوضوء أو الغسل له، وسن لما يسن له ذلك، وهو جواب: إذا من قوله: إذا دخل وقت فريضة (3) ويلزم شراء ماء وحبل ودلو، بثمن مثل (4) .
__________
(1) أي تأخر الشفاء، شرع له التيمم وفاقا، وهل يعتبر في ذلك قول طبيب عارف أو بمجرد خوفه على نفسه؟ قال في الغاية: ويتجه: أو يعلم ذلك من نفسه.
(2) أو تطاول المرض بسبب استعماله الماء، تيمم وفاقا لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الآية ولو كان باطنا، إن أخبره به طبيب مسلم ثقة، أو علمه هو بنفسه والمرض على ثلاثة أضرب: أحدها يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفا ولا مرضا، ولا إبطاء برء، ولا زيادة ألم كصداع ووجع ضرس، وحمى لا يضر معها، وشبه ذلك، فهذا لا يجوز له التيمم بلا نزاع، الثاني مرض يخاف معه من استعمال الماء تلف النفس أو عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو عضو أو فوات منفعة عضو، فهذا يجوز له التيمم إجماعا، الثالث: أن يخاف بطء البرء أو زيادة المرض، وهي كثرة الألم، وإن لم تطل مدته، أو شدة الضناء وقيل النحاف والضعف، أو خاف حصول شيء، أو بقاء أثر شيء على عضو ظاهر جاز وفاقا للثلاثة، وهو قول جمهور العلماء سلفا وخلفا، لظاهر الآية، وعموم البلوى، حكاه غير واحد، وفي الإقناع وشرحه: يصح التيمم لعجز مريض عن الحركة وعمن يوضئه إذا خاف فوت الوقت، إن انتظر من يوضئه وعجزه عن الاغتراف ولو بفمه، ولأنه كالعادم للماء، فإن قدر على الاغتراف بفمه، أو غمس أعضائه في الماء الكثير لزمه ذلك، لقدرته على استعمال الماء.
(3) أو أبيحت نافلة، وعدم الماء، إلى آخره، دفعا للضرر والحرج.
(4) في تلك البقعة أو مثلها غالبا بلا خلاف، لأنه قادر على استعمال من غير ضرر.(1/307)
أو زائد يسيرا (1) فاضل عن حاجته (2) واستعارة الحبل والدلو (3) وقبول الماء قرضا وهبة (4) وقبول ثمنه قرضا، إذا كان له وفاء (5) ويجب بذله لعطشان ولو نجسا (6) .
__________
(1) بالنصب صفة لمحذوف، وشرط الزيادة اليسيرة أن لا تجحف بماله على الأصح، أو عرفا وهو الأولى، وقال النووي: وبأكثر من ثمن المثل لا يلزمه بلا خلاف، لكن الأفضل أن يشتريه، وهو قول جماهير السلف والخلف.
(2) كقضاء دينه، ونفقة ومؤونة سفر له ولعياله، فلا يلزمه الشراء بما يحتاج إليه، ولا بثمن في ذمته، ولو وجده يباع بنسيئة، وقدر عليه في بلده، لكنه أفضل.
(3) أي ويلزمه طلب الحبل والدلو ولو عارية، ليحصل بهما الماء، صححه في تصحيح الفروع، لأن المنة في ذلك يسيرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(4) ومفهومه عدم استقراض ذلك واتهابه، لما في ذلك من المنة، وصوب في تصحيح الفروع أنه لا يجب اتهابه.
(5) قال الشيخ: وقال: ويلزمه قبول الماء قرضا لأن المنة له في ذلك يسيرة في العادة فلا يضر احتماله اهـ ولو وهب له ثمن الماء لم يلزمه، حكاه إمام الحرمين وغيره إجماعا.
(6) أي ويجب على من معه ماء فاضل عن حاجة شربه فقط بذله بقيمته لعطشان محترم محتاج إليه، يخشى تلفه في أصح الوجهين، وجزم به الشيخ وغيره، ولو خاف العطش بعد هو أو أهله لم يجب دفعه إليه، وقيل: بل بثمنه إن وجب الدفع عن نفس العطشان وإلا فلا، وصوب غير واحد وجوب حبس الماء لعطش الغير المتوقع وخوف العطش على نفسه بعد دخول الوقت، وقوله: ولو نجسا، لأنه إنقاذ من هلكة ولو توضأ العطشان ولم يشرب كان عاصيا، ولا يلزم بذله الماء
لطهارة الغير بحال، وفي الإنصاف وغيره: لغير الوالدين، وذكر ابن القيم أنه
لا يمتنع أن يؤثر بالماء من يتوضأ به ويتيمم هو، وإن كان لشخصين ولا يكفي إلا أحدهما اقترعا أو يقسم بينهما.(1/308)
(ومن وجد ماء يكفي بعض طهره) من حدث أكبر أو أصغر (تيمم بعد استعماله) (1) ولا يتيمم قبله (2) ولو كان على بدنه نجاسة وهو محدث غسل النجاسة وتيمم للحدث بعد غسلها (3) .
وكذلك لو كانت النجاسة في ثوبه (4) (ومن جرح) وتضرر بغسل الجرح (5) .
__________
(1) أي تيمم للباقي بعد استعمال الماء لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ولقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فدل على وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة.
(2) أي لا يتيمم قبل استعمال الماء في بعض طهره وجوبا، قال في الإنصاف وغيره: وهو المذهب وعليه الجمهور، وجزم به، واختاره غير واحد، وفي التلخيص: يلزمه في الجنابة رواية واحدة اهـ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فاعتبر استعماله أولا ليتحقق الشرط الذي هو عدم الماء، وذكر المجد وغيره أن الجنب إذا وجد ماء يكفي أعضاء وضوئه استعمله فيها ناويا رفع الحدثين، ليحصل له كمال الطهارة الصغرى وبعض الكبرى.
(3) أي النجاسة: نص عليه، وقال الشارح: لا نعلم فيه خلافا ولو كانت في محل يكفي فيه الاستجمار، وقال المجد: إلا أن تكون النجاسة في محل يصح تطهيره من الحدث فيستعمل.
(4) أو بقعته اللتين لا يمكنه الصلاة في غيرهما غسل ذلك أولا ثم تيمم.
(5) أو كان به قروح أو رمد ونحوها وهو جنب أو محدث تيمم له وغسل الباقي، لقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ولما رواه البزار وصححه ابن خزيمة عن ابن عباس مرفوعا في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} قال: إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله، أو القروح فيجنب فيخاف أن يموت إن اغتسل تيمم.(1/309)
أو مسحه بالماء (تيمم له) (1) ولما يتضرر بغسله مما قرب منه (2) (وغسل الباقي) فإن لم يتضرر بمسحه وجب وأجزأ (3) وإن كان جرحه ببعض أعضاء وضوئه لزمه إذا توضأ مراعاة الترتيب، فيتيمم له عند غسله لو كان صحيحا (4) ومراعاة الموالاة فيعيد غاسل الصحيح عند كل تيمم (5) .
__________
(1) أي أو تضرر بمسح الجرح بالماء تيمم له وغسل الباقي.
(2) أي ويتيمم لما يتضرر بغسله مما قرب من الجرح ونحوه، لاستوائهما في الحكم.
(3) أي وجب مسحه بالماء وأجزأ عن الغسل، لأن المسح بالماء بعض الغسل، ومحله إذا كان العضو الجريح طاهرا لا نجاسة عليه، فإن كان نجسا فقال في التلخيص: يتيمم ولا يمسح عليه قولا واحدا اهـ وقال الشيخ مسح الجرح بالماء أولى من مسح الجبيرة وهو خير من التيمم، ونقله الميموني عن أحمد، واختاره ابن عقيل.
(4) أي فإن كان الجرح ونحوه في الوجه وعمه تيمم أولا ثم أتم وضوءه وإن كان في بعضه خير بين أن يغسل صحيحه ثم يتيمم لجرحه وعكسه، وإن كان في بعض عضو آخر لزمه غسل ما قبله، وإن كان في بعض أعضاء وضوئه احتاج في كل عضو إلى تيمم، وقال شيخ الإسلام لا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، وقال: الفصل بين أعضاء الوضوء بالتيمم بدعة، واختاره المجد وغيره، وقال ابن رزين: هو أصح، ولما في ذلك من الحرج المنتفي شرعا.
(5) أي وإذا كان جرحه ببعض أعضاء وضوئه لزمه إذا توضأ مراعاة الموالاة # فيعيد غسل الصحيح عند كل تيمم لوجوبها فيه، كما لو أخر غسله حتى فاتت الموالاة، وتقدم أنها لا تراعى في ذلك.(1/310)
بخلاف غسل الجنابة فلا ترتيب فيه ولا موالاة (1) (ويجب) على من عدم الماء إذا دخل وقت الصلاة (طلب الماء في رحله) (2) بأن يفتش في رحله ما يمكن أن يكون فيه (3) (و) في قربه (4) بأن ينظر خلفه وأمامه وعن يمينه وعن شماله (5) .
__________
(1) فلو اغتسل لجنابة ثم تيمم لنحو جرح وخرج الوقت لم يعد سوى التيمم، لأنه لا يعتبر فيه ترتيب ولا موالاة.
(2) أي يجب على من عدم الماء وظن وجوده، أو شك في وجوده ولم يتحقق عدمه: طلب الماء، رواية واحدة، قاله ابن تميم وغيره، وذلك إذا دخل وقت الصلاة، فإنه لا أثر لطلبه قبل دخول وقتها، إذ هو غير مخاطب بالتيمم قبله، ولأنه سبب للصلاة يختص بها فلزمه الاجتهاد في طلبه عند الإعواز، في رحله أي فيما يسكنه من حجر أو مدر أو شعر أو وبر، ويقع على متاعه وأثاثه، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، ولأنه بدل، فلا يجوز العدول إليه قل طلب المبدل، وإن تيقن عدمه تيمم بلا طلب، رواية واحدة، قاله غير واحد، وعده الموفق وغيره شرطا ثالثا، وفاقا للشافعي.
(3) كأوان يوضع فيها، وأما الذي لا يمكن فيه فطلب للمحال، ولا يجب بلا ريب ويفتش للمبالغة، أي يستقصي في الطلب.
(4) عرفا ولا يتقيد بميل ونحوه، ولا بمدى الغوث.
(5) إذا كانت أرضا جاهلا بها فإن كان ذا خبرة بها ولم يعلم أن فيها ماء لم يلزمه، ومثل ذلك ما جرت العادة بالسعي إليه مما هو عادة القوافل ونحوهم.(1/311)
فإن رأى ما يشك معه في الماء قصده فاستبرأه (1) ويطلبه من رفيقه (2) فإن تيمم قبل طلبه لم يصح، ما لم يتحقق عدمه (3) (و) يلزمه أيضا طلبه (بدلالة) ثقة (4) إذا كان قريبا عرفا (5) .
__________
(1) إن ظن به ماء كخضرة وطير، وركب قادم يحتمل وجود الماء معه، أو يظنه أو يتوهمه أو كان بقربه ربوة أو شيء قائم فيجب إجماعا، مع ظن وجوده، وذلك مشروط بانتفاء الضرر من سرقة ونحوها، كما تقدم فإن تحقق عدمه لم يلزمه طلبه لأنه لا أثر لطلب شيء محقق العدم.
(2) إما بسؤال عن موارده، أو معه ليبيعه أو يبذله له، وتقدم أن الإتهاب لا يلزمه، فلعل ما تقدم إذا لم يكن من رفيقه، وقد صرح الأصحاب أن المراد بالرفقة الذين معه ممن تلزمه مؤونتهم في السفر، ومن كان له رفقة يعمل عليهم طلبه منهم، قال في الشرح: والرفيق الذي يدلي عليه، أي لا يستحي من سؤاله.
(3) أي لم يصح تيممه ما لم يتحقق عدم الماء وفاقا، لأنه لا أثر له، ولأنه إذا تحقق عدمه لم يلزمه الطلب، ولا فائدة لذلك الطلب، سواء كان مسافرا أم لا، والمراد بالتحقق غلبة الظن، وإذا طلبه لصلاة ولم يجده وتيمم ثم دخل وقت صلاة أخرى فإنه يطلب الماء للصلاة الثانية، لأنها في حكم الأولى، في توجه الخطاب بالطلب، وذلك إذا كان في غير الموضع الذي كان فيه في وقت الصلاة الأولى، أو كان فيه وحدث ما يوجب توهم وجود الماء، وأما إذا كان بموضعه الأول، ولم يحدث ما يقتضي توهم وجود الماء، فلا يلزمه الطلب حينئذ، لأنه قد تحقق عدمه.
(4) عدل ضابط لا بضده.
(5) لقدرته على استعماله، ولأنه إذا سعى إليه لشغله الدنيوي، فالديني أولى، وذكر النووي وغيره، لو علم ماء بمحل يصله مسافر لحاجته كاحتشاش واحتطاب وجب طلبه منه اهـ وقدره بعضهم بنصف فرسخ، ويختلف باختلاف الأحوال.(1/312)
ولم يخف فوت وقت ولو المختار (1) أو رفقة أو على نفسه أو ماله (2) ولا يتيمم لخوف فوت جنازة (3) .
__________
(1) بأن ظن أنه لا يدرك الصلاة بوضوء إلا وقت الضرورة فإن خاف تيمم.
(2) أي ولم يخف فوت رفقة بضم الراء، وظاهره، ولو لفوت الألفة والأنس للنهي عن الوحدة في السفر، أو لم يخف على نفسه خوفا محققا لا جبنا بأن لم يكن بينه وبين الماء أسد ونحوه، أو لص أو امرأة من فجار، ومثلها أمرد، أو لم يخف على ماله كشرود دابته، فإذا انتفت هذه المذكورة ونحوها لزمه طلبه، إذا كان قريبا عرفا، فإن خاف شيئا من نحو ما ذكر تيمم.
(3) مع وجود الماء هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وعنه يجوز، اختاره الشيخ، وإليه ميل جده، وابن عبد القوي، ويروى ذلك عن عمر وابن عباس، وهو مذهب الحنفية، وقول أكثر الفقهاء، وقال الحافظ: وقد ذهب جمع من السلف إلى أنه يجزئ لها التيمم لمن خاف فوتها لو تشاغل بالوضوء، وفيه حديث مرفوع وسنده ضعيف اهـ، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام تيمم لرد السلام، وابن عمر تيمم وصلى على جنازة، وعن ابن عباس، في الرجل تفجؤه الجنازة قال: يتيمم ويصلي عليها، ولأنه يخاف فوتها فأشبه العادم، والمراد فوتها مع الإمام، وقال جماعة: وإن أمكنه الصلاة على القبر لكثرة وقوعه، فتعظم المشقة، واختار الشيخ: إن خاف فوت عيد وفاقا لأبي حنيفة، وسجود التلاوة وجمعة وأنه أولى من الجنازة، لأنها لا تعاد، وفي الاختيارات: قال أبو بكر عبد العزيز والأوزاعي والحنفية: بل لمن خاف فوات الجمعة ممن انتقض وضوءه وهو بالمسجد قال في الإنصاف: وهو قول قوي في النظر، وقال الشيخ: أصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته، كالجنازة وصلاة العيد، فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة، وقال: ويجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل، وإن كان في البلد، ولا يؤخر ورده إلى النهار.(1/313)
ولا وقت فرض (1) إلا إذا وصل مسافر إلى الماء، وقد ضاق الوقت (2) أو علم أن النوبة لا تصل إليه إلا بعده (3) أو علمه قريبا وخاف فوت الوقت إن قصده (4) .
__________
(1) أي ولا يتيمم لخوف فوت وقت فرض مع وجود الماء، بل يستعمله لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} قال الشيخ: وأما إن استيقظ قرب طلوع الشمس فيتوضأ ويغتسل بحسب ما يمكنه، وإن طلعت الشمس، وعند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك، ويكون فعلها بعد طلوع الشمس فعلا لها في الوقت الذي أمر الله بالصلاة فيه، وقال: الواجب في حقه عند جمهور العلماء أن يغتسل وإن طلعت عليه الشمس، ولا يجزئه التيمم لأنه واجد للماء، وإن كان غير مفرط في نومه فلا إثم عليه.
(2) ولو المختار عن طهارته تيمم وصلى، جزم به في المغني والشرح والمحرز وغيرهم، وقال الشيخ: المسافر إذا وصل إلى الماء وقد ضاق الوقت فإنه يصلي بالتيمم على قول جمهور العلماء، وكذلك لو كان هناك بئر لكن لا يمكن أن يصنع له حبلا حتى يخرج الوقت، أو يمكن حفر الماء ولا يحفر حتى يخرج الوقت، فإنه يصلي بالتيمم، قال المجد: وعلم منه أنه لو وصل إليه وأمكنه الصلاة به في الوقت فأخر حتى خشي الفوات فكالحاضر، لأن قدرته قد تحققت، فلا يبطل حكمها بتأخيره.
(3) أي أو علم المسافر أن النوبة أي الحصة لا تصل إلى الماء إلا بعد الوقت فيتيمم لعدم قدرته على استعماله في الوقت، والنوبة اسم من المناوبة، يقال: جاءتك نوبتك أي حصتك، وحكم من في السفينة كواجد البئر، إن لم يمكنه الوصول إل الماء إلا بمشقة أو تغرير بنفسه فهو كالعادم.
(4) أي أو علم المسافر الماء قريبا عرفا، وخاف فوت الوقت ولو المختار إن قصد الماء تيمم وصلى، ولا إعادة عليه، وقال الشيخ: إذا استيقظ أول الوقت
وعلم أنه لا يجد الماء إلا بعد الوقت فإنه يصلي بالتيمم بالإجماع، وقال فيمن يمكنه الذهاب إلىالحمام، لكن لا يمكنه الخروج منه حتى يفوت الوقت، كالمرأة معها أولادها ولا يمكنها الخروج حتى تغسلهم ونحو ذلك فالأظهر يتيمم ويصلي خارج الحمام.(1/314)
ومن باع الماء أو وهبه بعد دخول الوقت ولم يترك ما يتطهر به حرم، ولم يصح العقد (1) ثم إن تيمم وصلى لم يعد إن عجز عن رده (2) (فإن) كان قادرا على الماء لكن (نسي قدرته عليه) (3) أو جهله بموضع يمكن استعماله (4) (وتيمم) وصلى (أعاد) (5) .
__________
(1) لمن ليس له غرض صحيح كمحتاج لشربه ونحوه، لتعلق حق الله به، فلو تطهر به من أخذه فقد قيل بعدم الصحة، لأنه مقبوض بعقد فاسد، ما لم يجهل الحال فيصح، فإن كان لمحتاج لشربه ونحوه صح ولا حرمة، لوجوبه إذا، وأما لو مر بماء قبل الوقت أو كان معه فأهراقه قبل الوقت، ثم دخل الوقت وعدم الماء فلا إثم عليه، ويصلي بالتيمم ولا إعادة عليه، وإن أهراقه في الوقت فهو عاص، وقال في الإنصاف: يحرم بلا نزاع، ويجوز له التيمم، فإن مقتضى الفقه أن كل من فرط وضيع الحزم حتى اضطر للتيمم تيمم ولا إعادة عليه قاله الشيخ وغيره.
(2) لأنها صلاة بتيمم صحيح لعدم قدرته على الماء حينئذ.
(3) بأن وصل إلى بئر لا يقدر على الغسل منه، وفي رحله دلو ورشاء لكن نسيه أعاد وكذا لو نسي ثمنه.
(4) بأن كان الماء في رحله أو بقربه في بئر أعلامها ظاهرة، وكان يتمكن من تناوله منها، أو مع عبده ولم يعلم به السيد.
(5) في الجميع لقدرته، ولم يصح تيممه، كمن صلى ناسيا حدثه.(1/315)
لأن النسيان لا يخرجه عن كونه واجدا (1) وأما من ضل عن رحله وبه الماء وقد طلبه (2) أو ضل عن موضع بئر كان يعرفها وتيمم وصلى فلا إعادة عليه (3) لأنه حال تيمم لم يكن واجدا للماء (4) (وإن نوى بتيممه أحداثا) متنوعة توجب وضوءا أو غسلا أجزأه عن الجميع (5) .
__________
(1) ولأن شرط إباحة التيمم عدم الوجدان، ولأن الطهارة تجب مع العلم والذكر، فلا تسقط بالنسيان والجهل، وعنه: لا إعادة عليه وفاقا لأبي حنيفة وأحد القولين لمالك والشافعي، لقوله عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما في معناه من الكتاب والسنة، ولأنه مع النسيان غير قادر أشبه العادم، ومثله الجاهل وأولى، وصحح في المغني والشرح أنه لا إعادة، لأنه ليس بواجد وغير مفرط، وقال النووي، وغيره: إن كان في رحله ونسيه فالصحيح أنه لا يعيد، وفاقا لأبي حنيفة، ورواية عن مالك، لحديث إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، ولأنه صلى على الوجه الذي يلزمه ذلك الوقت، فلم تلزمه الإعادة، ولأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ولأنه صلى ولم يعلم معه ماء، فلم تلزمه الإعادة.
(2) أي طلب رحله فلم يجده فتيمم أجزأه.
(3) في ثلاث صور: ضل عن موضع بئر كان يعرفها، أو أعلامها خفية، ولم يكن يعرفها، أو كانت خفية وكان عارفا بها وضل عنها، فيجزئه التيمم في الثلاث بلا إعادة.
(4) فدخل في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولأنه غير مفرط، والله تعالى لم يوجب على العبد الصلاة مرتين، إلا إذا حصل منه إخلال بواجب، أو فعل محرم، ولم يأمر أحدا أن يصلي الصلاة ويعيدها.
(5) أي نوى ما تسبب عنه وجوبهما، أو أحدهما أجزأه التيمم عنهما لأن كل واحد يدخل في العموم فيكون منويا.(1/316)
وكذا لو نوى أحدها أو نوى بتيممه الحدثين (1) ولا يكفي أحدهما عن الآخر (2) (أو) نوى بتيممه (نجاسة على بدنه تضره إزالتها (3) أو عدم ما يزيلها) به (4) .
__________
(1) أي نوى بتيممه أحد أسباب الحدث أجزأه أو نوى بتيممه الحدث الأصغر والأكبر أجزأ عنهما، والحاصل أنه لو نوى أحد أسباب الحدثين بتيممه، أو الحدث الأكبر والأصغر أجزأ كأن يوجد منه نوم وخروج خارج، فينوي بتيممه النوم مثلا لا بشرط عدم نية غيره أجزأ عن خروج الخارج، وهكذا، وقال الموفق وغيره: يجوز التيمم للحدث الأصغر إذا وجدت الشروط بغير خلاف، وللجنابة، إلا ما روي عن عمر وابن مسعود، لما تقدم من الأخبار.
(2) أي الأكبر عن الأصغر وعكسه وفاقا لمالك، وعنه: يجزئ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ومقتضى القواعد الشرعية، وقال الشيخ: يجزئه عند جمهور العلماء.
(3) أو يضره الماء الذي يزيلها به، فإذا عجز سقط وجوب إزالتها.
(4) من ماء أو غيره أجزأه التيمم، وعنه لا يتيمم لها لأن الشرع إنما ورد بالتيمم للحدث، وغسل النجاسة ليس في معناه، واختاره ابن حامد وابن عقيل وغيرهما. والشيخ وقال: هو قول جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأبي حنيفة لأن التيمم إنما جاء في طهارة الحدث، دون طهارة الخبث، وهذا أصح، لأنه لو شرع التيمم لذلك لشرع للمستحاضة ونحوها، وعمر صلى وجرحه يثعب بل إذا عجز عن إزالة النجاسة سقط وجوب إزالتها، وجازت الصلاة معها بدون تيمم، وأما التميم للنجاسة على الثوب فلا نعلم به قائلا من العلماء، بل كلهم متفقون على أن النجاسة في الثوب والأرض لا يتيمم لها اهـ، وقال غير واحد: لا يصح تيممه عن نجاسة على بدنه، عند جمهور العلماء، إلا أحمد في قول لم يتابع عليه.(1/317)
(أو خاف بردا) (1) ولو حضرا مع عدم ما يسخن به الماء بعد تخفيفها ما أمكن وجوبا، أجزأه التيمم لها (2) لعموم «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (3) (أو حبس في مصر) فلم يصل الماء (4) .
__________
(1) تيمم وصلى ولا إعادة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وابن المنذر وغيرهم لقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ولحديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: ذكرت قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا، لفظ أحمد، وأخرجه أهل السنن والبخاري تعليقا، ولم يعد، قال الشيخ: وهذا هو الصحيح لأنه فعل ما قدر عليه فلا إعادة عليه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة وقال ابن القيم: وألحقت الأمة من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل.
(2) أي لكل حدث وغيره مما مر، بعد تخفيف النجاسة عن بدنه مهما أمكن، بمسح رطبة وحك يابس، إذا خشي برد الماء وجوبا، لأنه قادر على إزالتها في الجملة قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإن أمكنه تسخينه والاغتسال به لزمه ذلك فإن خاف الضرر باستعمال البعض غسل ما لا يتضرر به وتيمم للباقي، ويكون قد فعل ما أمر به من غير تفريط ولا عدوان.
(3) متفق عليه، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون سائر الأنبياء.
(4) فتيمم أجزأه.(1/318)
أو حبس عنه الماء (فتيمم) أجزأه (1) .
(أو عدم الماء والتراب) كمن حبس بمحل لا ماء به ولا تراب (2) وكذا من به قروح لا يستطيع معها لمس البشرة بماء ولا تراب (3) .
(صلى) الفرض فقط على حسب حاله (4) .
(ولم يعد) لأنه أتى بماء أمر به فخرج عن عهدته (5) .
__________
(1) أي حبس عنه بوضعه في مكان لا يصل إليه الماء، أو قطع العدو النهر عن أهل بلد ونحو ذلك فتيمم أجزأه لأنه غير قادر على الماء.
(2) زاد بعضهم، ولا طينا يجففه إن أمكنه، صلى على حسب حاله ولم يعد، وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه، وهو مذهب مالك، ورواية عن أبي حنيفة والشافعي.
(3) أو جراحات ونحوها، وكذا مريض عجز عن الماء والتراب، وعمن يطهره بأحدهما، وإن وجد ثلجا وتعذر تذويبه مسح أعضاء وضوئه في المنصوص، ولا إعادة عليه، ولو لم يجر معه.
(4) أي على قدر طاقته وجوبا قال الشيخ: مقتضى القياس والسنة أن العادم يصلي على حسب حاله، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها اهـ.
(5) بالضم أي دركه لقوله: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا به ما استطعتم) ولأن العجز عن الشرط لا يوجب ترك المشروط، كما لو عجز عن السترة، وفي الصحيحين عن عائشة في قصة القلادة، فبعث صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء ولم يأمرهم بالإعادة، وهذا مذهب جمهور السلف وعامة الفقهاء، قال الشيخ: وهذا الصحيح من أقوالهم أنه لا إعادة على أحد فعل ما أمر به بحسب استطاعته وقال النووي: وهذا الأقوى دليلا أما وجوبها
فلقوله (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وأما الإعادة فإنما تجب بأمر مجدد، والأصل عدمه.(1/319)
ولا يزيد على ما يجزئ في الصلاة، فلا يقرأ زائدا على الفاتحة (1) ولا يسبح غير مرة (2) ولا يزيد في طمأنينة ركوع أو سجود وجلوس بين السجدتين (3) ولا على ما يجزئ في التشهدين (4) وتبطل صلاته بحدث ونحوه فيها (5) .
__________
(1) أي لا يقرأ عادم الماء والتراب قرآنا ولا ذكرا زائدا على الفاتحة، وكذا العاجز عن استعمالهما، لا يقرأ زائدا على الفاتحة، قاله الأصحاب على سبيل الندب لا الوجوب، فلو خالف وقرأ لم تبطل صلاته ولم يحرم عليه ذلك.
(2) أي في ركوعه وسجوده، وكذا بين السجدتين لا يزيد على مرة في قول رب اغفر لي.
(3) أي لا يزيد عادم الماء والتراب على المجزئ في ذلك.
(4) وهو إلى قوله: اللهم صل على محمد، وهذا كله تحجز واسع، وقال الشيخ رحمه الله: يفعل من عدم الماء والتراب ما شاء، من صلاة فرض أو نفل، وزيادة قراءة وتسبيح ونحوه، على ما يجزئ على أصح القولين، وهو قول الجمهور لأنه لا تحريم مع العجز، ولا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وفي شرح العمدة يتوجه فعل ما شاء، لأن التحريم إنما يثبت مع إمكان الطهارة ولأن له أن يزيد في الصلاة على أداء الواجب في ظاهر قولهم، حتى لو كان جنبا قرأ بأكثر من الفاتحة، فكذا فيما يستحب خارجها.
(5) كنجاسة غير معفو عنها، وككلام وأكل وشرب، لأنه مناف للصلاة فأبطلها.(1/320)
ولا يؤم متطهرا بأحدهما (1) .
(ويجب التيمم بتراب) فلا يجوز التيمم برمل وجص (2) ونحيت الحجارة ونحوها (3) (طهور) فلا يجوز بتراب تيمم به، لزوال طهوريته باستعماله (4) .
__________
(1) يعني لا يؤم عادم الطهورين شخصا متطهرا بأحدهما، أي الماء أو التراب، كالعاجز عن الاستقبال وغيره، لا يؤم قادرا عليه، فالجار متعلق بالوصف لا بالفعل.
(2) بفتح الجيم وكسرها ما يبنى به، وهو معرب وجصص البناء طلاه بالجص.
(3) كالنورة والزرنيخ والمغرة ونحوها، والنحاتة كل ما خرج من الشيء المنحوت، مالم تكن الغلبة للتراب، قياسا على الماء، وكذا ما لم يكن المخالط يعلق باليد، وعنه: يجوز التيمم بما على وجه الأرض من تراب وسبخة، ورمل وغيره، لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا أدركتهم الصلاة تيمموا بالأرض التي صلوا عليها، ترابا أو غيره، واجتازوا الرمال في غزوة تبوك وغيرها، ولم ينقل أنهم حملوا التراب، ولا أمر بحمله، ولا فعل أحد من أصحابه، مع القطع بأن الرمال في تلك المفاوز أكثر من التراب وقال صلى الله عليه وسلم أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وهو صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل والسباخ ونحوهما فهو طهور، واختاره الشيخ وتلميذه، وجماهير العلماء، وأنه لا يحمل التراب لأجل التيمم، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف.
(4) أشبه الماء المستعمل، وهو ما تساقط مما علق بيد المتيمم، قال في الفروع: وقيل يجوز كما لو لم يتيمم منه في الأصح اهـ لأن ما يمسح به وجهه يصير به مستعملا فلو ضر لما صح أن يمسح به كفيه، ولأنه عندهم لا يرفع الحدث، فلا يصير مستعملا، بخلاف قولهم في الماء، مع ما فيه من الخلاف المتقدم، ولم يقم برهان
أنه لا يجزئ الوضوء بالماء المستعمل فالتيمم بطريق الأولى، وأما التراب النجس فلا يجوز التيمم به بلا نزاع، لقوله (طيبا) أي طاهرا، وطهور: صفة لتراب.(1/321)
وإن تيمم جماعة من مكان واحد جاز، كما لو توضؤوا من حوض واحد يغترفون منه (1) ويعتبر أيضا أن يكون مباحا، فلا يصح بتراب مغصوب (2) وأن يكون (غير محترق) فلايصح بما دق من خزف ونحوه (3) وأن يكون (له غبار) لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (4) فلو تيمم على لبد (5) أو ثوب أو بساط أو حصير أو حائط أو صخرة أو حيوان.
__________
(1) قال الشارح وغيره: بلا خلاف.
(2) ظاهره ولو تراب مسجد، قال في الفروع وغيره: ولعله غير مراد اهـ فإنه لا يكره بتراب زمزم، مع أنها مسجد، ولو تيمم بتراب غيره من غير غصب جاز في ظاهر كلامهم، للإذن فيه عادة وعرفا، كالصلاة في أرضه، ويصح من أرض مغصوبة.
(3) كالنورة والخزف والآجر، وكل ما عمل من طين وشوي بالنار، حتى يكون فخارا، لأنا لطبخ أخرجه عن اسم التراب.
(4) فما لا غبار له كالصحراء والطين الرطب لا يمسح بشيء منه، قال في الخلاف في الطين الرطب، بلا خلاف بل يجففه إن أمكن.
(5) بكسر اللام، من صوف أو غيره، سمي به المصوق بعضه ببعض، يجعل على الدابة تحت السرج.(1/322)
أو برذعته (1) أو شجر أو خشب أو عدل شعير ونحوه مما عليه غبار صح (2) وإن اختلط التراب بذي غبار غيره كالنورة فكماء خالطه طاهر (3) .
(وفروضه) أي فروض التيمم (4) (مسح وجهه) (5) سوى ما تحت شعر ولو خفيفا وداخل فم وأنف فيكره (6) .
__________
(1) بفتح الباء والذال أي حلسه الذي يلقى تحت الرحل، أو حلس الدابة صح، وخص بعضهم به الحمار، وقال شمر، هي البرذعة، والبردعة بالذال والدال، والجمع برادع، والمراد ما لم يصر الغبار نجسا، بأن وقع عليه التراب حال رطوبته وإن لم يعلم الحال فينبغي أن يجوز بلا خلاف للأصل، وإن كان غير الحمار ونحوه جاز بلا خلاف، إلا أن يكون الحيوان امرأة ففيها تفصيل معروف.
(2) أي تيممه على ما مر، إذا كان عليه غبار طهور يعلق بيده، لأنه عليه الصلاة والسلام تيمم بالجدار، وقطع به جمهور أهل العلم، وظاهره ولو مع وجود تراب ليس على شيء مما تقدم وقال الشيخ: إن وجد ترابا غيره فتيممه به أولى.
(3) أي وإن اختلط التراب الطهور بما فيه غبار كالنورة ودقيق الحنطة فحكمه حكم الماء إذا خالطه طاهر، فإن سلبه اسم الماء المطلق فطاهر، فكذلك ما خالط التراب إذا سلبه اسم التراب المطلق فطاهر، فإن كان بشيء يسير لم يسلبه اسم التراب المطلق لم يضره، والنورة السمة، وحجر الكلس ثم غلب على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره.
(4) عن حدث أصغر أربعة تعلم بالاستقراء، واثنان عن الأكبر.
(5) إجماعا ولحيته لقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} .
(6) فلا يدخل فمه وأنفه التراب، لما في ذلك من التقذير، قال في الإنصاف: قطعا، وإن بقي من محل الفرض شيء أمر يده عليه، والواجب تعميم المسح لا تعميم التراب لقوله: {فَامْسَحُوا} ويبالغ فيه سيما جوانب الأنف، وظاهر الأجفان وجميع المغابن، وظاهر الشفتين، فإنه متى قصر في شيء من ذلك فقد أخل بالمسح المأمور به.(1/323)
(و) مسح (يديه إلى كوعيه) (1) لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه، متفق عليه (2) (و) كذا (الترتيب) بين مسح الوجه واليدين (3) (والموالاة) بينهما بأن لا يؤخر مسح اليدين بحيث يجف الوجه لو كان مغسولا فهما فرضان (في) التيمم عن (حدث أصغر) (4) .
__________
(1) مسح اليدين فرض إجماعا، لما تقدم من الآية الكريمة، وكونه إلى الكوعين لقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وموضع القطع معروف، وإذا علق حكم بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع، كقطع السارق ومس الفرج.
(2) وسببه قول عمار: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما يكفيك، إلخ وفي لفظ صححه الترمذي، أمره بالتيمم للوجه والكفين، وأصح حديث في صفة التيمم حديث عمار، وحديث أبي جهيم: فمسح بوجهه وكفيه، وليس في الباب حديث يعارضهما في جنسهما وقد أخذ بهما فقهاء الحديث أحمد وغيره، وفيهما التصريح بكفاية التيمم للجنب الفاقد للماء، ويقاس عليه الحائض والنفساء.
(3) في التيمم عن حدث أصغر، وهو الفرض الثالث.
(4) أي الترتيب والموالاة.(1/324)
لا عن حدث أكبر أو نجاسة ببدن (1) لأن التيمم مبني على طهارة الماء (2) (ويشترط النية لما يتيمم له) (3) كصلاة أو طواف أو غيرهما (4) (من حدث أو غيره) كنجاسة على بدن فينوي استباحة الصلاة من الجنابة والحدث إن كانا أو أحدهما (5) أو عن غسل بعض بدنه الجريح ونحوه (6) .
__________
(1) أي فلا يشترط لهما ترتيب ولا موالاة.
(2) أي فيما يشترط فيه الترتيب والموالاة كالوضوء، وما لا يشترط كالغسل وعنه: سنة كما تقدم في الوضوء، لأن البدل قائم مقام المبدل، وظاهر كلام الخرقي أن الترتيب هنا سنة، لكونه ذكر الترتيب في الوضوء، ولم يذكره هنا واختاره المجد والشيخ، لأن بطون الأصابع لا يجب مسحها بعد الوجه في التيمم بالضربة الواحدة، بل يعتد بمسحها معه، واختاره في الفائق، وقال: هو قياس المذهب، وقال ابن تميم هو أولى.
(3) وعده بعضهم الفرض الخامس للتيمم قال في الفروع: والنية فرض وفاقا.
(4) كمس مصحف ولبث بمسجد وغير ذلك، وذكر غير واحد الإجماع عليه، إلا ما روي عن الأوزاعي والحسن بن صالح، وسائر العلماء على خلافهما للخبر، وقال الموفق والشارح وغيرهما: يجوز التيمم لذلك إجماعا إلا ما روي عن أبي مجلز والنصوص حجة عليه.
(5) أي حصلا منه أو أحدهما لأنه لا بد من التعيين، وعنه: يصح بنية رفع الحدث وفاقا لأبي حنيفة لقوله: فعنده مسجد وطهوره فسماه طهورا كما سمى الماء طهورا وإذا أطلق الحدث فهو الأصغر غالبا.
(6) أي تشترط النية لتيممه عن غسل ذلك العضو الجريح ونحوه كقروح وكمن به مرض إن لم يمكنه مسح الجرح بالماء بلا ضرر.(1/325)
لأنها طهارة ضرورة، فلم ترفع الحدث، فلا بد من التعيين تقوية لضعفه (1) ولو نوى رفع الحدث لم يصح (2) .
(فإن نوى أحدها) أي الحدث الأصغر أو الأكبر أو النجاسة على البدن (لم يجزئه عن الآخر) (3) لأنها أسباب مختلفة (4) ولحديث وإنما لكل امرئ ما نوى (5) وإن نوى جميعها جاز للخبر (6) وكل واحد يدخل في العموم فيكون منويًا (7) .
__________
(1) إذا قلنا إنه مبيح لا رافع، وصفة التعيين أن ينوي استباحة صلاة الظهر مثلا من الجنابة إن كان جنبا، أو من الحدث إن كان محدثا أو منهما.
(2) وعنه يصح، ويرتفع الحدث اختاره الشيخ وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، قال في الفروع: فيرتفع الحدث في الأصح لنا وللحنفية، إلى القدرة على الماء، وقال الشيخ: من قال إنه لا يطهر فقد خالف الكتاب والسنة.
(3) أي الذي لم ينوه، فلو تيمم للجنابة دون الحدث أبيح له ما يباح للمحدث من قراءة ولبث بمسجد ونحوه، لا صلاة ومس مصحف.
(4) أي فلا بد من التعيين.
(5) أي فلا يدخل غير المنوي، واختار الشيخ: يجزئه لتداخلها، وإن تيمم للجنابة وأحدث لم يؤثر في تيممه لها، وإن تيمم للجنابة والحدث ثم أحدث بطل تيممه للحدث الأصغر لا للجنابة.
(6) أي وإن نوى استباحة الصلاة من الحدث الأكبر والأصغر والنجاسة على البدن جاز لقوله: وإنما لكل امرئ ما نوى.
(7) أو نوى أحد أسباب أحدهما بأن بال وتغوط وخرج منه ريح ونحوه
ونوى واحدا منها، وتيمم أجزأ عن الجميع، أو وجد منه موجبان للغسل، ونوى أحدهما أجزأ عن الآخر، لا إن نوى أن لا يرتفع غيره، على الأصح، أو أن لا يستبيح غيره على ما ذكر.(1/326)
(وإن نوى) بتيممه (نفلا) لم يصل به فرضا، لأنه ليس بمنوي (1) وخالف طهارة الماء، لأنها ترفع الحدث (2) (أو) نوى استباحة الصلاة و (أطلق) فلم يعين فرضا ولا نفلا (لم يصل به فرضا) ولو على الكفاية (3) ولا نذرا لأنه لم ينوه (4) وكذا الطواف (5) .
__________
(1) يعني الفرض حال تيممه، ولا تابع لمنويه، فلا يصلي به إلا نفلا.
(2) أي والتيمم مبيح، وتقدم أنه رافع لقوله: فعنده مسجده وطهوره فتباح الفريضة بنية مطلقة، وبنية النافلة، قال الشيخ: وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة، وهذا قول كثير من أهل العلم، وهو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار، ومن قال: إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة، فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه، لكنه رفع مؤقت، وقال أحمد: القياس أن تجعل التراب كالماء.
(3) كصلاة جنازة وعيد، لعدم تعيينه نية الفرضية.
(4) لأن تعيين النية شرط، ولم يوجد في الفرض، وإنما أبيح النفل لأنه أقل ما يحمل عليه الإطلاق.
(5) أي ومثل الصلاة في الحكم الطواف، يعني إن نوى بتيممه نفلا لم يطف به فرضا، أو نوى وأطلق لم يطف به فرضًا ولا نذرًا.(1/327)
(وإن نواه) أي استباحة فرض (صلى كل وقته فروضا ونوافل) (1) فمن نوى شيئا استباحه ومثله ودونه (2) فأعلاه فرض عين، فنذر (3) ففرض كفاية، فصلاه نافلة فطواف نفل (4) فمس مصحف، فقراءة قرآن، فلبث بمسجد (5) (ويبطل التيمم) مطلقا (6) .
__________
(1) لأنها طهارة صحيحة أباحت فرضا، فأباحت ما هو مثله كطهارة الماء، قال في المبدع: والصحيح أنه يتنفل ثم يصليها وما شاء إلى خروج وقتها عن أي شيء تيمم، وقال البغوي: اتفقوا أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل قبل الصلاة وبعدها.
(2) أي فمن تيمم لفرض استباحة أي الفرض، ومثله كمجموعة وفائتة، ودونه كمنذورة ونافلة، لا ما فوقه لأنه لم ينوه، ولا هو تابع لما نواه.
(3) أي فأعلى ما يتيمم له فرض عين، كالصلوات الخمس، فنذر صلاة، فلو تيمم لنذر لم يصل به فرض عين وهكذا، وقال الشيخ: ظاهر كلامهم لا فرق.
(4) لم يبين محل طواف الفرض، وظاهر كلامه في المبدع يقتضي أن يكون بعد نافلة صلاة، حيث قال: ويباح الطواف بنية النافلة في الأشهر، وقال الشيخ: ولو كان الطواف فرضا، ونقل في شرح الإقناع والمنتهى عن الشرح والمبدع والشيخ أن طواف الفرض بعد صلاة النافلة، فيستبيح بنية صلاة النفل طواف الفرض.
(5) قال الشارح: وإن نوى نافلة أبيح له قراءة القرآن ومس المصحف والطواف، لأن النافلة آكد من ذلك كله، لكون الطهارة مشروطة لها بالإجماع، وينبغي أن التيمم لوطء بعد اللبث، وهل النفساء مثله أو بعده؟ وسوى بينهما في الشرح.
(6) سواء كان لصلاة أو غيرها من جنب وحائض وغير ذلك، أو عن حدث أصغر أو أكبر أو جرح أو نجاسة.(1/328)
(بخروج الوقت) أو دخوله (1) .
__________
(1) لانتهاء مدته كمسح الخفين، فلو تيمم لطواف أو جنازة أو نافلة وخرج الوقت بطل كالفريضة، وعنه: إن تيمم لجنازة ثم جيء بأخرى أجزأ، وإن كان بينهما وقت يمكنه التيمم تيمم، وقال الشيخ: لا يتيمم، لأن النفل المتواصل هنا كتواصل الوقت للمكتوبة، قال: وعلى قياسه ما ليس له وقت محدود كمس المصحف وطواف اهـ وخروج وقت الصلاة ملازم لدخول وقت الأخرى إلا في وقت الفجر، فإذا تيمم في وقت الصبح بطل بطلوع الشمس، وكذا لو تيمم بعد الشروق بطل بالزوال وعنه: أنه رافع فيصلي به إلى حدثه لأن الله شرع التيمم حال عدم الماء فقال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فتبقى الطهارة ببقائه والرسول صلى الله عليه وسلم جعل طهارة التيمم ممتدة إلى وجود الماء فقال طهور المسلم وقال: وجعلت تربتها لنا طهورا وللنسائي بسند قوي، وضوء المسلم، فكان في عدم الماء كالوضوء، ولأنها طهارة تبيح الصلاة فلا تتقيد بالوقت كطهارة الماء، واختاره أبو محمد الجوزي والشيخ وتلميذه وصاحب الفائق وغيرهم، وقال الشيخ: لا ينقض التيمم إلا ما ينقض الوضوء، والقدرة على استعمال الماء، وقال: يقوم مقام الماء مطلقًا ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده وهذا القول هو الصحيح وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله جعله مطهرا كما جعل الماء مطهرا، وقال ابن القيم: لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم التيمم لكل صلاة، ولا أمر به، بل أطلق التيمم وجعله قائما مقام الوضوء، وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكمه، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه، وكذا قال غير واحد من أهل العلم: يصلي به ما لم يحدث، كما يصلي بالماء، وقال شيخ الإسلام أيضا، التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الأخرى أعدل الأقوال، قال مالك: لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، واستحسنه شيخنا، وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم، وهو أحوط، وخروج من الخلاف، ولا مشقة فيه.(1/329)
ولو كان التيمم لغير صلاة (1) ما لم يكن في صلاة جمعة (2) أو نوى الجمع في وقت ثانية من يباح له (3) فلا يبطل تيممه بخروج وقت الأولى، لأن الوقتين صارا كالوقت الواحد في حقه (4) (و) يبطل التيمم عن حدث أصغر (بمبطلات الوضوء) (5) وعن حدث أكبر بموجباته (6) .
__________
(1) أي فيبطل بخروج الوقت، لانتهاء مدته كالمسح.
(2) فلا يبطل بخروجه، لأنها لا تقضى، وقال ابن عقيل: لا تبطل، وإن كان الوقت شرطا كما في الجمعة.
(3) أو تيمم لفائتة في وقت الأولى، وهذا بخلاف جمع التقديم، فإن تيممه يبطل بخروج وقت الأولى.
(4) وهل يبطل بمجرد السلام منهما، أو يستمر إلى الوقت الثاني؟ قال الشارح: لم أر من تعرض له، والأول أقرب.
(5) قال في الإنصاف وغيره: بلا نزاع، كخارج من سبيل، أو زوال عقل، لأنه بدل عن الوضوء فحكمه حكمه، وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه كعمامة وخف ثم خلعه لم يبطل تيممه عند أكثر الفقهاء، وقال الشارح: هو قول سائر الفقهاء، لأن التيمم طهارة لم يمسح فيها عليه، لا إن كان الحائل في محل التيمم.
(6) كالجماع، فلو تيمم الجنب لاستباحة قراءة القرآن لم يبطل تيممه بنواقض الوضوء، وإنما يبطل بما لو أجنب في الوقت، فلو تيمم للجنابة ثم أحدث صار محدثا، لا جنبا، لأن الحدث لا ينقض أصله، وهو الغسل فلا يصير جنبا، وإنما يصير محدثا بهذا الحدث العارض.(1/330)
لأن البدل له حكم المبدل (1) وإن كان لحيض أو نفاس لم يبطل بحدث غيرهما (2) (و) يبطل التيمم أيضا: (بوجود الماء) المقدور على استعماله بلا ضرر إن كان تيمم لعدمه (3) وإلا فبزوال مبيح من مرض ونحوه (4) (ولو في الصلاة) فيتطهر ويستأنفها (5) .
__________
(1) أي فيبطل البدل وهو التيمم بما يبطل المبدل، وهو الطهارة بالماء، ولو تيمم للحدث وللجنابة تيمما واحدا ثم خرج منه ريح مثلا بطل تيممه للحدث، وبقي تيمم الجنابة بحاله.
(2) كمبطلات غسل ووضوء، وأما عنهما فبحدثهما، فلو طهرت الحائض في أثناء عادتها، وتيممت لعذر لم يبطل تيممها إلا بعود الحيض في الوقت، أو بخروج الوقت.
(3) أي الماء، قال الموفق وغيره: إجماعا، لحديث أبي ذر وغيره.
(4) أي وإلا يكن تيمم لعدم الماء، وإنما تيمم لأجل مرض ونحوه كجرح بطل التيمم بزواله، لأن التيمم طهارة ضرورة فيزول بزوالها.
(5) أي يبطل تيممه بوجود الماء وهو في الصلاة، فيتطهر ويستأنفها وظاهره ولو جمعة، لأنها طهارة انتهت بانتهاء وقتها، وهذا مذهب أبي حنيفة، قال ابن رشد: وهم أحفظ للأصل، لأنه أمر غير مناسب للشرع، أن يوجد شيء واحد لا ينقض الطهارة في الصلاة، وينقضها في غير الصلاة اهـ.
وعنه يمضي فيها وهي صحيحة وفاقا لمالك والشافعي وابن المنذر وغيرهم، واختاره الآجري وغيره قال الشارح، وهو أولى لقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولقوله عليه الصلاة والسلام «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»
ولأن رؤية الماء ليست حدثا، غير أن وجوده مانع من ابتداء التيمم
وهو قد تيمم غير واجد للماء ودخل فيها بما أمر به، وحصل له
منها عمل بإحدى الطهارتين، فوجب أن لا يبطله لقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولأنه لم يثبت في سنة ولا إجماع ما يوجب قطع صلاته، قال ابن العربي: يحرم عليه ذلك، ويكون عاصيا إن فعل.(1/331)
(لا) إن وجد ذلك (بعدها) فلا تجب إعادتها (1) وكذا الطواف (2) ويغسل ميت ولو صلي عليه وتعاد (3) .
(والتيمم آخر الوقت) المختار (لراجي الماء) (4) أو العالم وجوده (5) .
__________
(1) أي الصلاة ولو كان الوقت باقيا إجماعا، حكاه ابن المنذر وغيره لحديث الذين أعاد أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وتيمم ابن عمر وصلي العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة رواه مالك وغيره، واحتج به أحمد، وذكر أبو الزناد عن أبيه عمن أدرك من الفقهاء السبعة وغيرهم أن من تيمم وصلى، ثم وجد الماء في آخر الوقت، فلا إعادة عليه، بل ولا تستحب الإعادة، لقوله: أصبت السنة.
(2) أي ومثل الصلاة فيما تقدم الطواف ويأتي.
(3) أي يغسل ميت يمم لعدم ماء وجوبا، ولو صلي عليه، ولم يدفن حتى وجد الماء، وتعاد الصلاة عليه، وإن كانت الأولى بوضوء، والمعادة بتيمم، ومن تيمم لقراءة ووطء ونحوه ثم وجد الماء استعمله، قال في الفروع: وفاقا.
(4) في الوقت بحيث يدرك الصلاة كلها قبل خروج الوقت المستحب، ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر الخرقي.
(5) فتأخير آخر الوقت أولى، قال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا، لأن الطهارة بالماء فريضة، والصلاة في أول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى، وللخروج من الخلاف، فقد قيل: لا يجوز إلا عند ضيق الوقت وهو مذهب مالك
واختاره الشيخ، وفي الاختيارات: من أبيح له التيمم فله أن يصلي به أول الوقت، ولو علم وجوده آخر الوقت، وفيه أفضلية، وقاله غير واحد من العلماء، لقوله أصبت السنة، فإن فيه من الفقه كما قال الخطابي وغيره: أن السنة تعجيل الصلاة للمتيمم أول الوقت، كالمتطهر بالماء، وهو أحد قولي الشافعي.(1/332)
ولمن استوى عند الأمران (أولى) (1) لقول علي رضي الله عنه في الجنب: (يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن وجد الماء وإلا تيمم) (2) (وصفته) أي كيفيته التيمم (أن ينوي) كما تقدم (3) (ثم يسمي) فيقول: بسم الله (4) .
__________
(1) أي استوى عنده احتمال وجود الماء وعدمه، فالتأخير أفضل من التيمم أول الوقت، وظاهر كلام الإمام أحمد أنه لو استوى الأمران عنده أن التقديم فضل، وهو أحد الوجهين، وظاهر كلام كثير من الأصحاب، وذكر في الإنصاف أنه الأولى وإن تيمم وصلى أول الوقت أجزأه بلا نزاع.
(2) يتلوم: يتأنى ويمكث وينتظر ما بينه وبين آخر الوقت المختار، فإن وجد الماء ففي الوقت المختار استعمله وإلا تيمم، وعلم منه أن التقديم لمتحقق العدم أو ظان عدم وجوده أفضل، لتحقق فضيلته دون فضيلة الوضوء، قال في الإنصاف: وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ولو جمع بين الصلاتين بتيمم ثم دخل وقت الثانية، وهو واجد الماء صحت قال غير واحد: في الأصح.
(3) أي أن ينوي استباحة ما يتيمم له كفرض الصلاة من الحدث الأصغر والأكبر ونحوه هذا المذهب، وتقدم عنه أنه يصح بنية رفع الحدث، وفاقا لأبي حنيفة للأخبار.
(4) لا يقوم غيرها مقامها للخبر، ولأنها طهارة عن حدث، فشرع اسم الله
عليها كالوضوء، والمراد كما أن النص ورد في الوضوء ألحقنا به التيمم، لا أنه بالقياس، وأن أحدا خالف في التيمم.(1/333)
وهي هنا كوضوء (1) (ويضرب التراب بيديه (2) مفرجتي الأصابع) ليصل التراب إلى ما بينها بعد نزع نحو خاتم (3) ضربة واحدة (4) .
__________
(1) يعني تجب مع الذكر، وتسقط مع السهو.
(2) أو غير التراب مما فيه غبار طهور، كلبد وبساط، أو حصير ونحوه مما تقدم، أو رمل أو سباخ ونحوهما على القول المختار.
(3) وجوبا ليصل التراب إلى ما تحته، ذكر ذلك متأخروا أصحاب الأئمة، وبعضهم ذكره سنة، وقال بعضهم: أو يحركه إن شق نزعه، ولم أره للمتقدمين ولا ورد الأمر به، وتقدم خبر ضعيف في الوضوء.
(4) على الصحيح من المذهب، وهو المسنون والواجب، قاله في الإنصاف، وفي المبدع: والمنصوص ضربة واحدة، وهي الواجب بلا نزاع، لحديث عمار قال في التيمم ضربة واحدة للوجه واليدين رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، وفي الصحيحين: ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه، وعن أبي الجهيم: وضع يديه على الجدار فمسح بوجهه وكفيه وقيل لأحمد: التيمم ضربة واحدة؟ قال: نعم للوجه والكفين، ومن قال ضربتين فإنما هي شيء زاده، يعني لا يصح، وقال الحافظ في الأحاديث الواردة في صفة التيمم: لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما ضعيف، وقال الشيخ: العمل بالضعيف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة، فإذا رغب في بعض أنواعه بخبر ضعيف عمل به، أما إثبات سنة فلا اهـ وإن مسح بضربتين بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه جاز، وتكره الزيادة عليهما لعدم وروده.(1/334)
ولو كان التراب ناعما فوضع يديه عليه وعلق بهما أجزأه (1) (يمسح وجهه بباطنهما) أي بباطن أصابعه (2) (و) يمسح (كفيه براحتيه) استحبابا (3) فلو مسح وجهه بيمينه ويمينه بيساره أو عكس صح (4) واستيعاب الوجه والكفين واجب (5) سوى ما يشق وصول التراب إليه (6) .
__________
(1) أي من غير ضرب لنعومة التراب، بكونه محكم الدق، ونشوبه في يديه بمجرد الوضع، فإن علق بيديه تراب كثير جاز نفخه، لقوله: ثم نفخ فيهما وإن كان خفيفا كره، فإن ذهب ما عليهما بالنفخ أعاد الضرب، ليحصل المسح بتراب.
(2) فإن بقي من الوجه شيء لم يصل التراب إليه أمر يده عليه.
(3) لحديث عمار، ولا يجب ذلك، لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحد على ظهر الكف، وعبارة المنتهى، ويمسح ظاهر كفيه براحتيه، والراحتان واحدتهما راحة، وهي بطن اليدن وقيل اليد كلها، وجمعها راحات.
(4) فيهما حيث استوعب محل الفرض بالمسح، ولو عكس بحيث مسح وجهه بيساره ويساره بيمينه وقال الشيخ: ولا يجب فيه ترتيب، بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين، ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك، فلا يحتاج إلى أن يمسح راحتيه مرتين.
(5) لقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ولا يوصل المسح إلى المرفقين: كما قال أحمد: من قال إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده.
(6) كالفم والأنف وباطن الشعور الكثيفة، ولا يجب مسح ما تحت الشعر الخفيف من الوجه، قطع به في المغني والشرح، وصوبه في الإنصاف.(1/335)
(ويخلل أصابعه) ليصل التراب إلى ما بينهما (1) ولو تيمم بخرقة أو غيرها جاز (2) ولو نوى وصمد للريح حتى عمت محل الفرض بالتراب (3) أو أمره عليه ومسحه به صح (4) لا إن سفته الريح بلا تصميد فمسحه به (5) .
__________
(1) قياسا منهم له على الوضوء.
(2) لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض، فكيفما حصل جاز كالوضوء.
(3) وأمره بيديه أو بشيء يتبع التراب صح، وإلا فلا، لأن مرور التراب على الوجه لا يسمى مسحا، جزم به في الفائق وغيره، واختاره الموفق وغيره، وصوبه في تصحيح الفروع.
(4) أي أمر محل الفرض على التراب ومسحه به صح، والمسح راجع إلى المسألتين إلى تصميده الأعضاء للريح، وإمراره الأعضاء على التراب، فلا بد من المسح فيهما.
(5) أي سفت الريح التراب على المحل الذي يجب مسحه في التيمم من غير نية، ويسن إتيانه بالشهادتين مع ما بعدهما إذا فرغ من تيممه، كما سبق في الوضوء.(1/336)
باب إزالة النجاسة (1)
الحكمية (2) أي تطهير مواردها (3) .
__________
(1) أي باب بيانها وبيان أحكامها، وتطهير محالها، وما يعفى عنه منها، وما يتعلق بذلك، والإزالة التنحية يقال: أزلت الشيء إزالة، زلته وزيلته زيالا، بمعنى، والنجاسة اسم مصدر، وجمعها أنجاس والنجس هو المستقذر المستخبث و (ننجس ينجس) صار قذرا خلاف طهر، وشرعا: قذر مخصوص، وهو ما يمنع جنسه الصلاة كالبول والدم والخمر، وفي الاصطلاح كل عين حرم تناولها مع إمكانه لا لحرمتها ولا استقذارها، ولا لضرر في بدن أو عقل، وحيث كانت النجاسة لغة تعم الحقيقة والحكمية، وعرفا تختص بالأولى، فسرها الشارح بالحكمية وقدموا (باب إزالة النجاسة) على (باب الحيض والنفاس) مع أنهما من موجبات الغسل فلهما تعلق بما قبل من طهارة الحدث، وهم لا يقطعون النظير عن نظيره إلا لنكتة لأن إزالة النجاسة واجبة على الذكر والأنثى، والطهارة من الحيض والنفاس خاصة بالأنثى وما كان مشتركا بينهما فالاعتناء به أشد مما هو مختص بالأنثى.
(2) أي الطارئة على عين طاهرة، وهي التي يمكن تطهيرها، احترازا عن العينية، وهي كل عين جامدة يابسة أو رطبة أو مائعة فإنها لا تطهر بحال، وإنما شرع تطهير ما طرأ عليها وسميت عينيه لأنها تدرك بحاسة البصر، وإن لم تكن مختصة به، تطلق على الإدراك بالشم والذوق، وهي منحصرة في الحيوان وما تولد من فضلاته وميتته وسميت الحكمية حكمية لأنها لا تدرك بحاسة من الحواس الخمس، فلا يشاهد لها عين، ولا يدرك لها طعم ولا رائحة، مع وجود ذلك فيها تحقيقا أو تقديرا.
(3) أي موارد النجاسة على عين طاهرة، ولا يجوز إزالة النجاسة بغير الماء
على المذهب قال الخطابي: إنما تزال النجاسة بالماء دون غيره من المائعات، وهو قول الجمهور اهـ وإزالتها بالماء هو الأصل في التطهير، لوصفه به في الكتاب والسنة، فتزول بالماء حسا وشرعا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين وبالنص والإجماع، وأما القول بتعيينه وعدم الاجتزاء بغيره، فيرده حديث مسح النعل وغيره، ولم يأت دليل يقضي بحصر التطهير بالماء، وعنه: تزال بكل مائع طاهر مزيل للعين والأثر، أشبه الماء كالخل وماء الورد، اختاره ابن عقيل والشيخ صاحب الفائق، وفاقا لأبي حنيفة، وأما ما لا يزيل كاللبن والدهن فلا خلاف أن النجاسة لا تزال به.(1/337)
(يجزئ في غسل النجاسات كلها) (1) ولو من كلب أو خنزير (2) (إذا كانت على الأرض) وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور (3) (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة) (4) .
__________
(1) أي الحكمية مائعة كانت أو ذات جرم، لإمكان تطهيرها، لا العينية وقال الشافعي: إزالة النجاسة فرض، ما عدا ما يعفى عنه منها، وقال مالك: ليس بفرض، والأحاديث حجة عليه، كحديث صاحبي القبرين، والأمر بالاستجمار.
(2) وهو حيوان سمج الشكل خبيث قذر في الغاية: قيل: إنه حرم على لسان كل نبي.
(3) أي بالأرض من الحيطان جمع حائط اسم فاعل، سمي به لأنه يحوط ما فيه، والأحواض جمع حوض مجمع الماء، والصخور جمع صخر الحجر الصلب، ومنها الأجرنة الصغار المبنية أو الكبار مطلقا، والأجرنة جمع جرن بالضم منقورة يتوضأ منها.
(4) بماء طهور لأمره صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي، وغير ذلك، ولم يشترط لتطهيرها عدد لأنها مصاب الفضلات.(1/338)
ويذهب لونها وريحها (1) فإن لم يذهبا لم تطهر، ما لم يعجز (2) وكذا إذا غمرت بماء المطر والسيول (3) لعدم اعتبار النية لإزالتها (4) وإنما اكتفي بالمرة دفعا للحرج والمشقة (5) .
__________
(1) بمكاثرتها بالماء وعليها، ولو لم ينفصل الماء الذي غسلت به، لأنه عليه الصلاةوالسلام لم يأمر بإزالة الماء عنها.
(2) أي فإن لم يذهب لون النجاسة وريحها لم تطهر ما لم يعجز عن إزالتهما أو إزالة أحدهما، فتطهر كغير الأرض، لحديث أبي هريرة أن خولة قالت يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، قال: إذا تطهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه، قالت: يا رسول الله إن لم يخرج أثره، قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره، رواه أحمد وغيره، قال في المبدع: وإن كان مما لا يزال إلا بمشقة سقط كالثوب.
(3) أي غمرت النجاسة التي على الأرض وما اتصل بها بذلك، وبالثلوج ونحو ذلك، من غمره الماء يغمره غمرا، علاه وغطاه.
(4) أي النجاسة، وحكى البغوي وغيره إجماع المسلمين على أن إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية، وقال الشيخ: طهارة الخبث، من باب التروك، لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة المتبعة وغيرهم، بل لو زال الخبث بأي طريق كان حصل المقصود، فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها، لكن إذا زال الخبث بفعل العبد ونيته أثيب على ذلك.
(5) أي بالغسلة الواحدة من غير اعتبار عدد، دفعا للحرج، أي الضيق، والمشقة أي الصعوبة والعناء والجهد.(1/339)
لقوله صلى الله عليه وسلم «أريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء» متفق عليه (1) فإن كانت النجاسة ذات أجزاء متفرقة كالرمم والدم الجاف والروث (2) واختلطت بأجزاء الأرض لم تطهر بالغسل (3) بل بإزالة أجزاء المكان (4) بحيث يتيقن زوال أجزاء النجاسة (5) (و) يجزئ في نجاسة (على غيرها) أي غير أرض (6) (سبع) غسلات (7) .
__________
(1) من حديث أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فقال: دعوه وأريقوا: أي صبوا وفي لفظ: أهريقوا، وفي لفظ: هريقوا على بوله سجلا، بفتح المهملة وسكون الجيم الدلو لملآي، ويجمع على سجال، أو ذنوبا من ماء، والذنوب الدلو العظيمة المملوءة ماء، قال الحافظ: على الترادف أو الشك من الراوي، وإلا فهي للتخيير والأول أظهر وفي الصحاح: السجل الدلو إذا كان فيه الماء وإن ملئت فهو ذنوب، ودلو بدونهما.
(2) أي النجس، والرمم جمع رمة بالضم والكسر، واقصر عليه الجوهري العظام البالية إذا كانت تجسة.
(3) لأن عين النجاسة لا تنقلب.
(4) أي الذي أصابته النجاسة.
(5) وذلك لا يحصل إلا بزوال عينها، وإن بادر البول، ونحوه وهو رطب فقلع التراب الذي عليه أثره فالباقي طاهر، وإن جف فأزال ما عليه الأثر من التراب فلا، إلا أن يقلع ما يتيقن به زوال ما أصابه البول ونحوه.
(6) ونحوها كصخر وحيطان.
(7) منقية وإلا فيزيد حتى ينقي النجاسة.(1/340)
(إحداها) أي إحدى الغسلات، والأولى أولى (1) .
(بتراب) طهور (2) (في نجاسة كلب وخنزير) وما تولد منهما أو من أحدهما (3) لحديث: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب» ، رواه مسلم، عن أبي هريرة مرفوعا (4) .
__________
(1) أي بأن يجعل التراب فيها، لكثرة رواتها وحفظهم، وليأتي الماء بعده فينظفه جزم به في المغني والشرح وغيرهما، وصوبه، في الإنصاف.
(2) لا طاهر قياسا منهم له على الماء، وتقدم في قوله: طيبا أي طاهر ضد النجس.
(3) أو شيء من أجزائهما أو أجزاء ما تولد منهما، وهما نجسان وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، وحكى ابن المنذر وغيره الإجماع على نجاسة الخنزير اهـ وما تولد منهما نجس، وسؤرهما وسؤر ما تولد منهما نجس، وعرقه وكل ما خرج منه، لا يختلف المذهب فيه، قاله الشارح، وقال الزركشي: جميع فضلاته نجسة وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورجح الشيخ طهارة شعورهما، قال: فإذا كان رطبا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه كما هو مذهب جمهور الفقهاء أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وفي النكت للنووي على التنبيه على قوله: وماتولد منهما قال: فقال بعض الناس، لو قال: وما تولد من أحدهما كان أصوب وأعم، وليس المراد كما توهم القائل، بل معنى قوله: وما تولد منهما، على سبيل البدل، تارة يتولد من الكلب وحيوان آخر أي حيوان كان وتارة يتولد من الخنزير وحيوان آخر أي حيوان كان، لا أن المراد بالمتولد منهما أن يكون منحصرا في ولد الكلب من الخنزير أو بالعكس اهـ وعليه فلا حاجة لقوله: أو من أحدهما.
(4) ورواه البخاري وغيره. وفي رواية لمسلم ثم ليغسله سبع مرات، وله
أيضا طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب قال الحافظ: ولغ يلغ بالفتح إذا شرب بطرف لسانه فحركه، وقال ثعلب: هو أن يدخل لسانه في الماء أو غيره من كل مائع فيحركه، وقاله ابن الأعرابي وغيره، وقال صاحب المطالع: الشرب أعم من الولوغ، فكل ولوغ شرب ولا عكس، وقال أبو زيد: ولغ الكلب بشرابنا ومن شرابنا: وقال الشيخ: يلغ بلسانه شيئا فشيئا فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه فيكون محمولا، والماء يسيرا فيراق لأجل كون الخبث محمولا، ويغسل الإناء الذي لاقى ذلك الخبث، قال النووي: ومذهب الجماهير أنه ينجس ما ولغ فيه، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري، والخنزير حكمه حكم الكلب في هذا كله، عند جماهير العلماء، إلا أنه لا يفتقر إلى غسله سبعا، وهو قوي في الدليل اهـ وأصل الغسل معقول المعنى، وهو غسل النجاسة، وظاهر الخبر وغيره العموم في الآنية ونحوها كالثياب والفرش، لا الأرض وما اتصل بها فتكاثر، وقال العراقي: خرج مخرج الغالب لا للتقييد اهـ، وفيه دلالة ظاهرة على وجوب الغسلات السبع من ولوغ الكلب، وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين، إلا أبا حنيفة وأصحابه، فحملوا السبع على الندب، وأما الخنزير فهو شر من الكلب لنص الشارع على تحريمه وحرمة اقتنائه وتقدم أنه خبيث قذر حرم على لسان كل نبي، فالحكم فيه من طريق التنبيه، وإنما لم ينص الشارع عليه والله أعلم، لأن العرب لم يكونوا يعتادونه، بخلاف الكلب، ومن منع قياسه على الكلب فلعدم ثبوت العلة، فالوقوف مع النص أولى، وفي نجاسة ولوغ الكلب من اللزوجة ما لا يوجد في غيره، وقال النووي: الراجح من حيث الدليل أنه يكفي في الخنزير غسلة واحدة بلا تراب، وبهذا قال أكثر العلماء، وهو المختار، لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع، ومالك يقول بطهارته حيا، وليس لنا دليل على نجاسته في حال حياته، وقال أبو حنيفة: يغسل كسائر النجاسات.(1/341)
ويعتبر ما يوصل التراب إلى المحل (1) ويستوعبه به (2) إلا فيما يضر فيكفي مسماه (3) (ويجزئ عن التراب أشنان (4) ونحوه) كالصابون والنخالة (5) .
__________
(1) وفي بعض النسخ: مائع والمراد الماء كما نبه عليه الحجاوي، وعبارة الإقناع، ويعتبر مزجه بماء يوصله إليه، فلا يكفي مائع غير الماء اهـ، ولا يكفي ذر التراب، وفي الفروع، يحتمل أن يكفي ذره، ويتبعه الماء، وهو ظاهر كلام جماعة، قال: وهو أظهر، وصوبه في الإنصاف، ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب، أو التراب على الماء، أو يؤخذ الماء الكدر فيغسل به، فالمراد خلط التراب بالماء حتى يتكدر.
(2) أي ويعم المحل به بأن يمر التراب مع الماء على جميع أجزاء المحل المتنجس صرح به أبو الخطاب.
(3) أي أقل شيء يسمى ترابا يوضع في ماء إحدى الغسلات، وتقدم أن الأولى أولى.
(4) بضم الهمزة وكسرها، فارسي معرب، وهمزته أصلية، وهو بالعربية حرض، تغسل به الأيدي على إثر الطعام، وقال أبو زياد: هو دقاق الأطراف، وشجرته ضخمة وهو الذي يغسل الناس به الثياب، قال: ولم نر أنقى وأشد بياضا من حرض ينبت باليمامة.
(5) الصابون معرب سابون بالفارسية، مطبوخ مركب من الزيت والقلي، يغسل به القطعة منه صابونة والنخالة هي ما بقي في المنخل مما ينخل من شعير وبر وغيرهما، وهي قشرة لابسة للحبوب، تستخرج بالقشر والطحن، وليست من المطعوم إلا للبهائم، فيجوز استعمالها في غسل نحو الأيدي، وكذا استعمال ملح، وبطيخ، وباقلا وغيرها مما لو قوة الجلاء، واختاره الشيخ وغيره، لحديث الغفارية وغيره، وقال الخطابي وغيره، فيه جواز استعمال الملح وهو مطعوم، فيجوز غسل الثوب بالعسل والخل اهـ ولأن الصابون والنخالة ونحوهما أبلغ في الإزالة من التراب، جزم به وصححه غير واحد، قال الشيخ: وهو أقوى لوجوه، والنص على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه.(1/343)
ويحرم استعمال مطعوم في إزالتها (1) .
(و) يجزئ (في نجاسة غيرهما) أي غير الكلب والخنزير أو ما تولد منهما أو من أحدهما (2) (سبع) غسلات (3) بماء طهور (4) ولو غير مباح (5) إن أنقت، إلا فحتى تنقي (6) مع حت وقرص لحاجة (7) .
__________
(1) كدقيق لأن فيه إفسادا للطعام المحتاج إليه، قاله الشيخ، قال في الفروع: ويؤخذ من كلام غيره معناه، وقاله أبو البقاء وغيره، وفي المستوعب: يكره أن يغسل جسمه بشيء من الأطعمة، مثل دقيق الحمص والعدس والباقلا ونحوه.
(2) وغير أجزائهما وأجزاء ما تولد منهما.
(3) هذا المشهور وعنه ثلاث وعنه تكاثر بالماء حتى تذهب عينها ولونها، من غير عدد وفاقا، لقوله صلى الله عليه وسلم اغسليه بالماء، ولم يذكر عددا وقال في دم الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء، ولم يذكر عددا واختاره الشيخ، وحكاه هو وغيره عن جمهور العلماء.
(4) لأنها طهارة مشترطة فأشبهت طهارة الحدث، وتقدم قول الشيخ: إن الخبث إذا زال بأي طريق كان حصل المقصود.
(5) أي ولو كان الماء الذي يزال به النجاسة مغصوبا، لأن إزالتها من التروك التي لا تحتاج إلى نية.
(6) أي إن أنقت المحل المتنجس، فإن لم تنق المحل المتنجس زاد حتى تنقي المحل في كل النجاسات.
(7) إلى ذلك ولو في كل مرة، إن لم يتضرر المحل بالحت أو القرص فيسقط
والحت أن يحك بعود أو حجر، والحت والحك والقشر سواء، والقرص الدلك بأطراف الأصابع والأظفار، دلكا شديدا، ليتحلل بذلك، ويخرج به ما تشرب الثوب ونحوه منه، مع صب الماء عليه، حتى تزول عينه وأثره، وبابهما قتل، وقال النووي: اقرصيه قطعيه واقلعيه بظفرك.(1/344)
وعصر مع إمكان كل مرة خارج الماء (1) فإن لم يمكن عصره فبدقه وتقليبه (2) أو تثقيله كل غسلة (3) حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء (4) .
__________
(1) أي ومع عصر لاستخراج ما فيه، مع إمكان العصر كل مرة من الغسلات يعصره خارج الماء ليحصل انفصال الماء عنه، وعصر الثوب: استخرج ماءه بليه، وإلا فغسله واحدة يتمم عليها ما بقي، ويطهر وفاقا، وقيل: يطهر وإن عصره داخل الماء، وصوبه في تصحيح الفروع.
(2) فيما يمكن تقليبه ولا يمكن عصره، كجلد بعير، أو يضره العصر كحرير، فبرفعه من الماء مع إمرار اليد عليه.
(3) مما يفصل الماء عنه، فالمغسولات على ثلاثة أنحاء: ما يمكن عصره فلا بد من عصره، والثاني ما لا يمكن عصره ويمكن تقليبه فلا بد من تقليبه، والثالث ما لا يمكن عصره ولا تقليبه فلا بد من دقه وتثقيله، وعصر كل ثوب ونحوه على قدر الإمكان، بحيث لا يخاف عليه الفساد، وما يمكن عصره إذا غسل في غدير أو صب عليه ماء كثير أو جرى عليه الماء طهر مطلقا بلا شرط عصر.
(4) دفعا للحرج والمشقة، ولقيامه مقام العصر لتعذره، ولا يكفي تجفيفه بدل العصر، ولا يعتبر في العدد تحريكه في الماء وخضخضته على القول بالعدد والعصر، ويكفي على القول بالاجتزاء بأي طريق زال به الخبث، سواء كان بتحريكه أو خضخضته أو تمر عليه الجرية، ونحو ذلك مما تزول به النجاسة، لحصول المقصود.(1/345)
ولا يضر بقاء لون أو ريح أو لهما عجزا (1) (بلا تراب) لقول ابن عمر: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا (2) فينصرف إلى أمره صلى الله عليه وسلم قاله في المبدع وغيره (3) .
__________
(1) أي عن إزالتهما للمشقة، ويحكم بطهارة المحل على الصحيح من المذهب وفاقا، لقوله ولايضرك أثره، وذكر الشيخ وغيره: أو يغير المحل، ويضر بقاء الطعم، لدلالته على بقاء العين، ولسهولة إزالته، ومن صور بقاء اللون المعجوز عن إزالته ما لو صبغ الثوب في نجاسة ثم غسل، فإنه يطهر ولا يضر بقاء اللون، لأنه عرض والنجاسة لا تخالط العرض، والماء يخالط العين، فإذا زالت العين التي هي محل النجاسة زالت النجاسة بزوالها، جزم به في الفصول وغيره.
(2) كذا ذكره صاحب المبدع وغيره، وذكر القاضي أنه رواه أبو موسى عنه.
(3) لو صح لأن هذه الصيغة في اصطلاح أهل الحديث من الصيغ التي لها حكم الرفع على الصحيح، قاله الحافظ وغيره، وصاحب المبدع هو برهان الدين إبراهيم بن محمد الأكمل المتوفى سنة 884 هـ.
والمبدع من أنفع شروح المقنع للمتوسطين، وعن أحمد: لا يجب فيه عدد، اختاره الموفق وغيره اعتمادا على أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، لا من قوله ولا من فعله، وأخرج أبو داود وغيره عن ابن عمر: كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرار، وغسل الثوب من البول سبع مرار، ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى كانت
الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة وغسل الثوب من البول مرة، وإطلاق الأحاديث الصحيحة المشهورة كغسل دم الحيض، وقوله: صبوا عليه ذنوبا، وغير ذلك مشهور، وقال النووي وغيره: الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام، فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من العلماء، وأما فعل كثير من الفقهاء ذلك، واعتمادهم عليه، فليس بصواب، بل قبيح جدا، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به، ولعل نقلهم هذا الخبر ونحوه على هذه الصفة سهو، وإلا فهو نص على الاجتزاء بالمرة الواحدة.(1/346)
وما تنجس بغسلة يغسل بعدد ما بقي بعدها (1) مع تراب في نحو نجاسة كلب إن لم يكن استعمل (2) (ولا يطهر متنجس) ولو أرضا (بشمس ولا ريح) (3) .
__________
(1) أي ما تنجس بإصابة ماء غسلة، يغسل بعدد ما بقي بعد تلك الغسلة، لأنها نجاسة تطهر في محلها من الغسلات، فطهرت به في مثله، فما تنجس برابعة مثلا غسلها ثلاثا، وهكذا.
(2) أي التراب قبل تنجس الثاني، فإن كان استعمل لم يعد في نحو نجاسة كلب وخنزير وما تولد منهما.
(3) بل بغسل لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بغسل بول الأعرابي، ولو كان ذلك يطهر لاكتفى به، و (لو) إشارة إلى أنه محل خلاف، وعنه: تطهر إذا لم يبق أثر النجاسة بها وفاقا، لأبي حنيفة وغيره، واختاره المجد وغيره.
قال الشيخ: وهو الصواب، ويجوز التيمم عليها، بل تجوز الصلاة عليها بعد ذلك، ولو لم تغسل، ويطهر غيرها بالشمس والريح أيضا نص عليه، والأمر بالصب على بول الأعرابي يحصل به تعجيل تطهير الأرض، فإذا لم يصب الماء عليها فإن النجاسة تبقى إلى أن تستحيل وفي الصحيح أن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك، كذا أثبته الشيخ في رسائله، وذكره التركماني في بعض نسخ البخاري.
وقيل: ليس في الصحيح وتبول، ولو كانت النجاسة باقية لوجب غسله، فحيث استحالت لم تحتج إلى غسل، وحديث غسل بول الأعرابي عقب بوله، والنجاسة ظاهرة، فإذا ذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب
الأكثر طهارة الأرض، وجواز الصلاة عليها، هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد، والقول القديم للشافعي، وهذا القول أظهر، جزم به الشيخ وغيره، ولم يرد نص بغسل كل ما قد كان تنجس على سبيل التعبد.(1/347)
ولا دلك) ولو أسفل خف أو حذاء (1) أو ذيل امرأة (2) ولا صقيل بمسح (3) .
__________
(1) الدلك المرس والدعك، ودلك الشيء: مرسه ودعكه، والنعل بالأرض مسحها، والخف واحد الخفاف معروف والحذاء بكسر الحاء المهملة والمد، وبالذال المعجمة النعل، أي لا يطهر ذلك بالدلك هذا المشهور من المذهب، وعنه: يطهر بالدلك وفاقا لأبي حنيفةوغيره، واختاره الموفق والشارح والشيخ وجماعة، للأخبار، قال في الفروع: وهي أظهر، وفي السنن وغيرها من أوجه فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور وتباح الصلاة فيه قولا واحدا بل هو سنة، ومن وطئ رطوبة بليل لم يلزمه غسلها، ولا شمها صرح به ابن القيم وغيره، ويعفى عن يسير النجاسة على أسفل الخف أو الحذاء بعد الدلك، على القول بنجاسته قطع به الأصحاب.
(2) ذيل كل شيء آخره، وذيل المرأة كل ثوب تلبسه إذا جرته على الأرض من خلفها، أي لا يطهر وهو المذهب وفاقا للشافعي، وعنه يطهر وفاقا لأبي حنيفة ورواية عن مالك، لحديث يطهره ما بعده رواه أهل السنن وغيرهم، وقال شيخ الإسلام: هو كالخف والحذاء، والسنة قد جاءت بالأمر بالماء في قوله: اغسليه بالماء وقوله: صبوا على بوله، فأمر بالإزالة بالماء في قضايا معينة، ولم يأمر أمرا عاما بأن تزال النجاسة بالماء، وقد أذن بإزالتها بغير الماء في مواضع: منها الاستجمار، ومنها قوله في النعلين: ثم ليدلكها بالتراب فإن التراب لهما طهور، ومنها قوله في الذيل، يطهره ما بعده، وهذا القول هو الصواب، وجوده الزركشي وغيره.
(3) أي لا يطهر به صقيل كسيف ومرآة وزجاج وسكين بدون غسل # فلوقطع به قبل غسل ما فيه بلل كبطيخ نجسه، ورطبا بلا بلل فيه كجبن فلا بأس، وقال الشيخ: تطهر الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة ونحوهما إذا تنجست بالمسح واختاره أبو الخطاب وغيره، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ونقل عن أحمد مثله في السكين من دم الذبيحة.(1/348)
(ولا) يطهر متنجس بـ (استحالة) (1) فرماد النجاسة ودخانها وغبارها وبخارها (2) .
__________
(1) لنهيه عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها لأكلها النجاسة، وعنه يطهر وفاقا للجمهور أبي حنيفة وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك، ووجه في مذهب الشافعي، قال الشيخ: والرواية صريحة في التطهير بالاستحالة، وهو الصحيح في الدليل، ولا يدخل في نصوص التحريم لا لفظا ولا معنى، ولا ينبغي أن يعبد بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس، وإن كان مستحيلا منه، كما أن الماء ليس هو الزرع، والاستحالة استفعال من حال الشيء عما كان عليه زال، وذلك مثل أن تغير العين النجسة ونحو ذلك، وقال: قول من قال: الاستحالة لا تطهر، فتوى عريضة مخالفة لإجماع المسلمين.
(2) نجس، فالرماد من الروث النجس نجس، والصابون عمل بزيت نجس نجس، وتراب جبل بروث حمار ونحوه نجس، ولو احترق كالخزف، وعنه طاهر وفاقا لأبي حنيفة وغيره، وإحدى الروايتين عن مالك، قال الشيخ: والصواب الطهارة في الجميع، فإن التنجيس والتحريم يتبع الاسم والمعنى الذي هو الخبث وكلاهما منتف، وليس في هذه من النجاسة شيء، وقال: وأما دخان النجاسة فمبني على أصل، وهو أنه هل تطهر العين النجسة إذا استحالت؟ وفيه قولان للعلماء أحدهما لا تطهر، كقول الشافعي، والآخر تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك في أحد القولين، وإحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب أهل الظاهر وغيرهم
وهو الصواب المقطوع به، فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم لا لفظا ولا معنى، فهي من الطيبات، والنص والقياس يقتضي تحليلها، فليست محرمة، وعلى أصح القولين فالدخان والبخار المستحيل عن النجاسة طاهر، لأنه أجزاء هوائية ونارية ومائية، وليست في شيء من وصف الخبث.(1/349)
ودود جرح (1) وصراصر كنف (2) وكلب وقع في ملاحة فصار ملحا (3) ونحو ذلك نجس (4) .
(غير الخمرة) إذا انقلبت بنفسها خلا (5) .
__________
(1) نجس لاستحالته عن الدم والدودة دويبة صغيرة مستطيلة كدودة القز.
(2) نجس لاستحالته عن النجاسة، والصراصر جمع صرار، دويبة تنشأ من الكنف ونحوها.
(3) أي وقع في الملاحة بالتشديد فاستحال ملحا نجس.
(4) أي نحو ما تقدم كالدم يستحيل قيحا فنجس، وعنه طاهر، وقال الشيخ: الصواب أن ذلك كله طاهر إذا لم يبق شيء من أثر النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها فإذا كانت العين ملحا أو خلا دخلت في الطيبات التي أباحها الله، وما سقي أو سمد بنجس من زرع وغيره طاهر مباح اهـ وجزم به في التبصرة، ولا يسع الناس العمل بغيره، قال غير واحد، وعليه عمل الناس قديما وحديثا، وفاقا للأئمة الثلاثة، قال الشيخ: ويجوز الانتفاع بالنجاسات، وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره، وهو قول الشافعي وأومأ إليه أحمد.
(5) من غير معالجة فتطهر قال الموفق والشيخ وغيرهما: بإجماع المسلمين لأنه لا يريد تخليلها وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في حلها مفسدة اهـ والخمر يذكر ويؤنث، اسم لكل مسكر خامر العقل، وخمرة وخمر وخمور، كتمرة وتمر وتمور، وسميت خمرة لأنها تركت فاختمرت
واختمارها تغيرها وقيل لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تخامره أي تخالطه، وهي رجس كما في الآية، وحكى أبو حامد وصاحب المبدع وغيرهما الإجماع على نجاستها، لكن خالف الليث وربيعة وداود، وقال ابن رشد: اتفق المسلمون على نجاسة الخمر إلا خلاف شاذ اهـ وخللت تخليلا حمضت وفسدت، وخلل شراب فلان إذا فسد وصار خلا.(1/350)
أو بنقل لا لقصد تخليل (1) ودنها مثلها (2) لأن نجاستها لشدتها المسكرة وقد زالت (3) كالماء الكثير إذا زال تغيره بنفسه (4) والعلقة إذا صارت حيوانا طاهرا (5) .
__________
(1) أي انقلبت خلا بنقل من دن إلى آخر، أو من ظل إلى شمس فتطهر كما لو انقلبت بنفسها، لا إن نقلت لقصد التخليل، للخبر الآتي وغيره، وأصل التخليل من إدخال الشيء في خلال الشيء، وتخليل الخمر معالجتها بطرح شيء فيها كالملح.
(2) أي دن الخمرة بفتح الدال جمعه دنان، كسهم وسهام، كهيئة الحب، وهو وعاؤها مثلها في الحكم، طهارة ونجاسة، إذا كان مستجنسا بها، لا قبل، وكمحتفر في أرض فيه ماء كثير تغير بنجاسة ثم زال تغيره بنفسه فيطهر هو ومحله.
(3) أي لأن علة النجاسة لأجل شدتها المسكرة الحادثة وقد زالت، وهي غير نجاسة خلقة فطهرت بزوال تلك النجاسة الحادثة إلى الطهارة.
(4) فطهر هو ومحله، والخمر نجاستها لأمر زال بالانقلاب فطهرت بزوال ذلك، بخلاف النجاسات العينية.
(5) أي وغير العلقة إذا خلق منها آدمي، أو حيوان طاهر فإنها تصير طاهرة بعد أن كانت نجسة، وهي أولى بالعفو من غيرها، والتحقيق ما تقدم في قول الشيخ: أن كل ما استحال إلى الطيبات طهر، والعلق الدم الغليظ، والقطعة منه علقة.(1/351)
(فإن خللت) أو نقلت لقصد التخليل لم تطهر (1) والخل المباح أن يصب على العنب أو العصير خل قبل غليانه حتى لا يغلي (2) ويمنع غير خلال من إمساك الخمرة لتخلل (3) .
__________
(1) بالغسل وفاقا للشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الخمر تتخذ خلا قال: (لا) رواه مسلم وغيره عن أنس، وقال عمر، لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، وثبت عن طائفة من الصحابة، قال ابن القيم، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف اهـ.
وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، فلا يكون سببا للحل، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها داء وليست بدواء، إبعادا عن اصطناعها الداعي إلى شربها، وخصها دون غيرها من المطاعم بالحد، لقوة محبة الأنفس لها.
(2) نقله الجماعة، وقيل له: فإن صب عليه خل فغلى؟ قال: يهراق اهـ وقيل أن تمضي عليه ثلاثة أيام حتى لا يستحيل أولا خمرا، وكذا إذا عصر على العنب أترج أو خل منعه من الغليان، وكذا اللبن الحامض جدا، والخل مصدر، وما حمض من عصير العنب وغيره، وأجوده خل الخمر، تركب من جوهرين حار وبارد، نافع للمعدة واللثة والقروح والحكة وغيرها، وفي الحديث نعم الإدام الخل، وسمي خلا لأنه اختل من طعم الحلاوة.
(3) أي يمنع غير صانع الخل وبائعه، ويراق خمره في الحال، فإن خالف وأمسك فصار خلا بنفسه طهر، وأما الخلال فلا يمنع لئلا يضيع عليه ماله، والقول الثاني يراق كغيره، وقال شيخ الإسلام: أظهرهما وجوب إراقته، فإنه ليس في الشريعة خمرة محترمة، لأمره صلى الله عليه وسلم بإراقة خمر اليتامى اهـ وإنما حرم إمساكها للتخليل، لئلا يتخذ ذريعة إلى إمساكها للشرب وعن شرب العصير بعد ثلاث وعن الإنتباذ في الأوعية التي قد يتخذ النبيذ فيها ولا يعلم به حسما لمادة
قربان المسكر، ومتابعة للسنة المأثورة لأنها مظنة ظهور الشدة غالبا، وقد صرح الشارع بالعلة في تحريم القليل، فقال: لو رخصت لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه، والعلة في تحريمها: المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وقد تواتر تحريمها فلا يرده إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل.(1/352)
(أو تنجس دهن مائع) (1) أو عجين (2) .
__________
(1) لم يطهر بالغسل ولو كثر، وحد المائع بحيث يسيل لو فتح فم الزق، وقيل: بحيث لا تسري فيه النجاسة، وعنه: أن المائع كالماء لا ينجس إلا بالتغير، قال الشيخ: بل أولى بعدم التنجيس من الماء، وهو الأظهر في الأدلة الشرعية بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجيس الأشربة والأطعمة، ولذا لم يأمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الأطعمة والأشربة، وفي تنجيسها من الحرج والضيق ما لا يخفى، والفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، وإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير، فكذلك الصواب في المائعات، ومن تدبر الأصول المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وقال وبالجملة فلم أعلم إلى ساعتي هذه لمن ينجس المائعات الكثيرة بوقوع النجاسة فيها إذا لم يتغير حجة يعتمد عليها المفتي فيما بينه وبين الله عز وجل، وقال ابن القيم: إذا لم تتغير بالنجاسة لم تنجس، وهو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول، فإن الله أباح الطيبات وحرم الخبائث، والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قائمة به، فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها، فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم، وخلفه ضده، فهذا هو محض القياس والمعقول، فإذا زال التغير عاد طيبا، والدليل على أنه طيب الحس والشرع.
(2) أي أو تنجس عجين لم يطهر بالغسل، لأنه لا يمكن غسله، والعجين ما يعجن من الدقيق بالماء، فعيل بمعنى مفعول، من: عجن الدقيق ونحوه يعجنه عجنا
اعتمد عليه بجميع كفه يغمزه، وقال الشيخ وغيره: يطهر السمن الجامد والعجين بقلع وجهه، والتمر بالغسل، وذكر أن طائفة من أصحاب الأئمة رأوا غسل الدهن النجس، وهو خلاف قول الأئمة الأربعة.(1/353)
أو باطن حب (1) أو إناء تشرب النجاسة (2) أو سكين سقيتها (لم يطهر) (3) لأنه لا يتحقق وصول الماء إلى جميع أجزائه (4) .
وإن كان الدهن جامدًا ووقعت فيه نجاسة ألقيت وما حولها والباقي طاهر (5) .
__________
(1) أي أو تنجس باطن حب تشرب نجاسة من أي أنواع الحبوب لم يطهر بالغسل، لأنه لا يستأصل أجزاء النجاسة مما ذكر، وما لم يتشرب النجاسة يطهر بمرور الماء عليه وانفصاله.
(2) أي أو تنجس إناء تشرب النجاسة لم يطهر بالغسل.
(3) أي أو تنجست سكين سقيت النجاسة وهو بأن تعالج بأدوية وتغمس في الماء النجس وأما إحماؤها في النار، ثم غمسها في ماء نجس ونحوه فإطفاء لها، فتطهر بالغسل، فإن غمست أو طبخ لحم بماء نجس كفى غسلهما ولم يحتج إلى غسل السكين وإغلاء اللحم مع عصره، وقال الشيخ في سكين القصاب: لا تحتاج إلى غسل، فإن غسل التي يذبح بها بدعة.
(4) أي أجزاء ما تنجس مما ذكر.
(5) لحديث أبي هريرة ألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه، رواه أبو داود، والجامد هو القائم اليابس ضد الذائب، أو هو الذي إذا أخذ منه قطعة لا يتراد من الباقي، ما يملأ محلها عن قرب، والمائع بخلافه، قال شيخ الإسلام: عمل بهذا اللفظ بعض العلماء لظنهم صحته، وهو باطل، ولو اطلع الإمام أحمد على العلة القادحة فيه لم يقل به لأنه من رواية معمر، وهو كثير الغلط باتفاق أهل العلم وقوله: «فلا تقربوه» متروك عند السلف والخلف من الصحابة والتابعين: وقال البخاري وغيره: خطأ وقال ابن القيم: غلط من معمر من عدة وجوه: ويكفي أن الزهري قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر، وسأل عن هذه المسألة فأفتى بأنها يلقى ما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير، واستدل بالحديث، فهذه فتياه وهذا استدلاله وهذه رواية الأمة عنه، فقد اتفق على ذلك النص والقياس، ولا يصلح للناس سواه، وما سواه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده اهـ وفي الصحيح وغيره عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فقال: ألقوها وما حولها وكلوه، قال شيخ الإسلام: إذا وقعت فأرة في دهن مائع ولم يتغير بها ألقيت وما قرب منها، ويؤكل ويباع في أظهر قولي العلماء.(1/354)
فإن اختلط ولم ينضبط حرم (1) .
(وإن خفي موضع نجاسة) في بدن أو ثوب أو بقعة ضيقة (2) وأراد الصلاة (غسل) وجوبا (3) (حتى يجزم بزواله) أي زوال النجس لأنه متيقن، فلا يزول إلا بيقين الطهارة (4) .
__________
(1) أي فإن اختلط النجس بالطاهر، ولم ينضبط النجس حرم الأكل، تغليبا لجانب الحظر، وإن وقع في مائع سنور أو فأرة ونحوهما مما ينضم دبره إذا وقع فخرج حيا فطاهر، وكذا في جامد، وإن مات فيه، أو حصلت منه رطوبة ألقي وما حوله.
(2) كمصلى صغير أو بيت صغير.
(3) يعني ما احتمل أن النجاسة أصابته.
(4) ولأنه اشتبه الطاهر بالنجس فوجب عليه اجتناب الجميع حتى يتيقن الطهارة
بالغسل ولا يكفي الظن، وعند الشيخ يكفي الظن في غسل المذي وغيره من سائر النجاسات، وفي القواعد الأصولية: يحتمل أن تخرج رواية في بقية النجاسات، من الرواية التي في المذي، وفي النكت: وعنه ما يدل على جواز التحري في غير صحراء.(1/355)
فإن لم يعلم جهتها من الثوب غسله كله، وإن علمها في أحد كميه ولا يعرفه غسلهما (1) ويصلي في فضاء واسع حيث شاء بلا تحر (2) (ويطهر بول) وقيء (غلام لم يأكل الطعام) لشهوة (بنضحه) أي غمره بالماء (3) .
__________
(1) أو علمها في أحدهما ونسيه غسلهما، وإن علمها فيما يدركه بصره من بدنه أو ثوبه غسل ما يدركه منها، وما لا يدركها أي لا يشاهدها بالعين لقلتها بحيث لو كانت مخالفة للون ثوب ونحوه، ووقعت عليه لم تر لقلتها، وتعبير بعضهم بما لا يدركه الطرف فيه نظر، والأحاديث الصحيحة صريحة فيما يظهر من القذر، واختار ابن عقيل وابن المنا وصاحب الفائق والشيخ وغيرهم أنه لا ينجس.
(2) ولا غسل كصحراء وحوش واسع خفي موضع النجاسة فيه، لأنه يفضي إلى الحرج والمشقة، ولحديث كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم.
(3) قال صاحب الإنصاف وغيره: بلا نزاع، وإن لم يقطر منه شيء، والنضح في الأصل الرش والبل، فالذي أصابه البول يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره وفي الكافي: أن يغمره بالماء وإن لم ينزل عنه، وهو نجس، صرح به الجمهور، هذا إذا لم يأكل الطعام لشهوة أو اختيار، فإنه قد يلعق العسل ساعة يولد ويناول السفوف ونحوه، والنبي صلى الله عليه وسلم حنك بالتمر، قال شيخنا وغيره: ليس المراد امتصاصه ما يوضع في فمه وابتلاعه، بل إذا كان
يريد الطعام ويتناوله ويشرئب أو يصيع أو يشير إليه فهذا هو الذي يطلق
عليه أنه يأكل الطعام اهـ فإن أكله لشهوة واختيار غسل والغلام يطلق على الصبي من حين يولد على اختلاف حالاته إلى بلوغه، وفي لفظ بول الغلام الرضيع.(1/356)
ولا يحتاج لمرس وعصر (1) فإن أكل الطعام غسل كغائطه وكبول الأنثى والخنثى، فيغسل كسائر النجاسات (2) قال الشافعي: لم يتبين لي فرق من السنة بينهما وذكر بعضهم أن الغلام أصله من الماء والتراب، والجارية أصلها من اللحم والدم.
وقد أفاده ابن ماجه، وهو غريب قاله في المبدع (3) ولعابهما طاهر (4) (ويعفى في غير مائع و) في غير (مطعوم عن يسير دم نجس) (5) .
__________
(1) لحديث أم قيس أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله متفق عليه، ونضح بول الغلام، وغسل بول الجارية متواتر لا شيء يدفعه.
(2) لقول علي يرفعه: يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر، قال قتادة: إذا لم يطعما، فإذا طعما غسلا جميعا.
(3) والحكمة والله أعلم أن بول الغلام يخرج بقوة فينتشر أو أنه يكثر حمله فتعظم المشقة بغسله، أو أن مزاجه حار فبوله رقيق، بخلاف الأنثى فبولها أنتن وأخبث لرطوبتها، فتكون هذه المعاني مؤثرة في الفرق.
(4) أي لعاب الذكر والأنثى طاهر ولو بعد قيء.
(5) من حيوان طاهر في الحياة، وفاقا، واليسير ما لا ينقض الوضوء خروج قدره من البدن، وظاهره أنه لا يعفى عنه في المائع والمطعوم ولو كثر وهو
المذهب ومذهب مالك والشافعي، وعنه: يعفى عنه وفاقا لأبي حنيفة وغيره من السلف، وهو نص القرآن واختاره الناظم والشيخ وغيرهما، واختار العفو عن يسير النجاسات مطلقا في الأطعمة وغيرها، حتى بعر الفأر، وقال: إذا استهلكت فيه واستحالت فلا وجه لإفساده، ولا دليل على نجاسته، لا في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مجمع البحرين: الأولى العفو عنه لعظم المشقة ولا يرتاب ذو عقل في عموم البلوى به، والدم مخفف الميم على اللغة الفصيحة المشهورة، وتشدد في لغية وأصله دمي، وجمعه دماء ودمي، وقيل أصله دمو أو دمو بالتحريك.(1/357)
ولو حيضا أو نفاسا (1) أو استحاضة (2) وعن يسير قيح وصديد من حيوان طاهر لا نجس (3) .
__________
(1) لحديث أسماء قال تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه، متفق عليه، قال المجد: فيه دليل على أن دم الحيض لا يعفى عن يسيره وإن قل للعموم، والأكثر على أنه يعفى عنه، جزم به الموفق والشيخ وغيرهما، وصوبه في تصحيح الفروع، وقال الشارح وغيره، أكثر أهل العلم يرون العفو عن يسيره من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف، وكذا غيرهم وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي.
(2) لأنه يشق التحرز منه.
(3) القيح مادة بيضاء غليظة لم يخالطها دم، والصديد ماء الجرح الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة، فيعفى عن يسيرهما من طاهر لتولدهما من الدم، فهما أولى بالعفو، ولو أصابه من غيره، ولا يعفى عنهما من حيوان نجس كالكلب والحمار، فإن العفو مختص باليسير من دم الطاهر، وأما الدم الكثير منه فلا نزاع في نجاسته حكاه الزركشي وغيره.
وقال النووي: الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين، وقال: القيح نجس بلا خلاف، وكذا ماء القروح نجس
بالاتفاق، وقال الشيخ: ولا يجب غسل الثوب من المدة والقيح
والصديد ولم يقم الدليل على نجاسته، وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته، قال في الإنصاف في ماء القروح: هي أقرب إلى الطهارة من القيح والصديد.(1/358)
ولا إن كان من سبيل قبل أو دبر (1) واليسير ما لا يفحش في نفس كل أحد بحسبه (2) ويضم متفرق بثوب لا أكثر (3) ودم السمك (4) وما لا نفس له سائلة كالبق (5) والقمل (6) .
__________
(1) أي القيح والصديد، لأن حكمه حكم البول والغائط، فلا يعفى عن شيء منه.
(2) وقدر في الإنصاف وغيره بما ينقض الوضوء، والمعفو عنه من القيح ونحوه أكثر مما يعفى عن مثله من الدم إذا كان من حيوان طاهر.
(3) أي يضم متفرق من دم ونحوه من ثوب ونحوه، فإن فحش لم يعف عنه ولا يضم متفرق بأكثر من ثوب، بل يعتبر ما في كل ثوب على حدته لأن أحدهما لا يتبع الآخر.
(4) طاهر: لأنه لو كان نجسا لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح، وقيل: نجس وصححه الموفق وغيره، لأنه دم أشبه سائر الدماء، ولأن الشرع لم يرد فيها بطهارة فيدخل في عموم الآية، وهو حيوان خلقه الله في الماء، وهو أنواع كثيرة، ومنه ما يكبر حتى يكون كسفينة كبيرة، ومنه ما هو صغير حتى لا يدركه البصر.
(5) أي البعوض دود معروف، واحدته بقة في غاية الصغر، دمه طاهر وسائلة بالنصب والرفع إتباعا لمحل اسم لا، ولـ لا مع اسمها أي لا دم له سائل.
(6) أي ودم القمل طاهر، والقمل يتولد من العرق والوسخ في بدن الإنسان تحت الشعر أو الثوب، يتغذى بدمه، وكذا دم القراد والحمنانة والحلمة إن لم تكن مخلوقة من حيوان نجس، وهو ظاهر الغاية، وكذا دم البراغيث والذباب ونحوهما مما لا نفس له سائلة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والراجح من مذهب الشافعي.(1/359)
ودم الشهيد عليه (1) وما يبقى في اللحم وعروقه (2) ولو ظهرت حمرته طاهر (3) (و) يعفى (عن أثر استجمار) بمحله بعد الإنقاء واستيفاء العدد (4) (ولا ينجس الآدمي بالموت) لحديث المؤمن «لا ينجس» متفق عليه (5) .
__________
(1) طاهر ولو كثر، فإن انفصل فنجس كغيره.
(2) أي عروق لحم مأكول بعدما يخرج بالذبح، وما في خلاله.
(3) لم يحرمه الله عز وجل، نص عليه لأنه لا يمكن التحرز منه، ولأن لله إنما حرم الدم المسفوح، والمسفوح هو الذي يسيل فالذي ليس بمسفوح ليس بحرام، وحله يدل على طهارته، وقد ثبت أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيبقى الدم في الماء خطوطا قال الشيخ الإسلام: لا أعلم بين العلماء خلافا في العفو عنه، وأنه لا ينجس باتفاقهم فلا فرق بين أن يكون الدم في مرق القدر، أو مائع آخر، أو على سكين ونحوها، فعلى هذا: النجس من الدم هو المسفوح، والمسفوح هو السائل.
(4) ثلاث فأكثر، كما مر في الاستنجاء، قال الشارح: بغير خلاف نعلمه، والإنقاء التنظيف ولو بقي لزوجة لا يزيلها إلا الماء، قال أحمد في المستجمر يعرق في سراويله: لا بأس به، وعلم منه أنه إن كان تعدى إلى الثوب أو البدن أو غيرهما لم يعف عنه، واتفقوا على أنه لا يلزم نضح ما شك في نجاسته.
(5) وقال البخاري عن ابن عباس: لا ينجس المسلم حيا ولا ميتا، قال الشيخ: وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وأصح القولين في مذهب مالك، وخصه في شرح العمدة بالمسلم، وقاله المجد في الهداية، وقال الشيخ: عظم الآدمي طاهر إذ لا موجب لتنجيسه، وكذا عظم الميتة لأن المقتضى للتنجيس الدم في العظام، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره هو وابن القيم وغيرهما.(1/360)
(وما لا نفس) أي دم (له سائلة) (1) كالبق والعقرب (2) وهو (متولد من طاهر) لا ينجس بالموت بريا كان أو بحريا (3) فلا ينجس الماء اليسير بموتهما فيه (4) (وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه) طاهر (5) .
__________
(1) من حيوان البر والبحر، يقال: سالت نفسه أي دمه، وإنما سمي الدم نفسا لأن النفس التي هي اسم لجلمة الحيوان قوامها بالدم.
(2) لا ينجس بالموت، والعقرب معروفة ذات سم، وأنواعها كثيرة، وكذا ذباب وزنبور ودود ونمل وخنافس وصراصر وبراغيث ونحوها.
(3) بلا نزاع فإن كان متولدا من نجاسة كصراصر حش ودود جرح، أو
خارج من الدبر فنجس حيا وميتا، لأن استحالته غير مطهرة، وتقدم قول شيخ الإسلام.
(4) أي موت البق والعقرب ونحوهما في الماء اليسير، في قول عامة الفقهاء قال ابن المنذر: لا أعلم في ذلك خلافا، إلا ما كان من أحد قولي الشافعي وروي في الحديث ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه ونحوه للدارقطني وغيره، وفي الصحيح إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، قال ابن القيم: وفيه دلالة ظاهرة على أنه إذا مات في ماء أو مائع لا ينجسه، وهذا قول جمهورالعلماء، ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك، وعدي هذا الحكم إلى كل ما نفس له سائلة اهـ، وقد يموت ولو نجس الطعام لأفسده وكذا بوله وروثه، ولا يكره ما مات فيه، بخلاف الوزغ ونحوه، فإن نفسه سائلة، نص عليه كالحية والضفدع والفأرة، فينجس بالموت، وينجس الماء اليسير ونحوه بموتها فيه، وتقدم.
(5) وقال الشيخ: لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته بل القول
بنجاسته محدث، لا سلف له من الصحابة اهـ وكذا ريقه ومخاطه ودمعه كبوله وأولى وسؤر المأكول كله طاهر في الجملة، وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعا ولبنه طاهر بلا نزاع.(1/361)
لأنه صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها (1) والنجس لا يباح شربه، ولو أبيح للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة (2) (ومني الآدمي) طاهر (3) .
__________
(1) متفق عليه، ولم يأمرهم مع ذلك بغسل ما يصيب أفواههم وأيديهم ولا بغسل الأوعية التي فيها الأبوال، ولا دليل على نجاسة ذلك بحال، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم يصلي في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة فيها، متفق عليه، وهي لا شك تبول فيها، قال النووي: والألبان أربعة أقسام: لبن مأكول اللحم، طاهر بنص القرآن والسنة والإجماع، ولبن الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما نجس بالاتفاق، ولبن الآدمي طاهر، وحكى أبو حامد إجماع المسلمين على طهارته ولبن سائر الحيوانات الطاهرة غير ما تقدم المنصوص نجاستها، وهو مذهب مالك وأحمد، وقيل طاهرة وهو مذهب أبي حنيفة، والعرنيون قبيلة من العرب في بجيلة من كهلان، وهم من ولد عرينة بن نذير بن قسر بن عبقر بن عمرو بن الغوث.
(2) فدل على طهارته، وذكر شيخ الإسلام على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه بضعة عشر حجة من النص والإجماع والاعتبار والعقل، وقال: الأصل في الأرواث الطهارة إلا ما استثني.
(3) من ذكر أو أنثى، عن احتلام أو جماع أو غيرهما، ولو خرج بعد استجمار، صرح به في الإقناع، وهو مذهب الشافعي وجماهير العلماء، ومقتضى إطلاق الأخبار، وقال في الإنصاف، ومني الآدمي طاهر هذا المذهب مطلقا
وفي المبدع إن كان على المخرج نجاسة فالمني نجس لا يعفى عن شيء منه اهـ وقال شيخ الإسلام رحمه الله: سواء كان مستنجيا أو مستجمرا فإن منيه طاهر، ومن قال إن مني المستجمر نجس لملاقاته رأس الذكر فقوله ضعيف، فإن الصحابة كان عامتهم يستجمرون ولم يكن يستنجي بالماء منهم إلا قليل جدا، ومع هذا فلم يأمر صلى الله عليه وسلم أحدا منهم بغسل مني ولا فركه اهـ والمذي نجس إجماعا، ولا يطهر بنضحه وفاقا، وعنه يجزئ فيه النضح، وقواه الشيخ، وجزم في العمدة بالعفو عن يسيره، وصححه الناظم والشيخ وغيرهما، وخصوصا في حق الشباب، لكثرة خروجه منهم، فيشق التحرز منه فعفي عن يسيره كالدم، قال الشيخ: وهو أولى بالتخفيف من بول الغلام، ومن أسفل الحذاء اهـ وأما الودي فنجس إجماعا.(1/362)
لقول عائشة: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي فيه) متفق عليه (1) فعلى هذا يستحب فرك يابسه وغسل رطبه (2) .
__________
(1) ولابن خزيمة: كانت تسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، وتحكه من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه، وقال ابن عباس: امسحه عنك بإذخرة أو خرقة، فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، والفرك الدلك والحت من باب قتل، وهو أن تحكه بيدك حتى يتفتت ويتقشر.
(2) قال شيخ الإسلام: وأما كون عائشة تغسله تارة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفركه تارة، فهذا لا يقتضي تنجيسه فإن الثوب يغسل من المخاط والبصاق والوسخ، وهذا قول غير واحد من الصحابة ابن عباس وغيره، قال: وروى أحمد بإسناد صحيح عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثم يصلي فيه.(1/363)
(ورطوبة فرج المرأة) وهو مسلك الذكر طاهر (1) كالعرق والريق والمخاط (2) والبلغم ولو أزرق (3) وما سال من الفم وقت النوم (4) (وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر) غير مكروه (5) .
__________
(1) للحكم بطهارة منيها مطلقا، وهو قول للشافعي، وتقدم قول الشيخ، وقال القاضي: ما أصاب منه في حال الجماع نجس، لأنه لا يسلم من المذي قال في المبدع: وهو ممنوع، فإن الشهوة إذا اشتدت خرج المني وحده.
(2) وهو ما يخرج من الأنف، وهو أخلاط من أخلاط البدن.
(3) بتشديد القاف، سواء كان من الرأس أو الصدر أو المعدة، لحديث أبي هريرة إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا، فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه ببعض، رواه مسلم وغيره، ولو كانت نجسة لما أمر بمسحها في ثوبه، والبزاق إذا اختلط بالدم لا يخلو إما أن يكون الدم غالبا أو مغلوبا أو مساويا فإن احمر البزاق بسبب الدم صار الدم غالبا أو مساويا وضر، وإن اصفر البزاق بالدم صار مغلوبا فلا يضر.
(4) طاهر بالاتفاق، والرطوبة التي تخرج من المعدة نجسة بالاتفاق، وقال الزركشي: فالخارج من الإنسان على ثلاثة أقسام: طاهر بلا نزاع، وهو الدمع والعرق والريق والمخاط والبصاق، ونجس بلا نزاع وهو البول والودي والدم، وما في معناه، ومختلف فيه، وهو المني وتقدم وسبب الاختلاف فيه هو تردده في مجرى البول، وبلغم المعدة لتردده بين القيء وبين نخامة الرأس.
(5) بلا نزاع، إلا ما روي من كراهته عن أبي حنيفة، وكذا فضلاته لحديث أبي قتادة في الهر إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواه الترمذي وغيره وصححه شبهها بالمماليك من خدم البيت، الذين يطوفون على أهله للخدمة، ولعدم إمكان التحرز منها، سوى منيه فنجس قاله الزركشي
وغيره، وفي الاختيارات: وقول الأصحاب: الهرة وما دونها في الخلقة طاهر، يعني أن جنسه طاهر، وقد يعرض له ما يكون نجس العين كالدود المتولد من العذرة، فإنه نجس ذكره القاضي، ويخرج طهارته بناء على أن الاستحالة إذا كانت بفعل الله طهرت، ولا بد أن يلحظ طهارة ظاهره من العذرة بأن يغمس في ماء ونحوه، إلا أن يقال: إنه لا يكون على بدنه شيء منها اهـ وما دونها أي من طير وغيره خلقة ألحق بها بجامع الطواف.(1/364)
غير دجاجة مخلاة (1) والسؤر بضم السين مهموز بقية طعام الحيوان وشرابه (2) والهر القط (3) .
__________
(1) بالتشديد أي غير محفوظة فيكره سؤرها احتياطا لأن الظاهر نجاسته.
(2) هذا ظاهر القاموس أنه حقيقة في مطلق البقية، وقال بعض اللغويين، هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو الحوض، ثم استعير لبقية الطعام وغيره، والجمع الأسآر والفعل أسأر أي بقى مما شرب، ويكره سؤر الفأر، لأنه يورث النسيان، وقيل ست تورث النسيان: سؤر الفأرة وإلقاء القملة، والبول في الماء الراكد وقطع القطار، ومضغ العلك، وأكل التفاح، ومنهم من ذكره حديثا، لكن قال ابن الجوزي: إنه موضوع، وزيد العصيان، والهموم، والأحزان بسبب الدنيا، وكثرة الاشتغال بها، وأكل الكزبرة الرطبة، والنظر إلى المصلوب، والحجم في نقرة القفاء، واللحم الملح، والخبز الحامي، وكثرة المزح، والضحك بين المقابر، واللعب بالمذاكير، أو الذكر حتى ينزل، والنظر إليه، والبول في الطريق، أو الرماد والنظر إلى الفرج وغير ذلك.
(3) بالكسر يعني السنور، جمعه هررة كقردة وهرة بالكسر جمعها هرر كقرب، وقال ابن الأنباري: الهر يقع على الذكر والأنثى اهـ وهو ظاهر لفظ الحديث السابق.(1/365)
وإن أكل هو أو طفل ونحوهما نجاسة ثم شرب، ولو قبل أن يغيب من مائع لم يؤثر لعموم البلوى (1) لا عن نجاسة بيدها أو رجلها (2) ولو وقع ما ينضم دبره في مائع ثم خرج حيا لم يؤثر (3) (وسباغ البهائم (4) و) سباع (الطير) (5) التي هي أكبر من الهر خلقه (6) .
__________
(1) ولأن الشارع عفا عنها مطلقا، لمشقة التحرز، ولاحتمال أنه شرب من ماء آخر، وقال ابن تميم: فيكون الريق مطهرا لها، وقال الشيخ: إن طال الفصل كان طاهرا، جعلا لريقها مطهرا لفمها، لأجل الحاجة وهو أقوى الأقوال وقوله: ونحوهما أي من طير وبهيمة.
(2) فإنه يؤثر نص عليه.
(3) لعدم وصول النجاسة إليه، وكذا لو وقع في جامد وخرج حيا، وما ينضم دبره كالضفدع والسحبلة والسعودة والوزغ والضب والجرذ والفأر، وقيل: كل حيوان ينضم دبره، إلا البعير، وهو معلوم الطهارة.
(4) كالفيل والفهد والأسد والنمر والذئب نجسة، والكلب والخنزير منها فالسبع ما يفترس من الحيوان مطلقا، وأما الثعلب والضبع فلا وإن كان له ناب.
(5) ما يصيد منها من كل ما لا يؤكل نجسة كالعقاب والصقر والحدأة والبومة ويقال لهن الجوارح، وهن الكواسب من الطير، وعنه في الطير لا يعجبني عرقه إن أكل الجيف، فدل أنه كرهه لأكله النجاسة فقط، ذكره الشيخ ومال إليه.
(6) لا كالهر أو دونه كالنمس والنسناس وابن عرس والفأرة والقنفذ فطاهر حيا، ولو أعقب ذلك بسباع البهائم لكان أولى.(1/366)
(والحمار الأهلي والبغل منه) أي من الحمار الأهلي لا الوحشي (نجسة) (1) وكذا جميع أجزائها وفضلاتها (2) لأنه عليه السلام لما سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: «إذاكان الماء قلتين لم ينجسه شيء» ، فمفهومه أنه ينجس إذا لم يبلغهما (3) وقال في الحمر يوم خيبر، «إنها رجس» ، متفق عليه (4) .
__________
(1) وأما الحمار الوحشي والبغل منه فطاهر مأكول.
(2) كريقها وعرقها نجسة، وكذا سؤرها، وعن أحمد طهارة الحمار الأهلي والبغل، اختاره الموفق والشيخ وجماعة، وهو مذهب مالك والشافعي، قال في الإنصاف: وهو الأصح وأقوى دليلا، لأنه عليه الصلاة والسلام يركبها ويركبان في زمانه، وفي عصر الصحابة، فلو كانا نجسين لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعليه فسؤرهما وفضلاتهما طاهرة، وتعليله عليه الصلاة والسلام طهارة سؤر الهرة وطهارة ريق الكلب على الصيد يقتضي أن الحاجة مقتضية للطهارة، وهذا من حجج من يقول بطهارة سؤر البغل والحمار، فإن الحاجة داعية إلى ذلك، وحديث «لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور» ، ولفظ الموطأ وغيره، ولنا ما بقي طهور وشراب، وحديث: «أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم» وبما أفضلت السباع قواه البيهقي وله طرق.
(3) فوجه الدلالة منه أن السباع والدواب نجسة، لنجاسة الماء بما ينوبه منها إذا لم يبلغهما، وتقدم كلام الشيخ على الحديث.
(4) أي حرام، ويحتمل أنه أراد لحمها الذي في قدورهم فإنه رجس وذبح ما لا يحل أكله لا يطهره، قال ابن القيم: ودليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة، فإنه لم يقم على تنجيس سؤرها دليل، وغاية ما احتج به لذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم «إنها رجس» والرجس هو النجس، وهذا لا دليل فيه، لأنه إنما نهاهم عن لحومها، وقال: إنها رجس ولا ريب أن لحومها ميتة لا تعمل الذكاة فيها، فهي رجس، ولكن من أين أن تكون في حال حياتها؟ حتى يكون سؤرها نجسا.(1/367)
والرجس النجس (1) .
__________
(1) بالفتح وبالكسر وبالتحريك ضد الطاهر، وتقدم وعند أهل اللغة: القذر، وما كان نجسا في الحياة فموته لا يزيده إلا خبثا.(1/368)
باب الحيض (1)
أصله لغة السيلان (2) من قولهم: حاض الوادي: إذا سال (3) .
__________
(1) والاستحاضة والنفاس وما يتعلق بها من الأحكام، وعنون بالحيض لأصالته، وقال أحمد: كنت في كتاب الحيض تسع سنين حتى فهمته، ومن أسمائه الطمث، والطمس، والضحك، والإعصار، والإكبار، والنفاث، والدراس، والعراك، والفراك، ونظمها بعضهم فقال:
حيض نفاث دراس طمس إعصار ... ضحك عراك فراك طمث إكبار
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية والسنة مستفيضة، وكذا الإجماع، وقال أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة، وفي رواية: وأم سلمة بدل أم حبيبة.
(2) سال يسيل سيلا وسيلانا، جرى.
(3) وحيضان السيول ما سال منها، ومنه حاضت الشجرة إذا سال منها شبه الدم وهو الصمغ الأحمر، ودم الحيض سمي حيضا لسيلانه من رحم المرأة في أوقاته المعادة، ويقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة إذا جرى دمها، وتحيضت أي قعدت أيام حيضها، واستحيضت استمر بها الدم بعد أيامها على سبيل النزف، وقال بعض أهل اللغة: الحيض دم يخرج في أوقاته بعد بلوغها، والاستحاضة دم يخرج في غير أوقاته، فدم الحيض يخرج من قعر الرحم أسود محتدم، أي حار كأنه محترق، وأما دم الاستحاضة فهو من مرض وفساد من عرق فمه في أدنى الرحم يسمى العاذل، وأما النفاس فهو الدم الخارج بعد فراغ الرحم.(1/369)
وهو شرعا: دم طبيعة وجبلة (1) يخرج من قعر الرحم (2) في أوقات معلومة (3) خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته (4) .
__________
(1) أي سجية وخلقة، وقيل: العطف للتفسير، ومعناه دم الحيض المعتاد الذي يكون في حال السلامة، جبل الله بنات آدم عليه، وليس هو دم فساد، قيل: سببه ابتداء ابتلاء الله لحواء لأكل الشجرة فبقي في بناتها إلى يوم القيامة ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم» ، وذكر النووي أنه عام في جميع بنات آدم.
(2) بكسر الحاء مخففة وبسكونها مع فتح الراء وكسرها في لغة: أي موضع تكوين الولد، ووعاؤه، عند البلوغ وبعده مع الصحة، بخلاف الاستحاضة.
(3) أي يعتاد أنثى بلغت في أوقات معلومة، على صفة معلومة، وذكروا أنه يحيض من الحيوانات أربع: المرأة والضبع، والأرنب والخفاش.
زاد بعضهم وقال:
إن اللواتي يحضن الكل قد جمعت ... في ضمن بيت فكن ممن لهن يعي
امرأة ناقة مع أرنب وزغ ... وكلبة فرس خفاش مع ضبع
(4) لافتقاره إلى الغذاء، فلو شاركها في غذائها لضعفت قواها، ولكن جعل الله له فضلة من فضلاتها، مخلوقة من مائها، فإذا حملت انصرفت تلك بإذن الله إلى غذائه، فلذلك قيل إن الحامل لا تحيض، وقد تحيض لاحتباس البعض وخروج البقية، فإذا وضعت قلبه الله لبنا يتغذى به الولد، ولذلك قل أن تحيض المرضع، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي لا مصرف له فيستقر في مكان، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، ويطول شهر المرأة ويقصر على حسب ما يركبه الله في الطباع، قال النووي: والنساء على أربعة أضرب: طاهر وهي ذات النقاء، وحائض وهي من ترى الحيض في زمنه بشرطه ومستحاضة
وهي من ترى الدم على أثر الحيض، على صفة لا يكون حيضا، وذات الفساد وهي من يبتدئها دم لا يكون حيضا.(1/370)
(لا حيض قبل تسع سنين) (1) فإن رأت دما لدون ذلك فليس بحيض (2) لأنه لم يثبت في الوجود (3) وبعدها إن صلح فحيض (4) قال الشافعي: رأيت جدة لها إحدة وعشرين سنة (5) .
__________
(1) هلالية وفاقا تحديدا، صرح به الأكثر، وقيل تقريبا، استظهره في تصحيح الفروع.
(2) أي دون تسع سنين هلالية.
(3) أي لأن الحيض إنما خلق لحكمة تربية الولد، وهذه لا تصلح للحمل، فلا توجد فيها حكمته ولم يوجد لأنثى حيض قبل استكمال هذا السن، ولا عادة تقتضيها فما رأته فليس بحيض، وعنه لا حد لأقله وما رأته مما يصلح أن يكون حيضا فهو حيض، تجب به أحكام الحيض واختاره الشيخ وغيره، وقال الدارمي: المرجع إلى الوجود، فأي قدر وجد في أي حال وسن كان وجب جعله حيضا، وما سوى هذا القول خطأ.
(4) أي وبعد التسع إن صلح بأن لا ينقص عن يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر يوما، فحيض تثبت به أحكام الحيض كلها، قالت عائشة: (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة) ، وروي مرفوعا عن ابن عمر.
(5) نقله عنه جماعة من أصحابه، وقيل: إنه رآها بصنعاء، قالوا: وهذا رآه واقعا اهـ فدل على أنها حملت لدون عشر، وكذا بنتها، ويتصور جدة بنت تسع عشرة سنة ولحظة فتحمل لتسع وتضع لستة أشهر بينا، وتحمل تلك البنت لتسع سنين وتضع لستة أشهر.(1/371)
(ولا) حيض (بعد خمسين) سنة (1) لقول عائشة: (إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض) ، ذكره أحمد (2) ولا فرق بين نساء العرب وغيرهن (3) (ولا) حيض (مع حمل) قال أحمد: إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم (4) .
__________
(1) أي فلا تجلس بل تصوم وتصلي.
(2) وقالت: (لن ترى في بطنها ولدا بعد الخمسين) .
(3) يعني فمتى بلغت المرأة خمسين فليس بحيض فلا تجلسه، وعنه: لاحد لأكثره وفاقا لأبي حنيفة، واختاره الشيخ وغيره، وصححه في الكافي، وصوبه في الإنصاف، وقال مالك والشافعي: ليس له حد، وإنما الرجوع فيه إلى العادات في البلدان اهـ فتجلس عادة جلوسها في عادة حيضها، ولا تسمى آيسة حتى ينقطع لكبر أو تغير لقوله: {وَاللائِي يَئِسْنَ} الآية وهو أحوط وعليه العمل.
(4) يعني فالحمل علم على عدم الحيض، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض» رواه أحمد وأبو داود، وعنه أن الحامل تحيض، وفاقا لمالك والشافعي، واختاره الشيخ، وصاحب الفائق، قال في الفروع: وهو أظهر، وصوبه في الإنصاف، وقال: وقد وجد في زماننا وغيره أنها تحيض مقدار حيضها قبل ذلك، ويتكرر في كل شهر، على صفة حيضها وقال الحافظ: هو دم بصفات دم الحيض، وفي زمان إمكان فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه فعليه البيان اهـ وفي الموطأ عن عائشة قالت في المرأة الحامل ترى الدم، (إنها تدع الصلاة) ولم ينكر، قال: وذلك الأمر عندنا، ولأنه دم لا يمنعه الرضاع، فلا يمنعه الحمل، كالنفاس، ولأنه دم بصفات دم الحيض، وفي زمن إمكانه، ولأنه متردد بين كونه فسادا لعلة، ومحيضا، والأصل السلامة من العلة، ولا مانع من كونه حيضا، إذا كان في وقته وعلى صفته
لأنه الأصل وإن كان مصرفه غذاء الولد فقد يبقى بعده بقية، فلا تصلي فيه ولا توطأ، وروي الحاكم أن أحمد رجع لما ناظره إسحق في هذه المسألة، قال النووي في التنبيه: وفي الدم الذي تراه الحامل قولان: أصحهما أنه حيض، وقال: فإن قيل: فإذا كانت الحامل تحيض، لم يحصل الوثوق ببراءة الرحم في العدة والاستبراء، ولا خلاف أنه يحل نكاحها بعد انقضاء العدة بالأقراء، ويحل وطء الأمة بعد الاستبراء، فالجواب أن الحيض أمارة ظاهرة على عدم الحمل، ولهذا لا تحيض الحامل غالبا، فاكتفينا به في العدة والاستبراء، لأنه يفيد الظن في براءة الرحم، وإن كان لا يفيد القطع، وأكثر الأحكام مبنية على غلبة الظن.(1/372)
فإن رأت دما فهو دم فساد (1) لا تترك له العبادة (2) ولا يمنع زوجها من وطئها (3) ويستحب أن تغتسل بعد انقطاعه (4) إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة مع أمارة فنفاس (5) .
__________
(1) لا حيض ولا تثبت له أحكام الحيض، إن لم يكن عادة لها بلا خلاف، فإن كان عادة ويأتيها في عادة الحيض، وتطهر في عادة الطهر، فحيض عند الجمهور، واختاره الشيخ وغيره، وهو قليل الوقوع، بخلاف من لم يكن عادة لها، ويضطرب عليها الدم.
(2) كالصلاة والصوم والاعتكاف والطواف ونحوها.
(3) وفاقا، وظاهره ولو لم يخف العنت.
(4) أي الدم زمن حملها نص عليه احتياطا، وخروجًا من الخلاف، وهذا تفريع على المذهب، وعلى ما اختار الجمهور أنه حيض له حكم الحيض.
(5) أي علامة على الولادة، كالتألم بفتح الهمزة، فنفاس له أحكام النفاس، قالوا: وإن تبين خلاف ذلك أعادت ما تركته، ولا تترك الصيام، ولا الصلاة بلا أمارة على قربه، عملا بالأصل.(1/373)
ولا تنقض به مدته (1) (وأقله) أي أقل الحيض (2) (يوم وليلة) (3) لقول علي رضي الله عنه (4) (وأكثره) أي أكثر الحيض (خمسة عشر يوما) بلياليها لقول عطاء: (رأيت من تحيض خمسة عشر يوما) (5) .
__________
(1) أي مدة النفاس عن أربعين يوما.
(2) يعني أقل زمنه، وكذا قوله: أكثره، المراد أكثر زمنه.
(3) أي قدرها وهو أربع وعشرون ساعة.
(4) الآتي: (إن امرأة جاءته) إلخ، واختار الشيخ أنه لا يتقدر أقل الحيض، بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص عن يوم فإن الأصل في ذلك عدم التقدير من الشارع، قال صلى الله عليه وسلم «إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي» ، ولم يقيد ذلك بقدر، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها ومذهب مالك ولو دفعه فقط.
(5) عطاء هو ابن أبي رباح، واسمه أسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المكي روي عن ابن عباس وغيره، فقيه فاضل، مات سنة مائة وأربع عشرة، ولقول علي: ما زاد على الخمسة عشر استحاضة واستفاض عن كثير من السلف أنهم وجدوه عيانا، وعنه: لا حد لأكثره وفاقا لمالك والشافعي: واختاره الشيخ، وقال: لا يتقدر أكثره بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، ولو زاد على السبعة عشر، واللذين يقولون أكثره خمسة عشر وأقله يوم وليلة كالشافعي وأحمد، أو لا حد له كمالك، فهم يقولون: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في هذا شيء، والمرجع في ذلك إلى العادة، وقال الشيخ أيضا: ما أطلقه الشارع عمل بمقتضى مسماه ووجوده، ولم يجز تقديره وتحديده، فلا حد لأقل الحيض ولا أكثره، ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سن ولا أكثره، واختاره كثير من الأصحاب وكثير من أهل العلم، وصوبه في الإنصاف، وقال مالك والدارمي وطوائف من المحققين: إذا وجد ولو أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوما فالأوجه الاعتماد على الوجود وقد حصل.(1/374)
(وغالبه) أي غالب الحيض (ست) ليال بأيامها.
(أو سبع) ليال بأيامها (أو سبع) ليال بأيامها (1) (وأقل طهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوما) احتج أحمد بما روي عن علي (أن امرأة جاءته وقد طلقها زوجها فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض.
فقال علي لشريح: قل فيها فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها، ممن يرضى دينه وأمانته فشهدت بذلك، وإلا فهي كاذبة) (2) .
__________
(1) وفاقا لقول صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش «تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها فإن ذلك يجزئك» رواه أبو داود والنسائي وأحمد والترمذي وصححاه ولمعرفة ذلك بالاستقراء والتتبع وقوله «ستة أو سبعة» للتنويع يعني من النساء من تكون غالب عادتها ستة، ومنهن من تكون سبعة.
(2) شريح هو ابن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر الكندي، أبو أمية الكوفي. أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، استقضاه عمر وعثمان وعلي، وأقام على القضاء ستين سنة، ثم استعفى من الحجاج، وله مائة وعشرون سنة، ثم عاش سنة، ومات رضي الله عنه، وبطانة أهل المرأة خواصها العارفون بواطن أمورها، وبطانة الرجل أهله وخاصته الذين يعرفون سره، شبه ببطانة الثوب ضد الظهارة، والحاصل أن أحمد رضي الله عنه احتج بهذا الخبر، أنه لا يقبل قول المرأة في زائد إلا ببينة، وليس شرطا عند الأصحاب إلا في العدة، وكلام أحمد لا يختلف أن العدة يصح أن تنقضي في شهر، إذا قامت به البينة
وإن ادعت أنها حاضت ثلاثا في أكثر من شهر لم يحتج لبينة، ووجود ثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشرة طهر صحيح يقينا، وإن لم تشهد البطانة أنها حاضت في شهر ثلاث حيض فهي كاذبة، وهذا توقيفي، واشتهر ولم يعلم خلافه، وعنه: لا حد لأقله، رواها الجماعة، وصوبه في الإنصاف، واختاره الشيخ، وقال: وقد يكون أقل إذا كان عادة فلو رأت الطهر ساعة ثم عاودها الدم؟ فإن كانت في العادة جلسته ولو صفرة أو كدرة، وبعدها فلا، لقول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا) .(1/375)
فقال علي: (قالون) أي جيد بالرومية (1) (ولا حد لأكثره) أي أكثر الطهر بين الحيضتين (2) لأنه قد وجد من لا تحيض أصلا (3) لكن غالبه بقية الشهر (4) .
__________
(1) يعني أصبت، والرومية اليونانية، والروم جيل من ولد روم بن عيص بن إسحاق.
(2) حكاه الحافظ والنووي وغيرهما إجماعا، قال: ودليله في الإجماع ومن الاستقراء أن ذلك موجود مشاهد، ومن أظرفه عن امرأة أنها تحيض في كل سنة يوما وليلة حكاه أبو الطيب وغيره.
(3) وقد روي أن امرأة ولدت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تر دما فسميت ذات الجفوف.
(4) أي غالب الطهر بين الحيضتين بقية الشهر الهلالي بعدما حاضته منه، إذ الغالب أن المرأة تحيض في كل شهر ستا أو سبعا، فالغالب أن يكون الطهر أربعا وعشرين أو ثلاثا وعشرين، لما تقدم في حديث حمنة، وقال المجد: يحدد أكثر عند الضرورة في حق من استمر بها الدم، ولا عادة لها ولا تمييز ببقية الشهر بعد القدر الذي تجلسه.(1/376)
والطهر زمن حيض خلوص النقاء (1) بأن لا تتغير معه قطنة احتشت بها (2) ولا يكره وطؤها زمنه إن اغتسلت (3) (وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة) إجماعا (4) (ولا يصحان) أي الصوم والصلاة (منها) أي من الحائض (5) .
__________
(1) أي الطهر في أثناء الحيض فراغ الدم، و (خلوص) مصدر خلص بمعنى فرغ أو انتهى، وكل شيء يتصور أن يشوبه غيره إذا صفى من شوبه وخلص عنه يسمى خالصا.
(2) طال الزمن أو قصر، تغتسل منه وتصلي، وتفعل ما تفعله الطاهرات.
(3) أي لا يكره وطء من انقطع دمها في أثناء عادتها واغتسلت زمن الطهر في أثناء حيضها قل أو كثر، لأن الله وصف الحيض بكونه أذى، فإذا انقطع واغتسلت فقد زال الأذى، وهذا مذهب الجمهور مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم، إذا كانت قادرة على الاغتسال، وإلا تيممت، وهو معنى ما روي عن بضعة عشر من الصحابة، منهم الخلفاء والقرآن يدل على ذلك قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعني اغتسلن بالماء، قال الشيخ: وهو الصواب، بخلاف النفاس فيأتي أنه يكره.
(4) فلا تقضيها الحائض، وكذا حكى ابن المنذر والوزير والنووي وغيرهم إجماع أهل العلم على وجوب قضاء الصوم على الحائض، وسقوط فرض الصلاة عنها في أيام حيضها، لقوله صلى الله عليه وسلم لبنت أبي حبيش، «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» ، ولقول عائشة (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ، متفق عليهما، والفرق أن الصلاة تتكرر، فلم يجب قضاؤها للحرج، بخلاف الصيام.
(5) للنهي عن ذلك، ومنه «فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة» ، والنهي يقتضي عدم الصحة.(1/377)
(بل يحرمان) عليها (1) كالطواف وقراءة القرآن (2) واللبث في المسجد (3) لا المرور به إن أمنت تلويثه (4) (ويحرم وطؤها في الفرج) (5) .
__________
(1) إجماعا لما تقدم من النهي، وفي الصحيح «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» ، وهل تثاب على الترك كالمريض؟ قال في الفروع، ويتوجه أن وصفه لها عليه الصلاة والسلام بنقصان الدين بترك الصلاة زمن الحيض يقتضي أن لا تثاب عليه، ولأن نيتها تركها زمن الحيض اهـ، وفي معنى الصلاة سجود التلاوة والشكر كما تحرم صلاة الجنازة.
(2) أي كما يحرم الطواف إجماعا حكاه ابن جرير وغيره، وعند الشيخ وغيره: بلا عذر، ويأتي وكما تحرم قراءة القرآن، واختار الشيخ جواز قراءة القرآن، وهي حائض.
وقال: إذ الحيض قد يمتد، فلو منعت فاتت عليها مصلحتها، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها، وهو مذهب مالك وأحد قولي الشافعي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع الحائض من قراءة القرآن، وحديث «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» لم يصح فإنه معلول باتفاق أهل العلم بالحديث.
(3) أي وكذا يحرم اللبث في المسجد إجماعا، ولو أمنت التلويث، بل تمنع من الجلوس فيه بالكلية، ولو بعد انقطاع الدم حتى تغتسل، ولو عبر بـ (كذا) بدل كاف التشبيه لكان أولى، لأن القاعدة أن المشبه دون المشبه به.
(4) أي فلا يحرم، فإن خافت حرم، وذكر صاحب المنتهى أن الحيض يمنع اثنى عشر الغسل له، والوضوء ووجوب الصلاة، وفعلها وفعل طواف وصوم، ومس مصحف، وقراءة القرآن، ولبثا بمسجد، ووطء في فرج وسنة الطلاق، واعتدادا بأشهر، قال عثمان: وهذا المنع يقتضي التحريم، كما استظهره ابن نصر الله، لأن الإتيان بالعبادة مع مانع من صحتها تلاعب.
(5) إجماعا حتى ينقطع حيضها، وتغتسل إلا أبا حنيفة فيما إذا رأت
الطهر لأكثره ولم تغتسل ومستند الجمهور ظاهر القرآن والآثار وحكى النووي وغيره إجماع المسلمين على تحريمه، للآية الكريمة والأحاديث الصحيحة، ومنها: «فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» ومستحله كافر، والنفاس كالحيض فيما يمنعه ويوجبه، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه.(1/378)
إلا لمن به شبق بشرطه (1) قال الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (2) .
(فإن فعل) بأن أولج قبل انقطاعه من يجامع مثله حشفته ولو بحائل (3) .
__________
(1) الشبق شدة الشهوة، وبابه تعب، أي إلا لمن هاجت به شهوة النكاح فيباح له الوطء بشرطه، وشرطه أن لا تندفع شهوته بدون الوطء في الفرج، وأن يخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، وأن لا يجد مباحة غير الحائض، وأن لا يقدر على مهر حرة، ولا ثمن أمة، وقيل: بل يلزمه النكاح أو التسري، ولو زاد على مهر أو ثمن المثل، زيادة كثيرة، لكن لا تجحف بماله، لأن ظاهر كلامهم أن ما لا يتكرر لا يكون مانعا، وقيل: ويتجه أو خوف عنت منه أو منها، ولا تندفع شهوتهما بدون إيلاج.
(2) أراد بالاعتزال ترك الوطء لقوله صلى الله عليه وسلم «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه الجماعة إلا البخاري، وفي لفظ إلا الجماع، وهو ظاهر الدلالة وقال الشيخ: المراد اعتزال ما يراد منهن في الغالب، وهو الوطء في الفرج لأنه قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} فذكر الحكم بعد الوصف بالفاء، فدل على أن الوصف هو العلة، لا سيما وهو مناسب للحكم، كآية السرقة، فأمر بالاعتزال في الدم للضرر والنجس، وهو مخصوص بالفرج، فيختص الحكم بمحل سببه، وقال ابن قتيبة: المحيض الحيض نفسه.
(3) أي أولج من يجامع بكسر الميم مثله، وهو ابن عشر فأكثر، حشفته
أو قدرها إن كان مقطوعها قبل انقطاع الحيض ولو كان الإيلاج بحائل لفه على ذكره ويجد معه حرارة الفرج فعليه الكفارة، وأما بعد انقطاع الدم وقبل الغسل فيحرم ولا كفارة.(1/379)
أو مكرها أو ناسيا أو جاهلا (1) (فعليه دينار أو نصفه) على التخيير (كفارة) (2) لحديث ابن عباس يتصدق بدينار أو نصفه كفارة، رواه أحمد والترمذي وأبو داود (3) .
__________
(1) لعموم الخبر وقياسا على الوطء في الإحرام، ولهم وجهان في الناسي ونحوه وعنه لا يأثم ولا كفارة وفاقا لقوله عفي عن أمتي الخطأ والنسيان لقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} فوضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه كما أرشدنا أن نقول (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وقال قد فعلت، وقال الشاطبي وغيره: الخطأ والنسيان متفق على عدم المؤاخذة بهما، فكل فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ فهو مما عفي عنه ومن شرط المؤاخذة بالأمر والنهي الذكر والقدرة على الامتثال، وذلك في المخطئ والناسي محال.
(2) سواء وطئها في أول الحيض أو آخره، أسود كان الدم أو أحمر؟ نقله الجماعة واختاره الشيخ، وقال: هو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به، فكيف وقد جاءت به مرفوعا وموقوفا، وقال: كل ما كان من المعاصي محرم الجنس كالظلم والفواحش لم يشرع له كفارة، بل فيما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض، كالوطء في الصيام والحيض، وهو الصحيح اهـ وعنه لا كفارة عليه وفاقا للأئمة الثلاثة وجمهور الأمة، واختاره أبو بكر وابن عبدوس وغيرهما، ومال إليه الموفق والشارح، وجزم به في الوجيز وغيره، وأن من تعمد ذلك أثم، وليس عليه إلا التوبة، قال الترمذي: وهو قول علماء الأمصار، وقوله: (أو نصفه) على التخيير، وعنه: في إدباره أو صفرة، يعني نصف الدينار.
(3) ومداره على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن الخطاب قيل لأحمد
في نفسك منه شيء؟ قال: نعم لأنه من حديث فلان، وقال: لو صح كنا نرى عليه الكفارة، وقال الخطابي: لا يصح متصلا مرفوعا، وقال هو وابن كثير وغيرهما: قال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله، والذمم بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها، والأثر قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه فالله أعلم.(1/380)
وقال: هكذا الرواية الصحيحة (1) والمراد بالدينار، مثقال من الذهب مضروبا كان أو غيره (2) أو قيمته من الفضة فقط (3) ويجزئ لواحد (4) وتسقط بعجزه (5) وامرأة مطاوعة كرجل (6) .
__________
(1) أي في التخيير بين الدينار ونصفه، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام.
(2) أي فالدينار زنة مثقال، وهو ضرب من المعاملات القديمة وأصله دنار ووزنه حدى وسبعون شعيرة، وزنته بالدراهم درهم وثلاثة أسباع درهم، وإذا أخرج عنه مثقالا من الذهب خاليا من الغش أجزأ سواء كان مضروبا أو غير مضروب، أو نصفه على ما تقدم، والمضورب المطبوع، والنصف أحد شقي الشيء كله، واختار الشيخ: لا يجزئ إلا المضروب، لأن الدينار اسم للمضروب واستظهره في الفروع.
(3) أي فلا يجزئ إخراج القيمة كسائر الكفارات، إلا من الفضة لإجزاء أحدهما عن الآخر في الزكاة.
(4) أي لمسكين واحد، لعموم الخبر، وكنذر مطلق، وذكر الشيخ وجها أنه يجوز صرفها إلى من له أخذ الزكاة للحاجة.
(5) أي عن الكفارة ككفارة الوطء في نهار رمضان.
(6) في التحريم والكفارة، إلا أن تكون ناسية أو مكرهة أو جاهلة فلا كفارة عليها، صرح به في المغني والمبدع وغيرهما، والفرق بينهما على القول بالوجوب حيث عذرت بذلك ولم يعذر هو لأن المجامعة لا تكون غالبا إلا منه، فهي أحق بالعفو، وهل تلزم الصبي؟ صوب ابن نصر الله وصاحب الإنصاف أنها لا تلزمه.(1/381)
(و) يجوز أن (يستمتع منها) أي من الحائض (بما دونه) أي دون الفرج، من القبلة، واللمس والوطء دون الفرج (1) لأن المحيض اسم لمكان الحيض (2) قال ابن عباس: فاعتزلوا نكاح فروجهن (3) ويسن ستر فرجها عند مباشرة غيره (4) .
__________
(1) والاستمناء بيدها ونحو ذلك، والوطء دون الفرج إذا كان يملك نفسه عن الفرج إما لشدة ورع أو لضعف شهوة، للأخبار الصحيحة، قال ابن كثير وغيره: هو قول أكثر العلماء، لما تقدم من الآية والأخبار، وإلا فلا وفاقا، وصوبه في الإنصاف لقوله: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» ، ويعضده الأمر بالإتزار، وقال ابن القيم: حديث أنس ظاهر في أن التحريم إنما وقع على موضع الحيض خاصة، وهو النكاح، وأباح كل ما دونه، وأحاديث الإتزار لا تناقضه، لأن ذلك أبلغ في اجتناب الأذى وهو أولى، وقرر الشيخ قاعدة: وهي أن ما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه، فأما الاستمتاع بما فوق السرة، وتحت الركبة فلا نزاع فيه، وقد حكى إجماع المسلمين عليه غير واحد، والقبلة بضم القاف اللثمة من التقبيل وقبلها تقبيلا لثمها.
(2) صرح به ابن قتيبة وغيره، والجمع المحايض، ومصدر كالمقيل والمبيت فيختص التحريم بمكان الحيض.
(3) رواه عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عنه رضي الله عنه، في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} .
(4) لما روى أبو داود (أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا) ، ويشهد له حديث الأمر بالإتزار، وأوجبه ابن حامد، والمراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين على أي وجه كان.(1/382)
وإذا أراد وطأها فادعت حيضا ممكنا قبل (1) (وإذا انقطع الدم) أي دم الحيض أو النفاس (ولم تغتسل لم يبح غير الصيام والطلاق) (2) فإن عدمت الماء تيممت وحل وطؤها (3) وتغسل المسلمة الممتنعة قهرا، ولا نية هنا كالكافرة للعذر (4) ولا تصلي به (5) وينوى عن مجنونة غسلت كميت (6) .
__________
(1) وذلك بأن تكون في سن من يطرقها الحيض، وهي ابنة تسع نص عليه، وقال ابن حزم وغيره، اتفقوا على تصديق قول المرأة: هي حائض، وقد طهرت وبدن الحائض وعرقها وسؤرها طاهر، ولا يكره طبخها وعجنها ونحو ذلك ذكره ابن جرير وغيره إجماعا وقال النووي وغيره: لا خلاف فيه بين العلماء.
(2) لأن وجوب الغسل لا يمنع فعل الصيام كالجنب، ولا يمنع الطلاق أيضا لأن تحريمه لتطويل العدة، وقد زال قال ابن المنذر: هو كالإجماع، وحكاه إسحاق إجماع التابعين، وما روي عن أبي حنيفة من حل الوطء إذا انقطع الدم لأكثر الحيض مردود بالآية والأخبار، وقال شيخ الإسلام: قول الجمهور هو الصواب، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن والآثار، وإذا انقطع ولم تغتسل فكالجنب فيما يجب ويحرم إلا في الوطء، فيتوقف على الاغتسال، لأن حدثها لا يزول إلا بالغسل، واستثنى بعضهم نقض الشعر، ولا حاجة إليه، وقوله: انقطع أي انقضى وفرغ.
(3) لأن التيمم بدل مشروع بالإجماع لكل ما يفعل بالماء، وهل يكره لمن لم يخف العنت؟ الصحيح لا يكره، واختاره الشيخ وغيره.
(4) أي ولا نية لها هنا معتبرة، كما لا نية للكافرة للعذر وهو الامتناع.
(5) لخلوه عن النية، ولا تطوف ولا تفعل كل ما يشترط له الغسل.
(6) أي ينوي عن مجنونة من يغسلها، إذ لا اعتبار بنيتها، لعدم شرطها، وظاهره لا تعيده إذا أفاقت، لقيام نية الغاسل مقام نيتها، كما تقوم نيته عن ميت.(1/383)
(والمبتدأة) أي في زمن يمكن أن يكون حيضا (1) وهي التي رأت الدم ولم تكن حاضت (2) (تجلس) أي تدع الصلاة والصيام ونحوهما (3) بمجرد رؤيته ولو حمرة أو صفرة أو كدرة (4) (أقله) أي أقل الحيض يوما وليلة (ثم تغتسل) (5) لأنه آخر حيضها حكما (6) (وتصلي) وتصوم (7) .
__________
(1) بعد تسع سنين فأكثر على القول به، سواء ابتدئت بدم أسود أو أحمر أو صفرة أو كدرة وفاقا، وابتداء الشيء أول وقت ظهوره.
(2) يعني قبل رؤية الدم، بل هو أول دم طرقها.
(3) كالطواف والاعتكاف الواجبين وكذا القراءة.
(4) على الأصح وفاقا لأن دم الحيض جبلة وعادة، ودم الاستحاضة لعارض من مرض ونحوه، والأصل عدمه.
(5) أي تغتسل بعد مضي الأقل، وإن كان مع سيلان الدم.
(6) لا حسا، وإنما أمرناها بالعبادة احتياطا، لبراءة ذمتها، لأن الظاهر أنه حيض، هذا المذهب وعنه: تجلس أكثره وفاقا، واختاره الموفق وغيره، فلا تغتسل قبل الخمسة عشر يوما، ما لم ينقطع، وهو أظهر مما قدمه، وأظهر منه جلوسها ما لم تصر مستحاضة، لعدم وجود التحديد الشرعي، واختاره الشيخ، وهو رواية عن أحمد، وحكاه في الفروع وفاقا، وقالوا: وإن انقطع قبل مضي الأقل لم يجب له غسل، لأنه لا يصلح حيضا، وقضت واجب صلاة ونحوها، وتقدم اختيار الشيخ وغيره أنه لا يتقدر الحيض، وإن انقطع لأقله اغتسلت لأنه آخر حيضها، وإن عاد فكما لو لم ينقطع، وتغتسل عند انقطاعه غسلا ثانيا.
(7) وحكمها حكم الطاهرات، هذا المذهب لأن ما زاد على أقله يحتمل
الاستحاضة فلا تترك الواجب للشك، وتقدم أن استمرار الدم حيض، ما لم تصر مستحاضة وأنه لا يسع النساء العمل بغيره.(1/384)
ولا توطأ (1) (فإن انقطع) دمها (لأكثره) أي أكثر الحيض خمسة عشر يوما (فما دون) بضم النون لقطعه عن الإضافة (2) (اغتسلت عند انقطاعه) أيضا وجوبا لصلاحية أن يكون حيضا (3) وتفعل كذلك في الشهر الثاني والثالث (4) (فإن تكرر) الدم (ثلاثا) أي في ثلاثة أشهر ولم يختلف (5) .
__________
(1) أي يحرم، لأن الظاهر أنه حيض، ولا كفارة ما لم يثبت أنه حيض بل هو حيض، وقالوا: إنما أمرت بالعبادة فيه احتياطا فيجب ترك وطئها احتياطا ولا كفارة فيه حتى يتكرر، ولم يجدوا حجة على ذلك، ولو طردوا أصلهم أنه جبلة وعادة، وأن دم الاستحاضة عارض حتى تصير مستحاضة لكان أصوب.
(2) أي دون الخمسة عشر، ودون: نقيض فوق، وهو ما قصر عن الغاية.
(3) وحكمها حكم الطاهرات في الصلاة وغيرها، لقول ابن عباس: (أما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل) ، ويباح وطؤها لأنها رأت النقاء الخالص صححه في الإنصاف.
(4) يعني تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي، فإن انقطع لأكثره فما دون تغتسل عند انقطاعه ويكون حكمها حكم الطاهرات.
(5) بأن كان مقداره في الثلاثة واحدا، ولو لم يتوال، وإلا فالعادة الأقل، لأنه المتكرر فإن اختلف فما تكرر صار عادة كخمسة في أول الشهر وستة في ثان وسبعة في ثالث، فتجلس الخمسة، أو غير مرتب، كأن ترى في الأول خمسة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث ستة، فتجلس الأربعة لتكررها.(1/385)
(فـ) هو كله (حيض) وثبتت عادتها (1) فتجلسه في الشهر الرابع (2) ولا تثبت بدون ثلاث (3) (وتقضي ما وجب فيه) أي ما صامت فيه من واجب وكذا ما طافته أو اعتكفت فيه (4) .
__________
(1) لقوله عليه الصلاة والسلام «دعي الصلاة أيام أقرائك» ، وهي جمع وأقله ثلاث فلا تثبت العادة بدونها، لأن ما اعتبر له التكرار اعتبر فيه الثلاث كالأقراء والشهور في عدة الحرة.
(2) لأنه صار عادة لها.
(3) لما تقدم ولا يشترط فيها التوالي، وعنه تثبت بدون ثلاث، واختار الشيخ وغيره أن المبتدأة تجلس في الثاني ولا تعيد.
(4) يعني الوقت المجاوز لأقل الحيض من واجب منهما، وكذا قراءة لتبين أنها فعلته في زمن الحيض، وتقدم أن مذهب جمهور العلماء واختيار الشيخ وغيره جلوس ما رأته ما لم تصر مستحاضة، وقال الشيخ: الدم باعتبار حكمه لا يخرج عن خمسة أقسام: دم مقطوع بأنه حيض كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معه، ودم مقطوع بأنه استحاضة كدم صفرة، ودم يحتمل الأمرين لكن الأظهر أنه حيض، وهو دم المعتادة والمميزة ونحوهما من المستحاضات الذي يحكم بأنه حيض ودم يحتمل الأمرين، والأظهر أنه دم فساد، وهو الدم الذي يحكم بأنه استحاضة من دماء هؤلاء، ودم مشكوك فيه لا يترجح فيه أحد الأمرين، ويقول به طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، فيوجبون على من أصابها أن تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم، والصواب أن هذا القول باطل لوجوه: منها أن الله بين لنا ما نتقيه، فكيف يقال إن الشريعة فيها شك؟ ولا يقولون نحن شككنا، فإن الشاك لا علم عنده، فلا يجزم، وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادته لشكهم، والثاني أن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة مرتين، ولا الصيام مرتين إلا بتفريط والصواب ما عليه جمهور المسلمين، أن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه.(1/386)
وإن ارتفع حيضها ولم يعد (1) أو أيست قبل التكرار لم تقض (2) (وإن عبر) أي جاوز الدم (أكثره) أي أكثر الحيض (3) فـ (هي) (مستحاضة) (4) والاستحاضة سيلان الدم في غير وقته من العرق العاذل (5) .
__________
(1) أي ثم لم تحض ثلاثا لم تقض، يقال: رفعت الناقة لبنها إذا لم تدر.
(2) أي بلغت سن الإياس قبل التكرار ثلاثا لم تقض ما وجب فيه، لأنا لم نتحقق كونه حيضا والأصل براءتها.
(3) يعني تعدي خمسة عشر يوما.
(4) لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك عرق وليس بحيض» ، متفق عليه قال ابن رشد: إنما أجمعوا في الجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة أكثر الحيض أنه استحاضة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت لبنت أبي حبيش «إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي اهـ» ، وعلم منه أن المستحاضة هي التي جاوز دمها أكثر الحيض، تبع في ذلك المنتهى والإنصاف، وفي الإقناع المستحاضة هي التي ترى دما لا يصلح أن يكون حيضا، ولا نفاسا، تبع صاحبي الشرح والمبدع، فعلى الأول ما نقص عن اليوم والليلة، وما تراه الحامل لا قرب الولادة، وماتراه قبل تسع سنين دم فساد لا يثبت له أحكام الاستحاضة، وعلى كلام الإقناع يكون ذلك داخلا في الاستحاضة، فتثبت له أحكامه، ولها من حيث هي سبعة أحوال تعرف بالاستقراء.
(5) العذل الملامة، وربما قيل عاذر بالراء، قيل: سمي بذلك لأن المرأة تستليم إلى زوجها، فجعل العذر للعرق لكونه سببا له.(1/387)
من أدنى الرحم دون قعره (1) (فإن كان) لها تمييز (2) بأن كان (بعض دمها أحمر وبعضه أسود (3) ولم يعبر) أي يجاوز الأسود (أكثره) أي أكثر الحيض (ولم ينقص عن أقله فهو) أي الأسود (حيضها) (4) وكذا إذا كان بعضه ثخينا أو منتنا وصلح حيضا (5) .
__________
(1) إذ المرأة لها فرجان، داخل بمنزلة الدبر، منه الحيض، وخارج كالأليتين منه الاستحاضة.
(2) مصدر ميز، بمعنى ماز الشيء، عزله وفرزه عن غيره، من باب باع، والتثقيل مبالغة، ويكون في المشتبهات، وتميز انفصل، وانعزل، أي فإن كان للمستحاضة المبتدأة تمييز.
(3) فإن اجتمعت صفات متعارضة فذكر بعض الشافعية أنه يترجح بالكثرة، فإن استوت رجح بالسبق، قاله في المبدع، قال منصور: وكان محله إذا لم يمكن جعل الأسود والثخين والمنتن كله حيضا بأن زاد مجموعه على خمسة عشر.
(4) تدع زمنه الصلاة والصوم ونحوهما، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت: (يا رسول الله إني استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: «إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» ) ، متفق عليه ولأبي داود، «إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة» ، فلو رأت دما أسود ثم أحمر، وعبر أكثر الحيض، فحيضها زمن الدم الأسود، وما عداه استحاضة.
(5) أي وكذا إذا كان لها تمييز بأن كان بعضه ثخينا وبعضه رقيقا، أو بعضه منتنا وبعضه غير منتن، والمنتن هو كريه الرائحة، يقال نتن الشيء ونتن بفتح التاء وضمها وأنتن فهو منتن بضم الميم وكسرها لغة، وصلح بفتح اللام وضمها أي صلح الثخين والمنتن أن يكون حيضا، وذلك بأن ينقص عن أقله، ولم يجاوز أكثره فلو رأت خمسة أسود، ثم خمسة أحمر، ثم أطبقت الشقرة، فالأولى هي الأقوى، ومحله إذا لم يمكن جعل الجميع حيضا، بأن زاد مجموعه على خمسة عشر.(1/388)
(تجلسه في الشهر الثاني) ولو لم يتكرر أو يتوال (1) (والأحمر) والرقيق وغير المنتن (استحاضة) تصوم فيه وتصلي (2) (وإن لم يكن دمها متميزا (3) جلست) عن الصلاة ونحوها أقل الحيض من كل شهر (4) .
__________
(1) أي تدع زمنه الصلاة والصوم ونحوهما مما تشترط له الطهارة، ولو لم يتكرر ما صلح أن يكون حيضا، ولم يتوال أي يتتابع، ومن صور عدم التكرار أن ترى في الشهر الأول عشرة أيام أسود، وفي الثاني سبعة، وفي الثالث ثمانية، فتجلس الأسود كله من كل شهر، والتوالي بأن كانت ترى يوما أسود ويوما أحمر إلى خمسة عشر يوما فما دون، ثم أطبق الأحمر، فتضم الأسود بعضه إلى بعض وتجلسه، وما عداه استحاضة، والحاصل أنها تجلس زمن الأسود الصالح، في أول شهر وما بعد، ولا تتوقف على تكراره، وتجلسه أيضا ولو انتفى التوالي، لأن التمييز أمارة في نفسه، فلا تحتاج إلى ضم غيره إليه، وتثبت العادة بالتمييز إذا تكرر ثلاثة أشهر أو أقل على ما تقدم، وإن لم يكن متميزا.
(2) لأنه لا يصلح حيضا.
(3) بأن كان كله على صفة واحدة، أو الأسود منه ونحوه دون اليوم والليلة أو جاوز الخمسة عشر.
(4) أي تدع الصلاة والصيام والطواف والقراءة ونحو ذلك يوما وليلة من كل شهر هلالي لأن العادة لا تثبت بدون ذلك.(1/389)
حتى يتكرر ثلاث فتجلس (غالب الحيض) ستا أو سبعا بتحر (1) (من كل شهر) من أول وقت ابتدائها إن علمته (2) وإلا فمن أول كل هلالي (3) (والمستحاضة المعتادة) أي التي تعرف شهرها، ووقت حيضها وطهرها منه (4) (ولو) كانت (مميزة تجلس عادتها) (5) .
__________
(1) لا للتخيير بل بالاجتهاد في حال الدم، وعادة أقاربها من النساء فيما يغلب على ظنها أنه أقرب عادتها وعادة نسائها، لحديث حمنة قالت: (يا رسول الله إني استحاض حيضة شديدة كبيرة منعتني الصوم والصلاة فقال: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا ثم اغتسلي» ) ، رواه أحمد وغيره، وعملا بالغالب.
(2) أي علمت ابتداءها بالدم جلسته من أول ابتدائها من كل شهر، والمراد شهر المرأة وهو ما يجتمع لها فيه حيض وطهر صحيحان لا الشهر الهلالي.
(3) أي وإن لم تعلم وقت ابتدائها فتجلس من أول كل شهر هلالي ستا أو سبعا بتحر، والحاصل أن للمبتدأة ثلاثة أحوال: إما أن لا يجاوز دمها أكثر الحيض، أو يجاوز والثانية هي المستحاضة، وهي قسمان: مميزة وغير مميزة، ففي الأولى والأخيرة تجلس الأقل حتى يتكرر، ثم تنتقل إلى المتكرر في الأولى، والغالب في الآخرة وفي الوسطى تجلس المميزة التمييز الصالح من غير تكرار وتقدم أنها تجلس ما تراه ما لم تكن مستحاضة.
(4) لما أنهى الكلام على المستحاضة المبتدأة شرع في أقسام المستحاضة المعتادة وسميت معتادة لأنها تعرف أنها تحيض خمسة مثلا من ابتدائه وتطهر في باقيه، ويتكرر حيضها ثلاثة أشهر، وإلا فلا تسمى معتادة وشهرها هو ما اجتمع لها فيه حيض وطهر صحيحان كما تقدم سواء كان شهرا هلاليا أو أقل أو أكثر.
(5) يعني المستحاضة المعتادة وفاقا لأبي حنيفة، قال الزركشي: هو اختيار
الجمهور وجزم به وصححه غير واحد، وقال الشيخ: هي أظهر الروايتين عن أحمد، وهو ظاهر الحديث اهـ ولا تجلس ما نقصته عن عادتها قبل استحاضتها، فإذا كانت عادتها ستة أيام فصارت أربعة ثم استحيضت جلست الأربع فقط، وإن لم يتكرر النقص، وإن كانت مختلفة.(1/390)
ثم تغتسل بعدها وتصلي (1) (وإن نسيتها) أي نسيت عادتها (عملت بالتمييز الصالح) (2) بأن لا ينقص الدم الأسود ونحوه عن يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر، ولو تنقل، أو لم يتكرر (3) .
__________
(1) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي» رواه مسلم ولأن العادة أقوى، لكونها لا تبطل دلالتها بخلاف اللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته ولا فرق بين أن تكون العادة متفقة أو مختلفة.
(2) للحيض قال في الإنصاف: بلا نزاع، لحديث بنت أبي حبيش «إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئ وصلي، فإنما هو عرق» ولأنها مستحاضة لا تعلم عادتها فلزمها العمل بالتمييز كالمبتدأة وقد تبين أن شرط عمل المستحاضة به أن لا تكون عالمة العادة.
(3) تنقله بأن يكون تارة في أول الشهر، وتارة في وسطه، وتارة في آخره، وتكرره يعني ثلاثا كما تقدم في المبتدأة، ونحو الأسود الثخين والمنتن، ولا تبطل دلالة التمييز الصالح بزيادة الدمين، وهما الأسود والأحمر، والثخين والرقيق، والمنتن وغيره على شهر، نحو أن ترى عشرة أسود وثلاثين فأكثر أحمر، فتجلس الأسود والأحمر بمنزلة الطهر، ولا حد لأكثره ولا تلتفت لتمييز إلا مع استحاضة، فتجلس جميع دم لا يجاوز أكثر الحيض، لأنه يصلح كله حيضا، وإن اتفقت العادة والتمييز جلستها بلا نزاع.(1/391)
(فإن لم يكن لها تمييز) صالح (1) ونسيت عدده ووقته (2) (فغالب الحيض) تجلسه من أول كل مدة علم الحيض فيها وضاع موضعه (3) وإلا فمن أول كل هلالي (4) (كالعالمة بموضعه) أي موضع الحيض (الناسية لعدده) (5) فتجلس غالب الحيض في موضعه (6) .
__________
(1) وذلك بأن كان الدم على نسق واحد، والصالح أن لا ينقص عن يوم وليلة، وأن لا يجاوز الخمسة عشر.
(2) أي نسيت المستحاضة غير المميزة عدد أيام الحيض ووقته لنحو غفلة أو علة عارضة وهو القسم الرابع من أقسام المستحاضة، وهي الناسية، ولها ثلاثة أحوال: أحدها أن تكون ناسية لوقتها وعددها، ويسمونها المتحيرة، لأنها قد تحيرت في حيضها بجهل العادة وعدم التمييز، قال النووي وغيره: لا تطلق المتحيرة إلا على من نسيت عادتها قدرا ووقتا ولا تمييز لها.
(3) أي فتجلس الناسية لعدد الحيض ووقته غالبه من أول كل مدة علم الحيض فيها، إناطة للحكم بالأكثر كأن علمت أن الدم كان يأتيها في أول العشر الأوسط من الشهر، أو أول النصف الأخير منه، وضاع موضع الحيض كنصف الشهر الثاني أو الأول أو العشر الأوسط منه.
(4) أي وإن لم تعلم مدة الحيض وموضعه فتجلس من أول كل شهر هلالي غالب الحيض، كمبتدأة، لقوله: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا» .
(5) بأن علمت بأنها تحيض في العشر الأوسط مثلا ونسيت عدد أيام الحيض وهي الحالة الثانية للناسية.
(6) أي موضع حيضها من أوله، لحديث حمنة وهي امرأة كبيرة لم يسألها عن تمييزها ولا عادتها فلم يبق إلا أن تكون ناسية، فإن لم تعلم إلا شهرها ففيه
إن اتسع له، كأن يكون شهرها عشرين، فتجلس ستا أو سبعا بالتحري، وتغتسل وتصلي بقية العشرين، ثم تعود إلى فعلها ذلك أبدا، وإلا يتسع جلست الفاضل بعد أقل الطهر.(1/392)
(وإن علمت) المستحاضة (عدده) أي عدد أيام حيضها (1) (ونسيت موضعه من الشهر (2) ولو) كان موضعه من الشهر (في نصفه (3) جلستها) أي جلست أيام عادتها (من أوله) أي أول الوقت الذي كان الحيض يأتيها فيه (4) (كمن) أي كمبتدأة (لا عادة لها ولا تمييز) فتجلس من أول وقت ابتدائها على ما تقدم (5) .
__________
(1) أي علمت بأنها تحيض خمسة من الشهر مثلا.
(2) بأن لم تدر أكانت تحيض في أول الشهر، أو وسطه أو آخره؟
(3) أي العشر الأوسط منه، لكنها لا تدري أي العشر كان يأتيها فيها؟
(4) كأول العشر، لحديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها.
(5) في قوله: من أول وقت ابتدائها، يعني أنها إذا نسيت عدد حيضها، ووقته وموضعه، فلم تعلم أول وقت كان الدم ابتدأها فيه، فإنها تجلس غالب الحيض من أول كل شهر هلالي، كما أن المبتدأة المستحاضة إذا لم يكن لها تمييز صالح، ولم تعلم أوله وقت ابتدائها، فإنها تجلس غالب الحيض من أول كل شهر هلالي، لكن بعد التكرار، بخلاف المميزة فاستحاضتها لا تحتاج إلى تكرار، ومتى ذكرت الناسية عادتها رجعت إليها وقضت الواجب زمنها، وزمن جلوسها في غيرها، وما تجلسه ناسية من مشكوك فيه فكحيض يقينا، وما زاد إلى أكثره فكطهر متيقن، وغيرهما استحاضة، هذا مقتضى كلامه رحمهم الله.(1/393)
(ومن زادت عادتها) مثل أن يكون حيضها خمسة من كل شهر فيصير ستة (1) (أو تقدمت) مثل أن تكون عادتها من أول الشهر فتراه في آخره (2) (أو تأخرت) عكس التي قبلها (3) .
(فما تكرر) من ذلك (ثلاثا) فهو (حيض) (4) ولا تلتفت إلى ما خرج عن العادة قبل تكرره، كدم المبتدأة الزائد على أقل الحيض، فتصوم فيه وتصلي قبل التكرار، وتغتسل عند انقطاعه ثانيا، فإذا تكرر ثلاثا صار عادة، فتعيد ما صامته ونحوه من فرض (5) .
__________
(1) أي فما تكرر من ذلك ثلاثا فحيض، كالحالة الثانية من المبتدأة وهي بخلاف المميزة فإن استحاضتها لا تحتاج إلى تكرار فالتشبيه ليس تاما.
(2) كأنه سبق قلم، وصوابه من آخر الشهر فتراه في أوله، يعني فما تكرر منه حيض.
(3) وهو قوله: مثل أن تكون عادتها من أول الشهر فتراه في آخره، وكذا انتقال بأن تكون الخمسة الأول، فتكون الخمسة الثانية، وهو في معنى ما تقدم.
(4) لأنه زمنه، وصار عادة لها فتنتقل إليه.
(5) كصلاة وطواف واعتكاف ونحوها، وعنه: تصير إليه من غير تكرار، وتدع الصلاة ونحوها، أومأ إليه في رواية ابن منصور، واختاره الشيخ والموفق وجمع، قال في الإنصاف، وهو الصواب، قال ابن عبيدان: وهو الصحيح، قال في الفائق: وهو المختار، وعليه العمل، ولا يسع النساء العمل بغيره، قال في الاختيارات والمنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض
حتى تعلم أنها استحاضته باستمرار الدم، وقوله: من فرض فيه قصور إلا أن يراد ما يعم الفرض والواجب، كطواف واعتكاف قالوا: وإن لم يعد وأيست قبل تكراره لم تقض.(1/394)
(وما نقص عن العادة طهر) (1) فإن كانت عادتها ستا فانقطع لخمس اغتسلت عند انقطاعه وصلت، لأنها طاهرة (2) (وما عاد فيها) أي في أيام عادتها (3) كما لو كانت عشرا، فرأت الدم ستا ثم انقطع يومين، ثم عاد في التاسع والعاشر (جلسته) فيهما (4) لأنه صادف زمن العادة كما لو لم ينقطع (5) .
__________
(1) حكمها فيه حكم الطاهرات.
(2) وكذا لو طهرت في أثناء عادتها طهرا خالصا لا تتغير معه القطنة إذا احتشتها فهي طاهر تغتسل، لقول ابن عباس: فلتغتسل وتصل، وتفعل ما فعلته الطاهرات.
(3) ولم يجاوزها جلسته.
(4) وإن لم يتكرر كما تقدم.
(5) ولا تجلس ما جاوز العادة، ولو لم يزد على أكثره حتى يتكرر، فإن عبر الأكثر فليس بحيض، قال شيخ الإسلام: للعلماء نزاع في الاستحاضة فإن أمرها مشكل، لاشتباه دم الحيض بدم الاستحاضة، فلا بد من فاصل، والعلامات التي قيل بها ست، وإما العادة فإن العادة أقوى العلامات، لأن الأصل مقام الحيض دون غيره، وإما التمييز، لأن الدم الأسود والثخين، أولى أن يكون حيضا من الأحمر، وإما اعتبار غالب عادة النساء لأن الأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب، فهذه العلامات الثلاث تدل عليها السنة والاعتبار، ومن الفقهاء من يجلسها ليلة، وهو أقل الحيض، ومنهم من يجلسها الأكثر، لأنه أصل دم الصحة ومنهم
من يلحقها بعادة نسائها، وأصوب الأقوال اعتبار العلامات التي جاءت بها السنة وإلغاء ما سوى ذلك.(1/395)
(والصفرة والكدرة في زمن العادة حيض) فتجلسهما (1) لا بعد العادة ولو تكررتا (2) لقول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا) ، رواه أبو داود (3) .
__________
(1) الصفرة شيء كالصديد يعلوه صفرة، والكدرة كلون الماء الوسخ الكدر، وليسا على لون من ألوان الدماء، فإذا رأتهما في زمن العادة فحيض، تجلسهما وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق وغيرهم، قال ابن رشد: لا خلاف أن الصفرة والكدرة حيض، ما لم تر ذلك عقيب طهرها، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وهو يتناولهما ولأن النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الصفرة والكدرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، يعني الطهر، والدرجة قطنة تدخلها المرأة فرجها ثم تخرجها لتنظر هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا؟
(2) أي ليست الصفرة والكدرة بعد العادة حيضا ولو تكررتا، فلا تجلسه واختاره الشيخ وغيره، وروي أحمد وأبو داود وغيرهما: في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر؟ قال: إنما هو عرق أو إنما هو عروق، قال البغوي: وهو قول أكثر الفقهاء.
(3) واللفظ له: والبخاري ولم يذكر بعد الطهر، وله حكم الرفع عند أهل الحديث وغيرهم، فيكون تقريرا منه صلى الله عليه وسلم فما ليس بدم غليظ أسود يعرف فلا يعد حيضها بعد الطهر، ومفهومه أن الصفرة والكدرة قبل الطهر حيض، وهو إجماع، كما تقدم والطهر انقطاع الدم، فالذي يأتي الحائض عقب انقطاع الحيض هو الطهر الصحيح وماتراه الحائض من النشاف في أيام الحيض طهر، وإن لم تر معه بياضا، فعليها أن تغتسل وتصلي، والحاصل أن الطهر بجفوف أو قصة، فإن كانت ممن ترى القصة البيضاء اغتسلت حين تراها، وقال:
مالك: هو أمر معلوم عندهن، وإن كانت ممن لا تراها، فحين ترى الجفوف تغتسل وتصلي، والجفوف أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة ليس عليها شيء من الدم ولا من الصفرة ولا من الكدرة، لأن فرج المرأة لا يخلو من الرطوبة غالبا، والقصة بفتح القاف ماء أبيض يتبع الحيض، يشبه ماء الحص شبهت الرطوبة النقية لبياضها بالجص، وقال بعضهم: يشبه ماء العجين، وقيل يشبه المني، ويحتمل أنه يختلف باعتبار النساء وأسنانهن، وباختلاف الفصول والبلدان والطباع، وغالب ما يذكره النساء شبه المني، وقال بعض السلف: لا يلزم المرأة أن تتفقد طهرها بالليل، ولا يعجبني ذلك، ولم يكن للناس مصابيح كما قالته عائشة وغيرها: وإنما يلزمها ذلك إذا أرادت النوم، أو قامت لصلاة الصبح، وعليهن أن ينظرن في أوقات الصلوات، وليس تفقد طهراها بالليل من عمل الناس، وقال ابن رشد: كان القياس يجب عليها أن تنظر قبل الفجر بقدر ما يمكنها إن رأت الطهر أن تغتسل وتصلي المغرب والعشاء قبل طلوع الفجر، إذ لا اختلاف في أن الصلاة تتعين في آخر الوقت، فسقط ذلك عنها من ناحية المشقة، فإن استيقظت بعد الفجر وهي طاهر فلم تدر لعل طهرها كان من الليل حملت تلك الصلاة على ما فات عليه، ولم يجب عليها صلاة الليل حتى توقن أنها طهرت قبل الفجر، وأم عطية هي نسيبة بنت الحارث الأنصارية، غزت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات.(1/396)
(ومن رأت يوما) أو أقل أو أكثر (دما ويوما) أو أقل أو أكثر (نقاء (1) فالدم حيض) حيث بلغ مجموعه أقل الحيض (2) .
__________
(1) متخللا لتلك الدماء، لا يبلغ أقل الطهر، والنقاء بالفتح والمد مصدر نقي كتعب بمعنى، نظف.
(2) ويسمى التلفيق، أي ضم الدماء بعضها إلى بعض، وجعلها حيضة واحدة إن تخللها طهر، وصلح زمانه، كما لو لم يفصل بينهما طهر، قال ابن رشد: لا تخلو الأيام إما أن تكون أيام حيض، أو أيام طهر، فإن كانت أيام حيض فيجب أن
تلفقها إلى أيام الدم، وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم إذا كان قد تخللها طهر.(1/397)
(والنقاء طهر) تغتسل فيه وتصوم وتصلي (1) ويكره وطؤها فيه (2) (ما لم يعبر) أي يجاوز مجموعهما (أكثره) أي أكثر الحيض (3) فيكون استحاضة (4) .
(والمستحاضة ونحوها) ممن به سلس البول أو مذي أو ريح أو جرح لا يرقأ دمه (5) أو رعاف دائم (6) .
__________
(1) لأنه طهر حقيقة، واختاره الشيخ وغيره وفاقا لمالك، وتقدم قول ابن عباس: أما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل.
(2) قدمه في الرعاية، وعنه يجوز، وهو قول أكثر الفقهاء.
(3) كأن ترى يوما دما ويوما نقاء إلى ثمانية عشر مثلا.
(4) فترد إلى عادتها إن علمتها، وإلا فبالتمييز، وإلا فمتحيرة على ما تقدم، لا إن كانت مبتدأة فلها حكم المبتدأة.
(5) أي لا يسكن، وهو مهموز، يقال: رقأ الدم رقوءا سكن، والسلس بفتح اللام، وهو الذي لا يمكنه إمساكه وكذا من به استطلاق بطن، وذكر ابن الصلاح وغيره أن ما ذكر مع الاستحاضة فهو بفتح اللام، وهو عبارة عن المصدر، وما ذكر مع المستحاضة، فهو بكسر اللام وهو الشخص الذي يكون به ذلك.
(6) الرعاف هو الدم الذي يسبق من الأنف، على وزن البزاق، سمي به لسبقه إلى الأنف، وكل سابق راعف، وفعله رعف بفتح العين، وهو فصحاها، وبضمها وحكي كسرها، وهو يطلق على خروج الدم من الأنف، وعلى الدم نفسه
والمراد أن نحو المستحاضة في الجملة من حدثه دائم، قياسا عليها، لتساويهم معنى وهو عدم القدرة على التحرز، فوجب تساويهما حكما، قال في الإنصاف: بلا نزاع، فحكمه غسل محل الملوث بالحدث، لإزالته عنه والوضوء مع القدرة، لا غسل ثوبه ونحوه لكل فرض، وإلا فالتيمم وعمر صلى وجرحه يثعب، وكان زيد بن ثابت إذا غلبه يصلي ولا يبالي ما أصاب ثوبه.(1/398)
(تغسل فرجها) لإزالة ما عليه من الخبث (1) (وتعصبه) عصبا يمنع الخارج حسب الإمكان (2) فإن لم يمكن عصبه كالباسور صلى على حسب حاله (3) ولا يلزم إعادتهما لكل صلاة ما لم يفرط (4) .
__________
(1) وتحتشي بقطن أو ما يقوم مقامه، ليمنع خروج الخارج.
(2) ويكون ما تعصبه به شيئا طاهرا، كأن تجعل خرقة كالتبان تتلجم بها، وتوثق طرفيها في شيء آخر شدتها على وسطها، لقوله عليه الصلاة والسلام أنعت لك الكرسف تحشين به المكان، قالت: إنه أكثر من نذلك، قال تلجمي فإن غلب الدم وقطر لم تبطل طهارتها، ولا يلزمها إذا إعادة الشد، وإن قصرت فخرج وجب التجديد بلا خلاف، حكاه إمام الحرمين وغيره، وذلك ما لم تتأذ بالشد ويحرقها اجتماع الدم فلا، لما فيه من الضرر.
(3) لقوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} والباسور ورم تدفعه الطبيعة بإذن الله إلى كل موضع من البدن يقبل الرطوبة من المقعدة والأنثيين والأشفار وداخل الأنف والشفة جمعه بواسير، وقيل: عجمي وكذا الناسور.
(4) أي لا يلزم إعادة الغسل والعصب عند فعل كل صلاة، لأن الحدث مع غلبته لا يمكنه التحرز منه، وفي الصحيح أن إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه، فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي، وكذا حكم الجرح الذي لا يمكن شده، فإن فرط أعادهما.(1/399)
(وتتوضأ لـ) دخول (وقت كل صلاة) إن خرج شيء (1) (وتصلي) ما دام الوقت (فروضا ونوافل) (2) فإن لم يخرج شيء لم يجب الوضوء (3) وإن اعتيد انقطاعه زمنا زمنا يتسع للوضوء والصلاة تعين (4) لأنه أمكن الإتيان بها كاملة (5) .
__________
(1) بعد الوضوء لقوله: توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، وفي لفظ لوقت كل صلاة صححه الترمذي، وكذا حكم من حدثه دائم، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وجمهور أهل العلم، ولما تقدم من الأدلة على وجوب الطهارة من الخارج من السبيلين، واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يؤذيه البرد.
(2) لبقاء وضوئها إلى خروج الوقت، وكالمتيميم وأولى.
(3) قد يقال: إنه مخالف لمقتضى ما تقدم من قوله: وتتعين نية الاستباحة لمن حدثه دائم لفرضه، وقولهم في شروط الوضوء، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه، فإن قضيته أن يتوضأ لوقت كل صلاة دائما، ويجاب بأن ما تقدم مخصوص بما إذا لم يمكنه تعصيب المحل، كمن به باسور ونحوه، وهنا فيما إذا أمكنه ولم يخرج شيء.
(4) يعني زمن انقطاع دم الاستحاضة ونحوه.
(5) يعني الإتيان بالعبادة كاملة، على وجه لا عذر معه ولا ضرورة فتعين، كمن لا عذر له، وإن وجد قبل الدخول في الصلاة لم يجز الشروع فيها، وإن عرض هنا الانقطاع لمن عادته الاتصال بطل وضوءه، وعنه لا عبرة بانقطاعه اختاره المجد وصاحب الفائق وجماعة، وقالوا: ولو كثر الانقطاع، واختلف بتقدم وتأخر، وقلة وكثرة، ووجد مرة وعدم أخرى، قال ابن تميم: وهو أصح.(1/400)
ومن يلحقه السلس قائما صلى قاعدا (1) أو راكعا أو ساجدا يركع ويسجد (2) (ولا توطأ) المستحاضة (إلا مع خوف العنت) منه أو منها (3) ولا كفارة فيه (4) (ويستحب غسلها) أي غسل المستحاضة (لكل صلاة) (5) .
__________
(1) وكذا من تمتنع قراءته قائما.
(2) نص عليه فيمن يلحقه السلس راكعا أو ساجدا، كالمكان النجس، ولا يكفيه الإيماء لأنه لا نظير له في حالة الاختيار.
(3) لقول عائشة في المستحاضة، لا يغشاها زوجها، فإن خافه أو خافته أبيح، وكذا إن كان به شبق، وعنه يباح وطؤها مطلقا وفاقا، وهو قول أكثر الفقهاء لأن حمنة تستحاض، وكان زوجها طلحة يطؤها، وأم حبيبة كذلك، رواه أبو داود، وليست المستحاضة كالحائض من كل وجه، فتنقاس عليها، بل فرق الشارع بينهما، لأن دم الحيض أعظم وأدوم وأضر من دم الاستحاضة، ودم الاستحاضة، دم عرق، وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف، وخروجه مضر وانقطاعه دليل الصحة، ودم الحيض عكس ذلك، ولا يستوي الدمان حقيقة ولا حكما ولا سببا، قال النووي: يجوز في الزمن المحكوم بأنه طهر، ولا كراهة في ذلك، وإن كان الدم جاريا، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء، ولا يثبت لها شيء من أحكام الحيض بلا خلاف، ونقل ابن جرير الإجماع على أنها تقرأ القرآن، وأن عليها جميع الفرائض التي على الطاهر، وحكى نحو ذلك غيرهما، لأنها كالطاهر في الصلاة والصوم وغيرهما، فكذلك في الجماع، ولا يكره إلا عن دليل، وقال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت، الصلاة أعظم، والعنت الفجور والزنا والوقوف في أمر شاق.
(4) إجماعا.
(5) وليس بواجب عند أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها أن تغتسل لكل صلاة، وإنما أمرها بالغسل مطلقا، فكانت هي تغتسل لكل صلاة، بل الواجب الوضوء لكل صلاة عند الجمهور، لأمره صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالوضوء عند كل صلاة، ورواه البخاري والترمذي وغيرهما.(1/401)
لأن أم حبيبة استحيضت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل عند كل صلاة، متفق عليه (1) .
(وأكثر مدة النفاس) وهو دم ترخيه الرحم للولادة وبعدها، وهو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل لأجله (2) وأصله لغة من التنفس وهو الخروج من الجوف (3) .
__________
(1) من حديث عائشة أن أم حبيبة اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم فقال: «امثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي» أي غسل الخروج من الحيض فكانت تغتسل لكل صلاة، من غير أمر منه صلى الله عليه وسلم لها بذلك، وفي رواية للبخاري: وتوضئي لكل صلاة، فلا يجب عليها الغسل لشيء من الصلوات إلا مرة واحدة، في وقت انقطاع حيضها، قال غير واحد: وهومذهب جمهور السلف والخلف للأخبار، واستحيضت استمر بها الدم كما تقدم، وأم حبيبة هي بنت جحش أخت زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تحت عثمان رضي الله عنه.
(2) جعله الله غذاء له، وفي التعريفات، النفاس دم يعقب الولد.
(3) أي خروج النفس من الرئة بعد إدخاله إليها، أو من التنفس الذي هو التشقق والانصداع يقال: تنفست القوس إذا تشققت وسميت ولادة المرأة نفاسا لأنه يصحبها خروج النفس وهو الدم، ثم سمي الدم نفاسا، لأنه خارج بسبب الولادة، تسمية للمسبب باسم السبب، يقال: نفست المرأة، بضم النون لا غير إذا ولدت
والمصدر النفاس بالكسر، ويقال للمرأة نفساء بضم النون وفتح الفاء، وضم النون أفصح من فتحها، ومن ضم فسكون، وهي بالمد على اللغات الثلاث، ومثناها نفساوان، ويقال أيضا نفست بضم النون وفتحها مع كسر الفاء فيهما إذا حاضت.(1/402)
أو من: نفس الله كربته، أي فرجها (1) (أربعون يوما) (2) وأول مدته من الوضع (3) وما رأته قبل الولادة بيومين أو ثلاثة، بأمارة فنفاس وتقدم (4) ويثبت حكمه بشيء فيه خلق الإنسان (5) .
__________
(1) ويقال نفسه بمعنى أمهله، أو نفس كربه.
(2) من ابتداء خروج بعض الولد، حكاه أحمد عن عمر وغيره، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة لحديث أم سلمة: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، رواه الترمذي وغيره، وأثنى عليه البخاري، ومعناه: كانت تؤمر أن تجلس إذ محال اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض، واحتج أيضا الجمهور بأحاديث في معناه، وقال الترمذي: أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي، قال أبو عبيد: وعلى هذا جماعة الناس، وقال إسحاق: هو السنة المجتمع عليها، وقال الشيخ: لا حد لأكثره ولو زاد على السبعين وانقطع، ولكن إن اتصل فهو دم فساد، وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب.
(3) وفاقا: وقال ابن رشد والنووي وغيرهما: لا خلاف أن الدم الذي يهراق بعد الولادة نفاس.
(4) أي في قوله: إلا أن تراه قبل ولادتها إلخ، وقوله: أمارة، بفتح الهمزة أي علامة على الولادة كالتألم، وإلا فلا تجلسه، ولا تعتد به من الأربعين.
(5) لا علقة أو مضغة لا تخطيط فيها فليس بنفاس، والمدة التي يتبين فيها غالبا ثلاثة أشهر، وأقله أحد وثمانون يوما، فمتى رأت دما على طلق قبلها لم تلتفت
إليه، وبعدها تمسك عن الصلاة والصوم ثم إن تبين فيه خلق الإنسان رجعت فاستدركت وإلا استمر الحكم على الظاهر.(1/403)
ولا حد لأقله (1) لأنه لم يرد تحديده (2) وإن جاوز الدم الأربعين وصادف عادة حيضها ولم يزد أو زاد وتكرر فحيض إن لم يجاوز أكثره (3) ولا يدخل حيض واستحاضة في مدة نفاس (4) (ومتى طهرت قبله) أي قبل انقضاء أكثره (تطهرت) أي اغتسلت (وصلت) وصامت كسائر الطاهرات (5) .
__________
(1) أي لا حد لأقل زمنه وفاقا، فيثبت حكمه ولو بقطرة قال أبو الطيب: وهو قول جمهور العلماء.
(2) فرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلا وكثيرا، حتى وجد من لم تر نفاسا أصلا، وحكى البخاري في تاريخه أن عائشة قالت لامرأة لم تره: أنت امرأة قد طهرك الله والنقاء زمنه طهر.
(3) وكذا إن لم يصادف عادة، ولم يجاوز أكثر الحيض، وتكرر فحيض، كما صرح به غير واحد، وإن لم يصادف عادة حيض فهو استحاضة، إن لم يتكرر، لأنه لا يصلح حيضا ولا نفاسا، ولو هجرها الدم ثم أتاها في عادتها فهو حيض، لأنه لا حد لأكثر الطهر، وإن زاد على العادة وجاوز أكثر الحيض فاستحاضة، وقال مالك والشافعي، أكثره ستون، وتقدم أنه لا حد لأكثره، وأن المرجع في ذلك إلى الوجود.
(4) كما لا تدخل في مدة حيض، لأن الحكم للأقوى، فلو ولدت المستحاضة واستمر الدم أربعين يوما فإنه نفاس، لا تصوم فيه ولا تصلي.
(5) لانقطاع دم النفاس، وروي عن أم سلمة مرفوعا، كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ذكره في المبدع.(1/404)
كالحائض إذا انقطع دمها في عادتها (1) (ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد) انقطاع الدم و (التطهير) أي الاغتسال، قال أحمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها، على حديث عثمان بن أبي العاص (2) (فإن عاودها الدم) في الأربعين (3) (فمشكوك فيه) كما لو لم تره ثم رأته فيها (4) (تصوم وتصلي) أي تتعبد، لأنها واجبة في ذمتها بيقين، وسقوطها بهذا الدم مشكوك فيه (وتقضي الواجب) من صوم ونحوه احتياطا (5) .
__________
(1) تغتسل وتصلي وتصوم ونحوه.
(2) أنها أتته قبل الأربعين، فقال: لا تقربيني، ولأنها لا تأمن عود الدم في زمن الوطء وعنه: لا أكره وطأها، ذكره الزركشي وغيره، وقال جمهور أهل العلم: لا كراهة في وطئها لأن لها حكم الطاهرات في كل شيء، وليس للكراهة دليل يعتمد عليه، وإن اتصلت به صفرة أو كدرة فنفاس، وقيل: بلا خلاف.
(3) يعني بعد انقطاعه.
(4) فمشكوك فيه، يعني كونه نفاسا أو فسادا، لتعارض الأمارتين فيه، وعنه: هو نفاس تدع له الصوم والصلاة، وهو قول كثير من العلماء، واختاره الموفق وغيره.
(5) تقدم قول الشيخ: إن قولهم: تصوم وتصلي وتقضي الواجب باطل من وجوه، وأن من فعل العبادة كما أمر بحسب وسعه فلا إعادة عليه، واحتاط الرجل، أخذ في أموره بالحزم، واحتاط لنفسه أخذ بالثقة، واحتاط على الشيء حافظ عليه، افتعال، وهو طلب الأحوط، والأخذ بأوثق الوجوه.(1/405)
ولوجوبه يقينا (1) ولا تقضي الصلاة كما تقدم (2) (وهو) أي: النفاس (كالحيض (3) فيما يحل) كالاستمتاع بما دون الفرج (4) (و) فيما (يحرم) به كالوطء في الفرج والصوم والصلاة (5) والطلاق بغير سؤالها على عوض (6) (و) فيما (يجب) به كالغسل (7) والكفارة بالوطء فيه (8) (و) فيما (يسقط) به كوجوب الصلاة فلا تقضيها (9) (غير العدة) فإن المفارقة في الحياة تعتد بالحيض دون النفاس (10) .
__________
(1) لا يقال إنها لا تقضي الصوم قياسا على الناسية إذا صامت في الدم الزائد على غالب الحيض، لأنه يتكرر فيشق بخلاف النفاس.
(2) يعني في قولهما: وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة إجماعا.
(3) بلا خلاف في الجملة، لأنه حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فكان حكمه حكم الحيض، ونقل ابن جريج إجماع المسلمين عليه إلا ما استثني.
(4) وله أن يستمتع منها كما يستمتع من الحائض.
(5) أي النفساء كالحائض في ذلك اتفاقا.
(6) ظاهره إن سألته بلا عوض، أو سأله غيرها لم يبح، وبذلك العوض يدل على إرادته حقيقة.
(7) إجماعا.
(8) قياسا على الحائض على القول بها.
(9) إجماعا.
(10) لأنه ليس بقرء، ولأن العدة تنقضي بوضع الحمل.(1/406)
(و) غير (البلوغ) فيثبت بالحيض دون النفاس لحصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل (1) ولا يحتسب بمدة النفاس على المولي (2) بخلاف مدة الحيض (3) (وإن ولدت) امرأة (توأمين) أي ولدين في بطن واحد (4) (فأول النفاس وآخره من أولهما) كالحمل الواحد (5) فلو كان بينهما أربعون فأكثر فلا نفاس للثاني (6) .
__________
(1) لأن الحمل ينعقد من مائها، والبلوغ في الأصل الوصول، وبلغ الغلام أو الجارية: أدركا بلوغ حد التكليف، ويأتي في الحجر.
(2) في مدة الإيلاء لأنه ليس بمعتاد.
(3) لاعتياده، ولا يحصل بالنفاس استبراء، ولا فصل بين طلاقي السنة والبدعة.
(4) فأكثر من ولدين، يقال: أتأمت المرأة، إذا ولدت اثنين في بطن واحد، فهي متئم، فإذا كان ذلك عادة لها فهي متآم، وهذا الولد تؤم لهذا.
(5) وفاقا لمالك وأبي حنيفة، والوجه الثاني للشافعية، لأنه دم خرج عقب الولادة فكان نفاسا واحدا.
(6) من التوأمين نص عليه، لأن الولد الثاني تبع للأول، فلم يعتبر في آخر النفاس كأوله، فما خرج مع الولد الثاني بعد الأربعين على القول بها دم فساد، لأنه لا يصلح حيضا ولا نفاسا، وعنه: من الثاني لأنها قبل وضعه حامل، ولا يضرب لها مدة النفاس، كما قبل الأول، ولهذا لا تنقضي العدة إلا بوضعهما، واختاره أبو المعالي وغيره، وقال: لا يختلف المذهب فيه، وقال بعض الشافعية، اتفق أئمتنا على استئناف نفاس، فإن الذي تقدمه نفاس كامل، ويستحيل أن تلد الثاني وترى الدم عقيبه ولا يكون نفاسا اهـ وللاتفاق على أن الدم المهراق بعد الولادة نفاس.(1/407)
ومن صارت نفساء بتعديها بضرب بطنها أو بشرب دواء لم تقض (1) .
__________
(1) أي الصلاة لأنه دم فساد، ولأن وجود الدم ليس معصية من جهتها وكذا حيض، كما لو كان التعدي من غيرها، وقيل: يجوز شرب دواء مباح لإلقاء نطفة، وقال الشيخ: الأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع نفوذ المني في مجاري الحبل، وقال القاضي وغيره: لا يباح شرب دواء مباح لقطع الحيض إلا بإذن الزوج كالعزل، قال في الإنصاف: وهو الصواب، وقال في الفروع: وفعل ذلك بها من غير علم يتوجه تحريمه، لإسقاط حقها مطلقا من النسل المقصود، وقال: ويتوجه في الكافور ونحوه له كقطع الحيض، قال في الإنصاف، وهو الصواب فيهما الذي لا شك فيه، وأما إسقاط الحمل فقال الشيخ: حرام باتفاق المسلمين.(1/408)
كتاب الصلاة (1)
..............................................................
__________
(1) هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وأفضل الأعمال بعدهما، لكونها وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها، ولجمعها لمتفرق العبودية، وتضمنها لأقسامها، وهي أول ما يشترطه صلى الله عليه وسلم بعد التوحيد، لأنها رأس العبادة البدنية، وقد تعبد الله عباده في أبدانهم وأموالهم عبادة محضة، كالصلاة والزكاة أو مركبة منهما كالصوم والحج، والعبودية هي غاية كمال الإنسان، وقربه من الله بحسب قربه من عبوديته وهي دين الأمة ضرورة، ولم تخل منها شريعة مرسل، وفرض عين بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها الله ليلة المعراج على نبيه صلى الله عليه وسلم في السماء، بخلاف سائر الشرائع، فدل على حرمتها وتأكد وجوبها، وأحاديث كل صلاة من الصلوات الخمس، وأحاديث الركعات وما تشتمل عليه كل ركعة، والركوع والسجود والرفع منهما، وترتيب ذلك، قد بلغت حد التواتر، أو تزيد عليه تواترا معنويا، وما نقل بالتواتر فحصل العلم به ضرورة لا يرده إلا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل بإجماع المسلمين وجاء في تحتمها وفضلها آيات وأحاديث كثيرة معروفة، وسأل شيخ الإسلام هل كانت الصلاة على من قبلنا من الأمم مثلنا؟ فقال: كانت لهم صلوات في هذه الأوقات، لكن ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات وغيرهما اهـ، وكانت قبل صلاتين، قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وقيل: كانت الظهر لداود، والعصر لسليمان، والمغرب ليعقوب، والعشاء ليونس، والصبح لآدم، ونظمه بعضهم بقوله:
لآدم صبح والعشاء ليونس ... وظهر لداود وعصر لنجله
ومغرب يعقوب كذا شرح مسند ... لعبد كريم فاشكرن لفضله
وقيل غير ذلك.(1/409)
في اللغة الدعاء (1) قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم (2) وفي الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة (3) .
__________
(1) بخير، أي حقيقتها ذلك، وهو ما عليه الجمهور من الفقهاء وغيرهم وقال ابن رشد: هو المشهور المعروف اهـ لأنه الشائع في كلامهم قبل ورود الشرع بالأركان المخصوصة، قال في القاموس: والصلاة الدعاء، وعبادة فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر، صلى صلاة دعا، والفرس تلا السابق، لتلوها الشهادتين اهـ والمصلي لا ينفك عن دعاء عبادة، أو ثناء أو طلب ومسألة، فما خرجت عن حقيقة الدعاء، وقال بعضهم: الشيء لا يعرف إلا باسمه، ولا يجب إلا بسببه، ولا يوجد إلا بركنه، ولا يصح إلا بشرطه، ولا يفعل إلا بحكمه.
(2) واستغفر لهم، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم أي دعا لهم، وقال عليه الصلاة والسلام في الدعوة وإن كان صائما فليصل، أي يدع وكان إذا جاء الناس بصدقاتهم يدعو لهم.
(3) من قراءة وتكبير وتسبيح ونحوه، وقيام وقعود وركوع وسجود ونحوه، والمقدر كالملفوظ والمفعول، أو التعريف باعتبار الغالب، وجرت عادة الفقهاء إذا أرادوا بيان لفظ عرفوه من جهة اللغة والشرع، فيقولون مثلا: الصلاة معناها في اللغة الدعاء، وفي الشرع الأقوال والأفعال، بناء منهم على إثبات الحقائق الشرعية، وقال الشيخ: والشارع استعمل اسم الصلاة مقيدة لا مطلقة كنظائرها، وقال: وإذا ورد في الشرع أمر بالصلاة، أو حكم معلق عليها انصرف إلى الصلاة الشرعية، ولا نزاع بين العلماء في أن إطلاق الصلاة والصوم وغيرهما من الألفاظ المشتركة في الشرع على معانيها الشرعية، على سبيل الحقيقة الشرعية بمعنى أن حملة الشرع غلب استعمالهم لتلك الألفاظ في تلك المعاني، حتى إن اللفظ لا يفهم منه عند الإطلاق إلا المعاني المذكورة اهـ، وخرج بقوله: مخصوصة، سجدة التلاوة والشكر، فإنهما ليستا صلاة كصلاة الجنازة.(1/410)
مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم (1) سميت صلاة لاشتمالها على الدعاء (2) مشتقة من الصلوين (3) وهما عرقان من جانبي الذنب وقيل عظمان ينحنيان في الركوع والسجود (4) وفرضت ليلة الإسراء (5) (تجب) الخمس في كل يوم وليلة (على كل مسلم مكلف) (6) .
__________
(1) لحديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.
(2) أي على المعنى اللغوي الذي هو الدعاء، قال في الإنصاف: وهذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء من الفقهاء وأهل العربية وغيرهم، وقيل: لما يعود على صاحبها من البركة، وقيل: لأنها تفضي إلى المغفرة، وقيل: لما تتضمن من الخشوع وغيره.
(3) بفتح الصاد واللام تثنية صلا بالقصر، واختاره النووي، وهذا القول مغاير للأول، وهو قوله لاشتمالها على الدعاء، وهو ظاهر كلام ابن كثير وغيلره، بل هو صريح فيه واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر.
(4) والصلا وسط الظهر منا ومن كل ذي أربع، وما انحدر من الوركين أو الفرجة بين الجاعرة والذنب، أو ما عن يمين الذنب وشماله، وهما صلوان، وجمعه صلوان.
(5) بنحو ثلاث قبل الهجرة، لحديث أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسين صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودي يا محمد إنه لا يبدل القول لدي، وإن لك بهذه الخمس خمسين صححه الترمذي.
(6) أي تجب الصلوات الخمس في كل يوم وليلة بدخول أوقاتها على كل
مسلم مكلف بالكتاب والسنة والإجماع إجماعا قطعيا قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي مفروضا في الأوقات وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} وقال: {لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} وقال عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن أخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة وقال للأعرابي خمس صلوات في اليوم والليلة، وقال: فرضت الصلاة، الحديث وبني الإسلام على خمس، وذكر الصلاة بعد الشهادتين، وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم ثم قرأ {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ *} وحكى إجماع الأمة على أن الصلوات الخمس فرض عين، على كل مسلم مكلف، في كل يوم وليلة غير واحد من أهل العلم، وقال ابن رشد: لا يرده إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، والحكمة في مشروعيتها والله أعلم التذلل والخضوع بين يدي الله عز وجل المستحق للتعظيم، ومناجاته تعالى فيها بالقراءة والذكر والدعاء، وتعمير القلب بذلك، واستعمال الجوارح في خدمته.(1/411)
أي بالغ عاقل ذكر أو أنثى أو خنثى، حر أو عبد أو مبعض (1) (لا حائضا ونفساء) فلا تجب عليهما (2) .
__________
(1) بغير خلاف، ومن لم يبلغه الشرع كمن أسلم بدار حرب، أو نشأ بباديه قيل يقضيها، وقيل لا، اختاره الشيخ، بناء على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، وأجري ذلك في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الشرع، من تيمم وزكاة ونحوهما، وهو قياس الأصل، وقال: والأصح لا قضاء ولا إثم إذا لم يقصر، للعفو عن الخطأ والنسيان والنوم.
(2) ولا يقضيانها إجماعا.(1/412)
(ويقضي من زال عقله بنوم أو إغماء أو سكر) (1) طوعا أو كرها (أو نحوه) كشرب دواء (2) لحديث «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» رواه مسلم (3) وغشي على عمار ثلاثا، ثم أفاق وتوضأ وقضى تلك الثلاث (4) .
__________
(1) إجماعا في النوم، وكذا في الإغماء ما لم تطل مدته، فإن مذهب مالك والشافعي لايلزمه قضاء الصلاة إلا أن يفيق في جزء منها، وأبو حنيفة لا يراه بعد خمس صلوات، وعندنا يلزم القضاء مطلقا، لأنه لا تطول مدته غالبا، أشبه النوم المتفق على القضاء في حالته، وأما السكر فبطريق الأولى، والإغماء مصدر، أغمي عليه، أي غشي عليه، وتقدم أنه آفة تعرض للدماغ أو القلب بسببها تتعطل القوى المدركة والمحركة حركة إرادية، والسكر اسم مصدر وهو زوال العقل بشراب ونحوه، يقال: سكر يسكر فهو سكران، والجمع سكرى وسكارى، والسكر حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة من الخمر وما يقوم مقامها إليه معه، فيتعطل معه عقل المميز بين الأمور الحسنة والقبيحة، قال الشيخ: وصلاة السكران الذي لا يعلم ما يقول لا تجوز بالاتفاق، ولا يجوز أن يمكن من دخول المسجد.
(2) ولو غير محرم، وفاقا لأبي حنيفة، ومذهب مالك والشافعي لا يلزمه القضاء، وجزم الشارح وغيره أنه إن تطاول زمنه فكالمجنون وإلا فكالإغماء.
(3) من حديث أبي هريرة ومثله الساهي.
(4) أي الليالي التي غشي عليه فيها بعد ما أفاق، أي رجعت الصحة إليه، أو رجع هو إلى الصحة، و (غشي) مبني للمجهول أي أغمي عليه، والغشاء الغطاء وزنا ومعنى وعن عمران بن حصين، وسمرة بن جندب نحوه، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان كالإجماع، وعمار هو ابن ياسر بن عامر بن مالك العنسي ثم المذحجي قدم والده مكة فحالف أبا حذيفة بن المغيرة فزوجه أمة
له يقال لها سمية فولدت عمار فأعتقه، أوذي في الله، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ملئ عمار إيمانا وقال: تقتله الفئة الباغية، وقتل يوم صفين، وله نيف وتسعون.(1/413)
ويقضي من شرب محرما (1) حتى زمن جنون طرأ متصلا به تغليظا عليه (2) (ولا تصح) الصلاة (من مجنون) (3) وغير مميز (4) .
__________
(1) كمسكر فزال عقله بالسكر المحرم، ما فاته في وقت السكر من الصلاة والصوم وسائر الواجبات، وجها واحدا وفاقا، وقال الشيخ: بلا نزاع وكذا قال في الإنصاف، وتجب على من زال عقله بمرض بلا نزاع.
(2) أي ويلزمه قضاء ما فاته حتى صلاة حال الجنون، لاتصاله بالسكر المحرم تغليظا عليه، صوبه في تصحيح الفروع، فلو شرب محرما وجن في الحال، واستمر جنونه، وإن مات والحال ما ذكر مات عاصيا، لأنه جنى على نفسه بشربه المحرم، كما لو جن المرتد، لأن سقوطها بالجنون رخصة، وليس من أهلها، فكذا هنا، وطرأ يطرأ مهموز، وفيه العطف على متبوع محذوف، لأن تقديره: فيقضي كل صلاة ونحوها، حتى صلاة زمن جنون طرأ وهو جائز.
(3) ولا تجب عليه، ولا يقضي إذا أفاق، إلا أن يفيق في وقتها، قال الشارح: لا نعلم فيه خلافا، والأبله الذي لا يفيق كالمجنون يقال: رجل أبله بين البله، وهو الذي لا يعقل.
(4) لحديث عائشة رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، فهؤلاء لا قصد لهم، وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم، وقد انعقد الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة، وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق
وتصح من مميز إجماعا وهو من استكمل سبعا، وفي المطلع: من يفهم الخطاب ويرد الجواب ولا ينضبط بسن، بل يختلف باختلاف الأفهام، وصوبه في الإنصاف.(1/414)
لأنه لا يعقل النية (1) (ولا) تصح من (كافر) لعدم صحة النية منه (2) ولا تجب عليه، بمعنى أنه لا يجب عليه القضاء إذا أسلم (3) ويعاقب عليها وعلى سائر فروع الإسلام (4) .
__________
(1) أي المجنون وغير المميز، والصلاة من شرطها النية، ولا تمكن منه.
(2) أي من الكافر الأصلي، يهوديا كان أو نصرانيا أو مجوسيا أو غيرهم، حكاه الشيخ وغيره إجماعا، لفقد شرطها، وهو الإسلام، وقال المازري، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بمن تقرب إليه، والكافر ليس كذلك.
(3) إشارة إلى أنه لا يفهم من عدم الوجوب عدم العقاب، وإلا فإنه يؤاخذ بها، كما يؤاخذ بالتوحيد، وقال في الإنصاف، الكافر لا يخلو، إما أن يكون أصليا أومرتدا، فإن كان أصليا لم تجب عليه، بمعنى أنه إذا أسلم لم يقضها، وهو إجماع وأما وجوبها بمعنى أنه مخاطب بها، فالصحيح من المذهب أنهم مخاطبون بفروع الإسلام، وعليه الجمهور وإن كان مرتدا فالصحيح من المذهب أنه يقضي ما تركه قبل ردته، إلا الحج، وقال النووي: لا يلزم المرتد قضاء ما فاته في الردة، وفاقا لأبي حنيفة ومالك، قال: والذي عليه المحققون بل نقل بعضهم الإجماع فيه أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة ثم أسلم يكتب له، لقوله: أسلمت على ما أسلفت وقال الشيخ: اختار الأكثر أن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها لقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فعلق الحبوط بشرطين: الردة والموت عليها، والمعلق بشرطين لا يثبت بأحدهما.
(4) لأن الكفار ولو كانوا مرتدين مخاطبون بفروع الإسلام كالتوحيد إجماعا لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} .(1/415)
(فإن صلى) الكافر على اختلاف أنواعه (1) في دار الإسلام أو الحرب، جماعة أو منفردا بمسجد أو غيره (فمسلم حكما) (2) فلو مات عقب الصلاة فتركته لأقاربه المسلمين، ويغسل ويصلى عليه، ويدفن في مقابرنا (3) وإن أراد البقاء على الكفر، وقال: إنما أردت التهزئ لم يقبل (4) وكذا لو أذن ولو في غير وقته (5) .
__________
(1) من ملل الكفر.
(2) أي يحكم بإسلامه، ويصح بها إسلامه، كما يأتي، وهي لا تصح بدون الإسلام لأنها عبادة مختصة بشرعنا، أشبهت الأذان، وجزم به الشيخ وغيره، لحديث نهيت عن قتل المصلين، رواه أبو داود، ولقول أنس: وصلى صلاتنا فهو المسلم، ولقوله: بيننا وبينهم الصلاة، فثبتت العصمة بالصلاة، وهي لا تكون بدون الإسلام ويحكم بكفر من سجد لصنم، فكذا عكسه، قالوا: ولا تصح تلك ظاهرا لفقدان شرطها وهو الإسلام فيؤمر بالإعادة إلا إن علم أنه قد أسلم واغتسل، وصلى بنية صحيحة فصحيحة، وهذا بخلاف من هو مسلم وارتكب بعض البدع التي تخرجه من الإسلام، فإنا نحكم بكفره ولو صلى.
(3) للحكم بإسلامه.
(4) منه إلا الإسلام أو السيف، لأنا حكمنا بإسلامه بصلاته، فيكون مرتدا بقوله ذلك، وتجري عليه أحكام المرتدين، كما لو أتى بالشهادتين ثم قال: لم أرد الإسلام.
(5) فيحكم بإسلامه إذا أذن لإتيانه بالشهادتين وعلى قياسه الإقامة أيضا لإتيانه بالشهادتين وينبغي أن يقيد بغير من يعتقد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة، وإلا فلا بد من إقراره برسالته إلى الناس كافة، ولا يعتد بأذانه، لفقد شرطه، وكذا لو سجد للتلاوة أو زكى السائمة، لا إن صلى في غير الوقت، أو أفسدها أو فعل بقية العبادات التي لا تختص بشريعتنا.(1/416)
(ويؤمر بها صغير لسبع) (1) أي يلزم أن يأمره بالصلاة لتمام سبع سنين (2) .
__________
(1) إذا فهم الخطاب ولا خلاف في صحتها من مميز، ويشترط لصحة صلاته مايشترط لصحة صلاة الكبير، إلا في السترة، والثواب له وفاقا، واختاره الشيخ، لعموم قوله (من جاء بالحسنة) ولقوله عليه الصلاة والسلام لما رفعت إليه امرأة صبيا وقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر، وكذا أعمال البر كلها، فهو يكتب له ما عمله من الحسنات، وفي الحديث رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق، رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي وعائشة، قال النووي وغيره: بإسناد صحيح، ولا تجب على صبي ولا صبية، ولا يلزمها قضاؤها بعد البلوغ بالاتفاق، وفي الاختيارات: ولو بلغ عشرا، وقاله جمهور العلماء، لأنها عبادة بدنية فلم تلزمه كالحج، والطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله ونيته تخفى، وتختلف فنصب الشارع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ.
(2) نص عليه، أبا كان الولي أو جدا أو وصيا، أو قيما من جهة القاضي، أو أما وكذا وجوب الضرب لبلوغ العشر، لما يأتي وقال الشيخ: ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة حتى الصغار لقوله: مروهم بالصلاة، ومن عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير، ويعزر تعزيرا بليغا لأنه عصى الله ورسوله، وقال النووي وغيره: الصبي إذا بلغ حدا يعقل أولى من قولهم سبع سنين، لأن المراد إذا كان مميزا صحت صلاته وإمامته، والتمييز يختلف وقته باختلاف الصبيان، فمنهم من يحصل له من سبع، ومنهم قبلها، ومنهم وإن بلغ عشرا، أو أكثر، وقال أهل التحقيق، الصواب يعتبر لكل صبي بنفسه، فقد يميز لدون خمس، وقد يتجاوز الخمس ولا يميز، وقال الشافعي وغيره، ويؤمر الصبي بحضور المساجد وجماعات الصلاة ليعتادها.(1/417)
وتعليمه إياها، والطهارة ليعتادها، ذكرا كان أو أنثى، وأن يكفه عن المفاسد (1) .
(و) أن (يضرب عليها لعشر) سنين (2) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه (3) «مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» رواه أحمد وغيره (4) .
__________
(1) أي ويلزمه تعليمه أحكام الصلاة والطهارة من الحدث والخبث وكذا الصوم ونحوه وتحريم الزنا والسرقة والغيبة ونحوها، ويكف عن جمع المفاسد، قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار، لينشئووا على ذلك ويعتادوه فلا يتركونه من اعتاد الشيء صيره عادة لنفسه، فإن من شب على شيء شاب عليه، وكما يلزم الولي فعل ما فيه صلاح ماله، فإن احتاج لأجرة فمن مال الصبي، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته.
(2) ضربا غير مبرح أي شديد، وجوبا للخبر، لتمرينه عليها حتى يألفها.
(3) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، أحد علماء زمانه، قال الذهبي: روايته عن أبيه عن جده من قبيل الحسن، ليست بمرسلة ولا منقطعة، ولا من أقسام الصحيح وقال غير واحد: الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده هو الصواب، وقال البخاري: ما تركه أحد من المسلمين مات رحمه الله بالطائف سنة مائة وسبع عشرة.
(4) فمنهم أبو داود والترمذي والحاكم، وفي رواية للترمذي علموا الصبي للصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر، وصححه هو وغيره ولأبي داود مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها، وفي رواية مروا أولادكم، وفي رواية إذا عرف يمينه من شماله فمروه
بالصلاة، قال النووي: والصبي يتناول الصبية بلا خلاف، وشمول أولادكم للإناث ظاهر، وأمر بالتفريق بينهما في المضاجع، لأن نومهما في فراش واحد ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة، ولا سيما مع الطول، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر.(1/418)
(فإن بلغ في أثنائها) (1) بأن تمت مدة بلوغه وهو في الصلاة (أو بعدها في وقتها أعاد) أي لزمه إعادتها لأنها نافلة في حقه، فلم تجزئه عن الفريضة (2) ويعيد التيمم (3) لا الوضوء والإسلام (4) .
(ويحرم) على من وجبت عليه (تأخيرها عن وقتها) المختار (5) .
__________
(1) البلوغ الوصول، وبلغ الغلام أدرك، والمراد والله أعلم بلوغ حد التكليف وهو ما عرفوه به في الحج وغيره، والثني واحد أثناء الشيء، أي تضاعيفه تقول: أنفذت كذا ثني كتابي، أي في طيه.
(2) وقال بعضهم: لا يعيد واختاره الشيخ وصاحب الفائق وغيرهما وفاقا للشافعي، وذلك أن الصبي مأمور بالصلاة قبل البلوغ أمر ندب، مضروب على تركها، وإذا كان مأمورا بها وفعلها امتنع أن يؤمر بصلاة ثانية قال النووي: وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وانعقد عليه الإجماع فلا إعادة عليه، وكذا نبه عليه المجد.
(3) يعني لأن تيممه كان لنافلة فلا يستبيح به فريضة وتقدم.
(4) لأن وضوءه رافع للحدث، ولأن الإسلام أصل الدين فلا يصح نفلا، بل إذا وجد فهو على وجه الوجوب، ولأنه يصح بفعل غيره كأبيه.
(5) فيما له وقتان، أو عن وقت الجواز، وهو الوقت المعلوم وسيأتي
والتحريم ما لم يكن عذر، وكان ذاكرا لها، قادرا على فعلها إجماعا، لما روى أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن تؤخر الصلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى، رواه مسلم، ولأنه يجب إيقاعها في الوقت، فإذا خرج ولم يأت بها كان تاركا للواجب، مخالفا للأمر، وهو عاص مستحق للعقاب، وقال الشيخ: وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل أو الليل إلى النهار، أو الفجر بعد طلوع الشمس، فلا يجوز لمرض ولا لسفر ولا لشغل، ولا لصناعة باتفاق العلماء، وقال أيضا: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة، ولا غير ذلك بل يصلي في الوقت بحسب حاله.(1/419)
أو تأخير بعضها (1) (إلا لناوي الجمع) لعذر فيباح له التأخير، لأن وقت الثانية يصير وقتا لهما (2) .
(و) إلا (لمشتغل بشرطها الذي يحصله قريبا) كانقطاع
ثوبه الذي ليس عنده غيره، إذا لم يفرغ من خياطته حتى خرج الوقت (3) .
__________
(1) بأن يؤخر القيام إليها إلى وقت لا يتسع لكلها، بأن لم يبق من وقت الاختيار إلا ما يتسع لركعة مثلا.
(2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الأولى في الجمع، ويصليها في وقت الثانية، وسيأتي وقال الوزير، أجمعوا على أنه لا يجوز تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، لمن كان مستيقظا ذاكرا لها قادرا على فعلها غير ذي عذر ولا مريد الجمع.
(3) وكالمشتغل بنحو الوضوء والغسل حتى خرج الوقت. وقال الشيخ: هذا خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه، وجماهير العلماء، وقال: قول بعض الأصحاب لا يجوز تأخيرها إلا لمشتغل بشرطها، لم يقله أحد قبله من الأصحاب، ولا من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي ولا ريب
إنه ليس على عمومه، وإنما أرادوا صورا معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يصنع حبلا يستقي به، أو أمكن العريان أن يخيط ثوبا، ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصور، ومع هذا فالذي قاله هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه، وجماهير أهل العلم، ويؤيده أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري ثوبا، ولا يصل إلا بعد الوقت لا يجوز له التأخير بلا نزاع.(1/420)
فإن كان بعيدًا عرفًا صلى (1) ولمن لزمته التأخير في الوقت مع العزم عليه (2) ما لم يظن مانعا (3) وتسقط بموته (4) ولم يأثم (5) .
__________
(1) أي في الوقت على حسب حاله، تقديما للوقت، لسقوط الشرط إذن بالعجز عنه.
(2) أي ولمن لزمته الصلاة تأخير فعلها في وقت الجواز، مع العزم على فعلها وقت الجواز، فإن لم يعزم على فعلها فيه أثم، حكاه الموصلي وغيره إجماعا وقيل: يجوز بدونه اختاره أبو الخطاب المجد وغيرهما.
(3) يمنعه من فعلها، كموت وقتل وحيض ونحوها، فيصليها أول الوقت، وكذا من أعير سترة أول الوقت فقط، ومتوضئ عدم الماء في السفر وطهارته لا تبقي إلى آخر الوقت، ولا يرجو وجود الماء في الوقت، ومستحاضة لها عادة بانقطاع دمها في وقت يتسع لفعلها، فيتعين فعلها ذلك الوقت، وقال عثمان: يؤخذ منه أنه إذا نام بعد دخول الوقت وظن أنه لا يستيقظ إلا بعد خروج الوقت فإنه يحرم عليه، وإن كان يمكنه القضاء كمن ظنت حيضا أو نفاسا.
(4) أي ومن له التأخير ممن تقدم تسقط بموته وفاقا، لأنها لا تدخلها النيابة، فلا فائدة لبقائها في الذمة، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أنها لا تصح فيها النيابة بنفس ولا مال.
(5) وفاقا: لأنه لم يقصر، وقال بعض الحنفية، لا يكون عاصيا بالإجماع، قال الشيخ: ونظيره قضاء رمضان، فإنه وقت موسع.(1/421)
(ومن جحد وجوبها كفر) إذا كان ممن لا يجهله، وإن فعلها (1) لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع الأمة (2) وإن ادعى الجهل كحديث عهد بالإسلام (3) عرف وجوبها ولم يحكم بكفره لأنه معذور (4) .
__________
(1) أي ومن جحد وجوب صلاة من الخمس، صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين حكاه الموفق وغيره، ويجب قتله ردة، إذا كان ممن لا يجهله، كمن نشأ بين المسلمين في الأمصار، لظهور وجوب الصلاة، وإن فعلها لم ينفعه مع جحود الوجوب، وقال شيخ الإسلام، فرض متأخروا الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن المقر بوجوب الصلاة ودعي إليها ثلاثا فامتنع مع تهديده بالقتل فقتل هل يموت كافرا أو فاسقا؟ على قولين؟ وهذا الفرض باطل ممتنع، ولا يقوله أحد قط، وقال في الإنصاف، العقل يشهد بما قاله ويقطع به، وهو عين الصواب الذي لا شك فيه، وأنه لا يقتل إلا كافرا اهـ والجحد الإنكار ضد الإقرار، ولا يكون الجحود إلا مع علم، والفرق بين الجحد والإنكار أن الجحد أخص، لأنه إنكار الشيء الظاهر، والإنكار لشيء خفي، ويجوز أن يقال: الجحد إنكار الشيء مع العلم به.
(2) قال في المبدع وغيره: ويكون مرتدا بغير خلاف نعلمه.
(3) أي قريب علمه وحاله به، أو من نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين، بحيث أنه يمكن أن يخفى عليه وجوبها والجهل خلاف العلم، والجهل جهلان جهل بسيط وجهل مركب، فالبسيط هو عدم العلم عما من شأنه العلم، والمركب هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.
(4) فإن قال: أنسيتها قيل له: صل الآن، وإن قال: أعجز لعذر كمرض أو عجز عن أركانها، أعلم أنه لايسقطها، ويصلي على حسب حاله.(1/422)
فإن أصر كفر (1) (وكذا تاركها تهاونا) أو كسلا (2) لا جحودا (3) (ودعاه إمام أو نائبه) لفعلها (فأصر (4) وضاق وقت الثانية عنها) أي عن الثانية (5) لحديث «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه الصلاة» (6) .
__________
(1) بإجماع المسلمين كأن يقول: تعمدت تركها ولا أريد فعلها.
(2) أي تثاقلا من غير استحقار، فإن كان فهو التهاون ويكفر فإن ترك الصلاة كسلا من غير جحود لها كفر مستقل، وهو الصواب الذي تدل عليه السنة، وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين، وقال أيوب السختياني، ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه، وحكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه.
(3) فإن من جحد فرضا مجمعا عليه كفر ولو فعله وتقدم.
(4) يعني على الترك كفر، وأصر على الشيء أقام عليه وداوم.
(5) بأن يدعى إلى الظهر مثلا فيأبى حتى يتضايق وقت العصر عنها فيقتل كفرا، وفاقا لمالك والشافعي.
(6) رواه الطبراني عن شداد بن أوس، ولحديث جابر «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» ، رواه مسلم وحديث بريدة «من تركها فقد كفر» ، صححه الترمذي، وقال عبد الله بن شقيق، لم يكونوا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة وقال إسحاق صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وقال ابن القيم: تارك الصلاة قد شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة اهـ وعن أحمد: إذا أبى حتى تضايق وقت الأولى، اختاره صاحب المحرر وغيره، واستظهره في الفروع، وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء، وظاهر إطلاق النصوص، بل الأدلة طافحة بذلك، والتقييد بالزيادة لا دليل عليه.(1/423)
قال أحمد: كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء (1) فإن لم يدع لفعلها لم يحكم بكفره (2) لاحتمال أنه تركها لعذر يعتقد سقوطها لمثله (3) .
(ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا (4) فيهما) أي فيما إذا جحد وجوبها، وفيما إذا تركها تهاونا (5) .
__________
(1) وقال: كل شيء ذهب آخره فقد ذهب جميعه، فتمسكوا رحمكم الله بآخر دينكم، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه، وليعلم المتهاون في صلاته أنه أذهب دينه فعظموا الصلاة وتمسكوا بها، واتقوا الله فيها خاصة، وفي أعمالكم عامة.
(2) وقضاها فيما بعد، أو كان في نفسه قضاها، قال الزركشي: لا نزاع في عدم تكفيره وقتله.
(3) أي العذر كمرض ونحوه، واللام بمعنى عن، ويهدد فيقال له: إن صليت وإلا قتلناك فإن أبى حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله، لقوله تعالى: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى» إلى قوله: «ويقيموا الصلاة» متفق عليه، قال الشيخ: وإذا تركها عمدا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع، وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه.
(4) أي حتى تطلب منه التوبة ثلاثة أيام بلياليها، كمرتد نصا، ويضيق عليه، ويدعى كل وقت إليها، وتوبته أن يصلي، بخلاف جاحدها فتوبته بإقراره بما جحده.
(5) لكن التارك جحودا لا بد فيه من الإقرار بالوجوب، فإن أجاب إلى فعل الصلاة ترك وأمر بها فإن قال: أصلي في منزلي وصدق وكل إلى أمانته، ولم يجبر على فعلها بمشهد من الناس صرح به في الأحكام السلطانية وقال ابن رجب
ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة الذين يرون كفر تارك الصلاة أن من تركها كفر بخروج الوقت عليه، ولم يعتبروا أن يستتاب، ولا أن يدعى إليها، وعليه يدل كلام المتقدمين من أصحابنا، لقوله: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وقوله: «فمن تركها فقد كفر» .(1/424)
فإن تابا وإلا ضربت عنقهما (1) والجمعة كغيرها (2) وكذا ترك ركن أو شرط (3) وينبغي الإشاعة عن تاركها بتركها حتى يصلي (4) .
__________
(1) أي فإن تابا بفعلها زمن الاستتابة خلي سبيلهما وإن لم يتوبا ضربت أعناقهما بالسيف، لكفرهما وكونه بالسيف لقوله: «وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ، رواه مسلم، ومتى رجع إلى الإسلام قضي ما تركه مدة الاستتابة ولعله مرادهم.
(2) بل آكد، للأخبار الواردة فيها.
(3) أي وكترك الصلاة ترك ركن أو شرط مجمع عليه، لا مختلف فيه يعتقد وجوبه وهو ظاهر كلامهم، واختاره الشيخ: ولا يقتل بترك فائتة، ولا كفارة ونذر للاختلاف في وجوبها وقال الوزير في قول حذيفة وقد رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم فيه أن إنكار المنكر في مثل هذا يغلظ له لفظ الإنكار، وفيه إشارة إلى تكفير تارك الصلاة، وإلى تغليظ الأمر في الصلاة، حتى أن من أساء في صلاته ولا يتم ركوعها ولا سجودها، فإن حكمه حكم تاركها اهـ، وحيث كفر فإنه يقتل ولا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرق، ولا يسبى له أهل ولا مال ولا ولد.
(4) أي ينبغي الإذاعة والإشهار والإظهار بذلك عنه زجرا له ولغيره.(1/425)
ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته، قال الشيخ تقي الدين (1) ويصير مسلما بالصلاة (2) ولا يكفر بترك غيرها من زكاة وصوم وحج تهاونا وبخلا (3) .
__________
(1) رحمه الله تعالى في مواضع وذلك فيما إذا كان هجره أنفع له، كما هو معلوم من قواعده، وقال: يعفى عن النائم والناسي إن كان محافظا على الصلاة حال اليقظة والذكر وأما من لم يكن محافظا عوقب على الترك مطلقا.
(2) قال الشيخ الأصوب أنه يصير مسلما بالصلاة من غير إعادة الشهادتين وعن أحمد: توبته أن يصلي، وصوبه الشيخ، لأن كفره بالامتناع كإبليس، والمحافظة عليها أقرب إلى الرحمة ممن لا يصليها ولو فعل ما فعل.
(3) وفاقا، وتقدم قول عبد الله بن شقيق، لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.(1/426)
باب الأذان (1)
هو في اللغة الإعلام (2) قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام (3) وفي الشرع إعلام بدخول وقت الصلاة، أو قربه لفجر (4) .
__________
(1) والإقامة وما يتعلق بهما من الأحكام، لما ذكر الصلاة ذكر الأذان بعده مقدما له على الوقت، لأنه إعلام بوقتها.
(2) مطلقا بأي شيء.
(3) وقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي أعلمهم به، يقال: أذن بالشيء يؤذن أذانا وتأذينا إذا علم به، فهو اسم مصدر، وأصله من الأذن بفتحتين وهو الاستمتاع لأنه يلقي في آذان الناس بصوته ما إذا سمعوه علموا أنهم نودوا إلى الصلاة، وقال ابن قتيبة من الأذن بالضم، كأنه أودع ما علمه أذن صاحبه، ثم اشتهر في عرف الشرع بالإعلام بأوقات الصلاة، فاختص ببعض ذلك، وفي العرف: من التأذين كالسلام من التسليم، شرع في السنة الأولى عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين المدينة وسبب مشروعيته لما عسر معرفة الأوقات عليهم تشاوروا في نصب علامة لها، فأريه عبد الله بن زيد في المنام، وأقره الوحي، ومؤذنوه صلى الله عليه وسلم خمسة: بلال، وابن أم مكتوم، وأبو محذورة، وسعد القرظ، وأخو صداء، وجزم النووي أنه صلى الله عليه وسلم أذن مرة.
(4) أي إعلام بدخوله في الغالب أو إعلام بقربه لصلاة الفجر ولو قال: إعلام مخصوص، يعني بالصلاة، ولم يقل: بدخول وقت الصلاة، لعم الفائتة وبين يدي الخطيب، قال الشيخ: والأذان إعلام بوقت الصلاة، ولهذا قلنا: يؤذن للفائتة كما أذن بلال، لأنه وقتها والأذان للوقت الذي يفعل فيه لا الوقت الذي وجب فيه.(1/427)
بذكر مخصوص (1) (والإقامة) في الأصل مصدر أقام (2) وفي الشرع: إعلام بالقيام إلى الصلاة (3) بذكر مخصوص (4) وفي الحديث «المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة» رواه مسلم (5) .
__________
(1) ويطلق أيضا على الألفاظ المخصوصة المعروفة، التي يحصل بها الإعلام على وجه مخصوص بألفاظ مخصوصة، من شخص مخصوص.
(2) وهو متعدي قام وأقام للصلاة إقامة نادى لها.
(3) وحقيقته إقامة القاعد والمضطجع فكأن المؤذن إذا أتى بألفاظ الإقامة أقام القاعدين وأزالهم عن قعودهم.
(4) ويطلقان على لفظ الذكر المخصوص، وهما مشروعان بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وهما كلام جامع لعقيدة الإيمان، مشتمل على نوعه من السمعيات والعقليات، فأوله إثبات الذات، وما يستحقه سبحانه من الإجلال والتبجيل والتعظيم، ثم بإثبات الوحدانية لله، ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه، ثم بإثبات الرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم دعاهم إلى الصلاة التي هي عمود الإسلام، والفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، ثم ذكر ذلك بإقامة الصلاة، للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، ليدخل المصلي فيها على بينة من أمره، وبصيرة من إيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه، وعظمة حق من يعبده، وجزيل ثوابه.
(5) وأحمد وابن ماجه وغيرهم، عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث متواتر، والأحاديث في فضله شهيرة وأعناق بفتح الهمزة جمع
عنق، قيل: أطول رقابا متطلعون في البرزخ ليؤذن لهم في دخول الجنة، وقيل رؤساء سادة، ولابن حبان، يعرفون بطول أعناقهم يوم القيامة وعلى رواية كسر الهمزة فالمراد سرعة السير يوم القيامة، وقيل: أكثر أعمالا، وفيه أنه يستحب رفع الصوت بالأذان فهو أبلغ في الإعلام وأعظم للأجر، والأذان أفضل من الإقامة اتفاقا، وهو الإمامة أفضل منهما أو عكسه؟ صحح في الفروع الأول، وقال الشيخ: هذا أصح الروايتين واختيار أكثر الأصحاب.(1/428)
(هما فرض كفاية) (1) لحديث «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» متفق عليه (2) .
__________
(1) أي الأذان والإقامة، قال الشيخ: هما فرض كفاية، فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوهما، وقد أطلق طائفة من العلماء أن الأذان سنة، وكثير منهم يطلقون القول بالسنية على ما يثاب فاعله شرعا، ويعاقب تاركه شرعا، فالنزاع لفظي اهـ وفرض الكفاية ما يلزم جميع المسلمين إقامته، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وفرض العين ما يلزم كل واحد إقامته بعينه، ولا يسقط عن البعض، وفرض الكفاية أفضل من فرض العين، ومن حيث أن فاعله يسد مسد الأمة، ويسقط الحرج عن الأمة، وفرض العين قاصر عليه، ولم يقل: فرضا بالتثنية للتطابق، لأنه مصدر، أو لأنهما كالشيء الواحد، أو على تقدير مضاف مثني مضاف إلى متضمنه يختار فيه لفظ الجمع على لفظ الإفراد.
(2) من حديث مالك بن الحويرث والأمر يقتضي الوجوب، وعن أبي الدرداء مرفوعا، «ما من ثلاثة لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل الشاة القاصية» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، ولحديث عبد الله بن زيد وغيره، وقال ابن رشد: والأمر بالأذان منقول بالتواتر، والعلم به حاصل ضرورة، ولا يرده إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانا فرضا كالجهاد.(1/429)
(على الرجال) الأحرار (1) (المقيمين) في القرى والأمصار (2) لا على الرجل الواحد (3) ولا على النساء (4) ولا على العبيد ولا على المسافرين (5) .
__________
(1) إذ فرض الكفاية لا يلزم رقيقا في الجملة.
(2) القرية الضيعة والمحلة والدار والمصر الجامع، أو كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا وجمع الناس، وتقع على المدن وغيرها، والأمصار أكبر، وربما توسع فيها فأطلقت على المدينة وما يليها من البلاد.
(3) أي ليس الأذان والإقامة فرض كفاية على الرجل، بل على اثنين فأكثر، والجمع في قول الماتن غير مقصود حقيقة، وهو كذلك جريا على أن أقل الجمع اثنان قال في الفروع: وهما أفضل لكل مصل، إلا لكل واحد ممن بالمسجد، فلا يشرع، بل حصل له الفضيلة كقراءة الإمام للمأموم.
(4) أي وليس الأذان والإقامة فرض كفاية على النساء، وكذا الخناثي لما روى البخاري عن أسماء بنت يزيد مرفوعا ليس على النساء أذان ولا إقامة وروي عن عمر وغيره، قال الشارح وغيره: لا نعلم عن غيرهم خلافهم، لأن الأذان شرع له رفع الصوت، ولا يشرع لهما، ولا يصحان منهن، وقال الوزير: اتفقوا على أنهما لا يشرعان لهن، ولا يسنان، إلا الشافعي في الإقامة فقال: تسن، لقصة عائشة، وعنه: يستحبان لهن، وعن الإقامة.
(5) أي وليس الأذان والإقامة فرضا على العبيد، يعني المماليك ولا على المسافرين وعنه فرض كفاية مطلقا كالجهاد لحديث مالك وغيره، واستظهره في المبدع وغيره ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يدعهما حضرا ولا سفرا ولأنهما من أعلام الدين الظاهرة، وهو ظاهر إطلاق طائفة من الأصحاب، وقال ابن المنذر: واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لأمره عليه الصلاة والسلام مالكا ومداومته صلى الله عليه وسلم هو أصحابه وقال السامري: لا فرق بين المصر والقرى، والحاضرين والمسافرين والواحد والجماعة.(1/430)
(للصلوات) الخمس (المكتوبة) دون المنذورة، المؤداة دون المقضيات (1) والجمعة من الخمس (2) ويسنان لمنفرد (3) وسفرا (4) .
__________
(1) فلا يشرع الأذان ولا الإقامة لمنذورة ولا مقضية، ولا نافلة ولا جنازة ولا عيد، لأن المقصود منهما الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة، على الأعيان، والقيام إليها، وقال النووي: لا يشرعان لغير المكتوبات الخمس، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف، قال: ونقل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أنهما قالاهما سنة في صلاة العيدين، وهذا إن صح محمول على أنه لم يبلغهما فيه السنة، وكيفما كان هو مذهب مردود، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيدين غير مرة ولا مرتين، بلا أذان ولا إقامة، من حديث جابر وغيره، قال الشيخ وغيره، لا ينادي للعيد والاستسقاء، وقاله طائفة من أصحابنا.
(2) إشارة إلى أنه لا اعتراض عليه في تقييده للصلوات الخمس، إذ هي خمس يومها وليس شرطا للصلاة فتصح بدونهما، قال علقمة، صلى بنا عبد الله بلا أذان ولا إقامة، قال الشارح: لا أعلم أحدا خالف إلا عطاء والأوزاعي، وعنه: واجبان للجمعة لاشتراط الجماعة لها.
(3) لخبر عقبة عجب ربك من راعي غنم يؤذن للصلاة ويصلي، الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وفي الموطأ عن ابن المسيب من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك، وعن شماله ملك، فإذا أذن وأقام الصلاة صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال.
(4) بالنصب أي ويسنان سفرا، واستظهر غير واحد الفرضية لحديث مالك ابن الحويرث «إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما» متفق عليه.(1/431)
ولمقضية (1) (يقاتل أهل بلد تركوهما) أي الأذان والإقامة (2) فيقاتلهم الإمام أو نائبه، لأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة (3) .
__________
(1) لحديث عمرو بن أمية الضميري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فنام عن الصبح، ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة، رواه أبو داود وغيره، ولمسلم وغيره نحوه، إلا أنه لا يرفع صوته في القضاء إن خاف تلبيسا وكذا في غير وقت الأذان المعهود له عادة، وكذا في بيته البعيد عن المسجد، بل يكره لئلا يضيع من يقصد المسجد ويسنان لجماعة ثانية في غير الجوامع الكبار، وإن كان في بادية رفع صوته بالأذان لأمن من اللبس، ولما رواه البخاري وغيره إذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوتك جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد لك يوم القيامة.
(2) إجماعا وإن قلنا إنهما سنة، واختاره الشيخ، وقال: النزاع لفظي، فإن كثيرا يطلق السنة على ما يعاقب تاركه، وأما من زعم أنهما سنة بمعنى أنه لا إثم على تاركهما ولا عقوبة فهذا خطأ فإن الأذان شعار دار الإسلام الذي استحل أهل الدار بتركه اهـ وظاهره أنهم لو تركوا أحدهما لا يقاتلون.
(3) فلا يجوز تعطيلهما فيقاتلون على تركهما حتى يفعلوهما، لما يلزم من الاجتماع على تركه من استخفافهم بالدين، يخفض أعلامه الظاهرة، وهكذا حكم شعائر الإسلام الظاهرة، وإن كانوا مستقيمين على دين الإسلام، فإن موجب القتال أعم من أن يكون لأجل الردة، قال الحجاوي: هو أولى من قول بعضهم، إن اتفق أهل بلد، لأن الحكم منوط بالترك لا بالاتفاق، وقال عثمان: إن كان مراده أنهم لا يقاتلون باتفاق لا ترك معه، كما لو اتفقوا قبل الزوال، فظاهره أنهم لا يقاتلون قبل الترك، لكن الظاهر أنه لا بد من ترك متفق عليه، فلا يكفي أحدهما في جواز المقاتلة لما ثبت في الصحيح وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلق استحلال الدار بتركه، فإنه إذا لم يسمع أذانا أغار عليهم والشعائر جمع شعار أو شعارة بفتح أوله أو كسره، أي علامات، الواحد شعيرة، والمراد هنا أنهما من أجل علامات الإسلام، وهو الصلاة بظهور أجل صفاتها الظاهرة وهو الاجتماع لها.(1/432)
وإذا قام بهما من يحصل به الإعلام غالبا أجزأ عن الكل (1) وإن كان واحدا وإلا زيد بقدر الحاجة كل واحد في جانب، أو دفعة واحدة بمكان واحد (2) ويقيم أحدهم (3) وإن تشاحوا أقرع (4) وتصح الصلاة بدونهما، لكن يكره (5) .
__________
(1) كسائر فروض الكفاية، ولا عبرة بما قل، لأنه قد يعرض ما لا يحصل معه ذلك كالريح.
(2) أي وإن كان من يحصل به الإعلام واحدا، وإلا يحصل الإعلام بواحد زيد بقدر الحاجة، ويكون كل واحد في جانب من البلد، أو دفعة من جماعة بقدر الحاجة في مكان واحد، لأن المقصود بالأذان الإعلام، قال الشيخ: وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعا باتفاق الأئمة، بل ذلك بدعة منكرة اهـ ودفعة بالضم جمعها دفع، اسم لما يدفع بمرة.
(3) إن حصلت به الكفاية، وإلا أقام من يكفي ويقدم من أذن أولا إن كان.
(4) أي ضربت القرعة بينهما، والقرعة حيلة شرعية، يتعين بها سهم الإنسان ونصيبه والشح البخل مع حرص، و (تشاح الرجلان في الأمر) لئلا يفوتهما، و (عليه) أراد كل منهما أن يستأثر به.
(5) ظاهر الكراهة بتركهما معا، فلو ترك أحدهما انتفت والمنقول عنه صلى الله عليه وسلم الجمع بينهما، أو الاقتصار على الإقامة، ونص أحمد: أو اقتصر مسافر أو منفرد على الإقامة، قال المجد: وإن اقتصر المسافر أو المنفرد على
الإقامة جاز من غير كراهة نص عليه، وجمعها أفضل اهـ أما الاقتصار على الأذان فلم ينقل عن أحد، وقيل: ينبغي التحريم كترك من وجب عليه الواجب، إذ لا فرق بين فرض الكفاية والعين قبل الفعل.(1/433)
(وتحرم أجرتهما) أي يحرم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة، لأنهما قربة لفاعلهما (1) (لا) أخذ (رزق من بيت المال) من مال الفيء (لعدم متطوع) بالأذان والإقامة (2) .
__________
(1) وكذا يحرم دفعها، وفاقا لأبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام لعثمان ابن أبي العاص واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، رواه أحمد والترمذي وحسنه وقال: العمل عليه عند أهل العلم اهـ فإن فعل فسق ولم يصح وقال مالك: يؤجر نفسه في سوق الإبل أحب إلي من أن يعمل لله بإجارة، وقال بعضهم: لأن أطلب الدنيا بالدف والمزمار أحب إلي من أن أطلبها بالدين وقيل: يجوز مع الفقر لا مع الغنى، واختاره الشيخ: وقال: وكذا كل قربة، والأجر العوض المسمى في مقدار الإجارة.
(2) الرزق بفتح الراء وسكون الزاي العطاء، والجمع الأرزاق، وهو ما ينتفع به، ولو محرما، والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم، أي لا أخذ رزق من بيت المال، لأنه المعد للمصالح، فلا يحرم الأخذ منه لمؤذن ومقيم، وكذا إمام ونحوه، لعدم متطوع أي متبرع بالأذان والإقامة ونحوهما، من (تطوع بالشيء) تبرع به وتنفل، قال في المغنى والشرح: لا نعلم خلافا في جواز أخذ الرزق عليه اهـ لأن بالمسلمين حاجة إليه، وقد أجرى السلف أرزاقهم من بيت المال من المؤذنين والأئمة والقضاة والعمال وغيرهم، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، وكان عمر وغيره يعطونهم منه، وجرت العادة أيضا بين المسلمين بجواز أخذ من يؤم ويؤذن وغيرهم من الأحباس الموقوفة على ذلك من غير اختلاف منهم.(1/434)
فلا يحرم كأرزاق القضاة والغزاة (1) .
(و) سن أن (يكون المؤذن صيتا) أي رفيع الصوت (2) لأنه أبلغ في الإعلام (3) زاد في المغنى وغيره: وأن يكون حسن الصوت، لأنه أرق لسامعه (4) (أمينا) أي عدلا (5) لأنه مؤتمن يرجع إليه في الصلاة وغيرها (6) .
__________
(1) أي فلايحرم أخذ الرزق عليهما، كما لا تحرم أرزاق القضاة، وأرزاق الغزاة، بضم الغين جمع غاز، ولا يجوز بذل الرزق مع وجود المتطوع ويجوز أخذ الجعالة.
(2) والصوت مصدر من صات يصوت، وهو في العرف جرس الكلام، وجمعه أصوات، ويقال لقوي الصوت: صيت، بتشديد الياء وكسرها.
(3) المقصود بالأذان، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك، ولكونه أعظم للأجر، ففي الصحيح إذا كنت في غنمك أو باديتك فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا يشهد له يوم القيامة وللخمسة إلا الترمذي المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس، وغير ذلك.
(4) لما روى ابن خزيمة وصححه عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان.
(5) ظاهرا وباطنا، ولو عبدا، ويستأذن سيده، وأما مجرد العدالة الظاهرة فشرط وقال الوزير: تستحب حريته اتفاقا.
(6) كصيام وفطر، لما روى البيهقي من حديث أبي محذورة، أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم المؤذنون قال الشيخ: ويعمل بقول المؤذن في دخول
الوقت مع إمكان العلم بالوقت، وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، وكما شهدت به النصوص، وقال ابن القيم: أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد، وهو شهادة منه بدخول الوقت، وقال النووي: يجوز للأعمى والبصير في الصحو والغيم اعتماده، قال: وقال البندنيجي: ولعله إجماع المسلمين، ومؤتمن لأنه يؤذن على موضع عال، فلا يؤمن منه النظر إلى العورات.(1/435)
(عالما بالوقت) ليتحراه فيؤذن في أوله (1) (فإن تشاح فيه اثنان) فأكثر (2) (قدم أفضلهما فيه) أي فيما ذكر من الخصال (3) (ثم) إن استووا فيها (4) (قدم أفضلهما في دينه وعقله) لحديث ليؤذن لكم خياركم رواه أبو داود وغيره (5) (ثم) إن استووا قدم (من يختاره) أكثر (الجيران) (6) .
__________
(1) لأنه إذا لم يكن عارفا به لا يؤمن من الخطأ، وإن كان أعمى وله من يعلمه بالوقت لم يكره نص عليه، لفعل ابن أم مكتوم، وحديث مالك بن الحويرث يدل على أنه لا يشترط في المؤذن غير الإسلام لقوله: أحدكم.
(2) أي من اثنين في الأذان من الشح وهو البخل مع الحرص، كل واحد منهما يريد أن لا يفوته أو يريد أن يستأثر به.
(3) لأنه عليه الصلاة والسلام قدم بلالا على عبد الله، لكونه أندى صوتا منه، وقيس بقية الخصال عليه.
(4) أي في الخصال المذكورة ونحوها.
(5) فرواه ابن ماجه وغيره عن ابن عباس، وقوله: خياركم أي من هو أكثر صلاحا ليحفظ نظره عن العورات، ويبالغ في المحافظة على الأوقات.
(6) أن المصلون أو أكثرهم، الملاصقون وغيرهم ممن يسكن محلتهم، ويجمعهم مسجد المحلة، والجار عند الإطلاق إنما يتناول الملاصق.(1/436)
لأن الأذان لإعلامهم (1) (ثم) إن تساووا في الكل (2) فـ (قرعة) فأيهم خرجت له القرعة قدم (3) (وهو) أي الأذان المختار (خمس عشرة جملة) (4) لأنه أذان بلال رضي الله عنه (5) .
__________
(1) فكان لرضاهم أثر في التقديم، ولأنهم أعلم بمن يبلغهم صوته، ومن هو أعف عن النظر، وحكم الأكثر كالكل.
(2) أي في الصوت والأمانة والعلم بالوقت، والدين والعقل واختيار الجيران.
(3) لقوله عليه الصلاة والسلام لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه متفق عليه، وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية فأقرع بينهم سعد، ولأنها تزيل الإبهام، وتجعل من خرجت له كالمستحق المتعين، والقرعة السهمة، نصبها الشارع معينة للمستحق، قاطعة للنزاع، كأن المقرع يقول: اللهم قد ضاق الحق عن الجميع، وهم عبيدك، فخص بها من تشاء منهم به، ثم تلقى فيسعد الله بها من يشاء، ويحكم بها على من يشاء، وهذا سرها في الشرع، وإن قدم أحدهم بعد الاستواء لكونه أعمر للمسجد، وأتم مراعاة له، أو لكونه أقدم تأذينا، أو أبوه فلا بأس، واتفقوا على أن البصير والحر والبالغ أولى من ضدهم.
(4) أي المختار عند أحمد، وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم خمس عشرة جملة أي كلمة، والجملة بالضم جماعة الشيء، وإنما اختيارهم له لأجل أنه الذي كان يفعل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما.
(5) ابن رباح الحبشي المؤذن المشهور، وهو بلال بن حمامة، وهي أمه، اشتراه أبو بكر من المشركين لما كانوا يعذبونه فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له، وشهد المشاهد كلها، مات بالشام سنة عشرين، وله ثلاث وستون أو سبعون.(1/437)
من غير ترجيع الشهادتين (1) فإن رجعهما فلا بأس (2) (يرتلها) أي يستحب أن يتمهل في ألفاظ الأذان (3) .
__________
(1) أي تكرير: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، بأن يخفض بهما صوته، ثم يعيدهما رافعا بهما صوته، سمي ترجيعا لرجوعه من السر إلى الجهر، والمراد بالخفض أن يسمع من بقربه، والأذان بغير الترجيع هو المشهور من حديث عبد الله بن زيد، قال: طاف بي وأنا نائم رجل، فقال: تقول الله أكبر، فذكر الأذان إلى آخره بتربيع التكبير بغير ترجيع، قال: وكان بلال يؤذن كذلك إلى أن مات، وعليه عمل أهل المدينة، وقال أحمد: هو آخر الأمرين.
(2) لأنه فعل أبي محذورة، وعليه عمل أهل مكة، وقال الشيخ: كل منهما أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها، وكل واحد منهما سنة، سواء رجع أو لم يرجع، ومن قال: إن الترجيع واجب لا بد منه، أو إنه مكروه منهي عنه، فكلاهما مخطئ، واختيار أحدهما من مسائل الاجتهاد، والصواب تسويغ كل ما ثبت في ذلك، ومن تمام السنة في مثل هذا أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، لأن هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره، قد يفضي إلى أن يجعل السنة بدعة، فيجب مراعاة القواعد الكلية التي فيها الاعتصام بالكتاب والسنة والجماعة، وأصح الناس في ذلك طريقة هم علماء الحديث الذين عرفوا السنة واتبعوها، والإمام أحمد رحمه الله له أصل مستمر في جميع صفات العبادات، أقوالها وأفعالها، ييستحب كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشيء منه، مع علمه بذلك واختياره للبعض، أو تسويته بين الجميع.
(3) بلا نزاع لحديث إذا أذنت فترسل، والمترسل الذي يتمهل في تأذينه ويبينه بيانا يفهمه من سمعه، من غير تمطيط ولا مد مفرط، وهو من قولهم: جاء فلان على رسله، أي على هيئته غير عجل ولا متعب لنفسه، ضد المسرع، ولأن الأذان إعلام للغائبين، فالتثبت فيه أبلغ في الإعلام.(1/438)
ويقف على كل جملة (1) وأن يكون قائما (2) (على علو) كالمنارة (3) لأنه أبلغ في الإعلام (4) .
__________
(1) فيكون التكبير في أوله أربع جمل، والتكبير في آخره جملتين، فيقف على كل تكبيرة، لأن التكبيرة الثانية إنشاء ثان، لا توكيد فيقول: الله أكبر، ويقف وكذلك التكبيرات الباقية، قال النخعي: شيئان مجزومان لا يعربان الأذان والإقامة، وقال الشيخ: ومن الناس من يجعل التكبيرات الأربع جملتين، يعرب التكبيرة الأولى في الموضعين، وهو صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها، سواء ربع في أوله أو ثناه، وقال: المراد الجملة النحوية المركبة من مبتدأ وخبر، فيكون التكبير في الأذان في أوله وآخره ست.
(2) أي يسن أن يؤذن قائما، وحكى ابن المنذر وغيره إجماع من يحفظ عنه أنه من السنة، ويكره من قاعد وماش لغير عذر، وميل الشيخ إلى عدم إجزاء أذان القاعد، والعلماء كافة على أنه لا يجوز قاعدا، ذكره القاضي عياض وغيره، وكرهه أهل العلم لمخالفة ما عليه السلف، ولا يكرهان لمسافر راكبا وماشيا، لأنه عليه الصلاة والسلام أذن في السفر على راحلته، صححه الترمذي، ولا يشرع بغير العربية، لعدم وروده، قال في الإنصاف، مطلقا على الصحيح من المذهب.
(3) لما روى أبو داود أن بلالا يؤذن الفجر على بيت امرأة من بني النجار من أطول بيت حول المسجد، والعلو المرضع العالي، وعلو الشيء أرفعه والمنارة مفعلة بفتح الميم، والجمع المناور بالواو، ومن قال: مناير فقد شبه الأصلي بالزائد وهو شاذ، ويقال لها أيضا المئذنة وجوز إبدال الهمزة ياء، ولم تكن المنارة في زمنه صلى الله عليه وسلم وقالت أم زيد بنت ثاتب: كان بيت أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن فوقه، من أول ما أذن إلى أن بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، فكان يؤذن بعد على ظهر المسجد، وقد رفع له شيء فوق ظهره، وبنا سلمة المنابر للأذان بأمر معاوية ولم تكن قبل ذلك.
(4) ومن أذن لنفسه أو جماعة حاضرين لا يسن له المكان العالي لعدم الحاجة إليه.(1/439)
وأن يكون (متطهرا) من الحدث الأصغر والأكبر (1) ويكره أذان جنب (2) وإقامة محدث (3) وفي الرعاية: يسن أن يؤذنه متطهرا من نجاسة بدن وثوبه (4) (مستقبل القبلة) (5) لأنها أشرف الجهات (6) (جاعلا إصبعيه) السبابتين (في أذنيه) (7) .
__________
(1) أي يستحب كونه في الأذان والإقامة متطهرا من الحدثين إجماعا، لحديث أبي هريرة لا يؤذن إلا متوضئ رواه الترمذي وغيره، إلا أن الصحيح وقفه قال في الإنصاف وغيره: ولا تجب الطهارة الصغرى له بلا نزاع.
(2) قال الشيخ: للخلاف في صحته، ولو بمسجد لحصول المقصود، والتحريم بمعنى آخر، ولا يكره نص عليه، وفي الفروع، ويصح وفاقا على الأصح، ووجه أن الجنابة أحد الحدثين فلم تمنع صحته كالآخر.
(3) بلانزاع للفصل بين الإقامة والصلاة بالوضوء.
(4) قياسا على الطهارة من الحدثين.
(5) لأن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة قال ابن المنذر، أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يستقبل القبلة بالأذان، فإن أخل كره وصح، ويستثنى المسافر الراكب أو الماشي فإلى جهة سيره.
(6) ولأن استقبالها هو المنقول سلفا وخلفا، ومستحب في كل طاعة إلا بدليل كالخطبة.
(7) وفاقا لحديث أبي جحيفة: أن بلالا وضع إصبعيه في أذنيه، رواه أحمد والترمذي وصححه، وقال: العمل عليه عند أهل العلم يستحبون أن يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الأذان، وسميا سبابتين لتحريكهما وقت السب، وقيل: لا يتعينان وهما أولى.(1/440)
لأنه أرفع للصوت (1) (غير مستدير) (2) فلا يزيل قدميه في منارة ولا غيرها (3) (ملتفتا في الحيعلة يمينا وشمالا) (4) أي يسن أن يلتفت يمينا حي على الصلاة، وشمالا حي على الفلاح (5) .
__________
(1) فروى ابن ماجه أنه عليه الصلاة والسلام أمر بلالا بذلك، وقال: إنه أرفع لصوتك.
(2) أي غير مول ظهره القبلة، سواء كان على ظهر الأرض، أو في منارة، من دار الشيء يدور دورا، تحرك وعاد على ما كان عليه.
(3) وعنه يزيل قدميه في منارة ونحوها مع كبر البلد للحاجة وفاقا، واختاره المجد وجمع، وصوبه في الإنصاف، وهو المعمول به في الأمصار، لأنه أبلغ في الأعلام.
(4) عبر بالحيعلة تبعا للجوهري وغيره، أخذوا الحاء والياء من حي، والعين واللام من علي.
(5) برأسه وعنقه وفاقا، وصدره حال ترسله، لحديث أبي جحيفة: وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يمينا وشمالا، حي على الصلاة، حي على الفلاح، متفق عليه ولأبي داود لوى عنقه يمينا وشمالا، حي على الصلاة، حي على الفلاح، لا يلتفت بصدره، وإنما اختصتا بذلك، لأن غيرهما ذكر وهما خطاب لآدمي كالسلام في الصلاة يلتفت فيه دون ما عداه، وقيل: وكذا الإقامة، وجزم الآجري وغيره بعدمه فيها، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، صححه ابن نصر الله، والمرداوي في تصحيح الفروع وغيرهما، وقال شيخ الإسلام: السنة في الإقامة أن يقولها وهو مستقبل القبلة، ولم يستثن العلماء إلا الحيعلة في الأذان وقوله حي أي هلم وأقبل إلى الصلاة، وإلى الفلاح وهو الفوز والبقاء والخلود في النعيم المقيم، ويقال للفائز مفلح، والمراد هلموا وعجلوا إلى طلب ذلك.(1/441)
ويرفع وجهه إلى السماء فيه كله (1) لأنه حقيقة التوحيد (2) (قائلا بعدهما) أي يسن أن يقول بعد الحيعلتين (في أذان الصبح) ولو أذن قبل الفجر (الصلاة خير من النوم مرتين) (3) لحديث أبي محذورة رواه أحمد وغيره (4) .
__________
(1) أي في كل من الأذان والإقامة، قال في الإنصاف: يرفع وجهه إلى السماء في الأذان كله نص عليه، وجزم به في الفائق، واقتصر عليه الموفق والشارح، واختاره الشيخ.
(2) أي لأن التهليل والتكبير حقيقة التوحيد، وإعلان بذكر الله عز وجل، لا يصلح إلا لله وحده، نفقد بدئ بالتكبير لله، فالله أكبر من كل شيء، وأكبر من أن ينسب إليه تعالى ما لا يليق بجلاله، وثني بتوحيده الذي خلق الخليقة لأجله، ثم ختم بلا إله إلا الله، ولم يزد على مرة إشارة إلى وحدانيته تعالى، فاستحب الإشارة له، كما تستحب بالإصبع في التشهد والدعاء، وهذا بخلاف الصلاة، إذ المستحب فيها خفض الصوت.
(3) إجماعا مستقبلا القبلة كغيرها من كلمات الأذان، قال الشيخ: السنة أن يقولها مستقبل القبلة، وقوله: ولو أذن قبل الفجر، لقول بلال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب بالفجر، رواه أحمد وغيره، وكان بلال يؤذن بليل.
(4) فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم، وصححه ابن خزيمة وغيره ولفظ أحمد فإذا كان أذان الفجر فقل: الصلاة خير من النوم، مرتين. وأخرج الترمذي حديث بلال لا تثويب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر، وقال: وهو الذي اختاره أهل العلم، وصح عن أنس أنه قال: من السنة، واسم أبي محذورة أوس، وقيل سمرة بن معير بن سعد بن جمح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أمره به منصرفة من حنين وتوفي سنة تسع وخمسين.(1/442)
ولأنه وقت ينام الناس فيه غالبا (1) ويكره في غير أذان الفجر (2) وبين الأذان والإقامة (3) (وهي) أي الإقامة (إحدى عشرة) جملة بلا تثنية (4) .
__________
(1) فسن تنبيههم بقول (الصلاة خير من النوم) .
(2) لقول بلال: ونهاني أن أثوب في العشاء، رواه أحمد وغيره، وهو مذهب جمهور العلماء، وعمل المسلمين عليه، والعمدة ما في الصحيحين من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
(3) لقول عمر لأبي محذورة: ويحك أمجنون؟ أما كان في دعائك الذي دعوتنا وكذا بالنداء بالصلاة بعد الأذان في الأسواق وغيرها، ومثل أن يقول: الصلاة أو الإقامة، قال الشيخ: هذا إذا كانوا قد سمعوا النداء الأول، وإلا فلا ينبغي أن يكره، فإن تأخر الإمام أو أماثل الجيران فلا بأس أن يمضي إليه منبه يقول قد حضرت الصلاة ويكره قوله قبل الأذان (وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) الآية، وكذا إن وصله بعده بذكر، لأنه محدث وكذلك قوله قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك، وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد والدعاء مما يفعله بعض المؤذنين، يرفعون أصواتهم به ليس مسنونا عند أحد من العلماء، بل من البدع المكروهة.
(4) أي الإقامة المختارة لا تكرر ألفاظها مرتين مرتين، بخلاف الأذان لحديث عبد الله بن زيد وكان بلال يؤذن بذلك، ويقيم حضرا وسفرا، وعليه عمر أهل المدينة، وفي الصحيحين: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة، قال الترمذي: وهو قول بعض أهل العلم من الصحابة والتابعين، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال البغوي: هو قول أكثر العلماء، وعن ابن عمر: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وغيره، وشفع الأذان وإيتار الإقامة قد بلغ حد التواتر في الجملة، ولا يخفى أن كلمة التوحيد في آخر الأذان مفردة بالاتفاق، فهو خارج عن الحكم بشفع الأذان، والحكمة في تكرير الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان لإعلام الغائبين، فاحتيج إلى التكرير، كما شرع فيه رفع الصوت والمحل، بخلاف الإقامة فإنها لإعلام الحاضرين، فلا حاجة إلى تكرار ألفاظها، وقوله: بلا تثنية يعني في الجملة وإلا فهو يثني قوله: قد قامت الصلاة، وقال غير واحد: الثانية منهما تأكيد للأولى.(1/443)
وتباح تثنيتها (1) (يحدرها) أي يسرع فيها (2) ويقف عند كل جملة كالأذان (3) .
__________
(1) لأنه فعل أبي محذورة، وعليه عمل أهل مكة، وعن أبي محذورة أنه صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة صححه الترمذي، قال الشيخ: فسواء أفرد الإقامة أو ثناها فقد أحسن واتبع السنة وبأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام، ومن قال: إن إفراد الإقامة مكروه أو تثنيتها مكروه فقد أخطأ، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، والضلالة حق الضلالة أن ينهى عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وأما اختيار أحدهما فمن مسائل الاجتهاد.
(2) بلا نزاع وأصل الحدر في الشيء الإسراع، قال الجوهري وغيره: حدر في أذانه يحدر حدرا إذا أسرع، وقد روى الترمذي عن بلال وإذا أقمت فاحدر ولأبي عبيدة عن عمر نحوه، ولأن الإقامة إعلام للحاضرين فلا حاجة فيها إلى الترسل.
(3) أي كما يقف عند كل جملة منه، وتقدم قول النخعي: شيئان مجزومان، الأذان والإقامة.(1/444)
(ويقيم من أذن) استحبابا (1) فلو سبق المؤذن بالأذان فأراد المؤذن أن يقيم، فقال أحمد: لو أعاد الأذان كما صنع أبو محذورة (2) فإن أقام من غير إعادة فلا بأس، قاله في المبدع (3) (في مكانه) أي يسن أن يقيم في مكانه أذانه (إن سهل) (4) لأنه أبلغ في الإعلام (5) فإن شق كأن أذن في منارة أو مكان بعيد عن المسجد أقام في المسجد لئلا يفوته بعض الصلاة (6) .
__________
(1) لقوله من أذن فهو يقيم رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال: وفيه ضعف، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، ولا يؤذن غير الراتب إلا بإذنه إلا إن خيف فوت وقت التأذين، كما أذن زياد حين غاب بلال فأما مع حضوره فلا يجوز فإن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد ليسبقهم بالأذان كالإمام وجزم بتحريمه أبو المعالي، لأن الأذان منوط بنظر المؤذن.
(2) يعني لكان أولى، فروى عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت رجلا أذن قبل أبي محذورة، فجاء أبو محذورة فأذن ثم أقام، رواه الأثرم وغيره، قال في الإنصاف: ومتى جاء وقد أذن قبله استحب أن يعيده.
(3) أي فإن أقام المؤذن من غير إعادة الأذان، لحديث عبد الله بن زيد لما أذن بلال قال عبد الله: أنا رأيته وأنا كنت أريده، قال: فأقم أنت فلا فرق بينه وبين غيره قال الوزير: واتفقوا في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز.
(4) أي يقيم الصلاة في الموضع الذي يؤذن فيه إن لم يشق عليه قال أحمد: أحب إلي أن يقيم في مكانه، ولم يبلغني فيه شيء.
(5) أي إعلام المصلين بالقيام إلى الصلاة.
(6) وقال في النصيحة، السنة أن يؤذن بالمنارة، ويقيم أسفل، قال في الإنصاف: وهو الصواب، والعمل عليه في جميع الأمصار والأعصار.(1/445)
لكن لا يقيم إلا بإذن الإمام (1) (ولا يصح) الأذان (إلا مرتبا) كأركان الصلاة (2) (متواليا) عرفا لأنه لا يمكن المقصود منه إلا بذلك (3) فإن نكسه لم يعتد به (4) ولا تعتبر الموالاة بين الإقامة والصلاة، إذا أقام عند إرادة الدخول فيها (5) .
__________
(1) لما في الصحيحين أن المؤذن كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولمسلم أن بلالا لا يقيم حتى يخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجمع: وينبغي للمؤذن أن لا يقيم حتى يحضر الإمام ويأذن له في الإقامة نص عليه، ولأن الإقامة منوط وقتها بنظر الإمام، لأنها للقيام إلى الصلاة، فلا تقام إلا بإشارته، فإن أقيمت بغير إشارة أجزأت لقوله: فلا تقوموا حتى تروني.
(2) أي كترتيب أركان الصلاة، وفاقا، لأنه ذكر معتد به، فلا يجوز الإخلال بنظمه، ولأنه إذا نكسه لا يعلم السامع أن ذلك الأذان، ولا يصح إلا منويا وفاقا لمالك لحديث إنما الأعمال بالنيات.
(3) أي لا يحصل المقصود وهو الإعلام بدخول الوقت من الأذان إلا بالترتيب والتوالي، لأن مشروعيته كانت كذلك، قال في الإنصاف، ولا يصح الأذان إلا مرتبا متواليا بلا نزاع.
(4) لعدم ترتيب الجمل بأن قدم بعضها على بعض، قال في الإنصاف: بغير خلاف نعلمه، وسمي بذلك لأنه نكس أي قلب عما هو السنة، قال الجوهري: نكسه بمعنى قلبه.
(5) لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر أنه جنب ذهب فاغتسل ولم يعدها، وظاهر طول الفصل، قال شيخنا: هذا والله أعلم ما لم يخرج من المسجد، أو يشتغل بغير الصلاة، ويستحب الإحرام بعد فراغه من الإقامة، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، واستمر عمل المسلمين عليه.(1/446)
ويجوز الكلام بين الأذان وبعد الإقامة قبل الصلاة (1) ، ولا يصح الأذان إلا (من) واحد ذكر (عدل) ولو ظاهرا (2) فلو أذن واحد بعضه وكمله آخر (3) أو أذنت امرأة (4) أو خنثى (5) أو ظاهر الفسق لم يعتد به (6) ويصح الأذان (ولو) كان (ملحنا) أي مطربا به (7) .
__________
(1) لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكلم الرجل بعدما تقام الصلاة، وهو مذهب الشافعي، لكن الأولى تركه إلا لحاجة، ولو عبر بالفاء الدالة على التفريع لكان أصوب.
(2) فيصح أذان مستور الحال: قال في الشرح: بغير خلاف علمناه، وزاد في الإقناع، وتشترط ذكوريته وعقله وإسلامه.
(3) لم يعتد به، قال في الإنصاف: بغير خلاف أعلمه، ولو كان ذلك لعذر بأن مات أو جن ونحوه من شرع فيه فكمله الثاني.
(4) للرجال لم يصح ولم يعتد به، إجماعا، حكاه الوزير وغيره، للنهي عن رفع صوتها، فإن أذنت للنساء فلا بأس لقصة عائشة.
(5) مشكل لاحتمال أن يكون أنثى لم يعتد به، فإن اتضحت ذكوريته صح.
(6) قال الشيخ: وفي إجزاء الأذان من الفاسق روايتان: أقواهما عدمه، لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما نصب الفاسق مؤذنا فلا ينبغي قولا واحدا.
(7) لحصول المقصود به، يقال: لحن في قراءته، إذا طرب وغرد، وفي التعريفات، اللحن في القرآن والأذان التطويل فيما يقصر، والتقصير فيما يطول اهـ، والتطريب تقطيع الصوت وترديده، وأصله خفة تصيب المرء من شدة الفرح، أو من شدة التحزين، من الإطراق أو الطربة.(1/447)
(أو) كان (ملحونا) لحنا لا يحيل المعنى (1) ويكرهان (2) ومن ذي لثغة فاحشة (3) وبطل إن أحيل المعنى (4) (ويجزئ) أذان (من مميز) لصحة صلاته كالبالغ (5) .
__________
(1) كرفع تاء الصلاة ونصبها، وحاء الفلاح، لأن ذلك لا يمنع إجزاء القراءة في الصلاة فهنا أولى: (ولحن القارئ في القراءة يلحن لحنا ولحونا ولحانة ولحانية ولحنا) أخطأ في الإعراب، وخالف وجه الصواب، فهو لاحن ولحان ولحانة.
(2) أي الملحن والملحون، قال أحمد: كل شيء محدث أكرهه، مثل التطريب، وسمع عبد الله بن عمر رجلا يطرب في أذانه، فقال: لو كان عمر حيا لفك لحييك، لأنه ينافي الخشوع والوقار، وينحو إلى الغناء، ويكره ما فيه غلظه وفضاضة، أو تكلف أو زيادة، قال عمر بن عبد العزيز، أذن أذان سمحا، وإلا فاعتزلنا.
(3) أي ويكرهان من صاحب لثغة وزن غرفة، حبسه في اللسان حتى تصبر الراء لاما أو غبنا، أو السين تاء ونحو ذلك، أو أن لا يتم رفع لسانه، وقال الأزهري: اللثغة أن يعدل بحرف وكذا اللكنة، (وفاحشة) أي مجاوزة الحد، فإن لم تكن اللثغة واللكنة فاحشتين لم يكره، فقد روي أن بلالا كان يبدل الشيء سينا، والفصيح أكمل، وعند المالكية والحنفية إن أدى إلى تغيير الكلمات حرم.
(4) أي بطل الأذان إن أحيل معناه باللحن أو اللثغة أو اللكنة، ومثال الأول مد همزة: الله أكبر أو بائه ومثال الثاني إبدال الكاف فاء أو همزة وفي المبدع: إن فتح لام رسول الله بطل، ومعناه في الشرح، لإيهامه البدلية فلا يتم الكلام.
(5) أي فيصح أذانه لصحة صلاته، كما تصح صلاة البالغ، لقول عبد الله بن أبي بكر بن أنس: كان عمومتي يأمرونني أن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم، وأنس ابن مالك شاهد لم ينكر ذلك، وهذا مما لا يخفى ولم ينكر فكان كالإجماع
وهو مذهب مالك وغيره، إذا اعتمد على بالغ، وحكى في كتاب (رحمة الأمة) الإجماع عليه، قال الشيخ: واختاره أكثر الأصحاب، وقال: والأشبه أن الأذان الذي يسقط به الفرض عن أهل القرية، ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولا واحدا، ولا يسقط ولا يعتمد في مواقيت الصلوات وأما الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك ففيه روايتان، والصحيح جوازه، وفي الاختيارات: وأما صحة أذانه في الجملة وكونه جائزا إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه، وحكى الوزير وغيره الإجماع على استحباب أن يكون بالغا.(1/448)
(ويبطلهما) أي: الأذان والإقامة (فصل كثير) بسكوت (1) أو كلام ولو مباحا (2) (و) كلام (يسير محرم) كقذف (3) وكره اليسير غيره (4) (ولا يجزئ) الأذان (قبل الوقت) (5) لأنه شرع للإعلام بدخوله (6) .
__________
(1) طويل للإخلال بالموالاة، وكذا إن أغمي عليه، أو نام طويلا.
(2) لفوات الموالاة.
(3) وغيبة، لأنه فعل محرما فيه، كما لو ارتد في أثنائه، وفاقا، وفي الفروع: وقيل لا يبطل يسير كلام محرم وفاقا.
(4) أي غير المحرم: زاد في الإقناع، بلا حاجة وصحح في الإنصاف جواز رد السلام بلا كراهة، ولا تبطل به عند جماهير العلماء كالخطبة.
(5) بإجماع المسلمين نقله ابن جرير والنووي وغيرهما، لحديث إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم متفق عليه.
(6) فلا يشرع قبل الوقت، لعدم حصول المقصود، بل وتغرير من يسمعه وتقدم قول الشيخ: إن الأذان إعلام بوقت الصلاة الذي تفعل فيه، لا الذي وجب فيه، ويظهر بوقت الظهر إذا أبرد بها وبالفائتة.(1/449)
ويسن في أوله (1) (إلا الفجر) فيصح (بعد نصف الليل) (2) لحديث «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» متفق عليه (3) ويستحب لمن أذن قبل الفجر أن يكون معه من يؤذن في الوقت (4) .
__________
(1) لحديث كان بلال يؤذن إذا زالت رواه أحمد ومسلم وغيرهما، فدل على المحافظة على الأذان عند دخول الوقت، وعمل المسلمين عليه، وليتأهب الناس للصلاة ويجوز مطلقا لا بعده.
(2) يعني الأذان لها وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور السلف.
(3) من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم، وفي الصحيح وغيره أحاديث كثيرة بمعناه وليتأهب جنب ونحوه ليدرك فضيلة الوقت، وفي الصحيح ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم فهذا وجه مشروعيته، وقال الشيخ: الذي يعتبر نصفه ينبغي أن يكون أوله غروب الشمس وآخره طلوعها، كما كان النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها، وإن كان من غير التنصيف يكون آخر الليل طلوع الفجر وهو أول النهار، ولعل التنزل الإلهي في قوله صلى الله عليه وسلم حين يبقى ثلث الليل، وفي الآخر، حين يمضي نصف الليل، كذلك تقريبا، واسم ابن أم مكتوم عمرو ويقال عبد الله بن قيس بن زائدة من عامر بن لؤي وأمه عاتكة بنت عبد الله بن عتكم المخزومية، قدم المدينة مع مصعب، واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ثلاث عشر مرة، وشهد القادسية وقتل بها رضي الله عنه.
(4) كما كان بلال وابن أم مكتوم، ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الإعلام بالوقت المقصود بالأذان.(1/450)
وأن يتخذ ذلك عادة، لئلا يغر الناس (1) ورفع الصوت بالأذان ركن (2) ما لم يؤذن لحاضر فبقدر ما يسمعه (3) (ويسن جلوسه) أي: المؤذن (بعد أذان المغرب) (4) وصلاة يسن تعجيلها قبل الإقامة (يسيرا) لأن الأذان شرع للإعلام، فسن تأخير الإقامة للإدراك (5) .
__________
(1) بالتقدم أو التأخر، فلا يتقدم ولا يتأخر في الليالي كلها، وفي الكافي: ما يقتضي اشتراط ذلك، واشترطه طائفة من علماء الحديث، ويكره الأذان للفجر في رمضان قبل وقتها، إلا في حق من عرفت عادته في الأذان بالليل، قال في الإنصاف: وعليه عمل الناس من غير نكير.
(2) لقوله: فارفع صوتك بالنداء، وقوله: هو أندى منك صوتا، ليحصل السماع المقصود بالأذان، وكونه بقدر الطاقة مستحب وفي الإنصاف: يستحب رفع صوته بقدر طاقته ليحصل السماع، وتكره الزيادة فوق طاقته.
(3) يعني الحاضر، واحدا كان أو جماعة، وكذا لنفسه، فيسر إن خاف تلبيسا، ورفع الصوت ما لم يغرر به.
(4) قبل الإقامة جلسة خفيفة بقدر حاجته ووضوئه وصلاة ركعتين، صححه في تصحيح الفروع، وعليه أكثر الأصحاب.
(5) وليفرغ الآكل من أكله ونحوه، لحديث جابر قال لبلال اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته رواه أبو داود والترمذي، والمراد ما عدى العشاء، ويأتي، ولا يحرم إمام والمقيم في الإقامة، نص عليه، ويستحب عقيب فراغه منها.(1/451)
(ومن جمع) بين صلاتين لعذر، أذن للأولى وأقام لكل منهما (1) سواء كان جمع تقديم أو تأخير (2) (أو قضى) فرائض (فوائت أذن للأولى، ثم أقام لكل فريضة) من الأولى وما بعدها (3) وإن كانت الفائتة واحدة أذن لها وأقام (4) ثم إن خاف من رفع صوته تلبيسا أسر، وإلا جهر (5) فلو ترك الأذان لها فلا بأس (6) .
__________
(1) أي المجموعتين لعذر كسفر ومرض، لحديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين رواه مسلم.
(2) عند فعلها، لأن وقتها هو الذي تفعل فيه كما تقدم.
(3) قال النووي وغيره: بلا خلاف، لحديث الخندق، شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء، رواه أحمد والترمذي، وقال: ليس بإسناده بأس، والطحاوي بإسناد صحيح.
(4) لأمره عليه الصلاة والسلام بلالا بالأذان والإقامة، رواه مسلم وغيره، وقال الشيخ: الأذان مشروع للفائتة عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وليس بواجب، وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن، وإن اكتفى بالإقامة أجزأه.
(5) أي وإن لم يخف من رفع صوته تلبيسا أي تخليطا جهر لعموم الأخبار.
(6) لأنه للإعلام، ولا حاجة للإعلام هنا، لكن إن رجا اجتماع الناس فالأولى له أن يؤذن، وإن لم يرج اجتماعهم فلا بأس بتركه، ولا يسن لفاسدة # أعيدت في الوقت، ولا لظهر يوم الجمعة في مصر، ولا فيما يقضي من الفوائت في مسجد، لأنه فيه تشويشا وتغليظا، أما إن كان منفردا أو يؤذن بقدر ما يسمع نفسه فلا.(1/452)
(ويسن لسامعه) أي لسامع المؤذن (1) أو المقيم (2) ولو أن السامع امرأة (3) أو سمعه ثانيا وثالثا، حيث سن (4) .
__________
(1) إجابته إجماعا، على أي حال كان، من طهارة وغيرها، ولو جنبا أو حائضا، إلا حال جماع وتخل لقوله: «إذا سمعتم النداء فقولا مثل ما يقول المؤذن» رواه الجماعة وقيل بالوجوب، فلو لم يجاوبه حتى فرغ استحب له التدارك، ما لم يطل الفصل، ويدل على الندب حديث عمر عند مسلم «إذا قال المؤذن الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر، إلى قوله: قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وللبخاري نحوه من حديث معاوية.
(2) أي يستحب لسامع المقيم. صححه في الإنصاف، وهو قول جمهور أصحاب الأئمة الثلاثة، لما روى أبو داود عن أبي أمامة، وقال في سائر ألفاظ الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان، لكن قال المنذري وغيره: في سنده مجهول وشهر، وهو متكلم فيه، وقال النووي: وكيف كان فهو حديث ضعيف منقطع قال ابن حوشب لم يسمع من ابن أبي أوفى، وقال الحافظ: استدل به يعني قولوا إذا سمعتم المؤذن إلخ على مشروعية إجابة المؤذن في الإقامة اهـ وهل يعتبر فهم الصوت أولا؟ استظهر بعضهم أنه يعتبر فهمه، فإن سمع بعضه تابعه فيما سمع فقط لقوله: إذا سمعتم.
(3) لعموم الأخبار.
(4) أي حيث كان الأذان مشروعا، قال في المبدع: ظاهر كلامهم أنه يجيب ثانيا وثالثا حيث سن، واختاره الشيخ. لكن لو سمع المؤذن وأجابه وصلى في جماعته لم يجب الثاني، لأنه غير مدعو بهذا الأذان وإجابة الأول أفضل، إلا أذاني الفجر فهما سواء.(1/453)
(متابعته سرا) بمثل ما يقول (1) ولو في طواف أو قراءة (2) ويقضيه المصلي والمتخلي (3) (و) تسن (حوقلته في الحيعلة) (4) .
__________
(1) أي قولا بمثل ما يقول المؤذن لما تقدم من قوله فقولا مثل ما يقول وفي حديث عمر، من قال مثل ما يقول صدقا من قلبه دخل الجنة، رواه مسلم، وله أيضا من قال حين يسمع النداء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده، ورسوله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا غفر له ذنبه.
(2) أو ذكر فيقطع القراءة والذكر ويجيبه، لعموم الأخبار، قال الشيخ: ولأن موافقة الأذان عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا يفوت وقطع الموالاة فيها لسبب شرعي جائز بخلاف الصلاة.
(3) أي يقضي المصلي إذا فرغ من صلاته والمتخلي إذا خرج من الخلاء ما فاته من إجابة المؤذن حين سماعه، ولا يقضي إذا سمع البعض فقط، وإن أجابه المصلي بطلت بلفظ الحيعلة فقط، دون باقي ألفاظ الأذان لأنها أقوال مشروعة في الصلاة في الجملة، وكرهه مالك وغيره، وهل يجيب المستنجي في حال الاستنجاء أو بعده، ظاهر يجيب لتعميمهم غير المصلي والمتخلي.
(4) كلمة استعجال مولدة وهي حكاية قول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، كما تقدم أنهم أخذوا الحاء والياء من حي، والعين واللام من على، كما يقال الحوقلة لا حول ولا قوة إلا بالله، أخذوا الحاء والواو من حول، والقاف من قوة واللام من اسم الله تعالى، والحكمة في إبدال الحوقلة من الحيعلة، أن الحيعلة دعاء إلى الصلاة معناه هلموا، وإنما يحصل الأجر فيه بالإسماع، فأمر السامع بالحوقلة، لأن الأجر يحصل لقائلها، سواء أعلنها أوأخفاها، ولمناسبتها لقول المؤذن، وتكون جوابا له، بأن تبرأ من الحول والقوة على إتيان الصلاة والفلاح إلا بحول الله وقوته.(1/454)
أي أن يقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله (1) إذا قال المؤذن أو المقيم: حي على الصلاة، حي على الفلاح (2) وإذا قال: الصلاة خير من النوم، ويسمى التثويب (3) قال السامع: صدقت وبررت (4) .
__________
(1) تقدم معناه: وفي الصحيحين «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة» ، أي أجر مدخر لقائلها، كما يدخر الكنز، وأخرج النسائي في اليوم والليلة وغيره: إن العبد إذا قالها قال الله: أسلم عبدي واستسلم.
(2) لحديث عمر عند مسلم ثم قال: حي على الصلاة، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وللبخاري عن معاوية إذا قال: حي على الصلاة، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنما لم يتابعه لأن الحيعلة المقصود بها الدعاء إلى الصلاة، وذلك يحصل من المؤذن فعوض السامع عما يفوته من ثواب الحيعلة ثواب الحوقلة، ولأنها خطاب فإعادته عبث، بل سبيله الطاعة وسؤال الحول والقوة الدالين على الاعتراف بالعجز وطلب المعونة من الله في كل الأمور.
(3) أي إلى العود بالإعلام بعد الإعلام بإقام الصلاة، من ثاب إذا رجع، لأن المؤذن رجع إلى الدعاء للصلاة بعد أن دعا إليها بالحيعلة، وهو في الأصل الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه، وهو مخصوص بأذان الفجر.
(4) أي صدقت في دعائك إلى الطاعة، وبررت بكسر الراء الأولى وسكون الثانية، ودعاء له أي بر عملك، أو صيرك الله دابر، أي خير كثير، وهذا استحسان من قائليه وإلا فليس فيه سنة تعتمد، ولا أصل له، لعدم وروده، والصواب ما ذهب إليه مالك وغيره أن يقول مثل ما يقول، لقوله: «قولوا كما يقول المؤذن» متفق عليه، زاد النسائي حتى ينتهي.(1/455)
وإذا قال المقيم: قد قامت الصلاة، قال السامع: أقامها الله وأدامها (1) وكذا يستحب للمؤذن والمقيم إجابة أنفسهما (2) للجمع بين ثواب الأذان والإجابة (3) .
(و) يسن (قوله) أي قول المؤذن وسامعه (بعد فارغه (4) اللهم) أصله: يا الله، والميم بدل من يا (5) قاله الخليل وسيبويه (6) .
__________
(1) لما روى أبو داود عن أبي أمامة أن بلالا أخذ في الإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال: أقامها الله وأدامها وتقدم الكلام فيه والله أعلم.
(2) أي بعد كل كلمة كالسامع.
(3) صرح به جماعة وعنه لا يجيب نفسه، وقال ابن رجب: الأرجح أن المؤذن لا يجيب نفسه، وهو ظاهر كلام جماعة اهـ.
فالمقيم أولى للأمر بالإسراع فيها.
(4) أي يقول المؤذن بعد فراغه وكذا سامعه بعد فراغه من إجابته وبعد فراغه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الله بن عمرو «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليها بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» رواه مسلم.
(5) أي حذف حرف النداء من قولك يا الله، وعوض عنه ميم مشددة في الأخر.
(6) أي الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم أبو عبد الرحمن الفراهيدي اليحمدي الأزدي الإمام في علم النحو، واستنبط علم العروض، ومن تأسيسه بناء كتاب العين، وكتاب العروض والشواهد وغيرها توفي سنة مائة وسبعين، وسيبويه بكسر السين وسكون الهاء أبو بكر عمرو بن عثمان بن قنبر، اشتهر بلقبه سيبويه، وهو لقب فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح، صاحب الكتاب المشهور، جميع كتب الناس في النحو عيال عليه، خرج من بغداد لما تعصبوا عليه للكسائي، وتوفي بشيراز سنة مائة وثمانين وله نيف وأربعون.(1/456)
(رب هذه الدعوة) بفتح الدال (1) أي دعوة الأذان (التامة) أي الكاملة السالمة من نقص يتطرق إليها (2) (والصلاة القائمة) أي التي ستقوم وتفعل بصفاتها (3) (آت محمدا الوسيلة) (4) منزلة في الجنة (5) .
__________
(1) احتراز عن الدعوة بالكسر للنسب، وأما دعوة الوليمة فبالفتح: وقيل بالضم.
(2) لكمالها وعظم موقعها، والمراد دعوة التوحيد لقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} وقيل لدعوة التوحيد تامة لأنه لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم القيامة، وقال ابن التين: وصفت الدعوة بالتمام لأنها ذكر الله، ويدعى به إلى عبادته.
(3) والدائمة التي لا يغيرها ملة، ولا ينسخها شريعة، وإنها قائمة ما قامت السموات والأرض.
(4) أي أعط نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الوسيلة، من الإيتاء وهو الإعطاء، والوسيلة هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت أي تقربت، والوسيلة علم على أعلم منزلة في الجنة، وهي منزلة الله صلى الله عليه وسلم وداره، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
(5) وقد فسرها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم.(1/457)
والفضيلة (1) (وابعثه المقام المحمود الذي وعدته) (2) أي الشفاعة العظمة في موقف القيامة، لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون (3) ثم يدعو (4) .
__________
(1) الرتبة الزائدة على سائر الخلائق ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرا للوسيلة، قال السخاوي: وأما الدرجة الرفيعة فيما يقال بعد الأذان فلم أره في شيء من الروايات.
(2) أي ابعثه يوم القيامة فأقمه المقام المحمود الذي وعدته وهو الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، ومن سأل الله له الوسيلة حلت له الشفاعة يوم القيامة، زاد البيهقي إنك لا تخلف الميعاد، والموصول إما بدل، وإما خبر مبتدأ محذوف وإما مفعول بفعل محذوف، وقيل: بدل على رواية النكير، نعت على رواية التعريف، ورواه النسائي وغيره بالتعريف بإسناد صحيح، ورواه البخاري وأكثر أهل الحديث بالتنكير، قال ابن القيم: وهو الصحيح من وجوه:
(أحدها) اتفاق أكثر الرواة عليه.
(والثاني) موافقته للفظ القرآن.
و (الثالث) لفط التنكير قد يقصد به التعظيم.
(والرابع) دخول اللام يعينه وحذفها يقتضي إطلاقا وتعددا.
و (الخامس) محافظته عليه الصلاة والسلام على ألفاظ القرآن، وأراد بذلك قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} .
(3) لتعجيل الحساب والراحة من طول الموقف في المحشر، ويحمده الخالق جل وعلا، وهذه الشفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الموقف، ليقضي بينهم، بعدما يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات.
(4) لحديث الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، رواه أحمد والترمذي وغيرهما وحسنه، أي فادعوا قالوا: فما نقول؟ قال: سلوا الله العفو والعافية في الدنيا
والآخرة قال ابن القيم: حديث صحيح، ولحديث قل كما يقول فإذا انتهيت فسل تعطه رواه أبو داود، ويستحب أن يقول: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، لحديث سعد بن أبي وقاص رواه مسلم، وغيره، وتقدم ويقول عند أذان المغرب، «اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي» ، لحديث أم سلمة رواه أبو داود والترمذي.(1/458)
ويحرم خروج من وجبت عليه الصلاة بعد الأذان في الوقت من مسجد، بلا عذر (1) أو نية رجوع (2) .
__________
(1) مع صحتها منه، لحديث «من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة هو لا يريد الرجعة فهو منافق» ، رواه ابن ماجه، ولأحمد عن أبي هريرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم من المسجد حتى يصلي، ورأى أبو هريرة رجلا خرج من المسجد بعد الأذان فأتبعه بصره، وقال: إن هذا قد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وقاله ابن عبد البر: أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل، وكان على طهارة اهـ ولأن خروجه بعد الأذان من المسجد ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة جماعة قال الشيخ: وإن كان التأذين للفجر قبل الوقت لم يكون الخروج، وأما خروجه لعذر فلا يحرم، كقضاء حاجة، ومثله لو خرج بعد الأذان ليصلي جماعة بمسجد آخر، لا سيما مع فضل إمامه.
(2) أي إلى المسجد قبل فوت الجماعة، ويستحب أن لا يقوم إذا أخذ المؤذن في الأذان، بل يصبر قليلا لئلا يتشبه بالشيطان، ولو دخل المسجد والمؤذن قد شرع في الأذان لم يأت بتحية المسجد لا بغيرها، بل يجيب المؤذن، ثم يصلي تحية المسجد، ليجمع بين أجر الإجابة والتحية، والمراد غير أذان الخطبة، لأن استماع الخطبة أهم.(1/459)
باب شروط الصلاة (1)
الشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده (2) (شروطها) أي ما يجب لها (قبلها) أي تتقدم عليها وتسبقها، إلا النية فالأفضل مقارنتهما للتحريمة (3) .
__________
(1) أجمع الأئمة على أن للصلاة شرائط لا تصح إلا بها، وهي التي تقدمها، ويأتي تفصيلها، والشروط جمع شرط، كفلوس جمع فلس، والشرائط جمع شريطة، كفرائض جمع فريضة، والأشراط واحدها شرط، وهو لغة العلامة، سمي شرطا، لأنه علامة على المشروط، ومنه (فقد جاء أشراطها) أي علاماتها.
(2) هذا هو المشهور فإذا عدمت الشروط أو بعضها عدمت الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة، ويقال: تعليق أمر بأمر كل منهما في المستقبل، يعني إذا وجد الشرط صحت الصلاة، ويعبر عنه أيضا بإلزام الشيء والتزامه وهو عقلي كالحياة للعلم، ولغوي كإن دخلت الدار فأنت طالق، وشرعي وهو ما يتوقف عليه صحة مشروطة إن لم يكن عذر، كالطهارة للصلاة، ولا يدخل فيه ولا يؤثر فيه، ولا يوصل إليه في الجملة، والشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف، والشرط والفرض يشتركان في توقف الماهية عليهما، ويفترقان في أن الشرط يكون خارج الماهية، والفرض داخلها، وأيضا فالشرط يجب استصحابه في الماهية من أولها إلى آخرها، والفرض ينقضي ويأتي غيره، واعتبر ذلك بغسل الوجه ونحوه.
(3) قال المنقح ويأتي فلا يجب تقديمها على الصلاة بل ولا يستحب.(1/460)
ويجب استمرارها أي الشروط فيها (1) وبهذا المعنى فارقت الأركان (2) (منها) أي من شروط الصلاة الإسلام والعقل والتمييز وهذه شروط في كل عبادة (3) إلا التمييز في الحج ويأتي (4) ولذلك لم يذكرها كثير من الأصحاب هنا (5) ومنها (الوقت) (6) .
__________
(1) أي في الصلاة إلى انقضائها، وتعبيره بـ (أي) ينبئ أن العبارة من المتن ولم أره فيه.
(2) أي بوجوب استمرار الشروط فيها فارقت الشروط الأركان، لأنه لا يجب استمرار الأركان فيها.
(3) من صلاة كما تقدم، وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، فكملت الشروط تسعة، وزادها أتباع الأئمة وقسموها قسمين: شروط وجوب، وشروط صحة.
(4) في كتاب المناسك، فإنه يصح ممن لم يميز ولو أنه ابن ساعة.
(5) فكذلك لم يذكرها الماتن تبعا للمقنع، ونظرا إلى أنها شروط للنية، فهي شروط للشرط لابتدائه.
(6) مأخوذ من التوقيت، وهو التحديد (ووقت الشيء يوقته ويقته) إذا بين حده، وكل شيء له حد وغاية، فهو موقت، ووقت الله الصلاة توقيتا حد لها وقتا من الزمان، قال في الإنصاف، واعلم أن الصلاة إنما تجب بدخول الوقت بالاتفاق، وإذا دخل وجبت، وإذا وجبت وجبت شروطها المتقدمة عليها، كالطهارة وغيرها اهـ والمراد الوقت للصلاة المكتوبة خاصة، فأما ما سواها فمنها ما يصح في كل وقت كركعتي الطواف والفوائت، ومنها ما لا يصح في أوقات كالنوافل المطلقة، ومنها ما هو موقت أيضا كالرواتب والضحى، ومنها ما يتعلق بأسباب كصلاة الكسوف، والاستسقاء ومعنى كون الوقت شرطا للصلاة أن الصلاة لا تصح قبله.(1/461)
قال عمر: الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح إلا به (1) وهو حديث جبرئيل حين أم النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس ثم قال: «يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك» (2) .
__________
(1) وأجمع المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتًا مخصوصة محدودة لا تجزئ قبلها قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا *} أي مفروضا في الأوقات، والمفروض هو المقدر المحدود، فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة، والمراد الوقت الذي عينه الله لأداء هذه العبادة، وهو القدر المحدود للفعل من الزمان، ويأتي في مواضعه.
(2) أي والوقت الذي أجمله عمر مفصل حديث جبرئيل، وقال بعضهم صوابه وهو ما في حديث جبريل، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس: «أمني جبرئيل عند البيت مرتين» ، يعني في أول الوقت وفي آخره: «ثم قال: الوقت ما بين هذين الوقتين» ، ولأحمد وغيره من حديث جابر قال قم فصل، فذكر نحوه، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت، قال البخاري والشيخ وغيرهما: هو أصح شيء في المواقيت، وسيأتي وأصله في الصحيحين أن جبرئيل نزل فصلى ثم صلى، الحديث ثم قال: بهذا أمرت، وبين ابن إسحاق وغيره أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلوات، وهي ليلة الإسراء وإمامة جبرئيل به صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر، قال ابن عبد البر: لم يختلف أن جبرئيل هبط صبيحة الإسراء عند الزوال فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها وهيئتها، وفي الباب أحاديث، منها حديث بريدة في الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فصلى يومين أول الوقت وآخره ثم قال: «صلاتكم بين ما رأيتم» ، رواه مسلم، وله نحوه عن عمرو بن شعيب وعبد الله بن عمر وغيرهما.(1/462)
فالوقت سبب وجوب الصلاة (1) لأنها تضاف إليه (2) .
__________
(1) أي سبب نفس الوجوب، إذ سبب وجوب الأداء الخطاب، والسبب الجزء المتصل بالأداء لا كله، وفي الإنصاف، السبب قد يجتمع مع الشرط، وإن كان ينفك عنه، فهو هنا سبب الوجوب، وشرط للصحة، بخلاف غيره من الشروط فإنها شروط للصحة فقط، وأجمعوا على أنها تجب بأول الوقت، لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} إلا أبا حنيفة فقال: تجب بآخره، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر: كيف بك إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة عن وقتها أي أول وقتها، كما هو المنقول عن أولئك الأمراء، قال له: صل الصلاة لوقتها، أي لأول وقتها، وأجمعوا على فضيلة الإتيان بها أول الوقت في الجملة لهذه الآية وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم «سأل أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها» ، وفي رواية لوقتها، ولأبي داود والترمذي والحاكم وصححاه، أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها، وأصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها قطعي، قال ابن بطال: البدار إلى الصلاة في أول وقتها أفضل من التراخي، لأنه شرط، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها قوله: أول الوقت رضوان الله، وقال الشيخ: الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة، وهي أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت لوقتها المستحب، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ومن المحافظة عليها الإتيان بها أول وقتها، ويأتي قوله رحمه الله: أوله أفضل من آخره، إلا حيث استثناه الشارع، ولا ريب أن فعلها أوله هو اختيار النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، فكانوا يصلون في أول الوقت، ولم يكونوا يختارون إلا ما هو الأفضل، والترمذي وغيره: ما صلى صلى الله عليه وسلم صلاة لوقتها إلا خير مرتين، حتى قبضه الله.
(2) أي لأن الصلاة تضاف إلى الوقت، فيقال: صلاة الظهر، وهي تدل على السببية.(1/463)
وتتكرر بتكرره (1) (و) منها (الطهارة من الحدث) (2) لقوله صلى الله عليه وسلم «لايقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه (3) .
(و) الطهارة من (النجس) (4) فلا تصح الصلاة مع نجاسة بدن المصلي أو ثوبه أو بقعته ويأتي (5) والصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة (6) .
__________
(1) أي الصلاة تتكرر بتكرر الوقت، فكلما دخل الوقت وجبت الصلاة، وشرط للوجوب كالأداء وغيره، وبقية الشروط للأداء مع القدرة دون الوجوب.
(2) أي ومن شروط الصلاة الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر وتقدم.
(3) من حديث أبي هريرة أي حتى يتوضأ بالماء، أو ما يقوم مقامه، ولمسلم من حديث ابن عمر: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» ، فلا تصح بدونه مع باقي الشروط، والمراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة، وهو الإجزاء وحقيقة القبول وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة، ولم يصل صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا متوضئا مع القدرة، وهذا مما لا يجهله عالم، ولا يسقط بجهل ولا نسيان، قال الشيخ: ومن نسي طهارة الحدث وصلى ناسيا فعليه أن يعيد الصلاة بطهارة بلا نزاع اهـ، وكذا حكى غير واحد إجماع الأمة على أن من صلى محدثا مع إمكان الوضوء فصلاته باطلة.
(4) تقدم أنه قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة كالبول والدم والخمر.
(5) في الشرط السابع وهو اجتناب النجاسات.
(6) لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} ولقوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء خمس وهن خمسون ولقوله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات كتبهن الله، وفي حديث معاذ أخبرهم
أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، وغير ذلك، وأجمع المسلمون على أن الصلوات المفروضات في اليوم والليلة خمس، لا نزاع بينهم في ذلك، ولا ينكره إلا كافر.(1/464)
ولا يجب غيرها (1) إلا لعارض كالنذر (2) (فوقت الظهر) وهي الأولى (3) .
__________
(1) أي غير الصلوات الخمس، لما في الصحيحين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما افترض الله على عباده من الصلوات؟ قال: «خمس صلوات» قال: هل على غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع» ، فحلف الرجل لا يزيد عليها ولا ينقص، فقال صلى الله عليه وسلم أفلح الرجل إن صدق.
(2) فيجب الوفاء به، وأما الوتر فسيأتي.
(3) واشتقاقها من الظهور، لأن وقتها أظهر الأوقات، لأنه يعرف بزيادة الظل، ولأنها ظاهرة في وسط النهار، وقيل لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام، وقيل لأنها في وقت الظهيرة، أي شدة الحر، والظهر لغة الوقت بعد الزوال، وشرعا صلاة هذا الوقت، من تسمية الشيء باسم وقته، وهي الأولى، لقوله {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وتسمى الهجير، لأنها تصلي وقت الهاجرة، وهي شدة الحر، وعن أبي برزة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، أي حين تزول، ولبداءة جبرئيل بها، لما صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم ولبداءة النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أصحابه، فإن قيل: فرضت الصلاة ليلا، فلم لم يبدأ
بالفجر؟ قيل: يحتمل أن يكون قد وقع تصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، ويحتمل أن الإتيان بها كان متوقفا على بيانها لأن الصلاة فرضت مجملة ولم تبين إلا عند الظهر لقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ولحديث جبرئيل فصلى الظهر حين زالت الشمس، ومن الأصحاب من بدأ بالفجر لأن الوسطى هي العصر، وإنما تكون الوسطى إذا كانت الفجر هي
الأولى ولقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} وغير ذلك، قال في الاختيارات، وهذا أجود، لأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وإنما تكون الوسطى إذا كانت صلاة الفجر الأولى.(1/465)
(من الزوال) أي ميل الشمس إلى المغرب (1) ويستمر (إلى مساواة الشيء) الشاخص (فيئه بعد فيء الزوال) (2) أي بعد الظل الذي زالت عليه الشمس (3) .
__________
(1) بإجماع المسلمين حكاه غير واحد، وقال النووي: حكاه خلائق ولما تقدم، وهو الدلوك الذي أراد الله بقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وميل الشمس عن كبد السماء يعرف بزيادة الظل بعد تناهي قصره، وبتحول الشمس عن خط المسامتة، وبحدوث الظل بعد عدمه، وبمضي قدر نصف القوس متمكنا بعد الشروق، وأجمعوا أنها لا تصلي قبل الزوال.
(2) أي يمتد وقت الظهر إليه، وفاء الظل يفيء فيئا رجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق، ولا يكون الفيء إلا بعد الزوال، لأنه ظل فاء من جانب المغرب، قال الجرجاني، الفيء ما ينسخ الشمس، وهو من الزوال إلى الغروب، كما أن الظل ما نسخته الشمس، وهو من الطلوع إلى الزوال، وكل إنسان بقدم نفسه ستة أقدم وثلثا قدم تقريبا.
(3) لقوله عليه الصلاة والسلام وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله رواه مسلم، أي ويستمر وقت الظهر حتى يصير ظل كل رجل مثله، ولأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت فيما بين هذين الوقتين، فتضبط ما زالت عليه الشمس من الظل، ثم تنظر الزيادة عليه. فإذا بلغت قدر الشاخص فقد انتهى وقت الظهر، وفي صحيح مسلم ووقت الظهر
إذا زالت الشمس عن بطن السماء ما لم يحضر العصر، وله من حديث أبي موسى في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني أخرها حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس.(1/466)
اعلم أن الشمس إذا طلعت رفع لكل شاخص ظل طويل من جانب المغرب، ثم ما دامت الشمس ترتفع فالظل ينقص، فإذا انتهت الشمس إلى وسط السماء وهي مسألة الاستواء انتهى نقصانه (1) فإذا زاد أدنى زيادة فهو الزوال (2) ويقصر الظل في الصيف (3) لارتفاعها إلى الجو (4) ويطول في الشتاء (5) .
__________
(1) أي الظل، والوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدور، ومن الطرفين في المطول، كمركز الدائرة وقوله: إعلم كلمة يؤتي بها للاعتناء بما بعدها.
(2) أي فإذا زاد الظل الذي فاء بعد قيام الشمس فهو الزوال، وهو وقت الظهر والظل أصله الستر، وظل الليل سواده، وظل الشمس ما ستر به الشخوص من مسقطها، وظل النهار لونه إذا غلبته الشمس، وقال: رؤبة كل موضع تكون في الشمس فتزول عنه فهو ظل وفيء، وقال ابن قتيبة: الظل يكون غدوة وعشية، والفيء لا يكون إلا بعد الزوال.
(3) وأقصره في النصف من حزيران والصيف ثلاثة أشهر، ودخوله عند حلول الشمس رأس الحمل، وهو عند العرب الربيع، والذي يليه القيظ، وقال بعضهم: هو القيظ، وعند العامة هو الصيف، ولعله المراد، فكلما طال النهار قصر الظل، وإذا قصر النهار طال الظل.
(4) أي كبد السماء، والجو ما بين السماء والأرض.
(5) لمسامتتها للمنتصب.(1/467)
ويختلف بالشهر والبلد (1) (وتعجيلها أفضل) (2) وتحصل فضيلة التعجيل بالتأهب أول الوقت (3) .
__________
(1) اختلافا كثيرا طولا وقصرا، وانعداما بالكلية، فيقصر الظل جدا في كل بلد تحت وسط الفلك، ويطول في ضد ذلك، وفاقد وقتها كبلغار مكلف بهما فيقدر لها كما يقدر في أيام الدجال، لما ثبت في صحيح مسلم قال: فاقدروا له، وأيام الدجال وأربعون يوما، يوم كسنة، فيصلي فيه صلاة سنة، ويوم كشهر، فيصلي فيه صلاة شهر، ويوم كجمعة فيصلي فيه صلاة جمعة، وباقي الأيام كأيامنا فيقدر في الثلاث الأول، مقدار الوقت، فكذا في بلغار ونحوها فإنه يطلع الفجر في بلغار قبل غروب الشفق في أربعينية الشتاء، وأفتى السرخسي والبلقاني بسقوطه عنهم، وأفتى غيرهما بوجوبه، وهو أوجه قياسا على أيام الدجال، قال الشيخ: والمواقيت التي علمها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وعلمها النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، حين بين مواقيت الصلاة، وهي التي ذكرها العلماء في كتبهم، هي في الأيام المعتادة، فأما ذلك اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كسنة قال: «اقدروا له قدره» ، فله حكم آخر، تكون فيه الصلاة بقدر الأيام المعتادة. لا ينظر فيه إلى حركة الشمس، لا بزوال ولا بغروب ولا مغيب شفق ونحو ذلك كما في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *} أي على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، واليوم المراد به اليوم والليلة.
(2) لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ولحديث كان يصلي الهجير حين تدحض الشمس، وحديث يصلي الظهر بالهاجرة متفق عليهما فتعجيلها مستحب بغير خلاف، حكاه غير واحد، في غير شدة حر، وقال الترمذي: هو الذي اختاره أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
(3) لها أو لغيرها مما يسن تعجيلها والتأهب الاشتغال بأسباب الصلاة، كطهر وأذان وستر ونحوه، من حين دخول الوقت، لأنه لا يعد إذا متوانيا.(1/468)
(إلا في شدة حر) فيستحب تأخيرها إلا أن ينكسر (1) لحديث «أبردوا بالظهر» (2) (ولو صلى وحده) أو في بيته (3) .
__________
(1) يعني الحر، ويتسع الظل في الحيطان، وقال ابن منجا: الأرجح أنه سنة وفي حديث أبي ذر قال: أبرد حتى رأينا في التلول وقال النووي وغيره: الإبراد أن يؤخر الصلاة قليلا بقدر ما يحصل للحيطان فيء يمشيء فيه القاصد إلى الصلاة فيصلي في آخر الوقت، ولا يجاوز بالإبراد نصف الوقت.
(2) رواه البخاري وغيره، من حديث أبي سعيد، ورواه الجماعة من حديث أبي هريرة «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» ، وهو حديث متواتر رواه بضعة عشر صحابيا، وأبردوا أي أخروها إلى أن يبرد الوقت، أي الزمان الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر، فيوجد فيه برودة، والباء للتعدية، أي أدخلوا صلاة الظهر في البرد، وهو سكون شدة الحر، ويقال: أبرد إذا دخل في البرد، أمر استحباب، وقيل إرشاد، وقيل: بل للوجوب، حكاه القاضي وغيره، والجمهور على الاستحباب، وفيح جهنم شدة حرها، وغليانها، وانتشار لهبها، ووهجها نعوذ بالله منها، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد وهو ظاهر، واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر بالإبراد، فمنهم من قال: هو حصول الخشوع فيها، فلا فرق بين من يصلي وحده وفي جماعة، ومنهم ن قال: خشية المشقة على من بعد عن المسجد بمشيه في الحر، فيختص بالصلاة في مساجد الجماعات، التي تقصد من الأمكنة المتباعدة، ومنه من قال: هو نفس توهج النار، فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة، ومنهم من قال: خشية المشقة على من بعد عن المسجد بمشيه في الحر، فيختص بالصلاة في مساجد الجماعات، التي تقصد من الأمكنة المتباعدة، ومنهم من قال: هو نفس توهج النار، فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة، قال ابن رجب، هو المقدم وثبت من حديث أبي ذر الإبراد، وكانوا مجتمعين، قال الحافظ: والحكمة دفع المشقة، لكونها قد تسلب الخشوع، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب، فإنها تسجر فيها جهنم.
(3) هذا المذهب اختاره المصنف والشارح والخرقي، وهو مذهب أبي حنيفة
وابن المنذر وغيرهم، لظاهر الأخبار، قال الشيخ: أهل الحديث يستحبون تأخير الظهر مطلقا، سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين، وبذلك جاءت السنة الصحيحة التي لا دافع لها، وكل من الفقهاء يوافقهم أو الأغلب اهـ وليس المراد أن يترك الجماعة ويصلي وحده، إذ لا يترك واجب لمسنون، وإنما المراد المعذور لمرض ونحوه.(1/469)
(أو مع غيم لمن يصلي جماعة) أي ويستحب تأخيرها مع غيم إلى قرب وقت العصر لمن يصلي جماعة (1) لأنه وقت يخاف فيه المطر والريح: فطلب الأسهل بالخروج لهما معا (2) وهذا في غير الجمعة فيسن تقديمها مطلقا (3) (ويليه) أي يلي وقت الظهر (وقت العصر) المختار (4) .
__________
(1) وعنه لا تؤخر لغيم، وفاقا لمالك والشافعي.
(2) كذا علله القاضي بذلك، وظاهر الخرقي وغيره سنية تعجيل الظهر في غير شدة الحر، إذا غلب على ظنه دخول الوقت، وقوفا مع النص، وما روي عن أحمد يحمل على أنه أراد بالتأخير ليتيقن دخول الوقت، ولا يصلي مع الشك، كما نقل عنه أبو طالب، قال: يوم الغيم يؤخر الظهر حتى لا يشك أنها قد حانت ويعجل العصر.
(3) فلا يؤخرها في حر أو غيم إجماعا، لحديث ما كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة، وحديث: كنا نجمع إذا زالت الشمس متفق عليهما.
(4) وهو اللذي يجوز تأخير الصلاة إلى آخره من غير عذر، سمي بذلك لأرجحيته على ما بعده، أو لاختيار جبرئيل إياه أو لأن فعلها فيه موكول إلى اختيار المكلف، والعصر الزمان، أو الغداة، أو العشي، ومنه سميت صلاة العصر، أو لأنها تصلي عشية وقيل من طرف النهار، والعرب تسمي كل طرف من النهار عصرا، وقيل لانعصار النهار للفراغ، والشمس للغروب.(1/470)
من غير فصل بينهما (1) ويستمر (إلى مصير الفيء مثليه بعد في الزوال) أي بعد الظل الذي زالت عليه الشمس (2) (و) وقت (الضرورة إلى غروبها) أي غروب الشمس فالصلاة فيه أداء (3) .
__________
(1) ولا اشتراك وفاقا للشافعي، فلا يقال: وقت العصر لا يدخل إلا بعد زيادة يسيرة عن خروج وقت الظهر، ولا أن آخر وقت الظهر أول وقت العصر لما في صحيح مسلم ووقت الظهر ما لم تحضر العصر.
(2) أي يمتد الوقت المختار للعصر إلى ذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء، لأن جبرئيل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، وقال: «الوقت فيما بين هذين الوقتين» ، وعنه إلى اصفرار الشمس، صححه الشارح وغيره، واختارها المجد، لحديث «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» ، رواه مسلم، وله من حديث أبي موسى وهو متأخر، والعمل بالمتأخر متعين قال: ثم أخر العصر يعني في اليوم الثاني حتى انصرف منها والقائل يقول قد احمرت الشمس، وفي حديث أبي هريرة «وإن آخر وقتها حين تصفر الشمس» ، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن من صلاها والشمس بيضاء نقية فقد صلاها في وقتها، ثم يدخل وقت الضرورة قال شيخ الإسلام: وهو الصحيح، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة المدنية.
(3) وهو إنما يباح تأخير الصلاة إليه مع العذر، ومتى فعلها فيه فهو مدرك لها أداء في وقتها لعذر أو غيره، قال في المبدع وغيره، وعليه أكثر العلماء، لقوله: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» ، متفق عليه وحينئذ فلا فرق بين المعذور وغيره، إلا في الإثم وعدمه، ولا يختص بالعصر والصبح، بل الحكم كذلك في جميع الصلوات، لما في صحيح مسلم «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» .(1/471)
لكن يأثم بالتأخير إليه لغير عذر (1) (ويسن تعجيلها) مطلقا (2) وهي الصلاة الوسطى (3) .
__________
(1) أي إذا أخرها إلى وقت الضرورة أثم لغير عذر، ولعذر فلا إثم، وقال الشيخ: نقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار، من أن الوقت وقتان: وقت اختيار وهو خمس مواقيت، ووقت اضطرار وهو ثلاث مواقيت اهـ وسمي بالضرورة لأنه مختص بأرباب الضرورات من غفلة أو نوم أو إغماء أو جنون أو حيض ونحو ذلك.
(2) مع حر وغيم وغيرهما لحديث ويصلي العصر فيرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية متفق عليه، ولهما عن رافع بن خديج قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فننحر جزورا فنقسم عشر قسم، فنأكل لحما نضيجا قبل أن تغرب الشمس ولغيرهما من الأحاديث، وهو مذهب أكثر الصحابة والتابعين، ومالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء، ويأتي الأمر بالتبكير لها في الغيم، ففي الصحو أولى.
(3) يعني الفضلى، مؤنث الأوسط، والوسط الخيار، فالمعنى لثبوت الفضل فيها، ونص عليها تعالى بيانا لفضلها، وتأكيدا على الحض على المحافظة عليها فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وثبت أنها العصر، ففي صحيح مسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وللترمذي وصححه الصلاة الوسطى صلاة العصر، قال الترمذي: وهو قول أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم، قال في الإنصاف: بلا خلاف عن الإمام والأصحاب، وقال الشيخ: قد ثبت بالنصوص الصحيحة أنها العصر، وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة، ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم اهـ وقال ابن رشد: الأحاديث بذلك متواترة والعلم به حاصل ضرورة اهـ ويستحب جلوسه في مصلاه بعد العصر إلى غروب الشمس، وبعد الفجر إلى طلوع الشمس، وهو أوكد لفعله صلى الله عليه وسلم.(1/472)
(ويليه وقت المغرب) (1) وهي وتر النهار (2) ويمتد (إلى مغيب الحمرة) أي الشفق الأحمر (3) .
__________
(1) مصدر غربت الشمس غروبا، ويطلق على وقت الغروب ومكانه، فسميت هذه الصلاة باسم وقتها، وتسمى صلاة الشاهد، ولا يجوز فعلها قبل الغروب بحال، وأجمعت عليه الأمة، والمراد بالغروب غروب قرص الشمس جميعه، بحيث لا يرى منه شيء، لا من سهل ولا من جبل، ونقل ابن المنذر وخلائق الإجماع عليه، لما في الصحيحين وغيرهما إذا غربت وتوارت بالحجاب، ولغير من الأحاديث ويتحقق بإقبال ظلمة الليل من المشرق، لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم، وفي المبدع: ويعرف الغروب في العمران بزوال الشعاع من رءوس الجبال، وإقبال الظلام من المشرق.
(2) لاتصالها به، كأنها فعلت فيه، لحديث عقبة فإنها وتر النهار، رواه أحمد وغيره أي فرضت وترا للنهار، ثلاثا من أول الأمر، وهي ثلاث ركعات حضرا وسفرا بإجماع المسلمين.
(3) وفاقا لأبي حنيفة، والصحيح عند الشافعية، ورواية عن مالك، قال النووي وغيره، هذا هو الصحيح والصواب الذي لا يجوز غيره، وقول جمهور أهل العلم، وصححه ابن العربي وغيره، لحديث عبد الله بن عمرو ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، وفي رواية ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق، رواه مسلم وفيه: ثم أمره فأقام المغرب حين وجبت الشمس فلما كان في اليوم الثاني أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وفي لفظ، قبل أن يغيب الشفق، ثم قال: الوقت ما بين هذين الوقتين وفي لفظ إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق ولقوله: وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها، وإنما خص منه الفجر بالإجماع، فما عداها داخل في عمومه، وبه تضافرت السنة الصحيحة، وهو أصح
الأقوال لهذه الأخبار، وخبر أبي موسى وبريدة، فلها وقتان وقت اختيار، وهو إلى ظهور الأنجم، ووقت كراهة، وهو ما بعده إلى مغيب الحمرة، والحمرة لون الأحمر، وقد تطلق على ما لونه البياض كما يقال: امرأة حمراء، وقيدوه بالحمرة لقول ابن عمر وغيره: الشفق الحمرة، وقال: الزجاج وغيره: الشفق الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس، وهذا هو المشهور في كتب اللغة، وذكر غير واحد أنه لم ينقل عن أئمة اللغة غيره، فالشفق بياض تخالطه حمرة، ثم تذهب ويبقى بياض خالص، بينهما زمن قليل، فيستدل بغيبة البياض على مغيب الحمرة، قال الشيخ وغيره، وما بين العشائين ثمن الليل، وما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس سبعه.(1/473)
(ويسن تعجيلها (1) إلا ليلة جمع) أي مزدلفة (2) سميت جمعا لاجتماع الناس فيها (3) فيسن (لمن) يباح له الجمع (4) و (قصدها محرما) (5) .
__________
(1) إلا لعذر قال الشيخ: باتفاق الأئمة وللترمذي وغيره وصححه عن سلمة أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب قال: وهو قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
(2) سميت بذلك لأنها يتقرب فيها إلى الله، أو لاقتراب الناس إلى منى من عرفات، أو لمجيء الناس إليها في زلف من الليل، أو لازدلاف آدم وحوى فيها، وهي ليلة النحر.
(3) أو لاجتماع آدم هناك بحوى، أو لأن الناس يجمعون بها بين صلاتي المغرب والعشاء، والأول أجود، لوجود اجتماع الناس بها قديما.
(4) بين المغرب والعشاء، لا من لا يباح له الجمع من مكي وغيره، عند بعضهم ويأتي ذكر ثبوت جمعهم خلفه صلى الله عليه وسلم.
(5) أي قصد مزدلفة محرما، إن لم يوافقها وقت المغرب، فيصلي المغرب في وقتها، ولا يؤخرها لزوال العلة التي من أجلها جمع النبي صلى الله عليه وسلم.(1/474)
تأخير المغرب ليجمعها مع العشاء تأخيرا (1) قبل حط رحله (2) (ويليه وقت العشاء إلى) طلوع (الفجر الثاني) (3) وهو الصادق (4) .
__________
(1) أي جمع تأخير إجماعا، لأنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه كانوا يفعلون ذلك، قال الشيخ وغيره: بالاتفاق، وكذا في غيم، فيستحب تأخيرها حتى يتيقن دخول الوقت، قال أحمد: يؤخرها حتى يعلم أنه سواد الليل.
(2) لفعله عليه الصلاة والسلام بمزدلفة، بعد أن صلى المغرب أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء، متفق عليه.
(3) أي ويلي وقت المغرب الوقت المختار للعشاء بكسر العين والمد، اسم الأول الظلام سميت بذلك لأنها تفعل فيه، ويقال لها العشاء الآخرة، تسمى بالعتمة أي شدة الظلمة، لما في الصحيح عن عائشة كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل، أو باسم عتمة الليل، وهو ظلمة أوله، ولا يكره تسميتها بالعتمة، قال الشيخ: الأشهر عندنا إنما يكره الإكثار حتى يغلب على الاسم وأن مثلها في الخلاف تسمية المغرب بالعشاء، وقيل: وكذا الفجر بصلاة الغداة، وأول وقتها مغيب الشفق، وهو الحمرة حكاه غير واحد، والأحاديث متضافرة على ذلك، ولا يلتفت إلى البياض بعدها، كما لا يلتفت في الصوم إلى البياض الذي قبل الفجر، قال ابن عمر: الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق فقد وجبت الصلاة، ولا نزاع في ذلك، وللترمذي وغيره عن النعمان أنه كان عليه الصلاة والسلام يصليها لسقوط القمر لثالثة، وهو إنما يغاب لها عند غيوبه غالبا ويمتد وقت الضرورة من نصف الليل إلى طلوع الفجر، عند الأكثيرين، لقوله ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر صلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى رواه مسلم ويحرم إليه بلا عذر كما تقدم.
(4) أي الفجر الثاني هو الفجر الصادق، لأنه صدق عن الصبح.(1/475)
(وهو البياض المعترض) بالمشرق ولا ظلمة بعده (1) والأول مستطيل أزرق (2) له شعاع ثم يظلم (3) .
(وتأخيرها) إلى أن يصليها في آخر الوقت المختار وهو (ثلث الليل أفضل إن سهل) (4) .
__________
(1) يطلع بعد مغيب الأول، يملأ الأفق بياضه، وهو عمود الصبح، وبطلوعه يدخل النهار، وذلك أن على قرض الشمس دائرتين حمراء، وقبلها بيضاء، أول ما يطلع البيضاء، ثم الحمراء، ثم القرص، والأحكام تتعلق بالبيضاء، وهي دائرة لكن لاتساعها تظهر كأنها خط مستقيم من الجنوب إلى الشمال، ويسمى الفجر المعترض، والصادق والمستطير، أي المنتشر الشائع، شبه بالطائر يفتح جناحيه.
(2) وهو الكاذب ولدقته يقال له ذنب السرحان، وهو المستطيل من المشرق إلى المغرب، يسمى كاذبا، لأنه يقل ويتلاشى، أو لأنه يغر من لا يعرفه.
(3) الشعاع المترقرق غير الضوء، وشعاع الشمس الذي تراه كأنه حبال مقبلة عليك إذا نظرت إليها، أو الذي ينتشر من ضوئها.
(4) لقوله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، صححه الترمذي، وقال: هذا الذي اختاره أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، ولأن جبرئيل صلاها بالنبي صلى الله عليه
وسلم في اليوم الأول حين غاب الشفق، وفي اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، ثم قال: الصلاة فيما بين هذين الوقتين، ولحديث أبي موسى وهو متأخر، وعنه: يمتد إلى نصف الليل، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين للشافعي، لحديث ابن عمرو ووقت العشاء إلى نصف الليل، رواه مسلم، ولحديث أبي هريرة قال: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، وحديث أنس: أخرها إلى نصف الليل، ثم صلى وقال: إنكم في صلاة ما انتظرتموها متفق عليه، قال الشيخ: ولو قيل بتحديد
وقت العشاء إلى نصف الليل تارة، وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب يعني ثلث الليل الذي ينتهي بطلوع الفجر، ونصف الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس لكان متوجها.(1/476)
فإن شق ولو على بعض المأمومين كره (1) ويكره النوم قبلها (2) والحديث بعدها (3) إلا يسيرا أو لشغل (4) أو مع أهل ونحوه (5) .
__________
(1) نص عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الأمر بتأخيرها، كراهية المشقة، وكان يأمر بالتخفيف رفقا بهم، ولأن العادة الغالبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه هي التقديم، فإذا تقدموا فالأفضل التقديم دفعا للمشقة، قاله الشيخ وغيره، وقال أحمد: تأخيرها بقدر أن لا يشق على المأمومين، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم تأخيرها مخافة المشقة.
(2) للخبر، ولئلا يستغرق النائم حتى تفوته، أو يفوته وقت اختيار وقتها أو يترخص الناس فينامون عن إقامتها جماعة.
(3) أي ويكره الحديث بعدها، يعني بعد العشاء الآخرة، لحديث كان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها متفق عليه والمراد التحادث مع الناس، فيشتغل عن قيام آخر الليل، أو صلاة الصبح، أو لينام عقب تكفير الخطيئة بالصلاة فتكون خاتمة عمله.
(4) للأخبار ولأنه خير ناجز ومصلحة راجحة فلا يترك لتوهم مفسدة، وأخرج الضياء من حديث عائشة لا سمر إلا لثلاثة: مصل أو مسافر، أو عروس.
(5) كضيف أو ما فيه مصلحة للمسلمين فلا يكره، لما في صحيح مسلم تحدث مع أهله ساعة ثم رقد ولحديث عمر: كان يسمر عند أبي بكر في الأمر من
أمور المسلمين وأنا معه، حسنه الترمذي أو السمر في علم قال الترمذي
رخص بعضهم إذا كان في معنى العلم، وما لا بد منه من الحوائج، وأكثر الحديث على الرخصة، وقال النووي: اتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها، إلا ما كان في خير اهـ والشغل يشمل العلم، بل هو من أهم ما يشتغل به.(1/477)
ويحرم تأخيرها بعد ثلث الليل بلا عذر (1) لأنه وقت ضرورة (2) (ويليه وقت الفجر) (3) من طلوعه (إلى طلوع الشمس (4)
__________
(1) كحائض تطهر ومجنون يفيق أو غير ذلك.
(2) أي ما بعد ثلث الليل على ما ذكر، أو ما بعد نصفه على القول الراجح، ولا يجوز تأخير وقت صلاة لها وقت اختيار ووقت ضرورة أو بعضها إلى وقت الضرورة لغير عذر، وتقدم.
(3) الفجر مصدر وهو ضوء النهار، أو حمرة الشمس في سواد الليل، وهو في آخر الليل كالشفق في أوله، سمي به لانفجار الصبح، وقد أفجرنا من الفجر كما تقول أصبحنا من الصبح، أو لأنه انصداع ظلمة من نور، وبه سمي الوقت عند ظهوره، وتسمى الصبح، والصباح أول النهار، وقيل: مأخوذ من الحمرة التي فيها، كصباحة الوجه من الحمرة التي فيه، وتسمى صلاة الغداة، والغداة أول النهار، وهي ركعتان حضرا وسفرا إجماعا، ومن الصلوات النهار في قول العلماء كافة.
(4) أي وقت الفجر من طلوع الفجر، ويمتد إلى طلوع الشمس، لحديث جبرئيل، وحديث ابن عمر، وحديث أبي موسى، قال الشيخ: استعمل فقهاء الحديث في هذا الباب جميع النصوص الواردة في أوقات الجواز والاختيار، فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، ووقت العصر إلى اصفرار الشمس، ووقت المغرب إلى مغيب الشفق، ووقت العشاء إلى منتصف الليل، وهذا بعينه قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم، وليس حديث في المواقيت أصح منه، وكذا صح معناه من غير وجه من فعله صلى الله عليه وسلم اهـ وقال الوزير وغيره، أجمعوا على أن أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر الثاني، وآخر وقتها المختار إلى أن يسفر، ووقت الضرورة إلى أن تطلع الشمس، ولفظ النووي وغيره: أجمعت الأمة، وفي المبدع: الفجر يتبع الليل فيكون في الشتاء أطول من الصيف، والعشاء على العكس، قال الشيخ: ومن زعم أن وقت العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء، والصيف فقد غلط غلطا بينا باتفاق الناس.(1/478)
وتعجيلها أفضل) مطلقا (1) ويجب التأخير لتعلم فاتحة أو ذكر واجب، إن أمكنه تعلمه في الوقت (2) .
__________
(1) أي صيفا وشتاء إذا تيقنه أو غلب على ظنه، لحديث يشهدن صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم ينقلبن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس، وحديث جابر: كان يصليها بغلس متفق عليهما، وأما حديث اسفروا بالفجر، فالمراد صلوا صلاة الفجر مسفرين، أي إسفارا يتيقن معه طلوع الفجر، جمعا بينه وبين مواظبته صلى الله عليه وسلم على التغليس، أو أسفروا إلى أن يضيء الفجر، فلا يشك فيه، أو دوام الإسفار، لا ابتداؤه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إنما المراد به الإسفار دواما لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسا، ويخرج منها مسفرا، كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم وعن أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ثم أسفر، ثم لم يعد إلى الإسفار، حتى مات، رواه أبو داود وابن خزيمة وقال الخازمي: إسناده ثقات، فقوله صلى الله عليه وسلم موافق لفعله، وكيف يظن به المواظبة على فعل أعظم الأجر في خلافه، قال ابن عبد البر وغيره: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يغسلون ومحال أن يتركوا الأفضل، وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء.
(2) لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن لم يمكنه تعلمه في الوقت
ولو وقت الاختيار فلا، وكذا تأخير الكل مع أمن فوات لمصلي كسوف ونحوه وأمن حدوث مانع.(1/479)
وكذا لو أمره والده به ليصلي به (1) ويسن لحاقن ونحوه مع سعة الوقت (2) (وتدرك الصلاة) أداء (بـ) إدراك تكبيرة (الإحرام في وقتها) (3) .
__________
(1) أي كما يجب التأخير لتعلم الفاتحة يجب إذا أمره والده بتأخيرها ليصلي به، ولا كراهة في ذلك لأن طاعة الوالد ألزم من الصلاة أول الوقت، لأنه سنة وطاعة الوالد واجبة، وإن أمره بتأخير لغير ذلك لم يؤخر، قال الزركشي، لو تأخر الجيران كلهم فالأولى هنا التأخير بلا خلاف.
(2) أي ويسن تأخير الصلاة لحاقن أي محتبس البول، ونحو حاقن حاقب وتائق إلى طعام ونحوه، مع سعة الوقت، ليأتي بالصلاة على أكمل الأحوال، وإلا صلى على حسب حاله، ولا يأثم بتعجيل صلاة يستحب تأخيرها، ولا تأخير ما يستحب تعجيلها، إذا أخرها عازما على فعلها، ما لم يضيق الوقت عن فعل جميع العبادة، لصلاة جبرئيل بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وفي آخره وقوله «الوقت ما بين هذين الوقتين» ولأن الوجوب موسع فهو كالتكفير موسع في الأعيان، قال الشيخ في قوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الأعمال عند الله الصلاة في وقتها» ، الوقت يعم أول الوقت وآخره، والله يقبلها في جميع الوقت، لكن أوله أفضل من آخره، إلا حيث استثناه الشارع، كالظهر في شدة الحر، وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين.
(3) أي وقت تلك المكتوبة هذا المذهب وعليه جمهور الأصحاب، ولو آخر وقت ثانية في جمع، ومعنى إدراك الأداء بناء ما خرج منها عن الوقت على تحريمه الأداء في الوقت، ووقوعه موقعه في الصحة والإجزاء، سواء في ذلك المعذور وغيره.(1/480)
فإذا كبر للإحرام قبل طلوع الشمس أو غروبها كانت كلها أداء (1) حتى ولو كان التأخير لغير عذر، لكنه آثم (2) وكذا وقت الجمعة يدرك بتكبيرة الإحرام ويأتي (3) .
__________
(1) لما رواه مسلم من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك السجدة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ولأنه أدرك جزءا فاستوى فيه القليل والكثير، وعنه: لا تدرك بدون ركعة، اختارها جماعة، وهو ظاهر الخرقي ومذهب مالك واختيار الشيخ، لتخصيص الشارع الإدراك بالركعة، كما في الصحيحين من أدرك ركعة من الصبح، الحديث، وما استدلوا به تفسره الرواية الثانية لمسلم والسجدة إنما هي الركعة وقال الشيخ: تعليق الإدراك بسجدة مجردة لم يقل به أحد من العلماء وقال الحافظ في رواية من أدرك ركعة، لم يختلف على راويها في ذلك، فكان عليها الاعتماد اهـ فمن أدرك دونها لا يكون مدركا للصلاة، وهو الذي استقر عليه الاتفاق.
(2) أي في تأخيره بلا عذر، للخلاف في وقوعه أداء، لعموم جواز تأخير بعض الصلاة عن وقتها، وذكر الزركشي وغيره اختصاص الإدراك بمن له ضرورة كحائض طهرت وصبي بلغ، ومجنون أفاق، ونائم استيقظ ومريض برأ وذمي أسلم، وطبيب فصد، وعليه من لا عذر له لا يدركها بذلك، بل تفوته بفوات وقتها المختار، وتقع منه بعد ذلك قضاء، وهو قول بعض العلماء، وهو متوجه إذ قول جبرئيل وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الوقت ما بين هذين الوقتين وقوله: ما لم تصفر الشمس، يقتضي أن ذلك ليس بوقت لها، وقوله: من أدرك ركعة، يحمل على من له عذر، ولذلك جعل الصلاة في ذلك الوقت صلاة المنافقين، وتقدم قول شيخ الإسلام والله أعلم.
(3) أي وكما تدرك الصلاة بالإحرام في وقتها، كذلك وقت الجمعة يدرك به، وأفردها بالذكر لئلا يتوهم أن أداءها كجمعتها لا يدرك إلا بركعة، ويأتي في الجمعة.(1/481)
(ولا يصلي) من جهل الوقت (1) ولم تمكنه مشاهدة الدلائل (2) (قبل غلبة ظنه بدخول وقتها (3) إما باجتهاد) ونظر في الأدلة (4) أوله صنعة وجرت عادته بعمل شيء مقدر إلى وقت الصلاة (5) أو جرت عادته بقراءة شيء مقدر (6) ويستحب له التأخير حتى يتيقن (7) .
__________
(1) فلا يدري أدخل الوقت أو لا؟
(2) التي يعرف بها الوقت، كالزوال ونحوه، لعمى أو مانع ما، ولا مخبر عن يقين.
(3) لأن الأصل عدم دخوله، فإن صلى مع الشك فعليه الإعادة إجماعا وإن وافق الوقت، وأجمعوا على أن العلم بدخول الوقت أو غلبة الظن على دخوله شرط في صحة الصلاة، كمن اشتبهت عليه القلة فصلى من غير اجتهاد.
(4) الاجتهاد بذل الوسع في المجهود، وقيل: الاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس بالعجز عن مزيد الطلب، لأن الصحابة كانوا يبنون أمر الفطر على غلبة الظن، فلا يصلي قبل بذل الوسع، والنظر في الأدلة على دخول الوقت، كالزوال واصفرار الشمس.
(5) كالصنائع الراتبة.
(6) إلى وقت الصلاة، جاز له أن يصلي، أو صوت ديك مجرب جرت إصابته في صياحة للوقت، فيجوز اعتماده في دخول الوقت، أو ساعة، ونحو ذلك، وإن أمكنه بمشاهدة الدلائل، أو مخبر عن يقين عمل به دونه ظنه.
(7) يعني دخول الوقت، ويزول الشك، إلا أن يخشى خروج الوقت، أو تكون صلاة العصر في يوم غيم فيستحب التبكير لحديث بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله، رواه أحمد وابن ماجه، قال الموفق وغيره: إذا حل فعلها بيقين أو غلبة ظن.(1/483)
(أو بخبر) ثقة (متيقن) كأن يقول: رأيت الفجر طالعا، أو الشفق غائبا ونحوه (1) فإن أخبره عن ظن لم يعمل بخبره (2) ويعمل بأذان ثقة عارف (3) .
__________
(1) كأن يقول: رأيت الشمس زالت، أو اصفرت، ويجب قبول قول الواحد، لأنه خبر ديني، فقبل فيه قول الواحد كالرواية.
(2) لأنه يقدر على الصلاة باجتهاد نفسه، وتحصيل مثل ظنه، فإن تعذر عليه الاجتهاد عمل بقول المخبر عن اجتهاد، كالأذان في الغيم، وإذا اختلف اثنان في دخول الوقت كان الأولى التأخير حتى يتفقا، أو يتيقن دخوله، لأنه قبل ذلك لا يعمل بقول من قال بدخوله، لأنه عن ظن فلا يعمل بظن غيره، فغاية ذلك أن يفيده ظنا، وقد علمت أنه مع الظن يستحب التأخير، حتى ولو قيل إن خبر المثبت مقدم فالتأخير لليقين أولى، ذكره عثمان، وذكر أنه عرضه على منصور فارتضاه.
(3) أي يلزمه العمل بأذان ثقة عارف بأوقات الصلاة، بالزوال والتسير والساعات وغير ذلك، أو يقلد ثقة عارفا، لقوله صلى الله عليه وسلم المؤذن مؤتمن ولأن الأذان شرع للإعلام بحصول الوقت، فلو لم يجز العمل به لم تحصل فائدته ولا الحكمة التي لأجلها شرع الأذان، ولم يزل الناس يعملون به فيجتمعون للصلاة في مساجدهم فإذا سمعوا الأذان قاموا إلى الصلاة بناء على قول المؤذن، من غير مشاهدة للوقت، ولا اجتهاد فيه، من غير نكير فكان إجماعا، وكذا يعمل بأذان الثقة في الغيم وغيره، إذا كان يعرف الأوقات بالساعات أو غيرها، أو يقلد عارفا وقال الشيخ: يعمل بقول المؤذن في الوقت مع إمكان العلم بالوقت، وهذا مذهب أحمد والشافعي وسائر العلماء المعتبرين كما شهدت به النصوص، خلافا لبعض أصحابنا، وقال: قال بعض أصحابنا: لا يعمل بقول المؤذن مع إمكان العلم بالوقت، وهو خلاف مذهب أحمد، وخلاف ما شهدت به النصوص، وفي المبدع: يعمل بالأذان في دارنا، وكذا في دار الحرب.(1/484)
(فإن أحرم باجتهاد) بأن غلب على ظنه دخول الوقت لدليل مما تقدم (1) (فبان) إحرامه (قبله فـ) صلاته (نفل) لأنها لم تجب (2) ويعيد فرضه (3) (وإلا) يتبين له الحال (4) أو ظهر أنه في الوقت (فـ) صلاته (فرض) ولا إعادة عليه، لأن الأصل براءة ذمته (5) ويعيد الأعمى العاجز مطلقا، إن لم يجد من يقلده (6) .
__________
(1) من نظر في الأدلة، أو تقدير الزمن بالصنعة، أو القراءة أو نحو ذلك.
(2) أي قيل دخول الوقت، لأن المكلف إنما يخاطب بالصلاة عند دخول وقتها ولم يوجد.
(3) إجماعا إذا دخل وقتها، لبقاء فرضه عليه.
(4) أي أنه أحرم في الوقت أو قبله ففرض، لدخوله فيها على غالب ظنه.
(5) ولأنه أدى ما خوطب به وفرض عليه في وقته المشروط له.
(6) في دخول الوقت أخطأ أو أصاب، لأن فرضه التقليد ولم يوجد، لا القادر على الاستدلال كما يستدل البصير في الغيم لأنه يساويه في الدلالة، وهو مرور الزمان وقراءة القرآن، والصنائع الراتبة ونحو ذلك، فإذا غلب على ظنه دخول الوقت جاز له أن يصلي ولا إعادة عليه، ما لم يتبين له الخطأ، وفارق الاستقبال لأنه ليس معه الأدلة التي يدرك بها جهة القبلة، وهي البصر وقال أبو بكر: يصلي على حسب حاله كالقادر على معرفة الوقت.(1/485)
(وإن أدرك مكلف من وقتها) أي وقت فريضة (قدر التحريمة) أي تكبيرة الإحرام (1) (ثم زال تكليفه) بنحو جنون (2) (أو) أدركت طاهرة من الوقت قدر التحريمة ثم (حاضت) أو نفست (3) (ثم كلف) الذي زال تكليفه (4) (وطهرت) الحائض أو النفساء (قضوها) أي قضوا تلك الفريضة التي أدركوا من وقتها قدر التحريمة قبل (5) لأنها وجبت بدخول وقتها واستقرت (6) فلا تسقط بوجود المانع (7) .
__________
(1) على القول بكون الوجوب يتعلق بقدرها، والمراد المكلف الذي لا مانع به.
(2) كما لو زالت الشمس ثم بعد مضي قدر تكبيرة فأكثر طرأ مانع للصلاة كزوال عقل.
(3) أي أو أدركت طاهرة من حيض أو نفاس من الوقت قدر التحريمة، ثم طرأ عليها العذر من حيض أو نفاس.
(4) بنحو جنون، قضى تلك الصلاة التي أدرك قدر التكبيرة من وقتها، لأن الصلاة تجب بدخول أول الوقت، والوجوب يتعلق بقدر التكبيرة من الوقت، لأنه جزء منه استوى فيه القليل والكثير، لما رواه مسلم، وتقدم ويأتي قول الشيخ الفاصل في المسألة.
(5) أي قبل زوال التكليف بطروء المانع من جنون أو حيض ونحوهما وقال الشافعي: بمضي زمن يمكن فعلها فيه، و (قبل) يبنى على الضم كبعد وتقدم.
(6) أي على مكلف أدرك جزءا من وقتها لم يقم به مانع.
(7) ويجب قضاؤها عند زوال المانع، قولا واحدا، ولا يلزمه غير التي دخل
وقتها قبل طروء المانع فلا يقضي المجموعة إليها بعدها، لأنه لم يدرك جزءا من وقتها، بخلاف عكسها الآتي، وقال الشيخ: ومن دخل عليه الوقت ثم طرأ مانع من جنون أو حيض فلا قضاء عليه، وقال: الأظهر في الدليل، قول مالك ورواية عن أبي حنيفة، أنها لا يلزمها شيء، لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، ولا أمر هنا يلزمها بالقضاء، ولأنها أخرت تأخيرا جائزا، فهي غير مفرطة، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد بقضاء الصلاة بعد وقتها، وذكر أنهما ليسا كالنائم والناسي، فإن وقتهما إذا ذكرا، وفي الاختيارات لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت ثم يوجد المانع.(1/486)
(ومن صار أهلا لوجوبها) بأن بلغ صبي أو أسلم كافر أو أفاق مجنون (1) أو طهرت حائض أو نفساء (قبل خروج وقتها) أي وقت الصلاة، بأن وجد ذلك قبل الغروب مثلا ولو بقدر تكبيرة (2) (لزمته) أي العصر (وما يجمع إليها قبلها) وهي الظهر وكذا لو كان ذلك قبل الفجر لزمته العشاء والمغرب (3) لأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور فكأنه أدرك وقتها (4) .
__________
(1) من جنون أو مغمى عليه من إغماء قبل خروج وقتها لزمته وما يجمع إليها قبلها على ما يأتي تفصيله.
(2) تقدم أنها لا تدرك إلا بركعة، لما في الصحيح «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» ، قال شيخ الإسلام: وهذا نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة، سواء كان إدراك جماعة أو إدراك وقت.
(3) وفاقا لمالك والشافعي.
(4) فلزمه قضاؤها، كما يلزمه فرض الثانية، ولأن أحد هؤلاء أدرك جزءا
من آخر وقت الصلاة، ووجبت عليه، فلزمه قضاؤها، كما لو أدرك وقتا يتسع لها، قال الشارح، لا نعلم فيه خلافا، وفي الإنصاف بلا نزاع، وفي وقت صلاة لا تجمع لزمته فقط، وروى ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وغيره، أنهم قالوا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة تصلي المغرب والعشاء فإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا، قال في المبدع: ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة، وقال أحمد: وهو قول عامة التابعين إلا الحسن، وإن كان قبل طلوع الشمس لزمه قضاء الصبح فقط، لأن التي قبلها لا تجمع إليها، وقال أيضا شيخ الإسلام، لا تجب إلا بأن يدرك زمنا يتسع لفعلها، قال: وهو أصح.(1/487)
(ويجب فورا) ما لم يتضرر في بدنه (1) أو معيشة يحتاجها (2) أو يحضر لصلاة عيد (3) (قضاء الفوائت) (4) .
__________
(1) أي يجب قضاء الفوائت فورا، والفور مصدر مأخوذ من فور القدر، وذلك ما لم يتضرر في بدنه، والتضرر أن يلحقه مشقة، أو نقص في بدنه بضعف أو خوف أو مرض أو نصب أو إعياء، وهو أقل من النصب لأن النصب هو التعب، فتسقط عنه الفورية إلى القدرة بلا ضرر، والمريض يقضيها وإن كان جالسا، ما لم يتضرر ولا يؤخرها ليصلي قائما.
(2) كفوات شيء من ماله، أو ضرر فيه، أو قطع عن معيشته، نص أحمد على نحو هذا، فيسقط الفور، ويقضيها بحيث لا يتضرر لقوله: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
(3) لما سيأتي من كراهة القضاء بموضع العيد قبل صلاته لئلا يقتدى به.
(4) أي يجب في أول الإمكان بحيث يلحقه الإثم بالتأخير عنه قضاء الفرائض الفوائت ما لم يلحقه ضرر، لقوله صلى الله عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه، ولغيره من الأحاديث المستفيضة في الأمر بالصلاة عند الذكر والأمر يقتضي الوجوب، فتجب المبادرة إلى فعلها على الفور وهو قول جمهور الفقهاء، منهم إبراهيم والزهري وربيعة، وأبو حنيفة، ومالك وأحمد وأصحابهم، واختاره الشيخ وغيره. وحجة من رأى التأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلها في المكان الذي ناموا فيه، وهو لا يدل إلا على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضًا عن القضاء، بل يفعله لتكميل الصلاة، ومن اختيار بقعة، ويأتي، وأجمع أهل العلم على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان، واستنادهم إلى السنة المستفيضة، ومن تركها جهلاً بوجوبها، مثل من أسلم في دار الحرب، ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، فثقيل يعيد مطلقًا، وقيل بدار إسلام، وقيل لا يعيد مطلقًا، قال الشيخ: والصحيح عدم وجوب الإعادة، لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، وقال {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فمن لم يبلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه بخلاف العامد لأنه لا يسقط عنه الإثم، فلا يشرع له قضاء، ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع، واختاره هو وابن رجب وغيرهما، وحكمته التغليظ عليه، وذكر بعض المتقدمين كالجوزجاني والبربهاري وابن بطة: أنه لا يجزئ فعلها مطلقًا إذا تركها عمدًا. وحكى النووي إجماع من يعتد بهم على لزوم القضاء، ورد على ابن حزم استدلاله على عدم القضاء، وقاس وجوب القضاء على قضاء المجامع في نهار رمضان، فالله أعلم، والقضاء عرفًا إيقاع الصلاة خارج وقتها.(1/488)
(مرتبًا) ولو كثرت (1) .
__________
(1) لأنها صلوات واجبة تفعل في وقت يتسع لها، فوجب فيها الترتيب. قال الشارح: وهذا الترتيب شرط لصحة الصلاة، فلو أخل به لم تصح، لحديث جابر يوم الخندق «فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» متفق عليه، ولأحمد: عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: «هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟» قالوا: يا رسول الله ما صليتها. فأمر المؤذن فأقام الصلاةن فصلى العصر، ثم أعاد المغرب. ولترتيبه الأربع صلوات. وروى عن ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وغيرهم وجوب الترتيب، وعنه: لا يجب وفاقًا. وقال في المبهج: مستحب واختاره في الفائق، قال ابن رجب، وجزم به بعض الأصحاب ومال إلى ذلك، وقال: إيجاب ترتيب قضاء الصلوات سنين عديدة ببقاء صلاة واحدة في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليل قوي اهـ وقال النووي: المعتمد في المسألة أنها ديون عليه، فلا يجب ترتيبها إلا بدليل ظاهر، وليس لهم دليل ظاهر، ولأن من صلاهن بغير ترتيب فقد فعل الصلاة التي أمر بها، فلا يلزمه وصف زائد بغير دليل.(1/489)
ويسن صلاتها جماعة (1) (ويسقط الترتيب بنسيانه) للعذر (2) فإن نسي الترتيب بين الفوائت (3) أو بين حاضرة وفائتة حتى فرغ من الحاضرة صحت (4) .
__________
(1) صلاته صلى الله عليه وسلم بهم الفجر يوم نومهم، ويوم الخندق جماعة، كما كان يصليها في وقتها، وحكى القاضي عياض وغيره، أنه لا خلاف بين العلماء في جواز الجماعة في القضاء، إلا ما حكي عن الليث، وإن صح فمردود بالأحاديث الصحيحة، وإجماع من قبله.
(2) لأنه لا أمارة على المنسية تعلم بها ولقوله صلى الله عليه وسلم «عفى عن أمتي الخطأ والنسيان» ، قال القاضي: رواية واحدة، وقال الشيخ: عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد.
(3) كأن ترك ظهرا وعصرا من يومين لا يدري أيتهما الأولى تحرى وصحت وإن استويا بدأ بما شاء منهما، وفي المطلع: ونسي الترتيب أي نسي أن يقضي الصلاة مرتبة حال قضائها، لا أنه نسي كيف فاتته، فإن ذلك لا يسقط الترتيب على الصحيح.
(4) وإن ذكر وهو فيها والوقت متسع أتمها وقضى الفائتة ثم أعاد التي كان يها، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب يحتمل أنه ذكرها في الصلاة، وقال الشيخ: متى ذكر الفائتة في أثناء الصلاة كان كما لو ذكرها قبل الشروع فيها، فإنه إذا حضرت الجماعة يصلي الحاضرة معهم ثم يصلي الفائتة وهل يعيد الحاضرة؟ فيه للصحابة والعلماء قولان، أحدهما يعيد، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمشهور في مذهب أحمد، والثاني لا يعيد، وهو قول ابن عباس ومذهب الشافعي واختيار جدي، وتقدم قوله: إن الله لم يوجب صلاة مرتين إلا لترك واجب كطمأنينة أووضوء ونحو ذلك.(1/490)
ولا يسقط بالجهل (1) (و) يسقط الترتيب أيضا (بخشية خروج وقت اختيار الحاضرة) (2) فإن خشي خروج الوقت قدم الحاضرة لأنها آكد (3) ولا يجوز تأخيرها عن وقت الجواز (4) ويجوز التأخير لغرض صحيح، كانتظار رفقة أو جماعة لها (5) .
__________
(1) للقدرة على التعلم، وإن ترك الترتيب بلا عذر لم يصح، لأنه شرط كترتيب الركوع والسجود، وقيل يسقط الترتيب بجهل وجوبه، اختاره الآمدي والشيخ وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم.
(2) لئلا يصيرا فائتتين ولأن ترك الترتيب أيسر من ترك الوقت، قال في الإنصاف، خشية خروج وقت الاختيار كخشية خروج الوقت بالكلية، فإذا خشي الإصفرار صلى الحاضرة، قاله الزركشي والمجد وغيرهما.
(3) وذلك مثل أن يشرع في صلاة حاضرة والوقت ضيق، أو لم يكن في صلاة، لكن لم يبق من وقت الحاضرة ما يتسع لهما جميعا قدم الحاضرة، لأنها صلاة ضاق وقتها عن آكد منها، فلم يجز تأخيرها، ولأن الصلاة ركن من أركان الإسلام يقتل بتركها، ويحرم عليه تأخيرها، فلم يجز تقديم فائتة على حاضرة عند خوف فوتها، فسقط الترتيب، قال القاضي: رواية واحدة، ولا يسقط الترتيب بخشية فوت الجماعة على الأصح، وقال في المبدع: وعنه يسقط اختاره جمع.
(4) وتصح البداءة بغير الحاضرة مع ضيق الوقت إجماعا، ولا نافلة إذا.
(5) وكاختيار بقعة على بقعة، كما فعل صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك
مما هو من مصالحها، ولتكميلها وتكثير أجرها، إذا كان التأخير لقضاء الفائتة يسيرا عرفا، قال ابن القيم: ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصلي إذا زال عذره، ولا يجوز له تأخيرها إلى وقت آخر بالاتفاق، بل هو من الكبائر العظام.(1/491)
ومن شك فيما عليه من الصلوات، وتيقن سبق الوجوب أبرأ ذمته يقينا (1) وإن لم يعلم وقت الوجوب فما تيقن وجوبه (2) (ومنها) أي من شروط الصلاة (ستر العورة) (3) قال ابن عبد البر: أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه، وهو قادر على الاستتار به وصلى عريانا (4) .
__________
(1) أي وتيقن سبق زمن الوجوب، وهو زمن التكليف، بأن علم بأنه بلغ من سنة كذا، وصلى البعض، وترك البعض، قضى ما يتيقن به براءة ذمته من الفوائت لأنها اشتغلت بيقين، فلا تبرأ إلا بمثله، وكذا من قال: لم أصل منذ بلغت، فإنه تيقن سبق الوجوب، فيقضي حتى يعلم براءة ذمته، وعبارة المبدع: فإن شك في زمن الوجوب قضى ما يعلم وجوبه، وإن شك في الصلاة بعد الوجوب قضى ما يعلم به براءة ذمته، نص عليه، والمراد باليقين هنا غلبة الظن، وإلا فاليقين هنا على حقيقته متعذر.
(2) أي وإن لم يدر متى بلغ مثلا، ولا ما مصلى بعد بلوغه، لزمه أن يقضي من الفرض الذي تيقن وجوبه، كمن شك هل كان وقت الظهر بالأمس بالغا؟ فإنه لا يلزمه قضاء الظهر، لشكه في وجوبه، ويلزمه إبراء ذمته مما تيقن وجوبه بعد الظهر، كالعصر والمغرب إن شك هل صلاهما أم لا؟ لأن الأصل عدم صلاته لهما، قال الشيخ: إن عجز فمات بعد التوبة غفر له، قال: ولا تسقط بحج، ولا تضعيف صلاة في المساجد الثلاثة، ولا غير ذلك إجماعا.
(3) أي تغطيته ما يقبح ظهوره ويستحي منه.
(4) وحكاه غيره، ولا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة وبحضرة
الناس، وفي الخلوة على الصحيح، إلا لغرض صحيح قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة، وإن كانت نزلت بسبب خاص، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، وحكى ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة، وقال غير واحد، هو ما يواري السوءة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع، وقال صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض، أي بالغ: إلا بخمار رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ونهى عن الطواف عريانا فالصلاة أولى، وقال في المبدع: والأحسن في الاستدلال أن يقال: انعقد الإجماع على الأمر به في الصلاة، والأمر بالشيء نهى عن ضده، فيكون منهيا عن الصلاة مع كشف العورة، والنهي في العبادات، يدل على الفساد اهـ والثوب اللباس، وهو ما يلبسه الناس من كتان وحرير وخز وصوف وقطن وفرو ونحو ذلك وتقدم.(1/492)
والستر بفتح السين التغطية، وبكسرها ما يستر به (1) والعورة لغة النقصان والشيء المستقبح (2) ومنه كلمة عوراء أي قبيحة (3) وفي الشرع القبل والدبر (4) .
__________
(1) كائنا ما كان، جمعه ستائر.
(2) مأخوذ من العور، وهو النقص والعيب.
(3) ومنه عور العين، وأعور الشيء ظهر وبدت عورته، وهي موضع المخافة وعورة الإنسان السوءة، سميت عورة لقبح النظر إليها، أو لقبح ظهورها، أو لغض الأبصار عنها، أو لأن كشفها يسوء صاحبها، وعري يعرى من باب تعب.
(4) وهما العورة المغلظة ويقال لهما السوءتان قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} سميا بذلك لأن كشفها يسوء صاحبها، وهما من المقدم الذكر والأنثيان ومن المؤخر ما بين الأليتين.(1/493)
وكل ما يستحي منه على ما يأتي تفصيله (1) (فيجب) سترها حتى عن نفسه (2) وخلوة (3) وفي ظلمة وخارج الصلاة (4) (بما لا يصف بشرتها) أي لون بشرة العورة من بياض وسواد (5) لأن الستر إنما يحصل بذلك (6) .
__________
(1) أي العورة في الشرع تطلق على كل ما يستحي من كشفه، على ما يأتي تفصيله، في حق ذكر أو أنثى أو أمة أو من دون التمييز.
(2) أي فيجب ستر العورة في الصلاة عن النظر حتى عن نفسه، فلو كان عليه قميص واسع الجيب، إذا ركع أو سجد رأى عورته لم تصح، وإن لم يرها.
(3) أي ويجب ستر العورة حتى في خلوة، كما يجب لو كان بين الناس، وكصلاة العريان خاليا.
(4) قال في الإنصاف، الصحيح من المذهب أنه يحرم خارج الصلاة من غير حاجة، يعني في حال الخلوة، جزم به في التلخيص، وقال في المستوعب: ستر العورة واجب في الصلاة وغيرها، وصححه المجد وغيره، لحديث بهز بن حكيم: ما نأتي منها وما نذر، قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: فإن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحي منه رواه أبو داود وغيره، وكذا نظرها قال في الفروع: لأنه يحرم كشفها خلوة بلا حاجة فيحرم نظرها، لأنه استدامة لكشفها المحرم، ولم أجد تصريحا بخلاف هذا إلا أنه لا يحرم حيث جاز كشفها.
(5) لا حجم العضو، لأنه لا يمكن التحرز منه ويأتي.
(6) لأن ما وصف سواد الجلد أو بياضه ليس بساتر له، وإن وصف الحجم فلا بأس لأن البشرة مستور والحصير البارية جمعه حصر مثل بريد وبرد، المنسوج من خوص ونحوه، ثم يفرش سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض.(1/494)
ولا يعتبر أن لا يصف حجم العضو (1) لأنه لا يمكن التحرز عنه (2) ويكفي الستر بغير منسوج، كورق وجلد ونبات (3) ولا يجب ببارية وحصير (4) .
__________
(1) أي مقداره وفاقًا. قال الأصحاب: لا يضر إذا وصف التقاطيع، ولا بأس بذلك، نصف عليه؛ لأن البشرة مستورة، وأما عند المالكية، ففيه تفصيل، وتقدم أن حجم الشيء جيده وملمسه الناتئ.
(2) أي عن ستر حجم العضو، وقال الشيخ: الثياب التي تبدي مقاطع خلقها، والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة وغير ذلك، فإن المرأة تنهى عنه، وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهياها عن ذلك، وقال في الإنصاف: وأما لبسها ما يصف اللين والخشونة والحجم فيكره.
(3) نسجه حاكه، وأصل النسج ضم الشيء إلى الشيء، والورق بالفتح من الشجر، الواحدة ورقة، وبها سمي. قال في الإنصاف والإقناع وغيرهما: ورق شجر وحشيش ونحوهما اهـ، وكليف، وأما الكاغد فقال بعضهم: لم يوجد في الكلام القديم. بل الورق اسم لجلود رقاق يكتب فيها، وهي مستعارة من ورق الشجر، والجلد معروف، والنبات المراد من حشيش ونحوه. يقال: نبت الشيء ينبت نباتًا، قال الفراء: النبات اسم يقوم مقام المصدر، وقال الليث: كل ما أنبت الله في الأرض فهو نبت، والنبات فعله، ويجري مجرى اسمه، وكذا مظفور من جلود وشعر ونحوها.
(4) ونحوهما مما يضره كالشريحة، ولو لم يجد غيرها؛ لأن الضرر مطلوب زواله شرعًا، وربما لا يتمكن المصلي في تلك من جميع أفعال الصلاة، أي فلا يجب مع وجود تلك ستر عورته لعدم سواها، والبارية ما يصنع على هيئة الحصر من القصب الفارسي، وهو المعروف في الاستعمال، وفي القاموس وغيره: هي الحصير اهـ.
والحصير البارية جمعه حصر، مثل بريد وبرد، المنسوج من خوص ونحوه، ثم يفرش، سمي بذلك؛ لأنه يلي وجه الأرض.(1/495)
وحفيرة وطين، وماء كدر لعدم (1) لأنه ليس بسترة (2) ويباح كشفها لتداو، وتخل ونحوهما (3) ولزوج وسيد وزوجة وأمة (4) (وعورة رجل) ومن بلغ عشرًا (5) .
__________
(1) أي لا يجب ستر العورة لعدم بذلك نص عليه، وقال الشيخ: وهو الصواب المقطوع به، لما فيه من الحرج والضرر، وعدم الثبات، وعدم جري العادة بالستر به، والحفيرة ما يحفر في الأرض، فعليه بمعنى مفعولة والكدر ضد العافي.
(2) ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن.
(3) كختان وحلق عانة ممن لا يحسنه، ومعرفة بلوغ وبكارة وثيوبة وعيب وولادة ونحو ذلك، وكاستنجاء وغسل ونحوهما، ويباح كشفها لنظر الغير إليها لضرورة أو حاجة، قال في المبدع: حيث جاز كشفها فإنه لا يحرم هو ولا لمسها اتفاقا.
(4) مباحة لقوله احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك فيباح كشف العورة ونظرها لمن ذكر، والنساء مع النساء كالرجال مع الرجال، فللمرأة أن ترى من المرأة ما يراه الرجل من الرجل.
(5) أي وعورة ذكر بالغ ولو عبدا، وكذا عورة من بلغ عشر سنين حرا كان أو عبدا ما بين السرة والركبة، لحديث علي لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت، رواه أبو داود وابن ماجه، ولحديث جرهد الأسلمي غط فخذك فإن الفخذ عورة، رواه مالك وأحمد والترمذي وحسنه، وفيه أحاديث أخر، قال الطحاوي: قد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة فيها أن الفخذ عورة،
وهو قول الجمهور، وقيل سماه عورة لتأكد استحباب ستره، لما جاء عنه من حديث أنس وغيره في انحسار إزاره صلى الله عليه وسلم عن فخذه، والأمر بستره أحوط.(1/496)
(وأمه وأم ولد) ومكاتبة ومدبرة (ومعتق بعضها) (1) وحرة مميزة ومراهقة (من السرة إلى الركبة) (2) .
__________
(1) أي وعورة أمة ما بين السرة إلى الركبة وفاقا، وقال المجد وغيره: إجماعا، وقال الشيخ: لا يختلف المذهب أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة، قال: وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط، كالرواية في عورة الرجل، قال: وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا، وعلى الشريعة عموما، وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول اهـ وزاد أبو حنيفة وظهرها وبطنها عورة، لحديث عمرو بن شعيب، إذا زوج أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت سرته إلى ركبته عورة، رواه أحمد وأبو داود، والمراد أمته، وكان عمر ينهي الأمة عن التقنع واشتهر فكان الإجماع، والأمة خلاف الحرة، والجمع إماء وآم كقاض، ويجمع على إموان كإسلام، وكذا أم الولد، وهي من ولدت من مالكها أو أبيه، والمكاتبة وهي من باعها سيدها على مال منجم، والمدبرة وهي من علق عتقها بالموت، وكذا معلق عتقها على صفة فعورتهن ما بين السرة إلى الركبة، لبقاء الرق فيهن، ومعتق بعضها كذلك استظهره جمع وصوبه في الإنصاف، دون الحرة فلم تلحق بالرجل، والمقتضي بالإجماع هو الحرية الكاملة، فلم توجد فيهن، وقال أبو حامد وغيره: أجمع العلماء على أن رأس الأمة ليس بعورة، مزوجة كانت أو غير مزوجة.
(2) أي وعورة حرة مميزة وهي من لها سبع سنين، ويفهم منه أن الأمة المميزة ليست كذلك، بل هي كالذكر، وعورة مراهقة بكسر الهاء أي مقاربة البلوغ، من السرة إلى الركبة بلا خلاف، إلا ما روي عن أبي حنيفة في الركبة، ويستحب استتارهن كالحرة البالغة احتياطا ويأتي.(1/497)
وليسا من العورة (1) وابن سبع إلى عشر الفرجان (2) (وكل الحرة) البالغة (عورة (3) إلا وجهها) فليس عورة في الصلاة (4)
__________
(1) أي ليست السرة والركبة من العورة، واستثناهما لإيهام دخول الغاية، ولو عبر بـ (ـما بين) لكان أظهر، لأن العورة ما بينهما، لحديث عمرو وتقدم، وحديث أبي أيوب أسفل السرة وفوق الركبة، وحديث ما بين السرة والركبة، وفي الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم قاعدا فكشف عن ركبته، قال الوزير: اتفقوا على أن السرة من الرجل ليست عورة، وقال مالك والشافعي وأحمد في الركبة: ليست من العورة.
(2) الدبر والقبل فقط، لأنه دون البلوغ، وكذا خنثى له سبع سنين، وعلم منه أن من ليس له إلا دون سبع لا حكم لعورته، لأن حكم الطفولية منجر عليه إلى التمييز وتقدم أنه يشترط لصحة صلاته ما يشترط لصحة صلاة الكبير إلا في السترة.
(3) لقوله عليه الصلاة والسلام المرأة عورة صححه الترمذي من حديث بن مسعود، ولحديث أم سلمة: أتصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها، رواه أبو داود، والصحيح وقفه ولأبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف لا تجوز صلاتها.
(4) قال الشارح: بلا خلاف نعلمه، وقال القاضي: إجماعا والمراد حيث لا يراها أجنبي وقال جمع: وكفيها، وهو مذهب مالك والشافعي: لقوله تعالى: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قاله ابن عباس وغيره: وجهها وكفيها، واختار المجد والشيخ وغيرهما وقدميها، وجزم به في العمدة، وهو مذهب أبي حنيفة، وصوبه في الإنصاف، وما عدا ذلك عورة بالإجماع، وأما خارج الصلاة فعورة باعتبار النظر كبقية بدنها، وهو مذهب مالك والشافعي للخبر، قال الشيخ: والتحقيق أن الوجه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه، وصوبه في الإنصاف.(1/498)
(وتستحب صلاته في ثوبين) كالقميص والرداء والإزار أو السراويل مع القميص (1) .
__________
(1) ذكره بعضهم إجماعا، مع ستر رأسه والإمام آكد، لأنه يقتدي به، وبين يدي المأمومين، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي كذلك، ولقول عمر: إذا وسع الله عليكم فأوسعوا والقميص جمعه قمصان وقمص، وهو ما يلبس على الجلد من قطن وكتان، لا من صوف، والرداء الملحفة يشتمل بها، والإزار الملحفة أيضا، وكل ما ستر، وفسره بعضهم بما يستر أسفل البدن، والرداء ما يستر به أعلاه، وكلاهما غير مخيط، وقيل: الإزار ما تحت العاتق، والرداء ما فوقه والظهر، والكل صحيح، فيستحب أحدهما مع القميص، والأفضل القميض والرداء ثم الإزار، أو السراويل مع القميص، ثم أحدهما مع الرداء، وأفضلهما مع الإزار الرداء، لأنه لبس الصحابة، ولا يحكي تقاطيع الخلقة، وأفضلهما تحت القميص السراويل، لأنه أستر، وقال الشيخ: الأفضل مع القميص السراويل، من غير حاجة إلى الإزار والرداء، وقال القاضي: يستحب لبس القميص ولا يكره في ثوب يستر ما يجب ستره، لما في الصحيحين لما سأل صلى الله عليه وسلم في الثوب الواحد؟ قال أو لكلكم ثوبان؟ قال النووي: لا خلاف في جواز الصلاة في الثوب الواحد، وأجمعوا على أن الصلاة في الثوبين أفضل، والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذ الزينة فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فعلق الأمر باسم الزينة، لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة، للوقوف بين يديه تبارك وتعالى، والتذلل له والخضوع لجلاله، ويسن لبس الثياب البيض، والنظافة في ثوبه وبدنه، باتفاق أهل العلم.(1/499)
(ويكفي ستر عورته) أي عورة الرجل (في النفل (1) و) ستر عورته (مع) جميع (أحد عاتقيه في الفرض) (2) ولو بما يصف البشرة (3) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» ، رواه الشيخان عن أبي هريرة (4) .
__________
(1) إجماعا لأن مبناه على التخفيف.
(2) لا بعض العاتق والعاتق اسم فاعل، موضع الرداء من المنكب، ونجاد السيف من الكتف، أو ما بين المنكب والعنق، جمعه عواتق، وعتق، يذكر ويؤنث والمنكب مجتمع رأس العضد والكتف، وظاهره ولو فرض كفاية، ومثله النذر واليمين، وقال الوزير: أجمعوا على أنه لا يجب على المصلي ستر المنكبين في الصلاة فرضا أو نفلا إلا أحمد، فأوجبه في الفرض، وعنه في النفل روايتان وقال النووي وغيره، فيه عن أحمد روايتان إحداهما أنه لا يجب في الفرض ولا في النفل، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور السلف والخلف، لقوله فاتزر به.
(3) أتى بـ (لو) إشارة للخلاف فيه.
(4) رضي الله عنه، ولفظ مسلم على عاتقيه بالتثنية أي لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بهما على عاتقيه، قال أهل العلم: حكمته أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته أو حكمته أن لا يخلو العاتق من شيء، لأنه أقرب إلى الأدب وأنسب إلى الحياء من الرب، وأكمل في أخذ الزينة عند المطلب، وفي البخاري من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه، ولأحمد وأبي داود على عاتقيه، وفي الصحيحين إن كان الثوب واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به.(1/500)
(و) تستحب (صلاتها) أي صلاة المرأة (في درع) وهو القميص (1) (وخمار) وهو ما تضعه على رأسها وتديره تحت حلقها (2) (وملحفة) أي ثوب تلتحف به (3) وتكره صلاتها في نقاب وبرقع (4) .
__________
(1) قاله عامة أهل اللغة، مذكر جمعه أدراع، وقال أحمد: شبه القميص لكنه سابغ يغطي قدميها.
(2) بكسر الخاء المعجمة وهو النصيف، وكل ما ستر شيئا فهو خماره، ومنه خمار المرأة تغطي به رأسها، جمعه أخمرة وخمر وخمر، روي عن عمر وغيره، واختمرت المرأة لبست الخمار ومنه قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي يلقين مقانعهن ليسترن أعناقهن وصدورهن.
(3) إجماعا في الثلاثة، والملحفة بكسر الميم ما ذكره واللحاف اللباس فوق سائر اللباس وكل ثوب يلتحف به، من دثار البرد ونحوه، وتسمى الجلباب، والملاءة، جمعها ملاحف، قالت عائشة: لا بد للمرأة في الصلاة من ثلاثة أثواب إذا وجدتها الخمار والجلباب والدرع، وحكمته المبالغة في سترها وأن لا تبين عجيزتها.
(4) بلا حاجة كحضور أجانب، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة، ولأنه يخل بمباشرة المصلي بالجبهة والأنف، والنقاب جمعه نقب، مثل كتاب وكتب، وتنقبت غطت وجهها بالنقاب، وهو القناع على مارن الأنف، تستر به المرأة وجهها، وقال أبو عبيد: النقاب هو الذي يبدو منه محجر العينين، وقال الفراء: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة، وإن أنزلت دون لك إلى المحجر فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف فهو اللثام، والبرقع بالفتح والضم خريقة تثقب للعينين، تلبسها نساء الأعراب فتستر الوجه فقط، أو الوجه ومقدم الجسم، جمعه براقع، وتبرقعت المرأة لبست البرقع.(1/501)
(ويجزئ) المرأة (ستر عورتها) في فرض ونفل (1) (ومن انكشف بعض عورته) في الصلاة رجلا كان أو امرأة (2) (وفحش) عرفا (3) وطال الزمن أعاد (4) وإن قصر الزمان (5) أو لم يفحش المكشوف (6) ولو طال الزمن لم يعد إن لم يتعمده (7) .
__________
(1) إن اقتصرت على ستر ما سوى وجهها، قال أحمد: اتفق عامتهم على درع وخمار، وما زاد فهو خير وأستر، ولأنها: سترت ما يجب عليها ستره، فاكتفي به.
(2) أي ظهر وبدا منها البعض في الصلاة، فرضا كانت الصلاة أو نفلا بلا قصد.
(3) أي في العرف لأنه لا تحديد فيه شرعا، فرجع فيه إلى العرف والعادة.
(4) لأن الأصل وجوب ستر جميع العورة، لما تقدم من الآية وحكاية الإجماع وحديث لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار، وغيره من الأحاديث ولا فرق بين الرجل والمرأة بالاتفاق، وإذا وجب الستر اقتضى جميع العورة فلا يقبل تخصيص البعض إلا بدليل ظاهر، وإنما عفي عنه في اليسير لمشقة التحرز وأجمعواعلى أن المرأة إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليه الإعادة.
(5) ولو كثر الإنكشاف كما لو أطارت الريح سترته فأعادها سريعا بلا عمل كثير لم يعد.
(6) لم يعد، ويعتبر الفحش في كل عضو بحسبه، إذ يفحش من المغلظة ما لا يفحش من غيرها.
(7) لقول عمرو بن سلمة كنت أؤمهم وعلي بردة صغيرة، فكنت إذا سجدت انكشفت عني فقالت امرأة واروا عنا سوءة قارئكم وفي رواية فيها
فتوق فكنت إذا سجدت فيها خرجت استي، رواه أبو داود وغيره، ولفظ البخاري تقلصت عني، أي ارتفعت إلى أعالي البدن وانتشر ولم ينكر، ولأن ثياب الأغنياء لا تخلو من فتوق والفقراء من خروق غالبا، والاحتراز يشق، فإن تعمد الانكشاف بطلت، لأن التحرز ممكن من غير مشقة، أشبه سائر العورة، قال عثمان: انكشاف العورة فيها ثمان صور: لأن المنكشف إما أن يكون يسيرا بأن لا يفحش عرفا في النظر، وإما أن يكون كثيرا، وعلى التقديرين إما أن يطول الزمن أولا؟ وعلى التقادير الأربع إما أن يكون عمدا أو لا ففي العمد بصوره الأربع تبطل الصلاة، وفي غيره تبطل فيما إذا كثر المنكشف وطال زمنه، وفي الثلاث الباقية لا تبطل وهي ما إذا قل المنكشف وطال الزمن، أو قصر أو كثر المنكشف وقصر الزمن ولم يتعمد في الثلاث.(1/502)
(أو صلى في ثوب محرم عليه) (1) كمغضوب كله أو بعضه (2) .
__________
(1) أعاد ولو عليه غيره، وعنه: تصح مع التحريم وفاقا: واختاره الخلال وصاحب الفنون وغيرهما، وقال الشيخ: منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية، فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه، وإن كان المصلي جاهلا بالمكان أو الثوب، أنه حرام فلا إعادة عليه، سواء قلنا إن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد؟ لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة، وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية، بل يكون طاعة.
(2) أو ثمنه المعين حرام، أو بعضه، ومثله مسروق ونحوه، رجلا كان أو امرأة، لقول ابن عمر: من اشترى ثوبا وفيه درهم حرام لم يقبل الله صلاته ما دام عليه، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد، وفي إسناده هاشم، وبقية ولأن لبثه فيه محرم.(1/503)
وحرير ومنسوج بذهب أو فضة (1) إن كان رجلا واجدا غيره، وصلى فيه عالما ذاكرا أعاد (2) ، وكذا إذا صلى في مكان غصب (3) .
__________
(1) أو أكثره حرير أو منسوج بذهب أو فضة، أو مطلي أو مكفت أو مطعم بأحدهما، قال في الرعاية: حرم مطلقا، والصلاة في الحرير من غير حاجة حرام بالنص والإجماع ويأتي قول الشيخ في الطراز ونحوه.
(2) أي إن كان من صلى في ثوب حرير أو منسوج بذهب أو فضة رجلا لا امرأة فتصح صلاتها لأنها غير آثمة وكان واجدا غيره وصلى في ذلك الثوب عالما تحريمه ذاكرا أعاد، و (عالما ذاكرا) حالان من فاعل صلى، وعنه: تصح مع التحريم، اختاره الخلال وغيره وفاقا، فإن لم يجد غيره، أو لبس الحرير لحاجة، أو صلى فيه جاهلا تحريمه، أو ناسيا لم يعد، ذكره المجد إجماعا، لأنه غير آثم، ولزوال علة الفساد، ولا يبطل الصلاة لبس عمامة أو خاتم منهي عنهما ونحوهما، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة، وقال في الاختيارات: ينبغي أن يكون على هذا الخلاف الذي يجرثوبه خيلاء في الصلاة، لأن المذهب أنه حرام وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير، ومثله كل ثوب يحرم لبسه.
(3) أعاد، ولو منفعة أو بعضها، ويلحق به لو كان في ساباط، لا يحل إخراجه أو غصب راحلة وصلى عليها، أو لوحا فجعله سفينة، قال الشيخ: بطلان فرضه قوي، ولو غير هيئة مسجد فكغصب وإن منعه غيره أو زحمه وصلى مكانه ففي الصلاة وجهان، قال الشيخ: الأقوى البطلان، وعنه: تصح مع التحريم اتفاقا، واختاره الخلال وغيره، وإن جهل كونه غصبا، أو نسي صحت، ذكره المجد إجماعا، لأنه غير آثم، وقال الشيخ: ينبغي أن لا تجب عليه الإعادة صلاته بقدره، ولا تبرأ ذمته كبراءة من صلى صلاة تامة، ولا يعاقب عقوبة من لم يصل، بل يعاقب على قدر ذنبه.(1/504)
(أو) صلى في ثوب (نجس أعاد) (1) ولو لعدم غيره (2) (لا من حبس في محل) غصب (3) أو (نجس) (4) ويركع ويسجد إن كانت النجاسة يابسة (5) .
__________
(1) لأنه قادر على اجتنابه في الجملة، والمراد المتنجس، أما لو كان نجس العين كجلد ميتة صلى عريانا بلا إعادة، قاله في المبدع.
(2) أو لعجزه عن تطهير في الوقت، ويصلي فيه، لأن السترة آكد من إزالة النجاسة لوجوبها، فقدم الآكد عند التزاحم، ووجبت الإعادة لاستدراك ما حصل من الخلل، وعنه لا يعيد، اختاره الموفق والشارح وغيرهما، لأن التحرز من النجاسة شرط عجز عنه فسقط، والسنة إنما وردت بالإعادة لمن ترك واجبا من واجبات الصلاة، كالمسيء وصاحب اللمعة، والمنفرد خلف الصف لغير عذر أن يصلي الفرض مرتين، إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولى، مثل أن يصلي بلا طمأنينة أو بلا وضوء اهـ ونهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة مرتين، رواه أبو داود والنسائي وصححه النووي.
(3) فتصح ولا إعادة، ذكره المجد إجماعا، ولعله ما لم يكن حبس بحق يجب، لأنه قادر على استخلاص نفسه، أو كان هو الغاصب، لأنه قادر على رفع يده.
(4) أي ولا يعيد من حبس في محل نجس ونحوه، قال في الاختيارات، وكذا كل مكره على الكون بالمكان النجس والغصب، بحيث يخاف ضررا من الخروج في نفسه أو ماله، ينبغي أن يكون كالمجوس، فإن جهل أو نسي كونه مغصوبا أو حريرا صحت، حكاه المجد إجماعا.
(5) لأن السجود مقصود في نفسه، ومجمع على فرضيته، وعدم سقوطه.(1/505)
ويومئ برطبة غاية ما يمكنه (1) ويجلس على قدميه (2) ويصلي عريانا مع ثوب مغصوب لم يجد غيره (3) ، وفي حرير ونحوه لعدم غيره (4) ولا يصح نفل آبق (5) (ومن وجد كفاية عورته (6)
__________
(1) أي يومئ بركوع وسجود من حبس ببقعة نجسة، رطبة ضد اليابسة غاية ما يمكنه يقرب أعضاءه من محل السجود بحيث لو زاد شيئا لمسته النجاسة.
(2) ولا يضع على الأرض غيرهما قولا واحدا، تقليلا للنجاسة، لحديث إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.
(3) وفاقا لأنه يحرم استعماله بكل حال، لعدم إذن الشارع في التصرف فيه مطلقا، ولأن تحريمه لحق آدمي، والعريان الذي خلع ثيابه، وعري من ثيابه يعري من باب تعب وتقدم.
(4) أي يصلي في حرير ومنسوج بذهب أو فضة ونحوهما، لعدم غيرها وفاقا، وقالوا يلزمه الصلاة فيه، لأنه مأذون في لبسه في بعض الأحوال، كالحكة والجرب وضرورة البرد وعدم سترة غيره فليس منهيا عنه إذا، قال الخلوتي: والفرق أن الغصب لم تعهد إباحته، بخلاف الحرير فإنه أبيح للمرأة والعذر.
(5) لأن زمنه مغصوب بخلاف فرضه، لأنه مستثنى شرعا فلم يغصب بخلاف زمن نفله، وقال الشيخ: بطلان فرضه قوي، وفي صحيح مسلم إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وفي لفظ فقد كفر حتى يرجع إليهم، وفي صحيح ابن خزيمة ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، وذكر الآبق، وذكروا أنه ليس له إلا فعل السنن الرواتب كالعبد والولد، وأنه يحرم منعهم من ذلك، وعليه، فيكون ما عداها على المنع.
(6) أي ما يستر عورته، أو منكبه فقط.(1/506)
سترها) وجوبا وترك غيرها، لأن سترها واجب في غير الصلاة، ففيها أولى (1) (وإلا) يجد ما يسترها كلها بل بعضها (فـ) لميستر (الفرجين) لأنهما أفحش (2) (فإن لم يكفهما) وكفى أحدهما فالدبر أولى (3) لأنه ينفرج في الركوع والسجود (4) إلا إذا كفت منكبه وعجزه فقط (5) .
__________
(1) ولأن ستر العورة متفق عليه، وبترك ستر المنكب، لأنه مختلف فيه ولحديث من لم يكن له ثوبان فليتزر، وحديث وإن كان ضيقا فاشدده على حقوك.
(2) أي في النظر وهما عورة بلا نزاع، وغيرهما كالحريم التابع لهما.
(3) أي فإن لم يكف الفرجين ما وجده من السترة وكفى أحدهما يعني الدبر أو القبل ستر أيهما شاء بلا نزاع، لاستوائهما في وجوب الستر، والدبر أولى من القبل، صححه المجد وغيره، وقيل القبل أولى، ومال إليه في الإنصاف، وقيل بالتساوي.
(4) ولأنه أفحش، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون رجلا أو امرأة قال في المبدع، ويتوجه أنه يستر آلة الرجل إن كان هناك امرأة قال في المبدع: ويتوجه أن يستر آلة الرجل إن كان هناك امرأة وآلتها إن كان هناك رجل، وستر أكثرهما أولى.
(5) بأن كانت إذا تركها على كتفه وسدلها من ورائه تستر عجزه، أو هو مستثنى من قوله: أو الفرجين باعتبار عموم الأحوال، أي ومن لم يجد إلا أن يستر الفرجين سترهما في كل حال، إلا إذا كفت منكبه وعجزه فيلزمه العدول إلى سترهما ويصلي جالسا ندبا، والجمهور على أنه يستر الفرجين فقط، والمنكب مجتمع رأس العضد والكتف، والعجز من الرجل والمرأة ما بين الوركين.(1/507)
فيسترهما ويصلي جالسا (1) ويلزم العريان تحصيل السترة بثمن (2) أو أجرة مثلها أو زائدة يسيرا (3) (وإن أعير سترة لزمه قبولها) (4) لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه (5) .
__________
(1) استحبابا لكونه يستر معظمها، والمغلظ منها، وستر المنكب لا بدل له فكان مراعاته أولى، لصحة حديث ستر المنكبين، ويؤخذ من كلام المصنف أنه تارة يجد ما يستر عورته فقط، أو منكبه فقط، فيتعين ستر عورته ويصلي قائما وجوبا، ويترك ستر عورته فقط، أو منكبه فقط، فيتعين ستر عورته ويصلي قائما وجوبا، ويترك ستر منكبيه، وتارة يجد ما يستر عورته فقط أو منكبه وعجزه فقط، فيلزمه الثاني، ويصلي جالسا استحباب، وأما إذا لم يجد إلا ما يستر العورة لا غير، أو لم يجد إلا ما يستر الفرجين، أو أحدهما لا غير، فعل ما قدر عليه في هذه الصور الثلاث، والدبر أولى في الأخير وعجزه، فيلزمه العدول إلى سترهما، ويصلي جالسا ندبا، وعنه: يتزر ويصلي قائما وفاقا، واختاره الموفق والمجد وغيرهما، وصححه شيخ الإسلام وابن منجا، وصوبه في الإنصاف لحديث اشدده على حقوك وغيره، ولأن القيام متفق على وجوبه، فلا يترك لأمر مختلف فيه.
(2) أي ثمن مثلها في مكانها على القدرة، ولا تسقط عنه بلا نزاع.
(3) على ثمن المثل، أو أجرة المثل كماء الوضوء، ويعتبر أن يكون فاضلا عن كفايته.
(4) وفاقا، والعارية من العوار ككلام العيب، يقال أعرته الشيء إعارة وعارة، وقيل: سميت عارية لأنها عار على طالبها، ويقال: العارية مشتقة من العرية، وهي العطية، والعرية تمليك منفعة بلا عوض، وتأتي في بابها إن شاء الله تعالى.
(5) ولأنه المنة لا تكثر فيها، وللزوم الستر عليه.(1/508)
بخلاف الهبة للمنة (1) ولا يلزمه استعارتها (2) (ويصلي العاري) العاجز عن تحصيلها (قاعدا) (3) ولا يتربع بل ينضام (4) (بالإيماء استحباب فيهما) أي في القعود والإيماء بالركوع والسجود (5) فلو صلى قائما وركع وسجد جاز (6) .
__________
(1) فلا يلزمه قبولها هبة، لما يلحقه من المنة، وقال الموفق: ويحتمل أن يلزمه لأن العار في كشف العورة أكثر من الضرر فيما يلحقه من المنة.
(2) أي السترة قال الشيخ: واتفق المسلمون على أن العريان إذا لم يجد سترة صلى ولا إعادة عليه اهـ وإن وجد جلدا طاهرا، أو ورقا يمكن خصفه عليه، أو حشيشا يمكن ربطه عليه فيستتر به لزمه.
(3) لما روي عن ابن عمر مرفوعا في قوم انكسر بهم المركب، فخرجوا عراة قال: يصلون جلوسا، يومئون إيماء بروءسهم ولم ينقل خلافه وعند مالك والشافعي يصلي قائما، ويركع ويسجد وصلاته صحيحة، وهو مخير عند أبي حنيفة.
(4) أي لا يتربع في قعوده، بأن يثنى قدميه تحت فخذيه بل ينضام، أي يضم إحدى فخذيه على الأخرى لأنه أقل كشفا، ولا يتجافى نص عليه، وينضام صيغة مبالغة.
(5) ويجعل السجود أخفض من الركوع، لأن الستر آكد من القيام، لعدم سقوطه في فرض أو نفل، ولا يختص بالصلاة.
(6) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، وعنه يلزمه اختاره الآجري وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي، ولو زاد: أو قاعدا تناول كل منهما قوله، وركع وسجد، ولكان أولى لتناوله الصورتين.(1/509)
(ويكون إمامهم) أي إمام العراة (وسطهم) أي بينهم وجوبا (1) ما لم يكونوا عميا أو في ظلمة (2) (ويصلي كل نوع) من رجال ونساء (وحده) لأنفسهم، إن اتسع محلهم (3) (فإن شق) ذلك (4) (صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا فصلى النساء واستدبرهم الرجال (5)) (فإن وجد) المصلي عريانا (سترة قريبة) عرفا (6) .
__________
(1) جماعة صفا واحدا، وعنه ندبا، قدمه في الفروع وغيره، لأنه أستر من أن يتقدم عليهم، والوسط بسكون السين لما بين طرفي الشيء، لأنه ظرف، ويصلح فيه بين، وعكسه بالفتح، وقال المبرد: ما كان اسما فبالتحريك، وما كان ظرفا فمسكن، وقال الأزهري: كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والسبحة وحلقة الناس فهو بالإسكان، وما كان مصمتا لا بين بعضه من بعض كالدار والساحة والراحة فهو وسط بالفتح، قال: وقد أجازوا في المفتوح الإسكان، ولم يجيزوا في الساكن الفتح.
(2) عميا وعميانا وأعماء وعماء ذووا العماء، والظلمة ذهاب النور، جمعه ظلم وظلمات، فإذا كان العراة كذلك فيصلون جماعة، ويتقدمون إمامهم.
(3) حتى لا يرى بعضهم عورة بعض، لأن المرأة إذا وقفت خلف الرجل شاهدت عورته، ومعه خلاف سنية الموقف، وربما أفضى إلى الفتنة.
(4) يعني صلاة كل نوع وحده، لنحو ضيق محل.
(5) لما في ذلك من تحصيل الجماعة، مع عدم رؤية الرجال النساء، وبالعكس.
(6) أي تعد في العرف أنها قريبة.(1/510)
(في أثناء الصلاة ستر) بها عورته (وبنى) على ما مضي من صلاته (1) (وإلا) يجدها قريبة بل وجدها بعيدة (2) (ابتدأ) الصلاة بعد ستر عورته (3) وكذا من عتقت فيها واحتاجت إليها (4) (ويكره في الصلاة السدل) (5) وهو طرح ثوب على كتفيه ولا يرد طرفه الآخر (6) .
__________
(1) كأهل قباء لما علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتموا صلاتهم، قال النووي: إذا وجد السترة في أثناء الصلاة لزمه الستر بلا خلاف، لأنه شرط لم يأت عنه بدل بخلاف التيمم.
(2) عرفا بحيث يحتاج إلى زمن طويل، أو عمل كثير.
(3) أي استأنفها لأنه حينئذ لا يمكنه فعلها إلا بما ينافيها من العمل الكثير، أو بدون شرطها، وأما إذا لم يقدر على السترة إلا بعد الفراغ فقال في شرح الإقناع وغيره: لا يعيد سواء صلى قائما أو جالسا، كفاقد الطهورين.
(4) أي الأمة ونحوها إذا عتقت في الصلاة واحتاجت إلى السترة، بأن كان رأسها مكشوفا مثلا، فإن كان الخمار بقربها تخمرت به وبنت، وإلا مضت إليه وتخمرت واستأنفت وكذا حكم من أطارت الريح سترته وهو في الصلاة، ومن أعار سترته وصلى عاريا لم تصح صلاته، ولكن إن لم يتمكن من استرجاعها أو سترة غيرها وصلى بحسب استطاعته فلا إعادة عليه، وتسن إعارتها إذا صلى، ويصلي بها واحدا فآخر، والمرأة أولى، وإن خاف خروج الوقت صلى عريانا.
(5) سواء كان تحته ثوب أو لا، وسدل ثوبه سدلا من باب نصر: أرخاه وأرسله من غير ضم جانبه، لحديث أبي هريرة نهى عن السدل، رواه أبو داود وغيره، قال في الفروع، بإسناد جيد، لم يضعفه أحد.
(6) قال الشيخ: هذا التفسير هو الصحيح المنصوص عن أحمد وقال:
أبو عبيد: السدل المنهي عنه في الصلاة هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه، فإن ضمهما فليس بسدل، وقال غيره: هو أن يلتحف بثوب ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك، وكانت اليهود تفعل ذلك، وهذا مطرد في القميص وغيره، حكاه أبو السعادات، وقيل: هو أن يرسل حتى يصيب الأرض، وقيل غير ذلك، والحجة في المنهي عن السدل، عموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن إسبال الإزار، فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، أو ضم طرفيه لم يكره، وإن طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في الكمين فلا بأس بذلك، قال الشيخ: باتفاق الفقهاء، وليس من السدل المكروه.(1/511)
(و) يكره فيها (اشتمال الصماء) (1) بأن يضطبع بثوب ليس عليه غيره (2) .
__________
(1) لما في الصحيحين عن أبي هريرة: نهى أن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، واشتمال الصماء على حذف الموصول، أي اشتمال الشملة الصماء، والهيئة الصماء التي تعرف بهذا الاسم، لأن الصماء ضرب من الاشتمال، قيل لها صماء لأنه لا منفذ فيها، كالصخرة الصماء التي لا صدع فيها ولا خرق.
(2) حكاه أبو عبيد وغيره عن الفقهاء، أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فرجة، وهم أعلم بالتأويل، وقال: اشتمال الصماء أن يجلل جسده بثوب، نحو شملة الأعراب بأكسيتهم، وهو أن يرد الكساء من قبل يمينه على يده اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن، فيغطيها جميعا اهـ ويضطبع وزن يفتعل، لما وقعت تاء الافتعال بعد حرف الإطباق، وجب قلبها طاء، وجاء مفسرا في الصحيح في النهي عن اللبستين اشتمال الصماء، والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، ولأبي داود وغيره بسند صحيح عن ابن عمر فإن لم يكن إلا ثوب واحد فليتزر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود
قال الخطابي: هو أن يحلل بدنه بالثوب، ويسلبه من غير أن يرفع طرفه، واشتمال الصماء أن يجلل بدنه بالثوب ثم يرد طرفيه على عاتقه الأيسر، قال البغوي: وإلى هذا ذهب الفقهاء.(1/512)
والاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر (1) فإن كان تحته ثوب غيره لم يكره (2) (و) يكره في الصلاة (تغطية وجهه (3) واللثام على فمه وأنفه) بلا سبب (4) لنهيه عليه السلام أن يغطي الرجل فاه، رواه أبو داود (5) وفي تغطية الفم تشبه بفعل المجوس عند عبادتهم النيران (6) .
__________
(1) واضطبع الرجل أبدى إحدى ضبعيه، من الضبع وهي العضد كلها، أو وسطها بلحمها، وإنما كره ذلك لأنه إذا فعله وليس عليه ثوب غيره بدت عورته.
(2) لأنها لبسة المحرم، وفعلها صلى الله عليه وسلم.
(3) وللحديث فإن فيه تنبيها على كراهة تغطية الوجه، لاشتماله على تغطية الفم، ولأن الصلاة لها تحليل وتحريم فشرع لها كشف الوجه كالإحرام.
(4) من حر أو برد أو غير ذلك، ولسبب لا بأس قال أحمد: لا بأس بتغطية الوجه لحر أو برد، واللثام ما كان على الفم، أو ما يغطي به الشفة من ثوب ونحوه، وقيل: رد الرجل عمامته على أنفه، وأصل الفم الفوه، والفم والفاه والفوه بمعنى جمه أفواه باعتبار الأصل وأفمام، وتقدم والأنف المنخر، جمعه آنف وآناف وأنوف.
(5) من حديث أبي هريرة، وقال ابن حبان: لأنه من زي المجوس.
(6) ويأتي في الحديث من تشبه بقوم فهو منهم، والمجوس أمة من العجم وغيرهم، يعبدون الشمس والقمر، وقيل يعبدون النار، وتقدم وقيل مجوس رجل صغير الأذنين، وضع دينا ودعا إليه، معرب: منج كوش، والمجوسية نحلتهم وملتهم.(1/513)
(و) يكره فيها (كف كمه) أي أن يكفه عن السجود معه (1) (ولفه) أي لف كمه بلا سبب (2) لقوله عليه السلام: «ولا أكف شعرا ولا ثوبا» متفق عليه (3) .
(و) يكره فيها (شد وسطه كزنار) أي بما يشبه شد الزنار (4) .
__________
(1) والكم جمعه أكمام وكممة مدخل اليد ومخرجها من الثوب ونحوه، وكفه جمعه وضمه، للحديث الآتي «ولا أكف شعرا ولا ثوبا» وفي الرعاية وتشميره.
(2) من حر أو برد أو غير ذلك، ولفه ضمه وجمعه ضد نشره، والكف واللف بمعنى ولم أره لغيرهما من الأصحاب.
(3) من حديث ابن عباس، واتفق أهل العلم على كراهة ذلك، ولا تبطل به إجماعا حكاه ابن جرير، ومذهب الجمهور أن النهي لكل من صلى كذلك، سواء تعمده للصلاة، أو كان كذلك قبلها، وصلى على حاله بغير ضرورة، وقال مالك: من صلى محتزما، أو جمع شعره بوقاية أو شمر كميه، فإن كان ذلك باسه وهيئة قبل ذلك جاز، وإن كان إنما فعل ذلك ليكفت به شعرا أو ثوبا فلا خير فيه، وقول الجمهور هو مقتضى إطلاق الأحاديث الصحيحة، والحكمة أن الشعر يسجد معه، ولذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف كما يأتي.
(4) أي يكره في الصلاة وكذا في غيرها شد وسطه بفتح السين، لأنه اسم كما يشبه شد الزنار على وسط الرهبان، والمجوس بخيط، ويرخي طرفا منه إلى قرب الأرض، لأنه يكره التشبه بالكفار، أو يحرم، وصرح بالكراهة مطلقا في الفروع والإقناع والمنتهي للخبر، وزنار وزن تفاح، وفي التعريفات: خيط غليظ بقدر الإصبع من الإبريسم يشد في الوسط اهـ وكان محكوما به على الذميين، فكانوا يشدون أوساطهم بخيط دقيق، وفيه المثل: الذمي إذا عطس ينقطع زناره، أي لدقته ولضغط أحشائه.(1/514)
لما فيه من التشبه بأهل الكتاب (1) وفي الحديث «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح (2) ويكره للمرأة شد وسطها في الصلاة مطلقا (3) ولا يكره للرجل بما لا يشبه الزنار (4) .
__________
(1) اليهود والنصارى وكذا المجوس، وكانوا يشدون أوساطهم كما مر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وأجمع العلماء على النهي عن التشبه بهم، ولا فرق إلا بما يتميزون به من اللباس.
(2) قال الشيخ: أقل أحوال هذا الحديث أنه يقتضي تحريم التشبه، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، ولأحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده مرفوعا «ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى» وللترمذي نحوه، ومخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة تورث مودة، ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرا بحسب الأدلة.
(3) أي سواء كان يشبه شد الزنار أولا، لأن ذلك يبين حجم عجيزتها، ويبين عكنها وتقاطيع بدنها، والمطلوب ستر ذلك، وكذا الرقيق الذي يحكي خلقتها ولا يكره شد المرأة وسطها خارج الصلاة، لأنه معهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله، وصح أن هاجر اتخذت منطقا، وكان لأسماء منطقا والمنطق هو ما تشد به المرأة وسطها عند الشغل لئلا تعثر في ذيلها.
(4) كمنديل ومنطقة، لأنه أستر للعورة، قال أحمد: أليس قد روي عنه صلى الله عليه وسلم لا يصلي أحدكم إلا وهو محتزم، وسأل الرجل يصلي وعليه القميص، يأتزر بالمنديل؟ قال: نعم، فعله ابن عمر: وكان من عادة المسلمين شد الوسط على القباء.(1/515)
(وتحرم الخيلاء في ثوب وغيره) (1) في الصلاة وخارجها (2) في غير الحرب (3) لقوله عليه السلام «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه (4) .
__________
(1) كقميص وقباء وطيلسان وشملة وسراويل، بإسبالها، وإسبال العمامة المراد به إرسال الذؤابة زائدا على ما جرت به العادة، قال الشيخ: إطالتها من الإسبال اهـ والخيلاء بضم الخاء ممدود العجب والكبر مأخوذ من التخيل وهو التشبه بالشيء فالمختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه تكبرا، ومنه: اختال فهو ذو خيلاء إذا تكبر، والمخيلة والبطر والكبر والزهو، والتبختر والخيلاء بمعنى، وذكر ابن القيم أن خبث الملبس يكسب صاحبه هيئة خبيثة كالمطعم، ولذلك حرم لبس جلود النمور والسباع، لما يكسب القلب من الهيئة المشابهة لتلك الحيوانات، فإن الملابسة الظاهرة تسري إلى الباطن، ولذلك حرم لبس الحرير والذهب على الذكور، لما يكسب القلب من الهيئة المنافية للتواضع، الحالبة للفخر والخيلاء.
(2) لعموم الأخبار.
(3) فلا يحرم لإرهاب العدو، ولأنه صلى الله عليه وسلم رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين، يختال في مشيته فقال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.
(4) ولهما لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء يوم القيامة أي بطرا والمراد يجره هو جره على وجه الأرض، وفي الصحيح، «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» ، ولمسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» ، وذكر منهم المسبل، وللترمذي وغيره وصححه إياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، والإسبال يستلزم جر الثوب ونحوه، وجر الثوب يستلزم الخيلاء في الغالب، وكل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطورة الخيلاء بباله، ولأبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث ابن عمر الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وله أيضا بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلا إزاره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب فتوضأ ثم جاء فقال له: «اذهب فتوضأ» فقال له رجل: يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ؟ فسكت عنه ثم قال: «إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل» والمسبل المخري له الجار طرفه خيلاء، ولعل الوعيد متوجه إلى من فعل اختيالا للقيد المصرح به في الصحيحين، ولقوله لأبي بكر إنك لم تفعل ذلك خيلاء وقال ابن العربي: لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي قد تناوله لفظا، إذ حكمه أن يقول لا أمتثله، وإطالة ذيله دال على تكبره، ونقل القاضي عياض عن العلماء أن الإسبال كل ما زاد على المعتاد في اللباس في الطول والسعة اهـ وهو حرام قاله الشيخ وغيره، وقال في الإنصاف: وهو الصواب الذي لا يعدل عنه.(1/516)
ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة (1) (و) يحرم (التصوير) أي على صورة حيوان (2) .
__________
(1) لما في الصحيح قال أبو بكر: إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء، وقوله: للحاجة كستر ساق قبيح من غير خيلاء فيباح له، ما لم يرد التدليس على النساء، ومثله قصيرة اتخذت رجلين من خضب فلم تعرف.
(2) إجماعا للأخبار، وأما على غير صورة حيوان كشجر وكل ما لا روح فيه فيباح، لقول ابن عباس: فإن كنت فاعلا فاجعل الشجر، وما لا نفس له، متفق عليه، والصورة التمثال، والشكل، وكل ما يصور مشبها بخلق الله، من ذوات الأرواح وغيرها، و (صورة تصويرا) جعل له صورة وشكلا ونقشه ورسمه من (صاره) إذا أماله فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة.(1/517)
لحديث الترمذي وصححه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت وأن تصنع (1) وإن أزيل من الصورة ما لا تبقى معه حياة لم يكره (2) .
__________
(1) ولحديث ابن عباس كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم، وحديث أبي هريرة ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا ذرة، وحديث الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال: أحيوا ما خلقتم، وحديث النمرقة رآها فلم يدخل فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال: أحيوا ما خلقتم، وحديث النمرقة رآها فلم يدخل فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها، فقال: إن أصحاب هذه الصور بعذبون، الحديث وحديث: لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب، متفق عليه، ولغيرها من الأحاديث فتصوير الحيوان حرام وكبيرة، سواء صنعه لما يمتهن أو لغيره، وسواء كان في الدرهم أو الحيطان، أو الثياب أو الورق، أو غيرها، له جرم مستقل أو لا جزم بذلك غير واحد من أهل العلم بالحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وصوبه في الإنصاف، وجزم به شيخنا، لحديث عائشة: نصبت سترا فيه تصاوير فنزعه متفق عليه، ويؤيد التعميم ما رواه أحمد، فلا يدع وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها، وقوله: إلا نقضه، والنقض إزالة الصورة مع بقاء الثوب وفي رواية ثوب ونحوه، صوبه في الإنصاف وغيره، لقول عائشة: كان لا يترك شيئا فيه تصليب إلا قضبه، رواه أبو داود، ولأنه يلحق بالمصور، لاشتراكهما في أن كلا منهما عبد من دون الله، ولا تفسد الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقطعها، ولم يعدها، وإنما قال: لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي، وأمر بها فأزيلت وفي الحديث: أمرت بكسر الأصنام، فيجب كسرها وطمسها، ومحل الصور منظنة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور.
(2) كالرأس، أو لم يكن لها رأس، نص عليه لما روى أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة في امتناع جبرئيل، لأنه كان في البيت تمثال رجل، وفيه «فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع، يصير كهيئة الشجرة» (*) أو معه الصدر فلا لأن الوجه يطلق على الذات، ويقع عليه اسم الصورة، فالرائي له يقول: رأيت صورة فلان ونحوه، ولأن ما سواه الغالب عليه ستره باللباس.(1/518)
(و) يحرم (استعماله) أي المصور على الذكر والأنثى في لبس وتعليق وستر جدر (1) لا افتراشه وجعله مخدا (2) (ويحرم) على الذكر (استعمال منسوج) بذهب أو فضة (3) .
__________
(1) إجماعا للأخبار المارة وغيرها.
(2) أي المصور فيجوز، لأنه عليه الصلاة والسلام اتكأ على مخدة فيها صورة رواه أحمد، والمخدة بكسر الميم الوسادة، سميت بذلك لأنها توضع تحت الخد وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه امتناع الملائكة من دخول بيت فيه صورة وحديث النمرقة وغيره، قال النووي: لكونها معصية فاحشة، وتقدم ما رواه الترمذي وصححه: نهى عن الصورة في البيت فالأولى العمل بظواهر الأحاديث الصريحة الصحيحة الدالة على العموم، وتكره الصلاة على ما فيه صورة، ولو على ما يداس، جزم به في الفصول والوجيز وغيرهما، والسجود عليها أشد كراهة، وقال الشيخ: لا تجوز الصلاة في ثوب فيه تصاوير، لأنه يشبه حامل الصنم، ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عباد الصور.
(3) وكذا يحرم على الخنثى لا الأنثى، لحديث أبي موسى حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم صححه الترمذي، وقال الشيخ لما ذكر علم الحرير وفي العلم الذهب نزاع بين العلماء، والأظهر جوازه أيضا فإن في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كذا في الأصل ولعل فيه سقط تقديره: (فإن بقي الوجه وحده) .
السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا، وحكى في موضع أربعة أقوال: ثم قال: والرابع وهو الأظهر أنه يباح يسير الذهب في اللباس والسلاح، فيباح طراز الذهب إذا كان أربع أصابع فما دون، وقال أبو بكر: يباح واختاره المجد، وهو رواية عن أحمد، ولأنه يسير أشبه الحرير ويسير الفضة، وقال الشيخ: ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه، فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلا على إباحة ذلك وما هو في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة والتحريم يفتقر إلى دليل.(1/519)
(أو) استعمال (مموه بذهب أو فضة) غير ما يأتي في الزكاة من أنواع الحلي (1) (قبل استحالته) (2) فإن تغير لونه ولم يحصل منه شيء بعرضه على النار لم يحرم (3) لعدم السرف والخيلاء (4) (و) تحرم (ثياب حرير) (5) .
__________
(1) يعني المباح، منسوجا كان المموه أولا، وتقدم تعريف تمويه الأواني، وتمويه المنسوج أن يذاب شيء من الذهب أو الفضة فيلقى فيه فيكتسب منه، وكذا ما طلي أو كفت أو طعم بأحدهما، كما تقدم في الآنية.
(2) أي حوله عن طبعه ووصفه، وما حرم استعماله حرم تملكه وتمليكه لذلك، وعمل خياطة لمن حرم عليه، وأجرته نص عليه.
(3) وقيل مطلقا أبيح في الأصح وفاقا، قاله في الفروع، وعرض على النار إحراقه بها ليتميز.
(4) تقدم أن العلة ما يكسب استعمالها القلب من الهيئة المنافية للعبودية.
(5) على الذكور في الصلاة وغيرها في غير حال العذر إجماعا، لحديث أبي موسى المتقدم، وحديث عمر لا تلبسوا الحرير، إلخ ولو كافرا، وعنه جواز
لبس الحرير للكافر اختاره الشيخ، وفي الصحيحين أن عمر كسا أخا له مشركا بمكة ثوب حرير أعطاه إياه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/520)
(و) يحرم (ما) أي ثوب (هو) أي الحرير (أكثره ظهورا) مما نسج معه (1) (على الذكور) والخناثى دون النساء (2) لبسا بلا حاجة وافتراشا (3) واستنادا وتعليقا (4) وكتابه مهر (5) وستر جدر (6) .
__________
(1) فيحرم استعماله كالخالص، لأن الأكثر ملحق بالكل في أكثر الأحكام، ولو بطانة وتكة سراويل وشرابة، والمراد المفردة، كشرابة البريد، وحرم الأكثر استعماله مطلقا، فيدخل فيه شرابة البريد، لا تبعا فإنها تباح كزر، وقال ابن عبد القوي: يدخل في التحريم شرابة الدواة، وسلك المسبحة، واختار الآمدي إباحة يسير الحرير مفردا، والشرابة خيوط تضم ويعلق طرفها بالطربوش وغيره، ويتدلى الآخر جمعها شراريب، قال بعض المتأخرين: ولعل القيطان تباح كشرابة البريد.
(2) قال ابن القيم: على أصح القولين، والنهي عن لبسه، والجلوس عليه متناول لافتراشه، كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبسه لغة وشرعا، فدل عل تحريم الافتراش النص الخاص، واللفظ العام والقياس الصحيح.
(3) لحديث حذيفة الآتي، قال ابن القيم: والنهي عن لبسه، والجلوس عليه متناول لافتراشه، كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبسه لغة وشرعا، فدل على تحريم الافتراش النص الخاص، واللفظ العام والقياس الصحيح.
(4) لحديث حذيفة نهى أن يلبس الحرير والديباج، وأن يجلس عليه، رواه البخاري.
(5) أي في الحرير، اختاره الشيخ وغيره، وقيل يكره، قال صاحب التنقيح: وعليه العمل.
(6) بالحرير لأنه استعمال له أشبه لبسه ولما في الستر به من السرف، ويكره بغير الحرير إلا لحاجة.(1/521)
غير الكعبة المشرفة (1) لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» متفق عليه (2) وإذا فرش فوقه حائلا صفيقا جاز الجلوس عليه والصلاة (3) (لا إذا استويا) أي الحرير وما نسج معه ظهورا (4) ولا الخز وهو ما سدي بإبريسم وألحم بصوف أو قطن ونحوه (5) .
__________
(1) زادها الله تشريفا وتكريما، فلا يحرم سترها بالحرير إجماعا.
(2) من حديث ابن عمر، وفيهما، نهانا عن لبس الحرير والديباج، وتواترت الأحاديث والآثار بتحريمه على الذكور، وحكى الإجماع عليه غير واحد من أئمة المسلمين.
(3) لأنه حينئذ مفترش للحائل، مجانب للحرير، وقال ابن القيم: وإذا كان الحرير بطانة الفراء دون ظهارته، فالحكم في ذلك التحريم.
(4) وحكى وزنا فلا يحرم، والوجه الثاني يحرم، صوبه في تصحيح الفروع، قال ابن عقيل والشيخ: الأشبه أنه يحرم، لعموم الخبر، ولأن النصف كثير، وليس تغليب التحليل بأولى من التحريم، ومن اعتبر الوزن فقد خالف ظواهر الأدلة، لأنه نهى عن حلة السيراء، ونهى عن القسي وهو ثياب مظلعة بالحرير، فجعل الحكم للظهور، ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن والكتان أكثر أم لا، مع أن العادة أنه قل، فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم.
(5) كوبر وكتان إجماعا، لأن حريره مستتر، وفي الحديث: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم وسدى الثوب فليس به بأس، ورواه أبو داود وغيره، والخز عكس الملحم معنى وحكما، ولا بد من اشتراط عدم الظهور فيه، وهو في الأصل اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها وقال ابن الأثير: الخز المعروف ثياب تنسج من صوب وإبريسم، وهي مباحة وقد لبسها الصحابة والتابعون، فيكون النهي عنها لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين، وإن أريد بالخز النوع الآخر، وهو المعروف الآن، فهو حرام، لأنه كله معمول من إبريسم، وعليه يحمل الحديث، يستحلون الخز والحرير اهـ قال في الاختيارات: الخز اسم لثلاثة أشياء، للوبر الذي ينسج مع الحرير، وهو وبر الأرنب، واسم لمجموع الخرير والوبر، واسم لردئ الحرير فالأول والثاني حلال، والثالث حرام، ثم قال: والمنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب إباحة الخز دون الملحم وغيره، فمن زعم أن في الخز خلافا فقد غلط، وقال عثمان: إباحته بشرط أن يكون الحرير مستورا، وغير الحرير هو الظاهر، وإلا فهو كالملحم المحرم، فإن الملحم عكس الخز صورة وحكما اهـ والأبريسم بكسر الراء وفتحها وفتح السين وضمها الحرير قبل أن يخرقه الدود، وبعد الخرق يسمى قزا، معرب إبريشم بالفارسية، والسدى من الثوب ما مد في النسج من خيوط أو هو خلاف لحمته.(1/522)
(أو) لبس الحرير الخالص (لضرورة (1) أو حكة (2) أو مرض) أو قمل (3) .
__________
(1) كبرد وحر، قياسا على الحكة والقمل، فلا يحرم معها لبس ما كله حرير، ولا افتراشه ونحوه، وقال ابن تميم: من احتاج إلى لبس الحرير الحر أو برد أبيح له.
(2) بالكسر وهي علة توجب الحكاك كالجرب، إلا أنه معه بثور وهي لا بصور معها، وتعم أكثر البدن في الغالب، ولو لم يؤثر لبسه في زوالها، لحديث أنس: رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص الحرير في سفر من حكة كانت بهما متفق عليه.
(3) لحديث أنس ولفظه: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قميص الحرير، فرأيته عليهما متفق عليه.(1/523)
(أو حرب) ولو بلا حاجة (1) (أو) كان الحرير (حشوا) لجباب أو فرش فلا يحرم (2) لعدم الفخر والخيلاء، بخلاف البطانة (3) ويحرم إلباس صبي ما يحرم على رجل (4) وتشبه رجل بأنثى في لباس وغيره وعكسه (5) .
__________
(1) فلا يحرم لبسه إذا تراء الجمعان إلى انقضاء القتال، قال الشيخ: يجوز عند القتال للضرورة باتفاق المسلمين، وذلك بأن لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح والوقاية اهـ ولأن المنع لما فيه من الخيلاء، وذلك غير مذموم في الحرب، ولو كان لبسه بلا حاجة، قال الشيخ: لباسه لإرهاب العدو فيه قولان أظهرهما جوازه.
(2) لأنه ليس بلبس للحرير ولا افتراش، والجباب واحدها جبة، كغرفة، ثوب مقطوع الكم طويل، يلبس فوق الثياب، سمي جبابا لقطع كميه، والفرش واحدها فراش بالكسر.
(3) بكسر الباء، وهي خلاف الظهارة، فتحرم إلا لحاجة.
(4) من اللباس من حرير ومنسوج بذهب أو فضة، لقوله: وحرم على ذكورها، وعن جابر كنا ننزعه عن الغلمان، ومزقه عمر وابن مسعود، وما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، وهذا ظاهر في بطلان صلاة الصبي في ثوب الحرير ونحوه، لأن الفعل الواقع معصية مؤاخذة بها.
(5) فيحرم تشبه رجل بأنثى في لباس لا يخاط إلا لها، وكذا يحرم غيره، ككلام ومشي وغيرهما، وكبعض صفات وحركات ونحوها، لمن تعمد ذلك، ومن كان بأصل الخلقة يؤمر بتكلف تركه، وإلا لحقه الذم، لا التشبه في أمور، خيرية ويحرم عكسه، وهو تشبه أنثى برجل في لباس كالقباء والعمامة وما لا
يخاط إلا له، وكجيب الرجل وغيره، لأنه صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، رواه البخاري وغيره، ولعن الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل، رواه أبو داود بإسناد صحيح وللطبراني أنه رأى امرأة متقلدة قوسا فقال: لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، الحديث وعده أهل العلم من الكبائر للعن عليه، وقال غير واحد، اللباس يختلف باختلاف عادة كل بلد، فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللباس، لكن يمتاز النساء بالاستتار والأحتجاب.(1/524)
(أو كان) الحرير (علما) وهو طراز الثوب (1) (أربع أصابع فما دون (2) أو) كان (رقاعا (3) أو لبنة جيب) وهو الزيق (4) (وسجف فراء) جمع فرو (5) .
__________
(1) العلم هو رسم الثوب ورقمه، وأعلمت الثوب جعلت له علما من طراز وغيره، تنسج على حواشي الثوب، وطراز هو بكسر الطاء معرب، وجمعه طرز، فيباح لحديث ابن عباس: إنما نهى عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب فليس به بأس، رواه أبو داود، وعنه يباح العلم وإن كان مذهبا، اختارها المجد والشيخ وتقدم.
(2) إجماعا ودون بالضم لقطعه عن الإضافة أي فما دون أربع أصابع.
(3) جمع رقعة وهي الخرقة المعروفة يسد بها خرق الثوب ونحوه، و (رقعت الثوب رقعا) من باب نفع، إذا جعلت فيه مكان القطع رقعة.
(4) بكسر الزاي المحيط بالعنق، حكاه الجوهري وغيره، واللبنة بفتح اللام وكسرها الموحدة جيب القميص، وهو الطوق الذي يخرج منه الرأس، وهو ما فسره به الشارح.
(5) والفراء بالكسر والمد لباس من جوخ ونحوه، يبطن بجلود، وسجف
بالفتح ويكسر وككتاب الستر، جمعه سجوف وأسجاف، هذا الأصل، ثم استعير لما يركب على حواشي الثوب، يسميه بعض العامة سناجيف.(1/525)
ونحوها مما يسجف (1) فكل ذلك يباح من الحرير إذا كان قدر أربع أصابع فأقل (2) لما روى مسلم عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة (3) ويباح أيضا كيس مصحف (4) وخياطة به وأزرار (5) (ويكره المعصفر) في غير إحرام (6) .
__________
(1) أي يركب على حواشيه حرير، وتخصيص الماتن الفراء بالسجوف ليس لاختصاص الحكم بل لأنها التي جرت العادة بتسجيفها، فلو سجف غيرها به كما ذكر الشارح جاز، كما يسجف القباء وأمثاله، والكلاه والطربوش.
(2) أي فكل الذي ذكره من العلم والرقاع والسجف ولبنة الجيب وغيرها يباح بشرطه، وهو ما إذا كان قدر أربع أصابع فأقل، يعني من أربع أصابع، وأما ما زاد على أربع أصابع فلا.
(3) ولأبي داود نهى عن الحرير إلا هكذا وهكذا إصبعين أو ثلاثا أو أربعا والذي في الصحيحين: إلا هكذا ورفع إصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما يعني الأعلام.
(4) تعظيما له، والكيس بالكسر ما يخاط من خرق وغيرها وتقدم.
(5) أي بالحرير، لأنه يسير، والأزرار أن يجعل له أزرار جمع زر، بالكسر مما يوضع في القميص وغيره، فيشد بإدخاله في العروة.
(6) أي يكره المعصفر للرجال، لحديث علي: ونهاني عن لبس المعصفر، رواه مسلم، وله من حديث ابن عمر ولما رأى عليه ثوبين معصفرين قال: إن هذا
من ثياب الكفار فلا تلبسهما وهذا المذهب وعنه لا يكره وفاقا، واختاره الموفق وغيره، قال في الفروع، وهو أظهر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة، وعصفر الثوب صبغة بالعصفر فهو معصفر، والعصفر صبغ ونبت معروف، وقوله: في غير إحرام، أي وأما فيه فلا يكره نص عليه، وهكذا في المبدع وغيره، وفي حاشية المقنع لأنه يكره للرجل لبس المعصفر، في غير إحرام، ففيه أولى، وكذا في الإنصاف.(1/526)
(و) يكره (المزعفر للرجال) (1) لأنه عليه الصلاة والسلام نهى الرجال عن التزعفر، متفق عليه (2) ويكره الأحمر الخالص (3) .
__________
(1) في غير إحرام، وأما فيه فحرام، كما سيأتي وتخصيصه الرجال دون النساء لتخصيص النهي كما تقدم، والمزعفر اسم مفعول، وزعفرت الثوب صبغته بالزعفران، فهو مزعفر، وتقدم تعريف الزعفران.
(2) من حديث أنس، قال الحليمي: ورخص فيه جماعة، والسنة ألزم.
(3) مما لونه الحمرة، أو المصبوغ بالحمرة، لما في صحيح مسلم عن علي نهى عن لباس المعصفر وخرج ما فيه حمرة وغيرها فلا يكره، وعنه: لا بأس بالخالص وفاقا، واختاره الموفق وغيره، لحديث البراء، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه متفق عليه، وقال ابن القيم: وفي جواز لباس الأحمر من الثياب والجوخ نظر، وأما كراهته فشديدة جدا، والبرد الأحمر ليس هو أحمر مصمتا كما ظنه بعض الناس فإنه لو كان كذلك لم يكن بردا، وإنما فيه خطوط حمر فيسمى أحمر باعتبار ما فيه من ذلك، والذي يقوم عليه الدليل تحريم لباس الأحمر، أو كراهته كراهة شديدة، فأما غير الحمرة من الألوان، فلا يكره، وقيل لابن عمر: لم تصبغ بالصفرة؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، رواه أبو داود، ورأى أبو رمثة على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، متفق عليه فيباح الأسود والأخضر، ويسن الأبيض.(1/527)
والمشي بنعل واحدة (1) وكون ثيابه فوق نصف ساقه (2) .
__________
(1) أي يكره بلا حاجة ولو يسيرا سواء كان في إصلاح الأخرى أو لا لحديث لا يمش أحدكم بنعل واحد متفق عليه، ولمسلم «لا يمش في الأخرى حتى يصلحها» وله «استكثروا من النعال، فإن أحدكم لا يزال راكبا ما انتعل» ولأنها تقيه الحر والبرد والنجاسة، ولأبي داود عن فضالة، كان يأمرنا أن تحتفي أحيانا، ولمسلم عن ابن عمر في عيادته عليه الصلاةوالسلام لسعد بن عبادة: فقام وقمنا معه، ونحن بضعة عشر ما علينا نعال، ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص، نمشي في السباخ، وروي أبو عوانة وغيره بأسانيد صحيحة، تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة لتعتاد الأرجل الحر والبرد فتصلب وتقوى، وهو مشهور عن عمر، وعنه: ائترزا وارتدواوألقوا الخفاف والسراويلات، استغناء عنها بالأزر وهو زي العرب، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس، فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا، واخلو لقوا، واقطعوا الركب وانزلوا، وارموا الأغراض، وهو مشتهر من طرق بألفاظ تعليما منه للفروسية، وتمرينا للبدن على التبذل، وعدم الرفاهية والتنعم، ولزوم زي ولد إسماعيل، ولأحمد عن معاذ مرفوعا إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين وآفات التنعم كثيرة، فإنها تورث الكسل والغفلة والمرح، وغير ذلك، وينبغي أن يتعاهد نعليه عند أبواب المساجد، لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه وينظر فيهما فإن رأى فيهما خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما» رواه أبو داود وغيره، وتسن الصلاة فيهما قاله الشيخ وغيره، وثبت صلاته فيهما، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: خالفوا اليهود صلوا في نعالكم.
(2) نص عليه لما روى أبو داود والنسائي والترمذي وصححه ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وفي لفظ لأبي داود أزرة المسلم إلى
نصف الساق، ولا حرج ولا جناح فيما بينه وبين الكعبين ولأن ما فوقه مجلبة لانكشاف العورة غالبا، وإشهار لنفسه، ويتأذى الساقان بحر أو برد، فينبغي كونه من نصفه إلى الكعب، لبعده من النجاسة والزهو والإعجاب.(1/528)
أو تحت كعبه بلا حاجة (1) وللمرأة زيادة إلى ذراع (2) ويكره لبس الثوب الذي يصف البشرة للرجل والمرأة (3) وثوب الشهرة وهو ما يشتهر به عند الناس، ويشار إليه بالأصابع (4) .
__________
(1) لما جاء من النهي عن ذلك، والحاجة كستر ساق قبيح وتقدم.
(2) لحديث أم سلمة يرخبن شبرا، قالت: إذا تنكشف؟ قال: يرخين ذراعا، لا يزدن عليه رواه أحمد والترمذي وحسنه، والمراد ذراع اليد، وقال جماعة: ذيل نساء المدن في البيت كرجل.
(3) أي تظهر معه حال الجلد، وتبين هيئته من بشرة الرجل أو المرأة للخبر، وتقدم ولأنه لا يسمى ساترا.
(4) الشهرة اسم من الاشتهار، وظهور الشيء في شنعة، حتى يشتهر للناس ويفتضح ومنه الحديث: نهى عن الشهرتين، وهي الفاخر من اللباس المرتفع في الغاية أو الرذل في الغاية، ولأبي داود من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة، قال شيخ الإسلام: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع عند الناس، وإظهار الترفع، أو إظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك، وقال غير واحد من السلف، لباس الشهرة مما يزري بصاحبه، ويسقط مروءته ولبس الدني يذم في موضع ويمدح في موضع، فيذم إذا كان شهرة، ويمدح إذا كان تواضعا واستكانة، كما أن لس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرا وفخرا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملا وإظهارا لنعمة الله، ولبس المنخفض من الثياب تواضعا وكسرا لسورة النفس من المقاصد الصحيحة، قال: وقد يستحب ترقيع الرجل ثوبه
للحاجة كما رقع عمر وعائشة وغيرهما من السلف، وكما يلبس قوم الصوف للحاجة ويلبس أيضا المتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره، كما جاء في الحديث من ترك جيد اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة فأما تقطيع الثوب وترقيعه ففيه إفساد وشهرة، أو المغالاة في الصوف الرفيع ونحو ذلك مما فيه إفساد المال، أو إظهار التشبه بلباس أهل التواضع مع ارتفاع قيمته فهذا من النفاق والتلبس، فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض أو الفساد، والدار الآخرة {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} وقال ابن القيم: يكره لبس زي الأعاجم كعمامة صماء ونعل صرارة لزينة، ولبس ثوب مقلوب كفعل بعض أهل السخافة، فإن قصد إظهار التواضع حرم، لأنه رياء، وكان هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس مما يسره الله ببلده، فكان يلبس القميص والعمامة والإزار والرداء الجبة والفرج، ويلبس من القطن والصوف وغير ذلك، ويلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، فسنته تقتضي أن يلبس الرجل مما يسره الله ببلده، وإن كان نفسيا، لأن النفاسة بالصنعة لا في الجنس، بخلاف الحرير، وهذا أمر مجمع عليه، وقال ابن عقيل: لا ينبغي الخروج عن عادات الناس إلا في الحرام اهـ ولئلا يحملهم على غيبته، وفي الغنية: الشهرة كالخروج عن عادة أهل بلده وعشيرته، فينبغي أن يلبس ما يلبسون، لئلا يشار إليه بالأصابع، قال الشيخ: ويحرم الإسراف في المباح.(1/529)
(ومنها) أي من شروط الصلاة (اجتناب النجاسة) (1) .
__________
(1) وهي لغة ضد الطهارة، وشرعا قذر مخصوص يمنع جنسه الصلاة، كالميتة والدم والخمر والبول، ولا يجب في غير الصلاة في الأصح، وقال الشيخ: النجاسة أعيان مستخبثة في الشرع، يمنع المصلي من استصحابها اهـ والاجتناب معناه التباعد، فكأنه قال: تباعد النجاسة، بمعنى إبعادها عن بدن المصلي وثوبه وبقعته شرط، ومن شروط الصلاة المجمع عليها الوقوف على بقعة طاهرة.(1/530)
حيث لم يعف عنها ببدن المصلي وثوبه (1) وبقعتهما (2) وعدم حملها (3) لحديث «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبل منه» (4) وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (5) (فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها) (6) .
__________
(1) بإجماع السلف والخلف، إلا قولا لمالك رحمه الله، وقال الوزير: أجمعوا على أن طهارة البدن من النجس شرط في صحة الصلاة للقادر عليها، وأجمعوا على أن طهارة ثوب المصلي شرط في صحة الصلاة.
(2) أي موضع البدن والثوب الذي يقعان عليه شرط وفاقا، كطهارة الحدث إجماعا.
(3) أي ومن شروط الصلاة عدم حمل النجاسة، معطوف على اجتناب مرفوع، فإن عفي عنها كأثر استجمار ونحوه فلا يشترط.
(4) رواه الدارقطني وغيره عن أبي هريرة، وصحح الحافظ إسناده وأعله أبو حاتم، وللحاكم أكثر عذاب القبر من البول، وفي الصحيحين أنه مر على قبرين يعذبان وفيه: كان أحدهما لا يستتر من البول، وحديث أسماء في الحيض ثم تغسله وغيرها كأحاديث الاستنجاء وذلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما وقوله صلى الله عليه وسلم إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة وأمره بصب الماء على البول، وغير ذلك من الأدلة الدالة على اجتناب النجاسة، والتنزه البعد، والمراد: اطلبوا النزاهة وعامة الشيء معظمة والمراد أكثر أسبابه.
(5) قال ابن سيرين: اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: أمره الله أن يطهر الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها، وذلك أن المشركين كانوا لا يطهرون ثيابهم، والأمر بالشيء نهى عن ضده، والنهي في العبادة يقتضي الفساد، وقال بعضهم" طهر أعمالك من الشرك، واختار الأول ابن جرير، والآية تشمل ذلك كله، والأولى حمل اللفظ على حقيقته فيكون شرطا، واحتج الآية على أن اجتناب النجاسة شرط جمع منهم ابن عقيل والشيخ وغيرهما.
(6) لم تصح صلاته كما لو كانت على بدنه أو ثوبه.(1/531)
ولو بقارورة لم تصح صلاته (1) فإن كان معفو عنها كمن حمل مستجمرا (2) أو حيوانا طاهرا صحت صلاته (3) (أولاقاها) أي لاقى نجاسة لا يعفى عنها (بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته) لعدم اجتنابه النجاسة (4) وإن مس ثوبه ثوبا (5) .
__________
(1) أي ولو كانت النجاسة مسدودة في القارورة، وهي ما يقر فيها الشراب ونحوه، أو يختص بالزجاج، فإذا حمل نجاسة بقارورة لم تصح صلاته، لحمله النجاسة في غير معدنها، أشبه ما لو حملها في كمه، أو حمل آجره باطنها نجس أو بيضة فيها فرخ ميت، أو بيضة مذرة، أو عنقودا من عنب حباته مستحيلة خمرا، لم تصح صلاته، وصوبه في تصحيح الفروع، وقيل: تصح وفاقا، للعفو عن نجاسة الباطن.
(2) صحت وفاقا: لأن أثر الاستجمار معفو عنه في محله، لأن ما في بطن الآدمي من نجاسة في معدنها، ونجاسة العين ليس اجتنابها شرطا لصحة الصلاة.
(3) وفاقا لحمله أمامة وهو يصلي، متفق عليه ومراده حيوانا غير مأكول، لأن ما في بطنه نجس، لكن يعفى عنه كالنجاسة في جوف المصلي، وأما المأكول فلا نجاسة في بطنه.
(4) زاد في المحرر أو حمل ما يلاقيها إلا أن يكون يسيرا، واللقاء وصول أحد الجسمين إلى الآخر، فإن كان بالتمام فيسمى مداخلة، وإلا فمماسة، وقال في المبدع: متى باشرها بشيء من بدنه أو ثوبه لم تصح، ذكره معظم الأصحاب، وفي التلخيص: أنه الأظهر إلا أن يكون يسيرا اهـ وإذا أصاب بدنه أو ثوبه نجاسة يابسة فنفضها ولم يبق شيء منها وصلى صحت صلاته، قال النووي وغيره: بالإجماع.
(5) أي نجسا أو بدنه بدنا نجسا صحت وفاقا.(1/532)
أو حائطا نجسًا لم يستند إليه (1) أو قابلها راكعا أو ساجدا ولم يلاقها صحت (2) (وإن طين أرضا نجسة (3) أو فرشها طاهرا) صفيقا (4) أو بسطه على حيوان نجس (5) أو صلى على بساط باطنه فقط
__________
(1) صحت صلاته وفاقا، لأنه ليس محلا لثوبه، ولا بدنه، فإن استند إليه حال قيامه أو ركوعه أو سجوده لم تصح صلاته، لأنه يصير كالبقعة له.
(2) صلاته وفاقا، وذلك بحيث لم يلتصق بها شيء من بدنه، ولا أعظائه، جزم به في المغني وغيره، لأنه ليس بموضع صلاته، ولا النجاسة محمولة فيها، وكذا لو كانت بين رجليه، ولم يلاقها صحت، لأنه لم يباشر النجاسة، فإن لاقاها بطلت صلاته.
(3) أي طلاها بالطين وصلى عليها صحت وفاقا، وكره له ذلك، وعنه: لا تصح لاعتماده عليها، أشبه ملاقاتها، فينبغي ذلك احتياطا وقال ابن أبي موسى: إن كانت رطبة لم تصح، وذكر الشارح أن الآجر المعجون بالنجاسة لا تطهره النار، لكن إذا غسل طهر ظاهره كالأرض النجسة.
(4) بين الصفاقة أي متينا جيد النسج، لا خفيفا أو مهلهلا، ولو ربطه بحيث لا ينفذ النجس الرطب إلى ظاهره، أو غسل وجه آخر نجس وصلى عليه صحت وفاقا، كسرير تحته نجس، أو سفل علوه غصب وكره قال في الفروع: على الأصح.
(5) أي نشر طاهرا صفيقا على حيوان نجس كبغل أو حمار أو بسطه على حرير يحرم جلوسه عليه صحت مع الكراهة.(1/533)
نجس (كره) له ذلك لاعتماده على ما لا تصح الصلاة عليه (وصحت) (1) .
لأنه ليس حاملا للنجاسة، ولا مباشرا لها (2) (وإن كانت) النجاسة (بطرف مصلى متصل به (3) صحت) الصلاة على الطاهر ولو تحرك النجس بحركته (4) وكذا لو كان تحت قدمه حبل مشدود في نجاسة وما يصلي عليه منه طاهر (5) (إن لم) يكن متعلقا به بيده أو وسطه بحيث (ينجر) معه (بمشيه) فلا تصح، لأنه مستتبع لها، فهو كحاملها (6) .
__________
(1) أي مع طهارة ظاهره الذي صلى عليه، وإلا فلا وبساط كفعال بمعنى
مفعول أي مبسوط وفي الصحاح: ما يبسط معروف، أو ضرب من الطنافس قليل العرض وكذا مثله لو تنجس أحد وجهي الجلد ونحوه وقلبه وصلى على الوجه الذي لم تصبه نجاسة كره وصحت مفعول أي مبسوط وفي الصحاح: ما يبسط معروف، أو ضرب من الطنافس قليل العرض، وكذا مثله أو تنجس أحد وجهي الجلد ونحوه وقلبه وصلى على الوجه الذي لم تصبه نجاسة كره وصحت.
(2) فصحت صلاته فيما تقدم، وإن سقطت عليه نجاسة فأزالها، أو زالت سريعا بحيث لم يطل الزمن صحت صلاته وفاقا، لحديث خلعه النعلين حين أخبره جبرئيل أن بهما قذرا، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
(3) أي بطرف مصلى طاهر من بساط أو حصير ونحوهما، متصل بالمصلى.
(4) وفاقا، لأنه ليس بحامل للنجاسة ولا مصل عليها، وإنما اتصل مصلاه بها، أشبه ما لو صلى على أرض طاهرة متصلة بأرض نجسة.
(5) صحت صلاته، لأنه ليس بمصل على النجاسة، ولو تحرك الحبل ونحوه بحركته.
(6) فلا تصح صلاته، ولا يعتبر الإنجرار بالفعل، وعلم منه أنه لو كان متعلقا به حيوان صغير نجس ينجر يجره عادة لو فرض أنه جره فلم ينجر أن صلاته باطلة، أو أن ما لا يمكن جره لو استعصى لو فرض أنه جره فانجر أنها باطلة، فما يمكن انجراره عادة يبطلها التعلق به، انجر بالفعل أم لا، وكذا ما لا يمكن في العادة لو فرض أنه انجر بالفعل أبطل على كلام صاحب الفروع قال الخلوتي: وهو حسن وإن أمسك حبلا أو غيره ملقي على نجاسة يابسة فظاهر كلام الموفق الصحة، لأنه ليس بمستتبع للنجاسة، كما لو سقط طرف ثوبه على نجاسة يابسة، ومقتضي كلام الشيخ الصحة.(1/534)
وإن كانت سفينة كبيرة أو حيوانا كبيرا لا يقدر على جره إذا استعصى عليه صحت، لأنه ليس بمستتبع لها (1) (ومن) رأى عليه نجاسة بعد صلاته (2) وجهل كونها أي النجاسة (فيها) أي في الصلاة (لم يعد) ها لاحتمال حدوثها بعدها، فلا تبطل بالشك (3) (وإن علم
__________
(1) أشبه ما لو أمسك غصنا من شجرة على بعضها نجاسة لم تلاق يده، جزم به في الفصول، واختاره الشيخ وغيره، وتجوز الصلاة في ثوب بعضه على حائض للخيبر.
(2) أي رآها على بدنه أو ثوبه أو بقعته.
(3) ولأن الأصل عدم كونها في الصلاة,.(1/535)
أنها) أي النجاسة (كانت فيها) أي في الصلاة (لكن جهلها (1) أو نسيها أعاد) (2) .
__________
(1) أي جهل عينها بأن أصابه شيء لا يعلم أطاهر أم نجس؟ ثم علم نجاسته بعد صلاته، أعاد أو جهل حكمها بأن إزالتها شرط لصحة الصلاة، أو جهل أنها كانت في الصلاة ثم علم، أو علم أن كان ملاقيها ولم يكن يعلم ذلك في صلاته، ثم علم بعد صلاته أعاد، هذا المذهب.
(2) أي علم النجاسة لكن نسيها ثم علم بعد صلاته أنها كانت عليه فيها أعاد لأنه ترك شرطا للصلاة لا يسقط بالجهل ولا بالنسيان وعنه: تصح صلاته إذا نسي أو جهل أو عجز، وهو قول ابن عمر وابن المنذر وغيرهما، واختاره المجد والشيخ وتلميذه والموفق والشارح وغيرهم، وصححه غير واحد، وأفتى به البغوي وتبعوه قال النووي: وهو مذهب ربيعة ومالك، وهو قوي في الدليل وهو المختار، وقال في الإنصاف والإقناع، هو الصحيح عند أكثر المتأخرين لحديث النعلين فلو بطلت لاستأنفها صلى الله عليه وسلم وإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير كخلع النعل والعمامة ونحوهما أزالها وبنى، وإلا بطلت.(1/536)
كما لو صلى محدثا ناسيا (1) (ومن جبر عظمه بـ) عظم (نجس) (2) أو خيط جرحه بخيط نجس وصح (لم يجب قلعه مع الضرر) بفوات نفس أو عضو أو مرض (3) ولا يتيمم له إن غطاه اللحم (4) .
وإن لم يخف ضررا لزمه قلعه (5) (وما سقط منه) أي من آدمي
__________
(1) أي فلا تصح كما أنها لا تصح لو صلى محدثا ناسيا، وتقدم رجحان أنها تصح، فإنها تفارق طهارة الحدث لكونها من قسيم التروك، ولأن الطهارة آكد، لكونها لا يعفى عن يسيرها، وتكلم معاوية بن الحكم في الصلاة ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، واشباه ذلك كثير، وقال في الاختيارات، ومن صلى بالنجاسة ناسيا أو جاهلا فلا إعادة عليه، وقاله طائفة من العلماء، لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله العبد مخطئا أو ناسيا لا يبطل العبادة.
(2) أي وضعت على ساقه أو ذراعه أو غيرهما جبيرة، وهي عظام توضع على الموضع من الجسد ينجبر بها، وكانت نجسة وصح العظم لم يجب قلع ذلك العظم مع الضرر وفاقا، وتقدم رجحان طهارة العظام، وجبر يستعمل لازما ومتعديا يقال: جبرت العظم، وجبر هو نفسه، جبورا أي انجبر حكاه الجوهري.
(3) خيط أي ضم بعض أجزاء جرحه إلى بعض بخيط نجس، وصح الجرح، لم يجب قلع الخيط النجس مع الضرر وفاقا، وصحت صلاته، لأن حراسة النفس وأطرافها واجب، وهو أهم من رعاية شروط الصلاة.
(4) أي ولا يتيمم الخيط النجس، أو العظم النجس إن غطاه اللحم، لتمكنه
من غسل محل النجاسة بالماء، قالوا: وإن لم يغطه اللحم تيمم له، لعدم إمكان غسله، بناء على مشروعية التيمم من النجاسة على البدن وتقدم.
(5) فإن صلى معه لم تصح صلاته، لأنه صلى مع النجاسة وهو قادر على إزالتها من غير ضرر.(1/537)
(من عضو أو سن فـ) هو (طاهر) أعاده أو لم يعده (1) لأن ما أبين من حي فهو كميتته، وميتة الآدمي طاهرة (2) وإن جعل موضع سنه سن شاة مذكاة (3) فصلاته معه صحيحة ثبتت أو لم تثبت (4) ووصل المرأة شعرها بشعر حرام (5) ولا بأس بوصله بقرامل وهي الأعقصة (6) .
__________
(1) أي العضو الساقط منه أو السن في موضعه فتصح صلاته به لطهارته.
(2) كما تقدم في باب الآنية وإزالة النجاسة، فحكم أبعاضه حكم جملته، سواء انفصلت في حياته أو بعد موته.
(3) احتراز من الميتة، أو المبان من الحية، وتقدم الكلام في طهارة العظام.
(4) أي السن، وهي مؤنثة كما ذكره علماء اللغة.
(5) إجماعا، لها أو لغيرها لما في الصحيحين «لعن الله الواصلة والمستوصلة» ولما فيه من صورة الزور، ووصله لأمه به من وصل الشيء بالشيء: ضد فصله.
(6) وأصل العقص اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله، وعقص الشعر ضفره وليه على الرأس، فالقرامل هي ما تشده المرأة في شعرها من حرير وصوف، وفي التاج وغيره: هي ضفائر من شعر وصوف وإبريسم، قال أبو عبيد: قد رخص
الفقهاء في القرامل، وكل شيء وصل به الشعر ما لم يكن الوصل شعرا قال أبو داود وإليه ذهب أحمد، وعنه: لا تصل المرأة برأسها الشعر ولا القرامل ولا الصوف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه عن الوصل، وكل شيء يصل فهو وصل، وروى أحمد عن جابر مرفوعا، لا تصل المرأة برأسها، ورواه مسلم وغيره قال غير واحد: وهو مذهب الجمهور.(1/538)
وتركها أفضل (1) ولا تصح الصلاة إن كان الشعر نجسا (2) (ولا تصح الصلاة) بلا عذر، فرضا كانت أو نفلا غير صلاة جنازة (في مقبرة) بتثليث الباء (3) .
__________
(1) خروجا من خلاف من حرمه، وقد اتفق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف، حكاه الشيخ وغيره، بل تركه واجب لثبوت النهي عنه، وأطلق أهل اللغة أنه ما تشد المرأة في شعرها.
(2) لحمله النجاسة غير المعفو عنها.
(3) وهي مدفن الموتى لقوله عليه الصلاة والسلام «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» ، رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي، وقال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» رواه الجماعة إلا البخاري، وقال: فلا تتخذوا القبور مساجد، قال ابن حزم وغير واحد: أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة متواترة لا يسع أحدا تركها، وقال الشيخ بعد أن ذكر أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد: فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة، وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا، وقال الشافعي: أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدا، مخافة الفتنة على من بعده من الناس، وذكر معناه الأثرم وغيره عن سائر العلماء، وجزم غير واحد من أهل التحقيق أن العلة سد الذريعة عن عبادة أربابها، واستثنى صلاة الجنازة بالمقبرة، لفعله صلى الله عليه وسلم فحص من النهي، ولا يضر ما أعد للدفن ولم يدفن فيه، أو دفن ونبش، لنبشه صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده، متفق عليه.(1/539)
ولا يضر قبران (1) ولا ما دفن بداره (2) (و) لا في (حش) بضم الحاء وفتحها (3) وهو المرحاض (4) .
__________
(1) بناء منهم على أنه لا يتناولها اسم المقبرة، وأن العلة لا تعقل، وتقدم أن العلة خوف الشرك بها، كما قال الشيخ وغيره: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك وقال: بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه لا أنه جمع قبر، وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه، ولا ريب أن المنع متناول لحرمة القبر المفرد وفنائه المضاف إليه.
(2) قال الشيخ: وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه فرق، وكل ما دخل في اسم المقبرة، أو حدثت المقبرة بعده حوله أو في قبلته فكصلاته إليها، ولو وضع القبر والمسجد معا لم يجز، ولم تصح الصلاة فيه، وقال: المسجد المبني على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإن كان المسجد قبل القبر غير، إما بتسوية القبر، أو نبشه إن كان جديدا وإن كان القبر قبله، فإما أن يزال المسجد وإما أن تزال صورة القبر.
(3) قاله الشيخ وتكسر، وهو ما أعد لقضاء الحاجة، وكان في الأصل البستان، فكني به عن المستراح، لأنهم كانوا يتغوطون في البساتين، فلما اتخذوا الكنف أطلقوا عليها ذلك الاسم، ومنه قيل للمخرج الحش، ويقال المحشة الدبر، والمحش المخرج، أي مخرج الغائط، فيكون حقيقة، وجمعه حشوش، وقال النووي: الحشوش مواضع العذرة والبول المتخذة لها.
(4) وهو المغتسل ويكنى به عن موضع العذرة والمستراح، فيمنع من الصلاة داخل بابه، ولو غير موضع الكنيف، لكونه معدا للنجاسة، ومقصودا بها، ولمنع الشرع من الكلام وذكر الله فيه فالصلاة أولى، قال الشيخ: ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه، وهو
المنصوص عن أحمد والمأثور عن السلف، وذكر موضع الأجسام الخبيثة، ثم قال: ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين، والنهي عن الصلاة فيها أولى من النهي عن الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة ولم يرد في الحشوش نص خاص، لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان، ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش، ولا يصلي فيها، وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام وأعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى.(1/540)
(و) لا في (حمام) (1) داخله وخارجه، وجميع ما يتبعه في البيع (2) (وأعطان إبل) واحدها عطن بفتح الطاء، وهي المعاطن جمع معطن بكسر الطاء، وهي ما تقيم فيها وتأوي إليها (3) .
__________
(1) وهو المغتسل المعروف لقوله عليه الصلاة والسلام «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» ، وروي عنه «الحمام بيت الشيطان» ، وعن ابن عباس: لا يصلين إلى حش ولا في حمام، ولا في مقبرة، قال ابن حزم: لا نعلم لابن عباس مخالفا من الصحابة.
(2) لتناوله اسمه فلا فرق بين مكان نزع الثياب وموقد النار، وكل ما يغلق عليه باب الحمام، وفي المغني: لا فرق بين مكان الغسل وصب الماء، وبين بيت المسلخ الذي تنزع فيه الثياب والأتون، وكل ما يغلق عليه باب الحمام.
(3) أي تجتمع إليها وتسكن فيها، قال أحمد، وقيل: ما تقف فيه لترد الماء، ومباركها عنده، قال بعض أهل اللغة، لا تكون إلا عند الماء، أما في البرية وعند الحي فالمأوى قال الشيخ وغيره: والأول أجود ومعاطن الإبل في الأصل وطنها، ثم غلب على مبركها حول الماء، والأولى الإطلاق، كما هو ظاهر الحديث ولا فرق بين أن تكون طاهرة أو نجسة، ولا أن تكون فيها إبل حال الصلاة أو لا، لعموم حديث لا تصلوا في أعطان إبل، صححه أحمد والترمذي وغيرهما، وحديث
لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين، وقال: جن خلقت من جن، فعلل الأماكن بالأرواح الخبيثة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث، قال: والفقهاء الذين لم ينهوا عنها، إما أنهم لم يسمعوا النصوص، أو لم يعرفوا العلة، والسنة في ذلك قوية نصا وقياسا، وقال: نهي عن الصلاة في أعطانها لأنها مأوى الشياطين، كما نهى عن الصلاة في الحمام، لأنه مأوى الشياطين، فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه، وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة، وقال ابن عبد البر: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل جاء معناه من وجوه كثيرة، بأسانيد حسان، وأكثرها متواتر اهـ وأما ما تبيت فيه في مسيرها أو تناخ فيه لعلفها أو سقيها فلا يمنع من الصلاة فيه، لأنه لا يدخل في اسم الأعطان.(1/541)
(و) لا في (مغصوب) (1) .
__________
(1) أي ولا تصح الصلاة في موضع مغصوب، أي مأخوذ ظلما، من أرض وحيوان وغيرهما، وسواء كان الظلم للرقبة أو المنافع نص عليه، وقال النووي وغيره: الصلاة في الأرض المغصوبة حرام بالإجماع غير مقبولة، فلا ثواب فيها اهـ وعنه تصح مع الكراهة وفاقا لمالك والشافعي وأبي حنيفة وجماهير العلماء، واختاره ابن عقيل والخلال والطوفي وغيرهم، لأن النهي لا يعود إلى الصلاة، فلم يمنع صحتها، وعليه أكثر الأصحاب، ولحصول الثواب على الفعل، فيكون مثابا على فعله، عاصيا بالمقام في المغصوب، ونقل أصحاب الشافعي الإجماع على صحة الصلاة في الدار المغصوبة، قبل مخالفة الإمام أحمد، وقال الغزالي، هذه المسألة قطعية لأن من صححها أخذه من الإجماع وهو قطعي اهـ وتصح في أرض غيره بلا ضرر ولا غصب ولا حائل ولا حائط وإلا فلا، والمعتبر عرف الناس بالرضى وعدمه، وتصح على مصلاه بغير إذنه بلا غصب، وإن منع المسجد غيره وصلى هو فيه، أو زحمه وصلى مكانه حرم وصحت، وقال الشيخ: الأقوى البطلان.(1/542)
ومجزرة (1) ومزبلة (2) وقارعة طريق (3) (و) لا في (أسطحتها) أي أسطحة تلك المواضع (4) وسطح نهر (5) .
__________
(1) أي ولا تصح في مجزرة وهو الموضع الذي تجزر فيه الإبل، وتذبح فيه البقر والغنم، لأجل النجاسة التي فيها من دماء الذبائح، فتحرم الصلاة فيها وفاقا، وتصح في المدبغة، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، وصححه في الإنصاف.
(2) بفتح الباء، وضمها موضع السرجين، ولو كان المرمي من الكناسة والزبالة طاهرا فتحرم الصلاة فيها وفاقا، ولا خلاف في طهارة الدارسة العافية من آثار أهلها، مزبلة كانت أو مجزرة أو كنيسة.
(3) أي محل قرع الأقدام من الطريق، وهو ما كثر سلوك السابلة فيها، سواء كان فيها سالك أو لا، بخلاف طريق الأبيات القليلة، وما علا من الطريق، يمنة ويسرة، والزوايا التي لا يكثر سلوكها، والمدار على كثرة المرور، لاشتغال القلب بمرور الناس فيه، وقطع الخشوع، وعنه تصح، وهو مذهب الجمهور لكن مع الكراهة.
(4) المنهي عن الصلاة فيها، لأن الهواء تابع للقرار، وسطح كل شيء أعلاه، وسطح البيت ظهره، وقال الموفق وغيره: الصحيح قصر النهي على ما تناوله النص وأن الحكم لا يتعدى إلى غيره، وما علل بمظنة النجاسة ونحوها لا يتخيل في أسطحتها، وهذا فيما إذا كان السطح حادثا، فإن كان المسجد سابقا لم تمنع بغير خلاف، أما إن بني في مقبرة، أو على قبر فحكمه حكمها لأنه لا يخرج بذلك عنه، ويجب هدمه.
(5) لأن الماء لا يصلي عليه، قال أبو الوفاء، واختار أبو المعالي وصاحب الإقناع وغيرهما الصحة كالسفينة، لأنا إنما منعناه من الصلاة على الماء لعدم إمكان الاستقرار عليه، وسطحه ليس كذلك.(1/543)
والمنع في ذلك تعبدي (1) لما روى ابن ماجه والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبع مواطن (2) المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله (3) .
__________
(1) قال الشيخ: والصحيح أن عللها مختلفة، بأن تكون العلة مشابهة أهل الشرك، كالصلاة عند القبور، وتارة لكونها مأوى الشياطين كأعطان الإبل، تارة لغير ذلك.
(2) أي مواضع، والموطن الوطن، وكل ما أقام به الإنسان، ومنه مربط البقر والغنم، ومواطن مكة أي مرافقها.
(3) وقال الموفق وغيره: والصحيح جواز الصلاة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم، لعموم «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، ولابن المنذر وغيره بسند صحيح «جعلت لي كل ارض طيبة» يعني طاهرة مسجدا واستثنى منه المقبرة والحمام ومعاطن الإبل بأحاديث صححية، ففيما عداها يبقى على العموم، وحديث ابن عمر يرويه العمري، وقد تكلم فيه، فلا يترك به الحديث الصحيح اهـ، ولو غيرت مواضع النهي بما يزيل اسمها، كجعل الحمام دارا، أو نبشت المقبرة، ونحوه ذلك صحت كما تقدم، وتكره في المكان الذي ناموا فيه لقوله: «إنه مكان حضرنا فيه الشيطان» علله صلى الله عليه وسلم بالأرواح الخبيثة، وتكره في الكنيسة المصورة، والبيعة وقال الشيخ: وإنها كالمسجد على القبر، وكل مكان فيه تصاوير، وذكر ابن القيم دخوله صلى الله عليه وسلم البيت، وصلاته فيه، وأنه لم يدخله حتى محيت الصور منه، قال: وفيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور، وهو أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام، لأن كراهة الصلاة في الحمام، إما لكون مظنة النجاسة، وإما لكونه بيت الشياطين، وهو الصحيح، وأما محل الصور فمظنة الشرك
وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور، وتقدم قول الشيخ، ولا تصح في أرض الخسف وأرض بابل نص عليه، وقال الشيخ: هو قوي، وتكره في الرحى، وعلله الشيخ بما يلهي المصلي من الصوت ويشغله، وقال النووي: الصلاة في مأوى الشيطان مكروهة بالاتفاق، وذلك مثل مواضع الخمر والحانة، ومواضع المكوس ونحوها من المعاصي الفاحشة، والكنائس والبيع والحشوش ونحو ذلك، لقوله: فإن هذا موضع حضرنا فيه الشيطان، ويستحب أن لا يصلي في موضع حضره فيه الشيطان لهذا الحديث.(1/544)
(وتصح) الصلاة (إليها) أي إلى تلك الأماكن، مع الكراهة إن لم يكن حائل (1) وتصح صلاة الجنازة والجمعة والعيد ونحوها (2) بطريق لضرورة (3) وغصب (4) .
__________
(1) أي بين المصلي وبين تلك الأماكن المنهي عن الصلاة فيها، لعموم «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، وعنه: لا تصح إلى المقبرة، لحديث «لا تصلوا إلى القبور» متفق عليه، وهو أصل شرك العالم، واختاره ابن حامد والمجد والشيخ وغيرهم، وتحريمه ظاهر، وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة في المسجد الذي قبلته إلى القبر، حتى يكون بين حائطه وبين المقبرة حائل آخر، وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد، وتقدم قول الشيخ: ولا تصح إلى الحش، اختاره ابن حامد والشيخ وغيرهما، وتقدم قول ابن عباس: لا يصلين إلى حش، وأنه لا يعلم له مخالف وقال الشيخ: وكره عامة السلف الصلاة في مسجد في قبلته حش، وفي الإقناع: ولا يكفي حائط المسجد ولسريان النجاسة.
(2) كصلاة كسوف واستسقاء.
(3) بأن ضاق المسجد أو المصلى واضطر للصلاة في الطريق للحاجة.
(4) أي وتصح بمغصوب صلاة جمعة وعيد وجنازة ونحوها، لدعاء الحاجة إليه، وظاهر عبارته أنها تصح في الغصب ولو بلا ضرورة، وهو غير ظاهر على المذهب.(1/545)
وتصح الصلاة على راحلة بطريق (1) وفي سفينة ويأتي (2) (ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها) (3) والحجر منها (4) .
__________
(1) لصلاته عليه الصلاة والسلام على البعير، ويأتي.
(2) في الشرط الذي يليه.
(3) لقوله: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ومن صلى فيها أو على سطحها غير مستقبل لجهتها، وعنه: تصح وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك، واختاره الآجري وصاحب الفائق وغيرهما، لأنها مسجد ولأنها محل للنفل، ورجح الأول بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلى النافلة، وقال عقب الصلاة خارج البيت هذه القبلة، لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها، لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض، لأنه صلى التطوع فيها، وغلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة، فلا بد أن يكون لهذا الكلام من فائدة، وعلم شيء قد يخفى، ويقع في محل الشبهة، وابن عباس روي الحديث وفهم منه هذا المعنى، وهو أعلم بمعنى ما سمع، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن السلف أنه صلى الفرض فيها، وفي الإنصاف وغيره: لو وقف على منتهى البيت بحيث أنه لم يبق وراءه منه شيء، أو صلى خارجه لكن سجد فيه صحت.
(4) أي فتصح إليه لا فيه، كما لو صلى إلى أحد أركانها، وظاهر كلامه كله، وليس منه إلا ستة أذرع، كما في الحديث، وقال الشيخ: ستة أذرع وشيء، فيصح التوجه إلى ذلك القدر منه، لأنه من البيت إذا وقف على منتهاه، بحيث لا يبقى وراءه شيء منه، أو خارجه وسجد فيه، قال: وهذا قياس المذهب، لأنه من البيت بالسنة الثابتة المستفيضة، وبعيان من شاهده من الخلق، لما نقضه ابن الزبير وقال: وليس جميعه، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء، فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاه البتة، ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض
في الحجر وقال ابن حامد وابن عقيل وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من فرضه المعاينة لم تصح، لأنه في المشاهدة ليس من الكعبة، وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت، فعمل بها في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة، احتياطا للعبادتين.(1/546)
وإن وقف على منتهاها، بحيث لم يبق وراءه شيء منها (1) أو وقف خارجها وسجد فيها صحت (2) لأنه غير مستدبر لشيء منها (3) (وتصح النافلة) (4) والمنذورة فيها وعليها (باستقبال شاخص منها) أي مع استقبال شاخص من الكعبة (5) .
__________
(1) صحت صلاته، لاستقباله لها.
(2) صلاته فرضا كانت أو نفلا.
(3) فصحت صلاته، كما لو صلى إلى أحد أركانها.
(4) في الكعبة وعليها، باستقبال شاخص منها إجماعا، لصلاته صلى الله عليه وسلم فيها متفق عليه.
(5) إجماعا كالنافلة، سواء كان ما بين يديه متصلا بها، كالبناء والباب ولو مفتوحا، أو العتبة المرتفعة، لا المعبإ من غير بناء، ولا الخشب غير المسمور، وقال الشيخ: يتوجه أن يكتفى بذلك ما يكون سترة في الصلاة، لأنه شيء شاخص اهـ وسواء كان نذره مطلقا أو مقيدا بفعلها فيها أو عليها، بلا نزاع يعتد به، ويمكن حمله على ما في الاختيارات قال فيها: وإن نذر الصلاة في الكعبة صح فعلها فيها، وإن نذرها مطلقا اعتبر شروط الفريضة، لأن النذر المطلق يحذي به حذو الفرائض وتقدم في حديث ابن عمر النهي عن الصلاة فوق ظهر بيت الله، لإخلال الاستعلاء عليه بتعظيمه، وتخصيصه بالفرض مشكل، لأن الأصل المساواة ما لم يقم دليل التخصيص.(1/547)
فلو صلى إلى جهة الباب أو على ظهرها ولا شاخص متصل بها لم تصح، ذكره في المغني والشرح عن الأصحاب، لأنه غير مستقبل لشيء منها، وقال في التنقيح: اختاره الأكثر (1) وقال في المغني: الأولى أنه لا يشترط، لأن الواجب استقبال موضعها وهوائها دون حيطانها (2) ولهذا تصح على جبل أبي قبيس وهو أعلى منها (3) وقدمه في التنقيح، وصححه في تصحيح الفروع (4) قال في الإنصاف: وهو المذهب على ما اصطلحناه (5) .
__________
(1) واستقر عليه الأمر زمن ابن الزبير كما سيأتي.
(2) أي هوائها المسامت لها، الخالي من شاخص منها إذا صلى على عال منها أو نازل عن مسامته بنيانها، لأن المقصود البقعة لا الجدار بدليل ما لو انهدمت والعياذ بالله، وإن لم يبق بين يديه شيء من البيت لم تصح، قال الآمدي: إجماعا.
(3) أي من الكعبة المشرفة، والجبل مشهور مشرف على البيت المعظم من جهة الشرق، وأسفله الصفا، وأعلى من الجبل جبال الحجاز، وأنزل من الكعبة ما تباعد مسافات من سائر الجهات عنها.
(4) واختاره المجد وابن تميم وصاحب الحاوي والفائق وغيرهم، وقطع به في المنتهى وغيره.
(5) لفظه في الإنصاف: ما أسلفناه، والمعنى صحيح على كلا اللفظين، واصطلاحه في خطبة الإنصاف أن الاعتماد في معرفة المذهب على ما قاله المصنف والمجد والشارح وصاحب الفروع والقواعد والوجيز والرعايتين والنظر والخلاصة
والشيخ تقي الدين وأشباههم فإن اختلفوا فالمذهب ما قدمه صاحب الفروع، فإن اختلف فالمذهب ما اتفق عليه الشيخان المصنف والمجد ووافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه، وهذا في الغالب، فإن اختلفا فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد، أو الشيخ تقي الدين، وإلا فالمصنف، ولا سيما في الكافي ثم المجد اهـ.
وقال شيخ الإسلام: الواجب استقبال البنيان، وأما العرصة والهواء فليس بكعبة ولا ببناء، وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه، فإنما ذلك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة، وإن لم تكن مسامته، فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الإئتمام بالإمام، وأما إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه، وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه، لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له، فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص، وكذا قال الآمدي وذكر قوله ثم قال: ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت، فعلم أن مجرد العرصة غير كاف، ويدل على هذا ما ذكره الأزرقي، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها، ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها، ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا، وأن العرصة ليست قبلة، ولم ينقل أن أحدا من السلف خالف في ذلك، ولا أنكره، نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها، بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقيتين فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة، كما يكتفي المصلي أن يخط خطا إذا لم يجد سترة، فإن قواعد إبراهيم كالخط.(1/548)
ويستحب نفله في الكعبة بين الأسطوانتين وجاهه، إذا دخل لفعله عليه السلام (1) .
__________
(1) متفق عليه من حديث ابن عمر: صلى في الكعبة ركعتين بين الساريتين
إذا دخلت لكن إن كانت النافلة مما تشرع لها لجماعة وتفوت داخلها كانت خارجها أفضل، لأن المحافظة على فضيلة متعلقة بنفس العبادة أولى من مكانها كالرمل مع البعد عن الكعبة، والاسطوانة بضم الهمزة والطاء العمود، والسارية والجمع أساطين وأسطوانات.(1/549)
(ومنها) أي من شروط الصلاة (استقبال القبلة) أي الكعبة أو وجهتها لمن بعد (1) سميت قبلة لإقبال الناس عليها (2) قال تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام) (3) .
__________
(1) إجماعا، لقوله صلى الله عليه وسلم «ما بين المشرق والمغرب قبلة» صححه الترمذي، وروي عن غير واحد من الصحابة، وقال شيخنا، استقبال القبلة من العلم العام عند كل أحد شرعيته، وأنه من شرائط صحة الصلاة اهـ، فالواجب استقبال الجهة لا العين في حق من تعذرت عليه، وهذا بالنسبة إلى المدينة، وما وافق قبلتها، ولسائر البلدان من السعة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك، وقاله ابن عبد البر: وهذا صحيح لا مدفع له، ولا خلاف فيه بين أهل العلم، قال أحمد: هذا في كل البلدان، إلا بمكة عند البيت، فإنه إذا زال عنه شيئا وإن قل فقد ترك القبلة، وبين القاضي وغيره أنما وقع عليه اسم مشرق ومغرب فالقبلة ما بينهما، وينبغي أن يتحرى وسط ذلك، لا يتيامن ولا يتياسر، ويعفى عنه في الجهة.
(2) ولأن المصلي يقابلها، وكل شيء جعلته تلقاء وجهك فقد استقبلته، وأصلها الحالة التي يقابلها الشيء غيره عليها، إلا أنها صارت كالعلم للجهة التي يستقبلها المصلي، وأصل الجهة الوجهة، والوجه اسم للمتوجه إليه، وسميت الكعبة كعبة لتكعبها أي تربعها، أو استدارتها وارتفاعها.
(3) أي حول وجهك نحوه، وقبله، والشطر الناحية والمراد به الكعبة، والحرام أي المحرم، والتوجه لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها.(1/550)
(فلا تصح) الصلاة (بدونه) أي بدون الاستقبال (1) (إلا لعاجز) كالمربوط لغير القبلة (2) والمصلوب (3) .
__________
(1) مع القدرة إجماعا لقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} أي في بر أو بحر أو مشرق أو مغرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وفي حديث المسيء «ثم استقبل القبلة فكبر» وقصة أهل قباء: إنه أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم قد صلى ستة عشر شهرا بالمدينة إلى بيت المقدس، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، فوجه إليه. وأول صلاة صلاها قبل البيت صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، والقصة في الصحيحين، ولأحمد كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر ستة عشر شهرا، ثم صرف إلى الكعبة، قال ابن كثير: الحكمة في تحويلها {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} يعني أهل الكتاب، فإنهم قالوا: سيرجع إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني قريشا وهي أنهم قالوا إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فلم رجع عنه ويجاب بأن الله اختار له التوجه إلى بيت المقدس، لما في ذلك من الحكمة {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة بجميع وجوهها {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} إلى ما ضل عنه الأمم، وقال ابن رشد: ما نقل بالتواتر كاستقبال القبلة وأنها الكعبة لا يرده إلا كافر.
(2) أي إلا لعاجز عن استقبال القبلة فلم يقدر عليه، كالمربوط أي المشدود الموثق لغير جهتها، فتصح بدونه، للعجز عنه إجماعا.
(3) أي المعلق على صليب ونحوه مما يتخذ على هيئة عود يصلب عليه اللص ونحوه إلى غير القبلة فتصح بدونه.(1/551)
وعند اشتداد الحرب (1) (و) إلا لـ (متنقل راكب سائر) (2) لا نازل (في سفر) مباح (3) طويل أو قصير (4) إذا كان يقصد جهة معينة (5) وله أن يتطوع على راحلته حيثما توجهت به (6) .
__________
(1) كحال الطعن والكر والفر، وكهروب من سيل أو نار أو سبع، ولو نادرا كمريض عجز عن الاستقبال، فتصح صلاتهم إلى غير القبلة إجماعا لأنه شرط عجز عنه فسقط، كستر العورة لقوله إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وسيأتي حديث ابن عمر في شدة الخوف مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه.
(2) فلا يجب عليه الاستقبال.
(3) أي غير مكروه ولا محرم، لأن نفله ذلك رخصة، والرخصة لا تناط بالمعاصي، والسفر قطع المسافة إذا خرج للارتحال، أو لقصد موضع فوق مسافة العدوى، سمي بذلك لما فيه من الذهاب والمجيء، أو لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ويأتي.
(4) أي دون فرسخ للعموم، قال البغوي: يجوز أداء النافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير جميعا، عند أكثر أهل العلم، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي اهـ وأجمعوا على أنه لا يجوز للمقيم في بلد، التطوع إلى غير القبلة لا ماشيا ولا راكبا.
(5) بخلاف راكب تعاسيف وهو ركوب الفلاة وقطعها على غير صوب، فلا يسقط عنه الاستقبال، ذكره في الرعاية والفروع وغيرهما.
(6) إجماعا لقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} قال ابن عمر: نزلت في التطوع خاصة، ولحديث ابن عمر: كان يسبح على راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، متفق عليه، ولأن إباحته تخفيف لئلا يؤدي إلى تقليله، أو قطعه
وتطوع بالشيء تبرع به وتنفل ومفهومه أنه لا يصح الفرض إلا بالاستقبال وهو كذلك لقوله: ولم يكن يصنع ذلك في المكتوبة متفق عليه.(1/552)
(ويلزمه افتتاح الصلاة) بالإحرام إن أمكنه (إليها) أي إلى القبلة، بالدابة أو بنفسه (1) ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة (2) وإلا فإلى جهة سيره (3) ويومئ بهما (4) ويجعل سجوده أخفض (5) .
__________
(1) بأن يدير الدابة إلى القبلة إن أمكنه، أو يدور هو بنفسه، لحديث أنس، كان إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا استقبل القبلة فكبر للصلاة، ثم خلى عنها رواه أحمد وأبو داود وأصله في الصحيحين، وعنه لا يلزمه وفاقا لمالك وأبي حنيفة لإطلاقه في الأحاديث الصحيحة ولأنه جزء من أجزاء الصلاة أشبه بقيتها ويحمل حديث أنس على الفضيلة، وقال ابن القيم: فيه نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته، أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام، ولا غيرها اهـ قال في الإنصاف: مفهوم كلام المصنف أنه إذا لم يمكنه الافتتاح إلى القبلة لا يلزمه قولا واحدا، وهو الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب.
(2) إلى جهة القبلة، كراكب محفة واسعة، وراحلة واقفة، وهو مذهب الجمهور، لأنه في عدم المشقة كالمقيم، وقيل لا يلزمه، للتساوي في الرخصة العامة.
(3) أي وإلا يمكنه كراكب بعير مقطور، وتعسر عليه الاستدارة بنفسه، أو دابته حرون تصعب إدارتها عليه فإلى جهة سيره.
(4) أي بالركوع والسجود إلى جهة سيره.
(5) أي من ركوعه إن قدر وجوبا وفاقا، لحديث جابر والسجود أخفض
من الركوع، وقيل لا يلزمه لأن الرخصة العامة يسوى فيها بين ما وجدت فيه المشقة وغيره، وإن عجز سقط بلا نزاع.(1/553)
وراكب المحفة الواسعة (1) والسفينة (2) والراحلة الواقفة يلزمه الاستقبال في كل صلاته (3) (و) إلا لمسافر (ماش) قياسا على الراكب (4) (ويلزمه) أي الماشي (الافتتاح) إليها (5) (والركوع والسجود إليها) أي إلى القبلة، لتيسر ذلك عليه (6) .
__________
(1) يلزمه الاستقبال في كل صلاته، والمحفة بكسر الميم مركب للنساء كالهودج إلا أنها لا تقبب قديما، سميت بذلك لأن الخشب يحيط بالقاعد فيها من جميع جوانبه، وكعمارية وهودج، لقدرته عليه بلا مشقة.
(2) وكذا العمارية، يلزمه الاستقبال، إلا ملاحا فلا يلزمه استقبال القبلة، وفاقا، لانفراده بتدبيرها.
(3) في الاستفتاح والركوع والسجود إن أمكنه بلا مشقة، وإن أمكنه الافتتاح إلى القبلة دون ركوع وسجود، أو بالعكس أتى بما قدر عليه.
(4) لمساواته له في الانقطاع عن القافلة في السفر، فيصح نفله بدون الاستقبال.
(5) قال في الإنصاف: يفتتح الصلاة إلى القبلة، بلا خلاف أعلمه.
(6) ويركع ويسجد بالأرض، ويفعل الباقي من الصلاة إلى جهة سيره، والوجه الثاني يومئ إلى جهة سيره كالراكب، صححه المجد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، قال الآمدي وغيره، يومئ بالركوع والسجود كالراكب قياسا عليه، قال الشيخ: هو الأظهر لأن الركوع والسجود وما بينهما يتكرر في كل ركعة، ففي الوقوف له وفعله بالأرض قطع لمسيره، فأشبه الوقوف في حال القيام اهـ، وأبيح للراكب كيلا ينقطع عن القافلة، وهو موجود في الماشي.(1/554)
وإن داس النجاسة عمدا بطلت (1) وإن داسها مركوبه فلا (2) وإن لم يعذر من عدلت به دابته (3) أو عدل إلى غير القبلة عن جهة سيره مع علمه (4) أو عذر وطال عدوله عرفا بطلت (5) (وفرض من قرب من القبلة) أي الكعبة وهو من أمكنه معاينتها (6) .
__________
(1) لما تقدم أنه يشترط طهارة بقعته.
(2) ولو عمدا لأنه عفي عن المركوب إذا كان نجسا مع طهارة محل المصلي من نحو سرج وبرذعة فإذا وطئها فمن باب أولى، ويعتبر طهارة ما تحت راكب من نحو برذعة وإن كان المركوب نجس العين، ولمسلم أنه صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار في النفل، قال المجد وغيره: ولا كراهة في ذلك لفعله صلى الله عليه وسلم، ومسيس الحاجة إليه.
(3) بأن قدر على ردها ولم يفعل، وكان عالما بالعدول بطلت صلاته.
(4) بطلت لأنه ترك قبلته عمدا، سواء طال العدول أو لا، وإن كان العدول إلى القبلة، فهو الأصل، فإذا حصل فهو المطلوب.
(5) أي عذر من عدلت به دابته لعجزه عنها، أو عذر من عدل إلى غير القبلة لغفلة أو نوم أو جهل وطال عدوله عن جهتها عرفا، بطلت صلاته، لأنه بمنزلة العمل الكثير من غير جنس الصلاة، فإن عذر ولم يطل لم تبطل، لأنه بمنزلة العمل اليسير، والوتر وغيره من النوافل سواء، لأنه عليه الصلاة والسلام يوتر على دابته، متفق عليه.
(6) أي سهل عليه ولا حائل بينه وبين إصابة عينها وفاقا، وفي الإنصاف وغيره: بلا نزاع، كمن بالمسجد الحرام أو كان خارجه لكن يمكنه النظر إليها، كأن كان على جبل أبي قبيس، أو مرتفع بحيث يعاينها.(1/555)
أو الخبر عن يقين (إصابة عينها) (1) ببدنه كله بحيث لا يخرج شيء منه عن الكعبة (2) ولا يضر علو ولا نزول (3) (و) فرض (من بعد) عن الكعبة استقبال (جهتها) (4) فلا يضر التيامن ولا التياسر اليسيران عرفا (5) .
__________
(1) أي وفرض من قرب من القبلة ولم يمكنه معاينتها، وأمكنه الخبر عن يقين من عالم به، إصابة عينها، أي استقبال نفس الكعبة وفاقا، فإن من نشأ بمكة أو أقام بها كثيرا يمكنه اليقين في ذلك، ولو مع حائل حادث كالأبنية.
(2) لأنه قادر على التوجه إلى عينها قطعا، فلم يجز العدول عنه، وإن تعذرت إصابة العين بحائل اجتهد إلى عينها، ولا يكلف المعاينة بصعود حائل أو دخول مسجد للمشقة، وذكر جماعة من الأصحاب وغيرهم: إن تعذر إصابة العين للقريب فحكمه حكم البعيد.
(3) أي عن الكعبة كالمصلي على أبي قبيس، أو في حفيرة في الأرض ونزل بها عن مسامتتها لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفة، وإن لم تكن مسامتة، فإن المسامتة لا تشترط كما تقدم.
(4) لحديث ما بين المشرق والمغرب قبلة، وغيره وتقدم، ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة، والصف الطويل مستويا ولان التكليف بحسب الوسع، قال في الإنصاف والمبدع وغيرهما: البعد هنا هو بحيث لا يقدر على المعاينة، ولا عن من يخبره بعلم، وقال غير واحد من الأصحاب: ليس المراد بالبعد مسافة القصر، ولا بالقرب دونها، والجهة الناحية كالوجه وأصلها وجهة قال الواحدي: الوجهة اسم للمتوجه إليه والوجه مستقبل كل شيء.
(5) بحيث لا يخرج عن الجهة، لأن إصابة العين بالاجتهاد متعذرة فسقطت، وأقيمت الجهة مقامها للضرورة.(1/556)
إلا من كان بمسجده صلى الله عليه وسلم لأن قبلته متيقنة (1) (فإن أخبره) بالقبلة مكلف (ثقة) (2) عدل ظاهر وباطنا (بيقين) عمل به، حرا كان أو عبدا، رجلا كان أو امرأة (3) .
(أووجد محاريب إسلامية عمل بها) (4) لأن اتفاقهم عليها مع تكرار الأعصار إجماع عليها، فلا تجوز مخالفتها، حيث علمها للمسلمين ولا ينحرف (5) .
__________
(1) أو قريبا منه قاله جماعة، فيشترط إصابة العين ببدنه، لأن قبلته متيقنة الصحة، قال الشارح وغيره: لكن إنما الواجب عليه صلى الله عليه وسلم استقبال الجهة وقد فعله، وقيل: رفعت له الكعبة حين بنى مسجده صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
(2) فلا يعمل بخبر صغير ولا فاسق، وقال ابن تميم: يصح التوجه إلى قبلته في بيته، وجزم به في المبدع.
(3) ولو أخبره بالمشرق أو المغرب أو نجم فأخذ القبلة منه لزمه العمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يجز تقليده وفاقا، وقيل يجوز تقليده إن ضاق الوقت وإلا فلا، وذكره القاضي ظاهر كلام أحمد، واختاره جماعة من الأصحاب منهم الشيخ تقي الدين، وعدالة الظاهر بأن يكون مستور الحال، والباطن بأن يختبر بالأمانة ونحوها.
(4) عدولا كانوا أو فساقا، والمحاريب جمع محراب، وهو صدر المجلس، ومنه محراب المسجد وهو مقام الإمام منه.
(5) أي عن التوجه عن تلك الجهة، لأن دوام التوجه إلى جهة تلك المحاريب كالقطع، ونقل إجماع العلماء عليه صاحب الشامل وغيره، لأنها لا تنصب إلا بحضرة جماعة من أهل المعرفة بالأدلة فإن لم يعلم أنها لهم فلا التفات إليها قال الموفق والشارح: إذا علم قبلتهم كالنصارى في كنائسهم على أنها مستقبلة للشرق أي يستدل بها على القبلة.(1/557)
(ويستدل عليها في السفر بالقطب) وهو أثبت أدلتها، لأنه لا يزول عن مكانه إلا قليلا (1) وهو نجم خفي شمالي (2) وحوله أنجم دائرة كفراشة الرحى (3) في أحد طرفيه الجدي (4) والآخر الفرقدان (5) يكون وراء ظهر المصلي بالشام (6) .
__________
(1) لا يؤثر والاستدلال بالنجوم أصح أدلتها قال تعالى: {وبالنجم هم يهتدون} وقال: {لِتَهْتَدُوا بِهَا} والقطب بثليث القاف حكاه ابن سيده وغيره.
(2) لا يراه إلا حديد البصر في غير ليالي القمر، لكن يستدل عليه بالجدي والفرقدين.
(3) أي فراشة الطاحون الذي يديره الماء أو غيره، فيدير هو الرحى فتدور هذه الفراشة حول القطب، دوران فراشة الرحى حول سفودها، في كل يوم وليلة دورة، فيكون الفرقدان، عند طلوع الشمس مثلا في مكان جهته عند غروبها، والقطب في مكانه، لا يبرح مكانه وقيل قليلا.
(4) نجم نير وهو غير جدي البرج، ويعرف بجدي القطب وجدي الفرقدين تعرف به القبلة.
(5) وبين الجدي والفرقدين أنجم صغار منقوشة، ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور أيضا دوران فراشة الرحى حول سفودها، كل يوم وليلة دورة، والفرقدان جاء مثنى ومفردا لقرب اتصالهما، وعلى القطب تدور بنات نعش وغيرها من الأنجم الشمالية.
(6) والعراق وسائر الجزيرة، وما حاذى ذلك، وذكره في الحاوي وغيره
فلا تتفاوت إلا يسيرا معفوا عنه، وقال الشيخ: إذا جعل الشامي القطب بين أذنه اليسرى ونقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشامي والميزاب، والعراقي إذا جعل القطب بين أذنه اليمنى ونقرة القفا فقد استقبل قبلته اهـ وقيل: ينحرف في دمشق وما قاربها إلى المشرق قليلا، وكلما قرب إلى المغرب كان انحرافه أكثر، وينحرف بالعراق وما قاربها إلى المغرب قليلا، وكلما قرب إلى المشرق كان انحرافه أكثر، وكذا في سائر الجهات.(1/558)
وعلى عاتقه الأيسر بمصر (1) (و) يستدل عليها بـ (الشمس والقمر ومنازلهما) أي منازل الشمس والقمر (2) تطلع من الشرق (3) وتغرب من المغرب (4) .
__________
(1) وما والاها قال بعضهم:
من واجه القطب بأرض اليمن ... وعكسه الشام وخلف الأذن
بمنى عراق ثم يسرى مصر ... قد صححوا استقبالها في العمر
(2) وما يقترن بمنازل الشمس والقمر، أو ما يقاربها، والشمس تقارب الجنوب شتاء، والشمال صيفا، والقمر كل شهر.
(3) على يسرة المصلي في البلاد الشمالية، ويمنته في البلاد الجنوبية.
(4) على اليمنة في الشامية، واليسرة في اليمنية لكن الشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب اختلاف منازلها، فتطلع قرب الجنوب شتاء، وقرب الصبا صيفا، والقمر يبدو أول ليلة هلالا في المغرب، عن يمين
المصلي من أهل المشرق، ثم يتأخر كل ليلة منزلة حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة المصلي منهم، مائلا عنها قليلا إلى المغرب، ثم يطلع ليلة الأربع عشرة من المشرق قبل غروب الشمس بدرا، وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي من أهل المشرق، أو قريبا منها وقت
الفجر، وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق
وتختلف مطالعه بحسب اختلاف منازله، ومنازله ثمانية وعشرون، أربعة عشر شامية، وأربعة عشر يمانية، فالشامية، الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء،
السماك، واليمانية، الغفر، الزبانا، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدم، الفرغ المؤخر، بطن الحوت، فالقمر ينزل في كل ليلة واحدا منها، والشمس ثلاثة عشر يوما.(1/559)
ويستحب تعلم أدلة القبلة والوقت (1) فإن دخل الوقت وخفيت عليه لزمه (2) ويقلد إن ضاق الوقت (3) (وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر) وإن كان أعلم منه (4) .
__________
(1) وذهب إلى وجوبه على المسافر طائفة، قال في شرح الهداية: وهو متجه، ويحتمل أن لا يجب فإن التباس جهة القبلة مما يندر، والمكلف إنما يتعين عليه ما يعم مسيس الحاجة إليه، لا ما يندر.
(2) أي تعلم أدلة القبلة، لأن الواجب لا يتم إلا به مع قصر زمنه، قال في شرح الهداية، إذا أمكنه وجب، قولا واحدا، وقاله الزركشي، وغيره لقصر زمنه، وهو فرض عين لسفر، فكل فرد مخاطب بالتعلم حيث كان أهلا له.
(3) عن تعلم أدلة القبلة، لأن القبلة يجوز تركها للضرورة إلا مع سعته وفاقا، وإلا فلا، اختاره جمع من الأصحاب وغيرهم، منهم الشيخ تقي الدين، وأصل التقليد في اللغة وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به، وسمي ذلك قلادة وهو في عرف الفقهاء: قبول قول الغير من غير حجة، أخذا من هذا المعنى.
(4) أي وإن اجتهد مجتهدان في جهة القبلة، فاختلفا جهة بأن ظهرت لأحدهما جهة غير الجهة التي ظهرت للآخر لم يتبع مجتهد ظهرت له جهة القبلة مجتهدا آخر ظهر له أن جهة القبلة إلى غير جهة صاحبه، إن كان أعلم منه بحيث ينحرف إلى جهته لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر، كالعالمين يختلفان في حادثة، والمجتهد هنا هو العالم بأدلة القبلة، وإن جهل أحكام الشرع، لأن كل من علم أدلة شيء كان مجتهدا فيه، لأنه يتمكن من استقبالها بدليله.(1/560)
ولا يقتدي به (1) لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر (2) (ويتبع المقلد) لجهل أو عمى (أوثقهما) أي أعلمهما وأصدقهما وأشدهما تحريا لدينه (عنده) (3) لأن الصواب إليه أقرب، فإن تساويا خير (4) .
__________
(1) وفاقا أي لا يأتم مجتهد بمجتهد خالفه جهة، كما لو خرج ريح من اثنين واعتقد كل منهما أنها من الآخر وتقدم، فإن مال أحدهما يمينا والآخر شمالا مع اتفاقهما في الجهة صح ائتمام أحدهما بالآخر، قولا واحدا.
(2) في القبلة فلم يجز الائتمام به، وذلك فيما إذا كان اختلافهما في جهتين قال في المغني: وقياس المذهب جواز ذلك، وذكره الشيخ: وصححه الشارح وحكاه في الفائق قولا.
(3) أي أعلمهما عند المقلد في أدلة القبلة بالدلائل، وإن كان جاهلا في الأحكام، والمقلد هنا من لا تمكنه الصلاة باجتهاد نفسه، لعدم بصره أو بصيرته، قال ابن القيم: يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه، وهو أرجح المذاهب السبعة، وقال في الروضة: يأخذ بالأفضل في دينه وعلمه، وفي الفروع وغيره: لا يجب على جاهل وأعمى تقليد الأوثق، وقدمه في التبصرة وفاقا، كعامي في القياس على الأصح وفاقا.
(4) فيتبع أيهما شاء، جزم به الشيخ، وذكره القاضي محل وفاق، وصححه غير واحد، وفي الإنصاف، إن كان في جهة خير، وفي جهتين فالصحيح يخير، وعليه الجمهور، وإن أمكن أعمى اجتهاد بنهر كبير أو ريح أو جبل لزمه ولم يقلد.(1/561)
وإن قلد اثنين لم يرجع برجوع أحدهما (1) (ومن صلى بغير اجتهاد) إن كان يحسنه (2) (ولا تقليد) إن لم يحسن الاجتهاد (قضى) ولو أصاب (إن وجد من يقلده) (3) فإن لم يجد أعمى أو جاهل من يقلده فتحريا وصليا فلا إعادة (4) وإن صلى بصير حضرا فأخطأ أو صلى أعمى بلا دليل من لمس محراب أو نحوه (5) أو خبر ثقة أعادا (6) .
__________
(1) لأنه دخل فيها على ظاهر فلا يزول إلا بمثله.
(2) قضى لأنه قدر على شرط من شروط الصلاة فلم تصح بدونه.
(3) أو ظن جهة باجتهاده قضى، وفاقا لمالك والشافعي، وإن صلى باجتهاد أو تقليد فبان أنه أخطأ فلا إعادة عليه إجماعا، لحديث عامر بن ربيعة وغيره، وقصة أهل قباء، إلا في أحد قولي الشافعي، والحاصل أن المراتب أربع: الأولى المعاينة، والثانية المخبر عن علم، والثالثة الاجتهاد، والرابعة التقليد، فلا ينتقل للمتأخرة حتى يعجز عن التي قبلها.
(4) ولو أخطآ لأنهما أتيا بما أمرا به على وجهه.
(5) مما يدل على القبلة، كأن يعلم أن باب المسجد إلى الشمال.
(6) أي البصير المخطئ ولو اجتهد، والأعمى، لأنه كالبصير في الحضر لقدرته على الاستدلال ولو لم يخطئ القبلة، لأن الحضر ليس بمحل للاجتهاد، لقدرة من فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها، ولأنه يجد من يخبره عن يقين غالبا، وعنه لا يعيد البصير إن كان عن اجتهاد، واحتج أحمد بقصة أهل قباء، وكذا الأعمى، لكن يلزمه التحري، فإن لم يجتهد البصير ولم يتحر الأعمى وصليا أعادا إن أخطآ قولا واحدا، حكاه في الإنصاف وغيره.(1/562)
(ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة) (1) لأنها واقعة متجددة فتستدعي طلبا جديدا (2) (ويصلي بـ) الاجتهاد (الثاني) لأنه ترجح في ظنه، ولو كان في صلاته ويبني (3) (ولا يقضي ما صلى بـ) الاجتهاد (الأول) (4) لأن الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد (5) .
__________
(1) كالحاكم إذا اجتهد في حادثة ثم حدث مثلها.
(2) أي لأن كل صلاة واقعة أي حاصلة متجددة بدخول وقتها، فتستدعي أي تستلزم طلبا أي اجتهادا جديدا مرة بعد أخرى
(3) فيستدير إلى الجهة التي ظهرت له، ويبني على ما مضى من الصلاة، نقله الجماعة، وفاقا لأبي حنيفة، وهو الأصح عند الشافعية، كأهل قباء لما أخبروا بتحويل القبلة استداروا إليها وبنوا، وإن شك لم يزل عن جهته.
(4) قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، فلو صلى الأربع الركعات إلى أربع جهات كلما بدا له جهة توجه إليها صحت صلاته، وليس هذا نقضا للاجتهاد وإنما هو عمل بكل من الاجتهادين، فلذلك بنى على صلاته ولم يعد ما فعله بالاجتهاد الأول، ولقضية عمر في مسألة المشركة، وقال: تلك على ما قضينا، ولم يعلم له مخالف.
(5) قال عثمان: وجملة ذلك أنه إذا دخل في الصلاة باجتهاد فإما أن يستمر اجتهاده إلى فراغها، أو يعرض له شك، ويستمر الشك إلى فراغها، أو يزول الشك ويبقى ظن الصواب، أو بالعكس، بأن يظن الخطأ ويظهر له جهة أخرى فينتقل إليها، ويبني فصلاته صحيحة في الصور الأربع كلها، وإما أن يظن الخطأ من غير أن يظهر له جهة يتوجه إليها فتبطل صلاته.(1/563)
ومن أخبر فيها بالخطأ يقينا لزمه قبوله (1) وإن لم يظهر لمجتهد جهة في السفر صلى على حسب حاله (2) .
(ومنها) أي من شروط الصلاة (النية) (3) وبها تمت الشروط (4) وهي لغة القصد (5) وهو عزم القلب على الشيء (6) وشرعا: العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى (7) .
__________
(1) أي أخبره ثقة بالخطأ كأن يقول: رأيت الشمس ونحوها، وتيقنت خطأك، لزمه قبول خبره، ويترك الاجتهاد أو التقليد، كما لو أخبره قبلهما، وإن لم يكن عن يقين لم يجز قبوله.
(2) بفتح السين أي على قدر طاقته، وذلك بأن تعادلت عنده الأمارات، أو منع من الاجتهاد، ونحو ذلك، أو تعذر عليه الاجتهاد، لرمد ونحوه، ولا إعادة عليه، لأنه أتى بما أمر به وتحرى، فأجزأته وإن لم يصب وفاقا.
(3) إجماعا حكاه جماعات من أهل العلم، ولا تسقط بحال، فهي شرط مع العلم والجهل والذكر والنسيان، لأن محلها القلب فلا يتأتى العجز عنها، قال عبد القادر: النية قبل الصلاة شرط، وفيها ركن، وفي الإنصاف رواية أنها فرض.
(4) أي التسعة للصلاة.
(5) يقال: نواك الله بخير أي قصدك به.
(6) من عبادة وغيرها، وعزم على الشيء عقد ضميره على فعله، وضمير الإنسان قلبه وباطنه.
(7) بأن لا يشرك في العبادة غير الله تعالى فلو ألجئ إليها بيمين أو غيره أو تصنع لمخلوق ففعل ولم ينو قربه لم تصح لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص عمل القلب، وهو أن يقصد بعمله الله وحده وهو محض النية الصالحة، وذكر الموفق وغيره أن المكره إذا كان إقدامه على العبادة للخلاص من الإكراه لم تكن طاعة، ولا مجيبا لداعي الشرع.(1/564)
ومحلها القلب (1) والتلفظ بها ليس بشرط (2) إذ الغرض جعل العبادة لله تعالى (3) .
__________
(1) إجماعا فلا يحتاج إلى التلفظ بها، وزمنها هو أول العبادة ولو حكما كما لو نوى الصلاة في بيته ثم حضر المسجد وافتتح الصلاة بتلك النية من غير فاصل يمنع المراد، ويجب استصحاب حكمها في جميعها.
(2) أي فيستحب والمنصوص عن أحمد وغيره، خلافه، بل ذكر شيخ الإسلام أن التلفظ بها بدعة، لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولم ينقل عنه مسلم ولا عن أصحابه أنه تلفظ قبل التكبير بلفظ النية، لا سرا ولا جهرا، ولا أمر بذلك فلما لم ينقله أحد علم قطعا أنه لم يكن، وقال: اتفق الأئمة أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكريرها، بل من اعتاده ينبغي تأديبه وكذا بقية العبادات والجاهر بها مستحق للتعزير بعد تعريفه، لا سيما إذا آذى به أو كرره، والجهر بها منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة الإسلام، وفاعله مسيء وإن اعتقده دينا خرج عن إجماع المسلمين، ويجب نهيه، وبعض المتأخرين خرج وجها من مذهب الشافعي، وغلطه جماهير أصحاب الشافعي، قال الشافعي: إن الصلاة لا بد من النطق في أولها، فظن الغالط أنه أراد النطق بالنية، وإنما أراد التكبير، وقال ابن القيم: لم يكن صلى الله عليه وسلم هو ولا أصحابه يقولون: نويت إلى آخره: ولم يرد عنهم حرف واحد في ذلك، وفي الإقناع والتلفظ بها بدعة.
(3) وحده دون من سواه، والرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض صلاة وصوم كما ذكره ابن رجب وغيره، وقد يصدر في نحو صدقة وحج، وهذا لا يشك مسلم أنه حابط، وإن شارك العمل الرياء فإن كان من أصله فالنصوص طافحة ببطلانه، وإن كان العمل لله ثم طرأ عليه خاطر الرياء ودفعه لم يضره بلا خلاف، وإن استرسل معه فخلاف رجح أحمد وغيره أنه لا يبطل بذلك وذكره غيره: لا إثم بمشوب برياء إذا غلب مقصد الطاعة، وعكسه يأثم، وإن تساوى الباعثان فلا له ولا عليه، وقال الشيخ: المراءاة في العبادات المختصة من أعظم الذنوب فأما المرائي بالفرائض فكل يعلم قبحه، وأما بالنوافل فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله، لا له ولا عليه، بل هو مستحق للذم والعقاب، ولا يترك عبادة خوف رياء.(1/565)
وإن سبق لسانه إلى غير ما نواه لم يضر (1) (فيجب أن ينوي عين صلاة معينة) (2) فرضا كانت كالظهر والعصر (3) أو نفلا كالوتر (4) والسنة الراتبة (5) لحديث إنما الأعمال بالنيات (6) .
__________
(1) أي من أراد أن يصلي الظهر مثلا فسبق لسانه بنية العصر لم يضر، لأن محل النية القلب، ولو نوى بلسانه ولم ينو بقلبه لم تنعقد بالإجماع.
(2) إن كانت وإلا أجزأته نية صلاة مطلقة إجماعا، كصلاة الليل، لعدم التعيين فيها.
(3) والمغرب والعشاء والصبح، وكذا منذورة وفاقا لمالك والشافعي والجماهير.
(4) والتراويح والكسوف والاستسقاء فلا تصح واحدة منها إلا بنية صلاة بعينها.
(5) والضحى والاستخارة وتحية المسجد ونحو ذلك، فلا بد من التعيين، لتتميز تلك الصلاة عن غيرها، كما لو كان عليه صلوات وصلى أربع ركعات لم ينوبها مما عليه لم تجز إجماعا، ومن لم يميز فرائض صلاته من سننها تصح بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض، ولو غفل عن التفصيل، فنية الجملة في الابتداء كافية، قال النووي وغيره: وهو الذي يقتضيه ظاهر أحوال الصحابة فمن بعدهم.
(6) أي إنما المنوي بحسب ما نواه العامل، وتقدم.(1/566)
(ولا يشترط في الفرض) أن ينويه فرضا، فتكفي نية الظهر ونحوه (1) (و) لا في (الأداء و) لا في (القضاء) نيتهما (2) لأن التعيين يغني عن ذلك (3) ويصح قضاء بنية أداء وعكسه إذا بان خلاف ظنه (4) .
__________
(1) كالعصر والمغرب والعشاء والفجر والمنذورة وعليه أكثر الأصحاب، وصححه في التصحيح والإنصاف وغيرهما واختاره ابن عبدوس وغيره، وجزم به في الوجيز وغيره.
(2) أي لا تشترط نية الأداء والقضاء قضاء، لأنه لا يختلف المذهب أنه لو صلاها ينويها أداء فبان وقتها قد خرج صحت قضاء، وبالعكس والأداء عندهم فعله في وقته، والقضاء فعله بعد خروج وقته المعين له شرعا.
(3) أي لأن تخصيص المصلي بقلبه تلك الصلاة كاف، فلا يحتاج أن ينويها فرضا أو أداء أو قضاء، ولأن أصل وضعها الشرعي كاف، وفي نيته الأولى ما يكفي.
(4) كما لو أحرم بصبح أداء ظانا أن الشمس لم تطلع فبان طلوعها صحت قضاء، وعكسه أداء بنية قضاء، بأن نوى عصرا قضاء يظن غروب الشمس فتبين أنها لم تغرب صحت أداء قال الشيخ: وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء ثم تبين أنه صلى الله عليه وسلم بعد خروج الوقت صحت صلاته، ولو اعتقد خروجه، فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته اهـ فإن علم بقاء الوقت أو خروجه ونوى خلافه، لم يصح بلا خلاف، لأنه متلاعب، والقضاء في الأصل هو الأداء، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي أديتموها، وإكمال الشيء وإتمامه لقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} أي أكملهن وأتمهن، وإنما استعمل الفقهاء (القضاء) في العبادة التي تفعل خارج وقتها المحدود لها شرعا، و (الأداء) إذا فعلت في الوقت المحدود اصطلاحا منهم، للتمييز بين الوقتين.(1/567)
(و) لا يشترط في (النفل والإعادة) أي الصلاة المعادة (نيتهن) فلا يعتبر أن ينوي الصبي الظهر نفلا (1) ولا أن ينوي الظهر من أعادها معادة، كما لا تعتبر نية الفرض وأولى (2) ولا تعتبر إضافة الفعل إلى الله تعالى فيها (3) ولا في باقي العبادات (4) ولا عدد الركعات (5) ومن عليها ظهران عين السابقة، لأجل الترتيب (6) ولا يمنع صحتها قصد تعليمها ونحوه (7) .
__________
(1) ولا غير الصبي الوتر والرواتب والتراويح نفلا، كما لا تعتبر نية الفرض بل يكفيه نية وتر، وراتبة وتراويح ومطلق نفل.
(2) الإعادة فعل الشيء مرة بعد أخرى، أي كما لا تشترط نية الفرض، فالنفل والمعادة أولى في عدم الاشتراط، لكن لو ظن أن عليه ظهرا فائتة فقضاها في وقت ظهر حاضرة، ثم بان أن لا قضاء عليه لم تجزئه عن الحاضرة، لأنه لم ينوها، ولو نوى ظهر اليوم في وقتها وعليه فائتة لم تجزئ عنها.
(3) بأن ينوي الصلاة لله تعالى، لأن العبادة لا تكون إلا لله، وجزم في الفائق باشتراط إضافة الفعل إلى الله تعالى.
(4) كالصوم والحج وغيرهما.
(5) أي ولا يشترط أن ينوي تعيين عدد الركعات، ولا أن ينوي الاستقبال.
(6) بين الفوائت بخلاف المنذورتين.
(7) كقصد خلاص من خصم، أو إدمان سهر بعد إتيانه بالنية المعتبرة، لفعله صلى الله عليه وسلم على المنبر وغيره في صلاته، وذكره ابن الجوزي فيما ينقص الأجر، وفي الفروع، لأنه ينقص ثوابه اهـ وأما ما قصد به العبادة والتعليم فينجبر بالتعليم.(1/568)
(وينوي مع التحريمة) لتكون النية مقارنة للعبادة (1) (وله تقديمها) أي النية (عليها) أي على تكبيرة الإحرام (بزمن يسير) عرفا (2) إن وجدت النية (في الوقت) أي وقت المؤداة والراتبة (3) ما لم يفسخها (4) .
__________
(1) خروجا من الخلاف فعند بعض الشافعية قرنها بالتكبير، وصفة قرونها به أن يأتي بالتكبيرة عقب النية، وهذا ممكن لا صعوبة فيه، وعامة الناس إنما يصلون هكذا، لأن المقارنة انبساط أجزاء النية على أجزاء التكبير، فإنه يعسر، ويشغل عن استحضار المنوي، وينبغي له أن يكون قلبه مشغولا بتدبر التكبير، واستحضار عظمة من يقف بين يديه ليخشع له تبارك وتعالى، وذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم إلى الاكتفاء بوجودها قبل التكبير، واختار جمع منهم النووي والغزالي الاكتفاء بالاستحضار العرفي، بحيث لا يعد غافلا عن الصلاة، اقتداء بالأولين في تساهلهم.
(2) كبقية الشروط، وظاهره ولو أتى بشيء من المبطلات للصلاة غير ما ذكره، كالكلام واستدبار القبلة، والعرف هو ما لا تفوت به الموالاة في الوضوء، وقيل: يجوز بزمن كثير ما لم يفسخ النية، اختاره الآمدي والشيخ وغيرهما، ونقل أبو طالب وغيره: إذا خرج من بيته يريد الصلاة فهو نية، أتراه كبر وهو لا ينوي الصلاة؟ واحتج به الشيخ وغيره، على أن النية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله قصده ضرورة.
(3) اشترطه الخرقي وغيره، وأطلقه أكثر الأصحاب، وظاهره لو تقدمت ولو بزمن يسير لم يعتد بها، للخلاف في كونها ركنا وهو لا يتقدم، وتقدم تمام الكلام في ذلك.
(4) أي النية مع بقاء إسلامه كالصوم، وأن لا يشتغل بعمل كثير، وذلك مثل عمل من نسي سجود السهو على ما يأتي، أو أعرض عنها بما يلهيه، أو تعمد حدثا، لأن تقدم النية على الفعل لا يخرجه عن كونه منويا.(1/569)
(فإن قطعها في أثناء الصلاة (1) أو تردد) في فسخها (بطلت) (2) لأن استدامة النية شرط (3) ومع الفسخ أو التردد لا يبقى مستديما (4) وكذا لو علقه على شرط (5) لا إن عزم على فعل محظور قبل فعله (6) (وإذا شك فيها) أي في النية أو التحريمة (استأنفها) (7) .
__________
(1) بطلت لأن النية شرط في جميعها، صححه في التصحيح وغيره، أشبه ما لو سلم أو عزم على قطعها فبطلت لأن النية عزم جازم، ومع العزم على قطعها لا جزم فلا نية.
(2) لأنه لم يبق جازما بالنية، صححه في التصحيح وغيره، واختاره القاضي وغيره وقال ابن حامد وغيره، لا تبطل لأنه دخل بنية متيقنة فلا تزول بالشك كسائر العبادات، وصححه في الرعاية ويأتي قول الشيخ رحمه الله، وتردد في الأمر اشتبه فيه فلم يثبت.
(3) فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.
(4) لذهاب الشرط.
(5) كأن ينوي إن طرق عليه الباب قطعها بطلت، لمنافاة ذلك جزمه بها.
(6) بأن عزم على كلام ولم يتكلم أو فعل حدث ونحوه ولم يفعله لم تبطل وفاقا، لعدم منافاته، الجزم المتقدم لأنه قد يفعل المحظور وقد لا يفعله، ولا مناقض في الحال للنية المتقدمة، فتستمر إلى أن يوجد مناقض، وذكر الحافظ وغيره أن في حديث ذي اليدين دليلا على أن نية الخروج من الصلاة وقطعها إذاكان بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها ولو سلم، وكذا كلام من ظن التمام، وأنه قول جمهور العلماء من السلف والخلف وعامة أهل الحديث، وأن الإبطال بغير دليل ممنوع.
(7) أي شك هل نوى الصلاة أو عين ظهرا أو عصرا أو أحرم أو لا، استأنف
الصلاة لأن الأصل عدم النية والتحريمة، وهذا مذهب الشافعي، وقال ابن حامد وغيره: لا تبطل ويبنى لأن الشك لا يزيل حكم النية، وقال الشيخ: يحرم عليه خروجه لشكه في النية، للعلم أنه ما دخل إلا بالنية، وقال شيخنا، إذا اهتم الإنسان للصلاة وقام في الصف وفي ظنه أنه كبر تكبيرة الإحرام لكن اعتراه شك هل كبر أولا؟ فهذا يستأنف تكبيرة الإحرام إلا أن يكثر فيصير كوسواس فيطرحه ويبني على غالب ظنه.(1/570)
وإن ذكر قبل قطعها (1) فإن لم يكن أتى بشيء من أعمال الصلاة بنى (2) وإن عمل مع الشك عملا استأنف (3) وبعد الفراغ لا أثر للشك (4) (وإن قلب منفرد) أو مأموم (فرضه نفلا في وقته المتسع جاز) (5) .
__________
(1) أي ذكر أنه كان قد نوى أو عين أو كبر.
(2) لأنه لم يوجد مبطل لها، كما لو نوى قطع القراءة ولم يقطعها، قولا
واحدا.
(3) أي وإن عمل مع الشك في النية عملا من أعمال الصلاة قولية كقراءة أو فعلية كركوع أو سجود استأنف الصلاة، لأن هذا العمل عري عن النية، وقال المجد: الأقوى إن كان العمل قولا لم تبطل، كتعمد زيادته، ولا يعتد به، وإن كان فعلا بطلت لعدم جوازه، كتعمده في غير موضعه، قال ابن تميم: وهذا أحسن، وتقدم إطراح الشك وأنه لا يزيل حكم النية، وإن شك هل نوى فرضا أو نفلا أتمها نفلا، لأن الأصل عدم نية الفرضية.
(4) يعني في النية للعلم أنه ما دخل إلا بها وفرغ منها من غير شك، ولا أثر للشك بعد الفراغ إجماعا وقال الناظم:
ولا الشك من بعد الفراغ بمبطل ... يقاس على هذا جميع التعبد
(5) بأن فسخ نية الفرضية دون نية الصلاة ولفظ المنتهى: صح مطلقاً قال في حاشيته: سواء صلى الأكثر كثلاث من أربع أو ركعتين من المغرب، خلافا لأبي حنيفة ومالك، قالوا: لأن للأكثر حكم الكل، أي فمن صلى الأكثر لم يجز أن يقلبه نفلا.(1/571)
لأنه إكمال في المعنى كنقص المسجد للإصلاح (1) لكن يكره لغير غرض صحيح (2) مثل أن يحرم منفردا فيريد الصلاة في جماعة (3) ونص أحمد فيمن صلى ركعة من فريضة منفردا ثم حضر الإمام وأقيمت الصلاة، يقطع صلاته ويدخل معهم (4) فيتخرج منه قطع النافلة بحضور الجماعة بطريق الأولى (5) .
__________
(1) فكذا هنا، ولأن النفل يدخل في نية الفرض أشبه ما لو أحرم بفرض فبان قبل وقته.
(2) أي يكره قلب فرضه نفلا، لغير غرض صحيح، لكونه أبطل عمله، ويصح، صححه في تصحيح الفروع، وعنه يحرم قال القاضي: رواية واحدة، لقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .
(3) أي فإن كان لغرض صحيح مثل أن يحرم إلخ، ونحوه لم يكره أن يقلبه نفلا ليصلي معهم، بل هو أفضل، قال في الإنصاف وتصحيح الفروع: وهو الصواب إن كان الغرض صلاة الجماعة، بل لو قيل بوجوب ذلك لكان حسنا، قال شيخنا: لكنه لم يقل بالوجوب أحد.
(4) بلفظ الأمر، وعنه يقلبها نفلا، وفاقا، ويتمها خفيفة، ثم يدخل معهم، وهي الرواية المشهورة.
(5) وأولى منه ما يتخرج من الرواية المشهورة أن يتمها خفيفة لقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .(1/572)
(وإن انتقل بنية) من غير تحريمة (من فرض إلى فرض) آخر (بطلا) (1) لأنه قطع نية الأول ولم ينو الثاني من أوله (2) وإن نوى الثاني من أوله بتكبيرة إحرام صح (3) وينقلب نفلا ما بان عدمه (4) كفائتة فلم تكن (5) وفرض لم يدخل وقته (6) (ويجب) للجماعة (نية) الإمام (الإمامة) (7) .
__________
(1) كأن أحرم بالظهر مثلا، وانتقل إلى العصر بمجرد النية من غير تكبيرة إحرام للفرض الثاني بطلا، يعني الأول والثاني، وفيه تساهل إذا الثاني لم يدخل فيه حتى يقال بطل، بل لم ينعقد بالكلية، ولو قال لم يصح لكان أولى.
(2) أي قطع نية الأول الذي انتقل عنه، ولم ينو الثاني من أوله بتكبيرة الإحرام فلم ينعقد لخلو أوله عن النية، ويصح نفلا إن استمر على نية الصلاة، لأنه قطع نية الفرضية بنية انتقاله عن الفرض الذي نواه أولا دون نية الصلاة فيصير نفلا، لأنه بقي جنس الصلاة في حقه فصحت نفلا، ما لم يقطعها.
(3) وفاقا، كما لو لم يتقدمه إحرام بغيره.
(4) أي وينقلب فرضه نفلا إذا تبين عدم الفرض، لأن نية الفرض تشمل نية النفل، فإذا بطلت نية الفرض بقيت نية مطلق الصلاة، وقال الخلوتي: لعل محله ما لم يكن إماما، أو يضق الوقت.
(5) أي كما لو أحرم بفائتة يظنها عليه، فتبين أنه لم يكن عليه فائتة، فانقلبت نفلا.
(6) أي وكما ينقلب فرض لم يدخل وقته نفلا، لأن الفرض لم يصح، ولم يوجد.
(7) على الأصح عند الأصحاب كالجمعة وفاقا، فينوي الإمام أنه مقتدي به
وعنه: لا تجب نية الإمام وفاقا في غير الجمعة، لحديث ابن عباس، وحديث أنس، وأبي سعيد وغيرهم، كما يأتي فإنها تحصل الجماعة للمأموم وإن لم ينو الإمام الإمامة لأن الغرض حصول الجماعة وقد حصلت بواسطة الاقتداء لأن صلاته حينئذ وقعت جماعة.(1/573)
(و) نية المأموم (الائتمام) (1) لأن الجماعة يتعلق بها أحكام (2) وإنما يتميزان بالنية فكانت شرطا (3) رجلا كان المأموم أو امرأة (4) وإن اعتقد كل منهما أنه إمام الآخر أو مأمومه فسدت صلاتهما (5) كما لو نوى إمامة من لا يصح أن يؤمه (6) .
__________
(1) أي يجب أن ينوي المأموم أنه مقتد وفاقا، وفي الإنصاف: يشترط أن ينوي حاله بلا نزاع، ولا يتصور أن المأموم لا ينوي أنه مؤتم، فإن من وجد إماما يصلي أو شخصا يصلي فإن نوى أنه يقتدي به فهو مأموم وقد حصلت له نية الاقتداء، وإن نوى أن يصلي لنفسه، ولم ينو أنه مقتد بذلك الإمام فهو منفرد، أما إذا أحرم بالصلاة منفردا ثم في أثناء الصلاة نوى أن يقتدي بشخص آخر فيأتي.
(2) كوجوب الاتباع وسقوط الفاتحة، والسهو عن المأموم، وفساد صلاته بفساد صلاة إمامه.
(3) أي إنما تميز الجماعة وغير الجماعة بنية الإمام الإمامة، ونية المأموم الإئتمام فكانت النية في حقهما شرطا ليتميز الإمام عن المأموم، ولأن الجماعة إنما تنعقد بالنية فاعتبرت منهما قياسا لأحدهما على الآخر.
(4) لا فرق نص عليهما.
(5) وعنه أنها صحيحة ويصليان فرادى.
(6) كأمي نوى أن يؤم قارئا وفاسق نوى أن يؤم عدلا وائتم بمن ليس
بإمام وأم من لم يأتم به، وامرأة نوت أن تؤم رجلا، لم تصح صلاة الإمام قال في الفروع: في الأشهر، خلافا للأئمة الثلاثة.(1/574)
أوشك في كونه إماما أو مأموما (1) ولا يشترط تعيين الإمام ولا المأموم (2) ولا يضر جهل المأموم ما قرأ إمامه (3) وإن نوى زيد الاقتداء بعمرو ولم ينو عمرو الإمامة صحت صلاة عمرو وحده (4) وتصح نية الإمامة ظانا حضور مأموم لا شاكا (5) (وإن نوى المنفرد الإئتمام) في أثناء الصلاة (لم يصح) (6) .
__________
(1) لم تصح في الأشهر.
(2) لأنه إذا صلى خلف من يصلي بالناس صح، وكذا الإمام بطريق الأولى، وإن عين إماما أو مأموما فأخطأ لم تصح، وقيل: تصح كانصراف الحاضر بعد دخوله، وكذا إن عين جنازة فأخطأ وقال الشيخ: إن عين وقصده: خلف من حضر، وعلى من حضر صح، لأن عليه الصلاة والسلام أحرم وحده فجاء جابر وجبار فصلى بهما، رواه مسلم، وصلى في العشر الأخير فصلى بصلاته ناس في المسجد، فدل على جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته، قال النووي: وهو صحيح على المشهور من مذاهب أهل العلم.
(3) ولا يخل بصحتها، وقيل: يخل لأنه لا يدري أقرأ الفاتحة أم لا، والمراد: ولا مانع من السماع، لتركه الإنصات الواجب.
(4) مراد هم ولم ينو عمرو من أول الصلاة.
(5) فلا، ولو دخل معه، وإن ظنه لم يحضر، أو حضر ولم يدخل معه لم تصح.
(6) قال في الفروع: على الأصح، وفاقا لأبي حنيفة ورواية عن مالك، ولم تبطل صلاته، ولم يصر إماما كما سيأتي.(1/575)
لأنه لم ينو الإئتمام في ابتداء الصلاة (1) سواء صلى وحده ركعة أو لا، فرضا كانت الصلاة أو نفلا (2) (كـ) ما لا تصح (نية إمامته) في أثناء الصلاة إن كانت (فرضا) لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة (3) ومقتضاه أنه يصح في النفل، وقدمه في المقنع والمحرر وغيرهما (4) .
__________
(1) ولتغير نيته الأولى، وعنه يصح للأحاديث الآتية وغيرها، قال في الإنصاف وغيره: إن سبق اثنان فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما جاز، وهو المذهب سواء نوياه حال دخولهما أو لا.
(2) لا حاجة إليه لما يأتي.
(3) وعنه تصح في الفرض وفاقا، وقال غير واحد: هو قول أكثر أهل العلم، واختاره الموفق والشيخ وغيرهما، قال: لو أحرم منفردا ثم نوى الإمامة صحت صلاته فرضا أو نفلا، وهو رواية عن أحمد، اختارها أبو محمد وغيره، لأنه ثبت في النفل من حديث ابن عباس الآتي، والأصل المساواة، والحاجة داعية إلى ذلك، فصح كحالة الاستخلاف، ويؤيده حديث جابر وجبار في الفرض، رواه مسلم، وله من حديث المغيرة في صلاة عبد الرحمن بن عوف، وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم ركعة فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه المغيرة فركعا الركعة التي سبقا بها، وحديث عائشة الآتي، وحديث أبي سعيد عند أبي داود والترمذي وصححه ابن خزيمة وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وحده وقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه.
(4) قال في الفروع: وهو المنصوص، وفي المقنع: وإن نوى الإمامة صح في النفل، ولم يصح في الفرض، ويحتمل أن يصح، وهو أصح عندي، قال الشارح: لأنه ثبت في النفل بحديث ابن عباس، والأصل المساواة، ومما يقويه حديث جابر وجبار.(1/576)
لأنه صلى الله عليه وسلم قام يتهجد وحده (1) فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه (2) واختار الأكثر: لا يصح في فرض ولا نفل (3) لأنه لم ينو الإمامة في الابتداء، وقدمه في التنقيح وقطع به في المنتهى (4) (وإن انفرد) أي نوى الانفراد (مؤتم بلا عذر) (5) كمرض وغلبة نعاس وتطويل إمام (6) (بطلت) صلاته لتركه متابعة إمامه (7) .
__________
(1) أي يصلي من الليل منفردا، في بيت ميمونة خالة ابن عباس رضي الله عنهم.
(2) ولمسلم معناه من حديث أنس وجابر، وعن عائشة كان يصلي من الليل وجدار الحجر قصير فرأى الناس شخصه فقاموا يصلون بصلاته، ولحديث جابر وجبار ولدعاء الحاجة إليه كالاستخلاف، فإن الصديق لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمام تأخر واقتدى به صلى الله عليه وسلم.
(3) أي اختاره أكثر الأصحاب، لكن القول بصحته فيهما أسعد بالدليل.
(4) وقال في الإقناع: والمنصوص صحة الإمامة في النفل، وهو الصحيح اهـ، وقد تقدم أنه الصحيح أيضا في الفرض، فالنفل أولى، وقال الشافعي وغيره: من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس كائنا من كان.
(5) بأن أحرم مأوما ثم نوى الإنفراد لغير عذر يبيح ترك الجماعة.
(6) أو شيء يفسد صلاته، أو خوف على أهل أو مال، أو فوت رفقة ونحوه من الأعذار، ويخشى من الإطالة.
(7) بغير عذر، وعنه يجوز، ومال إليها الشارح وغيره.(1/577)
ولعذر صحت (1) فإن فارقه في ثانية جمعه لعذر أتمها جمعة (2) (وتبطل صلاة مأموم ببطلان صلاة إمامه) لعذر أو غيره (3) (فلا استخلاف) أي فليس للإمام أن يستخلف من يتم بها، إن سبقه الحدث (4) .
__________
(1) صلاته بلا نزاع ويتمها لحديث جابر قال: صلى معاذ فقرأ سورة البقرة فتأخر رجل فصلى وحده، فقيل له: نافقت. قال: ما نافقت، ولكن لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أفتان أنت يا معاذ، مرتين متفق عليه، ومحل إباحة المفارقة لعذر إن استفاد بمفارقته تعجيل لحوقه لحاجته قبل فراغ إمامه. فإن كان إمامه يعجل ولا يتميز انفراده عنه بنوع تعجيل لم يجز الانفراد، لعدم الفائدة فيه، ذكره ابن عقيل، قال في الفروع، ولم أجد خلافه ومن عذره الخروج من الصف فله المفارقة مطلقا، وإذا زال عذر مأموم بعد المفارقة لم يلزمه الدخول معه، وله ذلك، وعدم الرجوع أولى، لأنه قد فارق إمامه بوجه شرعي، فيبقى على مفارقته.
(2) إذا كان أدرك الأولى معه، لأن الجمعة تدرك بركعة ويأتي.
(3) لارتباطها بها، فأما لعذر فكأن سبقه الحدث، ولغير عذر كأن تعمد الحدث أو غيره من المبطلات، لقوله: إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد الصلاة، رواه أبو داود بإسناد جيد، وعنه: لا تبطل ويتمونها فرادى، قدمه في الفروع، وقال: والأشهر جماعة.
(4) أي غلبة الحدث، وعنه لا تبطل صلاة مأموم، وفاقا لمالك والشافعي، ويتمونها جماعة بغيره أو فرادى، كما تقدم، واحتج أحمد بأن معاوية لما طعن صلوا وحدانا قال المجد: لا تختلف الرواية، وفي الإنصاف وغيره: حيث قلنا بصحة صلاة المأموم فله أن يستخلف على الصحيح من المذهب، وعليه الجمهور وفي الصحيح أن عمر أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف لما طعن، فقدمه فأتم بهم الصلاة اهـ قال الشارح: فما عاب عائب ولا أنكر منكر، فكان كالإجماع وقال النووي وغيره: جاء الاستخلاف عن عمر وعلي وغيرهما من الصحابة، ولم يحك ابن المنذر منعه عن أحد، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقال الموفق وغيره: وتبطل بترك ركن من الإمام أو شرط أو تعمد المفسد وإلا فلا، وفاقا لمالك، واختاره هو والشيخ وغيرهم وقال في الفروع: على الأصح.(1/578)
ولا تبطل صلاة إمام ببطلان صلاة مأموم (1) ويتمها منفردا (2) (وإن أحرم إمام الحي) أي الراتب (3) (وبمن) أي بمأمومين (أحرم بهم نائبه) لغيبته وبنى على صلاة نائبه (وعاد) الإمام (النائب مؤتما صح) (4) لأن أبا بكر صلى، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، وتقدم فصلى بهم، متفق عليه (5) .
__________
(1) بأن سبق المأموم الحدث، أو فسدت صلاته لعذر أو غيره، لأنها غير متعلقة بها.
(2) وإن لم يستدم نية الإمامة، لأنها ليست ضمنا لها، ولا متعلقة بها.
(3) سواء كان الإمام الأعظم أو غيره، والحي القبيلة من العرب.
(4) أي أحرم نائب إمام الحي لغيبة إمام الحي، أو لإذنه ثم حضر في أثنائها إمام الحي، فأحرم بهم، وبني إمام الحي على صلاة نائبه، وعاد الإمام النائب الذي أحرم بالمأمومين أولا مؤتما صح ائتمامه، وائتمام المأمومين.
(5) من حديث سهل بن سعد الساعدي، والأصل عدم الخصوصية.(1/579)
وإن سبق اثنان فأكثر ببعض الصلاة، فائتم أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما (1) أو ائتم مقيم بمثله إذا سلم إمام مسافر صح (2) .
آخر المجلد الأول من حاشية الروض المربع ويليه المجلد الثاني
وأوله: باب صفة الصلاة.
__________
(1) بعد سلام الإمام صح الائتمام، ولا بد أن يكون المؤتم بصاحبه فاته مثل ما فاته، فلو ائتم من فاته ركعتان بمن فاته ركعة أو بالعكس لم يصح الاقتداء.
(2) أي الائتمام، لأنه انتقال من جماعة إلى جماعة أخرى لعذر، فجاز كاللاستخلاف، وظاهر إطلاقه عدم اشتراط الائتمام حال دخولهما مع الإمام، ومن خرج من صلاته يظن أنه أحدث فيها فتبين له أنه لم يكن أحدث بطلت صلاته، لفسخه نية الصلاة بخروجه منها.(1/580)
بسم الله الرحمن الرحيم
باب صفة الصلاة (1)
يسن الخروج إليها بسكينة ووقار (2) .
__________
(1) أي كيفيتها، وهي الهيئة الحاصلة للصلاة، وبيان ما يكره فيها، وأركانها وواجباتها وسننها، وما يتعلق بذلك، إذ الشيء لا يعرف إلا ببيان حقيقته، ولا يوجد إلا بركنه، وعند شرطه، ولا يفعل إلا لحكمه، وحكمها سقوط الواجب عن ذمته في الدنيا، والثواب في الآخرة، إذ حكم الشيء هو ما يفعل لحكمة، والصفة لغة المصدر، يقال وصف الشيء يصفه صفة نعته بما فيه، من: وصف الثوب الجسم إذ أظهر حاله وبين هيئته، والصفة الأمارة القائمة بذات الشيء الموصوف، كالعلم والسواء.
(2) وخوف وخشوع، والسكينة السكون والمهابة، والطمأنينة، والتأني في الخروج، واجتناب العبث، والوقار بفتح الواو: الرزانة والحلم والعظمة بغض الطرف وخفض الصوت، وقلة الإلتفات، وقد وقر يقر وقارا ووقر فهو وقور. وقال القرطبي: الوقار بمعنى السكينة، ذكره على سبيل التأكيد.
وقال النووي: بينهما فرق. فالسكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت، لما في الصحيحين «إذا أتيتم الصلاة» وفي لفظ: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» .
ولمسلم: «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة» وقال ابن القيم: السكينة هي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف، وجمعية القلب على الله، بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها،
وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب، وسببها مراقبة العبد لربه حتى كأنه يراه اهـ.
وينبغي ألا يتكلم بمستهجن ولا يتعاطى ما يكره، للخبر، وقوله {فاسعوا} أي اقصدوا واهتموا، ليس المراد السعي السريع، وإنما هو الاهتمام بها. وقال أحمد: فإن طمع أن يدرك التكبيرة الأولى فلا بأس أن يسرع، ما لم تكن عجلة تقبح. وقال الشيخ: إن خشي فات الجمعة أو الجماعة بالكلية فلا ينبغي أن يكره له الإسراع، لأن ذلك لا ينجبر إذا فات اهـ. ويسن كونه متطهرا، لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة» رواه أبو داود وغيره، ويستحب المحافظة على إدراك تكبيرة الإحرام، بأن يتقدم إلى المسجد قبل وقت الإقامة، وقد جاء في فضل إدراكها آثار كثيرة، وأصح ما قيل تدرك به بأن يحضر تكبيرة الإحرام.(2/3)
ويقارب خطاه (1) وإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى، واليسرى إذا خرج (2) .
__________
(1) أي يسن ذلك، لتكثر حسناته. لحديث زيد بن ثابت: فقارب في الخطا، ثم قال «لتكثر خطاي في طلب الصلاة» وفي الصحيحين «إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطت عنه بها خطيئة» ولحديث «دياركم تكتب آثاركم» رواه مسلم ويسن أن يقول إذا خرج من بيته، ولو لغير الصلاة: ما رواه الترمذي وغيره. وصححه «بسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» وما رواه مسلم «اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، واعطني نورا» وغير ذلك مما ورد.
(2) أي يسن تقديم رجله اليمنى عند دخول المسجد، لما تقدم أنه صلى الله عليه
وسلم كان يحب التيامن في شأنه كله، ويأمر به، وكذا يسن تقديم اليسرى عند الخروج من المسجد، فإن قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر.(2/4)
ويقول ما ورد (1) ولا يشبك أصابعه (2) .
__________
(1) أي ويسن أن يقول ما ورد عند دخوله، ومنه «بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج قال «وافتح لي أبواب فضلك» وهذا الدعاء ثابت في بعض الأصول، والفرق بين المحلين أن المساجد محل تنزل الرحمة، وخارج المسجد محل طلب الرزق، وهو فضل من الله وإحسان، فناسب في كل مكان طلب ما يليق به، وفي جامع المسانيد لابن كثير «وأغلق عني أبواب سخطك وغضبك، واصرف عني الشيطان ووسوسته» و «إذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» متفق عليه.
(2) لحديث أبي سعيد «إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان» رواه أحمد، ولحديث كعب، رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج بين أصابعه رواه الترمذي. وقال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم، وما ورد من تشبيكه صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين ما جاء من النهي عنه معارضة، لأن النهي إنما جاء عن فعله في الصلاة، أو المضي إليها. وفعله صلى الله عليه وسلم ليس في الصلاة ولا في المضي إليها وقال النووي وغيره: اتفق أهل العلم على كراهة تشبيكه الأصابع في طريقه إلى المسجد، وفي المسجد يوم الجمعة وغيره، وسائر أنواع العبث ما دام قاصدا الصلاة، أو منتظرها. لحديث كعب وغيره، ولا يخالف ما ثبت أنه شبك أصابعه في المسجد بعدما سلم من الصلاة، لأن النهي في حق المصلي وقاصد الصلاة، بخلاف من قام إلى ناحية المسجد يعتقد أنه ليس في صلاة اهـ. وإذا كان ينتظر الصلاة فلا يشبك، جمعا بين الأخبار، وكذلك لا يفرقع أصابعه لأنه من العبث.(2/5)
ولا يخوض في حديث الدنيا (1) ويجلس مستقبل القبلة (2) (ويسن) للإمام فالمأموم (القيام عند) قول المقيم: (قد من إقامتها) أي من قد قامت الصلاة (3) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، رواه ابن أبي أوفى (4) .
__________
(1) أي لا يفيض، من خاض في الماء: دخل فيه، وفي الحديث «فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وفي الحديث أيضا «سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة» وفي لفظ «يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم، فلا تجالسوهم، فليس لله فيهم حاجة» .
(2) لأنه خير المجالس للخبر، وتقدم استحباب استقبالها في كل طاعة إلا لدليل.
(3) هذا المذهب، وهو من المفردات، والمراد قيام غير مقيم إلى الصلاة، لأنه يأتي بها قائما، وقال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل الحرمين، ولأنه خبر بمعنى الأمر، ومقصوده الإعلام ليقوموا. قال في المبدع: والمراد بالقيام إليها هو التوجه إليها، ليشمل العاجز عنه.
(4) ... وكان ابن عمر لايقوم حتى يسمع " قد قامت الصلاة " وعن أنس نحوه، وفي صحيح مسلم: كانت الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه.
وفي رواية: كان لا يقيم حتى يخرج، فأول ما يراه يشرع في الإقامة، فإذا رأوه قاموا. وعن سعيد ابن المسيب: إذا قال المؤذن «الله أكبر» ، وجب القيام، وروى عبد الرازق عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الناس كانوا
ساعة يقول المؤذن: «الله أكبر» ، يقومون إلى الصلاة، فلا يأتي صلى
الله عليه وسلم مقامه حتى تعتدل الصفوف. وقال مالك: لم أسمع في
قيام الناس إلى الصلاة بحد محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس،
فإن فيهم الثقيل والخفيف. وذكر القاضي عياض عن مالك وعامة العلماء: يقومون بشروعه في الإقامة، فإن بلالا لا يقيم إلا إذا رآه، ثم إذا رأوه قاموا، وتقدم، وهذا مذهب أحمد وإسحاق وغيرهما. وكان عمر بن عبد العزيز وغيره يقومون في أول بدئه في الإقامة. قال بعض الأصحاب: وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم جلس، وإن لم يكن صلى تحية المسجد لأن يقوم عند قوله: قد قامت الصلاة، لما روى الخلال عن ابن أبي ليلى أنه عليه الصلاة والسلام جاء وبلال في الإقامة فقعد.
وروي عن أحمد، والأولى للداخل عند الإقامة أو قربها أن يستمر قائما، لتحريم الجلوس من غير صلاة من غير وجه، ولم يثبت خلافه، وغلط النووي وغيره من قال يجلس، وابن أبي أوفى هو عبد الله بن أبي أوفى، علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي صحابي شهد الحديبية، وعمر دهرا، ومات بالكوفة سنة سبع وثمانين.(2/6)
وهذا إن رأى المأموم الإمام (1) وإلا قام عند رؤيته (2) ولا يحرم الإمام حتى تفرغ الإقامة (3) .
__________
(1) أو علم قربه، لقوله «إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني خرجت» متفق عليه. وأشار الشارح إلى أن كلام الماتن جار على غير الصحيح من المذهب، وهو كذلك، جزم به في الإنصاف وغيره، وصححه المجد وغيره، وشاهده الخبر، وما مشى عليه الماتن هو رواية عن أحمد، وهو ظاهر المقنع والوجيز وغيرهما.
(2) أي وإلا يرى المأموم والإمام عند قول المؤذن: «قد قامت الصلاة» . قام عند رؤية إمامه، للخبر المتقدم.
(3) أي لا يكبر الإمام تكبيرة الإحرام حتى يفرغ المقيم من الإقامة، لأنه عليه الصلاة والسلام يسوي الصفوف بعد الإقامة. رواه البخاري. وفرغ من باب قعد، ومن باب تعب لغة لبني تميم.(2/7)
(و) تسن (تسوية الصف) بالمناكب والأكعب (1) فيلتفت عن يمينه فيقول: استووا رحمكم الله. وعن يساره كذلك (2) ويكمل الأول فالأول (3) .
__________
(1) عند الإقامة وبعدها. لحديث «سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» متفق عليه. ولهما «لتسون صفوفكم أو ليخالفكن الله بين وجوهكم» وذلك بعدما كاد أن يكبر. وفي الصحيحين «أقيموا صفوفكم» الحديث. قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه. ولأحمد «سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم» ولغيرها من الأحاديث والآثار، وظاهر كلام الشيخ وجوب التسوية، للخبرين وغيرهما. والأمر بتعديل الصفوف متواتر لا خلاف فيه. وقال: من ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه، لا نفي وجوبه، والمناكب مجتمع رأس الكتف والعضد، واحدها منكب بفتح الميم وكسر الكاف، والأكعب المفاصل بين الساق والقدم، والتسوية المسنونة محاذاتها دون أطراف الأصابع.
(2) أي يقول: استووا. وفي الرعاية: اعتدلوا. لحديث أبي مسعود: كان يمسح مناكبنا في الصلاة. ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» رواه مسلم. ولقوله «اعتدلوا وسووا صفوفكم» رواه أبو داود. ولحديث أنس: كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا وهكذا. عن يمينه وعن شماله «استووا وتعادلوا» وكذا خلفاؤه. وكان عثمان وعلي يتعاهدان ذلك، ويقولان: استووا.
وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان، والأولى ترك زيادة: رحمكم الله، لعدم ورودها.
(3) أي ويسن أن يكمل المأمومون الصف الأول فالأول الذي يليه وهكذا، حتى ينتهوا، فلو ترك القادر الأول فالأول كره، للأخبار، إلا مع البعد، فسماع الإمام ورؤية أفعاله أفضل ممن بالأول أو اليمين، لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أفضل من المتعلقة بمكانها.(2/8)
ويتراصون (1) وميمنة والصف الأول للرجال أفضل (2) .
__________
(1) أي يسن تراص المأمومين في الصف، لقوله: «سووا صفوفكم وتراصوا» رواه البخاري. وفيه أيضا «رصوا صفوفكم» أي لاصقوها، حتى لا يكون بينكم فرج. وفيهما «أقيموا صفوفكم وتراصوا» ولأبي داود وغيره «رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق» فالمراصة التصاق بعض المأمومين ببعض، وأصله تراصصوا من: رص الشيء يرصه رصا ألزق بعضه ببعض، وقال الخطابي وغيره: تراصوا تضاموا وتدانوا، ليتصل ما بينكم، وكذا يسن سد خلل الصفوف.
لحديث «سووا صفوفكم، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله» رواه أبو داود بسند صحيح، ولأحمد نحوه، ولغير ذلك من الأحاديث.
(2) أي يمين الإمام أفضل من يساره. لحديث عائشة «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف» رواه أبو داود، ويمين الإمام يصدق على الملاصق، وعلى من وراءه من يمين كل صف. قال في الفروع: ويتوجه احتمال أن بعد يمينه ليس أفضل من قرب يساره، ولعله مرادهم، ومن قرب من الإمام من أيسر الصف فنحو ثلاثة أفضل من الأيمن نحو عشرة، والصف الأول للرجال أفضل من الذي خلفه، ولو قطع الأول المنبر، لقوله صلى الله عليه وسلم «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» متفق عليه.
وقوله: «خير صفوف الرجال أولها» رواه مسلم. أي أكثرها أجرا، وقوله «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصف الأول» قالوا: وعلى الثاني؟ قال في الرابعة «وعلى الثاني» رواه أحمد. وقوله «لا يزال أقوام يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار» رواه أبو داود. وقد تواترت به الآثار. قال في الفروع: وظاهر كلامهم يحافظ عليه، وإن فاتته الركعة. قال: ويتوجه المحافظة على الركعة من نصه على التكبيرة الأولى اهـ. ولأن إدراك الركعة أفضل، فإن نفس العبادة أولى من مكانها.(2/9)
وله ثوابه وثواب من وراءه ما اتصلت الصفوف (1) وكلما قرب منه فهو أفضل (2) والصف الأخير للنساء أفضل (3) (ويقول) قائما في فرض مع القدرة (الله أكبر) (4) .
__________
(1) لاقتدائهم به. قاله الوزير وغيره. وقوله: ما اتصلت، أي مدة دوامها متصلة، فـ (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي فيكون كل إنسان في الأول له ثوابه وثواب الذي يليه، والثاني له ثواب الثالث وما بعده، ومن وقف وراء الإمام فهو أفضل، ولو كان في آخر الصف ممن هو على يمين الإمام ملتصقا به، لأن العبرة بما خلف الإمام، ومن تقدم على الإمام إلى الكعبة في غير جهته فصلاته صحيحة بلا خلاف. ولكن منزلته في الفضيلة كمن وقف بجانب الإمام.
(2) لقوله عليه الصلاة والسلام «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم. وقال الشيخ: وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام وإن كان في الصف الثاني أو الثالث أفضل من الوقوف في طرف الأول مع البعد عن سماع قراءة الإمام، لأن الأول صفة في نفس العبادة فهي أفضل من مكانها.
(3) لقوله «وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» أي أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها عن مطلوب الشرع، فيسن تأخيرهن. وروي «أخروهن حيث أخرهن الله» والمراد صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، أما إذا صلين متميزات عن الرجال، فهن كالرجال.
وليس بين الإقامة والتكبير دعاء مسنون، قيل لأحمد: تقول قبل التكبير شيئًا؟ قال: لا. إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحدٍ من الصحابة.
(4) أي يقول الإمام ثم المأموم، وكذا المنفرد، قائما منتصبا بين يدي الرب تبارك وتعالى. مستقبل القبلة، مستشعرا حضور المتوجه إليه، شاهدا بقلبه قيوميته وكبريائه، متخليا عن الشواغل، متهيئا للدخول على الله، دخول العبد على الملك
بالتعظيم والإجلال: الله أكبر. والراء ساكنة، والقيام مع القدرة ركن في الفرض بإجماع المسلمين، لا تصح إلا به. قال النووي وغيره: من استحله، أو قال ليس بفرض يكفر انتهى، وليس ركنا في النفل إجماعا، والله أكبر من كل شيء أي: أعظم، أو أكبر: كبير، أو الكبير على خلقه، أو أكبر من أن ينسب إليه ما لا يليق بوحدانيته، والكبير العظيم المتعالي، و (أكبر) أفعل تفضيل، وهو لا يستعمل مجردا من الألف واللام إلا مضافا، أو موصولا بمن لفظا أو تقديرا، وتكبيره سبحانه جامع لإثبات كل كمال له، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله، وأكبر من أن يذكر بغير المدح والتمجيد والإثناء الحسن، وحكمة الاستفتاح بها ليستحضر عظمة من يقف بين يديه، وأنه أكبر شيء يخطر بباله، فيخشع له، ويستحيي أن يشتغل قلبه بغيره، ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضر قلبه. وروى ابن ماجه عن حذيفة مرفوعا «إن الرجل إذا دخل في صلاة أقبل الله عليه بوجهه، فلا ينصرف عنه حتى ينقلب أو يحدث حدث سوء» وفي الأثر «لو يعلم من يناجي ما انفتل» ولابن خزيمة «إنما يقوم يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه؟» ونظائره كثيرة، ومناجاة الرب تعالى أرفع وأشرف درجات العبد، وعن أنس مرفوعا «اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكره حري أن يحسنها، وصل صلاة من يظن أن لا صلاة غيرها» حسنه الحافظ، وعن أم سلمة، قال: «فليصل صلاة مودع» ولمسلم «ألا ينظر المصلي كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه» وقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع إنما يحصل لمن استحضر عظمة ملك الملوك، وأنه يناجيه، ويخشى أن يردها عليه، فيفرغ قلبه لها، ويشتغل بها عما عداها، ويؤثرها على ما سواها، فتكون راحته وقرة عينه، قال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» وقال لبلال «أرحنا بالصلاة» .(2/10)
فلا تنعقد إلا بها نطقا (1) لحديث: «تحريمها التكبير» (2) رواه أحمد وغيره (3) .
__________
(1) أي لا تنعقد الصلاة إلا بقول مصل: الله أكبر. إذا قدر عليها، لما فيها من التعظيم والتخصيص، وغيرها لا يقوم مقامها، بل ولا يؤدي معناها. كما قال ابن القيم وغيره، فلا تنعقد الصلاة إلا بها، ولا يجزئه غيرها، وعليه عوام أهل العلم، مالك والشافعي وجمهور السلف والخلف، لنقلهم ذلك نقلا مشهورا، أنه لا يدخل في الصلاة إلا بقوله: الله أكبر. ولما نقل عن بعضهم أنه سنة أو أنه يكفي مجرد النية. قال النووي: لا يصح عنهم مع هذه الأحاديث، ولا تجزئ بغير العربية إجماعا.
(2) أي تحريم ما كان حلالا قبلها كالأكل والكلام ونحو ذلك حاصل بالتكبير، وقد جعل الله لكل عبادة تحريما يدخل منه إليها، فكأن المصلي إذا كبر ودخل في الصلاة كان ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها، فقيل للتكبير تحريم، لمنعه المصلي من ذلك. قال الجوهري: وأحرم الرجل دخل في حرمة لا تنتهك، وسميت تكبيرة الإحرام أي الإحرام بالصلاة.
(3) فرواه أبو داود والترمذي وقال: هذا أصح شيء في هذا الباب، والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم. ولقوله «إذا قمت إلى الصلاة فكبر» وقوله «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه، ويستقبل القبلة ويقول: ألله أكبر» وحديث: «كان إذا استفتح الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: ألله أكبر ولم ينقل أنه كان يستفتح الصلاة بغير لفظ " ألله أكبر"» وقال شيخ الإسلام: ثبت بالنقل المتواتر وإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يفتتحون الصلاة بالتكبير. قال ابن القيم: يتعين ألله أكبر. وذكر الأخبار ثم قال: ولو انعقدت بغيره لفعلها في عمره ولو مرة واحدة.(2/12)
فلا تصح إن نكسه (1) . أو قال: الله الأكبر أو الجليل ونحوه (2) أو مد همزة ألله أو أكبر (3) أو قال: إكبار (4) وإن مططه كره مع بقاء المعنى (5) فإن أتى بالتحريمة أو ابتدأها (6) .
__________
(1) بأن قال: أكبر الله، لأنه لا يكون تكبيرا.
(2) كالكبير والعظيم، أو ألله، أو أكبر، فقط، فإن زاد على التكبير كالله أكبر كبيرا أو ألله أكبر وأعظم، أو أجل، ونحوه كره لأنه محدث.
(3) لم تنعقد وفاقا، لأنه يصير استفهاما، أو زاد بين الكلمتين واوا ساكنة، أو متحركة.
(4) لم تنعقد وفاقا، لأنه جمع كبر بفتح الكاف وهو الطبل.
(5) جزم به في الفروع، ومططه مدده، من مط الشيء يمطه مطا مده، شدد للمبالغة، والمط والمطو والمد واحد، فإن تغير المعنى بأن مد في غير موضع المد لم يجز إجماعا، ويلزم جاهلا تعلمها. قال في الإنصاف: بلا نزاع من حيث الجملة. فإن عجز أو ضاق الوقت كبر بلغته، لقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ويحرم أخرس ونحوه بقلبه، ولا يحرك لسانه. اختاره الشيخ. وقال: لو قيل ببطلان صلاته بذلك لكان أقرب اهـ. وكذا حكم القرآن، وباقي الأذكار، وإن أحسن البعض أتى به، لقوله «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وقيل: المسائل التي يعرف بها فقه الإمام ثلاث: أحدها أن يخفف إحرامه وسلامه، أي يسرع فيهما، لئلا يشاركه المأموم فيهما فتبطل صلاته، وتقصير الوسطى، ودخول المحراب بعد الإقامة.
(6) يعني غير قائم. بأن قال- وهو قاعد في فرض أو راكع ونحوه-: ألله أكبر.
أو ابتدأها قاعدا ثم أتمها قائما، صحت نفلا إن اتسع الوقت.(2/13)
أو أتمها غير قائم صحت نفلا إن اتسع الوقت (1) ويكون حال التحريمة (رافعا يديه) ندبا (2) فإن عجز عن رفع إحداهما رفع الأخرى (3) مع ابتداء التكبير وينهيه معه (4) .
__________
(1) لإتمام النفل والفرض كله قبل خروج الوقت، إلا استأنف الفرض قائما.
(2) أي ويكون المصلي من إمام ومأموم ومنفرد حال التحريمة في فرض أو نفل رافعا يديه معا مع القدرة ندبا بغير خلاف. وقال ابن المنذر: لا يختلف أهل العلم في أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه، وليس بواجب وفاقا. وقال ابن عمر: زينة الصلاة. وقال الشافعي وغيره: تعظيم لله تعالى واتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واليدان هنا الكفان، فإن اليد إذا أطلقت اقتضت الكف، أومأ إليه أحمد، فلو قطعت يده من الكوع رفع الساعد، أو من المرفق رفع العضد، والمندوب في اللغة المدعو إليه، والندب هو الدعاء، وعند الفقهاء ما تعلق الثواب بفعله، ولا يتعلق العقاب بتركه. وقيل: كل ما لا لوم على تركه.
(3) لقوله «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استعطتم» .
(4) أي يبتدئ رفع يديه مع ابتداء التكبير، وينهيه مع إنهائه، لأن الرفع للتكبير، فكان معه، هذا المذهب، وروى أحمد وأبو داود من حديث وائل بن حجر: كان يرفع يديه مع التكبير، وقضيته المعينة أنه ينتهي بانتهائه، وصححه في شرح المهذب، وهو المرجح عند المالكية، وفي الصحيحين عن ابن عمر: كان يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر، فيكون ابتداؤه مع ابتدائه، ولا استصحاب في انتهائه، وصححه النووي في شرح الروضة ومسلم، لأنه لا حد لانتهائه، وقال: لا استحباب في الانتهاء، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع أو العكس تمم الباقي اهـ. ويرفعهما قبله ثم يكبر نص عليه، لخبر ابن عمر الآتي وغيره، وثبت تقديم التكبير على الرفع، لكن قال حافظ وغيره: لم أر من قال بتقديم التكبير على الرفع.(2/14)
(مضمومتي الأصابع ممدودة) الأصابع (1) مستقبلا ببطونها القبلة (2) (حذو) أي مقابل (منكبيه) (3) لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم يكبر. متفق عليه (4) .
__________
(1) لقول أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مدا.
رواه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد حسن.
(2) وفاقا للشافعي. وقيل: قائمة حال الرفع والحط، وهو رواية عن مالك.
(3) وإبهاميه عند شحمتي اذنيه جمعًا بين الاخبار وفقًا للجمهور مالك والشافعي وغيرهما. وقال النووي: مذهب الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه، بحيث تحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، وإبهاماه، شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه. وبهذا جمع الشافعي وغيره بين روايات الأحاديث، واستحسنه الناس منه. أو إلى فروع أذنيه، وحذاء أي إزاء، من حذوته أحذوه حذوا، وحاذيته محاذاة، من باب قاتل، وهي الموازاة، وعنه يخير وهي أشهر، قال ابن القيم: وكان يرفع يديه مع التكبير ممدودة الأصابع مستقبلا بها القبلة إلى فروع أذنيه، وروي إلى منكبيه، ولم يختلف عنه في محل هذا الرفع.
(4) ولحديث وائل وابن عمر المتقدمين. ولحديث علي: إذا قام إلى الصلاة كبر، ورفع يديه حذو منكبيه. صححه الترمذي. ولحديث مالك: كبر ورفع يديه. وحديث أبي حميد وغيرهم في خمسين صحابيا منهم العشرة رضي الله عنهم. قال الحاكم: لا نعلم سنة اتفقوا على روايتها غير هذه، واستدلال الشارح بخبر ابن عمر صريح في أن التكبير إنما هو بعد رفع اليدين، كما هو معلوم من أن (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، وذكره في المتفق عليه، وكذا صاحب المنتقى، وهذا لفظ مسلم والسنن.(2/15)
فإن لم يقدر على الرفع المسنون رفع حسب إمكانه (1) ويسقط بفراغ التكبير كله (2) وكشف يديه هنا وفي الدعاء أفضل (3) ورفعهما إشارة إلى رفع الحجاب بينه وبين ربه (4) (كالسجود) يعني أنه يسن في السجود وضع يديه بالأرض حذو منكبيه (5) .
(ويسمع الإمام) استحبابا بالتكبير كله (من خلفه) من المأمومين ليتابعوه (6) وكذا يجهر بـ «سمع الله لمن حمده» (7) .
__________
(1) أو لم يمكنه رفعهما إلا بالزيادة على المسنون رفعهما، لإتيانه بالسنة وزيادة هو مغلوب عليها، أو كانا في ثوبه رفعهما حيث يمكن.
لحديث وائل: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء، فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم، رواه أبو داود.
وفي رواية: فرأيت الناس عليهم جل الثياب، تتحرك أيديهم تحت الثياب.
(2) يعني رفع اليدين، لأنه سنة فات محلها، ثم يحطهما من غير ذكر.
(3) لأن كشفهما أدل على المقصود، وأظهر في الخشوع.
(4) ذكره ابن شهاب، أو ليستقبل بجميع بدنه، وفي التمهيد وغيره: ورفعهما عند أهل العلم تعظيم لله تعالى، وابتهال إليه، واستسلام له، وخضوع للموقوف بين يديه، واتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) لحديث أبي حميد الآتي وغيره.
(6) فيه لقوله: «إذا كبر فكبروا» و «يسمع» من سمعه بالتشديد، أو أسمعه أي جعله يسمعه.
(7) أي وكذا يستحب لإمام أن يجهر بقول: سمع الله لمن حمده، ليحمد
المأمومون عقبه، لقوله عليه الصلاة والسلام «وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولا يسن جهره بالتحميد، بل يقوله سرا، و (يجهر) بفتح الياء، ويجوز ضمها، يقال جهر بالقراءة ونحوها، وأجهر إذا أعلنها.(2/16)
والتسليمة الأولى (1) فإن لم يمكن إسماع جميعهم جهر به بعض المأمومين (2) لفعل أبي بكر معه صلى الله عليه وسلم متفق عليه (3) (كقراءاته) أي كما يسن لإمام أن يسمع قراءته من خلفه (4) (في أولتي غير الظهرين) أي الظهر والعصر (5) .
__________
(1) أي يسن للإمام الجهر بالتسليمة الأولى، ليتابعه المأمومون في السلام، وكذا بالثانية، اختاره ابن حامد وغيره، لئلا يسابق المأموم الإمام، ولا يقوم قبل تمام الصلاة.
(2) ليسمع من لا يسمع الإمام، لنحو بعد أو كثرة.
(3) من حديث أنس وعائشة وجابر وغيرهم. قال جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه خلفه فإذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا، ولا تبطل به الصلاة، وإن قصد الإعلام، وذكر البرزلي وغيره أن مذهب الجمهور جواز صلاة المسمع، والاقتداء به، وأنه جرى عليه العمل في الأعصار، والعلماء متوافرون. قالوا: وبالجملة فما عليه السلف والخلف من جواز هذا القول حجة بالغة على من خالفهم. وقال الشيخ: إذا كان الإمام يبلغ صوته المأمومين كلهم لم يستحب لأحد المأمومين التبليغ باتفاق المسلمين، لعدم الحاجة إليه.
(4) ليتابعوه، وليحصل لهم استماع قراءته.
(5) غلب أحد الاسمين على الآخر، كالعمرين والقمرين.(2/17)
فيجهر في أولتي المغرب والعشاء والصبح والجمعة والعيدين والكسوف والإستسقاء والتراويح والوتر بقدر ما يسمع المأمومين (1) (وغيره) أي غير الإمام وهو المأموم والمنفرد ليس بذلك كله (2) .
__________
(1) إجماعا في غير كسوف، وفيه عند الجمهور، لفعله عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف، والإسرار فيما عدا ذلك ثبت بإجماع المسلمين، مع الأحاديث الصحيحة المتظاهرة على ذلك، والحكمة في الجهر- والله أعلم- ما ذكره ابن القيم وغيره أن الليل مظنة هدوء الأصوات، وفراغ القلوب، واجتماع الهمم، ومحل مواطأة القلب اللسان، ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر، لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل، فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله تمكن فيه، ولما كان النهار بضد ذلك، كان الأصل في القراءة فيه الإسرار إلا لعارض راجح، كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والإستسقاء والكسوف، فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام الله عليهم، وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة.
(2) أي التكبير والتسميع، والسلام والقراءة، لأنه لا حاجة إليه، وربما لبس على المأمومين إلا أنه يخير منفرد، وقائم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه بين جهره بالقراءة وإخفائه بها، وفي الإنصاف: لو قضى صلاة سر، لم يجهر فيها، سواء قضاها ليلا أو نهارا، لا أعلم فيه خلافا، وحكاه الشارح وغيره، وإن قضى صلاة جهر ليلاً جهر فيها ولا أعلم فيها خلافًا ونهارا لم يجهر على الصحيح من المذهب، وقال النووي: يسن للمنفرد كالإمام، وهو مذهب مالك والشافعي.
قال العبدري: هو مذهب العلماء كافة إلا أبا حنيفة، فجهر المنفرد عنده وإسراره سواء. والمرأة إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة، وإلا فلا تجهر إذا صلت وحدها، ويجوز إن لم يسمعها أجنبي.(2/18)
لكن ينطق به بحيث يسمع (نفسه) وجوبا في كل واجب (1) لأنه لا يكون كلاما بدون الصوت، وهو ما يتأتى سماعه (2) حيث لا مانع، فإن كان، فبحيث يحصل السماع مع عدمه (3) (ثم) إذا فرغ من التكبيرة (يقبض كوع يسراه) بيمينه (4) .
__________
(1) وكذا يجب على كل مصل نطق بكل ركن، كتكبيرة إحرام وتشهد أخير وسلام، وواجب كتسميع وتحميد، وباقي تكبير وتشهد أول.
(2) أي الصوت، وأقرب السامعين إليه نفسه، فيجب بقدر ما يسمعها، واختار الشيخ الاكتفاء بالحروف، وإن لم يسمعها، وهو وجه في المذهب، وقدمه في الفروع، ومال إليه في الإنصاف، واختاره الكرخي وغيره. قال الشيخ: يجب أن يحرك لسانه بالذكر الواجب في الصلاة من القراءة ونحوها مع القدرة. ومن قال: إنها تصح بدونه. يستتاب.
(3) أي حيث لا مانع من السماع كصمم، فإن كان ثم مانع فإنه يجب الجهر بالركن والواجب بحيث يحصل السماع مع عدم المانع، وكذا الأخرس ونحوه كمقطوع اللسان يحرم ونحوه بقلبه، ولا يحرك لسانه حركة مجردة، ولو قيل: إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب، لأنه عبث ينافي الخشوع، وزيادة على المشروع.
(4) لحديث وائل: وضع يده اليمنى على اليسرى. رواه مسلم وغيره. ولأحمد وأبي داود بسند صحيح: ثم وضع كفه اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. ونحوه عن ابن مسعود، وفي الصحيح عن سهل: كانوا يأمرون أن يضع الرجل اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، وفي الترمذي وحسنه: كان يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. وقال ابن الزبير: وضع اليد على اليد من السنة، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم.
وقال الوزير: وأجمعوا على أنه يسن وضع اليمين على الشمال في الصلاة، إلا في إحدى الروايتين عن مالك، فقال مباح، والأخرى مسنون.
وقال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك وغيره اهـ.
وإذا أرسلها أرسلها إرسالا خفيفا، ثم يضع اليمنى على اليسرى، وصححه النووي وغيره، وقيل يرسلهما ثم يرفعهما، فيضع اليمنى على اليسرى، والكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام، من باب باع، وجمعه أكواع، والزند زندان الكوع والكرسوع، قال بعضهم:
وعظم يلي الإبهام كوع وما يلي ... لخنصر كرسوع والرسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب ... ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط(2/19)
ويجعلها (تحت سرته) استحبابا (1) لقول علي: من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة. رواه أحمد وأبو داود (2) .
__________
(1) ذلا بين يدي ربه عز وجل، والسرة هي الموضع الذي في وسط البطن يقطع منه السر بعد الولادة.
وحكى النووي وغيره عن العلماء أن الحكمة في هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث، وأقرب إلى الخشوع.
(2) تقدم أن قول الصحابي: من السنة، له حكم الرفع، لكن قال النووي هذا الأثر اتفقوا على ضعفه، وعنه: على صدره، وفاقا لمالك والشافعي، لحديث وائل: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فوضع يديه على صدره إحداهما على الأخرى، صححه ابن خزيمة وغيره، وحديث هلب وفيه: ورأيته يضع هذه على صدره، رواه أحمد.
قال النووي: ورواتهما كلهم ثقات، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق السرة أو تحتها شيء، وصحح عن علي رضي الله عنه من فعله فوق السرة.
ويعضده ما رواه أبو داود في المراسيل عن طاوس وقال
ابن القيم في كتاب الصلاة لما ساق صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: ثم كان يمسك شماله بيمينه فيضعها عليها فوق المفصل ثم يضعهما على صدره، وقال في موضع آخر لم يصح موضع وضعهما وعنه مخير لأن الجميع مروي، والأمر فيه واسع، واختاره في الإرشاد والمحرر وحكي عن مالك.(2/20)
(وينظر) المصلي استحبابا (مسجده) أي موضع سجوده لأنه أخشع (1) إلا في صلاة خوف لحاجة (2) (ثم) يستفتح ندبا (3) .
__________
(1) وأكف لبصره، وأبلغ في الخضوع، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل في الصلاة طأطأ رأسه، وقال أبو هريرة، كانوا يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما أنزل الله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} رمقوا بأبصارهم إلى موضع سجودهم، ويأتي النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، فيما يكره فيها، وقد أجمع العلماء على استحباب الخشوع والخضوع في الصلاة، وغض البصر عما يلهي، وكراهة الالتفات، وتقريب نظره، وقصره على ما بين يديه، ومسجد بفتح الميم وكسر الجيم وتفتح موضع السجود نفسه، وقال الليث: اسم جامع حيث سجد عليه، وقال الزجاج: كل موضع يتعبد فيه فهو مسجد، ومنه المسجد للجامع.
(2) إذا كان العدو في جهة القبلة، وكذا إذا اشتد الخوف، أو كان خائفا من سيل أو سبع، أو فوات الوقوف بعرفة، أو ضياع مال ونحو ذلك، مما يحصل به الضرر إذا نظر إلى موضع سجوده، وكذا في حال تشهده، فينظر إلى سبابته لحديث، وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته، رواه أحمد وغيره، وفي الغنية: يكره إلصاق الحنك بالصدر.
(3) أي مسنونا عند جمهور الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وأحمد، لما ثبت من الأحاديث الصحيحة وفي المذهب قول بوجوبه، وخالف مالك رحمه الله
والأحاديث الصحيحة متظاهرة بإثباته، وكذا جهر عمر به وخلفه الصحابة حجة عليه، واستفتح بمعنى فتح، وفاتحة الشيء أوله الذي يفتح به.(2/21)
فـ (يقول: سبحانك اللهم) أي أنزهك اللهم عما لا يليق بك (1) (وبحمدك) سبحتك (2) (وتبارك اسمك) أي كثرت بركاته (3) (وتعالى جدك) أي ارتفع قدرك وعظم (4) .
__________
(1) من النقائص والرذائل، وأصل التسبيح التنزيه والتقديس، ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعا، يقال: سبحته أسبحه تسبيحا وسبحانا قدسته، فسبحان اسم مصدر، منصوب بفعل مقدر، لا يجوز إظهاره، ولا يستعمل إلا مضافا.
(2) ويقال الواو عاطفة على محذوف، تقديره: سبحتك بكل ما يليق تسبيحك به، وبحمدك سبحتك، وبنعمتك التي توجب علي حمدا سبحتك، لا بحولي ولا بقوتي، ويشاهد بقلبه ربا منزها عن كل عيب، سالما من كل نقص، محمودا بكل حمد، وحمده يتضمن وصفه بكل كمال.
(3) تبارك أي كمل وتعاظم وتقدس، جاء بناؤها على السعة والمبالغة فدل على كمال بركتها وعظمتها وسعتها، ولا يقال إلا له سبحانه وتعالى، ومن قال: تبارك بمعنى ألقي البركة وبارك فيه، فلم يصب، وإن كان من لوازم كونه متبارك، فإن (تبارك) من باب مجد، والمجد كثرة صفات الجلال والكمال والسعة والفضل.
(4) أي شأنك و (جد) بفتح الجيم العظمة والحظ والسعادة والغناء، وتعالى تعاظم، جاء على بناء السعة والمبالغة، فدل على كمال العلو ونهايته، وقدرك بسكون الدال وفتحها أي علا جلالك وارتفعت عظمتك، وجلت فوق كل عظمة، وعلا شأنك على كل شأن، وقهر سلطانك كل سلطان.(2/22)
(ولا إله غيرك) أي لا إله يستحق أن يعبد غيرك (1) كان عليه الصلاة والسلام يستفتح بذلك، رواه أحمد وغيره (2) .
__________
(1) فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات، التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع.
(2) قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من التابعين وغيرهم، قال أحمد: وأنا أذهب إليه، وفي صحيح مسلم أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات، يعلمهن الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الأكابر، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في الفريضة، ما فعل ذلك عمر، وأقره المسلمون، وروي عن أبي بكر وابن مسعود، قال المجد: واختيار هؤلاء وجهر عمر به يدل على أنه الأفضل، وأنه الذي كان يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم غالبا، وقال الضحاك والربيع وابن زيد في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي إلى الصلاة سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ولاشتماله على أفضل الكلام بعد كتاب الله، ولأنه أخلص في الثناء على الله، وغيره من الاستفتاحات وإن كانت أصح منه، فإنما هي متضمنة للدعاء، والثناء أفضل من الدعاء، وعامتها في قيام الليل، وقال أحمد: إنما هي عندي في التطوع، ولأنه إنشاء للثناء على الرب، متضمن للإخبار عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وغير ذلك مما يرجع الأخذ به، ويجوز الاستفتاح بكل ما ورد، قال الشيخ: الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة باتفاق المسلمين، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يداوم على استفتاح واحد قطعا، والأفضل أن يأتي بالعبادات المتنوعة على وجوه متنوعة بكل نوع منها أحيانا، كالاستفتاحات ولأحمد رحمه الله أصل مستمر في جميع صفات العبادات قوليها وفعليها، يستحسن كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشيء منه، ولا يستحب أن يجمع بينها بل هذا تارة، وهذا تارة، وصوبه في الإنصاف.(2/23)
(ثم يستعيذ) ندبا (1) فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2) (ثم يبسمل) ندبا فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم (3) .
__________
(1) وهو سنة عند عامة السلف للآيات والأخبار، وأوجبة عطاء، والثوري، لقوله تعالى {فَاسْتَعِذْ} ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ولأنها تدرأ شر الشيطان، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، واستحبه جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وحكى الإجماع عليه ابن جرير وغيره.
(2) أي ألجأ إلى الله وأعتصم به من الشيطان الرجيم المطرود المبعد عن رحمة الله، لا يضرني في ديني ولا في دنياي، والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس من: شطن أي بعد لبعده من الخير، وقيل من شاط يشيط، إذا هلك واحترق، وإذا أطلق: إبليس، والرجيم بمعنى المرجوم، أي المطرود المبعد، وقيل: بمعنى راجم أي يرجم غيره بالإغواء، وتقدم نحوه، والتعوذ بهذا اللفظ مجمع عليه، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} أي إذا أردت القراءة فإنك إذا استعذت بالله فقد أويت إلى ركنه الشديد، واعتصمت بحوله وقوته من عدوك الذي يريد أن يقطعك عن ربك، ويباعدك من قربه، فإن حقيقتها الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، فإنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته، وإخلاصه فيها، حتى يذكره ما لم يكن يذكره من قبل، ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم، واستعانة بالله، واعتراف له بالقدرة، وللعبد بالعجز عن مقاومة هذا العدو الذي يريده وهو لا يراه، بالذي يرى الشيطان، ولا يراه الشيطان، وكيفما تعوذ من الوارد فحسن، واختار الشيخ التعوذ أول كل قراءة.
(3) إجماعا قبل الفاتحة، إلا ما روي عن مالك مع أنه وافق في السورة، حتى قيل بوجوبها، كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، فتأكد الندب.(2/24)
وهي قرآن، آية منه، نزلت فصلا بين السور (1) غير براءة فيكره ابتداؤها بها (2) ويكون الاستفتاح والتعوذ بالبسملة (سرا) (3) ويخير في غير صلاة في الجهر بالبسملة (4) (وليست) البسملة (من الفاتحة) (5) .
__________
(1) وقبل الفاتحة على الأصح، واحتج أحمد بأن الصحابة أجمعوا على هذا في المصحف، وهي بعض آية في النمل.
(2) لأنها مع الأنفال كالسورة الواحدة، قرنت قصتها بقصتها، ولم يذكر بينهما بسملة باتفاق الناس، ولنزولها بالسيف.
(3) أما الاستفتاح والتعوذ فسرا إجماعا، وليسا واجبين، ويسقطان بفوات محلهما، وكذا البسملة، وأما كون البسملة سرا، فلحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الذي يسمع منهم لا يجهرون بالبسملة، فلا يسن الجهر بها قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، قال الشيخ: ويستحب الجهر بها للتأليف، واختار أنه يجهر بها وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها تعليما للسنة، وذكر أن المداومة على الجهر بذلك بدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأحاديث المصرحة في الجهر بها كلها موضوعة، وذكر الطحاوي أن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وذكر ابن القيم أن الجهر بها تفرد به نعيم من بين أصحاب أبي هريرة، وهم ثمان مائة ما بين صاحب وتابع.
(4) قال القاضي وغيره: كالقراءة.
(5) على الأصح، وجزم به غير واحد، وذكره القاضي إجماعا سابقا.
وقال الشيخ: البسملة آية من كتاب الله في أول كل سورة سوى براءة وليست
من السور على المنصوص عن أحمد، وهو أوسط الأقوال وأعدلها، وبه تجتمع الأدلة.(2/25)
وتستحب عند فعل كل مهم (1) (ثم يقرأ الفاتحة) تامة بتشديداتها (2) وهي ركن في كل ركعة (3) وهي أفضل سورة (4) وآية الكرسي أعظم آية (5) وسميت فاتحة لأنه يفتتح بقراءتها الصلاة، وبكتابتها في المصاحف (6) .
__________
(1) فتذكر في ابتداء جميع الأفعال، وعند دخول المنزل والخروج منه للبركة، وهي تطرد الشيطان، ومستحبة تبعا لا استقلالا.
قال أحمد: لا تكتب أمام الشعر ولا معه.
قال الشيخ: وتكتب أوائل الكتب، كما كتبها سليمان ونبينا عليهما السلام اهـ وتقدم ما تجب فيه وتسن وتكره وتحرم.
(2) وجوبا مع القدرة على غير مأموم.
(3) وفاقا لمالك والشافعي، لحديث أبي قتادة، كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الأخريين بأم الكتاب، ولقوله صلوا كما رأيتموني أصلي ولحديث «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» ، متفق عليها.
ولمسلم «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» .
(4) قاله الشيخ وغيره، لقوله عليه الصلاة والسلام أعظم سورة في القرآن {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، الذي أوتيته رواه البخاري.
(5) لقوله عليه الصلاة والسلام آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله رواه مسلم وغيره، وللترمذي وغيره إنها سيدة أي القرآن قال الشيخ: كما نطقت به النصوص.
(6) وفاتحة الشيء أوله الذي يفتتح به، وتسمى الحمد والسبع المثاني، وأم
الكتاب وأم القرآن، لأن المقصود منه تقرير الإلهيات، والمعاد والنبوات، وإثبات القضاء والقدرة لله تعالى، والفاتحة مشتملة على ذلك، قال الحسن: أودع فيها معاني القرآن، كما أودع فيه معاني الكتب السابقة، وقاله ابن كثير وغيره: اشتملت على حمد الله والثناء عليه، وذكر المعاد وإرشاد العباد إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرئ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده، وإلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، والتثبيت عليه حتى يفضي بهم إلى جواز الصراط يوم القيامة المفضي إلى جنات النعيم، في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعلى الترغيب في الأعمال الصالحة، والتحذير من مسالك الباطل، لئلا يحشروا مع سالكيها، وهم المغضوب عليهم والضالون اهـ وجمعت معانيها في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها سر الخلق، وأمر الدنيا والآخرة، ومن فاز بمعانيها فقد فاز من كماله بأوفر نصيب.(2/26)
وفيها إحدى عشرة تشديدة (1) ويقرؤها مرتبة متوالية (2) (فإن قطعها بذكر أو سكوت غير مشروعين وطال) عرفا أعادها (3) .
__________
(1) بغير خلاف، وهي في الله، ورب، والرحمن، والرحيم، والدين، وإياك، وإياك والصراط والذين، وفي الضالين اثنتان.
(2) أي يجعل كل آية وكلمة في مرتبتها، على نظمها المعروف، ويتابع بينها، لأنه مناط الإعجاز، ولا يفصل بين شيء منها وما بعده بأكثر من سكتة التنفس أو التأمل.
(3) أي قطع الفاتحة غير مأموم بذكر أو دعاء أو قرآن كثير لا لتنبيه، أو قطعها بسكوت غير مشروعين، أي الذكر والسكوت، وطال القطع بالذكر أو السكوت غير المشروعين عرفا، أعاد الفاتحة لقطعه موالاتها، قال الكسائي: الذكر باللسان بالكسر ضد الإنصات، وبالضم بالقلب ضد النسيان.(2/27)
فإن كان مشروعا كسؤال الرحمة عند تلاوة آية رحمة (1) ، وكالسكوت لاستماع قراءة إمامه (2) وكسجود للتلاوة مع إمامه، لم يبطل ما مضى من قراءتها مطلقًا (3) (أو ترك منها تشديدة أو حرفا (4) أو ترتيبا لزم غير مأموم إعادتها) أي إعادة الفاتحة فيستأنفها إن تعمد (5) .
__________
(1) والتعوذ عند آية عذاب لم يبطل ما مضى من قراءتها، لوروده ويأتي.
(2) بعد شروعه في قراءة الفاتحة، لم يعد ما قرأ منها، لأنه سكوت مشروع، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقوله عليه الصلاة والسلام: وإذا قرأ فأنصتوا
(3) أي طال أو لم يطل، تعمد القطع أو لا، لأنه ليس بإعراض، وإن كان سهوا عفي عنه، قال ابن تميم: أو سكت سكوتا كثيرا نسيانا، أو نوما، أو انتقل إلى غيرها فطال، بنى على ما قرأ منها.
(4) أي من الفاتحة، وقد فات محله وبعد عنه، وبحيث يخل بالموالاة استأنفها فإن كان قريبا فأعاد الكلمة أجزأ، كمن نطق بالكلمة على غير الصواب، فيأتي بها على وجه الصواب، والحرف المشدد أقيم مقام حرفين، لا إن لينها لأنه لا يحيل المعنى.
(5) أي يبتدئها إن تعمد ترك حرف أو تشديدة أوترتيب وهو جعل كل شيء في مرتبته، فإذا قدم بعضها على بعض لم يسم قارئا لها عرفا، ولا يعتد بما قرأ منها، ومفهومه أنه إذ لم يتعمد لم يستأنف، وفيه احتمال يجب تمييزه، وهو أنه إن كان من جهة قطع الموالاة لم يستأنف وبنى، وإن كان ترك تشديدة أو حرفا فعلى ما تقدم، وإن فاتت الموالاة استأنف، وإلا أعاد الكلمة، والمراد في ذلك الإمام والمنفرد، وأما المأموم فلا يلزمه ويأتي.(2/28)
ويستحب أن يقرأها مرتلة (1) معربة (2) يقف عند كل آية، كقراءته عليه الصلاة والسلام (3) ويكره الإفراط في التشديد والمد (4) .
__________
(1) لقوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً *} والترتيل التمهيل والترسل والتبيين في القرآن من غير بغي، قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة، وقال في قوله: زينوا القرآن بأصواتكم قال: يحسنه بصوته من غير تكلف، وقال الشيخ: هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم، ينفذ اللفظ إلى الأسماع، والمعاني إلى القلوب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس بالوسوسة في خروج الحروف إلخ، ويأتي.
(2) بتخفيف الراء، فلا يسكن الكاف من مالك، والنون من الذين ونحو ذلك محسنة مفصحة غير ملحون فيها، لقوله: زينوا أصواتكم بالقرآن، وقوله: ما أذن الله لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به، ما أذن أي استمع وفي لفظ حسن الترنم بالقرآن، وهي آكد.
(3) وإن كانت متعلقة بما بعدها، فإن قراءته صلى الله عليه وسلم كانت مدا يقف عند كل آية ويمد بها صوته، قالت أم سلمة: كان يقطع قراءته آية آية، قال الشيخ: ووقوف القارئ على رءوس الآيات سنة، وإن كان الآية الثانية متعلقة بالأولى، تعلق الصفة بالموصوف، أو غير ذلك، والقراءة القليلة بتفكر أفضل من الكثيرة بلا تفكر، وهو المنصوص عن الصحابة صريحا.
(4) الإفراط الإسراف ومجاوزة الحد، فيكره في التشديد، بحيث يزيد على حرف ساكن، وفي المد لأنه ربما جعل الحركات حرفا، ويمكن حروف المد واللين، ما لم يخرج إلى التمطيط والفرق بين الإفراط والتفريط أن الإفراط يستعمل في مجاوزة الحد من جانب الزيادة والكمال، والتفريط يستعمل في مجاوزة الحد من جانب النقصان والتقصير، فإذا فرغ قال: آمين إجماعا.(2/29)
(ويجهر الكل) أي المنفرد والإمام والمأموم معًا (1) (بآمين في) الصلاة (الجهرية) (2) بعد سكتة لطيفة (3) ليعلم أنها ليست من القرآن، وإنما هي طابع الدعاء (4) .
__________
(1) أي جميعا، وحكي وجوبه على المأموم، والجمهور أنه مسنون، وقال الشافعي: يجهر به الإمام، وفي المأموم قولان، وعن مالك بالعكس، ويقال: جهر بالقراءة وأجهر بها إذا أعلنها، و (معًا) تستعمل مفردة غير مضافة منونة، وتكون حالا وتستعمل للاثنين والجماعة.
(2) المغرب والعشاء والفجر والجمعة والعيد والاستسقاء والكسوف، لحديث أبي هريرة إذا أمن الإمام فأمنوا يعني: إذا شرع في التأمين فأمنوا، أو إذا أراد التأمين ليتوافق تأمين المأموم والإمام معًا، فالجمهور على «المقارنة فإنه من وافق تأمنيه تأمين الملائكة غفر له» ، متفق عليه، يعني ممن يشهد تلك الصلاة منهم، قيل: في الزمان، وقيل: في الإجابة، وقيل: في الإخلاص وقوله: إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين، أي حتى يقع تأمينكم وتأمينه معا، ولحديث أبي وائل: كان يقول: آمين يمد بها صوته، رواه أحمد وغيره، وقال الحافظ وابن القيم وغيرهما: سنده صحيح، ولحديث أبي هريرة: حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج المسجد، صححه البيهقي والحاكم، قال الشافعي: ولم يزل أهل العلم عليه، ولأنه دعاء بالاستجابة فسن الجهر به لجمهور به، ويجهر بها غير مصل إن جهر بالقراءة، وآمين بفتح الهمزة مع المد، ويجوز القصر والإمالة وهي اسم فعل موضوع لاستجابة الدعاء مبينة على الفتح عند الدرج، وتسكن عند الوقوف، لأنه كالأصوات.
(3) أي صغيرة ولطف الشيء صغر ودق، ضد ضخم.
(4) أي ليست من الفاتحة إجماعًا، وإنما هي تأمين على الدعاء، وطابع بفتح
الباء، والكسر فيه لغة، أي ختم على الدعاء، كخاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من فساده، وإظهار ما فيه، فالمعنى أن الإتيان بالتأمين طابع يكون كالخاتم لهذا الدعاء.(2/30)
ومعناه: اللهم استجب (1) ويحرم تشديد ميمها (2) فإن تركه إمام أو أسره، أتى به مأموم جهرا (3) ويلزم الجاهل تعلم الفاتحة (4) .
__________
(1) أي لنا قاله الأكثر، أي اللهم استجب لنا ما سألناك من الهداية إلى الصراط المستقيم إلى آخره، وقال ابن عباس: معناه كذلك فليكن يعني الدعاء، وروي عنه مرفوعا قال: رب افعل.
(2) لأن معناه قاصدين وتبطل به مطلقا.
(3) أي فإن ترك التأمين إمام عمدا أو سهوا، أو أسره أتى به مأموم جهرا، ليذكر الناسي ولأن جهر المأموم سنة فلا يسقط بترك الإمام له، ولا يتوقف على تأمينه لعموم قوله: إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين، ويؤمن من لم يسمع قراءة الإمام، ولو كان مشغولا بقراءة الفاتحة، ولا تسقط الموالاة لأنه مأمور بها وقيل: لا يسن تأمين المأموم إلا أن سمع قراءة إمامه كالتأمين على الدعاء، ويؤيد القول الأول كونه معلوما، وقوله: «إذا أمن فأمنوا» لكل من سمعه من مصل وغيره، وفي شرح المحرر وغيره، لو ترك التأمين حتى اشتغل بغيره لم يعد إليه لأنه سنة فات محلها.
(4) لأنها واجبة في الصلاة إن أمكنه كشرطها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن لم يفعل مع القدرة لم تصح صلاة إمام ومنفرد، وإن ضاق الوقت، أو عجز سقط الوجوب، ويحرم أن يترجم عنه بلغة أخرى، لقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} قال أحمد وغيره: القرآن معجزة بنفسه، أي باللفظ والمعنى، إلا إذا احتاج إلى تفهيمه فيحسن قاله الشيخ وغيره، وقال:
أما القرآن فلا يقرأ بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر، عند الجمهور وهو الصواب الذي لا ريب فيه، ولا يدعى الله ويذكر بغير العربية، واللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون اهـ فإن عجز عن تعلمها لزمه قراءة قدرها من أي سورة شاء، فإن لم يعرف إلا آية كررها بقدر الفاتحة، فإن عجز لزمه قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولحديث إن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وهلله وكبره، رواه أبو داود والترمذي، فإن لم يعرف شيئًا وقف بقدر الفاتحة وفاقا، وهل يلزم الحفظ عن ظهر قلب، أم تكفي قراءتها في المصحف؟ استظهر ابن نصر الله الثاني، وإنما يلزم التعلم المذكور إذا أراد أن يصلي إماما أو منفردا، وكذا قراءة الواجب من نحو صحيفة.(2/31)
والذكر الواجب (1) ومن صلى وتلقف القراءة من غيره صحت (2) (ثم يقرأ بعدها) أي بعد الفاتحة (سورة) ندبا كاملة (3) .
__________
(1) أي يلزم الجاهل تعلم الذكر الواجب في الصلاة كتسبيح ركوع وسجود وتشهد.
(2) مع التوالي لإتيانه بفرضها، وتلقف الشيء تناوله بسرعة، ومنه: تلقفه من فيه: إذا حفظه والمعنى أخذها من لفظ غيره بسرعة، فإن لم يكن بسرعة بل مع تفريق طويل لم يعتد بها، وقال الشيخ: لو قال مع إمامه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كره، وإن قاله وهو يسمع بطلت في وجه.
(3) لحديث أبي قتادة وأبي برزة وغيرهما، ونقل نقلا متواترا، وأمر به معاذا، وليست واجبة فلو اقتصر على الفاتحة أجزأته الصلاة وفاقا، حكاه جمع، والسورة قيل من الإبانة والارتفاع، فكأن القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة، وقيل: لشرفها وارتفاعها، كسور البلد، وقيل: لكونها قطعة من القرآن، وجزءا منه، وقيل لتمامها وكمالها، أو من الجمع والإحاطة لآياتها.(2/32)
فيستفتحها ببسم الله الرحمن الرحيم (1) وتجوز آية إلا أن أحمد استحب كونها طويلة كآية الدين والكرسي (2) ونص على جواز تفريق السورة في ركعتين، لفعله عليه الصلاة والسلام (3) ولا يعتد بالسورة قبل الفاتحة (4) ويكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة (5) .
__________
(1) أي يستفتح السورة التي يقرؤها بعد الفاتحة بالبسملة كالفاتحة، وكذا خارج الصلاة إجماعا.
(2) آية الدين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية، وآية الكرسي (اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) سميت بذلك لذكر الكرسي فيها فتجوز قراءة آية نحو هاتين الآيتين، لحديث: كان يقرأ في ركعتي الفجر بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ} وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية، رواه مسلم وغيره، ولأنا تشبه بعض السور القصار، ولا يجوز آية لا تتعلق بحكم نحو {ثُمَّ نَظَرَ} و {مُدْهَامَّتَانِ} .
(3) فإنه كان يقرأ السورة كاملة، وربما قرأ السورة في الركعتين، كما في حديث عائشة: أنه كان يقرأ البقرة في الركعتين، وثبتت قراءته الأعراف في ركعتين، والطور والمرسلات وغيرها، وكذا تكرار سورة في ركعتين، وجمع سورتين في ركعة، وكذا قراءة خواتيم السور، إلحاقا لها بالأوائل لأن كلاًّ منهما بعض سورة، وقال قتادة: كلٌّ كتابُ الله، ونص الشيء رفعه، فكأنه مرفوع إلى الإمام أحمد، يقال: نصصت الحديث إلى فلان، رفعته.
(4) قاله القاضي عياض وغيره.
(5) فرضًا كانت أو نفلا، لأنه خلاف السنة، ولا تفسد به الصلاة.(2/33)
والقراءة بكل القرآن في فرض، لعدم نقله، وللإطالة (1) (و) تكون السورة (في) صلاة (الصبح من طوال المفصل) بكسر الطاء (2) وأوله (ق) (3) ولا يكره لعذر كمرض وسفر من قصاره (4) ولا يكره بطواله (5) (و) تكون السورة (في) صلاة (المغرب من قصاره) (6) .
__________
(1) لا كله في الفرائض على ترتيب السور، وعلم منه أنه لا تكره بكله في نفل، كما نقل عن بعض السلف أنه كان يقرأ القرآن في ركعتين وفي ركعة.
(2) لا غير ويقال: طياله جمع طويل وطويلة، وأما بضمها فالرجل الطويل وبفتحها المدة، والمفصل اسم مفعول من: فصلت الشيء جعلته فصولا متمايزة ومنه سمي حزب المفصل، لفصل بعضه عن بعض، أو لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، أو لإحكامه، وقلة المنسوخ فيه، وهو الحزب السابع من القرآن.
(3) أي أول المفصل سورة {ق} لما روى أبو داود عن أوس قال: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثًا وخمسًا، وسبعًا، وتسعًا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد، فمن (ق) إلى (عم) أوله، وأوساطه منها إلى (الضحى) والقصار إلى الآخر.
(4) أي قصار المفصل، وكغلبة نعاس، ولزوم غريم، وخوف، لما روى أبو داود وغيره أنه قرأ بـ (إذا زلزلت) وبالمعوذتين، وإلا يكن عذر كره بقصاره في صلاة فجر نص عليه، لمخالفته السنة، وقصار بكسر القاف، جمع قصيرة، ككرام وكريمة.
(5) بل يسن كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وهذه الكلمة مثبتة في بعض النسخ.
(6) أي قصار المفصل في الغالب، لحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة
قال: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمام كان بالمدينة، قال سليمان. فصليت خلفه فكان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل. رواه أحمد والترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح.(2/34)
ولا يكره بطواله (1) (و) تكون السورة (في الباقي) من الصلوات كالظهرين والعشاء (من أوساطه) (2) .
__________
(1) أي طوال المفصل إن لم يكن عذرًا يقتضي التخفيف، بل يسن، لأنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في المغرب بالأعراف، وقرأ بالطور، وقرأ بالمرسلات فهديه أن لا يقتصر على قصاره، والمداومة عليه خلاف السنة، وهو فعل مروان، وأنكره عليه زيد بن ثابت، ولو كانت المواظبة على القراءة بقصار المفصل في المغرب محض السنة لما حسن من هذه الصحابي الجليل إنكارها، ولو كان الأمر كذلك، لما سكت مروان في مقام الإنكار عليه، والحق أن القراءة في المغرب بطوال المفصل، وقصاره، وسائر السور سنة، قال ابن عبد البر: روي أنه قال فيها بـ (المص) وبالصافات، والدخان، وسبح، والتين، وبالمرسلات، وكان يقرأ فيها بقصار المفصل، قال: وكلها آثار صحاح ومشهورة.
(2) جمع وسط بتحريك السين، بين القصار والطوال، والوسط اسم لما بين طرفي الشيء، وتقدم أنه من (عم) إلى (الضحى) وفي صحيح مسلم من حديث جابر: كان يقرأ في الظهر بـ (والليل إذا يغشى) وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك، وقصة معاذ في العشاء «يكفيك أن تقرأ بـ {الشمس وضحاها} و (الضحى) (والليل إذا يغشى) و (سبح اسم ربك الأعلى) »
ولأبي داود عن جابر: يقرأ في الظهر والعصر بـ {والسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ} (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) وشبهها وإن قرأ على خلاف ذلك
في بعض الأوقات فحسن، كما ورد قال أبو سعيد: كانت صلاة الظهر
تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، مما يطيلها، رواه مسلم، وكان يقرأ فيها تارة بقدر {الم تنزيل} وتارة بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و (سبح) ونحوهما والعصر على النصف من ذلك، والعشاء قرأ فيها بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ووقت لمعاذ فيها ما تقدم وقال الشيخ: ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية، ويستحب أن يمد في الأوليين، ويحذف في الآخريين، لما رواه سعد بن أبي وقاص مرفوعا وعامة فقهاء الحديث على هذا اهـ فقوله: من أوساطه، فيه إجمال فليس على حد سواء، قال الشارح: وأكثر أهل العلم يرون أنه لا تسن الزيادة على فاتحة الكتاب في غير الأوليين من كل صلاة، قال ابن سيرين: لا أعلم أنهم يختلفون في أنه يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الآخريين بفاتحة الكتاب روي عن ابن مسعود وغيره، وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وأحد قولي الشافعي، لحديث أبي قتادة: وفي الآخريين بأم الكتاب.(2/35)
ويحرم تنكيس الكلمات (1) وتبطل به (2) ويكره تنكيس السور والآيات (3) .
__________
(1) إجماعا للإخلال بنظمه.
(2) وفاقًا، لأنه يصير بإخلال نظمه كلاما أجنبيًّا يبطل الصلاة عمده وسهوه.
(3) أما السور فقيل يكره وذلك كأن يقرأ {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثم بعدها {الضحى} في ركعة أو ركعتين، لماروي عن ابن مسعود فيمن يقرأ القرآن منكسا، قال: ذلك منكوس القلب، وعنه: لا يكره اختاره غير واحد لقراءته عليه الصلاة والسلام النساء قبل آل عمران، واحتج أحمد بأن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه على ذلك ولأن ترتيبها بالاجتهاد في قول جمهور العلماء، فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة، ولهذا تنوعت
مصاحف الصحابة، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار
هذا مما سنه الخلفاء الراشدون ودلت السنة على أن لهم سنة يجب
اتباعها وأما تنكيس الآيات فقال الشيخ وغيره: يحرم لأن الآيات قد وضعها صلى الله عليه وسلم ولما فيه من مخالفة النص، وتغيير المعنى، وقال: ترتيب الآيات واجب، لأن ترتيبها بالنص إجماعا، وفي الفروع، ودليل الكراهة فقط غير ظاهر، والاحتجاج بتعليمه فيه نظر، فإن كان للحاجة، لأن القرآن كان ينزل بحسب الوقائع.(2/36)
ولا تكره ملازمة سورة، مع اعتقاد جواز غيرها (1) (ولا تصح) الصلاة (بقراءة خارجة عن مصحف عثمان) بن عفان رضي الله عنه (2) .
__________
(1) ومع اعتقاد صحة الصلاة بغيرها، يعني بعد الفاتحة في الأوليين، لما في الصحيح أن رجلا من الأنصار كان يؤمهم فكان يقرأ قبل كل سورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ثم يقرأ سورة أخرى معها، وفي لفظ يختم بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملك على لزوم هذه السورة، فقال: إني أحبها، فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» ، فإن لم يعتقد جواز غيرها، أو صحة الصلاة بغيرها حرم اعتقاده لفساده.
(2) أي وتحرم، لعدم تواتره، ولا يثبت كونه قرآنا، وإن ثبتت فمنسوخة بالعرضة الآخرة، وهي قراءة زيد وغيره، وهي التي أمر الخلفاء بكتابتها، وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم، وعنه: يصح إذا صح سنده، لصلاة الصحابة بعضهم خلف بعض، اختاره ابن الجوزي والشيخ وغيرهما، وقال: هي أنصهما، وصوبه في تصحيح الفروع، قال الشيخ: وقول أئمة السلف وغيرهم، مصحف عثمان أحد الحروف السبعة، وتتعلق به الأحكام، فإن الذي عليه السلف أن كل قراءة، وافقت العربية أو أحد المصاحف العثمانية وصح إسنادها فهي قراءة صحيحة، لا يجوز ردها، بل هي من الأحرف السبعة، ولا نزاع أن الحروف السبعة التي أنزل عليها لا تتضمن تناقض
المعنى، والأحرف السبعة ليست هي قراءات السبعة، وإنما أرادوا جمع قراءات سبعة مشاهير، ليكون موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها، لا أنها الحروف السبعة أو أن هؤلاء لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم، وقال: لم يتنازع علماء المسلمين في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش أو يعقوب فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين، ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة، كثبوت هذه السبعة، يقرؤنه في الصلاة وخارجها، وذلك متفق عليه بين العلماء، وقال: يجوز أن يقرأ بعض القرآن بحرف أبي عمرو، وبعضه بحرف نافع، وسواء كان ذلك في ركعة أو ركعتين، وسواء كان خارج الصلاة أو داخلها، وقال: لا نعلم أحدا من المسلمين منع من القراءة الزائدة على السبع، ولكن من لم يكن عالماً، أو لم يثبت عنده ليس له أن يقرأ بما لا يعلم، ولا ينكر على من علم ما لا يعلمه اهـ.
وعثمان رضي الله عنه هو ثالث الخلفاء الراشدين، ذو النورين ابن عفان من بني عبد شمس بن عبد مناف، ولد في السادسة بعد الفيل، ومن أشهر فضائله جمع المصحف، ومن فضائله أنه أول من هاجر إلى الحبشة، وبايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجه رقية، ثم أم كلثوم، بويع بالخلافة سنة أربع وعشرين وقتل سنة خمس وثلاثين.(2/37)
كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (1) وتصح بما وافق مصحف عثمان وصح سنده (2) .
__________
(1) يعني لعدم تواترها، قال الشيخ: وهو قول أكثر العلماء، وابن مسعود هو عبد الله بن مسعود بن غافل، بن حبيب بن قارب بن مخزوم الهذلي، أحد السابقين، صاحب نعلي النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» مات رضي الله عنه بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
(2) وفاقا، لأن الصحابة كانوا يصلون بقراءتهم في عصره عليه الصلاة والسلام وبعده كانت صلاتهم صحيحة بلا شك، والمذهب: تكره قراءة تخالف عرف البلد الذي يصلي فيه، وظاهره ولو كانت موافقة للمصحف العثماني.(2/38)
وإن لم يكن من العشرة (1) وتتعلق به الأحكام (2) وإن كان في القراءة زيادة حرف فهي أولى، لأجل العشر حسنات (3) (ثم) بعد فراغه من قراءة السورة (يركع مكبرا) (4) .
__________
(1) أو لم يكن في مصحف غيره من الصحابة، كسورة المعوذتين، وزيادة بعض الكلمات والعشرة هم قراء الإسلام المشهورون، أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم بالمدينة، وبمكة عبد الله بن كثير ومن الشام عبد الله بن عامر، ومن البصرة أبو عمرو، ويعقوب بن إسحاق، ومن الكوفة عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب، وعلي بن حمزة الكسائي، وخلف بن هشام البزار، وكره أحمد قراءة حمزة والكسائي، والإدغام الكبير لأبي عمرو، واختار قراءة نافع ثم عاصم، وقال: قراءة ابن العلاء لغة قريش والفصحاء من الصحابة.
(2) وتقدم أنه لا يجوز ردها.
(3) يعني لمن قرأ حرفا من القرآن، والحرف بعشر حسنات، صححه الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم: «لا أقول الم حرف ولكن، ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» قال الشيخ: المراد بالحرف الكلمة، والحرف يطلق على حروف الهجاء والمعاني والكلمة والجملة المفيدة.
(4) أي: ثم بعد فراغه من القراءة يسن له أن يثبت قائما، ويسكت سكتة لطيفة حتى يرجع إليه نفسه، قبل أن يركع، ولا يصل قراءته بتكبير الركوع، لما ثبت في السنن وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم كان يسكت سكتتين، إذا افتتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها، قال أحمد: ولم يكن صلى الله عليه وسلم يصل قراءته بتكبير الركوع، ثم بعد ذلك يركع مكبرا، والركوع فرض بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وهو في اللغة الإنحناء يقال: ركع الشيخ إذا انحنى من الكبر، ويأتي وأجمعوا على وجوب الركوع على القادر عليه.(2/39)
لقول أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إذا قام إلى الصلاة ثم يكبر حين يركع، متفق عليه (1) (رافعا يديه) مع ابتداء الركوع (2) لقول ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه، متفق عليه (3) (ويضعهما) أي يديه (على ركبتيه (4) .
__________
(1) ولحديث ابن مسعود: يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود، صححه الترمذي ونحوه في الصحيحين وغيرهما، وعليه عامة الصحابة والتابعين، ما عدا الرفع من الركوع، قال البغوي: اتفقت الأمة على هذه التكبيرات، وقال ابن عباس: في رجل كبر في الظهر اثنتين وعشرين تكبيرة، تلك صلاة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم رواه البخاري.
(2) رفع يديه قول أكثر الصحابة، ومذهب مالك والشافعي وأهل الحديث للأخبار وكونه مع ابتداء الركوع تقدم.
(3) أي: يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه إذا أراد أن يركع ثم يكبر، وتقدم أنه كالمتواتر الذي لا يتطرق إليه شك، وعمل به السلف وأنكروا على من تركه، والشاهد منه قوله، وإذا أراد أن يركع.
(4) ندبًا إجماعًا، لما في الصحيح، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ولحديث أبي حميد وغيره، فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، صححه الترمذي وحديث أبي رافع، وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك رواه أبو داود وغيره
وقال عمر: الركب سنة لكم فخذوا بالركب، وأحاديث وضع اليدين على الركب في الركوع بلغت حد التواتر، وذلك ما لم يكن عذر، فإن كانتا عليلتين لا يمكنه وضعهما انحنى ولم يضعهما، وإن كانت إحداهما عليلة وضع الأخرى، والركبة موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق، جمعها ركب.(2/40)
مفرجتي الأصابع) استحبابا (1) ويكره التطبيق، بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى، ثم يحطهما بين ركبتيه إذا ركع (2) وهذا كان أول الإسلام ثم نسخ (3) ويكون المصلي (مستويا ظهره) (4) .
__________
(1) لما في الصحيح: وفرج بين أصابعه، أي فرق بينهما، وركع أبو مسعود فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج بين أصابعه من وراء ركبتيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وغيره، وإسناده ثقات.
(2) التطبيق هو الإلصاق بين باطني الكفين، وأصل الطبق الشيء على مقدار الشيء مطبقا له من جميع جوانبه، وطابق بين الشيئين جعلهما على حذو واحد وألزقهما.
(3) إجماعا، قال مصعب بن سعد: صليت إلى جنب أبي، فطبقت كفي، ووضعتهما بين فخذي، فنهاني عن ذلك، وقال: كنا نفعل ذلك، فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب، رواه البخاري، وفيه عن عشرة من الصحابة، وقال الترمذي: التطبيق منسوخ عند أهل العلم، لا اختلاف بينهم، إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه، فلعله لم يبلغهم النهي.
(4) حال ركوعه إجماعا، لحديث وابصة وغيره، وفي الصحيح، ثم هصر ظهره، يعني غير مقوس، وفي رواية له: ثم حني ظهره، وهو بمعناه.(2/41)
ويجعل رأسه حياله، فلا يرفعه ولا يخفضه (1) روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وإذا ركع سوى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر (2) ويجافي مرفقيه عن جنبيه (3) والمجزئ الانحناء، بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه إن كان وسطا في الخلقة (4) .
__________
(1) أي عن محاذاة ظهره، بل يجعله إزاء ظهره، وقبالته لما في الصحيحين: وإذا ركع لم يرفع رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك.
(2) أي ثبت وسكن على ظهره في قعر عظم الصلب، ويقع ذلك القعر عند استوائه، ولو كان مائلا إلى أحد الجوانب لخرج الماء من تلك الجانب، وسوى الشيء تسوية جعله سويا، وضعه مستويا، وفي السنن فإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ووابصة بن معبد هو ابن عقبة بن الحارث بن مالك الأسدي، وفد سنة تسع، وسكن الكوفة، ثم تحول إلى الرقة، ومات بها رضي الله عنه.
(3) ندبا إجماعا لحديث أبي حميد ووتر يديه فجافاهما عن جنبيه صححه الترمذي، وحديث أبي سعيد: فجافى يديه عن جنبيه، ومعنى يجافي يباعد من الجفاء وهو البعد عن الشيء، يقال: جفاه إذا أبعد عنه، وأجفاه إذا أبعده، فمجافاة المرفقين عن الجنبين مباعدتهما.
(4) لأن معتدل الخلق لا يسمى راكعا بدون ذلك، وقال المجد: ضابطه أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل اهـ، وأجمعوا على مشروعية الانحناء حتى تبلغ كفاه ركبتيه، وقال الشيخ: الركوع في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وأما مجرد الخفض فلا يسمى ركوعا، ومن سماه ركوعا فقد غلط على اللغة، قال: وهذا مما لا سبيل إليه، ولا دليل عليه، وإذا حصل الشك لم يكن ممتثلا بالاتفاق، والوسط من كل شيء أعدله.(2/42)
أو قدره من غيره (1) ومن قاعدة مقابلة وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض أدنى مقابلة (2) وتتمتها الكمال (3) (ويقول) راكعا (سبحان ربي العظيم) (4) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقولها في ركوعه، رواه مسلم وغيره (5) .
__________
(1) أي والمجزئ في الركوع قدر الانحناء من غير الوسط، كطويل اليدين أو قصيرهما بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه لو كان وسطا.
(2) أي والمجزئ في الركوع من قاعد مقابلة وجهه ما أمام ركبتيه أقل مقابلة، لأنه ما دام قاعدا معتدلا لا ينظر ما قدام ركبتيه من الأرض، فإذا انحنى بحيث يرى ما قدام ركبتيه منها أجزأ ذلك في الركوع، وقوله: ما وراء، كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم، والأولى أن يقول: قدام ركبتيه، لأنه المعروف.
(3) أي تتمة مقابلة ما قدام ركبتيه من الأرض الكمال في ركوع قاعد، ولو انحنى لتناول شيء، ولم يخطر بباله الركوع لم يجزئه عنه، لعدم النية، ولو أراد الركوع فسقط إلى الأرض قام فركع، ليحصل ركوعه عن قيام.
(4) أي يقول حال ركوعه في فرض أو نفل: سبحان ربي العظيم، لحديث عقبة: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *} قال: اجعلوها في ركوعكم رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
(5) فرواه الخمسة وصححه الترمذي من حديث حذيفة، أنه كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم، فدل على مشروعية التسبيح في الركوع، وهو مفسر لحديث عقبة، وأجمعوا على سنيته وذهب أحمد وجمهور أهل الحديث إلى وجوبه للأمر به، وقال النووي وغيره: تسبيح الركوع والسجود وسؤال المغفرة والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام كله سنة، ليس بواجب، فلو تركه لم يأثم وصلاته صحيحة، سواء تركه عمدا أو سهوا، لكن يكره تركه عمدا، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقال أبو حامد: هو قول العلماء عامة، لحديث المسيء والأحاديث الواردة في الأذكار محمولة على الاستحباب جمعا بين الأخبار.(2/43)
والاقتصار عليها أفضل (1) والواجب مرة (2) وأدنى الكمال ثلاث (3) وأعلاه للإمام عشر (4) .
__________
(1) أي من غير زيادة وبحمده وكرهه مالك، لقوله: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» وعن أحمد: الأفضل وبحمده، واختاره المجد وغيره، ولا يعارض ما ذكر من إثبات الدعاء في الركوع، لأن التعظيم لا ينافي الدعاء، ولأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، وربما قال: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي خشع قلبي وسمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، فيحمل على الجواز أو على الأولوية.
(2) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر عددا، وإذا رفع واعتدل وذكر أنه لم يسبح لم يعد إلى الركوع.
(3) يعني فأكثر وفاقا، وفي الإنصاف: بلا نزاع أعلمه في تسبيحي الركوع والسجود اهـ لقوله: إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات وذلك أدناه، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو مرسل، فإن عوانا لم يدرك ابن مسعود، ولكنه من أهل بيته، قال الشيخ: فلهذا تمسك الفقهاء به لما له من الشواهد، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم يستحبون أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود عن ثلاث تسبيحات، والكمال التمام، وكمل من باب نصر تمت أجزاؤه وكملت محاسنه.
(4) لما روي عن أنس أن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله كان يصلي كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزروا ذلك بعشر.(2/44)
قال أحمد: جاء عن الحسن، التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث (1) (ثم يرفع رأسه ويديه) لحديث ابن عمر السابق (2) .
__________
(1) وقال بعض الأصحاب وغيرهم والشيخ: لا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة، لحديث البراء وغيره، من غير تقييد بعدد، والمنفرد يزيد في التسبيح ما أراد، وكلما زاد كان أولى، والأحاديث الصحيحة في تطويله عليه الصلاة والسلام ناطقة بذلك، وكذا الإمام ينبغي له الاستكثار إذا كان المأمومون يؤثرون ذلك، وقال القاضي والسامري وغيرهما في المنفرد، ما لا يخرجه إلى السهو، والإمام ما لا يشق على المأمومين، ورجح الشيخ وغيره في المنفرد بحسب صلاته إن أطال أطال، وإن قصر قصر لقوله: فكان قيامه فقعوده إلى قوله: قريبا من السواء، وهو ظاهر الدلالة.
(2) المتفق عليه: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، أي رفع يديه إلى حذو منكبيه، رافعا لهما مع رفع رأسه، فرضا كانت الصلاة أو نفلا، صلى قائما أو قاعدا، وعليه أكثر الأصحاب، واختاره وصححه غير واحد، وكذا المأموم لا تختلف الرواية في أنه يبتدئ الرفع عند رفع رأسه، لما تقدم من الأخبار، وقال ابن القيم، روي رفع اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحو من ثلاثين صحابيا، واتفق على روايتهما العشرة، ولم يثبت عنه خلاف ذلك، وقال شيخ الإسلام، رفع الأيدي عند الركوع والرفع بمثل رفعهما عند الاستفتاح مشروع باتفاق المسلمين اهـ فرفع اليدين في مواضعه من تمام الصلاة، من رفع أتم الصلاة ممن لم يرفع، وأما وجوب رفع رأسه فبإجماع المسلمين، لهذا الخبر وغيره، وفي حديث المسيء ثم ارفع حتى تعتدل قائما، متفق عليه، ولغيره من الأحاديث قال الشارح وغيره، وإذا رفع رأسه وشك هل ركع أو لا؟ أو هل أتى بقدر الإجزاء أو لا؟ لزمه أن يعود فيركع، لأن الأصل عدم ما شك فيه، إلا أن يكون وسواسا فلا يلتفت إليه، وكذا حكم سائر الأركان.(2/45)
(قائلا إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده) مرتبا وجوبا (1) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقول ذلك، قاله في المبدع (2) ومعنى سمع استجاب (3) (و) يقولان (بعد قيامهما) واعتدالهما (ربنا ولك الحمد) (4) .
__________
(1) فلا يقدم لمن حمده على سمع الله قال الموفق وغيره: لا نعلم خلافا في المذهب في مشروعية التسميع للإمام والمنفرد، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
(2) أي يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع متفق عليه، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي، وقال لبريدة إذا رفعت رأسك من الركوع، فقل: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد رواه الدارقطني.
(3) أي أجاب فسمع سماع قبول وإجابة، وعدي باللام لتضمنه معنى استجاب له، وقال النووي: أي تقبل الله منه حمده وجازاه به.
(4) إجماعا لما في الصحيحين ثم يقول وهو قائم ربنا ولك الحمد، ولغيره من الأدلة، والاعتدال ركن في كل ركعة، لقوله: حتى تعتدل قائما، واعتدل استقام وفي لفظ حتى تطمئن قائما متفق عليه وفيهما وإذا رفع رأسه استوى قائما، حتى يعود كل فقار إلى مكانه، وفي السنن وصححه الترمذي لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم صلبه في الركوع، والسجود أي عند رفعه منهما، قال الشيخ: وهو صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع، وينصب من السجود، وفي الصحيح أن حذيفة رأى رجلا لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ كذا وكذا، فقال: أما إنك لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم وأخرج معناه ابن خزيمة في صحيحه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الرفع بقدر الركوع وقوله: ما خلا القيام والقعود قيام القراءة، وقعود التشهد، وما سواهما قريب من السواء، وفي صحيح مسلم: كان إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول قد أوهم، فمن إتمام الصلاة إطالة الاعتدال، وإنما تصرف في تقصير الاعتدالين من الركوع والسجود أمراء بني أمية، وربا في ذلك من ربا حتى ظن أنه من السنة، والواو في قوله «ربنا ولك الحمد» عاطفة على مقدر بعد قوله: ربنا واستجب، أو: حمدناك، فهما جملتان قائمتان بأنفسهما، الأولى: أنت الرب والملك القيوم الذي بيده الأمور، ثم عطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: ربنا، قوله: ولك الحمد، فجمع معنى الدعاء والاعتراف، ثم أخبر عن شأن هذا الحمد بقوله: ملء السموات إلخ، وقال في الفروع، أي سمع الله لمن حمده، فاستجب يا ربنا، ولك الحمد على ذلك، وقيل: معناه أن من حمده متعرضا لثوابه استجاب له وأعطاه ما تعرض له، فإنا نقول: ربنا ولك الحمد، لتحصيل ذلك، وقوله: ربنا ولك الحمد، مشروع في حق كل مصل، وقال الموفق وغيره: وهو قول أكثر أهل العلم للأخبار.(2/46)
ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد أي حمدًا لو كان أجساما لملأ ذلك (1) .
__________
(1) أي السماء والأرض، وما شاء الله من شيء بعد السماء والأرض، كالكرسي والعرش، وما لا يعلم سعته إلا الله، وهذا من التأويل المردود، بل الله عز وجل يمثل أعمال العباد وأقوالهم صورا، كما جاءت به الأخبار، وهو قادر أن يملأ ما جعلت فيه فيجرى الحديث على ظاهره وملء بالنصب أي حمدا ملء، وبالرفع على أنه صفة للحمد، والمعروف في الأخبار ملء السموات بالجمع
والأجسام جمع جسم، جماعة البدن، أو الأعضاء من الناس، وسائر الأنواع العظيمة الخلق، ولمسلم وغيره عن ابن عباس، كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبيد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وله: كان يقول: اللهم طهرني بالثلج والبرد، والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.(2/47)
وله قول: اللهم ربنا ولك الحمد (1) وبلا واو أفضل (2) عكس: ربنا لك الحمد (3) .
(و) يقول (مأموم في رفعه: ربنا ولك الحمد فقط) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد» متفق عليه من حديث أبي هريرة (4) .
__________
(1) لوروده في الصحيح عن أنس في باب صلاة القاعد بلفظ وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، وهو أفضل من عكسه الآتي لكونه أكثر حروفا.
(2) أي وقول: اللهم ربنا لك الحمد، بلا واو أفضل منه مع الواو، لورود الخبر به في حديث ابن أبي أوفى، وأبي سعيد.
(3) أي بدون اللهم، وبلا واو، وهو جائز لورود الخبر به، وبلا واو أفضل مطلقا، للاتفاق عليه من حديث ابن عمر وأنس وأبي هريرة وغيرهم، واختاره الماتن وغيره، وإن عطس حال رفعه فحمد الله لهما جميعا لم يجزئه، ولم تبطل به، كما لو عطس عند ابتداء الفاتحة فقال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ينوي بذلك عنهما.
(4) فاقتصر صلى الله عليه وسلم على أمرهم بذلك، وهو ظاهر المذهب أنه لا يسن للمأموم قول ملء السماء إلخ، وعن أحمد وغيره ما يدل على أنه مسنون، وهو أنه قال: ليس يسقط عن المأموم غير سمع الله لمن حمده، واختار نية قول
ملء السماء إلى آخره أبو البركات وأبو الخطاب والآجري والمجد والموفق والشارح والشيخ وغيرهم، وهو مذهب الشافعي وأهل الحديث وغيرهم من أهل العلم، وما استدلوا به من الحديث لا حجة لهم فيه، فإنه لا يقتضي الاقتصار عليه، ولا ينافي الإتيان بالدعاء الثابت بعده، وكونه لم يذكره في هذا الخبر، فقد ذكره في غيره مما تقدم وغيره، مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه، ولأنه ذكر مشروع في الصلاة، أشبه سائر الأذكار، وفي الصحيح عن رفاعة: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما انصرف قال: «من المتكلم؟» فقال رجل: أنا. قال: «رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول» وصح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه كان يقول ذلك، فثبتت سنيته، وقال الموفق وغيره على قول الخرقي وغيره: إن كان مأموما لم يزد على قول: ربنا ولك الحمد، لا نعلم خلافا في المذهب أنه لا يشرع للمأموم قول: سمع الله لمن حمده، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور، لقوله: فقولوا، فإن الفاء للتعقيب، وهو ظاهر. قال الحافظ: ولم ينقل أنه يجمع بينهما.(2/48)
وإذا رفع المصلي من الركوع فإن شاء وضع يمينه على شماله أو أرسلهما (1) (ثم) إذا فرغ من ذكر الاعتدال (يخر مكبرا) (2) ولا يرفع يديه (3) .
__________
(1) بجانبه فيخير، نص عليه، والأول أولى، لثبوت وضعهما حال القيام، وعدم المخصص، ولأن الأصل أن كل قيام فيه ذكر مسنون، يضع فيه يمينه على شماله، وقد ثبت فيه الذكر، ولأن الوضع أبلغ في التعظيم من الإرسال.
(2) أي يهوي ساجدا وفاقا، كسائر الانتقالات، من: خر يخر بالكسر خرورا، سقط وانكب على الأرض.
(3) يعني حال انحداره بالسجود وفاقا، لقول ابن عمر: وكان لا يفعل ذلك
في السجود متفق عليه، وكذا لا يرفعهما حين يرفع رأسه من السجود، ولأنهما ينحطان لعبوديتهما، كما ينحط الوجه، فأغنى ذلك عن رفعهما، ولذلك لم يشرع رفعهما عند رفع رأسه من السجود، لأنهما يرفعان كما يوضعان معه.(2/49)
(ساجدا على سبعة أعضاء (1) رجليه ثم ركبتيه ثم يديه ثم جبهته مع أنفه) (2) .
__________
(1) والسجود فرض بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} والسجود لغة الخضوع والتذلل، وقيل لمن وضع جبهته في الأرض: سجد لأنه غاية الخضوع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه، والسجود شرعا ما ذكره رحمه الله، ويأتي كلام الشيخ أيضا، والعضو: كل عظم وافر من الجسد.
(2) قال الوزير: وأجمعوا على مشروعيته، فيسجد على رجليه، ثم ركبتيه يضعهما على الأرض قبل يديه، لحديث وائل إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه رواه أهل السنن قال ابن القيم: وهو الصحيح، ولم يرو من فعله ما يخالف ذلك، ولحديث أبي هريرة: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه، ورواه الأثرم وابن أبي شيبة بلفظ إذا سجد أحدكم فيبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل، ورواية يديه قبل ركبتيه، لعله منقلب على بعض الرواة، يدل عليه أول الحديث وآخره، من رواية ابن أبي شيبة، وفسر قوله صلى الله عليه وسلم «وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير» أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود بروك البعير الذي أوطنه أهله، وأن لا يهوي في سجوده فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل، وروي عن بعض الصحابة ما يوافق ذلك، ولم ينقل عنهم خلافه، وهو قول جمهور السلف، وحكاه أبو الطيب عن عامة الفقهاء، والخطابي عن أكثرهم، وابن المنذر عن عمر وغيرهم، وسفيان والشافعي، وأحمد، وإسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم.
ثم يضع الجبهة مع الأنف، قال في المبدع: بغير خلاف، لقول أبي حميد، كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه من الأرض، صححه الترمذي والمراد باليدين هنا الكفان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه باسطا كفيه وأصابعه لا يفرج بينهما ولا يقبضهما قال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم، وتكون يداه قريبا من أذنيه، قال الشارح: والجميع حسن.(2/50)
لقول ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم (1) ولا يكف شعرا ولا ثوبا (2) الجبهة واليدين والركبتين والرجلين متفق عليه (3) .
__________
(1) العظم جمعه عظام، ويسمى كل واحد عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة، وعرفه الأطباء بأنه عضو بسيط يبلغ صلابته إلى حد لا يمكن ثنيه وللترمذي وصححه، إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وركبتاه وكفاه وقدماه، قال: وعليه العمل عند أهل العلم.
(2) جملة معترضة بين المجمل والمبين أي لا يجمع ثيابه ولا شعره.
(3) الجبهة هي مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية، واحتج بعضهم بهذا على وجوبه على الجبهة دون الأنف، وفي الصحيحين أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وأشار بيده على أنفه، ولمسلم الجبهة والأنف، وله أيضا إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك وللترمذي أمر بوضع اليدين ونصب المرفقين وقال: وهو الذي أجمع عليه أهل العلم، واختاروه، والرجلان هما القدمان، وفي رواية والقدمين، وفي رواية أخرى، وأطراف القدمين، وهو مبين للمراد من الرجلين، والحديث ظاهر الدلالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء، إذ هو غاية خشوع الظاهر وأجمع العبودية لسائر الأعضاء، بل فرض أمر الله به ورسوله وبلغه الرسول الأمة بقوله وفعله، ومن كماله مباشرة مصلاه بأديم وجهه
فيعفره في التراب استكانة وتواضعا، واعتماده على الأرض بحيث يناله ثقل رأسه، وارتفاع أسافله على أعاليه، وفي السنن فيسجد فيمكن وجهه، حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي، ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدا اعتزل ناحية يبكي، ويقول: يا ويله، أمر بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار، وفي الأثر: ما من حالة يكون عليها العبد أحب إلى الله من أن يراه ساجدا، يعفر وجهه بالتراب، وثبت من طرق ما سجد العبد لله سجدة إلا رفع له بها حسنة، وحط عنها بها خطيئة والحث على السجود وذكر فضله وعظيم أجره معلوم من الدين بالضرورة، وهو سر الصلاة وركنها الأعظم، وخاتمة الركعة، وما قبله من الأركان كالمقدمة إليه، والساجد أقرب ما يكون إلى الله، فأفضل الأحوال حال يكون فيها أقرب إلى الله.(2/51)
وللدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا (1) «لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض» (2) .
__________
(1) يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم والدارقطني هو أبو الحسن علي بن عمران تقدم، وعكرمة هو ابن عبد الله مولى ابن عباس، ثقة مات سنة مائة وسبع.
(2) وأخرج الدارقطني أيضا عنه لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين وقد ثبت السجود على الأنف في أحاديث كثيرة، والجبهة والأنف حقيقة في المجموع وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض، قال الشيخ: والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين وضع وجهه على الأرض، وأما مجرد الخفض فلا يسمى سجودا، ومن سماه سجودا فقد غلط على اللغة، وقال بغير علم في كتاب الله، وإذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد؟ لم يكن ممتثلا بالاتفاق اهـ، وفي السنن إذا سجدت فمكن سجودك، ولو سجد على حشيش أو قطن أوثلج أو برد ونحوه ولم يجد حجمه لم يصح، لعدم المكان المستقر.(2/52)
ولا تجب مباشرة المصلي بشيء منها (1) فتصح (ولو) سجد (مع حائل) بين الأعضاء ومصلاه (2) قال البخاري في صحيحه: قال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة (3) إذا كان الحائل (ليس من أعضاء سجوده) (4) فإن جعل بعض أعضاء السجود فوق بعض كما لو وضع يديه على فخذيه أو جبهته على يديه لم يجزئه (5) .
__________
(1) أي من أعضاء السجود، وأجمعوا عليه في الركبتين والقدمين وأما الجبهة ففي الصحيحين كنا نصلي معه في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه فسجد عليه، وأما اليدان فقول أكثر أهل العلم لحديث ابن عباس: رأيته يتقي الطين إذا سجد بكساء دون يديه رواه أحمد والمباشرة مأخوذة من البشرة، وهي ظاهر الجلد.
(2) أي حائل متصل بين أعضاء السجود وبين موضع صلاته، وفاقا لمالك وأبي حنيفة وجمهور العلماء.
(3) يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن عمر أنه كان يسجد علىكور عمامته، وعنه لا يسجد على شيء من ذلك، وهو مذهب الشافعي، قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه، دون كور عمامته، ولم يثبت عنه السجود على كور عمامته من حديث صحيح ولا حسن اهـ والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، واسم أبيه يسار، والأنصاري مولاهم ثقة فقيه مشهور، مات سنة مائة وعشر، وقد قارب التسعين.
(4) يعني بينها وبين مصلاه، فتصح ولا تكره على الصوف واللبود والبسط والطنافس وجميع الأمتعة ولا فيها قال النووي: وهو قول جماهير العلماء.
(5) لإفضائه إلى تداخل أعضاء السجود وخلاف أمره وفعله صلى الله عليه وسلم.(2/53)
ويكره ترك مباشرتها بلا عذر (1) ويجزئ بعض كل عضو (2) وإن جعل ظهر كفيه أو قدميه على الأرض (3) أو سجد على أطراف أصابع يديه (4) فظاهر الخبر أنه يجزئه، ذكره في الشرح (5) ومن عجز بالجبهة لم يلزمه بغيرها (6) .
__________
(1) لحديث: إذا سدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرا، وحديث إنهم شكوا إليه حر الرمضاء في جباههم، قال الشيخ: دلت الأحاديث والآثار على أنهم في حال الاختيار يباشرون الأرض بالجباه، وعند الحاجة كالحر ونحوه يتقون بما يتصل بهم من طرف ثوب وعمامة، وقلنسوة، ولهذا كان أعدل الأقوال في هذه المسألة أن يرخص في ذلك عند الحاجة، ويكره عند عدمها اهـ، وحكمته أن القصد من السجود مباشرة أشرف الأعضاء، وهو الجبهة والأنف لمواطئ الأقدام ليتم الخضوع والتواضع للأقربية في خبر أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
(2) من الأعضاء المذكورة إذا سجد عليه قالوا: لأنه لم يقيد في الأحاديث، والأمر جاء بالسجود عليها، وأجمعوا عليه والاجتراء بالبعض يحتاج إلى مخصص.
(3) دون باطنهما، فذكر في الشرح أنه يجزئه.
(4) أي وضع أطراف أصابعه فقط، دون يديه في حال السجود.
(5) لأنه قد سجد على يديه، وكذا لو سجد على ظهر قدميه، وقال ابن حامد وغيره: لا يجزئه أن يسجد على أطراف أصابع يديه، وعليه أن يستغرق اليدين بالسجود.
(6) من أعضاء السجود، لأنه الأصل وغير تبع، ومن عجز عن السجود على بعض الأعضاء سجد على بقيتها، وقرب العضو المريض من مصلاه غاية ما يمكنه.(2/54)
ويومئ ما أمكنه (1) (ويجافي) الساجد (عضديه من جنبيه (2) وبطنه عن فخذيه) (3) وهما عن ساقيه (4) ما لم يؤذ جاره (5) (ويفرق ركبتيه) ورجليه (6) .
__________
(1) أي يومئ عاجز عن السجود على جبهته غاية ما يمكنه وجوبا، لحديث إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقيل: يلزم بالأنف إن أمكن، ومن سقط من قيام أو ركوع ولم يطمئن عاد، وإن اطمأن انتصب قائما وسجد، ومن سقط على جنبه بعد قيامه من الركوع، ثم انقلب ساجدا لم يجزئه سجوده، لأنه خرج عن سنن الصلاة وهيئتها، وإن سقط منه ساجدا أجزأه بغير نية، لأنه على هيئتها.
(2) لحديث ابن بحينة إذا سجد تجنح في سجوده، حتى يرى وضح إبطيه متفق عليه، وفي رواية فرج بين يديه، أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها ولحديث أبي حميد: كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه، صححه الترمذي، ولمسلم عن ميمونة: لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت.
(3) لحديث أبي حميد: وإذا سجد فرج بين فخذيه، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه.
(4) أي يجافي فخذيه عن ساقيه، لما في مسلم وغيره، فإذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك وغير ذلك، مما هو ظاهر في آكدية التفريج، وللطبراني بسند صحيح فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك، وهذه الحالات من كمال السجود، أن يكون على هيئة يأخذ كل عضو من البدن بحظه من الخضوع، ليستقل كل عضو منه بالعبودية، ولأنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، مع مغايرته لهيئة الكسلان.
(5) الذي بجانبه فعل ذلك المسنون فيحرم، لحصول الإيذاء المحرم.
(6) لأنه صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرق بين فخذيه.(2/55)
وأصابع رجليه، ويوجهها إلى القبلة (1) وله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه إن طال (2) .
(ويقول) في السجود (سبحان ربي الأعلى) (3) .
__________
(1) أي ويفرق بين أصابع رجليه حال سجوده، ويوجهها إلى القبلة، لما في الصحيح، سجد غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وفي التلخيص: يجب جعل باطن أطرافهما إلى القبلة، إلا أن يكون فيهما نعل أو خف، وتقدم الأمر بالسجود على أطراف القدمين، فلا تصح بدونه، وقال الشيخ: وإذا رفع قدميه في السجود فإنه مع رفعهما بالتلاعب أشبه منه بالتعظيم والإجلال، وإن لم يضعهما لم يصح سجوده.
(2) يعني السجود، ليستريح بذلك بلا كراهة، فإنهم لما شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مشقة التفريج قال: استعينوا بالركب، ورواه أبو داود، ويستحب أن يضع راحتيه على الأرض، مبسوطتين مضمومتي الأصابع، مستقبلا بها القبلة، ويضعهما حذو منكبيه، أو حذو أذنيه، وكلاهما حسن، وقد ورد وتقدم.
(3) ندبا إجماعا والمذهب الوجوب لحديث عقبة لما نزل {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال: «اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وغيره.
ولحديث حذيفة، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، رواه مسلم، وهو مفسر لحديث عقبة قال الخطابي: فيه دلالة على وجوب التسبيح في الركوع والسجود، لأنه قد اجتمع في ذلك أمر الله وبيان رسوله الله صلى الله عليه وسلم وترتيبه في موضع من الصلاة، فتركه غير جائز اهـ.
وكان غالب دعائه صلى الله عليه وسلم في سجوده، ولأن وصف الرب بالعلو في هذه الحالة في غاية المناسبة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء
فيه، وبعد التشهد، وقبل السلام، ففي الصحيحين أنه كان يقول
وسبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي، وربما قال: اللهم إني لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين، وكان يقول: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إلخ، اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله إلخ، وقال: وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم، والأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، ويشمل التكرار للسؤال الواحد، كيف وهو في حال أذل ما يكون لربه وأخضع له؟!، حيث يضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعا لربه واستكانة له، وخضوعا لعظمته، وذلا لعزته، قد انكسر قلبه وذل له جسمه، وخشعت له جوارحه، بل في أشرف حالاته، وأقرب ما يكون من ربه، وهل طول السجود أو طول القيام أفضل؟ صوب الشيخ أنهما سواء، فإن القيام أفضل بذكره وهو القراءة والسجود أفضل بهيئته وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود.(2/56)
على ما تقدم في تسبيح الركوع (1) (ثم يرفع رأسه) إذا فرغ من السجدة (مكبرا (2)) .
__________
(1) أي حكمه حكم ما تقدم، من أن الواجب مرة، وأدنى الكمال ثلاث وفاقا، وأعلاه عشرة على ما تقدم.
(2) أي يكون ابتداؤه مع ابتدائه، وانتهاؤه مع انتهائه، لقوله: ثم يكبر حين يرفع رأسه، متفق عليه، وهذا الرفع والاعتدال واجب، وهو مذهب الشافعي، لقوله في حديث المسيء ثم اجلس حتى تطمئن جالسا وعن عائشة: إذا رفع من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدا، متفق عليه, لحديث أبي حميد الآتي وغيره.(2/57)
ويجلس مفترشا يسراه) أي يسرى رجليه (1) (ناصبا يمناه) ويخرجها من تحته، ويثني أصابعها نحو القبلة (2) ويبسط يديه على فخذيه مضمومتي الأصابع (3) (ويقول) بين السجدتين (رب اغفر لي) (4) الواجب مرة والكمال ثلاث (5) .
__________
(1) فيبسطها ويجلس عليها.
(2) أي يجعل بطون أصابعها على الأرض مفرقة، معتمدا عليها لحديث أبي حميد: ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ولحديث عائشة وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى متفق عليه، ولقول عبد الله بن زيد: كنا نعلم إذا جلسنا في الصلاة أن يفرش الرجل منا قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى، على صدر قدمه، وإن كانت إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدلها، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غيرها.
(3) قياسا على جلوس التشهد، ولنقل الخلف عن السلف.
(4) أي ذنوبي أو تقصيري في طاعتك، لحديث حذيفة، كان يقول بين السجدتين رب اغفر لي، رواه النسائي والترمذي وغيرهما، وإسناده ثقات، ولأبي داود والترمذي وغيرهما من حديث ابن عباس: كان يقول بين السجدتين اللهم اغفر لي وارحمني واهدني، وعافني وارزقني، وحسنه النووي، وصححه الحاكم وقال ابن القيم: لما فصل بين السجدتين بركن مقصود، شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه، وهو سؤال المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق، واختار الشيخ الدعاء بما ورد.
(5) فأكثر كما تقدم وظاهره مطلقا، لا كالركوع ونحوه، وقال الموفق وجماعة: أدنى الكمال ثلاث، والكمال في ذلك كالكمال في تسبيح الركوع
والسجود واختاره الشيخ، ولا دليل على تقييده بعدد معلوم، كما تقدم، وقال الزركشي: هذا المشهور، والسنة شاهدة لهذا القول، وهو الثابت عنه في جميع الأحاديث، وهو من تمامها الذي أخبر به أصحابه عنه صلى الله عليه وسلم وتقصير الاعتدال من الركوع والسجود من تصرف بني أمية، كما تقدم، وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم قريبًا من السواء، معتدلة إذا أطال في القيام أطال في غيره، وقوله: ما خلا القيام والقعود، أي القيام للقراءة، والقعود للتشهد وتقدم.(2/58)
(ويسجد) السجدة (الثانية كالأولى) (1) فيما تقدم من التكبير والتسبيح وغيرهما (2) (ثم يرفع) من السجود (مكبرًا) (3) .
__________
(1) وجوبًا بإجماع المسلمين، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد سجدتين لم يختلف عنه في ذلك، وعلمه المسيء فقال: ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
(2) كالهيئة والدعاء بالوارد، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، وإنما شرع تكرار السجود في كل ركعة، دون غيره، لأنه أبلغ ما يكون في التواضع، وأفضل أركانها الفعلية، وسرها الذي شرعت لأجله، وخاتمتها وغايتها، فكان تكرره أكثر من تكرر سائر الأركان، ولابن حبان عن ابن عمر مرفوعا، «إذا قام العبد يصلي أتى بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه» .
(3) أي يرفع من السجدة الثانية، وهذا القيام ركن، والتكبير واجب، يبتدئه مع ابتداء رفع رأسه من السجود، وينهيه عند اعتداله قائما، لقوله صلى الله عليه وسلم ثم يكبر حين يرفع.(2/59)
ناهضًا على صدور قدميه) (1) ، ولا يجلس للاستراحة (2) (معتمدا على ركبتيه إن سهل) (3) .
__________
(1) أي قائما على مقدمهما، وأطلق صدور على صدرين لاستثقال الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة، وفي المطلع: جيء به بلفظ الجمع لأن كل مثنى معنى مضاف إلى متضمنه، يختار فيه لفظ الجمع على لفظ الإفراد، ولفظ الإفراد على لفظ التثنية، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينهض في الصلاة على صدور قدميه، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وروى ابن أبي شيبة وغيره من غير وجه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم.
(2) أي لا يسن أن يجلس جلسة الاستراحة بفتح الجيم لأنه مرة من الجلوس، ويجوز كسر الجيم، بتقدير إرادة الهيئة، لأن فيها قدرا زائدا على الجلسة، وذلك هو الهيئة والاستراحة: هي طلب الراحة، كأنه صار له إعياء فيجلس ليزول عنه، وهي جلسة خفيفة صفتها كالجلوس بين السجدتين، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن لم يذكرها كل واصف لصلاته، ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة، وإذا قدر أنه فعلها لحاجة، لم يدل على سنيتها، إلا إذا علم أنه فعلها ليقتدي به فيها، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، قال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وقيل: يجلس، لفعله عليه الصلاة والسلام ويحمل أنه في آخر عمره عند كبره، جمعًا بين الأخبار، واختاره الشيخ وغيره.
(3) أي معتمدًا بيديه على ركبتيه، قال القاضي: لا يختلف قوله في ذلك، إن سهل عليه ذلك، ولا يعتمد على الأرض بيديه، لحديث وائل: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» ، ولأبي داود: «نهى أن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة» ، وقال علي: من السنة ألا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخًا كبيرًا
لا يستطيع، وعن أحمد: يستحب أن يقوم معتمدًا على يديه، وفاقًا لمالك والشافعي، لما في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام، ولأنه أعون للمصلي، وقال النووي وغيره: وأحاديثهم ليس فيها شيء صحيح إلا الأثر الموقوف على ابن مسعود، أنه يقوم على صدور قدميه انتهى، لكن قول الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم يقتضي قوة أصله وإن ضعف، خصوصا هذا الطريق، وهو كذلك، فأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه، ولم يجلس، ونحوه عن علي وابن عمر وابن الزبير وغيرهم، وأخرج عن الشعبي قال: كان عمر وعلي وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم، وعن النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهض كما هو ولا يجلس، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن مسعود، وابن عباس وابن عمر، وكذا البيهقي وغيره، فقد اتفق أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد اقتفاء لأثره، وألزم لصحبته من مالك، على خلاف ما قال، فوجب تقديمه، وتقدم النهي عنه، وما رواه مالك يحمل على حالة الكبر، وبه تجتمع الأدلة.(2/60)
وإلا اعتمد على الأرض (1) ، وفي الغنية: يكره أن يقدم إحدى رجليه (2) .
__________
(1) أي: وإلا يسهل عليه والاعتماد على ركبتيه لكبر أو ضعف أو مرض أو سمن ونحوه اعتمد بيديه على الأرض بلا خلاف، لحديث علي المتقدم ولحديث مالك.
(2) نص عليه، وروي عن ابن عباس وغيره، أنه يقطع الصلاة، والغنية لشيخ عصره عبد القادر بن عبد الله بن جنكي دوس، الجيلي البغدادي المشهور، وله (الفتح الرباني) و (فتوح الغيب) وغيرها، توفي ببغداد سنة خمسمائة وإحدى وستين.(2/61)
(ويصلي) الركعة (الثانية كذلك) أي: كالأولى (1) (ما عدا التحريمة) أي تكبيرة الإحرام (2) (والاستفتاح والتعوذ وتجديد النية) (3) .
__________
(1) بلا نزاع لقوله للمسيء لما وصف له الركعة الأولى ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، وفي السنن وغيرها، فإذا قمت فمثل ذلك، حتى تفرغ صلاتك ولنقل صفة الصلاة كذلك.
(2) فلا تعاد إجماعًا لأنها وضعت للدخول في الصلاة، وهو منتف هنا، و (عدا) كلمة يستثنى بها مع (ما) وبدونها.
(3) أي وما عدا الاستفتاح مصدر استفتح، والمراد به ههنا الذكر قبل الاستعاذة، من قول: سبحانك اللهم، ونحوه بلا خلاف، حكاه في المبدع وغيره، ولو لم يأت به، لحديث أبي هريرة، «وإذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح بالحمد لله ولم يسكت» ، رواه مسلم، ولفوات محله، وما عدا التعوذ إن كان استعاذ في الأولى، لظاهر الخبر.
قال ابن القيم: «الاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر» ، للحديث الصحيح عن أبي هريرة، «كان إذا نهض للركعة الثانية استفتح القراءة ولم يسكت» اهـ ولأن الصلاة جملة واحدة لم يتخلل القراءتين فيها سكوت، بل ذكر، فالقراءة فيها كلها كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمد الله أو تسبيح أو تهليل أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، وعنه يتعوذ في الثانية، اختارها الشيخ، قال في الإنصاف: وهي أصح دليل، وهو مذهب الشافعي، وفي الاختيارات ويستحب أن يتعوذ أول كل قراءة.
قال النووي: وهو الأظهر، وأما البسملة فتسن في كل ركعة، لأنها تستفتح بها السورة، وما عدا تجديد النية للاكتفاء باستصحابها.
قال في الإنصاف: وهذا مما لا نزاع فيه، وقال جمع: لا حاجة لاستثنائها،
لأنها شرط لا ركن، ويجوز أن يتقدم الصلاة اكتفاء بالدوام الحكمي
وما عدا السكوت، وتطويلها كالأولى، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسكت في الثانية، ويقصرها عن الأولى.(2/62)
فلا تشرع إلا في الأولى (1) لكن إن لم يتعوذ فيها تعوذ في الثانية (2) .
(ثم) بعد فراغه من الركعة الثانية (يجلس مفترشًا) كجلوسه بين السجدتين (3) (ويداه على فخذيه) (4) ولا يلقمهما ركبتيه (5) .
__________
(1) أي فلا تشرع هذه الأمور الأربعة وفاقًا، في غير التعوذ، إلا في الركعة الأولى، لأن تلك تراد لافتتاح الصلاة.
(2) إجماعا، ولو ترك التعوذ في الأولى عمدا لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
(3) أي يجلس للتشهد إجماعا، لنقل الخلف عن السلف، نقلا متواترا وقال الوزير اتفقوا على أن الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة اهـ، وجلوسه للتشهد كجلوسه بين السجدتين سواء وتقدم، وفي الصحيح: «كان إذا جلس للتشهد، جلس على رجله اليسرى، ونصب الأخرى» ، وفيهما: «إذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى» ، ولم يرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة، والحكمة في ذلك والله أعلم أن المصلي مستوفز في الأول للحركة ببدنه بخلاف الثاني، والحركة عن الافتراش أهون، وكيفما جلس في التشهدين وبين السجدتين جاز إجماعًا.
(4) اليمنى على الفخذ اليمنى، باسطًا ذراعه على فخذه، ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، واليسرى على الفخذ اليسرى، ممدودة، وأطراف الأصابع على الركب.
(5) لورود الأحاديث بوضع يديه على فخذيه، وهو مجمع عليه.(2/63)
و (يقبض خنصر) يده (اليمنى وبنصرها (1) ويحلق إبهامها مع الوسطى) بأن يجمع بين رأس الإبهام والوسطى، فتشبه الحلقة من حديد ونحوه (2) (ويشير بسبابتها) (3) من غير تحريك (4) .
__________
(1) بكسر الخاء والباء مؤنثتان، الأولى الإصبع الصغرى، والثانية بينها وبين الوسطى، أي يقبض من يمناه عند وضعها على فخذه الأيمن عند
الركبة خنصرها وبنصرها، لحديث وائل: ثم قبض ثنتين من أصابعه، رواه أحمد وغيره.
(2) لحديث وائل: وحلق إبهامه مع الوسطى، والإبهام الإصبع العظمى، وهي مؤنثة، والجمع أباهيم، ويحلق بتشديد اللام، والحلقة بسكونها، وجمعها حلق، كقصعة وقصع، وقيل بفتحتين على غير قياس، وفي السنن وحلق حلقة ولمسلم وقبض أصابعه الثلاث، وله أيضا وعقد ثلاثة وخمسين في أعداد كانت معروفة عند العرب، بأن تكون الثلاث مضمومة إلى أدنى الكف لا مقبوضة والإبهام مفتوحة تحت المسبحة على طرف الراحة، ويسمونها تسعة وتسعين، وآثر الفقهاء الأول، تبعا للخبر، ولو فعل غير ذلك مما ورد أتى بالسنة، والأول أفضل، ورواته أفقه.
(3) سميت بذلك لتحريكها في وقت السب، وسباحة لأنه يشير بها للتوحيد، وخصت بالإشارة والله أعلم لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره، والحكمة في الإشارة بها ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد.
(4) فلا يوالي حركتين عند الإشارة، لأنه يشبه العبث، لحديث ابن الزبير: «ويشير بسبابته ولا يحركها» .
وقال ابن القيم: في صحته نظر، وليس في الحديث أن هذا كان في
الصلاة اهـ، وفي حديث وائل: «ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها يدعو بها» ، ورواه أهل السنن وغيرهم، قال ابن القيم: كان لا ينصبها نصبا ولا
ينيمها بل يحنيها شيئا، ويحركها كما تقدم اهـ وقيل: يديم نظره إليها، لخبر ابن الزبير عند أحمد وغيره، قال في الفروع: إسناده جيد، وأحاديث الإشارة بالسبابة في التشهد قد بلغت حد التواتر.(2/64)
(في تشهده) (1) ودعائه في الصلاة وغيرها (2) عند ذكر الله تعالى (3) تنبيها على التوحيد (4) (ويبسط) أصابع (اليسرى) (5) .
__________
(1) في الصلاة، متعلق بيشير، للخبر المتقدم وغيره، ولمسلم: ورفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها، وسمي بالتشهد من باب إطلاق الجزء وهو الشهادة على الكل.
(2) أي يشير بسبابته إذا دعا في صلاة وغيرها، لحديث عبد الله بن الزبير: «كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها» ، ورواه أبو داود والنسائي: وفيه عن سعد بن أبي وقاص مر بي وأنا أدعو بأصابعي، فقال: أحد أحد يا سعد، وأشار بالسبابة.
(3) وصحح في شرح الهداية للحنفية وغيرها عند الشهادة، وكذا عند الشافعية، فيكون رفعها مرة في التشهد، قال في الفروع: ولعله أظهر، وهي أفضل الذكر فيكون موضع الإشارة لا إله إلا الله، لما رواه البيهقي من فعله صلى الله عليه وسلم وفي المقنع والإنصاف وغيرهما: مرارا لقوله: إذا دعا.
(4) والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وسئل ابن عباس فقال: هو الإخلاص، ولأبي داود عنه أنه قال: هكذا الإخلاص، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، وروي مرفوعا.
(5) لحديث ابن عمر: وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وفي لفظ ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها.(2/65)
مضمومة إلى القبلة (1) (ويقول) سرًّا (2) (التحيات لله) أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك (3) والبقاء والعظمة لله تعالى، مملوكة له ومختصة به (4) .
__________
(1) ليستقبل القبلة بأطراف أصابعه، وهذه الجلسة على هذه الهيئة تمثل في الخدمة بين يدي ربه جاثيا على ركبتيه، كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده، راغبا راهبا، معتذرا إليه، مستعديا إليه على نفسه آتيا بأكمل التحيات وأفضلها، وأسنى الثنا ثم بالشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم بالصلاة عليه، متخيرا من الدعاء أحبه إليه.
(2) ندبًا إجماعًا لقول ابن مسعود: «من السنة إخفاء التشهد» ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
قال النووي: وأجمعوا على كراهة الجهر بالتشهدين، لخبر ابن مسعود، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وقال الشارح وغيره: السنة إخفاء التشهد كالتسبيح، لا نعلم فيه خلافًا.
(3) ملكًا واختصاصا، أو كل ما يحيي به من الثناء والمدح بالملك والعظمة لله تعالى، وهو سبحانه يحيي ولا يسلم عليه، وفي الصحيحين كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام» لأن السلام دعاء بالسلامة، والله سبحانه هو المدعو، وهو السالم من كل نقص وعيب، وله الملك المطلق، وكانوا إذا نال أحد الملك قيل: نال فلان التحية، أي نال الملك الذي يستدعي له التحية، فهو سبحانه المستحق أن يحيي بأعلى التحيات، لتمام ملكه، ولا يسلم عليه لكماله وغناه المطلق.
(4) فجميع التعظيمات لله سبحانه وتعالى، ومنه الخضوع والركوع والسجود والكتوف والخشوع، وأمثال ذلك، والبقاء الدوام، والعظمة والكبرياء، وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة، فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعم صباحا، ولبعضهم: أسلم كثيرًا، وغير ذلك، فقيل للمسلمين، قولوا: التحيات لله إلخ، فهو سبحانه أولى بالتحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ولا يستحق هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه سبحانه وتعالى.(2/66)
(والصلوات) أي الخمس (1) أو الرحمة، أو المعبود بها، أو العبادات كلها، أو الأدعية (2) (والطيبات) أي الأعمال الصالحة (3) أو من الكلم (4) (السلام) أي اسم السلام وهو الله (5) .
__________
(1) وما هو أعم من الفرض والنفل لله تعالى، فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل.
(2) التي يراد بها تعظيم الله لله تعالى، ومنها الشهادتان، والخوف، والرجاء والتوكل والإنابة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة لله تعالى، وهو مستحقها ولا تليق بأحد سواه.
(3) لله، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، والطيبات صفة لموصوف محذوف أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء ونحو ذلك، مما هو ثناء على الله تعالى، وذكر له، وأولها الصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل عمل كالجهاد والنفقة وأمثال ذلك لله تعالى.
(4) أي: الطيبات من الكلم، وحسن أن يثنى به على الله وكل عمل تعمله، فهذا كله لا حق فيه لغيره، وطيبه كونه خالصا من الشوائب.
(5) إذ كان اسم الله يذكر على الأعمال، توقعا لاجتماع معاني الخيرات فيه، وانتفاء عوارض الشر منه، والسلام في الأصل مصدر بمعنى السلامة، واسم من التسليم، والسلام اسم من أسماء الله لسلامته من كل نقص وعيب، فإن اسمه
السلام متضمن لكل ما يتنزه عنه، وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشرور والعيوب، والسلام التحية.(2/67)
أو سلام الله (عليك (1) أيها النبي) بالهمز من النبأ، لأنه مخبر عن الله، وبلا همز، إما تسهيلا أو من النبوة وهي الرفعة (2) وهو: من ظهرت المعجزات على يده (3) .
(ورحمة الله وبركاته) جمع بركة وهي: النماء والزيادة (4) (السلام علينا) أي على الحاضين من الإمام والمأموم والملائكة (5) (وعلى عباد الله الصالحين) جمع صالح وهو القائم بما عليه من حقوق الله، وحقوق عباده (6) .
__________
(1) حكاه الأزهري وغيره، ولفظه: أو سلم الله عليك تسليما، فتضمن معنيين، ذكر الله وطلب السلامة، وأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلا له منزلة المواجه، لقربه من القلب، حتى أنه لأدنى إلى العبد من روحه.
(2) فعيل بمعنى فاعل، وفي الحديث لا تنبزوا باسمي إنما أنا نبي الله وتركها هو المختار عند العرب، وقيل: مأخوذ من النبي الذي هو الطريق الواضح، لأنه الطريق إلى الله تعالى.
(3) معجزة النبي ما أعجز به الخصم عند التحدي، وتسمى آيات النبوة، ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، ولم يؤت نبي قبله ولا رسول معجزة إلا وله مثلها وزيادة.
(4) والمراد نزلت عليه السلامة والرحمة والبركة.
(5) وقاله النووي وغيره.
(6) من الملائكة ومؤمن الإنس والجن، قاله الزجاج والقاضي وغيرهما؟
ودرجاتهم متفاوتة، وقد دل الكتاب والسنة والإجماع القديم على تفضيل صالحي البشر على الملائكة، وعباد جمع عبد، وتقدم أنه لا أشرف ولا أتم للمؤمن من وصفه بالعبودية لله تعالى.(2/68)
وقيل: المكثر من العمل الصالح، ويدخل فيه النساء، ومن لم يشاركه في الصلاة (1) (أشهد أن لا إله إلا الله) أي أخبر بأني قاطع بالوحدانية (2) (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) (3) .
__________
(1) لقوله في رواية لهما: «فإنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح، في السماء والأرض» ، ويقصد بألفاظ التشهد معانيها، مرادة له على وجه الإنشاء، كأنه يحي الله ويسلم على نبيه، وعلى نفسه، وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض، قال الترمذي، من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة، فليكن عبدا صالحا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
(2) أي: نفي الألوهية عما سوى الله، وإفراده بالعبادة، والشهادة خبر قاطع، والقطع من فعل القلب، واللسان مخبر عن ذلك، والمشاهدة المعاينة، فتشهد شهادة اليقين أن لا معبود بحق إلا الله، وإن كان ابتداء هذه الكلمة العظيمة نفيًا، فالمراد به غاية الإثبات، ونهاية التحقيق، ومن خواصها أن حروفها مهملة، تنبيها على التجرد من كل معبود سوى الله، وكلها جوفية، تنبيهًا على أن المراد بها الإخلاص للإتيان بها من خالص جوفه، وهو القلب لا من الشفتين وفي الحديث: «أفضل الذكر لا إله إلا الله» ، وذكر جماعة أنه لا بأس بزيادة «وحده لا شريك له» .
(3) بصدق ويقين، وذلك يقتضي متابعته، وأتى بهاتين الصفتين، رفعا للإفراط والتفريط، ولفظهما ثبت في جميع الأمهات الست، وإضافتهما إلى الله إضافة تشريف وتكريم.(2/69)
المرسل إلى الناس كافة (1) (هذا التشهد الأول) (2) علمه النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وهو في الصحيحين (3) .
__________
(1) قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} بل إلى جميع الثقلين الجن والإنس بالإجماع.
(2) في المغرب، والرباعية ونحوهما، وهو مشروع بغير خلاف، نقله الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، نقلا متواترا يفيد القطع ويشترط موالاته، وذكر العاطف بين الشهادتين، ولفظ أشهد، ورعاية حروفه، وتشديداته، والإعراب المخل بالمعنى، وإسماع نفسه، ويكتفي بالنطق بالحروف كما تقدم، فإنه متى حرك لسانه كان متكلما، وصحح في تصحيح الفروع أنه إذا أتى بالألفاظ المتفق عليها أجزأه، وإن كان الساقط ثابتا في حديث ابن مسعود وغيره، والأولى الإتيان بالوارد دون التلفيق، وتخفيفه وعدم الزيادة عليه، لحديث كان يجلس في الأوليين كأنه على الرضف، رواه أبو داود وغيره، والرضف الحجارة المحماة، وحديث: «نهض حين فرغ من تشهده» ، قال الطحاوي: من زاد عليه فقد خالف الإجماع، وقال أحمد: من زاد فقد أساء، ولو فرغ المؤتم قبل إمامه سكت وفاقا، وقيل يتمهل، وقيل: يكرره اختاره شيخنا وغيره، ولم يشرع في الصلاة سكوت إلا لمستمع لقراءة إمامه، ولا يخلو موضع من الصلاة من قول أو عمل.
(3) وقال البزار والذهلي وغيرهما: أصح حديث في التشهد حديث ابن مسعود، روي من نيف وعشرين طريقًا، قال الحافظ والبغوي: لا خلاف في ذلك، وقال مسلم: اتفق الناس عليه، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء: التشهد به أفضل، لمرجحات كثيرة: منها الاتفاق على صحته، وتواتره بل هو أصح
التشهدات، وأشهرها، ولأمره أن يعلمه الناس، وكونه محفوظ الألفاظ، لم يختلف في حرف منه، وكون غالبها يوافق ألفاظه، فاقتضى أنه الذي يأمر به
غالبا واتفق العلماء على جواز التشهدات كلها، الثابتة من طريق صحيح، قال الشيخ: كلها سائغة باتفاق المسلمين، وتقدم أن أصل أحمد استحسان كل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.(2/70)
(ثم يقول) في التشهد الذي يعقبه السلام (1) (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد (2) .
__________
(1) سواء كان من واحدة كالوتر، أو اثنتين كالفجر، أو ثلاث كالمغرب، أو أربع كالظهر، أو خمس كمن يوتر بها، أو أكثر، وهو ركن فيه، وفاقا للشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك: هو مستحب، لحديث المسيء، وحجتنا قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} والأحاديث الصحيحة المتواترة.
(2) قال ابن عبد البر: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رويت من طرق متواترة بألفاظ متقاربة اهـ. والصلاة من الله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما تقدم، وأمرنا تعالى أن نصلي عليه، ليجتمع له صلى الله عليه وسلم ثناء أهل السماء والأرض وهو ركن في هذا الموضع، وتقدم الكلام في آل محمد وآل إبراهيم إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وقد جمع الله لهم الرحمة والبركة بقوله: {رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فسأل صلى الله عليه وسلم إعطاء ما تضمنته الآية واستشكل التشبيه هنا بعض العلماء، وذكروا فيه أقوالا، ولعل المراد بالتشبيه التشبيه في الصلاة لا في القدر كقوله {كما أوحينا إلى إبراهيم} وقد انعقد الإجماع على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، وقال ابن القيم: شرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلا لقرة عينه،
بإكرام آله، والصلاة عليهم، وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على
أبيه إبراهيم، وآله، والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله، ولذلك كان
المطلوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مثل الصلاة
على إبراهيم، وعلى جميع الأنبياء من بعده، وآله المؤمنين، فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بها وأفضل اهـ فحصل له أعظم ما لإبراهيم وغيره، وإذا كان المطلوب بالدعاء إما هو مثل المشبه به، وله نصيب وافر من المشبه، ظهر به فضله على كل من النبيين، ما هو اللائق به، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة والسلام ابن آزر، ولد قبل المسيح بألفي عام، ومعناه بالسريانية: أب رحيم.(2/71)
وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (1) ، لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك في المتفق عليه من حديث كعب بن عجرة (2) .
__________
(1) البركة هي الثبوت والدوام، أي: أثبت له وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة و (حميد) أي محمود على كل حال، مستحق لجميع المحامد و (مجيد) أي ماجد، والماجد هو العظيم الواسع المتصف بالمجد، وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة.
(2) ولفظه: قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: «قولوا اللهم صلى على محمد» إلخ، ويجوز أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بغيره مما ورد، كما في الصحيحين وغيرهما، وفي رواية «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» ، وتجوز الصلاة على غيره مفردا نص عليه، واختاره الشيخ، إلا أن يتخذ شعارا فيحرم، وقال: السلام على غيره باسمه جائز من غير تردد، وكعب بن عجرة هو ابن أمية بن عدي بن عبيد بن خالد بن عمرو بن عوف بن غنم البلوي ثم القضاعي، حليف الأنصار، نزل الكوفة، ومات بالمدينة قبل الستين.(2/72)
ولا يجزئ لو أبدل آل بأهل (1) ، ولا تقديم الصلاة على التشهد (2) (ويستعيذ) ندبًا (3) فيقول: أعوذ بالله (من عذاب جهنم (4) و) من (عذاب القبر) (5) .
__________
(1) وصوبه في تصحيح الفروع: وقال في الإقناع وشرحه، الصواب عدم إبدال آله بأهله، لأن أهل الرجل أقاربه أو زوجته، وآله أتباعه على دينه فتغايرا وفي الصحيحين قولوا: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته» ، وقيل: هم القرابة من غير تقييد، وإليه ذهب جماعة من أهل العلم، وقيل الأمة، ولا شك أن القرابة أخص الآل، فتخصيصهم بالذكر ربما كان لمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم.
(2) لفوات الترتيب بينهما.
(3) إجماعًا وقيل بوجوبه، لحديث أبي هريرة: «إذا فرغ أحدكم من التشهد فليستعذ بالله من أربع» ، فذكره رواه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم، ولمسلم إذا فرغ من الشتهد الأخير، والتعوذ الالتجاء والاعتصام وتقدم، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة: «كان يدعو في صلاته اللهم إني أعوذ بك» إلخ، وفيه وأعوذ بك من المأثم والمغرم، والمغرم الدين وذلك لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا، وقول بعضهم بوجوبه يدل على تأكده.
(4) اسم لنار الآخرة، وهي لفظة أعجمية وقيل عربية، سميت به لبعد قعرها، من الجهومة وهي الغلظ، وتواترت الأحاديث بالاستعاذة منها، والعذاب في الأصل الضرب والنكار والعقوبة، ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة، وسمي عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه ما يلائمه من الخير، ويقرن به ما يؤلمه، ولأنه يمنعه من المعاودة ويمنع غيره من مثل ما فعله.
(5) وتواترت أيضا بالاستعاذة من عذاب القبر، وعذابه ونعيمه متواتر
والإيمان به من أصول أهل السنة والجماعة، قال الشيخ: ويقع على الأبدان والأرواح إجماعا، وقد ينفرد أحدهما عن الآخر بالألم.(2/73)
(و) من (فتنة المحيا والممات (1) و) من (فتنة المسيح الدجال) (2) والمحيا والممات الحياة والموت (3) ، والمسيح بالحاء المهملة على المعروف (4) .
__________
(1) هذا من باب ذكر العام مع الخاص، وأصل الفتنة الامتحان والاختبار وفتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته، من الافتتان بالدنيا وشهواتها، والجهالات أو الابتلاء مع زوال الصبر ونحو ذلك، فأمرنا بالاستعاذة من ذلك، وفتنة الممات قيل عند الموت، ومنه سكرات الموت، أضيف إليه لقربه منه، أو فتنة القبر وعذابه، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة منه، وفي حديث الكسوف «إنكم تفتنون في قبوركم» ، ومنه سؤال الملكين، ولا يكون تكرار لعذاب القبر، لأن عذاب القبر متفرع على ذلك.
(2) وهذه الأربع هي مجامع الشر كله، فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه، والعذاب نوعان عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة، وأسبابه الفتنة، وهي نوعان: كبرى وصغرى، فالكبرى: فتنة الدجال، وفتنة الممات، والصغرى: فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة، بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال، فإن المفتون فيهما لا يتداركها، والجمع بينها من ذكر الخاص مع العام.
(3) فالمحيا نقيض الممات، مفعل من الحياة، وكذا الممات مفعل من الموت عدم الحياة، والموضع الذي يحيا فيه ويموت فيه، ومنه: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} جمعه محاي وممايت.
(4) المشهور، سمي بذلك لمسحه الأرض ذهابه فيها، أو لكونه ممسوحًا عن كل خير، أو لأنه ممسوح العين اليمنى أعورها، قال عليه الصلاة والسلام: «إنه أعور» ، وسمي دجالاً لخداعه أو لكذبه، أو لتمويهه على الناس، وتغطيته الحق
بالباطل وتلبيسه من الدجال، وهو التغطية والخداع، وقيل: إنه بالخاء المعجمة، وهو بمعنى الخداع والكذب، وأما المسيح ابن مريم فلحسنه، أو لسياحته، أو لخروجه من بطن أمه ممسوحا بالدهن، أو لكونه لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقال أبو الهيثم وغيره: المسيح بالمهملة ضد المسيخ، بالمعجمة، عيسى مسحه الله إذ خلقه خلقًا حسنًا، ومسخ الدجال إذ خلقه خلقًا ملعونًا.(2/74)
(و) يجوز أن (يدعو بما ورد) (1) أي في الكتاب والسنة (2) .
__________
(1) بل يسن أن يدعو بما ورد، فقد شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته، ما لم يشق على مأموم ففي الصحيح: «وليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به» ، ولمسلم «ثم ليتخير من المسألة ما شاء» ، أو «ما أحب» والمأثور أفضل، قال الشيخ الإسلام: والدعاء في آخرها قبل الخروج مشروع، مسنون، بالسنة المستفيضة وإجماع المسلمين وقد ذهب طائفة إلى وجوب المأمور به فيه اهـ وقد كان غالب دعائه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد قبل السلام، وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، وهو اللائق بحالة المصلي، فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فلا ينبغي للعبد أن يترك سؤال مولاه، في حال مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، وآكده عند خروجه من هذه العبادة على هذه الهيئة، وقد شرع له أمام استعطافه كلمات التحية، مقدمة بين يدي سؤاله، بمنزلة خطبة الحاجة أمامها، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يديه، فكأنه توسل إلى الله بعبوديته، وبالثناء عليه، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم الصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك، فهذا الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك، وليكن منك بأدب وخشوع، وحضور قلب ورغبة ورهبة، فإنه لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.
(2) كقوله {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا
كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» ، وكقوله: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وماأسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» قال علي وكان آخر ما يقول بين التشهد والسلام، والأول علمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليدعو به في صلاته، وكقوله: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره» وغير ذلك مما ورد.(2/75)
أو عن الصحابة والسلف (1) أو بأمر الآخرة، ولو لم
يشبه ما ورد (2) وليس له الدعاء بشيء مما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها (3) كقوله: اللهم ارزقني جارية حسناء، أو طعاما طيبا، وما أشبهه (4) .
__________
(1) مما ثبت عنهم، فهم القدوة، نحو: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.
(2) نحو: اللهم أحسن خاتمتي، وكالدعاء بالرحمة والعصمة من الفواحش، وكالدعاء بالرزق الحلال، ونحو ذلك، لحديث ابن مسعود «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه» ، وحديث: «ثم ليدع بما شاء» صححه الترمذي.
(3) لحديث «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، والدنيا اسم لهذه الدار، وما فيها، ما سميت به بدنوها وقربها، والملاذ المشتهيات، والشهوات مفردها شهوة، وهي اللذة، واللذة إدراك الملائم من حيث أنه ملائم، وكذا الشهوة حركة النفس طلبا للملائم أو الملذ.
(4) كبستانا أنيقا، وكحلة خضراء، أو دابة هملاجة، أو دارا واسعة، ونحو ذلك.(2/76)
وتبطل به (1) (ثم يسلم) وهو جالس (2) لقوله عليه السلام: «وتحليلها التسليم» (3) .
__________
(1) أي تبطل الصلاة بالدعاء به، لأنه من كلام الآدميين، وعنه يجوز الدعاء بحوائج دنياه وملاذها، مما ذكره ونحوه، قال أحمد: لا بأس أن يدعو الرجل بجميع حوائجه من حوائج دنياه وأخراه، قال الشارح: وهو الصحيح، اختاره شيخنا، لظواهر الأخبار اهـ، ولا بأس بالدعاء لشخص معين، ما لم يأت بكاف الخطاب فتبطل به، وفي الفروع، وظاهر كلامهم لا تبطل بقوله: لعنه الله، عند ذكر الشيطان على الأصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم العن فلانا وفلانا» .
(2) بلا نزاع قاله في المبدع ملتفتا يبدأ السلام مع ابتداء التفاته وينهيه معه، وهو تحليلها وليس لها تحليل سواه.
(3) أخرجه أصحاب السنن بإسناد صحيح، أي وتحليل ما كان حراما فيها حاصل بالتسليم جعل تحليلا لها يخرج به المصلي، كما يخرج بتحليل الحج منه، وكل عبادة وهو بابها الذي يخرج به منها، وليس لها تحليل سواه، قال في محاسن الشريعة: فيه معنى لطيف، كأن المصلي مشغول عن الناس، ثم أقبل عليهم كغائب حضر اهـ. والحكمة أنه ما دام في صلاته فهو في حمى مولاه، فإذا انصرف ابتدرته الآفات، فإذا انصرف مصحوبا بالسلام الذي جعل تحليلا لها لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الأخرى، وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل كل خير وأساسه وشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به، وذلك دعاء له، وللمصلي معه ثم شرع لكل مصل، وإن كان منفردا، لتوقف الخروج منها إلا به، قال عليه الصلاة والسلام: «إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك» .(2/77)
وهو منها (1) فيقول: (عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله (2) وعن يساره كذلك) (3) وسن التفاته عن يساره أكثر (4) .
__________
(1) أي من الصلاة وركن من أركانها، عند جمهور العلماء للخبر.
(2) يبتدئ السلام متوجها إلى القبلة، وينهيه مع تمام الالتفات وفاقا للشافعي وغيره، ويكون مرتبا معرفا وجوبا، لأن الأحاديث صحت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول كذلك ولم ينقل خلافه، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
(3) أي ويقول عن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، لحديث سعد أنه رآه يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يرى بياض خده، رواه مسلم، ولأهل السنن نحوه عن ابن مسعود، وقال الترمذي: حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال العقيلي: والأسانيد صحيحة ثابتة في حديث ابن مسعود في التسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء اهـ وقد أجمع العلماء على مشروعيتهما، وهو فعله الراتب، وقال ابن القيم: ثبتت بهما السنة الصحيحة المحكمة عن خمسة عشر صحابيا، ما بين صحيح وحسن اهـ. ونص الطحاوي وغيره على تواتر التسليمتين عنه صلى الله عليه وسلم وقال البغوي، وغيره: التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب قبولها، والواحدة غير ثابتة عند أهل النقل.
(4) بحيث يرى خده، لفعله عليه الصلاة والسلام، رواه يحيى بن محمد، عن عمار، وفيه وإذا سلم عن يساره يرى بياض خده الأيمن والأيسر، والالتفات سنة فيهما لما تقدم، وقال أحمد: ثبت عندنا من غير وجه أنه كان يسلم عن يمينه ويساره، حتى يرى بياض خده.(2/78)
وأن لا يطول السلام (1) ولا يمده في الصلاة (2) ولا على الناس (3) وأن يقف على آخر كل تسليمة (4) وأن ينوي به الخروج
من الصلاة (5) ولا يجزئ إن لم يقل: ورحمة الله. في غير صلاة الجنازة (6) .
__________
(1) أي لا يمد به صوته.
(2) عطف تفسير، والمد إطالة الصوت بحرف من حروف المد، لقول أبي هريرة: حذف السلام سنة، وروي مرفوعا، عنه صلى الله عليه وسلم وصححه الترمذي وعليه أهل العلم، وقال ابن سيد الناس: قال العلماء: يستحب أن يدرج لفظ السلام، ولا يمد مدا، لا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء اهـ وحذفه تخفيفه، واختصاره، أي عدم تطويله ومده، يقال حذف في قوله: أوجز واختصر.
(3) أي لا يطول السلام ولا يمده إذا سلم على الناس.
(4) فيسكن الهاء من لفظ الجلالة، قال النخعي: السلام جزم.
(5) لتكون النية شاملة لطرفي الصلاة، وينوي به السلام على الحفظة وعلى الحاضرين، لحديث سمرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا وأن يسلم بعضنا على بعض، رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وإسناده ثقات، والبزار وزاد، في الصلاة قال الحافظ: وإسناده حسن، وقال النووي: السلام على الملائكة والمقربين، ومن تبعهم من المسلمين، اعتضدت طرقه، فصار حسنا أو صحيحا، وعند مالك يجب نية الخروج منها، واختاره ابن حامد، وهو قول الشافعي وغيره.
(6) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقوله، ولأنه سلام في صلاة ورد مقرونا بالرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام في التشهد، وأما صلاة الجنازة فيجزئه.(2/79)
والأولى أن لا يزيد: وبركاته (1) (وإن كان) المصلي (في ثلاثية) كمغرب (أو رباعية) كظهر (نهض مكبرا بعد التشهد الأول) (2) ولا يرفع يديه (3) .
__________
(1) لعدم وروده في أكثر الأخبار، وإن زاد جاز، لما رواه أبو داود من حديث وائل، كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله كذلك، ما لم يتخذ ذلك عادة فلا، لمخالفة السنة المستفيضة.
(2) قائما على صدور قدميه، لأنه انتقال إلى قيام، فأشبه القيام من سجود الأولى، وثلاثية أي ثلاث ركعات أي المغرب، ورباعية أي أربع ركعات أي الظهر والعصر والعشاء، نسبة إلى رباع المعدول عن أربعة، كثلاث تقول في المذكر رباعي، وفي المؤنث رباعية.
(3) حكاه بعضهم وفاقا، وعليه جماهير الأصحاب، وعنه يرفع يديه، قال الشيخ: مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين بالسنة، وقد ثبت في الصحاح والسنن، ولا معارض لها ولا مقاوم، واختاره هو والمجد وصاحب الفائق وابن عبدوس، واستظهره في المبدع والفروع، وصوبه في الإنصاف، وهو أصح الروايتين عن أحمد، ومذهب أهل الحديث، لما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أنه كان يرفع يديه في هذا الموضع، وهي في بعض طرق البخاري أيضا، وجاء ذكرها مصرحا به في حديث أبي حميد الساعدي. قال: ثم إذا قام من الركعتين رفع يديه، حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع عند افتتاح الصلاة، رواه مسلم وابن أبي حاتم في صحيحه وغيرهما، وصححه الترمذي وغيره من حديث علي، وهو عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه، ولأبي داود نحوه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، وصححه البخاري في جزء رفع اليدين، وقال: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح
لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض والزيادة مقبولة من أهل العلم، وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها اهـ وقد رواه جماعة من الصحابة بحضرة أصحابهم، وصدقوهم على ذلك، وثبت عن خلائق من السلف والخلف فتعين استحبابه.(2/80)
(وصلى ما بقي (1) كـ) الركعة (الثانية بالحمد) أي الفاتحة (فقط) (2) ويسر بالقراءة (3) (ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا) (4) يفرش رجله اليسرى (5) .
__________
(1) أي من صلاته، وهو ركعة من مغرب، ووتر، وركعتان من رباعية.
(2) هذا قول أكثر أهل العلم، وقال ابن سيرين: لا أعلمهم يختلفون فيه اهـ ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بعد الفاتحة شيئا، وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهر في الاقتصار على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين، وربما قرأ في الأخيرتين بشيء فوق الفاتحة لما رواه مسلم من حديث أبي سعيد وغيره، وهو قول للشافعي.
(3) إجماعا، نقله الخلف عن السلف، وصرح في المبدع والإنصاف وغيرهما أنه لا يجهر في الثالثة والرابعة بلا خلاف.
(4) بلا نزاع متفعلا من الورك، والورك ما فوق الفخذ، والتورك الإتكاء على إحدى وركيه، وهو في الصلاة القعود على الورك اليسرى.
(5) بضم الراء على المشهور، وحكى القاضي كسرها ولم يحك الضم، ومعنى فرشها جعل ظهرها على الأرض، وعند الخرقي يجعل باطن اليسرى تحت فخذه اليمنى، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يفعله، رواه مسلم، واختاره المجد والقاضي، والشارح، وقال: أيهما فعل فحسن.(2/81)
وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض (1) ثم يتشهد ويسلم (2) (والمرأة مثله) أي مثل الرجل في جميع ما تقدم (3) حتى رفع اليدين (4) (لكن تضم نفسها) في الركوع والسجود وغيرهما، فلا تتجافى (5) .
__________
(1) لقول أبي حميد: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. رواه أبو داود، وللبخاري عنه قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته، ونحوه عند مسلم من حديث أبي سعيد، وغيره، وهذا التورك جعل فرقا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يسن تخفيفه، فيكون الجالس فيه متهيئا للقيام، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه على هيئة المستقر، وأيضا تكون هيئات الجلوسين فارقة بين التشهدين، مذكرة للمصلي حاله فيهما، وإن سجد لسهو بعد السلام في ثلاثية فأكثر تورك، قال في الإنصاف، بلا خلاف أعلمه، وفي ثنائية ووتر يفترش، والسنة في القدم اليمنى أن تكون منصوبة باتفاق أهل العلم، وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة، وأليتيه بفتح اللام، وقال ابن السكيت وجماعة، لا تكسر الهمزة والتثنية أليان بحذف التاء على غير قياس، وبإثباتها في لغة، ولا يقال لية، والجمع أليات، مثل سجدة وسجدات.
(2) وهو جالس بلا نزاع، كما تقدم.
(3) من أركان وواجبات ومندوبات، قولية أو فعلية، لشمول الخطاب لها، سوى ما استثنى في حقها.
(4) في مواضع. وقال المجد: ترفع قليلا، وهو أوسط الأقوال.
(5) ندبا بل تجمع نفسها، وتنخفض وتلصق مرفقيها بجنبيها وبطنها بفخذيها، وغيرهما في جميع الصلاة، لأنه أستر لها، قال في الإنصاف: بلا نزاع
والنفل كالفرض في الجلوس، وهو مذهب مالك والشافعي، والجمهور، ومثلها الخنثى احتياطا.(2/82)
(وتسدل رجليها في جانب يمينها) إذا جلست (1) وهو أفضل (2) أو متربعة (3) ، وتسر بالقراءة وجوبا إن سمعها أجنبي (4) وخنثى كأنثى (5) ثم يسن أن يستغفر ثلاثا (6) .
__________
(1) أي تسدلهما في جميع الجلسات، لوجود المعنى الذي لأجله شرع الجلوس على هذه الكيفية، ولم يصرحوا بحكم جلوسها على غير هذه الكيفية، المشروعة في حقها، إلا ما يفهم بالكراهة في الفروع، حيث قال: ولا تجلس كالرجل، لكن قال البخاري: كانت أم الدرداء تجلس كالرجل وهي فقيهة.
(2) أي من تربعها، قال في المبدع وغيره: لأنه فعل عائشة، وأشبه بجلسة الرجل، وأبلغ في الإكمال والضم، وأسهل عليها.
(3) لأن ابن عمر كان يأمر النساء أن يتربعن في الصلاة، والتربع هو الجلوس المعروف، اسم فاعل من تربع، سمي بذلك لأنه قد ربع نفسه كما يربع الشيء، إذا جعل أربعا، والأربع هنا الساقان والفخذان، ربعها أي أدخل بعضها تحت بعض.
(4) خشية الفتنة بها، ولأن صوت المرأة عورة، وقال الشيخ في المرأة، إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا.
(5) فيما تقدم احتياطا إن سمعها أجنبي، لاحتمال أن يكون امرأة.
(6) فيقول: استغفر الله، ثلاث مرات، للخبر الآتي وغيره.(2/83)
ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام (1) ويقول: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر، معا ثلاثا وثلاثين (2) .
__________
(1) لما في الصحيح وغيره، كان إذا سلم استغفر ثلاثا، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» ، وفي الصحيحين ثم يقول: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» ، وهو في الصحيحين أيضا من حديث ابن الزبير، أنه كان يقوله، وفي الصحيح أنه كان يهلل بهن، وفي لفظ: حين يسلم، ولمسلم: بأعلى صوته، ففيه تقديمه يلي السلام، مقدما على غيره، وفي الصحيح: أن رفع الناس أصواتهم بالذكر بعد الصلاة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين أنه كان يقول: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، أي لا ينفع ذا الحظ منك حظه وغناه، إنما ينفعه العمل الصالح، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك» .
(2) أي يقولها جميعا ثلاثا وثلاثين مرة، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتمام المائة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» ، قال الشيخ: ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة وقال بعض السلف والخلف، ويعقده والاستغفار، بيده لحديث يسيره عليكن
بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وسواء ضبط عدده بأصابعه أو برءوسها أو بمفاصلها بأن يضع إبهامه في كل ذكر على مفصل، قال الشيخ: وعد التسبيح بالأصابع سنة وبالنوى والحصى ونحو ذلك حسن، وأما ما يجعل في نظام الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا حسنت فيه النية فهو حسن، وأما اتخاذه من غير حاجة أو إظهاره للناس، مثل تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، ونحو ذلك، فهذا إما رئاء الناس، أو مظنة المراءة ومشابهة المرائين من غير حاجة، الأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة اهـ.
وروى الخمسة وصححه الترمذي من حديث ابن غنم عن أبي ذر: «من قال بعد صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كتب له كذا وكذا» ، الحديث ولأحمد والنسائي وغيرهما عن معاذ نحوه، وفيه «وصلاة المغرب والصبح» ، ولأحمد وغيره نحوه من حديث أم سلمة وأخرجه الرافعي بلفظ: «إذا صليتم صلاة الفرض فقولوا عقب كل صلاة عشر مرات» والحديث، وذكر بعضهم أنه لا خلفا في استحبابه بعد الصبح والمغرب، وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، من حديث الحارث: «اللهم أجرني من النار» سبع مرات، ولأحمد وغيره عن أبي أمامة وغيره: يقرأ سرا بعد كل صلاة آية الكرسي وصححه في المختارة، وقال ابن القيم: له طرق تدل على أن له أصلا اهـ، ويقرأ سرا سورة الإخلاص والمعوذتين، لحديث عقبة رواه أحمد وأهل السنن.(2/84)
ويدعو بعد كل مكتوبة، مخلصا في دعائه (1) .
__________
(1) لأن الدعاء عبادة، والإخلاص ركنها الأعظم قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ومجتنبا للحرام قال الشيخ: إذا لم يخلص الداعي في الدعاء، ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطرا أو مظلوما ويكون بخوف
وخشوع، وحضور قلب، وعزم ورغبة ورهبة، ورجاء، وينتظر الإجابة، ولا يعجل، والحاصل أنه يستحب للعبد إذا فرغ من صلاته واستغفر الله، وذكره وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقب الصلاة مما تقدم، ونحوه، أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما شاء، فإن الدعاء عقب هذه العبادة من أحرى أوقات الإجابة لا سيما بعد ذكر الله وحمده والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أبلغ الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار، وفي حديث فضالة: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء» ، صححه الترمذي، والذكر بعد الإنصراف هو كما قالت عائشة: مثل مسح المرأة بعد صقالها، فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب، كما تصقل المرأة ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة فقمن أن يستجاب للداعي حينئذ، وإن ارتاضت نفسه على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة كان أبلغ فإنه أفضل ممن يجاهدها على الطاعة ويكرهها عليها، وينبغي أن يخفيه، فإن في إخفاء الدعاء فوائد، منها أنه أعظم إيمانا، وأعظم في الأدب والتعظيم، وأبلغ في التضرع والخشوع، والإخلاص وجمعية القلب على الله، وأنه دال على قرب صاحبه من الله، وأدعى إلى دوام الطلب والسؤال، وأبعد عن القواطع والمشوشات، وغير ذلك من الفوائد، وأما إظهاره والاجتماع عليه فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا، لا في الفجر ولا في العصر ولا غيرهما من الصلوات، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة قال الشيخ: ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلط عليه، ويستحب جلوسه بعد فجر وعصر إلى طلوعها، وغروبها، نص عليه، واقتصر بعضهم على الفجر لفعله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.(2/85)
............................................................(2/86)
فصل (1)
(ويكره في الصلاة التفاته) لقوله عليه السلام «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» ورواه البخاري (2) وإن كان لخوف ونحوه لم يكره (3) .
__________
(1) أي هذا فصل فيما يكره في الصلاة، وما يباح ويستحب، وما يتعلق بذلك، والفصل لغة الحاجز بين الشيئين واصطلاحا هو الحاجز بين أجناس مسائل العلوم وأنواعها، وتقدم أنها إنما فصلت وبوبت تنشيطا لقارئها لأنه إذا ختم فصلا أو بابا وشرع في غيره كان أنشط له، وتسهيلا لمراجعة المسائل.
(2) الاختلاس الاختطاف بسرعة على غفلة، ولأحمد وغيره عن أبي ذر مرفوعا «لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه» وللترمذي وصححه عن أنس قال: إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، وغير ذلك من الأحاديث، ويكره بلا حاجة إجماعا، وذكر البزار عن أبي الدرداء، لا صلاة للملتفت وقال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرا، ويقال: إن الحكمة في جعل سجود السهو جابرا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره، مما ينقص الخشوع لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد، ليتيقظ العبد له فيجتنبه.
(3) لحديث سهل قال: ثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، رواه أبو داود، والمراد الشعب الذي يجيء منه الطليعة، ولم يكن من فعله الراتب، وإنما فعله لعارض، وكذا قال ابن عباس: كان
يلتفت يمينا وشمالا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره، رواه النسائي والترمذي
بإسناد صحيح، ولمسلم صلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا، والتفت أبو بكر حين سبحوا به لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو الخوف غرض من الأغراض، أو حاجة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.(2/87)
وإن استدار بجملته (1) أو استدبر القبلة في غير شدة خوف، بطلت صلاته (2) (و) يكره (رفع بصره إلى السماء) إلا إذا تجشى فيرفع وجهه، لئلا يؤذي من حوله (3) لحديث أنس ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم (4) ، فاشتد قوله في ذلك، حتى قال: لينتهين أو لتخطفن أبصارهم.
__________
(1) أي بجميع بدنه، في غير شدة خوف بطلت صلاته، لا إن التفت بصدره ووجهه، فلا يصدق عليه أنه استدار بجملته، فلا تبطل، ما لم يتحول عن القبلة مع تحول قدميه.
(2) إجماعا، أو استدبر بجملته فقط، لتركه الاستقبال بلا عذر، وقال في الإنصاف: إن استدار بجملته أو استدبرها فإن صلاته تبطل بلا نزاع، لا بصدره مع وجهه، ذكره ابن عقيل والشيخ وغيرهما، وفهم الصحابة إشارته ولا يمكن إلا مع الالتفات، وكانوا يعلمون قراءته باضطراب لحيته، ولم يأمرهم بالإعادة وأما في شدة الخوف فلا تبطل، لسقوط الاستقبال، لأن ذلك من ضروريات قتاله، ومثل ذلك من في الكعبة فإنها لا تبطل بلا نزاع، لأنه إذا استدبر جهة فقد استقبل الأخرى.
(3) براحة الجشاء إذا كان في جماعة وفاقًا، والجشاء كغراب خروج صوت مع ريح يستفرغ من المعدة إلى طريق الفم، يحصل عند الشبع.
(4) أي ما حالهم وشأنهم، ويعبر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان وهو الخاطر والقلب.(2/88)
رواه البخاري (1) (و) يكره أيضا (تغميض عينيه) لأنه فعل اليهود (2) (و) يكره أيضا (إقعاؤه) في الجلوس (3) وهو أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه (4) هكذا فسره الإمام (5) وهو قول أهل الحديث، واقتصر عليه في المغني والمقنع والفروع وغيرها (6) وعند العرب: الإقعاء جلوس الرجل على أليتيه، ناصبا قدميه، مثل إقعاء الكلب (7) .
__________
(1) ولمسلم نحوه من حديث أبي هريرة وجابر وفيه «أو لا ترجع إليهم» و (ينتهن) بضم الهاء، أي ليتركن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لتسلبن بسرعة.
(2) نص عليه، واحتج به الإمام أحمد، ولأنه مظنة النوم، لا إن احتاج إليه كخوف محذور، مثل رؤية من يحرم نظره إليه، وقال ابن القيم: ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تغميض عينيه، والصواب أن يقال: إن كان تفتيحها لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهناك لا يكره التغميض قطعا، والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده، من القول بالكراهة.
(3) وفاقا لما يأتي.
(4) ومعنى الفرش هنا: جعل ظهرهما مما يلي الأرض، وعقبيه بكسر القاف تثنية عقب مؤخر القدم.
(5) يعني: الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
(6) وتبعهم في الإقناع والمنتهى، وزاد: أو بينهما ناصبا قدميه.
(7) ذكره أبو عبيد عن العرب، وقال غيره: ناصبا فخذيه، وقال ابن الأثير والطحاوي وغيرهما، الإقعاء: أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض، كما يقعي الكلب، وحكى هذه الصفة الجوهري عن العرب، قال في المغني: لا أعلم أحدا قال باستحباب هذه الصفة.(2/89)
قال في شرح المنتهى (1) ، وكل من الجلستين مكروه، لقوله عليه السلام: «إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعي الكلب» رواه ابن ماجه (2) ويكره أن يعتمد على يده أو غيرها وهو جالس (3) لقول ابن عمر: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده. رواه أحمد وغيره (4) وأن يستند إلى جدار ونحوه (5) .
__________
(1) يعني لمصنف المنتهى، وهو ابن النجار.
(2) من حديث أنس، وتمامه «ضع أليتيك بين قدميك، وألزق ظهر قدميك بالأرض» ، وله عن علي مرفوعا، «لا تقع بين السجدتين» ولحديث: نهى عن الإقعاء في الصلاة، رواه البيهقي وغيره، وفي رواية: «نهى أن يقعي الرجل في الصلاة» ولأحمد «وإقعاء كإقعاء الكلب» ، والنهي عنه جاء في السنن وغيرها، ولأنه يتضمن ترك الافتراش المسنون قولا وفعلا، فكان مكروها، ولا تبطل به، وما رواه مسلم عن ابن عباس في الإقعاء على القدمين هو سنة، فقال البيهقي: هو أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض، ويضع أليتيه على عقبيه، ويضع ركبتيه على الأرض، يعني بين السجدتين، وهو غير ما تقدم عن أبي عبيد وغيره مما نهي عنه، وكذا نحوه إذا وضع أليتيه على الأرض، وركبتاه في الصورتين على الأرض.
(3) من غير حاجة تدعو إليه.
(4) فرواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم، ومعناه أن يضع يده على الأرض ويتكئ عليها.
(5) كعمود فيكره بلا حاجة وفاقا.(2/90)
لأنه يزيل مشقة القيام إلا من حاجة (1) فإن كان يسقط لو أزيل لم تصح (2) .
(و) يكره (افتراشه ذراعية ساجدًا) بأن يمدهما على الأرض ملصقًا لهما بها (3) لقوله عليه السلام: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» متفق عليه من حديث أنس (4) .
(و) يكره (عبثه) (5) لأنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يعبث في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» (6) .
__________
(1) كمرض ونحوه فلا يكره، لأنه عليه الصلاة والسلام لما أسن وأخذه اللحم اتخذ عمودا في مصلاه، يعتمد عليه، رواه أبو داود.
(2) أي صلاته وفاقًا، لأنه بمنزلة غير القائم.
(3) ولا يرفعهما عن الأرض كما يبسط الكلب والذئب ذراعيه، وفاقا، والافتراش افتعال منه، أي يبسطهما على الأرض كالفراش له.
(4) ولقوله: «إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب» ، صححه الترمذي من حديث جابر، ولأنها صفة الكسلان، والمتهاون، مع ما فيه من التشبه بالسباع.
(5) وفاقًا، وعبث يعبث عبثا من باب تعب، أي لعب وعمل ما لا فائدة فيه، فهو عابث ضد خاشع، ولا فرق بين العبث بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك.
(6) رواه الترمذي وغيره، والخشوع التطامن والذل، وهو قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في القلب، والبصر والصوت، ويكره تقليبه الحصا، ومسحه لحديث أبي ذر مرفوعًا: «إذا قام أحدكم في الصلاة
فلا يمسح الحصا، فإن الرحمة تواجهه» ، رواه أحمد وأهل السنن بإسناد جيد، وفي الصحيحين: «إن كنت فاعلا فواحدة» وفي السنن «واحدة أودع» ، والمعنى لا تمسح وإن مسحت فلا تزد على واحدة واتفق أهل العلم على كراهته إذا لم يكن عذر للأخبار، ولأنه يخالف التواضع والخشوع، والتقييد بالحصا والتراب خرج مخرج الغالب، فلا يدل على نفي غيره من الرمل والقذر وغيره، والأولى مسحه قبل الدخول في الصلاة لئلا يشغل باله وهو في الصلاة.(2/91)
(و) يكره (تخصره) أو وضع يده على خاصرته (1) لنهيه عليه السلام أن يصلي الرجل متخصرا، متفق عليه من حديث أبي هريرة (2) (و) يكره (تروحه) بمروحة ونحوها (3) لأنه من العبث، إلا لحاجة، كغم شديد (4) .
__________
(1) وفاقًا، أي شاكلته، وهي ما فوق رأس الورك، جمعها خواصر، والخضر الوسط، وهو المستدق فوق الوركين، والجمع خصور، والخصر والخاصرة مترادفان ويقال: الخصران والخاصرتان.
(2) بلفظ الخصر والتخصر والاختصار، مختصرا، قال هشام: يضع يده على خصره وهو يصلي، وعلل أنه فعل الكفار أو المتكبرين، لما صح أنه راحة أهل النار، فلا يليق في الصلاة ولأنه فعل اليهود، وقيل: إنه فعل الشيطان، فنهى عنه كراهة للتشبه باليهود أو الشيطان، ولأنه يمنع الخضوع والخشوع.
(3) أي يكره أخذه الريح بمروحة بالكسر، الآلة يتروح بها على نفسه، حكاه ابن المنذر عن عطاء ومالك وغيرهما، وفي الفروع، وفاقًا، ونحوها الخرقة، وما يشبهها يتروح بها.
(4) من حر فلا يكره للحاجة، ما لم يكثر من التروح فيبطل الصلاة إن تولى، وكذا كل فعل من غير جنس الصلاة إذا طال عرفًا أبطلها إجماعًا، كما سيأتي.(2/92)
ومراوحته بين رجليه مستحبة (1) وتكره كثرته لأنه فعل اليهود (2) (وفرقعة أصابعه وتشبيكها) (3) لقوله عليه السلام: «لا تقعقع أصابعك وأنت في الصلاة» رواه ابن ماجه عن علي (4) وأخرج هو والترمذي عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبك أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه (5) .
__________
(1) ذكره صاحب الفروع وغيره رواية واحدة، وعن أبي عبيدة أن عبد الله رأى رجلا يصلي صافًّا بين قدميه، فقال: لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل، رواه الأثرم، ورواه النسائي وفيه: قال أخطأ السنة، لو راوح بينهما كان أعجب إليّ، والمراوحة أن يعتمد على إحدى رجليه تارة، وعلى الأخرى تارة، إذا طال القيام وكذا تفرقته بينهما مستحبة، قال الأثرم: رأيت أبا عبد الله يفرج بين قدميه، ورأيته يراوح بينهما، وأما تقديم إحدى رجليه فمكروه.
(2) أي تكره كثرة المراوحة بين قدميه، لأنه يشبه تمايل اليهود، وفي الصحيح «إذا قام أحدكم في صلاته، فليسكن أطرافه، ولا يميل ميل اليهود» .
(3) وفاقًا، والفرقعة غمزها حتى يسمع لمفاصلها صوت، وتشبيكها إدخال أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى.
(4) القعقعة كالفرقعة، فعل معروف في أصابع اليدين، وقد يفعل في أصابع الرجلين، قيل حكمة النهي أنه يجلب النوم، ونهى ابن عباس عن التفقيع في الصلاة، وهو فرقعة الأصابع، وغمز مفاصلها حتى تصوت.
(5) وقال ابن عمر -في الذي يصلي وهو مشبك- تلك صلاة المغضوب عليهم رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.(2/93)
ويكره التمطي (1) وفتح فمه، ووضعه فيه شيئا (2) لا في يده (3) وأن يصلي وبين يديه ما يلهيه (4) أو صورة منصوبة، ولو صغيرة (5) أو نجاسة أو باب مفتوح (6) .
__________
(1) وهو التمغط وتمطى فلان تمدد وتبختر ومد يديه في المشي، لأنه يخرج عن هيئة الخشوع، ويؤذن بالكسل.
(2) فيكره لأنه يذهب الخشوع، ويمنع كمال الحروف.
(3) أي لا يكره وضع شيء في يده، نص عليه، ولا في كمه، إلا إذا شغله عن كمالها فيكره.
(4) فيكره وفاقًا، لأنه يشغله عن إكمال صلاته، وفي الصحيحين، أنه صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلىأبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي» والخميصة كساء مربع له أعلام، والأنبجانية كساء غليظ.
(5) فيكره وفاقا، ولو لم تبد للناظر، لما فيه من التشبه بعبادة الأصنام، وظاهره أنها لا تكره إذا لم تكن منصوبة، ولا إذا كانت خلفه في البيت، ولا فوق رأسه في سقف، ولا عن أحد جانبيه، ذكر نحوه في الفروع، وقال الشيخ: والمذهب الذي نص عليه عامة الأصحاب، كراهة دخول الكنيسة المصورة، فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة، وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك، وتقدم أنها لا تجوز الصلاة فيه ولا عليها.
(6) أي فيكره إذا كانت بين يديه نجاسة، أو كان بين يديه باب مفتوح، قاله في المبدع وغيره، وتكره الكتابة في قبلته، أو تعليق شيء فيها، قال أحمد: كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئا حتى المصحف اهـ، ويكره التزويق فيها، وكل ما يشغل المصلي.(2/94)
أو إلى نار من قنديل أو شمعة (1) والرمز بالعين، والإشارة لغير حاجة (2) وإخراج لسانه (3) وأن يصحب ما فيه صورة من فص أو نحوه (4) وصلاته إلى متحدث أو نائم (5) .
__________
(1) أو سراج أو نار من حطب ونحو ذلك فيكره، لأنه تشبه بالمجوس في عبادتهم النيران، والصلاة إليها تشبه الصلاة لها، وعبارة الإقناع، ونار ولو سراجا وقنديلا ونحوه، وعبارة التنقيح والمنتهى، ونار مطلقا، وهي أعم، والقنديل المصباح جمعة قناديل، والشمعة بالتحريك، وتسكن وقيل مولدة، ما يستصبح بها، أو موم العسل، وهو ما يجعل على الهيئة المعهودة فيستضاء به.
(2) بيد ووجه وعين ونحوها فيكره، وفي الشرح: لا بأس بالإشارة بالعين واليد، لحديث جابر وغيره، وفي الترمذي وغيره وصححه: أنه عليه الصلاة والسلام كان يشير في الصلاة، وقال أحمد وغير واحد: إذا سلم على المصلي رد بالإشارة، ولا يجب عليه بالاتفاق، وفي قول عائشة له: سمعتك تنهى عن هاتين الصلاتين، وأراك تصليهما، فأشار بيده، وفيه أيضا جواز استماع المصلي إلى كلام غيره، وفهمه له، ولا يقدح ذلك في صلاته، كما حكاه الحافظ وغيره.
(3) أي: إبرازه من فيه من غير حاجة، فيكره لما فيه من العبث.
(4) فيكره كدينار ودرهم، وكثوب فيه صورة، فيكره وفاقًا، لتشبهه بعباد الأوثان.
(5) فيكره لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة إلى النائم والمتحدث، رواه أبو داود، ولأنه يشغله عن حضور قلبه فيها، وعنه لا يكره، ويأتي أن كان يصلي وعائشة في قبلته، متفق عليه، وحديث النهي ضعيف، قاله الخطابي وغيره، وكذا تكره صلاته إلى ميت، فهو أولى من النائم، وقيل: لا يكره استقبال ميت، قال شيخنا: كراهته تحتاج إلى دليل.(2/95)
أو كافر (1) أو وجه آدمي (2) أو إلى امرأة تصلي بين يديه (3) وإن غلبه تثاؤب كظم ندبًا (4) فإن لم يقدر وضع يده على فمه (5) (و) يكره (أن يكون حاقنًا) حال دخوله في الصلاة (6) .
__________
(1) وفاقًا للشافعي، لأنه نجس فتكره الصلاة إليه، قال الشارح: كرهها أحمد، لأنه نجس اهـ ونجاسته معنوية اعتقادية لا حسية بدنية، كما فسر به قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ولو كانت عينية فلا كراهة، كالصلاة إلى البغل والحمار.
(2) وفاقًا، وحكاه القاضي عياض عن عامة العلماء، وعزر عمر من صلى إلى وجه آدمي، لا إلى ظهره، فإن عمر وغيره يصلي إلى ظهر القاعد، وكالصف الثاني، ولا إلى حيوان غير الآدمي، لأنه عليه الصلاة والسلام يعرض راحلته ويصلي إليها، ولو كان نجس العين كالبغل والحمار.
(3) لأمره عليه الصلاة والسلام بتأخيرهن، ويأتي وإلا تكن تصلي بين يديه فلا يكره، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي وعائشة في قبلته.
(4) لحديث «إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع» ، متفق عليه ولمسلم «وليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخله» ، وفي الحديث «إن الشيطان لا يفتح غلقًا» ، وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق، سوى الأنف والأذنين، ولذلك كان الشيطان يبيت على الخيشوم، ويبول في الأذنين، لأنها منافذ يتوصل إلى القلب منها، والتثاؤب ينشأ من امتلاء المعدة، وثقل البدن، وأجمعوا على كراهته، حكاه الوزير وغيره، و (كظم) أي أمسك، ومنع فاه عن الانفتاح.
(5) لقوله: «فليضع يده على فيه» ، رواه الترمذي، فيضع ظهر كفيه اليسرى، ليشبه الدافع له، وقد تقدم أن اليسرى لما خبث.
(6) إجماعًا للنهي عن ذلك.(2/96)
والحاقن هو المحتبس بوله (1) وكذا كل ما يمنع كمالها كاحتباس غائط أو ريح (2) وحر وبرد (3) وجوع وعطش مفرط (4) لأنه يمنع الخشوع (5) وسواء خاف فوت الجماعة أو لا (6) .
__________
(1) كثيرًا بالنون، وحقن الرجل بوله حبسه، وجمعه، فهو حاقن.
(2) وهو الحاقب والحازق مدافع الريح، فليبدأ بالخلاء، ليزيل ما يدافع من بول أو غائط أو ريح، ولو فاتتة الجماعة، ومن أهل العلم من قال بعدم صحتها، والأكثر أنها ناقصة، وقال الشيخ: إذا كان على وضوء وهو حاقن، يحدث ثم يتيمم، إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاه بالوضوء وهو حاقن، وقال: صلاته مع الاحتقان مكروهة، وفي صحتها روايتان، وصلاة المتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق.
(3) أي شديد، لأن ذلك يقلقه، ويشغله عن حضور قلبه في الصلاة، ويستعمل ما يبرده، ويستدفئ ليدفع ألم ذلك، وتكره في مكان شديد الحر أو شديد البرد، لأنه يذهب الخشوع.
(4) بغير خلاف، ونحو ذلك مما يزعجه ويشغله.
(5) الذي هو لب الصلاة وروحها، والخشوع الإخبات، وهو معنى يقوم بالنفس يظهر منه سكون الأطراف، لقوله عليه الصلاة والسلام في العابث بلحيته «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» ، قال ابن القيم: والخشوع قيام العبد بين يدي الرب بالخضوع والذل، والجمعية عليه، وفي الأثر «إذا صلى يتضرع ويتخشع ويتمسكن، وإلا فهي خداج» ، وفي الأثر «أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع» .
(6) أي يكره أن يدخل فيها على تلك الحال، سواء خاف فوات الجماعة باشتغاله بذلك، أو لم يخف، وتصح صلاته مع الكراهة بالاتفاق.(2/97)
لقوله عليه السلام: «لا صلاة بحضرة طعام، ولاو هو يدافعه الأخبثان» رواه مسلم عن عائشة (1) (أو بحضرة طعام يشتهيه) (2) فتكره صلاته إذًا لما تقدم (3) .
__________
(1) ولقوله «لا يصل أحدكم وهو حاقن» ، وفي رواية «وهو حقن حتى يتخفف» رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما، وألحق بذلك ما في معناه مما ذكر ونحوه، وليس من تقديم حق النفس على حق الرب تعالى، وإنما هو صيانة لحق الله سبحانه، ليدخل العبد في العبادة بقلب مقبل على ربه.
(2) أي بمشهد منه، وعبارة الإقناع والمنتهى والفروع وغيرها: أو تائقا إلى طعام أو شراب قال منصور: وظاهره سواء كان الطعام بحضرته أو لا، وعبارة المقنع وغيره، أو بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، وهو ظاهر الأخبار، وكذا إذا كان تائقا إلى شراب أو جماع، فيبدأ بما تاق إليه ولو فاتته الجماعة، وفي صحيح البخاري وغيره: «إذا قدم العشاء فابدءوا بالعشاء قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم» ولهما: «إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا به، فيكره ابتداؤها وهو تائق إلى طعام اتفاقا، قال ابن القيم: عشر يؤذي انحباسها ومدافعتها الدم إذا هاج، والمني إذا اجتمع، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش، وكل واحد يوجب حبسه داء من الأدواء بحسبه، وظاهر عباراتهم أنه إذا لم تتق نفسه إليه أنه يبدأ بالصلاة من غير كراهة، وكذا إن لم يحضر الطعام، لأنه لا تتوق نفسه إليه كما تتوق إلى المحضر.
(3) من الدليل والتعليل، وفي الصحيح: كان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام.(2/98)
ولو خاف فوت الجماعة (1) وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها وجبت في جميع الأحوال (2) وحرم اشتغاله بغيرها (3) ويكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه، لأنه من شعار الرافضة (4) .
__________
(1) للأخبار وفي الصحيح عن أبي الدرداء «من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ» ، وفي الحديث: «ولا يعجل حتى يفرغ منه» ، وفيه دليل على أنه يأكل حاجته من الطعام بكمال، وصوبه غير واحد، ووضع الطعام بين يدي الآكل فيه زيادة تشوف، وكلما تأخر تناوله ازداد، بخلاف باقي الأمور فلا يلحق بحكم الطعام كل أمر يكون للنفس تشوف إليه، إذ لو كان كذلك لم يبق للصلاة وقت في الغالب، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
(2) أي سواء كان حاقنا أو حاقبا، أو بحضرة طعام يشتهيه ونحو ذلك، ولا يكره ابتداء الصلاة كذلك.
(3) لتعين الوقت لها.
(4) أو من جُل شعارها، أي: من علاماتهم التي يتميزون بها، فإنهم يأخذون قطعة من طين من أرض مشهد الحسين يتبركون بها، ويسجدون عليها، فيكره أن يخص جبهته بنحو ذلك، لما فيه من التشبه بأهل الباطل، والرافضة فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي بن الحسين، ثم قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر، فأبي وقال: كانا ويري جدي صلى الله عليه وسلم فلا أبرأ منهما، فتركوه ورفضوه، فسموا رافضة، والنسبة رافضي، وتولى زيدا قوم منهم فسموا زيدية، ومن ذلك افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية.(2/99)
ومسح أثر سجوده في الصلاة (1) ومس لحيته (2) وعقص شعره (3) وكف ثوبه ونحوه (4) ولو فعلهما لعمل قبل صلاته (5) ونهى الإمام رجلا كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى (6) .
__________
(1) أي يكره باتفاق السلف، لحديث أبي هريرة مرفوعا، «من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته، قبل الفراغ من صلاته» رواه ابن ماجه وفي البزار وغيره من حديث ابن بريدة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من الجفاء أن يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته» في الصحيح، عن أبي سعيد أنه رأى أثر الطين على جبهته وأنفه قال الحميدي: يحتج به أن لا تمسح الجبهة في الصلاة، بل بعدها، قال الشيخ: وكره أحمد وغيره مسح الجبهة في الصلاة من التراب ونحوه الذي يعلق به في السجود، وتنازعوا في مسحه بعدها كالمنديل، وفي الفروع: لا يكره وفاقًا.
(2) وفاقًا: لأنه من العبث، وقال عليه الصلاة والسلام في العابث بلحيته: «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه» .
(3) وفاقًا: أي: ليّه وإدخال أطراف في أصوله، وهو أيضا جمع الشعر على الرأس، وشده بشيء حتى لا ينحل، ورأى ابن عباس رجلا يصلي ورأسه معقوص من ورائه، فقام فجعل يحله، فلما انصرف قال: ما لك ولرأسي؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه مسلم وغيره، وقال الترمذي: كرهوا أن يصلي الرجل وهو معقوص شعره.
(4) كتشمير كمه وفاقًا، لحديث: «ولا أكف ثوبا ولا شعرا ما لم يخش بدو عورته» .
(5) أي: عقص الشعر، وكف الثوب ونحوه كره، وتقدم قول أهل العلم في ذلك.
(6) ونقل عبد الله: لا ينبغي أن يجمع ثيابه واحتج بالخبر.(2/100)
ونقل ابن القاسم: يكره أن يشمر ثيابه (1) لقوله عليه السلام: «ترب ترب» (2) (و) يكره (تكرار الفاتحة) لأنه لم ينقل (3) و (لا) يكره (جمع سور في) صلاة (فرض كنفل) (4) لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء (5) .
__________
(1) أي: أن يرفعها عن ساقيه، وابن القاسم هو أحمد بن القاسم، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، حدث عنه، وعن الإمام أحمد كثيرا.
(2) وروى نحوه الترمذي والنسائي وغيرهما، ولأحمد «ترب وجهك لله تعالى» ولها شواهد، قال الحافظ بأسانيد ضعيفة، وذكر بعضهم حكمة النهي أنها تسجد معه، وقال بعضهم: الحكمة الشاملة أنه إذا رفع ثوبه عن مباشرة الأرض أشبه المتكبر.
(3) وخروجًا من خلاف من أبطلها به، لأنها ركن ما لم يكن لتوهم خلل في المرة الأولى فلا يكره، والفرق بين الركن القولي والفعلي أن تكرار القولي لا يخل بهيئة الصلاة.
(4) أي كما لا يكره جمع سور في نفل إجماعًا، وكان عثمان يختم القرآن في ركعة، وقال أحمد: ختمت القرآن في ركعتين، فكذا في الفرض لعدم الفارق.
(5) وفيه أن رجلا من الأنصار كان يؤمهم فكان يقرأ قبل كل سورة (قل هو الله أحد) ثم يقرأ سورة أخرى معها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يحملك على لزوم هذه السورة؟» فقال: إني أحبها، فقال: «حبك إياها أدخلك الجنة» ، وفي الصحيحين عن ابن مسعود لقد عرفت النظائر التي كان يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة، وفي الموطأ أن ابن عمر كان يقرأ في المكتوبة بسورتين في ركعة، وكما لا يكره تكرار سورة في ركعتين وتفريقها فيهما نص عليه.(2/101)
(و) يسن (له) أي: للمصلي (رد المار بين يديه) (1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدًا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين» رواه مسلم عن ابن عمر (2) وسواء كان المار آدميًّا أو غيره (3) والصلاة فرضا أو نفلا (4) بين يديه سترة فمر دونها (5) .
__________
(1) صرف الشارح معنى العبارة من الإباحة إلى السنة لثبوتها برده وعنه يجب عليه رده لظاهر الأخبار.
(2) وله عن أبي سعيد مرفوعا: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأ ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» ولهما «فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره» الحديث ولحديث أم سلمة: وكان يصلي في حجرتها فمر بين يديه عبد الله فقال بيده فرجع، فمرت زينب فقال بيده هكذا فمضت فلما صلى قال: «هن أغلب» رواه ابن ماجه، وأكثر الروايات عن أحمد وغيره أن على المصلي أن يجتهد في رده، ما لم يخرجه ذلك إلى إفساد صلاته بكثرة العمل فيها، قال القاضي عياض وغيره، أجمعوا على أنه لا يجوز له المشي كثيرا ليدفعوا ولا العمل الكثير في مدافعته، لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور.
(3) ظاهره ولو صغيرًا، للعموم، وكان يصلي عليه الصلاة والسلام فمرت شاة بين يديه فساعاها إلى القبلة، حتى ألصق بطنه بالقبلة، رواه ابن خزيمة وابن حبان والطبرانين وصححه في الفروع والمختارة وفي البخاري نحوه.
(4) لعموم الأخبار فيسن رد المار بين يديه فيهما.
(5) أي بينه وبين السترة فيسن رده، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره.(2/102)
أو لم تكن فمر قريبا منه (1) ومحل ذلك ما لم يغلبه (2) أو يكن المار محتاجا للمرور (3) أو بمكة (4) ويحرم المرور بين المصلي وسترته ولو بعيدة (5) وإن لم يكن سترة ففي ثلاثة أذرع فأقل (6) .
__________
(1) أي من المصلي، وقدر بنحو ثلاثة أذرع فأقل فيسن رده قال عثمان: محله إذا كان قريبا منه، بأن لا يكون بين المار وقدمي المصلي ثلاثة أذرع، كما يعلم من الإقناع وشرحه.
(2) يعني المار، لما تقدم في بنت أم سلمة وغيره، فإن غلبة لم يرده وفاقًا.
(3) لضيق الطريق ونحوه، فلا يرده، وتكره في موضع يحتاج فيه إلى المرور، وفي المستوعب، إن احتاج إلى المرور ألقى شيئا ثم مر.
(4) أي: أو يكن المار مجتازًا بين يدي المصلي بمكة، نص عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة والناس يمرون بين يديه، وليس دونهم سترة، رواه الخمسة، والحرم كمكة، قاله في المغني، وفي الصحيحين أنه صلى بمزدلفة إلى غير سترة.
(5) لحديث أبي جهيم مرفوعا «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه» ، متفق عليه ولمسلم «لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي» .
(6) أي فيحرم المرور في ثلاثة أذرع من قدم المصلي فأقل وحكى ابن جزم الاتفاق على إثمه، وقيل: أبعد من موضع السجود، وأما البعيد فلا يتعلق به حكم وقال الموفق: لا أعلم أحدا حد البعيد في ذلك، ولا القريب، وقال: الصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي، ودفع المار بين يديه، للأمر به فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه.(2/103)
فإن أبى المار الرجوع دفعه المصلي (1) فإن أصر فله قتاله ولو مشى (2) فإن خاف فسادها لم يكرر دفعه ويضمنه (3) وللمصلي دفع العدو من سيل وسبع (4) أو سقوط جدار ونحوه (5) وإن كثر لم تبطل في الأشهر قاله في المبدع (6) وله عد الآي والتسبيح (7) .
__________
(1) لحديث «فليدرأ ما استطاع» رواه أبو داود ولغيره من الأحاديث.
(2) له قليلا لقوله «فليدفعه فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» متفق عليه، ولا تفسد صلاته، لكن لا بسيف، ولا بما يهلكه، بل بالدفع باليد واللكز فإن مات بذلك فدمه هدر قاله الشيخ.
(3) إن كرر الدفع، لعدم الإذن فيه والحالة هذه، وتقدم أنها تكره في موضع يحتاج فيه إلى المرور، وتنقص صلاة من لم يرد مارًّا بين يديه وهو قادر على رده.
(4) ونار وحية، وصائل عليه من حيوان وغيره، ويأتي الأمر بقتل الحية والعقرب.
(5) كسقف وعريش وغير ذلك.
(6) وفي الإنصاف وغيره: إن كان ثم ضرورة لم تبطل.
(7) بأصابعه، وتوقف أحمد في عدد التسبيح، لأنه يتوالى لقصره، فيتوالى حسابه فيكثر العمل، بخلاف عد الآي، فهو منقول عن السلف، قال ابن عقيل: لا يكره وجها واحدا، وصححه ابن نصر الله وغيره، وكرهه أبو حنيفة والشافعي، لأنه يشغل عن خشوع الصلاة، قال ابن نصر الله، ومراد الأصحاب أن يعد ذلك بقلبه، ويضبط عدده في ضميره، من غير أن يتلفظ به فإنه متى تلفظ به، فبان حرفان بطلت.(2/104)
وتكبيرات العيد بأصابعه (1) لما روى محمد بن خلف عن أنس رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه (2) (و) للمأموم (الفتح على إمامه) (3) إذا ارتج عليه أو غلط (4) لما روى أبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فلبس عليه (5) فلما انصرف، قال لأبي أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟ (6) .
__________
(1) أي فيباح له عدها بأصابعها، وكذا صلاة الاستسقاء.
(2) ورواه البيهقي وغيره موقوفًا عن أبي عبد الرحمن وإبراهيم وعروة، وروي عد الآي مرفوعًا عن ابن عمر، ومحمد بن خلف هو شهاب الدين ابن راجح المقدسي الحنبلي، أخذ عن ابن المنا وغيره، وكان من أقران الموقف وعبد الغني وأبي عمر، توفي سنة ستمائة وثماني عشرةِ.
(3) أي تلقينه وفتح القراءة عليه.
(4) أي: وللمأموم إذا استثقلت القراءة على الإمام أن يسمعه القراءة على الصواب ليذكرها وفاقًا، وأرتج عليه أي التبس يقال: ارتج على القارئ إذا لم يقدر على القراءة كأنه منع منها، من أرتجت الباب، أغلقته إغلاقا وثيقا، وهو مبني للمفعول مخفف أو غلط أي أخطأ وجه الصواب.
(5) قال ابن رسلان: بفتح اللام والباء الموحدة المخففة، أي التبس واختلط عليه، وفي بعض النسخ بضم اللام وتشديد الموحدة المكسورة وقال المنذري: بضم اللام وتخفيف الموحدة.
(6) أي أن تنبه علينا، وكالتنبيه بالتسبيح وفي رواية «فهلا ذكرتنيها» ولابن حبان: فالتبس عليه، وقال: «ما منعك أن تفتحها علي؟» .(2/105)
قال الخطابي: إسناده جيد (1) ويجب في الفاتحة كنسيان سجدة (2) ولا تبطل به، ولو بعد أخذه في قراءة غيرها (3) ولا يفتح على غير إمامه (4) لأن ذلك يشغله عن صلاته (5) فإن فعل لم تبطل، قاله في الشرح (6) (و) له (لبس الثوب و) لف (العمامة) (7) .
__________
(1) وأخرجه الحاكم وابن حبان، وصححه النووي وغيره، ولأحمد نحوه، ولأبي داود وغيره بإسناد جيد من حديث المسور أنه صلى الله عليه وسلم ترك شيئًا فقال له رجل: يا رسول الله، إنه كذا وكذا، فقال: «هلا ذكرتنيها؟» وصح عن علي أنه قال: إذا استطعمك الإمام فأطعمه، وروي مرفوعا، وللحاكم وغيره من طرق عن أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضًا في الصلاة، وهو مذهب جماهير العلماء، وعليه العمل من غير نكير، فكان إجماعا.
(2) أي: يجب الفتح على إمامه إذا ارتج عليه أو غلط في الفاتحة، لتوقف صحة صلاته على ذلك، كما يجب تنبيهه عند نسيان سجدة ونحوها من الأركان ولا يجب في غير الفاتحة، قال في الإنصاف: بغير خلاف أعلمه، وإن عجز عن إتمام الفاتحة لم تصح صلاته، صححه الموفق وغيره، لقدرته على الصلاة بها.
(3) لأنهم ذكروا الفتح من غير بطلان.
(4) مصليًّا كان أو غيره.
(5) فكره له، وللاختلاف في بطلانها به، قال أحمد: يكره أن يفتح من هو في الصلاة على من هو في صلاة أخرى، أو على من ليس في صلاة.
(6) ولأنه قول مشروع فيها، ولكنه يكره لعدم الحاجة إليه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إن في الصلاة لشغلا» ، وعنه تبطل به، وهو مذهب أبي حنيفة، فتأكد كراهته.
(7) وحمل شيء ووضعه، ويكره حمل مشغل عنها.(2/106)
لأنه عليه الصلاة والسلام التحف بإزاره وهو في الصلاة (1) وحمل أمامة (2) وفتح الباب لعائشة (3) وإن سقط رداءه فله رفعه (4) (و) له (قتل حية وعقرب وقمل) وبراغيث ونحوها، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب، رواه أبو داود والترمذي وصححه (5) .
__________
(1) رواه مسلم من حديث وائل: «أنه كبر ثم التحف بإزاره» .
(2) بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي العاص بن الربيع، تزوجها علي بعد فاطمة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها، متفق عليه، وفي رواية أنه الحسن أو الحسين، وفي حمله لها فوائد، منها أن العمل المتفرق في الصلاة لا يبطلها إذا كان للحاجة، ومنها الرحمة للأطفال، ومنها التواضع ومكارم الأخلاق، ومنها أن مس الصغيرة لا ينقض الوضوء.
(3) وصلى على المنبر وتكرر صعوده ونزوله متفق عليه، وعرض له الشيطان فذعته، قال النضر: خنقه، وقال: «لقد هممت أن أوثقه إلى سارية» الحديث متفق عليه، ولأنه عمل يسير فأبيح له.
(4) لحديث وائل المتقدم أنه صلى الله عليه وسلم التحف بإزاره وهو في الصلاة وغيره.
(5) قال أحمد وغيره: يجوز له أن يذهب إلى النعل فيأخذ ويقتل به الحية والعقرب ثم يعيده إلى مكانه، وكذا سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال، وكان
أبو برزة يصلي ومعه فرسه، كلما خطا يخطو معه خشية أن ينفلت قال
أحمد: إن فعل كما فعل أبو برزة فلا بأس، وقال الخطابي: رخص أهل العلم في قتل الأسودين في الصلاة إلا النخعي، والسنة أولى ما اتبع، وفي الإنصاف: له قتل الحية والعقرب بلا خلاف أعلمه، وحكى في كتاب رحمة الأمة الإجماع عليه، وفي معنى الحية كل مضر مباح قتله، ومنه القمل، فإن عمر وأنسا والحسن كانوا يقتلونه وهو الصحيح من المذهب، ولأن في تركه أذى له إن تركه على جسده، ولغيره إن ألقاه، وهو عمل يسير، وقال القاضي: التغافل عنه أولى، والحية تكون للذكر والأنثى، والعقرب واحدة العقارب، وكذا القملة واحدة القمل، وكلها معروفة.(2/107)
(فإن أطال) أي أكثر المصلي (الفعل عرفا (1) من غير ضرورة و) كان متواليا بـ (لا تفريق بطلت) الصلاة (2) (ولو) كان الفعل (سهوا) إذا كان من غير جنس الصلاة، لأنه يقطع الموالاة، ويمنع متابعة الأركان (3) فإن كان لضرورة لم يقطعها كالخائف (4) وكذا إن تفرق ولو طال المجموع (5) .
__________
(1) وكان في نفس الصلاة من غير جنسها.
(2) إجماعًا قاله في المبدع وغيره، والضرورة كحالة خوف وهرب من عدو، وحكة لا يصبر عنها، لم تبطل، والتوالي هو الذي لا تفريق فيه، فلو فرق بين العمل لم تبطل، إذا كان يسيرًا، بدليل حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة ووضعها في كل ركعة، وغير ذلك، فإن لم تكن ضرورة واحتاج إلى العمل متواليًا قطع الصلاة وفعل، ثم استأنفها.
(3) ويذهب الخشوع فيها، ويغلب على الظن أنه ليس فيها، وكل ذلك مناف لها، أشبه ما لو قطعها.
(4) من عدو وسبع ونار ونحو ذلك.
(5) لم يقطعها لما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم.(2/108)
واليسير ما يشبه فعله صلى الله عليه وسلم من حمل أمامة، وصعود المنبر، ونزله عنه، لما صلى عليه، وفتح الباب لعائشة، وتأخره في صلاة الكسوف ثم عوده، ونحو ذلك (1) وإشارة الأخرس ولو مفهومة كفعله (2) ولا تبطل بعمل قلب (3) .
__________
(1) كرد المار، وقتل الحية والعقرب، والأخذ بالأذن، والغمز والإشارة، وعقد التسبيح، وغير ذلك، واتفق الأئمة على أنه لا بأس بالعمل اليسير للحاجة فإن احتاج إلى فعل كثير، قطع الصلاة وفعله، قال أحمد: إذا رأى صبيين يتخوف أن يلقى أحدهما صاحبه في البئر، فإنه يذهب إليهما فيخلصهما ويعود في صلاته، وقال: إذا لزم رجل رجلا فدخلا المسجد وقد أقيمت الصلاة فإذا سجد الإمام خرج الملزوم فإن للذي كان لزمه أن يخرج في طلبه، يعني ويبتدئ الصلاة، وكذا إن هرب غريمه ونحوه.
(2) فتبطل إذا كثرت عرفًا وتوالت، لا كقوله.
(3) ولو طال، لعموم البلوى، ولم يؤمر بالإعادة، وقد دلت النصوص على أن الأجر والثواب مشروط بحضور القلب، ولم تدل على وجوب الإعادة، وحضور القلب فراغه عن غير ما هو ملابس له، وهو هنا العلم بالعمل بالفعل والقول الصادرين عن المصلي، وإذا دفع الخواطر ولم يسترسل معها لم تضره، قال النووي: ولو عرض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عن ذلك، وحصلت له هذه الفضيلة، يعني قوله: «لا يحدث فيهما نفسه» ، لأن هذا ليس من فعله، وقد عفي لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر، وعلى العبد الاجتهاد في دفع ما يشتغل القلب من تفكر فيما لا يعنيه، ودفع الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، ولا نزاع في كراهة التفكير بدنيوي، وكل ما كان مشغلا، ولا ريب أن
العبد كلما أراد توجها إلى الله بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى
فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله أراد الشيطان قطع الطريق عليه، فعلى العبد الاجتهاد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر القرآن والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناجٍ لله كأنه يراه.(2/109)
وإطالة نظر في كتاب ونحوه (1) (وتباح) في الصلاة فرضًا كانت أو نفلا (قراءة أواخر السور وأوساطها) (2) لما روى أحمد ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأولى من ركعتي الفجر قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية (3) وفي الثانية الآية في آل عمران {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ} الآية (4) .
__________
(1) ككتابة في جدار ونحوه لم تبطل إجماعًا، وكره إجماعا يعني النظر إلى ما يلهيه، حتى إذا قرأ ما فيه بقلبه ولم ينطق بلسانه مع كراهته لم تبطل، ولا تبطل إن قرأ من المصحف، سواء كان يحفظه أو لا وفاقا. ولا أثر لعمل غيره، وكمن مص ولدها ثديها، لعدم المنافي.
(2) كأوائلها، قال أحمد: المنقول عنه صلى الله عليه وسلم قراءة السورة أو بعضها من أولها.
(3) يعني إلى آخر الآية وهو قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} من سورة البقرة.
(4) ولعموم قوله {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ولما رواه أبو داود وغيره عن أبي سعيد، أمرنا أن نقرأ بالفاتحة وما تيسر، وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ في الآخرة من صلاة الصبح آخر آل عمران: وأخر الفرقان، قال الشيخ: لم يكن غالبا عليهم، وأعدل الأقوال قول من قال: يكره اعتياد ذلك دون فعله أحيانًا، لئلا يخرج عما مضت به السنة، وعادة السلف من الصحابة والتابعين.(2/110)
(وإذا نابه) أي عرض للمصلي (شيء) أي أمر (1) كاستئذان عليه، وسهو إمامه (2) (سبح رجل) (3) ولا تبطل إن كثر (4) (وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى) (5) وتبطل إن كثر (6) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نابكم شيء في صلاتكم فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء» متفق عليه من حديث سهل بن سعد (7) .
__________
(1) أي أصابه أمر في صلاته.
(2) عن واجب أو بفعل في غير محله، وكخوفه على إنسان الوقوع في شيء أو أن يتلف شيئا، وكتنبيه المار من يريد منه أمرا، وهو لا يدري أنه يصلي فينبهه على أنه يصلي.
(3) بلا نزاع بإمام وجوبًا، وبمستأذن استحبابًا.
(4) أي لاتبطل بالتسبيح وإن كثر، لأنه من جنس المصلاة، بخلاف التصفيق.
(5) أو ظهرها أو ضرب ظهر كف على بطن الأخرى، بإمام وجوبا، وبمستأذن استحباب، وكذا أعمى خشيت وقوعه في محذور ونحو ذلك.
(6) لأنه من غير جنس الصلاة، فأبطلها كثيره، عمدا كان أو سهوًا فلو ضربت بيديها بطنا لبطن بقصد اللعب ولو قليلا مع علم التحريم، وكذا إن فعله لاعبا عالما بتحريمه بطلت وإن قل لمنافاته الصلاة.
(7) ولهما عنه «ما لي أراكم أكثرتم التصفيق، من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء» ، وعن علي: كنت إذا استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم سبح، وإن كان في غير صلاة أذن رواه أحمد وغيره، وللبيهقي عن أبي هريرة «إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي فإذنه التسبيح وإذا استؤذن على المرأة فإذنها التصفيق» وقال: رواته كلهم ثقات.(2/111)
وكره التنبيه بنحنحة (1) وصفير، وتصفيقه (2) وتسبيحها (3) لا بقراءة وتهليل وتكبير ونحوه (4) (وبصفق) ويقال بالسين والزاي (5) (في الصلاة عن يساره (6) وفي المسجد في ثوبه) (7) .
__________
(1) للاختلاف في إبطالها بها.
(2) صوبه في الإنصاف واستظهره ابن نصر الله، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} والصفير كل صوت يمتد ولا يغلظ، وهو خالٍ من الحروف، والتصفيق ضربه بيده على يده حتى يسمع لها صوت.
(3) أي: ويكره التنبيه من المرأة بالتسبيح، لأنه خلاف ما أمرت به، ولئلا يفتتن بصوتها.
(4) وكتسبيح وتحميد واستغفار فيباح له، لأنه من جنس الصلاة، وكذا إن ترك إمامه ذكرا، فرفع المأموم صوته به ليذكره ونحوه.
(5) أي يبسق ويبزق، وكلها من باب نصر، ثلاث لغات، أفصحهن بالصاد، والبصاق من الفم، والمخاط من الأنف، والنخامة هي النخاعة من المصدر.
(6) لا عن يمينه، لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، «إذا قام أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه، فلا يبزقن قبل قبلته، لكن عن يساره وتحت قدمه» وفي الصحيح «فإن عن يمينه ملكا» ، ولابن أبي شيبة «فإن عن يمينه كاتب الحسنات» .
(7) أي ويبصق إذا كان في المسجد في ثوبه، ظرف للفعل، فلا يشترط كون الفاعل فيه، حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله، وعطف أحمد بوجهه وهو في المسجد فبزق خارجه.(2/112)
ويحك بعضه ببعض، إذهابًا لصورته (1) قال أحمد: البزاق في المسجد خطيئة، وكفارته دفنه للخبر (2) ويخلق موضعه استحبابًا (3) ويلزم حتى غير الباصق إزالته (4) وكذا المخاط والنخامة (5) .
وإن كان في غير المسجد جاز أن يبصق عن يساره، أو تحت
__________
(1) أي البصاق، لما في الصحيح عن أنس، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه، ثم رد بعضه على بعض، ولمسلم عن أبي هريرة، أنه رأى نخامة في قبلة المسجد فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فينتخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» ، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض، قال النووي وغيره: إذا بصق في المسجد فقد ارتكب الحرام، وعليه أن يدفنه، ومن رآه يبصق فيه لزمه الإنكار عليه، ومنعه إن قدر.
(2) يعني الخبر الآتي وغيره.
(3) لفعله عليه الصلاة والسلام، رواه مسلم وغيره من حديث جابر «ويخلق» بضم أوله وشد اللام، أي يطلي موضع البصاق ونحوه بعد إزالته بالخلوق، وهو أخلاط من الطيب.
(4) من مسجد، لخبر أبي ذر: «وجدت في مساوي أعمالنا النخامة تكون في المسجد فلا تدفن» رواه مسلم.
(5) أي هما في الحكم كالبزاق، لحديث «فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فمن لم يجد فليقل هكذا» ، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض.(2/113)
قدمه لخبر أبي هريرة (وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها) ، رواه البخاري (1) وفي ثوبه أولى (2) ويكره يمنة وأمامًٍا (3) وله رد السلام إشارة (4) .
__________
(1) وظاهره: لا قدامة، ولا عن يمينه، كما في حديث أبي سعيد، وخبر أنس مقيد بالصلاة، كما تقدم، وقال مالك وغيره: لا بأس به خارج الصلاة، وكذا قيده بها جمهور الفقهاء.
(2) أي: وبصقه في ثوبه ونحوه أولى من كونه عن يساره، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به ولئلا يؤذي به.
(3) للأخبار واحترامًا للإمام وحفظ اليمين ويمنة بفتح الياء، وكذا يسرة، واليمين واليسار والميمنة والميسرة هي الجهة.
(4) ومذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يستحب، ونقله الخطابي وغيره عن أكثر العلماء، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير في صلاته، صححه الترمذي ونحوه لأبي داود وغيره من حديث أنس، ولا يجب عليه أن يرده في نفسه، بل يستحب بعدها، لرده عليه الصلاة والسلام علي ابن مسعود بعد السلام، وإن رده لفظًا بطلت، لأنه خطاب آدمي ولو صافحه لم تبطل، ولا يكره السلام على المصلي، وفاقًا لمالك والشافعي، قال النووي وغيره، وهو الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة، وقال أبو الطيب: يستحب في الصلاة كغيرها للحديث الصحيح فيه، وقال الشيخ: من لا يحسن الرد لا ينبغي السلام عليه، وإدخاله فيما يقطع صلاته، أو يترك به الرد الواجب.(2/114)
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة ذكره في نفل (1) «وتسن صلاته إلى سترة» حضرًا كان أو سفرًا، ولو لم يخش مارًّا (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد (3) .
__________
(1) نحو «محمد رسول الله» فيصلي عليه صلى الله عليه وسلم استحبابًا، لتأكد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه، وظاهر كلام بعض الأصحاب أنه لا فرق بين الفرض والنفل، ولا يبطل الفرض به لأنه قول مشروع في الصلاة وفي الرعاية وغيرها: وإن قرأ آية فيها ذكره صلى الله عليه وسلم جاز الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقيدوه بنافلة، وقال ابن القيم: وهو قول أصحابنا اهـ ولو عطس فقال: الحمد لله، أو لسعة شيء فقال: باسم الله أو رأى ما يغمه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو رأى ما يعجبه فقال: سبحان الله كره وصحت قاله في المبدع وغيره، وقال الشيخ: يحمد الله إذا عطس في نفسه نص عليه بمنزلة أذكار المخافتة اهـ وكذا لو خاطب بشيء من القرآن وقال القاضي: إذا قصد بالحمد الذكر أو القرآن لم تبطل وإن قصد خطاب آدمي بطلت.
(2) إمامًا كان أو منفردا، مع القدرة عليها، قال في الشرح والمبدع: بغير خلاف نعلمه، وحكى ابن حامد الإجماع عليه، وعلى الدنو منها، والسترة هنا ما يستتر به من جدار وغيره ويأتي، والمراد منها منعها لمن يمر بين يديه، وشغله عما هو المطلوب منه من الخشوع والخضوع والمراقبة، أو الحكمة فيها كف بصره عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه.
(3) وعن سهل «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع صلاته» رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد صحيح، وليس ذلك بواجب لحديث
ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صلى في فضاء ليس بين يديه شيء، رواه أحمد وأبو داود، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه قدر ممر الشاة متفق عليه، قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود وكذلك بين الصفوف.(2/115)
(قائمة كآخرة الرجل) (1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فليصل، ولا يبالي من يمر وراء ذلك» رواه مسلم (2) فإن كان في مسجد ونحوه قرب من الجدار (3) وفي فضاء فإلى شيء شاخص من شجر أو بعير (4) أو ظهر إنسان أو عصا (5) .
__________
(1) أي مرتفعة نحو ذراع، وقدرها في الغلظ لا حد له، فقد تكون غليظة كالحائط، أو دقيقة كالسهم.
(2) ورواه غيره من حديث طلحة بن عبيد الله، ومؤخرة كمؤمنة وقد تثقل وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب وتارة تكون ذراعًا، وتارة تكون دونه والمراد رحل البعير، وهو أصغر من القتب، والأفصح (آخرة) بالمد، وجاءت السنة باللفظين.
(3) أو السارية ونحو ذلك، لحديث سهل: «كان بينه وبين السترة ممر شاة» رواه البخاري، ولأنه أصون لها.
(4) أو لبنة أو مخدة أو خيط، أو ما اعتقده سترة، للخبر الآتي وغيره، والشاخص المرتفع، والشخوص ضد الهبوط.
(5) لحديث أبي هريرة «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا، ثم لا يضره من مر أمامه» ، رواه أبو داود، ولفظ أحمد، «ثم لا يضره من مر بين يديه» ، وصححه هو وابن المديني وابن حبان وغيرهم.(2/116)
لأنه عليه الصلاة والسلام صلى إلى حربة، وإلى بعير، روه البخاري (1) ويكفي وضع العصا بين يديه عرضًا (2) ويستحب انحرافه عنها قليلا (3) فإن لم يجد شاخصا فإلى خط كالهلال (4) .
__________
(1) ففي الصحيحين عن ابن عمر: «كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد يأمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، ففيه مشروعية اتخاذ السترة، وأنها تحصل بكل شاخص وإن دق، وقال أحمد: ما كان أعرض فهو أعجب إلي، وفي الصحيح وغيره عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض راحلته فيصلي إليها، وكان ابن عمر يفعله، وروي الحاكم عن سبرة «استتروا في صلاتكم ولو بسهم» ، وإسناده على شرط مسلم.
(2) إن لم يجد شاخصًا وتعذر غرز العصا ونحوها، قال في المبدع، لأنها في معنى الخط اهـ ووضعها عرضا أولى من الطول عند أحمد وغيره.
(3) أي عن السترة، لفعله عليه الصلاة والسلام، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، قال ابن عبد البر: وعليه جماعة من أهل العلم، ويجعله على حاجبه الأيمن، أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا، لما روى أبو داود عن المقداد، ما رأيته صلى إلى عود أو عمود أو شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا، وسدا لذريعة التشبه بالسجود لغير الله.
(4) لا طول نص عليه وعليه الأصحاب وقال غير واحد: يكفي طولا، ولعله يقوي الاكتفاء به ما ذكر عن أحمد أن عرضها أعجب إليه، وفي المستوعب إن احتاج إلى مرور ألقى شيئا ثم مر، وظاهر كلامهم: لا يكفي الخط من المار.(2/117)
قال في الشرح: وكيفما خط أجزأه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يكن معه عصافليخط خطًّا» رواه أحمد وأبو داود (1) .
قال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا (2) (وتبطل) الصلاة (بمرور كلب أسود بهيم) أي لا لون فيه سوى السواد (3) إذا مر بين المصلي وسترته (4) .
__________
(1) ورواه ابن حبان وغيره، وفي آخره (ولا يضر ما مر أمامه) وتقدم.
(2) أي الحكم إن شاء الله تعالى، ومراده والله أعلم ما نقله من الاختلاف في إسناده في السنن الكبرى له، وذكر الطحاوي أن فيه رجلا مجهولا، وقال الحافظ: لم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن، وتقدم تصحيحه، وقال النووي: وإن لم يثبت ففيه تحصيل تحريم للمصلي، وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وهذا منها، وهو قول الجمهور اهـ ولأن المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به، لئلا ينتشر، والبيهقي هو الإمام المحدث الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي نسبة إلى بيهق بلدة قرب نيسابور المتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
(3) هذا قول جمهور أهلا للغة، ومنه: ليل بهيم، أي لا ضوء فيه، وقال بعضهم: والخالص الذي لم يشبه غيره، وقال الجوهري وغيره: لا يخالط لونه لون آخر، ولا يختص ذلك بالسواد، وعنه: إن كان بين عينيه بياض لم يخرج بذلك عن كونه بهيما، اختاره المجد وصححه ابن تميم.
(4) إن كان منفردًا أو مر بين الإمام وسترته لا المأموم لأن سترة الإمام سترة للمأموم، فإن مر شيء من وراءه السترة لم يكن للأخبار.(2/118)
أو بين يديه قريبا في ثلاثة أذرع فأقل من قدميه، إن لم تكن سترة (1) وخص الأسود بذلك لأنه شيطان (2) فقط أي: لا امرأة وحمار وشيطان وغيرها (3) .
__________
(1) أي فتبطل لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فإن لم يكن فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود» ، ورواه مسلم وغيره، وللبخاري أنه صلى في الكعبة بينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع، وكلما دنا فهو أفضل، ولأنه أصون لصلاته، والذراع يذكر ويؤنث، وهو في اللغة من طرف المرفق إلى طرف الأصابع.
(2) أي: الكلب الأسود شيطان في الكلاب، وشيطان كل شيء مارده.
(3) كبغل وسنور، فلا تبطل بمروره قدامه، وقال الشيخ: مذهب أحمد أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود البهيم، واختاره هو والمجد والشارح والناظم وغيرهم، قال الشيخ: والصواب أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترة يقطع الصلاة، وقال ابن القيم: صح عنه صلى الله عليه وسلم من طرق أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، فثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل، ومعارض هذه الأحاديث قسمان صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك لمعارض هذا شأنه اهـ.
وذهب مالك والشافعي، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء، ولم يأمر أحدا بإعادة صلاته من أجل ذلك، وتأولوا أن المراد نقص الصلاة بشغل القلب بهذه الأشياء، قالوا: وصح عن عمر: لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي، وأوردوا أحاديث وكلها ضعيفة كما قال ابن القيم، ولا تبطل بالوقوف قدامة، ولا الجلوس، كما لا تكره إلى بعير، وظهر رجل ونحوه، ذكره المجد واختاره الشيخ وغيره.(2/119)
وسترة الإمام سترة للمأموم (1) (وله) أي للمصلي (التعوذ عند آية وعيد (2) والسؤال) أي سؤال الرحمة (عند آية رحمة) (3) .
__________
(1) أي اتخاذ الإمام سترة كافٍ ومغنٍ عن اتخاذ المأموم سترة، بمعنى أنها لا تبطل من المأموم، وأن الغرض الذي تفيده سترة الإمام من عدم البطلان بمرور الكلب الأسود البهيم حاصل للمأموم أيضا، فلا يؤثر في بطلان صلاة المأموم إلا ما أثر في صلاة الإمام، لأن سترة الإمام سترة للمأموم حقيقة، بدليل أنه لا تبطل صلاة المأموم بمرور كلب أسود بينه وبين إمامه، ثم الظاهر كما أفاده عثمان أن سترة الإمام تقوم مقام سترة المأموم في الأمور الثلاثة التي تفيدها السترة، وهي: عدم البطلان بمرور الكلب الأسود، وعدم استحباب رد المصلي للمار، وعدم الإثم على المار بينه وبينه، وهو ظاهر الأخبار، فلا يطلب في حقهم اتخاذ سترة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سترة دون أصحابه، واتفقوا أنهم مصلون إلى سترة، فلا يضرهم مرور شيء بين أيديهم، ولحديث ابن عباس وعمرو بن شعيب وغيرهما والمراد بالمأموم من اقتدى به، سواء كان وراءه أو بجانبه أو قدامه حيث صحت لكن قال الناظم: لم أر أحدًا تعرض لجواز مرور الإنسان بين يدي المأمومين فيحتمل جوازه، واعتباره بسترة الإمام له حكمًا، لكن قال ابن عبد البر، لا خلاف بين العلماء أن المأموم لا يضره من مر بين يديه اهـ، ويحتمل اختصاص ذلك بعدم الإبطال، لما فيه من المشقة، ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا «إنما الإمام جنة» ، قال القاضي: أي يمنع من نقص صلاة المأموم، لأنه يجوز المرور قدام المأمور.
(2) أي للمصلي أن يستعيذ بالله عند قراءة أو سماع آية وعيد.
(3) وله نحوهما كالتسبيح عند آية فيها تسبيح.(2/120)
ولو في فرض (1) لما روى مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، إلى أن قال: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ (2) قال أحمد: إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} في الصلاة وغيرها قال: سبحانك فبلى، في فرض ونفل (3) .
__________
(1) لأنه دعاء بخير، فاستوى فيه الفرض والنفل، وهو مذهب جمهور العلماء من السلف ومن بعدهم، حكاه غير واحد.
(2) وروى أحمد وأبو داود والنسائي نحوه من غير وجه، قال النووي: وفيه استحباب هذه الأمور لكل قارئ في الصلاة وغيرها، يعني فرضها ونفلها للأخبار.
(3) ورواه أبو داود مرفوعا، قال الشيخ: ويقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة، وما فيه دعاء يحصل للتالي والمستمع، لما روى الحاكم وغيره عن أبي ذر مرفوعا «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين هما صلاة وقرآن ودعاء» .(2/121)
فصل (1)
(أركانها) أي أركان الصلاة أربعة عشر (2) جمع ركن وهو جانب الشيء الأقوى (3) وهو ما كان فيها (4) ولا يسقط عمدا ولا سهوا (5) .
__________
(1) أي: هذا فصل نذكر فيها ما تنقسم إليه أفعال الصلاة وأقوالها، وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أركان، وهي ما لا يسقط عمدًا ولا سهوًا، وواجبات وهي ما تبطل بتركه عمدًا ويسقط سهوًا، ويسجد له، وسميت بذلك اصطلاحًا، والثالث سنن وهي ما لا تبطل به مطلقا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة كاملة بجميع أركانها وواجباتها وسننها، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولم يأمرهم بسوى ما رأوا، وإنما يحتاج إلى هذا التفريق لتتبين الأركان والواجبات من غيرها، لأجل الإخلال، وما يجزئ سجود السهو عنه، وما لا يجزئ وقد تقدم ذكرها في مواضعها، وإنما مراده هنا حصرها وضبطها بالعدد.
(2) بالاستقراء، وعدها في الإقناع والمنتهى والمقنع والوجيز وغيرها اثنى عشر، وأجمع العلماء على أن للصلاة أركانا، وهي الداخلة فيها، والمتفق عليه منها سبعة.
(3) الذي لا يقوم ولا يتم إلا به، سميت بذلك تشبيها لها بأركان البيت الذي لا يقوم إلا بها، لأن الصلاة لا تتم إلا بها، فإن أركان الشيء أجزاؤه في الوجود التي لا يحصل إلا بحصولها، وهي داخلة في حقيقته.
(4) احترازا عن الشروط، وفي الاصطلاح، عبارة عن جزء الماهية، وهي الصورة.
(5) خرج بالعمد السنن، وبالسهو الواجبات، فمرادهم هنا وفي الحج ما يبطل العبادة عمده وسهوه، كما هو موضح.(2/122)
وسماها بعضهم فروضًا، والخلف لفظي (1) (القيام) في فرض لقادر (2) لقوله تعالى: {وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} (3) وحده ما لم يصر راكعًا (4) (والتحريمة) أي تكبيرة الإحرام لحديث تحريمها التكبير (5) (و) قراءة (الفاتحة) (6) لحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب» (7) .
__________
(1) أي الخلاف بين من يقول إنها أركان، لفظي إذ المآل واحد.
(2) أي: على القيام فيه، وهو الركن الأول، وخص بالفرض، لحديث عائشة مرفوعا، كان يصلي ليلا طويلا قاعدًا، رواه مسلم، ولغيره من الأحاديث، ولو وقف غير معذور على إحدى رجليه كره، وأجزأته في ظاهر كلام الأكثر.
(3) وحديث عمران مرفوعا: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا» رواه البخاري، سوى خائف به، وعريان ولمداواة وقصر سقف، وخلف إمام الحي العاجز عن القيام بشرطه.
(4) أي حد القيام أن لا يصير إلى الركوع المجزئ ولا يضر خفض رأسه على هيئة الإطراق، قال في الإقناع، والركن منه الانتصاب بقدر تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة في الركعة الأولى، وفيما بعدها بقدر قراءة الفاتحة، وما قام مقام القيام، وهو القعود ونحوه للعاجز والمتنفل، فهو ركن في حقه.
(5) وتقدم ولما في الصحيح «ثم استقبل القبلة وكبر» ، وللجماعة «إذا قمت إلى الصلاة فكبر» ، ولأحمد «وإذا قال إمامكم، الله أكبر، فقولوا: الله أكبر» ، ولم ينقل أنه افتتح الصلاة بغير التكبير.
(6) أي: ركن في كل ركعة في حق الإمام.
(7) رواه إسماعيل الشالنجي، وهو في الصحيحين وغيرهما بدون لفظة «في
كل ركعة» وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤها في كل ركعة وأمر المسيء بذلك.(2/123)
ويتحملها الإمام عن المأموم ويأتي (1) (والركوع) إجماعًا في كل ركعة (2) (والاعتدال عنه) (3) لأنه صلى الله عليه وسلم دوام على فعله (4) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (5) ولو طوله لم تبطل كالجلوس بين السجدتين (6) .
__________
(1) يعني: في باب صلاة الجماعة سواء كانت صحيحة صلاة الإمام أو لا، وهو ظاهر للخبر، ولا تأثير لبطلان صلاة الإمام في هذه الحالة، قال ابن القيم: فإن قيل كيف يتحمل الجنب القراءة عن المأموم؟ قيل لما كان معذورا بنسيانه حدثه نزل في حق المأموم منزلة الطاهر، فلا يعيد المأموم.
(2) لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} وحديث المسيء قال: «فإذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» ، رواه الجماعة، فدل على أن المسميات في هذا الحديث لا تسقط بحال، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل بها.
(3) أي: عن الركوع، وهو الركن الخامس، وفاقا للشافعي.
(4) نقله الخلف عن السلف، نقلاً متواترًا لا نزاع فيه، فدل على آكديته.
(5) ولما تقدم من حديث المسيء وغيره، وأجمع المسلمون على وجوبه.
(6) أي: لا تبطل الصلاة إذا طول الاعتدال ولو قرب قيامه، كما لا تبطل فيما إذا طول الجلوس، وكان أحمد يطيل الاعتدال والجلوس، لحديث البراء المتفق عليه وغيره.(2/124)
ويدخل في الاعتدال الرفع (1) والمراد إلا ما بعد الركوع الأول والاعتدال عنه في صلاة الكسوف (2) (والسجود) إجماعًا (3) (على الأعضاء السبعة) لما تقدم (4) (والاعتدال عنه) أي: الرفع منه (5) ويغني عنه قوله (والجلوس بين السجدتين) (6) لقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدًا، رواه مسلم (7) (والطمأنينة في) الأفعال (الكل) المذكورة لما سبق (8) .
__________
(1) أي: هما ركن واحد، إذا الاعتدال يستلزم الرفع، وهكذا فعل أكثر الأصحاب وفرق في الفروع والمنتهى وغيرهما بينهما، فعدوا كلا منهما ركنًا، لتحقق الخلاف في كل منهما.
(2) أي: ركوعًا ورفعًا منه بعد ركوع أول في كسوف في كل ركعة فالركوع الأول والرفع منه ركن وما بعده ليس بركن.
(3) في كل ركعة مرتين لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا} ولحديث المسيء في صلاته وغيره.
(4) أي: في صفة الصلاة من الأدلة على ركنيته.
(5) ركن وهو السابع.
(6) أي يغني عن ذكر الاعتدال قوله: والجلوس بين السجدتين، كما أغني عن ذكر الرفع من الركوع ذكر الاعتدال عنه، فتكون ثلاثة عشر ركنا.
(7) ولحديث المسيء وغيره.
(8) من أمره عليه الصلاة والسلام المسيء عند ذكر كل فعل منها بالطمأنينة، وقوله: «صل فإنك لم تصل» ، فتوقفت صحة صلاته عليه لدخوله فيه وقوله
«لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» ولإخباره أن النقر من صفات المنافقين، وقد أخبر الله أنه لا يقبل عملهم، ففي صحيح مسلم أنه قال: «تلك صلاة المنافق ثلاثا» ، «يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» ، ورأى حذيفة رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم رواه البخاري فهي ركن بلا نزاع، قال شيخ الإسلام، فمن ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل، وقد أمر الله ورسوله بالإعادة اهـ وظاهره أنها ركن واحد في الكل.(2/125)
وهي السكون وإن قل (1) (والتشهد الأخير وجلسته) (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعد أحدكم في صلاته فليقل: التحيات لله» الخبر متفق عليه (3) .
__________
(1) أي: والطمأنينة وهي بضم الطاء، السكون بقدر الذكر الواجب قال الجوهري: اطمأن الرجل اطمئنانًا وطمأنينة سكن، وقال غير واحد، ضابطها أن يسكن وتستقر اعضاؤه، ولعل المصنف استغنى عن ذكر وجوب الطمأنينة بقدر الإتيان بالذكر الواجب، لأنه يعلم مما تقدم، وهو إنما عرفها بالمعنى اللغوي، لا بحسب الحكم الشرعي، وهو أن تكون بقدر الذكر الواجب ليتمكن من الإتيان به، وهذا متعين لا يجوز غيره، وحكاه الوزير وغيره عن أكثر العلماء.
(2) أي: ركن من أركان الصلاة الأربعة عشر هذا المذهب وقول عمر وابنه وغيرهما.
(3) ولحديث ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد، الحديث وقول عمر: لا تجزئ صلاة إلا بتشهد، رواه سعيد وغيره، والجلوس له وهو من لازمه وثبت أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليه ولم ينقل أنه أخل به مرة واحدة وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .(2/126)
(والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه) أي في التشهد الأخير (1) لحديث كعب السابق (2) (والترتيب) بين الأركان (3) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها مرتبة (4) وعلمها المسيء في صلاته مرتبة بثم (5) (والتسليم) لحديث وختامها التسليم (6) .
__________
(1) بعده والركن منه «اللهم صل على محمد» لظاهر الآية وما بعده سنة.
(2) وهو قوله: «قولوا اللهم صل على محمد» ، إلخ، وعنه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة، وهو قول أكثر الفقهاء.
(3) أي ترتيب الأركان على ما ذكر هنا، أو ما ذكر في الصلاة، فاللام فيه للعهد.
(4) بلا خلاف وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
(5) المقتضية للترتيب، ولأنها عبادة تبطل بالحدث، فكان الترتيب فيها ركنًا كغيرها، وقال المجد وغيره، الترتيب صفة معتبرة للأركان، لا تقوم إلا به، ولا يلزم من ذلك أن يكون ركنا زائدا، وقال في مجمع البحرين، لا تعد الطمأنينة لأنها صفة الركن، وهيئته ولعل الخلاف لفظي.
(6) ولحديث «وانقضاؤها التسليم» ، ولقوله صلى الله عليه وسلم «وتحليلها التسليم» ، وقالت عائشة، كان يختم صلاته بالتسليم، وثبت ذلك من غير وجه، وعبارة الإقناع والمنتهى، والتسليمتان، ومذهب أحمد وغيره وجوب التسليمة الثانية، وتقدم ثبوتهما بالسنة، وقال أحمد: التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهما نطق مشروع في أحد طرفيها، فكان ركنا كالطرف الآخر.
وقال النووي وغيره: وجوب السلام هو مذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وقال أيضا: السلام للتحلل من الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها لا تصح إلا به، هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير الخلف
والسلف والأحاديث الصحيحة المشهور مصرحة بذلك وظاهر الفروع وغيره أن النفل كالفرض واختار جمع تجزئ واحدة في النفل، وفي الشرح، لا خلاف أنه يخرج من النفل بتسليمة واحدة.(2/127)
(وواجباتها) أي الصلاة ثمانية (1) (التكبير غير التحريمة) فهي ركن كما تقدم (2) وغير تكبيرة المسبوق إذا أدرك إمامه راكعًا فسنة ويأتي (3) (والتسميع) أي قول الإمام والمنفرد في الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده (4) (والتحميد) أي قول: ربنا ولك الحمد، لإمام ومأموم ومنفرد، لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (5) ومحل ما يؤتى به من ذلك للانتقال بين ابتداء وانتهاء (6) .
__________
(1) وهذا هو القسم الثاني من أفعال الصلاة وأقوالها، وتقدم أنه ما تبطل بتركه عمدًا، ويسقط سهوًا، وكذا جهلاً ويجزئه السجود.
(2) يعني في هذا الفصل، وكذا أول الباب لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكبر كذلك ولحديث «إذا كبر فكبروا» وغير ذلك، فجميع تكبيرات الانتقالات واجب، سوى ما ذكر، واتفقت الأمة على مشروعيتها.
(3) أي في باب صلاة الجماعة، وذلك للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام.
(4) لحديث «إذا قال الإمام» ، سمع الله لمن حمده: فقولوا ربنا ولك الحمد، مع ما تقدم.
(5) الثابت عنه صلى الله عليه وسلم فيجب لذلك.
(6) أي محل ما يؤتى به من تكبير وتسميع لإمام ومنفرد، وتحميد للكل ونحو
ذلك للانتقال من فعل منها إلى آخر، بين ابتداء وانتهاء، لأنه مشروع له فاختص به، فإن كمله في جزء منه أجزأ لأنه لم يخرج به عن محله، قال في الإنصاف: بلا نزاع.(2/128)
فلو شرع فيه قبله (1) ، أو كملة بعده لم يجزئه (2) (وتسبيحتا الركوع والسجود) أي قول: سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى، في السجود (3) (وسؤال المغفرة) أي قول: رب اغفر لي. بين السجدتين (مرة مرة (4) ويسن) قول ذلك (ثلاثًا) (5) .
__________
(1) أي شرع في المذكور قبل شروعه في الانتقال، بأن كبر لسجود قبل هويه إليه، أو سمع قبل رفعه من ركوع، ونحو ذلك لم يجزئه.
(2) أي: كمله قبل انتهائه، وكان أتم تكبير الركوع فيه، لم يجزئه لأنه في غير محله، وكذا لو شرع في تسبيح ركوع أو سجود قبله أو كمله بعده، وكذا سؤال المغفرة، وكتكميله واجب قراءة راكعًا، وكتشهده قبل قعود للتشهد الأول أو الأخير، قال المجد: هذا قياس المذهب، والقول الثاني يجزئه لمشقة تكرره، ولأن التحرز منه يعسر، والسهو به يكثر، ومع البطلان به والسجود له مشقة، ومال إليه ابن رجب وغيره، وصححه في حواشي المقنع، وصوبه في تصحيح الفروع، واستظهره ابن تميم وغيره.
(3) واجبان من واجبات الصلاة، وهما الرابع والخامس، وتقدمت الأدلة على ذلك.
(4) للإمام والمأموم والمنفرد، لثبوته عنه عليه الصلاة والسلام وقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وعنه سنة وفاقًا.
(5) وفاقًا. وقالوا: أدنى الكمال ثلاث كتسبيح ركوع وسجود، وتقدم.(2/129)
(و) من الواجبات (التشهد الأول وجلسته) (1) للأمر به في حديث ابن عباس (2) ويسقط عمن قام إمامه سهوا لوجوب متابعته (3) والمجزئ منه: التحيات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أو عبده ورسوله (4) وفي التشهد الأخير ذلك مع: اللهم صل على محمد، بعده (5) .
__________
(1) وهما السابع والثامن.
(2) ولفعله عليه الصلاة والسلام، ومداومته على ذلك، وقوله «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولأنه عليه الصلاة والسلام سجد لتركه، وهذا هو الأصل المعتمد عليه في سائر الواجبات، لسقوطها بالسهو، وانجبارها بالسجود، والمذهب وجوبه قياسا على التشهد وعنه سنة وفاقا، وقال ابن حامد: هو قول عامة الفقهاء.
(3) إجماعا ولحديث: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» .
(4) فمن ترك حرفا من ذلك عمدا لم تصح صلاته للاتفاق عليه، في كل الأحاديث ونظره في الشرح والإقناع وشيخنا وغيرهم، وهو ظاهر لعدم وروده بهذا اللفظ.
(5) أي والمجزئ في التشهد الأخير ما ذكره من لفظ التحيات، مع قول: اللهم صل على محمد: بعد التشهد، وهذا من المفردات ونظره الشارح وغيره أيضا، وقال: لا يجوز أن يسقط ما في بعض الأحاديث، إلا أن يأتي بما في غيره من الأحاديث قال في الإنصاف وغيره: وفيه وجه لا يجزئ من التشهد ما لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن حامد: رأيت جماعة من أصحابنا يقولون: لو ترك حرفا منه أعاد.(2/130)
(وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة) مما تقدم في صفة الصلاة (سنة (1) فمن ترك شرطا لغير عذر) ولو سهوا بطلت صلاته (2) وإن كان لعذر، كمن عدم الماء والتراب أو السترة أو حبس بنجسة صحت صلاته كما تقدم (3) (غير النية فإنها لا تسقط بحال) لأن محلها القلب فلا عجز عنها (4) (أو تعمد) المصلي (ترك ركن أو واجب بطلت صلاته) (5) .
__________
(1) سواء كان ما عدا ذلك قوليا أو فعليا أو هيئات، والصلاة لها مكملات سوى الأركان والفرائض، والمخل بها متطرق إلى الإخلال بهما، لحديث: «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» .
وقال بعض أهل العلم: الإخلال بالمندوب مطلقا يشبه الإخلال بالركن من أركان الواجب، لأنه قد صار ذلك المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب، ولذلك لو اقتصر المصلي على ما هو فرض في الصلاة كانت إلى اللعب أقرب.
(2) لأن الشرط الشرعي هو ما يتوقف عليه صحة مشروطه، فمتى أخل به لغير عذر لم تنعقد صلاته، لفقد شرطها، ولو كان التارك للشرط ناسيا له، أو جاهلا به، لأنه صلى الله عليه وسلم نفى الصلاة مع الجهل، وأمره بالإعادة ولم يجعله عذرا، وإذا انتفى مع الجهل فمع العمد أولى.
(3) في التيمم وستر العورة وغيرهما، وإنما أراد جمعها ملخصة في موضع واحد.
(4) قال الشيخ: بل لو كلف العباد أن يعملوا عملا بغير نية كلفوا ما لا يطيقون، فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملا لا بد أن ينويه، إذا علمه ضرورة، وإنما يتصور عدم النية إذا لم يعلم ما يريد.
(5) كأن يسجد قبل ركوعه، أو يقوم قبل تشهده، لتلاعبه، ولا يجبر بسجود السهو كما يأتي والباطل والفاسد مترادفان لمسمى واحد، وهو ما لم يكن صحيحًا
قال الشيخ وغيره: بمعنى وجب القضاء، لا بمعنى أنه لا يثاب عليها شيئا في الآخرة، وقال في {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} الإبطال هو بطلان الثواب، ولا يسلم بطلان جميعه، بل قد يثاب على ما فعله فلا يكون مبطلا لعمله.(2/131)
ولو تركه لشك في وجوبه (1) وإن ترك الركن سهوا فيأتي (2) وإن ترك الواجب سهوا أو جهلا سجد له وجوبا (3) وإن اعتقد الفرض سنة أو بالعكس لم يضره (4) كما لو اعتقد أن بعض أفعالها فرض، وبعضها نفل، وجهل الفرض من السنة، أو اعتقد الجميع فرضا (5) والخشوع فيها سنة (6) .
__________
(1) بأن تردد أواجب أو لا؟ لم يسقط وجوبه، ولزمته الإعادة لأنه ترك ما يحرم تركه عمدا، ولم يسقط فرضه للشك في صحته، ولأنه لما تردد في وجوبه كان الواجب عليه فعله احتياطا للعبادة، بخلاف من ترك واجبا جاهلا حكمه بحيث لم يخطر بباله وجوبه فإن حكمه حكم تاركه سهوا.
(2) أي في باب سجود السهو مفصلا، وفي بعض النسخ زيادة به فالمراد يأتي بالركن ولا ينجبر بسجود السهو وهو أولى لأنه فصل هنا بعض التفصيل.
(3) لأنه ترك واجبا يحرم تركه، وتقدم الأصل في وجوب السجود له، ولا يمتنع أن يكون للعبادة واجب يجبر إذا تركه وإن كانت لا تصح إلا به كالحج.
(4) أي ذلك الاعتقاد ومثله نحو وضوء.
(5) صحت صلاته إجماعا قاله في المبدع، أو لم يعتقد شيئا، أو لم يعرف الشرط من الركن، وأدى الصلاة على وجهها، فهي صحيحة، اكتفاء بعلمه أن ذلك كله من الصلاة.
(6) الخشوع في الصلاة سنة، ذكره الموفق والشيخ وغيرهما وقيل واجب
فيها أو في بعضها، قال الشيخ لقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقوله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} والخشوع الخضوع والإخبات، وهو معنى يقوم بالقلب يظهر منه سكون الأطراف وأساسه حضور القلب
بين يدي الرب جل وعلا، والثواب مشروط بحضوره، وحضوره فراغه عن غير ما هو ملابس له، وهو هنا العلم بالفعل والقول الصادرين عن المصلي كما تقدم.(2/132)
ومن علم بطلان صلاته ومضى فيها أدب (1) (بخلاف الباقي) بعد الشروط والأركان والواجبات فلا تبطل صلاة من ترك سنة ولو عمدا (2) .
(وما عدا ذلك) أي أركان الصلاة وواجباتها (سنن أقوال) (3) كالاستفتاح والتعوذ (4) والبسملة (5) وآمين، والسورة (6) .
__________
(1) تعزيرا لعصيانه وتلاعبه، فإنه يحرم المضي فيها مع المنافي، كما يحرم الدخول فيها مع وجود المبطل.
(2) بخلاف الأركان والواجبات.
(3) والسنن هي القسم الثالث من أقوال الصلاة وأفعالها، وحكي وهيئاتها وهي ما كان فيها، ولا تبطل بتركها، ولو عمدا، والسنن ضربان، الأول سنن الأقوال، ولا يجب السجود لها قولا واحدا، وعد منها عشر سنن وغيره أكثر ففي الإقناع سبع عشرة، وتأتي وعد منها الجهر والإخفات تبعا للمقنع ونوقش فيها وحكاه الوزير اتفاقا.
(4) أي بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة في الأولى.
(5) أي قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، في أول الفاتحة وأول كل سورة.
(6) أي قول آمين بعد الفاتحة، وعنه واجبة للأمر بها وقراءة سورة في فجر
وجمعة وعيد وتطوع، وأولتي مغرب ورباعية، وأما ثالثة مغرب وثالثة ورابعة ظهر وعصر وعشاء فبالفاتحة فقط، وتقدم، واتفق الأئمة على أنه لا يسن.(2/133)
وملء السماء إلى آخره بعد التحميد (1) وما زاد على المرة في تسبيح الركوع والسجود وسؤال المغفرة (2) والتعوذ في التشهد الأخير (3) وقنوت الوتر (4) (و) سنن أفعال (5) كرفع اليدين في مواضعه (6) ووضع اليمين على الشمال تحت سرته (7) والنظر إلى موضع سجوده (8) .
__________
(1) للإمام والمأموم والمنفرد.
(2) يعني بين السجدتين.
(3) أي قول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، إلى آخره والدعاء في التشهد الأخير، لحديث ثم ليتخير من الدعاء وقول: وبارك، إلى آخره بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله.
(4) لما يأتي في بابه.
(5) لا تبطل الصلاة بتركها بلا نزاع، وهي الضرب الثاني من السنن، وعدها في الكافي اثنتين وعشرين، وفي الإقناع نحو الأربعين، وتأتي وفي الهداية أن الهيئات خمس وعشرون، وفي المستوعب وغيره خمس وأربعون، وقالوا سميت هيئة لأنها صفة في غيرها فهي صور الأفعال وحالاتها.
(6) وهي عند تكبيرة الإحرام، وعند الهوي إلى الركوع، وعند الرفع منه، وإذا قام من الركعتين.
(7) أو على صدره بعد تكبيرة الإحرام، في سائر حالات القيام.
(8) إلا لعذر، ومراقبة إمام، وكصلاة خوف، ونحوه، وتفريقه بين قدميه
يسيرا في قيامه، وقيل يكون بين قدميه قدر شبر في ركوعه وسجوده، ومراوحته بينهما، وهو مذهب مالك والشافعي، وابن المنذر وغيرهم.(2/134)
ووضع اليدين على الركبتين في الركوع (1) والتجافي فيه وفي السجود (2) ومد الظهر معتدلا (3) وغير ذلك مما مر مفصلاً (4) .
__________
(1) مفرجتي الأصابع.
(2) أي مجافاة عضديه عن جنبيه في الركوع، ومجافاة بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه في السجود.
(3) وجعل رأسه حياله، فلا يخفضه ولا يرفعه، واعتماده على ضبعيه وساعديه.
(4) بأدلته في مواضعه، ومنه البداءة بوضع ركبتيه قبل يديه في سجوده وتمكين كل من جبهته وأنفه وكل بقية أعضاء السجود من الأرض في سجوده، والتفريق بين ركبتيه، وإقامة قدميه، وجعل بطون أصابعهما على الأرض مفرقة فيه، وفي الجلوس بين السجدتين وفي التشهد، ووضع يديه حذو منكبيه مبسوطة، وتوجيه أصابع يديه مضمومة نحو القبلة، ومباشرة المصلي بيديه وجبهته وعدمها بركبتيه، ورفع يديه أولا في القيام من سجوده، وقيامه في الركعة على صدور قدميه، معتمدا على ركبتيه، والافتراش في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول والتورك في الثاني، ووضع اليدين على الفخذين مبسوطتين مضمومتي الأصابع، مستقبلا بها القبلة بين السجدتين، وكذا في التشهدين، إلا أنه يقبض فيهما من اليمنى الخنصر والبنصر ويحلق إبهامها مع الوسطى، ويشير بسبابتها، والتفاته يمينا وشمالا في تسليمه، وتفضيل اليمين على الشمال في الالتفات ونية الخروج من الصلاة وتقدمت أدلة ذلك في مواضعها.(2/135)
ومنه الجهر والإخفات والترتيل والإطالة والتقصير في مواضعها (1) و (لا يشرع) أي لا يجب ولا يسن (السجود لتركه) لعدم إمكان التحرز من تركه (2) (وإن سجد) لتركه سهوا (فلا بأس) أي فهو مباح (3) .
__________
(1) أي ومن سنن الأفعال الجهر في مواضعه، بنحو تكبير وتسميع وقراءة في جهرية لإمام، والإخفات بنحو تشهد، وتسبيح ركوع وسجود، وسؤال مغفرة، وتحميد وقراءة في غير محل جهر، وكذا بنحو تكبير وتسليم، وتسميع لغير إمام، إلا المأموم لحاجة، ومنه ترتيل قراءة، وإطالة في الركعة الأولى، وتخفيف صلاة إمام والتقصير في الركعة الثانية، إلا في الوجه الثاني من صلاة الخوف، والضمير في مواضعها راجع إلى جميع المذكورات وهذا مجمع عليه في الجملة بنقل الخلف عن السلف، وإن كان قد يستغني بما ذكرنا، لسبقه في مواضعه، فمن حيث أنه لم يستغن بما ذكر لسبقه ذكرنا ما أهمله تنبيها عليه.
(2) ولأن السجود زيادة في الصلاة، فلا يشرع إلا بتوقيف.
(3) نصا لعموم حديث ثوبان وغيره.(2/136)
باب سجود السهو (1)
قال صاحب المشارق: السهو في الصلاة النسيان فيها (2) (يشرع) أي يجب تارة ويسن أخرى، على ما يأتي تفصيله (3) .
__________
(1) سها عن الشيء سهوا ذهل وغفل قلبه عنه إلى غيره فلا يتذكره، وفي النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم، وعن الشيء تركه مع العلم به، قال ابن القيم، وكان سهوه صلى الله عليه وسلم في الصلاة من إتمام نعمة الله على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وفي الموطأ: «إني لأنسى أو أنسى لأسن» .
(2) وتمامه وقيل: هو الغفلة، وقيل: النسيان عدم ذكر ما قد كان مذكورا والسهو ذهول وغفلة، عما كان في الذكر وعما لم يكن اهـ ونسي الشيء نسيانا ضد حفظه وقيل إنه مشترك بين معنيين: ترك الشيء على ذهول وغفلة وتركه على تعمد وقصد، وقيل: الفرق بين الساهي والناسي أن الناسي إذا ذكرته تذكر، بخلاف الساهي، وقال الحافظ: فرق بعضهم وليس بشيء، وقال غير واحد: السهو والنسيان والغفلة ألفاظ مترادفة معناها: ذهول القلب عن المعلوم في الحافظة، وقال الآمدي: يقرب أن تكون متحدة اهـ وجاء لفظ النسيان والسهو في الشرع بمعنى، وأما الخطأ فهو ما لا يتنبه بالتنبيه عليه، أو يتنبه بعد اتعاب، ويقال: حكمة سجود السهو أنه غم للشيطان، وجبر للنقصان، ورضى للرحمن، وصاحب المشارق، هو القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمر بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، إمام وقته، صاحب التصانيف الجليلة كشرح مسلم، ومشارق الأنوار في شرح غريب الأحاديث الصحاح الثلاثة الموطأ والبخاري ومسلم، توفي سنة خمسمائة وأربع وأربعين وتقدم.
(3) لامرية في مشروعية سجود السهو، ولا خلاف، وأنه إذا سها في صلاته
جبره بسجود السهو، وهو سنة عند الشافعي، وأوجبه أبو حنيفة ومالك في النقصان وأحمد في الزيادة والنقصان، وقال: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خمسة أشياء، سلم من اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة، والنقصان وقام من اثنتين ولم يتشهد فسجد، وقال الخطابي: المعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة حديثا ابن مسعود وأبي سعيد، وأبي هريرة وابن بحينة.(2/137)
(لزيادة) سهوا (ونقص) سهوا (وشك) في الجملة (1) (لا في عمد) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سها أحدكم فليسجد» (2) فعلق السجود على السهو (3) .
__________
(1) أي في بعض الصور فلا يشرع لكل شك، بل ولا لكل زيادة أو نقص.
(2) وقوله: «إذا نسي أحدكم فليسجد» وقوله: «إذا شك أحدكم وغيرها من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم» .
(3) لأن الشرع إنما ورد فيه ولأنه شرع جبرانا، والعامد لا يعذر فلا ينجبر خلل صلاته بسجوده، بخلاف الساهي، ولذلك أضيف السجود إلى السهو من إضافة المسبب إلى السبب أي سجود سببه السهو، وقال الحافظ: الحكمة في جعله جابرا للمشكوك فيه دون الالتفات وغيره مما ينقص الخشوع، لأن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد، ليتقظ العبد له فيجتنبه، وقال الشيخ: يشرع للسهو لا للعمد عند الجمهور اهـ. وهو من خصائص هذه الأمة، ولم يعلم في أي وقت شرع، قال في الذخيرة، التقرب إلى الله بالصلاة المرقعة المجبورة إذا عرض فيها الشك، أولى من الأعراض عن ترقيعها والشروع في غيرها، والاقتصار عليها بعد التوقيع أولى من إعادتها، فإنه منهاجه صلى الله عليه وسلم ومنهاج أصحابه والسلف الصالح بعدهم.(2/138)
(في) صلاة (الفرض والنافلة) متعلق بيشرع (1) سوى صلاة جنازة وسجود تلاوة وشكر وسهو (2) (فمتى زاد فعلا من جنس الصلاة (3) قياما) في محل قعود (أو قعودا) في محل قيام ولو قل، كجلسة الاستراحة (4) .
__________
(1) أي يشرع سجود السهو بوجود أسبابه في فرض ونفل، لعموم الأخبار وفاقا وقال الشارح: لا فرق بين النافلة والفرض في سجود السهو في قول عوام أهل العلم.
(2) فلا سجود للسهو فيها وفاقا، فأما صلاة الجنازة فلأنها لا سجود في صلبها ففي جبرها أولى، وأما سجود التلاوة والشكر فإنه لو شرع كان الجبر زائدا على الأصل، وأما سجود السهو فلأنه يفضي إلى التسلسل، وحكاه إسحاق وغيره إجماعا وسواء كان السهو قبل السلام أو بعده، ولو سها بعد سجود السهو وقبل السلام لم يشرع له السجود، وكذا حديث النفس ولو طال، لعدم إمكان التحرز منه، فعفى عنه، ولما ثبت: «إن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها» ، وسوى نظر إلى شيء فلا يشرع له السجود، لأن الشرع لم يرد به، ولا يشرع سجود السهو في صلاة خوف.
(3) بدأ في تفصيل الأحوال الثلاثة، بالزيادة وهي إما زيادة أفعال أو أقوال وكل منها ينقسم إلى قسمين ويأتي مفصلا.
(4) أي ولو كان الجلوس الذي زاده قدر جلسة الاستراحة عقب الركعة، بأن جلس عقبها للتشهد لأنه لم يردها فيسجد لذلك لأنه زاد جلسة، أشبه ما لو كان قائما فجلس، وصفة جلسة الاستراحة كالجلوس بين السجدتين، وقال الزركشي، إن كان يسيرا فلا سجود عليه، ومال إليه في المغني، وصححه في تصحيح الفروع، ولو رفع رأسه من سجود ليجلس للاستراحة وكان موضع جلوس للفصل أو التشهد ثم ذكر، أو جلس للفصل يظنه التشهد وطول له لم يجب له سجود، ولو جلس للتشهد قبل سجود سجد.(2/139)
(أو ركوعا أو سجودا عمدا بطلت) صلاته إجماعا قاله في الشرح (1) (و) إن فعله (سهوا يسجد له) (2) لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: «فإذا زاد الرجل أو نقص في صلاته فليسجد سجدتين» رواه مسلم (3) ولو نوى القصر فأتم سهوا ففرضه الركعتان (4) ويسجد للسهو استحبابا (5) .
__________
(1) لأنه بها يخل بنظم الصلاة ويغير هيئتها، فلم تكن صلاة، ولا فاعلها مصليا، إلا في الإتمام إذا نوى القصر فأتم عمدا فلا تبطل، لأنه رجع إلى الأصل، وقوله بطلت أي فسدت والباطل والفاسد اسمان لمسمى واحد، وهو ما لم يكن صحيحا، وفي الغاية: ويتجه الباطل ما اختل ركنه والفاسد ما اختل شرطه.
(2) أي وإن زاد قياما أو قعودا ولو قدر جلسة الاستراحة أو ركوعا أو سجودا سهوا لم تبطل، قال شيخ الإسلام: بالسنة وإجماع المسلمين، وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوزاها اهـ ويسجد له وجوبا، ومتى ذكر عاد إلى ترتيب الصلاة بغير تكبير.
(3) وفي رواية عنه قال: صلى بنا خمسا، فلما انفتل توشوش القوم، فقال: «ما شأنكم؟» قالوا: هل زيد في الصلاة؟ قال: «لا» قالوا: فإنك صليت خمسا فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم، وقال: «فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن الزيادة سهو، فتدخل في قول الصحابي، سها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد بل هي نقص في المعنى، فشرع لها السجود لينجبر النقص.
(4) وفاقا، ومقتضى إطلاق كلامهم عدم الكراهة لذلك، وذكر الشيخ أنه يكره كما في الغاية.
(5) لأن عمده لا يبطلها فلم يجب السجود إذا.(2/140)
وإن قام فيها أو سجد إكراما لإنسان بطلت (1) (وإن زاد ركعة) كخامسة في رباعية (2) أو رابعة في مغرب، أو ثالثة في فجر (فلم يعلم حتى فرغ منها سجد) (3) لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا، فلما انفتل قالوا: إنك صليت خمسا، فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلم، متفق عليه (4) (وإن علم) بالزيادة (فيها) أي في الركعة (جلس في الحال) بغير تكبير (5) لأنه لو لم يجلس لزاد في الصلاة عمدا وذلك يبطلها (6) (فيتشهد إن لم يكن تشهد) (7) .
__________
(1) إجماعا والقيام قد نهى عنه خارجها لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، والسجود لا يجوز فعله إلا لله عز وجل، وإن كان على وجه التحية في غير شريعتنا كما في قصة يوسف، ففي شريعتنا لا يصلح إلا لله عز وجل، وإذا كان قد نهى عن القيام فكيف بالركوع والسجود.
(2) أي قام إلى ركعة زائدة كخامسة في ظهر أو عصر أو عشاء.
(3) وهو قول جمهور العلماء مالك والشافعي والنخعي والزهري وغيرهم.
(4) ولمسلم «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» وفي رواية له: «وإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» .
(5) وبنى على فعله قبل تلك الزيادة لئلا يغير هيئة الصلاة.
(6) وتقدم ذكر الإجماع عليه، وما ذكر عن أبي حنيفة أنه يضيف إليها أخرى فتكون الركعتان تطوعا بخلاف السنة.
(7) يعني قبل قيامه.(2/141)
لأنه ركن لم يأت به (وسجد) للسهو (وسلم) لتكمل صلاته (1) وإن كان قد تشهد سجد للسهو وسلم (2) وإن كان تشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه، ثم سجد للسهو، ثم سلم، (3) وإن قام إلى ثالثة نهارا وقد نوى ركعتين نفلا رجع إن شاء وسجد للسهو (4) وله أن يتمها أربعا ولا يسجد، وهو أفضل (5) وإن كان ليلا فكما لو قام إلى ثالثة في الفجر نص عليه (6) لأنها صلاة شرعة ركعتين، أشبهت الفجر (7) .
__________
(1) قال النووي وغيره: إجماعا.
(2) ولا يتشهد لوقوع سهوه قبل قيامه موقعه.
(3) ذكره في الشرح وغيره، وهو قول مالك والشافعي وغيرهما.
(4) يفهم منه أنه إذا نوى أربعا نهارا ثم قام إلى خامسة كان كالقائم إلى ثالثة ليلا، وقال عثمان: كقيام إلى خامسة بظهر، ولا يعارضه ما يأتي في التطوع من أن الزيادة على أربع نهارا مكروهة فقط، لأن ذلك مفروض فيمن نوى الزيادة ابتداء، وما هنا فيمن لم ينوها.
(5) أي إتمامها أربعا، لإباحة التطوع بأربع نهارا.
(6) وعليه فيلزمه الرجوع، فإن لم يرجع عالما عمدا بطلت، وعنه: يتمها أربعا ويسجد للسهو في الليل أو النهار، وهو مذهب مالك والشافعي، لما ثبت من تطوعه صلى الله عليه وسلم في الليل بأربع.
(7) لحديث: «صلاة الليل مثنى مثنى» ، ويأتي حمله على الأفضلية أو الأخفية، وصرح في الإنصاف بالأفضلية.(2/142)
(وإن سبح به ثقتان) (1) أي نبهاه بتسبيح أو غيره (2) ويلزمهم تنبيهه (3) لزمه الرجوع إليهما (4) سواء سبحا به إلى زيادة أو نقصان (5) .
__________
(1) أي عدلان ضابطان، سواء كانا حرين أو عبدين، رجلين أو امرأتين أو رجلا وامرأة شاركاه في العبادة أو لا، واختار أبو محمد الجوزي جواز رجوعه إلى قول واحد إن ظن صدقه، وجزم به في الفائق والموفق، قال في الإنصاف، عملا بظنه لا بتسبيحه.
(2) كإشارة أو تنبيه بقرآن، كما دلت عليه النصوص، قاله الشيخ وغيره، وعبارة الفروع: نبه، وهو أولى لشموله، ولذلك صرفه الشارح إليه.
(3) على ما يجب السجود لسهوه وظاهره ولو غير مأمومين أما المأمومون فلارتباط صلاتهم بصلاته، بحيث تبطل ببطلانها ولأمره عليه الصلاة والسلام بتذكيره.
(4) هذا جواب الشرط ليرجع إلى الصواب إلى تنبيههم لأنه صلى الله عليه وسلم قبل قول أبي بكر وعمر في قصة ذي اليدين وأمر بتذكيره، وظاهره أنه لا يرجع إلى قول واحد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين وحده، وتقدم اختيار الموفق وغيره رجوعه إلى واحد يظن صدقه.
(5) أي سواء كان تنبيههم لرجوع عن زيادة كقيام من رابعة إلى خامسة، أو كان تنبيههم للرجوع إلى الإتيان بنقصان كقيامه عن التشهد الأول، ويلزمه قبول قولهما بشرطه، ولا يلزمه الرجوع إلى فعل مأمومين من نحو قيام أو قعود بلا تنبيه، لأمر الشارع بالتنبيه بتسبيح الرجال وتصفيق النساء، ولا تبطل إن رجع لفعلهم وفي الإنصاف، وفعل ذلك منهم مما يستأنس به، ويقوى ظنه، ونقل أبو طالب: إذا صلى بقوم تحرى ونظر إلى من خلفه، فإن قاموا تحرى وقام، وفعل ما يفعلون، وذلك والله أعلم ما لم يكن عنده يقين.(2/143)
وسواء غلب على ظنه صوابهما أو خطؤهما (1) والمرأة كالرجل (2) (فـ) إن (أصر) على عدم الرجوع (ولم يجزم بصواب نفسه بطلتا صلاته) (3) لأنه ترك الواجب عمدا (4) وإن جزم بصواب نفسه لم يلزمه الرجوع إليهما (5) لأن قولهما إنما يفيد الظن، واليقين مقدم عليه (6) وإن اختلف عليه من ينبهه سقط قولهم (7) .
__________
(1) فيلزمه الرجوع نص عليه، وجزم به الموفق وغيره، ما لم يتيقن صواب نفسه، والفرق بين الظن وغالب الظن، أن الظن إذا قوى أحد الطرفين وترجح على الآخر ولم يأخذ القلب ما ترجح به، ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو غالب الظن.
(2) في تنبيه الإمام، وإلا لم يكن في تنبيهها فائدة، ولما شرع تنبيهها بالتصفيق في أشرف العبادة، والمراد بخلاف المميز فلا عبرة بتنبيهه.
(3) قولا واحدا، ما لم يكن إصراره على عدم الرجوع لجبران نقص، كما لو قام قبل أن يتشهد التشهد الأول ونحوه ونبهوه بعد أن قام ولم يرجع، لحديث المغيرة.
(4) ولا ينجبر بسجود في قول جمهور العلماء.
(5) كالحاكم إذا علم كذب البينة، وأما هما فيفارقانه حيث جزما بذلك.
(6) وهو ما جزم به في نفسه، فيعمل بيقينه كالحاكم.
(7) وذلك بأن أشار بعضهم بالقيام وبعضهم بالقعود مثلا، سقط قولهم، كبينتين تعارضتا ويأخذ بالأقل وفاقا وفي المبدع: ويعمل بغلبة ظنه، واختاره جمع، فإن قيل: التنبيه إنما يكون بالتسبيح أو التصفيق فكيف يتصور اختلافهم؟ قيل قد ينبه بعضهم بالتسبيح، وبعضهم بالإشارة أو قبض يد، أو غير ذلك مما يدل على خلاف قول المسبح.(2/144)
ويرجع منفرد إلى ثقتين (1) (و) بطلت (صلاة من تبعه) أي تبع إماما أبي أن يرجع حيث يلزمه الرجوع (عالما (2) لا) من تبعه (جاهلا أو ناسيا) للعذر (3) ولا من فارقه لجواز المفارقة للعذر (4) ويسلم لنفسه (5) ولا يعتد مسبوق بالركعة الزائدة إذا تابعه فيها جاهلا (6) .
__________
(1) ما لم يجز بصواب نفسه كما تقدم في الإمام، حتى في طواف.
(2) أي بزيادتها وبطلان صلاته بذلك، ذاكرا لها لأنه إن قيل ببطلان صلاة الإمام لم يجز اتباعه فيها، كما لو اقتدى بمن يعلم حدثه، وإن قيل بصحتها فهو يعتقد خطأه وأن ما قام إليه ليس من صلاته.
(3) لأن الصحابة رضي الله عنهم تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة حيث لم يعلموا، وتوهموا النسخ، ولم يؤمروا بالإعادة.
(4) أي ولا تبطل صلاة من فارقه، لجواز المفارقة للعذر وهو زيادته فيها وعبارة الأقناع والمنتهى، وجوب مفارقته لاعتقاد خطئه، وعنه ينتظر ليسلم معه، وعنه يخير في انتظاره ومتابعته، قال الشيخ وغيره: وانتظاره حتى يسلم معه أحسن.
(5) أي ويسلم المأموم المفارق لإمامه بعد قيامه لزائدة، وتنبيهه وإبائه الرجوع إذا تم التشهد الأخير لنفسه للعذر.
(6) أي لا يحتسب مسبوق بالركعة الزائدة إذا تابع الإمام فيها جاهلا، سواء دخل مع الإمام فيها أو قبلها، لعدم اعتداد الإمام بها ولوجوب المفارقة على من علم الحال، وقال القاضي والموفق وغيرهما، يعتد بها، قال في الرعاية: في الأصح، لأنه لو لم يحسب له بها للزمة أن يصلي خمسا مع علمه بذلك، ولأن الإمام يعتقد وجوبها عليه.(2/145)
(وعمل) في الصلاة متوال (مستكثر عادة من غير جنس الصلاة (1)) كالمشي واللبس ولف العمامة (2) (يبطلها عمده وسهوه) وجهله (3) إن لم تكن ضرورة وتقدم (4) (ولا يشرع ليسيره) أي يسير عمل من غير جنسها (سجود) ولو سهوا (5) .
__________
(1) هذا هو القسم الثاني من زيادة الأفعال، وهو كل عمل عد في العادة كثيرا، ولا يتقيد بثلاث ولا غيرها، بل بخلاف ما يشبه فعله صلى الله عليه وسلم في فتحه الباب لعائشة وحمله أمامة ونحو ذلك، فلا يبطلها والمتوالي هو الذي لا تفريق بينه فلو فرق بين العمل لم تبطل، ويكفي نحو قراءة آية أو ركوع.
(2) وكالخياطة والكتابة، لما لم يكن من جنسها، هذا إذا كثر وإلا فلا.
(3) لقطعه الموالاة بين الأركان، فأما بطلانها بالكثير عمدا فلا نزاع فيه حكاه في الشرح والإنصاف وغيرهما، وأما سهوا فعلى الصحيح من المذهب، واختار المجد وغيره، لا تبطل بالعمل الكثير سهوا، لقصة ذي اليدين، فإنه مشي وتكلم، وبنى على ما تقدم من صلاته، والمراد ببطلانها بالمستكثر، إذا لم يكن حاجة إلى ذلك، وإشارة أخرس كفعله، لا كقوله، فلا تبطل الصلاة إلا إذا كثرت وتوالت.
(4) فيما يكره في الصلاة، والضرورة كخوف وهرب من عدو ونحوه وكسيل وحريق وسبع، فإذا كان ضرورة لم تبطل، لأن الضرورات تبيح المحظورات وعدا ابن الجوزي من الضرورة من به حك لا يصبر عنه، وكذا إن كان يسيرا عادة ولم يتوال ولو كثر، ولا بأس به لحاجة، لما تقدم من فعله صلى الله عليه وسلم.
(5) لأنه لم يرد السجود له، ولا يصح قياسه على ما ورد من السجود، لمفارقته إياه، ولأنه لا يكاد يخلو منه صلاة، ويشق التحرز منه.(2/146)
ويكره العمل اليسير من غير جنسها فيها (1) ولا تبطل بعمل قلب (2) .
__________
(1) كفتح الباب، ولف العمامة، لغير حاجة، لأنه عبث ويذهب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها.
(2) وإن طال وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، لمشقة التحرز منه، ما لم يترك واجبا، وإلا أبطل قال عليه الصلاة والسلام: «إنها ألهتني آنفا عن صلاتي» وقال: «أخاف أن تفتنني» وقوله: «حتى لا يدري كم صلى» ففيها أنها تصح وإن حصل فيها فكر واشتغال قلب بغيرها، قال النووي: وهذا بإجماع من يعتد به في الإجماع اهـ، ونقل الإجماع غير واحد أنها لا تبطل بحديث النفس ولو كثر، واتفقوا على كراهته وفي الحديث «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها» ، ما لم تعمل، أو تكلم متفق عليه، وفي الصحيح «ذكرت وأنا في الصلاة تبرأ عندنا» الحديث ولكن كانت قرة عينه في الصلاة، ولم يشغله ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله وقربه من الله، وخضوعه بين يديه، وقال عمر: وإني لأجهز جيشي في الصلاة، رواه البخاري ولأن الشيطان كثيرا ما يحول بين المرء ونفسه، ويذكره ما لم يكن يذكر.
قال شيخ الإسلام: إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة لا يبطلها، قال: وهو أنواع: ما لا يمنع ما يؤمر به بل بمنزلة الخواطر، فلا يبطلها، لكن من سلمت صلاته فهو أفضل، وما منع الفهم، وشهود القلب، بحيث يصير غافلا، فلا ريب في منع الثواب لقوله: «إلا ما عمل بقلبه» ، وهل يبطل ويوجب الإعادة؟ فيه تفصيل فإن كانت الغفلة أقل من الحضور لم تجب الإعادة وإن كان الثواب ناقصا فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطلها وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو.
وإن غلبت الغفلة على الحضور، فقيل: لا تصح في الباطن، وإن صحت في الظاهر، وقيل: لا تجب عليه الإعادة وإن كان لا ثواب له هذا المأثور عن أحمد
وغيره لما ثبت «إن الشيطان يخطر بين المرء ونفسه، يذكره ما لم يكن يذكر، حتى لا يدري كم صلى» وأمره بسجدتين السهو ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكثير، فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة لا باطنا ولا ظاهرا، ورجح أن الغفلة سبب لنقص الثواب، أو فواته الخاص، لا أنه لا أجر له فيه بالكلية بقصة تخفيف عمار، وقوله: «لا يستجاب الدعاء من قلب غافل» ، وقوله فيمن صلى ركعتين «لا يحدث فيهما نفسه غفر له» ، وغير ذلك، وقال في موضع آخر: هذا في المؤمن الذي يقصد العبادة لله بقلبه مع الوسواس وأما المنافق الذي لا يصلي إلا رياء وسمعة فعمله حابط، ولا يحصل له به ثواب، ولا يرتفع به عنه عذاب، ولا يثاب على عمل مشوب إجماعا.(2/147)
وإطالة نظر إلى شيء وتقدم (1) (ولا تبطل) الصلاة (بيسير أكل وشرب وسهوا أو جهلا) (2) لعموم عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان (3) .
__________
(1) فيما يكره في الصلاة وكنقش في جدار، وككتاب ولو بقلبه دون لسانه.
(2) فرضا كانت الصلاة أو نفلا.
(3) ولأن تركهما عماد الصوم، وركنه الأصلي، فإذا لم يؤثر فيه حالة السهو فالصلاة أولى، وكالسلام قال في الكافي: فعلى هذا يسجد، لأنه يبطل الصلاة عمده فعفى عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة، لأن غيرهما يبطلها إذا كثر، فهما أولى، ولأن الصلاة عبادة بدنية، فيندر ذلك فيها، وهي أدخل في الفساد، بدليل الحدث والنوم، بخلاف الصوم، ولأنه ينقطع عن القياس.(2/148)