لأن الفعل ينسب إلى الموكل كما ينسب إلى الوكيل فيحنث به كما لو حلف لا يحلق راسه فأمر من يحلقه فإنه يحنث لأن الفعل منسوب إليه ولذلك تجب الفدية على من حلق رأسه بأذنه في الإحرام وإن كانت نيته إن لا يباشر بنفسه لم يحنث لأن الأيمان مبناها على النية (فصل) فأما الأسماء العرفية فهي أسماء اشتهر مجازها حتى غلب على الحقيقة كالرواية والظعينة والدابة والغائط والعذرة ونحوها فيتعلق اليمين بالعرف دون الحقيقة لأن الحقيقة صارت فيها مغمورة لا يعرفها أكثر الناس كالراوية للمزادة في العرف وفي الحقيقة الجمل الذي يستقى عليه، والغائط والعذرة في العرف للخارج المستقذر وفي الحقيقة الغائط المكان المطمئن والعذرة فناء الدار، والظعينة في العرف للمرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والدابة في الحقيقة لكل ما يدب قال الله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير فلهذا قلنا اليمين تنصرف إلى العرف دون الحقيقة لأنه لا يعلم أن الحالف لا يريد غيره فصار كالمصرح به * (مسألة) * (وإن حلف على وطئ امرأة تعلقت يمينه بجماعها) لأنه الذي يصرف اللفظ في العرف إليه وكذلك إذا حلف على وطئ زوجته صار موليا منها(11/256)
* (مسألة) * (وإن حلف على وطئ دار تعلقت يمينه بدخولها راكباً أو ماشياً أو حافياً أو منعلا) لأن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فيحمل اليمين عليه بإطلاقه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما * (مسألة) * (وإن حلف لا يشم الريحان فشم الورد والبنفسج والياسمين او لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما أو ماء الورد فالقياس أنه لا يحنث وقال بعض أصحابنا يحنث) إذا حلف لا يشم الريحان فإنه في العرف اسم يختص الريحان الفارسي وفي الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس وقال القاضي لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه وقال أبو الخطاب يحنث
بشم ما يسمى في الحقيقة ريحاناً ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا وان حلف لا يشم ورداً ولا بنفسجاً فشم دهنهما أو ماء الورد فقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه لم يشم ورداً ولا بنفسجاً وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم إنما هو للرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما(11/257)
وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى ورداً والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله تعالى فإن شم الورد والبنفسج اليابس حنث وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمراً ولنا أن هذا اسمه وحقيقته باقية فيحنث به كما لو حلف لا يأكل لحماً فأكل قديداً وفارق ما ذكروه فإن التمر ليس برطب ولا يسمى رطباً * (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا حنث عند الخرقي ولم يحنث عند ابن أبي موسى) إذا حلف لا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من الأنعام أو الصيد أو الطير حنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة والثوري ومالك وأبو يوسف وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يحنث إلا أن ينويه وهذا قول أبي نيفة والشافعي لأنه لا ينصرف إليه اطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلاً في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفى عنه الاسم فيقول ما أكلت لحما إنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما(11/258)
لو حلف لاقعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بقعوده تحت السماء وقد سماه الله سقفا محفوظاً لأنه مجاز كذا ههنا ولنا قول الله تعالى (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطير وما ذكروه يبطل بلحم الطائر، وأما السماء فإن الحالف لا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه لم يردها بيمينه ولأن التسمية ثم مجاز وههنا حقيقة لكونه من جسم حيوان يصلح للأكل فكان الإسم فيه حقيقة كلحم الطير حيث قال الله تعالى (ولحم طير مما يشتهون)
* (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل راسا ولا بيضا حنث يأكل رءوس الطير والسمك والجراد عند القاضي وعند أبي الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس كل حيوان جرت العادة بأكله منفرداً أو بيض بزايل بائضه في حال الحياة) إذا حلف لا يأكل راسا فانه يحنث باأكل رأس كل حيوان من الإبل والصيود والحيتان والجراد ذكره القاضي وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل منفرداً(11/259)
وقال الشافعي لا يحنث إلا بأكل رءوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون ببلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها، وقال أبو حنيفة لا يحنث بأكل روس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها للأكل منفردة وقال صاحباه لا يحنث الا بأكل رءوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها، ووجه الأول أن هذه رءوس حقيقة وعرفاً وهي مأكولة فيحنث بأكلها كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه، وأما إذا حلف لا يأكل بيضاً فيحنث بأكل بيض كل حيوان كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل كبيض النعام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه أو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء البحر أو ماء نجساً أو لا يأكل خبزاً فأكل خبز الأرز والذرة في مكان لا يعتاد أكله فيه حنث، فأما أن أكل بيض السمك والجراد فقال القاضي يحنث لأنه بيض حيوان أشبه بيض النعام وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه حال الحياة وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق(11/260)
اسم البيض ولا يذكر إلا مضافاً إلى بائضه ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضاً غير بيض الحيوان ولا شئ يسمى رأساً غير رءوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو حماماً أو بيت شعر أو أدم أو لا يركب
فركب سفينة حنث عند أصحابنا ويحتمل أن لا يحنث) وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يدخل بيتاً فدخل مسجداً أو حماماً حنث نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يحنث وهو قول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتاً في العرف والأول المذهب لأنهما بيتان حقيقة وقد سمى الله عزوجل المساجد بيوتاً فقال (في بيوت أذن الله أن ترفع - وقال - إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا) وروي في حديث " المسجد بيت كل تقي " وروي في الحديث " بئس البيت الحمام " فإذا كان في الحقيقة بيتاً وفي عرف الشرع حنث بدخوله كبيت الإنسان وإن دخل بيت شعر أو أدم حنث سواء كان الحالف حضرياً أو بدوياً فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا قال الله تعالى (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها) وأما مالا يسمى في العرف بيتاً كالخيمة فالأولى أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتاً لأن يمينه لا تنصرف إليه وإن دخل دهليز دار وصفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث لأن جميع الدار بيت(11/261)
ولنا أنه لا يسمى بيتاً ولهذا يقال ما دخل البيت وإنما وقف في الصحن فإن حلف لا يركب فركب سفينة حنث وهو قول أبي الخطاب لأنه ركوب قال الله تعالى (اركبوا فيها بسم الله مجريها) وقال (فإذا ركبوا في الفلك) ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يسمى في العرف ركوباً.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يتكلم فقرأ أو سبح أو ذكر الله تعالى لم يحنث) .
إذا حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان قرأ في الصلاة لم يحنث وإن قرأ خارجاً منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله تعالى وإن ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث ولأنه كلام الله قال الله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ولنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يحدث من أمره ما شاء وإنه قد أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " لم يتناول المختلف فيه وقال زيد بن
أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الله تعالى (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) وقال (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا - واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولان مالا(11/262)
يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجاً منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع فيها وإن استأذن عليه إنسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم يحنث، لأن هذا من القرآن فلا يحنث به ولذلك لا تبطل الصلاة به وإن لم يقصد القرآن حنث لأنه من كلام الناس.
* (مسألة) * (وإن حلف لا يضرب امرأته فخنقها أو نتف شعرها أو عضها حنث) لأنه يقصد ترك تأليمها وقد آلمها فأما إن عضها بتلذذ ولم يقصد تأليمها لم يحنث وإن حلف ليضربنها ففعل ذلك بر لوجود المقصود بالضرب.
* (مسألة) * (وإن حلف ليضربنه مائة سوط فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه) .
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال ابن حامد يبر، لأن أحمد قال في المريض عليه الحد يضرب بعثكال النخل ويسقط عنه الحد، وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها وإن علم أنها لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لم يحنث في الحكم لأن الله تعالى قال (فخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المريض الذي زنى " خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة " ولأنه ضرب بمائة سوط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب.(11/263)
ولنا أن معنى يمينه أن يضربه مائة ضربة ولم يضربه إلا ضربة واحدة، الدليل على هذا أنه لو ضربه مائة ضربة بسوط بر بغير خلاف ولو عاد العدد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط ولأن السوط ههنا آلة أقيمت مقام المصدر وانتصب انتصابه لأن معنى كلامه لاضربنه مائة ضربة بسوط وهذا هو المفهوم من يمنيه والذي يقتضيه لغة فلا يبر
بما يخالف ذلك، وأما أيوب عليه السلام فإن الله تعالى أرخص له رفقا بامرأته لبرها به وإحسانها إليه ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك امتن عليه بهذا وذكره في جملة ما من به عليه من معافاته من بلائه وإخراج الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا الحكم عاما بكل أحد لما خص أيوب بالمنة عليه، وكذلك المريض الذي يخاف تلفه أرخص له بذلك في الحد دون غيره وإذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلأن لا يتعداه إلى اليمين أولى ولو خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد إلى الضرب بالعثكال لكان له وجه أما بعد تعديته إلى غيره فبعيد جداً.
[فصل] ولو حلف أن يضربه بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد فعل ما حلف عليه وإن حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك إلا وجهاً لأصحاب الشافعي أنه يبر وليس بصحيح لأن(11/264)
هذه ضربة واحدة بأسواط ولهذا يصح أن يقال ما ضربته واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في يمينه.
و [فصل] ولا يبر حتى يضربه ضرباً يؤلمه، وبهذا قال مالك وقال الشافعي يبر بما لم يؤلم لأن الإسم يتناوله فوقع البر به كالمؤلم.
ولنا أن هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا.
* (فصل) * إذا حلف لا يأكل شيئاً فأكله مستهلكاً في غيره مثل أن لا يأكل لبنا فأكل زبداً أو لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه أو لا يأكل بيضاً ناطفاً أو لا يأكل شحما فأكل اللحم الأحمر أو لا يأكل شعيراً فأكل حنطة فيها حبات شعير لم يحنث وإن ظهر طعم السمن أو طعم شئ من المحلوف عليه حنث وقال الخرقي يحنث بأكل اللحم الأحمر وحده وقال غيره يحنث بأكل حنطة فيها حبات شعير) أما إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل زبدا لا يظهر فيه طعم اللبن لم يحنث لأنه لم يأكل لبناً فأشبه ما لو أكل كشكاً وكذلك إن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه
لا يحنث لذلك، فأما إن ظهر طعم شئ من المحلوف عليه حنث كما لو أكل كل واحد منفرداً، وإن حلف لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً لم يحنث لأنه لا يسمى بيضاً.(11/265)
(مسألة) وإن حلف لا يأكل شحما فأكل اللحم الأحمر فقال الخرقي يحنث لأن الشحم ما يذوب بالنار مما في الحيوان والعرف يشهد لقوله وهو ظاهر قول أبي الخطاب واللحم لا يكاد يخلو من شئ منه فيحنث به، وإن قل لأنه يظهر في الطبيخ فيبين على وجه المرق وفارق، من حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه ولا لونه، لأن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من أصحابنا لا يحنث، قال شيخنا وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه فإن حلف لا يأكل شعيراً فأكل حنطة فيها حبات شعير فقال غير الخرقي يحنث لأنه أكل شعيراً فأشبه ما لو أكله منفرداً أو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفاً والأولى أن لا يحنث لأنه مستهلك في الحنطة أشبه السمن في الخبيص الذي لا يظهر طعمه، وإن نوى بيمينه أن لا يأكل الشعير منفرداً أو كان السبب يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر أكله لم يحنث بذلك * (فصل) * قال رضي الله عنه (فإن حلف لا يأكل سويقاً فشربه أو لا يشربه فأكله فقال الخرقي يحنث وقال أحمد من حلف لا يشرب نبيذاً فثرد فيه وأكله لا يحنث فيخرج في كل ما حلف لا يأكله فشربه أو لا يشربه فأكله وجهان وقال القاضي إن عين المحلوف عليه حنث وإلا فلا)(11/266)
وجملة ذلك أن من حلف لا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين (إحداهما) يحنث لأن اليمين على ترك أكل شئ أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشئ فحملت اليمين عليه ألا ترى إلى قوله تعالى (ولا تأكلوا اموالهم - وان الذين يأكلون أموال اليتامى) لم يرد به الأكل على الخصوص؟ ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان ناهياً عن شربه (والثانية) لا يحنث وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، لأن الأفعال أنواع
كاليمين ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره كذلك الأفعال، وقال القاضي إنما الروايتان فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا السويق فشربه أو لا يشربه فأكله أما إذا أطلق فقال لا أكلت سويقاً فشربه أو لا يشربه فأكله لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب فيه وهذا يخالف ما ذكرنا ههنا من الإطلاق ومخالف لما أطلقه الخرقي، وليس للتعيين أثر في الحنث وعدمه فإن الحنث في المعين إنما كان لتناوله ما حلف عليه وإجراء معنى الأكل والشرب على التناول العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين وعدمه وعدم الحنث معلل بإنه لم يفعل الفعل الذي حلف على تركه وإنما فعل غيره وهذا في المعين كهو في المطلق لعدم الفارق بينهما، ولأن الرواية في الحنث أحدث من كلام الخرقي وليس فيه تعيين ورواية عدم الحنث أحدث من رواية مهنا عن أحمد فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ فأكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في المعين فإن عديت كل رواية(11/267)
إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع روايتان، وإن قصرت كل رواية على محلها كان الأمر على خلاف ما قال القاضي وهو أن يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين.
(فصل) فإن حلف ليشربن شيئاً فأكله أو ليأكلنه فشربه خرج فيه وجهان بناء على الروايتين في الحنث إذا حلف على الترك ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل عليها كانت يمينه على ما نواه أو دل عليه السبب لأن الأيمان على النية (فصل) فإن حلف لا يشرب شيئاً فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف فمص حب رمان ورمى بالتفل لا يحنث لأنه ليس بأكل ولا شرب ويجئ على قول الخرقي أنه يحنث لأنه قد تناوله فوصل إلى حلقه وبطنه فيحنث به على ما قلناه فيمن حلف لا يأكل شيئاً فشربه أو لا يشربه فأكله وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه حتى ذاب وابتلعه خرج على الروايتين * (مسألة) * (فإن حلف لا يطعم شيئاً حنث بأكله وشربه ومصه)
لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر (من ولم يطعمه)(11/268)
* (مسألة) * (وإن ذاقه ولم يبتلعه لم يحنث) في قولهم جميعاً لأنه ليس بأكل ولا شرب ولذلك لا يفطر به الصائم، وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة وكذلك إن مضغه ورمى به لأنه قد ذاقه * (مسألة) * (وإن حلف لا يأكل مائعاً فأكله بالخبز حنث) لأن ذلك يسمى أكلا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به " (فصل) وإن حلف ليأكلن أكلة بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة وهي المرة من الأكل والأكلة بالضم اللقمة ومنه " فليناوله في يده أكلة أو أكلتين " * (فصل) * وإن حلف لا يتزوج ولا يتطهر ولا يتطيب فاستدام ذلك لم يحنث) في قولهم جميعاً لأنه لا يطلق اسم الفعل على مستديم هذه الثلاثة فلا يقال تزوجت شهراً ولا تطهرت شهراً ولا تطيبت شهراً وإنما يقال منذ شهر ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائهما في تحريمه في الإحرام * (مسألة) * (وإن حلف لا يركب ولا يلبس فاستدام ذلك حنث) من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فنزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها فنزل في أول حالة الامكان والاحنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور(11/269)
لا يحنث باستدامة اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف أن لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث كذا ههنا ولنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبساً وركوباً ويسمى لابساً وراكباً ولذلك يقال لبست هذا الثوب شهراً وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى وقد اعتبر الشرع هذا في الإحرام حيث حرم لبس المخيط وأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها
في ابتدائه، وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال تزوجت شهراً وإنما يقال منذ شهر ولهذا لم تحرم استدامته في الإحرام ويحرم ابتداؤه * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل داراً هو داخلها فأقام فيها حنث عند القاضي ولم يحنث عند أبي الخطاب) وجه قول القاضي أن استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال أحمد في رجل حلف على امرأته لا دخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعاً فيها قال أخاف أن يكون قد حنث [والثاني] لا يحنث اختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في الاستدامة ولهذا يقال دخلتها منذ شهر ولا يقال دخلتها شهراً فجرى مجرى التزويج ولان الدخول الانفصال من خارج إلى داخل ولا يوجد في الاقامة وللشافعي قولان كالوجهين، ويحتمل أن من أحنثه(11/270)
إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى بها (فصل) وإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام ذلك حنث لأن المضاجعة تقع على الاستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعاً على الفراش وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت، فإن قام لوقته لم يحنث وإن استدام حنث لما ذكرنا، وإن حلف لا يصوم وهو صائم فأتم يومه فقال القاضي لا يحنث ويحتمل أن يحنث لان الصوم يقع على الاستدامة يقال صام يوماً، ولو شرع في صوم يوم العيد حرمت عليه استدامته وإن حلف لا يسافر وهو مسافر فأخذ في العود أو أقام لم يحنث وإن مضى في سفره حنث لأن الاستدامة سفر ولهذا يقال سافرت شهراً * (مسألة) * (وإن حلف لا يدخل على فلان بيتاً فدخل فلان عليه فأقام معه فعلى الوجهين) * (مسألة) * (وإن حلف لا يمكن داراً ولا يساكن فلانا وهما متساكنان ولم يخرج في الحال حنث إلا أن يقيم لنقل متاعه أو يخشى على نفسه الخروج فيقيم إلى أن يمكنه) وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يسكن داراً هو ساكنها خرج من وقته فإن أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه الخروج حنث لان استدامة السكنى سكنى كابتدائها في وقع السكنى عليها ألا تراه(11/271)
يقول سكنت في هذه الدار شهراً كما يقول لبست هذا الثوب وبهذا قال الشافعي، فإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلاً وحكي عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه يحنث وإن أنتقل في الحال لأنه لابد أن يكون ساكناً عقيب يمينه ولو لحظة فحنث بها وليس بصحيح فإنه لا يمكن الاحتراز منه لأنه لا يراد باليمين ولا تقع عليه أما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها يحنث وإن كان قليلاً * (مسألة) * (وإن أقام لنقل أهله ومتاعه لم يحنث) وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا لو خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن لأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله(11/272)
ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن في البلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه، وإذا نزل بلداً بأهله وماله يقال سكنه، وقولهم أنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى به بنفسه منفرداً عن أهله الذي في الدار لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي وعن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر أنه لا يحنث وإن بقي متاعه في الأولى لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف(11/273)
لا يسكن داراً لم يكن ساكناً بها فنزلها بأهله ناوياً للسكنى بها حنث وقال القاضي إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزله فهو ساكن وإن سكنها بنفسه * (مسألة) * (وإن خرج دون أهله ومتاعه حنث) لما ذكرنا في المسألة قبلها إلا أن يودع متاعه أو بعيره أو تأبى امرأته الخروج معه ولا يمكنه إكراهها فيخرج وحده فلا يحنث(11/274)
(فصل) وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو تحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظار الزوال المانع منها أو خرج طالباً للنقلة فتعذرت عليه أما لكونه لم يجد مسكناً يتحول اليه لتعذر الكراء أو غيره.
أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناوياً للنقلة متى قدر(11/275)
عليها لم يحنث وإن أقام أياما وليالي، لأن أقامته من غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكناً لا يمكنه ترك أهله أو القاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه، فإن أقام في هذا الوقت غيرنا وللنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ما جرت العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلاً قليلاً على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياماً، ولا يلزمه(11/276)
جمع دواب البلد لنقله.
ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب، ولا أوقات الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها (فصل) ولو وهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج وحده لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع وكذلك إن أبت امرأته الخروج معه ولم يمكنه إكراهها أو كان له عائلة فامتنعوا من الخروج والانتقال، ولم يمكنه إخراجهم فتركهم لم يحنث لأن هذا مما لم يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من(11/277)
رحله، وإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائداً أو زائراً لصديق لم يحنث، وقال القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث وإلا فلا ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن داراً لم يبر بالجلوس فيها على هذا الوجه، ولا يسمى ساكناً بها بهذا القدر فلم يحنث كما لو لم ينو الجلوس(11/278)
(فصل) وإن حلف لا يساكن فلانا وهو مساكنه فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة * (مسألة) * (وإن حلف لا يساكن فلانا فبنيا بينهما حائط وهما متساكنان حنث وإن كان في الدار حجرتان كل حجرة تختص ببابها وطريقها فسكن كل واحد حجرة لم يحنث) إذا كان في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة(11/279)
منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجره لم يحنث لأنهما غير متساكنين، وإن بنيا الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعمل فيه خلافاً (فصل) وإن سكنا في دار واحدة كل واحد في بيت ذي باب وغلق رجع إلى نيته بيمينه(11/280)
أو إلى سببها، وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه.
فإن عدم ذلك حنث وهذا قول مالك، وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان، وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين.
لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين(11/281)
(فصل) وإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار فقسماها ججرتين وبنيا بينهما حائطاً وفتح
كل واحد منهما باباً لنفسه وسكناها لم يحنث كما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار فلا تنحل يمينه بتغييرها كما لو حلف لا يدخلها فصارت فضاء والأول أصح لأنه لا يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع كونها دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة(11/282)
* (مسألة) * (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة فخرج دون أهله لم يحنث وإن حلف ليخرجن من هذه الدار فخرج دون أهله لم يبر) إذا حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لان الدار يخرج منها صاحبها(11/283)
في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة.
والخروج من البلد بخلاف ذلك * (مسألة) * (وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة أو ليرحلن عن هذه الدار ففعل فهل له العودة إليها؟ على روايتين (إحداهما) لا شئ عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج، وقد خرج فانحلت يمينه لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيها بعد(11/284)
(والثانية) يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن المحلوف عليه شئ هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادة هجرانه أو نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها فإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لان اليمين عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الخروج وقد فعله فانحلت يمينه به وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله(11/285)
(فصل) (إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها أو يمكنه الامتناع فلم يمتنع أو حلف لا يستخدم رجلاً فخدمه وهو ساكت فقال القاضي يحنث) إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها فلم يمكنه الامتناع لم يحنث نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه فإن حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل مختاراً فأشبه ما لو دخل راكباً.
فإن حمل بغير أمره لكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضاً(11/286)
اختاره القاضي لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره، وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان (أحدهما) لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو لم يمكنه الامتناع، ومتى دخل باختياره حنث سواء كان ماشياً أو راكباً أو محمولاً أو القى سفينة في ماء فجره إليها أو سبح فيها(11/287)
فدخلها، وسواء دخل من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطها أو دخل من ظهرها أو غير ذلك (فصل) فإن أكره بالضرب وتحوه فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهذا أحد قولي الشافعي (والثاني) يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه عن النخعي لانه دخلها وفعل ما حلف على تركه(11/288)
والصحيح لاول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه دخلها مكرها أشبه ما لو حمل فأدخلها مكرهاً وكذلك إن حلف لا يستخدم رجلاً فخدمه وهو ساكت فيه من الخلاف ما ذكرناه في دخول الدار لأنه في معناه (فصل) وان حلف لا يستخدم عبداً فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي إن كان عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهو قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عادة بحكم استحقاقه(11/289)
ذلك عليه ويكون معنى يمينه لا منعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره ولأنه ما حنث به في عبده حنث به في عبد غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل غيره كسائر الأفعال * (مسألة) * (وإن حلف ليشربن هذا الماء أو ليضربن عبده غداً فتلف المحلوف عليه قبل الغد حنث عند الخرقي ويحتمل أن لا يحنث وإن مات الحالف لم يحنث)(11/290)
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه وفي وقته وهو الغد والحالف قد خرج عن أهلية التكليف قبل الغد فلا يمكنه حنثه وكذلك إن جن الحالف من يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف، وإن هرب العبد أو مرض هو أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضرب العبد حنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه مع كونه من أهل التكليف وإن لم يمت الحالف ففيه سبع مسائل(11/291)
(أحدها) أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فانه ببر في يمينه بلا خلاف.
(الثانية) أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الغد فيحنث بلا خلاف أيضاً (الثالثة) مات العبد من يومه فإنه يحنث وهو أحد قولي الشافعي ويتخرج أن لا يحنث وهو قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي لأنه قد ضربه بغير اختياره فمل يحنث كالمكره والناسي ولنا أنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث(11/292)
كما لو أحلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحلف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته
أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره حنث وجهاً واحداً لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمينه انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل فحنث في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج أن لا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا يحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته(11/293)
(الرابعة) مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه (الخامسة) مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحداً وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم فيه قولان ولنا أنه تمكن من ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل ضربه(11/294)
(السادسة) مات الحالف في غد بعد التمكن من ضربه فلم يضربه حنث وجها واحداً لما ذكرنا (السابعة) ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة يبر لأن يمينه للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف ليقضيه غدا فقضاه اليوم(11/295)
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين فالمقصود تعجيله لا غير وفي قضاء الدين زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم من قصده إرادة أن لا يتجاوز غداً بالقضاء فصار كالملفوظ به إذا كان مبنى الأيمان على النية ولا يصح(11/296)
قياس ما ليس مثله عليه وسائر المحلوفات لا يعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الألحاق وتعين التمسك باللفظ (الثامنة) ضربه بعد موته فلا يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حياً يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت(11/297)
(التاسعة) ضربه ضرباً لا يؤلمه لا يبر لما ذكرناه (العاشرة) خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لانه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له (الحادية عشر) جن العبد فضربه فإنه يبر لأنه حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه حنث وإن(11/298)
حلف لا يضربه في غد ففيه نحو هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه * (مسألة) * (وإن قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا فتلف فهو على ما نحو ما ذكرنا في العبد)(11/299)
قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يترب الماء ف؟ نصب فقال يحنث وكذا لو حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث لان ذا لا يقدر عليه (فصل) ومن حلف لا يتكفل بمال فكفل ببدن فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر إحضار المكفول به قال شيخنا والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال إنما يلزمه المال لتعذر إحضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه، ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ويصح نفيها عنه فيقال(11/300)
ما تكفل بمال إنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي * (مسألة) * (وإن حلف ليقضينه حقه فأبرأه فهل يحنث؟ على وجهين) وذلك مبني على ما إذا حلف على فعل شئ فتلف قبل فعله وفيه وجهان(11/301)
(أحدهما) يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه (والثاني) لا يحنث لأنه منع من فعله فأشبه المكره على فعل ما حلف على تركه وقد ذكرنا ذلك
فيمن حلف ليضربن غلامه فتعذر ضربه * (مسألة) * (وإن مات المستحق فقضى ورثته لم يحنث ذكره أبو الخطاب لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته فكذلك في البر في يمينه)(11/302)
وحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غداً فمات العبد اليوم ومن نصر قول أبي الخطاب قال موت العبد يخالف ذلك لأن ضرب غيره لا يقوم مقام ضربه وقال أصحاب الرأي وأبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة من حلف ليضربن عبده غداً فمات العبد اليوم(11/303)
* (مسألة) * (وإن باعه بحقه عرضا لم يحنث عند ابن حامد لأنه قد قضاه حقه) وقال القاضي يحنث لأنه لم يقض الحق الذي عليه بعينه * (مسألة) * (وإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى(11/304)
استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس في أول الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع امكانه حنث وإن شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لم يحنث) لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله(11/305)
فيه وتأخر الفراغ لكثرة لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا(11/306)
* (مسألة) * (وإن حلف لا فارقتك حتى استوفي حقي منك فهرب منه حنث نص عليه وقال الخرقي
لا يحنث وإن فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه خرج على روايتين) وإذا حلف لا فارقتك ففيه عشر مسائل(11/307)
(أحدها) أن يفارقه الحالف مختاراً فيحنث سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه(11/308)
(الثانية) فارقه مكرهاً فينظر فإن كان حمل مكرهاً حتى فارقه لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى (الثالثة) هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك وابو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه أن لا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت(11/309)
ولنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة ولا فعل باختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره (الرابعة) إذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي لا يحنث قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره وليس هو قول الخرقي لأن الخرقي قال فهرب منه ففهومه انه إذا فارفه بغير هرب أنه يحنث(11/310)
(الخامسة) فارقه من غير إذن ولا هرب على وجه تمكنه ملازمته والمشي معه أو إمساكه فهي كالتي قبلها(11/311)
(السادسة) قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه قد وفاه فخرج رديئاً أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي وللشافعي قولان كالروايتين
(أحدهما) يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختاراً (والثانية) لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفاً وإن وجد أكثرها(11/312)
نحاساً أنه يحنث وإن وجدها مستحقه فأخذها صاحبها خرج أيضاً على الروايتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وإن علم بالحال ففارقه حنث لأنه لم يوفه حقه(11/313)
(السابعة) فلسه الحاكم ففارقه فإن الزمه الحاكم فهو كالمكره وإن لم يلزمه مفارقته لكن فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير إكراه فحنث كما لو حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها(11/314)
(الثامنة) احاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد لا يحنث لأنه قد برئ إليه منه(11/315)
ولنا أنه ما استوفى حقه منه بدليل أنه لم يصل إليه شئ ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد يريد بذلك مفارقته ففارقه خرج على الروايتين ذكره أبو الخطاب، قال شيخنا(11/316)
والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط الحنث كما لو جهل كون اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فاحاله ففارقه لم يحنث لأن هذا لم(11/317)
يبق له قبله حق فإن أخذ به ضميناً أو كفيلاً أو رهناً ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم (التاسعة) قضاه عن حق عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حنيفة(11/318)
لأنه قد قضاه حقه وبرئ إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله والأول أولى إن شاء الله تعالى لحصول المقصود به فإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو(11/319)
ولي قبلك حق لم يحنث وجهاً واحداً لأنه لم يبق قبله حق وهذا مذهب الشافعي (العاشرة) وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل(11/320)
استيفاء حقه، وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له ببراءة غريمه ويصير(11/321)
في ضمان الموكل فأما إن قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك ففارقه المحلوف عليه مختاراً حنث وإن(11/322)
أكره على فراقه لم يحنث وإن فارقه الحالف مختاراً حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي(11/323)
وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرنا(11/324)
* (مسألة) * (فإن حلف لا فترقنا فهرب منه حنث)(11/325)
إذا هرب من المحلوف عليه لأن يمينه تقتضي أن لا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة(11/326)
بهربه وان أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لا يرى الإكراه عذراً(11/327)
(فصل) وإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على وجهين بناء على المكره، وإن كان الحق عيناً فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك إيفاءها له باختياره(11/328)
وإن قبضها منه ثم وهبها أياه لم يحنث، وإن كانت يمينه لا أفارقك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو وهب العين له(11/329)
* (مسألة) * (وقدر الفرقة ما عده الناس فراقا كفرقة البيع وقد ذكرناه في البيع) وما نواه بيمينه عما تحتمله لفظه فهو على ما نواه(11/330)
باب النذر الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى (يوفون بالنذر) وقال سبحانه (وليوفوا نذورهم) وأما السنة فروت عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " رواه البخاري وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم ينذرون ولا يوفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن " رواه البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ووجوب الوفاء به (فصل) ولا يستحب النذر لأن ابن عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراماً لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولأن النذر لو كان مستحباً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأفاضل أصحابه * (مسألة) * (وهو أن يلزم نفسه لله تعالى شيئا فقول: لله علي أن أفعل كذا، وإن قال على(11/331)
نذر كذا لزمه أيضاً) لأنه صرح بلفظ النذر ولا يصح إلا من مكلف مسلماً كان أو كافراً لأنه قول يوجب على
المكلف عبادة أو مالا فلم يصح من غير المكلف كالإقرار ولأنه غير مكلف أشبه الطفل، ويصح من الكافر لحديث عمر حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام: قال " أوف بنذرك " متفق عليه * (مسألة) * (ولا يصح إلا بالقول فإن نواه من غير قول لم يصح) لأنه موجب للكفارة في أحد طرفيه فلم ينعقد بالنية كاليمين * (مسألة) * (ولا يصح في محال ولا واجب فلو قال لله علي صوم أمس أو صوم رمضان لم ينعقد) لا ينعقد نذر المستحيل كصوم أمس ولا يوجب شيئاً لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به لأنه لو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى قال شيخنا وعقد الباب في الصحيح من المذهب أن النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله، ودليل هذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة لما نذرت المشي ولم تطقه " ولتكفر يمينها " وفي رواية " فلتصم ثلاثة أيام " قال أحمد إليه أذهب، وعن عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كفارة النذر كفارة اليمين " أخرجه مسلم وقول ابن عباس في التي نذرت(11/332)
ذبح ابنها كفري يمينك ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك في سائره سوى ما استثناه الشرع فإن نذر واجباً كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب الشافعي لان النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل ان ينعقد نذره موجباً لكفارة يمين ان تكره كما لو حلف لا يفعله ففعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يميناً ولذلك لو نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله * (مسألة) * (والنذر المنعقد على خمسة أقسام (أحدها) النذر المطلق وهو أن يقول لله علي نذر فيجب به كفارة يمين في قول أكثر أهل العلم) روي ذلك عن ابن مسعود وبان عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الحسن وطاوس وسالم والقاسم والشعبي والنخعي وعكرمة وسعيد بن جبير ومالك والثوري ومحمد بن الحسن ولا نعلم
فيه محالفا إلا الشافعي قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه وأما ما روى عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب وهذا نص ولأنه قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفاً فيكون إجماعاً(11/333)
(الثاني) اللجاج والغضب وهو ما يقصد به المنع من شئ أو الحمل عليه كقوله إن كلمتك فلله علي الحج أو صوم سنة أو عتق عبدي أو الصدقة بمالي فهذا يمين يخير بين فعله وبين كفارة يمين لما روى عمران بن حصين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه، وعن أحمد أن الكفارة تتعين عليه ولا يجزئه غيرها للخبر والأول ظاهر المذهب لأنها يمين فيخير فيها بين الأمرين كاليمين بالله تعالى ولأن هذا جمع الصفتين فيخرج عن العهدة بكل واحدة منهما (الثالث) نذر المباح كقوله لله علي أن البس ثوبي أو أركب دابتي فهذا كاليمين يتخير بين فعله وبين كفارة يمين لما روى أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين، وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين كما لو حلف ليفعلنه فلم يفعل ويتخرج أن لا كفارة فيه فإن أصحابنا قالوا من نذر أن يعتكف في مسجد معين أو يصلي فيه كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة عليه ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك والشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله " وروى ابن عباس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مروه فليجلس ويستظل وليتكلم وليتم صومه " رواه البخاري(11/334)
وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب "، قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يامر بكفارة وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يهادى بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشياً فقال " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه مروه فليركب " متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير واجب لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل، ولنا ما تقدم في قسم نذر اللجاج ولا غضب فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر فروى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها " أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الأخذ بها ويجوز أن يكون الراوي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر.
* (مسألة) (فإن نذر مكروهاً كالطلاق فإنه مكروه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " استحب أن يكفر ولا يفعله) لأن ترك المكروه أولى من فعله فإن فعله فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله (الرابع)(11/335)
نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض ويوم العيد فلا يجوز الوفاء به ويكفر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ولأن معصية الله لا تباح في حال ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين وسمرة بن جندب، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (إلا أن ينذر ذبح ولده ففيه روايتان (إحداهما) أنه كذلك (والثانية) يلزمه ذبح كبش اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن قال إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي أو يقول ولدي نحير إن فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقاً غير معلق بشرط فعن أحمد عليه كفارة يمين وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج وكلاهما يوجب الكفارة وهو قول ابن عباس فإنه قال لامرأة نذرت أن تذبح ابنها لا تنحري ابنك كفري عن يمينك
(والرواية الثانية) كفارته ذبح كبش ويطعمه المساكين وهو قول أبي حنيفة ويروى ذلك عن ابن عباس أيضاً، لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذره ذبح شاة بدليل أن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وكان أمراً بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه ودليل أنه أمر بذبح شاة أن الله لا يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي، قال الله(11/336)
تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قيل ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "، وقال الشافعي ليس هذا بشئ ولا يجب به شئ لأنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به ولا يجوز ولا تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم.
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه سعيد في سننه ولأن النذر حكمه حكم اليمين بدليل قوله عليه الصلاة والسلام " النذر حلفة " وكفارته كفارة يمين فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده وقولهم أن النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح لأن ابراهيم عليه السلام لو كان مأموراً بذبح كبش لم يكن الكبش فداء ولا كان مصدقاً للرؤيا قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بذبح الكبش وهذا أمر اختص به ابراهيم عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان ابراهيم مأموراً بذبح كبش فقد ورد شرعنا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو معصية فتكون كفارته كفارة سائر نذور المعاصي.
(فصل) فإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيها أيضاً عن أحمد روايتان فنقل ابن منصور عن أحمد(11/337)
فيمن نذر ذبح نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك إن نذر ذبح أجنبي لأن ذلك يروي عن ابن عباس والذي قال أنا أنحر فلاناً فقال عليه كبش ولأنه نذر ذبح آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر ذبح ابنه (والثانية) عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان موجبة كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني بإسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني نذرت إن أنحر نفسي فتجهمه ابن عمر واقف منه ثم أتى ابن عباس فقال أهد مائة بدنة ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال أرأيت لو نذرت أن لا تكلم أباك أو أخاك؟ إنما هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه فرجع إلى ابن عباس فأخبره نقال أصاب عبد الرحمن ورجع ابن عباس عن قوله والصحيح أن هذا نذر معصية حكمه حكم سائر المعاصي لا غير.
(فصل) قال أحمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشاً وتكفر عن يمينها وهذا على قولنا إن كفارة نذر ذبح الولد كبش فجعل عن كل واحد لأن لفظ الواحد إذا أضيف اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش فإن عينت بنذرها واحدا فانما عليه كبش واحد بدليل إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدى بكبش واحد ولم يفد غير من أمر بذبحه من أولاده كذا ههنا وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه أن يبلغوا عشرة لم يفد منهم إلا واحداً وسواء نذرت معيناً أو عينت واحداً غير معين، فأما قول أحمد وتكفر يمينها فيحتمل(11/338)
أنه أراد أن تذبح الكباش كفارة ويحتمل أنه كان مع نذرها يمين فأما على الرواية الأخرى تجزئها كفارة يمين على ما سبق.
* (مسألة) * (ويحتمل أن لا ينعقد نذر المباح ولا المعصية ولا تجب به كفارة ولهذا قال أصحابنا من نذر الاعتكاف أو الصلاة في مكان معين فله فعله في غيره ولا كفارة وقد روي عن أحمد ما يدل على ذلك فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه) وهذا في معناه وروى هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد " رواه مسلم والمذهب أن عليه الكفارة وقد ذكرناه في نذر المباح ووجهه ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال هذا حديث غريب (فصل) وإن نذر فعل طاعة وليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كالذي في خبر أبي إسرائيل فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجوب الكفارة لما تركه روايتان على ما ذكرناه وقد روى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة فذكر عقبة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " مر أختك فلتركب ولتختمر ولتعصم ثلاثة(11/339)
أيام "، رواه الجوزجاني والترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أخت عقبة بن عامر في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفاة.
* (مسألة) * (ولو نذر الصدقة بكل ماله فله الصدقة بثلثه ولا كفارة عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي لبابة حين قال إن من توبتي يا رسول الله إن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجزيك الثلث " وبهذا قال الزهري ومالك وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق يحمل على معهود الشرع ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة وعن جابر بن زيد قال إن كان كثيراً وهو ألفان تصدق بعشرة وإن كان متوسطاً وهو ألف تصدق بسبعة، وإن كان قليلاً وهو خمسمائة تصدق بخمسة وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله وعنه في غيره فيه روايتان.
[إحداهما] يتصدق به (والثانية) لا يلزمه منه شئ وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق بماله كله لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به كنذر الصلاة والصيام ولنا حديث أبي لبابة المذكور وعن كعب أبن مالك قال قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " متفق عليه ولأبي داود يجزئ عنك الثلث قالوا ليس هذا بنذر وإنما أراد الصدقة(11/340)
بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم؟ الاقتصار على الثلث وليس هذا محل النزاع إنما النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعه فلنا عنه جوابان (احدهما) أن قوله " يجزئك الثلث " دليل على أنه أتى بلفظ يقتضي الإيجاب لأنها إنما تستعمل غالباً
في الواجبات ولو كان مخيراً بإرادة الصدقة لما لزمه شئ يجزئ عنه بعضه (الثاني) أن منعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس بقربة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع أصحابه من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به ولنا على أبي حنيفة أن غير الزكوي مال فتناوله النذر كغير الزكوي وما قاله ربيعة لا يصح فإن هذا ليس بزكاة ولا في معناها فإن الصدقة وجبت لاغناء الفقراء ومواساتهم وهذه صدقة تبرع بها صاحبها تقربا إلى الله تعالى ثم إن المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه صدقة معينة غير مطلقة ثم تبطل بما لو نذر صياماً فإنه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما ذكره جابر بن زيد فهو تحكم بغير دليل * (مسألة) * (وإن نذر الصدقة بألف لزمه جميعه) وعنه يجزئه ثلثه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدر كألف فروي عن أحمد أنه يجزئه ثلثه لأنه مال نذر الصدقة به فأجزأه ثلثه كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لانه(11/341)
منذور هو قربة فلزمه الوفاء به كسائر المنذورات ولعموم قوله سبحانه (يوفون بالنذر) وإنما خولف هذا في جميع المال للأثر فيه ولما في الصدقة بالمال كله من الضرر اللاحق به اللهم إلا أن يكون المنذور ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك ويحتمل أنه إن كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء نذره وإن زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث منه لأنه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به (فصل) إذا نذر الصدقة بقدر من المال فأبرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه وإن كان الغريم من أهل الصدقة قال أحمد لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لأن الصدقة تقتضي التمليك وهذا إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة قال أحمد فيمن نذر أن يتصدق بمال وفي نفسه أنه ألف أجزأه أن يخرج ما قلنا وذلك لأن اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس أنه يلزمه ما نواه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين وقد نص أحمد فيمن نذر صوماً أو صلاة وفي نفسه أكثر مما تناوله لفظه أنه يلزمه ذلك وهذا كذلك
* (فصل) * قال رحمه الله (الخامس نذر التبرر كنذر الصلاة والصيام والصدقة والاعتكاف والحج والعمرة ونحوها من القرب سواء نذره مطلقا أو علقه بشرط يرجوه فقال إن شفى الله مريضي أو سلم الامالي فلله علي كذا فمتى وجد شرطه انعقد نذره ويلزمه الوفاء به) نذر التبرر يتنوع ثلاثة أنواع (أحدها) هذا الذي ذكرناه إذا كان في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة(11/342)
استدفعها كقوله إن شفى الله مريضي فعلي صوم شهر وتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم (والنوع الثاني) التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزم الوفاء به في قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلبة قال النذر عند العرب وعد بشرط ولأن ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه كالبائع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة (النوع الثالث) نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له مالا نظير له بأصل الشرع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " رواه البخاري وذمه الذين ينذرون.
ولا يوفون وقول الله تعالى (ومنهم من عاهد الله لان آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) الآيات إلى قوله (بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) وقال عمر إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوف بنذرك " ولانه الزم نفسه قربة على وجه التبرر فلزمه كموضع الإجماع وكالعمرة فإنهم سلموها وهي غير واجبة عندهم كالاعتكاف وما ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذراً وإن لم يكن بشرط قال جميل(11/343)
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي * وهموا بقتلي يابثين لقوني
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر * (مسألة) * (وإن نذر صوم سنة لم يدخل في نذره رمضان ويوما العيد وفي أيام التشريق روايتان وعنه ما يدل على أنه يقضي يومي العيدين وأيام التشريق) إذا نذر صوم سنة معينة لم يدخل في نذره رمضان، ويوما العيدين لا يصح صومهما فلم يدخلا في نذره كالليل وفي أيام التشريق روايتان (إحداهما) لا يدخل في نذره لأنه منهي عن صومها أشبهت يومي العيدين (والثانية) تدخل في نذره ويصومها كالمتمتع إذا لم يجد الهدي وفيه رواية أخرى أن يومي العيدين وأيام التشريق يدخل في نذره فعلى هذا لا يصومها ويقضي بدلها وعليه كفارة يمين لقوله عليه السلام " لا نذر في معصية " وكفارته كفارة يمين رواه أبو داود وإن قلنا يجوز صيام أيام التشريق عن نذره فصامها فلا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور أشبه ما لو نذر غيرها مما يصح صومه * (مسألة) * (وإن نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم عيد أو حيض افطر وقضى وكفر) لأن مثل هذا النذر ينعقد لأنه نذر نذراً يمكن الوفاء به غالباً فكان منعقداً كما لو وافق غير(11/344)
يوم العيد أو غير يوم الحيض والنفاس ولا يجوز أن يصوم يوم العيد أن وافقه لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ويلزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة كما لو فاته لمرض وعنه يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوم صومه معصية فأوجب الكفارة من غير قضاء كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها * (مسألة) * (ونقل عنه ما يدل على أنه أن صام يوم العيد صح صومه) لأنه وفى بما نذر، فأما إن وافق نذره يوم حيض أو نفاس لم يصمه بغير خلاف نعلمه بين أهل العلم ويتخرج في القضاء والكفارة مثل ما في يوم العيد قياساً عليه * (مسألة) * (وإن وافق أيام التشريق فهل يصومها؟ على روايتين) (إحداهما) يصومها لقول عائشة لم يرخص في هذه الأيام أن يصمن إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي
فسنا عليه سائر الواجبات (والثانية) لا يصومها للنهي عن ذلك * (مسألة) * (وإن نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلا فلا شئ عليه وإن قدم نهاراً فعنه ما يدل على أنه لا ينعقد نذره ولا يلزمه إلا صيام ذلك اليوم إن لم يكن افطر وعنهه أنه يقضي ويكفر سواء قدم وهو مفطر أو صائم وإن وافق قدومه يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه صياما لرمضان ونذره وقال غيره عليه القضاء وفي الكفارة روايتان)(11/345)
وجملة ذلك أنه إذا نذر أن يصوم يوم يقدم فلان صح نذره وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يصح نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصم كما لو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي قبل اليوم الذي يقدم فيه زيد ولنا أنه زمن يصح فيه صوم التطوع فانعقد نذره لصومه كما لو أصبح صائماً تطوعا وقال لله علي أن أصوم يومي وقولهم لا يصح صومه لا يصح لأنه قد يعلم اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي صومه من الليل ولأنه قد يجب عليه مالا يمكنه كالصبي يبلغ في اثناء يوم من رمضان والحائض تطهر فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه: إذا ثبت ذلك لم يخل من أقسام خمسة (أحدهما) أن يقدم ليلا فلا شئ عليه في قول الجميع لأنه لم يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام (الثاني) أن يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح صومه ويجزئه وفاء بنذره (الثالث) أن يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فعنه لا يصح ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر أصحابنا ومذهب الحكم وحماد (والرواية الثانية) يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن والاوزاعي وأبي عبيد وقتادة وأبي ثور وأحد قولي الشافعي لأنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسياناً ولم تلزمه كفارة لأن الشرع منعه(11/346)
من صومه فهو كالمكره وعن أحمد رواية ثالثة ان صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه
قد وفى بما نذر فأشبه ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوماً صومه حرام فكان موجبة الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شئ من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية.
ووجه قول الخرقي أن النذر ينعقد لأنه نذر نذراً يمكن الوفاء به غالباً فكان منعقداً كما لو وافق غير يوم العيد ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لان الشارع حرم صومه فأصبه زمن الحيض ولزمه القضاء لأنه نذر منعقد قد فاته الصيام بالعذر فلزمته الكفارة لفواته كما لو فاته بمرض، وإن وافق يوم حيض أو نفاس فهو اكما لو وافق يوم فطر أو أضحى إلا أنها لا تصومه بغير خلاف بين أهل العلم (الرابع) أن يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان (إحداهما) يلزمه القضاء والكفارة لأنه نذر صوما نذراً صحيحاً ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج أن لا تلزمه كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذر لعذر (والثانية) لا يلزمه شئ من قضاء ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي وابن المنذر لأنه قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم يلزمه شئ كما لو قدم ليلا(11/347)
(الخامسة) قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعاً أو فرضاً فإن كان تطوعا فقال القاضي يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة لأنه يمكن صوم يوم بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في صوم التطوع إتمام صوم ذلك اليوم وإنما وجد سبب الوجوب في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط كما لو قدم وهو مفطر ويتخرج لنا مثله، وأما إن كان الصوم واجباً مثل أن يوافق يوما من رمضان فقال الخرقي يجزئه لرمضان ونذره لأنه نذر صومه وقد وفى به وقال غيره عليه القضاء لأنه لم يصمه عن نذره وفي الكفارة روايتان (إحداهما) يجب لتأخر النذر (والثانية) لا يجب لأنه أخر أشبه ما لو أخر صوم رمضان لعذر
* (مسألة) * (وإن وافق يوم نذره وهو مجنون فلا قضاء عليه ولا كفارة) لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر أشبه ما لو فاته (فصل) وإن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذر الكفارة لا غير نقلها حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى أن عليه القضاء مع الكفارة كما لو نذر يوم الخميس فوافق يوم العيد والاولى هي الصحيحة قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق ما(11/348)
إذا نذر صوم يوم الخميس فوافق يوم العيد لأنه لم يقصد بنذره المعصية وإنما وقع اتفاقا وههنا وتعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه الصلاة والسلام " لا نذر في معصية " ويتخرج ألا يلزمه شئ بناء على نذر المعصية فيما تقدم * (مسألة) * (وإن نذر صوم شهر معين فلم يصمه لغير عذر فعليه القضاء وكفارة يمين) لأنه صوم واجب معين أخره فلزمه قضاؤه كرمضان وتلزمه كفارة يمين لتأخير النذر عن وقته لأنه يمين وان لم يصمه لعذر فعليه القضاء لأنه واجب أشبه رمضان وفي الكفارة روايتان (إحداهما) تلزمه لتأخير النذر والأخرى لا تلزمه لأنه أخره لعذر أشبه تأخير رمضان ل؟ ذر * (مسألة) * (وإن صام قبله لم يجزئه) وكذلك إن نذر الحج في عام فحج قبله وقال أبو يوسف يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله ولنا ان المنذر محمول على المشروع ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله ولأنه لم يأت بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا * (مسألة) * (وإن أفطر في أثنائه لغير عذر لزمه استئنافه ويكفر ويحتمل أن يتم باقيه ويقضي ويكفر) إذا نذر صوم شهر معين فافطر في اثنائه لم يخل من حالين أحدهما الفطر لغير عذر ففيه روايتان (إحداهما) ينقطع صومه ويلزمه استئنافه لانه صوم يجب متتابعاً بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر وفارق(11/349)
رمضان فانه تتابعه بالشرع لا بالنذر وههنا أوجبه عل نفسه ثم فوته فأشبه ما لو شرطه متتابعاً
(الثانية) لا يلزمه الاستئناف إلا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأن وجوب التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في اثنائه كشهر رمضان ولان الاستئناف يجعل الصوم في غير الوقت الذي عينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت البعض لا يوجب تفويت الجميع فعلى هذا يكفر عن فطره ويقضي أيام فطره بعد إتمام صومه وهذا أ؟ يس إن شاء الله تعالى وأصح وعلى الرواية الأولى يلزمه الاستئناف عقيب الأيام التي أفطر فيها ولا يجوز تأخيره لأن باقي الشهر منذور فلا يجوز ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضاً لا خلاله بصوم الأيام التي أفطرها (الحال الثاني) أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويكفر هذا قياس المذهب وفيه رواية أخرى أنه لا كفارة عليه وهو مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأن النذر محمول على المشروع ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شئ ولنا أنه فات ما نذره فلزمته كفارة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر " ولتكفر بمينها " وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع بخلاف هذا (فصل) وإن جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة وقال أبو يوسف يلزمه القضاء لأنه(11/350)
من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان وإن حاضت المرأة جميع الزمن المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان وقال الشافعي لا كفارة عليها وفي القضاء وجهان (أحدهما) لا يلزمها لأن زمن الصوم لا يمكن الصوم فيه فلا يدخل في النذر كزمن رمضان ولنا أن المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء فكذلك المنذور (فصل) وإن قال علي الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة ويحتمل أن لا كفارة عليه إذا كان معذوراً وقال الشافعي إن تعذر عليه الحج لأحد الشرائط السبعة أو منعه منع سلطان أو عدو فلا قضاء عليه وإن حدث به مرض أو أخطأ أو توانى قضاه ولنا أنه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولأن المنذور محمول على المشروع ابتداء ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه فكذلك المنذور
* (مسألة) * (وإن نذر صوم شهر لزمه التتابع) إذا نذر صوم شهر فهو مخير بين أن يصوم شهراً بالهلال فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين يوما ويلزمه التتابع في أحد الوجهين وهو قول أبي ثور لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع (والثاني) لا يلزمه التتابع(11/351)
وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما ولا خلاف في أنه يجزئه ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما * (مسألة) * (وإن نذر أياما معدودة لم يلزمه التتابع الا أن يستر له) نص عليه أحمد وروي عنه فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعاً وهذا يدل على وجوب التتابع في الأيام المنذورة وهو اختيار القاضي وحمل بعض أصحابنا كلام أحمد على من شرط التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة لا يقتضي تتابعاً والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته وقال بعضهم كلام أحمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين لأن الثلاثين شهر فلو أراد التتابع لقال شهراً فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح أنه لا يلزمه التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على التتابع فإن الله تعالى قال في رمضان (فعدة من أيام أخر) ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالاتفاق وقال بعض أصحابنا أن نذر اعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزم مثل ذلك في الصيام لأن الاعتكاف يتصل بعضه ببعض من غير فصل الصوم يتخلله الليل فيفل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف يومين متتابعين لدخل فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولا يقتضي التتابع بدليل نذر الصوم وما ذكروه ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام الاعتكاف كما لو قال متتابعه(11/352)
* (مسألة) * (وإن نذر صياما متتابعا فافطر لمرض أو حيض قضى لا غير وإن أفطر لغير عذر لزمه الاستيفاء وإن أفطر لسفر أو ما يبيح الفطر فعلى وجهين) وجملته أن من نذر صياما متتابعا غير معين لم يخل من حالين (أحدهما) أن يفطر لعذر من حيض
أو مرض أو نحوه فهو مخير بين أن يبتدئ الصوم ولا شئ عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه وبين أن يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإن كان عاجزاً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي ولأن النذر كاليمين، ولو حلف ليصومن صياماً متتابعاً ثم لم يأت به متتابعاً لزمته الكفارة، وإنما جوزنا له البناء ههنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما كما لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين لعذر كان له البناء والذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح أنه لا كفارة عليه إذا أفطر لعذر فإنه قال: قضاه لا غير وهي إحدى الروايتين عن أحمد، كما لو ترك التتابع في الشهرين المتتابعين لعذر فإنه لا كفارة عليه كذا ههنا (الحال الثاني) أن يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذور لغير عذر مع إمكان الاتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معيناً فصام قبله فإن أفطر لعذر يبيح الفطر(11/353)
كالسفر لم يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض (والثاني) يفطر لأنه أفطر بإختياره أشبه ما لو أفطر لغير عذر (فصل) إذا نذر صوم شهر متتابع فصام من أول الهلال أجزأه تاما كان الشهر أو ناقصاً لأن ما بين الهلالين شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " الشهر تسع وعشرون " وإن بدأ من اثناء شهر لزمه شهر بالعدد ثلاثون يوما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم علكيم فأكملوا ثلاثين " لأنه بدأ من أثنائه، إن كان ناقصاً قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحداً وإن صام ذا الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطرت المرأة لحيض، وعليه كفارة ويقضي أربعة أيام إن كان تاما وخمسة إن كان ناقصاً والأولى أن لا يلزمه إلا أربعة إذا كان ناقصاً لأنه بدأ من أوله فيقضي المتروك منه حسب، وإن صام من أول شهر فمرض فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة فيه ثم طهرت قبل خروجه قضى ما أفطر منه بعدته إن كان الشهر تاما وإن كان ناقصاً فهل يلزمه الاتيان بيوم آخر؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا فيما إذا أفطر يوم العيد وأيام التشريق.
(فصل) إذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم في أول شهر رمضان فظاهر كلام الخرقي
إن هذا نذر منعقد يجزئ صيامه عن النذر ورمضان وهو قول أبي يوسف وقياس قول ابن عباس وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت وقد صام فيه، وقال القاضي في شرحه ظاهر كلام الخرقي أنه غير(11/354)
منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر صوم رمضان قال والصحيح عندي صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالباً فانعقد كما لو وافق شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد أن عليه القضاء وقول الخرقي: أجزأه صيامه لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عنده لولا ذلك ما كان صومه عن نذره وقد نقل أبو طالب عن أحمد في من نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فاحرم عن النذر: وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شئ آخر وهذا مثل قول الخرقي وروى عكرمة عن ابن عباس في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج الفريضة قال يجزئ لهما جميعا، وعن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال عكرمة يقتضي حجة عن نذره وعن حجة الإسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر والنذر؟ قال فذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت وأحسنت وقال ابن عمر وأنس يبدأ بحجة الإسلام ثم يحج لنذره وفائدة انعقاد ونذره لزوم الكفارة بتركه وأنه لو لم ينوه لنذره لزمه قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره بعض رمضان وبعض شهر آخر إما شعبان وإما شوال لزمه صوم ما خرج عن رمضان ويتمه، ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن الأمرين ولزمته الكفارة إن أخل به وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح صومه عن النذر أشبه الليل.(11/355)
ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجباً للكفارة كاليمين بالله تعالى وقد نقل عن أحمد فيمن نذر أن يحج العام وعليه حجة الإسلام روايتان.
(إحداهما) تجزئه حجة الإسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب (والثانية) ينعقد نذره موجباً لحجة غير الإسلام ويبدأ بحجة الإسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين
مختلفين فلم تسقط إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين.
ووجه الأولى أنه نذر عبادة في وقت معين وقد أتى بها فيه فأشبه ما لو قال لله علي أن أصوم رمضان.
(فصل) فأما إن قال لله علي أن أصوم شهراً فنوى صيام شهر رمضان لنذره ورمضان لم يجزئه لأن شهر رمضان واجب يفرض الله تعالى ونذره يقتضي إيجاب شهر فيجب شهران بسببين فلا يجزئ أحدهما عن الآخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر أن يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة الفجر عن نذره وعن الفجر * (مسألة) * (وإن نذر صياما فعجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم عنه لكل يوم مسكينا ويحتمل أن يكفر ولا شئ عليه) من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادار عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته(11/356)
فقال " لتمش ولتركب " متفق عليه ولأبي داود " ولتكفر يمينها " وللترمذي " ولتصم ثلاثة أيام " وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين " قال " ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين " رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس وقال ابن عباس من نذر نذراً يطيقه فليف بما نذر فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شئ آخر وإن كان صياماً فعن أحمد روايتان (إحداهما) يلزمه لكل يوم إطعام مسكين قال القاضي وهذا أصح لأنه صوم وجد سبب إيجابه عبثاً فإذا عجز عنه لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كصوم رمضان ولأن المطلق من كلام الآدمي يحمل على المطلق من كلام الله تعالى، ولو عجز عن الصوم المشروع اطعم عن كل يوم مسكيناً كذلك إذا عجز عن الصوم المنذور (والثانية) لا يلزمه شئ آخر من إطعام ولا غيره لقوله من نذر نذراً لا يطيقه فكفارته كفارة يمين وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء به فكان الواجب
فيه كفارة يمين كسائر النذر ولأن موجب النذر موجب اليمين الا مع إمكان الوفاء به إذا كان قربة ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين (أحدهما) أن رمضان يطعم عنه عند العجز بالموت فكذلك في الحياة (الثاني) أن قياس المنذور على المنذور أولى من قياسه على المفروض بأصل الشرع لأن هذا قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع(11/357)
(فصل) وإن عجز عن الصوم لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه كفارة ولا غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال صار إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه، فإن كان العجز المرجو الزوال عن صوم معين فات وقته انتظر الامكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة، على روايتين ذكرهما أبو الخطاب (إحداهما) تجب الكفارة لاته اخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام فعجز ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن هذا الشهر لزمته الكفارة كذا ههنا (والثانية) لا يلزمه لأنه أتى بصيام اجزأ عن نذره من غير تفريطه فلم تلزمه كفارة كما لو صام عينه (فصل) فإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه الا الكفارة لأن الشرع لم يجعل لذلك حداً يصار إليه فوجبت الكفارة لمخالفته نذره فقط وإن عجز عنه لعارض فحكمه حكم الصيام سواء فيما فصلناه (فصل) وأن نذر صياماً ولم يسم عدداً ولم ينوه اجزأه صوم يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم فلزمه لأنه اليقين فإن نذر صلاة مطلقة ففيها روايتان (إحداهما) تجزئه ركعة نقلها اسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشرعة وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة(11/358)
(والثانية) لا يجزئه إلا ركعتان ذكرها الخرقي وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان
فوجب حمل النذر عليه، وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولأن الركعة لا تجزئ في الفرض ولا تجزئ في النفل كالسجدة وللشافعي قولان كالروايتين فأما أن عين بنذره عدداً لزمه قل أو كثر لأن النذر يثبت بقوله فكذلك عدده فإن نوى عدداً فهو كما لو سماه لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين (فصل) وإن نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق فإذا أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور لكن تلزمه كفارة لتركه وأن لزمه قضاء لرمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فيقدم على ما اوجبه على نفسه لتقديم حجة الاسلام على المنذورة وإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته الصيام احتمل أن يجب لأنه لا يمكن التكفير الا بترك الصوم المنذور وتكره يوجب كفارة فيفضي إلى التسلسل وترك المنذور بالكلية ويحتمل أن تجب الكفارة ولا يجب بفعلها كفارة لأن ترك النذر لعذر لا يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل والله أعلم * (مسألة) * (وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو موضع من الحرم لم يجزئه إلا المشي في حج أو عمرة فإن ترك المشي لعجز أو غيره فعليه كفارة يمين وعنه عليه دم) وجملة ذلك أن من نذر المشي إلى بيت الله عزوجل لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك(11/359)
والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يطيع الله فليطعه - وقال - لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " ولا يجزئه المشي إلا في حج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً وذلك لأن المشي إليه في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي لنذره أياه فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول الشافعي وبه قال عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم إن تركب وتهدي هدياً رواه أبو داود وفيه ضعف لأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الاحرام من المقيات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل
ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد ويهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان (إحداهما) كقول ابن عمر (والثانية) كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يلزمه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان وأما غيره فلا يلزم مع العجز شئ ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله " لتمش ولتركب(11/360)
ولتكفر يمينها " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " كفارة النذر كفارة اليمين " ولأن المشي مما لا يوجبه الاحرام فلم يجب الدم يتركه كما لو نذرت صلاة ركعتين فتركتهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز فإن قيل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه الكفارة من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لكونه مشيا إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يركب في عيد ولا جنازة فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالتكفير ولأن المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجباً أو مباحاً فإن كان واجباً لزم الوفاء به وإن كان مباحاً لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل بواجب في الحج قلما المشي لم يوجبه الإحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما فأما أن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة لتركه صفة النذر وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشياً لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوماً متتابعاً فأتى به متفرقاً، فإن عجز عن المشي بعد الحج كفر واجزأه وإن مشى بعض الطريق وركب بعضاً فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول(11/361)
ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى ويحتمل أن لا يجزئه إلا حج يمشي في جميعه
لأن ظاهر النذر يقتضي هذا ووجه القول الأول وهو ألا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة أن المشي ليس بمقصود في الحج ولا ورد الشرع باعتباره في موضع فلم يلزمه بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر النحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنه صفة مقصودة فيه اعتبرها الشرع في صيام كفارتي الظهار والقتل * (مسألة) * (فإن نذر الركوب فمشى فعلى الروايتين) إذا نذر الحج راكباً لزمه الحج كذلك لأن فيه انفاقاً في الحج فإن ترك الركوع فعليه كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الإنفاق وعن أحمد مثل ذلك وقد بينا أن الواجب بترك النذر الكفارة دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفارة لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة، وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الإتيان بذلك من ديرة أهله إلا أن ينوي موضعاً بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على اصله في الفرض، والحج المفروض يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب وقال بعض الشافعية يجب الإحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك ولنا أن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه(11/362)
المنذور من المشي أو الركوب في الحج والعمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة.
قال أحمد يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لانه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجة ولا عمرته، وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول (فصل) وإذا نذر المشي إلى البيت الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس، أو موضع من الحرم لزمه حج أو عمرة نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي إلى الكعبة أو إلى مكة، وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة ولنا أنه نذر المشي إلى موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم
كعرفة ومواقيت الإحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك إن نذر اتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه، وإن نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى أجزأه لأن الصلاة لا تختص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافاً إلا عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه وقد ذكرناه في الاعتكاف(11/363)
(فصل) فإن نذر المشي إلى بيت الله ولم ينو شيئاً ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه المخصوص بالقصد دون غيره، وإطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه في النذر (فصل) إذا نذر المشي إلى بيت الله والركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي إنما أراد اتيانه لزمه اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شئ لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة ولنا أنه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فإنه مخير في المشي والركوب، وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد من الأمرين فلم يتبين أحدهما وإن قال لله علي إن آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي إن آتي البيت يقتضي حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يخالف نذره فسقط حكمه.
(فصل) إذا نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك والاوزاعي وابو عبيد وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يتبين لي وجوب المشي اليهما لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا(11/364)
والمسجد الأقصى " ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم النذر بالمشي إليه كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكروه فإن كان قربة تجب بالنذر، وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المرضى وشهود الجنائز ويلزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النسكين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النسكين في المسجد الحرام كنذر المشي وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن مالا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد ولنا ما روى أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني نذرت إن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال " أوف بنذرك " متفق عليه، روى عنه عليه الصلاة والسلام " صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة " وإن كانت فضيلة وقربة لزمت بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه ويبطل بالعمرة فإنها تلزم بالنذر وهي غير واجبة عندهم (فصل) إذا نظر الصلاة في المسجد الحرام لم تجز الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد واكثرها ثوابا للمصلي فيها وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى اجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما روى جابر أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس(11/365)
ركعتين قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " صل ههنا " ثم اعاد عليه قال " شأنك " رواه الإمام أحمد ولفظه " والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس " وقد سبق هذا في باب الاعتكاف (فصل) وإن أفسد الحج المنذور ماشياً وجب القضاء مشياً لأن القضاء يكون على صفة الأداء وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل للعمرة ويمضي في الحج الفاسد ماشياً حتى يحل منه * (مسألة) * (فإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها)
إذا نذر رقبة فهي التي تجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة من العيوب المضرة بالعمل على ما ذكرنا في بابا الظهار لأن النذر المطلق تحمل على المعهود في الشعر والواجب بأصل الشرع كذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والثاني) تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن الاسم يتناول جميع ذلك ولأن المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على ما تناوله الاسم فأما إن نوى رقبة بعينها أجزأة عتقها أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وأن نوى ما يقع عليه الاسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرنا فإن المطلق يتقيد(11/366)
بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية، وقال أحمد فيمن نذر رقبة معينة فمات قبل أن يعتقها تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شئ فاته على حديث عقبة بن عامر وإليه ذهب في الفائت وما عجز عنه (فصل) ومن نذر حجاً أو صياما أو صدقة أو عتقاً أو إعتكافاً أو صلاة أو غيرها من الطاعات ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن أحمد في الصلاة لا يصلى عن الميت لأنها لا بدل لها بحال وأما سائر الاعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه لكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف وافتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت ولم تقضه أن تمشي ابنتها عنها، وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن ابي أمية أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعتكف عنها وقال ثنا أبو الاحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر ابن شعيب أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعدما مات وقال مالك لا يمشي أحد عن أحد ولا يصوم عنه ولا يصلي وكذلك سائر أعمال البدن قياساً على الصلاة، وقال الشافعي يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحداً ولا يقضي الصوم في أحد الوجهين ويطعم عنه في كل يوم مسكين لأن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه عن كل يوم مسكين " أخرجه ابن ماجة(11/367)
وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الاخبار الواردة فيه وجمهور أهل العلم على أن القضا ليس بواجب على الولي إلا أن يكون حقاً في المال ويكون للميت تركة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخف تركة يقضي منها، ومنها أن السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يفعل ذلك أولا؟ وجوابه يختلف بإختلاف مقتضى سؤاله فإن كان مقتضاه السؤال عن الاباحة فالامر في جوابه يقتضي الاباحة وان كان السؤال عن الاجزاء فأمره يقتضي الاجزاء كقولهم أنصلي في مرابض الغنم؟ قال " صلوا في مرابض الغنم " وان كان السؤال عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم انتوضأ من لحوم الابل؟ قال " نعم توضئوا منها " وسؤال السائل في مسئلتنا كان عن الاجزاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفعل يقتضيه لا غير ولنا على جواز الصيام عن الميت ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من مات(11/368)
وعليه صيام صام عنه وليه " وعن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال " لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ " قال نعم قال " فدين الله أحق أن يقضى " وفي رواية قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت نعم قال " فصومي عن أمك " متفق عليهن وعن ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأفتاه إن يقضيه فكانت سنة بعد وعنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي نذرت أن تحج وإنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ "(11/369)
قال نعم قال " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " رواه البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطللق في النذر وما عدا المذكور في الحديث فمقاس عليه وحديث ابن عمر في الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جميعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم.
إذا ثبت
هذا فإن الأولى أن يقضي النذر عنه وارثه وإن قضاه غيره أجزأ عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان النذر في مال تعلق بتركته * (مسألة) * (وإن نذر أن يطوف على أربع طاف طوافين) نص عليه قال ذلك ابن عباس لما روى معاوية ابن خديج الكندي أنه قدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم(11/370)
ومعه أمه كبشة بنت معدي كرب عمة الأشعث بن قيس فقالت يا رسول الله إني آليت أن أطوف بالبيت حبواً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك " أخرجه الدارقطني بإسناده وقال ابن عباس في إمرأة نذرت أن تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعاً وعن رجلها سبعا رواه سعيد والقياس إن يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه على يديه لأنه غير مشروع فسقط كما أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم(11/371)
أن تحج وتختمر وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها قال " فمروها فلتختمر " ومر برجلين مقرونين فقال " أطلقا قرانكا وقد ذكرنا حديث أبي اسرائل الذي نذر أن يصوم ويفعل أشياء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره وهل تلزمه كفارة؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع وأما وجه الأول فإن من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه(11/372)
كتاب القضاء الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (وإن احكم بينهم بما أنزل الله) وقوله (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم خرجا مما قضيت) وأما السنة فروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس * (مسألة) * (وهو فرض كفاية) لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجباً عليهم كالجهاد والأمامة قال أحمد رحمه الله لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه اجرا على الخطأ واسقط عنه حكمه ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم وأداء الحق إلى مستحقه ورد الظالم عن ظلمه واصلاحاً بين الناس وتخليصا لبعضهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله فكانوا يحكمون لأممهم وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث معاذاً قاضيا، وعن عقبة بن عامر قال جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى(11/373)
الله عليه وسلم فقال " اقض بينهما " قلت أنت أولى بذلك قال " وإن كان " قلت علام أقضي؟ قال " اقض فان صبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد " رواه سعيد في سننه، وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة (فصل) وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف يمتنعون منه أشد الامتناع ويخشون على أنفسهم خطره قال خاقان بن عبد الله أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس هناك غيرك قال فأنزلوا الأمر على ما قلتم فإن مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضاً فلما كان اليوم الثالث فترت يداه، وكان يقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " قال الترمذي هذا حديث حسن قيل في هذا الحديث إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل
على مشقة كمشقة الذبح * (مسألة) * (فيجب على الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضيا ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً قاضيا إلى اليمن وبعث معاذا قاضيا أيضا وقال " بم تحكم؟ " قال بكتاب الله قال " فإن لم تجد؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن لم تجد؟ " قال اجتهد رأيي قال " الحمد(11/374)
لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام ولأن أهل كل بلد يتحاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه فوجب اغناؤهم عنه * (مسألة) * (ويختار لذلك أفضل من يجد وأورعهم ويأمر بتقوى الله تعالى وإيثار طاعته في سره وتحري العدل والاجتهاد في إقامة الحق) إذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم عنما يصلح وإن ذكر له رجل لا يعرف احضره وسأله فإن عرف عدالته وإلا بحث عن عدالته فإذا عرفها ولاه قال علي رضي الله عنه لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الرأي، ويكتب له الإمام عهداً يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح حال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته وإن يستخلف في كل صقع أصلح من يقدر عليه ليكون قيما بما يتولاه * (مسألة *) (وهل يجب على من يصلح له إذا طلب ولم يوجد غيره الدخول فيه وعنه أنه سئل هلى يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال لا يأثم وهذا يدل على أنه ليس بواجب) الناس في القضاء على ثلاثة أضرب (منهم) من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم(11/375)
تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة " ذكر منهم رجالا قضى بين الناس
بجهل فهو في النار ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه ويدفعه إلى غيره (ومنهم) من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له فظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله ابن حامد أن كان رجلا خاملا يرجع إليه في الأحكام فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهوراً في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر هذا قول أصحاب الشافعي وقالوا أيضاً إذا كان ذا حاجة وله في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة (والثالث) من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فأنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال لا يأثم فهذا يحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس ههنا غيرك ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن أحمد قال لابد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟(11/376)
* (مسألة) * (وإن وجد غيره كره له طلبه بغير خلاف في المذهب) .
لأن أنساً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عزوجل ملكا يسدده " قال الترمذي حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " متفق عليه.
* (مسألة) * (وإن طلب فالأفضل ألا يجيب في ظاهر كلام أحمد) .
وقال ابن حامد الأفضل الإجابة إذا أمن نفسه وقد ذكرنا أن ظاهر كلام أحمد رحمه الله أن الأفضل والأولى له ألا يجيب إذا طلب ووجد غيره لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوفي لذلك وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه وقد ذكرنا قول ابن حامد مفصلا وهو قول أصحاب الشافعي.
* (مسألة) * (ولا تثبت ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو نائبه لأنها من المصالح العامة فلم تجز إلا من جهة الإمام كعقد الذمة) .
* (مسألة) * (ومن شرط صحتهما معرفة المولي كون المولى على صفة تصلح للقضاء) .
لأن مقصود القضاء لا يحصل إلا بذلك فإن كان يعرف صلاحيته للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم فإن عرف ذلك ولاه.(11/377)
* (مسألة) * (ويعين ما يوليه الحكم فيه من الأعمال والبلدان ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها وإشهاد شاهدين على توليته وقال القاضي تثبت بالاستفاضة إذا كان بلده قريباً يستفيض فيه أخبار بلد الإمام) يشترط تعيين ما يوليه من الأعمال والبلدان ليعلم محمل ولايته فيحكم فيه ولا يحكم في غيره وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم علياً قضاء اليمن وولى عمر شريحا قضاء الكوفة وكعب بن سور قضاء البصرة وبعث في كل مصر قاضياً ووالياً، ويشافهه الإمام بالولاية إن كان حاضراً أو يكاتبه بها إن كان غائباً لأن التولية تحصل بالمشافهة في الحضرة وبالمكاتبة في الغيبة كالتوكيل فإن كان البلد الذي لا قضاة فيه غير بلد الإمام كتب له العهد بما ولاه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمر وبن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب عمر إلى أهل الكوفة، أما بعد فاني قد بعثت عليكم عماراً أميراً وعبد الله قاضياً فاسمعوا لهما وأطيعوا، فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في بلد الإمام احضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما اشهدا على إني قد وليته قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه بما يشتمل هذا العهد عليه، وإن كان البلد قريباً من بلد الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام نحو أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز أن يكتفي بالاستفاضة دون
الشهادة، لأن الولاية تثبت بها وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين، وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفرقوا بين البلد القريب والبعيد(11/378)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى علياً قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض اليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل عنهم الأشهاد على تولية القضاء مع بعد بلدانهم.
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد أمرين وقد بعدت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها إليه فيتعين الأشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد على توليته، فإن الظاهر أنه لم يبعث والياً إلا ومعه جماعة الظاهر أنه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله، وقد قام دليله فيتعين وجوبه.
* (مسألة) * (وهل تشترط عدالة المولي على روايتين) .
(إحداهما) تشترط كما تشترط في المتولي (والثانية) لا تشترط لأن ولاية الإمامة الكبرى تصح من كل بر وفاجر فصحت ولايته كالعدل ولأننا لو اعتبرنا العدالة في المولي أفضى إلى تعذرها بالكلية فيما إذا كان الإمام غير عدل.
* (مسألة) * (وألفاظ التولية الصريحة سبعة وليتك الحكم وقلدتك أو استنبتك واستخلفتك ورددت إليك وفوضت إليك الحكم فإذا وجد لفظ منها والقبول من المولى انعقدت الولاية) لأنها لا تحتمل إلا ذلك فمتى أني بواحدة منها واتصل بها القبول صحت الولاية كالبيع والنكاح وغير ذلك والكناية أربعة اعتمدت عليك وعولت عليك ووكلت اليك واسندت إليك الحكم فلا(11/379)
تنعقد حتى يقترن بها قرينة نحو فاحكم أو تول ما عولت عليك فيه وما أشبهه نحو وانظر فيما اسندت إليك واحكم فيما وكلت إليك، ولان هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه وغير ذلك فلم تنصرف إلى التولية إلا بقرينة تنفي الاحتمال.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه وإذا ثبتت الولاية وكانت عامة اسنفاد بها النظر عشرة أشياء: فصل الخصومات واستيفاء الحق ممن هو عليه ودفعه إلى ربه والنظر في أموال اليتامى والمجانين والسفهاء والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله باجرائها على شرط الواقف وتنفيذ الوصايا وتزويج النساء اللاتي لا ولي لهن وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وافنيتهم وتصفح حال شهوده وأمنائه والاستبدال بمن يثبت جرحه منهم وإنما تثبت هذه الولايات له لأن العادة من القضاة توليها فعند إطلاق تولية القضاء تنصرف إلى ولاية ما جرت العادة بولايته لها فأما جباية الخراج وأخذ الصدقة فعلى وجهين (أحدهما) تدخلان فيه قياساً على سائر الخصال المذكورة وفي الآخر لا يدخلان فيه لأن العادة لم تثبت بتولية القضاء لهما لأن الأصل عدم ذلك فلا يثبت * (مسألة) * (وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه وخلفائه مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين) يجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح وابن سيرين والشافعي وأكثر أهل العلم وروي(11/380)
عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحاً في كل شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عماراً وابن مسعود وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام ان انظرا رجالاً من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء واوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعلى وجهين، وقد روي عن أحمد أنه قال ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً وإن كان فبقدر عمله مثل مال اليتيم وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء وكان ابن مسعود وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجراً وقالا لا نأخذ أجراً على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن متعيناً جاز له أخذ الرزق وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة والصحيح جواز الأخذ عليه مطلقاً لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له رزقاً كل يوم درهمين ولما ذكرنا أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق
لمن ولي من القضاة ولأن بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق فأما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه لا ينبغي لقاضي المسلمين ان يأخذ على القضاء أجراً وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأنه قربة يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن القاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي عليه جعلاً جاز ويحتمل ألا يجوز(11/381)
(فصل) قال رضي الله عنه ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل ويجوز أن يوليه خاصا في أحدهما أو فيهما ويوليه النظر في بلد أو محلة خاصة فينفذ قضاؤه في أهله ومن طرأ إليه ويجعل إليه الحكم في المداينات خاصة أو في قدر من المال لا يتجاوزه أو يفرض إليه عقود الأنكحة دون غيرها لأن ذلك جميعه إلى الإمام وله الاستنابة في الكل فتكون له الاستنابة في البعض فإن من ملك في الكل ملك في البعض وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنيب أصحابه كلا في شئ فولى عمر القضاء وبعث عليا قاضيا على اليمين وكان يرسل أصحابه في جمع الزكاة وغيرها وكذلك الخلفاء بعده ولأنه نيابة فكان على حسب الاستنابة * (مسألة) * (فإن جعل إليهما عملا واحداً جاز) وعند أبي الخطاب لا يجوز وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الأحكام والخصومات لأنهما يختلفان في الاجتهاد ويرى أحدهما مالا يرى الآخر (والثاني) يجوز وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يجوز أن يستخلف في البلد الذي هو فيه فيكون فيه قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصلبان لأن الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي وخلفاءه ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع واحد فالإمام أولى لأن توليته أقوى وقولهم يفضي إلى إيقاف الأحكام لا يصح فإن كل حاكم يحكم بإجتهاده بين المتحاكمين إليه وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده(11/382)
(فصل) ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأن الله تعالى قال (فاحكم بين الناس بالحق) والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع (فصل) إذا فرض الإمام إلى إنسان تولية القاضي جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه كالبيع فإن فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو وكله في الصدقة بمال لم يجز له اخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل أن يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في الاختيار منه مع أهليتهما أشبها الأجانب * (مسألة) * (إذا مات المولي أو عزل المولى مع صلاحيته لم تبطل ولايته في أحد الوجهين وتبطل في الآخر) إذا ولى الإمام قاضياً ثم مات لم ينعزل القاضي لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولو أحكاما في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولأن في عزله بموت الامام ضربرا على المسلمين فإن البلد يتعطل من الحكام وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه خطر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام لما ذكرنا فأما إن عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان (أحدهما) لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقد لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه (والثاني) ينعزل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم(11/383)
وأولين رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سور مكانه، وولى علي رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزله فقال له لم عزلتني وما خنت قال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين ولأنه يملك عزل امرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل فعزل شر حبيل ابن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شر حبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة؟ قال من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الإمارة فولى أبا موسى البصرة قضاءها وإمارتها ثم كان يعزلهم هو ومن
لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضرراً وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضياً حتى يولي آخر مكانه ولهذا لا ينعزل القاضي بموت الإمام وينعزل بعزله وقد ذكر شيخنا في عزله بالموت في الكتاب المشروح وجهين وحكاهما أبو الخطاب والأولى إن شاء الله ما ذكرنا فاما أن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو أختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجهاً واحداً، وأما إذا استخلف القاضي خليفة فإنه ينعزل بموته وعزله لانه نا؟؟ اشبه الوكيل * (مسألة) * (وهل ينعزل قبل العلم بالعزل على روايتين بناء على الوكيل) وقد مضى ذلك في كتاب الوكالة(11/384)
(فصل) وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى علياً ومعاذاً وقال عثمان لابن عمر إن أباك كان يقضي وهو خير منك فقال إن أبي قد كان يقضي فإن اشكل عليه شئ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث رواه عمرو بن شيبة في قضاة البصرة وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال: جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " يا عمرو اقض بينهما " قال قلت أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال " إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة " وعن عقبة بن عامر مثله، ولأن الإمام يشتغل بأشياء كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرع للقضاء بينهم فإذا ولى قاضياً استحب أن يجعل له أن يستخلف لأنه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه، وإن نهاه لم يكن له أن يستخلف لأن ولايته بإذنه فلم يكن له ما ذكرناه كالوكيل، وإن أطلق فله الاستخلاف، ويحتمل أن لا يكون له ذلك لأنه يتصرف بالإذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان ووجه الأول أن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين إذا فعله بنفسه بخلاف الوكيل فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول * (مسألة) * (وإذا قال المولي من نظر في الحكم في البلد الفلاني من فلان وفلان فهو خليفتي
أو قد وليته لم تنعقد الولاية لمن ينظر) لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحداً منهم، ويحتمل أن تنعقد لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم(11/385)
قال " زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة " فعلق ولاية الامارة بعد زيد على شرط فكذلك ولاية الحكم * (مسألة) * (وإن قال وليت فلانا وفلانا فمن نظر منهما فهو خليفتي انعقدت الولاية) لمن ينظر منهما لأنه عقد الولاية لهما جميعاً (فصل) قال الشيخ رحمه الله ويشترط في القاضي عشر صفات أن يكون بالغاً عاقلاً حراً ذكراً مسلماً عدلا سميعا بصير متكلماً مجتهداً وهل يشترط كونه كاتباً؟ على وجهين وجملة ذلك أنه يشترط للقاضي أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً لأن هذه شروط العدالة فأولى أن تشترط للقضاء (الرابع) الذكورية فلا تصح تولية المرأة، وحكي عن ابن جرير أن الذكورية لا تشترط لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضياً، وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل ضعيفة الرأي ليست من أهل الحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله سبحانه (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه(11/386)
ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً (الخامس) الحرية فلا تصح تولية العبد لأنه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته في جميع الأشياء فلم يكن أهلا للقضاء كالمرأة
[السادس] أن يكون سميعاً (السابع) أن يكون بصيراً [الثامن] أن يكون متكلماً لأن الأصم لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعي عليه والمقر من المقر له، والأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم الناس جميع إشارته وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيباً عليه السلام كان أعمى ولهم في الأخرس الذي تفهم إشارته وجهان ولنا أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج إليه فيها وربما أحاط بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة فيحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم تقبل منه الشهادة فالقضاء أولى، وما ذكر عن شعيب عليه السلام فممنوع فإنه لم يثبت أنه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن شعيباً عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلاً، وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم فلا يكون حجة في مسئلتنا (التاسع) العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى، وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة "(11/387)
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) فأمر بالتبيين عند قول الفاسق ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبيين عند حكمه، ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً فلئلا يجوز أن يكون قاضياً أولى فأما الخبر فاخبر بوقوع ذلك مع كونهم أمراء لا بمشروعيته والنزاع في صحة توليته لا في وجودها (العاشر) أن يكون مجتهداً وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم يجوز أن يكون عامياً فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصومات فأما إذا أمكنه ذلك جاز كما يحكم بقول المقومين ولنا قول الله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله - وقال - وان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في
الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار " رواه ابن ماجه والعامي يقضي على جهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عامياً مقلداً فالحكم أولى فإن قيل فالمفتي يجوز أن يخبر بما يسمع قلنا نعم إلا أنه لا يكون مفتياً في تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج أن يجبر عن رجل بعينه من أهل الإجتهاد فيكون معمر لا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين لأن ذلك لا تمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم * (مسألة) * (وليس من شرط الحاكم أن يكون كاتبا وفيه وجه آخر أنه يشترط ذلك ليعلم ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من إخفائه عنه)(11/388)
ولنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحكم الكتابة فلا تعتبر شرطا فإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شروط القضاء أن يكون عالماً بقيم الأشياء * (مسألة) * (والمجتهد من يعرف من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة والمجاز والأمر والنهي والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والمستثنى والمستثنى منه ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها وتواترها من آحادها ومرسلها ومتصلها ومسندها ومنقطعها مما له تعلق بالأحكام خاصة وهي في كتاب الله تعالى نحو خمسمائة آية ولا يلزمه معرفة سائر القرآن، ومن السنة ما يتعلق بالأحكام دون سائر الأخبار ومن خبر الجنة والنار ونحوهما مما يتعلق بالأحكام وإنما كان المجتهد من يعرف هذه الأشياء المذكورة لأن المجتهد هو من يمكنه تعرف الصواب بدليله كالمجتهد في القبلة ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلدا لكون يقبل قول غيره من غير معرفة بصوابه كالذي يقبل قول الدليل على الطريق من غير معرفة بصوابه وقول من يعرف جهة القبلة من غير معرفة.
وأدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس وجهة دلالة الكتاب والسنة من هذه الوجوه فالكلام بإطلاقه يحمل على الحقيقة دون المجاز والعام الخاص إذا تعارضا قدم الخاص ويجوز تخصيص العام ولا يدخل الخاص تخصيص، والمطلق يحمل على المقيد والمقصود أن لكل واحد مما ذكرنا دلالة لا تمكن(11/389)
معرفتها إلا بمعرفته فوجب معرفة ذلك ليعرف دلاله ووقف الاجتهاد على معرفته لذلك ومثاله أن المجتهد في القبلة يحتاج في معرفة النجوم إلى معرفتها باعيانها وجهاتها فإذا عرف القطب احتاج إلى معرفة كونه في الجهة الشمالية وكذلك إذا عرف الشمس احتاج إلى معرفة الجهة التي تكون فيها في حال طلوعها وحال غروبها وتوسطها وهذا كذلك والمسند من السنة والمتصل واحد والمرسل الذي يكون بين الراوي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل غير مذكور والمنقطع الذي يكون بينهما أكثر من واحد وقيل الذي يرويه من لم يدرك الصحابة عنهم.
* (مسألة) * (ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه والقياس وحدوده وشروطه وكيفية استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة) وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه، وإنما اشترطوا معرفة ما أجمع عليه لأن الاجتهاد إنما شرع فيما اختلف فيه أما المجمع عليه فيجب الرجوع إلى ما أجمع عليه دون غيره فيجب معرفة ذلك ليرجع في المجمع عليه إلى الإجماع وفي غيره إلى الاجتهاد وأما معرفة استنباط القياس وهو أحد أدلة الأحكام فإنه لا يمكن معرفتها إلا بذلك فكان معرفة ذلك من ضرورة معرفة الأحكام وأما معرفة اللغة والعربية فإن أدلة الأحكام كتاب الله تعالى وسنة رسوله والكتاب عربي مبين نزل به الروح الأمين بلسان عربي مبين والسنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقوم مقامه وقد قال الله سبحانه (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فيعتبر معرفة اللغة التي هي لسان الكتاب والسنة ليعرف(11/390)
مقتضاها فإن قيل فهذه الشروط لا تجتمع في أحد فكيف يجوز اشتراطها؟ قلنا ليس من شرطه أن يكون محيطاً بهذه المعلوم إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر ابن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال امامتهما يسئلان الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة حتى يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال مالك في كتاب
الله شئ ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ولكن ارجعي حتى أسأل الناس ثم قام فقال أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس وسأل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بفرة ولا تشترط معرفة المسائل التي عرفها المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا تكون شرطاً له وهو سابق وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهداً في كل المسائل بل من عرف أدلة مسالة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وإن جهل غيرها كمن عرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من أمام إلا وقد توقف في مسائل، وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وحكي عن مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهداً وإنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهداً وصلح للفتيا والقضاء وبالله التوفيق.(11/391)
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء وحكماه بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمه حكمه إلا بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضى به فلا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " أن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم؟ " قال إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضي علي الفريقان " قال ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ " قال شريح قال " فأنت أبو شريح " أخرجه النسائي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون " ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم، ولأن عمر وأبياً تحاكما إلى زيد وحاكم عمر أعرابياً إلى شريح قبل أن يوليه القضاء وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضياً؟ قلنا لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يعتبر قاضياً وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله
فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة للحاكم نقضه إذا خالف رأيه، لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه.
ولنا أن هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفة رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه لا يصح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفاً؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وإن لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه(11/392)
في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان.
(أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم مالا يوافقه رجع فبطل المقصود به واختلف أصحابنا فيمن يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياساً على قاضي الإمام وقال القاضي يجوز حكمه في الأموال خاصة فأما النكاح واللعان والقذف والقصاص فلا يجوز التحكيم فيها لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص حاكم الإمام بالنظر فيها كالحدود وذكر صاحب المحرر فيها روايتين ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتاباً إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام(11/393)
* (باب أدب القاضي) * ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ويكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر عالماً بلغات أهل ولايته عفيفاً ورعاً نزهاً بعيداً من الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه
لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جباراً ولا عسوفاً فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم، وقال عمر بن عبد العزير ينبغي للقاضي أن يكون فيه سبع خلال أن فاتته واحدة كانت فيه وصمة: العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنين، والحلم، ورواه سعيد وفيه ويكون فهما حليماً عفيفاً صلباً سآلاً عما لا يعلم وفي رواية محتملاً للأئمة ولا يكون ضعيفاً مهيناً لأن ذلك يبسط المتخاصمين إلى التهاتر والتشائم بين يديه قال عمر رضي الله عنه لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه.
(فصل) وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وأن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول حكمت علي بغير حق وارتشيت فله تأديبه وله وان يعفو(11/394)
وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه اساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو.
* (مسألة) * (وإذا ولي في غير بلده سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتقوه) وجملة ذلك إذا ولي في غير بلده فأراد المسير إلى بلد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سال في طريقه فإن لم يجد سال إذا دخل عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه.
* (مسألة) * (ويجعل دخوله يوم الاثنين أو الخميس أو السبت إن أمكنه لقوله عليه الصلاة السلام بورك لأمتي في سبتها وخميسها) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ويكون لابساً أجمل ثيابه فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا دخل المدينة ويستقبل
القبلة لأنه روي " أفضل المجالس ما استقل به القبلة " * (مسألة) * (فإذا اجتمع الناس أمر بعهده فقرئ عليهم ليعلموا توليته وأمر من ينادي من له حاجة فليحضر يوم كذا ثم ينصرف إلى منزله الذي قد أعد له)(11/395)
وأول ما يبدأ به أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهو نسخ ما يثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه * (مسألة) * (ثم يخرج في اليوم الذي وعد الجلوس فيه على اعدل أحواله غير غضبان ولا جائع ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم) كالعطش الشديد والفرح الشديد والحزن الكبير والهم العظيم والوجع المؤلم والحر المزعج والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه واحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان " فنص على الغضب ونبه على ما في معناه مما ذكرنا ويسلم على من يمر به ثم يسلم على من هو في مجلسه وبصلى تحية المسجد إن كان في المسجد ويجلس على بساط ولا يجلس على التراب ولا على حصر المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم وهذه الآداب المذكورة في هذه المسألة ليست شرطاً في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه وفي اشتراطه روايتان وما ذكر ههنا من الجلوس على بساط ولا يجلس على التراب ولا حصر المسجد لم نعلم أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه والإقتداء بهم أولى إن شاء الله تعالى فيكون وجوده وعدمه سواء(11/396)
* (مسألة) * (ويستعين بالله تعالى ويتوكل عليه ويدعوه سراً أن يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب ولما يرضيه من القول والعمل ويجعل مجلسه في مكان فسيح كالجامع والقضاء الواسع في وسط البلدان
أمكن ليساوي فيه الناس) (فصل) ولا يكره القضاء في الجامع والمساجد فعل ذلك شريح والحسن والشعبي ومحار ابن دثار ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز، وروي عن عمر وعلي وعثمان أنهم كانوا يقضون في المسجد قال مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن ينفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن لا تقض في المسجد لأنه يأتيك الحائض والجنب والذمي وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدى إلى السب وما لم تبن له المساجد ولنا إجماع الصحابة بما قد روينا عنهم وقال الشعبي رأيت عمر مستنداً إلى القبلة يقضي بين الناس ولأن القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس ولا نعلم صحة ما رووه وقد روي عنه خلافه وأما الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله والجنب يغتسل ويدخل والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم فقد روي عن كعب أبن مالك قال تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي ضع من ديتك الشطر فقلت نعم يا رسول الله فقال " قم فاقضه "(11/397)
* (مسألة) * (ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً يحجب الناس عن الوصول إليه) لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي من أمور الناس شيئاً واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره " رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء لأنه يحتاج إلى الخلوة بنفسه * (مسألة) * (ويعرض القصص فيبدأ بالأول فالأول) لأن الأول سبق فقدم كما لو سبق إلى موضع مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة
لئلا يستوعب المجلس بدعاويه فيضر بغيره فإن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا أقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه إلا أن يكون أحدهما كافراً فيقدم المسلم عليه في الدخول ويرفعه في الجلوس لحرمة الإسلام فإن الله تعالى قال (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) ووجه وجوب العدل بين الخصمين فيما ذكرنا ما روى عمرو بن شبة في كتاب القضاة بإسناده عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه سلم قال " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الآخر " وفي رواية " فليسو بينهم في النظر والمجلس والاشارة " ولأنه إذا ميز أحد الخصمين عن الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته فادى ذلك إلى ظلمه وقيل يسوي بين المسلم والكافر لأن العدل يقتضي ذلك ولا يسار(11/398)
(احداهما) ولا يلقنه حجته لما فيه من الضرر ولا يضيفه لأنه يكسر قلب صاحبه وروي مثل ذلك عن علي إلا أن يضيف صاحبه معه لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال له إنك خصم قال نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تضيفوا أحد الخصمين إلا وخصمه معه " * (مسألة) * (ولا يعلمه كيف يدعي في أحد الوجهين لما ذكرنا وفي الآخر له تحرير الدعوى إذا لم يحسن تحريرها) .
لأنه لا ضرر على خصمه وله أن يشفع إلى خصمه لينظره أو يضع عنه ويزن عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه وله أن يزن عن المدعي عليه ما وجب عليه لأنه نفع لخصمه ولا يكون إلا بعد انقضاء الحكم * (مسألة) * (ويحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب) حتى إذا حدثت حادثة يفتقر إلى سؤالهم عنها سألهم ليذكروا ادلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه اسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه وأن حكم بإجتهاده فليس لأحد منهم الإعتراض عليه وإن خالف اجتهاده ولان فيه افتياتا عليه إلا أن يحكم بما يخالف نصا أو اجماعا ويستحب ان يشاورهم فيما يشكل عليه لقول الله سبحانه (وشاورهم في الأمر) قال الحسن أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنياً عن مشورتهم
وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وشاور ابو بكر رضي الله عنه الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور(11/399)
في حد الخمر وروي ان عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن ابراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم ويشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون ويتتظرون لأنه يتنبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الاحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد يتنبه لاصابة الحق ومعرفة الحادثة من من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جاءته الجدتان فورث أم الأم واسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن ابن سهل يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فأشرك بينهما.
إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك لا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حججهم يبين له الحق * (مسألة) * (والمشاورة ههنا لاستخراج الأدلة وتعرف الحق بالاجتهاد) * (مسألة) * فإن اتضح له الحكم حكم وإلا أخره ولا يقلد غيره وإن كان أعلم منه لا يجوز تقليد غيره سواء ظهر الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شئ وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة اذا كان الحاكم من أهل الاجتهاد جاز له ترك رأيه لرأي من هو افقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الإجتهاد لأنه يعتقد أنه أفقه منه بطريق الإجتهاد(11/400)
ولنا أنه من أهل الإجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكروه لا يصح فان هو افقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز له أن يعمل به وإن كان
لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد * (مسألة) * (ولا يقضي وهو غضبان ولا حاقن ولا في شدة الجوع والعطش والهم والوجع والنعاس والبرد المؤلم والحر المزعج فإن خالف وحكم فوافق الحق نفذ حكمه وقال القاضي لا ينفذ وقيل إن عرض له ذلك بعد فهم الحكم جاز وإلا فلا) لا خلاف بين أهل العلم فيما علمنا في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة والشافعي لما روي أن ابا بكرة كتب إلى إبنه عبد الله وهو قاض بسجستان لا تحكم بين اثنين وانت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان " متفق عليه وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى إياك والقلق والغضب والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد فأوجع رأسه، ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما يشغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والجوع المزعج ومدافعة احد الاخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحكم لإنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن خالف وحكم في الغضب أو ما شاكله فوافق الحق نفذ قضاؤه(11/401)
ذكره القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي وحكي عن القاضي أنه لا ينفذ لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسق ثم ارسل إلى جارك " فقال الأنصاري إن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " متفق عليه فحكم في حال غضبه وقال بعض أهل العلم إنما يمنع الغضب الحكم إذا كان قبل أن يتضح حكم المسألة للحاكم لأنه يشغله عن استيفاء النظر فيها فأما ما حدث بعد اتضاح الحكم فلا يمنعه لأن الحق قد استبان قبله كغضب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الزبير * (مسألة) * (ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل الهدية إلا ممن كان يهدي إليه قبل ولايته
بشرط أن لا تكون له حكومة) أما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام على الآخذ بلا خلاف قال الله تعالى (أكالون للسحت) قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة، وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر، وروى عبد الله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم رواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو يتوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت بن مسعود عن السحت اهو الرشوة في الحكم؟ قال لا (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و (الظالمون) و (الفاسقون) وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل.
وقال(11/402)
قتادة قال كعب الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم.
فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه فهو ملعون وأن رشاه ليدفع ظلمه ويجزئه على واجبه فقال عطاء وجابر بن زيد والحسن لا بأس ان يصانع عن نفسه قال جابر: ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنفذ الرجل أسيره.
(فصل) ولا يقبل الحاكم هدية وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغلب استمالته ليعتني به في الحكم فيشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به لكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى عليه ثم قال " ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحداً منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغر " فرفع يده حتى رأيت عفرة أبطية فقال " اللهم هل بلغت ثلاثاً؟ " متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها كالرشوة فأما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منها بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبلها بدليل وجودها
قبل الولاية قال القاضي ويستحب له التنزه عنها فإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومة أو فعلها حال(11/403)
الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لانه كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرناه دلالة على التحريم * (مسألة) * (فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها ردها إلى أربابها) لأنه أخذها منهم بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن اللتبية بردها إلى أربابها وقد قال أحمد إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر يكونون فيه سواء * (مسألة) * (ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه ويستحب أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله) لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عدل ولي اتجر في رعيته أبداً " ولأنه يعرف فيحابى فيكون كالهدية ولأن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس وقد روي عن ابي بكر رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين فقال " فإني لا أدع عيالي يضيعون " قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع وتم بشروطه وأركانه إن احتاج إلى مباشرته ولم يكن له ما يكفيه لم يكره لأن ابا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر حتى فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وإنما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره لما ذكرناه من المعنيين وينبغي أن يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابى(11/404)
وهذا مذهب الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من لا يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه ولما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولأني القضاء أن لا أبيع ولا ابتاع ولا ارتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا له قبل
قولهم وترك التجارة فحصل الاتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها * (مسألة) * (وتستحب له عيادة المرضى وشهود الجنائز ما لم تشغله عن الحكم وزيارة الأخوان والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وإن كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم) لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه بتحصيل الأجر والقربة له بخلاف الولائم لأنه يراعي فيها حق الداعي فيكسر قلب من لم يجب إذا أجيب غيره * (مسألة) * (وله حضور الولائم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال من لم يجب فقد عصى الله ورسوله فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحداً لأن هذا يشغله عن الحكم الذي تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضاً دون بعض لأن في ذلك كسراً لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداها منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل(11/405)
بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى * (مسألة) * (ويوصي الوكلاء والأعوان على بابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد أن يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدين والعفة والصيانة) لأنهم أقل شرا فإن الشباب شعبة من الجنون ولأن الحاكم يأتيه النساء وفي اجتماع الشباب بهن ضرورة * (مسألة) * (ويتخذ كاتباً مسلماً مكلفاً عدلاً حافظاً عالماً يجلسه حيث يشاهد ما يكتبه ويجعل القمطر مختوماً بين يديه) وجملة ذلك أنه يستحب للحاكم أن يتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولأن الحاكم تكثر اشغاله ونظره فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه وإن أمكنه الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز أن يستنيب في ذلك إلا عدلاً لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيهاً ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر العقل نزها ورعا لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلماً لأن الله تعالى قال (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم
لا يألونكم خبالا) وقد روي أن أبا موسى قدم على عمر ومعه كاتب نصراني فاحضر أبو موسى شيئاً من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجئ ويقرأ كتابه قال إنه لا يدخل المسجد قال ولم؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الإسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي في(11/406)
اشراط عدالته وإسلامه وجهان (أحدهما) يشترط لما ذكرنا (والثاني) لا يشترط لأن ما يكتبه لابد من وقوف القاضي عليه فهو من الخيانة ويستحب أن يكون جيد الخط لأنه أكمل وإن يكون حراً ليخرج من الخلاف وإن كان عبداً جاز لأن شهادة العبد جايزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب ولابد من كونه حاسباً لأنه عمله وبه يقسم فهو كالخط للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم أن يجلس الكاتب بين يديه ليشاهد ما يكتبه ويشافهه بما يملي عليه وان قصد ناحية جاز لأن المقصود يحصل لأن ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه ويجعل القمطر مختوماً بين يديه ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويتحرز من أن يدخله كتاب مزور أو يؤخذ منه شئ * (مسألة) * (ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود) ليستوفى بهم الحقوق ويثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وإن شاء ابعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى إشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب حتى يسمعوا كلام المتحاكمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره * (مسألة) * (ولا يحكم لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له ويحكم بينهم بعض خلفائه) أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلاً عراقياً إلى شريح وحاكم علي يهودياً إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم وإن عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وإن حكم لم ينفذ حكمه له كنفسه(11/407)
(والثاني) ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف وابن المنذر وأبي ثور لأنه حكم لغيره
أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر أو بعض خلفائه فإن كانت الحكومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده لم يجز الحكم بينهما على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبياً وفي الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فأشبها الأجنبيين (فصل) قال رضي الله عنه وأول ما ينظر في أمر المحبسين فيبعث ثقة إلى الحبس فيكتب اسم كل محبوس ومن حبسه؟ وفيم حبسه؟ في رقعة منفردة ثم ينادي في البلدان القاضي ينظر في أمر المحبسين غداً فمن له منهم خصيم فليحضر إنما بدأ بالنظر في امر المحبسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة فيكتب اسم كل محبوس وفيم حبس؟ ولمن حبس؟ وتحمل الرقاع إليه ويأمر منادياً ينادي في البلد ثلاثة أيام أن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر فإذا احضر الناس في ذلك اليوم جعل الرقاع بين يديه فيمد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان المحبوس؟ فإذا قال خصمه أنا بعث ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لم حبسه؟ لأن الظاهر(11/408)
أن الحاكم إنما حبسه بحق لكن يسار المحبوس بم حبست؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام (أحدها) أن يقول حبسني بحق له حال أنا ملئ به فيقول له الحاكم اقض؟ وإلا رددتك إلى الحبس (الثاني) أن يقول له على دين أنا معسر به فيسال خصمه فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وإن كذبه نظر في سبب الدين فإن كان سببا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفد أو ببينة أنه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال، وإن لم يثبت له أصل مال ولم يكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر لأن الأصل الإعسار، وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا لم تقبل حتى يبين ذلك المال بما
يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها فصدقها فلا كلام وإن كذبها وقال ليس هذا لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يعزوه إلى معين فإن كان الذي أقر له حاضراً سئل فان كذبه في إقراره سقط وقضى من المال دينه، وإن صدقه وكانت له بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد يقر له به وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في إقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتلحقه تهمة فلم تبطل البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الإقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره(11/409)
(القسم الثالث) أن يقول حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ابتحث عن حال الشهود فهذا ينبني على أصل وهو أن الحاكم هل له ذلك أولا؟ وفيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس أن صدقه خصمه في هذا (والثاني) يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وإن كذبه خصمه وقال بل عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق (القسم الرابع) أن يقول حبسني الحاكم بثمن كل أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك فإن صدقه خصمه فذكر القاضي أنه يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر أن الحاكم ينفذ حكم الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه ثالث أنه يتوقف ويجتهد أن يصطلحا على شئ لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين وللشافعي قولان كالوجهين الآخرين فان كذه خصمه وقال بل حبست لحق واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه لحق * (مسألة) * (وإن كان حبس في تهمة أو افتيات على القاضي قبله خلى سبيله) لأن المقصود بحبسه التأديب وقد حصل)(11/410)
* (مسألة) * (وإن لم يحضر له خصم فقال حبست ظلما ولا حق علي ولا خصم نادى بذلك ثلاثا فإن حضر له خصم وإلا أحلفه وخلى سبيله) لأن الظاهر أنه لو كان له خصم لظهر * (مسألة) * (ثم ينظر في أمر المجانين واليتامى والوقوف) والنظر في ذلك بالنظر في أمر الأوصياء ونظار الوقوف لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين لأن المنظور عليه إن كان من الأيتام والمجانين لم تمكنهم المطالبة لأنهم لا قول لهم وإن كانوا مساكين لم يتعين الاخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا بعد معرفته أهليته في الظاهر ولكن نراعيه فإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف اضاف إليه امينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه فإن كان أمينا قويا أقره، وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه، وإن كان فاسقاً عزله وأقام غيره، وعلى قول الخرقي يضم اليه أمين ينظر عليه فإن كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل الوصية نفذ تصرفه، فإن كان ليس بأهل وكان الموصى لهم بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم، وإن كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان (أحدهما) عليه الضمان ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف (والثاني) لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله، وكذلك إن فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقها فعلى الوجهين (فصل) وينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا(11/411)
التي لم يتعين لها وصي فإن كانوا بحالهم أقرهم لأن الذي قبله ولاهم، ومن تغير حاله عزله إن فسق، وإن ضعف ضم إليه أميناً (فصل) ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي يتولى الحاكم حفظها فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالأموال الحافية باعها وحفظ ثمنها لأربابها، وإن لم تكن كذلك كالأثمان حفظها لأربابها ويكتب عليها ليعرفها * (مسألة) * (ثم ينظر في حال القاضي قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء لم ينقض من أحكامه إلا
ما خالف نص كتاب أو سنه أو إجماعا) ولا يجب على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وأنه لا يتولى القضاء إلا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من أحكامه الصواب أو لم يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً لم يجز نفضه، وإن كان مخالفاً لأحد هذه الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لأن له النظر في حقوق الله تعالى، وإن كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقاً لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وبهذا قال الشافعي وزاد إذا خالف قياساً جلياً نقضه وعن مالك وابي حنيفة أنهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع ثم ناقضا قولهما فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة اذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه، وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه(11/412)
مسائل خلاف موافقة للسنة، واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوع فيه الخلاف فلم ينقض حكمه كما لا نص فيه وحكي عن أبي داود انه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع، وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه ولنا على نقضه إذا خالف نصاً أو إجماعاً أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو خالف الإجماع وبيان مخالفته للشرط.
إن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ، ولأنه إذا ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد قلنا القرق بينهما من ثلاثة أوجه
(أحدها) أن استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة، والخوف من عدو أو سبع أو نحو مع العلم ولا يجوز له ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني إن الصلاة من حقوق الله تعالى تدخلها المسامحة (الثالث) أن القبلة يتكرر فيها الإشتباه فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطاء لا يعود الاشتباه بعد ذلك.
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصاً ولا إجماعاً أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فإن ابا بكر حكم في مسائل(11/413)
باجتهاده وخالفه عمر فلم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما فإن ابا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض أحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر ولن ارد قضاء قضى به عمر رواه سعيد وروي ان عمر حكم في المشركة بإسقاط الأخوة من الأبوين ثم شكر بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا هذه على ما قضينا، وقضى في الجد بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلاً لأن الحكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت الحكم فإن قيل فقد روي أن شريحاً حكم في ابني عم أحدهما أخ للأم أن المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: علي بالعبد فجئ به فقال في أي كتاب الله وجدت ذلك؟ فقال قال الله تعالى (وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فقال له علي قد قال الله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض حكمه قلنا لم يثبت عندنا أن علياً نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون على اعتقاد أنه خالف نص الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك (فصل) إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم بإجتهاده الأول(11/414)
لأنه إذا حكم به فقد حكم بما يعتقد أنه باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وإن كان قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها وكذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم بشهادتهم لم يحكم بها ولو بان بعد الحكم لم ينقضه * (مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها) أما إذا كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض قضاياه كلها ما أخطأ فيها وما أصاب ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه، قال شيخنا تنقض قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن الأول ليس باجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه ولو وصل الحق إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك فكذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه * (مسألة) * (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره وعنه لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلا) هذه المسألة فيها روايتان (إحداهما) أنه يلزم القاضي أن يعديه ويستدعي خصمه سواء عما بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم أنه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب(11/415)
أبي حنيفة والشافعي لأن في تركه تضييعاً للحقوق وإقراراً للظلم فإنه قد يثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئاً ولا يوفيه أو يودعه شيئاً أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضرراً من حضور مجلس الحاكم فإنه لا يقبضه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله (والثانية) لا يستعديه إلا أن تعلم بينهما معاملة ويبين أن لما أعاده أصلا روى ذلك عن علي رضي الله عنه هو مذهب مالك لأن في أعدائه على كل احد بتذيل أهل المروءات وإهانة ذوى الهيآت فإنه
لا يشاء أحد أن يتبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستعدى عليه أن يوكل من يقوم مقامه إن كره الحضور.
* (مسألة) * (وإن استعداه على القاضي قبله سأله عما يدعيه فإن قال لي عليه دين من معاملة أو رشوة راسلة بذلك، فإن اعترف أمره بالخروج منه وإن أنكر وقال إنما يريد تبذيلي فإن عرف أن لما ادعاه أصلاً أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقاً من دين أو غصب اعداه عليه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وإن ادعى عليه الجور في الحكم وكان المدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وإن لم تكن معه بينة ففيه(11/416)
وجهان (أحدهما) لا يحضره لأن في إحضاره وسؤاله امتهاناً له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن أن لا يدخل في القضاء أحد خوفاً من عاقبته (والثاني) يحضره لجواز أن يعترف فإن حضر واعترف حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما تقبل ولايته، وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلماً فهل يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله، وإن ادعى أنه أخرج عيناً من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن قال حكم علي بشهادة فاسقين فالقول قوله بغير يمين) لأن القول قوله في حكمه فلو قال حكمت على فلان بكذا قبل قوله بغير يمين فكذا في هذه المسألة لأنه شاهد على فعل نفسه أشبه المرضعة إذا شهدت بالرضاع لم يلزمها يمين وكذلك القاسم إذا شهد بالقسمة لأن الشاهد لا يمين عليه.
* (مسألة) * (وإن قال الحاكم المعزول كنت حكمت في ولايتي لفلان على لفلان بحق قبل قوله
وبه قال إسحاق ويحتمل أن لا يقبل قوله) .
ذكره أبو الخطاب قال شيخنا وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الإقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه، ثم اختلفوا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل(11/417)
وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على نفسه لا تقبل.
ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه فكذلك هذا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته.
(فصل) فأما إن قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر فلان عندي لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف، وحكي عن محمد بن الحسن أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل، لأنه إخبار بحق على غيره فلم يقبل فيه قول واحد كالشهادة.
ولنا أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهدين ويمين في الأموال فإنه يقبل أيضاً وقال الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الإقرار به.
ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر يحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ(11/418)
نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادة ولا نسلم ما ذكره وإن قال حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر ما ذكره شيخنا في الكتاب المشروع وظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما اجتمع عليه.
(فصل) فإن أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته قبل وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما صاحبه بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه، وإن كانا جميعاً في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما يخبره به قاضي مصر لأنه يخبره في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر؟ فيه وجهان بناء على القاضي هل له أن يحكم بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي دمشق اخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.
* (مسألة) * (فإن ادعى على أمراة غير برزة لم يحضرها وامرها بالتوكيل فإن وجبت عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها) .
إذا كان المدعى عليه امرأة فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها امرت بالتوكيل فإن(11/419)
توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أميناً معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها " فبعث إليها ولم يستدعها، وإن أحضروا عندها كان بينهم وبينها ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها
ثم يحكم بينهما وإن لم تكن بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جهلها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه * (مسألة) * (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه كتب إلى ثقات من أهل ذلك البلد ليتوسطوا بينهما فإن لم يقبلوا قيل للخصم حقق ما تدعيه ثم يحضره وإن بعدت المسافة) إذا استعدى على غائب وكان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه فإن كان في ولايتة وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب إلى خليفته ولم يحضره وإن لم تكن بينة حاضرة نفذ إلى خصمه ليحاكمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلف الحضور لما لا يقضي عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في(11/420)
حضوره فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجه من يحكم بينهما، وقيل إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا ولنا أنه لابد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم تمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فإنه يؤدب ولأن الحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امراة برزة لم يشترط في سفره هذا محرم نص عليه أحمد لأنه حق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق (باب طريق الحكم وصفته) إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا ويستحب أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وروى سعيد بإسناده عن الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب مداراة
في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فاتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء لكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي فأنكر عمر فقال زيد لأبي أعف أمير المؤمنين(11/421)
من اليمين فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء وقال علي رضي الله عنه حين خاصم اليهودي على درعه إلى شريح لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والإقبال عليهما والنظر في خصومتهما (فصل) فإذا جلسا بين يديه فإن شاء قال من المدعي منكما؟ لأنهما حضرا لذلك، وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما؟ إن سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن في إفراده بذلك تفضيلاً له وتركا للانصاف قال عمرو بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم؟ فإن ذهب الآخر يشغب نهره حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعى فقال خصمه أنا المدعي لم يلفت إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بما شئت فإن ادعيا معاً فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين من المدعي منها؟ وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معاً وارجاء أمرهما إضرار بهما وفيما ذكرناه دفع للضرر بحسب الإمكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى * (مسألة) * (ثم يقول للخصم ما تقول فيما ادعاه) لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة لأن إحضاره والدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله ويحتمل ألا يملك سؤاله عن ذلك لأنه حق المدعي فلا يتصرف فيه بغير إذنه كالحكم له * (مسألة) * (وإن أقر لم يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم) إذا أقر المدعي عليه لزمه ما ادعي عليه وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له لأن الحكم(11/422)
عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة هكذا ذكره أصحابنا قال شيخنا: ويحتمل أن يجوز له الحكم قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفى بها كما اكتفى في مسألة المدعى عليه الجواب ولأن كثيراً من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الأول أن سأله الخصم الحكم له حكم على المقر والحكم أن يقول ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج إليه منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق * (مسألة) * (وإن أنكر مثل أن يقول المدعي أقرضته ألفاً أو بعته فيقول ما أقرضني ولا باعني أو ما يستحق على ما ادعاه ولا شيئاً منه أو لا حق له علي صح الجواب) * (مسألة) * (وللمدعي أن يقول لي بينة؟ وهذا موضع البينة فإن لم يقل قال الحاكم ألك بينة؟ لما روى أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي في يدي ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي " ألك بينة؟ - قال لا قال - فلك يمينه " وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفاً بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة؟ وبين أن يسكت فإذا قال لي بينة حاضرة أمره بإحضارها ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكر في كتاب المغني أن المدعي إذا قال لي بينة لم يقل له الحاكم أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه(11/423)
من غير إذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء ولا يقول لهما اشهدا لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما أن ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة * (مسألة) * (وإذا سمع الحاكم الشهادة وكانت صحيحة حكم بها إذا سأله المدعي)
فيقول للمدعي عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يظهر ما يقدح فيهما حكم عليه إذا سأل الحاكم لأن الحكم بالبينة حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة * (مسألة) * (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد فله الحكم نص عليه) لأن الإقرار أحد البيتين فجاز الحكم به في مجلسه كالشهادة وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لأنه إذا لم يسمعه معه أحد كان حكما بعلمه * (مسألة) * (وليس له الحكم بعلمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه نص عليه وهو اختيار الأصحاب وعنه ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حد أو غيره) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره وسواء في ذلك ما علمه قبل الولاية أو بعدها وهذا قول شريح والشعبي ومالك وأسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور وهو القول للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من(11/424)
النفقة ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها وروى ابن عبد البر في كتابه إن عروة ومجاهد رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حداً في موضع كذا وكذا فقال عمر إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فاتي بأبي سفيان فأتاه به فقال عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا فإنك ما علمت قدم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر ثم أن عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قال فحكم بعلمه ولأن
الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه يحكم في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياساً عليه وقال أبو حنيفة ما كان من حقوق الله تعالى لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبينة على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه " فدل على أنه لم يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي(11/425)
صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك " وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان فقال له احدهما انت شاهدي فقال أن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد وذكر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال " إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم؟ قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر القصة وقال - أرضيتم؟ - قالوا لا وهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس فقال - أرضيتم؟ " قالوا نعم وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه وروي عن أبي بكر رضي الله عنه قال لو رأيت حداً على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حكم أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكر رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهم دعوى ولا إنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضاً بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشهادة فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسئلتنا، وأما الجرج والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى
مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه * (مسألة) * (وإن قال المدعي مالي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه فيعلمه أن له اليمين على خصمه فإن سأله إحلافه أحلفه)(11/426)
لأن الحق له فإذا أحلفه خلى سبيله وليس له استحلافه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها قبل مطالبة مستحقها كنفس الحق وسقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت ورجلاً من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض لي ورثتها من أبي وقال الكندي أرضي وفي يدي لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه " قال إنه لا يتورع من شئ قال " ليس لك إلا ذلك " رواه مسلم بمعناه * (مسألة) * (وإن أحلفه أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتد بيمينه) لأنه أتي بها في غير وقتها فإن سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف خصمه الدعي عليه ثم اراد إحلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى أوله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين وإن استأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه بها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره * (مسألة) * (وإن نكل قضي عليه بالنكول) نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له أن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثاً فإن لم يحلف قضى عليه إذا سأل المدعي ذلك لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً فادعى عليه زيد انه باعه إياه عالما بعيبه فأنكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان احلف بانك ما علمت به عيباً فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اليمين على المدعي عليه "(11/427)
فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره وهذا مذهب أبي حنيفة واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول ولكن يرد اليمين على خصمه وقال قد صوبه أحمد وقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم لخصمه لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف المدعي وحكم له لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالا فقال عثمان هو سبعة آلاف وقال المقداد هو أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال له عمر انصفك فإن حلف حكم له * (مسألة) * (فإن نكل أيضاً صرفهما) إذا نكل المدعي سئل عن سبب نكوله لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فإن قال امتنعت لأن لي بينة أقيمها أو حساباً أنظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في اليمين لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه بخلاف المدعى عليه وإن قال لا أريد أن أحلف فهونا كل فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس لأنه اسقط حقه منها حتى يحتكما في مجلس آخر فإذا استأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول * (مسألة) * (وإن قال المدعي لي بينة بعد قوله مالي ببينة لم يسمع ذكره الخرقي) لأنه أكذب بينته لكونه أقر أنه لا يشهد له أحد فإن شهد له إنسان كان تكذيباً له ويحتمل أن يقبل لأنه يجوز أن ينسى ويكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلمه فلا يثبت ذلك أنه كذب نفسه * (مسألة) * (وإن قال لا أعلم لي بينة ثم قال علمت لي بينة سمعت) لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها(11/428)
* (مسألة) * (وإن قال شاهدان نحن نشهد لك فقال هذان بينتي سمعت) قاله أبو الخطاب لما ذكرنا * (مسألة) * (وإن قال ما أريد أن تشهد الي لم يكلف إقامة البينة) لأنه أسقط حقه منها * (مسألة) * (وإن قال لي بينة وأريد يمينه فإن كانت غائبة فله إحلافه وإن كانت حاضرة فهل له ذلك؟ على وجهين)
إذا قال المدعي لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فادا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها، فإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك في أحد الوجهين وفي الآخر له إحلافه وهو قول أبي يوسف كما لو كانت البينة غائبة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون الجمع بينهما لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها معها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها كما لو يطلب يمينه ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الأبدال مع مبدلاتها وإن قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها واستحلف لأن البينة حقه فإذا رضي بإسقاطها وترك إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعى عليه ثم أراد المدعي إقامة(11/429)
بينة لم يملك ذلك في أحد الوجهين لأنه قد اسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها يفتح باب الحيلة لأنه يقول لا أريد إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها (والثاني) له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة فإن كان له شاهد واحد في المال عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال لا أحلف أنا وأرضى بيمينه استحلف فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها وقال أنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعي عليه فبذل اليمين لم يكن له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له أن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك ثلاثاً فإن حلف وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك * (مسألة) * (فإن سكت عن جواب المدعي فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا)
ذكره القاضي في المحرر وقال أبو الخطاب يقول له الحاكم إن أجبت وإلا جعلناك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فإن أجاب وإلا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه ناكل عما توجه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه باليمين * (مسألة) * (وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق) وجملة ذلك أن المدعي إذا ذكر أن له بينة بعيدة ولا يمكنة إحضارها أو لا يريد إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه احلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي بينة حكم له وبهذا قال شريح والشعبي ومالك والثوري والليث والشافعي وابو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود(11/430)
أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد بينة المدعي ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة، وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجوز اليمين المتقدمة فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكراه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع إلا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعهما وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها (فصل) فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه واقامة كقيل به إلى إقامة ببيته البعيدة لم يقبل منه ولم تكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلاً ولأن الحبس عذاب فلا يلزم معصوماً لم يتوجه عليه حق ولو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بغير حق وإن كانت ببيته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضاره مجلس الحكم حتى يقيم فيه البينة تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة ويفارق البينة البعيدة
ومن لا يمكن حضورها فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه (فصل) ولو أقام المدعي شاهداً واحداً ولم يحلف معه وطلب يمين المدعي عليه احلف له ثم أن أحضر شاهداً آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها والله أعلم(11/431)
* (مسألة) * (وإن قال لي مخرج مما ادعاه لم يكن مجيباً) لأن الجواب أحد أمرين إقرار أو إنكار وليس هذا واحداً منهما * (مسألة) * (وإن قال لي حساب أريد أن أنظر فيه لم يلزم المدعي إنظاره) لأن حق الجواب يثبت له حالا فلم يلزمه أنظاره كما لو ثبت عليه الدين وذكر شيخنا في كتاب الكافي أنه ينظر ثلاثا ولا يهمل أكثر منها لأنه كثير وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه يحتاج إلى ذلك لمعرفة قدر دينه أو يعلم أهل عليه شئ اولا والثلاث مدة يسيرة * (مسألة) * (وإن قال قضيته أو ابرأني ولي ببينة بالقضاء أو الإبراء وسأل الأنظار أنظر ثلاثا) لأنها قريبة وللمدعي ملازمته لئلا يهرب أو يتغيب ولا يؤخر الحق عن المدة التي انظر فيها فإن عجز عن إقامة البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق لأنه يصير منكراً واليمين على المنكر (فصل) فإن شهدت البينة للمدعي فقال المدعى عليه احلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعنا على البينة * (مسألة) * (وإن ادعى عليه عيناً في يده فاقربها لغيره جعل الخصم فيها وهل يحلف المدعى عليه على وجهين فإن كان المقر له حاضراً مكلفاً سئل فإن ادعاها لنفسه ولم تكن بينة وأخذها وإن أقر بها للمدعي سلمت إليه وإن قال ليست لي ولا أعلم لمن هي؟ سلمت إلى المدعي في أحد الوجهين في الآخر لا تسلم إليه إلا ببينة ويجعلها الحاكم عند أمين، وإن أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى، ثم إن كان للمدعي بينة سلمت إليه وهل يحلف؟ على وجهين وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه(11/432)
تسليمها إليه وأقرت في يده إلا أن يقيم بينة أنها لمن سمى فلا يحلف
وجملة ذلك أن الإنسان إذا ادعى داراً في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان وكان المقر بها له حاضراً سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في يده اعترف أن يده بائنة عن يده وإقرار الإنسان بما في يده إقرار صحيح فيصير خصماً للمدعي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن قال المدعي احلفوا المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر بها لزم الغرم كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فانها تدفع إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار، وفيه وجه أنه لا يحلف لأنه أقام المقر له مقام نفسه فيقوم مقامه في اليمين وتجزئ اليمين عنهما فإن رد المقر له الإقرار فقال ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان (أحدهما) تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا له بها فمع عدم ادعائه لها أولى (والثاني) لا تدفع اليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الذي ذكره القاضي والأول أصح لما ذكرنا من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله(11/433)
بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه وإن قال المقر له هي لثالث انتقلت الخصومة اليه وصار بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من له اليد حكما * (مسألة) * (وإن أقر بها الغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها) لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفاً وتكون الخصومة معه، فإن قال المدعي احلفو الى المدعى عليه أحلفناه لما تقدم، وإن أقر بها للمدعي لم تسلم اليه لأنه اعترف أنها لغيره ويلزمه أن يغرم له قيمتها لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره، وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على
خصومته متى خطر له أن يقدح في بينة المدعي وإن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك اليه من المدعي، وإن أقام بينة أنها ملكه فهل يقضي به؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو لسبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضي بها؟ على وجهين فإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج أن يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وان للمودع المحاكمة في الوديعة اذا غصبت لانها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي اذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده أنها معه بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين (أحدهما) أن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على ثبوت الملك للمؤجر ولا يمكن ثبوت الملك(11/434)
للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها (والثاني) أن بينة الخارج مرتبة على بينة الداخل ويتخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق ومتى عاد المقر بها لغيره فأعادها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرناه.
* (مسألة) * (وإن أقر بها لمجهول قيل له إما إن تعرفه وإما أن نجعلك ناكلا وقضينا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول) .
لأنه لا تمكن الدعوى على مجهول فيضيع الحق بإقراره هذا فيجب ان لا يقبل كما لو يسكت.
* (فصل) * قال رحمه الله (ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعي إلا في الوصية والإقرار فإنه يصح بالمجهول) أما في غير ذلك فلا يصح لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه المدعي فإن اعترف به لزمه ولا يمكن أن يلزمه مجهولا ويفارق الاقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة فإنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشئ أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة
كما يثبت وكذلك الاقرار لما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه ان يدعى عليه أنه أقر له بمجهول.
إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع والقدر فيقول عشرة دنانير مصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة.
* (مسألة) * (فإن كان المدعى عيناً حاضرة عينها بالإشارة لأنها تعلم بذلك وإن كانت غائبة ذكر صفاتها إن كانت تنضبط بها وإلا ذكر قيمتها) لإنها لا تتميز ولا تصير معلومة إلا بذلك فإن تعذر ذلك رجعنا إلى القيمة كما لو تلفت العين.(11/435)
* (مسألة) * (وإن كانت تالفة من ذوات الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها) .
لأن المثل واجب في ذوات الأمثال فوجبت فيه هذه الصفات لأنه لا يتحقق المثل بدونها وإن ذكر قيمتها كان أولى لأنه أحصر، وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه وكذلك إن كان جوهراً تعين ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه لأنها لا تنضبط إلا بذلك فإن كان المدعى دارا فلابد من بيان موضعها وحدودها فيدعي إن هذا بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلماً وأنا أطالبه بردها وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها صحت الدعوى وإن لم يقل أنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده وإن ادعى جراحة فيها أرش معلومة كالموضحة من الحر لم يحتج إلى ذكر أرشها لأنه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلابد من ذكر أرشها وإن ادعى على ابيه ديناً لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي، قال شيخنا والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء قدر دينه وموت أبيه وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه إن قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعي عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وكذلك أن أنكر موت أبيه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه، ويكفيه أن يحلف أنه ما وصل إليه من تركة أبيه شئ ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئاً لأنه قد يخلف تركة لا تصل
إليه فلا يلزمه الايفاء منه.(11/436)
* (مسألة) * (وإن ادعى نكاحا فلابد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها وذكر شروط النكاح وأنه تزوجها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها في الصحيح من المذهب إن كانت ممن يعتبر رضاها) .
وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه ملك العبد إلا أنه لا يحتاج أن يقول وليست معتدة ولا مرتدة.
ولنا أن الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم من لا يشترط إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من يشترطه وقد يدعي نكاحاً يعتقده صحيحاً والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلمها ما لم يذكر الشروط وتقوم البينة بها ويفارق المال فإن أسبابه لا تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطاً سبعة فربما لا يحسن المدعي عددها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وأما الردة والعدة فالأصل عدمهما ولا يختلف الناس فيه ولا تخ؟ لف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حراً فقياس ما ذكرناه أنه يحتاج إلى عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحهما فأما ان ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر شروطه في أحد الوجهين لأنه يثبت بالإستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لأنه دعوى نكاح أشبه دعوى العقد.(11/437)
* (مسألة) * (وإذا ادعى بيعاً أو عقداً سواه فهل يشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين) أما سائر العقود من البيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنه لا يحتاط لها ولا يفتقر إلى الولي والشهود فلم يفتقر إلى الكشف كدعوى العين
وسواء كان المبيع حارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت العبد وكذلك إذا كان المدعى عبداً أو ديناً لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه أن يقول استحق هذه العين التي في يده وأستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع إني اشتريت هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج أن يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الأمر وتفرقنا عن تراض، وذكر أبو الخطاب في العقود وجهاً آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياساً على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين ووجهاً ثالثاً إن كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح به الوطئ أشبه النكاح، وإن كان المبيع غيرهما لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكر سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها.
* (مسألة) * (وإن ادعت المرأة نكاحاً على رجل وادعت معها نفقة أو مهراً سمعت دعواها وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين) إذا ذكرت المرأة مع دعوى الزوجية حقاً من حقوق النكاح كالمهر والنفقة ونحوها فإن دعواها تسمع بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت اضافته إلى الشراء(11/438)
وإن افردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع دعواها أيضاً لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها كالبيع وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقاً لغيرها وإن قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله بغير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلألا لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل أن يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيها اليمين وإن أقامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها وأما إباحتها فتبنى على باطن الأمر فإن علم أنها امرأته حلت له لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وإن علم أنها ليست امرأته إما العدم العقد أو
لبينونتها لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر؟ يحتمل وجهين (احدهما) يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منها لإقراره على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال هي أختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرناه من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل * (مسألة) * (وإن ادعى قتل موروثه ذكر القاتل وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره وأنه قتله عمداً أو خطأ أو شبه عمد ويصفه) ويذكر صفة العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعد عمداً فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب له القصاص عليه وهو مما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه(11/439)
* (مسألة) * (وإن ادعى الإرث ذكر سببه) لأن أسبابه تختلف ولابد في الشهادة من ان تكون على سبب معين فكذلك في الدعوى * (مسألة) * (وإن ادعى سيفاً محلى يذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى يذهب وفضة قومه بما شاء منهما للحاجة) * (فل) * قال الشيخ رحمه الله (وتعتبر في البينة العدالة ظاهراً وبالنا في اختيار الخرقي والقاضي وعنه نقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة اختارها أبو بكر فإن جهل إسلامه رجع إلى قوله والمذهب الأول) وجملة ذلك أن الحاكم إذا شهد عنده شاهدان فإن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما وإن عرف فسقهما لم يقبل قولهما وإن لم يعرف حالهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في جميع الحقوق وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في ذلك سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال نعم فصام
وأمر الناس بالصيام، ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عزوجل ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على طلاقه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لهما وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها(11/440)
ولنا أن العدالة شرط فوجب العلم بها كالاسلام وكما لو طعن الخصم فيهما فأما الإعرابي المسلم فإنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار الدين الإسلام وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته وأما قول عمر فالمراد به الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لست أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال لا قال عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع فيها الرحم؟ قال لا قال كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفي بدونه.
إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة وليس فيها ما يحفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه مرضي حتى يعرفه أو يخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب اسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفع فيها ما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ويحكيهم فيكتب اسودا وأبيض أو انزع أو أغم أو أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا التمييز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينة وبين الشاهد عدواة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيراً ولا تطيب إذا كان كثيراً(11/441)
وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واد من أصحاب مسائلة ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وإن
شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جيران الشاهد وأهل الخبرة به وإن شاء أطلق ولم يعين المسئول ويكون السؤال سراً لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه وربما يخاف المسؤل من الشاهد والمشهود له والمشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول وافرة ايرياء من الشحناء والبغضة لئلا يطعنوا في الشهود ويسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة وإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبلت شهادته وإن أخبر بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل بعث آخرين فإن عادا فأخبرا با التعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وإن أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل لم تتم البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل لا تقبل شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شرط الشهادة واللفظ وغيره ولا يقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الأصل ووجه القول الأول إن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فإنه لا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه للحاكم فلا يعرفه الحاكم فيفوت الجرح والتعديل (فصل) ولا بد للحاكم من معرفة إسلام الشاهد قاله القاضي ويحصل ذلك بأحد أمور أربعة(11/442)
(أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم وإتيانه بكلمة الإسلام وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأنه لو لم يكن مسلماً صار بذلك مسلماً (الثاني) إعتراف المشهود عليه بإسلامه لأنه حق عليه (الثالث) خبرة الحاكم لإننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في إسلامه (الرابع) أن تقوم به بينة ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة البينة أو إعتراف
المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي إعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير حراً فلا يملك الإقرار به (فصل) إذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان (احداهما) يلزم الحاكم بشهادتة لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد إعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ اقراره كسائر أقاريره (والثاني) لا يجوز الحكم بشهادته لأن الحكم بها تعديل فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عيه بقول فاسق لم يجز الحكم به لأنه لا يخلوا أما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل لا يجوز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في غير المشهد عليه لأنه لم يوجد منه التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شرط الحكم، وإقراره يثبت في حقه دون غيره * (مسألة) * (وإن علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما) لا نعلم فيه خلافاً وإذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح(11/443)
في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يقدح في شهادتهم حكم عليه لأن الحق قد صح على وجه لا إشكال فيه * (مسألة) * (إلا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسأل كل واحد منهما كيف تحملت الشهادة؟ ومتى؟ وفي أي موضع؟ وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يحكم بشهادتهما وإن اتفقا وعظهما وخوفهما فإن ثبتا حكم بها إذا سأله المدعي) وجملة ذلك أن الحاكم إذا ارتاب بشهادة الشهود احتاج إلى البحث عنهم لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيفرقهما ليظهر له حالهما فيفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتب أو لم يكتب وفي أي مكان شهدت؟ وفي أي شهر؟ وأي يوم؟ وهل كنت وحدك أو مع غيرك؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم لأنه قد ظهر له ما يمنع قبولها ويقال أول من فعل هذا دانيال وقيل سليمان عليهما السلام وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا فقد واحد منهم فأتت زوجته علياً تدعي على الستة فسألهم علي فأنكروا وفرقهم وأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه فدعا واحداً منهم فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك فاعترف فقلتهم * (مسألة) * (وإن اتفقوا وعظهم وخوفهم كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان ألا تريان؟ إني لم أدعكما ولست أمنعكما إن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ فإني بكما أقضي وبكما أتقي يوم القيامة)(11/444)
وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار " فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا * (فصل) * قال رحمه الله (ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان) (أحدهما) مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح (والثاني) يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم، ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين * (مسألة) * (وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم) لأن الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولأن فيه اضراراً بالناس وتضيبقا عليهم لأن كثيراً من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهما بكونهما من غير المرتبين(11/445)
لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن له أن يرتب شهود اشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضاً يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد * (مسألة) * (فإن ثبتا حكم بشهادتهما لأن الظاهر صدقهما ولا يحكم حتى يسأله المدعي لان الحق وقد ذكرناه) (فصل) إذا اتصلت به الحادثة واستنارت به الحجة لأحد الخصمين حكم إذا سأله لما بينا وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فان عجلها قبل البيان لم يصح حكمه، وممن رأى الإصلاح بين الخصوم شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يحدث بين القوم الضغئن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظلم فليس له أن يحمله على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة (فصل) وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله وإلا نظر في سنة رسول الله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه الأشياء بها لما روى عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " بم تحكم؟ - قال بكتاب الله قال - فإن لم تجد - قال بسنة رسول الله قال - فإن لم تجد؟ - قال أجتهد رأيي ولا آلو قال - الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " فإن قيل عمرو بن(11/446)
أخي المغيرة والرجال مجهولون قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم أنه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لشريح انظر ما تبين لك في كتاب الله
فاتبع فيه السنة وما لم يتبين ذلك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك * (مسألة) * (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح فإن سأل الانظار وانظر ثلاثاً ليجرحهما) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه انفى للشك وأجلى للعمى * (مسألة) * وللمدعي ملازمته إلا أن يقيم بينة بالجرح) لأن الحق قد ثبت في الظاهر فإذا لم يقم بينة بالجرح حكم عليه لظهور الحق * (مسألة) * (ولا يسمع الجرح إلا مفسراً بما يقدح في العدالة ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد أني رأيته يشرب الخمر أو سمعته يقذف أو رأيته يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو يعامل بالربا أو يعلم ذلك بالاستفاضة في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه) وبهذا قال الشافعي وسوار وعنه يكفي أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل وبه قال أبو حنيفة لأن التعديل يسمع مطلقاً وكذلك الجرح لأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقاً يوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطل شهادته ولا يتجرح بها المجروح(11/447)
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب يسير النبيذ فوجب أن لا يقبل بمجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحاً ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا وقولهم إنه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز لأن هتك عرضه بسببه لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله المحوج للناس إلى جرحه
فإن صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد إدخال المعرة عليه ولنا قول الله سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولأن أبا بكرة ورفيقه شهدوا على المعيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر من الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً ويبطل ما ذكروه بما شهدوا عليه لإقامة الحد عليه (فصل) فإن اقام المدعي بينة أن هذين الشاهدين شهدا بذا الحق عند حاكم فردت شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية (فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فاشبه الرواية وأخبار الديانات(11/448)
ولنا انها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه ممنوع (فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان او أبا المشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعاً فأشبه الشهادة لنفسه ولأننا لو قبلنا قوله لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة البينة (فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين، وذلك إذ حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما، وقال مالك يقبلهما إذا رأى منها سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة ولنا أن عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الخضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى القضاء بشهادتهما في دفع الحق إلى غير مستحقه * (مسألة) * (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله قال للمدعي زدني شهودا)
ولا يقبل قوله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) ويقول للمدعي زدني شهوداً لئلا يفضحه(11/449)
* (مسألة) * (وإن جهل حاله طالب المدعي بتزكيته) لأنه روي عن عمر رضي الله عنه انه أتي بشاهدين فقال لهما إني لا أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما ولأن العدالة شرط في قبول الشهادة على ما ذكرنا فإذا شك في وجودها كانت كعدمها كشروط الصلاة * (مسألة) * (ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي ولا يحتاج في التزكية أن يقول علي ولي) وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق ومالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه إلا أن يقول علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شئ دون شئ ولنا قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فإن شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية ولأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شئ فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شئ دون شي؟ ء ولا في حق شخص دون شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي ايضاً بقوله علي ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عداوة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم أن هذا إذا كان معلوماً انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه ولأن العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهادة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة إلى نفي العداوة (فصل) ولا يكفي أن يقول ما أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم منه إلا الخير فهو عدل(11/450)
ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلاً كما لو قال أعلم منه خيراً وما ذكروه لا يصح لأن
الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير لأنه يعلم إسلامهم وهو لا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول، قال أصحابنا ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهو مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه، ولأن عادة الناس إظهار الطاعات وإسرار المعاصي فإن لم يكن ذا خبرة باطنة فربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة، فأما الحكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فحسن * (مسألة) * (وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ينظرا أيهما أعدل الذان جرحاه أو الذان عدلاه؟ فيؤخذ بقول أعدلهما ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل متضمن ترك الريب والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول رأيته يفعل والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بإن يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحاً(11/451)
* (مسألة) * (وإن سأل المدعي حبس المشهود عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبس؟ على وجهين) (أحدهما) يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم السبق ولأن الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما كان على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود (والثاني) لا يحبس لأن الأصل براءة الذمة وقيل يحبس في المال فقط * (مسألة) * (وإن أقام شاهداً وسأل حبسه حتى يقيم الآخر حبسه إن كان في المال) لأن الشاهد حجة فيه وإنما اليمين معونة له، وإن كان في غيره لم يحبس لأنه لا يكون حجة في
إثباته أشبه ما لو لم يقم شاهداً وفيه وجه آخر أنه يحبس كالتي قبلها والأول أولى لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر لتتم بهما البينة فهو كالحق الذي لا يثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه لأن الحلف ممكن في الحال، فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شئ، ويحتمل أن يقال إن كان المدعى بازلا لليمين والتوقف لإثبات عدالة الشاهدين حبس كما ذكرنا في التي قبلها، وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي وكل موضع حبس فيه بشاهدين دام الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم، وكل موضع حبس لشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له إن جئت بشاهد آخر إلى بكيت وإلا أطلقناه، وإن أقام شاهدين فحبس حتى يزكي شهوده فقيل يمهل ثلاثة أيام ايضاً كالتي قبلها وهو أولى إن شاء الله تعالى لأن الحبس عقوبة فإذا قلنا يحبس حتى يزكي شهوده فكل من أراد حبس خصمه أقام شاهدين مجهولين لا يعرفهما الحاكم ويبقى خصمه في الحبس دائماً وهذا ضرر كثير مع أن الأصل براءة الذمة فأما الثلاثة أيام فهي يسيرة(11/452)
(فصل) إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين لم يعدلا فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعل الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة ينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدان ان أسلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، ولأننا لو لم نحل بينهما أفضى إلى أن تكون أمة يطؤها وإن أقام شاهداً واحداً وسأل أن يحال بينهما ففيه وجهان (فصل) وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها وإن أقامت شاهداً واحداً لم يحل بينهما لأن البينة لم تتم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين * (مسألة) * (وإن حاكم إليه من لا يعرف لسانه ترجم له من يعرف لسانه) إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما * (مسألة) * (ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين) وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه يقبل واحد وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز وابن المنذر
وقول أبي حنيفة قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنها مما لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيها الواحد كإخبار الديانات ولأنه نقل ما خفي عن الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتحاكمين فوجب فيه العدد كالشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له كان كنقل الإقرار اليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد(11/453)
والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران إن كان مما لا يكفي فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة وجهان (أحدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال احرار عدول (والثاني) يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار بالزنا ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا يقبل من كافر ولا فاسق ويقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة ولرواية وقال أبو حنيفة لا يقبل من العبد لكونه ليس من أهل الشهادة ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كإخبار الديانات ولا نسلم أن هذه شهادة ولأن العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن يقبل فيه ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة، فأما الجرح والتعديل فلا يكون إلا من إثنين وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وابن المنذر وعن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر ولا يعتبره فيه لفظ الشهادة فيقبل من واحد كالرواية ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمة على صفته فأعتبر العدد كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة (فصل) والحكم في التعريف والرسالة كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف ما فيها، ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب(11/454)
* (مسألة) * (ومن ثبتت عدالته مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين) وجملة ذلك أن من ثبتت، عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادتة وعدالته لأن عدالته ثبتت وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان (أحدهما) لا يحتاج إلى ذلك (والثاني) يحتاج لأن من طول الزمان تتغير الأحوال * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها) من ادعى حقاً على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشروط وبهذا قال ابن شبرمة ومالك والشافعي والاوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد وإسحاق وابن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعل " إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون الغائب مما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه(11/455)
ولنا أن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه ففضى عليه لها ولم يكن حاضراً، ولأن هذا بينة مسموعة وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضراً يقدم عليه إذا كان غائباً كسماع البينة وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة
أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجاً غائباً وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم بالبيع والأخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعي بينة حكم له بما ادعاه، والغيبة المعتبرة إلى مسافة القصر لأنها التي تبنى عليها الأحكام (فصل) وكذلك الحكم في المستتر في البلد لأنه تعذر حضوره أشبه الغائب بل أولى فإن الغائب معذور ولا عذر للمستتر نص عليه أحمد في رواية حرب وروى حرب بإسناده عن أبي موسى قال كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى للذي وفى ولأنه لو لم يحكم عليه لجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق * (مسألة) * (والميت المدعى عليه كالغائب بل أولى) لأن الغائب قد يحضر بخلاف الميت(11/456)
قال الشاعر: وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب وكذلك الصبي والمجنون المدعى عليهما يجوز سماع البينة عليهما والحكم عليهما لأنه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب وفي المستتر قول آخر يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وهل يحلف المدعى عليه إذا لم يبرأ إليه منه ولا من شئ منه؟ على روايتين) وجملة ذلك أن البينة إذا قامت على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع يمينه في أشهر الروايتين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولأنها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضرة والثانية يستحلف معها وقول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان حاضراً فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل ولاحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط والأولى ظاهر المذهب * (مسألة) * (ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته)
أما إذا قدم الغائب عن الحكم فإن الحكم يقف على حضوره وإن جرح الشهود لم يحكم عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثاً فإن أقام البينة بجرحهم وإلا حكم عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء وكانت له بينة به برئ وإلا حلف المدعي وحكم، له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة(11/457)
بطل الحكم لفوات شرطه، وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقاً لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لجواز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه (فصل) ولا يقضى على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة والاسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع (فصل) ظاهر كلام أحمد أنه إذا قضى على الغائب بعين سلمت الى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال احذ منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهماً من ضيعة في أيدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه ولأنه ثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضراً ويحتمل ألا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلاً أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي أو موته فيضيع مال المدعى عليه، وظاهر كلام أحمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت.
* (مسألة) * (وإن كان الخصم في البلد غائباً عن المجلس لم تسمع البينة حتى يحضر فإن امتنع من الحضور سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا تسمع حتى يحضر فإن أبى بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر) .
وجملة ذلك أن الحاضر في البلد أو قريباً منه إذا لم يمتنع من الحضر لم يحكم عليه قبل(11/458)
حضوره في قول أكثر أهل العلم ولأصحاب الشافعي وجه أنه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب أشبه الغائب البعيد.
ولنا أنه أمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال أحمد أهل المدينة يقضون على الغائب ويقولون أنه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الأعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفاً وأقام بينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثاً فإن جاء وإلا فقد أعذروا اليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو مذهب حسن، قد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب انه يقضى عى الغائب الممنع وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هو أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وعلى القول الآخر إذا امتنع من الحضور بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر لأن ذلك طريق إلى حضوره وتخليص الحق منه.
* (مسألة) * (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن اخ له غائب وله مال في يد فلان أو دين عليه فأقر المدعى عليه أو ثبتت بينته سلم إلى المدعي نصيبه وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظ له ويحتمل أنه إذا كان المال ديناً أن يترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم) .
وجملة ذلك أن من ادعى أن أباه مات وخلفه وأخاً غائبا لا وارث له سواهما وترك في يد إنسان(11/459)
داراً أو عيناً منقولة فأقر له صاحب اليد أو أنكر فثبت ما ادعاه ثبت ما في يد المدعي للميت وانتزع من يد المنكر فدفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب تكرمة له إن كان يمكن كراؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كان مما لا ينقل ولا يحول ومما ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعي عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو فيه كما لو ادعى أحد الشريكين داراً مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه
ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا.
ولنا أنها تركة ميت ثبتت ببينة فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالنقول وكما لو كان أخوه صغيراً أو مجنوناً ولأن في بقائه له ضرراً لانه قد يتعزر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبا أو تزول عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك للأجنبي إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينزع نصيب الأجنبي وأما التفصيل فإن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل أنه تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولأن الأخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي فأما إن كان ديناً في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يقبضه كما يقبض العين (والثاني) لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول أولى لأن في الذمة يعرض التلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف العين أو الدين لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأنه ليس من أهل المعرفة لأن جهله بالوارث دليل على عدمه فلا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة فلا يسلم إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطرقها وينادي منادياً ينادي أن فلاناً مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه أنه لو كان له وارث ظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمين يحتمل وجهين وكذلك الحكم اذا كانا من أهل الخبرة الباطنة لكن لم يقولا ولا نعلم له وارثاً سواه.(11/460)
(فصل) فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملاً وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن عائلاً فيكون ربع التسع لجواز أن يكون
له أربع زوجات وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم يعط شيئاً وإن علم موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات وتعطاه عائلاً فيكون ثلث العشر ولا يعطى العصبة شيئاً لجواز أن يكون وارث يحجبه وإن كان زوجاً أعطي الربع عائلاً وهو الخمس لجواز أن تكون المسألة عائلة فيعطى اليقين فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم.
(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن الدار كانت ليست ملكه أو منذ شهر فهل تسمع البينة ويقضي بها على وجهين.
(أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا تسمع، قال القاضي هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدعي المدعي الملك في الحال فلم يسمع ما لم يدعه لكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد أنها كانت ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنه إذا لم يتبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن يكون ملكه أمس ثم ينتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلاً فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، فإن أقر المدعي عليه أنها كانت للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره في الصحيح وحكم به لأنه حينئذ يحتاج إلى سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى بينة ويفارق البينة من وجهين.
(أحدهما) أنه أقوى من البينة لكونها شهادة الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة (الثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداء، فإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعي عليه بذلك فالصحيح أنها تسمع ويقضي بها لما ذكرنا.
* (مسألة) * (وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه قبل قول الحاكم وحده) وإن لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان أنه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء وكذلك(11/461)
إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما) إذا ادعى إنسان على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم إنما هو امضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولهما وامضاء القضاء وبه، قال ابن ابي ليلى ومحمد بن الحسن قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين وقال أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي لا يقبل لأنه لا يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته نشهد عنده شاهدان أنه شهد لم يكن له أن يشهد.
ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه فإنهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه اليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم وكذلك إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما على الشاهدين كما يقبل شهادتهما على الحق نفسه * (مسألة) * (وإن لم يشهد به أحد لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذه؟ على روايتين) (إحداهما) لا ينفذه إلا أن يذكره نص عليه أحمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) أنه يحكم به وبه قال ابن ابي ليلى قال شيخنا وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحاً ووجه الأولى أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى خطه وختمه والخط يشبه الخط فإن قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقاً على إنسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه فلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة لم يجز أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوباً بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه لأنه فعله فروعي ذلك، وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه فكفى فيه الظن
* (مسألة) * (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة في كتاب ولم يذكرها فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين)(11/462)
(إحداهما) له أن يشهد بها لأن الظاهر أنه خطه (والثانية) لا يشهد بها إلا أن يذكرها لأنها قد تتزور على خطه وقد وجد ذلك (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن كان له على إنسان حق ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه أحمد واختاره عامة شيوخنا وجملة ذلك أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئاً بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قد حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وان كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت ديناً في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعاً له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شئ من ماله بغير خلاف، وإن أخذ شيئاً لزمه رده ما كان باقياً أو عوضه إن كان تالفاً ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي قبلها، وإن كان ماله بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم والسلطان لم يجز له الأخذ أيضاً بغير خلاف لأنه قدر على استيفاء حقه ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله، وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحداً له ولا بينة به ولكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب أنه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل قد جعل أصحابنا المحدثون بجواز الأخذ وجها في المذهب أخذاً من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الأخذ فإن كان المقدور عليه قدر حقه من جنسه أخذه وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه لما ذكرنا من حديث هند، ومن قوله الرهن يركب
ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه وقال الشافعي إن لم يقدر على استخلاص حقه ببينة فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كان له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك أنه إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وإن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس وقال أبو حنيفة له ان يأخذ بقدر حقه إن كان عيناً أو ورقاً أو من جنس حقه، وإن كان المال عرضاً لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة إلا برضاء من المتعاوضين قال الله(11/463)
تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) واحتج من أجاز الأخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أن أبا سفيان رجل صحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من مالها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الترمذي وقال حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير إذنه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ولأنه إن أخذ من غير جنسه كان معاوضة بغير تراض، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضاء صاحبه فإن التعيين إليه ألا ترى أنه لا يجوز له أن يقول لا آخذ حقي إلا من هذا الكيس دون هذا ولأن كل ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز له أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له فأما حديث هند فإن أحمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين، وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوماً بعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران (احداهما) أن للمرأة من البسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي
(الثاني) أن النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى يقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا إن أخذ شيئاً لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفاً وجب مثله إن كان مثلياً أو قيمته أن كان متقوماً فإن كان من جنس دينه تقاصا وتساقطا في قياس المذهب وإن كان من غير جنسه غرمه، ومن جوز من أصحابنا الأخذ فإنه إن وجد جنس حقه جاز له الأخذ بقدر حقه من غير زيادة وليس له الأخذ من غير جنسه مع قدرته على جنس حقه، وإن لم يجد إلا من جنس غير حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز له أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة، ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا الرهن ينفق عليه إذا كان محلوباً أو مركوباً(11/464)
يحلب ويركب بقدر النفقة وهي من غير الجنس.
واختلف أصحاب الشافعي في هذا فمنهم من جوزه له ومنهم من قال: يواطئ رجلاً يدعي عليه عند الحاكم ديناً فيقر له بملك الشي المأخوذ الذي أخذه فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم الشئ المأخوذ ويدفعه إليه * (مسألة) * (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن وذكر ابن أبي موسى عنه رواية أخرى أنه يزيل العقود والفسوخ) ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن منهم مالك والاوزاعي والشافعي واحمد وإسحاق وابو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهراً وباطناً، فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمد الكذب، ولو أن رجلاً ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال إبن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبها وتزويرها فحكم الحاكم بطلاقها يحل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه ان رجلاً ادعى على امرأة نكاحا فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك
فقضى بينها وبالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقداً حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن اللعان يفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذباً فالحكم أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا دعى أنه اشترى منه شيئاً فحكم له ولأنه(11/465)
حكم له بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق، وأما الخبر عن علي أن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح.
إذا ثبب هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع منه ما أمكنها فإن أكرهها فالإثم عليه دونها، وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل لاحد عليه لانه وطئ مختلف في حكمه فيكون شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت به البينة في قول بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمنكوحة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة كما حكى ابن أبي موسى في أن حكم الحاكم يزيل العقود والفسوخ والأول هو المذهب (فصل) قال ابن المنذر ويكره للقاضي أن يفتي في الأحكام كان شريح، يقول أنا أقضي ولا أفتي أما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه.(11/466)
باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي الأصل في كتاب القاضي والامير إلى الامير الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله
تعالى (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا علي وأئتوني مسلمين) وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى ملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته وعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك أثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " وروى الضحاك بن سفيان قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله * (مسألة) * (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال كالقرض والغصب والبيع والرهن والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال ولا يقبل في حد لله تعالى وهل يقبل فيما عدا ذلك مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين فأما حد القذف فان قلنا هو حق لله تعالى فلا يقبل فيه وإن قلنا هو حق آدمي فهو كالقصاص)(11/467)
وجملة ذلك أن كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في المال بغير خلاف علمناه ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال الشافعي يقبل كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين (أحدهما) يقبل وهو قول مالك وأبي ثور وحد القذف ينبني على الخلاف فيه على ما ذكرنا ولنا على أنها لا تقبل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة وفيه شبهة فإنه يتطرق إليه احتمال الغلط أو السهو في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشهبات ولأن كتاب القاضي إلى القاضي إنما يقبل للحاجة ولا حاجة الى ذلك في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص في ذلك ولا يصح قياسه على
الأموال لما بينهما من الفرق والتساهل وظاهر كلام أحمد رحمه الله أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في القصاص أيضاً ولا حد القذف لأنه قال إنما يجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة، وظاهر كلام الخرقي أنه يقبل وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور ولأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به أشبه الأموال وذكر أصحابنا عن أحمد هذا رواية لأنه قال شهادة رجل في(11/468)
الطلاق جائزة قال أحمد ما أحسن ما قال فجعله أصحابنا رواية في القصاص قال شيخنا وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهاب وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحد فأما ما عدا الحدود ولاموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على جميعها في قبول هذا الحقوق وهو قول الخرقي وقال ابن حامد لا يقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في المال وما يقصد به وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود وكتابة القاضي إلى القاضي حكمها حكم الشهادة على الشهادة لأنه شهادة على شهادة * (مسألة) * (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة) وجملة ذلك أن كتاب القاضي على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيتغيب قبل وفائه أو يدعي حقاً على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتاباً بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب اليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحكم الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتاباً بحكمه ففي هذه(11/469)
الصور الثلاث تلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب اليه قوله سواء كان بينهما مسافة قريبة أو بعيدة حتى لو كانا في جانبي البلد أو مجلس الحاكم لزمه قبوله وامضاؤه وسواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم
في هذا خلافاً لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم (الضرب الثاني) أن يكتب بعلمه شهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأل صاحب الحق ان يكتب له كتاباً بما حصل عنده فإنه يكتب له أيضاً، قال القاضي ويكون في كتابه شهد عندي فلان وفلان بكذا ليكون المكتوب اليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب اليه الا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخيرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز كما لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة واحتج من أجازه لأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابة حكمه ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب اليه فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتابه بالحكم فليس هو نقل إنما هو خبر(11/470)
(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وإلى قاضي مصر * (مسألة) * (ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله) وبهذا قال أبو ثور واستحسنه ابو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان الكتاب اليه بعينه * (مسألة) * (ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرؤه عليهما ثم يقول أشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه إليهما فإذا وصلا إلى المكتوب إليه دفعا إليه الكتاب وقالا نشهد أن هذا كتاب فلان إليك كتبه من عمله وأشهدنا عليه، والاحتياط
أن يشهد عليه بما فيه ويختمه ولا يشترط ختمه وإن كتب كتاباً وأدرجه وختمه وقال هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه لم يصح لأن أحمد قال فيمن كتب وصيته وختمها ثم أشهد على ما فيها فلا حتى يعلمه ما فيها ويتخرج الجواز لقوله إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير أن يكون أشهد(11/471)
أو أعلم أحداً بها عند موته وعرف خطه وكان مشهورا فإنه ينفذ ما فيها فعلى هذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله والعمل على الأول) وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب اليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول الجمهور وحكي عن الحسن وسوار العنبري أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور والاصطخري ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين ولنا أن ما أمكن أثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر كإثبات العقود ولان الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه.
إذا اثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرأ عليهما قال اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان وإن قال اشهدا علي بما فيه كان أولى فان اقتصر على قوله هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ لانه يحملها الشهادة فاعتبر أن يقول اشهدا علي كالشهادة(11/472)
على الشهادة وقال القاضي يجزئ وهو مذهب الشافعي ثم إن كان ما في الكتاب قليلاً اعتمدا على حفظه وإن كان كثيراً فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بهاما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع اليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما اليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء شهادة
فلا بد فيها من لفظ الشهادة، ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوماً أو غير مختوم مقبولاً أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك، وإن لم يحفظاه لم يمكنهما الشهادة، وقال أبو حنيفة وابو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى قيصر ولم يختمه فقيل له أنه لا يقرأ كتاباً غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه ولأنهما لو شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه لوجب قبوله كما لو وصل مختوماً وشهدا بالختم.
إذا ثبت هذا فانه انما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الأثرم سمعت أبا(11/473)
عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف وهو كلام كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى؟ قال نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم * (مسألة) * (ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا خطي اشهدا علي بما فيه أو قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل) وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجاً فإذا وصل الكتاب شهدا عنه أنه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا فإنهما شهدا بما في الكتاب فجاز، وإن لم يعلما تفصيله كما لو شهدا بما في هذا الكيس من الدراهم جازت شهادتهما وإن لم يعرفا قدرها ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا، وفارق(11/474)
ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها، وههنا الشهادة على ما في الكتاب
دون الكتاب وهما لا يعرفانه (الشرط الثاني) أن يكتبه القاضي من موضع عمله وولايته فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي (الشرط الثالث) أن يصل الكتاب إلى المكتوب اليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته، ولو ترافع اليه خصمان في غير محل ولايته لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا إذا تراضيا عليه فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به، وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع اليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها * (مسألة) * (وإذا وصل الكتاب فأحضر المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب فقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم به بينة فإن ثبت أنه فلان من فلان ببينة أو إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل الا ببينة تشهد أن في البلد من يساويه فيما سمي ووصف به فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما) وجملة ذلك أنه إن أنكر وقف الحاكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الإشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنه بما يتميز به المشهود عليه منهما فإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من(11/475)
يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظر فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه، وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حياً لجواز أن يكون الحق على الذي مات (فصل) وإذا كتب بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب اليه وأخذ المحكوم عليه
وإن كان ذلك عيناً كنقار محدود أو عيناً مشهورة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهورا ودابة كذلك حكم المكتوب اليه أيضاً والزم تسليمه إلى المحكوم له به، وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهور أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل كتابه به وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يجوز أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به (والثاني) يجوز لأنه يثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبداً أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه وقالا: المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب(11/476)
في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فلزمه أجره إن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل الى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهراً بغير حق (فصل) وإن تغيرت حال القاضي الكاتب بعزل أو موت لم يقدح في كتابه، وإن تغيرت بفسق لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن تغيرت حال المكتوب إليه فلمن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وجملة ذلك أنه لا يخلو من أن تتغير حال القاضي الكاتب أو المكتوب اليه أو حالهما معاً فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من بلده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين.
وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به، وإن مات بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبلي أداء شهادتهما ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن ينقل
كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل وما ذكروه(11/477)
حجة عليهم لأن الحاكم قد اشهد على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب اليه شاهدان عليه وهما حيان وهما شاهدا الفرع وليس موته مانعاً من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل وإن تغيرت بفسق قبل الحكم بكتابه لم يحكم به لأن حكمه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل وإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشئ ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا وأما إن تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل اليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس ابن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي ألحسن فعمل به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب اليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره.
ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأصل أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم إنها شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس(11/478)
بفرع وقد أديا الشهادة عند المحدود ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب اليه قبل فدل ذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب، وقياس ما ذكرناه إن الشاهدين إذا حملا الكتاب إلى غير المكتوب اليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه فإن كان المكتوب اليه خليفة المكاتب فمات الكالب أو عزل انعزل المكتوب اليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته كما لا ينعزل القاض الأصلي بموت الإمام ولا عزله.
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام فإن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره كولاية النكاح فإذا مات الولي لم يبطل النكاح بخلاف نائب الحكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائباً عنه فيملك عزله ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد الإسلام وتتعطل الأحكام، وإذا ثبت أنه ينعزل فليس له قبول الكتاب لانه حنيئذ ليس بقاض.
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا حكم عليه فقال اكتب لي إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يحكم علي ثانياً لم يلزمه ذلك ولكنه يكتب له محضراً بالقضية(11/479)
لأن المحكوم عليه إذا استوفى الحق منه فقال للحاكم اكتب لي محضراً بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني ثانياً ففيه وجهان.
(أحدهما) تلزمه اجابه ليتخلص من المحذور الذي يخافه (والثاني) لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فأما استئناف ابتداء فيكفي فيه الأشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالبينة.
* (مسألة) * (وكل من ثبت له عند حاكم حق أو ثبتت براءته مثل أن أنكر وحلفه الحاكم أن يكتب له محضراً بما جرى ليثبت حقه أو براءته لزمته إجابته) أما إذا ثبت له حق بإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر لا يمكنه الحكم عليه ولو قلنا يحكم بعلمه احتمل ان ينسى فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن ثبت عليه حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه ذلك لأنه لا حجة للمدعي سواء الاشهاد فأما إن ثبت عنده ببينة فلا يجب جعل بينة أخرى (والثاني) يجب لأن في الاشهاد فائدة جديدة وهي إثبات تعديل بينته وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الأشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له(11/480)
في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضراً بما جرى ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه ذلك لأنه وثيقة له فهو كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا رؤية خطهما (والثاني) لا يلزمه لأن الأشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهم الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققاً يحصل به اداؤها فلا يفيد إلا بالكتاب.
* (مسألة) * (وإن سأل من ثبت محضره عند الحاكم أن يسجل به فعل ذلك وجعله نسختين نسخة يدفعها إليه ونسخة يحبسها عنده والورق من بيت المال فإن لم يكن فمن مال المكتوب له) .
ينبغي أن يجعل من بيت المال شئ برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من يرجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق إن شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حجة لك ولست أكرهك عليه فإن اختار أن يكتب له محضراً فصفته: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي الإمام بمجلس حكمه وقضائه بكذا فإن كان يعرف المدعي والمدعى عليه بأسمائهما وانسابهما قال فلان بن فن؟ الوللافلاني حضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما(11/481)
ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب فادعى عليه كذا وكذا فأقر له ولا يحتاج أن يقول بمجلس حكمه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه يشهد على إقراره شاهدان كان آكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين أو ما أحب فأما أن أنكر المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال: فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له محضراً بما جرى فأجابه اليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ههنا أن يذكر مجلس حكمه وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلى في مجلس الحكم والإقرار بخلافه، ويكتب الحاكم في آخر المحضر شهدا عندي بذلك ويكتب علامته في رأس
المحضر وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز لئلا يحلف ثانياً وكتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ قال لا قال فلك يمينه وسأل إحلافه فاحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولابد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا بمجلس الحكم ويعلم في أوله خاصة ويعلم في الإقرار والأحلاف على رأس المحضر جرى الأمر على ذلك فإن نكل المدعى عليه عن اليمين قال فعرض اليمين على المدعي عليه فنكل عنها فسأل خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق في وقت كذا وإن رد اليمين على المدعى فحلف وحكم له بذلك ذكره، ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه وهذه صفة المحضر وأما السجل.
فهو لا نفاذ ما ثبت عنده والحكم به وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد(11/482)
عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في أول المحضر ومن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهاة فلان وفلان وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين وإلا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر معرفة فلان بن فلان ويذكر المشهود عليه وإقراره طوعاً في صحة منه وجواز أمر الجميع ما سمي ووصف به في كتاب نسخته وينسح الكتاب المثبت ألو المحضر جميعه حرفا بحرف فإذا فرغ منه قال وإن القاضي امضاه وحكم به على ما هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك والأشهاد به الخصم المدعي ويذكر اسمه ونسبه ولم يدفعه الخصم الحاضر بحجة وجعل كل ذي حجة حجته على واشهد القاضي فلان على أنفاسه وحكمه من حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ في أعلاه وأمر يكتب هذا السجل نسختين متساويتين تخلد نسخة منهما في ديوان الحكم والأخرى تدفع إلى من كتبها له ولك واحد منهما حجة وثيقة فيما أنفذه منهما وهذا يذكر ليخرج من الخلاف ولو(11/483)
قال إنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ما في كتاب نسخته كذا ولم يذكر الاعاء عليه جاز وساغ لجواز القضاء على الغائب وما يجتمع عنده من المحاضر والسجلات في كل أسبوع أو شهر بضم بعضها إلى بعض ويكتب عليه محاضر وقت كذا في سنة كذا.
* (فصل في صفة الكتاب لى القاضي) * بسم الله الرحمن الرحيم سبب هذه المكاتبة أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاء المسلمين وحكامهم أنه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائباً قال(11/484)
الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز سماع الدعوى بينهما وقبول البينة من أحدهما على الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت شهادتهما بما رأيت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فان كان في إثبات أسر أسير قال وإن الفرنج خذلهم الله اسروه من مكان كذا في وقت كذا وحملوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله وإنه فقير من فقراء المسلمين ليس له شئ من الدنيا لا يقدر على فكاك نفسه ولا شئ منه وإنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار اليه المتصل أوله بآخر كتابي المؤرخ بكذا وإن كان في إثبات دين قال وأنه يستحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع(11/485)
في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا وكذا ديناً عليه حالاً وحقاً واجباً لازماً وإنه يستحق مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين كتب: وأنه مالك لما في أيدي فلان من الشئ الفلاني ويصفه صفة يتميز بها، مستحق لأخذه وتسلمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي المؤرخ بتاريخ كذا وقال الشاهدان المذكوران أنهما بما شهدا به عالمان وله محققان وأنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال من جازت مسألته وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة إجابته المكاتبة إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه شرعاً وتقدمت بهذا فكتب وبالصاق المحضر المشار اليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في انفاذه والعمل بموجبه ما وجبه الشرع المطهر أحرز من الاجر أجز له وكتب في مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر المكتوب اليه في باطنه وبهذا قال(11/486)
الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه فلا يقبله لأن الكتاب ليس اليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على الحاكم الكاتب بالحكم ولا يقدح ولو ضاع الكتاب وامتحى سمعت شهادتهما وحكم بها(11/487)
* (باب القسمة) * قسمة الأملاك جائزة والأصل في القسمة قول الله تعالى (ونيتهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) وقوله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " وقسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وكان يقسم الغنائم وأجمعت الأمة على جواز القسمة ولأن بالناس؟ حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي * (مسألة) * (وهو نوعان قسمة تراض وهي ما فيها ضرر ورد عوض من أحدهما كالدور الصغار والحمام والعضائد المتلاصعة اللاتي لا يمكن قسمة كل عين منفردة والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بلاجزا والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم وقد رضوا بقسمته وهذا جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع لا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع) وجملة ذلك أن الشريكين والشركاء في شئ ربعاً كان أو غيره والربع هو العقار من الدور ونحوها إذا طلبها من الحاكم أن يقسمه بينهما اجابهما إليه وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو(11/488)
يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ان كان عقاراً نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطاً للميت وما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثاً لأنه يثوى ويهلك وقسمته تحفظه وكذلك العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر قول الشافعي
أنه لا يقسم عقاراً كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو دفع بعد ذلك إلى حاكم آخر سهل أن يجعله حكماً لهم ولعله أن يكون لغيرهم ولنا ان اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف فيه ويجوز شراؤه منهم واتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القصة إني قسمته بينهم بإقرارهم لا عن بينة شهدت لهم انه ملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح لأن الظاهر تملكهم ولا حق للميت فيه إلا أن يكون عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به في غير العقار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث * (مسألة) * (وهذه القسمة جارية مجرى البيع لما فيها من الرد وبهذا يصير بيعا) لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع ولا يجبر عليها الممتنع منها لما روى مالك في موطئه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال(11/489)
" لا ضرر ولا ضرار " ولأنه لا يجير على بيع ملكه فلا يجبر على قسمته لأنها بيع ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع كذلك (فصل) وهل تلزم قسمة التراضي بالقرعة إذا قسمها الحاكم أو رضوا بقاسم يقسم بينهم؟ فيه وجهان (أحدهما) تلزم كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه (والثاني) لا تلزم الا في البيع والبيع لا يلزم الا بالتراضي لا بالقرعة وإنما القرعة فيه لتعريف البائع من المشتري، فأما أن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فأختار ويلزم ههنا بالتراضي والتفرق كما يلزم البيع.
* (مسألة) * (والضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم في ظاهر كلام أحمد ولا ينتفعان به مقسوما في ظاهر كلام الخرقي) اختلفت الرواية في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي هو ما لا يمكن أحدهما معه
الإنتفاع بنصيبه مفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعاً ضيقاً لا ينتفع به ولو امكن أن ينتفع به في شئ غير الدار لم يجبر على القسمة أيضاً لأنه ضرر يجرى مجرى الإتلاف(11/490)
(والرواية الأخرى) أن المانع من القسمة هو أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة سواء انتفعوا به مقسوماً أو لم ينتفعوا.
قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فإن كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطي الثمن فأعتبر نقصان الثمن وهذا الظاهر من كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي شرعاً وقال مالك يجبر الممتنع وإن استضر قياساً على ما لا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " من المسند ولأن في قسمته ضرراً فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولأن في قسمته إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولا يصح القياس على ما لا ضرر فيه لما بينهما من الفرق * (مسألة) * (وإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث ينتفع صاحب الثلثين بقسمها ويتضرر الآخر فطلب من لا يتضرر القسم لم يجبر الآخر عليه وإن طلبه الآخر أجبر الأول وقال القاضي إن طلبه الأول أجبر الآخر وإن طلبه المضرور لم يجبر الآخر) أما إذا طلب القسمة من لا يتضرر لم يجبر الآخر ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمها وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وقال القاضي يجبر(11/491)
الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتميزه فوجبت اجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " ولأنها قسمة يضر بها صاحبه فلم يجبره عليها كما لو استضرا معاً ولأن فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعة ماله فإضاعة مال غيره أولى وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تعصبة على أهل الميراث
الا ما حصل القسم " قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئاً إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو على جميعهم ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وإن الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعاً كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما فتعين الضرر من المانع في جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا معاً، فأما إذا طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه كما لا ضرر فيه يحققه إن ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا ضرر عليه فصارت كما لا ضرر فيه، وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر الممتنع عن القسمة لنهي(11/492)
النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولأن طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب إجابته إلى السفه قال الشريف متى كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة، وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها وجبت وإن استضر بها الغالب فعل وجهين وقال مالك تجب على كل حال (فصل) ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب صاحب النصف القسمة وجبت إجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين من غير ضرر فيصير حقهما لهما داراً وله النصف فلا يستضر واحد منهما ويحتمل ألا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بإفراد نصيبه وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم، وإن طلبا إفراد نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما أفراد نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه * (مسألة) * (وإن كان بينهما عبيد أو بهائم أو ثياب ونحوها فطلب أحدهما قسمها أعياناً بالقيمة لم يجبر الآخر عليه وقال القاضي يجبر) أما إذا اتفقا على القسمة جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر ويوم حنين وهي
تشتمل على أجناس المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو اتفقا على قسمتها أعياناً بالقيمة وإن(11/493)
طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته إن أمكن وإن طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا تمكن قسمته إلا بأخذ عوض من غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر أناء أو رد عوض لم يجبر الممتنع وإن أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا أعرف في هذا عن إمامنا رحمه الله رواية ويحتمل أن لا يجبر الممتنع عليه وهو قول بن خيران من أصحاب الشافعي لأن هذا إنما يقسم أعياناً بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بأن يأخذ هذا دارا وهذا داراً كالجنسين المختلفين ووجه الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس أو احد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أرض القرية تختلف لا سيما إذا كانت ذات أشجار مختلفة وأرض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف لا يمنع الإجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فإنه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا لا يمكن قسمة كل ثوب منها أثواباً على حدته فإن كانت الثياب أنواعاً كالحرير والقطن والكتان فهي كالأجناس فكذلك سائر المال والحيوان كغيره من الأموال ويقسم النوع الواحد(11/494)
منه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسم إجبار لأن منافعه تختلف ويقصد منه العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكروه غير صحيح لأن القيمة تجمع ذلك وتعدله كسائر الأشياء المختلفة * (مسألة) * (وإن كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمته وإن استهدم لم يجبر على قسم عرصته وقال أصحابنا إن طلب قسمته طولاً بحيث يكون له نصف الطول في كمال العرض أجبر الممتنع
وإن طلب قسمه عرضاً وكانت تسع حائطين أجبر الا فلا) وجملة ذلك أن الشريكين إذا كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمه لأن قسمه إفراد حق أحد الشريكين من حق الآخر على وجه يمكن كل واحد منهما الانتفاع بحقه مفرداً ولا يمكن ذلك في الحائط لأنه إن طلب قسمته طولاً في كمال العرض فقطع الحائط ففيه إتلاف فإن لم يقطعه أفضى إلى الضرر لأن في ذلك تحميل أحدهما ثقلاً على نصيب صاحبه وإن طلب قسمته عرضا في كمال الطول لم يجبر الممتنع لأن فيه إفسادا وفيه وجه آخر أنه يجبر لأنه لا ضرر في قسمته وان اسهدم لم يجبر على قسم عرصته وقال أصحابنا إن طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال(11/495)
العرض أجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل أن لا يجبر لأنه يفضي إلى الا يبقى ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط وإن طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبني فيه حائطاً لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر بذلك وإن حصل له ما يمكن بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوماً ويحتمل ألا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفاً من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر * (مسألة) * (وإن كان بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما قسمها لأحدهما العلو وللآخر السفل أو كان بينهما منافع لم يجبر الممتنع من قسمها وإن تراضيا على قسمها كذلك وعلى قسم المنافع بالمهايأة جاز) إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فطلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر الآخر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس يتبعها في البيع والشفعة ولو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وإن طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان (احدهما) أن العلو تبع السفل ولهذا إذا بيعا ثبتت الشفعة فيهما وإذا افرد العلو بالبيع لم تثبت الشفعة فيه وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع بينهما والتبع بينهما فيصير التبع أصلاً (الثاني) إن السفل والعلو يجريان مجرى(11/496)
الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفرداً ولو كان بينهما دارن لم يكن لأحدهما المطالبة يجعل كل دار نصيباً كذلك ههنا (الثالث) إن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل نصيبا للفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقسم الحاكم فيجعل ذراعاً من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف ذراع بذراع.
وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه يرد بعضاً، وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة لا يحصل التمييز، وإن طلب أحدهما قسمة العلو منفرداً والسفل منفرداً لم يجب إليه لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان (فصل) وإن كان بينهما منافع فطلب أحدهما قسمها بالمهايأة لم يجبر الآخر لأن قسمة المنافع إنما تكون بقسمة الزمان والزمان إنما يقسم بأن يأخذ أحدهما قبل الآخر وهذا لا تسوية فيه فإن الآخر يتأخر حقه فلا يجبر على ذلك فأما أن تراضيا على قسمه العلو لاحدهما والسفل للآخر أو تراضيا على(11/497)
قسمة المنافع بالمهايأة جاز لأن الحق لا يخرج عنهما فيجوز تراضيهما، وذكر ابن البناء في كتاب الخصال أن الشركاء إذا اختلفوا في منافع دار بينهما أن الحاكم يجبرهم على قسمها بالمهايأة أو يؤجرها عليهم * (مسألة) * (وإن كان بينهما أرض ذات زرع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع قسمت لأنه لا ضرر في قسمها ويجبر الممتنع) لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة وسواء خرج الزرع أو كان بذراً لم يخرج فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركاً كما لو باعا الأرض لغيرهما، وإن طلب أحدهما قسمة الزرع منفرداً لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة * (مسألة) * (وإن طلب قسمتها مع الزرع لم يجبر الآخر)
هكذا ذكره في الكتاب المشروح وهو قول الشافعي، وذكر في كتابه المغني والكافي أنه يجبر إذا كان الزرع قد خرج لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة إفراز حق وليست بيعاً وإن قلنا هي بيع لم يجز إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض، ويحتمل الجواز لأن السنبل ههنا داخل تبعاً للأرض، وليس بمقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها، وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من قسمها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معها كالقماش فيها(11/498)
ولنا أنه ثابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر في نقله * (مسألة) * (وإن تراضوا عليه والزرع قصيل أو قطن جاز) لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وإن كان بذراً أو سنابل قد اشتد حبها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز في البذر لجهالته وكونه لا يمكن إفرازه وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعاً للأرض فأشبه أساسات الحيطان وكذلك القول فيما اذا اشتد حبه فيه الوجهان (أحدهما) لا يجوز لافضائه إلى بيع السنبل بعضه ببعض (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعاً وقال القاضي يجوز في السنابل ولا يجوز في البذر لجهالته ووجه الجواز أنه يدخل تبعاً فلا يكون مانعاً من الصحة كما لو اشترى أرضاً فيها زرع واشترطه فإنه يملكه بالشرط، وإن كان بذراً مجهولاً * (مسألة) * (وإن كان بينهما نهر أو قناة أو عين ينبع ماؤها فالماء بينهما على ما اشترطا عند استخراج ذلك) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم) فإن اتفقا على قسمة بالمهايأة جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما، ولأن المنافع ملكهما فجاز قسمها كالأعيان والمهاياة أن يكون في يد كل واحد منهما مدة معلومة على قدر حقه من ذلك)(11/499)
* (مسألة) * (وإن أراد قسم ذلك بنصب خشبة أو حجر في مصدم الماء فيه ثقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز ويسمى المرار) لأن ذلك طريق إلى التسوية بينهما فجاز كقسم الأرض بالتعديل، وإن أراد أحدهما أن يسقى
بنصيبه أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر جاز لأنه من نصيبه فجاز التصرف فيه كيف شاء كسائر ماله وكما لو لم يكن له شريك، ويحتمل أن لا يجوز لأنه إذا جعل لهذه الأرض حقاً في الشرب من هذا النهر المشترك فربما أفضى إلى أن يجعل لها حقاً في نصيب شريكه لأنه إذا طال الزمان يظن أن لهذه الأرض حقاً من السقي من النهر المشترك فيأخذ لذلك أكثر من حقه ويجئ على أصلنا أن الماء لا يملك وينتفع بها كل واحد منهما على قدر حاجته * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (النوع الثاني قسمة الإجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات من جنس واحد سواء كان مما مسته النار كالدبس وخل التمر أو لم تمسه كخل العنب والألبان والأدهان فإذا طلب أحدهما قسمها وأبى الآخر أجبر عليه) أما المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها فيجوز قسمها لأن جواز قسم الأرض مع اختلافها يدل على جواز ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواء في ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان(11/500)
والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا أن القسمة بيع أو إفراز حق لأن بيعه جائز وإفرازه جائز فإن كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر الممتنع وإن طلب قسمها أعياناً لم يجبر الممتنع لأن هذا بيع نوع بنوع آخر، وليس بقسمة فلم يجبر عليه كغير الشريك فإن تراضيا عليه جاز وكان بيعاً يعتبر له التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض فيه، وسائر شروط البيع (فصل) إذا طلب أحد الشركاء القسمة وامتنع بعض الشركاء في الأرض والدور ونحوهما مما ذكرنا أجبر الممتنع على القسمة بثلاثة شروط (أحدها) أن يثبت عند الحاكم ملكهم ببينة لأن في الإجبار عليها حكما على الممتنع منها فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضاء فإنه لا يحكم على أحدهما إنما يقسم بقولهما ورضاهما
(الشرط الثاني) ألا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجه، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا ضرر ولا ضرار (الشرط الثالث) أن يمكن تعديل السهام من غير شئ يجعل معها فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع لأنها تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين، ومثال ذلك ارض قيمتها مائة فيها شجرة(11/501)
وبئر يساوي مائتين فإذا جعلت الأرض سهماً كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسون يردها عليه من لم تخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع.
الا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة والبئر بالثمن الذي أخذه.
والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع من القسمة عليها لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من إحداث الغراس والبناء فيه والإجارة والعارية، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك فوجب أن لا يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " وقد اختلف في الضرر المانع من القسمة وقد ذكرناه * (مسألة) * (وهذه القسمة إفراز حق (أحدهما) من الآخر وليست بيعاً) وهذا أحد قولي الشافعي وفي الآخر هي بيع وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا يجب فيها شفعة ويلزم بإخراج القرعة ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامه فلم تكن بيعاً كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا(11/502)
والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما يشترط فيه القبض في البيع إذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو بعضه وقفاً جازت قسمته وإن قلنا هي بيع انعكست هذه الأحكام، هذا إذا خلت
من الرد فإن كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبدل المال عوضاً عما حصل له من مال شريكه وهذا هو البيع فإن فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز وإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف، وإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وذلك جائز * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويجوز للشركاء أن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم وأن يسألوا الحاكم نصب قاسم فإن نصب الحاكم قاسماً فمن شرطه أن يكون عدلا عالماً بالحساب ليوصل إلى ذي حق حقه كما يلزم أن يكون الحاكم عالماً بالحكم ليحكم بالحق) وهذا قول الشافعي إلا أنه يشترط أن يكون حراً وإن نصبوا قاسماً بينهم فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة وإن كان كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً بالقسمة لم تلزم قسمته إلا بتراضيهم بها ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه * (مسألة) * (فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة لزمت القسمة) لأنها كالحكم من الحاكم ويحتمل أن لا تلزم فيما فيه رد بخروج القرعة حتى يرضيا بذلك لأن(11/503)
ما فيه رد بيع حقيقة لأن صاحب الرد يبدل عوضاً لما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع والبيع لا يلزم بالقرعة * (مسألة) * (وإذا كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأنها شهادة بالقيمة فلم يقبل فيها أقل من اثنين كسائر الشهادات وإن لم يكن فيها تقويم أجزأ قاسم واحد) لأن القاسم يجتهد في التقويم وهو يعمل باجتهاده؟ أشبه الحاكم ومتى اقتسما بأنفسهما واقترعا لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما * (مسألة) * (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم قسمه وذكر في كتاب القسمة أنه قسمة بمجرد دعواهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم) لأن اليد دليل الملك وقال الشافعي لا يقسمه حتى يثبت عنده ملكهم وفي ذلك اختلاف ذكرناه في أول باب القسمة ولا يجب عليه أن يقسم بينهم في هذه الحال بل يجوز له ذلك وقد ذكرناه
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويعدل القاسم السهام بالأجزاء إن كانت متساوية وبالقيمة إن كانت مختلفة وبالرد إن كانت تقتضيه) القسمة على ضربين قسمة إجبار وقسمة تراض وقسمة الإجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد(11/504)
ولا تخلو من أربعة أقسام: (أحدهما) أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء متساوية (الثاني) أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء مختلفة (الثالث) أن تكون السهام مختلفة وقيمة الاجزاء مستاوية (الرابع) أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة فأما الأول فمثل أرض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية أبي داود إن شاء رقاعاً وإن شاء خواتيم يطرح ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال أخرج خاتماً على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصى أو غيرها جاز واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعاً متساوية بعدد السهام وهو ههنا مخير بين أن يخرج السهام على الأسماء أو يخرج الأسماء على السهام فإن أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق شمع أو طين متساوية القدر والوزن وتترك في حجر رجل لم يحضر القسمة ويقال له اخرج بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج على سهم آخر كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وإن اختار إخراج السهام على الأسماء في الرقاع أسماء السهام فيكتب في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفي الآخر الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج القرعة على واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وذكر(11/505)
أبو بكر إن البنادق تجعل طيناً وتطرح في ماء ويعين واحداً فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان معاً أعيد الإقراع والأول
أولى واسهل (القسم الثاني) أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما إلا أن التعديل ثم بالسهام وههنا بالقيمة (القسم الثالث) أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة كأرض بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس وأجزاؤها متساوية القيم فإنها تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس فيجعل ستة أسهم ويعدل بالأجزاء ويكتب ثلاث رقاع باسمائهم وبخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصف بغير قرعة وإن خرجت القرعة الثانية لصاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وإن خرجت القرعة الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع فإن خرجت لصحاب الثلث أخذه والذي يليه وكان السادس لصاحب السدس وإن خرجت الثانية لصاحالب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس وإن خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم تخرج الثانية على الثالث فإن خرجت لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس فإن(11/506)
خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ صاحب النصف ما بقي وقيل يكيب ست رقاع باسم صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه فإن المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فاغنى ولا يصح إن كتب رقاعاً باسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا أخرج واحدة فيها السهم الثاني لصاحب افيسدس ثم اخرج أخرى لصاحب النصف والثلث فيها السهم الأول احتاج أن يأخذ نصيبه متفرقا الستضر بذلك (القسم الرابع) إذا اختلفت السهام والقيمة فإن القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الأسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فضل بينهما إلا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة (فصل) إذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر
الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثرت المساكن وإن كان بينهما داران أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين ويجعل الباقي نصيباً للآخر لم يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجبر إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا أو تفرقتا لأنه انفع وأعدل وقال مالك وان كانت متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن(11/507)
المتجاورتين تتفاوت منفعتهما بخلاف المتباعدتين وقال أبو حنيفة ان كانت إحداهما احجزة الأخرى أجبر وإلا فلا لانهما يجريان مجرى الدار الواحدة ولنا أنه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقتين عند مالك وكما لو لم تكن حجزتها عند ابي حنيفة وكما لو كانتا داراً أو دكاناً مع أبي يوسف ومحمد الحكم في الدكاكين كالحكم في الدور ولو كانت لهما عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمتها عليها (فصل) وإن كان أرض واحدة تمكن قسمتها ويؤخذ فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع على قسمتها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم كل عين على حدتها وهو ظاهر كلام شيخنا في الكتاب المشروح وكذلك كل مقسوم إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال أصحاب الشافعي فمنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والردئ مثل ما للآخر وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها وإن لم تمكن القسمة بأن تكون العمارة والشجر والجيد لا يمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة(11/508)
عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة عليها وقال الشافعي في أحد القولين لا الممتنع من القسم عليها وقالوا إذا كانت الأرض ثلاثين جزءاً قيمة عشرة منها كقيمة عشرين لم تجبر الممتنع من القسمة عليها لتعذر التساوي في الذرع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إلا بأن يجعل
كل واحد منهما سهما كذا ههنا.
ولنا أنه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير ضرر ولا دعوض فوجبت قسمته كالدور ولأن ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه مكان لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية فأما إن كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد منهما سهما لم يجبر الآخر على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنها إذا بيع بعضها وجبت الشفعة لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لازالة ضرر الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة فيه لا تجب(11/509)
قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته يجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بدأ الصلاح في بعض البستان كان صلاحاً لباقيه إن كان كثيراً ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيراً.
(فصل) إذا كان بينهما ارض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي الآخر شجرة قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيباً والشجرة مع النصف نصيباً، فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض، فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل لم يمكن التعديل إلا بقسمة البئر أو الشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها مائة فجعلناها سهماً والشجرة سهماً لم يحصل مع البئر والشجرة شئ من الأرض فتصير هذه كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة إجبار، وإن كانت الأرض كثيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقي منها شئ مع البئر والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فتجعل مائة وخمسين سهما ويصير إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ، وكذلك لو كانوا
أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا نجعل ثلثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأرادا قسمة البئر والشجر دون الأرض لم تكن قسمة إجبار ولو قسماها بشجرها كانت قسمة إجبار لأن الشجر يدخل تبعاً للأرض فيصير الجميع كالشئ الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شئ من الأرض بشجرة وإذا قسم ذلك(11/510)
دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشئ واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين المفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة.
(فصل) وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح، وقد روي أن علياً رضي الله عنه اتخذ قاسماً وجعل له رزقا من بيت المال، فان لم يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا إلى قاسم أجرة ليقسم بينكما، فإن استأجره كل منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز، وإن استأجروه جميعا أجارة واحدة ليقسم بينهم بأجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الأجر بقدر نصيبه من المقسوم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد رؤوسهم لأن عمله في نصيب أحدهما مثل عمله في نصيب الآخر، وسواء تساوت سهامهم أو اختلفت فكان الأجر بينهم سواء.
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الأملاك كنفقة العبد، وما ذكروه لا يصح لأن العمل في أكبر النصيبين أكثر الا ترى أن المقسم إذا كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير أكثر عملا من كيل القليل وكذلك الوزن والذرع، وعلى أنه يبطل بالحافظ فإن حفظ القليل والكثير سواء ويختلف أجره باختلاف المال.
(فصل) وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقسمة لأنها حق له ولنا أن الأجرة تجب بإفراز الأنصباء وهم سواء فيها فكانت الأجرة عليهما كما لو تراضوا عليها * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (إذا ادعى بعضهم غلطا فيما تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على
يراضيهم به لم يلتفت إليه، وإن كان فيما قسمه قاسم الحاكم فعلى المدعي البينة وإلا فالقول قول المنكر(11/511)
مع يمينه وإن كان فيما قسمه حاكمهم الذي نصبوه وكان فيما اعتبرنا فيه الرضى بعد القرعة لم تسمع دعواه وإلا فهو كقاسم الحاكم.
وجملة ذلك أنه إذا ادعى بعض المتقاسمين غلطاً في القسمة وأنه أعطي دون حقه وكانت قسمة تلزم بالقرعة من غير تراض منهم فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا ببينة، فإن أقام شاهدين عدليل نقضت القسمة وأعيدت، وإن لم تقم بينة عادلة وطلب يمين شريكه أنه لا فضل معه أحلف له، وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، وإن كان مما لا يلزم الا بالتراضي كالذي قسماها بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى ادعاء الغلط وهو الذي ذكره الأصحاب وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاؤه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه، قال شيخنا والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو أشهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله، وقولهم أن حقه في الزيادة سقط برضائه ممنوع فإنه إنما يسقط إذا علمه، أما إذا ظن أعطي حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حق كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة أقفزة راضيا بذلك ثم تعين له ثمانية وادعى المسلم اليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضا به ولا يمتنع سماع دعواه وبينته ولأن المدعى عليه في مسئلتنا لو فرط بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة باقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيمن باع داراً على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن البيع باطل في أحد الوجهين، وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من النقص، ولأن من رضي بشئ بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئاً وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقاً(11/512)
فإن قيل فلم لم يعط المظلوم حقه في هاتين المسئلتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم؟ قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قديم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بخلاف مسئلتنا.
* (مسألة) * (وإن تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهم شئ معين بطلت القسمة وإن كان شائعاً فيهما فعلى وجهين) إذا اقتسم الشريكان شيئاً فبان بعضه مستحقاً وكان معيناً في نصيب أحدهما بطلت القسمة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك مع علمهما بالحال، وأما إذا بان عيب نصيب أحدهما فيحتمل أن تمنع المسألة ونقول بطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل ان أن يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولأن القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر مثل ان يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه ونحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا(11/513)
يمنع التعديل فإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من الآخر بطلت القسمة لما ذكرناه، وإن كان مشاعا فيهما بطلت لأن الثالث شريكهما ولم يحضر ولا إذن فأشبه ما لو كان لهما شريك يعلمانه فاقتسما دونه، وفيه وجه آخر أنها لا تبطل لأنه يأخذ من كل واحد منهما مثل ما يأخذ من الآخر ويصير مع كل واحد قدر حقه فأشبه ما لو كان المستحق معينا في نصيبهما على السواء * (مسألة) * (وإن اقتسما دارين قسمة تراض فبنى أحدهما في نصيبه ثم خرجت الدار مستحقة فقلع بناؤه رجع بنصف قيمته على شريكه)
هكذا ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن ليس له الرجوع عليه بشئ لأنه غرس وبنى بإختياره فلم يرجع بنقص ذلك على غيره كما لو بنى في ملك نفسه ولنا أن هذه القسمة بمنزلة البيع فإن الدارين لا تقتسمان قسمة إجبار على أن يكون كل واحد منهما نصيباً وإنما يقتسمان كذلك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم انت مستحقة رجع عليه بالبناء كله وإن باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج في كل قسمة جارية مجرى البيع وهي قسمة التراضي كالذي فيه رد عوض وما لا يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك فإما قسمة الاجبار إذا ظهر نصيب أحدهما مستحقاً بعد البناء والغرس فيه فينقض البناء ويقلع الغرس فإن قلنا القسمة بيع فكذلك وإن قلنا ليست بيعاً لم يرجع لأن شريكه لم يضره ولم ينتقل إليه من جهته بيع وإنما فرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه قول الاصحاب * (مسألة) * (وإن خرج في نصيب أحدهما عيب فله فسخ القسمة إذا لم يعلمه أو الرجوع بارش العيب) لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري ويحتمل أن تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط ولم يوجد بخلاف البيع(11/514)
* (مسألة) * (وإذا اقتسم الورثة العقار ثم ظهر على الميت دين فإن قلنا هو إفراز حق لم تبطل القسمة، وإن قلنا هي بيع انبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين هل يجوز؟ على وجهين) وجملة ذلك أن تركة الميت يثبت فيها الملك لورثته سواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد فيمن أفلس ثم مات فقال قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها الى الورثة وإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شئ منها، وقال أبو سعيد الاصطخري يمنع بقدره وقد أومأ إليه أحمد فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم داراً وعليه دين فقال أحد البنين أنا أعطي ودعوا لي الربع فقال أحمد هذه الدار للغرماء لا يرثوا شيئاً حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنقل إليهم عنده لأنه منع الوارث من إمساك بدفع قيمته
لأن الدين لم يثبت في ذمة الورثة فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الاول ولهذا قلنا ان الغريم لا يحلف على دين الميت لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبد ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه لا ينتقل الى الورثة أو الى الغرماء أو يبقى للميت أو لا يكون لأحد، لا يجوز أن ينتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم لزمهم نفقة الحيوانات وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم، ولا يجوز أن يبقى للميت لأنه لم يبق أهلا للملك، ولا يجوز أن يكون لأحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك، ولأنها لو بقيت بغير مالك لابيحت لأن يتملكها كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت الى الورثة فعلى هذا إذا تمت التركة ثم إن غلبت الدار او اثمرت النخيل او نتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه اشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الاول قال تعلق حق الغرماء بالرهن آكد لا يثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع المتصرف فيه وهذا يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه اشبه الجاني وعلى الرواية الأخرى يكون حكمه حكم(11/515)
التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى هذا إن تصرف الورثة في التركة ثم إن غلت الدار او اثمرت النخيل او نتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه اشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به حق الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الاول قال تعلق حق الغرباء بالرهن آكد لا يثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف فيه وهذا يثبت بغير رضاء المالك فلم يمنع التصرف لأنه اشبه الجاني وعلاى لرواية الاخرى يكون حكمه حكم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها فعلى هذا إن تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين وإلا نقضت تصرفاتهم كما إذا تصرف السيد في العبد الجاني ولم يود الجناية وعلى الروية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم يملكوه والأول أولى إن شاء الله تعالى (فصل) وإن اقتسم الورثة تركة الميت ثم ظهر عليه دين لا وفاء له إلا ما اقتسموه لم تبطل القسمة إذا قلنا هي إفراز حق لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع تصرف الوارث فيها كما لا يمنع تصرف السيد في
العيد الجاني لكن إن امتنعوا من وفاء الدين بيعت في الدين وبطلت القسمة لأن الدين يقدم على الميراث لقوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) فإن وفي أحدهما دون الآخر صح في نصيبه وبيع نصيب الآخر فإن قلنا أن القسمة بيع انبنى على بيع التركة وفيه وجهان ذكرنا دليلهما في المسألة قبل هذا فإن قلنا يجوز لم تبطل القسمة وإن قلنا لا يجوز فالقسمة باطلة لأنه بيع فإن قضوا الدين أعادوها وإلا بيع في قضائه والخلاف في ذلك بني على الخلاف في انتقال التركة إلى الورثة إذا كان على الميت دين وفيه روايتان ذكرناهما والمختار منهما والله أعلم (فصل) قال أحمد في قوم اقتسموا دار أو حصل لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم باعوا الدار جملة قسمت الدار بينهم على قدر الأذرع يعني أن الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم فيها(11/516)
وهذا محمول على ان زيادة أحدهما في الأذرع لزيادة ملكه فيها مثل أن يكون لأحدهما الخمسان فيحصل له أربعون ذراعاً وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون ذراعاً فإن الثمن يقسم بينهم أخماساً على قدر ملكهما في الدار، فأما إن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما أخذ صاحبها كدار تكون بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعاً وأخذ الآخر من رديئها ستين فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فلذلك تعدل بها في الثمن، وقال أحمد رحمه الله في قوم اقتسموا داراً كانت أربعة أسطحة يجري عليها الماء من أحد الأسطحة فلما اقتسموا أراد أحدهما منع جريان لآخر عليه وقال هذا شئ قد صار لي قال إن كان بينهما شرط برد الماء فله ذلك وإن لم يشترط فليس له منعه ووجه ذلك أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن يملك كل واحد حصته بحقوقها كما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها فيما كان يجري إليه معتاداً له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الإطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم * (مسألة) * (وإن اقتسما فحصلت الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة) لأن القسمة تقتضي التعديل.
والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل، ولأن من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما أخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع
فيحصل له أربعون ذراعاً وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون ذراعاً فإن الثمن يقسم بينهم أخماساً على قدر ملكهما في الدار، فأما إن كانت زيادة الاذرع لرداءة ما أخذ صاحبها كدار تكون بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعاً وأخذ الآخر من رديئها ستين فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فلذلك تعدل بها في الثمن، وقال أحمد رحمه الله في قوم اقتسموا داراً كانت أربعة أسطحة يجري عليها الماء من أحد الأسطحة فلما اقتسموا أراد أحدهما منع جريان لآخر عليه وقال هذا شئ قد صار لي قال إن كان بينهما شرط برد الماء فله ذلك وإن لم يشترط فليس له منعه ووجه ذلك أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن يملك كل واحد حصته بحقوقها كما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها فيما كان يجري إليه معتاداً له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الإطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم * (مسألة) * (وإن اقتسما فحصلت الطريق في نصيب أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت القسمة) لأن القسمة تقتضي التعديل.
والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل، ولأن من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما أخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع به، وهذا لا ينتفع به آخذه، فإن كان قد أخذه راضياً عالماً بأنه لا طريق له جاز لأن قسمة التراضي بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز.
قال شيخنا وقياس المسألة التي قبل هذا أن الطريق تبقى بحالها في نصيب الآخر ما لم يشترط صرفها عنه كجري الماء * (مسألة) * (ويجوز للأب والوصي قسم مال المولى عليه مع شريكه) لأن القسمة إما افراز حق أو بيع وكلاهما جائز لهما.
ولأن في القسمة مصلحة للصبي فجازت كالشراء له، ويجوز لهما قسمة التراضي من غير زيادة في العوض لأن فيه دفعاً لضرر الشركة فأشبه ما لو باع لضرر الحاجة إلى قضاء الدين أو النفقة والله أعلم(11/517)
* (تم بحمد الله وعونه الجزء الحادي عشر من كتابي المغني والشرح الكبير) * * (ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء الثاني عشر منهما وأوله (كتاب الشهادات)) *(11/518)
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشهادات والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء - وقال سبحانه - وأشهدوا ذوي عدل منكم - وقال عزوجل - وأشهدوا إذا تبايعتم) وأما السنة فروى وائل بن حجر رضي الله عنه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يارسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي (ألك بينة؟ - فقال لا قال - فلك يمينه) قال يارسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ قال (ليس لك منه إلا ذلك) قال فانطلق الرجل ليحلف له فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن(12/2)
النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) قال الترمذي هذا حديث في إسناده
مقال والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه ضعفه ابن المبارك وغير إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا قال قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم ولأن العبرة تقتضي مشروعية الشهادة فإن الحاجة داعية إليها لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها قال شريح القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فافرغ الشفاء على الداء، واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما شاهده، وقيل لأن الشاهد يخبره ويجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق في المختلف فيه (مسألة) (تحمل الشهادة واداؤها فرض على الكفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين وإن لم يقم بها أحد تعينت على من وجد لقول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقال - ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات وقال اله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) إذا ثبت هذا فإذا دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو عدة لزمته الإجابة قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) فإن قام بافرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع، وإن امتنع الكل أثموا، وإنما يأثم(12/3)
الممتنع إذا لم عليه ضرر وكانت شهادته تنفع، فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممن لاتقبل شهادته أو يحتاج إلى التبذل في التزكية لم تلزمه لقول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإنه لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره وإذا كان ممن لا تقبل شادته لم تجب عليه لأن مقصود الشهادة لا يحصل منه وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه؟ فيه وجهان (أحدهما) يأثم لأنه قد تعين بدعاية ولأنه منهي عن الامتناع بقوله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) (والثاني) لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم تتعين في حقه كما لو لم يدع إليها فأما قول الله تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) فقد قرئ بالقتح والرفع فمن رفع فهو خبر معناه النهي ويحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون الكاتب فاعلا أي لا يضر الكاتب والشهيد من
يدعوه بألا يجيب أو يكتب ما لم يستكتب أو يشهد بما لم يستشهد (والثاني) أن يكون يضار فعل ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكاتب والشهيد بقطعهما عن شغلهما بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما (مسألة) (قال الخرقي ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ولا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك) قد ذكرنا أن الشهادة من فروض الكفايات فإن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيها سواه لزمه القيام بها، وإن قام بها من يكفي غيره سقط عنه اداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها(12/4)
جماعة فأداؤها واجب على الكل إذا امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها قول الله تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا - وقوله تعالى - يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط - وفي آية أخرى - كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) ولأن الشهادة أمانة فلزمه أداؤها كالوديعة (مسألة) (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه في أصح الوجهين) من له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنها أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا، وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذ الجعل لأن النفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين فإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل ألا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان وقال أصحاب الشافعي لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره؟ على وجهين (مسألة) (ومن كانت عنده شهادة في حد لله تعالى أبيح إقامتها ولم يستحب وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها في أحد الوجهين)(12/5)
يجوز للشاهد إقامة الشهادة في حدود الله تعالى من غير تقدم دعوى لأن أبا بكرة وأصحابه شهدوا على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم.
ولا يستحب أداؤها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ستر عورة ستره الله في الدنيا والآخرة) وللحاكم أن يعرض للشاهد بالوقوف عن الشهادة في أظهر الروايتين لما روى صالح في مسائله عن أبي عثمان النهدي قال جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فاستنكر ذلك ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر ما عندك يا سلح العقاب؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان والله لقد كدت أن يغشى علي فقال يا أمير المؤمنين رأيت أمرا قبيحا فقال الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد فأمر بأولئك النفر فجلدوا وفي رواية أنه لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي وأحد فقال عمر أرى شابا حسنا وأرجو أن لا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تعريض ظاهر (مسألة) (ومن كانت عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتى يسأله فإن لم يعلمها استحب له إعلامه بها وله إقامتها قبل ذلك) إذا كان المشهود له يعلم له شهادة عند إنسان لم يقمها الشاهد حتى يسأله صاحبها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون(12/6)
ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون) رواه البخاري فإن كان لا يعلمها استجب له إعلام صاحبها بها كالوديعة وله أداؤها قبل إعلامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) رواه أبو داود فيتعين حمل الحديث على هذه الصورة جمعا بين الخبرين (مسألة) (ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع) وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما يعلمه بدليل قول الله تعلى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) وقوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وتخصيص هذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر لأن مدرك
الشهادة الرؤية والسماع وهما بالبصر وقد روي عن ابن عباس أنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة قال (هل ترى المشس؟) قال نعم قال (على مثلها فاشهد أو دع) رواه الخلال بإسناده في جامعه.
إذا ثبت هذا فإن مدارك العلم كالشم والذوق واللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب (مسألة) (والرؤية تخص بالأفعال كالقتل والغصب والسرقة وشرب الخمر والرضاع والولادة وغيرها) فهذا لا يتحمل الشهادة إلا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا ومن ذلك الصفات المرئية في المبيع ونحوها فلا يرجع إلى غير ذلك(12/7)
(مسألة) (والسماع على ضربين سماع من المشهود عليه نحو الإقرار والعقود والطلاق) ونحو ذلك فيحتاج أن يسمع كلام المتعاقدين يقيناً ولا تعتبر رؤية المتعاقدين إذا عرفهما وتيقن أنه كلامهما وبهذا قال ابن عباس والزهري وربيعة والليث وشريح وعطاء وابن أبي ليلى ومالك، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط ولنا أنه عرف المشهود عليه يقيناً فجازت شهادته عليه كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقيناً، وقد يحصل العلم بالسماع يقيناً وقد اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن (فصل) إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه حاضرا كان أو غائبا، وإن لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز أن يشهد عليه حاضراً بمعرفة عينه نص عليه أحمد قال مهنا سألت أحمد عن رجل يشهد لرجل بحق له على آخر وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا إلا أنه يشهد له فقال إذ قال أشهد أن لهذا على هذا وهما شاهدان جميعاً فلا بأس وإذا كان غائباً فلا يشهد حتى يعرف اسمه، والمرأة كالرجل في أنه إذا عرف اسمها جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وإن لم يعرفها(12/8)
لم يشهد عليها إلا في حال حضورها، قال أحمد في رواية الجماعة لا تشهد إلا لمن تعرف وعلى من تعرف ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها، وإن كانت ممن عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد، فأما إن لم يعرفها فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها.
قال أحمد لا تشهد على امرأة حتى تنظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها ويعرف صوتها يقيناً فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده من يعرفه فروي عن أحمد أنه قال لا يشهد على شهادة غيره إلا بمعرفته لها، وقال لا يجوز للرجل أن يقول للرجل أشهد أن هذه فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه، وقال أحمد لا تشهد على امرأة إلا بإذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها إلا بإذن زوجها لما روى عمرو بن العاص قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء بالاذن أزواجهن رواه أحمد في مسنده فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن إقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح فجاز أن يشهد عليها به(12/9)
(فصل) إذا عرف الشاهد خطه ولم يذكر الشهادة فهل يجوز أن يشهد بذلك؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز، قال أحمد في رواية حرب فيمن يرى خطه وخاتمه ولا يذكر الشهاد: لا يشهد إلا بما يعلم، وقال في رواية يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة إلا هكذا؟ وقال في موضع آخر إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد إلا أن يكون منسوخاً عنده موضوعاً تحت ختمه وحرزه فيشهد وإن لم يحفظ، وقال أيضاً إذا كان ردئ الحفظ يشهد ويكتبهما عنده وهذه رواية ثالثة وهو أن يشهد إذا كانت مكتوبة عنده بخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزله القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه ولا يمضيه إذا لم كن كذلك (مسألة) (الضرب الثاني سماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك كالنسب
والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل وما أشبه ذلك) قال الخرقي وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب والولادة، أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب قال إبن المنذر لا أعلم أحداً من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت معرفته إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحداً من أقاربه، وقد قال الله تعالى (يعرفونه كما يعرفون ابناءهم) وكذلك الولادة واختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال(12/10)
أصحابنا هو تسعة أشياء النكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل وبهذا قال أبو سعيد الاصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع ولأنها شهادة بعقد فأشبه سائر العقود، وقال أبو حنيفة لا تقبل إلا في النكاح والموت ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال فشابه الدين، وقال صاحباه تقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس ولنا أن هذه تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع وقال: السماع في الأحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي أشهد ان داريختان لبختان وإن لم يشهدك وقيل له تشهد أن فلانة امرأة فلان ولم تشهد فقال نعم إذا كان مستفيضاً فأشهد أقول فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن خديجة وعائشة زوجتاه وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة، فإن قيل يمكنه العلم بذلك بمشاهدة السبب قلنا وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سبباً يقيناً فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيداً صاده غيره ثم انفلت منه وإن تصور ذلك فهو نادر وقول أصحاب الشافعي تمكن الشهادة على الوقف باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست بالعقود ههنا إنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد وكذلك الحرية والولاء(12/11)
وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مرتبة عليه فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة كالملك سواء (مسألة) (ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم في ظاهر كلام أحمد والخرقي وقال القاضي تسمع من عدلين فصاعداً) ذكره في المحرر لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي والقول الأول هو الذي تقضيه لفظة الاستفاضة فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنتين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع وقد ذكر شيخنا في كتاب المقنع الخلع فيما يثبت بالاستفاضة ولم يذكره في المغني ولا في الكافي ولا رأيته في كتاب غيره ولعله قاسه على النكاح والأولى أنه لا يثبت قياساً على الطلاق والنكاح بخلاف الخلع (مسألة) (وإن سمع إنساناً يقر بنسب أب أو ابن فصدقة المقر له جاز أن يشهد له به وإن كذبه لم يشهد وإن سكت جاز أن يشهد ويحتمل ألا يشهد حتى يتكرر) إذا سمع رجلاً يقول للصبي هذا ابني جاز أن يشهد به لأنه مقر بنسبه وإن سمع الصبي يقول هذا أبي فسكت الأب جاز أيضاً لأن سكوت الأب إقرار له والإقرار يثبت به النسب فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الإقرار لأن الإقرار على الانتساب الباطل غير جائز بخلاف سائر(12/12)
الدعاوي ولأن النسب يغلب فيه الإثبات ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح؟ ويحتمل أن لا يشهد حتى يتكرر ذكره أبو الخطاب لأن السكوت ليس بإقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار (مسألة) (وإن رأى شيئاً في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من النقض والبناء والإجارة والإعارة ونحوها جاز أن يشهد بالملك) قال ذلك أبو عبد الله ابن حامد وهو قول أبي حنيفة والاصطخري من أصحاب الشافعي ويحتمل أن لا يشهد الا باليد ولتصرف ذكره القاضي لأن اليد ليست منحصرة في الملك فإنه قد يكون باجارة
وإعارة وغضب ووكالة وهو قول بعض أصحاب الشافعي.
ووجه الأول أن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال كونها من غصب وإجارة أو نحو ذلك يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعاً كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير المالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ههنا، فإن قيل فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم، قلنا الظن يسمى علماً قال الله تعالى (فإن علمتموهن مؤمنات) ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجاز بالظن (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن شهد بالنكاح فلابد من ذكر شروطه وأنه تزوجها بولي(12/13)
مرشد وشاهدي عدل ورضاها لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد معتقداً صحة النكاح وهو فاسد فإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه؟ على روايتين مبنيتين على الروايتين فيما ادعاها وقد ذكرناه (مسألة) (وإن شهد بالرضاع فلابد من ذكر عدد الرضعات وأنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه) لأن الناس يختلفون في الرضعات وفي الرضاع المحرم فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولابد من ذكران ذلك في الحولين (مسألة) (وإن شهد بالقتل احتاج أن يقول ضربه بالسيف أو جرحه فقتله أو مات من ذلك فان قال جرحه فمات لم يحكم به) لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال شريح فمات منه أو فقتله؟ فأعاد القول الأول فأعاد عليه شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا مات منه فقال له شريح قم فلا شهادة لك رواه سعيد (مسألة) (ومن شهد بالزنا فلا بد أن يذكر بمن زنى؟ واين زنى؟ وأنه رأى ذكره في فرجها)
لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الجد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أوله في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا(12/14)
تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل الفعل فلا يعتبر ذكره كالزمان والأول أولى والزمان ممنوع في أحد الوجهين فإنه يشترط ذكره لتكون شهادتهم على فعل واحد لجواز أن يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر ولأن الناس اختلفوا في الشهادة في الحد مع تقادم الزمان فقال ابن أبي موسى لا تقبل لأن عمر قال من شهد على رجل بحد فلم يشهد حين يصيبه فإنما يشهد على ضغن وقال غيره من أصحابنا تقبل لأنها شهادة بحق فجازت مع تقادم الزمان كالقصاص ولأنه قد يعرض له ما يمنعه الشهادة في حينها ويتمكن منها بعد ذلك (مسألة) (ومن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر المسروق منه والنصاب والحرز وصفة السرقة) لاختلاف العلماء في ذلك (مسألة) (وإن شهد بالقذف فلابد من ذكر المقذوف وصفة القذف) لذلك (مسألة) (وإن شهدا أن هذا العبد ابن أمة فلان لم يحكم به حتى يقولا ولدته في ملكه) إذا ادعى عبداً أنه له فشهد له شاهدان أنه ابن أمته أو ادعى ثمرة شجرة فشهدت له البينة أنها ثمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدته قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة قبل ملكه إياها، وإن قالت البينة ولدته في ملكه أو أثمرتها في ملكه حكم له بالولد والثمرة لأنها شهدت أنها نماء ملكه ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادة بالملك السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق(12/15)
قلنا الفرق بينهما على تقديم التسليم أن النماء تابع للملك في الأصل فإثبات ملكه في الزمن الماضي على وجه التبع وجرى مجرى ما لو قال ملكته منذ سنة وأقام البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن الماضي تبعاً للحال فيكون له النماء فيما مضى، ولأن البينة ههنا شهدت سبب الملك وهو ولادتها أو وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في الزمن الماضي فقالت أفرضه ألفاً أو
باعه ثبت الملك وإن لم يذكره فمع ذكره أولى (مسألة) (وإن شهدت أنه اشتراها من فلان أو وقفها عليه أو أعتقها لم يحكم بها حتى يقولا وهي في ملكه) لما ذكرنا في المسألة قبلها ولأنه يجوز أن يبيع ويقف ويعتق ما لا يملك (مسألة) (وإن شهدان هذا الغزل من قطنه والطائر من بيضته أو الدقيق من حنطته حكم له بها) لأنه لا يتصور أن يكون الطير من بيضته قبل ملكه البيضة وكذلك الغزل والدقيق ولأن الغزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق أجزاء الحنطة تفرقت والطير هو البيض استحال فكأن البينة قالت هذا غزله ودقيقه وطيره وليس كذلك الولد والئمرة فأنهما غير الأم والشجرة ولو شهد أن هذه البيضة من طيره لم يحكم له يها حتى يقول باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا (فصل) وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه فشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً غيره سلم المال إليه سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، وإن قالا لا نعلم له وارثاً غيره في هذا البلد احتمل أن يسلم المال إليه واحتمل أن لا يسلم إليه حتى يستكشف القاضي عن خبره في البلدان التي سافر إليها)(12/16)
وجملة ذلك أن من ادعى أنه وارث فلان الميت فشهد له شاهدان أنه وارثه لا يعلمان له وارثاً غيره قبلت شهادتهما وسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والعنبري، وقال ابن أبي ليلى لا يقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواه ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فكفى فيه الظاهر من شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا وكذلك ذكره شيخنا ويحتمل أن لا يقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فأما إن قالا لا نعلم له وارثاً بهذه البلدة أو بأرض كذا وكذا احتمل أن يسلم المال إليه وبهذا قال أبو حنيفة كما لو قالا لا نعلم له وارثاً وذكر
ذلك مذهباً لأحمد واحتمل أن هذا ليس بدليل على عدم وارث سواه لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض ويعلمان له وارثاً في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا لا نعلم له وارثاً في هذا البيت وهذا قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو أولى إن شاء الله تعالى (فصل) إذا مات رجل فشهد رجلان أن هذا الغلام ابن الميت لا نعلم له وارثاً سواه وشهد آخران لاخران هذا الغلام بن هذا الميت لا نعلم له وارثاً سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب الغلامين منه ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز أن تعلم كل بينة ما لم تعلمه الأخرى.(12/17)
(مسألة) (وتجوز شهادة المستخفي) المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع إقراره ولا يعلم به مثل أن بجحد الحق علانية ويقر به سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعا إقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة، وهو قول الشافعي وروى عن أحمد رواية أخرى لا تسمع شهادته اختاره أبو بكر وابن أبي موسى وروي ذلك عن شريح والشعبي لأن الله تعالى قال (ولا تجسسوا) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة) يعني أنه لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته وحذره وقال مالك إن كان المشهود عليه ضعيفاً ينخدع لم يقبلا عليه وإن لم يكن كذلك قبلت.
ولنا انهما شهدا بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهما كما لو علم بهما.
(مسألة) (ومن سمع رجلاً يقر بحق أو يشهد شاهداً بحق أو سمع حاكماً يحكم أو يشهد على حكمه وإنفاذه جاز أن يشهد به في أحدى الروايتين ولا يجوز في الأخرى حتى يشهده على ذلك) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيمن سمع رجلاً يقر بحق فالمذهب أنه يجوز أن يشهد عليه وإن لم يقل للشاهد اشهد علي وهي التي ذكرها الخرقي وبه قال الشعبي والشافعي، وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر اشهد علي كما لا يجوز أن يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها ويقول له أشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين شهد، لأن المقر بالدين معترف أنه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون قد وفاه وعنه(12/18)
رواية رابعة إذا سمع شيئاً فدعي إلى الشهادة به فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال ولكن يجب عليه اذا شهد أن يشهد (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) قال إذا شهدوا وقال ابن أبي موسى إذا سمع رجلاً يقر لرجل بحق ولم يقل اشهد علي بذلك وسع الشاهد أن يشهد عليه فيقول أشهد أني حضرت إقرار فلان بكذا، وإن سمعه يقول اقترضت من فلان أو قبضت من فلان لم يجز أن يشهد وبه والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز أن يشهد به كما يجوز أن يشهد بما رآه من الأفعال فأما الشهادة على الشهادة فهي ضعيفة فاعتبرت تقويتها بالاسترعاء وذكر القاضي أن في الأفعال روايتين (إحداهما) لا يشهد به حتى يقول له المشهود عليه اشهد، قال شيخنا وهذا إن أراد به العموم في جميع الأفعال فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليه بالكلية فإن الغاصب لا يقول لأحد أشهد أني غصبت ولا السارق ولا الزاني وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة بالزنا فلم يقل عمر هل أشهدكم أولاً؟ ولا قاله للذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر ولا قاله عثمان للذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ولم يقل هذا أحد من الصحابة ولا غيرهم ولا بلغنا عن حاكم من حكام المسلمين في قديم الدهر وحديثه أنه رد شهادة على فعل بكون الشاهد لم يحملها فحصل ذلك إجماعاً ولان الشاهد مخبر صادق وهذا يحصل من غير أن يقال له اشهد وكذلك إن سمع(12/19)
الحاكم يحكم أو شهد على حكمه وإنفاذه جاز أن يشهد على ذلك في أظهر الروايتين والأخرى لا يجوز حتى يشهده ووجههما ما ذكرنا والله أعلم (فصل) ولو حضر شاهدان حساباً بين رجلين شرطا عليهما ان لا يحفظا عليهما شيئاً كان للشاهدين أن يشهدا بما سمعاه منهما ولم يسقط ذلك بشرطهما لأن للشاهد أن يشهد بما سمعه أو علمه وقد حصل ذلك سواء أشهده أو منعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورهما وعلى الجنايات بمشاهدتهما ولا يحتاجان إلى إشهاد وبه قال ابن سيرين ومالك والثوري والشافعي
(فصل) والحقوق على ضربين (أحدهما) حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص وحد القذف والوقف على آدمي معين فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا يستوفى إلا بعد مطالبته واذنه ولانه حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقديمها عليها (الضرب الثاني) اما كان حقاً لآدمي غير معين كالوقوف على الفقراء والمساكين أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة والوصية لشئ من ذلك أو نحو هذا، وما كان حقاً لله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة الكفارة قلا تفتقر الشهادة إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكرة وأصحابه على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظعون بشرب الخمر من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم(12/20)
ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضى منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد كتحريم الزوجة بالطلاق أو الظهار أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه الدعوى فلو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود عليه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وقال به أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فاشبه سائر حقوق ولنا انها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى كعتق الأمة وتخالف سائر حقوق الآدمي لأنه حق لله تعالى ولهذا لا يفتقر إلى قبول العتق ودليل ذلك الأمة وبه يبطل ما ذكروه فإن قال الأمة يتعلق بإعتاقها تحريم الوطئ قلنا هذا لا أثر له فإن البيع يوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة إلا بعد الدعوى (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهد أحدهما أنه غصبه ثوباً أحمر وشهد آخر انه غصبه ثوباً أبيض أو شهد أحدهما أنه غصبه اليوم وشهد الآخر أنه غصبه أمس لم تكمل البينة وكذلك كل شهادة على الفعل إذا اختلفا في الوقت) متى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه ديناراً يوم السبت بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوباً فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل
لم يشهد به شاهدان.
وهكذا إن اختلفا في زمن القتل ومكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف(12/21)
لم تكمل الشهادة لأن ما شهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان أو المكان، فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيساً أبيض وشهد الآخر أنه سرق مع الزوال كيساً أسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد الآخر أنه سرقه عشياً لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر تكمل الشهادة والأول أصح لأن كل فعل لم يشهده إلا واحد على ما قدمنا، فإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافاً يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعاً لأنه يكون إيجاب حق عليه بشهادة واحد ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في المكان أو الزمان أو الصفة ثبتا جميعاً لأن كلاً منهما قد شهد به بينة عادلة لو انفردت أثبتت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكراره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا نعلم أيتهما هي؟ بخلاف ما يتكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما يثبتان جميعاً إن أدعاهما وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه دون ما لم يدعه، وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيساً أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيساً أبيض أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشياً فقال القاضي يتعارضان وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلاً، قال شيخنا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض(12/22)
وأسود وتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن أن يسرق كيساً غدوةً ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشياً ومع إمكان الجمع لا تعارض فلي هذا ان ادعاهما المشهود له ثبتا له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل
واحد فلا يجب أكثر من ضمانه، وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه، وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما بسرقته من مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاها المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لأنه لم يدعه.
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم أو شهد أحدهما أنه باعه داره أمس وشهد آخر انه باعه إياها اليوم كملت البينة وثبت البيع والاقرار وكذلك كل شهادة على القول) أما إذا شهد أحدهما أنه أقر له بألف أمس وشهد آخر انه أقر له بألف اليوم كملت البينة، لأن الألف التي شهد بها أحدهما هي الألف التي شهد بها الآخر ولأن الشاهدين شهدا بألف وإن شهد أحدهما أنه باعه أمس وشهدا آخر انه باعه اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد آخر انه طلقها(12/23)
اليوم، فقال أصحابنا تكمل الشهادة وقال الشافعي لا تكمل لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغضب في وقتين.
ووجه قول اصحابنا إن المشهود به شئ واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحداً فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل إذا شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعاً لأن النكاح أمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل.
(مسألة) (وكذلك القذف إذا شهد أحدهما أنه قذفه غدوة وشهد الآخر أنه قذفه عشية أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية أو اختلفا في المكان لم يثبت القذف) لأن القذف في مكان غير القذف في المكان الآخر وكذلك الاختلاف في الزمان وقال أبو بكر يثبت
القذف لأن المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة واختلف الزمان والأول المذهب (فصل) في الشهادة على الإقرار بالفعل مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق(12/24)
أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أو أن له في ذمته كذا ويشهد الآخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص كملت شهادتهما، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال زفر لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة كالشهادة على الفعل ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيره من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا ويحقق ما ذكرناه أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات منفردة وأماكن مختلفة فيشهدهم على إقراره فإن كان الإقرار بفعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهما أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخرر أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي يشهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه أقر أنه غصبه دنانير وشهد الآخر أنه غصبه دراهم لم تكمل وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضي فلا تعتبر في الشهادة والأول أصح(12/25)
(فصل) فإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا العبد وشهد الآخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة ويحكم بها لأنه يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد الشاهد به فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة كما لو شهدا في وقتين على إقراره بالغصب وقال القاضي لا تكمل الشهادة ولا يحكم بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فإنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحد الشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين
ولأنه إذا أمكن جعل الشهادة على فعل واحد لم يحمل على اثنين كالإقرارين وكما لو شهد بالغصب إثنان وشهد على الإقرار به إثنان فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أقر بغصبه منه وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شئ واحد وإن شهد أنه اخذه من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فيرده إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى داراً في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما قال أشهد أن هذه الدار لفلان وقال الآخر أشهد أن هذه الدار دار فلان قال شهادتهما جائزة (مسألة) (وإن شهد شاهد أنه أقر له بألفين وشهد آخر انه أقر له بألف ثبت الألف ويحلف على الآخر مع شاهده إن أحب) وجملة ذلك أنه إذا شهد احد الشاهدين بشئ وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح ومالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد واسحاق وابي(12/26)
عبيد وحكي عن الشعبي أنه شهد عنده رجلان شهد أحدهما أنه طلقها تطليقة وشهد آخر انه طلقها تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تكمل الشهادة لأن الإقرار بالالف غير الاقرار بألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد.
ولنا أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يرد أحدهما على صاحبه وما ذكروه من أن كل إقرار إنما شهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه أقر بألف غدوة وشهد الآخر أنه أقر بألف عشياً فإن الشهادة تكمل مع أن كل إقرار إنما شهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق هذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلقا الشهادة أو لم تختلف الأسباب والصفات.
(فصل) إذا شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت الخمسمائة في الألف ووجب له الألف بالشاهدين، وإن اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً وشهد آخران له عليه ألفين فهل تكمل البينة على ألف؟ على وجهين) (أحدهما) : تكمل كالتي قبلها، (والثاني) : لا تكمل لأنه يحتمل أن يكون الألف المنفرد من غير الألفين.(12/27)
(مسألة) (وإن شهد أحدهما أن له عليه ألفاً من قرض وشهد آخران أن له عليه ألفاً من ثمن مبيع لم تكمل البينة) أما إذا اختلفت الأسباب والصفات مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وآخر بألف من ثمن مبيع أو يشهد شاهد بألف بيض وآخر بألف سود أو يشهد أحدهما بألف دينار والآخر بألف درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها أو يحلف مع أحدهما ويستحق ما شهد به (مسألة) (وإن شهد شاهدان أن له عليه ألفاً وقال أحدهما قضاه بعضه بطلت شهادته نص عليه وإن شهد أنه أقرضه ألفاً وقال أحدهما قضاه نصفه صحت شهادتهما) إذا شهدا أن له عليه ألفاً ثم قال أحدهما قضاه نصفه بطلت شهادته وهكذا ذكره أبو الخطاب وذلك بأنه شهد بأن الألف جميعه عليه فإذا قضاه بعضه لم يكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضاً فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه وهذا لا يقول ذلك على وجه الرجوع والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائه فإنه قال إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم قضاه منه خمسمائه أفسد شهادته والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائه فصحت شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه لأنه بمنزلة الرجوع عن الشهادة به فأشبه ما لو قال أشهد بألف بل خمسمائه قال أحمد ولو جاء(12/28)
بعد هذا المجلس فقال أشهد أنه قضاه منه خمسمائه لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه أراد إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم ولا
تقبل شهادته بانقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فألما إن شهد أنه أقرضه ألفاً ثم قال أحدهما قضاه منه خمسمائه قبلت شهادته في باقي الألف وجهاً واحداً لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف (مسألة) (وإن كانت له بينة بألف فقال أريد أن تشهدا لي بخمسمائة لم يجز) وعند أبي الخطاب يجوز قال أحمد إذ شهد على الف وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائتين فقال له صاحب الحق أريد أن تشهدا لي على مائة لم يشهد إلا بألف قال القاضي وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد لساغ للقاضي أن يقضي ببعض ما شهد به الشاهد وقال أبو الخطاب عندي يجوز بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد به بمائة وإذا شهد بمائة لم يكن كاذباً في شهادته فجاز كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة أخرى: قال شيخنا والأول أصح لما ذكر القاضي لأن شهادته بمائة ربما أوهمت أن هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي إلى إيجابها عليه مرتين قال أحمد إذا(12/29)
قال أشهد على مائة درهم ومائة درهم ومائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره إلا أن يقول أشهدوني على مائة ومائة ومائة يحكيه كله للحاكم كما كان (فصل) قال أحمد إذا شهد بألف درهم ومائة درينار فله دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي لانه لما جاز آن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز آن تحمل الشهادة عليه (فصل) إذا شهد شاهد انه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر انه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل البينة لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه فإن شهد بكل عقد شاهدان ثبت البيعان فإن أضافا البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهدا أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف وشهد آخر انه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما وكل بينة تكذب الأخرى وان شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون مع البينتين الكاملتين(12/30)
(باب شروط من تقبل شهادته) وهي ستة أحدها البلوغ فلا تقبل شهادة الصبيان وعنه تقبل ممن هو في حال العدالة وعنه لا تقبل إلى في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فالمشهور عنه أنها لا تقبل شهادة الصبي ما لم يبلغ روي هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم وسالم وعطاء ومكحول وابن أبي ليلى والاوزاعي والثوري والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رواية ثانية أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر قال ابن حامد فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض، وروي ذلك عن شريح والحسن والنخعي قال ابراهيم كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن مسروق قال كنا عند علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا إنا كنا ست غلمة تتغاط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الإثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة اخماس الدية وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق وعنه رواية ثالثة أن شهادتهم لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم وهو قول مالك لأن الظاهر صدقهم وضبطهم ولا تقبل بعد الإفتراق لأنه يحتمل أن يلقنوا.
قال ابن الزبير إن أخذوا عند مصاب(12/31)
ذلك فبالحري أن يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري أن شهادتهم جائزة ويستحلف أولياء المشجوج وذكره عن مروان والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شئ لقول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال سبحانه (ممن ترضون من الشهداء) والصبي لا يرضى وقال عزوجل (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) فأخبر أن الشاهد الكاتم لشهادته آثم والصبي لا يأثم فيدل على أنه ليس بشاهد ولأن الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فيزعه عنه ويمنعنه منه فلا تحصل الثقة بقوله ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الاقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون يحقق هذا أن
الاقرار اوسع لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولأن من لا تقبل شهادته في المال لا تقبل في الجراح كالفاسق (والثاني) العقل فلا تقبل شهادة معتوه ولا مجنون إلا من يخنق في الاحيان إذا شهد في حال إفاقته ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً قال إبن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو صغر لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله فأما من يخنق في الاحيان إذا شهد في حال إفاقته فتقبل شهادته لأنها شهادة من عاقل أشبه من يخنق(12/32)
(الثالث) الكلام فلا تقبل شهادة الأخرس نص عليه أحمد قيل له وإن كتبها؟ قال لا أدري وهو قول أصحاب الرأي وقال مالك والشافعي وابن المنذر تقبل إذا فهمت إشارته لفيامها مقام نطقه في كل أحكامه من كلامه ونكاحه وغير ذلك فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار وهو جالس إلى الناس وهو قيام (أن اجلسوا فجلسوا) ولنا انها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفي بايماء الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفي بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ولا ضرورة ههنا وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على الكلام وعمل بإشارته إلى الصلاة ولو شهد الناطق بالإشارة والايماء لم تصح شهادته إجماعاً فعلم أن الشهادة تفارق غيرها من الأحكام ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر احكامه والأول أولى لأنا إنما قبلنا إشارته فيما يختص به للضرورة ولا ضرورة ههنا (الرابع) الإسلام فلا تقبل شهادة كافر إلا أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم وحضر الموصي الموت فتقبل شهادتهم ويحلفهم الحاكم بعد العصر لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله وانها لوصية الرجل بعينه فإن عثر على أنهما استحقا إثما قام آخران من أولياء(12/33)
الوصي فحلفا بالله لشهادتنا احق من شهادتهما ولقد خانا وكتما ويقضي لهم وعنه أن شهادة بعض أهل
الذمة تقبل على بعض والأول المذهب وجملة ذلك أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شئ على مسلم ولا كافر إلا في الوصية في السفر على ما نذكره ذكره الخرقي، وروي ذلك عن أحمد نحو من عشرين نفساً وممن قال لا تقبل شهادتهم الحسن وابن أبي ليلى والاوزاعي ومالك وأبو ثور ونقل حنبل عن أحمد أن شهادة بعضهم تقبل على بعض وخطأه الخلال في نقله هذا وقال صاحبه أبو بكر هذا غلط لا شك فيه وقال ابن حامد بل المسألة على ووايتين قال ابو حفص البرمكي تقبل شهادة السبي بعضهم على بعض في النسب إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة بعضهم على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال الكفر ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على النصراني والنصراني على اليهودي هذا قول حماد وسوار والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وعن قتادة والحكم وأبي عبيد واسحاق تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي ويروى عن الزهري والشعبي كقولنا وقولهم، واحتجوا بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض رواه ابن ماجه ولأن بعضهم يلي على بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين ولنا قول الله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم -(12/34)
إلى قوله - ممن ترضون من الشهداء) والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا ولا من رجالنا ولا ممن نرضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي والخبر يرويه أهل مجلد وهو ضعيف وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) وأما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة وقرابتهم ثابتة وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين، وقد روي عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم
(فصل) فأما شهادة أهل الكتاب بوصية المسافر الذي مات في سفره إذا شهد بها شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهم إذا لم يوجد غيرهما من المسلمين ويستحلفان بعد العصر على ما ذكرنا في صدر المسألة قال إبن المنذر وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة ومن قاله شريح والنخعي والأوزاعي ويحيى بن حمزة وقضى بذلك عبد الله بن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي لا تقبل لأن من لا تقبل شهادته في غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء ومنهم قال المراد بقوله من غيركم أي من عشيرتكم ومنهم من قال المراد بالشهادة اليمين(12/35)
ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منك أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) الأية وهذا نص الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فروى ابن عباس قال خرج رجل من بني تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقد واجام فضة مخوصاً بالذهب فاحلفهما رسلو الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تيمم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا احق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) الآية وعن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وانها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواه أبو داود وروى الخلاف حديث أبي موسى باسناده وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح لأن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسره بما قلنا سعيد بن المسيب والحسن(12/36)
وابن سيرين وعبيدة وسعيد بن جبير وسليمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث التي رويناها ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان لأن الشاهدين من المسلمين لاقسامة عليهم وحملها على التحمل لا يصح لأنه أمر باحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله) ولأنه عطفها على ذوي العدل من المؤمنين وهما شاهدان وروى أبو عبيد في الناسخ المنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان قال أحمد أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الصحابة وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه (الخامس) أن يكون ممن يحفظ فلا تقبل شهادة مغفل ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان لان الثقة لا تحصل بقوله لاحتمال أن يكون من غلطه وتقبل شهادة من يقل ذلك منه لأن أحداً لا يسلم من الغلط.
(فصل) قال رحمه الله (السادس) (العدالة وهي استواء احواله في دينه واعتدال اقواله وافعاله وقيل العدل من لم تظهر منه ريبة ويعتبر له شيئان الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم وهو أن لا يرتكب كبيرة ولا يد من على صغيرة) فإن الله تعالى نهى ان تقبل شهادة القاذف(12/37)
فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى (الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم) قيل اللمم صغار الذنوب ولان التحرز منها غير ممكن وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن تغفر اللهم تغفر جما واي عبد لك لا ألما) اي لم يلم فان لامع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل وقيل اللمم ان يلم بالذنب ولا يعود فيه والكبائر كل ذنب فيه حد والاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين، وقد روى أبو بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس فقال - ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه قال أحمد لا تجوز شهادة
آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا من لا يؤدي زكاة ماله، وإذا اخرج في طريق المسلمين الاسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذ من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة.
وقال عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في حد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لاهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في قرابة ولا ولاء) وقد رواه أبو داود (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولان ذي غمر على أخيه) فاما الصغائر فان كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من امره الطاعات لم ترد لما ذكرنا من عدم إمكان التحرز منه.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة فاسق لقوله سبحانه وتعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم)(12/38)
وقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) الآية والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه وقد روي في الحديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو عبيد وكان أبو عبيد لا يرى الخائن والخائنة مختصا بامانات الناس بل جميع ما فرض الله تعالى على العباد القيام به واجتنابه من كبير ذلك وصغيره قال الله تعالى (انا عرضنا على السموات والارض والجبال) الآية وروي عن عمر أنه قال لا يؤسر رجل بغير العدول ولان دين الفاسق لا يزعه عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا تقرر هذا فالفسق نوعان: (احدهما) من جهة الأفعال فلا خلاف في رد شهادته (الثاني) من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضاً.
وبه قال مالك وشريك واسحاق وأبو عبيد وابو ثور قال شريك اربعة لا تجوز شهادتهم رافضي يزعم أنه له اماما مفترضة طاعته وخارجي يزعم ان الدنيا دار حرب وقد يزعم ان المشيثة إليه ومرجئ، ورد شهادة يعقوب وقال الا ارد شهادة قوم يزعمون ان الصلاة ليست من الأيمان؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب (ضرب) اختلفوا في الفروع
فهؤلاء لا يفسقون ولا ترد شهادتهم وقد اختلفت الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين(12/39)
(الثاني) من نفسقه ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو من سب الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك (الثالث) من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفى الرؤية واضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة وذكر القاضي أبو يعلى مثل هذا سواء قال: وقال أحمد ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية المعلنة وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الاهواء وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي إلا أن يكون ممن يرى الشهادة بالكذب كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الاسلام أشبه الاختلاف في الفروع ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الافعال.
(مسألة) (ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على قبول شهادة الفاسق من جبة الاعتقاد المتدين به إذا لم يتدين بالشهادة لموافقيه على مخالفيه كالخطابية.
وكذلك قال أبو الخطاب.
وروى عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية فكذلك الشهادة.(12/40)
ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأنه فاسق فترد شهادته للآية (مسألة) (فأما من فعل شيئاً من الفروع المختلف فيها فتزوج بغير ولي أو شرب من النبيذ مالا يسكره أو أخر الحج مع امكانه ونحوه متأولاً فلا ترد شهادته) وإن فعله معتقداً تحريمه ردت شهادته.
ويحتمل أن لا ترد بنص عليه أحمد في شارب النبيذ يحد ولا ترد شهادته.
وبهذا قال لشافعي وقال مالك ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه
فأشبه المتفق على تحريمه ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه ولأنه فرع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم، فأما إن فعله معتقداً تحريمه ردت شهادته إذا تكرر ويحتمل أن لا ترد وبه قال أصحاب الشافعي لأنه فعل لا يرد شهادة بعض الناس فلا يرد شهادة البعض الآخر كالمتفق على حله ووجه الأول أنه فعل محرم على فاعله ويأثم به فأشبه المتفق على تحريمه، وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد فيمن يجب عليه الحج فلا يحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور فأما من يعتقد أنه على التراخي وبتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا وقيل ترد لأنه(12/41)
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج ضربت عليه الجزية ثم قال ما هم بمسلمين وما هم بمسلمين (مسألة) الثاني (استعمال المروءة وهو فعل ما يجمله ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه فلا تقبل شهادة المصانع، والمتمسخر، والمغني، والرقاص، واللاعب بالشطرنج، والنرد، والحمام والذي يتغدى في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس ويحدث بمباضعته أهله وأمته ويدخل الحمام بغير مئزر ونحو ذلك) المروءات اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان (أحدهما) في الأفعال كالأكل في السوق وهو الذي ينصب مائدة في السوق ويأكل والناس ينظرون إليه ولا يعني أكل شئ يسير كالكسرة ونحوها، وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو أمته أو غيرهما بحضرة الناس الخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله أو نحو هذا من الأفعال الدنيئة فلا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن(12/42)
رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة ولا تحصل الثقة بقوله قال أحمد في رجل شتم بهيمة
قال الصالحون لا تقبل شهادته حتى يتوب، وقد روى ابن مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يعني من لم يستح صنع ما شاء ولان المروءة تمتنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه دو المروة وإن لم يكن ذا دين فقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته قال والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولأن الكذب دناءة والمروءة تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئاً من هذا مختفياً به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئاً قليلاً لم ترد شهادته لأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا ما لم يكن عادة(12/43)
(فصل في اللعب) كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فالمحرم اللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وقال بعضهم هو مكروه غير محرم.
ولنا ما روى أبو موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنرد شير فقد عصى الله ورسوله) .
وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه)) رواه أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم.
إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب به قماراً أو غير قمار وهو قول أبي حنيفة ومالك وظاهر مذهب الشافعي.
وقال مالك: من لعب بالشطرنج والنرد فلا أرى شهادته إلا باطلة لأن الله تعالى قال (فماذا بعد الحق إلا الضلال) وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال (فصل) والشطرنج كالنرد في التحريم إلا أن تحريم النرد آكد لورود النص في تحريمه وهذا
في معناه فيثبت فيه حكمه قياساً عليه، وذكر القاضي أبو الحسين ممن ذهب إلى تحريمه علي بن أبي طالب(12/44)
وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والقاسم وسالما وعروة ومحمد بن علي بن الحسين ومطر الوراق ومالكا وأبا حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمه نص ولا هو في معنى المنصوص عليه فيبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين (أحدهما) أن في الشطرنج تدبير الحرب فأشبه اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل (والثاني) أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام ولنا قول الله سبحانه وتعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) قال علي رضي الله عنه الشطرنج من الميسر ومر رضي الله عنه على قوم فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ قال أحمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه وروى واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن لله عزوجل في كل يوم ستمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب (ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد وقولهم لا نص فيها وقد ذكرنا فيها نصاً وهو في معنى المنصوص على تحريمه وقولهم إن فيها تدبير الحرب قلنا لا يقصد هذا(12/45)
منها وأكثر اللاعبين بها انما يقصدون منها اللعب والقمار وقولهم إن المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ في اشغاله بها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة.
إذا ثبت هذا فقال أحمد النرد أشد من الشطرنج إنما قال ذلك لورود النص في النرد بخلاف الشطرنج.
إذ ثبت هذا فقال القاضي: هو كالنرد في رد الشهادة وهو قول أبي حنيفة ومالك لاشتراكهما في التحريم وقال أبو بكر إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب أو نحوه من المحرمات أو يلعب بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف
به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه أشبه سائر المختلف فيه (فصل) فأما اللاعب بالحمام يطيرها فلا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام ولأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران وإشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبع حماماً فقال (شيطان يتبع شيطانة) فإن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للانس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس فلا بأس، وقد روى عبادة بن الصامت أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم (فشكا إليه الوحشة فقال (اتخذ زوجاً من الحمام)(12/46)
(فصل) فأما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الأقدام فمباحة ولا دناءة فيها ولا ترد بها الشهادة وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناها من الثقاف واللعب بالحراب وقد لعب الحبشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بالحراب وقامت عائشة رضي الله عنها تنظر اليهم وتستتر به حتى ملت وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضرارا ولا شغلاً عن فرض فالأصل إباحته فما كان فيه دناءة ينرفع عنه ذووا المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهراً وتكرر منه ومالا دناءة فيه لم ترد الشهادة به بحال (مسألة) (فأما الشين في الصناعة كالحجام والحائك والنخال والنفاط والقمام والزبال والمشعوذ والدباغ والحارس والكناس فهل تقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم؟ على وجهين) الصناعات الدنيئة كالكساح والكباش لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلاً أتى ابن عمر فقال له إني رجل كناس فقال له أي شئ تكنس؟ الزبل قال لا قال فالعذرة؟ قال نعم قال الأجر خبيث وما تزوجت فخبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح ولأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فأما الزبال ونحوهم ففيه وجهان (أحدهما) لا تقبل شهادتهم لأنها دناءة تجتنبها أهل المروءات فهو كالذي قبله (والثاني) يقبل لأن بالناس إليه
حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجهاً واحداً، وأما الحائك والحارس والدباغ فهو أعلى من هذه الصنائع فلا ترد به(12/47)
الشهادة وذكر شيخنا فيها وجهين وكذلك ذكرها أبو الخطاب والأولى قبول شهادة الحائك والحارس والدباغ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءات وأما سائر الصنائع التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذباً أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهم يؤخر الصلاة عن أوقاتها ولا يتنزه عن النجاسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتق ذلك ردت شهادته (فصل في الملاهي) وهي على ثلاثة أضرب: محرم وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادته لأنه بروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا ظهر في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء) ذكر منها إظهار المعارف والملاهي وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام) يعني الضاربات وروى نافع قال سمع ابن عمر مزماراً فوضع اصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال فقلت لا قال فرفع اصبعيه من أذنيه وقال(12/48)
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه أبو داود في سننه وقال حديث منكر وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا لو كان حراماً لمنع النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر من سماعه ومنع ابن عمر نافعاً من استماعه ولأنكر على الزامر بها قلنا الأول لا يصح لأن المحرم استماعها دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا على من سمع شيئاً محرماً سد أذنيه قال الله تعالى (وإذا
سمعوا اللغو أعرضوا عنه) ولم يقل سدوا آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من ابن عمر وإنما وجد السماع ولأن بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معرفة انقطاع سماع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق ولا يرفع اصبعيه من أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة وأما الانكار لعله كان في أول الهجرة حينما لم يكن الإنكار واجباً أو قبل إمكان الإنكار لكثرة الكفار وقلة أهل الإسلام فإن قيل فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود رواه وقال هو حديث منكر قلنا قد رواه الخلال من طريقين فلعل أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين (وضرب مباح) وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يروى عن عمر أنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر فان كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد الدرة(12/49)
ولنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة جاءته فقالت إني نذرت إن رجعت من سفرك سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أوف بنذرك) رواه أبو داود ولو كان مكروهاً لم يأمرها به وإن كان منذوراً، وروت الربيع بنت معوذ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة بنى بي فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من أبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن وفينا نبي يعلم ما في غد فقال دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين) متفق عليه فأما الضرب به للرجال فهو مكروه على كل حال لأنه إنما يضرب به النساء والمخنثون، والمشبهون بهن ففي ضرب الرجال به تشبه بالنساء.
فأما الضرب بالقضيب فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم كالتصفيق والغناء والرقص وإن خلا عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة لهو ولا بطرب ولا يسمع منفرداً بخلاف الملاهي، ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا (فصل) واختلف أصحابنا في الغناء فذهب الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته قال أبو بكر عبد العزيز الغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن فإن الخلال يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه، وروي عن أحمد أنه سمع من عند ابنه صالح قوالاً فلم ينكر عليه، وقال له صالح يا أبه أليس كنت تكرههم؟ فقال قيل لي إنهم يستعملون
المنكر، وممن ذهب إلى إباحة الغناء من غير كراهة إبراهيم بن سعد وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال مزمور(12/50)
الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (دعها فإنها أيام عيد) متفق عليه، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال الغناء زاد الراكب واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي وقال من اللهو المكروه، وقال أحمد الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه قال أحمد فيمن مات وخلف ولداً يتيماً وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها تباع ساذجة قيل له إنها تساوي مغنية ثلاثين ألفاً وتساوي ساذجة عشرين ديناراً فقال لا تباع إلا على أنها ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن ابن الحنيفة في قوله تعالى (واجتنبوا قول الزور) قال الغناء وقال ابن عباس وابن مسعود في قول الله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال هو الغناء وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم أهل العلم فيه وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغناء ينبت النفاق في القلب) والصحيح أنه قول ابن مسعود، وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى إليه ويأتي له أو اتخذ غلامه أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه فهو مع سفهه عاص مصر متظاهر بفسقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي، وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء وإنما يترثم لنفسه ولا يغني للناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا على الخلاف فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته، ومن حرمه قال إن دام عليه ردت شهادته كسائر الصغائر(12/51)
وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته، وان فعله من يعتقد حله فقياس المذهب أن لا ترد شهادته بمالا لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع، ومن كان يغشى بيوت المغني أو يغشاه المغنون للسماع متظاهراً بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعاً لأنه سفه ودناءة، وان كان مستتراً به فهو
كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه (فصل) فأما الحداء وهو الإنشاد التي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان انجشة مع التساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة (حرك بالقوم) فاندفع ينشد فتبعه انجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا نجشة رويدك رفقاً بالقوارير) يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء ممدود مضموم كالدعاء ويجوز الكسر كالنداء (فصل) والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن من الشعر لحكماً) وكان يضع لحسان منبراً يقوم عليه فيهجو من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وأنشده كعب بن زهير قصيدته * بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * في المسجد وقال له عمه العباس يارسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال قل لا يفضض الله فاك فأنشده(12/52)
من قبلها طبت في الظلال * وفي مستودع حيث يخصف الورق وقال عمر بن الشريد أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (امعك من شعر أمية؟) قلت نعم فأنشدته بيتاً فقال (هيه) حتى أنشدته مائة قافية وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب وقد اختلف في هذا فقيل ليس بشعر وإنما هو كلام موزون، وقيل بل هو شعر ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر، ويروى أن أبا الدرداء قيل له ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال وأنا قد قلت يريد العبد أن يعطى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا يقول العبد فائدتي ومالي * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وليس في إباحة الشعر اختلاف وقد قاله الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية وللاستشهاد به في التفسير وتعرف معنى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويستدل به أيضاً على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال الشعر ديوان العرب فإن قيل فقد قال الله تعالى (والشعراء يتبهم الغاوون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يمتلئ أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً) رواه أبو داود وابو عبيد وقال معنى يريه يأكل جوفه يقال ورواه يريه قال الشاعر:(12/53)
وراهن ربي مثل ما قد ورينني * واحمى على أكبادهن المكاويا قلنا أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب بدليل وصفه لهم بقوله (ألم ترانهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟) ثم استثني المؤمنين بقوله (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء لا سيما من كان في ابتداء الإسلام ممن يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين ويعيب الإسلام ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة، وأما الخبر فقال أبو عبيد معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل المراد به ما كان هجاءً وفحشاً فما كان من الشعر يتضمن هجاء المسلمين والقدح في أعراضهم أو التشبب بإمرأة بعينها بالإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائله فهو صحيح، وأما على راويه فلا يصح فإن المغازي يروى فيها قصائد الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك أحد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة أم النعمان ابن بشير وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبب بسعاد ولم يزل الناس يروون أمثال هذا ولا ينكر وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلساً فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه فقال النعمان فلم يقل بأساً إنما قال(12/54)
وعمرة من سروات النساء * تنفح بالمسك أردانها وكان عمر بن طلحة بمجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه فقال دعوه فإن قائل هذا الشعر كان زوجها فأما لشاعر فمتى كان يهجو المسلمين ويمدح بالكذب أو يقذف مسلماً أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل أعظم الناس ذنباً رجل يهاجي رجلاً فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أباد لامة؟ شهد عند قاض فخاف أن ترد شهادته فقال إن الناس غطوني تغطيت عنهم * وإن بحثوا عني ففيهم مباحث فقال القاضي ومن يبحثك يا أبا دلامة؟ وغرم المال من عنده ولم يظهر أنه رد شهادته (فصل في قراءة القرآن بالالحان) اما قراءته من غير تلحين فلا بأس بها وإن حسن صوته به فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (زينوا أصواتكم بالقرآن) وروي (زينوا القرآن بأصواتكم) وقال (لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود) فقال أبو موسى لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً وروي أن عائشة أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال أين كنت يا عائشة فقالت يارسول الله كنت أسمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحداً يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ثم قال (هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا) قال صالح قلت (لأبي زينوا القرآن بأصواتكم) ما معناه قال أن تحسنه وقيل له ما معنى (من لم يتغن بالقرآن) قال يرفع صوته به، وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع به ويتباكى به.
وقال ابن غيينة وعمر وبن الحارث ووكيع يستغني به فأما القرآن بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته(12/55)
وقال الراوي لولا أن تجتمع الناس إلي لحكيت لكم قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وقال (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) أي يجهر به ومعنى أذن استمع قال القاضي هو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال معنى قوله (من لم يتغن بالقرآن) أي يستغني به قال الشاعر: وكنت امرأ زمناً بالعراق * عفيف النياح كثير التغني
قال ولو كان الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال القاضي أحمد بن محمد البرني: هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم يتغنى بالقرآن يجهر به وقيل يحسن صوته به.
قال شيخنا والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به ولأنه لو كان مكروهاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح حمله على التغني في حديث (ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن) على الاستغناء لأن معنى أذن استمع وإنما تسمع القراءة ثم قال يجهر والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء فأما إذا أسرف في المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واواً والفتحة ألفاً والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من قال يحرم لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن وضعها ويجعل الحركات حروفاً، وقد روينا عن أبي عبد الله أن رجلاً سأله عن ذلك فقال له ما اسمك؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك يا موحامد؟ قال لا قال ولا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى قال له رجل فيكلمون قال لا كل ذا(12/56)
واتفق أهل العلم على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرءو القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن) وقال المروذي سمعت أبا عبد الله قال لرجل لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد فقال له يحيى اقرأ فقرأ فغشي على يحيى حتى حمل وأدخل وقال محمد بن صالح العدوي قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فانه خمس صلوات (فصل) ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أتى طعاماً لم يدع إليه دخل سارقاً وخرج معيراً) ولأنه يأكل محرماً ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر هذا منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرماً وأكل سحتاً وأتى دناءة، وقد روى قبيصة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً
من عيش - أو قال - سداداً من عيش، ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) فأما السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلاً فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مرؤة، فإن أخذ من الصدقة من يجوز له الأخذ من غير(12/57)
مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وإن أخذ منها ما لا يجوز له وتكرر ذلك منه ردت شهادته لانمه مصر على الحرام.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى زالت الموانع منهم فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم بمجرد ذلك) لان المقتضي لقبول الشهادة موجود وإنما ردت لوجود المانع فإذا زال المانع عمل المقتضي عمله كما لو لم يوجد المانع وتقبل توبة الفاسق لقول الله سبحانه وتعالى (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وقوله سبحانه (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) وقال عمر رضي الله عنه: بقية عمر المرء لا قيمة له يدرك فيه ما ما فات ويحيى فيه ما امات ويبدل الله سيأته حسنات والتوبة على ضربين باطنة وحكمية فالباطنة يما بينه وبين الله تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقاً عليه في الحكم كقبلة الأجنبية والخلوة بها وشرب المسكر والكذب فالتوبة منها الندم والعزم على أن لا يعود فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم بالقلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود) وبمجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب حقاً عليه لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منها بما ذكرنا وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو بدله وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر(12/58)
عليه فإن كان عليه فيها حق في البدن وكان حقاً لآدمي كالقصاص وحد القذف فالمشترط في التوبة التمكين من نفسه ببذلها للمستحق وإن كان حقاً لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته بالدم والعزم على ترك العود ولا يشترط الاقرار به فإن كان ذلك لا يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما
بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد) فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وإن كانت معصينه مشهورة فذكر القاضي أن الأولى به الإقرار ليقام عليه الحد لأنه إذا كان مشهوراً فلا فائدة في ترك إفامة الحد عليه.
قال شيخنا والصحيح أن ترك الإقرار أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار فعرض لما عز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه باقراره وكره الاقرار حتى قيل أنه لما قطع السارق كأنما أسف وجهه رماداً ولم يرد الامر وبالاقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار وقال لهزال وهو الذي امر ما عزابا بالاقرار (ياهزال لو سترت بثوبك لكان خيراً لك) وقال أصحاب الشافعي توبة هذا إقراره ليقام عليه الحد وليس بصحيح لما ذكرنا ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الأخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار وترك الأسرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها(12/59)
(مسألة) (ولا يعتبر إصلاح العمل وعنه يعتبر في التائب إصلاح العمل سنة) ظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة الولاية في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين لشافعي وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه شهادة بالزنا فلم يكمل عدد اشهود فإنه يكفي مجرد لتوبة من غير إعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبته ويبين فيها صلاحه وهذا رواية عن أحمد حكاها أبو الخطاب لأن الله تعالى قال (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وهذا نص فإنه نهى عن قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغاً أمر بهجرانه حتى بلغته توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة ولنا قوله عليه السلام (التوبة تجب ما قبلها) وقوله (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولأن التوبة من الشرك بالإسلام ولا يحتاج إلى اعتبار ما بعده
وهو أعظم الدنوب فما دونه أولى وأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح من التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمر آخر ولأن من كان غاصباً فرد ما في يديه أو مانعا للذكاة فأداها وتاب إلى الله عزوجل قد حصل منه الإصلاح وعلم نزوله عن معصيته نادماً عليه فإنه لو لم ترد التوبة لما أدى ما في يديه ولأن تقديره بسنة تحكم لم يرد به الشرع والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما رود من عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توتبه بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تستراً بخلاف مسئلتنا وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال ومن علامة(12/60)
توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل النسة والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة تفعل بسبب الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة يظهر أن توبته عن إخلاص لا عن إكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية تب اقبل شهادتك وقال مالك لا أعرف هذا قال الشافعي وكيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة؟ (مسألة) (ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب) وجملة ذلك أن القاذف إذا كان زوجا فحقق قذفه ببينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وإن لم يحقق قذفه بشئ من ذلك تعلق به وجوب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزل الفسق بلا خلاف وتقبل شهادته عندنا روى ذلك عن عمر وابي لدرداء وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري وعبد الله بن عتبة وجعفر به أبي ثابت وأبي الزناد ومالك والشافعي والبتي واسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحيى بن سعيد وربيعة وقال شريح والحسن والنخعي وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب الرأي لا تقبل شهادته إذا جلد وإن تاب، وعند أبي حنيفة لا ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب والخلاف معه في فصلين:(12/61)
(أحدهما) أنه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة ومالك لا تسقط إلا بالجلد (والثاني) أنه إن تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق لقول الله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) وبما روى ابن ماجة بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الإسلام واحتج في الفصل الآخر بأن القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق ولنا في الفصل الثاني إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكرة حين شهد على لمغيرة بن شعبة تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعاً قال سعيد بن المسيب شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم عمر توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبي أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تاب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب من الزنا يحققه أن الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى.
وأما الآية فهي حجة لنا لأنه استثنى التائبين بقوله تعالى (إلا الذين تابوا) والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره إلا الذين تابوا فقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين فإن قالوا إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل أنه لا يعود إلى الجلد قلنا بل يعود إليه أيضاً لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الواحدة(12/62)
فيعود الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعاً ولأن الاستثناء يغاير ما قبله فعاد الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال امرأته طالق وعبده حر إن لم يقم عاد الشرط إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود إلى
من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف قال ابن عبد البر لم يرفعه في روايته حجة، وقد روي من غير طريقه ولم يذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطة ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير المقذوف بعد ثبوته ثم لو قدر صحته فالمراد به من لم يتب بدليل كل محدود تاب سوى هذا.
وأما الفصل الأول فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة رد الشهادة، والحد كفارة تطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به، وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعاً به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر، وقولهم إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقق القذف، وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقق سببه ويصير متحققاً بعده هذا باطل(12/63)
(فصل) والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل بالبينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافاً في قبول رواية أبي بكرة مع رد عمر شهادته (مسألة) (وتوبته أن يكذب نفسه وقيل إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول قد ندمت على ما قلت ولا أعود إلى مثله وأنا تائب إلى الله تعالى منه) ظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف اكذابه نفسه فيقول كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الاصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر وممن قال هذا سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والشعبي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة لما روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قول الله تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
قال ثوبته إكذاب نفسه ولأن عرض المقذوف يلوث بقذفه فإكذابه نفسه يزيل ذلك التلويث فتكون التوية، وذكر القاضي أن القذف إن كان سباً فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال وهو المذهب لأنه قد يكون صادقاً فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الاقرار بالبطلان لانه نوع إكذاب.
قال شيخنا والأولى أنه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والاقرار ببطلان ما قاله وتحريمه فإنه لا يعود إلى مثله وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه(12/64)
سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذباً في الشهادة صادقاً في السب، ووجه الأول أن الله تعالى سمى القاذف كاذباً على الاطلاق بقوله سبحانه (فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في نفس الأمر صادقاً (فصل) ولا يشترط في الشهادة الحرية بل تجوز شهادة العبد في كل شي إلا في الحدود والقصاص على إحدى الروايتين وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول (أحدها) في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص والمذهب أنها مقبولة.
روي ذلك عن علي وأنس رضي الله عنهما قال أنس ما علمت أن أحداً رد شهادة العبد وبه قال عروة وشريح وإياس وابن سيرين والبتي وابو ثور وداود وابن المنذر، وقال مجاهد والحسن وعطاء ومالك والاوزاعي والثوري وابو حنيفة والشافعي وابو عبيد لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث، وقال الشافعي والنخعي والحكم تقبل في الشئ اليسير ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية، وروى عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (وكيف وقد زعمت ذلك) متفق عليه(12/65)
وفي رواية أبي داود فقلت يارسول الله إنها لكاذبة فقال (وما يدريك وقد قالت ما قالت؟ دعها عنك) ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر وقولهم ليس له مروءة ممنوع بل هو كالحر ينقسم إلى من له مروءة، ومن لا مروءة له، وقد يكون منهم العلماء والأمراء والصالحون والأتقياء سئل إياس ابن معاوية عن شهادة العبد فقال أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب، وكان منهم زياد بن أبي عياش من العلماء والزهاد وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس من العلماء الثقات وكثير من الموالي كانوا عبيداً وأبناء عبيد لم يحدث فيهم بالاعتاق إلا الحرية وهي لا تغير طبعاً ولا تحدث علماً ولا ديناً ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة على الميراث فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا يمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه سيده فلا يمكن أن يخلف فيه ولأن الميراث يقتضي التمليك والعبد لا يملك ومبنى الشهادة على العدالة التي هي مظنة الصدق وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته (الفصل الثاني) أن شهادته لا تقبل في الحدود وفي القصاص احتمالان (أحدهما) تقبل شهادته فيه لأنه حق آدمي، ولا يصح الرجوع عن الإقرار به أشبه الأموال (والثاني) لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات فأشبه الحد وقد ذكرنا في هذا الكتاب في الحد والقصاص روايتين وكذلك ذكره الشريف وابو الخطاب فإنهما ذكرا في العقوبات كلها روايتين (إحداهما) تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر والثانية لا تقبل وهي(12/66)
ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يندرئ بالشبهات ولأنه ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة (الفصل الثالث) إن شهادة الأمة تقبل فيما تقبل فيه شهادة النساء قياساً عليهن فإن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو شبهه والأمة كالحرة فيما عداهما وقد دل عليه حديث عقبة بن الحارث، وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي
عن عمر رضي الله عنه أنه لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء والشعبي والنخعي ولنا ما ذكرناه في العبد ولأنه إذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى (فصل) وتجوز شهادة الأصم في المرئيات وعلى المسموعات قبل صممه أما شهادته على المرئيات فهو فيها كالذي يسمع فتقبل شهادته فيها وتجوز شهادته في المسموعات التي كانت قبل صممه كما تجوز شهادة الأعمى على الأفعال التي رآها قبل العمى إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه (مسألة) (وتجوز شهادة الأعمى في المسموعات إذا تيقن الصوت وبالاستفاضة) روي هذا عن علي وابن عباس وبه قال ابن سيرين وعطاء والشعبي والزهري ومالك وابن أبي ليلى وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والشافعي لا تقبل شهادته، وروي ذلك عن النخعي وابي هاشم واحتلف فيه عن الحسن واياس وابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة إذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولأن الأصوات تشتبه فلا يحصل اليقين فلم يجز أن يشهد بها كالخط(12/67)
ولنا قول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ولأنه رجل عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وكثرت صحبته له وعرف صوته يقيناً فلا يشك فيه فوجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولهذا أجاز الشافعي وأصحابه شهادته بالاستفاضة ولا تثبت عندهم حتى يسمعها من عدلين ولا بد أن يعرفهما حتى يعرف عدالتهما فإذا صح أن يعرف الشاهدين صح أن يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماعه من زوجته إذا عرف صوتها وصحة قبول النكاح، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصفة وفارق الأفعال فإن مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع هو يشارك البصير فيه وربما زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه يكتبه لم يجز أن يشهد بما كتب فيه
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقيناً فإن جوز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه (مسألة) (وتجوز في المرئيات التي تحملها قبل العمى إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وما يتميز به) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجوز شهادته أصلاً لأنه لا يجوز أن يكون حاكماً ولنا ما تقدم في المسألة قبلها ولأن العمى فقد حاسة لا يخل بالتكليف فلم يمنع قبول الشهادة(12/68)
كالصمم وفارق الحكم فإنه يعتبر له من شروط الكمال ما لا يعتبر للشهادة ولذلك يعتبر له المسع والاجتهاد وغيرهما.
(مسألة) (فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه ولم يعرفه إلا بعينه قبلت شهادته أيضاً لما ذكرنا في المسألة الأولى) وهذا قول القاضي ويصفه للحاكم بما يتميز به قال شيخنا ويحتمل أن لا تقبل لأن هذا مما لا ينضبط غالباً (مسألة) (وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبلت شهادته وجاز الحكم بها) وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز الحكم لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق فمنع الحكم بها كالفسق ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة (مسألة) (وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره) هذا قول أكثر أهل العلم منهم عضاء والحسن والشعبي والزهري والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو حنيفة وأصحابه وقال مالك والليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة فيمن فعل قبيحاً أنه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال ودت الزانية أن النساء كلهن زنين ولنا عموم الآيات فإنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فيقبل في الزنا كغيره ولأن من قبلت شهادته في القتل قبلت في الزنا كولد الرشدة قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه (أحدها)(12/69)
أن ولد الزنا لم يفعل قبيحاً يحب أن يكون له نظراء فيه (والثاني) لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتاً عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتاً وغير جائز أن يثبت عن عثمان كلام بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره (الثالت أن الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكروه فغيره أولى فإنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لزمه ولا يتعدى الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شئ من ضرره لقول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وولد الزنا لم يفعل شيئاً يستوجب به حكماً (مسألة) (وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضعة بالرضاع والقاسم على القسمة والحاكم على حكمه بعد العزل) تجوز شهادة المرضعة على الرضاع لما ذكرنا من حديث عقبة بن الحارث وكذلك شهادة القاسم على القسمة لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره وكذلك تقبل شهادة الحاكم على حكمه بعد العزل لذلك وفي ذلك كله اختلاف لما ذكرنا فيما مضى (مسألة) (وتقبل شهادة البدوي على القروي والقروي على البدوي إذا اجتمعت الشروط) وهو ظاهر كلام الخرقي وهو قول ابن سيرين وابي حنيفة والشافعي وابي ثور وأجازه أبو الخطاب وعن أحمد في شهادة البدوي على القروي أخشى أن لا تقبل فيحتمل وجهين (أحدهما) لا تقبل وهو قول جماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح وكقول الباقين احتياطاً للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن(12/70)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة بدوي على صحاب قرية) ولأنه متهم حيث عدل إذا أشهد قروياً وأشهد بدوياً قال أبو عبيد ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله والجفاء في الدين (والثاني) تقبل لأن من قبلت شهادته على أهل البلد وقبلت شهادته على البدو قبلت شهادته على أهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أن
لا يكون له من يسأله الحاكم فيتعرف عدالته (باب موانع الشهادة) ويمنع قبول الشهادة ستة أشياء (أحدها) قرابة الولادة فلا تقبل شهادة والد لولده وان سفل ولا ولد لوالده وإن علا.
ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وإن سفل وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا والدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما وبه قال شريح والحسن والشعبي والنخعي ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وروى عن أحمد رواية ثانية تقبل شهادة الابن لابنه ولا تقبل شهادة الأب لابنه لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يتملكه له إذا شاء فشهادته له شهادة لنفسه أو يجربها لنفسه نفعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) وقال (إن أطيب(12/71)
ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم) ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة في حقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز وابو ثور والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه كالأجنبي ولنا ما روى الزهري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء) والظنين المتهم والأب متهم لولده لأن ماله كما له بما ذكرنا ولأن بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها) ولأنه متهم في الشهادة على عدوه والخبر أخص من الآيات فتختص به (مسألة) (وتقبل شهادة بعضهم على بعض في أصح الروايتين)
أما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل، نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم، قال شيخنا ولم أجد عن أحمد في الجامع فيه اختلافاً وذلك لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها(12/72)
إنما ردت شهادته له للتهمة في إيصال النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى فإن شهادته لنفسه لما ردت للتهمة في إيصال النفع إلى نفسه كان إقراره عليها مقبولاً وفيه رواية أخرى أن شهادة أحدهما لا تقبل على صاحبه حكاها القاضي في المجرد لأن شهادته غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق وقال بعض الشافعية لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ في الصدق كشهادته على نفسه (فصل) فإن شهد إثنان بطلاق ضرة أمها أو قذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما لا يزداد به وسواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبياً وتوفر الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول شهادة الوارث لموروثه (فصل) وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب (مسألة) ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه في إحدى الروايتين) هذا الذي ذكره الخرقي وبه قال الشعبي والنخعي ومالك واسحاق وأبو حنيفة والرواية الأخرى يجوز هذا وقول شريح والحسن والشافعي وأبي ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالاجارة(12/73)
وقال الثوري وابن أبي ليلى تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتهما له لأن يساره وزيادة حقها من النفقة يحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك ولنا أن كل واحد من الزوجين يرث الآخر من غير حجب ويتبسط في ماله عادة فلم تقبل
شهادته له كالابن مع أبيه ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد في قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يضاف إلى الآخر قال الله تعالى (وقرن في بيوتكن) وقال (لا تدخلوا بيوت النبي) فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى وقال تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) وقال عمر للذي قال له أن غلامي سرق مرآة امرأتي: لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم ويفارق عقد الإجارة من هذه الوجوه كلها (مسألة) (ولا تقبل شهادة السيد لعبده ولا العبد لسيده) أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) ولا نعلم في هذا خلافاً ولا تقبل شهادته له أيضاً بنكاح ولا لأمته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصاً له وإباحة بضعها في نكاح العبد نفع له ونفع مال الإنسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في ماله وينتفع به ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه (مسألة) (وتقبل شهادة الأخ لأخيه وسائر الأقارب والصديق لصديقه والمولى لعتيقه)(12/74)
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة وروي ذلك عن ابن الزبير وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعاً إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر قال مالك لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ (فصل) وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا أجيزت مع قربه كان تنبيها على قبول شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى وتقبل شهادة أحد الصديقين
للآخر في قول عامة العلماء إلا مالكاً قال لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعاً بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعاً أعظم مما يرجى ههنا من الصديقين وأما العداوة فسببها محصور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالف الصداقة وتجوز شهادة المولى المعتق لعتيقه لأنه لا تهمة فيه أشبه الأجنبي ولأنه بمنزلة الأخ وشهادة الأخ لأخيه مقبولة كما ذكرنا(12/75)
(فصل) الثاني أن يجر إلى نفسه نفعاً بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه والعبد المأذون له في التجارة وكذلك لا تقبل شهادة الوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم ولا تقبل شهادة الشفيع ببيع الشقص الذي له فيه الشفعة لأنه يجر إلى نفسه نفعاً ولا تقبل شهادة الغرماء بدين المفلس أو بعين ولا شهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو للميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته فإن قيل إذا كان معسراً سقطت عنه المطالبة فإذا شهدا له بمال ملك مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعاً قلنا لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما ثبتت بيساره وإقراره لدعوى الحق الذي شهدوا به قال القاضي ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره نص عليه أحمد فإن قيل فلم قبلتم شهادة الوارث لموروثه مع أنه إذا مات ورثه فقد جر إلى نفسه نفعاً بشهادته قلنا لاحق له في ماله حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق وهذا لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد لإمرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم بمال له يحتمل ان يوفيه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع ما يحصل به نفع حال الشهادة فإن قيل فقد منعتم قبول شهادته لموروثه بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له حق وإن لم يكن له حق في الحال فإن قلتم قد انعقد سبب حقه قلنا يبطل بالشاهد لموووثه المريض فإن شهادته تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره نقف على الخروج من الثلث(12/76)
قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثه بالجرح لأنه ربما أفضى إلى الموت به فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء فيكون شاهداً لنفسه موجباً له بها حقاً ابتداء بخلاف الشاهد للمريض والمجروح بمال فإنه إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله لنا إنما أجزناها لأن الدية لا تجب للشاهد ابتداء إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم منها فأشبهت الشهادة بالمال.
(مسألة) (ولا تقبل شهادة الموصى له للميت والوكيل لموكله بما هو وكيل فيه والشريك لشريكه والغرماء للمفلس بالمال وأحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته وكذلك المضارب بمال المضاربة) لأنه متهم ولأن الشفعة إذا بطلت للمشهود عليه توفرت على الشاهد فيكون شاهداً لنفسه وممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً فأما إن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه أو الوكيل لموكله في غير ما هو وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط شفعته على الأخر بإسقاط شفعته أو أحد الوصيين بعد سقوط وصيته على الآخر بما يسقط وصيته أو كان أحد الوصيتين لا يزاحم بها الأخرى ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لان المقتضي لقبول الشهادة متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملاً بالمقتضي (فصل) ولا تقبل شهادة الوصي للموصى عليهم إن كانوا في حجره وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي والثوري ومالك والشافعي والاوزاعي وابو حنيفة وأجاز شريح وابو ثور شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي متهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية(12/77)
ولنا أنه شهد بشئ هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم تقبل شهادته به كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأكل من أموالهم عند الحاجة فيكون متهماً بالشهادة به وقولهم في حجره احتراز، أما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم فإنها تقبل والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء قياساً عليه فأما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه
خلافاً فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعاً ولا يدفع بها عنهم ضرراً فهو كالأجنبي (فصل) الثالث أن يدفع عن نفسه ضرراً كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ والغرماء بجرح شهود الدين على المفلس والسيد بجرح من شهد على مكاتبه أو عبده بدين والوصي بجرح الشاهد على الأيتام والشريك بجرح الشاهد على شريكه وسائر من لا تقبل شهادته لإنسان إذا شهد بجرح الشاهد عليه.
إنما لم تقبل شهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم فإن كان الشاهد ان بالجرح فقيرين احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئاً من الدية واحتمل أن لا تقبل لجواز أن يوسرا قبل الحول فيحملان وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده لجواز أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط شفعته ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعض بإسقاط دينه أو استيفائه أو بعض من أوصى له بمال على أخر بما يبطل وصيته إذا كانت(12/78)
وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من دفع الضرر عن نفسه ونفعها فيكون شاهداً لنفسه، وقد قال الزهري مضت السنة في الاسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين والظنين المتهم، وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لا شهادة لخصم ولا ظنين) (فصل) الرابع العداوة كشهادة المقذوف على قاذفه والمقطوع عليه الطريق على قاطعه والزوج بالزنا على امرأته.
وجملة ذلك أن شهادة العدو لا تقبل على عدوه في قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة والثوري واسحاق ومالك والشافعي والمراد بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل شهادة المقذوف على القاذف والمقطوع عليه الطريق على القاطع والمقتول وليه على القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد بالزنا على امرأته فلا تقبل شهادته لأنه يقر على نفسه بعداوته لها بإفسادها فراشه، وأما العداوة في الدين
كالمسلم يشهد على الكافر أو المحق من أهل السنة يشهد على المبتدع فلا ترد شهادته لأن العداوة في الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور في دينه، وقال أبو حنيفة لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة لا تمنع الشهادة له(12/79)
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه) رواه أبو داود والغمر الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا، فإن قيل فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قلنا العدواوة ههنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا أن يترك دينه بموجب دينه (فصل) فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لانا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل مشهود عليه بإبطال شهادة الشهاد بقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يفضي إلى ذلك بل إلى عكسه لأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن العادة أسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حال أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه، فأما المحاكمة في الأموال فليست عداوة تمنع الشهادة في غير ما حكم فيه (فصل) قال رحمه الله (الشرط الخامس أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب فيعيدها فإنها لا تقبل للتهمة) وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور والمزني وداود تقبل قال(12/80)
ابن المنذر والنظر يدل على هذا لأنها شهادة تقبل في غير هذه الشهادة فقبلت فيها قياساً على غيرها وكما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد بها بعد إسلامه ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها وتلحقه غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به
وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه التهمة في أنه قصد إظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل فيزول ما حصل بردها ولأن الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول شهادته مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما لو إذا رد شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولاً بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولأن البلوغ والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى كفره عاراً ولا يترك دينه من أجل شهادة ردت (مسألة) ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً قبلت) وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام لأنه لا تهمة في ذلك وإنما يعتبر ذلك للأداء فإذا رأى الفاسق شيئاً أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا(12/81)
الصبي والكافر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير وابن جعفر والنعمان بن بشير، والرواية في معنى الشهادة تشترط لها العدالة وغيرها من الشروط المعتبرة للشهادة (مسألة) (ولو شهد وهو كافر أو صبي أو عبد فردت شهادتهم ثم أعادوها بعد زوال الكفر والصبا والرق قبلت) ولما ذكرنا في الفصل الذي قبلها وقد روي عن النخعي والزهري وقتادة وأبي الزناد ومالك أنها ترد أيضاً في حق من أسلم وبلغ وعن أحمد رواية كذلك لأنها شهادة مردودة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقاً وقد ذكرنا ما يقتضي فرقاً بينهما فيفترقان، وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وأعاد تلك الشهادة روايتان وقد ذكرنا الأولى أن شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر بخلاف الفسق (مسألة) (وإن شهد لمكاتبه أو لموروثه بجرح قبل برئه فردت ثم أعادها بعد عتق المكاتب وبرء الجرح ففي ردهما وجهان)
(أحدهما) تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبا والبلوغ ولأن ردها بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق (والثاني) لا تقبل لأن ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أصح فإن الأصل قبول(12/82)
شهادة العدل لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة بالفسق لما ذكرنا بينهما من الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما للتهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادوها بعد زوال التهمة ووجود الأهلية هل تقبل؟ على وجهين (مسألة) (وإن شهد الشريك بعفو شريكه عن الشفعة ثم عفا الشاهد عن شفعته وأعاد تلك الشهادة لم تقبل ذكره القاضي) لأنه متهم فأشبه لفاسق والأولى أنها تخرج على الوجهين لأنها إنما ردت لكونها يجر بها إلى نفسه نفعاً وقد زال بعفوه والله أعلم.
(باب أقسام المشهود به) والمشهود به ينقسم خمسة أقسام: (أحدها) الزنا وما يوجب حده فلا يقبل فيه إلا أربعة رجال أحرار.
أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله (سبحانه لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أربعة وإلا حد في ظهرك) في أخبار سوى هذا وأجمعوا على أنه يشترط كونهم عدولا ظاهراً(12/83)
وباطناً مسلمين سواء كان المشهود عليه مسلماً أو ذمياً وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالاً أحراراً فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا العبيد وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال تقبل شهادة العبيد وحكاه أبو الخطاب والشريف رواية في المذهب، وحكي عن حماد وعطاء أنهما قالا تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال ولنا ظاهر الآية وأن العبد مختلف في شهادته فكان ذلك شبهة في الحد لأنه يندرئ بالشبهات
ولا يصح قياس هذا على الاموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى إتيانها لكثرة وقوعها والاحتياط في حفظها ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال (مسألة) (وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين أو لا يثبت إلا بأربعة؟ على روايتين) وللشافعي قولان (أحدهما) يثبت بشاهدين قياس على سائر الاقاربر (والثاني) لا يثبت إلا بأربعة لأنه موجب لحد الزنا فأشبه فعله (فصل) (الثاني القصاص وسائر الحدود فلا يقبل فيه إلا رجلان حران) إلا ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا يقبل فيه رجل وامرأتان قياساً على الشهادة في الأموال ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه واسقا له ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى إثباته وفي شهادة النساء شسبهة بدليل قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) وأن شهادتهن(12/84)
لا تقبل وإن كثرت ما لم يكن معهن رجل فوجب أن لا تقبل شهادتهن فيه ولا ويصح قياس هذا على المال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرناه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وحماد والزهري وربيعة ومالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء كلهم على أنه يثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا إلا الحسن فإنه قال الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لا يقبل فيها إلا أربعه، وروي ذلك عن أبي عبد الله لأنها شهادة يثبت بها القتل فلم تثبت إلا بأربعة كالشهادة على زنا المحصن.
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فإنه مختص بهذا وليست العلة كونه قتلاً بدليل وجوب الأربعة في زنا البكر ولا قتل فيه ولأنه انفرد بإيجابه الحد على لرامي به والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله (فصل) ولا تقبل الشهادة على القتل إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهد نحو أن يقول ضربه فقتله وقد ذكرنا ذلك فإن كانت الشهادة بالجرح فقالا ضربه فأوضحه أو فاتضح منه أو فوجدناه موضحاً من الضربة قبلت شهادتهما فإن قالا ضربه فاتضح رأسه أو فوجدناه موضحاً أو فأسال دمه أو وجدنا
في رأسه موضحة لم يثبت الإيضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعبير الموضحة في إيجاب القصاص لأنه إن كان في رأسه موضحتان فيحتاجان إلى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت(12/85)
واحدة فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان هذه فإن قالا أوضحه في موضع كذا من رأسه موضحةً قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا لا نعلم قدرها أو مرضعها لم يحكم بالقصاص لأنه يتعذر مع الجهالة وتجب دية الموضحة لأنها لا تختلف باختلافها وإن قالا ضرب رأسه فأسال دمه في بازلة وإن قالا فسال دمه لم يثبت شئ لجواز أن يسيل دمه بسبب آخر وإن قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما ويثبت القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يجب قصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب فيها القصاص منهما وتجب دية اليد لأنها تختلف باختلاف الأيدي (فصل) فإن شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمداً والأخر أنه أقر بقتله ولم يقل عمداً ولا خطأ ثبت القتل لأن البينة قد كملت عليه ولم تثبت صفته فنسأل المشهود عليه عن صفته فإن أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به وإن أقر بقتل العمد ثبت بإقراره وإن أقر بالخطأ فأنكر الولي فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك؟ يخرج فيه وجهان فإن صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحملها العاقلة في هذه المواضع كلها ولا شيئاً منها وتكون في ماله لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بانها في ماله دون مال عاقلته وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً وشهد الآخر أنه قتله خطأ ثبت القتل(12/86)
دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لأن الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمداً ويكون الحكم كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقتله خطأ.
أن المشهود عليه يسأل على ما ذكرنا في أول الفصل فإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة والآخر أنه قتله عشية أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف وقال الآخر بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لأن كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه، وهو مذهب الشافعي
وقال أبو بكر يثبت القتل لاتفاقهما عليه واختلافهما في الصفة فيثبت القتل كما لو شهد أحدهما بقتل العمد والآخر بقتل الخطأ والأول أصح لأن القتل غدوة غير السيف عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة ثم يقتل عشاء ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف الخطأ والعمد فإن الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر فإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره أبو بكر واختار القاضي أنه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لأن أحدهما شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد ولنا أن الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو شهد أحدهما بالقتل عمداً وشهد الآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد أحدهما أن له عليه ألفاً وشهد الآخر أنه أقر له بألف.
(فصل) إذا قتل رجل عمداً قتلاً يوجب القصاص فشهد أحد الورثة على واحد منهم أنه عفى(12/87)
عن القصاص سقط القود سواء كان الشاهد عدلاً أو فاسقاً لأن شهادته تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فإن أحد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهد أحدهما أن شريكه أعنق نصيبه وهو موسر عتق نصيب الشاهد.
وإن انكره الآخر فإن كان الشاهد شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط المال لأن الشاهد اعترف أن نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فإن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه إذا حلف ثبتت حصته من الدية وإن كان مقبول القول حلف الجاني معه وسقط حق المشهود عليه ويحلف الجاني أنه عفا عن الدية ولا يحتاج إلى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد سقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج إلى ذكره في اليمين لأنه إنما حلف على ما يدعى عليه ولا يدعى عليه غير الدية (فصل) إذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين وكانت الجراج مندملة قبلت شهادتهما لانها.
يجران إلى أنفسهما نفعاً وإن كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما
وقد ذكرناه وإن شهد وارث المريض له بمال ففي قبول شهاداتهم وجهان (أظهرهما) قبولها كما لو شهدا له وهو صحيح (والثاني) لا تقبل لأنه متى ثبت المال للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما(12/88)
زاد على الثلث وإن شهد لمجروح بالجرح من لا يرثه لكونه محجوباً كالاخوين يشهد ان لأخيهما وله ابن سمعت شهادتهما فإن مات ابنه نظرت فإن كان الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق، وإن كان ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، وإن شهد على رجل بالجرح الموجب للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح الشهود لم تقبل شهادته وإن كان فقيراً لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعاً عن نفسه ويحتمل أن تقبل لأنهما لا يحملان شيئاً من الدية وإن كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد سمعت شهادتهما لأنهما لا يدفعان عن أنفسهما ضرراً، وإن كان الشاهدان شهدا على إقراره بالجرح قبلت لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن كانت شهادتهما بجرح عقله دون ثلث الدية خطأ وكانت شهادتهما بالجرح قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفساً فتحملها وإن كان بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون ذلك (فصل) وإذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلاً ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما وهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضرراً وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضاً لأنه بتصديق(12/89)
الأولين مكذب للآخرين وتصديقه الآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فإن قيل فكيف تتصور هذه المسألة والشهاة إنما تكون بعد الدعوى فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم؟ قلنا يتصور أن يشهدا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي من قتله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) وهذا معنى ذلك
(فصل) الثالث ما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والنسب والعتق والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك فلا يقبل فيه إلا رجلان وعنه في الرجعة والنكاح والعتق أنه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وعنه في العتق أنه يقبل فيه شاهد ويمين المدعي وقال القاضي النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة والوكالة والوصية والكتابة ونحوها تخرج على روايتين) وجملة ذلك أن ما ليس بعقوبة ولا يقصد به المال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإيلاء والظهار والنسب والتوكيل والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي المعول عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة إن كانت بمطالبة دين يعني يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فأما غير ذلك فلا ووجه ذلك أن الوكالة(12/90)
في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة قال القاضي فيخرج من هذا أن النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين وقال أبو الخطاب في النكاح والعتاق أيضاً روايتان (أحدهما) لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي والزهري ومالك وأهل المدينة والشافعي وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وربيعة في الطلاق (والثانية) تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين روي ذلك عن جابر بن زيد وأياس بن معاوية والشعبي والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت يرجل وامرأتين كالمال ولنا أنه ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وإن تصور بان تكون المرأة مرتابة بالحمل لم يصح النكاح
(فصل) وقد نقل عن أحمد في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة لحديث قبيصة بن مخارق وفيه (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة) قال أحمد هكذا جاء الحديث(12/91)
فظاهر هذا أنه أخذ به وروي عنه لا يقبل أنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال قال القاضي المذهب في هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار (فصل) ولا يثبت شئ مما ذكرنا بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين فلأن لا يثبت بشاهد واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين إنما يكون ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل وعن أحمد في العتق أنه يثبت بشاهد ويمين العبد ذكره الخرقي فقال إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حراً ونص عليه أحمد وقال في الشريكين في عبد إدعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حراً أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حراً فيخرج مثل هذا في الكتاب والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنه لا يثبت بشاهد ويمين قولاً واحداً قال القاضي: المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت إلا بشاهدين وهو قول الشافعي وقد روى الدارقطني بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال لا تعدو ذلك) وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نه قضى بالشاهد واليمين، قال نعم في الأموال، وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره ورواه الإمام أحمد بإسناده وغيره(12/92)
(فصل) الرابع المال وما يقصد به المال كالبيع والرهن والقرض والوصية له وجناية الخطأ يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين المدعي وهل يقبل في جناية العمد الموجبة للمال دون القصاص كالهاشمة والمنقلة شهادة رجل وامرأتين؟ على روايتين)
وجملة ذلك أن المال كالقرض والرهون والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمساقاة والمصاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كالخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وقال أبو بكر لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص، لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء كذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء فكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال، وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز بقوله سبحانه (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) وأجمع أهل العلم على القول به.
(فصل) وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين، روي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وشريح والحسن وإياس(12/93)
وعبد الله بن عتبة وأبو سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأبو الزناد والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي والاوزاعي لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن الحسن من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر البينة في جانب المدعى.
ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد، رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد، قال الترمذي هذا حديث غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر وقال النسائي إسناد ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد ولأن اليمين تشرع فيمن ظهر صدقه وقوي جانبه ولذلك شرعت في حق
صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع) اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهد والمرأتين ولا نزاع في هذا وقولهم أن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشئ تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه(12/94)
ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخاً فكذلك إذا انفصلت عنه ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها في حق الأمناء لظهور جانبهم وفي حق الاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين يتضمن القول بنقض قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) والقضاء بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له.
(فصل) قال القاضي يجوز أن يحلف على ما لا تجوز الشهادة عليه مثل أن يجد بخطه ديناً له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقاً ولم يذكره أو يجد رزمانج أبيه بخطه ديناً له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة وأنه لا يكتب إلا حقاً فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز أن يشهد به، وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين.
(أحدهما) أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما حلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه.(12/95)
(الثاني) أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة والأولى التورع
عن ذلك إن شاء الله تعالى.
(فصل) وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلماً أو كافراً عدلاً أو فاسقاً رجلاً أو امرأة، نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة.
(فصل) قال أحمد مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبى أن يحلف استحلف المطلوب، وهذا قول مالك والشافعي وروى عن أحمد: فإن أبى المطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه.
(فصل) ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي وبه قال الشافعي، وقال مالك يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل ويحتمل لنا مثل ذلك.
ولنا أن البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربعة نسوة وما ذكروه يبطل بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين، لأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفة فيضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل.(12/96)
(فصل) ولا يشترط أن يقول في يمينه وإن شاهدي صادق في شهادته وقيل يشترط وهل تقبل شهادة رجل وامرأتين وشاهد ويمين في دعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه ودعوى الأسير إسلاماً سابقاً لمنع رقه؟ على روايتين من المحرر (الخامس) مالا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة والحيض ونحوه فيقبل فيها شهادة امرأة واحدة وعنه لا يقبل فيها أقل من امرأتين وإن شهد به لرجل كان أولى بثبوته ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، قال القاضي والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح.
ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فأتت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض عني ثم أتيته فقلت يارسول الله إنها كاذبة فقال (وكيف وقد زعمت ذلك؟) ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة ويخالف عقد النكاح فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضاً أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنها تكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لانها تكون حال الولادة(12/97)
فيتعذر حضور الرجال فأشبهت الولادة نفسها وقد روي عن علي أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن والحارث العكلي وحماد فإذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، وقال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء، وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه إلا امرأتان وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وابن شبرمة وإليه ذهب مالك والثوري لأن كل جنس يثبت به الحق يكفي فيه اثنان كالرجال ولأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهن إلا إثنان وقال عثمان يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة، وقال عطاء الشعبي وقتادة لا يقبل فيها إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم تقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (شهادة امرأتين بشهادة رجل) ولنا حديث عقبة بن الحارث الذي ذكرناه وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجزي في الرضاع شهادة امرأة واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات، وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (شهادة امرأتين بشهادة رجل) في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل فإن شهد الرجل بذلك قبل وحده وهو قول(12/98)
أبي الخطاب لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفي بها وحدها فلأن يكتفى به أولى ولأن ما قبل فيه قول
المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية (فصل) قال رحمه الله (وإذا شهد بقتل العمد رجل وامرأتان لم يثبت قصاص ولا دية، وإن شهدوا بالسرقة ثبت المال دون القطع) لأن السرقة توجب القطع والمال فإذا قصرت عن أحدهما أثبتت الآخر.
والقتل يوجب القصاص والمال بدل منه فإذا لم يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا موجبه أحد شيئين لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار فلو أوجبنا الدية وحدها أوجبنا معيناً، وقال ابن أبي موسى لا يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة ولأنها شهادة لا توجب الحد وهو أحد موجبها فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الآخر (مسألة) (وإذا ادعى رجل الخلع قبل فيه رجل وامرأتان أو شاهد ويمين المدعي) لأنه يدعي المال الذي خالعت به وإن ادعته المرأة لم يقبل فيه إلا رجلان لأنها لا تقصد منه إلا الفسخ وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك بهذه البينة فأما إن اختلفا في عوض الخلع خاصة ثبت برجل وامرأتين وكذلك إن اختلفا في الصداق لأنه مال (فصل) وإن ادعى رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمداً فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهداً وامرأتين أو شاهداً وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت(12/99)
قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قول أبي بكر لا يثبت منهما شئ لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره، ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالاً فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه، وأقام المدعي شاهداً أو امرأتين شهدا بالسرقة والغصب، أو شاهداً وحلف معه استحق المسروق والغصوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتق لأن هذه البينة جحد في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي (مسألة) (وإذا شهد رجل وامرأتان لرجل بجارية أنها أم ولده ولدها منه قضي له بالجارية أم الولد وهل تثبت حرية الولد ونسبه من مدعيه؟ على روايتين)
أما الجارية فنحكم له بها لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها وإجارتها وإعارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد بإقراره لان إقراره ينفذ في ملكه ولذلك يثبت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين.
ولا نحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضاً فعلى هذا نقول الولد في يد المنكر مملوكاً له وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يأخذها وولدها ويكون ابنه لأن من يثبت له العين ثبتت له نماؤها والولد نماؤها وذكر فيها أبو الخطاب عن أحمد روايتين كقول الشافعي(12/100)
ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه، وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه (فصل) فإن ادعى أنها كانت ملكه فأعتقها لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين لأن البينة شهدت بملك قديم فلم يثبت والحرية لا تثبت إلا برجل وامرأتين ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها (باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة) (تقبل الشهادة على الشهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي وترد فيما يرد فيه) الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة (أحدها) جوازها (والثاني) في موضعها (والثالث) في شرطها.
أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
قال أبو عبيد اجتمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، ولأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الموقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل(12/101)
(الفصل الثاني) أنها تقبل في المال وما يقصد به المال كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول الشعبي والنخعي وأبي حنيفة وقال مالك والشافعي في قول وابو ثور تقبل في الحدود وفي كل حق لأن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهود الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا فيبطل إثباتها، وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضاً ولا حد القذف لأنه قال إنما يجوز في الحقوق.
أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك والشافعي يقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله في كل شئ إلا في الحدود ولأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية في الطلاق وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة فيه تدرأ بالشبهات وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحدود فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا(12/102)
بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على قبولها في جميع هذه الحقوق وهذا قول الخرقي، وقال ابن حامد لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود (الفصل الثالث) في شروطها وهي ثلاثة (أحدها) أن تتعذر شهادة شهود الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل هذا أحد الشروط وهو تعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياساً على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن أحمد مثل ذلك إلا أن القاضي تأوله
على الموت وما في معناه من الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فيزول هذا الخلاف ولنا على اشتراط تعذر شاهد الأصل أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل يستغني عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون والعمل باليمين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ولأن شهادة الأصل(12/103)
تثبت نفس الحق وهذا إنما تثبت الشهادة عليه ولأن في شهادة الفرع ضعفاً لأنه يتطرق إليها احتمالان احتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم ينتهض لإثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا يثبت إلا عند عدم شهادة الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها وكذلك لا يعتير فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسئلتنا.
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه قد تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك.
إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة المشروطة لسماع شهاد الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكن أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف وأبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر.
وقد قال تعالى (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع وقال أبو الخطاب تعتبر مسافة القصر.
وهو قول أبي حنيفة وأبي الطيب الطبري مع اختلافهم في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم وسنذكره إن شاء الله تعالى(12/104)
(مسألة) (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل فيقول أشهد على شهادتي أني أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه أقر عندي أو أشهدني على نفسه
طوعاً بكذا أو شهدت عليه أو أقر عندي بكذا، وإن سمعه يقول أشهد على فلان بكذا لم يجز أن يشهد إلا أن يسمعه يشهد عند الحاكم أو يشهد بحق يعزيه إلى سبب من بيع أو إجارة أو قرض فهل يشهد؟ به على وجهين) يشترط لجواز شهادة الفرع أن يسترعيه على ما ذكرنا فإن سمع شاهداً يسترعي آخر شهادة يشهد عليها جاز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد لا تكون شهادة إلا أن يكون يشهدك فأما إن سمعه يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد فأما إن سمع شاهداً يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو أن يقول أشهد أن لفلان على فلان ألفاً من ثمن سبيع فهل يشهد به؟ فيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب، وذكر القاضي أن له الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبة الحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرتفع الاشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما(12/105)
لو استرعاه والرواية الأخرى لا يجوز له أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة وأبي عبيد لأن الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته إنما شهد على شهادته، فأما إن قال أشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أنه يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي يوسف لأن معنى ذلك أشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال اشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما عدا هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة فإذا سمعه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد يوصف الوعد بالوجوب مجازاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العدة دين) ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسامعه الشهادة به، فإن قيل فلو سمع رجلاً يقول لفلان على فلان ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا الفرق بينهما من وجهين: (أحدهما) أن الشهادة تحتمل العلم ولا يحتمل الإقرار ذلك (الثاني) أن الاقرار اوسع في لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعى فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول
الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفاً فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على(12/106)
شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه.
(فصل) فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول أشهد أن فلان بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد أن لفلان بن فلان كذا أو أن فلاناً أقر عندي بكذا وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره قال أشهد أن فلان بن فلان أشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا، وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا، وإن كان نسب الحق إلى سببه قال أشهد أن فلان بن فلان قال أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك كتبه على ما ذكرناه (فصل) ويشترط أن يعينا شاهدي الأصل على ما ذكرنا ويسمياهما.
وقال ابن جرير إذا قالا ذكرين حرين عدلين جازوان لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا عدلين عندهما وهما مجروحان عند غيرهما ولأن المشهود عليه ربما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك.(12/107)
(مسألة) (وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشهادة شاهدين يشهدان عليهما سواء شهدوا على كل واحد منهما أو شهد على كل واحد منهما شاهد من شهود الفرع وقال أبو عبد الله بن بطة لا يثبت حتى يشهد أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع) .
وجملة ذلك أنه يجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل، قال القاضي لا يختلف كلام أحمد في هذا.
وهو قول شريح والشعبي والحسن وابن
شبرمة وابن أبي ليلى والثوري واسحاق والبتي والعنبري وقال اسحاق لم يزل أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء.
قال أحمد وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه إلا أن أبا حنيفة أنكره، وذهب أبو عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا تثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد على كل واحد منها واحد ولنا أن هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولأن شاهدي الفرع بدل من شاهدي الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولأن هذا إجماع(12/108)
على ما ذكره احمد وإسحاق ولأن شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقاً عليهما فوجب أن يقبل فيه قول واحد كاخبار الديانات فإنهما لا ينقلان الشهادة وليسقت حقاً عليهما ولهذا لو أنكراهما لم يعد الحاكم عليهما ولم يبطلها منهما وهذا الجواب عما ذكروه.
إذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل شاهد أصل شاهدي فرع أجاز أن يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبه قال مالك وأصحاب الرأي قال الشافعي رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين (أحدهما) جوازه (والآخر) لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع، واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف لآخر كما لو شهد أصلاً ثم يشهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر ولنا انهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا بإقرار اثنين أو بإقرارين بحقين وإنما لم يجز أن يشهد شاهد الأصل فرعاً لأنه يؤدي إلى أن يكون بدلاً أصلاً بشهادة بحق وذلك لا يجوز ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهما ظرفاً لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي إن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان ثبت بأربع نسوة وجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال (أحدها) لا مدخل لشهادة(12/109)
الفرع في إثباته (والثاني) يجوز ويجب أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على كل واحد من شهود الأصل أربعة (الثالث) يكفي ثمانية (والرابع) يكون أربعة يشهدون على كل واحد (والخامس) يكفي شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا إثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد (فصل) فإن شهد بالحق شاهد أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه ما ذكرنا من الخلاف من قبل (فصل) وإن شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعاً على شاهد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئاً وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد (مسألة) (ولا مدخل للنساء في شهادة الفرع) عن احمدان الذكورية شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما يقبل فيه شهادة النساء اولا.
وهذا قول الشافعي ومالك والثوري لأنهم يثبتون بشهادتهم شهود الأصل دون الحق وليس ذلك بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجل فأشبه القصاص والحد (والثانية) لهن مدخل فيما كان المشهود به يثبت بشهادتهن في الأصل قال حرب قيل لأحمد فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز؟ قال نعم يعني إذا كان معهما رجل، وذكر الأوزاعي قال: سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة.
ووجهه أن المقصود بشهادتهن إثبات الحق الذي شهد به شهود الأصل فيدخل(12/110)
النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على رجل وامرأتين، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أن النساء ليس لهن مدخل في الشهادة على الشهادة لأن فيها ضعفاً لما ذكرنا من قبل فلا مدخل لهن فيها لأنها تزداد بشهادتهن ضعفاً فاعتبرت تقويتها باعتبار الذكورية فيها فعلى هذه الرواية لا يكن أصولا ولا فروعا ولنا أن شهود الفرع أن كانوا يثبتون شهادة الأصول فهي تثبت بشهادتهم وإن كانوا يثبتون نفس الحق فهو يثبت بشهادتهم ولأن النساء يشهدن بالمال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له (مسألة) (قال القاضي لا تجوز شهادة رجلين على شهادة رجل وامرأتين) نص عليه أحمد
وقال أبو الخطاب هذه الرواية سهو من ناقلها (مسألة) (ولا يحوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى تثبت عنده عدالتهما وعدالة شاهدي الأصل) وذلك لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعاً فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا نعلم في هذا خلافاً فإن عدل شهود الأصل شهود الفرع فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز، ويتولى الحاكم ذلك فإذا علم عدالتهما حكم وإن لم يعرفهما وهذا مذهب الشافعي(12/111)
وقال الثوري وأبو يوسف إن لم يعدل شاهد الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم ولا يصح ذلك لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركانها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما (مسألة) (وإن شهدوا عنده فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم) لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء فلا تصح صلاته حتى يتوضأ (مسألة) (وإن حدث منهم ما يمنع قبول شهادتهم لم يجز الحكم) لابد من اشتراط اسم العدالة في الجميع إلى استمرار الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا فعلى هذا إن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بها لأن الحكم ينبني عليها فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا (مسألة) (فإن حكم بشهادتهما ثم رجع شهود الفرع لزمهم الضمان) لأن الإتلاف كان بشهادتهم فلزمهم الضمان كما لو أتلفوا بأيديهم (مسألة) (فإن رجع شهود الأصل لم يضمنوا) لأن الإتلاف كان بشهادة غيرهم فلا يلزمهم ضمان كالمتسبب مع المباشر ولأنهم لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم ويحتمل أن يضمنوا لأن الحكم يضاف إليهم بدليل أنه تعتبر عدالتهم فلزمهم الضمان كما لو حكم بشهادتهم ثم رجعوا ولأنهم سبب في الحكم فيضمنون كالمزكين(12/112)
(فصل) فإن مات شهود الأصل أو الفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع الشهادة لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعاً وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ومتى رجع شهود المال بعد الحكم لزمهم الضمان ولم ينقض الحكم سواء كان المال قائماً أو تالفاً) وسواء كان قبل القبض أو بعده أما الرجوع به على المحكوم له فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يرجع به عليه ولا ينقض الحكم في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكي عن سعيد ابن المسيب والاوزاعي أنهما قالا ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما يثبت به الحكم كما لو تبين أنهما كانا كافرين ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أو إقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول وفي مسئلتنا لم يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلى صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى لأنها تدرأ بالشبهات.
وأما الرجوع على الشاهدين(12/113)
به فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وقول الشافعي القديم وقال في الجديد لا يرجع عليهما بشئ إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما ولنا أنهما إنما أخرج ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص يحقق هذا أنه إذا لزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقوله أنهما ما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف
المال فهما تسببا إلى تلفه فلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين.
(مسألة) (وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة) كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف لأنهما من جملة المال.
وإن شهدا بالحرية ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتهما لسيدهما بغير خلاف بينهم فيه، فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف فيه ويغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات.(12/114)
(مسألة) (وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى وإن كان بعده لم يغرموا شيئاً) إذا شهدا بطلاق امرأة تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجعا عن الشهادة وكان قبل الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى.
وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه يجب مهر المثل لأنهما تلفا عليه البضع فلزمها عوضه وهو مهر المثل وفي القول الآخر يلمزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما يملك نصف البضع بدليل أنه إنما يجب عليه نصف المهر.
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما لو أخرجه من ملكه بردتها وإسلامها أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئاً ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها لم يغرم شيئاً وإنما يجب نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقرراه عليه كما يرجع به على فسخ نكاحه برضاع أو غيره وقوله إنه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولأن العقد ورد على جميعة والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماؤه لها وتملك طلبه إذا لم تقبضه وإنما يسقط نصفه بالطلاق وأما أن يكون الحكم بالفرقة بعد الدخول فليس عليهما ضمان وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه(12/115)
نكاحاً وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما قبل الدخول، وقال الشافعي يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع وقد سبق الكلام سعه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول لأنهما قررا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئاً ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجاه من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها.
(مسألة) (وإن رجع شهود القصاص أو الحد قبل الاستيفاء لم يستوف وإن كان بعده وقالوا أخطأنا فعليهم دية ما تلف ويقسط الغرم على عددهم فإن رجع أحدهم غرم بقسطه) .
وجملة ذلك أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم تخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم فقال يحكم بها، لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد، لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز به الحكم كما لو شهد بقتل رجل ثم علمت حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز به الحكم كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده (الحال الثاني) أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص ولم يجز استيفاؤه، لأن(12/116)
الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولأن المحكوم به عقوبة لم يبق ظن استحقاقها ولا سبيل إلى خبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وإن كان المحكوم به مالاً استوفي ولم ينقض الحكم وقد ذكرناه وفارق المال القصاص والحد فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهد عوضه والحد والقصاص لا يجير بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب له منه عوض وإنما شرع لزجر والتشفي والانتقام لا للجبر، فإن قيل فلم قلتم إنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهد استوفي في أحد الوجهين قلنا الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذباً ولا أنه كان فاسقاً حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد
الاستيفاء لم يلزمه شئ والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا، (الحال الثالث) أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شئ سواء كان المشهود به مالاً أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين فإن كان المشهود إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح وقالا عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبه قال ابن أبي ليلى والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وقال أصحاب الرأي لاقود عليهما لأنهما لم يباشرا الاتلاف فأشبها حافر البئر إذا تلف به شئ.(12/117)
ولنا أن علياً رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا أخطأنا ليس هذا السارق فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة ولأنهما تسببا إلى قتله وقطعه بما يفضي إليه غالباً فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر فإنه لا يفضي إلى القتل غالباً وقد ذكرنا هذه المسألة في الجنايات فإن قالا عمدنا الشهادة عليه ولم نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما وإن قال أحدهما عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف الدية مغلظة وعلى الآخر نصفها مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب وإن قال كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئاً وهو لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره لا بإقرار غيره فعلى هذا تجب عليهما دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعاً وقال الآخر عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني وجهان كالتي قبلها، وإن قالا أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما عمدنا معاً وقال الآخر أخطأنا معاً فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف الدية مخففة لأن كل واحد منهما يؤاخذ بإقراره، وإن قال كل واحد منهما عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص، لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد(12/118)
لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقراره لا بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما عمدت ولا أدري
ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإن قال مثل قوله فهي كالتي قبلها، وإن قال عمدنا معاً فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال أخطأت أو أخطأنا فلا قصاص على كل واحد منهما وإن جهل حال الآخر بجنون أو موت أو لم يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة.
(فصل) وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم ولا تستوفى العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لزم حكم إقراره وحده فإن اقربما يوجب القصاص وجب عليه وان اقربما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وإن أقر بالخطأ وجب عليه قسطه من الدية المخفقة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص ونحوه فيما يثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع لزائد منهم قبل الحكم أو الاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفا لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهم إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف ذكرنا بعضه(12/119)
(فصل) وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع فإنه يوزع بينهم على عددهم قلوا أو كثروا قال أحمد في روايه بن منصور إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالاً فإنه ضامن بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا ائنين فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة فعليه العشر فإن رجع أحدهم وحده غرم بقسطه على ما ذكرنا وفيه اختلاف يذكر إنشاء الله تعالى فإذا شهد أربعة بالقتل فقتل المشهود عليه ثم رجع واحد فعليه الربع إن قال أخطأنا وإن رجع اثنان فعليهما النصف (مسألة) (فإذا شهد ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية) وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة إن رجع واحد أو اثنان فلا شئ عليهما لأن بينة
الزنا قائمة فدمه غير محقون وإن رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وان رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف أصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية؟(12/120)
على وجهين قال ابن الحداد عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائداً بأن دم المشهود عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده واختلفوا فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين (أحدهما) يضمن الثلث (والثاني) لا شئ عليه ولنا أن الإتلاف حصل بشهادتهم فالراجع يقر بالمشاركة فيه عمداً عدواناً كمن هو مثله في ذلك فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الإتلاف بشهادته فلزمه من الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع، وقولهم أن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق له دم يوصف بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقرانه قتله ظلماً وأن الشهود شهود زور والتفريق بين القصاص(12/121)
والرجم يكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولأن كل واحد مؤاخذ بإقراره ولا يعتبر قول شريكه ول هذا لو أقر أحد الشريكين بعمدها وقال الآخر أخطأنا وجب القصاص على المقر بالعمد (مسألة) (وإن شهد أربعة بالزنا وإثنان بالإحصان ثم رجع الجميع لزمتهم الدية أسداساً في أحد الوجهين وفي الأخرى على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف فإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان صحت الشهادة فإن رجم ثم رجعوا عن الشهادة فعلى من شهد بالإحصان ثلثا الدية على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يلزمهم ثلاثة أرباعها)
وجملة ذلك أنه إذا شهد أربعة بالزنا وإثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على جميعهم وقال أبو حنيفة لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بالشرط دون السبب الموجب للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولنا أن قتله حصل بمجموع الشهادة فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعاً على الزنا وفي كيفية الضمان وجهان(12/122)
(أحدهما) يوزع عليهم على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم (والثاني) على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف لأنهما حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة بالزنا واثنان منهم بالإحصان ثم رجعوا فعلى الأول على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى الآخر الثلث لأن على شاهدي الإحصان الثلث لشهادتهما به والثلث بشهادتهما بالزنا وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنا وحده وعلى الوجه الثاني على شهود الإحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالإحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل أن لا يجب على شاهدي الإحصان إلا النصف لأن كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جنايتهم كما لو قتل اثنان واحداً جرحه أحدهما جرحاً والآخر اثنين (فصل) وإذا حكم الحاكم في المال برجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة يوزع الضمان عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه وإن رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته وإن كان الشهود رجلاً وعشر نسوة فرجعوا على شهادتهم فعلى الرجل السدس وعلى كل امرأة نصف السدس وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل أن يجب عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف ومحمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه(12/123)
نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده قبل الحكم كان كرجوعهن كلهن فيكون الرجل حزباً والنساء حزباً فإن رجع بعض النسوة وحده والرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة
وأصحابه متى رجع من النسوة معاً زاد على اثنين فليس على الراجعات شئ وقد مضى الكلام معهم في هذا (فصل) وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد منهما ما رجع عنه بسقطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم يقر بأنه فوت على المشهود عليه وبع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة والأربعمائة أكثر من خمسين خمسين لأن المائتين اللتين رجع عنهما قد بقي بهما شاهدان (مسألة) (وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله ويتخرج أن يغرم النصف) المنصوص عن أحمد رحمه الله أنه يضمن المال كله في رواية جماعة ويتخرج أن يضمن النصف وبه قال مالك والشافعي لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين(12/124)
ولنا أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كالشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول الخصم لمس بحجة على خصمه وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته للحاكم بالحكم وبهذا ينفصل عما ذكروه، وإن سلمنا أنها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف إذا قلنا برد اليمين على المدعي (فصل) وإذا شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد عن ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنها تمام القيمة وكذلك إن شهدا على رجل أنه طلق امرأته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها بشهادتهما المرجوع عنها، وإن شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهود النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون
عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فيقسم بين الأربعة أرباعاً، وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهما شئ لأنهما لم يفوتا عليه شيئاً يدعيه ولا أوجبا عليه ما لم يكن واجباً.(12/125)
(مسألة) (وإن بان بعد الحكم أن الشاهدين كانا كافرين أو فاسقين نقض الحكم ويرجع بالمال أو ببدله على المحكوم له، وإن كان المحكوم به إتلافاً فالضمان على المزكين فإن لم يكن ثم تزكية فعلى الحاكم، وعنه لا ينقض إذا كانا فاسقين) وجملة ذلك أن الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بانا فاسقين أو كافرين فإن الإمام ينقض حكمه ويرد المال إن كان قائماً أو عوضه إن كان تالفاً، فإن تعذر ذلك لإعساره أو غيره فعلى الحاكم ثم يرجع على المشهود له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويغرم الشهود المال وكذلك إذا شهد عنده عدلان أن الحاكم قبله حكم بشهادة فاسقين ففيه روايتان، واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضاً ولا خلاف بين الجميع أنه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين فنقيس على ذلك إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى التبين فيها فقال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) وأمر(12/126)
وأمر بإشهاد العدول فقال سبحانه (وأشهدوا ذوي عدل منكر) وقال سبحانه (ممن ترضون من الشهداء) فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الإسلام ولأن الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم منعه فإذا شهد شاهدان أنه كان موجوداً حال الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات.
إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين قبل الحكم ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق لكن يسأل عن الشاهدين ولا يسمع على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع فيه الدعوى والبينة.
ولنا أنه معنى يتعلق به الحكم فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية، وقوله لا يتعلق به حق
أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعد وتبرئته من أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب أن تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهد ولم(12/127)
يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة بالفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه فإذا لم يسمع عليه شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالماً له فأما إن قامت البينة أنه حكم بشهادة والدين أو ولدين أو عدوين فإن كان الحاكم الذي حكم بشهادتهما ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصاً ولا إجماعاً، فان كل ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نفضه لأن الحاكم يعتقد بطلانه.
(فصل) فإن كان المحكوم به إتلافاً كالقطع في السرقة والقتل ثم بان أنهما كافران أو فاسقان أو عبدان أو أحدهما فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما فإن لم يكن ثم مزكون فالضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لانه مخطئ وتجب الدية وفي محلها روايتان (إحداهما) في بيت المال (والثانية) على العاقلة وقد ذكرنا ذلك فيما مضى وللشافعي قولان كالروايتين، فإن قلنا الدية على العاقلة لم تحمل إلا الثلث فما زاد ولا تحمل الكفارة لأنها لا تحمل ذلك في محل الوفاق كذى ههنا وتكون الكفارة في مال القاتل، وإن قلنا في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأنه يكثر فيه خطؤه فجعل الضمان عليه يجحف به وإن قل ولأن جعله في بيت المال لعلة أنه نائب عنهم وخطأ النائب على مستنيبه وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من يتولاه، قال أصحابنا وإن كان الولي استوفاه فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه والولى يدعي أنه حقه فإن قيل فإذا(12/128)
كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق الشهود كان الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا ههنا قلنا ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق
فوجب عليه رده أو ضمانه إن تلف وههنا لم يحصل في يده شي وإنما أتلف شيئاً بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا.
(فصل) فإن كان ثم مزكون مثل أن يشهد بالزنا أربعة فيزكيهم اثنان فرجم المشهود عليه ثم بان الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقيناً والضمان على المزكين، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال القاضي الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقيق شرطه ولا ضمان على المزكين لان شهادتهما شرط وليست الموجبة، وقال أبو الخطاب في رءوس المسائل الضمان على الشهود بالزنا ولنا أن المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهم الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الحكم على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقولهم إن شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا أن شهود الإحصان يلزمهم الضمان وإن لم يشهدوا بالسبب(12/129)
وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف المزكين فإنه تبين كذبهم وأنهم شهدوا بالزور فأما إن تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فلزمه الضمان كما لو قبل شهادة شهود الزنا من غير تزكية ثم تبين كذبهم (فصل) ولو جلد إمام انسانا تشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام ضمان ما حصل بسبب الضرب) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو فتله (مسألة) (وإذا شهدوا عند الحاكم بحق ثم ماتوا حكم بشهادتهم إذا ثبتت عدالتهم) لأنهم أدوا الشهادة، أشبه ما لو كانوا أحياء وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم (مسألة) (وإذا علم الحاكم بشاهد الزور عزره وطاف به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال
أنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه) شهادة الزور من أكبر الكبائر وقد نهى تعالى عنه في كتابه مع نهيه عن الاوتان فقال سبحانه (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) وروى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قالوا بلى يارسول الله قال (الإشراك بالله وعقوق الوالدين)(12/130)
وكان متكئاً فجلس فقال (ألا وقول الزور وشهادة الزور) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه وروى أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار) فمتى ثبت عند الحاكم أن رجلاً شهد بزور عمداً عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول شريح والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والاوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعزر ولا يشهر ولأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار، وروى عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون ولنا أنه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين (أحدهما) أنه يختص بضرره (والثاني) أنه أوجب كفارة شاقة هي يشد من التعزير ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولا نعلم له في الصحابة مخالفاً.
إذا ثبت ذلك فإن عقوبته غير مقدرة وإنما ذلك مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد فعل وإن رأه بحبس أو كشف رأسه وتوبيخه فعل ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي لا يزيد على تسع وثلاثين وقال ابن أبي ليلى يجلد خمساً وسبعين سوطا.
وهذا أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق يجلدان مائة ويغرمان الصداق.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من من حدود الله) متفق عليه(12/131)
وقال القاسم وسالم يخفق سبع خفقات فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو في قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المساجد ويقول الموكل به
إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول هذا شاهد زور فاعرفوه، وهذا مذهب الشافعي وأتي الوليد بن عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به، ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه، وروى عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلده ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول من رأني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق بعض رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في السوق والذي شهدوا له معهم.
ولنا أن هذا مثلة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوماً وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما رآه لم يخرج عن مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شئ من هذا حتى يتحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك أو يشهد على رجل بفعل في الشام ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي وأن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل(12/132)
أنه فعل شيئاً وقد مات قبل ذلك وأشباه هذا مما يعلم به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يمنع أنه كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه قال الله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) (فصل) ومتى علم أن الشاهدين شهدا بالزور تبين أن الحكم كان باطلاً ولم نقضه لأنا تبينا كذبهما وإن كان المحكوم به مالاً رد إلى صاحبه وإن كان إتلافاً فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلى أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهما من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعاً منهما عن شهادتهما وقد مضى حكم ذلك.
(فصل) وإن تاب شاهد الزور ومضى على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها
وعدالته قبلت شهادته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا تقبل شهادته أبداً لأن ذلك لا يؤمن منه.(12/133)
ولنا أنه تائب من ذنبه فقبت توبته كسائر التائبين وقوله لا يؤمن منه ذلك.
قلنا مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن معاودة ذنوبهم وشهادتهم مقبولة (مسألة) (ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة فإن قال أعلم أو أحق لم يحكم به) وجملة ذلك أن لفظ الشهادة معتبر في أدائها فيقول أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال أعلم أو أحق أو أتيقن أو أعرف لم يعتد به لأن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنها تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم في ذلك خلافا.
(فصل) وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته ذكره الخرقي مثل أن يشهد بمائة ثم يقول بل هي مائة وخمسون أو بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيراً وبهذا قال أبو حنيفة والثوري واسحاق وقال الزهري لا تقبل شهادته الأولى ولا الأخيرة لأن كل واحدة منهما ترد ولأن الأولى مرجوع عنها (والثانية) غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطئه في شهادته فلا يؤمن أن تكون في الغلط كالأولى وقال مالك يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم فلا يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم(12/134)
ولنا أن شهادته الآخرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فوجب استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه فلا ينقض بعد تمامه.
(باب اليمين في الدعاوى)
وهي مشروعة في حق المنكر في كل حق لآدمي وجملة ذلك أن الحقوق على ضربين (أحدهما) ما هو حق لآدمي (والثاني) ما هو حق لله تعالى وحق الآدمي ينقسم قسمين: (أحدهما) ما هو مال أو المقصود منه المال كالبيع والقرض والصلح والغصب والجناية الموجبة للمال فيستحلف فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه) متفق عليه ولحديث الحضرمي والكندي(12/135)
(القسم الثاني) ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاء والولاء والرق ففيه روايتان: (إحداهما) لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد ولم أسمع من مضى جوز الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة، وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الإيلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاء والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخلها البدل فإن المدعى عليه مخير بين أن يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين فلا تعرض فيها اليمين كالحدود.
(والرواية الثانية) يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال ارتجعتك فقالت انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلفا في مضي الأربعة الأشهر في الإيلاء فالقول قوله مع يمينه فيخرج في هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد(12/136)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قول دماء رجال وأموالهم) ولأن اليمين على المدعى عليه وهذا عام في كل مدعى وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فجاز أن يحلف عليه كدعوى المال وهذا أولى إن
شاء الله تعالى.
وقال أبو بكر عبد العزيز تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق لأن هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف كحقوق الله سبحانه وإنما كان كذلك لأن الإبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول لأن النكول ليس بحجة قوية لانه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي ومع هذه الاحتمالات لا نيبغي أن يقضي به فيما يحتاط له، وقال أبو الخطاب تشرع اليمين في كل حق لآدمي إلا في تسعة أشياء النكاح والرجعة والطلاق والرق والاستيلاء والنسب والقذف والقصاص لأن البدل لا يدخل هذه الأشياء ثم يستحلف فيها كحقوق الله سبحانه، وقال القاضي في الطلاق والقصاص والقذف روايتان (إحداهما) لا يستحلف فيها لذلك (والثانية) يستحلف فيها لأنها دعوى صحيحة يستحلف فيها كدعوى المال.
وأما الستة الباقية فلا يستحلف فيها رواية واحدة لما سبق وقال الخرقي لا يستحلف(12/137)
في القصاص ولا المرأة إذا أنكرت النكاح وتحلف إذا ادعت انقضاء عدتها لما سبق وإذا أقام العبد شاهداً بعتقه حلف مع شاهده وعتق وهي إحدى الروايتين عن أحمد وقد ذكرنا ذلك (مسألة) (ولا يستحلف في حقوق الله سبحانه) وهي نوعان (أحدهما) الحدود فلا تشرع فيها يمين لا نعلم في هذا خلافاً لأنه لو أقر ثم رجع عن إقراره قبل منه وخلي من غير يمين فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود ترك الشهادة والستر عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم لهزال في قصة ماعز (ياهزال لو سترته بثوبك لكان خيراً لك) فلا تشرع فيه يمين بحال (النوع الثاني) الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وإن الحول قد تم وكمل النصاب فقال أحمد القول قول رب المال بغير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقول الشافعي وابو يوسف يستحلف لأنها دعوى مسموعة يتعلق بها حق آدمي أشبه حق الآدمي، ووجه الأول أنه حق لله تعالى أشبه الحد ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه أن عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر أو صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع
الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى ولأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه فلا تسمع منه دعواه(12/138)
كما لو ادعى حقاً لغيره من غير إذنه ولا ولاية له عليه فإن تضمنت دعواه حقاً له مثل أن يدعي سرقة ماله لتضمين السارق أو يأخذ منه ما سرق أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى (مسألة) (ويجوز الحكم في المال وما يقصد به المال بشاهد ويمين المدعي) روى ذلك عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، وقد سبق ذكر ذلك ولا تقبل فيه شهادة امرأتين ويمين لأن شهادة النساء ناقصة وإنما أجيزت بانضمام الذكر إليهن فلا يقبلن منفردات وإن كثرن ويحتمل أن يقبل لأن المرأتين في المال مقام رجل فيحلف معهما كما يحلف مع الرجل وهو مذهب مالك ويبطل ذلك بشهادة أربع نسوة فإنه لا يقبل إجماعاً (مسألة) (وهل يثبت العتق بشاهد ويمين؟ على روايتين) (إحداهما) يثبت وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه إزالة ملك فيقبل فيه شاهد ويمين كالبيع أو إتلاف مال فيقبل فيه شاهد ويمين كالإتلاف بالفعل (والرواية الثانية) لا تثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فاشبه الحدود والقصاص.(12/139)
(مسألة) (ولا يقبل في النكاح والرجعة وسائر ما لا يستحلف فيه كالطلاق والوصية شاهد ويمين) لقول الله تعالى في الرجعة (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقسنا عليه سائر ما ذكرنا لأنه ليس بمال ولا يقصد به المال أشبه العقوبات وفيه رواية أخرى يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال وقال القاضي النكاح لا يثبت إلا بشاهدين والثاني يخرج فيه روايتان ذكرنا وجههما (مسألة) (ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الإثبات حلف على البت)
معنى البت القطع أي يحلف بالله ما له على شئ والايمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال الشعبي والنخعي كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية عن أحمد وذكر حديث البستاني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون) ولأنه لا يحلف على ما لا علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها علي البت كما يحلف على فعل نفسه ولنا حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً فقال (قل والله الذي لا إله إلا هو ماله عليك حق) وروى الأشعث بن قيس أن رجلا من كندة ورجلاً من نضر موت اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمين فقال الحضرمي يارسول الله إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا وهي في يده(12/140)
قال (هل لك بينة؟) قال لا ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه فتهبأ الكندي لليمين رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمين كما لو افترقت الشهادة فأنها تكون بالقطع فيما يمكن القطع فيه من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأسباب وعلى نفي العلم فيما لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على أنه لا وارث له إلا فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن محمول على اليمين على نفي فعل الغير إذا ثبت هذا فإنه يحلف فيما عليه على البت نفياً كان أو اثباتاً، وأما ما يتعلق بفعل غيره فان كان اثباتاً مثل أن يدعي أنه اقرض أو باع ويقيم شاهداً بذلك فانه يحلف مع شاهده على البت والقطع، وان كان على نفي مثل أن يدعي عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم لا غير، وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى أن عبده استدان أو جنى فأنكر ذلك فيمينه على نفي العلم لأنها يمين على فعل الغير فاشبهت يمين الوارث على نفي فعل الموروث (فصل) ذكر ابن أبي موسى أنه اختلف قوله فيمن باع سلعة فظهر المشتري على عيب بها فانكره
البائع هل اليمين على البتات أو على علمه؟ على روايتين ولو ابق عبد المشتري فادعى على البائع أنه ابق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف أنه لم يأبق قط أو على نفي علمه؟ على روايتين إلا أن يكون ولده(12/141)
فيلزمه ان يجلف أنه لم يأبق قط، ووجه كون اليمين على نفي علمه أنها على نفي فعل الغير فأشبه ما لو ادعى عليه أن عبده جنى، ووحه الأخرى أنه ادعى عليه أنه باعه معيباً يستحق رده عليه فلزمته اليمين علي البت كما لو كان إثباتاً (مسألة) (ومن توجهت عليه يمين الجماعة فقال أحلف يميناً واحدة فرضوا جاز وإن أبوا حلف لكل واحد يميناً) إذا كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة صح وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق ببينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة قال القاضي: ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يميناً وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة لا يعمل برضى الخصم كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا تكون لكل حق بعض البينة فأما أن حلفه الحاكم لجميعهم يميناً واحدة فخطأه أهل عصره (1) (فصل) قال (الشيخ رحمه الله واليمين المشروعة هي اليمين بالله تعالى اسمه في قول عامة
__________
(1) كذا بالاصل(12/142)
أهل العلم إلا أن مالكا أحب بالله الذي لا إله إلا هو وإن استحلف حاكم بالله أجزأ) قال ابن المنذر وهذا أحب إلي لأن ابن عباس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلاً فقال (قل والله الذي لا إله الا هو ماله عندك شئ) رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال والله الذي لا إله إلا هو إن النخل لتخلي وما لأبي فيها شئ وقال الشافعي إن كان المدعى قصاصاً أو عتاقاً أو حداً أو مالاً يبلغ نصابا غلظت اليمين فحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم
الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب وذكر القاضي أن هذا في أيمان القسامة خاصة وليس بشرط ولنا قول الله تعالى (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى) وقال تعالى (فيقسمان بالله لشهادتنا احق من شهادتهما) وقال تعالى في اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) وقال سبحانه (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) قال بعض المفسرين من أقسم بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة؟) وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولأن فيه كفاية فوجب أن يكتفي باسمه في اليمين كالمواضع التي سلموها فأما حديث ابن عباس وابن عمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف لذلك وما ذكرناه يدل على(12/143)
الاكتفاء ببسم الله وحده وما ذكره الباقون تحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه إذا ثبت هذا فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعاً بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقول الله تعالى (فيقسمان بالله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت (مسألة) (وإن رأى الحاكم تغليظها بلفظ أو زمن أو مكان جاز) ففي اللفظ يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب وشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واليهودي والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق له البحر وانجاه من فرعون وملائه والنصراني يقول والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحى الموتى ويبرئ الاكمه والايرص والمجوسي يقول والله الذي خلقني وصورني ورزقني، والزمان يحلفه بعد العصر وبين الأذانين والمكان يحلفه بمكة بين الركن والمقام وفي الصخرة ببيت المقدس وفي سائر البلدان عند المنبر ويحلف أهل الذمة في المواضع التي يعظمونها وهذا الذي ذكره شيخنا اختيار أبي الخطاب قال وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال قل والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنياً حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ولأن(12/144)
هذا إن لم يكن يعد هذه يميناً فإنما يزداد بها إثماً وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غيره وهذا كله ليس بشرط في اليمين وإنما للحاكم فعله إذا رأى، وظاهر كلام الخرقي إن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلم وبه قال أبو بكر وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني (لليهود نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى؟) رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي تغلظ في المكان فيحلف في المواضع التي يعظمونهما ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان، وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق وأبو عبيدة بن عبد الله وعطاء وشريح والحسن وابراهيم وكعب بن سور ومالك والثوري وأبو عبيد وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك والشافعي تغلظ ثم اختلفا فقال مالك يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف قائماً ولا(12/145)
يحلف قائماً إلا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحلفون في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر إلا على ما يقطع فيه السارق فصاعداً وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة ببيت المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر على نحو ما ذكرناه في صدر المسألة ولا تغلظ في المال إلا في نصاب فصاعداً وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وقال ابن حزم تغلظ بالقليل والكثير واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار) فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين، وروى مالك قال اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم فقال زيد أحلف له مكاني فقال مروان لا(12/146)
والله الا عند منقطع الحقوق قال فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب.
ولنا قول الله تعالى (فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا احق من شهادتهما) ولم يذكر مكاناً ولا زماناً ولا زيادة في اللفظ، واستحلف النبي صلى الله عليه وسلم ركانة في الطلاق فقال (آالله ما أردت إلا واحدة؟) قال آالله ما أردت إلا واحدة ولم يغلظ يمينه بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ، وحلف عمر لابي حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه وفيما ذكروه من التغليظ تقييد لهذه النصوص ومخالفة للإجماع فإن ما ذكر عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما لم ينكر وهو في الشهرة فكان إجماعا وقوله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة) إنما كان في حق أهل الكتاب والوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع، منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين، ومنها استحلاف الشاهدين، ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الإثم وهم لا يعلمون بها أصلاً فكيف(12/147)
يحتجون بها؟ ولما ذكر إيمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به.
وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه دليل على تغليظ الإثم على الحالف.
وأما قضية مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها وقول زيد فقيه الصحابة وقارئهم وأفرضهم أحق أن يحتج به من قول مروان الذي لو انفرد ما جاز الاحتجاج به فكيف يجوز مع مخالفة إجماع الصحابة وقول أئمتهم وفقهائهم ومخالفة فعلى النبي صلى الله عليه وسلم وإطلاق كتاب الله سبحانه وتعالى؟ فهذا مما لا يجوز إنما ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الآدمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى) وروي عن كعب بن سور في النصراني قال: إذهبوا به إلى المذبح واجعلوا الإنجيل في حجره والتوراة على رأسه، وقال الشعبي في نصراني: اذهب إلى البيعة فاستحلفه بما يستحلف به مثله.
وقال ابن المنذر لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا يميناً يستحلف بها غير التي يستحلف بها المسلمون، وفي الجملة لا خلاف بين المسلمين في أن التغليظ بالمكان والزمان والألفاظ غير(12/148)
واجب إلا أن ابن الصباغ ذكر في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن القاص فقال لا خلاف بين أهل العلم أن القاضي حيث استحلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وانما التغليظ بالمكان اختيار منه فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحبابا.
(فصل) قال ابن المنذر ولم أجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي رأيتهم يؤكدون بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف قال أصحابه فيغلظ عليه بالحضار المصحف لأنه يشتمل على كلام الله وأسمائه وهذه زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين وعلى ما فعله الخلفاء وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه لفعل ان مازن ولا غيره (مسألة) (ولا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كالجنايات والعتاق والطلاق وما تجب فيه الزكاة من المال عند من يرى التغليظ)(12/149)
وقيل ما يقطع فيه السارق روي ذلك عن مالك لأن التغليظ زيادة على اليمين التي ورد الشرع بوجوبها فلا تجب إلا بزيادة على مطلق الحق وترك التغليظ أولى على ما اختاره شيخنا ودل عليه إلا في موضع ورد الشرع به وصح كتحليف رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بقوله (نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى) ونحوه (مسألة) (وإن رأى الحاكم ترك التغليظ فتركه كان مصيباً) لموافقته مطلق النص وهو قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن اليمين على المدعي عليه) (فصل) ومن توجهت عليه يمين وهو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شئ عليه من إثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا يشرع محرماً وقد أمر الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه منها قوله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن(12/150)
يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن)) وحلف عمر لأبي على نخل ثم وهبه إياه وقال خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فيصير سنة قال حنبل بلي أبو عبد الله بمثل هذا جاء إليه ابن عمه فقال لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى؟ قال أحلف له، إذا لم يكن له في قبلي حق وأنا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر قد حلف؟ وأنا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عن تلك المطالبة واختلف في الأولى فقال قوم الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولأن في الحلف فائدتين (إحداهما) حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته (والثانية) تخليص أخيه الظالم من مظلمته وأكل المال بغير حقه وهذا من نصحه ونصرته بكفه عن ظلمه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجل أن يحلف ويأخذ حقه وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يميمنه وقال خفت إن يصادف قدراً فيقال حلف وعوقب، أو هذا شؤم يمينه.
وروى الخلال بإسناده أن حذيفة عرف جملاً سرق(12/151)
له فخاصم إلى قاضي المسلمين فصارت اليمين على حذيفة فقال لك عشرة دراهم فأبى فقال لك عشرون فأبى فقال لك ثلاثون فأبى فقال لك أربعون فأبى فقال حذيفة أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه ما باع ولا وهب، ولان في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب وانه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله أجر وليس هذا تضيبعا للمال فان أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة، وأما عمر فانه خاف لاستنان به وترك الناس الحلف على حقوقهم فيدل على أنه لولا ذلك لما حلف قال شيخنا وهذا أولى والله تعالى أعلم (فصل) والحلف الكذب ليقتطع به مال أخيه فيه اثم كبير وقيل أنه من الكبائر لأن الله تعالى وعده عليه العذاب الأليم فقال سبحانه (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) متفق عليه وقد روي في حديث أن يمين الغموس تدع الدبار بلاقع.(12/152)
(فصل) ومن ادعى عليه دين وهو معسر به لم يحل له أن يحلف أنه لا حق له علي وبهذا قال المزني وقال أبو ثور له ذلك لأن الله تعالى قال (وإن كانوا ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولأنه لا يستحق مطالبته في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه.
ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم يكن عليه حق لم يجز إنظاره به (فصل) ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه أو استودعه أو اقترض منه نظرنا في جواب المدعى عليه فإن قال ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف على ذلك، وإن قال مالك علي شئ أو لا تستحق علي شيئاً أو لا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئاً منه كان جواباً صحيحاً ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه فلو كلف جحد ذلك كان كاذباً، وإن أقر به ثم ادعى الرد لم يقبل منه فإذا طلبت منه اليمين حلف(12/153)
على حسب ما أجاب ولو ادعى أنني ابتعتك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه فإن كان أجاب بأنك لا تستحقها حلف على ذلك(12/154)
قال أحمد في رجل ادعى على رجل أنه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتك؟ قال إذا حلف مالك عندي ولا في يدي شئ فهو يأتي على ذلك؟ وهذا يدل على أنه لا يلزمه أن يحلف على حسب الجواب(12/155)
وأنه متى حلف مالك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره فلو كا ن المدعى عليه صغيراً أو مجنوناً(12/156)
لم يحلف عنه حتى يبلغ الصبي أو يعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لإبنه الصغير حقاً أو ادعاه الوصي أو الأمين له وأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل قضي عليه ومن لم ير(12/157)
القضاء بالنكول ورأى رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين ويكتب الحاكم محضراً بنكول المدعى عليه، وإن ادعى على العبد دعوى وكانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه(12/158)
كالقصاص والطلاق والقذف والخصومة معه دون سيده فإن قلنا أن اليمين تشرع في هذا حلف العبد دون سيده وإن نكل لم يحلف غيره.
وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كاتلاف مال أو(12/159)
جنياة توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال، وإن نكل من توجهت عليه اليمين عنها وقال لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته لأحلف على ما أتيقنه فذكر أبو الخطاب أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلاً.
وقيل لا يكون ذلك نكولاً ويمهل مدة قريبة كما لو ادعى قضاء أو ابراء (فصل) ولو ادعى على رجل ديناً أو حقاً فقال قد أبرأتني منه واستوفيته مني فالقول قول(12/160)
المنكر الإبراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه أن يحلف بالله أن هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها معلوما - برئت ذمتك منه ولا من شئ منه، أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شئ منه وإن ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة كفاه الحلف على تلك الجهة وحدها(12/161)
باب الدعاوى والبينات الدعوى إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً أو ملكاً أو استحقاقاً أو نحوه.
وهو في الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شئ عليه.
وقال ابن عقيل الدعوى الطلب قال الله تعالى (ولهم ما يدعون) (مسألة) (والمدعي من إذا ترك سكت والمنكر من إذا سكت لم يترك) وقيل المدعي من يلتمس بقوله أخذ شئ من يد غيره وإثبات حق في ذمته والمدعى عليه من
ينكر ذلك وقد يكون كل واحد منهما مدعياً ومدعى عليه بأن يختلفا في العقد فيدعي كل واحد منهما أن اليمين غير الذي ذكره صاحبه.
والأصل في الدعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قول دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وفي حديث (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) (مسألة) (ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف) لأن من لا يصح تصرفه لا قول له في المال ولا يصح إقراره ولا تصرفه فلا تسمع دعواه ولا إنكاره كما لا يسمع إقراره(12/162)
(مسألة) (وإن تداعيا عينا لم تخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن تكون في يد أحدهما فهي له مع يمينه أنه لا حق للآخر فيها إذا لم تكن بينة) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الحصرمي والكندي (شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك) ولأن الظاهر من اليد الملك (مسألة) (ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر أخذ بزمامها فهي للأول) لأن تصرفه أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها، فإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكبها فهي للراكب لأنه أقوى تصرفاً فإن اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو للراكب لأن يده على الدابة والحمل معاً فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها.
وإن تنازع الراكب وصاحب الدابة في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب الفرس.
ولو تنازع اثنان في ثياب عبد لاحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وإن تنازع صاحب الثياب وآخر في العبد اللابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب ومذهب الشافعي في هذا الفصل كالذي ذكرنا(12/163)
(فصل) وإن تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه لأن تصرفه أقوى وهو المستوفي لمنفعته، فإن كان كمه في يد أحدهما وباقيه مع الآخر أو تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها في يد الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل أنه لو كان باقيها على الأرض فنازعه فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها (فصل) ولو كانت دار فيها أربعة أبيات في أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن أخر فاختلفا فيها فإن لكل واحد ما هو ساكن فيه لأن كل بيت منفصل عن صاحبه ولا يا شرك الخارج منه الساكن فيه في ثبوت اليد عليه وإن تنازعا الساحة التي يتطرق منها إلى البيوت فهي بينهما نصفان لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها فأشبهت العمامة فيما ذكرنا (مسالة) (وإن تنازع صاحب الدار والخياط الابرة والمقص فهما للخياط) لأن تصرفه فيهما أكثر واظهر، والظاهر أن الإنسان إذا دعى خياط يخيط له فالعادة أنه يحمل معه إبرته ومقصه.
وإن اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذ ليست العادة أن يحمل القميص معه يخيطه في دار غيره وإنما العادة أن يخيط قميص صاحب الدار فيها وإن اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار وآلة النجارة فهي النجار وإن اختلفا(12/164)
في الخشبة المنشورة والأبواب والرفوف المنجورة فهي لصاحب الدار وإن اختلف النجاد ورب الدار في قوس الندف فهو للنجاد، وإن اختلفا في الفرش والقطن والصوف فهو لصاحب الدار (مسالة) (وإن تنازع هو والقراب القربة فهي للقراب) وإن اختلفا في الخابية والجرار فهي لصاحب الدار، ومذهب الشافعي في هذه المسائل على ما ذكرناه (مسألة) (وإن تنازعا عرصة فيها شجر أو بناء لأحدهما فهي له) لأنه استوفى لمنفعتها (مسألة) (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما أو وحده أو متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه أو له عليه أزج فهو له وإن كان محلولاً من بنائهما أو معقوداً بهما فهو بينهما) وجملة ذلك أن الرجلين إذا تنازعا حائطاً بين ملكهما وتساويا في كونه معقودا ببنائهما معاً وهو
أن يكون متصلاً بهما إتصالاً لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه معطائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو تساويا في كونه محلولاً من بنائهما أي غير متصل القنائهما الاتصال المذكور بل بينهما شق مستطيل كما يكون بين الحائطين اللذين الصق أحدهما بالأخر فهما سواء في الدعوى إن لم تكن لواحد منهما بينة تحالفا فيحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه له وتكون بينهما نصفين لأن كل واحد منهما يده على نصف الحائط لكون الحائط في أيديهما.
وإن حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له وما هو لصاحبه جاز وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن(12/165)
المنذر ولا أعلم فيه مخالفاً لأن المختلفين في العين إذا لم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول من هي في يده مع يمينه، وإذا كانت في أيديهما كانت يد كل واحد منهما على نصفها فيكون القول قوله في نصفها مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن كان لكل واحد منهما بينة تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما فإن لم تكن لهما بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي على الناكل فكان الكل للآخر، وإن كان متصلاً بببناء أحدهما دون الآخر فهو له مع يمينه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور لا يرجح بالعقد ولا ينظر إليه ولنا أن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحداً فإذا كان بعضه لرجل كان باقيه له والبناء الآخر الظاهر أنه بني وحده فإنه لو بني مع هذا كان متصلاً به فالظاهر أنه لغير صاحب هذا الحائط المختلف فيه فوجب أن يرجح بهذا كاليد فإن قيل فلم لا تجعلوه له بغير يمين لذلك؟ قلنا لأن ذلك ظاهر وليس بيقين إذا يحتمل أن أحدهما بنى الحائط لصاحبه تبرعا مع حائطه أو كان له فوهبه إياه أو بناه بأجرة فشرعت اليمين من أجل الاحتمال كما شرعت في حق صاحب اليد وسائر من وجبت عليه اليمين.
فأما إن كان معقوداً ببناء أحدهما عقد يمكن إحداثه كالبناء باللبن والآجر فإنه يمكن أن ينزع من الحائط المبني نصف لبنة أو آجرة ويجعل مكانها لبنة صحيحة أو آجرة صحيحة تعقد الحائطين فقال القاضي: لا يرجح بهذا لاحتمال أن يكون فعل هذا ليتملك الحائط المشترك، وظاهر كلام الخرقي أنه يرجح بهذا الاتصال
كما يرجح بالاتصال الذي لا يمكن إحداثه لأن الظاهر أن صاحب الحائط لا يدع غيره يتصرف فيه.(12/166)
بنزع آجره وتغيير بنائه وفعل ما يدل على ملكه له فوجب أن يرجح كما يرجح باليد مع أنها تحتمل أن تكون يداً عادية حدثت بالغصب أو بالعارية أو الإجارة ولم يمنع ذلك الترجيح بها فإن كان لأحدهما عليه بناء كحائط مبني عليه أو عقد معتمد عليه أو قبة ونحو هذا فهو له، وبهذا قال الشافعي لأن وضع بنائه عليه بمنزلة اليد الثابتة لكونه منتفعاً به فجرى مجرى حمله على البهيمة وزرعه في الأرض ولأن الظاهر أن الإنسان لا يترك غيره يبني على حائط وكذلك إن كانت عليه سترة أو كان في أصل الحائط خشبة أو طرفها بجنب حائط منفرد به أحدهما أو له عليه أزج معقود فالحائط المختلف فيه له لأن الظاهر في الخشبة أنها لمن ينفرد بوضع بنائه عليها فيكون الظاهر أن ما عليها من البناء له (مسألة) ولا ترجح الدعوى بوضع خشب أحدهما عليه ولا بوجوه الآجر والتزويق والتجصيص ومعاقد القمط في الخمص) قال أصحابنا لا ترجح دعوى أحدهما بوضع خشبة على الحائط وهو قول الشافعي لأن هذا مما يسمح به الجار وقد ورد في الخبر النهي عن المنع منه وهو عندنا حق يجب التمكين منه فلا ترجح به الدعوى كإسناد متاعه إليه وتجصيصه وتزويقه ويحتمل أن ترجح به الدعوى وهو قول مالك لأنه(12/167)
ينتفع به بوضع ماله عليه فأشبه الباني عليه والزارع في الأرض وورود الشرع بالنهي عن المنع منه لا يمنع كونه دليلاً على الاستحقاق بدليل أننا استدللنا بوضعه على كون الوضع مستحقاً على الدوام حتى متى زال جازت إعادته ولأن كونه مستحقاً تشترط له الحاجة إلى وضعه ففيما لا حاجة إليه له منعه من وضعه، وأما السماح به فإن أكثر الناس لا يسامحون به، ولهذا لما روى أبو هريرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم طأطئوا رؤوسهم كراهة لذلك فقال مالي أراكم عنها معرضين؟ والله لا رمين بها بين أكتافكم وأكثر الفقهاء لا يوجبون التمكين من هذا ويحملون الحديث على كراهة المنع لا على تحريمه ولأن الحائط يبنى لذلك فيرجح به كالأزج وقال أصحاب أبي حنيفة لا ترجح الدعوى بالجذع الواحد
لأن الحائط لا يبنى له وترجح بالجذعين لأن الحائط يبنى لهما ولنا أنه موضوع على الحائط فاستوى في ترجيح الدعوى قليله وكثيره كالبناء (فصل) ولا ترجح الدعوى بكون الدواخل إلى أحدهما والخوارج ووجوه الآجر والحجارة ولا كون الآجرة الصحيحة مما يلي أحدهما وقطع الآجر مما يلي ملك الآخر ولا بمعاقد القمط في الخص يعني عقد الخيوط التي يشد بها الخص، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط لما روى نمران بن حارثة التميمي عن أبيه أن قوماً اختصموا(12/168)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص فبعث حذيفة بن اليمان يحكم بينهم فحكم لمن تليه معاقد القمط ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال (أصبت وأحسنت) رواه ابن ماجة وروي نحوه عن علي ولأن العرف جار بأن من بنى حائطاً جعل وجه الحائط إليه ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولأن وجه الحائط ومعاقد القمط إذا كانا شريكين فيه لا بد من أن يكون إلى أحدهما إذ لا يمكن كونه إليهما جميعاً فبطلت دلالته كالتزويق، ولأنه براد للزينة فهو كالتزويق، وحديثهم لا يثبته أهل النقل وإسناده مجهول قاله ابن المنذر قال الشالنجي ذكرت هذا الحديث لأحمد فلم يقنعه وذكرته لإسحاق بن راهويه فقال ليس هذا حديثاً ولم يصححه وحديث علي فيه مقال وما ذكروه من العرف ليس بصحيح فإن العادة جعل وجه الحائط إلى خارج ليراه الناس كما يلبس الرجل أحسن ثيابه أعلاها الظاهر للناس ليروه فيتزين به فلا دليل فيه (فصل) ولا ترجح الدعوى بالتزويق والتحسين ولا بكون أحدهما له الآجر وسترة غير مبنية عليه لأنه مما يتسامح به ويمكن إحداثه.(12/169)
(مسالة) وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السلم والدرجة فهي لصاحب العلو إلا أن يكون تحت الدرجة مسكن لصاحب السفل فيكون بينهما وإن تنازعا في السقف الذي بينهما فهو بينهما)
إذا تنازع صاحب العلو والسفل في الدرجة التي يصعد منها ولم يكن تحتها مرفق لصاحب السفل كسلم مستمر أو دكة فهي لصاحب العلو وحده لأن له اليد والتصرف وحده لكونها مصعد صاحب العلو لا غير والعرصة التي عليها الدرجة له أيضاً لانتفاعه بها وحده وإن كان تحتها بيت بنيت لأجله وليكون مدرجاً للعلو فهي بينهما لأن يدهما عليه ولأنها سقف للسفلاني وموطئ للفوقاني فهي كالسقف وإن كان تحتها طباق صغيرة لم تبن الدرجة لأجله وإنما جعل مرفقاً يجعل فيه حب الماء ونحوه فهي لصاحب العلو لأنها بنيت لأجله وحده، ويحتمل أن تكون بينهما لأن يدهما وانتفاعهما حاصل بها فهي كالسقف (فصل) فإن تنازعا السقف الذي بينهما تحالفا وكان بينهما وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة هو لصاحب السفل لأن السقف على ملكه فكان القول قوله فيه كما لو تنازعا سرجاً على دابة أحدهما كان القول قول صاحبها وحكي عن مالك أنه لصاحب السفل وحكي عنه أنه لصاحب العلو لأنه يجلس عليه ويتصرف فيه ولا يمكنه السكنى إلا به ولنا أنه حاجز بين ملكيهما ينتفعان به غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان فكان بينهما(12/170)
كالحائط بين الملكين وقولهم هو على ملك صاحب السفل يبطل بحيطان العلو ولا يشبه السرج على الدابة لأنه لا ينتفع به غير صاحبها ولا يراد إلا لهذا فكان في يده وهذا السقف ينتفع به كل واحد منهما لأنه سماء صاحب السفل يظله وأرض صاحب العلو يقله فاستويا فيه، وإن تنازعا حوائط العلو فهي لصاحب العلو لما ذكرنا (مسالة) (وإن تنازع المؤجز والمستأجر في رف مقلوع أو مصراع له شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها وإلا فهو بينهما) وجملة ذلك أن المكتري والمكري إذا اختلفا في شئ في الدار فإن كان مما ينقل ويحول كالأثاث والأواني والكتب فهو للمكتري لأن العادة أن الإنسان يكري داره فارغة من رحله وقماشه وإن كان في شئ مما يتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والسلاليم
المستمرة والرحا المنصوبة وحجرها الفوقاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار فأشبه الشجرة المغروسة فيها وإن كانت الرفوف موضوعة على أوتاد فقال أحمد إذا اختلفا في الرفوف فهي لصاحب الدار فظاهر هذا العموم في الزفوف كلها، وقال القاضي هي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت القماش فهذا ظاهر يشهد للمكتري وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو أن المكري يترك الرفوف في الدار ولا ينقلها عنها فإذا تعارض الظاهر من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إن(12/171)
تحالفا كانت بينهما وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر شيخنا في الكتاب المشروح أنه إن كان للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وإن لم يكن له شكل فهو بينهما إذا تحالفا لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالمنصوب تابع للدار فهو لصاحبها والظاهر أن أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك إذا اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا هكذا ذكره أبو الخطاب وذكره القاضي في موضع لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر كالحجر الفوقاني من الرحا والمفتاح مع السكرة (مسألة) وإن تنازعا داراً في أيديهما فادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها جعل بينهما نصفين واليمين على مدعي النصف نص عليه أحمد ولا يمين على الآخر لأن النصف المحكوم له به لا منازع له فيه ولا أعلم في هذا خلافاً إلا أنه حكي عن ابن شبرمة أن لمدعي الكل ثلاثة أرباعها لأن النصف له لا منازع له فيه والنصف الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه ولنا أن مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوي فإن لكل واحد منهما بينة بما يدعيه فقد تعارضت بينتاهما في النصف فيكون النصف لمدعي الكل والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم، وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي الكل وعلى قول(12/172)
أبي حنيفة وصاحبيه إن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب الكل لا منازع له فيه
ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له، وإن كان لكل واحد بينة تعارضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإن قلنا تستعمل البينتان أقرع بينهما وقدم من تقع له القرعة في أحد الوجهين والثاني يقسم بينهما النصف فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباعها (فصل) فإن كانت دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الثالث سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفيه ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد، وإن ادعى كل واحد منهم أن بقية الدار وديعة أو عارية كانت لكل واحد منهما بما ادعاه من الملك بينة قضي له بها لأن بينته تشهد بما ادعاه ولا معارض لها وإن لم تكن لواحد منهم بينة حلف كل واحد منهم وأقرفي يده ثلثها (فصل) فإن ادعى أحدهم جميعها والآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم يكن لواحد منهم بينة قسمت بينهم أثلاثاً وعلى كل واحد منهم اليمين على ما حكم له به لأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن كانت لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي بين الآخرين نصفين لصاحب الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على الربع الذي يأخذه جميعه وإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الآخر على جميع ما يأخذه وإن كانت لكل(12/173)
واحد بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثاً لأن يد كل واحد منهم على الثلث وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف السدس لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع له فيه لأن أحداً لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة فيهما وقيل بل لمدعي الثلث السدس لأن بينته تدعي الكل وتدعي النصف تعارضتا فيه وتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شئ لمدعي النصف لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن، وإن كانت العين في يد غيرهم واعترف أنه لا يملكها ولا بينة لهم فالنصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يدعيه ويقرع بينهم في النصف الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو صاحب النصف حلف وأخذه وإن خرجت لصاحب
الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه مدعي الكل ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات قرعنا بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن لهم بينة وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذ كان بالعراق وعلى الرواية التي تقول إذا تعارضت البينتان قسمت العين بين المتداعيين فلمدعي الكل النصف ونصف السدس الزائد وثلث الثلث ولمدعي النصف نصف(12/174)
السدس وثلث الثلث ولمدعي الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين لمدعي الكل النصف ثمانية عشر ونصف السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهماً ولصاحب النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة والحارث العكلي وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى يتبين وروى هذا عن مالك وهو قول الشافعي وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق تقسم العين بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان فصح من أحد عشر سهما.
وسئل سهل بن عبد الله بن أويس عن ثلاثة ادعوا كيساً وهو بأيديهم ولا بينة لهم وحلف كل واحد منهم على ما ادعاه ادعى أحدهم جميعه وادعى الآخر ثلثيه وادعى آخر نصفه فأجاب فيها بشعر: نظرت أبا يعقوب في الحسب التي طرت * فأقامت منهم كل قاعد فللمدعي الثلثين ثلث وللذي * استلاط جميع المال عند التحاشد من المال نصف غير ماسيغو به * وحصته من نصف ذا المال زائد وللمدعي نصفاً من المال ربعه * ويؤخذ نصف السدس من كل واحد وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكأن المسألة عالت إلى ثلاثة عشر وذلك(12/175)
أنه أخذ مخارج الكسور وهي ستة فجعلها لمدعي الكل وثلثاها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر (فصل) فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها والرابع ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد منهم وله ربعها لأنه في يده والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن أقام كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضاً لأننا إن قلنا تقدم بينة الداخل فكل واحد منهم داخل في ربعها فتقدم بينته فيه، وإن قلنا تقدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا وأقر الشئ في يد من هو في يده، وإن كانت الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل لأن أحداً لا ينازعه فيه ويقرع بينهم في الباقي، فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو مدعي الثلثين أخذه وإن وقعت لمدعي النصف أخذه وأقرع بين الباقين في الباقي فإن وقعت لصاحب الثلث أخذه وأقرع بين الثلاثة في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد والشافعي إذ كان بالعراق إلا أنهم عبروا عنه بعبارة أخرى فقالوا لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي ويكون الاقرار في ثلاثة مواضع، على الرواية الأخرى الثلث لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثاً ثم يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعاً وتصح المسألة من(12/176)
ستة وثلاثين سهماً لصاحب الكل ثلئها اثنا عشر ونصف السدس الزائد عن النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهماً وذلك خمسة أتساع الدار، ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع، ولمدعي الثلث ثلاثة نصف سدس وعلى قول من قسمها على العول من خمسة عشر لصاحب الكل ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب الثلث سهمان ولصاحب النصف ثلاثة وعلى قول أبي ثور لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي
(مسألة) (وإن تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة وما كان يصلح لهما فهو بينهما) إذا اختلف الزوجان في قماش البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو قال كل واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف، وإن لم تكن لواحد منهما بينة فالمنصوص عن أحمد أن ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن(12/177)
فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة وسواء اختلفوا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء اختلفا أو اختلف ورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر قال أحمد في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة المتاع: فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون للرجال وللنساء فهو بينهما، فإن كان المتاع على يدي غيرهما فمن أقام البينة دفع إليه وإن لم تكن لهما بينة أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطي المتاع وقال في رواية مهنا وكذلك إن اختلفا وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى لأن أيديهما جميعاً على قماش البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً فيجب تقديمه كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامهما أو قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جداراً متصلاً بجداريهما معقوداً ببناء أحدهما (مسألة) (وإن اختلف صانعان في قماش دكان لهما حكم بآلة كل صناعة لصاحبها في ظاهر كلام أحمد والخرقي) لما ذكرنا فيما إذا اختلف الزوجان في قماش البيت فألة العطار له وآلة النجارين للنجار فإن لم يكونا في دكان واحد ولكن اختلفا في عين لم يرجح أحدهما بصلاحية العين المختلف له فيها كما يذكر في مسألة الزوجين بعد وقال القاضي هذا إنما هو إذا كانت أيديهما عليه من طريق(12/178)
الحكم أما ما كان في يد أحدهما من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه، وإن كان في أيديهما قسم بينهما نصفين سواء كان يصلح لهما أو لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن إلا أنهما قالا ما يصلح لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه قول الرجل مع يمينه، وإذا اختلف أحدهما وورثة الآخر فالقول قول الباقي، لان اليد المشاهدة أقوى من اليد الحكمية بدليل ما لو تنازع الخياط وصاحب الدار في الإبرة والمقص كانت للخياط وقال أبو يوسف القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهاز مثلها وقال مالك ما صلح لكل واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم لأن البيت للرجل ويده عليه أقوى لأن عليه السكنى وقال الشافعي وزفر والبتي ما كان في البيت فهو لهما نصفين فيحلف كما واحد منهما على نصفه ويأخذه وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على المدعي وعدم البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كما لو كان في يدهما من حيث المشاهدة عند من سلم ذلك ولنا أن يديهما جميعاً على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها أو جداراً متصلاً بداريهما معقوداً ببناء أحدهما أوله أزج ولنا على أبي حنيفة والقاضي أنهما تنازعا فيما في أيديهما أشبه إذا كان في اليد الحكمية، فأما ما كان(12/179)
يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في أيديهما من جهة المشاهدة والدلالة على أنه ليس للباقي منهما أن وارث الميت قائم مقامه أشبه ما لو جعل أحدهما لنفسه وكيلاً (فصل) فأما إذا لم تكن لأحدهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش بينهما فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كانت في يد أحدهما فهي له وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من حكمنا له بها في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فأشبها سائر المختلفين
(مسألة) (وكل من قلنا هو له فهو له مع يمينه إذا لم تكن بينة) لاحتمال ما ادعاه خصمه (مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها) وجملة ذلك أن البينة إذا كانت للمدعي وحده وكانت العين في يد المدعي عليه حكم باليمين للمدعي بغير خلاف ولم يحلف وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري والثوري وابو حنيفة ومالك والشافعي وقال شريح وعون بن عبد الله والنخعي والشعبي وابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع بينته قال شريح لو أثبت كذا وكذا شهداء عندي ما قضيت لك حتى تحلف ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البنية على المدعي واليمين على المدعى عليه) ولأن البينة أحد حجتي الدعوى(12/180)
فيكتفى بها كاليمين إذا ثبت ذلك فقال أصحابنا لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والعاقل والمجنون والصغير والكبير وقال الشافعي إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يعبر عن نفسه في دعوى القضا والإبراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة قال شيخنا وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبات حقه لا بنفي احتمال القضاء والإبراء بدليل أن المدعي عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإذا كان حاضرا مكلفا فسكوته عن الدعوى دليل على انتفائه فيكتفى بالبينة فإن كان غائباً أو ممن لا قول له بقي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وأنه لا يحلف معها فمع إفرادها أولى، وإن قلنا بتقديم بينة المدعي عليه فيجب أن يكتفى بها عن اليمين لانها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فيما هو أقوى منها أولى ويحتمل أن تشرع أيضاً لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه (مسألة) (وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي في ظاهر المذهب، وعنه إن(12/181)
شهدت بينة المدعي عليه أنها له نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت بينته وإلا فهي للمدعي
ببينته وقال القاضي فيهما إذا لم يكن مع بينة الداخل ترجيح لم يحكم بها رواية واحدة وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنها مقدمة بكل حال) وجملة ذلك أن من ادعى عيناً في يده غير فأنكره وأقام كل واحدة منهما بينة حكم بها للمدعي ببينته وتسمى بينة الخارج وبينة المدعي عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيما إذا تعارضتا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعي عليه بحال وهذا اختيار الخرقي وهو قول إسحاق وعنه رواية ثانية إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخاً قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه، وأما ما يتكرر نسجه كالخز والصوف فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد افادت مالا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فقام كل واحد منهما البينة أنه أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده، وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعي عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح والشعبي والحكم والشافعي وأبي عبيد وقال هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي ذلك عن طاوس وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال لا تقدم بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده رواية واحدة واحتج من ذهب إلى تقديم بينة المدعي عليه بأن جنبته أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم(12/182)
على يمين المدعي فإذا تعارضت البيتان وجب إبقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدم بينته ليده ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه) فجعل جنس البينة من جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعي عليه بينة ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح والتعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئاً لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهراً تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فقدم عليه بينة المدعي كما تقدم اليد
كما ان شاهدي الفرع لما كانا مبنيين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما (فصل) وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارتا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كما لو لم تكن لواحد منهما بينة ولنا أن إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام أو أحدهما ارجح بوجه من الوجوه ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة (مسألة) (وإن أقام الداخل ببينة أنه اشتراها من الخارج وأقام الخارج بينة أنه اشتراها(12/183)
من الداخل فقال القاضي تقدم بينة الداخل لأنه الخارج في المعنى وقيل تقدم بينة الخارج) لقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي) (فصل) إذا ادعى الخارج أن العين ملكه وأنه أودعها الداخل أو أعاره إياها أو أجرها منه ولم تكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه لا نعلم فيه خلافاً وإن كان لكل واحد منهما بينة قدمت بينة الخارج وهو قول الشافعي وقال القاضي بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى كالمسألة قبلها لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد فإن يد الداخل نائبة عنه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) فتكون البينة للمدعي كما لو لم يدع الإيداع.
يحققه أن دعواه الإيداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون مبطلة لبينته، وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه اياها وقام بينتين قضي للخارج ويقتضي قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه (فصل) فان كان في يد رجل جلد شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد آخر فادعاها كل واحد منهما جميعها ولا بينة لهما ولا لأحدهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقاما بينتين وقلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين وإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما(12/184)
لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل واحد منهما شاة التي في يد صاصبه ولا تعارض بينهما وإن كان كل واحد قال هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك وإن ادعى واحد منهما أن الشاتين له دون صاحبه وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده (فصل) إذا ادعى زيد شاة في يد عمرو وأقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وإن قلنا بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع؟ فإن كان حكم بها لزيد لأن عمراً لا بينة له ردت إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن كان حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم ينقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضاً وردها الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضاً لأن الفاسق إذا شهد عند الحاكم بشهادة فردها لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأنه حكم حاكم الأصل جريانه على الصحة والعدل فلا ينقض بالاحتمال وإن جاء ثالث فادعاها وأقام بها بينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا(12/185)
يحتاج زيد إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى إعادتها كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم بها من غير إعادة شهادتهما كذا ههنا (فصل) وإذا كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى الذي هي في يده أنها في يديه منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد عن غير ملك فكانت بينة الملك أولى وإن شهدت بينته بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقديم
التاريخ من بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان (إحداهما) تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله عليه الصلاة والسلام (البينة على المدعي) ولأن بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد فاشبهت الصورة الأولى (والثانية) تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنها تضمنت زيادة وإن كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل أنه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت بينة الخارج إلا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم فيها(12/186)
قولان فإن ادعى الخارج أنها ملكه منذ سنة وادعى الداخل أنه اشتراها منه منذ سنتين وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ البينتين إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو شراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك ففي أيهما يقدم روايتان ذكرناهما فإن ادعى أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على البينة الآخرى فقدمت عليها كما تقدم بينة الجرح على التعديل (فصل) قال رحمه الله (القسم الثاني أن تكون العين في يديهما فيتحالفان وتقسم بينهما) وجملة ذلك أنه إذا تنازع نفسان في عين في أيديهما فادعى كل واحد منهما أنها له دون صاحبه ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافاً لأن يد كل واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعاً عن اليمين فكذلك لأن كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد الآخر بنكوله أو بيمينه التي ردت عليه بنكول صاحبه، وإن كان لأحدهما بينة دون الأخر حكم له بها بغير خلاف علمناه لأنه يرجح بالبينة (مسألة) (وإن تنازعا مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر تحالفا وهي بينهما) لأنها حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه كما لو تنازعا حائطاً بين داريهما وفي كل موضع قلنا(12/187)
هو بينهما نصفين إنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يجعله له دون ما لا يحصل له (مسألة) (وإن تنازعا صبياً في يديهما فكذلك) لأن يديهما عليه واليد دليل الملك والطفل لا يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع إلا أن يعترف أن سبب يده غير الملك مثل أن يلتقطه فلا تقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته فأما غيره فقد وجد فيه دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فعلى هذا إذا بلغ فادعى الحرية لم تسمع دعواه لأنه محكوم برقه قبل دعواه فأما إن كان مميزاً فقال إني حر منعا منه إلا أن تقوم بينة برقه لأن الظاهر الحرية وهي الأصل في بني آدم والرق طارئ عليها فإن كان له بينة قدمت البينة لأنها تقدم على الأصل لأنها تشهد بزيادة ويحتمل أن يكون كالطفل فيكون بينهما لأنه غير مكلف أشبه الطفل والأول أولى لأن المميز يصح تصرفه بالوصية ويلزم بالصلاة أشبه البالغ ولأنه يعرب عن نفسه في دعوى الحرية أشبه البالغ فأما البالغ إذا ادعى رقه فأنكر لم يثبت رقه إلا ببينة وإن لم تكن له بينة فالقول قوله مع يمينه في الحرية لأنها الأصل وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي فإن ادعى رقه اثنان فأقر لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب ولنا أنه إنما ثبت رقه باعترافه فكان مملوكاً لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب(12/188)
والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيها وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما فكان مختصاً به فإن أقام كل واحد بينة أنه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم بينهما على ما مر من التفصيل فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر وإن اعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وإن أقر لهما معاً فهو بينهما لأن البينتين سقطتا فصارتا كالمعدومتين وإن قلنا بالقرعة أو بالقسمة فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره فإن اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه لأن رقه ثابت بالبينة فلم يبق له يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث وأقام كل واحد بينة أنها ملكه واعترف
أنها ليست له ثم أقر أنها ليست له ثم أقر أنها لأحدهما لم يرجح بإقراره (مسألة) (وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنه ترجح بالبينة وإن كان لكل واحد منهما بينة قدم أسبقهما تاريخاً فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء ويحتمل تقديم المطلقة) أما إذا أقام كل واحد منهما بينة وتساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين رواه أبو داود ولأن كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما(12/189)
فيما في يده عند من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على كل واحد من القولين.
(مسألة) (وإن كانت إحداهما متقدمة التاريخ وحكم بها له مثل أن تشهد إحداهما أنها له منذ سنة وتشهد الأخرى أنها للآخر منذ سنتين فيقدم أسبقهما تاريخاً) قال القاضي هو قياس المذهب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن المتقدمة التاريخ أثبتت الملك له في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تحت استدامته وأن لا يثبت لغيره ملك إلا من جهته وظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي ووجهه أن الشاهد بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز أن يعلم به دون الأول بدليل أنه لو ذكر أنه اشتراه من الآخر أو وهبه إياه لقدمت بينته اتفاقاً فإذا لم يرجح بها فلا أقل من التساوي وقولهم إنه يثبت الملك في الزمان الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعاً لثبوته في الحال ولو انفرد بأن يدعي الملك في الماضي لم تسمع دعواه ولا بينته (مسألة) (فإن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء) ذكره القاضي ويحتمل أن يحكم به لمن يوقت قاله أبو الخطاب وهو قول أبي يوسف ومحمد(12/190)
ولنا أنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقدم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما لو أطلقا أو استوى تاريخهما (مسألة) (وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بالملك والنتاج أو سبب من أسباب الملك فهل يرجح بذلك؟ على وجهين) (إحداهما) لا يرجح به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساوتا فيما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك العين الآن فوجب تساويهما في الحكم (والثاني) تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة علم وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون شهادتها مستندة إلى مجرد اليد والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقديم بينة الجرح على التعديل، وهذا قول القاضي فيما إذا كانت العين في يد غيرهما.
(مسألة) ولا تقدم إحداهما بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة ولا الرجلان على الرجل وامرأتين ويقدم الشاهدان على الشاهد واليمين في أحد الوجهين) لا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد واشتهار العدالة وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويتخرج أن يرجح بذلك مأخوذاً من قول الخرقي ويقدم الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول مالك لأن أحد الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة ولأنها خبر ولأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به(12/191)
وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن أقوى وقال الأوزاعي تقسم على عدد الشهود فإذا شهد لأحدهما شاهدان وللآخر أربعة قسمت العين بينهما أثلاثاً لأن الشهادة سبب الاستحقاق فتوزع الحق عليها ولنا أن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية بخلاف الخبر فإنه مجتهد في قبول خبر الواحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة متفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما دون اعتبار الظن ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن
بشهادتهن أغلب من شهادة الذكرين؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فأما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان: (أحدهما) يتعارضان لأن كل واحد منهما حجة بمفرده فأشبه الرجلين مع الرجل والمرأتين (والثاني) يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فوجب تقديمها كتقديمها على يمين المنكر وهذا الوجه أصح إن شاء الله تعالى وللشافعي قولان كالوجهين (مسألة) وإن تساوتا تعارضتا وقسمت العين بينهما بغير يمين وعنه أنهما يتحالفان كمن لا بينة لهما وعنه أنه يقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها)(12/192)
وجملة ذلك أن البينتين إذا تساوتا تعارضتا وقسمت العين نصفين لما ذكرنا من حديث أبي موسى وما ذكرناه من المعنى.
وإختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين؟ روي أنه يحلف وهو الذي ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا وتساويا وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب على الداخل مع بينته ويحلف معها والرواية الأخرى: تقسم بينهما العين من غير يمين وهو قول مالك وأبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وهو أصح إن شاء الله للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح قياس هاتين البينتين على الخبرين المتساوييين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من القولين وقد ذكرنا أن البينة يحكم بها من غير يمين وفيه رواية أخرى أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق للآخر فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما ذكر هذه الرواية أبو الخطاب والأولى أصح إن شاء الله تعالى للخبر والمعنى.
(مسألة) (وإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد لم تسمع البينة على ذلك حتى تقول وهو ملكه وتشهد البينة به)(12/193)
وجملة ذلك أنه متى كان في يد رجل عين فادعى آخر أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وأقام بذلك بينة حكم له بها لأنه ابتاعها من مالكها وكذا إن شهدت أنه باعه إياها وسلمها إليه حكم له بها لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده وإن لم يذكر إلا التسليم لم يحكم بها لأنه يمكن أن يبيعه مالا يملكه فلا يزال صاحب اليد فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه وأقاما بذلك بينتين تعارضتا فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة الخارج والداخل فإن كانت في أيديهما قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين خارجة عن النصف الآخر وإن كانت في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر بعد أن يحلف أنها له وإن قلنا يقدم أحدهما بالقرعة فهي لمن تخرج له القرعة مع يمينه وإن قلنا تقسم بينهما قسمت ورجع كل أحد منهما بنصف ثمنها فإن كان المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقراً بقبضه فلا خيار لو حد منهما ولا الرجوع بشئ من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان على البائع وإن كان من(12/194)
المكيل والموزون ولم يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والإمضاء فإن اختار أحدهما الفسخ لم يتوفر المبيع على الآخر لأن البائع اثنان والله أعلم (مسألة) (وإن أقام أحدهما بينة أنها ملكه وأقام الآخر بينة أنه اشتراها أو أعتقه قدمت بينة الثاني) لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الملك ولا تعارض بينهما فيثبت الملك للأول والشراء منه للثاني.
(مسألة) (وإن أقام رجل بينة أن هذه الدار لأبي خلفها تركة وأقامت امرأته بينة أن أباه أصدقها إياها فهي للمرأة) لما ذكرنا
(فصل) قال رضي الله عنه (القسم الثالث تداعيا عينا في يد غيرهما فان يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف أنها له وأخذها) وجملة ذلك أن الرجلين إذا تداعيا عيناً في يد غيرهما ولا بينة لهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه بغير خلاف، وإن اعترف أنه لا يملكها وقال لا أعرف صاحبها أو قال هي لأحدكما لا أعرفه عيناً اقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم تكن لواحد منهما بينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود، ولأنهما تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولايد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا الا مال له غيرهم في مرض موته(12/195)
(مسألة) (فإن كان المدعى عبداً فأقر لأحدهما لم يرجح باقراره) لأنه محجور عليه أشبه الطفل فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها بغير خلاف نعلمه (مسألة) (وإن كانت لكل واحد منهما بينة ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب) (إحداهما) تسقط البينتان ويقترع لتداعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة هذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معها بينة أو لم تكن روي هذا عن ابن عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق وأبو عيبد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي لما روى ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما رواه الشافعي في مسنده ولأن البينتين حجتان تعارضتا من غير ترجيح لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين (والرواية الثانية) تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) تقسم العين بينهما وهو قول الحارث العكلي وقتادة وابن شبرمة وحماد وأبي حنيفة وقول للشافعي لما ذكرنا من حديث أبي موسى ولأنهما تساويا في دعواه فتساويا في قسمته (والرواية الثانية) تقدم إحداهما وهو قول للشافعي وله قول رابع يوقف الأمر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الأمر فوجب التوقف
كالحاكم إذا لم يتضح الحكم له في قضية(12/196)
ولنا خبر أبي موسى وخبر ابن المسيب ولأن تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما إذا ثبت هذا.
فأما إذا أسقطنا البينتين أقرعنا بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة، وإن قلنا يعمل بالبينتين ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين، وقال أبو الخطاب عليه اليمين مع بينته ترجيحاً لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى وإنما يظهر اختلاف الحكم في شئ آخر سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) وإن أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة وتدفع إلى من تخرج له القرعة عند من يرى ذلك، وإن قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة (مسألة) (وإن أقر صاحب اليد لأحدهما لم يرجح بإقراره إذا قلنا لا تسقط البينتان) لأنه قد ثبت زوال ملكه فصار كالأجنبي وإن قلنا بسقوطهما فأقر بها لهما أو لأحدهما قبل إقراره، فأما إن أقر بها في الابتداء لأحدهما صار المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقر بأن يده نائبة عن يده، وإن أقر لهما جميعاً فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر له به لذلك(12/197)
(مسألة) (وإن ادعاها صاحب اليد لنفسه وقلنا يسقوط البينتين حلف لكل واحد منهما وهي له وهو قول القاضي) لأنه صاحب اليد وهو منكر فلزمته اليمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (اليمين على من أنكر) وقال أبو بكر بل يقرع بين المدعبين فتكون لمن تخرج له القرعة وهذا ينبني على أن البينتين إذا تعارضتا لا يسقطان فرجحت إحدى البينتين بالقرعة كما لو أقر صاحب اليد أنها لاحدهما لا يسلمه بعينه (فصل) إذا تداعيا عيناً في يد غيرهما فقال هي لأحدكما لاعرفه عيناً أو قال لا أعرف صاحبها
أو هو أحدكما أو غيركما أو قال أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عيناً فادعى كل واحد منهما أنك تعلم أني صاحبها أو أني أنا الذي أودعتكها وطلب يمينه لزمه أن يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها إليه ومن لزمه الحق مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار ويحلف على ما ادعاه من نفي العلم وإن صدقاه فلا يمين عليه، وإن صدقه أحدهما حلف الآخر وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له صاحب اليد فإن قال غير المقر له احلف لي ان العين ليست ملكي أو أني لست الذي أودعكها لزمته اليمين على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وإن نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وإن اعترف لهما كان الحكم فيها كما لو كانت في أيديهما ابتداءا وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل واحد منهما اليمين لصاحبه في الصنف المحكوم له به.
(فصل) إذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان فقال أحدهما أجرتكها وقال الآخر هي داري(12/198)
اعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئاً آخر فأنكرهما صاحب اليد فالقول قوله مع يمينه، وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها فإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضى إلا على الرواية التي تقدم فيها البينة الشاهدة بالسبب فإن بينة من ادعى أنه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب، وإن أقام أحدهما بينة أنه غصبه إياها وأقام الآخر بينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون غصبها من هذا وأقر بها لغيره وإقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع إلى المغصوب منه (فصل) نقل ابن منصور عن أحمد في رجل أخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والآخر بعشرين ثم لم يدر أيهما ثوب هذا من هذا فادعى أحدهما ثوباً من هذين الثوبين وادعاه الآخر يقرع بينهما فأيهما أصابته الفرعة حلف وأخذ الثوب الجديد والآخر للآخر وإنما قال ذلك لأنهما تنازعا عيناً في يد غيرهما.
(فصل) إذا تداعيا عيناً فقال كل واحد منهما هذه العين لي استدنتها من زيد بمائة ونقدته إياها ولا بينة لواحد منهما فإن أنكرهما زيد فهي له مع يمينه وإن أقر بها لأحدهما سلمها إليه وحلف للآخر وإن أقر لكل
واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها وإن قال لا أعلم لمن هي أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها وإن حلف البائع له ثم أقربها لأحدهما سلمت إليه وإن أقربها للآخر(12/199)
لزمته غرامتها وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين مثل أن يدعي أحدهما أنه اشتراها في المحرم وادعى الآخر أنه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر بدعواه فهي للأول لتقدم بينته بأنه باعها منه أولاً وزال ملكه عنها فيكون بيع الثاني باطلاً لكونه باع ما لا يملكه ويطالب برد الثمن وإن اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو أحدهما مطلقة والأخرى مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها له وإن كانت في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وإن أقر لأحدهما سلمت إليه وحلف للآخر وإن أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على نصفها كما لو لم يكن لهما بينة وإن قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى إنكاره ولا اعترافه وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وإن يده لا حكم لها فلا حكم لقوله فمن قال يقرع بينهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر غيره وقال أبو الخطاب يقسم بينهما وقد نص عليه أحمد في رواية الكوسج في رجل أقام بينة أنه اشترى سلعة بمائة وأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن ويكونان شريكين وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما(12/200)
جميعا واطلاق والرواية يدل على صحة قول أبي الخطاب فعلى هذا إن كان البيع مما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه فلكل واحد منهما الخيار لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختار الامساك رجع كل واحد منهما بنصف الثمن وإن اختار الفسخ رجع كل واحد منهما بجميع الثمن وإن اختار أحدهما الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر إلا أن يكون الحاكم قد حكم بنصف السلعة ونصف الثمن فلا
يعود النصف الآخر إليه وهذا قول الشافعي في كل موضع (فصل) ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه وأقام بذلك بينة فالحكم فيه كالحكم فيما إذا إدعى كل واحد منهما: إني اشتريتها منه على ما مضى من التفصيل فيه (مسألة) (وإن كان في يد رجل عبد فادعى أنه اشتراه من زيد فادعى العبد أن زيداً أعتقه وأقام كل واحد بينة انبنى على بينة الداخل والخارج فإن كان العبد في يد زيد فالحكم فيه كالحكم فيما إذا ادعيا عينا في يد غيرهما) إذا ادعى رجل عبداً في يد آخر أنه اشتراه منه وادعى العبد أن سيده أعتقه ولا بينة لهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له فإن أقر لأحدهما ثبت ما أقر به ويحلف للآخر وإن أقام أحدهما بينة بما ادعاه ثبت وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين(12/201)
مختلفين قدمنا الأولى وبطلت الأخرى لأنه إن سبق العتق لم يصح البيع وإن سبق البيع لم يصح العتق لأنه اعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل أنه عاد إلى ملكه فأعتقه قلنا قد ثبت الملك للمشتري فلا يبطله عتق البائع، وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة تعارضتا لأنه لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فان كان في يد المشتري انبنى ذلك على الخلاف في تقديم بينة الداخل والخارج فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وإن قدمنا بينة الخارج قدم العتق لأنه خارج وإن كان في يد البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صارا كمن لا بينة لهما فإن أنكرهما حلف لهما وإن أقر بالعتق ثبت ولم يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه شئ فلا فائدة في إحلافه وإن قلنا ترجح إحدى البينتين بالقرعة قرعنا بينهما فمن خرجت قرعته قدمناه قال أبو بكر هذا قياس قول أبي عبد الله فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد الوجهين وإن قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعاً ونصفه حراً ويسري العتق إلى جميعه إن كان البائع موسراً لأن البينة عليه أنه أعتقه مختاراً وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما (مسألة) (وإن كان في يده عبد وادعى عليه رجلان كل واحد منهما أنه اشتراه بثمن سماه فصدقهما
لزمه الثمن لكل واحد منهما وإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وإن صدق أحدهما لزمه ما ادعاه وحلف للآخر(12/202)
وإن كان لأحدهما بينة فله الثمن ويحلف للآخر وإن كان لكل واحد منهما بينة وأمكن صدقهما لاختلاف تاريخهما أو اطلاقهما أو إطلاق إحداهما وتاريخ الأخرى ععمل بهما وإن اتفق تاريخهما تعارضتا والحكم على ما تقدم وإن كان في يد إنسان عين فادعى عليه رجلان كل واحد منهما أنك اشتريته مني بألف وأقام بذلك بينة واتفق تاريخهما مثل أن يقول اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان فإن قلنا يسقطان رجع إلى قول المدعي عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وأن أقر لأحدهما فعليه له الثمن يحلف للآخر وإن أقر لهما فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل أن يشتريها من أحدهم ثم يهبها للآخر ويشتريها منه وإن قال اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن وله أن يحلف على الباقي وإن قلنا يقرع بينهما وجب الثمن لمن تخرج له القرع ويحلف للآخر ويبرأ وإن قلنا يقسم قسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان التاريخان مختلفين أو كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة ثبت العقدان ولزمه الثمنان لأنه يمكن أن يشتريها من أحدهما ثم يملكها الآخر فيشتريها منه وإذا أمكن صدق البينتين والجمع بينهما وجب تصديقهما فإن قيل فلم قلتم إن البائع إذا كان واحداً والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة أنه اشتراه في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراه في صفر يكون الشراء الثاني باطلاً؟ قلنا إنه إذا ثبت الملك للأول لم يبطله بأن يبيعه للثاني ثانياً(12/203)
وفي مسئلتنا ثبوت شرائه من كل واحد منها يبطل ملكه لأنه لا يجوز أن يشتري ثانياً ملك نفسه ويجوز أن يبيع البائع ما ليس له فافترقا فإن قيل فإذا كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما واحداً فيتعارضان والاصل برائة ذمة المشهود عليه فلا تشغل بالشك قلنا متى أمكن صدق البينتين وجب تصديقهما ولم يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم والوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت بها حق أصلاً لأنه ما من بينة إلا ويحتمل أن تكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم يلتفت إلى الوهم كذا ههنا
(مسألة) (وإن ادعى كل واحد منهما أنه باعني إياه بألف وأقام بنية قدم أسبقهما تاريخاً لما ذكرنا فإن لم تسبق أحدهما تعارضنا (مسألة) (وإن قال أحدهما غصبني إياه وقال الآخر ملكنيه أو أقر لي به فإن أقام كل واحد منهما بينة فهو للمغصوب منه ولا يغرم للآخر شيئاً) لأنه لا تعارض بينهما لجواز أن يكون غصبه من هذا ثم ملكه الآخر والله أعلم (مسألة) (وإذا ادعى رجل زوجية أمرأة فأقرت بذلك قبل إقرارها) لأنها أقرت على نفسها وهي غير متهمة لأنها لو ارادت ابتداء النكاح لم تمنع منه فإن ادعاها اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل إقرارها لأن الآخر يدعي ملك بضعها وهي معترفة أن ذلك قد ملك(12/204)
عليها فصار إقرارها بحق غيرها ولأنها متهمة فإنها لو ارادت ابتداء تزويج احد المتداعيين لم يكن لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الآخر فإن قيل فلو تداعيا عيناً في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل قلنا لا يثبت الملك بإقراره في العين إنما يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح ولا يستحق باليمين فلم ينفع الإقرار بها ههنا فإن كان أحد المتداعيين له بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وإن أقاما بينتين تعارضتا وسقطا وحيل بينهما وبينها ولا يرجح أحد المتداعيين بإقرار المرأة لما ذكرنا ولا بكونها في بيته ويده لأن اليد لا تثبت على حرة ولا سبيل إلى القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه لابد مع القرعة من اليمين ولا مدخل لها ههنا (باب في تعارض البينتين) إذا قال لعبده متى قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وأنكر لورثة فالقول قولهم لأن الأصل عدم القتل فإن أقام بينة بدعواه عتق وإن أقام الورثة بينة بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين لأنها تشهد بزيادة وهي القتل (والثاني) يتعارضان لأن إحداهما تشهد بضد ما شهدت به الأخرى فيبقى على الرق(12/205)
(مسألة) (وإن قال إن مت في المحرم فسالم حر وإن مت في صفر فغانم حر وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه بموجب عتقه قدمت بينة سالم في أحد الوجوه) لأن معها زيادة علم فإنها أثبتت ما يجوز أن يختفي على البينة الآخرى (والثاني) يتعارضان ويبقى العبد على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما (والثالث) يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة فأما إن لم تقم لواحد منهما بينة وأنكر الورثة فالقول قولهم لأنه يجوز أن يموت في غير هذين الشهرين وإن أقروا لأحدهم عتق بإقرارهم وكذلك إن أقام بينة (مسألة) (وإن قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وإن برئت فغانم حر فأقاما بينتين تعارضتا وبقيا على الرق ذكره أصحابنا والقياس أن يعتق أحدهما بالقرعة ويحتمل أن يعتق غانم وحده لأن بينته تشهد بزيادة) إذا قال إن مت من مرضي هذا فسالم حر وإن برئت فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما موجب عتقه اقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق لأنه لا يخلو من أن يكون برأ أو لم يبرأ فيعتق أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج بالقرعة كما لو اعتق احدهما فاشكل علينا ويحتمل أن يقدم قول سالم لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا يتعارضان ويبقى العبدان على الرق وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى وتثبت زيادة(12/206)
تنفيها الأخرى وهذا قول لا يصح وهو ظاهر الفساد لأن التعارض أثر في أسقاط البينتين ولو لم يكونا أصلاً لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحدة منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو قال إن كان هذا الطائر غراباً فسالم حر وإن لم يكن غراباً فغانم حر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين (احدهما) يقرع بينهما كما في مسألة الطائر ولأن البينتين إذا تعارضنا قدمت إحداهما بالقرعة في رواية (والثاني) تقدم بينة غانم لأنها شهدت بزيادة وهي البرء وإن اقر الورثة لأحدهم عتق بإقرارهم ولم يسقط حق الآخر مما ذكرنا إلا أن يشهد عدلان منهم بذلك مع انتفاء التهمة فيعتق وحده إذا لم تكن للآخر بينة
(مسألة) (وإن اتلف ثوباً فشهدت بينة أن قيمته عشرون وشهدت أخرى أن قيمته ثلاثون لزمته أقل القيمتين) وجملة ذلك أنه إذا شهد شاهد انه غصبه ثوباً قيمته درهمان وشهد آخر أن قيمته ثلاثة ثبت ما اتفقا عليه وهو درهمان فله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فاشبه ما لو شهد أحدهما بالف والآخر بخمسمائة وإذا شهد شاهدان ان قيمته درهمان وشاهدان ان قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان(12/207)
وهما حجة فيؤخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الأخبار وكما لو شهد شاهدان بألف وشاهدان بألفين فإنه يجب له ألفان قال القاضي ويتوجه لنا مثل ذلك كما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بخمسمائة ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان ينفي أن قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم ويخالف الزيادة في الاخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي أن عليه ألفاً آخر فإن قيل فلم قلتم أنه إذا شهد بواحدة من القيمتين شاهدان تعارضتا وإن شهد شاهد لم يتعارضا وكان له أن يحلف من الشاهد بالزيادة عليها؟ قلنا لأن الشاهدين حجة وبينة وإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما أما الشاهد الواحد فليس بحجة وحده وإنما يصير حجة مع اليمين فإذا حلت مع أحدهما كملت الحجة مع يمينه ولم يعارضها ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهد واحد (مسألة) (ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها ماتت فورثناها ثم مات ابني فورثته وقال أخوها بل مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين وأن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضتا وسقطتا أيضاً وقياس مسائل الخرقي أن يجعل للأخ سدس مال الابن والباقي للزوج) وجملة ذلك أنه إذا مات جماعة برث بعضهم بعضاً واختلف الأحياء من ورثتهم في السابق(12/208)
بالموت في المسألة المذكورة فقال الزوج ماتت المرأة أولاً فصار ميراثها كله لي ولأبني ثم مات ابني فصار ميراثه لي وقال أخوها مات ابنها أولاً فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك نصفين حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للأحياء من ورثته دون من مات معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث الآخر بعده وهذا الأمر مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك له فيه وميراث المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج النصف وهو لا يدعي إلا الربع قلنا بل هو مدع لجميعه ربعه بميراثها منه وثلاثة أرباعه بميراثه من أبيه قال أبو بكر قد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب فيه إلا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول الخرقي في هذه المسألة وذكر قولاً آخر يحتمل أن الميراث بينهما نصفين قال شيخنا وهذا ما يدري ما أراد به إن أراد أن مال المرأة بينهما نصفين لم يصح لأنه يفضي إلى إعطاء الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقيناً لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه وان أراد أن ثلث مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقسمانه نصفين لم يصح لأن نصف ذلك إلى الزوج باتفاق منهما لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه ويحتمل أن يكون هذه مراده كما لو تنازع رجلان داراً في أيديهما فادعاها احدهما كلها وادعى الآخر نصفها فإنها تقسم بينهما نصفين وتكون اليمين على مدعي النصف إلا أن الفرق بين هذه المسألة وتلك أن الدار في أيديهما فكل واحد منهما في يد(12/209)
نصفها فمدعي النصف يدعيه وهو في يده فقبل قوله فيه مع يمينه وفي مسئلتنا يعترفان أن هذا ميراث عن البنين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو ميراث يدعيانه من غيرهما وان أراد أن سدس مال الابن يضم إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا في الغرقى والهدمى أن يكون سدس الابن للأخ وباقي ميراثهما للزوج لأنا نقدر أن المرأة ماتت أولاً فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن فورثه أبوه وهو الزوج فصار ميراثها كله لزوجها ثم
نقدر أن الابن مات أولاً فورثه أبواه لأمه الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ إلا سدس مال لابن كما ذكرنا قال شيخنا ولعل هذا القول يختص بمن جهل موتهما واتفق وراثهما على الجهل به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي فيما إذا ادعى ورثة كل ميت ان مات أخيراً وأن الآخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له بها وإن أقاما بينتين تعارضتا وهل يسقطان أو يقرع بينهما أو يقسمان ما اختلفا فيه؟ يخرج على الروايات الثلاث.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا شهدت بينة على ميت أنه وصى بعتق سالم وهو ثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه وصى بعتق غانم وهو ثلث ماله اقرع بينهما فمن تقع له القرعة عتق دون(12/210)
صاحبه إلا أن يجيز الورثة لأن الوصيتين ثبتا بشهادة العدول فهما سواء فيقرع بينهما سواء اتفق تاريخهما أو اختلف لأن الوصية يستوي فيها المتقدم والمتأخر فمن خرجت له القرعة عتق جميعه وقال أبو بكر وابن أبي موسى يعتق نصف كل واحد منهما بغير قرعة لأن القرعة إنما تجب إذا كان أحدهما عبداً والآخر حراً ولا كذلك ههنا فيجب أن يقسم بينهما ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر وصيته كما لو أوصى لاثنين بمال والأول قياس المذهب لأن الاعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت وقد ثبت في الاعتاق في مرض الموت أنه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين كذلك بعد الموت ولأن المعنى المقتضي في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فلما أن صرح فقال إذا مت فنصف كل واحد من سالم وغانم حر أو كان في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه قرينة ثبت ما اقتضاه وإن أجاز الورثة عتقهما عتقا لأن الحق لهم فأشبه ما لو أعتقوهما بعد موته (مسألة) وإن شهدت بينة سالم أنه رجع عن عتق غانم عتق سالم وحده سواء كانت بينته وارثة أو لم تكن) لأنهما لم يجران بشهادتهما إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنها ضرراً فإن قيل فهما يثبتان لأنفسهما ولاء سالم قلنا وهما يسقطان ولاء غانم أيضاً على أن الولاء إنما هو اثبات سبب الميراث ومثل ذلك لا ترد الشهادة فيه كما يثبت النسب بالشهادة وإن كان الشاهد يجوز أن يرث المشهود له وتقبل شهادته
لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه(12/211)
(مسألة) (وإن كانت قيمة غانم سدس المال وبينته أجنبية قبلت) لانها بينة غير متهمة فتقبل شهادتها كما لو كانت قيمته ثلث المال وإن كانت بينته وارثة عتق العبدان لأن البينة الوارثة متهمة في شهادتها لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته وترد شهادتها في الرجوع كما لو كانت فاسقة ويعتق سالم كله بالبينة العادلة ويعتق غانم لان سالما لما عتق بشهادة الاجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم ربع التركة فيعتق جميعه لنقصه عن ثلث الباقي لأن الباقي يصير كأنه التركة جميعها وإنما يعتق بإقرارهم لا بشهادتهم قال أبو بكر، ويحتمل أن يقرع بينهما فإن خرجت القرعة لسالم عتق وحده وإن خرجت لغانم عتق هو ونصف سالم كما لو لم تشهد بالرجوع فإن الشهادة بالرجوع لم تقبل فكان وجودها كعدمها فإنه في هذه الصورة يعتق فيها ثلث المال وتكمل في أحدهما فإذا وقعت القرعة لسالم عتق جميعه لأنه ثلث المال وإن وقعت لغانم عتق جميعه ونصف سالم لأن ذلك ثلث المال (مسألة) وإن شهدت بينة أنه أعتق سالماً في مرضه وشهدت أخرى أنه وصى بعتق غانم وكل واحد منهما ثلث المال عتق سالم وحده) لأنه لا ينفذ تصرفه في مرضه إلا في الثلث إذا لم تجز الورثة وعتق سالم منجز وعتق غانم وصية فيقدم عتق سالم على الوصية(12/212)
(مسألة) وإن شهدت بينة غانم أنه أعتقه في مرضه أيضاً عتق أقدمهما تاريخاً فإن جهل السابق عتق أحدهما بالقرعة) وجملة ذلك أنه إذا ادعى سالم أنه أعتقه في مرض موته وادعى عبده غانم أنه أعتقه في مرض موته وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه فلا تعارض بينهما لأن ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت به الأخرى ولا يكذبها فيثبت إعتاقه لهما فإن كانت البينتين مؤرختين بتاريخين متخلفين عتق الأول منهما ورق الثاني إلا أن يجيز الورثة لأن المريض إذا تبرع تبرعاً يعجز ثلثه قدم الأول فالأول وإن
اتفق تاريخهما أو اطلقتا أو احداهما فهما سواء لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فيستويان ويقرع بينهما فيعتق من تخرج له القرعة ويرق الآخر إلا أن يجيز الورثة لأنه لا يخلو إما أن يكون أعتقهما معاً فيقرع بينهما كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عنه موته ولم يكن له مال سواهم أو يكون أعتق أحدهما قبل صاحبه وأشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل يعتق من كل واحد نصفه.
وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل منهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق للعتق ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق من رق ولذلك قسمنا المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت بينتان والأول المذهب لأنه لا يخلو من شبهة بإحدى(12/213)
الصورتين اللتين ذكرناهما والقرعة ثابتة في كل واحد منهما وقولهم إن في القرعة احتمال ارفاق الحر قلنا وفي القسمة إرقاق نصف الحر يقيناً وتحرير نصف الرقيق يقيناً وهو أعظم ضرراً (مسألة) (فإن كانت بينة أحدهما وارثة ولم تكذب الأجنبية فكذلك وإن قالت ما أعتق سالماً إنما أعتق غانماً عتق غانم كله وحكم سالم كحكمه لو لم يطعن في بينته في أنه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة وإلا فلا، وإن كانت الوراثة فاسقة ولم تطعن في بينة سالم عتق سالم كله وينظر في بينة غانم فإن كان تاريخ عتقه سابقاً أو خرجت القرعة له عتق كله، وإن كان متأخراً أو خرجت القرعة لسالم لم يعتق منه شئ.
وقال القاضي: يعتق من غانم نصفه وإن كذبت بينة سالم عتق العبدان) وجملة ذلك أن المريض إذا خلف ابنين لا وارث له سواهما فشهدا أنه أعتق سالما في مرض موته وشهد أجنبيان أنه أعتق غانماً في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الاثنان في شهادتهما وكانت البينتين عادلتين فالحكم فيه كالحكم فيما إذا كانتا اجنبيتين سواء لأنه قد ثبت أن الميت اعتق العبدين، وإن طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما اعتق غانماً انما اعتق سالماً لم يقبل قولهما في رد شهادة الأجنبية لأنها بينه عادلة مثبتة والأخرى نافية وقول المثبت يقدم على قول النافي ويكون حكم ما شهدت به إذا لم تطعن الوارثة في شهادتها أنه يعتق ان تقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق(12/214)
إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره.
وأما الذي شهد به الابنان فيعتق كله لإقرارهما بإعتاقه وحده واستحقاقه الحرية.
وهذا قول القاضي وقيل يعتق ثلثاه إن حكم بعتق سالم وهو ثلث الباقي لأن العبد الذي شهد به الأجنبيان كالمغصوب من التركة والذاهب من التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال الموت وحال الميت في قول الابنين لم يعتق سالم إنما عتق بالشهادة بعد الموت فيكون ذلك بمنزلة موته بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج من الثلث قبل موته فإن كان الاثنان فاسقين ولم يردا شهادة لاجنبية ثبت العتق لسالم ولم يزاحمه من شهد له الاثنان لفسقهما فلا يقبل قولهما في اسقاط حق ثبت ببينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه أو اقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق كله كما قلنا في التي قبلها وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت القرعة لغيره لم يعتق منه شئ لأن الاثنين لو كانا عدلين لم يعتق منه شئ فإذا كانا فاسقين أولى وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يعتق نصقه في الأحوال كلها لأنه استحق العتق بإقرار الورثة مع ثبوت عتق الأخر بالبينة العادلة فصار بالبينة كأنه أعتق العبدين فيعتق منه نصفه.
قال شيخنا: وهذا لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة ولأنه في حال تقديم تاريخ من شهدت له البينة لا يعتق منه شئ وكانت بينة عادلة فمع فسوقها أولى وإن كذبت الوارثة(12/215)
الاجنبية فقالت ما أعتق سالماً إنما أعتق غانماً عتق العبدان وقيل يعتق من غانم ثلثاه والأول أولى.
(فصل) إذا شهد عدلان أجنبيان أنه وصى بعتق سالم وفهد عدلان وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتهما سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية عتق سالم وقد ذكرناه فإن كان الوارثان فاسقين لم تقبل شهادتهما في الرجوع ويلزمهما إقرارهما لغانم فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم بإقرار الورثة بالوصية باعتاقه وحده، وذكر القاضي وأصحاب
الشافعي أنه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الاجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم نصف التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة ولنا ان الوارثة لقر بأنه حين الموت ثلث التركة وأن عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت فسار كالمغصوب بعد الموت ولو غصب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه، وقد ذكر القاضي فيما إذا شهدت بينة عادلة بإعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسقة باعتاق غانم في مرضه وانه لم يعتق سالماً أن غانماً يعتق كله وهذا مثله، فأما إن كانت قيمة غانم أقل من قيمة سالم فالوارثة متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته فترد شهادتهما في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع عن الوصية بعتق سالم ويعتق غانم كله أو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة(12/216)
فإن لم تشهد الوارثة بالرجوع عن عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهي بينة عادلة ثبتت الوصيتان سواء كانت قيمتهما سواء أو مختلفة إن خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أقرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة ويعتق تمام الثلث من الآخر سواء تقدمت إحدى الوصيتين عن الأخرى أو استوتا لأن المتقدم والمتأخر من الوصايا سواء (فصل) ولو شهدت بينة عادلة أنه وصى لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه رجع عن الوصية لزيد ووصى لعمرو بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة أنه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر بثلث ماله صحت الشهادة كلها وكانت الوصية لبكر سواء كانت البينات من الورثة أو لم تكن لأنه لا تهمة في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة أنه رجع عن إحدى الوصيتين لم تفد هذه الشهادة لأنه قد ثبت بالبينة الثانية أنه رجع عن الوصية لزيد وهي إحدى الوصيتين، فعلى هذا تثبت الوصية لعمرو، وإن كانت البينة شهدت بالوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن وصية زيد فشهدت الثالثة برجوعه عن إحدى الوصيتين لا بعينها فقال القاضي لا تصح الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما لم يعينا المشهود عليه وتصير كما لو قالا نشهد أن لهذا على هذين ألفاً أو أن لأحد هذين على هذا ألفاً فيكون الثلث بين الجمع أثلاثاً، وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله أنه يصح الرجوع عن إحدى الوصيتين
ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة بالرجوع عن وصيته بطلت وهذا قول ابن أبي موسى وإذا صح(12/217)
الرجوع عن أحدهما بغير تعيين صحت الشهادة به لذلك، ووجه ذلك أن الوصية تصح بالمجهول وتصح الشهادة فيها بالمجهول فجازت في الرجوع من غير تعيين الرجوع عن وصيته (فصل) إذا شهد شاهدان أنه وصى لزيد بثلث ماله وشهد واحد أنه وصى لعمرو بثلث ماله انبنى هذا على الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين؟ فيه وجهان (أحدهما) يتعارضان فيحلف عمر مع شاهد ويقسم الثالث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة في المال فأشبه الشاهدين (والثاني) لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فعلى هذا ينفرد زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة.
فأما إن شهد واحد أنه رجع عن وصية زيد ووصى لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع(12/218)
شاهده وتثبت الوصية له والفرق بين المسئلتين ان في الاول تقابلت البينتان فقدمنا إقرارهما، وفي الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت بالرجوع وهو يثبت بالشاهد واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي (فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن هذه الدار كانت أمس ملكه أو منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضي بها؟ على وجين (أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا يحكم بها، قال القاضي وهو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال فلا تسمع بينته على ما لم يدعه، لكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديهما فقالا نشهد أنها كانت ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل(12/219)
إلى صاحب اليد، فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلاً فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، وإن أقر المدعي عليه أنها كانت ملكاً للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره وحكم به
في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق البينة من وجهين (أحدهما) أنه أقوى من البينة لكونها شهادة من الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة ولهذا تسمع في المجهول ويقضي به بخلاف البينة (والثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداءا، وإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها الوجهان وإن أقر المدعي عليه بذلك، والصحيح أنه يسمع ويقضي به لما ذكرنا (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا مات رجل وخلف ولدين مسلماً وكافراً فادعى كل واحد(12/220)
منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعيه وإن لم يعرف فالميراث للكافر لأن المسلم لا يقر ولده على الكفر في دار الإسلام) إذا مات رجل لا يعرف دينه وخلف تركة وابنين أحدهما مسلم والآخر كافر فادعى كل واحد منهما أنه مات على دينه وأن الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر ذكره الخرقي لأن دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلماً أصلياً فيجب كون أولاده مسلمين ويكون أخوه الكافر مرتداً وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام أو يقول إن أباه كان كافراً فأسلم قبل موته فهو معترف بأن الأصل ما قاله أخوه مدع زواله وانتقاله والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنهما في الدعوى سواء فالميراث(12/221)
بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عيناً في يديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم منهما وهو قول أبي حنفة لأن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الإسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على تكفين أموات المسلمين ولأنه يدفن في مقابر المسلمين ويغسل فيثبت فيه سائر أحكام المسلمين فكذلك في ميراثه ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى ويجوز أن يكون أخوه الكافر مرتداً لم تثبت عند الحاكم ردته ولم ينته إلى الإمام خبره وظهور الإسلام بناء على هذا أظهر من ثبوت الكفر بناء على كفر أبيه ولهذا جعل الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا
المتنازع فيه وقال القاضي قياس المذهب أننا ننظر فإن كانت التركة في أيديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عيناً ويقتضي كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما فهي له مع يمينه وهذا قول لا يصح لأن كل واحد منهما يقر بأن هذه التركة تركة هذا الميت وأنه إنما يستحقها بالميراث فلا حكم ليده، وقال أبو الخطاب يحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه أو بصطلحا وهذا قول الشافعي وقد ذكرنا الدليل على ظهور كفره فأما ظهور حكم الإسلام في الصلاة عليه وغسله وغير ذلك فإن هذا لا ضرر فيه على أحد وأما قوله إن الإسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا إذا لم يثبت أصل دينه فإن ثبت أصل دينه فالقول قول من ينفيه مع يمينه وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة القول قول المسلم على كل حال لما ذكرنا في التي قبلها ولنا أن الأصل بقاء ما كان عليه فكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع وأما إن لم يعترف(12/222)
المسلم أنه أخوه وادعى كل واحد منهما أن الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوى لتساوي أيديهما عليه ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوى سواء ويقسم المال بينهما نصفين كما لو كان في أيديهما دار فادعى كمل واحد منهما اتها له ولا بينة لهما ويحتمل أن يقدم قول المسلم لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله والصلاة عليه وسائر أحكامه، وقال القاضي يقرع بينهما كما إذا تداعيا عينا في يد غيرهما ولم يدعها لنفسه ويحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه وهو قول الشافعي إلا أن يصطلحا (مسألة) (وإن أقام كل واحد بينة أنه مات على دينه تعارضتا وإن قال شاهدان نعرفه مسلماً وقال شاهدان نعرفه كافراً فالميراث للمسلم إذا لم تؤرخ الشهود معرفتهم) أما إذا أقاما بينتين كل واحد بينة أنه مات على دينه ولم يعرف أصل دينه تعارضتا وإن عرف أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما أنه كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت به فهما(12/223)
متعارضتان وإن شهدت إحداهما أنه مات على دين الإسلام وشهدت الأخرى أنه مات على دين الكفر
قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن المبقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على الأصل الذي تعرفه لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما أن يشهدا أنه مات على دينه الذي عرفاه والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا أن هذا العبد كان ملكاً لفلان إلى أن مات وشهد آخران أنه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع فأما إن قال شاهدان نعرفه مسلماً وقال شاهدان نعرفه كافراً نظرنا في تاريخهما فإن اختلف تاريخيهما عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت أنه انتقل عما شهدت به الأولى إلى ما شهدت به الأخرى وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة قدمت بينة المسلم لأن المسلم لا يقر على الكفر في دار الإسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين(12/224)
بتاريخ واحد نظرنا في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعارضتان وإن لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما متعارضتان وإن عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت البينتان فقال الخرقي تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين أخريين (احداهما) يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ (والثانية) يقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تقدم بينة الإسلام على كل حال وقد مضى الكلام معه وقد قال الخرقي إذا قال شاهدان نعرفه كان مسلماً وقال شاهدان نعرفه كان كافراً فالميراث للمسلم إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم وهو محمول على(12/225)
من لم يعلم أصل دينه أو على أن أصل دينه الكفر أما من كان مسلماً في الأصل فينبغي أن تقدم بينة الكفر لأن بينة الإسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل (فصل) وإن خلف ابناً مسلماً وأخاً كافراً فاختلفا في دينه حال موته فالحكم فيها كالتي قبلها وهكذا سائر الأقارب.
(مسألة) (وإن خلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فاختلفوا في دينه فالقول قول الأبوين ويحتمل أن القول قول الابنين)(12/226)
ظاهر المذهب أن القول قول الأبوين لأن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فيثبت أنه كان كافراً في صغره.
ويحتمل أن القول قول الابنين لأن كفر أبويه يدل على أصل دينه في صغره وإسلام ابنيه يدل على إسلامه في كبره فيعمل بهما جميعاً يحمل كل واحد منهما على مقتضاه فهو كما لو قال شاهدان نعرفه كافراً في صغره وقال شاهدان نعرفه مسلماً في كبره (فصل) وإن خلف ابناً كافراً وأخاً وامرأة مسلمين واختلفوا في دينه فالقول قول الابن على(12/227)
قول الخرقي.
ووجهه ما سبق فيما إذا خلف ابنين مسلماً وكافراً وقال القاضي يقرع بينهما وقد سبق تعليله في مسألة الابنين.
وقال أبو بكر قياس المسألة أن تعطي المرأة الربع ويقسم الباقي بين الأخ) والابن نصفين لأنها تدعي زيادة عليه فيدخل في عموم قوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم فلا يخرج إلا بدليل تخصيصها ولا يخرج بالشك ويقسم الباقي بين الأخوين لتساويهما في الدعوى وهو في أيديهما.
(فصل) ولو مات مسلم وخلف زوجة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت وادعت(12/228)
أنها أسلمت قبل موته وأنكرها الورثة فالقول قولهم لأن الأصل عدم ذلك فإن لم يثبت أنها كافرة فادعى عليها الورثة أنها كانت كافرة وأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه وإن ادعوا أنه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها فإن اعترفت بالطلاق وانقضاء العدة وادعت أنه راجعها فالقول قولهم وإن اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولهما في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها ولا نعلم في هذا كله خلافاً.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولو خلف ولدين مسلمين اتفقا على أن أحدهما كان مسلماً حين(12/229)
موت أبيه وادعى الآخر أنه أسلم في حياة أبيه وجحده أخوه فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء
الكفر إلا أن يعلم زواله وعلى أخبه اليمين وتكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل أخيه إلا أن يكون ثبت أنه أسلم قبل قسم التركة فيرث فإن من أسلم على ميراث قبل القسمة قسم له وإن كان أحدهما حراً والآخر رقيقاً ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول من ينفيها وإن لم يثبت أنه كان رقيقاً ولا كافراً فادعي عليه أنه كذلك فأنكر فالقول قوله والميراث بينهما لأن الأصل الحرية والإسلام وعدم ما سواهما.(12/230)
(فصل) إذا أسلم أحد الابنين في غرة شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما فقال الأول مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل بقاء حياته حتى يعلم زوالها وإن أقام واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان (أحدهما) يتعارضان (والثاني) نقدم بينة موته في شعبان لأنها معها زيادة علم لأنه ثبت موته في شعبان ويجوز أن يخفى ذلك على البينة الأخرى (مسألة) ولو مات مسلم وخلف ولدين مسلماً وكافراً فأسلم الكافر وقال أسلمت قبل موت أبي وقال أخوه بل بعده فلا ميراث له لأن الأصل بقاء الكفر حتى يعلم زواله وعلى أخيه اليمين وتكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل الغير وقد ذكرناه(12/231)
(مسألة) وإن قال أسلمت في المحرم ومات أبي في صفر فلي الميراث وقال أخوه بل مات في ذي الحجة فله الميراث مع أخيه لأن الأصل بقاء الحياة فإن أقام كل واحد بينة بدعواه فهل يتعارضان أو تقدم بينة من ادعى تقديم موته؟ فيه وجهان ذكرناهما في الفصل قبل هاتين المسئلتين والله أعلم.
الله أكبر(12/232)
كتاب العتق
العتق في اللغة الخلوص ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير أي خالصتها وسمي البيت احرام عتيقاً لخلوصه من أيدي الجبابرة وهو في الشرع تحرير الرقبة وتخليصها من الرق يقال عتق العبد وأعتقته أنا وهو عتيق ومعتق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (فتحرير رقبة) وقال تعالى (فك رقبة) وأما السنة فما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج) متفق عليه في أخبار كثيرة سوى هذا وأجمع الأمة على صحة العتق وحصول القربة به (مسألة) (وهو من أفضل القرب) لأن الله تعالى جعله كفارة للقتل والوطئ في رمضان والإيمان وجعله النبي صلى الله عليه وسلم فكاكاً لمعتقه من النار ولأن فيه تخليص الآدمي المعصوم من ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكينه من التصرف في نفسه ومنافعه على حسب إرادته واختياره واعتاق الرجل أفضل من اعتاق المرأة لما روى كعب بن مرة البهزي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أيما رجل أعتق رجلاً مسلماً كان فكاكه منه النار يجزي بكل عظم من عظامه عظما من عظامه، وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين(12/233)
كانتا فكاكه من النار يجزي بكل عظم من عظامهما عظما من عظامه، وأيما امرأة اعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار تجرى بكل عظم من عظامها عظماً من عظامها) وقيل عتق المرأة للمرة أفضل.
(مسألة) (والمستحب عتق من له كسب ودين ينتفع بالعتق) فأما من لا قوة له ولا كسب فلا يستحب عتقه ولا كتابته لسقوط نفقته عن سيده باعتاقه فيضيع أو يصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة فلا يستحب عتقه ولا كتابته فإن كان ممن يخاف عليه الرجوع إلى دار الحرب وترك إسلامه أو يخاف عليه الفساد كمن يخاف أنه إذا أعتق فاحتاج سرق أو فسق أو قطع الطريق أو جارية يخاف عليها الزنا والفساد كره إعتاقه فإن غلب على الظن إفضاؤه إلى هذا كان محرماً لأن التوسل إلى الحرام حرام فإن أعتقه صح لانه اعتاق صدر من أهله في محله فصح كعتق غيره
(مسألة) (ويحصل العتق بالقول والملك ولا يحصل بالنية المجردة) لأنه إزالة ملك فلا يحصل بالنية المجردة كالطلاق وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح لفظ العتق والحرية كيف صرفا نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو أعتقتك لأن هذين اللفظين وردا في الكتاب والسنة وهما يستعملان في العتق عرفاً فمتى اتى بشئ من هذه الألفاظ حصل به العتق سواء نواه(12/234)
أو لم ينوه قال أحمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال تنحي يا حرة فإذا هي جاريته قال قد عتقت عليه وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة مروا أنتم أحرارا وكانت معهم أم ولده لم يعلم بها قال هذا عندي تعتق أم ولده ويحتمل أن لا تعتق في هذين الموضعين لأنه قصد باللفظة الأولى غير العتق فلم تعتق به كما لو قال عبدي حر بريد أنه عفيف كريم الاخلاق واللفظة الثانية أراد غير أم ولده فأشبه ما لو نادى امرأة من نسائه فأجابته غيرها فقال أنت طالق يظنها المناداة فإنها لا تطلق في رواية فكذا ههنا، وأما إن قصد غير العتق كالرجل يقول عبدي هذا حر يريد عفته وكرم أخلاقه أو يقول لعبده ما أنت إلا حر أي أنك لا تطيعني ولا ترى لي حقاً ولا طاعة فلا يعتق في ظاهر المذهب قال حنبل سئل أبو عبد الله عن رجل قال لغلامه أنت حر وهو يعاتبه قال إذا كان لا يريد به العتق يقول كأنك حر ولا يريد أن يكون حراً أو كلاماً شبه هذا رجوت أن لا يعتق وأنا أهاب المسألة لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه كما لو نوى بكناية العتق العتق قال وإن طلب استحلافه حلف وبيان احتمال اللفظ لما أراده أن المرأة تمدح بهذا يقال امرأة حرة يعنون عفيفة وتمدح المملوكة به أيضاً ويقال للحيي الكريم الأخلاق حر قالت سبيعة ترثي عبد المطلب ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة * ويوم على حر كريم الشمائل وأما الكناية فنحو قوله خليتك والحق بأهلك واذهب حيث شئت ونحوها وكذلك قوله حبلك(12/235)
على غاربك فهذا إن نوى به العتق عتق وإن لم ينوه لم يعتق لأنه يحتمل غيره ولم يرد به كتاب ولا سنة ولا عرف استعمال وفي قوله لا سبيل لي عليك ولا ملك لي عليك ولا رق لي عليك وفككت
رقبتك وأنت مولاي وأنت لله وأنت سائبة روايتان (إحداهما) أنه صريح (والأخرى) كناية ذكر القاضي وابو الخطاب في قوله لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك: روايتين (إحداهما) أنه صريح (والأخرى) كناية قال شيخنا والصحيح أنه كناية لما ذكرناه، فأما قوله لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك وأنت لله فقال القاضي هو صريح نص عليه أحمد وذكر أبو الخطاب فيه روايتين لأنه يحتمل غير العتق ولا خلاف في المذهب أنه يعتق به إذا نوى وممن قال يعتق بقوله أنت لله إذا نوى الشعبي والمسيب بن رافع وحماد والشافعي وقال أبو حنيفة لا يعتق به لأن مقتضاه أنت عبد الله أو مخلوق لله وهذا لا يقتضي العتق ولنا أنه يحتمل أنت حر لله أو عتيق لله أو عبد لله وحده لست بعبد لي ولا لأحد سوى الله فإذا نوى الحرية به وقعت كسائر الكنايات وما ذكروه لا يصح لأن احتماله لما ذكروه لا يمنع احتماله لما ذكرناه بدليل سائر الكنايات فإنها تحتمل العتق وغيره ولو لم تحتمل إلا العتق لكانت صريحة فيه وما احتمل أمرين انصرف إلى أحدهما بالنية وهذا شأن الكنايات وما ذكروه من الاحتمال يدل على أن هذا ليس بصريح وإنما هو كناية وقوله لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك(12/236)
خبر عن انتفاء ملكه ولم يرد به شرع ولا عرف استعمال في العتق فلم يكن صريحاً فيه كقوله ما أنت عبدي ولا مملوكي وقوله لامرأته ما أنت امرأتي ولا زوجتي وفي قوله فككت رقبك وأنت سائبة وأنت مولاي روايتان (إحداهما) هو صريح في العتق لأنها تتضمنه وقد جاء في كتاب الله تعالى (فك رقبة) يعني العتق فكانت صريحة كقوله اعتقتك (والثاني) هو كناية لأنه يحتمل غير العتق (مسألة) (وفي قوله لأمته أنت طالق وأنت حرام روايتان) (إحداهما) هي كناية والأخرى لا تعتق به وهو قول أبي حنيفة لأن الطلاق لفظ وضع لازالة الملك عن المنفعة فلم يزل به الملك عن الرقبة كفسخ الإجارة ولأن ملك الرقبة لا يستدرك بالرجعة فلا ينحل كسائر الأملاك (والثانية) هو كناية تعتق به إذا نواه وهو قول مالك والشافعي لأن الرق أحد الملكين على
الآدمي فيزول بلفظ الطلاق كالآخر أو فيكون للفظ الموضوع لإزالة أحدهما كناية في إزالة الآخر كالحرية في إزالة النكاح ولأن فيه معنى الإطلاق فإذا نوى به إطلاقها من ملكه فقد نوى بلفظه ما يحتمله فتحصل به الحرية كسائر كنايات العتق (فصل) وإن قال لأمته أنت حرام ينوي به العتق عتقت، وذكر أبو الخطاب أن فيها رواية(12/237)
أخرى لا تعتق كقوله لها أنت طالق والصحيح أنها تعتق به لأنه يحتمل أنك حرام علي لكونك حرة فتعتق به كقوله لا سبيل لي عليك (مسألة) (وإن قال لعبده وهو أكبر منه أنت ابني لم يعتق ذكره القاضي ويحتمل أن يعتق) إذا قال لا كبر منه أو لمن لا يولد لمثله: هذا ابني مثل أن يقول من لم عشرون سنة لمن له خمسة عشرة سنة: هذا ابني لم يعتق ولم يثبت نسبه، وقال أبو حنيفة يعتق وخرجه أبو الخطاب وجهاً لنا لأنه اعترف بما تثبت به حريته فأشبه ما لو أقر بها ولنا أنه قول يتحقق كذبه فيه فلم يثبت الحرية كما لو قال لطفل هذا أبي أو لطفلة هذه أمي، قال ابن المنذر هذا من قول النعمان شاذ لم يسبقه أحد إليه ولا تبعه أحد عليه وهو محال من الكلام وكذب يقيناً ولو جاز هذا لجاز أن يقول الرجل لطفل هذا ابي ولأنه لو قال لزوجته وهي أسن منه: هذه ابنتي أو قال لها وهي أسن منه هذه أمي لم تطلق كذا هذا (مسألة) (وإن اعتق حاملاً عتق جنينها إلا أن يستثنيه) لأنه يتبعها في البيع والهبة ففي العتق أولى فإن استثناه لم يعتق روى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة والنخعي وإسحاق وابن المنذر وقال ابن سيرين له ما استثنى وقال عطاء والشعبي إذا استثنى ما في بطنها فله ثنياه وقال مالك والشافعي لا يصح استثناء الجنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وقياساً على استثنائه في البيع أشبه بعض أعضائها(12/238)
ولنا أنه قول ابن عمر وأبي هريرة قال أحمد أذهب إلى حديث ابن عمر في العتق ولا أذهب
إليه في البيع ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولأنه يصح إفراده بالعتق فصح استثناؤه كالمنفصل وخبرهم نقول به والحمل معلوم فصح استثناؤه للحديث ويفارق البيع لأنه عقد معاوضة يعتبر فيه العلم بصفات العوض ليعلم هل هو قائم مقام لعوض أم لا؟ والعتق تبرع لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولا تنافيه الجهالة ويكفي العلم بوجوده وقد وجد ولذلك صح أفراد الحمل بالعتق ولم يصح بالبيع ولأن استثناءه في البيع إذا بطل بطل البيع كله وههنا إذا بطل استثناؤه لم يبطل العتق في الأمة ويسري الإعتاق إليه فكيف يصح إلحاقه به مع تضاد الحكم فيها؟ ولا يصح قياسه على بعض أعضائها لأنه يصح انفراده بالحرية عن أمه فيما إذا أعتقه دونها وفي ولد المغرور بحرية أمة وفيما إذا وطئ بشبهة وفي ولد أم الولد وغير ذلك ولا يصح ذلك في بعض أعضائها ولأن الولد يرث ويورث ويوصي به فكيف يصح قياسه على بعض الأعضاء؟ وروى الأثرم عن ابن عمر أنه أعتق أمة واستثنى ما في بطنها ولأنها ذات حمل فصح استثناء حملها كما لو باع نخلة لم تؤبر واشترط ثمرتها وقال القاضي يخرج على الروايتين فيما إذا استثنى ذلك في البيع والمنصوص عنه ما ذكرنا من أنه يصح استثناؤه في العتق ولا يصح في البيع لم ذكرنا من الفرق بينهما(12/239)
(مسألة) (وإن اعتق ما في بطنها دونها عتق وحده) لا نعلم في ذلك خلافاً وهو قول سفيان وأحمد وإسحاق لأن حكمه حكم الإنسان المنفرد ولهذا يورث الجنين إذا ضرب بطن امرأة فأسقطت جنيناً وجب فيه غرة موروثة عنه كأنه سقط حياً وتصح الوصية به وله ويرث إذا مات موروثه قبل أن يولد ثم ولد بعده فصح عتقه كالمنفصل (فصل) ولا يصح العتق إلا من جائز التصرف فلا يصح عتق الصبي والمجنون قال ابن المنذر هذا قول عامة أهل العلم منهم الحسن والشعبي والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) ولأنه تبرع بالمال فلم يصح كالهبة ولا يصح عتق المحجور عليه للسفه وهو قول القاسم بن محمد وعنه يصح قياساً على طلاقه وتدبيره
ولنا أنه محجور عليه في ماله لحظ نفسه فلم يصح عتقه كالصبي ولأنه تصرف في المال في حياته أشبه هبته وبيعه ويفارق الطلاق لأن الحجر عليه في ماله والطلاق ليس بتصرف فيه ويفارق التديبر لأنه تصرف فيه بعد موته وغناه عنه بالموت ولهذا صحت وصيته ولم تصح هبته المنجزة وعتق السكران مبني على طلاقه وفيه من الخلاف ما فيه ولا يصح عتق المكره كما لا يصح بيعه ولا تصرفاته ولا يصح(12/240)
عتق الموقوف لأن فيه إبطالاً لحق البطن الثاني منه وليس له ذلك (فصل) ولا يصح العتق من غير المالك بغير إذنه فلو اعتق عبد ولده الصغير أو يتيمه الذي في حجره لم يصح، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال مالك يصح عتق عبد ولده الصغير لقوله عليه الصلاة والسلام (أنت ومالك لأبيك) ولأن له عليه ولاية وله فيه حق فسح اعتاقه كما له ولنا أنه عتق من غير مالك فلم يصح كإعتاق عبد ولده الكبير قال إبن المنذر لما روث الله الأب من مال ابنه السدس مع ولده دل على أنه لا حق له في سائره وقوله عليه السلام (أنت ومالك لأبيك) لم يرد به حقيقة الملك وإنما أراد المبالغة في وجوب حقه عليك وإمكان الأخذ من مالك وامتناع مطالبتك إياه بما أخذ منه ولهذا لم ينفذ إعتاقه لعبده ولده الكبير الذي ورد الخبر فيه وثبوت الولاية له على مال ولده أبلغ في امتناع اعتاق عبده لأنه إنما أثبت عليه الولاية لحظ الصبي ليحفظ ماله عليه وينميه له ويقوم بمصالحه التي يعجز الصبي عن القيام بها.
وإذا كان مقصود الولاية الحفظ اقتضت منع التفريط والتضييع بإعتاق رقيقه والتبرع بماله ولو قال رجل لعبد أنت حر من مالي فليس بشئ فإن اشتراه بعد ذلك فهو مملوكه ولا شئ عليه وبه قال مالك والشافعي وعامة للفقهاء ولو بلغ رجلاً أن رجلاً قال لعبده أنت حر من مالي فقال قد رضيت فليس بشئ وبه قال الثوري واسحاق (مسألة) (وأما الملك فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه وعنه لا يعتق إلا عمودا النسب) ذو الرحم المحرم القريب الذي يحرم نكاحه عليه لو كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة وهم الولدان(12/241)
وإن علوا من قبل الأب والأم جميعاً والولد وإن سفل من ولد البنين والبنات والاخوة والأخوات
وأولادهم وإن سفلوا والاعمام والعمات والأخوال والخالات وإن علوا دون أولادهم فمتى ملك أحداً منهم عتق عليه روى ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وجابر بن زيد وعطاء والحكم وابن أبي ليلى والثوري والليث وأبو حنيفة والحسن بن صالح وشريك ويحيى بن آدم واعتق مالك الوالدين والمولودين وإن بعدوا والاخوة والأخوات دون أولادهم ولم يعتق الشافعي إلا عمودي النسب وعن أحمد كذلك ولم يعتق داود وأهل الظاهر أحداً حتى يعتقه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم ولنا ما روى الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن ولأنه ذو رحم محرم فعتق عليه بالملك كعمودي النسب وكالاخوة والاخوات عند مالك فأما قوله (حتى يشتريه فيعتقه) فيحتمل أنه أراد فيشتريه فيعتقه بشرائه كما يقال ضربه فقتله والضرب هو القتل وذلك لأن الشراء لما كان يحصل به العتق تارة دون أخرى جاز(12/242)
عطف صفته عليه كما يقال ضربه فأطار رأسه وسواء ملكه بشراء أو هبة أو غنيمة أو إرث أو غيره لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً (فصل) ولا خلاف في أن المحارم من غير ذوي الأرحام لا يعتقون على سيدهم كالأم من الرضاعة والاخ منها والربيبة وأم الزوجة وابنتها إلا أنه حكي عن الحسن وابن سيرين وشريك أنه لا يجوز بيع الأخ من الرضاعة وروي عن ابن مسعود أنه كرهه والأول أصح قال الزهري جرت السنة بأن يباع الأخ والأخت من الرضاعة ولأنهم لا نص في عتقهم ولا هم في معنى المنصوص عليه فيبقون على الأصل ولأنهما لا رحم بينهما ولا توارث ولا تلزمه نفقته فأشبه الربيبة وأم الزوجة.
(مسألة) (وإن ملك ولده من الزنا لم يعتق عليه في ظاهر كلام أحمد) لأن أحكام الولد غير ثابتة فيه وهي الميراث والحجب والمحرمية ووجوب الإنفاق وثبوت الولاية عليه ويحتمل أن يعتق لأنه جزؤه حقيقة وقد ثبت فيه حكم تحريم التزويج ولهذا لو ملك ولده المخالف له في الدين عتق عليه مع انتفاء هذه الأحكام.
(مسألة) وإن ملك سهماً ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله وعليه قيمة نصيب شريكه وإن كان معسراً لم يعتق عليه إلا ما ملك وإن ملكه بالميراث لم يعتق منه إلا ما ملك موسراً كان أو معسراً وعنه أنه يعتق عليه نصيب الشريك إن كان موسراً.(12/243)
وجملة ذلك أن من ملك سهماً ممن يعتق عليه فإنه يعتق عليه ما ملك منه سواء ملكه بعوض أو بغير عوض كالاغتنام والوصية وسواء ملكه باختياره كالذي ذكرنا أو بغير اختياره كالميراث لأن كل ما يعتق به الكل يعتق به البعض كالإعتاق بالقوم ثم ينظر فإن كان معسراً لم يسر العتق واستقر في ذلك الجزء ورق الباقي لأنه لو اعتقه بقوله لم يسر إعتاقه بتصريحه بالعتق وقصده إياه فههنا أولى وإن كان موسراً وكان الميراث باختياره كالملك بغير الميراث سرى إلى باقيه قعتق جميع العبد ولزمه لشريكه قيمة باقيه لأنه فوته عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وقال قوم لا يعتق عليه إلا ما ملك سواء ملكه بشراء أو غيره لأن هذا لم يعتقه وإنما عتق عليه بحكم الشرع عن غير اختيار فلم يسر كما لو ملكه بالميراث وفارق ما أعتقه لأنه فعله باختياره قاصداً إليه ولنا أنه فعل سبب العتق اختياراً منه وقصد إليه فسرى ولزمه الضمان كما لو وكل من اعتق نصيبه وفاروق الميراث فإنه حصل بغير فعله ولا قصده ولأن من باشر سبب السراية اختياراً لزمه الضمان كمن جرح إنساناً فسرى جرحه ولأن مباشرة ما يسري ونسبته إليه في لزوم حكم السراية واحدة بدليل استواء الحافر والدافع في ضمان الواقع فأما إن ملكه بالميراث لم يسر العتق فيه واستقر فيما ملكه ورق الباقي موسراً كان أو معسراً لأنه لم يتسبب إلى إعتاقه وإنما حصل بغير اختياره وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف وعن أحمد ما يدل على أنه أنه يسري إلى نصيب الشريك إذا كان موسراً(12/244)
لأنه عتق عليه بعضه وهو موسر فسرى إلى باقيه كما لو وصى له به فقبله والمذهب الأول لأنه لم يعتقه ولا تسبب إليه فلم يضمن ولم يسر كالأجنبي وفارق ما تسبب إليه (فصل) وإن ورث الصبي والمجنون جزءاً ممن يعتق عليهما عتق ولم يسر إلى باقيه لأنه إذا لم
يسر في حق المكلف ففي حقهما أولى وإن وهب لهما أو وصي لهما به وهما معسران فعلى وليهما قبوله لأنه نفع لهما بإعتاق قريبهما من غير ضرر يلحق قريبهما وإن كانا موسرين ففيه وجهان مبنيان على أنه هل يقوم عليهما باقيه إذا ملكا بعضه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يقوم ولا يسري العتق إليه لأنه يدخل ملكه بغير اختياره أشبه ما لو ورثه (والثاني) يقوم عليه لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله فأشبه الوكيل فعلى هذا الوجه ليس لوليه قبوله لما فيه من الضرر، وعلى الأول يلزمه قبوله لأنه نفع بغير ضرر إذا كان ممن لا تلزمه نفقته وإذا قلنا ليس له أن يقبله فقبله احتمل أن لا يصح القبول لأنه فعل ما لم يأذن له الشرع فيه فأشبه ما لو باع ماله بغبن واحتمل أن يصح وتكون الغرامة عليه لأنه ألزمه هذه الغرامة فكانت عليه كنفقة الحج إذا حجه (فصل) وإن باع عبداً لذي رحمه وأجنبي صفقة واحدة عتق كله إذا كان ذو رحمة موسراً وضمن لشريكه قيمة حقه منه وقال أبو حنيفة لا يضمن لشريكه شيئاً لأن ملكه لم يتم إلا بقبول شريكه فصار كأنه أذن له في اعتاق نصيبه بملكه باختياره فوجب أن يقوم عليه باقيه مع يساره كما لو انفرد بشرائه ولا نسلم أنه لا يصح قبوله إلا بقبول شريكه.(12/245)
(فصل) إذا كانت مزوجة ولها ابن موسر فاشتراها هو وزوجها وهي حامل منه صفقة واحدة عتق نصيب الابن من أمه وسرى إلى نصيب الزوج ويقوم عليه وعتق الحمل عليهما معاً لأنه ابن الزوج وأخو الابن ولا يجب لأحدهما على الآخر منه شئ لأنه عتق عليهما في حال واحدة ولو كانت المسألة بحالها فوهبت لهما أو وصي لهما بها فقبلاها في حال واحدة فكذلك وإن قبلها أحدهما قبل الآخر نظرنا فإن قبل الابن أولا عتقت الأم وحملها وعليه قيمة باقيهما للزوج وإن قبل الزوج أو لا عتق عليه الحمل كله ثم إذا قبل الابن عتقت عليه الأم كلها ويتقاصان ويرد كل واحد منهما الفضل على صاحبه ومن قال في الوصية إن الملك لا يثبت فيها بالموت فالحكم فيه كما لو قبلاها دفعة واحدة (مسألة) (وإن مثل بعبده فجدع انفه واذته أو نحو ذلك عتق نص عليه) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن زنباعاً أبا روح وجد غلاماً له مع جاريته فقطع
ذكره وجدع أنفه فأتى العبد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما حملك على ما فعلت؟) قال فعل كذا وكذا قال (أذهب فأنت حر) قال القاضي والقياس أن لا يعتق لأن سيده لم يعتقه بلفظ صريح ولا كناية وإذا ثبت الحديث وجب العمل به وترك القياس (مسألة) (وإذا أعتق العبد فماله لسيده) روي هذا عن ابن مسعود وأبي ايوب وأنس ابن مالك وبه قال قتادة والحكم والثوري والشافعي(12/246)
وأصحاب الرأي وروي ذلك عن حماد والبتي وداود بن أبي هند وحميد وعنه رواية أخرى أنه للعبد وبه قال الحسن وعطاء والنخعي ومالك وأهل المدينة يبيعه لما روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أعتق عبداً وله مال فالمال للعبد) رواه الإمام أحمد وغيره وروى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أعتق عبداً لم يعرض لماله ولنا ما روى الأثرم بإسناده عن ابن مسعود أنه قال لغلامه عمير يا عمير إني أريد أن أعتقك عتقاً هنيئاً فأخبرني بمالك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيما رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره بماله فماله لسيده ولأن العبد وماله كانا للسيد فازال ملكه عن أحدهما فبقي ملكه في الآخر كما لو باعه وقد دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فأما حديث ابن عمر فقال أحمد يرويه عبد الله بن أبي جعفر من أهل مصر وهو ضعيف في الحديث كان صاحب فقه فأما في الحديث فليس هو فيه بالقوي وقال أبو الوليد هذا الحديث خطأ فأما فعل ابن عمر فهو تقضل منه على معتقه قيل لأحمد كان هذا عندك على التفضل؟ فقال أي لعمري على التفضل قيل له فكأنه عندك للسيد؟ فقال نعم للسيد مع البيع سواء (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا أعتق جزءاً من عبده معيناً أو مشاعاً عتق كله) أما إذا أعتق عبده وهو صحيح جائز التصرف فإنه يصح عتقه بإجماع أهل العلم فإن أعتق بعضه(12/247)
عتق كله في قول جمهور العلماء روى ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما وبه قال الحسن والحكم
والاوزاعي والثوري والشافعي قال ابن عبد البر عامة العلماء بالحجاز والعراق قالوا يعتق كله إذا أعتق نصفه وقال طاوس يعتق في عتقه ويرق في رقه وقال حماد وابو حنيفة يعتق منه ما أعتق ويسعى في باقيه وخالف أبا حنيفة أصحابه فلم يروا عليه معايه وروي عن مالك في رجل أعتق نصف عبد ثم غفل عنه حتى مات فقال أرى نصفه حرا ونصف رقيقاً لأنه تصرف في بعضه فلم يسر إلى باقيه كالبيع ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ ثمنه قوم عليه قيمة عدل وعتق عليه جميع العبد) وإذا عتق عليه نصيب شريكه كان تنبيها على عتق جميعه إذا كان كله ملكاً له وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصاً له من مملوك فهو حر من ماله) ولأنه إزالة ملك عن بعض مملوكه الآدمي فزال عنه جميعه كالطلاق ويفارق البيع فإنه لا يحتاج إلى السعاية ولا ينبى على التغليب والسراية.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يعتق جزءاً كبيراً كنصفه أو ثلثه أو صغيراً كعشره أو عشر عشره ولا نعلم في هذا خلافاً بين القائلين بسراية العتق إذا كان مشاعا (فصل) قان أعتق جزءاً معيناً كرأسه أو يده أو أصبعه عتق كله أيضاً وبه قال قتادة والشافعي وإسحاق وقال أصحاب الرأي إن أعتق رأسه أو ظهره أو بدنه أو بطنه أو جسده أو نفسه أو فرجه عتق كله لأن حياته لا تبقى بدون ذلك وإن أعتق يده أو عضواً تبقى حياته بدونها لم يعتق لانها يمكن إزالة ذلك مع بقائه فلم يعتق كاعتاقه شعره(12/248)
ولنا أنه أعتق عضواً من أعضائه فعتق جميعه كرأسه فأما إذا أعتق شعره أو سنه أو ظفره لم يعتق وقال قتادة والليث في الرجل يعتق ظفر عبده يعتق اكله لأنه من أجزأئه أشبه أصبعه ولنا أن هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فأشبهت الشعر والريق وسنذكر ذلك في الطلاق والعتق مثله (مسألة) (وإن أعتق شركا له في عبد وهو موسر بقيمة باقيه عتق كله وعليه قيمة باقيه يوم العتق لشريكه) وجملته أن الشريك إذا أعتق نصيبه من العبد عتق عليه لا نعلم فيه خلافاً لما ذكرنا من الأثر وإذا عتق نصيبه سرى العتق إلى جميعه فصار جميعه حراً وعلى المعتق قيمة انصباء شركائه ولولاء له هذا قول
مالك وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري والشافعي وأبي يوسف ومحمد وإسحاق وقال البتي لا يعتق إلا حصة المعتق ونصيب الباقين باق على الرق ولا شئ على المعتق لما روى التلب عن أبيه أن رجلا أعتق شقصاً له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام أحمد ولأنه لو باع نصيبه لاختص البيع به فكذلك العتق إلا أن تكون جارية نفيسة يغالي فيها فيكون ذلك بمنزلة الجاية من المعتق للضرر الذي أدخله على شريكه وقال أبو حنيفة لا يعتق إلا حصة المعتق ولشريكه الخيار في ثلاثة أشياء إن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد وإن شاء ضمن شريكه فيعتق حينئذ(12/249)
ولنا الحديث الذي روينا وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم العتق في جميعه وأوجب قيمة نصيب المعتق عليه ولم يجعل له خيرة ولا لغيره ورورى قتادة عن أبي المليح عن أبيه أن رجلا من قومه أعتق شقصاً له في مملوك فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال (ليس لله شريك) قال أبو عبد الله الصحيح أنه عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وليس فيه عن أبيه هذا معنى كلامه وقول البتي شاذ يخالف الأخبار كلها فلا يعول عليه وحديث التلب يتعين حمله على المعسر جمعاً بين الأحاديث وقياس العتق على البيع لا يصح فإن البيع لا يسري فيما إذا كان العبد كله له والعتق يسري فإنه لو باع نصف عبده لم يسر ولو أعتقه عتق كله.
إذا ثبب هذا فإن ولاءه يكون له لأنه عتق باعتاقه من ماله ولا خلاف في هذا عند من يرى عتقه عليه (فصل) ولا فرق في هذا بين أن يكون الشركاء مسلمين أو كافرين أو بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً ذكره القاضي وهو قول الشافعي وذكر أبو الخطاب في الكافر وجهاً أنه إذا أعتق نصيبه من مسلم أنه لا يسري إلى باقيه ولا يقوم عليه لأنه لا يصح شراء الكافر عبداً مسلماً ولنا عموم الخبر ولأن ذلك يثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب والغرض ههنا تكميل العتق ودفع الضرر عن الشريك دون التمليك بخلاف الشراء ولو قدر أن ههنا تمليكاً لكان تقديراً في أدنى زمان حصل ضرورة تحصيل العتق لا ضرر فيه فإن قدر فيه ضرر فهو مغمور(12/250)
بالنسبة إلى ما يحصل من العتق فوجوده كالعدم وقياس هذا على الشراء غير صحيح لما بينهما من الفرق (مسألة) (فإن أعتقه الشريك بعد ذلك وقبل أخذ القيمة لم يثبت له فيه عتق) لأنه قد صار حراً بعتق الأول له لأن عتقه حصل باللفظ لا يدفع القيمة وصار جميعه حراً واستقرت القيمة على المعتق الأول فلا ينعتق بعد ذلك بعتق غيره وبهذا قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد وإسحاق وابن المنذر والشافعي في قول له اختاره المزني وقال الزهري وعمرو ابن دينار ومالك والشافعي في قول لا يعتق إلا بدفع القيمة ويكون قبل ذلك ملكاً لصاحبه ينفذ عتقه فيه ولا ينفذ تصرفه فيه بغير العتق واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (قوم عليه قيمة عدل لاوكس ولا شطط ثم يعتق) فجعله عتيقاً بعد دفع القيمة ولأن العتق إذا ثبت بعوض ورد الشرع به مطلقاً لم يعتق إلا بالاداء كالمكاتب وللشافعي قول ثالث أن العتق مراعى، فإن دفع القيمة تبينا أن العتق كان حصل من حين اعتق نصيبه، وإن لم يدفع القيمة تبينا أنه لم يكن عتق لأن فيه احتياطاً لهما جميعاً ولنا حديث ابن عمر فإنه روي بألفاظ مختلفة تجتمع في الدلالة على الحرية باللفظ فروى أبو أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق) رواه أبو داود والنسائي وفي لفظ رواه ابن أبي مليكة عن نافع عن ابن عمر (فكان له مال(12/251)
فقد عتق كله) وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر (وكان للذي يعتق ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل يعتق كله) وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصاً في مملوك فهو حر من ماله) وهذه نصوص في محل النزاع فإنه جعله حراً وعتيقاً باعتاقه مشروطاً بكونه موسراً ولأنه عتيق بالسراية فكانت حاصلة من لفطه عقيبه كما لو أعتق جزءاً من عبده ولا القيمة معتبرة وقت الإعتاق ولا ينفذ تصرف الشريك فيه بغير الإعتاق وعند الشافعي لا ينفذ بالإعتاق أيضاً فدل على أن العتق حصل فيه بالإعتاق الأول فإما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الواو لا تقتضي ترتيباً وأما العطف بثم في اللفظ الآخر فلم يرد بها الترتيب فإنها قد ترد لغير الترتيب كقوله سبحانه (ثم الله شهيد على ما يفعلون) فأما العوض فإنما وجب عن المتلف بالإعتاق بدليل اعتباره بقيمته حين
الإعتاق وعدم اعتبار التراضي فيه ووجوب القيمة من يغر وكس ولا شطط بخلاف الكتابة.
إذا ثبت هذا فإن الشريك إذا أعتقه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة لم يثبت له فيه عتق ولا له عليه ولاء وولاؤه كله للمعتق الأول وعليه القيمة لأنه قد صار حراً بإعتاقه وعند مالك يكون ولاؤه بينهما على قدر ملكهما فيه ولا شئ على المعتق الأول من القيمة ولو أن المعتق الأول لم يؤد القيمة حتى أفلس عتق العبد وكانت القيمة في ذمته ديناً يزاحم بها الشريك عندنا وعند مالك لا يعتق منه إلا ما عتق ولو كان المعتق جارية حاملاً فلم يؤد القيمة حتى وضعت حملها فليس على المعتق إلا قيمتها حين(12/252)
أعتقها لأنه حينئذ حررها وعند مالك يقوم ولدها أيضاً ولو أتلف العبد قبل أداء القيمة تلف حراً والقيمة على المعتق لأنه فوت رقه، وعند مالك لا شئ على المعتق وما لم يقوم ويحكم بقيمته فهو في جميع أحكامه عبد (فصل) والقيمة معتبرة حين اللفظ بالعتق لأنه حين الإتلاف وهو قول الشافعي على أقواله كلها فإن اختلفا في قدره رجع إلى قول المقومين فإن كان العبد قد مات أو غاب أو تأخر تقويمه زمناً تختلف فيه القيم ولم تكن بينة فالقول قول المعتق لأنه منكر للزيادة والأصل براءة ذمته منها وهذا أحد قولي الشافعي فإن اختلفا في صناعة في العبد توجب زيادة في القيمة فالقول قول المعتق كذلك إلا أن يكون العبد يحسن الصناعة في الحال ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه فيكون القول قول الشريك لعلمنا بصدقه وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه ففيه وجهان (أحدهما) القول قول المعتق لأن الأصل براءة ذمته (والثاني) القول قول الشريك لأن الأصل بقاء ما كان وعدم الحدوث وان احتلفا في عيب ينقص قيمته كسرقة أو إباق فالقول قول الشريك لأن الأصل السلامة فبالجهة التي رجحنا قول المعتق في نفي الصناعة يرجح قول الشريك في نفي العيب وإن كان العيب فيه حال الاختلاف واختلفا في حدوثه فالقول قول المعتق لأن الأصل براءة ذمته وبقاء ما كان على ما كان وعدم حدوث العيب فيه ويحتمل أن يكون القول قول الشريك لأن الأصل براءته من العيب حين الإعتاق(12/253)
(فصل) والمعتبر في اليسار في هذا أن يكون له فضل عن قوت يومه وليلته وما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية من الكسوة وسائر ما لابد منه ما يدفعه إلى شريكه ذكره أبو بكر في التنبيه وإن وجد بعض ما يفي بالقيمة قوم عليه قدر ما يمكنه منه ذكره أحمد في رواية ابن منصور وهو قول مالك وقال أحمد لا يباع فيه دار ولا رباع ومقتضى هذا ان لا يباع له أصل مال، وقال مالك والشافعي يباع عليه سوار بيته وماله بال من كسوته ويقضي عليه في ذلك كما يقضي عليه في سائر الدعاوي والمعتبر في ذلك حال تلفظه بالعتق لأنه حال الوجوب فإن أيسر المعسر بعد ذلك لم يسر إعتاقه، وإن أعسر الموسر لم يسقط ما وجب عليه لأنه وجب عليه فلم يسقط بإعساره كدين الإتلاف نص عليه أحمد (مسألة) (وإن كان معسراً لم يعتق إلا نصيبه وبقي حق شريكه فيه وعنه يعتق كله ويستسعى العبد في قيمة باقيه غير مشقوق عليه) ظاهر المذهب أن المعسر إذا أعتق نصيبه من العبد استقر فيه العتق ولم يسر إلى نصيب شريكه بل يبقى على الرق فإذا أعتق شريكه عتق عليه نصيبه وهذا قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر وداود وابن جرير وهو قول مالك والشافعي على ما بيناه فيما مضى، وروي عن عروة أنه اشترى عبداً اعتق نصفه فكان عروة يشاهره شهر عبد وشهر حر، وروي عن أحمد أن المعتق إذا أعتق نصيبه استسعى العبد في قيمة باقيه حتى يؤديها فيعتق وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى والاوزاعي(12/254)
وأبي يوسف ومحمد لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شقصاً له في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه) متفق عليه، ورواه أبو داود قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة فإذا استسعى في نصف قيمته ثم أيسر معتقه رجع عليه بنصف القيمة لأنه هو أجلاه إلى هذا وكلفه إياه، وعن أبي يوسف ومحمد أنهما قالا يعتق جميعه وتكون قيمة نصيب الشريك في ذمته لأن العتق لا يتبعض فإذا وجد في البعض سرى إلى جميعه كالطلاق وتلزم المعتق القيمة لأنه المتلف لنصيب صاحبه بإعتاقه فوجبت قيمته في ذمته كما لو أتلفه وقال أبو حنيفة لا يسري فيه العتق وإنما يستحق به إعتاق النصيب الباقي فيخير شريكه بين إعتاق نصيبه ويكون الولاء بينهما
وبين أن يستسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أداه إليه عتق والولاء بينهما ولنا حديث ابن عمر وهو صحيح ثابت عند جميع العلماء بالحديث ولأن الاستسعاء إعتاق بعوض فلم يجبر عليه كالكتابة ولأن في الاستسعاء إضراراً بالشريك والعبد أما الشريك فإنا نحيله على سعاية قد لا يحصل منها شئ أصلاً وإن حصل فالظاهر أنه يكون متفرقا ويفوت عليه ملكه وأما العبد فإنه يجبره على سعاية لم يردها وكسب لم يختره وهذا ضرر في حقهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وقال سليمان بن حرب أليس ألزم المعتق ثمن ما بقي من العبد لئلا يدخل على شريكه ضرر فإذا أمروه بالسعي وإعطاء كل شهر درهمين ولم يقدر على تملكه فإي ضرر أعظم من ذلك؟(12/255)
فأما حديث الاستسعاء فقام الأثرم ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه، وقال أبو عبد الله ليس في الاستسعاء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة وأما شعبة وهشام الدستوائي فلم يذكره وحدث به معمر ولم يذكر فيه السعاية قال أبو داود وهمام أيضاً لا يقوله قال المروذي وضعف أبو عبد الله حديث سعيد وقال ابن المنذر لا يصح حديث الاستسعاء وذكر همام أن ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول قتادة قال بعد ذلك فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعى قال ابن عبد البر حديث أبي هريرة يدور على قتادة، وقد اتفق شعبة وهشام وهمام على ترك ذكره وهم الحجة في قتادة ولقول قولهم فيه عند جميع أهل العلم إذا خالفهم غيرهم فأما قول أبي حنيفة وقول صاحبيه الاخير فلا شئ معهم يحتجون به من حديث قوي ولا ضعيف بل هو محرد رأي وتحكم يخالف الحديثين جميعاً قال ابن عبد البر لم يقل أبو حنيفة وزفر بحديث ابن عمر ولا بحديث أبي هريرة على وجهه وكل قول خالف السنة فمردود على قائله، والله المستعان.
(فصل) وإذا قلنا بالسعاية احتمل أن يعتق كله وتكون القيمة في ذمة العبد ديناً يسعى في أدائها وتكون أحكامه أحكام الأحرار فإن مات وفي يده مال كان لسيده بقية السعاية وباقي ماله موروث ولا يرجع العبد على أحد وهذا قول أبي يوسف ومحمد ويحتمل أن لا يعتق حتى يؤدي السعاية فيكون(12/256)
حكمه قبل أدائها حكم من بعضه رقيق إن مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل ما يكون له على قول من لم يقل بالسعاية لأنه إعتاق بأداء مال فلم يعتق قبل أدائه كالكاتب، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة يرجع العبد على المعتق إذا أيسر لأنه كلفه السعاية بإعتاقه ولنا أنه حق لزم العبد في مقابلة حريته فلم يرجع به على أحد كمال الكتابة ولأنه لو رجع به على السيد لكان هو الساعي في العوض كسائر الحقوق الواجبة عليه (مسألة) وإذا كان العبد الثلاثة لأحدهم نصفه ولآخر ثلثه ولثالث سدسه فأعقت صاحب النصف وصاحب السدس معاً وهما موسران عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين وصار ولاؤه بينهما أثلاثاً ويحتمل أن يضمناه على قدر ملكهما فيه) إذا كان العبد مشتركاً بين جماعة فأعتق اثنان منهم وهو موسرون معاسرى عتقهم إلى باقى العبد ويكون الضمان بينهم على عدد رؤوسهم يتساوون في ضمانه وولائه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يقسم بينهم على قدر أملاكهم وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه لأن السراية جعلت بإعتاق ملكهما وما وجب بسبب الملك كان على قدره كالنفقة واستحقاق الشفعة ولنا أن عتق النصيب إتلاف لرق الباقي وقد اشتركا فيه فيتساويان في الضمان كما لو جرح أحدهما(12/257)
جرحاً والآخر جرحين فمات بهما أو ألقى أحدهما جزءاً من النجاسة في مائع وألقى الآخر جزأين ويفارق الشفعة فإنها ثبتت لإزالة الضرر عن نصيب الشريك الذي لم يبع فكان استحقاقه على قدر نصيبه ولأن الضمان ههنا لدفع الضرر منهما وفي الشفعة لدفع الضرر عنهما والضرر منهما يستويان في إدخاله على الشريك وفي الشفعة ضرر صاحب النصف أعظم من ضرر صاحب السدس فاختلفا إذا ثبت هذا كان ولاؤه بينهما ثلاثا لأننا إذا حكمنا بأن الثلث معتق عليهما نصفين فنصفه سدس إذا ضممناه إلى النصف الذي لأحدهما صار ثلثين وإذا ضممنا السدس الآخر إلى سدس المعتق صار ثلثاً وعلى الوجه الآخر يصير الولاء بينهما أرباعاً لصاحب السدس ربعه ولصاحب النصف ثلاثة أرياعه والضمان
كذلك ويشترط عتقهما معاً بأن يوكلا من يعتقه عنهما أو يوكل أحدهما الآخر في عتق نصيبه ويتلفظا به معاً لأنه لو سبق أحدهما صاحبه عتق عليه جميعه على ما ذكرنا ويشترط اليسار أيضاً فيهما فإن كان أحدهما موسراً وحده قوم عليه نصيب من لم يعتق لأن المعسر لا يسري عتقه فيكون الضمان على المعسر خاصة فإن كان أحدهما موسراً ببعض ما يخصه قوم عليه ذلك القدر وباقيه على الآخر مثل أن يجد صاحب السدس قيمة نصف السدس فيقوم عليه ويقوم الربع على صاحب النصف ويصير ولاؤه بينهم أرباعاً لصاحب السدس ربعه وباقيه لمعتق النصف لأنه لو كان أحدهما معسراً قوم الجميع على الآخر فإذا كان موسراً ببعضه قوم الباقي على صاحب النصف لأنه مرسر وفيه اختلاف ذكرناه من قبل(12/258)
(مسألة) (وإذا أعتق الكافر نصيبه من مسلم وهو موسر سرى إلى باقيه في أحد الوجهين) ذكره القاضي وهو قول الشافعي لأنه تقويم متلف فاستوى فيه المسلم والكافر كتقويم المتلفات والوجه الثاني لا يسري ذكره أبو الخطاب لأن فيه تقدير الملك والكافر لا يجوز أن يتملك المسلم والأول أصح إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن إدعى كل واحد من الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران فقد صار العبد حراً باعتراف كل واحد منهما وصار مدعياً على شريكه قيمة حقه منه ولا ولاء عليه لواحد منهما) وجملة ذلك أن الشريكين الموسرين إذا ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه فكل واحد منهما معترف بحرية نصيبه شاهد على شريكه بحرية نصفه الآخر لأنه يقول لشريكه اعتقت نصيبك فسرى العتق إلى نصيبي فعتق كله عليك ولزمك لي قيمة نصيبي فصار العبد حراً لاعترافهما بحريته وبقي كل واحد منهما يدعي قيمة حصته على شريكه فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم تكن بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئا فإن نكل أحدهما قضي عليه وإن نكلا جميعا تساقط حقاهما لتماثلهما ولا ولاء عليه لواحد منهما لأنه لا يدعيه ولا فرق في هذه الحال بين العدلين والفاسقين والمسلمين والكافرين لتساوي العدل والفاسق والمسلم والكافر في الاعتراف والدعوى
فان اعترف أحدهما به بعد ذلك ثبت له لأنه لا مستحق له سواه وإنما لم يثبت له لإنكاره له فإذا اعترف به زال الإنكار فثبت له ولزمته قيمة نصيب شريكه لاعترافه بها(12/259)
(مسألة) (وإن كانا معسرين لم يعتق على واحد منهما) لأنه ليس في دعوى أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه اعتراف بحرية نصيبه ولا ادعاء استحقاق قيمتها على المعتق لكن عتق العسر لا يسري إلى غيره فلم يكن في دعواه أكبر من أنه شاهد على صاحبه باعتاق نصيبه فإن كانا فاسقين فلا أثر لكلامهما في الحال ولا عبرة بقولهما لأن غير العدل لا تقبل شهادته، وإن كانا عدلين فشهاتهما مقبولة لأن كل واحد منهما لا يجر إلى نفسه بشهادته نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً وقد حصل للعبد بحرية كل نصف منه شاهد عدل فإن حلف معهما عتق كله وإن حلف مع أحدهما عتق نصفه على الرواية التي تقول إن العتق يثبت بشاهد ويمين وإن لم يحلف لم يعتق منه شئ لأن العتق لا يحصل بشاهد من غير يمين وإن كان أحدهما عدلاً دون الآخر فله أن يحلف مع شهادة العدل ويصير نصفه حراً والآخر رقيقاً (فصل) ومن قال بالاستسعاء فقد اعترف بأن نصيبه خرج عن يده فيخرج العبد كله ويستسعى في قيمته لاعتراف كل واحد منهما بذلك في نصيبه (مسألة) (وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق عليه ولم يسر إلى النصف الذي كان له) لأن عتقه حصل باعترافه بحريته بإعتاق شريكه ولا يثبت له عليه ولاء لأنه لا يدعي إعتاقه بل(12/260)
يعترف أن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن يسترقه ظلماً فهو كمخلص الأسير من ايدي الكافر وقال أبو الخطاب يسري لأنه شراء حصل به الإعتاق فأشبه شراء بعض ولده فإن أكذب نفسه في شهادته على شريكه ليسترق ما اشتراه منه لم يقبل لأنه رجوع عن الإقرار بالحرية فلم يقبل كما لو أقر بحرية عبده ثم كذب نفسه وهل يثبت له الولاء عليه إن أعتقه؟ فيه احتمالان (أحدهما) لا يثبت لما ذكرناه (والثاني) يثبت لأنا نعلم أن على العبد ولاء ولا يدعيه أحد سواه ولا ينازعه فيه
فوجب أن يقبل قوله فيه وإن اشترى كل واحد منهما نصيب صاحبه صار العبد كله حراً ولا ولاء عليه لواحد منهما فإن اعتق كل واحد منهما ما اشتراه ثم أكذب نفسه في شهادته فهل يثبت له ولاء ما أعتقه؟ على وجهين وإن أقر كل واحد منهما بأنه كان أعتق نصيبه وصدق الآخر في شهادته بطل البيعان وثبت لكل واحد منهما الولاء على نصفه لأن أحداً لا ينازعه فيه وكل واحد منهما يصدق الآخر في استحقاق الولاء ويحتمل أن يثبت الولاء لهما وإن لم يكذب واحد منهما نفسه لأنا نعلم أن الولاء ثابت عليه لهما ولا يخرج عنهما وإنه بينهما إما بالعتق الأول وإما بالثاني لأنهما إن كانا صادقين في شهادتهما فقد ثبت الولاء لكل واحد منهما على النصف الذي أعتقه أولاً وإن كانا كاذبين فقد أعتق كل واحد منهما نصفه بعد أن اشتراه وإن كان أحدهما صادقاً والآخر كاذبا فلا ولاء للصادق منهما لأنه لم يعتق النصف الذي كان له ولا صح عتقه في الذي اشتراه لأنه كان حراً قبل شرائه والولاء كله للكاذب لأنه أعتق النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي لشريكه وكل واحد منهما يساوي صاحبه في الاحتمال فيقسم بينهما(12/261)
(فصل) وكل من شهد على سيد عبد بعتق عبده ثم اشتراه عتق عليه وإن شهد اثنان عليه بذلك فردت شهادتهما ثم اشترياه أو أحدهما عتق وبهذا قال مالك والاوزاعي والشافعي وابن المنذر وهو قياس قول أبي حنيفة ولا يثبت للمشتري ولاء على العبد لأنه لا يدعيه ولا للبائع لأنه ينكر عتقه ولو كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا موسرين فعتق عليهما أو كانا معسرين عدلين فحلف العبد مع كل واحد منهم وعتق العبد أو ادعى عبد أن سيده أعتقه فأنكر وقامت البينة بعتقه عتق ولا ولاء على العبد في هذه المواضع كلها لأن أحداً لا يدعيه ولا يثبت لاحد حق ينكره فإن عاد من ثبت إعتاقه فاعترف به ثبت له الولاء لأنه لا مستحق له سواه وإنما لم يثبت له لإنكاره له فإذا اعترف زال الإنكار وثبت له وأما الموسران إذا عتق عليهما فإن صدق أحدهما صاحبه في أنه أعتق نصيبه وحده أو أنه سبق بالعتق فالولاء له وعليه غرامة نصيب الآخر وإن اتفقا على أن كل واحد منهما أعتق نصيبه دفعة واحدة فالولاء بينهما وإن ادعى كل واحد
منهما أن المعتق وحده أو أنه السابق فأنكر الآخر تحالفا والولاء بينهما نصفين (مسألة) (وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب المعسر وحده) لاعترافه بأن نصيبه قد صار حرا باعتاق شريكه الموسر الذي يسري عتقه ولم يعتق نصيب الموسر لأنه يدعي أن المعسر الذي لا يسري عتقه أعتق نصيبه فعتق وحده ولا تقبل شهادة المعسر عليه لأنه يجر إلى نفسه نفعاً لكونه يجب عليه بشهادته قيمة حصته فعلى هذا إن لم تكن للعبد بينة(12/262)
سواه حلف الموسر وبرئ من القيمة والعتق جميعاً ولا ولاء للمعسر في نصيبه لأنه لا يدعيه ولا للموسر أيضاً لذلك فإن عاد المعسر فأعتقه وادعاه ثبت له وإن أقر الموسر بإعتاق نصيبه وصدق المعسر عتق نصيبه أيضاً وعليه غرامة نصيب المعسر ويثبت له الولاء وإن كان للعبد بينة تشهد بإعتاق الموسر وكانت عدلين ثبت العتق ووجبت القيمة للمعسر عليه وإن كانت عدلاً واحداً وحلف العبد معه ثبت العتق في أحدى الروايتين والأخرى لا يثبت العتق وللمعسر أن يحلف معه ويستحق قيمة نصيبه سواء حلف العبد أو لم يحلف لأن الذي يدعيه مال يقبل فيه شاهد ويمين (فصل) وإذا ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وأنكر الآخر وكان المدعي عليه موسراً عتق نصيب المدعي وحده لاعترافه بحريته بسراية عتق شريكه وصار مدعياً نصف القيمة على شريكه ولا يسري لأنه لا يعترف أنه المعتق له وإنما عتق باعترافه بحريته لا بإعتاقه له ولا ولاء عليه لإنكاره له قال القاضي وولاؤه موقوف وإن كان المدعي عدلاً لم تقبل شهادته لأنه يدعي نصف قيمته على شريكه فيجر بشهادته إليه نفعاً ومن شهد بشهادة يجر بها إليه نفعاً بطلت كلها وأما إن كان المدعى عليه معسراً فالقول قوله مع يمينه ولا يعتق منه شئ فإن كان المدعى عدلاً حلف العبد مع شهادته وصار نصفه حراً وقال حماد إن كان المشهود عليه موسراً سعى له.
وإن كان معسراً سعى لهما وقال أبو حنيفة إن كان معسراً استسعى العبد وولاؤه بينهما وإن كان موسراً فولاء نصفه موقوف فإن اعترف أنه اعتق استحق الولاء وإلا كان الولاء لبيت المال(12/263)
(مسألة) (وإذا قال أحد الشريكين إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حر فأعتق الأول وهو موسر عتق كله عليه هذا اختيار الأصحاب أنه يعتق على الأول ويقوم عليه نصيب الشريك إن كان موسراً ولا يقع إعتاق شريكه لأن السراية سبقت فمنعت عتق الشريك قال شيخنا ويحتمل أن يعتق عليهما جميعاً لأن عتق نصيبه سبب السراية وشرط لعتق نصيب الشريك فلم يسبق أحدهما الآخر لوجودهما في حال واحدة وقد يرجح وقوع عتق الشريك لأنه تصرف منه في ملكه والسراية تقع في غير ملك على خلاف الأصل فكان نفوذ عتق الشريك أولى ولأن سراية العتق على خلاف الأصل لكونها إتلافاً لملك المعصوم بغير رضاه وإلزاماً للمعتق غرامة لم يلتزمها بغير اختياره وإنما ثبت لمصلحة تكميل العتق فإذا حصلت هذه المصلحة بإعتاق الملك كان أولى.
(مسألة) (وإن كان معسراً لم يعتق عليه إلا نصيبه) لما ذكرنا من أن عتق المعسر لا يسري إلى نصيب شريكه ويعتق نصيب شريكه بالشرط (مسألة) (وإن قال إذا اعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فأعتق نصيبه عتق عليهما موسراً كان أو معسراً ولم يلزم المعتق شئ لأن العتق وجد منهما معاً فهو كما لو وكلا رجلاً في اعتاقه عنهما فأعتقهما وقيل يعتق كله على المعتق لأن إعتاق نصيبه شرط عتق نصيب شريكه فيلزم أن يكون سابقاً عليه والأول أولى لأنه أمكن(12/264)
العمل بمقتضى شرطه فوجب العمل به لما ذكرنا.
(فصل) فإن قال إن اعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل إعتاقك وقعا معاً إذا أعتق نصيبه هذا مقتضى قول أبي بكر والقاضي ومقتصى قول ابن عقيل أن يعتق كله على المعتق ولا يقع إعتاق شريكه لأنه إعتاق في زمن ماض ومقتضى قول ابن شريح ومن وافقه ممن قال بسراية العتق أن لا يصح إعتاقه لأنه يلزم من عتق نصيبه تقدم عتق الشريك وسرايته فيمتنع إعتاق نصيبه هذا ويمتنع عتق نصيب الشريك ويفضي إلى الدور فيمتنع الجميع وسنذكر ذلك في الطلاق إن شاء الله تعالى
فصل إذا كان لرجل نصف عبدين متساويين في القيمة لا يملك غيرهما فأعتق أحدهما في صحته عتق وسرى إلى نصيب شريكه لانه موسر بالنصف الذي له من العبد الآخر فإن أعتق النصف الآخر عتق لأن وجوب القيمة في ذمته لا يمنع صحة عتقه ولم يسر لأنه معسر وإن أعتق الأول في مرض موته لم ييسر لأنه إنما ينفذ عتقه في ثلث ماله وثلث ماله هو الثلث من العبد الذي أعتق نصفه وإذا أعتق الثاني وقف على إجازة الورثة وإن أعتق الأول في صحته وأعتق الثاني في مرضه لم ينفذ عتق الثاني لأن عليه ديناً يستغرق قيمته فيمنع صحة عتقه إلا أن يجيز الورثة.
(فصل) إذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق شركا له في عبد فسرى إلى نصيب الشريك(12/265)
غرم له قيمة نصيبه ثم رجعا عن الشهادة غرما قيمة العبد جميعه، وقال بعض أصحاب الشافعي تلزمهما غرامة نصيبه دون نصيب شريكه لأنهما لم يشهدا إلا بعتق نصيبه فلم تلزمهما غرامة ما سواه ولنا أنهما فوتا عليه نصيبه وقيمة نصيب شريكه فلزمهما ضمانة كما لو فوتاه بفعلهما وكما لو شهدا عليه بجرح ثم سرى الجرح ومات المجروح فضمن الدية ثم رجعا عن شهادتهما (فصل) وإن شهد شاهدان على ميت بعتق عبد في مرض موته وهو ثلث ماله فحكم الحاكم بشهادتهما وعتق العبد ثم شهد آخران بعتق آخر وهو ثلث ماله ثم رجع الأولان عن الشهادة نظرنا في تاريخ شهدتهما فإن كانت سابقة ولم يكذب الورثة رجوعهما عتق الأول ولم يقبل رجوعهما ولم يغرما شيئاً ويحتمل أن يلزمهما شراء الثاني وإعتاقه لأنهما منعا عتقه بشهادتهما المرجوع عنها وإن صدقوهما في رجوعهما وكذبوهما في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا عليهما بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه عليهم بشهادتهما المرجوع عنها وإن كان تاريخها متأخراً عن الشهادة الأخرى بطل حكم عتق المحكوم بعتقه لأننا تبينا أن الميت قد أعتق ثلث ماله قبل إعتاقه ولم يغرم الشاهدان شيئاً لأنهما ما فوتا شيئا وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما أو اتفق تاريخهما أقرع بينهما فإن خرجت على الثاني عتق وبطل عتق الأول ولا شئ على الشاهدين لأن الأول باق على الرق وإن خرجت قرعة الأول عتق(12/266)
ونظرنا في الورثة فإذا كذبوا الشاهدين الأولين في شهادتهما عتق الثاني ورجعوا على الشاهدين بقيمة الأول لأنهما فوتا رقه بغير حق وإن كذبوهما في رجوعهما لم يرجعوا عليهما بشئ لأنهم يقرون بعتق المحكوم بعتقه.
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه ويصح تعليق العتق بالصفات كدخول الدار ومجئ الأمطار لأنه عتق بصفة فصح كالتدبير وإذا علق عتقه على مجئ وقت كقوله أنت حر في رأس الحول لم يعتق حتى يجئ رأس الحول وله بيعه وهبته وإجارته ووطئ الأمة كالتدبير وبه قال الأوزاعي والشافعي وابن المنذر قال أحمد إذا قال لغلامه أنت حر إلى أن يقدم فلان ويجئ فلان وإلى رأس السنة وإلى رأس الشهر إنما يريد إذا جاء رأس السنة أو جاء رأس الهلال وإذا قال أنت طالق إذا جاء الهلال إنما يريد إذا جاء رأس الهلال وقال أسحاق كما قال أحمد وحكي عن مالك أنه قال إذا قال لعبده أنت حر في رأس الحول عتق في الحال والذي حكاه ابن المنذر عنه أنها إذا كانت جارية لم يطأها لأنه لا يملكها ملكاً تاماً ولا يهبها ولا يبيعها وإن مات السيد قبل الوقت كانت حرة عند الوقت من رأس المال وقد روي عن أحمد أنه لا يطؤها لأن ملكه غير تام عليها والأول أصح لما روي عن أبي ذر أنه قال لعبده أنت عتيق إلى رأس الحول فلولا أن العتق يتعلق بالحول لم يعلقه عليه ولأنه علق العتق بصفة فوجب أن يتعلق بها كما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر واستحقاقه للعتق لا يمنع اباحة الوطئ كالاستيلاد وأما المكاتبة فإنما لم يبح وطؤها لأنها اشترت نفسها من سيدها بعوض وزال ملكه عن إكسابها بخلاف مسئلتنا، ومتى جاء الوقت وهو في ملكه(12/267)
عتق بغير خلاف نعلمه فإن خرج عن ملكه ببيع أو ميراث لم يعتق.
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال النخعي وابن أبي ليلى إذا قال لعبده إن فعلت كذا فأنت حر فباعه بيعاً صحيحاً ثم فعل ذلك عتق وانتقض البيع قال ابن أبي ليلى إذا حلف بالطلاق لا كلمت فلاناً ثم طلقها طلاقاً بائناً ثم كلمه حنث وعامة أهل العلم على خلاف هذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا طلاق ولا عتاق ولا بيع فيما لا يملك ابن آدم) ولأنه لا ملك له فلم يقع طلاقه وعتاقه كما لو لم
يكن له مال متقدم.
(فصل) وإذا قال لعبده إن لم أضربك عشرة أسواط فأنت حر ولم ينو وقتاً بعينه لم يعتق حتى يموت وإن باعه قبل ذلك صح بيعه ولم يفسخ في قول أكثر أهل العلم وقال مالك ليس له بيعه فإن باعه فسخ البيع.
ولنا انه باعه قبل وجود الشرط فلم يفسخ كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر وباعه قبل دخولها (مسألة) (وإذا علق عتق عبده بشرط كقوله إن أديت إلي ألفا فأنت حر أو إن دخلت الدار فأنت حر فهي صفة لازمة ألزمها نفسه ولا يملك إبطالها بالقول قياساً على النذر) ولذلك إن اتفق السيد والعبد على إبطالها لم تبطل لذلك ولو أبرأه السيد من الألف لم يعتق بذلك ولم يبطل التعليق لأنه لا حق له في ذمته يبرئه منه(12/268)
(فصل) ولا يعتق قبل وجود الصفة بكمالها فلو قال لعبده إذا أديت إلي ألفا فأنت حر لم يعتق حتى يؤدي الألف جميعها، وذكر القاضي أن من أصلنا أن العتق المعلق بصفة يوجد بوجود بعضها كما لو قال أنت حر إن أكلت رغيفاً فأكل نصفه ولا يصح ذلك لوجوه (أحدها) أن أداء الألف شرط العتق وشروط الأحكام يعتبر وجودها بكمالها لثبوت الاحكام وتنتفي بانتفائها كسائر شروط الاحكام (الثاني) أنه إذا علقه على وصف ذي عدد فالعدد وصف في الشرط ومن علق الحكم على شرط ذي وصف لم يثبت ما لم توجد الصفة كقوله لعبده إن خرجت عارياً فأنت حر فخرج لابساً لم يعتق فكذلك العدد (الثالث) أنه متى كان في اللفظ ما يدل على الكل لم يحنث بفعل البعض كما لو حلف لا صليت صلاة أو لا صمت صياماً لم يحنث حتى يفرغ مما سمي صلاة ويصوم يوماً، ولو قال لامرأته إن حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر من الحيضة، وذكر الألف ههنا يدل على أنه أراد الفاً كاملة (الرابع) ان الأصل الذي ذكره فيما - إذا قال إن أكلت رغيفاً فأنت حر أنه يعتق بأكل بعضه - ممنوع وإنما إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه يحنث في رواية في موضع يحتمل إرادة البعض ويتناوله اللفظ كمن حلف لا يصلي فشرع في الصلاة أو لا يصوم فشرع في الصيام أو لا يشرب
ماء هذا الإناء فشرب بعضه ونحو هذا لأن الشارع في الصلاة والصيام قد صلى وصام ذلك الجزء(12/269)
الذي شرع فيه والقدر الذي شربه من الإناء هو ماء الإناء وقرينة حاله تقتضي المنع من الكل فتقتضي الامتناع من الكل ومتى فعل البعض فما امتنع من الكل فحنث لذلك ولو حلف على فعل شئ لم يبر إلا بفعل الجميع وفي مسئلتنا تعليق الحرية على أداء الالف يقتضي وجود أدائها فلا يثبت الحكم المعلق عليها دون أدائها كمن حلف ليؤدين ألفاً لا يبر حتى يؤديها (الخامس) ان موضع الشرط في الكتاب والسنة وأحكام الشريعة على أنه لا يثبت المشروط بدون شرطه كقول النبي صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فلو قال بعضها لم يستحق إلا العقوبة وقوله (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) لا تكون له بشروعه في الإحياء، ولو قال في المسابقة من سبق إلى خمس إصابات فهو سابق لم يكن سابقاً إذا سبق إلى أربع ولو قال من رد ضالتي فله دينار لم يستحقه بالشروع في ردها فكيف يخالف موضوعات الشرع واللغة بغير دليل؟ وإنما الرواية التي جاءت عن أحمد في الإيمان فيمن حلف أن لا يفعل شيئاً ففعل بعضه: يحنث لأن اليمين على الترك يقصد بها المنع فنزلت منزلة النهي والنهي عن فعل شئ يقتضي المنع من بعضه بخلاف تعليق المشروط على الشرط (فصل) وما يكتسبه العبد قبل وجود الشرط فهو لسيده لأنه لا يوجد عقد يمنع كون كسبه لسيده إلا أنه إذا علق عتقه على أداء مال معلوم فما أخذه السيد حسبه من المال فإذا كمل أداء المال عتق، وما فضل في يده لسيده لأنه كسب عبده، وإن كان المعلق عتقه أمة فولدت لم يتبعها ولدها في أحد(12/270)
الوجهين لأنها أمة قن فأشبه ما لو قال إن دخلت الدار فأنت حرة ولا تجب عليها قيمة نفسها لأنه عتق من السيدد فأشبه ما لو باشر العتق (فصل) إذا علق عتقه بصفة ثم باعه ثم اشتراه ووجدت الصفة عتق وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي فيها قولان (أحدهما) لا يعتق لأن ملكه قيه متأخر عن عقد الصفة فلم يقع العتق فيه كما لو عقد الصفة في حال زوال ملكه عنه
ولنا أنه علق الصفة في ملكه وتحقق الشرط في ملكه فوجب أن يعتق كما لو لم يزل ملكه عنه، وفارق ما إذا علقها في حال زوال ملكه لأنه لو نجز العتق لم يقع.
فإذا علقه كان أولى بعدم الوقوع بخلاف مسئلتنا (مسألة) (إلا أن تكون الصفة وجدت منه في حال زوال ملكه فهل تعود بعوده؟ على روايتين) (إحداهما) لا تعود لأنها انحلت بوجودها فلم تعد كما لو انحلت بوجودها في ملكه (والثانية) تعود لأنه لم توجد الصفة التي يعتق بها فأشبه ما لو عاد إلى ملكه قبل وجود الصفة ولأن الملك مقدر في الصفة فكأنه قال إذا دخلت الدار وأنت في ملكي فأنت حر ولم يوجد ذلك وقد روي عن أحمد في الطلاق أنه يقع لأن التعليق والشرط وجدا في ملكه فأشبه ما لو لم يتخللهما دخول ومن نصر الرواية الأولى قال إن العتق معلق بشرط لا يقتضي التكرار فإذا وجد مرة انحلت اليمين وقد(12/271)
وجد الدخول في ملك غيره فانحلت اليمين فلم يقع العتق به بعد ذلك ويفارق العتق الطلاق من حيث إن النكاح الثاني ينبني على النكاح الأول بدليل أن طلاقه في النكاح الأول يحتسب عليه في النكاح الثاني وينقص به عدد طلاقه والملك باليمين بخلافه (مسألة) (وتبطل الصفة بالموت) لأن ملكه يزول بموته فتبطل تصرفاته بزواله كالبيع (مسألة) (وإن قال إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي أو أنت حر بعد موتي بشهر فهل يصح ويعتق بذلك؟ على روايتين) إذا قال إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر لم تنعقد هذه لأنه علق عتقه على صفة توجد بعد زوال ملكه فلم يصح كما لو قال إن دخلت الدار بعد بيعي إياك فأنت حر ولأنه إعتاق له بعد قرار ملك غيره عليه فلم يعتق به كالمنجز (والثانية) يعتق ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه صرح بذلك فحمل عليه كما لو وصى باعتاقه وكما لو وصى ببيع سلعة ويتصدق بثمنها ويفارق التصرف بعد البيع فإن الله تعالى جعل للإنسان التصرف بعد موته في ثلثه بخلاف ما بعد البيع والأول أصح إن شاء الله تعالى ويفارق الوصية بالعتق وبيع السلعة لأن الملك لا يستقر للورثة فيه ولا يملكون التصرف
فيه بخلاف مسئلتنا وسنذكر ذلك بأبسط من هذا في التدبير إن شاء الله تعالى وعنه يصح لأنه إعتاق(12/272)
بعد الموت فصح كما لو قال أنت حر بعد موتي، وإن قال أنت حر بعد موتي بشهر فقد روي عن أحمد في رواية مهنا أنه لا يعتق ولا تصح هذه الصفة، وقال أيضاً سألت أحمد عن رجل قال أنت حر بعد موتي بشهر بألف درهم فقال هذا كله لا يكون شيئاً بعد موته وهذا اختيار أبي بكر، وذكر القاضي وابن أبي موسى رواية أخرى أنه يعتق إذا وجدت الصفتين بعد الموت ومضت المدة المذكورة وهذا قول الثوري وابي يوسف واسحاق ووجههما ما تقدم وقال أصحاب الرأي لا يعتق حتى يعتقه الوارث وعلى قول من قال يعتق يكون قبل العتق ملكاً للوارث وكسبه له كأم الولد والمدبر في حياة السيد وإن كان أمة فولدت قبل وجود الصفة فولدها يتبعها في التدبير ويعتق بوجود الصفة كما تعتق هي والله سبحانه أعلم (فصل) إذا قال لعبد له مقيد هو حر إن حل قيده ثم قال هو حر إن لم يكن في قيده عشرة أرطال فشهد شاهدان عند الحاكم أن وزن قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه وأمر بحل قيده فوزن فوجد وزنه عشرة أرطال عتق العبد بحل قيده وتبينا أنه ما عتق بالشرط الذي حكم الحاكم بعتقه به وهل يلزم الشاهدين ضمان قيمته؟ فيه وجهان (أحدهما) يلزمهما لأن شهادتهما الكاذبة سبب عتقه(12/273)
وإتلافه فضمنا كالشهادة المرجوع عنها ولأن عتقه حكم بحكم الحاكم المبني على الشهادة الكاذبة فأشبه الحكم بالشهادة التي يرجعان عنها وهذا قول أبي حنيفة (والثاني) لا ضمان عليهما وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن عتقه لم يحصل بالحكم المبني على شهادتهما وإنما حصل بحل قيده ولم يشهدا به فوجب أن لا يضمنا كما لو لم يحكم الحاكم (فصل) وإن قال لعبده أنت حر متى شئت لم يعتق حتى يشاء بالقول فمتى شاء عتق سواء كان الفور أو التراخي وإن قال أنت حر إن شئت فكذلك ويحتمل أن يقف على المجلس لأن ذلك بمنزلة التخيير ولو قال لامرأته اختاري نفسك لم يكن لها الاختيار إلا على الفور فإن تراخى ذلك بطل خيارها كذا
تعليقه بالمشيئة وإن قال أنت حر كيف شئت احتمل أن يعتق في الحال وهو قول أبي حنيفة لان كيف الا تقتضي شرطاً ولا وقتاً ولا مكاناً فلا تقتضي توقيف العتق إنما هي صفة للحال فتقتضي وقوع الحرية على أي حال كان ويحتمل أن لا يعتق حتى يشاء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن المشيئة تقتضي الخيار فتقتضي أن يعتق قبل اختياره كما لو قال أنت حرمتي شئت لأن كيف تعطي ما تعطي حتى وأي فحكمهما حكمها وقد ذكر أبو الخطاب في الطلاق أنه إذا قال لزوجته أنت طالق متى شئت وكيف شئت وحيث شئت لم تطلق حتى تشاء فيجئ ههنا مثله (مسألة) (وإن قال إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فدخل في حياة السيد صار مدبراً)(12/274)
لانه وجد شرط التدبير وهو دخول الدار وإن لم يدخل حتى مات بطلت الصفة لأنه يزول به الملك ولم يوجد التدبير لعدم شرطه وسنذكره في التدبير إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن قال إن ملكت فلانا فهو حرا أو كل مملوك أملكه فهو حر فهل يصح؟ على روايتين) (إحداهما) لا يصح ولا يعتق روى ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وعروة والشافعي وابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وعلي بن الحسين وشريح وغير واحد من التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن آدم فيما لا يملك) قال الترمذي وهو حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا طلاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها) رواه الدارقطني، وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا طلاق قبل نكاح) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا طلاق قبل ملك) رواه أبو داود الطيالسي قال أحمد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من الصحابة ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً فكان إجماعاً وهذا ظاهر المذهب ولأنه لا يملك بتخيير العتق فلم يملك تعليقه (والثانية) يعتق إذا ملكه لأنه أضاف العتق إلى حال يملك عتقه فيه فأشبه ما لو كان التعليق في ملكه، وروى أبو طالب عن أحمد أنه قال إن اشتريت هذا الغلام فهو حر فاشتراه عتق(12/275)
قال أبو بكر في كتاب الشافعي لا يختلف قول أبي عبد الله ان العتاق يقع إلا ما روى محمد بن الحسن ابن هارون في العتق أنه لا يقع وما أراه إلا غلطاً فإن كان قد حفظ فهو قول آخر ولأنه لو قال لأمته أول ولد تلدينه فهو حر فإنه يصح كذلك هذا وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ولأنه يصح تعليقه على الإخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين وقال مالك إن خص جنساً من الأجناس أو عبداً بعينه عتق إذا ملكه وإن قال كل عبد املكه لم يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى لأنه تعليق للعتق قبل الملك فأشبه ما لو قال لأمة غيره: إن دخلت الدار فأنت حرة ثم ملكها ودخلت الدار ولما ذكرنا من الأحاديث (مسألة) (فإن قال العبد ذلك ثم عتق وملك عتق في أحد الوجهين قياساً على الحر (والثاني) لا يعتق وهو الصحيح) لأن العبد لا يصح العتق منه حين التعليق لكونه لا يملك وإن ملك فهو ملك ضعيف غير مستقر لا يتمكن من التصرف فيه وللسيد انتزاعه منه بخلاف الحر (فصل) إذا قال الحر أول غلام أملكه فهو حر انبنى ذلك على العتق قبل الملك وفيه روايتان ذكرناهما فإن قلنا يصح عتق أول من يملكه لوجود الشرط فإن ملك اثنين معاً عتق أحدهما بالقرعة في قياس قول أحمد فإنه قال في رواية مهنا إذا قال أول من يطلع من عبيدي فهو حر فطلع اثنان منهم أو جميعهم فإنه يقرع بينهم ويحتمل أن يعتقا جميعاً لأن الأولية وجدت فيهما جميعاً فثبتت الحرية(12/276)
فيهما كما لو قال في المسابقة من سبق فله عشرة فسبق اثنان اشتركا في العشرة، وقال النخعي يعتق أيهما شاء وقال أبو حنيفة لا يعتق واحد منهما لأنه لا أول فيهما لأن كل واحد منهما مساو للآخر ومن شرط الأولية سبق الأول ولنا أن هذين لم يسبقهما غيرهما فكانا أول كالواحد وليس من شرط الأول أن يأتي بعده ثان بدليل ما لو ملك واحداً ولم يملك بعده شيئاً، وإذا وجدت الصفة فيهما فإما أن يعتقا جميعاً أو
يعتق أحدهما وتعينه القرعة على ما نذكره، وكذلك الحكم فيما إذا قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين خرجا معاً (مسألة) (وإن قال آخر مملوك أشتريه فهو حر فملك عبيداً لم يعتق واحد منهم حتى يموت) لأنه ما دام حياً فإنه يحتمل أن يشتري عبداً يكون هو الآخر فإذا مات عتق آخرهم وتبينا أنه كان حراً حين ملكه فتكون اكسابه له وإن كان أمة كان أولادها أحراراً من حين ولدتهم لأنهم أولاد حرة وإن كان وطئها فعليه مهرها لانه وطئ حرة أجنبية ولا يحل له أن يطأها إذا اشتراها حتى يشتري بعدها غيرها لأنه ما لم يشتر بعدها غيرها فهي آخر في الحال وإنما يزول ذلك بشراء غيرها فوجب أن يحرم الوطئ وإن اشتري اثنين دفعة واحدة ثم مات فالحكم في عتقهما كالحكم فيما إذا ملك اثنين في الفصل الذي قبله(12/277)
(فصل) إذا قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت اثنين واشكل أولهما خروجاً أخرج بالقرعة كالتي قبلها فإن علم أولهما خروجاً عتق وحدة وهو قول مالك والثوري وابي هاشم والشافعي وابن المنذر وقال الحسن والشعبي وقتادة إذا ولدت ولدين في بطن فهما حران ولنا أنه إنما أعتق الأول والذي خرج سابقاً هو الأول من المولودين فاختص العتق به فهو كما لو ولدتهما في بطنين فإن ولدت الأول ميتاً والثاني حياً فذكر الشريف أنه يعتق الحي منهما وبه قال أبو حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا يعتق واحد منهما وهو الصحيح قاله شيخنا لأن شرط العتق إنما وجد في الميت وليس محلاً للعتق فانحلت اليمين به وإنما قلنا إن شرط العتق وجد فيه لأنه أول ولد بدليل أنه إذا قال لأمته إذا ولدت فأنت حرة فولدت ولداً ميتاً عتقت، ووجه الأول أن العتق يستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما لو قال إن ضربت فلاناً فعبدي حر فضربه حياً عتق وإن ضربه ميتاً لم يعتق ولأنه معلوم من طريق العادة أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه وهو أن يكون حياً فتصير الحياة مشروطة فيه فكأنه قال أول ولد تلدينه حياً (فصل) فإن قال لأمته كل ولد تلدينه فهو حر عتق كل ولد ولدته في قول جمهور العلماء منهم
مالك والاوزاعي والليث والثوري والشافعي قال إبن المنذر لا أحفظ عن غيرهم خلافهم فإن باع الأمة ثم ولدت لم يعتق ولدها لأنها ولدتهم بعد زوال ملكه(12/278)
(مسألة) (فإن قال لأمته آخر ولد تلدينه فهو حر فولدت حياً ثم ميتاً لم يعتق الأول) لأنه لم يوجد شرط عتقه وعلى قياس قول الشريف وابي حنيفة فيما إذا قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ميتاً ثم حياً يعتق الحي وإن ولدت ميتاً ثم حياً عتق الثاني لوجود شرطه وإن ولدت توأمين فأشكل الآخر منهما فإن أحدهما استحق العتق ولم يعتق بعينه فوجب اخراجه بالقرعة وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى (مسألة) (ولا يتبع ولد المعتقة بالصفة أمه في العتق في أصح الوجهين إلا أن تكون حاملاً به حال عتقها أو حال تعليق عتقها) إذا علق عتق أمة بصفة وهي حامل تبعها ولدها في ذلك لأنه كعضو من أعضائها فإن وضعته قبل وجود الصفة ثم وجدت الصفة عتق لأنه تابع في الصفة فأشبه ما لو كان في البطن وإن كانت حائلاً حين التعليق ثم وجدت الصفة وهي حامل عتقت هي وحملها لأن العتق وجد فيها وهي حامل فتبعها ولدها كالمنجز فإن حملت بعد التعليق وقبل وجود الصفة ثم وجدت بعد ذلك لم يعتق الولد لأن الصفة لم تتعلق به في حال التعليق، وفيه وجه آخر أنه يتبعها في العتق لا في الصفة فإذا ولم توجد فيها لم توجد فيه بخلاف ولد المدبرة فإنه يتبعها في التدبير وإذا بطل فيها بقي فيه(12/279)
(مسألة) وإذا قال لعبده أنت حر وعليك ألف أو على ألف عتق ولا شئ عليه وعنه إن لم يقبل لم يعتق) إذا قال لعبده أنت حر وعليك ألف عتق ولا شئ عليه لأنه أعتقه بغير شرط وجعل عليه عوضاً لم يقبله فعتق ولم يلزمه الألف هكذا ذكر المتأخرون من أصحابنا ونقل جعفر بن محمد قال سمعت أبا عبد الله قيل له إذا قال أنت حر وعليك ألف درهم فقال جيد قيل له فإن لم يرض العبد قال لا يعتق إنما قال له على أن يؤدي إليه ألفاً فإن لم يود فلا شئ فإن قال أنت حر على ألف فكذلك في
إحدى الروايتين لأن على ليست من أدوات الشرط ولا البدل فأشبه قوله وعليك ألف والثانية ان قبل العتق عتق ولزمته الألف وإن لم يقبل لم يعتق وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وهذه الرواية هي الصحيحة لأنه أعتقه بعوض فلم يعتق بدون قبوله كما لو قال أنت حر بألف ولأن على تستعمل للشرط والعوض قال الله تعالى (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) وقال (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) وقال (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) ولو قال في النكاح زوجتك ابنتي على خمسمائة درهم وقال الآخر قبلت صح النكاح ووجب الصداق(12/280)
(مسألة) (وإن قال على أن تخدمني سنة فكذلك) وقيل ان لم يقعل لم يعتق رواية واحدة فعلى هذا إذا قبل العبد عتق في الحال ولزمته خدمته سنة وإن مات السيد قبل كمال السنة رجع على العبد بقيمة ما بقي من الخدمة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة تسقط قيمة العبد على خدمة السنة فيسقط منها بقدر ما مضى ويرجع عليه بما بقي من قيمته ولنا أن العتق عقد لا يلحقه الفسخ فإذا تعذر فيه استيفاء العوض رجع إلى قيمته كالخلع في النكاح والصلح في دم العبد فإذا قال أنت حر على أن تعطيني ألفاً فالصحيح أنه لا يعتق حتى يقبل فإذا قبل عتق ولزمه الألف فأما إن قال أنت حر بألف لم يعتق حتى يقبل ويلزمه الألف (فصل) قال رضي الله عنه وإذا قال كل مملوك لي حر عتق عليه مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده وشقص يملكه لأن اللفظ عام فيهم فعتقوا كما لو عينهم وذكر ابن أبي موسى في الارشادان الشقض لا يعتق إلا ان ينوبه لأنه لا يملكه كله والأول المذهب(12/281)
(مسألة) (وإن قال أحد عبدي حر اقرع بينهما فمن وقعت له القرعة فهو حر من حين أعتقه) إذا قال أحد عبدي حر ولم ينو واحداً بعينه عتق أحدهم بالقرعة وليس للسيد التعيين ولا
للوارث بعده، فإن قال أردت هذا بعينه قبل منه وعتق لأن ذلك إنما يعرف من جهته وقال أبو حنيفة والشافعي للمعتق التعيين ويطالب بذلك فيعتق من عينه وإن لم يكن نواه حالة القول وإذا عتق بتعيينه فليس لسائر العبيد الاعتراض عليه لأن له تعيين العتق ابتداء فإذا أوقعه غير معين كان له تعيينه كالطلاق ولنا أن مستحق العتق غير معين فلم يملك تعيينه ووجب أن يميز بالقرعة كما لو أعتق الجميع في مرضه ولم يخرجوا من الثلث وكما لو أعتق معيناً ثم نسيه والطلاق كمسئلتنا فإن مات المعتق ولم يعين(12/282)
فالحكم عندنا لا يختلف وليس للورثة التعيين بل يخرج المعتق بالقرعة وقد نص الشافعي على هذا إذا قالوا لا ندري أيهم أعتق وقال أبو حنيفة لهم التعيين لأنهم يقومون مقام موروثهم وقد سبق الكلام في المعتق وقوله من حين أعتقه يريد أن العبد إن كان اكتسب مالاً بعد العتق فهو له دون سيده لأنا تبينا أنه اكتسبه في حال الحرية (فصل) ولو أعتق إحدى إمائة غير معينة ثم وطئ إحداهن لم يتعين الرق فيها وبه قال أبو حنيفة(12/283)
وقال الشافعي يتعين الرق فيها لأن الحرية عنده تتعين بتعيينه ووطؤه دليل على تعيينه وقد سبق الكلام معه (مسألة) (وإن مات أحد العبدين أقرع بينه وبين الحي فإن وقعت على الميت حسبناه من التركة وقومناه حيت الإعتاق سواء مات في حياة سيده أو بعده قبل القرعة) وبهذا قال الشافعي وقال مالك إن مات قبل موت سيده فالحي جميع التركة ولا يعتق إلا ثلثه ولا يعتبر الميت لأنه ليس بمحسوب من التركة ولهذا لو أعتق الحي بعد موته لأعتقنا ثلثه(12/284)
ولنا أن الميت أحد المعتقين فوجب أن يقرع بينه وبين الحي كما لو مات بعد سيده ولأن المقصود من العتق تحصيل ثوابه وهو يحصل في حق الميت فيدخل في القرعة كالذي مات بعد سيده فعلى هذا إن خرجت القرعة على الميت حسبناه من التركة وقومناه حين الإعتاق لأنه حين الإتلاف
وإن وقعت على الحي نظرت في الميت فإن كان موته قبل موت سيده أو بعده قبل قبض الوارث له لم نحسبه من التركة لأنه لم يصل إلى الوارث فتكون التركة الحي وحده فيعتق ثلثه وتعتبر قيمته حين الإعتاق لأنه حين اتلافه وتعتبر قيمة التركة بأقل الأمرين من حين الموت إلى حين قبض(12/285)
الوارث لأن الزيادة تجددت على ملك الوارث فلم تحسب عليه من التركة والنقصان قبل القبض فلم يحصل له فأشبه الشارد والآبق وإنما يحسب عليه ما حصل في يديه ولا يحسب الميت من التركة لأنه وصل إليهم وجعلناه كالحي في تقويمه معه والحكم باعتاقه إن وقعت القرعة عليه أو من الثلثين إن وقعت القرعة على غيره وتحسب قيمته أقل الأمرين من حين موت سيده إلى حين قبضه(12/286)
(فصل) فإن دبر ثلاثة أعبد أو وصى بعتقهم فمات أحدهم في حياته بطل تدبيره والوصية فيه وأقرع بين الحيين وأعتق من أحدهما ثلثهما لأن الميت لا يمكن الحكم بوقوع العتق فيه لكونه مات قبل الوقت الذي يعتق فيه، وقبل تحقق شرط العتق بخلاف التي قبلها فإن العتق حصل من حين الإعتاق وإنما القرعة تبينه وتكشفه ولهذا يحكم بعتقه من حين الإعتاق ويكون كسبه له وحكمه حكم الأحرار في سائر أحواله، وإن مات المدبر بعد موت سيده أقرع بينه وبين الأحياء لأن العتق حصل من حين موت السيد (مسألة) (وإن اعتق عبداً أو نسيه أخرج بالقرعة) هذا قياس قول أحمد وهو قول الليث، وقال الشافعي يقف الأمر حتى يذكر فإن مات قبل أن يبين أقرع الورثة بينهم، وقال ابن وهب يعتقون كلهم، وقال مالك إن أعتق عبداً له ومات ولم يبين وكانوا ثلاثة عتق منهم بقدر ثلثهم وإن كانوا أربعة عتق منهم بقدر ربع قيمتهم وعلى هذا فيقرع بينهم فإن خرجت القرعة على من قيمته أقل من الربع أعيدت القرعة حتى يكمل وقال أصحاب الرأي إن قال الشهود نشهد أن فلاناً أعتق بعض عبيده ونسيناه فشهادتهم باطلة ونحو هذا قول الشعبي والاوزاعي ولم يذكروا ما ذكره أصحاب الرأي في الشهادة(12/287)
ولنا أن مستحق العتق غير معين فأشبه ما لو أعتق جميعهم في مرض موته (مسألة) (فإن علم بعد أن المعتق غيره عتق وهل يبطل عتق الأول؟ على وجهين) (أحدهما) يبطل ويرد إلى الرق ويعتق الذي عينه لأنه تبين له المعتق فيعتق دون غيره كما لو لم يقرع (والثاني) يعتقان معاً قاله الليث ومقتضى قول ابن حامد لأن الأول ثبتت الحرية فيه بالقرعة فلا تزول كسائر الأحرار، ولان قول العتق ذكرت من كنت نسيته يتضمن إقراره بحرية من ذكره وإقراراً على غيره فقبل إقراره على نفسه دون غيره.
أما إذا لم يقرع فإنه يقبل قوله فيعتق من عينه ويرق غيره فإذا قال أعتقت هذا عتق ورق الباقون، وإن قال أعتقت هذا لا بل هذا عتقا جميعاً لأنه أقر بعتق الأول فلزمه ثم أقر بعتق الثاني فلزمه ولم يقبل رجوعه عن إقراره الأول وكذلك الحكم في إقرار الوارث (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإن أعتق في مرض موته ولم يجز الورثة اعتبر من ثلثه) إذا أعتق في مرض الموت المخوف اعتبر من الثلث إذا لم يجز الورثة وكذلك التدبير والوصية بالعتق لأنه تبرع بمال أشبه الهبة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز من عتق الذي أعتق ستة مملوكين في مرضه إلا ثلثهم وما زاد على الثلث إن أجازوه فإن ردوه بطل لأن الحق لهم فجاز بإجازتهم وبطل بردهم(12/288)
(مسألة) (وإن أعتق جزءاً من عبده أو دبره وهو أن يقول إذا مت فنصف عبدي حر ثم مات فإن كان النصف المدبر ثلث ماله من غير زيادة عتق ولم يسير) لانه لو دبره كله لم يعتق منه إلا ثلثه فإذا لم يدبر إلا ثلثه كان أولى، وإن كان العبد كله يخرج من الثلث ففي تكميل الحرية روايتان (إحداهما) تكمل وهو قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة وأصحابه لأنهم يرون التدبير كالعتق في السراية وهو أحد قولي الشافعي لأنه أعتق البعض عبده فعتق جميعه كما لو أعتقه في حياته (والثانية) لا يكمل العتق فيه لأنه لا يمنع جواز البيع قلم يسير كتعليقه بالصفة في الحياة فأما إن
أعتق بعض عبده في مرضه فهو كعتق جميعه أن خرج من الثلث عتق جميعه وإلا عتق منه بقدر الثلث لأن الإعتاق في المرض كالإعتاق في الصحة إلا في اعتباره من الثلث، وتصرف المريض في ثلثه في حق الأجنبي كتصرف الصحيح في جميع ماله وعنه لا يعتق منه إلا ما أعتق كما لو أعتق شركاً له في عبد وثلثه يحتمل جميعه (فصل) وإذا دبر أحد الشريكين نصيبه صح ولم يلزمه لشريكه في الحال شئ وهذا قول الشافعي فإذا مات عتق الجزء المدبر إذا خرج من ثلثه وفي سرايته إلى نصيب الشريك ما ذكرنا في المسألة قبلها وقال مالك إذا دبر نصيبه تقاوماه فإن صار للمدبر صار مدبراً كله وإن صار للآخر صار(12/289)
رقيقاً كله وقال الميث يغرم المدبر لشريكه قيمة نصيبه ويصير العبد كله مدبراً فإن لم يكن له مال سعى العبد في قيمة نصيب الشريك فإذا أداها صار مدبراً كله، وقال أبو يوسف ومحمد يضمن المدبر للشريك قيمة حقه موسراً كان أو معسراً ويصير المدبر له، وقال أبو حنيفة الشريك بالخيار إن شاء دبر وإن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد وإن شاء ضمن صاحبه إن كان موسراً، ولنا أنه تعليق المعتق على صفة فصح في نصيبه كما لو علقه بموت شريكه (مسألة) وإن أعتق في مرضه شركا له في عبد أو دبره وثلثه يحتمل باقيه أعطي الشريك وكان جميعه حراً في أحدى الروايتين والأخرى لا يعتق إلا ما ملك منه) وجملته أنه إذا ملك شقصاً من عبد فأعتقه في مرض موته أو دبره أو وصى بعتقه ثم مات ولم يف ثلث ماله بقيمة نصيب الشريك لم يعتق إلا نصيبه بغير خلاف نعلمه إلا قولاً شاذاً أو قول من يرى السعاية وذلك لأنه ليس له من ماله إلا الثلث الذي استغرقته قيمة الشقص فيبقى معسراً بمنزلة من أعتق في صحته شقصاً وهو معسر فإن كان ثلث ماله يفي بقيمة حصة شريكه سرى إلى نصيب الشريك في إحدى الروايتين فيعتق العبد كله ويعطي الشريك قيمة نصيبه من الثلث لأن ملك المعتق لثلث المال تام له انتصرف فيه بالتبرع وغيره فهو كمال الصحيح فأشبه عتق الصحيح الموسر والثانية لا يعتق إلا حصته لأن ملكه يزول إلى ورثته بموته فلا يبقى شئ يقضي منه الشريك وبه قال الأوزاعي(12/290)
وقال القاضي ما أعتقه في مرض موته سرى وما دبره أو وصى بعتقه لم يسر فالرواية في سراية العتق في حال الحياة أصح والرواية في وقوفه في التدبير أصح وهذا مذهب الشافعي لأن العتق في الحياة ينفذ في حال ملك المعتق وصحة تصرفه وتصرفه في ثلثه كتصرف الصحيح في ماله كله وأما التدبير والوصية فإنما يحصل العتق به في حال زوال ملك المعتق وتصرفاته.
(مسألة) (وإن اعتق في مرضه ستة أعبد قيمتهم سواء وثلثه يحتملهم ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بيعوا في دينه ويحتمل أن يعتق ثلثهم) وجملة ذلك أن المريض إذا أعتق عبيده في مرضه أو دبرهم أو وصى بعتقهم وهم يخرجون من ثلثه في الظاهر فأعتقناهم ثم مات فظهر عليه دين يستغرقهم تبينا بطلان عتقهم وبقاء رقهم فيباعون في الدين ويكون عتقهم وصية والدين يقدم على الوصية قال علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ولأن الدين يقدم على الميراث بالاتفاق ولهذا تباع التركة في قضاء الدين وقد قال الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) والميراث مقدم على الوصية في الثلثين فما يقدم على الميراث يجب أن يقدم على الوصية، وبهذا قال الشافعي ورد ابن أبي ليلى عبداً أعتقه سيده عند الموت وعليه دين قال أحمد أحسن ابن أبي ليلى وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الذي يعتق عبده في مرضه وعليه دين أنه يعتق منه بقدر الثلث ويرد الباقي لأن تصرف المريض في ثلثه(12/291)
كتصرف الصحيح في جميع ماله وكما لو لم يكن عليه دين، وقال قتادة وأبو حنيفة واسحاق بسعي العبد في قيمته.
ولنا أنه تبرع في مرض موته بما يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة ولأنه معتبر من الثلث فقدم عليه الدين كالوصية وخفاء الدين لا يمنع ثبوت حكمه ولهذا يملك الغريم استيفاءه فيتبين أنه أعتقهم وقد استحقهم الغريم بدينه فلم ينفذ عتقه كما لو أعتق ملك غيره فإن قال الورثة نحن نقضي الدين ونمضي العتق لم ينفذ في أحد الوجهين حتى يبتدئوا العتق لأن الدين كان مانعاً منه فيكون
باطلاً ولا يصح بنوال المانع بعده (والثاني) ينفذ العتق لأن المانع منه إنما هو الدين فإذا سقط وجب نفوذه كما لو أسقط الورثة حقوقهم من ثلثي التركة بعد العتق في الجميع ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وقيل إن أصل الوجهين إذا تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره وعلى الميت دين وقضي الدين هل ينفذ؟ فيه وجهان: (فصل) فإن أعتق المريض ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع الورثة فأعتقوا واحداً وأرقوا اثنين ثم ظهر عليه دين يستغرق نصفهم ففيه وجهان: (أحدهما) تبطل القرعة لأن الدين شريك في الإقراع فإذا حصلت القسمة مع عدمه كانت باطلة(12/292)
كما لو قسم شريكان دون شريكهما الثالث (والثاني) يصح الإقراع لأنه لا يمكن إمضاء القسمة وإفراد حصة الدين من كل واحد من النصيبين لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين فيقال للورثة اقضوا ثلثي الدين وهو بقدر قيمة نصف العبدين اللذين بقيا إما من العبيد وإما من غيرهم ويجب رد نصف العبد الذي عتق فإن كان الذي أعتق عبدين أقرعنا بينهما فإذا خرجت القرعة على أحدهما وكان بقدر السدس من التركة عتق وبيع الآخر في الدين وإن كان أكثر منه عتق منه بقدر السدس وإن كان أقل عتق وعتق من الآخر تمام السدس.
(مسألة) (وإن أعتقهم فأعتقنا ثلثهم ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم) وجملته أنه إذا أعتق عبيده في مرضه أو دبرهم أو وصى بعتقهم لم يعتق منهم إلا الثلث ويرق الثلثان إذا لم يجز الورثة عتقهم فإذا فعلنا ذلك ثم ظهر له مال بقدر ثلثيهم تبينا أنهم قد عتقوا من حين أعتقهم أو من حين موته إن كان دبرهم أو وصى بعتقهم لأن تصرف المريض في ثلث ماله نافذ وقد بان أنهم ثلث ماله وخفا ذلك علينا لا يمنع كونه موجوداً فلا يمنع كون العتق واقعاً فعلى هذا يكون حكمهم حكم الأحرار من حين أعتقهم فيكون كسبهم لهم وإن كانوا قد تصرف فيهم ببيع أو هبة أو رهن أو تزويج بغير إذن كان باطلاً وإن كانوا قد تصرفوا فحكم تصرفهم حكم تصرف الأحرار فلو تزوج عبد منهم بغير إذن سيده كان نكاحه صحيحاً ووجب عليه المهر وإن ظهر له مال(12/293)
بقدر قيمتهم عتق ثلثاهم لأنه ثلث جميع المال فيقرع بين الذين وقفوا فيعتق من تقع له القرعة إن وفى الثلثان بقيمته وقيمة الأول وإلا عتق منه تمام الثلثين وإن ظهر له مال بقدر نصفهم عتق نصفهم وإن كان بقدر ثلثهم عتق أربعة أتساعهم وعلى هذا الحساب (فصل) وإن وصى بعتق عبد له يخرج من الثلث وجب على الوصي إعتاقه فإن وصى بذلك ورثته لزمهم إعتاقه فإن امتنعوا أجبرهم السلطان أو من ينوب منابه كالحاكم لأن هذا حق لله تعالى وللعبد ومن وجب عليه ذلك ناب السلطان عنه أو نائبه كالزكاة والديون فإذا أعتقه الوارث أو السلطان عتق وما اكتسبه في حياة الموصي فهو للموصي يكون من تركته إن بقي بعده لأنه كسب عبده القن وما كسبه بعد موته وقبل اعتاقه فهو للوارث وقال القاضي هو للعبد لأنه كسبه بعد استقرار سبب العتق فكان له ككسب المكاتب وقال بعض أصحاب الشافعي فيه قولان مبنيان على القولين في كسب العبد الموصى به قبل قبول الوصية.
ولنا أنه عبد قن فكان كسبه للورثة كغير الموصى بعتقه وكالمعلق عتقه بصفة وفارق المكاتب فإنه يملك كسبه قبل عتقه فكذلك بعده ويبطل ما ذكروه بأم الولد فإن عتقها قد استقر سببه في حياة سيدها وكسبها له والموصى به ممنوع وإن سلمناه فالفرق بينهما أن الموصى به قد تحقق فيه سبب الملك وإنما وقف على شرط هو القبول فإذا وجد الشرط استند الحكم إلى ابتداء السبب وفي الوصية(12/294)
بالعتق ما وجد السبب وإنما أوصى بإيجاده وهو العتق فإذا وجد لم يجز أن يثبت حكمه سابقاً عليه ولهذا يملك الموصى له القبول بنفسه والعبد ههنا لا يملك أن يعتق نفسه فإن مات العبد قبل موت سيده وقبل إعتاقه فما كسبه للورثة على قولنا ولا نعلم قول مخالفينا فيه (فصل) فإن علق عتق عبده على شرط في صحته فوجد في مرضه اعتبر خروجه من الثلث قاله أبو بكر وقد نص أحمد على مثل هذا في الطلاق وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر أنه يعتق من رأس المال وهو مذهب الشافعي لأنه يتهم فيه أشبه العتق في صحته
ولنا أنه عتق في حال تعلق حق الورثة بثلثي ماله فاعتبر من الثلث كالمنجز وقولهم لا يتهم فيه قلنا وكذلك العتق المنجز لا يتهم فيه فإن الإنسان لا يتهم بمحاباة غير الوارث وتقديمه على وارثه وإنما منع منه لما فيه من الضرر بالورثة وهو حاصل ههنا ولو قال إذا قدم زيد وأنا مريض فأنت حر فقدم وهو مريض كان معتبراً من الثلث وجهاً واحداً (مسألة) وإن لم يظهر له مال جزأنا لهم ثلاثة أجزاء كل اثنين جزءاً وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق فمن خرج له سهم الحرية عتق ورق الباقون وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان ومالك والشافعي(12/295)
واسحاق وداود وابن جرير وقال أبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في باقيه وروي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وشريح الشعبي والنخعي وقتادة وحماد لأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون في الاستحقاق كما لو كان لا يملك إلا ثلثهم وحده وهو ثلث ماله أو كما لو وصى بكل واحد منهم لرجل، وأنكر أصحاب أبي حنيفة القرعة وقالوا هي من القمار وحكم الجاهلية ولعلهم يردون الخبر الوارد في هذه المسألة لمخالفته قياس الأصول وذكر الحديث لحماد فقال هذا قول الشيخ - يعني إبليس - فقال له محمد بن ذكوان وضع القلم عن ثلاثة (أحدهم) المجنون حتى يفيق يعني - أنك مجنون - فقال له حماد ما دعاك إلى هذا؟ فقال محمد وأنت ما دعاك إلى هذا وهذا قليل في جواب حماد وكان حرياً أن يستتاب عن هذا، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ولنا ما روى عمران بن حصين أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه لا مال له غيرهم فجزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة وهذا نص في محل الننزاع وحجة لنا في الأمرين المختلف فيهما وهما جمع الحرية واستعمال القرعة، وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود وسائر أصحاب السنن، ورواه عن عمران بن الحصين الحسن وابن سيرين وأبو المهلب ثلاثة أئمة ورواه الإمام أحمد عن اسحاق بن عيسى عن هشيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي زيد الأنصاري(12/296)
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وروي نحوه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه حق في تفريقه
ضرر فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار إذا طلبها أحد الشركاء ونظيره من القسمة ما لو كانت دار بين اثنين لأحدهما ثلثها وللآخر ثلثاها وفيها ثلاثة مساكن متساوية لا ضرر في قسمتها فطلب أحدهما القسمة فإنه يجعل كل بيت سهماً ويقرع بينهم بثلاثة أسهم لصاحب الثلث سهم وللأخر سهمان وقولهم إن الخبر يخالف قياس الأصول نمنع ذلك بل هو موافق لما ذكرناه وقياسهم فاسد لأنه إذا كان ملكهم ثلثهم وحده لم يكن جميع نصيبه والوصية لا ضرر في تفريقها بخلاف مسئلتنا وإن سلمنا مخالفته قياس الأصول فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع سواء وافق القياس أو خالفه لأنه قول المعصوم الذي جعل الله عزوجل قوله حجة على الخلق أجمعين وأمر بأتباعه وطاعته وحذر العقاب في مخالفة أمره وجعل الفوز في طاعته والضلال في معصيته وتطرق الخطأ إلى القائس في قياسه أغلب من تطرق الخطأ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعدهم في روايتهم على أنهم قد خالفوا قياس الأصول بأحاديث ضعيفة فأوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ونقضوا الوضوء بالقهقهة في الصلاة دون خارجها وقولهم في مسئلتنا في مخالفة القياس والأصول أشد وأعظم والضرر في مذهبهم أعظم وذلك لأن الاجماع منعقد على أن صاحب الثلث في الوصية وما في معناها لا يحصل له شئ حتى(12/297)
يحصل للورثة مثلاه وفي مسئلتنا يعتقون الثلث ويستسعون العبد في الثلثين فلا يحصل للورثة شئ في الحال ويحيلونهم على السعاية فربما لا يحصل منها شئ أصلاً وربما لا يحصل منها في الشهر إلا اليسير كالدرهم والدرهمين فيكون هذا كمن لم يحصل له شئ وفيه ضرر على العبيد لأنهم يجبرونهم على الكسب والسعاية من غير اختيارهم وربما كان المجبر جارية فيحملها ذلك على البغاء أو عبداً فيسرق أو يقطع الطريق وفيه ضرر على الميت حيث أفضوا بوصيته إلى الظلم والإضرار وتحقيق ما يوجب له العقاب من ربه والدعاء عليه من عبيده وورثته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه في حق الذي فعل هذا قال (لو شهدته لم يدفن في مقابر المسلمين) قال ابن عبد البر في قول الكوفيين ضروب من الخطأ والاضطراب مع مخالفة السنة الثابتة وأشار إلى ما ذكرناه وأما إنكارهم القرعة فقد جاءت في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى (وما كنت لديهم
إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) وقال سبحانه (فساهم فكان من المدحضين) وأما السنة فقال أحمد في القرعة خمس سنن أقرع بين نسائه وأقرع في ستة مملوكين وقال لرجلين (استهما) وقال (مثل القائم بحدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) وقال (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه) وفي حديث الزبير أن صفية جاءت بثوبين ليكفن فيهما حمزة فوجدنا إلى جنبه قتيلاً فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب فوجدنا أحد الثوبين أوسع من الآخر فأقرعنا عليهما ثم(12/298)
كفنا كل واحد في الثوب الذي طار له وتشاح الناس يوم القادسية في الأذان فأقرع بينهم سعد وأجمع العلماء على استعمالها في القسمة ولا نعلم بينهم خلافاً في أن الرجل يقرع بين نسائه إذا أراد السفر بإحداهن وإذا أراد البداية في القسمة بينهن وبين الأولياء إذا تشاموا فيمن يتولى التزويج أو من يتولى استيفاء القصاص وأشباه هذا.
(فصل) في كيفية القرعة قال أحمد قال سعيد بن جبير يقرع بينهم بالخواتيم أقرع بين اثنين في ثوب فأخرج خاتم هذا وخاتم هذا ثم قال يخرجون بالخواتيم ثم تدفع إلى رجل فيخرج منها واحداً قال احمد بأي شئ خرجت مما يتفقان عليه وقع الحكم به سواء كان رقاعاً أو خواتيم، وقال أصحابنا المتأخرون الأولى أن يقطع رقاعاً صغاراً مستوية ثم تجعل في بنادق شمع أو غيره متساوية القدر والوزن ثم تلقى في حجر رجل لم يحضر ويغطى عليها بثوب ثم يقال له أدخل يدك فاخرج بندقة فنفضها ونعلم ما فيها، وهذا قول الشافعي وفي كيفية القرعة والعتق ست مسائل.
(أحدها) أن يعتق عدداً من العبيد لهم ثلث صحيح كثلاثة أو تسعة أو ستة (أو قيمتهم متساوية) ولا مال له غيرهم فيجزءون ثلاثة أجزاء جزءاً للحرية وجزأين للرق ويكتب ثلاث رقاع في واحد حرية وفي اثنين رق وتترك في ثلاث بنادق وتغطي بثوب ويقال لرجل لم يحضر أخرج على اسم هذا الجزء فإن خرجت قرعة الحرية عتق ورق الجزآن الآخران وإن خرجت رق رق وأخرجت(12/299)
أخرى على جزء آخر فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الجزء الثالث وإن خرجت قرعة الرق رق
وعتق الجزء الثالث لأن الحرية تعينت فيهم وإن شئت كتبت اسم كل جزء في رقعة ثم اخرجت رقعة على الحرية فإذا أخرجت رقعة عتق المسمون فيها ويرق الباقون وإن اخرجت رقعة على الرق رق المسمون فيها ثم تخرج أخرى على الرق فيرق المسمون فيها ويعتق الجزء الثالث وإن أخرجت الثانية على الحرية عتق المسمون فيها ورق الثالث (المسألة الثانية) أن تمكن قسمتهم أثلاثاً وقيمتهم مختلفة يمكن تعديلهم بالقيمة كستة قيمة اثنين منهم ثلاثة آلاف وقيمة اثنين ألفان وقيمة اثنين ألف فتجعل الاثنين الأوسطين جزءاً وتجعل اثنين قيمة أحدهما ثلاثة الآف مع آخر قيمته ألف جزءاً والآخرين جزءاً فتكون ثلاثة أجزاء متساوية في العدد والقيمة على ما قدمناه في المسألة الأولى قيل لأحمد لم يستووا في القيمة؟ قال يقومون بالثمن.
(المسألة الثالثة) أن يتساووا في العدد ويختلفوا في القيمة ولا يمكن الجمع بين تعديلهم بالعدد والقيمة معاً ولكن يمكن تعديلهم بكل واحد منهما منفرداً كستة أعبد قيمة أحدهم ألف وقيمة اثنين ألف وقيمة ثلاثة ألف فإنهم يعدلون بالقيمة دون العدد نص عليه أحمد فقال إذا كانت قيمة واحد مثل اثنين قوم لأنه لا يجوز أن يقع العتق في أكثر من الثلث ولا أقل وفي قسمته بالعدد تكرار القرعة وتبعيض العتق حتى يكمل الثلث فكان التعديل بالقيمة أولى بيان ذلك أنا لو جعلنا مع الذي قيمته(12/300)
ألف آخر فخرجت قرعة الحرية لهما احتجنا أن نعيد القرعة بينهما فإذا خرجت على القليل القيمة عتق وعتق من الذي قيمته ألف تمام الثلث وإن وقعت قرعة الحرية على اثنين قيمتهما دون الثلث عتقا ثم أعيدت لتكميل الثلث فإذا وقعت على واحد كملت الحرية منه فحصل ما ذكرناه من التبعيض والتكرار، ولأن قسمتهم بين المشتركين فيهم أنما يعدلون فيها بالقيمة دون الأجزاء فعلى هذا تجعل الذي قيمته ألف جزءاً والاثنين اللذين قيمتهما ألف جزءاً والثلاثة الباقين جزءاً ثم يقرع بينهم على ما ذكرنا.
(المسألة الخامسة) أمكن تعديلهم بالعدد دون القيمة كستة أعبد قيمة اثنين ألف وقيمة اثنين سبعمائة وقيمة اثنين خمسمائة فههنا تجزئهم بالعدد لتعذر تجزئتهم بالقيمة فتجعل كل اثنين جزءاً وتضم كل واحد
ممن قيمتهما قليلة إلى واحد ممن قيمتهما كثيرة وتجعل المتوسطين جزءاً وتقرع بينهم فإن وقعت قرعة الحرية على حر قيمته أكثر من الثلث أعيدت القرعة بينهما فعتق من تقع له قرعة الحرية ويعتق من الآخر تتمة الثلث ويرق باقيه والباقون وإن وقعت الحرية على جزء أقل من الثلث عتقا جميعاً ثم يكمل الثلث من الباقين بالقرعة (المسألة السادسة) لم يمكن تعديلهم بالعدد ولا بالقيمة كخمسة أعبد قيمة أحدهم ألف واثنان(12/301)
ألف واثنان ثلاثة الآف فيحتمل أن تجزئهم ثلاثة أجزاء فتجعل أكثرهم قيمة جزءاً وتضم إلى الثاني أقل الباقين قيمة وتجعلهما جزءاً والباقين جزءاً وتقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق لأن هذا أقرب إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ويعدل الثلث بالقيمة على ما تقدم ويحتمل أن لا يجزئهم بل يخرج القرعة على واحد واحد حتى يستوفى الثلث فيكتب خمس رقاع بأسمائهم ثم يخرج رقعة على الحرية فمن خرج اسمه فيها عتق ثم يخرج الثانية فمن خرج اسمه فيها عتق منه تمام الثلث (مسألة) (وإن كانوا ثمانية فإن شاء أقرع بينهم بسهمي حرية وخمسة رق وسهم لمن ثلثاه حر وإن شاء جزأهم أربعة أجزاء فأقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق ثم أعاد القرعة لأخراج من ثلثاه حر وإن فعل غير ذلك جاز بأن يجعل ثلاثة جزءاً وثلاثة جزءاً واثنين جزءاً فإن خرجت على الاثنين عتقا وكمل الثلث بالقرعة من الباقين وإن خرجت الثلاثة أقرع بينهم بسهمي حرية وسهم رق فإن كان جميع ماله عبدين أقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي رق على كل حال (فصل) قد ذكرنا أنه إذا كان للمعتق مال غير العبيد مثلا قيمة العبيد عتقوا جميعهم لخروجهم من الثلث وإن كان أقل من مثليهم عتق من العبيد قدر ثلث المال كله فإذا كان العبيد نصف المال عتق ثلثاهم وإن كانوا ثلثي المال عتق نصفهم وإن كانوا ثلاثة أرباعه عتق أربعة أتساعهم وطريقه أن تضرب(12/302)
قيمة العبيد في ثلاثة ثم تنسب إليه مبلغ التركة فما خرج بالنسبة عتق من العبيد مثلها فإذا كانت قيمة العبيد ألفاً وباقي التركة ألفين ضربت قيمة العبيد في ثلاثة تكن ثلاثة الآف ثم تنسب إليها الألفين تكن ثلثيها
فيعتق ثلثاهم وإن كانت قيمة العبيد ثلاثة الآف وباقي التركة الف ضربنا قيمتهم في ثلاثة تكن تسعة وتنسب إليها التركة كلها تكن أربعة أتساعها وإن كانت قيمتهم أربعة الآف وباقي التركة ألف ضربت قيمتهم في ثلاثة تكن اثني عشر وتنسب إليها خمسة الآف تكن ربعها وسدس فيعتق ربعهم وسدسهم (فصل) فإن كان على الميت دين يحيط ببعض التركة قدم الدين لأن العتق وصيه وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية ولأن قضاء الدين واجب وهذا تبرع وتقديم الواجب متعين فإن كان الدين بقدر نصف العبيد جعلوا جزأين وكتب رقعتان رقعة للدين ورقعة للتركة ويخرج واحد منهما على أحد الجزأين فمن خرجت عليه رقعة الدين بيع فيه وكان الباقي جميع التركة يعتق ثلثهم بالقرعة على ما تقدم وإن كان الدين بقدر ثلثهم كتب ثلاث رقاع رقعة للدين واثنتان للتركة وإن كان بقدر ربعهم كتب أربع رقاع رقعة للدين وثلاث للتركة ثم يقرع بين من خرجت له رقاع التركة وإن كتب رقعة للدين ورقعة للحرية ورقعتين للتركة جاز وقيل لا يجوز لئلا تخرج رقعة الحرية قبل قضاء الدين والأول أصح لأنه انما إنما يمنع من قبل قضاء الدين إذا لم يكن له وفاء فأما إن كان له وفاء لم يمنع منه بدليل ما لو كان العتق في أقل من ثلث الباقي بعد وفاء الدين فإنه لا يمنع من العتق قبل وفائه(12/303)
(مسألة) (وإن اعتق عبدين قيمة أحدهما مائتان والآخر ثلثمائة فأجاز الورثة عتقهما عتقا وإن لم يجز الورثة عتق ثلثهما وكمل الثلث في أحدهما فتجمع قيمتهما فتكون خمسمائة ثم يقرع بينهما فمن خرج له سهم الحرية ضربنا قيمته في ثلاثة ونسبنا قيمتهما إلى المرتفع بالضرب فما خرج من النسبة عتق من العبد بقدره فإن وقعت على الذي قيمته مائتان ضربنا في ثلاثة صار ستمائة ونسبنا قيمتهما إلى ذلك تكن خمسة أسداسه فيعتق منه كذلك وإن وقعت على الآخر ضربنا قيمته في ثلاثة تكن تسعمائة ونسبنا قيمتهما وهي خمسمائة إلى ذلك نجدها خمسة اتساعه فيعتق منه ذلك وهو ثلث الجميع) لاننا إذا ضربنا قيمة العبدين وهي خمسمائة في ثلاثة كانت ألفاً وخمسمائة وهي جميع المال فالخمسمائة بالنسبة إليها ثلث وبالنسبة إلى الذي قيمته مائتان خمسة أسداسه بعد الضرب وإلى الآخر خمسة اتساعه وكل شئ أتى من هذا فسبيله أن يضرب في ثلاثة ليخرج بلا كسر وهذا قول من يرى
جميع العتق في بعض العبيد بالقرعة وعند أبي حنيفة ومن وافقه يعتقان فيستسعيان في باقي قيمتهما وقد مضى الكلام معهم والله أعلم (مسألة) (وإن اعتق واحداً من ثلاثة أعبد غير معين فمات أحدهم في حياة السيد أقرع بينه وبين الحيين فإن وقعت رقعة العتق على الميت رق الآخران) لأن القرعة يبين بها من وقع عليه العتق فوجب أن يقرع بيتهم كما لو كانوا احياء فإذا وقعت القرعة على الميت تبين رق الآخرين لأن الحرية إنما تقع على المعتق وهذان لم يعتق واحد منهما وإن وقعت على أحد الحيين عتق إن خرج من الثلث وقد سبق شرح هذا فيما إذا قال أحد عبدي حر وذكرنا الخلاف فيه وإن أعتق الثلاثة في مرضه فمات أحدهم في حياة السيد فكذلك في قول أبي بكر لأن الحرية إنما تنفذ في الثلث فاشبه ما لو أعتق واحداً منهم قال شيخنا والأولى أن يقرع بين الحيين ويسقط حكم الميت لأنه اعتق الثلاثة والاعتبار في خروجه من الثلث بحالة الموت وحالة الموت إنما كان له(12/304)
العبد ان الحيان وهما كل ما له فيقرع بينهما فمن وقعت عليه القرعة عتق إن خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وإن بقي من الثلث شئ بعد عتقه عتق من الآخر بقدر ما بقي من الثلث وصار بمنزلة ما لو أعتق العبدين في مرضه ولم يكن له مال غيرهم (فصل) إذا دفع العبد إلى رجل مالاً فقال اشترني من سيدي بهذا المال فأعتقني ففعل لم يخل من أن يشتريه بعين المال أو في ذمته ثم ينقد المال فإن اشتراه في ذمته ثم أعتقه صح الشراء ونفذ العتق لأنه ملكه بالشراء فنفذ عتقه له وعلى المشتري أداء الثمن الذي اشتراه به لأنه لزمه الثمن بالبيع والذي دفعه إلى السيد كان ملكاً له لا يحتسب له به من اليمن فبقي الثمن واجباً عليه يلزمه اداؤه وكان العتق من ماله والولاء له وبه قال الشافعي وابن المنذر فأما إن اشتراه بعين المال فالشراء باطل ولا يصح العتق لأنه اشترى بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه فلم يصح الشراء ولم ينفذ العتق لأنه اعتق مملوك غيره بغير إذنه ويكون السيد قد أخذ ماله لأن ما في يد العبد محكوم به لسيده فأما على الرواية التي تقول إن النقود لا تتعين بالتعيين فإنه يكون الحكم فيه كما لو اشتراه في ذمته ونحو هذا قال
النخعي وإسحاق فإنهما قالا الشراء والعتق جائزان ويرد المشتري مثل الثمن من غير تفريق وقال الحسن البيع والعتق باطلان وقال الشعبي لا يجوز ذلك ويعاقب من فعله من غير تفريق أيضاً وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وفيه توسط بين المذهبين فكان أولى أو شاء الله تعالى (فصل) ولو كان العبد بين شريكين فأعطى العبد لأحدهما خمسين ديناراً على أن يعتق نصيبه منه فأعتقه عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسراً ورجع عليه شريكه بنصف الخمسين وبنصف قيمة العبد لأن ما في يد العبد يكون بين سيديه لا ينفرد به أحدهما عن الآخر إلا أن نصيب المعتق ينفذ فيه(12/305)
العتق وإن كان العوض مستحقاً إذ لم يقع العتق على عينها وإنما سمى خمسين ثم دفعها إليه وإن أوقع العتق على عينها يجب أن يرجع على العبد بقيمة ما أعتقه بالعوض المستحق ويسري العتق إلى نصيب شريكه ويكون ولاؤه للمعتق (فصل) ولو وكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه فقال الوكيل نصيبي حر عتق وسرى إلى نصيب شريكه والولاء له وإن أعتق نصيب الموكل عتق وسرى إلى نصيبه إن كان موسراً والولاء للموكل فإن أعتق نصف العبد ولم ينو شيئاً احتمل أن ينصرف إلى نصيبه لأنه لا يحتاج إلى نية ونصيب شريكه يفتقر إلى النية ولم ينو ويحتمل أن ينصرف إلى نصيب شريكه لأنه أمره بالإعتاق فانصرف إلى ما أمر به، ويحتمل أن ينصرف إليهما لأنهما تساويا وأيهما حكمنا بالعتق عليه ضمن نصيب شريكه، ويحمل أن لا يضمن لأن الوكيل إذا أعتق نصيبه فسرى إلى نصيب شريكه لم يضمنه لأنه مأذون له في العتق، وقد أعتق بالسراية فلم يضمن كمن أذن له في اتلاف شئ فأنه لا يضمنه وإن أتلفه بالسراية، وإذا عتق نصيب شريكه لم يلزم شريكه الضمان لأنه مباشر لسبب الإتلاف فلم يجب له ضمان ما تلف به كما لو قال له أجنبي أعتق عبدك فأعتقه(12/306)
(باب التدبير) وهو تعليق العتق بالموت وسمي تدبيراً لأن الوفاة دبر الحياة يقال دابر الرجل يدابر مدابرة إذا
مات فسمي العتق بعد الموت تدبيراً والأصل فيه السنة والإجماع أما السنة فما روى جابر أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يشتريه مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه، وقال (أنت أحوج منه) متفق عليه وقال ابن النمذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبر عبده أو أمته ولم يرجع عن ذلك حتى مات والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه وإنفاذ وصاياه إن كان وصى وكان السيد بالغاً جائز الأمر أنه تجب له لحرية أولها (مسألة) (ويعتبر من الثلث) إنما يعتق المدبر إذا خرج من الثلث في قول أكثر أهل العلم يروي ذلك عن علي وابن عمر وبه قال شريح وابن سيرين والحسن وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري وقتادة وحماد ومالك وأهل المدينة والثوري واهل العراق والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي(12/307)
وروى ابن مسعود ومسروق ومجاهد والنخعي وسعيد بن جبير أنه يعتق من رأس المال قياساً على أم الولد وكما لو أعتق في الصحة ولنا أنه تبرع بعد الموت فكان من الثلث كالوصية ويفارق العتق في الصحة فإنه لم يتعلق به حق غير المعتق فنفذ في الجميع كالهبة المنجزة والاستيلاد أقوى من التدبير لأنه ينفذ من المجنون بخلاف التدبير، ونقل حنبل عن أحمد أنه يعتق من رأس المال ولا عمل عليها قال أبو بكر هذا قول قديم رجع عنه إلى ما رواه الجماعة (فصل) فإن اجتمع العتق في المرض والتدبير قدم العتق لأنه أسبق فإن اجتمع التدبير والوصية بالعتق تساويا لأنهما جميعاً عتق بعد الموت ويحتمل أن يقدم التدبير لأن الحرية تقع فيه عقيب الموت من غير تأخر والوصية تقف على الإعتاق بعده (مسألة) (ويصح من كل من تصح وصيته) لأنه تبرع بالمال بعد الموت أشبه الوصية وقال الخرقي يصح تدبيره إذا جاوز العشر وكان بعرف
التدبير وكذلك الجارية إذا جاوزت التسع وقال الشاففي في أحد قوليه يصح تدبير الصبي المميز قال بعض أصحابه هو أصح قوليه وهو إحدى الروايتين عن مالك وروي ذلك عن شريح وعبد الله بن عتبة وقال الحسن وابو حنيفة لا يصح تدبيره وهو إحدى الروايتين عن مالك والقول الثاني للشافعي لأنه لا يصح اعتاقه فلم يصح تدبيره كالمجنون(12/308)
ولنا أن عمر رضي الله عنه أجاز وصية غلام من الانصار لاخواله من غسان بأرض يقال لها بئر جشم قومت ثلاثين ألفاً رواه سعيد بن منصور وكان الغلام ابن عشر سنين وروي اثنتي عشرة ولم يعرف له مخالف والتدبير في معنى الوصية وقد ذكرنا ذلك في كتاب الوصايا ويخالف التدبير العتق في الحياة لأن فيه تفويتاً لماله في حياته ووقت حاجته والوصية والتدبير لا ضرر عليه فيهما فإنه إن عاش لم يذهب شئ من ماله وإن مات فهو غير مستغن عن الثواب فيكون ذلك زيادة في رفع درجته وإنما خص الخرقي ابن عشر سنين لأنه يؤمر بالصلاة والجارية بتسع لقول عائشة إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة ولأنه سن يمكن بلوغها فيه ويتعلق به أحكام غير ذلك فأما المجنون فلا يصح شئ من تصرفاته فلذلك لم يصح تدبيره ويصح تدبير المحجور عليه للسفه لما ذكرنا في الصبي بل هو أولى بالصحة من الصبي لأنه مكلف وحاجته إلى الثواب أكثر من حاجة الصبي وصحة تدبير السكران مبنية على صحة وصيته وقد ذكرناه وكل من صح تدبيره فهو كالمكلف في صحة رجوعه قياسا علته (فصل) ويصح تدبير الكافر ذمياً كان أو حربياً في دار الإسلام وغيرها لأن له ملكاً صحيحاً فصح تصرفه فيه كالمسلم فإن قيل لو كان ملكه صحيحاً لم يملك عليه بغير اختياره قلنا هذا لا ينافي الملك بدليل أنه يملك في النكاح وتملك عليه زوجته بغير اختياره، وحكم تدبيره حكم تدبير المسلم على ما نذكره(12/309)
(مسألة) وصريحه لفظ العتق والحرية المعلقين بالموت كقوله أنت حر أو عتيق أو معتق أو محرر بعد موتي فيصير بذلك مدبراً بلا خلاف نعلمه)
وكذلك إن قال أنت مدبر أو قد دبرتك فإنه يصير مدبراً بمجرد اللفظ وإن لم ينوه هذا منصوص الشافعي وقال أصحابه فيه قول آخر إنه ليس بصريح يفتقر إلى النية لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما فافتقرا إلى النية كالكنايات ولنا أنهما لفظان وضعا لهذا العقد فلم يفتقر إلى النية كالبيع بخلاف الكنايات فإنها غير موضوعة له ويشاركها فيه غيرها فافتقرت إلى النية للتعيين وترجيح أحد المحتملين بخلاف الموضوع فإنه لا يفتقر إلى النية كلفظ العتق (مسألة) (ويصح مطلقاً ومقيداً) فالمطلق تعليق العتق بالموت من غير شرط آخر والمقيد ضربان أحدهما خاص مثل أن يقول إن مت من مرضي هذا أو في بلدي هذا أو في عامي هذا فأنت حر فهذا جائز على ما قال إن مات على الصفة التي شرطها عتق العبد وإلا فلا وقال مهنا سألت أحمد عمن قال لعبده أنت مدبر قال يكون مدبراً ذلك اليوم فإن مات في ذلك اليوم صار حراً يعني إذا مات السيد (الثاني) أن يعلق التدبير على صفة مثل أن يقول إن دخلت الدار فلت مدبر أو إن قدم زيد أو إن شفى الله مريضي فأنت حر بعد موتي فهذا لا يصير مدبراً في الحال لأنه علق التدبير على شرط(12/310)
فإذا وجد صار مدبراً وعتق بموت سيده وإن لم يوجد في حياة السيد ووجد بعد موته لم يعتق لأن إطلاق الشرط يقتضي وجوده في الحياة بدليل ما لو علق عليه عتقاً منجزاً فقال إذا دخلت الدار فأنت حر فدخلها بعد موته لم يعتق ولان المدير من علق عتقه بالموت وهذا قبل الموت لم يكن مدبراً وبعد الموت لا يمكن حدوت التدبير فيه (فصل) فإن قال لعبد إذا قرأت القرآن فأنت حر بعد موتي فقرأ القرآن جميعه صار مدبراً وإن قرأ بعضه لم يصر مدبراً، وإن قال إذا قرأت قرآنا فأنت حر بعد موتي فقرأ بعض القرآن صار مدبراً لأنه في الأولى عرفه بالألف واللام المقتضية للاستغراق فعاد إلى جميعه وههنا نكره فاقتضى بعضه فإن قيل فقد قال الله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - وإذا قرأت
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) ولم يرد القرآن جميعه قلنا قضية اللفظ تتناول جميعه لأن الألف واللام للاستغراق وإنما حمل على بعضه بدليل فلا يحمل على البعض في غير ذلك الموضع بغير دليل ولأن قرينة الحال تقتضي قراءة جميعه لأن الظاهر أنه أراد ترغيبه في قراءة القرآن فتتعلق الحرية به أو مجازاته على قراءته بالحرية والظاهر أنه لا يجازي بهذا لامر الكثير ولا يرغب به إلا فيما يشق اما قراءة آية أو آيتين فلا (مسألة) (وإن قال متى شئت فأنت مدبر أو أنت حر بعد موتي أو إذا شئت أو أي وقت شئت فهو تدبير بصفة فمتى شاء في حياة سيده صار مدبراً يعتق بموته) لأن المشيئة هنا على التراخي فمتى وجدت المشيئة وجد الشرط فهو كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فدخلها في حياة السيد وإن مات السيد قبل مشيئته بطلت الصفة كما لو مات في(12/311)
في المسألة الأخرى قبل دخول الدار وإن قال متى شئت بعد موتي فأنت حر أو أي وقت شئت بعد موتي فهو تعليق للعتق على صفة بعد الموت وقد ذكرنا أنه لا يصح، وقال القاضي يصح فعلى قوله يكون ذلك التراخي فمتى شاء بعد موت سيده عتق وما كسب قبل مشيئته فهو لورثة سيده لأنه عبد قبل ذلك بخلاف الموصى به فإن في كسبه قبل القبول وجهين (أحدهما) يكون للموصي له لأنا تبينا ملكه حين الموت وههنا لا يثبت الملك قبل المشيئة وجهاً واحداً لأنه عتق معلق على شرط فلا يثبت العتق قبل الشرط وجهاً واحداً (مسألة) (وإن قال إن شئت فأنت مدبر فقياس المذهب أنه على التراخي كقوله متى شئت) وقال أبو الخطاب أن شاء في المجلس صار مدبراً وإلا فلا وكذلك قال القاضي في قوله إذا شئت وإن شئت فأنت حر بعد موتي على أنه على الفور إن شاء في المجلس صار مدبراً وإلا بطلت الصفة ولم يصر مدبراً بالمشيئة بعده بناء على قوله اختاري نفسك فإنه يقف على المجلس وهذا في معناه، وإن قال إن شئت بعد موتي أو إذا شئت بعد موتي فأنت حر كان على الفور أيضاً فمتى شاء عقيب موت سيده أو في المجلس صار حراً وإن تراخت مشيئته عن المجلس لم يثبت فيه حرية وذكر في الطلاق أنه إذا
قال أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فشاءا معاً وقع الطلاق سواء شاء على الفور أو التراخي أو شاء أحدهما على الفور والآخر على التراخي وهذا مثله فيخرج في كل مسألة مثل ما ذكره في الآخرى(12/312)
(فصل) وإذا قال لعبده إذا مت فأنت حر أولا؟ أو قال فأنت حر؟ أو لست بحر؟ لم يصر مدبراً لأنه استفهام ولم يقطع بالعتق فهو كما لو قال لزوجته أنت طالق أولا؟ وسنذكر ذلك في الطلاق (مسألة) (وإذا قال قد رجعت في تدبيري أو أبطلته لم يبطل لأنه تعليق للعتق بصفة وعنه أنه يبطل كالوصية) اختلفت الرواية عن أحمد في بطلان التدبير بالرجوع فيه قولاً فالصحيح أنه لا يبطل لأنه علق العتق بصفة فلا يبطل كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر (والثانية) يبطل لأنه جعل له نفسه بعد موته فكان ذلك وصية فجاز الرجوع فيه بالقول كما لو وصى له بعبد آخر وهو قول الشافعي القديم وقوله الجديد كالرواية الأولى وهو الصحيح كتعليقه بصفة في الحياة ولا يصح القول بأنه وصيه به لنفسه لأنه لا يملك نفسه وإنما تحصل فيه الحرية ويسقط عنه الرق ولهذا لا تقف الحرية على قبوله واختياره وتنجز عقيب الموت كتنجيزها عقيب سائر الشروط ولأنه غير ممتنع أن يجمع الامرين فيثبت فيه حكم التعليق في امتناع الرجوع ويجتمعان في حصول العتق بالموت.(12/313)
(فصل) إذا قال السيد لمدبره إذا أديت إلى ورثتي كذا فأنت حر فهو رجوع عن التدبير وينبني على الروايتين إن قلنا إن له الرجوع بالقول بطل التدبير وإن قلنا ليس له الرجوع لم يؤثر هذا القول شيئاً، وإن دبره كله ثم رجع في نصفه صح إذا قلنا بصحة الرجوع في جميعه لأنه لما صح أن يدبر نصفه ابتداء صح أن يرجع في تدبير نصفه وإن غير التدبير فكان مطلقاً فجعله مقيداً إن قلنا يصح الرجوع وإلا فلا فإن كان مقيداً فأطلقه صح على كل حال لأنه زيادة فلا يمنع منها وإذا دبر الأخرس وكانت إشارته أو كتابته معلومة صح تدبيره ويصح رجوعه ان قلنا بصحة الرجوع في التدبير لإن إشارته وكتابته تقوم مقام نطق الناطق في أحكامه وإن دبر وهو ناطق ثم خرس صح رجوعه باشارته
المعلومة أو كتابته وإن لم تفهم إشارته فلا عبرة بها لأنه لا يعلم رجوعه (فصل) وإذا رهن المدبر لم يبطل تدبيره لأنه تعليق للعتق بصفة فإن مات السيد وهو رهن عتق وأخذ من تركته قيمته فتكون رهناً مكانه لأن عتقه بسبب من جهة سيده فأشبه ما لو باشره بالعتق ناجزاً.
(فصل) وإن ارتد المدبر ولحق بدار الحرب لم يبطل تدبيره لأن ملك سيده باق عليه ويصح تصرفه فيه بالعتق والهبة والبيع إن كان مقدوراً عليه فإن سباه المسلمون لم يملكوه لأنه مملوك لمعصوم ويرد إلى سيده إن علم به قبل قسمه ويستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن لم يعلم به حتى قسم لم يرده(12/314)
إلى سيده في أحدى الروايتين والأخرى إن اختار سيده أخذه بالثمن الذي حسب به على آخذه أخذه وإن لم يختر أخذه بطل تدبيره ومتى عاد إلى سيده بوجه من الوجوه عاد تدبيره وإن لم يعد إلى سيده بطل تدبير كما لو بيع وكان رقيقاً لمن هو في يده وإن مات سيده قبل سبيه عتق فإن سبي بعد هذا لم يرد إلى ورثة سيده لأن ملكه زال عنه بحريته فصار كأحرار دار الحرب ولكن يستتاب فإن تاب وأسلم صار رقيقاً يقسم بين الغانمين وإن لم يتب قتل ولم يجز استرقاقه لأنه لا يقر على كفره.
وقال القاضي لا يجوز استرقاقه إذا أسلم.
وهو قول للشافعي لأن في استرقاقه إبطال ولاء المسلم الذي أعتقه ولنا أن هذا لا يمنع قتله وإذهاب نفسه وولائه لا يمنع تملكه أولى ولأن المملوك الذي لم يعتقه سيده يثبت الملك فيه للغانمين إذا لم يعرف مالكه بعينه ويثبت فيه إذا قسم قبل العلم بمالكه والملك آكد من الولاء فلأن يثبت مع الولاء وحده أولى فعلى هذا لو كان المدبر ذمياً فلحق بدار الحرب ثم مات سيده أو أعتقه ثم قدر عليه المسلمون فسبوه ملكوه وقسموه، وعلى قول القاضي وقول الشافعي لا يملكوه فإن كان سيده ذمياً جاز استرقاقه في قول القاضي ولأصحاب الشافعي في استرقاقه وجهان: (أحدهما) يجوز وهذا حجة عليهم لأن عصمة مال الذمي كعصمة مال المسلم بدليل قطع سارقه سواء كان مسلماً أو ذمياً ووجوب ضمانه وتحريم تملك ماله إذا أخذه الكفار ثم قدر عليه المسلمون(12/315)
فأدركه صاحبه قبل قسمه قال القاضي الفرق بينهما أن سيده ههنا لو لحق بدار الحرب جاز تملكه فجاز تملك عتيقه بخلاف المسلم قلنا إنما جاز استرقاق سيده لزوال عصمته وذهاب عاصمه وهو ذمته وعهده وأما إذا ارتد مدبره فإن عصمة ولائه ثابته بعصمة من له ولاؤه وهو والمسلم في ذلك سواء فإذا جاز إبطال أحدهما جاز في الآخر مثله (فصل) فإن ارتد سيد المدبر فذكر القاضي أن المذهب أنه يكون موقوفاً فإن عاد إلى الإسلام فالتدبير باق بحاله وإلا تبينا أن ملكه لم يزل وإن قتل أو مات على ردته لم يعتق المدبر لأنا تبينا أن ملكه زال بردته وقال أبو بكر قياس قول أبي عبد الله أن تدبيره يبطل بالردة فإن عاد إلى الإسلام استأنف التدبير وقال الشافعي التدبير باق ويعتق بموت سيده لأن تدبيره سبق ردته؟ فهو كبيعه وهبته قبل ارتداده وهذا ينبني على القول في مال المرتد هل هو باق على ملكه أو قد زال بردته، وسيذكر في باب المرتد، فأما إن دبر في حال ردته فتدبيره مراعى، وإن عاد إلى الإسلام تبينا أن تدبيره وقع صحيحاً وإن قتل أو مات تبينا أنه وقع باطلاً ولم يعتق المدبر، وقال ابن أبي موسى تدبيره باطل وهو قول أبي بكر لأن المال يزول بالردة وإذا أسلم رد إليه تملكاً مستأنفاً (مسألة) (وله بيع المدبر وهبته وإن عاد إليه عاد التدبير وعنه لا يباع إلا في الدين وعنه لاتباع الأمة خاصة) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع المدبر فنقل عنه جماعة جواز بيعه مطلقاً في الدين(12/316)
وغيره مع الحاجة وعدمها قال اسماعيل بن سعد سألت أحمد عن بيع المدبر إذا كان بالرجل حاجة إلى ثمنه فقال له أن يبيعه محتاجاً كان أو غير محتاج قال شيخنا وهذا هو الصحيح.
وروي مثل هذا عن عائشة وعمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد وهو قول الشافعي وكره بيعه ابن عمر وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وابن سيرين والزهري والثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي ومالك لأن ابن عمر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يباع المدبر ولا يشتري) ولأنه استحق العتق بموت
سيده أشبه أم الولد؟ ولنا ما روى جابر أن رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يشتريه مني؟) فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم فدفعها إليه وقال (أنت أحوج منه) متفق عليه قال جابر عبد قبطي مات عام أول في إمارة بن الزبير قال أبو إسحاق الجوزجاني صحت أحاديث بيع لمدبر ستقامة الطرق والخبر إذا ثبت استغني به عن غيره من رأي الناس ولأنه عتق بصفة ثبت بقول المعتق فلم يمنع البيع كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر ولأنه تبرع بمال بعد الموت فلم يمنع البيع في الحياة كالوصية قال أحمد هم يقولون من قال غلامي حر رأس الشهر فله بيعه قبل رأس الشهر فإن قال غداً فله بيعه اليوم وإن قال إذا مت قال لا يبيعه فالموت أكثر من الاجل ليس هذا قياساً إن جاز أن يبيعه قبل رأس الشهر فله أن يبيعه قبل محئ الموت وهم يقولون في من قال إن مت(12/317)
من مرضي هذا فعبدي حر ثم لم يمت من مرضه ذلك فليس بشئ فإن قال إن مت فهو حر لا يباع هذا متناقض إنما أصله الوصية من الثلث فله أن يغير وصيته ما دام حياً فأما خبرهم فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول ابن عمر قال الطحاوي هو عن ابن عمر وليس بمسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه أراد بعد الموت أو على الاستحباب ولا يصح قياسه على أم الولد لأن عتقها ثبت بغير اختيار سيدها وليس بتبرع ويكون من جميع المال ولا يمكن إبطاله بحال والتدبير بخلافه والهبة كالبيع لأنها تمليك في الحياة فأشبهت البيع وروي عنه رواية ثانية أنه لا يباع إلا في الدين وهو ظاهر كلام الخرقي وقال مالك لا يباع إلا في دين يغلب رقبة العبد فإذا كان العبد يساوي ألفاً وكان عليه خمسمائة لم يبع وروي عن أحمد أنه قال أنا أرى بيع المدبر في الدين وإذا كان فقيراً لا يملك شيئاً رأيت أن أبيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر لما علم أن صاحبه لا يملك شيئاً غيره، باعه النبي صلى الله عليه وسلم لما علم من حاجته وهذا قول إسحاق وأبي أيوب وأبي خيثمة وقال إن باعه من غير حاجة أجزناه وهذا مثل الرواية الأولى.
ووجه قول الخرقي والرواية التي قال أحمد أنه يرى بيعه في الدين وإذا كان صاحبه فقيراً لا يملك غيره حديث جابر المذكور فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باع المدبر عند الحاجة
فلا يتجاوز به موضع الحاجة وعن أحمد رواية رابعة أن الأمة لا تباع خاصة قال شيخنا لا نعلم هذا(12/318)
التفريق بين المدبر والمدبرة عن غير إمامنا رحمه الله وإنما احتاط في رواية المنع من بيعها لأن فيه إباحة فرجها وتسليط مشتريها على وطئها مع الخلاف في بيعها وحلها فكرة الإقدام على ذلك مع الاختلاف فيه والظاهر أن المنع منه كان على سبيل الورع لا على التحريم فإنه إنما قال لا يعجبني بيعها والصحيح جواز بيعها فإن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها ولأن المدبرة في معنى المدبر فما ثبت فيه ثبت فيها (مسألة) (وإن عاد إليه عاد التدبير) لأنه علق عتقه بصفة فإذا باعه ثم عاد إليه عادت الصفة كما لو قال أنت حر إن دخلت الدار فباعه ثم اشتراه وذكر القاضي أن هذا مبني على أن التدبير تعليق بصفة وفيه رواية أخرى أنه وصية فيبطل بالبيع ولا يعود لأنه لو وصى بشئ ثم باعه بطلت الوصية ولم تعد بشرائه وهذا مذهب الشافعي إلا أن عود الصفة بعد الشراء له فيه قولان والصحيح أن الصفة تعود بعوده إلى ملكه لأن التدبير وجد فيه التعليق بصفة فلا يزول حكم التعليق بوجود معنى الوصية فيه بل هو جامع لأمرين وغير ممتنع وجود الحكم بسببين فيثبث حكمهما فيه (مسألة) (وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فهو بمنزلتها ولا يتبعها ولدها من قبل التدبير) وجملة ذلك أن الولد الحادث من المدبرة بعد تدبيرها لا يخلو من حالين (أحدهما) أن يكون موجوداً حال تدبيرها ويعلم ذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من حين التدبير فهذا يدخل معها في(12/319)
التدبير بغير خلاف لأنه كعضور من أعضائها فإن بطل التدبير في الأم لبيع أو موت أو رجوع بالقول لم يبطل في الولد لأنه ثبت أصلاً (الحال الثاني) أن تحمل به بعد التدبير فهذا يتبع أمه في التدبير ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيدها في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والثوري والحمن ابن صالح وأصحاب الرأي وذكر القاضي أن حنبلاً نقل عن أحمد أن ولد المدبرة عبد إذا لم يشرط
المولى قال فظاهر هذا أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وللشافعي قولان كالمذهبين (أحدهما) لا يتبعها وهو اختيار المزني لأن عتقها يتعلق بصفة ثبت بقول المعتق وحده فأشبهت من عاق عتقها بدخول الدار قال جابر بن زيد إنما هو بمنزلة الحائط تصدقت به إذا مت فإن ثمرته لك ما عشت ولأن التدبير وصية وولد الموصى بها قبل الموت لسيدها ولنا ما روي عن عمر وابن عمر وجابر أنهم قالوا ولد المدبرة بمنزلتها ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفاً فكان أجماعاً ولأن الأم استحقت الحرية بموت سيدها فيتبعها ولدها كأم الولد ويفارق التعليق بصفة في الحياة والوصية لأن التدبير آكد من كل واحد منهما لأنه اجتمع فيه الأحرار وما وجد فيه سببان آكد مما وجد فيه أحدهما ولذلك لا يبطل بالموت ولا بالرجوع عنه فعلى هذا إن بطل التدبير في الأم لمعنى اختص بها من بيع أو موت أو رجوع لم يبطل في ولدها ويعتق بموت سيدها كما لو كانت(12/320)
أمه باقية على التدبير فإن لم يتسع الثلث لهما جميعاً أقرع بينهما قايهما خرجت القرعة له عتق إن احتمله الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وإن فضل من الثلث بعد عتقه شئ كمل من الآخر كما لو دبر عبداً أو أمة معاً فأما الولد الذي وجد قبل التدبير فلا يتبعها فإنه لا يتبع في العتق المنجز ولا في حكم الاستيلاد ولا في الكتابة فان لا يتبع في التدبير أولى قال الميموني قلت لأحمد ما كان من ولد المدبرة قبل أن تدبر قال لا يتبعها من ولدها ما كان قبل ذلك إنما يتبعها ما كان بعد ما دبرت وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أنه يتبعها في التدبير كالموجود بعده لأن حنبلاً قال سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد قال ولدها معها قال شيخنا وهذا بعيد والظاهر أن أحمد إنما أراد ولدها بعد التدبير على ما صرح به في غير هذه الرواية فإن ولدها لا يتبعها في شئ من الأسباب التي تنقل الملك في الرقبة من البيع والهبة والوقف ولا يتبعها في الاستيلاد الذي هو آكد من التدبير فإن لا يتبعها في التدبير أولى (فصل) فأما ولد المدبر فحكمه حكم أمه بغير خلاف علمناه وهو قول ابن عمر وعطاء والزهري والاوزاعي والليث لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فان تسرى المدبر بإذن سيده فولد له فروي عن أحمد أنهم يتبعونه في التدبير وروي ذلك عن مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن
اباحة التسري تبنى على ثبوت الملك وولد الحر من امته يتبعه في الحرية دون أمه كذلك ولد المدبر(12/321)
امته يتبعه دونها ولانه ولد من يستحق الحرية من أمته فيتبعه في ذلك كولد المكاتب من أمته (فصل) وإذا ولدت المدبرة فرجع في تدبيرها وقلنا بصحة الرجوع لم يتبعها ولدها لأن الولد المنفصل لا يتبع في الحرية ولا في التدبير ففي الرجوع أولى فإن رجع في تدبيرهما جاز كما لو دبرها وابنه المنفصل وإن دبرها حاملاً ثم رجع في تدبيرها حال حملها لم يتبعها الولد في الرجوع لأن التدبير إعتاق والإعتاق مبني على التغليب والسراية والرجوع عنه بعكس ذلك فلم يتبع الولد فيه وهذا كما لو ولد له توأمان فأقر بأحدهما لحقاه جميعاً وإن نفى أحدهما لم ينتف الآخر وإن رجع في أحدهما دون الآخر جاز وإن دبر الولد دون أمه أو الأم دون ولدها جاز لأنه يجوز أن يعتق كل واحد منهما دون صاحبه فجواز أن يدبر أحدهما دون صاحبه أولى ولأنه تعليق العتق بصفة فجاز في أحدهما دون الآخر كالتعليق بدخول الدار وإن دبر أمته ثم قال إن دخلت الدار فقد رجعت في تدبيري لم يصح لأن الرجوع لا يصح تعليقه بصفة وإن قال كلما ولدت ولداً فقد رجعت في تدبيره لم يصح لذلك (فصل) إذا اختلفت المدبرة وورثة سيدها في ولدها فقالت ولدتهم بعد تدبيري فعتقوا معي وقال الورثة بل ولدتهم قبل تدبيرك فهم مملوكون لنا فالقول قول الورثة مع إيمانهم لأن الأصل بقاء رقهم وانتفاء الحرية عنهم فإذا لم تكن بينة فالقول قول من يوافق قوله الأصل (فصل) وكسب المدبر في حياة سيده لسيده لم أخذه منه لأن التدبير لا يخرج عن شبهه بالوصية بالعتق أو بالتعليق له على صفة أو بالاستيلاد وكل هؤلاء كسبهم لسيدهم فكذلك المدبر فإن اختلف(12/322)
هو وورثة سيده فما بيده بعد عتقه فقال كسبته بعد حريتي وقالوا بل قبلها فالقول قوله لأنه في يده ولم يثبت ملكهم عليه بخلاف الولد فإنه كان رقيقاً لهم فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الورثة عند من يرى تقديم بينة الخارج وبينة المدبر عند من يقدم بينة الداخل فإن أقر المدبر أن ذلك كان في يده في حياة سيده ثم تجدد ملكه عليه بعد موته فالقول قول الوارث لأن الأصل معهم
وإن أقام المدبر بينة بدعواه قبلت وتقدم على بينة الورثة إن كانت لهم بينة لأن بينته تشهد بزيادة وإن لم يقر المدبر بأنه كان له في حياة سيده فاقام الورثة بينة به فهل تسمع بينتهم؟ على وجهين (مسألة) (وله إصابة مدبرته فإن أولدها بطل تدبيرها) .
يباح وطئ أمته المدبرة، وقد روي عن ابن عمر أنه دبر امتين وكان يطؤهما وممن رأى ذلك ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري ومالك والليث والاوزاعي والشافعي قال أحمد لا أعلم أحداً كره ذلك غير الزهري وحكي عن الأوزاعي أنه كان يقول إن كان يطؤها قبل تدبيرها فلا بأس بوطئها بعده وإن كان لا يطؤها قبله لم يطأها بعد التدبير.
ولنا أنها مملوكته لم تشتر نفسها منه فحل له وطؤها لقول الله تعالى (أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وقياساً على أم الولد.(12/323)
(فصل) وابنة المدبرة مثلها في حل وطئها إن لم يكن وطئ أمها وعنه ليس له وطؤها لأن حق الحرية ثبت لها تبعاً أشبه ولد المكاتبة ولنا أن ملك سيدها تام فيها فحل له وطؤها للآية وكأمها واستحقاقها الحرية لا تزيد على استحقاق أمها ولم يمنع ذلك وطأها وأما ولد المكاتبة فألحقت بأمها وأمها يحرم وطؤها فكذلك ابنتها وأم هذه يحل وطؤها فيجب إلحاقها بها وكلام أحمد محمول على أنه وطئ أمها.
(فصل) فإن أولدها بطل تدبيرها لأن مقتضي التدبير العتق من الثلث بعد الموت والاستيلاد يقتضي ذلك معه تأكده وقوته فإنها تعتق من رأس المال وإن لم يملك غيرها ولا يمنع الدين عتقها فوجب أن يبطل به التدبير كملك الرقبة إذا طرأ على ملك النكاح أبطله.
(مسألة) (وإن كاتب المدبر أو دبر المكاتب جاز) .
أما تدبير المكاتب فهو صحيح، لا نعلم فيه خلافاً لأنه تعليق لعتقه بصفة وهو يملك إعتاقه فملك التعليق وإن كان وصية فهو وصية بما ملك وهو الإعتاق وتصح كتابة المدبر، نص عليه أحمد وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة والحسن ولفظ حديث أبي هريرة عن مجاهد قال دبرت امرأة من
قريش خادماً لها ثم أرادت أن تكاتبه قال فكنت الرسول إلى أبي هريرة فقال كاتبيه فإن أدى كتابته فذاك وإن حدث بك حدث عتق وأراه قال ما كان عليه له، ولأن التدبير إن كان عتقاً بصفة(12/324)
لم يمنع الكتابة كالذي علق عتقه بدخول الدار وإن كان وصية لم يمنعها كما لو وصى بعتقه ثم كاتبه ولأن التدبير والكتابة سببان للعتق فلم يمنع أحدهما الآخر كتدبير المكاتب، وذكر القاضي أن التدبير يبطل بالكتابة إذا قلنا هو وصية كما لو وصى به لرجل ثم كاتبه وهذا يخالف ظاهر كلام أحمد وهو غير صحيح في نفسه، ويفارق التدبير الوصية به لرجل، لأن مقصود الكتابة والتدبير لا يتنافيان إذ كان المقصود منهما جميعاً العتق فإذا اجتمعا كانا آكد لحصوله فإنه متى فات عتقه بأحدهما حصل بالآخر وأيهما وجد قبل صاحبه حصل العتق به ومقصود الوصية به والكتابة يتنافيان لأن الكتابة تراد للعتق والوصية تراد لحصول الملك فيه للموصي له ولا يجتمعان.
(مسألة) (فإن أدى عتق بالكتابة وبطل التدبير وإن مات سيده قبل الأداء عتق إن حمل الثلث ما بقي من كتابة وبطلت الكتابة وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق منه وكان على الكتابة فيما بقي.
(فصل) ومتى عتق بالتدبير كان ما في يده لسيده لأنه كان له قبل العتق فيكون له بعد العتق كما لو لم يكن مكاتباً وبطلت الكتابة ذكره أصحابنا ومذهب الشافعي أن ما في يده له إذا لم يكن عجز، قال شيخنا وعندي أنه ينبغي أن يعتق ويتبعه ولده وإكسابه لأن السيد لا يملك إبطال كتابته لكونها عقداً لازماً من جهته وإنما يملك اسقاط حقه عليه فأما ما يستحقه المكاتب من أولاده وإكسابه(12/325)
فلا يتمكن السيد من أخذه ويصير كما لو أبرأه من مال الكتابة ويحتمل أن يريد بالبطلان زوال العقد دون سقوط احكامه.
(مسألة) (وإذا دبر شركا له في عبد لم يسر إلى نصيب شريكه وإن أعتق شريكه سرى إلى المدبر وغرم قيمته لسيده ويحتمل أن يسري في الأول دون الثاني) .
وجملة ذلك أنه إذا دبر أحد الشريكين نصيبه لم يسر التدبير إلى نصيب شريكه موسراً كان أو معسراً، وذكر أبو الخطاب وجهاً أنه يسري تدبيره إذا كان موسراً ويقوم عليه نصيب شريكه، وهو قول أبي حنيفة، لأنه استحق العتق بموت سيده فسرى ذلك فيه كالاستيلاد وللشافعي قولان كالمذهبين.
ولنا أنه تعليق للعتق بصفة فلم يسر كتعليقه بدخول الدار ويفارق الاستيلاد فإنه آكد ولهذا يعتق من جميع المال ولو قتلت سيدها لم يبطل حكم استيلادها والمدبر بخلاف ذلك فعلى هذا إن مات المدبر عتق نصيبه أن خرج من الثلث وهل يسري إلى نصيب شريكه إن كان موسراً فيه روايتان ذكرناهما في كتاب العتق فإن أعتق الشريك نصيبه قبل موت السيد وهو موسر عتق وسرى إلى نصيب المدبر، وذكر القاضي وابو الخطاب فيه وجهين وللشافعي فيها قولان.
(أحدهما) كقولنا (والثاني) لا يسري عنقه وهو قول أبي حنيفة، لأن في المدبر قد انعقد سبب الولاء على العبد فلم يكن للآخر إبطاله.(12/326)
ولنا حديث ابن عمر الذي ذكرناه في سراية العتق إلى نصيب الشريك إذا كان موسراً ولأنه إذا سرى إلى إبطال الملك الذي هو آكد من الولاء فالولاء أولى وما ذكروه لا أصل له ويبطل بما إذا علق عتق نصيبه بصفة.
(فصل) إذا دبر كل واحد من الشريكين نصيبه فمات أحدهما عتق نصيبه وبقي نصيب الآخر على التدبير إن لم يف ثلثه بقيمة حصة شريكه وإن كان يفي به فهل يسري؟ على روايتين ذكرناهما وإن قال كل واحد منهما إذا متنا فأنت حر فقال أبو بكر قال أحمد إذا مات أحدهما فنصيبه حر فظاهر هذا أن أحمد جعل هذا اللفظ تدبيراً من كل واحد منهما لنصيبه ومعناه إذا مات كل واحد منا فنصيبه حر فإنه قابل الجملة بالجملة فينصرف إلى مقابلة البعض بالبعض كقوله ركب الناس دوابهم ولبسوا ثيابهم وأخذوا رماحهم يريد لبس كل إنسان ثوبه وركب دابته وكذلك لو قال أعتقوا عبيدهم كان معناه اعتق كل واحد عبده، وقال القاضي هذا تعليق للحرية بموتهما جميعاً وإنما قال أحمد يعتق نصيبه بناء على أن وجود بعض الصفة يقوم مقام جميعها قال شيخنا ولا يصح هذا لأنه لو كانت هذه
العلة لعتق العبد كله لوجود بعض صفة كل منهما وسنبين هذا القول بما نذكر من بعد، ومقتضي قول القاضي أن لا يعتق شئ منه قبل موتهما جميعاً، فأن قال كل واحد منهما أردت أن العبد حر بعد آخرنا موتاً انبنى هذا على تعليق الحرية على صفة توجد بعد الموت وقد ذكرنا الخلاف في ذلك فإن قلنا يجوز ذلك عتق بعد موت الآخر منهما عليهما جميعاً، وإن فلنا لا يصح عتق نصيب الآخر منهما بالتدبير وفي سرايته إلى باقيه إن كان ثلثه يحتمل ذلك روايتان، وإن قال كل واحد منهما إذا مت قبل شريكي فنصيبي له فإذا مات فهو حر وإن مت بعده فنصيبي حر فقد وصى كل واحد منهما للآخر فإذا مات أحدهما صار العبد كله للأخر فإذا مات عتق كله عليه وصار ولاؤه له كله إن قلنا لا يصح تعليق العتق على صفة بعد الموت وإن قلنا يصح عتق عليهما وولاؤه بينهما.
(مسألة)) وإذا أسلم مدبر الكافر لم يقر في يده وترك في يد عدل ينفق عليه من كسبه وما فضل لسيده وإن أعوز فعليه تمامه إلا أن يرجع في التدبير ونقول بصحة رجوعه فيجبر على بيعه) وجملته أنه إذا أسلم مدبر الكافر أمر بإزالة ملكه عنه لئلا يبقى الكافر مالكاً لمسلم كغير(12/327)
المدبر إذا قلنا بجواز بيعه ويحتمل أن يترك في يد عدل وينفق عليه من كسبه فإن لم يكن له كسب أجبر سيده على الإنفاق عليه لأنه ملكه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه بناء على أن المدبر لا يجوز بيعه ولأن في بيعه ابطال سبب العتق فكان ابقاؤه أصلح كأم الولد فإن قلنا ببيعه فباعه بطل تدبيره وإن قلنا يترك في يد عدل فإنه يستنيب من يتولى استعماله واكتسابه وينفق عليه من كسبه وما فضل فلسيده وإن لم يف كسبه بنفقته فالباقي على سيده وإن اتفق هو وسيده على المخارجة جاز وينفق على نفسه مما فضل من كسبه فإذا مات سيده عتق إن خرج من الثلث وإلا عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة إن كانوا كفاراً وإن اسلموا بعد الموت ترك فإن رجع سيده في تدبيره، وقلنا بصحة رجوعه بيع عليه وإن كان المدبر مستأمناً فأراد الرجوع به إلى دار الحرب ولم يكن، اسلم لم نمنعه منه وإن كان قد أسلم منع لأننا نحول بينه وبينه في دار الإسلام فأولى أن يمنع من التمكن منه في دار الحرب.
(مسألة) (ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه إلا بشاهدين وهل يحكم بشاهد وامرأتين أو شاهد
ويمين العبد؟ على روايتين) إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره صحت دعواه لأنه يدعي استحقاق العتق ويحتمل أن لا تصح الدعوى لأن السيد إذا انكر التدبير كان بمنزلة النكار الوصية وإنكار الوصية رجوع عنها في أحد الوجهين(12/328)
فيكون انكار التدبير رجوعاً عنه والرجوع عنه يبطله في إحدى الروايتين والصحيح أن الدعوى صحيحة لأن الرجوع عن التدبير لا يبطله في الصحيح من المذهب ولو أبطله فما ثبت كون الإنكار رجوعاً ولو ثبت ذلك فلا يتعين الانكار جواباً للدعوى فإنه يجوز أن يقرا إذا ثبت هذا فإن أقر السيد فلا كلام وإن أنكر ولم تكن للعبد بينة فالقول قول السيد مع يمينه لأن الأصل عدمه فإن كانت للعبد بينة حكم بها ويقبل فيها شاهدان عدلان بغير خلاف فإن لم يكن إلا شاهد واحد وقال أنا أحلف معه أو شاهد وامرأتان لم يحكم له به في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن الثابت به الحرية وكمال الأحكام وهذا ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال أشبه النكاح والطلاق (والثانية) بثبت بذلك لأنه لفظ يزول به ملكه عن مملوكه فاشبه البيع وهذا أجود لأن البينة إنما تراد لأثبات الحكم على المشهود عليه وهو في حقه إزالة ملكه عن ماله فيثبت بهذا وإن حصل به غرض آخر للمشهود له فلا يمنع ذلك من ثبوته بهذه البينة ولأن العتق مما يتشوف إليه وينبني على التغليب والسراية فينبغي أن يسهل طريق إثباته وإن كان الاختلاف بين العبد وورثة السيد بعد موته فهو كما لو كان الاحتلاف مع السيد إلا أن الدعوى صحيحة بغير خلاف لأنهم لا يملكون الرجوع وإيمانهم(12/329)
على نفي العلم لأن الخلاف في فعل موروثهم وأيمانهم على نفي فعله وتجب اليمين على كل واحد من الورثة ومن نكل منهم عتق نصيبه ولم يسر إلى باقيه وكذلك إن أقر لأن إعتاقه بفعل الموروث لا بفعل المقر ولا الناكل
(فصل) إذا دبر عبده ومات وله مال سواه يفي بثلثي ماله إلا أنه غائب أو دين في ذمة إنسان لم يعتق من المدبر إلا ثلثه لجواز أن يتلف الغائب أو يتعذر استيفاء الدين فيكون العبد جميع التركة وهو شريك الورثة فيها له ثلثها ولهم ثلثاها فلا يجوز أن يحصل على جميعها لكنه يستحق عتق ثلثه ويبقى ثلثاه موقوفين لأن ثلثه حر على كل حال لأن اسوأ الاحوال أن لا يحصل من سائر المال شئ فيكون العبد جميع التركة فيعتق ثلثه وفي ذلك خلاف ذكرناه في باب الموصي به فيما إذا وصى له بمعين ولم يكن له سوى المعين إلا مال غائب أو دين وهذا مثله في اعتباره من الثلث إذا ثبت هذا فإن العبد إذا عتق كله بقدوم الغائب أو استيفاء الدين تبينا أنه كان حراً حين الموت فيكون كسبه له لأنه إنما عتق بالتدبير ووجود الشرط الذي علق عليه السيد حريته وهو الموت وإنما أوقفناه للشك في خروجه من الثلث فإذا زال الشك تبينا أنه كان حاصلاً قبل زوال الشك وإن تلف المال تبينا أنه كان ثلثاه رقيقاً ولم يعتق منه سوى ثلثه وإن تلف بعض المال رق من المدبر ما زاد على قدر ثلث الحاصل من المال (فصل) فإن دبر عبدين وله دين يحرجان من ثلث المال إذا حصل أقرعنا بينهما فعتق ممن تخرج له القرعة قدر ثلثهما وكان باقيه والعبد الاخر موقوفاً فإذا استوفي من الدين شئ كمل من(12/330)
عتق من وقعت له القرعة قدر ثلثه وما فضل عتق من الآخر كذلك حتى يعتقا جميعاً أو مقدار الثلث منهما فإن تعذر استيفاء الدين لم يزد العتق على مقدار ثلثهما فإن خرج الذي وقعت له القرعة مستحقاً بطل العتق فيه وعتق من الآخر ثلثه (فصل) إذا دبر عبداً قيمته مائة وله مائة ديناً عتق ثلثه ورق ثلثه ووقف ثلثه على استفياء الباقي وإن كانت له مائة حاضرة مع ذلك عتق من المدبر ثلثاه ووقف عتقه على استيفاء الدين (فصل) وإن دبر عبده وقيمته مائة وله ابنان ومائتان ديناً على أحدهما عتق من المدبر ثلثاه لأن حصة الذي عليه الدين منه كالمستوفي ويسقط عن الذي عليه الدين منه نصفه لأنه قدر حصته من الميراث ويبقى للآخر عليه مائة كلما استوفى منها شيئاً عتق قدر ثلثه فإن كانت المائتان ديناً على الاثنين بالسوية عتق المدبر كله لأن كل واحد منهما عليه قدر حقه وقد حصل له ذلك بسقوطه من دينه
(فصل) إذا دبر عبداً قيمته مائة وخلف ابنين ومائتي درهم ديناً له على أحدهما ووصى لرجل بثلث ماله عتق من المدبر ثلثه وسقط عن الغريم مائة وكان للوصي سدس العبد وللابن ئلثه ويبقى سدس العبد موقوفاً لأن الحاصل من المال ثلثاه وهو العبد والمائة الساقطة عن الغريم وثلث ذلك(12/331)
مقسوم بين المدبر والوصي نصفين فحصة المدبر منه ثلثه يعتق في الحال ويبقى له سدسه موقوفاً فكلما اقتضي من المائة الباقية شئ عتق من المدبر قدر سدسه ويكون المستوفي بين الابن والوصي أثلاثاً فإذا استوفيت كلها حصل للابن ثلثاها وثلث العبد وهو قدر حقه وكمل للمدبر عتق نصفه وحصل للوصي ثلث المائة وسدس العبد وهو قدر حقه وإن كان الدين على أجنبي لم يعتق من المدبر إلا سدسه لأن الحاصل من التركة هو العبد وثلثه بينه وبين الوصي الآخر وللوصي سدسه ولكل ابن سدسه ويبقى ثلثه موقوفاً فكلما اقتضي من الدين شئ عتق من المدبر قدر سدسه وكان المستوفى بين الابنين والوصي أسداساً للوصي سدسه ولهما خمسة أسداسه فيحصل لكل واحد نصف المائة وثلثها وسدس العبد وهو قدر حقه ويحصل للوصي سدس العبد وهو قدر حقه ويعتق من المدبر نصفه وهو قدر حقه (مسألة) (وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره لأمرين) (أحدهما) أنه قصد استعجال العتق بالقتل المحرم فعوقب بنقيض قصده وهو إبطال التدبير كمنع الميراث بقتل الموروث ولأن العتق فائدة تحصل بالموت فتنتفي بالقتل كالإرث والوصية (والثاني) أن التدبير وصية فيبطل بالقتل كالوصية بالمال ولا يلزم على هذا عتق أم الولد لكونها آكد فإنها صارت بالاستيلاد بحال لا يمكن نقل الملك فيها ولذلك لم يجز بيعها ولا هبتها ولا رهنها(12/332)
ولا الرجوع عن ذلك القول ولا غيره والإرث نوع من النقل فلو لم تعتق بموت سيدها انتقل الملك فيها إلى الوارث ولا سبيل إليه بخلاف المدبر ولأن سبب حرية أم الولد الفعل والبعضية الذي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها وهو آكد من القول ولهذا نبذ استيلاد المجنون ولم ينفذ اعتاقه ولا تدبيره وسرى حكم استيلاد المعسر إلى نصيب شريكه بخلاف الاعتاق وعتقت من رأس المال والتدبير
لا ينفذ إلا في الثلث ولا يملك الغرماء إبطال عتقها وإن كان سيدها مفلسا بحلاف المدبر ولا يلزم الحكم في موضع تأكد الحكم فيما دونه كما يلزم إلحاقه به في هذه المواضع التي افترقا فيها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كونه عمداً أو خطأ كما لا فرق في ذلك في حرمان الإرث وإبطال وصية القاتل (فصل) فأما سائر جناياته غير قتل سيده فلا تبطل تدبيره لكن إن كانت جناية موجبة للمال أو للقصاص فعفا الولي إلى المال تعلق المال برقبته فمن جوز بيعه جعل سيده بالخيار بين تسليمه فيباع في الجناية وبين فدائه فإن سلمه في الجناية فبيع فيها بطل تدبيره وإن عاد إلى سيده عاد تدبيره وإن اختار فداءه وفداه يما يفدى به فهو مدبر بحاله ومن لم يجز بيعه أوجب فداءه على سيده كأم الولد وإن كانت الجناية موجبة للقصاص فاقتص منه في النفس بطل تدبيره وإن اقتص منه في الطرف فهو مدبر بحاله وإذا مات سيده بعد جنايته وقبل استيفائها عتق على كل حال سواء كانت موجبة للمال أو للقصاص لأن صفة العتق وجدت فيه فاشبه ما لو باشره به فإن الواجب قصاصاً استوفي سواء كانت(12/333)
جنايته على عبد أو حر لأن القصاص قد استقر وجوبه عليه في حال رقه فلا يسقط بحدوث الحرية فيه وإن كان الواجب عليه مالاً في رقبته فدي بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جناينه وإن جني على المدبر فأرش الجناية لسيده فإن كانت الجناية على نفسه وحبت قيمته لسيده وبطل التدبير بهلاكه فإن قيل فهلا جعلتم قيمته قائمة مقامه كالعبد المرهون والموقوف(12/334)
قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه (أحدها) أن كل واحد من الوقف والرهن لازم فتعلق الحق يبدله والتدبير غير لازم لانه يمكن إبطاله بالبيع وغيره فلم يتعلق الحق ببدله (الثاني) إن الحق في التدبير للمدبر فبظل حقه بفوات مستحقه والبدل لا يقوم مقامه في(12/335)
الاستحقاق والحق في الوقف للموقوف عليه وفي الرهن للمرتهن وهو باق فثبت حقه في بدل محل حقه
(الثالث) أن المدبر إنما ثبت حقه بوجود موت سيده فإذا هلك قبل سيده فقد هلك قبل ثبوت الحق له فلم يكن له بدل بخلاف الرهن والوقف فإن الحق ثابت فيهما فقام بدلهما مقامهما وبين الرهن والمدبر فرق رابع وهو أن الواجب القيمة ولا يمكن وجود التدبير فيها ولا قيامها مقام(12/336)
المدبر فيه وإن أخذ عبدا مكانه فليس هو البدل انما هو بدل القيمة بخلاف الرهن فإن القيمة يجوز أن تكون رهنا فإن قيل فهذا يلزم عليه الموقوف فانه إذا قتل اخذت قيمته فاشتري بها عبد يكون وقفا مكانه قلنا قد حصل الفرق بين المدبر والرهن من الوجوه الثلاثة وكونه لا يحصل الفرق بينه وبين الوقف من هذا الوجه لا يمنع ان يحصل الفرق بينه وبين الرهن به والله أعلم(12/337)
(باب الكتابة) الكتابة إعتاق السيد عبده على مال في ذمته يؤدى في نجوم، سميت كتابة لأن السيد يكتب بينه وبينه كتاباً بما اتفقا عليه وقيل سميت كتابة من الكتب وهو الضم لأن المكاتب يضم بعض النجوم إلى بعض ومنه سمي الخرز كتاباً لأنه يضم أحد طرفيه إلى الآخر بخرزه قال الحريري وكاتبين وما خطت أناملهم * حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب وقال ذو الرمة: وفراء عرفته أنأى خوارزها * مشلشل صنعته بينها الكتب يصف قربة يسيل الماء من بين خرزها وسميت الكتيبة كتيبة لانضمام بعضها إلى بعض والمكاتب يضم نجومه بعضها إلى بعض والنجوم ههنا الاوقات المختلفة لأن العرب كانت لا تعرف الحساب وإنما تعرف الاوقات بطلوع النجوم كما قال بعضهم إذا سهيل أول الليل طلع * فابن اللبون الحق والحق جذع فسميت الأوقات نجوماً والأصل في الكتابة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكانبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وأما السنة فروى(12/338)
سعيد عن سفيان عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) رواه أبو داود وابن ماجة وروى سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعان غارماً أو غازياً أو مكاتباً في كتابته أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) في أحاديث كثيرة سواهما وأجمعت الامة على مشروعية الكتابة (مسألة) (وهي مستحبة لمن يعلم فيه خير وهو الكسب والأمانة وعنه أنها واجبة إذا ابتغاها من سيده أجبر عليها) إذا سأل العبد سيده مكاتبته استحب له اجابته إذا علم فيه خيراً ولم يجب ذلك في ظاهر المذهب وهو قول عامة أهل العلم منهم الحسن والشعبي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أنها واجبة إذا دعى العبد المكتسب سيده إليها وهو قول عطاء والضحاك وعمرو بن دينار وداود وقال اسحاق اخشى ان يأتم إن لم يفعل ولا يجبر عليها.
ووجه ذلك قول الله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وظاهر الأمر الوجوب وروي أن سيرين أبا محمد بن سيرين كان عبداً لأنس بن مالك فسأله أن يكاتبه فأبى فأخبر سيرين عمر بن الخطاب بذلك فرفع الدرة على أنس وقرأ عليه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) فكاتبه أنس(12/339)
ولنا أنه إعتاق بعوض فلم يجب عليه كالاستسعاء والآية محمولة على الندب وقول عمر يخالفه فعل أنس قال أحمد الخير صدق وصلاح ووفاء بمال الكتابة ونحو هذا قال ابراهيم وعمرو بن دينار وغيرهما وعبارتهم في ذلك مختلفة وقيل قوة على الكسب والأمانة قال الشافعي وقال ابن عباس غنى وإعطاء المال، وقال مجاهد غنى وأداء، وقال النخعي صدق ووفاء ولا خلاف بينهم في أن من لا خير فيه لا تجب إجابته (مسألة) (وهل تكره كتابة من لا كسب له؟ على روايتين)
قال القاضي ظاهر كلام أحمد كراهته وكان ابن عمر يكرهه وهو قول مسروق والاوزاعي وعن أحمد أنه لا يكره ولم يكرهه الشافعي وإسحاق وابن المنذر وطائفة من أهل العلم لأن جويرية بنت الحارث كاتبها ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فأدى عنها كتابتها وتزوجها واحتج ابن المنذر بأن بريرة كاتبت ولا حرفة لها فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه الأول ما ذكرنا في عتقه قال شيخنا وينبغي أن ينظر في المكاتب فإن كان ممن يتضرر بالكتابة ويضيع لعجزه عن الإنفاق على نفسه ولا يجد من ينفق عليه كرهت كتابته وإن كان يجد من يكفيه مؤنته لم تكره كتابته لحصول النفع بالحرية من غير ضرر فأما جويرة فإنها كانت ذات أهل وكانت ابنة سيد قومه فإذا عتقت رجعت إلى أهلها فأخلف الله لها خيراً من أهلها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم(12/340)
وصارت إحدى أمهات المؤمنين وأعتق الناس ما كان بأيديهم من قومها حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تر امرأة أعظم بركة على قومها منها وأما بريرة فإن كتابتها تدل على إباحة ذلك وأنه ليس بمنكر ولا خلاف فيه وإنما الخلاف في كراهته قال مسروق إذا سأل العبد مولاه المكاتبة فإن كان له مكسبه أو كان له مال فليكاتبه وإن لم يكن له مال ولا مكسبة فليحسن ملكته ولا يكلفه إلا طاقته (مسألة) (ولا يصح إلا من جائز التصرف فأما المجنون والطفل فلا تصح مكاتبتهما لرقيقهما ولا مكاتبة سيدهما لهما لأن الكتابة نقل الملك بعوض فلا تصح منها كالبيع (مسألة) (فإن كاتب المميز عبده بإذن وليه صح ويحتمل أن لا يصح بناء على قولنا إنه لا يصح بيعه بإذن وليه ولأنه عقد إعتاق فلم يصح منه كالعتق بغير مال ولا يصح بغير إذن وليه بحال (مسألة) (وإن كاتب السيد عبده المميز صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح فيها جميعها بحال لأنه ليس بمكلف أشبه المجنون ولنا أنه يصح تصرفه وبيعه بإذن وليه فصحت منه الكتابة بذلك كالمكلف ودليل صحة تصرفه قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) والابتلاء الاختبار له بتفويض التصرف
إليه ليعلم هل يقع منه على وجه المصلحة أو لا؟ وهل يغبن في بيعه وشرائه أو لا؟ وإيجاب السيد لعبده(12/341)
المميز المكاتبة إذن له في قبولها.
إذا ثبت هذا فإن كان السيد المكاتب طفلاً أو مجنوناً فلا حكم لتصرفه ولا قوله وان كاتب المكلف عبده المكلف أو المجنون لم يثبت لهذا التصرف حكم المكاتبة الصحيحة ولا الفاسدة لأنه لا حكم لقولهما لكن إن قال إن أديتما إلى فأنتما حران فأديا عتقا بالصفة لا بالكتابة وما في أيديهما لسيدهما وإن لم يقل ذلك لم يعتقا ذكره أبو بكر وقال القاضي يعتقان وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة تتضمن معنى الصفة فيحصل العتق ههنا بالصفة المحضة كما لو قال إن أديت إلي فأنت حر ولنا أنه ليس بصفة صريحاً ولا معنى وإنما هو عقد باطل فأشبه البيع الباطل (فصل) إذا كاتب الذمي عبده ثم أسلما صح لأنه عقد معاوضة أو عتق بصفة وكلاهما يصح منه فإذا ترافعا إلى الحاكم بعد الكتابة نظر في العقد فإن كان موافقاً للشرع أمضاه وإن كانت كتابته فاسدة مثل أن يكون العوض خمراً أو خنزيراً أو غير ذلك من أنواع الفساد ففيه ثلاث مسائل (أحدها) أن يكونا قد تقابضا حال الكفر فتكون الكتابة ماضية والعتق حاصلاً لأن ما تم في حال الكفر لا ينقضه الحاكم ويحكم بالعتق سواء ترافعا قبل الإسلام أو بعده (الثانية) تقابضا بعد الإسلام ثم ترافعا إلى الحاكم فإنه يعتق لأن هذه كتابة فاسدة ويكون حكمها حكم الكتابة الفاسدة المعقودة في الإسلام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى(12/342)
(والثالثة) ترافعا قبل قبض العوض الفاسد أو قبض بعضه فإن الحاكم يرفع هذه الكتابة ويبطلها لأنها كتابة فاسدة لم يتصل بها قبض تنبرم به ولا فرق بين إسلامهما أو إسلام أحدهما فيما ذكرناه من التغليب بحكم الإسلام وقال أبو حنيفة إذا كاتبه على خمر ثم أسلما لم يفسد العقد ويؤدي قيمة الخمر لأن الكتابة كالنكاح ولو مهرها خمراً ثم أسلما لم يفسد العقد ويبطل الخمر ولنا أن هذا عقد لو عقده المسلم كان فاسداً فإذا أسلما قبل التقابض أو أحدهما حكم بفساده
كالبيع الفاسد ويفارق النكاح فانه لو عقده المسلم بخمر كان صحيحاً وإن أسلم مكاتب الذمي لم تنفسخ الكتابة لأنها وقعت صحيحة ولا يجبر على إزالة ملكه لأنه خارج بالكتابة عن تصرف الكافر فيه فإن عجز أجبر على إزالة ملكه عنه حينئذ فإن اشترى مسلماً فكاتبه لم تصح الكتابة لأن الشراء باطل لم يثبت له به ملك وإن أسلم عبده فكاتبه بعد إسلامه لم تصح كتابته لأن الكتابة لا تزيل الملك.
وقال القاضي له ذلك وقد ذكرناه في كتاب البيع فإن عجز عاد رقيقاً قنا واجبة على إزالة ملكه عنه (فصل) وتصح كتابة الحربي عبده في دار الحرب وفي دار الاسلام، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تصح لأن ملكه ناقص وحكي عن مالك أنه لا يملك ذلك بدليل أن للمسلم تملكه عليه ولنا قوله تعالى (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) وهذه الإضافة إليهم تقتضي صحة أملاكهم فتقتضي صحة تصرفاتهم.
إذا ثبت هذا فإذا كاتب عبده فدخلا مستأمنين إلينا لم يتعرض الحاكم لهما وإن ترافعا إليه نظر بينهما فإن كانت كتابتهما صحيحة ألزمهما حكمها وإن كانت فاسدة بين لهما فسادها(12/343)
وإن جاءا وقد قهر أحدهما صاحبه بطلت الكتابة لأن العبد إن قهر سيده ملكه فبطلت كتابته بخروجه عن ملك سيده وإن قهره السيد على إبطال الكتابة ورده رقيقاً بطلت لأن دار الفكر دار قهر وإباحة ولهذا لو قهر حر حراً على نفسه ملكه وإن دخلا من غير قهر فقهر أحدهما الآخر في دار الإسلام لم تبطل الكتابة وكانا على ما كانا عليه قبله لأن دار الإسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر إلا بالحق وإن دخلا مستأمنين ثم أرادا الرجوع إلى دار الحرب لم يمنعا وأن أراد السيد الرجوع وأخذ المكاتب معه فأبى المكاتب الرجوع معه لم يجبر لأنه بالكتابة زال سلطانه وإنما له في ذمته حق ومن له دين في ذمة غيره لا يملك إجباره على السفر معه لأجله ويقال للسيد إن أردت الاقامة في دار الإسلام لتستوفي مال الكتابة فاعقد الذمة وأقم إن كانت مدتها طويلة وإن أردت توكيل من يقبض لك نجوم الكتابة فافعل فإذا أدى نجوم الكتابة عتق وهو مخير إن أحب المقام في دار الإسلام عقد على نفسه الذمة وإن أحب الرجوع لم يمنع وإن عجز وفسخ السيد كتابته عاد رقيقاً ويرد إلى سيده والأمان باق لأنه من مال سيده وسيده عقد الأمان لنفسه وماله فإذا اتنقض الامان في
في نفسه بعوده لم ينتقض في ماله وإن كاتبه في دار الحرب فهرب ودخل إلينا بطلت الكتابة لأن ملكه زال بقهره على نفسه فأشبه ما لو قهره على غيره من ماله وسواء جاءنا مسلماً أو غير مسلم وإن جاء بإذن سيده فالكتابة بحالها لأنه لم يقهر سيده فإذا دخل إلينا بأمان بإذن سيده ثم سبى المسلمون سيده(12/344)
وقتل انتقلت الكتابة إلى ورثته كما لو مات حتف أنفه وإن من عليه الإمام أو فاداه أو هرب فالكتابة بحالها وإن استرقه الإمام فالمكاتب موقوف إن عتق السيد فالكتابة بحالها وإن مات أو قتل فالمكاتب للمسلمين مبقي على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء إليهم وولاؤه لهم وإن عجز فهو رقيق لهم فإن أراد المكاتب الأداء قبل عتق سيده وموته أدى إلى الحاكم أو إلى أمينه وكان المال المقبوض موقوفاً على ما ذكرناه ويعتق المكاتب بالأداء وسيده رقيق لا يثبت له ولاء قال أبو بكر يكون الولاء للمسلمين وقال القاضي يكون موقوفاً فإن عتق سيده فهو له وإن مات رقيقاً فهو للمسلمين وإن كان استرقاق سيده بعد عتق المكاتب وثبوت الولاء عليه فقال القاضي يكون ولاؤه موقوفاً فإن عتق السيد كان الولاء له وإن قتل أو مات على رقه بطل الولاء لأنه رقيق لا يورث فبطل الولاء لعدم مستحقه وينبغي أن يكون للمسلمين لأن مال من لا وارث له للمسلمين فكذلك الولاء والله أعلم (فصل) وإن كاتب المرتد عبده فعلى قول أبي بكر الكتابة باطلة لأن ملكه زال بردته وعلى ظاهر المذهب كتابته موقوفة إن أسلم تبينا أنها كانت صحيحة وإن مات على ردته أو قبل بطلت وإن أدى في ردته لم يحكم بعتقه ويكون موقوفاً فإن أسلم سيده تبينا صحة الدفع إليه وعتقه وإن مات على ردته(12/345)
أو قتل فهو باطل والعبد رقيق وإن كاتبه وهو مسلم وارتد وحجر عليه لم يكن للعبد الدفع إليه ويؤدي إلى الحاكم ويعتق بالاداء وإن دفع إلى المرتد كان موقوفاً كما ذكرنا وإن كاتب المسلم عبده المرتد صحت كتابته لأنه يصح بيعه فإن أدى عتق وإن أسلم فهو على كتابته (فصل) وكتابة المريض صحيحة فإن كان مرض الموت المخوف اعتبر من الثلث لأنه بيع ماله بماله فجرى مجرى الهبة ولذلك ثبت الولاء على المكاتب لكونه معتقاً فإن خرج من الثلث كانت الكتابة
لازمة وإن لم يخرج من الثلث لزمت في قدر الثلث وباقيه موقوف على إجازة الورثة يصح بإجازته ويبطل برده وهذا قول الشافعي وقال أبو الخطاب في رءوس المسائل تجوز الكتابة من رأس المال لأنه عقد معاوضة أشبه البيع والأول أولى (مسألة) ولا يصح إلا بالقول وينعقد بقوله كاتبتك على كذا) لأنه لفظها الموضوع لها فانعقدت بمجرده كلفظ النكاح فيه (مسألة) ولا يفتقر إلى قوله وإن أديت إلى فأنت حر بل متى أدى عتق) وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يعتق حتى يقول ذلك أو ينوي بالكتابة الحرية ويحتمل مثل ذلك عندنا لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة ويحتمل العتق بالاداء فلابد من تمييز أحدهما عن الآخر ككنايات العتق(12/346)
ولنا أن الحرية موجب عقد الكتابة فثبتت عند تمامه كسائر أحكامه ولأن الكتابة عقد وضع للعتق فلم يحتج إلى لفظ العتق ولا نيته كالتدبير وما ذكروه من استعمال الكتابة في المخارجة إن ثبت فليس بمشهور فلم يمنع وقوع الحرية به كسائر الألفاظ الصريحة على أن اللفظ المحتمل ينصرف بالقرائن إلى أحد محتمليه كلفظ التدبير فانه يحتمل التدبير في معاشه وغيره وهو صريح في الحرية كذلك هذا.
(مسألة) ولا يصح إلا على عوض معلوم منجم بنجمين فصاعداً) لا تصح إلا على عوض معلوم لأنها عقد معاوضة أشبهت البيع ولا تجوز إلا منجمة مؤجلة هذا ظاهر المذهب وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة تجوز حالة لأنه عقد على عين فإذا كان عوضه في الذمة جاز أن يكون حالاً كالبيع ولنا أنه قد روي عن جماعة من الصحابة أنهم عقدوا الكتابة ولم ينقل عن واحد منهم عقدها حالة ولو جاز ذلك لم يتفقوا على تركه ولأن الكتابة عقد معاوضة يعجز عن أداء عوضها في الحال فكان من شرطها التأجيل كالسلم على أبي حنيفة ولأنها عقد معاوضة يلحقه الفسخ من شرطه
ذكر العوض فإذا وقع على وجه يتحقق فيه العجز عن العوض لم يصح كما لو أسلم في شئ لا يوجد عند محله ويفارق البيع لأنه لا يتحقق فيه العجز عن العوض لأن المشتري يملك المبيع والعبد لا يملك شيئاً(12/347)
وما في يده لسيده وفي التنجيم إذا كان أكثر من نجم حكمتان إحداهما ترجع إلى المكاتب وهو التخفيف عليه لأن الأداء مفرقاً أسهل ولهذا تقسط الديون على المعسرين عادة تخفيفاً عليهم والأخرى للسيد وهي أن مدة الكتابة تطول غالباً فلو كانت على نجم واحد لم يظهر عجزه إلا في آخر المدة فإذا عجزه عاد إلى الرق وفاتت منافعه في مدة الكتابة كلها على سيده من غير نفع حصل له وإذا كانت منجمة نجوماً فعجز عن النجم الأول فمدته يسيرة وإن عجز عما بعده فقد حصل للسيد نفع بما أخذ من النجوم قبل عجزه إذا ثبت ذلك فأقله نجمان فصاعداً، وهذا مذهب الشافعي ونقل عن أحمد أنه قال من الناس من يقول نجم واحد ومنهم من يقول نجمان ونجمان أحب إلى وهذا يحتمل أن يكون معناه إني أذهب إلى أنه لا يجوز إلا نجمان ويحتمل أن يكون المستحب نجمين ويجوز نجم واحد، قال ابن أبي موسى هذا على طريق الاختيار وإن جعل المال كله في نجم واحد جاز لأنه عقد يشترط فيه التأجيل فجاز أن يكون إلى أجل واحد كالسلم ولأن اعتبار التأجيل ليتمكن من تسليم العوض وهذا يحصل بنجم واحد، ووجه الأول ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني وهذا يقتضي أن هذا أقل ما تجوز عليه الكتابة لأن أكثر من نجمين جائز بالإجماع، وروي عن عن عثمان أنه غضب على عبد له فقال لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين ولو جاز أقل من هذه لعاقبه به في الظاهر، وفي حديث بريرة أنها أتت عائشة فقالت يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع(12/348)
أواق في كل عام أوقيه فأعينيني ولأن الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم نجم إلى نجم فدل ذلك على افتقارها إلى نجمين والأول أقيس (مسألة) (ويشترط علم ما يؤدي إليه في كل نجم كالثمن في البيع ولئلا يفضي إلى النزاع والاختلاف)
ولا يشترط تساوي النجوم فإذا قال كاتبتك على ألف إلى عشر سنين تؤدي عند انقضاء كل سنة مائة أو قال تؤدي منها مائة عند انقضاء خمس سنين وباقيها عند تمام العشرة أو قال تؤدي في آخر العام الاول مائة وتسعمائة عند انقضاء السنة العاشرة فكل ذلك جائز فإن قال تؤدي في كل عام مائة جاز ويكون أجل كل مائة عند انقضاء السنة، وظاهر قول القاضي وأصحاب الشافعي أنه لا يصح لأنه لا يبين وقت الأداء من العام ولنا قول بريرة كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه ولأن الأجل إذا علق بمدة تعلق بأحد طرفيها فان كان بحرف إلى تعلق بأولها كقوله إلى شهر رمضان وإن كان بحرف في كان إلى آخرها لانه جعل جميعها وقت الادائها فإذا أدى في آخرها كان مؤدياً لها في وقتها فلم يتعين عليه الأداء قبله كتأدية الصلاة في آخر وقتها وإن قال تؤديها في عشر سنين أو إلى عشر سنين لم يجز لأنه نجم واحدا ومن أجاز الكتابة على نجم واحد أجازه وإن قال تؤدي بعضها في نصف المدة وباقيها في آخرها(12/349)
لم يجز لأن البعض يقع على القليل والكثير فيكون مجهولاً (فصل) وتجوز الكتابة على مال يجوز السلم فيه لأنه مال يثبت في الذمة مؤجلاً في معاوضة فجاز ذلك فيه كعقد السلم فإن كان من الأثمان وكان في البلد نقد واحد جاز إطلاقه لأنه ينصرف إليه فاشبه البيع وإن كان فيه نقود بعضها أغلب في الاستعمال جاز للاطلاق أيضاً وانصرف إليه عند الإطلاق كما لو انفرد وإن كانت مختلفة متساوية في الإستعمال وجب بيانه بما يتميز به من غيره من النقود وإن كان من غير الاثمان وجب وصفه بما يوصف به في السلم فأما مالا يصح السلم فيه فلا يجوز أن يكون عوضاً في الكتابة لأنه عقد معاوضة يثبت عوضه في الذمة فلم يجز بعوض مجهول كالسلم، وقال القاضي يصح على عبد مطلق وله الوسط إذا كاتبه على عبد مطلق لم يصح، ذكره أبو بكر وهو قول الشافعي يجوز في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة ومالك لأن العتق لا يلحقه الفسخ فجاز أن يكون الحيوان المطلق عوضاً فيه كالعقل.
ولنا أن ما لا يجوز أن يكون عوضاً في البيع والاجارة لا يجوز أن يكون عوضاً في الكتابة كالثوب
المطلق ويفارق العقل لأنه بدل متلف مقدر في الشرع وههنا عوض في عقد أشبه البيع ولأن الحيوان الواجب في العقل ليس بحيوان مطلق بل هو مقيد بجنسه وسنه فلم يصح الإلحاق به ولأن الحيوان المطلق لا تجوز الكتابة عليه بغير خلاف علمناه وإنما الخلاف في العبد المطلق ولم يرد الشرع به بدلاً(12/350)
في موضع علمناه.
إذا ثبت هذا فإن من صحح الكتابة به أوجب له عبداً وسطاً وهو السندي ويكون وسطاً من السنديين في قيمته كقولنا في الصداق ولا تصح الكتابة على حيوان مطلق غير العبد فيما علمنا ولا على ثوب ولا دار ولذلك لا تجوز على ثوب من ثيابه ولا عمامة من عمائمه ولا غير ذلك من المجهولات وممن اختار الكتابة على العبد الحسن وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن سيرين، وروي عن أبي برزة وحفصة رضي الله عنهما.
(مسألة) (وتصح على مال وخدمة سواء تقدمت الخدمة أو تأخرت) .
تجوز الكتابة على المنافع المباحة لأنها أحد العوضين في الإجارة فجاز أن تكون عوضاً في الكتابة كالأثمان ويشترط العلم بها كما يشترط في الاجارة فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار صح ولا يحتاج إلى ذكر الشهر وكونه عقيب العقد لأن الإجارة تقتضيه فإن عين الشهر بوقت لا يتصل بالعقد مثل أن يكاتبه في المحرم على خدمته في رجب ودينار صح أيضاً كما يجوز أن يؤجره داره شهر رجب في المحرم، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز على شهر لا يتصل بالعقد ويشترطون ذكر ذلك ولا يجوزون إطلاقه بناء على قولهم في الإجارة وقد سبق الكلام فيه والخلاف في باب الإجارة ويشترط كون الدينار المذكور مؤجلاً لأن الاجل شرط في عقد الكتابة فإن جعل محل الدينار بعد الشهر بيوم أو أكثر صح بغير خلاف نعلمه وإن جعل محله في الشهر أو بعد انقضائه صح أيضاً وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال(12/351)
القاضي لا يصح لانه يكون نجا واحداً وهذا لا يصح لأن الخدمة كلها لا تكون في وقت محل الدينار وإنما يوجد جزء منها يسير مقارباً له وسائرها فيما سواه ولأن الخدمة بمنزلة العوض الحاصل في ابتداء مدتها ولهذا يستحق عوضها جميعه ويكون محلها غير محل الدينار وإنما جازت له حالة لأن المنع من
الحلول في غيرها لأجل العجز عنه في الحال وهذا غير موجود في الخدمة فجازت حالة وإن جعل محل الدينار قبل الخدمة وكانت الخدمة غير متصلة بالعقد بحيث يكون الدينار مؤجلاً والخدمة بعده جاز وإن كانت الخدمة متصلة بالعقد لم يتصور كون الدنيار قبله ولم يجز في أوله، لأنه يكول حالاً ومن شرطه التأجيل.
(فصل) إذا كاتب السيد عبده على خدمة مفردة في مدة واحدة مثل أن يكاتبه على خدمة شهر بعينه أو سنة معينة فحكمه حكم الكتابة على نجم واحد على ما مضى من القول فيه ويحتمل أن يكون كالكتابة على أنجم لأن الخدمة تستوفى في أوقات مفرقة بخلاف المال وإن جعله على شهر بعد شهر كأن كاتبه في أول المحرم على خدمته فيه وفي رجب صح لأنه على نجمين وإن كاتبه على منفعة في الذمة معلومة كخياطة ثوب عينه أو بناء حائط وصفه صح أيضاً إذا كانت على نجمين وإن قال كاتبتك على أن تخدمني هذا الشهر وخياطة كذا على عقيب الشهر صح في قول الجميع وإن قال على أن تخدمني شهراً من وقتي هذا وشهراً عقيب هذا الشهر صح أيضاً وعند الشافعي لا يصح.(12/352)
ولنا أنه كاتبه على نجمين فصح كالتي قبلها.
(فصل) وإذا كاتب العبد وله مال فماله لسيده إلا أن يشترطه المكاتب فإن كان له سرية أو ولد فهو لسيده، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وابو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال الحسن وعطاء والنخعي وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار ومالك وابن أبي ليلى في المكاتب ماله له ووافقنا عطاء وسليمان بن موسى والنخعي وعمرو بن دينار ومالك في الولد واحتج لهم بما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعتق عبداً وله مال فالمال للعبد.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) متفق عليه والكتابة بيع ولأنه باعه نفسه فلم يدخل معه غيره كولده وأقاربه ولأنه هو وماله كانا لسيده فإذا وقع العقد على أحدهما بقي الآخر على ما كان عليه كما لو باعه لأجنبي وحديثهم ضعيف قد ذكرنا ضعفه.
(مسألة) (وإذا أدى ما كوتب عليه أو أبرئ منه عتق لأنه لم يبق لسيده عليه شئ ولا
يعتق قبل أداء جميع الكتابة) .
هذا ظاهر كلام الخرقي، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(12/353)
(المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) رواه أبو داود دل بمنطوقه على أنه لا يعتق حتى يؤدي جميع كتابته وبمفهومه على أنه إذا أدى كتابته لا يبقى عبداً قال أحمد في عبد رجلين كاتباه على ألف فأدى تسعمائة ثم أعتق أحدهما نصيبه قال يعتق إلا نصف المائة وقد روي عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا المكاتب عبد ما بقي عليه درهم رواه عنهم الأثرم وبه قال القاسم وسليمان بن يسار وعطاء وقتادة والثوري وابن شبرمة ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أم سلمة وروى سعيد بإسناده عن أبي قلابة قال كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه درهم وبإسناده عن عطاء أن ابن عمر كاتب غلاماً على ألف دينار فأدى إليه تسعمائة دينار وعجز عن مائة دينار فرده ابن عمر في الرق.
(مسألة) (وما فضل في يده فهو له) .
لأنه كان له قبل العتق فبقي على ما كان وعنه أنه إذا ملك ما يؤدي صار حراً لما روت ام سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) ، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح فأمرهن بالحجاب بمجرد ملكه لما يؤديه ولأنه مالك لمال الكتابة أشبه ما لو أداه فعلى هذا متى امتنع من الأداء أجبره الحاكم عليه كسائر الديون الحالة على(12/354)
القادر عليها فإن هلك ما في يديه قبل الأداء صار ديناً في ذمته وقد صار حراً والصحيح أنه لا يعتق حتى يؤدي وهذا قول أكثر أهل العلم لما ذكرنا من حديث عمرو بن شعيب وروى سعيد بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيما عبد كانت عليه مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد) وفي رواية (من كاتب عبده على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق) أو قال (إلا عشرة دراهم ثم عجز فهو رقيق) رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب ولأنه عتق علق بعوض فلم يعتق قبل أدائه كما لو قال إذا
أديت إلي ألفا فأنت حر فعلى هذه الرواية إذا أدى عتق وإن لم يؤد لم يعتق فإن امتنع من الأداء فقال أبو بكر يؤديه الإمام عنه ولا يكون ذلك عجزاً ولا يملك السيد الفسخ وهو قول أبي حنيفة ويحتمل أنه إذا لم يؤد عجزه السيد إن أحب وعاد عبداً غير مكاتب ونحوه قال الشافعي فإنه قال إن شاء عجز نفسه وامتنع من الأداء.
ووجه ذلك أن العبد لا يجبر على اكتساب ما يؤديه في الكتابة فلا يجبر على الأداء كسائر العقود الجائزة.
ووجه الأول أنه قد ثبت للعبد استحقاق الحرية بملك ما يؤدي فلم يملك إبطالها كما لو ادى فإن تلف المال قبل ادائه جاز تعجيزه واسترقاقه وجهاً واحداً.
(فصل) إذا أبرأه السيد من مال الكتابة برئ وعتق لأن ذمته خلت من مال الكتابة فأشبه ما لو أداه وإن ابرأه من بعضه برئ منه وهو على الكتابة فيما بقي لأن الإبراء كالأداء فإن كاتبه على دنانير فأبرأه من دراهم أو بالعكس لم تصح البراءة لأنه ابرأه مما لا يجب عليه إلا أن يريد بقدر ذلك مما لي عليك فإن اختلفا فقال المكاتب إنما(12/355)
أردت من قيمة ذلك وقال السيد بل ظننت أن لي عليك النقد الذي أبرأتك منه فلم تقع البراءة موضعها فالقول قول السيد مع يمينه لأنه أعرف بنيته فإن مات السيد واختلف المكاتب والورثة فالقول قولهم مع إيمانهم ويحلفون على نفي العلم وإن مات المكاتب واختلف ورثته وسيده فالقول قول السيد لما ذكرنا (مسألة) (فلو مات قبل الأداء كان ما في يده لسيده في الصحيح عنه وعلى الرواية الأخرى لسيده بقية كتابته والباقي لورثته) هذه المسألة تشبه أن تكون مبنية على المسألة التي قبلها إن قلنا إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقاً وانفسخت كتابته بموته وكان ما في يده لسيده وإن قلنا إنه عتق بملك ما يؤدي فقد مات حراً وعليه لسيده بقية كتابته لأنه دين له عليه والباقي لورثته قال القاضي الأصح إن الكتابة تنفسخ بموته ويموت عبداً وما في يده لسيده رواه الأثرم بإسناده عن عمر وزيد والزهري وبه قال ابراهيم وعمر بن عبد العزيز وقتادة والشافعي لما ذكرناه في التي قلبها ولأنه مات قبل أداء مال الكتابة فوجب أن تنفسخ كما لو لم يكن له مال وكما لو علق عتقه بأداء ألف فمات قبل أدائها وعنه أنه يعتق
ويموت حراً فيكون لسيده بقية كتابته والباقي لورثته روي ذلك عن علي وابن مسعود ومعاوية وبه قال عطاء والحسن وطاوس وشريح والنخعي والثوري والحسن بن صالح ومالك واسحاق وأصحاب(12/356)
الرأي إلا أن أبا حنيفة قال يكون حراً في آخر جزء من حياته وهذا قول القاضي ووجه هذا الرواية ما تقدم في التي قبلها.
لأنها معاوضة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين فلا تنفسخ بموت الآخر كالبيع ولأن العبد أحد من تمت به الكتابة فلم تنفسخ بموته كالسيد والأول أولى وتفارق الكتابة البيع لأن كل واحد من المتعاقدين غير معقود عليه ولا يتعلق العقد بعينه فلم ينفسخ بتلفه والمكاتب هو المعقود عليه والعقد متعلق يعينه فإذا تلف قبل تمام الأداء انفسخ العقد كما لو تلف المبيع قبل قبضه ولأنه مات قبل وجود شرط حريته ويتعذر وجودها بعد موته، فأما إن مات ولم يخلف وفاء فلا خلاف في المذهب إن الكتابة تنفسخ بموته ويموت عبداً وما في يده لسيده وهو قول أهل الفتاوي من أئمة الامصار الان يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة عند أبي بكر والقاضي ومن وافقهما فإنه يموت حراً في مقتضى قولهم وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وقال مالك إن كان له ولد حرا انفسخت الكتابة وإن كان مملوكاً في كتابته أجبر على دفع المال إن كان له مال وإن لم يكن له أجبر على الاكتساب والأداء (فصل) ولا تنفسخ الكتابة بالجنون لأنها عقد لازم فلم تنفسخ بالجنون كالرهن وفارق الموت لأن العقد على العين والموت يفوت العين بخلاف الجنون ولأن القصد من الكتابة العتق والموت ينافيه ولهذا لا يصح عتق الميت والجنون لا ينافيه بدليل صحة عتق المجنون فعلى هذا إن أدى إليه المال عتق لأن السيد إذا قبض منه فقد استوفى حقه الذي كان عليه وله أخذ المال من يده فيتضمن(12/357)
ذلك براءته من المال فيعتق بحكم العقد وإن لم يؤد إليه كان للسيد أن يحضره عند الحاكم وتثبت الكتابة بالبينة فيبحث الحاكم عن ماله فإن وجد له مالاً سلمه في الكتابة وعتق وإن لم يجد له مالاً جعل له أن يعجزه ويلزمه الإنفاق عليه لأنه عاد قناً ثم إن وجد له الحاكم بعد ذلك مالاً يفي بمال الكتابة أبطل
فسخ السيد لان الباطل بخلاف ما حكم به فبطل حكمه كما إذا أخطأ النص وحكم بالاجتهاد إلا أنه يرد على السيد ما أنفقه من حين الفسخ لأنه لم يكن مستحقاً عليه في الباطن وإن أفاق وأقام البينة أنه كان قد دفع إليه مال الكتابة بطل أيضاً ولا يرد عليه ما انفقه لأنه انفق عليه مع علمه بحريته فكان متطوعاً بذلك فلم يرجع به وينبغي أن يستحلف الحاكم السيد أنه ما استوفى مال الكتابة وهذا قول أصحاب الشافعي ولم يذكره أصحابنا وهو حسن لأنه يحتمل أنه استوفاه والمجنون لا يعبر عن نفسه فيدعيه فيقوم الحاكم مقامه في استحلافه عليه (فصل) وقتل المكاتب كموته في انفساخ الكتابة على ما أسلفنا من الخلاف سواء كان القاتل السيد أو الأجنبي ولا قصاص على قاتله الحر لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم للحديث فإن كان القاتل سيده ولم يخلف وفاء انفسخت الكتابة وعاد ما في يده إلى سيده ولم يجب عليه شئ لأنه لو وجب لوجب له فإن قيل فالقاتل لا يستحق بالقتل شيئاً من تركة المقتول قلنا ههنا لا يرجع إليه مال المكاتب ميراثاً بل بحكم ملكه عليه لزوال الكتابة وإنما يمنع القاتل الميراث خاصة الا ترى أن(12/358)
من له دين مؤجل إذا قتل من عليه الحق حل الدين في رواية وأم الولد إذا قتلت سيدها عتقت وإن كان المكاتب قد خلف وفاء وقلنا إن الكتابة تنفسخ بموته فالحكم كذلك وإن قلنا لا تنفسخ فله القيمة على سيده تصرف إلى ورثته كما لو كانت الجناية على بعض أطرافه في حياته وإن كان الوفاء يحصل بإيجاب القيمة ولا يحصل بدونها وجب كما لو خلف وفاء لان دية المقتول كتركته في قضاء ديونه منها وانصرافها إلى ورثته بينهم على فرائض الله تعالى ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يخلف وارثاً أو لا يخلف وارثاً وذكر القاضي أنه إذا لم يخلف وارثاً سوى سيده لم تجب القيمة عليه بحال ولنا أن من لا وارث له يصرف ماله إلى المسلمين ولا حق لسيده فيه لأن صرفه إلى سيده بطريق الإرث والقاتل لا ميراث له وإن كان القاتل أجنبياً وجبت القيمة للسيد إلا في الموضع الذي لا تنفسخ الكتابة تجب لورثته (مسألة) (وإذا عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الأخذ وعتق)
هذا المنصوص عن أحمد ويحتمل أن لا يلزمه ذلك إذا كان في قبضه ضرر، وذكر أبو بكر فيه رواية أخرى أنه لا يلزمه قبول المال إلا عند نجومه لأن بقاء المكاتب في هذه المدة في ملكه حق له ولم يرض بزواله فلم يزل كما لو علق عتقه على شرط لم يعتق والصحيح في المذهب الأول وهو مذهب الشافعي إلا أن القاضي قال أطلق احمد والخرقي هذا القول وهو مقيد بما لا ضرر في قبضه قبل محله(12/359)
كالذي لا يفسد ولا يختلف قديمه وحديثه ولا يحتاج إلى مؤنة في حفظه ولا يدفعه في حال خوف يخاف ذهابه فإن اختل أحد هذه الأمور لم يلزمه قبضه مثل أن يكون مما يفسد كالعنب والرطب والبطيخ أو يخاف تلفه كالحيوان فإنه ربما تلف قبل المحل ففاته مقصوده، وإن كان مما يكون حديثه خيراً من قديمه لم يلزمه أيضاً أخذه لأنه ينقص إلى حين الحلول وإن كان مما يحتاج إلى مخزن كالطعام والقطن لم يلزمه أيضاً لأنه يحتاج في أبقائه إلى وقت المحل إلى مؤنة فيتضرر بها ولو كان غير هذا إلا أن البلد مخوف لم يلزمه أخذه لأن في أخذه ضرراً لم يرض بالتزامه وكذلك لو سلمه إليه في طريق مخوف أو في موضع يتضرر بقبضه في لم يلزمه قبضه ولم يعتق المكاتب قال القاضي والمذهب عندي أن فيه تفصيلاً على حسب ما ذكرناه في السلم ولأنه لا يلزم الإنسان التزام ضرر لم يقتضه العقد ولا رضي بالتزامه وأما ما لا ضرر في قبضه فإذا عجله لزم السيد أخذه وذكر أبو بكر أنه يلزمه قبوله من غير تفصيل اعتماداً على إطلاق أحمد القول في ذلك وهو ظاهر إطلاق الخرقي لما روى الأثرم بإسناده عن أبي بكر بن حزم أن رجلاً أتى عمر فقال يا أمير المؤمنين إني كاتبت على كذا وكذا وإني أيسرت بالمال وأتيته به فزعم انه لا يأخذها إلا نجوماً فقال عمر رضي الله عنه يايرفا خذ المال فاجعله في بيت المال وأد إليه نجوماً في كل عام وقد عتق هذا فلما رأى ذلك سيده أخذ المال، وعن عثمان رضي الله عنه نحو هذا(12/360)
ورواه سعيد بن منصور في سنه عن عمر وعثمان جميعاً، وثنا هشيم عن ابن عون عن محمد بن سيرين أن عثمان قضى بذلك ولأن الأجل حق لمن عليه الدين فإذا قدمه فقد رضي بإسقاط حقه فسقط كسائر الحقوق
فإن قيل إذا علق عتق عبده على فعل في وقت ففعله في غيره لم يعتق قلنا تلك صفة مجردة لا يعتق إلا بوجودها والكتابة معاوضة يبداً فيها بأداء العوض فافترقا ولذلك لو أبرأه من العوض في الكتابة عتق ولو أبرأه من المال في الصفة المجردة لم يعتق قال شيخنا والأولى ما قاله القاضي في أن ما كان في قبضه ضرر لم يلزمه قبضه ولم يعتق ببذله لما ذكره من الضرر الذي لم يقتضه القعد وخبر عمر لا دلالة فيه على وجوب قبض ما فيه ضرر ولأن أصحابنا قالوا لو لقيه في بلد آخر فدفع إليه نجوم الكتابة أو بعضها فامتنع من أخذها لضرر فيه من خوف أو مؤنة حمل لم يلزمه قبوله لما عليه من الضرر فيه وإن لم يكن فيه ضرر لزمه قبضه كذا ههنا وكلام أحمد محمول على ماذا لم يكن في قبضه ضرر وكذلك قول الخرقي وأبي بكر(12/361)
(فصل) إذا أحضر المكاتب مال الكتابة أو بعضه ليسلمه فقال السيد هذا حرام أو غصب لا أقبله منك سئل العبد عن ذلك فإن أقر به لم يلزم السيد قبوله لأنه لا يلزمه أخذ المحرم ولا يجوز له وإن أنكر وكانت للسيد بينة بدعواه لم يلزمه قبوله وتسمع بينته لأن له حقاً في أن لا يقتضي دينه من حرام ولا يأمن أن يرجع صاحبه عليه به وإن لم تكن له بينة فالقول قول العبد مع يمينه فإن نكل عن اليمين لم يلزم السيد قبوله أيضاً وإن حلف قيل للسيد إما أن تقبضه وإما أن تبرئه ليعتق فإن قبضه وكان تمام كتابته عتق ثم ينظر فإن ادعى أنه حرام مطلقاً لم يمنع منه لأنه لم يقربه لأحد وإنما تحريمه فيما بينه وبين الله تعالى وإن ادعى أنه غصبه من فلان لزمه دفعه إليه لأن قوله وإن لم يقبل في حق المكاتب فإنه يقبل في حق نفسه كما لو قال رجل لعبد في يد غيره هذا حر وأنكر ذلك من العبد في يده لم يقبل قوله عليه فإن انتقل إليه بسبب من الأسباب لزمته حريته فإن أبرأه من مال الكتابة لم يلزمه قبضه لأنه لم يبق له عليه حق وإن لم يبرئه ولم يقبضه كان له دفع ذلك إلى الحاكم ويطالبه بقبضه فينوب الحاكم في قبضه عنه ويعتق العبد كما رويناه عن عمر وعثمان رضي الله عنهما في قبضهما مال الكتابة حين امتنع المكاتب من قبضه (فصل) إذا كاتبه على جنس لم يلزمه قبض غيره فلو كاتبه على دنانير لم يلزمه قبض دراهم ولا عرض وإن كانت على عرض موصوف لم يلزمه قبض غيره وإن كانت على نقد فأعطاه من جنسه خيراً منه وكان(12/362)
ينفق فيما ينفق فيه الذي كاتيه عليه لزمه أخذه لأنه زاده خيراً وإن كان لا ينفق في بعض البلدان التي ينفق فيها ما كاتبه عليه لم يلزمه قبوله لأن عليه فيه ضرارا (مسألة) ولا بأس ان يجعل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته مثل أن يكاتبه على ألف في نجمين إلى سنة ثم قال عجل لي خمسمائة حتى أضع عنك الباقي أو حتى أبرئك من الباقي أو قال صالحني منه على خمسمائة معجلة جاز ذلك.
وبه يقول طاوس والزهري والنخعي وأبو حنيفة وكرهه الحسن وابن سيرين والشعبي، وقال الشافعي لا يجوز لأن هذا بيع ألف بخمسمائة وهو ربا الجاهلية وهو أن يزيد في الدين لأجل الأجل وهذا أيضاً هبة لأن هذا لا يجوز بين الأجانب والربا يجري بين المكاتب وسيده فلم يجز هذا بينهما كالأجانب.
ولنا أن مال الكتابة غير مستقر ولا هو دين صحيح بدليل أنه لا يجبر على أدائه وله أن يمتنع من أدائه ولا تصح الكفالة به وما يؤديه إلى سيده كسب عبده وإنما جعل الشرع هذا العقد وسيلة إلى العتق وأوجب فيه التأجيل مبالغة في تحصيل العتق وتخفيفاً على المكاتب فإذا أمكنه التعجيل على وجه يسقط عنه يعض ما عليه كان أبلغ في حصول العتق وأخف على العبد ويحصل من السيد إسقاط بعض(12/363)
ماله على عبده ومن الله تعالى إسقاط بعض ما أوجبه عليه من الأجل لمصلحته ويفارق سائر الديون بما ذكرنا ويفارق الأجانب من حيث إن هذا عبده فهو أشبه بعبده القن وأما قولهم إن الربا يجري بينهما فيمنعه ما ذكره ابن أبي موسى وإن سلمنا فإن هذا مفارق لسائر الربا بما ذكرناه وهو يخالف ربا الجاهلية فإنه اسقاط لبعض الدين وربا الجاهلية زيادة في الدين تفضي إلى نفاد مال المدين وتحمله ما يعجز عن وفائه من الدين فيحبس من أجله وهذا يفضي إلى تعجيل عتق المكاتب وخلاصه من الرق والتخفيف عنه فافترقا (فصل) فإن اتفقا على الزيادة في الأجل والدين مثل أن يكاتبه على ألف في نجمين إلى سنة يؤدي خمسمائة في نصفها والباقي في آخرها فيجعلانها إلى سنتين بألف ومائتين في كل سنة ستمائة أو مثل أن
يحل عليه نجم فيقول أخرني إلى كذا وأزيدك كذا فلا يجوز لأن الدين المؤجل إلى وقت لا يتأخر أجله عن وقته باتفاقهما عليه ولا يتغير أجله بتغييره وإذا لم يتأخر عن وقته لم تصح الزيادة التي في مقابلته ولأن هذا يشبه ربا الجاهلية المحرم وهو الزيادة في الدين للزيادة في الأجل ويفارق المسألة الأولى من هذين الوجهين فإن قيل فكما أن الأجل لا يتأخر فكذلك لا يتعجل ولا يصير المؤجل حالاً فلم يجاز في المسألة الأولى قلنا إنما جاز في المسألة الأولى بالتعجيل فعلاً فإنه إذا دفع إليه الدين(12/364)
المؤجل قبل محله جاز وجاز للسيد إسقاط باقي حقه عليه وفي هذه المسألة يأخذ أكثر مما وقع عليه العقد فهو ضد المسألة الأولى وهو ممتنع من وجه آخر لأن في ضمن الكتابة أنك متى أديت إلى كذا فأنت حر فإذا أدى إليه ذلك فينبغي أن يعتق فإن قيل فإذا غير الأجل والعوض فكأنهما فسخا الكتابة الأولى وجعلا كتابة ثانية قلنا لم يجر بينهما فسخ وإنما قصدا تغيير العوض والأجل على وجه لا يصح فبطل التغيير وبقي العقد بحاله ويحتمل أن يصح ذلك كما في المسألة الأولى فعلى هذا لو اتفقا على ذلك ثم رجع أحدهما قبل التعجيل فله الرجوع لما ذكرنا من أن الدين المتأخر لا يتأخر عن أجله ولا يتقدم وإنما له أن يؤديه قبل محله ولمن له الدين ترك قبضه في محله وذلك إلى اختياره فإذا وعد به ثم رجع قبل الفعل فله ذلك (فصل) وإن صالح المكاتب سيده عما في ذمته بغير جنسه مئل أن يصالح عن النقود بحنطة أو شعير جاز إلا أنه لا يجوز أن يصالحه على شئ مؤجل لأنه يكون بيع دين بدين وإن صالحه عن الدراهم بدنانير أو عن الحنطة بشعير لم يجز التفرق قبل القبض لأن هذا بيع في الحقيقة فيشترط له القبض في المجلس، وقال القاضي يحتمل أن لا تصح هذه المصالحة مطلقاً لأن هذا دين من شرطه التأجيل فلم تجز المصالحة عليه بغير ولأنه دين غير مستقر فهو كدين السلم، وقال ابن أبي موسى لا يجري الربا بين المكاتب وسيده فعلى قوله تجوز المصالحة كيفما كانت كما تجوز بين العبد القن وسيده والأولى ما ذكرنا ويفارق دين الكتابة دين السلم فإنه يفارق سائر الديون بما ذكرنا في هذه المسألة فمفارقته لدين السلم أعظم(12/365)
(مسألة) وإذا أدى وعتق فوجد السيد بالعوض عيباً فله أرشه أو قيمته ولا يرتفع العتق) وجملة ذلك أن المكاتب إذا دفع العوض في الكتابة فبان مستحقاً تبين أنه لم يعتق وكان وجود هذا الدفع كعدمه لأنه لم يؤد الواجب عليه وقيل له إن أديت الآن وإلا فسخت كتابتك وإن كان قد مات بعد الأداء فقد مات عبداً فإن بان معيباً مثل أن كاتبه على عروض موصوفة فقبضها فأصاب بها عيباً بعد قبضها نظرت فإن رضي بذلك وأمسكها استقر العتق فإن قيل يستقر العتق ولم يعطه جميع ما وقع عليه العقد فإن ما يقابل العيب لم يقبضه فأشبه ما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة قلنا إمساكه العيب راضياً به رضا منه باسقاط حقه فجرى مجرى ابرائه من بقية كتابته وإن اختار إمساكه وأخذ أرش العيب أو رده فله ذلك.
قال أبو بكر وقياس قول أحمد أنه لا يبطل العتق وليس له الرد وله الأرش لأن العتق إتلاف واستهلاك فإذا حكم بوقوعه لم يبطل كعقد الخلع ولأنه ليس المقصود منه المال فأشبه الخلع.
وقال القاضي يتوجه أن له الرد ويحكم بارتفاع العتق الواقع لأن العتق إنما يستقر باستقرار الأداء وقد ارتفع الأداء فارتفع العتق، وهذا مذهب الشافعي لأن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ بالتراضي فوجب أن يفسخ بوجود العيب كالبيع وإن اختار إمساكه وأخذ الأرش فله ذلك وتبين أن العتق لم يقع لأننا تبينا أن ذمته لم تبرأ من مال الكتابة ولا يعتق قبل ظن وقوع(12/366)
العتق لا يوقعه إذا بان الأمر بخلافه كما لو بان العوض مستحقاً وإن تلفت العين عند السيد أو حدث بها عده عيب استقر أرش العيب والحكم في ارتفاع العتق على ما ذكرنا فيما مضى ولو قال السيد لعبده إن أعطيتني عبداً فأنت حر فأعطاه عبداً فبان حراً أو مستحقاً لم يعتق بذلك لأن معناه إن أعطيتنيه ملكاً ولم يعطه إياه ملكاً ولم يملكه إياه.
(فصل) وإذا دفع إليه مال الكتابة ظاهراً فقال له السيد أنت حر أو قال هذا حر ثم بان العوض مستحقاً لم يعتق بذلك لأن ظاهره الإخبار عما حصل له بالأداء فلو ادعى المكاتب أن السيد قصد
بذلك عتقه وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه لأن الظاهر معه وهو أخبر بما نوى.
(فصل) قال رضي الله عنه ويملك المكاتب اكتسابه ومنافعه والشراء والبيع والإجارة والاستئجار والسفر وأخذ الصدقة والإنفاق على نفسه وولده ورقيقه وكل ما فيه صلاح المال يملك المكاتب إكسابه ومنافعه والشراء والبيع باجماع أهل العلم لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق ولا يحصل إلا بأداء عوضه ولا يمكنه الاداء إلا بالاكتساب، والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب فإنه قد جاء في بعض الآثار أن تسعة أعشار الرزق في التجارة ويملك الأجارة والاستئجار قياساً على البيع والشراء ويملك السفر قريباً كان أو بعيداً، وهذا قول الشعبي والنخعي والحسن بن صالح وأبي حنيفة وقد(12/367)
أطلق أصحابنا القول في ذلك ولم يفرقوا بين السفر الطويل وغيره وقياس المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم كتابته قبل لأنه يتعذر معه استيفاء النجوم في وقتها والرجوع في رقه عند عجزه فمنع منه كالغريم الذي يحل الدين عليه قبل مدة سفره واختلف قوله فقال في موضع له السفر وقال في موضع ليس له السفر إذا كان قصيراً لأنه في حكم الحاضر والموضع الذي منع منه إذا كان بعيداً يتعذر معه استيفاء نجومه والرجوع في رقه عند عجزه.
ولنا أن المكاتب في يد نفسه وإنما للسيد عليه دين أشبه الحر الدين وما ذكروه لا أصل له ويبطل بالحر الغريم وله أخذ الصدقة الواجبة والمستحبة لأن الله تعالى جعل للمكاتبين الأخذ من الواجبة وإذا جاز الأخذ من الواجبة فالمستحبة أولى.
(مسألة) (وإن شرط عليه أن لا يسافر ولا يأخذ الصدقة فهل يصح الشرط؟ على وجهين.
إذا شرط السيد على مكاتبه أن لا يسافر، فقال القاضي الشرط باطل، وهو قول الحسن وسعيد ابن جبير والشعبي والنخعي وأبي حنيفة لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح شرطه كشرط ترك الاكتساب ولأنه غريم فلم يصح ترك السفر عليه كما لو أقرض لرجل قرضاً بشرط أن لا يسافر وقال أبو الخطاب يصح الشرط وله منعه من السفر وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم)(12/368)
ولأنه شرط له فيه فائدة فلزم كما لو شرط نقداً معلوماً وبيان فائدته أنه لا يأمن إباقه وأنه لا يرجع إلى سيده فيفوت العبد والمال الذي عليه ويفارق القرض فإنه عقد جائز من جانب المقرض متى شاء طالب بأخذه ومنع الغريم السفر قبل إيفائه فكان المنع من السفر حاصلاً بدون شرطه بخلاف الكتابة فإنه لا يمكن السيد منعه من السفر إلا بشرطه وفيه حفظ عبده وماله فلا يمنع من تحصيله وهذا أصح إن شاء الله تعالى فعلى هذا الوجه لسيده منعه من السفر فإن سافر بغير إذنه فله رده إن أمكنه وإن لم يمكنه رده احتمل أن له تعجيزه ورده إلى الرق لأنه لم يف بما شرط عليه أشبه ما لو لم يف بأداء الكتابة واحتمل أن لا يملك ذلك لأنه مكاتب كتابة صحيحة لم يظهر عجزه فلم يملك تعجيزه كما لو لم يشترط عليه.
(فصل) وإن شرط عليه أن لا يسأل الناس فقال أحمد قال جابر بن عبد الله هم على شروطهم إن رأيته يسأل تنهاه فإن قال لا أعود لم يرده عن كتابته في مرة فظاهر هذا أن الشرط صحيح لازم وأنه إن خالف مرة لم يعجزه وإن خالف مرتين أو أكثر فله تعجيزه قال أبو بكر إذا رآه يسأل مرة في مرة عجزه كما إذا حل نجم في نجم عجزه فاعتبر المخالفة في مرتين كحلول نجمين وإنما صح الشرط لقول عليه الصلاة والسلام (المسلمون على شروطهم) ولأن له في هذا فائدة وغرضاً صحيحاً وهو أن(12/369)
لا يكون كلاً على الناس ولا يطعمه من صدقتهم وأوساخهم وذكر أبو الخطاب أنه لا يصح الشرط لأن الله تعالى جعل للمكاتب سهما عن الصدقة بقوله تعالى (وفي الرقاب) وهم المكاتبون فلا يصح اشتراط ترك طلب ما جعل الله له.
(مسألة) (وله الإنفاق على نفسه وولده ورقيقه وكل ما فيه صلاح المال) .
لأن له التصرف في المال بما يعود بمصلحته ومصلحة ماله والإنفاق على نفسه وولده ورقيقه من أهم المصالح فينفق عليهم ما يحتاجون إليه من مأكلهم ومشربهم وكسوتهم بالمعروف مما لا غنى لهم عنه والحيوان الذي له وله تأديب عبيده وتعزيرهم إذا فعلوا ما يستحقون ذلك لأنه من مصلحة ملكه فملكه كالنفقة عليهم ولا يملك إقامة الحد عليهم لأنه موضع ولاية وما هو من أهلها وله أن يختنهم لأنه من مصلحتهم وله المطالبة بالشفعة والأخذ بها لأنه نوع شراء فإن كان المشتري للشقص سيده
فله أخذه منه لأن له أن يشتري منه وإن اشترى المكاتب شقصاً لسيده فيه شركة فله أخذه من المكاتب بالشفعة لأنه مع سيده في باب البيع والشراء كالأجنبي وإن وجبت للسيد على مكاتبه شفعة فادعى المكاتب أن سيده عفا عنها سمعت دعواه وإن انكره السيد كان عليه اليمين وإن أذن السيد لمكاتبه في البيع بالمحاباة صح منه وكان لسيده الأخذ بالشفعة، لأن بيعه بالمحاباة مع سيده فيه صحيح ويصح إقرار المكاتب بالبيع والشراء والعيب والدين لأنه يصح تصرفه فيه بذلك ومن ملك شيئاً ملك الإقرار به.(12/370)
(مسألة) (وليس له أن يتزوج ولا يتسرى ولا يتبرع ولا يقرض ولا يحابي ولا يقتص من عبده الجاني على بعض رقيقه ولا يعتق ولا يكاتب إلا بإذن سيده) .
وجملة ذلك أن المكاتب ليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده، وهو قول الحسن ومالك والليث وابي حنيفة والشافعي وأبي يوسف، وقال الحسن بن صالح له ذلك، لأنه عقد معاوضة أشبه البيع.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) ولأن على السيد ضرراً لأنه إن عجز رجع عليه ناقص القيمة ويحتاج أن يؤدي المهر والنفقة من كسبه فيعجز عن أداء نجومه فيمنع من ذلك كالتبرع به فعلى هذا إذا تزوج لم يصح وقال الثوري نكاحه موقوف إن أدى تبينا أنه كان صحيحاً وإن عجز فنكاحه باطل.
ولنا الخبر ولأنه تصرف منع منه للضرر فلم يصح كالهبة.
إذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما ولا مهر لها إن كان قبل الدخول وإن كان بعده فعليه مهر المثل يؤدى من كسبه كجنايته فإن أتت بولد لحقه نسبه لأنه من وطئ في نكاح فاسد فإن كانت المرأة حرة فهو حر وإن كانت أمة فهو رقيق لسيدها، فإن أذن له سيده في النكاح صح في قول الجميع فإن الخبر يدل بمفهومه على أنه يصح إذا أذن له لأن المنع من نكاحه لحق السيد فإذا أذن فيه زال المانع وقياساً على ما إذا اذن لعبده القن.(12/371)
(فصل) وليس له التسري بغير إذن سيده لأن ملكه ناقص.
وقال الزهري لا ينبغي لأهله أن يمنعوه من التسري.
ولنا أن على السيد فيه ضرراً فمنع منه كالتزويج وبيان الضرر أنه ربما أحبلها والحمل عيب في بنات آدم وربما تلفت وربما ولدت فصارت أم ولد يمتنع عليه بيعها في أداء كتابته فإن عجز رجعت إلى سيده ناقصة وإذا منع من التزويج لضرره فهذا أولى فإن أذن له سيده جاز وقال الشافعي لا يجوز في أحد القولين لأنه أمر يضر به وربما أفضى إلى منعه من العتق فلم يجز بإذن السيد.
ولنا أنه لو أذن لعبده القن في التسري جاز فللكاتب أولى ولأن المنع كان لأجل الضرر بالسيد فجاز بإذنه كالتزويج إذا ثبت هذا فإنه إن تسري بإذن سيده أو غير إذنه فلا حد عليه لشبهة الملك ولا مهر عليه لأنه لو وجب لوجب له ولا يجب على الإنسان شئ لنفسه فإن ولدت فالنسب لاحق به لأن الحد إذا سقط للشبهة لحقه النسب ويكون الولد مملوكاً له لأنه ابن أمته ولا يعتق عليه لأن ملكه غير تام وليس له بيعه لأنه ولده ويكون موقوفاً على كتابته فإن أدى عتق وعتق الولد لأنه ملك لأبيه الحر وإن عجز وعاد إلى الرق فولده رقيق أيضاً ويكونان مملوكين للسيد (فصل وليس له أن يزوج عبيده وإماءه بغير إذن سيده وهذا قول الشافعي وابن المنذر وذكر عن مالك أن له ذلك إذا كان على وجه النظر لأنه عقد على منفعه فملكه كالإجارة وحكي(12/372)
عن القاضي أنه في الخصال له تزويج الأمة دون العبد لأنه يأخذ عوضاً عن تزويجها بخلاف العبد ولأنه عقد على منافعها أشبه إجارتها ولنا أن على السيد فيه ضرراً لأنه إن زوج العبد لزمته نفقة امرأته ومهرها وشغله بحقوق النكاح ونقص قيمته وإن زوج الأمة ملك الزوج بضعها ونقصت قيمتها وقلت الرغبات فيها وربما امتنع بيعها بالكلية وليس ذلك من جهات المكاسب فربما أعجزه ذلك عن أداء نجومه وإن عجز عاد رقيقاً للسيد مع ما تعلق بهم من الحقوق ولحقهم من النقص وفارق الإجارة فإنها من جهات المكاسب عادة فعلى
هذا إن وجب تزويجهم لطلبهم ذلك وحاجتهم إليه باعهم فإن العبد متى طلب التزويج حين سيده بين بيعه وتزويجه وإن أذن السيد في ذلك جاز لأن الحق له والمنع منه (فصل) وليس له استهلاك ماله ولا هبته وبه قال الحسن ومالك والثوري والشافعي والثوري وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً لأن حق سيده لم ينقطع عنه لأنه قد يعجز فيعود إليه ولأن القصد من الكتابة تحصيل العتق بالأداء وهبة ماله تفوت ذلك وتجوز بإذن سيده وقال أبو حنيفة لا تجوز لأنه يفوت المقصود بالكتابة وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن الحق لا يخرج عنهما فجاز باتفاقهما كالراهن والمرتهن ولا تصح الهبة بالثواب وقال الشافعي في أحد قوليه تصح لأن فيها معاوضة(12/373)
ولنا أن الاختلاف في تقدير الثواب يوجب الغرر ولأن عوضها يتأخر فهو كالبيع نسيئة وإن أذن السيد فيها جازت ولذلك إن وهب لسيده أو لابن سيده الصغير جاز لأن قبوله للهبة إذن فيها وليس له أن بحابي في البيع ولا يزيد في الثمن الذي اشترى به لأنه اتلاف للمال على سيده فأشبه الهبة ولا يجوز له أن يعير دابته ولا يهدي هدية وأجاز ذلك أصحاب الرأي ويحتمل جواز اعارة دابته وهدية المأكول ودعائه إليه كالمأذون له لأن المكاتب لا ينحط عن درجته ووجه الأول أنه تبرع بماله فلم يجز كالهبة وليس له أن يوصي بماله ولا يحط عن المشتري شيئاً ولا يقرض لأنه يعرضه للاتلاف ولا يضمن ولا يتكفل با؟؟ وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي لأن ذلك تبرع بماله فهو كالهبة ولا يقتص من عبده الجاني على بعض رقيقه ذكره أبو بكر لأن فيه اتلاف المال على سيده وقال القاضي له أن يقتص من الجناة عليه وعلى رقيقه ويأخذ الأرش لأن فيه مصلحته (فصل) ولا يعتق رقيقه إلا بإذن سيده وبه قال الحسن والاوزاعي ومالك والشافعي وأبو حنيفة لأن فيه ضرراً على سيده بتفويت ماله فيما لا يحصل له به مال أشبه الهبة فإن أعتق لم يصح إعتاقه ويتخرج أن يصح ويقف على إذن سيده وقال أبو بكر هو موقوف على آخر أمر المكاتب فإن أدى عتق معتقه وإن لم يؤد رق قال القاضي هذا قياس المذهب كقولنا في ذوي الأرحام إنهم موقوفون
ولنا أنه تبرع بماله بغير إذن سيده فكان باطلا كالهبة ولأنه تصرف تصرفا منع منه لحق سيده(12/374)
فكان باطلاً كسائر ما منع منه ولا يصح قياسه على ذوي أرحامه لأن عتقهم ليس بتصرف منه وإنما يعتقهم الشرع على مالكهم بملكهم والمكاتب ملكه ناقص فلم يتقوا به فإذا عتق كمل ملكه فعتقوا حينئذ والمعتق إنما يعتق بالإعتاق الذي كان باطلاً فلا تتبين صحته إذا كمل الملك لأن كمال الملك في في الثاني لا يوجب كونه كاملاً حين الإعتاق ولذلك لا يصح سائر تبرعاته بأدائه فإن أذن فيه سيده صح وقال الشافعي في أحد قوليه لا يصح لأن تبرعه بماله يفوت المقصود من كتابته وهو العتق الذي هو حق لله تعالى أو فيه حق له فلا يجوز تفويته ولأن العتق لا ينفك من الولاء وليس من أهله ولأن ملك المكاتب ناقص والسيد لا يملك إعتاق ما في يده ولا هبته فلم يصح إذنه فيه ولنا أن الحق لا يخرج عنهما فإذا اتفقا على التبرع به جاز كالراهن والمرتهن وما ذكروه يبطل بالنكاح فإنه لا يملكه ولا يملكه السيد عليه وإذا أذن فيه جاز وأما الولاء فإنه يكون موقوفاً فإن عتق المكاتب لان له وإلا فهو لسيده كما يرق مماليكه من ذوي أرحامه هذا قول القاضي وقال أبو بكر يكون لسيده كان إعتاقه إنما صح بإذن سيده فكان كنائبه (فصل) قال شيخنا وليس له أن يحج إذا احتاج إلى انفاق ماله فيه وذكر في كتاب الاعتكاف أن له أن يحج بغير إذن سيده لأنه كالحر المدين ونقل الميموني عن أحمد للمكاتب أن يحج من المال الذي جمعه إذا لم يأت نجمه قال شيخنا وذلك محمول على أنه يحج بإذن سيده أما بغير إذنه فلا يجوز(12/375)
لأنه تبرع بما ينفق ماله فيه فلم يجز كالعتق فأما إن أمكنه الحج من غير انفاق ماله كالذي يتبرع له إنسان باحجاجه أو يخدم من ينفق عليه فيجوز إذا لم يأت نجمه لأن هذا يجري مجرى تركه المكسب وليس ذلك مما يمنع منه (فصل) وليس للمكاتب أن يكاتب إلا بإذن سيده وهذا قول الحسن والشافعي لأن الكتابة نوع إعتاق فلم تجز من المكاتب كالمنجر ولأنه لا يملك الإعتاق فلم يملك الكتابة كالمأذون واختيار
القاضي جواز الكتابة وهو الذي ذكره أبو الخطاب في رءوس المسائل وهو قول مالك وابي حنيفة والثوري والاوزاعي لأنه نوع معاوضة فأشبه البيع وقال أبو بكر هو موقوف كقوله في العتق المنجز فإن أذن فيها السيد صحت، وقال الشافعي فيها قولان وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم (مسألة) (وولاء من يعتقه ويكاتبه لسيده) إذا كاتب عبده فعجزا جميعاً صارا رقيقين للسيد وإن أدى المكاتب الأول ثم أدى الثاني فولاء كل واحد منهما لمكاتبه وإن أدى الأول وعجز الثاني صار رقيقاً للأول وإن عجز الأول وأدى الثاني فولاؤه للسيد الأول وإن أدى الثاني قبل عتق الأول عتق قال أبو بكر وولاؤه للسيد وهو قول أبي حنيفة لأن العتق لا ينفك عن الولاء والولاء لا يوقف لأنه سبب يورث به فهو كالنسب(12/376)
ولأن الميراث لا يقف كذلك سببه، وقال القاضي هو موقوف إن أدى عتق والولاء له وإلا فهو للسيد، وهذا أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن اعتق) ولأن العبد ليس بملك له ولا يجوز أن يثبت له الولاء على من لم يعتق في ملكه وقولهم لا يجوز أن يقف كما لو يقف النسب والميراث ليس كذلك فإن النسب يقف على بلوغ الغلام وانتسابه إذا لم تلحقه القافة بأحد الواطئين وكذلك الميراث يوقف على أن الفرق بين النسب والميراث وبين الولاء أن الولاء يجوز أن يقع لشخص ثم ينتقل وهو ما يجره مولى الأب من مولى الأم فجاز أن يكون موقوفاً والنسب والميراث بخلاف ذلك فإن مات المعتق قبل عتق المكاتب وقلنا الولاء للسيد ورثه، وإن قلنا هو موقوف فميراثه أيضاً موقوف.
(مسألة) (وليس له أن يبيع نسيئة وان باعا لسلعة بأضعاف قيمتها وهذا مذهب الشافعي) لأن فيه تغريراً بالمال وهو ممنوع منه لتعلق حق السيد به.
قال القاضي ويتخرج الجواز بناء على المضارب أن له البيع نسيئة في إحدى الروايتين فيخرج ههنا مثله وسواء أخذ ضميناً أو رهيناً أو لم يأخذ لأن الغرر باق لأنه يحتمل أن يتلف الرهن ويفلس الغريم والضمين، ويحتمل أن يجوز مع الرهن والضمين لأن الوثيقة قد حصلت به والعوارض نادرة على خلاف الأصل فإن باع(12/377)
بأكثر من قيمته حالاً وجعل الزيادة مؤجلة جاز لأن الزيادة ربح وإن اشترى نسيئة جاز لأنه لا غرر فيه ولا يجوز أن يدفع به رهناً لأن الرهن أمانة وقد يتلف أو يجحده الغريم وليس له أن يدفع ماله سلما لأنه في معنى البيع نسيئة وله أن يستسلف في ذمته لأنه في معنى الشراء نسيئة وله أن يقترض لانه ينتفع بالمال وليس له أن يدفع ماله مضاربة لأنه يسلمه إلى غيره فيغرر به وفي الرهن والمضاربة وجه آخر أنه لا يجوز وله أن يأخذ قراضاً لأنه من أنواع الكسب ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على ما ذكرنا (مسألة) (ولا يكفر بالمال وعنه له ذلك بإذن سيده) إذا لزمت المكاتب كفارة ظاهر أو جماع في رمضان أو قتل أو كفارة يمين لم يكن له التكفير بالمال لأنه عبد ولأنه في حكم المعسر بدليل أنه لا تلزمه زكاة ولا نفقة قريب وله أخذ الزكاة لحاجته وكفارة العبد والمعسر الصيام وإن أذن له سيده في التكفير بالمال جاز لأنه بمنزلة التبرع ولأن المنع لحقه وقد أذن فيه ولا يلزمه التكفير بالمال وإن أذن فيه السيد لأن عليه ضرراً لما يفضي إليه من تفويت حريته كما أن التبرع لا يلزمه بإذن سيده وقال القاضي المكاتب كالعبد القن في التكفير ومتى أذن له سيده في التكفير بالمال انبنى على ملك العبد بالتمليك فإن قلنا لا يملك لم يصح تكفيره بغير الصيام سواء أذن فيه أو لم يأذن لأنه يكفر بما ليس بمملوك له وإن قلنا يملك بالتمليك صح تكفيره بالإطعام إذا أذن فيه السيد وأن أذن(12/378)
له في تكفير بالعتق فهل يصح؟ على روايتين نذكرهما في تكفير العبد إن شاء الله تعالى قال شيخنا والصحيح أن هذا التفصيل لا يتوجه في المكاتب لأنه يملك المال بغير خلاف وإنما ملكه ناقص لتعلق حق سيده به فإذا أذن له سيده فيه صح كالتبرع (مسألة) (وهل له أن برهن أو يضارب؟ يحتمل وجهين) (أحدهما) لا يجوز لأن في دفع ماله إلى غيره تغريراً به وفي الرهن خطر لأنه قد يتلف أو يجحده الغريم وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه قد يرى الحظ فيه بدليل أن لولي اليتيم أن يفعله
في مال اليتيم فجاز كاجارته (مسألة) (وليس له شراء ذوي رحمه إلا بإذن سيده) لأنه تصرف يؤدي إلى إتلاف ماله لأنه يخرج من ماله ما يجوز التصرف فيه في مقابلة ما لا يجوز له التصرف فيه أشبه الهبة وهذا قول الشافعي وقال القاضي له ذلك وهو قول الثوري واسحاق وأصحاب الرأي لأنه اشترى مملوكاً لا ضرر على السيد في شرائه فصح كالأجنبي وبيانه أنه يأخذ كسبهم وإن عجز صاروا رقيقاً لسيده ولأنه يصح أن يشتريه غيره فصح شراؤه له كالأجنبي ويفارق الهبة لأنها تفوت المال بغير عوض ولا نفع يرجع إلى الكاتب ولاء السيد ولأن السبب تحقق وهو صدور التصرف من أهله في محله ولم يتحقق المانع لأن ما ذكروه لا نص فيه ولا له أصل يقاس عليه فإن أذن(12/379)
فيه سيده جاز وهو قول مالك لأن المنع لحق سيده فجاز بإذنه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم فيه قولان (مسألة) (وله أن يقبلهم إذا وهبوا له أو وصي له بهم) لأنه إذا ملك شراءهم مع ما فيه من بذل ماله فلأن يجوز بغير عوض أولى وعند من لا يرى جواز شرائهم بغير إذن السيد لا يجوز قبولهم إلا إذا لم يكن فيه ضرر بماله كما قالوا في ولي اليتيم إذا وصى لليتيم بمن يعتق عليه (مسألة) (وإذا ملكهم فليس لهم بيعهم ولا هبتهم ولا إخراجهم عن ملكه) وقال أصحاب الرأي له بيع من عدا الوالدين والمولودين لأنهم ليست قرابتهم قرابة جزئية ولا بعضية فأشبهوا الأجانب ولنا أنه ذو رحم يعتق عليه إذاعته فلا يجوز بيعه كالوالدين والمولودين ولأنه لا يملك بيعهم إذا كان حراً فلا يملكه مكاتباً كوالديه (فصل) ولا يعتقون بمجرد ملكه لهم لأنه لو باشرهم بالعتق أو أعتق غيرهم لم يقع العتق فلأن لا يقع بالشراء الذي أقيم مقامه أولى ومتى أدى وهم في ملكه عتقوا لأنه كمل ملكه فيهم وزال تعلق
حق سيده عنهم فعتقوا حينئذ وولاؤهم له دون سيده لأنهم عتقوا عليه بعد زوال ملكه سيده عنه(12/380)
فصاروا بمنزلة ما لو اشتراهم بعد عتقه وإن عجز ورد في الرق صاروا عبيداً للسيد لأنهم من ماله فيصيرون للسيد بعجزه كعبيده الأجانب وله كسبهم لأنهم مماليكه أشبه الأجانب ونفقتهم عليه بحكم الملك لا بحكم القرابة وكذلك الحكم في ولده من أمته قياساً عليهم (فصل) فإن أعتقهم السيد لم يعتقوا لأنه لا يملكهم فلم يملك التصرف فيهم، وإن أعتقهم المكاتب بغير إذن سيده لم يعتقوا لتعلق حق سيده بهم وإن أعتقهم بإذنه عتقوا كما لو أعتق غيرهم من عبيده وإن اعتقه سيده عتق وصاروا رقيقاً للسيد كما لو عجز لأن كتابته تبطل بعتقه كما تبطل بموته وعلى ما اختاره شيخنا يعتقون لأنه عتق قبل فسخ الكتابة فوجب أن يعتقوا كما لو عتق بالإبراء من مال الكتابة أو بأدائه يحقق هذا أن الكتابة عقد لازم يستفيد بها المكاتب ملك رقيقه واكسابه ويبقى حقه السيد في ملك رقبته على وجه لا يزول إلا بالإداء أو ما يقوم مقامه فلا يتسلط السيد على إبطالها فيما يرجع إلى إبطال حق المكاتب وإنما يتسلط على إبطال حقه من رقبة المكاتب فينفذ في ماله دون مال الكاتب وقد ذكرنا مثل هذا فيما مضى وإن مات المكاتب ولم يخلف وفاء عادوا رقيقاً وقال أبو يوسف ومحمد يسعون في الكتابة على نجومها وكذلك ام وولده وقال أبو حنيفة في(12/381)
الولد خاصة إن جاء بالكتابة حالة قبلت منه وعتق ولنا أنه عبد للمكاتب فصار بموته لسيده إذا لم يخلف وفاء كالأجنبي وإن خلف وفاء انبنى على الروايتين في فسخ الكتابة على ما تقدم (مسألة) (وولد المكاتبة الذي ولدته في الكتابة يتبعها) تصح كتابة الأمة كما تصح كتابة العبد بغير خلاف وقد دل عليه حديث بريرة وحديث جويرة بنت الحارث ولأنها داخلة في عموم قوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) فإذا أتت المكاتبة بولد من غير سيدها من نكاح أو غيره
فهو تابع لها فإن عتقت بالأداء أو بالإبراء عتق وإن فسخت كتابتها وعادت إلى الرق عاد رقيقا قنا وهذا قول شريح ومالك والثوري وأبي حنيفة وإسحاق وسواء في هذا ما كان حملاً حال الكتابة أو حدث بعدها وقال أبو ثور وابن المنذر هو عبد قن لا يتبع أمه وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن الكتابة غير لازمة من جهة العبد فلا تسري إلى الولد كالتعليق بالصفة ولنا أن الكتابة سبب ثابت للعتق لا يجوز إبطاله فسرى إلى الولد كالاستيلاد ويفارق التعليق بالصفة فإن السيد يملك إبطاله بالبيع إذا ثبت هذا فالكلام في الولد في فصول أربعة في قيمته إذا تلف وفي كسبه وفي نفقته وفي(12/382)
عتقه، أما قيمته إذا تلف فقال أبو بكر هي لأمه تستعين بها على كتابتها لأن السيد لا يملك التصرف فيه مع كونه عبداً فلا يستحق قيمته لانه بمنزلة جزء منها ولو جنى على جزء منها كان أرشه لها كذلك ولدها وإذا لم يستحقها هو كانت لأمه لأن الحق لا يخرج عنهما ولأن ولدها لو ملكته بهبة أو شراء فقتل كانت قيمته لها فكذلك إذا تبعها يحققه أنه إذا تبعها صار حكمه حكمها فلا يثبت ملك السيد في منافعه ولا في أروش الجناية عليه كما لا يثبت له ذلك فيها وقال الشافعي في أحد قوليه تكون القيمة لسيدها لانها لو قتلت كانت قيمتها لسيدها فكذلك ولدها والفرق بينهما أن الكتابة تبطل بقتلها فيصير مالها لسيدها بخلاف ولدها فإن العقد باق بعد قتله فنظير هذا إتلاف بعض أعضائها والحكم في إتلاف بعض أعضائه كالحكم في إتلافه، وأما كسبه وأرش الجناية عليه فينبغي أن يكون لامه أيضاً لأن ولدها جزء منها تابع لها فأشبه بقية أجزائها ولأن أداءها لكتابتها سبب لعتقه وحصول الحرية له فينبغي أن يصرف ذلك فيه بمنزلة صرفه إليه إذ في عجزها رقه وفوات كسبه عليه، وأما نفقته فعلى أمه لأنها تابعة لكسبه وكسبه لها ونفقته عليها وأما عتقه فإنه يعتق بأدائها أو إبرائها ويرق بعجزها لأنه تابع لها وإن ماتت المكاتبة في كتابتها بطلت كتابتها وعاد رقيقا قنا لا أن يخلف وفاء فيكون على الروايتين، وإن أعتقها سيدها لم يعتق ولدها لأنه إنما تبعها في حكم الكتابة وهو العتق بالأداء وما حصل الأداء إنما حصل عتقها بأمر لا يتبعها(12/383)
فيه فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة ومقتضى قول أصحابنا الذين قالوا تبطل كتابتها بعتقها أن يعود ولدها رقيقاً ومقتضى قول شيخنا أنه يبقى على حكم الكتابة ويعتق بالأداء لأن العقد لم يوجد ما يبطله وإنما سقط الأداء عنها لحصول الحرية بدونه فإذا لم يكن لها ولد يتبعها في الكتابة ولا في يدها مال يأخذه لم يظهر حكم بقاء العقد ولم يكن في بقائه فائدة فانتفى لانتفاء فائدته وفي مسئلتنا في بقائه فائدة لإفضائه إلى عتق ولدها فينبغي أن يبقى ويحتمل أن يعتق بإعتاقها لأنه جرى مجرى ابرائها من المال والحكم فيما إذا عتقت باستيلاد أو تدبير أو تعليق بصفة كالحكم فيما إذا أعتقها لأنها عتقت بغير الكتابة وإن أعتق السيد الولد دونها صح عتقه نص عليه أحمد في رواية مهنا لأنه مملوك له فصح عتقه كأمه ولأنه لو أعتقه معها صح عتقه ومن صح عتقه مع غيره صح مفرداً كسائر مماليكه.
قال القاضي: وقد كان يجب أن لا ينفذ عتقه لأن فيه ضرراً بأمه لتفويت كسبه عليها فإنها كانت تسعين به في كتابتها ولعل أحمد نفذ عتقه تغليباً للعتق والحصيح أنه يعتق وما ذكره القاضي من الضرر لا يصح لوجوه (أحدها) أن الضرر إنما يحصل في حق من له كسب يفضل عن نفقته فأما من لا كسب له فتخليصها من نفقته نفع محض ومن له كسب لا يفضل عن نفقته فلا ضرر في اعتاقه لأنه لا يفضل لها من كسبه شئ تنتفع به فكان ينبغي أن يقيد الحكم الذي ذكره بهذا القيد (الثاني) أن النفع بكسبه ليس بواجب لها لأنها لا تملك إجباره على الكسب فلم يكن الضرر بفواته معتبراً في حقها(12/384)
(الثالث) أن مطلق الضرر لا يكفي في منع العتق الذي يحقق مقتضيه ما لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار ولم يذكر له أصلاً ثم هو ملغي بعتق المفلس والراهن وسراية العتق إلى ملك الشريك فإنه يعتق مع وجود الضرر بتفويت الحق اللازم فهذا أولى.
(فصل) فأما ولد ولدها فإن ولد ابنها حكمه حكم أمه لأن ولد المكاتب لا يتبعه وأما ولد بنتها فهو كبنتها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تسري الكتابة إليه لأن السراية إنما تكون مع الاتصال
وهذا ولد منفصل فلا يسري إليه بدليل أن أم الولد قبل أن يستولدها لا يسري إليه الاستيلاد وهذا الولد اتصل بأمه دون جدته ولنا أن ابنتها ثبت لها حكمها تبعاً فيجب أن يثبت لابنتها حكمها تبعاً كما ثبت لها حكم أمها ولأن البنت تبعت أمها فيجب أن يتبعها ولدها لأن علة اتباعها لأمها موجودة في ولدها ولأن البنت تعلق بها حق العتق فيجب أن يسري إلى ولدها كالمكاتبة وهذا الخلاف في ولد البنت التابعة لأمها في الكتابة فأما المولودة قبل الكتابة فلا تدخل في الكتابة فابنتها أولى (مسألة) (وإن أشترى زوجته صح وانفسخ نكاحها) يجوز للمكاتب شراء امرأته وللمكاتبة شراء زوجها لأن ذلك يجوز لغير المكاتب فجاز للمكاتب كشراء الأجانب وينفسخ النكاح بذلك وقال الشافعي لا ينفسخ لأن المكاتب لا يملك بدليل أنه لا يجوز له الشراء ولا يعتق والده وولده إذا اشتراه فأشبه العبد القن(12/385)
ولنا أن المكاتب يملك ما اشتراه بدليل أنه تثبت له الشفعة على سيده ولسيده عليه ويجري الربا بينه وبينه وإنما منع لتسري لتعلق حق سيده بما في يده كما يمنع الراهن من الوطئ مع ثبوت ملكه ولذلك لم يعتق عليه ذوو رحمه وإذا اشترى أحدهما الآخر فله التصرف فيه لأنه أجنبي منه.
(مسألة) (وإن استولد أمته فهل تصير أم ولد يمتنع عليه بيعها؟ على وجهين) إذا استولد المكاتب أمته قبل عتقه وعجزه فإنها تصير أم ولد للمكاتب وليس له بيعها نص عليه أحمد لأن ولدها له حرمة الحرية ولا يجوز بيعه ويعتق بعتق أبيه وكذلك أمه فعلى هذا لا يجوز بيعها وتكون موقوفة مع المكاتب إن أعتق فهي أم ولده وإن رق رقت، وقال القاضي في موضع لا تصير أم ولد بحال وله بيعها لأنها حملت بمملوك في ملك غير تام وللشافعي قولان كهذين الوجهين (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يملك السيد شيئاً من كسبه ولا بيعه درهماً بدرهمين)
لا يملك شيئاً من كسب المكاتب لأنه اشترى نفسه من سيده ليملك ماله وكسبه ومنافعه فلا(12/386)
يبقى ذلك لبائعه كسائر المبيعات ويجري الربا بينه وبين سيده لأنه معه في باب المعاوضة كالأجنبي وقال ابن أبي موسى لا ربا بينهما لأنه عبد في الأظهر من قوله ولا ربا بين العبد وسيده ولهذا جاز أن يعجل لسيده ويضع عنه بعض كتابته وله وطئ مكاتبته إذا شرط ولو حملت منه صارت له بذلك أم ولد، ووجه الأول أن السيد مع مكاتبه في باب المعاملة كالأجنبي بدليل أن لكل واحد منهما الشفعة على صاحبه ولا يملك كل واحد منهما التصرف فيما بيد صاحبه وإنما يتعلق لسيده حق فيما بيده لكونه بعرضية أن يعجزه فيعود إليه وهذا لا يمنع جريان الربا بينهما كالأب مع ابنه فعلى هذا القول لا يجوز التفاضل بينهما فيما يحرم التفاضل فيه بين الأجنبيين ولا النساء فيما يحرم فيه النساء بين الأجانب.
(فصل) فإن كان لكل واحد منهما على صاحبه دين مثل أن كان للسيد على مكاتبه دين من الكتابة أو غيرها وللمكاتب على سيده دين وكانا نقداً من جنس واحد حالين أو مؤجلين أجلاً واحداً تقاصا وتساقطا لأنهما إذا تساقطا بين الأجانب فمع السيد ومكاتبه أولى وإن كانا نقداً من جنسين كدراهم ودنانير فقال ابن أبي موسى لو كان له على سيده ألف درهم ولسيده على مائة دينار فجعلها قصاصاً بها جاز بخلاف الحرين.
وقال القاضي لا يجوز هذا لأنه بيع دين بدين وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين ولأنه(12/387)
لا يجوز بين الأجنبيين فلم يجز بين المكاتب وسيده كسائر المحرمات وفارق العبد القن فإنه باق في تصرف سيده وما في يده ملك خالص لسيده أخذه والتصرف فيه فعلى هذا لا يجوز وإن تراضيا به وعلى قول ابن أبي موسى يجوز إذا تراضيا بذلك وتبايعاه ولا يثبت التقاص قبل تراضيهما به لأنه بيع فإن كانا عرضين او عرضا ونقداً لم تجز المقاصة فيهما بغير تراضيهما بحال سواء كان العوض من جنس حقه أو من غير جنسه وإن تراضيا بذلك لم يجز أيضاً لأنه بيع دين بدين وإن قبض أحدهما من الآخر
حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضاً عن ماله في ذمته جاز إذا لم يكن الثابت في الذمة عن سلم فإن كان ثبت عن سلم لم يجز أخذ عوضه قبل قبضه وفي الجملة أن حكم المكاتب مع سيده في هذا حكم الأجانب إلا على قول ابن أبي موسى الذي ذكرناه.
(مسألة) وإن ججنى عليه فعليه أرش جنايته) إذا جنى السيد على مكاتبه فلا قصاص عليه لأمرين (أحدهما) أنه حر والمكاتب عبد (والثاني) أنه ملكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش ولا يجب إلا باندمال الجرح لأنه قبل الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه ومتى سرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وكان كقتله فإذا ندمل الجرح وجب له أرشه حينئذ فإن كان من جنس مال الكتابة وقد حل عليه نجم تقاصا وإن كان من غير جنس مال الكتابة أو كان النجم لم يحل لم يتقاصا ولكل واحد(12/388)
منهما مطالبة صاحبه بما يستحقه فإن رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من نجومه جاز إذا كان من جنس مال الكتابة (مسألة) وإن حبسه مدة فعليه أرفق الامرين به من إنظاره مثل تلك المدة أو أجرة مثله) إذا حبسه سيده فقد أساء ولا يحتسب عليه بمدته في أحد الوجوه (والثاني) يحتسب عليه بمدته لأن مال الكتابة دين مؤجل فيحتسب بمدة الحبس من الأجل كسائر الديون المؤجلة فعلى هذا الوجه يلزمه أجر مثله في المدة التي حبسه فيها والأول أصح لأن على سيده تمكينه من التصرف مدة كتابته فإذا حبسه مدة وجب عليه تأخيره مثل تلك المدة ليستوفي الواجب له ولأن حبسه يقضي إلى ابطال الكتابة وتفويت مقصودها ورد، إلى الرق ولأن عجزه عن أداء نجومه في محلها بسبب من سيده فلم يستحق به فسخ العقد كما لو منع البائع المشتري من أداء الثمن لم يستحق فسخ البيع لذلك ولو منعت المرأة زوجها من الإنفاق عليها لم تستحق فسخ العقد لذلك (والثالث) يلزم سيده أرفق الامرين به من إنظاره مثل تلك المدة أو أجرة مثله فيها لأنه وجد سببهما فكان للمكاتب أنفعهما.
(مسألة) (وليس له أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط) وطئ المكاتبة من غير شرط حرام في قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب والحسن والزهري(12/389)
ومالك والليث والثوري والشافعي وأصاب الرأي وقيل له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطئ عن السعي عما هي فيه لأنها ملك يمينه فتدخل في عموم قوله تعالى (أو ما ملكت أيمانهم) ولنا أن الكتابة عقد أزال ملك استخدامها وملك عوض منفعة بضعها فيما إذا وطئت بشبهة فأزال حل وطئها كالبيع والآية مخصوصة بالمزوجة فنقيس عليها محل النزاع ولأن الملك ههنا ضعيف لأنه قد زال عن منافعها جملة ولهذا لو وطئت بشبهة كان المهر لها وتفارق أم الولد فإن ملكه باق عليها وإنما يزول بموته فأشبهت المدبرة والموصى بها وإنما امتنع البيع لانها ستحقت العتق بموته استحقاقاً لازماً لا يمكن زواله.
(فصل) فإن شرط وطأها فله ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وقال سائر من ذكرنا ليس له وطؤها لأنه لا يملكه مع إطلاق العقد فلم يملكه بالشرط كما لو زوجها أو أعتقها، وقال الشافعي إذا شرط ذلك في عقد الكتابة فسد لأنه شرط فاسد فأفسد العقد كما لو شرط عوضاً فاسداً وقال مالك لا يفسد العقد به لأنه لا يخل بركن العقد ولا شرطه فلم يفسد كالصحيح.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون عند شروطهم) ولأنها مملوكة له شرط نفعها فصح كشرط استخدامها.
يحقق هذا أن منعه من وطئها مع بقاء ملكه عليها ووجود المقتضي لحل وطئها انما كان لحقها فإذا اشترطه عليها جاز كالخدمة ولأنه استثنى بعض ما كان له فسح كاشتراط الخدمة وفارق البيع فإنه يزيل ملكه عنها.(12/390)
(مسألة) (وإن وطئها من غير أن يشترط أو وطئ أمتها أدب ولم يبلغ به الحد) .
إذا وطئها من غير شرط لم يجب عليه الحد لشبهة الملك في قول عامة الفقهاء، وروي عن الحسن والزهري أنهما قالا عليه الحد لأنه عقد عليها عقد معاوضة يحرم الوطئ فأوجب
الحد بوطئها كالبيع.
ولنا أنها مملوكته فلم يجب عليه الحد بوطئها كالمرهونة والمستأجرة ويخالف البيع فإنه يزيل الملك والكتابة لا تزيله بدليل قوله عليه السلام (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وعليه مهرها إذا وطئها بغير شرط، لأنه استوفى منفعتها الممنوع من استيفائها فأشبه منافع بدنها فإن كانا عالمين عزرا وإن كانا جاهلين عزرا وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً عزر العالم وعزر الجاهل ولا تخرج بالوطئ عن الكتابة وقال الليث إن طاوعته فقد فسخت كتابتها وعادت قنا ولنا أنه عقد لازم عقد لازم فلم ينفسخ بالمطاوعة على الوطئ كالإجارة والبيع بعد لزومه ويجب لها المهر مطاوعة كانت أو مكرهة وبه قال الحسن والثوري والحسن بن صالح والشافعي وقال قتادة يجب إذا أكرهها ولا يجب إذا طاوعته ونقله المزني عن الشافعي لأن المطاوعة بذلت نفسها بغير عوض فصارت كالزانية ومنصوص الشافعي وجوبه في الحالين وأنكر أصحابه ما نقله المزني وقالوا لا يعرف وقال مالك لا شئ عليه لأنها ملكه(12/391)
ولنا أنه عوض منفعتها فوجب لها كعوض بدنها ولأن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها ولهذا لو وطئها أجنبي كان المهر لها وإنما وجب في حال المطاوعة لأن الحد سقط عنه للشبهة فوجب لها المهر كما لو وطئ امرأة بشبهة عقد مطاوعة، فإن تكرر وطؤها وكان قد ادى مهر الوطئ الأول فللثاني مهر أيضاً لأن الأداء قطع حكم الوطئ وإن لم يكن أدى عن الأول لم يجب إلا مهر واحد لأن هذا عن وطئ الشبهة فلم يجب إلا مهر واحد كالوطئ في النكاح الفاسد (فصل) فأما إن وطئها مع الشرط فلا حد عليه ولا مهر ولا تعزير لانه وطئ يملكه ويباح له فأشبه وطأها قبل كتابتها، وإذا وجب لها المهر بالوطئ فإن كان لم يحل عليها نجم فلها المطالبة وإن كان قد حل عليها وكان المهر من غير جنسه فلها المطالبة أيضاً به وإن كان من جنسه تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله.
(مسألة) (فإن أولدها صارت أم ولد له سواء وطئها بشرط أو بغير شرط)
لأنه أحبلها بحر في ملكه فكانت أم ولد كغير المكاتبة والولد حر لأنه ولده من مملوكته ويلحقه نسبه لذلك ولانه من وطئ سقط فيه الحد للشبهة فأشبه ولد المغرور ولا تلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه(12/392)
(فصل) وليس له وطئ بنت مكاتبته لأنها تابعة لها موقوفة معها فلم يبح وطؤها كأمها ولا يباح ذلك بالشرط لأن حكم الكتابة ثبت فيها تبعاً ولم يكن وطؤها مباحاً حال العقد فيشترط فإن وطئها فلا حد عليه ويأثم ويعزر لأنه وطئ وطئها محرماً ولها المهر حكمه حكم كسبها يكون لامها تسعتين به في كتابتها لأن ذلك سبب حريتها فإن أحبلها صارت أم ولد له والولد حر لأنه أحبلها بحر في ملكه ويلحقه نسبه ولا تجب عليها قيمتها لأن أمها لا تملكها ولا قيمة ولدها لأنها وضعته في ملكه (فصل) وليس له وطئ جارية مكاتبة ولا مكاتبته اتفاقاً فإن فعل أثم وعزر ولا حد عليه لشبهة الملك لأنه يملك مالكها وعليه مهرها لسيدها وولده منها حر يلحقه نسبه لأن الحد سقط لشبهة الملك وتصير أم ولد له وعليه قيمتها لسيدها لأنه أخرجها بوطئه عن ملكه ولا تجب عليه قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه ويحتمل أن تلزمه قيمته لأنه أخرجه بوطئه عن أن يكون مملوكاً لسيدها فأشبه ولد المغرور (فصل) ولا يملك السيد إجبار مكاتبته ولا ابنتها ولا أمتها على التزويج لأنه زال ملكه بعقد الكتابة عن نفعها ونفع بعضها وعن عوضه وليس لواحدة منهن التزويج بغير إذنه لأن عليه ضرراً في ذلك فإنه يثبت حقاً للزوج فيها فربما عجزت وعادت إليه على وجه لا يملك وطأها فإن تراضيا بذلك(12/393)
جاز لأن الحق لا يخرج عنهما وهو وليها وولي ابنتها وجاريتها جميعاً لأن الملك له فأشبه الجارية القن والمهر للمكاتبة على ما ذكرنا في مهرهن إذا وطئهن السيد (مسألة) (فإن أدت عتقت وإن مات سيدها قبل أدائها عتقت وسقط ما بقي من كتابتها وما في يدها لها إلا أن يكون بعد عجزها وقال أصحابنا هو لورثة سيدها وكذلك الحكم فيما إذا
أعتق المكاتب سيده) قذ ذكرنا أن السيد إذا استولد مكاتبته صارت أم ولد له والولد حر ونسبه لاحق به ولا تبطل كتابتها بذلك لأنها عقد لازم من جهة سيدها وقد اجتمع لها سببان يقتضيان العتق أيهما سبق صاحبه ثبت حكمه هذا قول الزهري ومالك والليث والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال الحاكم تبطل كتابتها لأنها سبب للعتق فتبطل بالاستيلاد كالتدبير ولنا أنها عقد معاوضة فلا تبطل بالوطئ كالبيع ولأنها سبب للعتق لا يملك السيد الرجوع عنه فلم يبطل بذلك كالتعليق بصفة وما ذكره يبطل بالتعليق بالصفة وتفارق الكتابة التدبير من وجوه (أحدها) أن حكم التديبر والاستيلاد واحد وهو العتق عقيب الموت والاستيلاد أقوى لأنه يعتبر من رأس المال ولا سبيل إلى إبطاله بحال فاستغنى به عن التدبير والكتابة سبب يتعجل به العتق بالأداء ويكون ما فضل من كسبها لها وتملك بها منافعها وكسبها وتخرج عن تصرف سيدها وهذا لا يحصل بالاستيلاد فيجب أن تبقى لبقاء فائدتها(12/394)
(الثاني) أن الكتابة أقوى من التدبير للزومها وكونها لا تبطل بالرجوع عنها ولا بيع المكاتب ولا هبته (الثالث) أن التدبير تبرع والكتابة عقد معاوضة لازم.
إذا ثبت هذا فإنه يجتمع لها سببان كل واحد منهما يقتضي الحرية فأيهما تم قبل صاحبه ثبتت الحرية به كما لو انفرد لأن انضمام أحدهما إلى الآخر مع كونه لا ينافيه لا يمنع ثبوت حكمه فان ادت عتق بالكتابة وما فضل من كسبها فهو لها لأن المعتق بالكتابة له ما فضل من نجومه وإن عجزت وردت في الرق بطل حكم الكتابة وبقي لها حكم الاستيلاد منفرداً كما لو لم تكن مكاتبة وله وطؤها وتزويجها وإجارتها وتعتق بموته وما في يدها لورثة سيدها فإن مات سيدها قبل عجزها عتقت بأنها أم ولد وسقطت الكتابة لأن الحرية حصلت فسقط العوض المبذول في تحصيلها كما لو باشرها سيدها بالعتق وما في يدها لورثة سيدها في قول الخرقي وأبي الخطاب لأنها عتقت بحكم الاستيلاد فبطل حكم الكتابة فأشبهت غير المكاتبة
وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول ما فضل في يدها لها وهو قول الشافعي لأن العتق إذا وقع في الكتابة لا يبطل حكمها كالإبراء من مال الكتابة ولأن ملكها كان ثابتاً على ما في يدها ولم يحدث إلا ما يزيل حق سيدها عنها فيقتضي زوال حقه عما في يدها يدها وتقرير ملكها وخلوصه لها كما اقتضى ذلك في نفسها وهذا أصح(12/395)
(مسألة) (وكذلك الحكم فيما إذا أعتق المكاتب سيده يكون كسبه له في قول القاضي ومن وافقه، وعلى قياس قول الخرقي ومن وافقه يكون لسيده كما لو عتقت الأمة المكاتبة ويحتمل أن يكون لسيدها أيضاً على قول الخرقي ومن وافقه لأن السيد أعتقه برضاه فيكون رضا منه بإعطائه ماله بخلاف العتق بالاستيلاد فإنه حصل بغير رضا الورثة واختيارهم ولأنه لو كان مال المكاتب يصير إلى السيد اعتاقه لتمكن السيد من أخذ مال المكاتب متى شاء فمتى كان له غرض في أخذ ماله إما لكونه يفضل عن نجوم الكتابة وإما الغرض له في بعض أعيان ماله أو لكونه يتعجله قبل أن تحل نجوم الكتابة أعتق وأخذ ماله وهذا ضرر على المكاتب لم يرد الشرع به ولا يقتضيه عقد الكتابة فوجب أن لا يشرع (فصل) وإن أتت المكاتبة بولد من غير سيدها بعد استيلادها فله حكمها بالعتق بكل واحد من السببين أيهما سبق عتق به كالأم سواء لأنه تابع لها فيثبت له ما ثبت لها وإن ماتت المكاتبة بقي للولد سبب الاستيلاد وحده فإن اختلفا في ولدها فقالت ولدته بعد كتابتي أو بعد ولادتي وقال السيد بل قبله فقال أبو بكر القول قول السيد مع يمينه وهذا قول الشافعي لأن الاصل كون الأمة وولدها رقيقاً لسيدها له التصرف فيهما وهو يدعي ما يمنع التصرف ثم، وإن زوج مكاتبه أمته ثم باعها منه واختلفا في ولدها فقال السيد هو لي لأنها ولدته قبل بيعها لك وقال المكاتب بل بعده فالقول قول المكاتب لأنهما اختلفا في ملكه ويد المكاتبة عليه فكان القول قول صاحب اليد مع يمينه كسائر الاموال ويفارق ولد المكاتب لأنها لا تدعي ملكه(12/396)
(فصل) وإن كاتب اثنان جاريتهما ثم وطئها أحدهما أدب فوق أدب الواطئ المكاتبة الخالصة
له لان الوطئ ههنا حرم من وجهين الشركة والكتابة فهو آكد وإثمه أعظم وعليه لها مهر مثلها على ما أسلفناه فيما إذا كان السيد واحداً فان لم يكن حل نجم قبضت المهر فإذا حل نجمها سلمته إليهما وإن حل نجمها وهو من جنس مال الكتابة وكان في يدها بقدره دفعته إلى الذي لم يطأها واحتسب على الواطئ بالمهر وإن لم يكن في يدها شئ وكان بقدر نجمها أو دونه أخذت من الواطئ نصفه وسلمته إلى الآخر وإن لم يكن من جنس مال الكتابة فاتفقا على أخذه عوضاً عن مال الكتابة فالحكم فيه كما لو كان من جنسها وإن لم يتفقا قبضت ودفعت ما عليها من مال الكتابة من عوضه أو غيره وإن عجرت ففسخا الكتابة وكان في يدها بقدر المهر أخذه الذي لم يطأ وسقط المهر من ذمة الواطئ وإن لم يكن في يدها شئ كان للذي لم يطأ أن يرجع على الواطئ بنصفه لأنه وطئ جارية مشتركة بينهما فإن حبلت منه صارت أم ولد له وعليه نصف قيمتها لشريكه مع نصف المهر الواجب لها موسراً كان أو معسراً فإن كان موسراً أداه في الحال وإن كان معسراً فهو في ذمته هذا ظاهر كلام الخرقي فعلى هذا تصير أم ولد للواطئ ومكاتبة له كأنه اشتراها وتكون مبقاة على ما بقي من كتابتها وتعتبر قيمتها مكاتبة مبقاة على ما بقي من كتابتها واختار القاضي أنه إن كان معسراً لم يسر الإحبال لأنه بمنزلة(12/397)
لا عتاق بالقول يعتبر اليسار في سرايته ونصيب الواطئ قد ثبت له حكم الاستيلاد وحكم الكتابة ونصيب شريكه لم يثبت له إلا حكم الكتابة فإن أدت إليهما عتقت وبطل حكم الاستيلاد ونصفها قن لا يقوم على الوارث وإن كان موسراً لأنه ليس بعتق وان مات الواطئ قبل عجزها عتق نصيبه وسقط حكم الكتابة فيه وكان الباقي مكاتباً وإن كان الواطئ موسراً فقد ثبت لنصفها حكم الاستيلاد ونصفها الآخر موقوف فإن أدت إليهما عتقت كلها وولاؤها لهما وإن عجزت وفسخت الكتابة قومناها حيئنذ على الواطئ فيدفع إلى شريكه قيمة نصيبه ويصير جميعها أم ولد له فإن مات التقت عليه وكان ولاؤها له وهذا مذهب الشافعي وله قول آخر أنها تقوم على الموسر وتبطل عكتابة في نصف الشريك ويصير جميعها أم ولد ونصفها مكاتباً للواطئ فإن أدت نصيبه إليه عتقت وسرى إلى الباقي لأنه ملكه وعتق جميعها وإن عجزت ففسخت الكتابة كانت أم ولد له خاصة
فإذا مات عتقت كلها ولنا أن بعضها أم ولد فكان جميعها كذلك كما لو كان الشريك موسراً يحقق هذا أن الولد حاصل من جميعها وهو كله من الواطئ ونسبه لاحق به فينبغي أن يثبت ذلك لجميعها ويفارق الإعتاق فإنه أضعف على ما بينا من قبل ولنا على أن الكتابة لا تبطل بالتقويم أنها عقد لازم فلا تبطل مع بقائها بفعل صدر منه كما لو(12/398)
استولدها وهو في ملكه أو كما لو لم تحبل منه وأما الولد فهو حر لأنه من وطئ فيه شبهة ونسبه لاحق به لذلك ولا تلزمه قيمته لأنها وضعته في ملكه وروي عن أحمد في هذا روايتان (إحداهما) لا تجب قيمته لان نصيب شريكه انتقل إليه من حين العلوق وفي تلك الحال لم تكن له قيمة فلم يضمنه (والثانية) عليه نصف قيمته لأنه كان من سبيل هذا النصف أن يكون مملوكاً لشريكه فقد أتلف رقه عليه فكان عليه نصف قيمته قال القاضي هذا الرواية أصح في المذهب وذكر هاتين الروايتين أبو بكر وذكر أنها إن وضعته بعد التقويم فلا شئ على الواطئ وإن وضعته قبل التقويم غرم نصف قيمته فإن ادعى الواطئ لها لاستبراء فأتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من حين الاستبراء لم يلحق به ولم تصر أم ولد وكان حكم ولدها حكمها وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من حين الاستبراء لحق به كما لو كان قبل الاستبراء لأنا تبينا أنها كانت حاملاً وقت الاستبراء فلم يكن ذلك استبراء (مسألة) (وان وطئاها جميعاً فقد وجب لها على كل واحد منهما مهر مثلها) فإن كانت في الحالين على صفة واحدة فهما سواء في الواجب عليهما وإن كانت بكراً حين وطئها الأول فعليه مهر بكر وعلى الآخر مهر ثيب فإن كان نجمها لم يحل فلها مطالبتهما بالمهرين وإن كان قد حل وهو من جنس المهر تقاصا على ما ذكرنا في المقاصة فإن أدت إليهما عتقت وكان لها المطالبة بالمهرين وإن عجزت نفسها وفسخا الكتابة بعد قبضها المهرين وكانا سواء لم يملك أحدهما(12/399)
مطالبة الاخر بشئ لأنها قبضتهما وهي مستحقة لذلك فإن كانا في يدها اقتسماهما وإن تلفا أو بعضهما
فلا شئ لهما لأن السيد لا يثبت له دين على مملوكه وإن كان الفسخ قبل قبض المهرين وهما سواء سقط عن كل واحد ما عليه وإن كان أحدهما أقل من الاخر تقاضا منهما بقدر أقلهما ويرجع من عليه أقلهما على الآخر بنصف الزيادة وإن قبضت من أحدهما دون الآخر رجع المقبوض منه على الآخر بنصف ما عليه وإن قبضت البعض من أحدهما دون الآخر أو قبضت من أحدهما أكثر من الآخر رجع من قبض منه الأكثر على الآخر بنصف الزيادة التي أداها فإن أفضاها أحدهما بوطئه فعليه لها ثلث قيمتها لأن الإفضاء في الحرة يوجب ثلث ديتها فيوجب في الأمة ثلث قيمتها وهو مذهب الشافعي وهذا الخلاف مبني على الواجب في إفضاء الحرة وسنذكره إن شاء الله تعالى فإن فسخت الكتابة رجع من لم يفضها على الآخر بنصف قيمة الافضاء على الخلاف المذكور فإن إدعى كل واحد منهما على الآخر أنه الذي أفضاها أو وطئها حلف كل واحد منهما وبرئ وإن نكل أحدهما قضي عليه وإن كان الخلاف قبل عجزها فادعت على أحدهما فالقول قوله مع يمينه وإن ادعت على أحدهما غير معين لم تسمع الدعوى (مسألة) (وإن ولدت من أحدهما صارت ام ولد له) ويغرم لشريكه نصف قيمتها وهل يغرم نصف قيمة ولدها؟ على روايتين(12/400)
وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه فيما إذا وطئها أحدهما (مسألة) (وان أتت بولد وألحق بهما صارت أم ولد لهما يعتق نصفها بموت أحدهما وباقيها بموت الآخر كما لو كان سيدها واحداً واستولدها فإنها تعتق بموته وعند القاضي لا يسري استيلاد أحدهما إلى نصيب شريكه) لأنه انعقد له سبب استحقاقه للولاء على نصيبه بالكتابة فلم يجز ابطاله بالسراية إلا أن يعجز فينظر حينئذ فإن كان موسراً قوم عليه نصيب شريكه وإلا فلا وقد ذكرنا قول القاضى واجبنا عنه فيما سبق (فصل) فأما إن أولدها كل واحد منهما واتفقا على السابق منهما فعلى قول الخرقي تصير أم ولد له وولده حر يلحقه نسبه والخلاف في ذلك كالخلاف فيما إذا انفرد بإيلادها سواء، وأما الثاني فقد وطئ
أم ولد غيره بشبهة وأولدها فلا تصير أم ولد له لأنها مملوكة غيره فأشبه ما لو باعها ثم أولدها وعليه مهرها لها لأن الكتابة لم تبطل والولد حر لأنه من وطئ شبهة وعليه قيمته للأول لأنه فوت رقه عليه وكان من سبيله أن يكون رقيقاً له حكمه حكم أمه فتلزمه قيمته على هذه الصفة وقد ذكرنا في وجوب نصف قيمة الأول خلافاً فإن قلنا بوجوبها تقاصا بما لو أحد منهما على صاحبه في القدر الذي تساويا فيه ويرجع ذو الفضل بفضله وتعتبر القيمة يوم الولادة لأنها أول حال أمكن التقويم فيها وذكر القاضي في المسألة أربعة أحوال(12/401)
(أحدها) أن يكونا موسرين فالحكم على ما ذكرنا إلا أنه جعل المهر الواجب على الثاني للأول وهذا مذهب الشافعي ولا يصح هذا لأن الكتابة لا تبطل بالاستيلاد ومهر المكاتبة لها دون سيدها ولأن سيدها لو وطئها وجب عليه المهر لها فلأن لا يملك المهر الواجب على غيره أولى ولأنه عوض نفعها فكان لها كأجرتها (الثاني) أن يكون الأول موسراً والثاني معسرا فيكون الحال الأول سواء قال القاضي إلا أن ولده يكون مملوكاً لإعساره بقيمته وهذا غير صحيح لأن الولد لا يرق بإعسار والده بدليل ولد المغرور من امة والواطئ بشبهة وكل موضع حكمنا بحرية الولد لا يختلف بالإعسار واليسار وإنما يعتبر اليسار في سراية العتق وليس عتق هذا بطريق السراية إنما هو لأجل الشبهة في الوطئ فلا وجه لاعتبار التساوي فيه والصحيح أنه حر وتجب قيمته في ذمة أبيه (الحال الثالث) أن يكونا معسرين فإنها تصير أم ولد للأول ونصفها للثاني قال وعلى كل واحد منهما نصف مهرها لصاحبه وفي ولد كل واحد منهما وجهان (أحدهما) أن يكون كله حراً وفي ذمة أبيه نصف قيمته لشريكه (والثاني) نصف حر وباقيه عبد لشريكه إلا أن نصف الولد الأول عبد قن لأنه تابع للنصف الباقي من الأم وأما النصف الباقي من ولد الثاني فحكمه حكم أمه لأنه ولد منها بعد أن ثبت لنصفها حكم الاستيلاد للأول فكان نصفه الرقيق تابعاً لها في ذلك ولعل القاضي أراد(12/402)
ما إذا عجزت وفسخت الكتابة، فأما إذا كانت باقية على الكتابة فلها المهر كاملاً على كل واحد منهما إذا حكم برق نصف ولدها وجب أن يكون له حكمها في الكتابة لأن ولد المكاتبة يكون تابعاً لها (الحال الرابع) أن يكون الأول معسراً والثاني موسراً فحكمه حكم الثالث سواء إلا أن ولد الثاني حر لأن الحرية تثبت لنصفه بفعل أبيه وهو موسر فسرى إلى جميعه وعلى نصف قيمته لشريكه ولم تقوم عليه الأم لأن نصفها أم ولد للأول ولو صح هذا لوجب أن لا يقوم عليه نصف الولد لأن حكمه حكم أمه في هذا فإذا منع حكم الاستيلاد السراية في الأم منعه فيما هو تابع لها ومذهب الشافعي في هذا الفصل قريب مما ذكر القاضي (فصل) وإن اختلفا في السابق منهما فادعى كل واحد منهما أنه السابق فعلى قولنا لها المهر على كل واحد منهما وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية لأنه يقول صارت أم ولد لي بإحبالي إياها ووجب لشريكي علي نصف قيمتها ولي عليه قيمة ولده لأنه يقول أولدتها بعد أن صارت أم ولد لي وهل يكون مقراً لها بنصف قيمة ولدها؟ على وجهين سبق ذكرهما فعلى هذا إن استوى ما يدعيه وما يقر به تقاصا وتساقطا ولا يمين على صاحبه لأنه يقول لي عليك مثل مالك على والجنس واحد فتساقطا وإن زاد ما يقر به فلا شئ عليه لأن خصمه يكذبه في إقراره وإن زاد ما يدعيه فله اليمين على صاحبه في الزيادة ويثبت للأمة حكم العتق في نصيب كل واحد منهما بموته لإقراره بذلك ولا يقبل قوله على شريكه في إعتاق نصيبه(12/403)
وقال أبو بكر في الأمة قولان (أحدهما) أن يقرع بينهما فتكون أم ولد لمن تقع القرعة له (والثاني) تكون أم ولد لهما ولا يطؤها واحد منهما قال وبالأول أقول وأما القاضي فاختار أنهما إن كانا موسرين فكل واحد منهما يدعي المهر على صاحبه ويقر له بنصفه وهذا مذهب الشافعي لأن المهر عندهم لسيدها دونها ولا يعتق شئ منها بموت الأول لاحتمال أن تكون أم ولد للآخر فإذا مات الآخر عتقت لأن سيدها قد مات يقيناً وإن كانا معسرين فكل واحد منهما يقر بأن نصفها أم ولده ويصدقه الآخر لأن الاستيلاد لا يسري مع الإعسار وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر والآخر
يصدقه فيتقاصان إن تساويا وإن فضل أحدهما صاحبه نظرت فإن كان كل واحد منهما يدعي الفضل تحالفا وسقط وإن كان كل واحد منهما يقر بالفضل سقط لتكذيب المقر له به وفي الولد وجهان (أحدهما) يكون حراً فيكون كل واحد منهما يدعي على الآخر نصف قيمة الولد (والوجه الثاني) نصفه حر فيقربان نصف الولد مملوك لشريكه فيكون الولد بينهما من غير يمين وعلى الوجه الأول يتقاصان إن استوت قيمة الولدين ولا يمين في الموضعين وأيهما مات عتقه نصيبه وولاؤه له وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فالموسر يقر للمعسر بنصف قيمة الأمة ونصف مهر مثلها ويدعي عليه جميع المهر وقيمة الولد والمعسر يقر للموسر بنصف المهر ونصف قيمة الولد فيسقط إقرار الموسر للمعسر بنصف قيمة الجارية لكونه لا يدعيه ولا يصدقه فيه ويتقاصان بالمهر لاستواءهما فيه ويدفع المعسر إلى الموسر نصف قيمة الولد لإقراره به ويحلف على ما يدعيه عليه من الزيادة لأنه ادعى عليه(12/404)
جميع قيمة الولد فأقر له بنصفها ويحلف له الموسر على نصف قيمة الولد الذي ادعاه المعسر عليه وأما الجارية فإن نصيب الموسر منها أم ولد بغير خلاف بينهما فيه وباقيه يتنازعانه فإن مات الموسر أولاً عتق نصيبه وولاؤه لورثته فإذا مات المعسر عتق باقيها وإن مات المعسر أولاً لم يعتق منها شئ فإذا مات الموسر عتق جميعها ويجئ على قول أبي بكر أن يقرع بينهما في النصف المختلف فيه (فصل) فإن وطئاها معاً فأتت بولد لم تخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما مثل أن تأتي به بعد استبرائها منهما أو بعد أربع سنين منذ وطئها كل واحد منهما فيكون منفياً عنهما مملوكاً لهما حكمه حكم أمه في العتق بأدائها وتقبل دعوى الاستبراء من كل واحد منهما لأن دعوى الاستبراء في الأمة كاللعان في الحرة (القسم الثاني) أن يكون من أحدهما بعينه دون صاحبه والحكم فيه حكم ما إذا ولدت من أحدهما بعينه من وجوب المهر لها وقيمة نصفها لشريكه مع الخلاف في ذلك فأما الذي لم تحبل من وطئه فإن كان الأول فعليه المهر لها وإن كان الثاني فقد وطئ أم ولد غيره فإن كانت الكتابة باقية فعليه المهر لها أيضاً وإن كانت قد فسخت فالمهر للذي استولدها وقد وجب للثاني على الأول نصف قيمتها وفي
قيمة نصف الولد روايتان فإن كان المهر للأول تقاصا بقدر أقل الحقين وإن كان المهر لها رجع بحقه على الذي أحبلها وأما القاضي فقال في هذا القسم الحكم في الأول كالحكم فيه إذا انفرد بالوطئ على ما مضى من التفصيل وأما الثاني فإن وطئها بعد ولادتها من الأول نظرنا فإن وطئها بعد الحكم بكونها أم ولد للأول فعليه مهر مثلها فإن كان فسخ الكتابة في حق نفسه لعجزها فالمهر له لأنها أم ولده وإن(12/405)
كان لم يفسخ فالمهر بينه وبينها نصفين وإن وطئها بعد زوال الكتابة في حقه وقبل الحكم بأنها أم ولد للأول سقط عنه نصف مهر لأن نصفها قن له وعليه النصف لها إن لم يكن الأول فسخ الكتابة أوله إن فسخ وإن كان الأول معسراً فنصيبه منها أم ولد له ولها عليهما المهران والحكم فيما إذا عجزت أو أدت قد تقدم فأما إن كان الولد من الثاني فالحكم في وطئ الأول كالحكم فيه إذا وطئ منفرداً ولم يحبلها، وأما الثاني فإن كان موسراً قوم عليه نصيب شريكه عند العجز فإن فسخا الكتابة قومناها عليه وصارت أم ولد له وإن رضي الثاني بالمقام على الكتابة قومنا عليه نصيب الأول وصارت كلها أم ولد له ونصفها مكاتب ويرجع الأول على الثاني بنصف المهر ونصف قيمة الولد على إحدى الروايتين ويرجع الثاني على الأول بنصف المهر فيتقاصان به إن كان باقيا عليهما وإن كان الثاني معسراً فالحكم فيه كما لو ولدت من الأول وكان معسراً لا فصل بين المسلتين (القسم الثالث) أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما فيرى القافة معهما فيلحق بمن ألحقوه به منهما فمن ألحق به فحكمه حكم ما لو عرف أنه منه بغير قافة (مسألة) (ويجوز بيع المكاتب ومشتريه يقوم مقام المكاتب) وممن قال يجوز بيع المكاتب عطاء والنخعي والليث وابن المنذر وهو قديم قولي الشافعي قال ولا وجه لقول ما قال لا يجوز وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه لا يجوز بيعه وهو قول مالك وأصحاب الرأي والجديد من قولي الشافعي لأنه عقد يمنع استحاق كسبه فمنع بيعه كبيعه(12/406)
لأجنبي وعتقه، وقال الزهري وأبو الزناد يجوز بيعه برضاه ولا يجوز بغيره وحكي ذلك عن أبي يوسف
لأن بريرة إنما بيعت برضاها وطلبها ولأن لسيده استيفاء منافعه برضاه ولا يجوز بغير رضاه كذلك بيعه ولنا ما روى عروة عن عائشة أنها قالت جاءت بريرة إلى فقالت يا عائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئاً فقالت لها عائشة ونقست فيها ارجعي إلى أهلك ان أحوا أن أعطيهم ذلك جميعاً فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت عليهم ذلك فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي إنما الولاء لمن أعتق " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال (أما بعد فما بال ناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرطه أوثق وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه، قال ابن المنذر بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة لم ينكر ذلك ففي ذلك أبين البيان ان بيعه جائز ولا أعلم خبراً يعارضه ولا أعلم في شئ من الأخبار دليلاً على عجزها وتأوله الشافعي على أنها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخاً لكتابتها وهذا التأويل بعيد يحتاج إلى دليل في غاية القوة وليس في الخبر ما يدل عليه بل قولها أعينيني على كتابتي دليل على بقائها على الكتابة ولأنها أخبرتها أن نجومها في كل عام أوقية فالعجز إنما يكون بمضي عامين عند من لا يرى العجز إلا بحول(12/407)
نجمين أو بمضي عام عند الآخرين والظاهر ان شراء عائشة لها كان في أول كتابتها ولا يصح قياسه على أم الولد لأن سبب حريتها مستقر على وجه لا يمكن فسخه بحال فأشبه الوقف والمكاتب يجوز رده إلى الرق وفسخ كتابته إذا عجز فافترقا قال ابن أبي موسى هل للسيد أن يبيع المكاتب باكثر مما كان عليه؟ على روايتين ولأن المكاتب عبد مملوك لسيده لم يتحتم عتقه فجاز بيعه كالمعلق عتقه بصفة والدليل على أنه مملوك قول النبي صلى الله عليه وسلم (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) ولأن مولاته لا يلزمها أن تحتجب منه إذا لم يملك ما يؤدي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب منه يدل بمفهومه على أنها لا تحتجب منه قبل ذلك وإنما سقط الحجاب عنه لكونه مملوكها ولأنه يصح عتقه ولا يصح عتق من ليس بمملوك ولأنه يرجع عند العجز إلى كونه قناً ولو صار حراً
ما عاد إلى الرق ويفارق إعتاقه لأنه يزيل الرق بالكلية وليس بعقد إنما هو إسقاط للملك فيه وأما بيعه فلا يمنع للمشترى بيعه وأما البائع فلم يبق له فيه ملك بخلاف مسئلتنا.
(فصل) وتجوز هبته والوصية به وقد روي عن أحمد أنه منع هبته لأن الشرع إنما ورد ببيعه والصحيح جوازها لأن ما كان في معنى المنصوص عليه يثبت الحكم فيه.
(فصل) ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب.
وجملة ذلك أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع ولا يجوز إبطالها لا نعافي هذا خلافاً قال ابن المنذر(12/408)
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن بيع السيد مكاتبه على أن يبطل كتابته ببيعه إذا كان ماضياً فيها مؤدياً ما يجب عليه من نجومه في أوقاتها غير جائز وذلك لأنها عقد لازم فلا يبطل بالبيع كالإجارة والنكاح ويبقى على كتابته عند المشتري وعلى نجومه كما كان عند البائع مبقى على ما بقي من كتابته يؤدي إلى المشتري ما كان يؤدي إلى البائع (مسألة) (فإن أدى عتق وولاؤه له وإن عجز عاد قناً له، وإن لم يعلم أنه مكاتب فله الرد والأرش) إذا أدى إلى المشتري عتق لأن حق المكاتب فيه انتقل إلى المشتري فصار المشتري هو المعتق وولاؤه له لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) وقد دل عليه حديث بريرة لانه جعل ولاءها لعائشة حين اشترتها وأعتقتها وإن عجز عاد قناً له لأنه صار سيده فقام مقام المكاتب وإن لم يعلم أنه مكاتب ثم علم ذلك فله فسخ البيع أو أخذ الأرش لأن الكتابة عيب لكون المشتري لا يقدر على التصرف فيه ولا يستحق كسبه ولا استخدامه ولا الوطئ إن كانت أمة فملك الفسخ كشراء الأمة المزوجة فيخير حينئذ بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين الإمساك مع الأرش على ما ذكرنا في البيع(12/409)
(فصل) فأما بيع الدين الذي على المكاتب من نجومه فلا يصح وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وأبو ثور وقال عطاء وعمرو بن دينار ومالك يصح لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب فجاز بيعها كسائر أمواله ولنا أنه دين غير مستقر فلم يجز بيعه كدين السلم ودليل عدم الاستقرار أنه معرض للسقوط بعجز المكاتب ولأنه لا يملك السيد إجبار العبد على أدائه ولا الزامه بتحصيله فلم يجز بيعه كالعدة بالتبرع ولأنه غير مقبوض وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لم يقبض فإن باعه فالبيع باطل وليس للمشتري مطالبة المكاتب بتسليمه إليه وله الرجوع بالثمن على البائع إن كان دفعه إليه وإن سلم المكاتب إلى المشتري نجومه ففيه وجهان (أحدهما) يعتق لأن البيع يضمن الإذن في القبض فأشبه قبض الوكيل (والثاني) لا يعتق لأنه لم يستنبه في القبض وإنما قبض لنفسه بحكم البيع الفاسد فكان القبض فاسداً فلم يعتق بخلاف وكيله فإنه استنابه ولو صرح بالإذن لم يكن مستنيباً له في القبض وإنما إذنه في القبض بحكم المعاوضة فلا فرق بين التصريح وعدمه فإن قلنا يعتق بالأداء برئ المكاتب من مال الكتابة ويرجع السيد على المشتري بما قبضه لانه كالنائب عنه فإن كان من جنس الثمن وكان قد تلف تقاصا بقدر أقلهما ورجع ذو الفضل بفضله وإن قلنا لا يعتق بذلك فمال الكتابة باق في ذمة المكاتب ويرجع المكاتب على المشتري بما(12/410)
دفعه إليه ويرجع المشتري على البائع فإن سلمه المشتري إلى البائع لم يصح تسليمه لأنه قبضه بغير إذن المكاتب فأشبه ما لو أخذه من ماله بغير إذنه وإن كان من غير جنس مال الكتابة تراجعا بما لكل واحد منهما على الآخر وإن باعه ما أخذه بماله في ذمته وكان مما يجوز البيع فيه جاز إذا كان ما قبضه السيد باقياً وإن كان قد تلف ووجبت قيمته وكان من جنس مال الكتابة تقاصا وإن كان المقبوض من جنس مال الكتابة فتحاسبا به جاز (فصل) وإذا كان للمكاتب ولد تبعه في الكتابة فباعهما صح لأنهما ملكه ولا مانع من بيعهما ويكونان عند المشتري كما كانا عند البائع سواء وإن باع أحدهما دون صاحبه أو باع أحدهما الرجل وباع الآخر لغيره لم يصح لوجهين
(أحدهما) أنه لا يجوز التفريق بين الوالد وولده في البيع إلا بعد البلوغ على إحدى الروايتين (والثاني) أن الولد تابع لوالده وله كسبه وعليه نفقته فصار في معنى مملوكه فلم يجز التفريق بينهما وعلى الرواية الأخرى يحتمل أن يجوز بيعه بعد البلوغ لأنه محل للبيع صدر فيه التصرف من أهله ويكون عند من هو عنده على ما كان عليه قبل بيعه لوالده كسبه وعليه نفقته وأرش جنايته ويعتق بعتقه كما لو بيع مع والده (فصل) وتصح الوصية لمكاتبه لأنه مع سيده في المعاملة كالأجنبي ولذلك جاز دفع زكاته(12/411)
إليه فإن قال ضعوا عن مكانبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا ما شاءوا قليلاً كان أو كثيراً وقد ذكرنا نحوه في الوصايا (مسألة) (وإن اشترى كل واحد من المكاتبين الآخرين صح شراء الأول وبطل شراء الثاني وسواء كانا لواحد أو لاثنين) لا خلاف في أن المكاتب يصح شراؤه للعبيد والمكاتب يجوز بيعه على ما ذكرنا في الصحيح من المذهب فإذا اشترى أحدهما الآخر صح شراؤه وملكه لأن التصرف صدر من أهله في محله وسواء كانا مكاتبين لسيد واحد أو لاثنين فإن عاد الثاني فاشترى الذي اشتراه لم يصح لأنه سيده ومالكه وليس للملوك أن يملك مالكه لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذ كل واحد منهما يقول لصاحبه أنا سيدك ولي عليك مال الكتابة تؤديه إلي وإن عجزت فلي فسخ كتابتك وردك إلى أن تكون رقيقاً وهذا تناقض وإذا تناقض بملك المرأة زوجها ملك اليمين لثبوت ملكه عليها في النكاح فههنا أولى ولأنه لو صح هذا لتقاصا الدينين إذا تساويا وعتقا جميعاً إذا ثبت هذا فشراء الأول صحيح والمبيع منهما باق على كتابته فإن أدى عتق وولاؤه موقوف فإن أدى سيده كتابته كان الولاء له لأنه عتق بادائه إليه وإن عجز فولاؤه لسيده لأن العبد لا يثبت له ولأن السيد يأخذ ماله فكذلك حقوقه هذا مقتضى قول القاضي ومقتضى قول أبي بكر أن الولاء(12/412)
لسيده لأن المكاتب عبد لا يثبت له الولاء فيثبت لسيده ذكر ذلك فيما إذا أعتق بإذن سيده أو كاتب عبده فأدى كتابته وهذا نظيره، ويحتمل أن يفرق بينهما لكون العتق ثم بإذن السيد فيحصل الإنعام عنه بإذنه فيه وههنا لا يفتقر إلى إذنه فلا نعمة له عليه فلا يكون له عليه ولاء ما لم يعجز سيده (مسألة) (فإن لم يعلم السابق منهما فسد البيعان) وهذا قول أبي بكر ويرد كل واحد منهما إلى كتابته لأن كل واحد منهما مشكوك في صحة بيعه فيرد إلى اليقين وذكر القاضي أنه يجري مجرى ما إذا زوج الوليان فأشكل الأول منهما فيقتضي هذا أن يفسخ البيعان كما يفسخ النكاحان، وعلى قول أبي بكر لا يحتاج إلى الفسخ لأن النكاح إنما احتيج فيه إلى الفسخ من أجل المرأة فإنها منكوحة نكاحاً صحيحاً لواحد منهما يقيناً فلا يزول إلا بفسخ وفي مسئلتنا لم يثبت يقين البيع في واحد بعينه فلم يفتقر إلى فسخ (مسألة) (وإن أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل فأحب سيده أخذه بما اشتراه وإلا فهو عند مشتريه مبقي على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء وولاؤه له) إذا أسر الكفار مكاتباً ثم استنقذه المسلمون فالكتابة بحالها فإن أخذ في الغنائم فعلم بحاله أو أدركه سيده قبل قسمه اخذه بغير شئ وهو على كتابته كمن لم يؤسر وإن لم يدركه حتى قسم وصار في سهم بعض الغانمين أو اشتراه رجل من الغنيمة قبل قسمه أو من المشركين وأخرجه إلى سيده(12/413)
فإن السيد أحق به بالثمن الذي ابتاعه به وفيما إذا كان غنيمة رواية أخرى أنه إذا قسم فلا حق لسيده فيه بحال فيخرج في المشتري مثل ذلك وعلى كل تقدير فإن سيده إن أخذه فهو مبقي على ما بقي من كتابته وإن تركه فهو في يد مشتريه مبقى على ما بقي من كتابته يعتق بالأداء في الموضعين وولاؤه لمن يؤدي إليه كما لو اشتراه من سيده وقال أبو حنيفة والشافعي لا يثبت عليه ملك للكفار ويرد إلى سيده بكل حال ووافق أبو حنيفة والشافعي في المكاتب والمدبر خاصة لأنهما عنده لا يجوز بيعهما ولا نقل الملك فيهما فأشبها أم الولد وقد تقدم الكلام في الدلالة على أن ما أدركه صاحبه مقسوماً لا يستحق صاحبه أخذه بغير شئ
وكذلك ما اشتراه مسلم من دار الحرب وفي أن المكاتب والمدبر يجوز بيعهما بما يغني عن إعادته ههنا (فصل) وهل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها عند الكفار؟ على وجهين (أحدهما) لا يحتسب عليه بها لأن الكتابة اقتضت تمكينه من التصرف والكسب في هذه المدة فإذا لم يحصل ذلك لم يحتسب كما لو حسبه سيده فعلى هذا يبني على ما مضى من المدة قبل الأسر وتلغى مدة الأسر كأنها لم توجد (والثاني) يحتسب عليه بها لأنها من مدة الكتابة مضت بغير تفريظ من سيده فاحتسب عليه بها كمرضه ولأنه مدين مضت مدة من أجل دينه في حبسه فاحتسب عليه كسائر الغرماء وفارق ما إذا حبسه سيده بما ذكرناه فعلى هذا إذا حل عليه نجم عند استنقاذه جازت مطالبته به وإن حل ما يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده تعجيزه ورده إلى الرق وهل له ذلك بنفسه أو بحكم الحاكم؟ فيه وجهان(12/414)
(أحدهما) له ذلك لأنه تعذر عليه الوصول إلى المال في وقته أشبه ما لو كان حاضراً والمال غائباً يتعذر إحضاره وأداؤه في مدة قريبة كان لسيده الفسخ والمال ههنا إما معدوم وإما غائب يتعذر أداؤه وفي كلا الحالتين يجوز الفسخ (والثاني) ليس له ذلك إلا بحكم الحاكم لأنه مع الغيبة يحتاج إلى أن يبحث هل له مال أم لا؟ وليس كذلك إذا كان حاضراً فإنه يطالبه فإن أدى وإلا فقد عجز نفسه فإن فسخ الكتابة بنفسه أو بحكم الحاكم ثم خلص المكاتب وادعى أن له مالاً في وقت الفسخ يفي بما عليه وأقام بذلك بينة بطل الفسخ ويحتمل أن لا يبطل حتى يثبت أنه كان يمكنه أداؤه لأنه إذا كان متعذر الأداء كان وجوده كعدمه (فصل) (قال الشيخ رضي الله عنه وإن جنى على سيده أو أجنبي فعليه فداء نفسه مقدماً على الكتابة وقال أبو بكر يتحاصان) وجملة ذلك أن المكاتب إذا جنى جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته ويؤدي من المال الذي في يده وبهذا قال الحسن والحكم وحماد والاوزاعي ومالك والحسن بن صالح والشافعي وأبو ثور وقال عطاء والنخعي وعمرو بن دينار جنايته على سيده وقال عطاء ويرجع سيده بها عليه وقال الزهري
إذا قتل رجلاً خطأ كانت كتابته وولاؤه لولي المقتول إلا أن بفديه سيده ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان إلا على نفسه) ولأنها جناية عبد فلم تجب في ذمة سيده كالقن(12/415)
إذا ثبت هذا فإنه يبدأ بأداء الجناية قبل الكتابة سواء حل عليه نجم أو لم يحل نص عليه أحمد وهو المعمول به في المذهب وذكر أبو بكر قولاً آخر أن السيد يشارك ولي الجناية فيضرب بما حل من نجوم كتابته لأنهما دينان فيتحاصان قياساً على سائر الديون ولنا أن أرش الجناية من العبد يقدم على سائر الحقوق المتعلقة به ولذلك قدمت على حق المالك وحق المرتهن وغيرهما فوجب أن تقدم ههنا.
يحققه أن ملك الكتابة مقدم على ملك السيد في عبده فيجب تقديمه على عوض وهو مال الكتابة بطريق الأولى لأن الملك فيه قبل الكتابة كان مستقراً ودين الكتابة غير مستقر فإذا قدم على المستقر فعلى غيره أولى.
إذا ثبت هذا فإنه يفدي نفسه بأقل الامرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه إن كان أرش الجناية أقل فلا يلزمه أكثر من موجب جنايته وهو أرشها، وإن كان أكثر لم يكن عليه أكثر من قيمته لأنه لا يلزمه أكثر من بذل المحل الذي تعلق به الأرش فإن بدأ بدفع المال إلى ولي الجناية فوفى بأرش الجناية وإلا باع الحاكم منه بما يفي من أرشها وباقيه باق على كتابته وإن اختار السيد الفسخ فله ذلك ويعود عبداً قناً مشتركاً بين السيد والمشتري وإن أبقاه السيد على الكتابة فأدى عتق بالكتابة وسرى العتق إلى باقيه إن كان المكاتب موسراً ويقوم عليه وإن كان معسراً عتق منه ما عتق وباقيه رقيق فإن لم يكن في يده مال ولم يف بالجناية إلا قيمته كلها بيع كله فيها وبطلت كتابته(12/416)
(فصل) وإن بدأ بدفع المال إلى سيده وكان ولي الجناية سأل الحاكم فحجر على المكاتب ثبت الحجر عليه وكان النظر فيه إلى الحاكم فلا يصح دفعه إلى سيده ويرتجعه الحاكم ويسلمه إلى ولي الجناية فإن وفى وإلا كان الحكم فيه على ما ذكرنا من قبل وإن لم يكن الحاكم حجر عليه صح دفعه إلى السيد لأنه يقضي حقاً عليه فجاز كما لو قضى بعض غرمائه قبل الحجر عليه فإن كان ما دفعه
إليه جميع مال الكتابة عتق (مسألة) (وعليه فداء نفسه ويكون الأرش في ذمته فيضمن ما كان عليه قبل العتق ويفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته) لأنه لا يلزم أكثر مما كان واجباً عليه بالجناية فإن أعتقه السيد فعليه فداؤه بذلك لأنه أتلف محل الاستحقاق فأشبه ما لو قتله (مسألة) (وإن عجز فلسيده تعجيزه ويفديه أيضاً بما ذكرناه وقال أبو بكر فيه رواية أخرى أنه يفديه بأرش الجناية بالغة ما بلغت) لأنه لو سلمه احتمل أن يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد فوت تلك الزيادة بإعتاقه (فصل) فإن كانت الجناية على سيده فيما دون النفس فالسيد خصمه فيها فإن كانت موجبة للقصاص فلسيده القصاص كما يجب على عبده القن لأن القصاص يجب للزجر فيحتاج إليه العبد في حق سيده(12/417)
وإن عفا على مال أو كانت موجبة للمال وجب له لأن المكاتب مع سيده كالأجنبي يصح أن يبايعه ويثبت له في ذمته المال والحقوق كذلك الجناية ويفدي نفسه بأقل الأمرين كالجناية على الأجنبي وعنه يفديه بأرش الجناية كله فإن وفى ما في يده بما عليه فلسيده مطالبته به وإن لم يف به فلسيده تعجيزه فإذا عجزه وفسخ الكتابة سقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية وعاد عبداً قناً ولا يثبت للسيد على عبده القن مال وإن أعتقه سيده ولا مال في يده سقط الأرش لأنه متعلق برقبته وقد أتلفها وإن كان في يده مال لم يسقط لأن الحق كان متعلقاً بالذمة وما في يده من المال فإذا تلفت الرقبة بقي الحق متعلقاً بالمال فاستوفي منه كما لو عتق بالأداء وهل يجب أقل الأمرين أو أرش الجناية كله؟ على وجهين ويستحق السيد مطالبته بأرش الجناية قبل أداء مال الكتابة لما ذكرنا من قبل في حق الأجنبي وإن اختار تأخير الأرش والبداية بقبض مال الكتابة جاز ويعتق إذا قبض مال الكتابة كله وقال أبو بكر لا يعتق بالأداء قبل أرش الجناية لوجوب تقديمه على مال الكتابة ولنا أن الحقين أن الحقين جميعاً للسيد فإذا تراضيا على تقديم أحدهما على الآخر جاز لأن الحق لهما لا يخرج
عنهما ولأنه لو بدأ باداء مال الكتابة في حق الأجنبي عتق ففي حق السيد أولى ولأن أرش الجناية لا يلزم أداؤه قبل اندمال الجرح فيمكن تقديم وجوب الأداء عليه إذا ثبت هذا فإنه إذا أدى عتق ويلزمه أرش الجناية سواء كان في يده مال أو لم يكن لأن عتقه بسبب من جهته فلم يسقط ما عليه بخلاف ما(12/418)
إذا اعتقه سيده فإنه أتلف محل حقه بخلاف هذا وهل يلزمه أقل الأمرين أو جميع الأرش؟ على وجهين وإن كانت جنايته على نفس سيده فلورثته القصاص في العمد والعفو على مال وفي الخطأ المال وحكم الورثة مع المكاتب حكم سيده معه لأن الكتابة انتقلت إليهم والعبد لو عاد قناً كان لهم وإن جني على موروث سيده فورثه سيده فالحكم فيه كما لو كانت الجناية على سيده فيما دون النفس على ما مضى (فصل) وإن جنى المكاتب جنايات تعلقت برد رقبته واستوى الأول والآخر في الاستيفاء ولم يقدم الأول على الثاني إن كانت موجبة للمال لأنها تعلقت بمحل واحد وكذا إن كان بعضها في حال كتابته وبعضها بعد تعجيزه فهي سواء ويتعلق جميعها بالرقبة فإن كان فيها ما يوجب القصاص فالولي الجناية استيفاؤه وتبطل حقوق الآخرين فإن عفا إلى مال صار حكمه حكم الجناية الموجبة للمال فإن أبرأه بعضهم استوفى الباقون لأن حق كل واحد يتعلق برقبته يستوفيه إذا انفرد فإذا اجتمعوا تزاحموا فإذا أبرأه بعضهم سقط حقه وتزاحم الباقون كما لو انفردوا كما في الوصايا وديون الميت فإن أدى وعتق فالضمان عليه وإن أعتقه سيده فعليه الضمان وأيهما ضمن فالواجب عليه أقل الأمرين كما ذكرنا في الجناية الواحدة ولأنه لو عجزه الغرماء وعاد قنا بيع وتحاصوا في ثمنه كذلك ههنا فأما إن عجزه سيده وعاد قناً خير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداءه فداه بأقل الامرين كما لو أعتقه أو قتله(12/419)
وفيه رواية أخرى أنه يلزمه أرش الجناية كله لأنه لو سلمه احتمل أن يرغب فيه راغب بأكثر من قيمته فقد فوت تلك الزيادة باختياره إمساكه فكان عليه جميع الأرش ويفارق ما إذا اعتقه أو قتله لأن المحل تلف فتعذر تسليمه فلم يجب أكثر من قيمته والمحل ههنا باق يمكن تسليمه وبيعه وقد ذكرناه فإن أراد المكاتب فداء
نفسه قبل تعجيزه أو أعتقه ففيما تفدى به نفسه وجهان بناء على ما إذا عجزه سيده والله أعلم (مسألة) وإن لزمته ديون تعلقت بذمته بيع بها بعد العتق) إذا اجتمع على المكاتب ثمن مبيع أو عوض قرض أو غيرهما من الديون مع مال الكتابة وفي يده ما يفي بها فله أداؤها ويبدأ بأيها شاء كالحر وإن لم يف بها ما في يده وكلها حالة ولم يحجر الحاكم عليه فخص بعضهم بالقضاء صح كالحر وإن كان فيها مؤجل فعجله بغير إذن سيده لم يجز لأن تعجيله تبرع فلم يجز بغير إذن سيده كالهبة وإن كان بإذن سيده جاز كالهبة وإن كان التعجيل للسيد فقبوله بمنزلة إذنه وإن كان الحاكم قد حجر عليه بسؤال غرمائه فالنظر إلى الحاكم وإنما يحجر عليه بسؤالهم فإن حجر عليه بغير سؤالهم لم يصح لأن الحق لهم فلا يستوفى بغير إذنهم وإن سأله سيده الحجر عليه لم يجبه إلى ذلك لأن حقه غير مستقر فلا يحجر عليه من أجله وإذا حجر عليه بسؤال الغرماء فقال القاضي عندي أنه يبدأ بقضاء ثمن المبيع وعوض القرض يستوي بينهما ويقدمهما على أرش الجناية ومال الكتابة لأن أرش الجناية محله الرقبة فإذا لم يحصل مما في يده استوفي من رقبته(12/420)
وهذا مذهب الشافعي وقد ذكرنا أن اصحابنا والشافعي اتفقوا على تقديم أرش الجناية على مال الكتابة فيما مضى وإذا لم يحجر عليه ودفع إلى السيد مال الكتابة عتق وبقيمة الديون في ذمته يتبع بها بعد العتق لأنه صار حراً فهو كالأحرار ولأن المداين رضي بذمته حين أدائه فكان له ما رضي به كالحر.
(فصل) وإذا جنى بعض عبيد المكاتب جناية توجب القصاص فللمجني عليه الخيار بين القصاص والمال فإن اختار المال أو كانت الجناية خطأ أو شبه عمد أو إتلاف مال تعلق أرشها برقبته وللمكاتب فداؤه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأنه بمنزلة شرائه وليس له فداؤه بأكثر من قيمته كما لا يجوز له أن يشتريه بذلك إلا أن يأذن فيه سيده فإن كان الأرش أقل من قيمته لم يكن له تسليمه لأنه تبرع بالزائد وإن زاد الأرش على قيمته فهل يلزمه تسليمه أو يفديه باقل الامين؟ على روايتين:
(فصل) فإن ملك المكاتب ابنه أو بعض ذوي رحمه المحرم أو ولد له ولد من أمته فجنى جناية تعلق أرشها برقبته فللمكاتب فداؤه بغير إذن سيده كما يفدي غيره من عبيده.
وقال القاضي في المجرد ليس له فداؤه بغير إذنه وهو مذهب الشافعي لأنه إتلاف لا له فإن ذوي رحمه ليسوا بمال له ولا يتصرف فيهم فلم يجز له إخراج ماله في مقابلتهم ولا شراؤهم كالتبرع ويفارق(12/421)
العبد الأجنبي فإنه ينتفع به وله صرفه في كتابته وكان له فداؤه وشراؤه كسائر أمواله ولكن إن كان لهذا الجاني كسب فدي منه وإن لم يكن له كسب بيع في الجناية إن استغرقت قيمته وإن لم تستغرقها بيع بعضه فيها وما بقي للمكاتب.
ولنا أنه عبد له حي فملك فداءه كسائر عبيده ولا نسلم أنه لا يملك شراءه وقولهم لا يتصرف فيه قلنا إلا أن كسبه له فإن عجز المكاتب صار رقيقاً معه لسيده وإن أدى المكاتب لم يتضرر السيد بعتقهم وانتفع به المكاتب وإذا دار أمره بين نفع وانتفاء ضرر وجب أن لا يمنع منه وفارق التبرع فإنه يفوت المال على السيد فإن قيل فيه ضرر وهو منعه من أداء الكتابة فإنه إذا صرف المال فيه ولم يقدر على صرفه في الكتابة عجز عنها قلنا هذا الضرر لا يمنع المكاتب منه بدليل ما لو ترك الكسب مع إمكانه أو امتنع من الأداء مع قدرته عليه فإنه لا يمنع منه ولا يجبر على كسب ولا أداء فكذلك لا يمنع مما هو في معناه ولا مما يفضي إليه ولأن غاية الضرر في هذا المنع من اتمام الكتابة وليس اتمامها واجباً عليه فأشبه ترك الكسب بل هذا أولى لوجهين (أحدهما) أن هذا فيه نفع للسيد لمصيرهم عبيداً له (والثاني) أن فيه نفعاً للمكاتب باعتاق ولده وذوي رحمه ونفعا لهم بالاعتاق على تقدير الأداء فإذا لم يمنع مما يساويه في المضرة من غير نفع فيه فلأن لا يمنع مما فيه نفع لازم لإحدى الجهتين أولى وولد المكاتبة يدخل في كتابتها والحكم في جنايته كالحكم في ولد المكاتب سواء(12/422)
(فصل) وإن جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية موجبها المال لم يثبت لها حكم لأنه لا يجب للسيد على عبده مال وإن كان موجبها القصاص فقال أبو بكر ليس له القصاص لأنه إتلاف لماله باختياره
وهذا الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره أبو الخطاب في رءوس المسائل، وقال القاضي له القصاص لأنه من مصلحة ملكه فإنه لو لم يقتص أفضى إلى إقدام بعضهم على بعض وليس له العفو على مال لما ذكرنا ولا يجوز بيعه في أرش الجناية لأن الأرش لا يثبت له في رقبة عبده فإن كان الجاني من عبيده ابنه لم يجز بيعه لذلك وقال أصحاب الشافعي يجوز بيعه في أحد الوجهين لأنه لا يملك بيعه قبل جنايته فيستفيد بالجناية ملك بيعه.
ولنا أنه عبده فلم يجب له عليه أرش كالأجنبي وما ذكروه ينتقض بالرهن إذا جنى على راهنه (فصل) فإن جنى عبد المكاتب عليه جناية موجبها المال كانت هدراً لما ذكرنا وإن كان موجبها القصاص فله ان يقتض فيما دون النفس لأن العبد يقتص منه لسيده وإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال فإن كان الجاني أباه لم يقتص منه لأن الوالد لا يقتل بولده وإن جنى المكاتب عليه لمى يقتص منه لأن السيد لا يقتص منه لعبده وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يقتص منه لأن حكم الأب معه حكم الأحرار بدليل أنه لا يملك بيعه والتصرف فيه وجعلت حريته موقوفة على حريته قال القاضي ولا نعلم موضعاً يقتص فيه المملوك من مالكه غير هذا الموضع(12/423)
(فصل) وإن جنى على المكاتب فيما دون النفس فأرش الجناية له دون سيده لثلاثة معان (أحدهما) أن كسبه له وذلك عوض عما يتعطل بقطع يده من كسبه (والثاني) أن المكاتبة تستحق المهر في النكاح لتعلقه بعضو من أعضائها كذلك بدل العوض (الثالث) أن السيد أخذ مال الكتابة بدلا عن نفس المكاتب فلا يجوز أن يستحق عنه عوضا آخر ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدهما) أن يكون الجاني سيده فلا قصاص عليه لأمرين (أحدهما) أنه حر والمكاتب عبد (والثاني) أنه ملكه ولا يقتص من المالك لمملوكه ولكن يجب الأرش إذا اندمل الجرح على ما يذكر في الجنايات ولأنه قبل الاندمال لا تؤمن سرايته إلى نفسه فيسقط أرشه فإذا ثبت هذا فسرى الجرح إلى نفسه انفسخت الكتابة وكان الحكم فيه كما لو قتله فإن اندمل لجرح وجب له أرشه على سيده ويتقاصان إن كان من جنس مال الكتابة وقد حل عليه نجم وإن كان من غير جنس مال
الكتابة أو لم يحل عليه نجم لم يتقاصا ويطالب كل واحد منهما بما يستحقه فإن اتفقا على أن يجعل أحدهما عوضا عن الآخر وكانا من جنسين لم يجز لأنه بيع دين بدين فإن قبض أحدهما حقه ثم دفعه إلى الآخر عوضاً عن حقه جاز وإن رضي المكاتب بتعجيل الواجب له عما لم يحل من نجومه جاز إذا كان من جنس مال الكتابة(12/424)
(الحال الثانية) إذا كان الجاني أجنبياً حراً فلا قصاص، لا يقتل بالعبد فإن سرى الجرح إلى نفسه انفسخت كتابته وعلى الجاني قيمته لسيده وإن اندمل الجرح فعليه أرشه له فإن أدى الكتابة وعتق ثم سرى الجرح إلى نفسه وجبت ديته لأن اعتبار الضمان بحالة الاستقرار ويكون ذلك لورثته فإن كان الجاني السيد أو غيره من ورثته لم يرث منه شيئاً لأن القاتل لا يرث ويكون لبيت المال إن لم يكن له وارث ومن اعتبر الجناية بحالة ابتدائها أوجب على الجاني قيمته ويكون أيضاً لورثته (الحال الثالث) إذا كان الجاني عبداً أو مكاتباً فإن كان موجب الجناية القصاص وكانت على النفس انفسخت الكتابة وسيده بالخيار بين القصاص والعفو على مال يتعلق برقبة الجاني وإن كانت فيما دون النفس كقطع يده فللمكاتب استيفاء القصاص وليس لسيده منعه كما أن المريض يقتص ولا يعترض عليه ورثته والمفلس يقتص ولا يعترض عليه غرماؤه وإن عفا على مال ثبت له وإن عفا مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد وإن قلنا موجبه القصاص عيناً صح ولم يثبت له مال وليس لسيده مطالبته باشتراط مال لأن ذلك تكسب ولا يملك إجباره على الكسب وإن قلنا الواجب أحد أمرين ثبت له دية الجرح لأنه لما ثبت القصاص تعين المال ولا يصح عفوه عن المال لأنه لا يملك التبرع بغير إذن سيده وإن صالح على بعض الأرش فحكمه حكم العفو إلى غير مال (فصل) وإذا مات المكاتب وعليه ديون وأروش جنايات ولم يكن ملك ما يؤدي في كتابته(12/425)
انفسخت الكتابة وسقط أرش الجنايات لأنها متعلقة برقبته وقد تلفت ويستوفي ديوته مما كان في يده فإن لم يف بها سقط الباقي قال أحمد ليس على سيده قضاء دينه هذا كان يسعى لنفسه وإن كان
قد ملك ما يؤدي في كتابته انبنى ذلك على الروايتين في عتق المكاتب بملك ما يؤديه وقد ذكرنا فيه روايتين الظاهر منهما أنه لا يعتق بذلك فتنفسخ الكتابة أيضاً ويبدأ بقضاء الدين على ما ذكرنا في الحال الأول وهذا قول زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن وشريح وعطاء وعمرو بن دينار وأبي الزناد ويحيى الانصاري وربيعة والاوزاعي وأبي حنيفة والشافعي (والثانية) أنه إذا املك ما يؤدي صار حراً فعلى هذا يضرب السيد مع الغرماء بما حل من نجومه روي نحو هذا عن شريح والنخعي والشعبي والحكم وحماد وابن أبي ليلى والثوري والحسن ابن صالح لأنه دين حال فيضرب به كسائر الديون ويجئ على قول من قال إن الدين يحل بالموت أن يضرب بجميع مال الكتابة لانه فدحل بالموت والمذهب الأول الذي نقله الجماعة عن أحمد وقد روى سعيد في سننه ثنا هشيم ثنا منصور وسعيد عن قتادة قال ذكرت لسعيد بن المسيب قول شريح في المكاتب إذا مات وعليه دين وبقية من مكاتبته فقلت إن شريحاً قضى أن مولاه يضرب مع الغرماء فقال سعيد أخطأ شريح قضى زيد بالدين قبل المكاتبة (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وهي عقد لازم من الطرفين لا يدخلها خيار ولا يملك أحدهما فسخها(12/426)
وجملة ذلك أن الكتابة عقد لازم من الطرفين لأنها عقد معاوضة أشبه عقد النكاح والبيع ولا يدخلها خيار لأن الخيار شرع لدفع الغين عن المال والسيد دخل على بصيرة أن الحظ لعبده فلا معنى للخيار ولا يملك أحدهما فسخها قياساً على سائر العقود اللازمة وعنه أن العبد يملك ذلك وسنذكره ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل كسائر عقود المعاوضات (مسألة) (ولا تنفسخ بموت السيد لا نعلم في ذلك خلافاً ولا تنفسخ بجنونه ولا الحجر عليه لأنه عقد لازم أشبه البيع) (مسألة) (ويعتق بالأداء إلى سيده وقد ذكرنا ذلك وبالأداء إلى الورثة) لأنه انتقل إليهم مع بقاء الكتابة فهو كالأداء إلى موروثهم ويكون مقسوماً بينهم على قدر مواريثهم كسائر ديونه فإذا كان له أولاد ذكور وإناث فللذكر مثل حظ الأنثيين ولا يعتق حتى
يؤدي إلى كل ذي حق حقه فإن أدى إلى بعضهم دون بعض لم يعتق كما لو كان بين شركاء فأدى إلى بعضهم فإن كان بعضهم غائباً وله وكيل دفع نصيبه إلى وكيله وإن لم يكن له وكيل دفع نصيبه إلى الحاكم وعتق وإن كان مولياً عليه دفع إلى وليه إما أبيه أو وصيه أو الحاكم أو أمينه فإن كان له وصيان لم يبرأ إلا بالدفع إليهما معاً وإن كان الوارث رشيداً قبض لنفسه ولا تصح الوصية ليقبض له لأن الرشيد ولي نفسه وإن كان بعضهم رشيداً وبعضهم مولياً عليه فحكم كل واحد منهم حكمه(12/427)
وانفرد فإن أذن بعضهم في الأداء إلى الآخر وكان الدي اذن رشيدا فأذى إلى الآخر جميع حقه عتق نصيبه ولا يسري إلى نصيبه شريكه إن كان معسراً ويسري إليه إن كان موسراً ويقوم عليه نصيب شريكه كله كما لو كان بين شريكين فأعتق أحدهما نصيبه وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو أحد قولي الشافعي وقال القاضي لا يسري عتقه وإن كان موسراً وهذا القول الثاني للشافعي وقال أبو حنيفة لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة لأنه أدى بعض مال الكتابة فأشبه ما لو أداه إلى السيد فإن ابرأوه من مال الكتابة برئ منه وعتق وإن ابرأه بعضهم عتق نصيبه وكذلك إن أعتق نصيبه منه عتق والخلاف في هذا كله كالخلاف فيما إذا أدى إلى بعضهم بإذن الآخر ولنا على أنه يعتق نصيب من أبرأ من حقه عليه أو استوفى نصيبه بإذن شركائه أنه ابرأه من جميع ماله عليه فوجب أن يلحقه العتق كما لو أبرأه سيده من جميع مال الكتابة وفارق ما إذا أبرأه سيده من بعض مال الكتابة لأنه ما أبرأه من جميع حقه ولنا على سراية عتقه أنه إعتاق لبعض العبد الذي يجوز إعتاقه من موسر جائز التصرف غير محجور عليه فوجب أن يسري عتقه كما لو كان قناً ولأنه عتق حصل بفعله واختياره فسرى كمحل الوفاق فإن قيل في السراية اضرار بالشركاء لأنه قد يعجز فيرد إلى الرق قلنا إذا كان العتق في محل الوفاق يزيل الرق المتمكن الذي لا كتابة فيه فلأن يزيل عرضية ذلك بطريق الأولى(12/428)
(فصل) وإذا عتق بالأداء إلى الورثة فولاؤه لسيده في إحدى الروايتين وهو اختيار الخرقي يختص
به عصباته دون أصحاب الفروض وهذا قول أكثر الفقهاء واختاره أبو بكر ونقله إسحاق ابن منصور عن أحمد وإسحاق وروى حنبل وصالح بن أحمد عن أبيه قال اختلف الناس في المكاتب يموت سيده وعليه بقية من كتابته قال بعض الناس الولاء للرجال والنساء وقال بعضهم لا ولاء للنساء لأن هذا إنما هو دين على المكاتب ولا يرث النساء من الولاء إلا ما كاتبن أو أعتقن والذي يغلب على أنهن يرثن ولو عجز المكاتب بعد وفاة السيد رد رقيقاً، وهذا قول طاوس والزهري لأن المكاتب انتقل إلى الورثة بموت السيد بدليل أنهم لو أعتقوه بعد عتقهم لكان ولاؤه لهم كما لو انتقل بالشراء ولأنه يؤدي إلى الورثة فكان ولاؤه لهم كما لو أدى إلى المشتري ووجه الأول أن السيد هو المنعم بالعتق فكان الولاء له كما لو أدى إليه ولأن الورثة إنما ينتقل إليهم ما بقي للسيد وإنما بقي له دين في ذمة المكاتب والفرق بين الميراث والشراء أن السيد نقل حقه في البيع باختياره فلم يبق له فيه حق من وجه والوارث يخلف الموروث ويقوم مقامه ويلي على موروثه ولا ينتقل إليه شئ أمكن بقاؤه لموروثه والولاء مما أمكن بقاؤه للموروث فوجب أن لا ينتقل عنه وقذ ذكرنا ذلك في باب الولاء (فصل) وإن أعتقه الورثة صح عتقهم لأنه ملك لهم فصح عتقهم له ولأن السيد لو أعتقه نفذ عتقه وهم يقومون مقام موروثهم وولاؤه لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن اعتق) وإن أعتق(12/429)
بعضهم نصيبه فعتق عليه كله بالسراية قوم عليه نصيب شركائه وكان ولاؤه له وإن لم يسر لكونه معسراً أو لغير ذلك فله ولاء ما أعتقه للخبر ولأنه منعم عليه فكان الولاء له كغير المكاتب وقال القاضي إن أعتقوه كلهم قبل عجزه كان الولاء للسيد وإن أعتق بعضهم لم يسر عتقه ثم ينظر فإن أدى إلى الباقين عتق كله وكان ولاؤه للسيد وإن عجز فردوه إلى الرق كان ولاء نصيب المعتق له لأنه لولا إعتاقه لعاد سهمه رقيقاً كسهام سائر الورثة فلما أعتقه كان هو المنعم عليه فكان الولاء له دونهم فأما إن أبرأه الورثة كلهم عتق وكان ولاؤه على الروايتين اللتين ذكرناهما فيما إذا أدى إليهم لأن الإبراء جرى مجرى أداء ما عليه ويحتمل أن يكون الولاء لهم لأنهم أنعموا عليه بما عتق به أشبه ما لو أعتقوه وإن أبرأه بعضهم من نصيبه كان في ولائه ما ذكرنا من الخلاف
(فصل) إذا باع الورثة المكاتب أو وهبوه صح بيعهم وهبتهم لأنهم يقومون مقام موروثهم وهو يملك بيعه وهبته كذلك ورثته ويكون عند المشتري الموهوب له مبقي على ما بقي من كتابته إن عجز فعجزه عاد رقيقاً له، وإن أدى عتق وكان ولاؤه لمن يؤدي إليه على الرواية التي نقول إن ولاءه للورثة إذا أدى إليهم وأما على الرواية الأخرى فيحتمل أن لا يصح بيعه ولا هبته لأن ذلك يقتضي إبطال سبب ثبوت الولاء للسيد الذي كاتبه وليس ذلك للورثة ويحتمل أن يصح ويكون الولاء للسيد إن أعتق بالكتابة، لأن السيد عقدها فعتق بها فكان ولاؤه له ويفارق ما باعه(12/430)
السيد، لأن السيد ببيعه أبطل حق نفسه وله ذلك بخلاف الورثة فإنهم لا يملكون إبطال حق موروثهم (فصل) إذا وصى السيد بمال الكتابة صح فإن سلم مال الكتابة إلى الموصى له أو وكيله أو وليه إن كان محجوراً عليه برئ منه وعتق وولاؤه لسيده الذي كاتبه لأنه المنعم عليه وإن ابرأه من المال عتق لأنه برئ من مال الكتابة فأشبه ما لو أدى وإن أعتقه لم يعتق لأنه لا يملك رقبته وإنما وصى له بالمال الذي عليه وإن عجز ورد في الرق صار عبداً للورثة وما قبضه الموصى له من المال فهو له لأنه قبضه بحكم الوصية الصحيحة والأمر في تعجيزه إلى الورثة لأن الحق يثبت لهم بتعجيزه ويصير عبداً لهم فكانت الخيرة في ذلك إليهم وتبطل وصية الموصى له بتعجيزه وإن وصى بمال الكناية للمساكين ووصى إلى من يقبضه ويفرقه بينهم صح ومتى سلم المال إلى الوصي برئ وعتق وإن ابرأه منه لم يبرأ لأن الحق لغيره فإن دفعه المكاتب إلى المساكين لم يبرأ منه ولم يعتق لأن التعيين إلى الوصي دونه وإن وصى بدفع المال إلى غرمائه تعين القضاء منه كما لو وصى به عطية لهم فإن كان إنما وصى بقضاء ديونه مطلقاً كان على المكاتب أن يجمع بين الورثة والوصي بقضاء الدين ويدفعه إليهم بحضرته لأن المال للورثة ولهم قضاء الدين منه ومن غيره وللوصي في قضاء الدين حق لأن له منعهم من التصرف في التركة قبل قضاء الدين(12/431)
(فصل) إذا مات رجل وخلف ابنين وعبداً فادعى العبد أن سيده كاتبه فصدقاه ثبتت الكتابة لأن الحق لهما وإن أنكراه وكانت له بينة ثبتت الكتابة وعتق بالاداء إليهما وإن عجز فلهما رده إلى الرق وإن لم يعجزاه وصبرا عليه لم يملك الفسخ وإن عجزه أحدهما وأبى الآخر تعجيزه بقي نصفه على الكتابة ورق النصف الآخر فإن لم تكن له بينة فالقول قولهما مع أيمانهما لأن الأصل بقاء الرق وعدم الكتابة وتكون أيمانهما على نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فإن حلفا ثبت رقه وإن نكلا قضي عليهما أوردت اليمين عليه عند من يرى ردها فيحلف العبد وتثبت الكتابة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضي برق نصفه وكتابة نصفه وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر ثبتت الكتابة في نصفه وعليه البينة في نصفه الآخر فإن لم تكن بينة وحلف المنكر صار نصفه مكاتبا ونصف رقيقاً قناً فإن شهد المقر على أخيه قبلت شهادته لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً فإن كان معه شاهد آخر كملت الشهادة وثبتت الكتابة في جميعه وإن لم يشهد غيره فهل يحلف العبد معه؟ على روايتين وإن لم يكن عدلاً أو لم يحلف العبد معه وحلف المنكر كان نصفه مكاتباً ونصفه رقيقاً ويكون كسبه بينه وبين المنكر نصفين ونفقته من كسبه لأنها على نفسه وعلى مالك نصفه فإن لم يكن له كسب كان على المنكر نصف نفقته ثم إن اتفق هو ومالك نصفه على المهايأة مياومة أو مشاهرة أو كيفما كان جاز فإن طلب أحدهما ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها في ظاهر كلام أحمد وهو قول أبي حنيفة، لأن(12/432)
المنافع مشتركة بينهما فإذا أراد أحدهما حيازة نصيبه من غير ضرر لزم الآخر إجابته كالأعيان ويحتمل أن لا يجبر وهو قول الشافعي لأن المهايأة تأخير حقه الحال لكون المنافع في هذا اليوم مشتركة بينهما فلا تجب الإجابة إليه كتأخير دينه الحال فإن اقتسما الكسب مناصفة أو مهايأة جاز فإن لم يف بأداء نجومه فللمقر رده في الرق وما في يده له خاصة لأن المنكر قد أخذ حقه من الكسب وإن اختلف المنكر والمقر فيما في يد المكاتب فقال المنكر هذا كان في يده قبل دعوى الكتابة أو كسبه في حياة ابينا وأنكر ذلك المقر فالقول قوله مع يمينه لأن المدعي يدعي كسبه في وقت الأصل عدمه فيه ولأنه لو اختلف هو والمكاتب في ذلك كان القول قول المكاتب فكذلك من يقوم مقامه وإن أدى
الكتابة عتق نصيب المقر خاصة ولم يسر إلى نصيب شريكه لأنه لم يباشر العتق ولم ينسب إليه وإنما كان السبب من أبيه وهذا حاك عن أبيه مقر بفعله فهو كالشاهد ولأن المقر بزعم أن نصيب أخيه حر أيضاً لأنه قد قبض من العبد مثل ما قبض فقد حصل أداء مال الكتابة إليهما فعتق كله بذلك وولاء النصف للمقر لأن أخاه لا يدعيه والمقر يدعي أنه كله عتق بالكتابة وهذا الولاء الذي على هذا النصف من نصيبي من الولاء وقال أصحاب الشافعي في ذلك وجهان (أحدهما) كقولنا (والثاني) أن الولاء بين الابنين لأنه يثبت لموروثهما فكان لهما بالميراث(12/433)
قال شيخنا والصحيح ما قلناه لما ذكرنا ولا يمتنع ثبوت الولاء للأب واختصاص أحد الابنين به كما لو أدعى أحدهما ديناً لأبيه على إنسان وأنكره الآخر فإن المدعي يأخذ نصيبه من الدين ويختص به دون أخيه وإن كان يرثه عن الأب ولذلك لو ادعياه معا وأقاما به شاهداً وأحداً فحلف أحدهما مع الشاهد وأبى الآخر فإن أعتق أحدهما حصته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسراً هذا قول الخرقي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد وكان له ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه حصصهم) ولأنه موسر عتق نصيبه من عبد مشترك فسرى إلى باقيه كغير المكاتب وقال أبو بكر والقاضي لا يعتق إلا حصته لأنه إن كان المعتق المقر فهو منفذ وإن كان المنكر لم يسر إلى نصيب المقر لأنه مكاتب لغيره وفي سراية العتق إليه إبطال سبب الولاء عليه فلم يجز ذلك (مسألة) (وإن حل نجم فلم يؤده فللسيد الفسخ وعنه لا يعجز حتى يحل نجمان وعنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله فيما يجوز به للسيد فسخ الكتابة فروي عنه أنه يجوز له الفسخ إذا عجز عن نجم واحد وهو قول الحارث العكلي وابي حنيفة والشافعي لأن السيد دخل على أن يسلم له مال الكتابة على الوجه الذي كاتبه عليه ويدفع إليه المال في نجومه فإذا لم يسلم له لم يلزمه(12/434)
عتقه لأنه عجز عن أداء النجم في وقته فجاز في وقته فجاز فسخ كتابته كالنجم الأخير ولأنه تعذر العوض في عقد معاوضة ووجد عين ماله فكان له الرجوع كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل نقد ثمنها (والرواية الثانية) أن السيد لا يملك الفسخ حتى يحل نجمان قبل أدائها وهو ظاهر كلام الخرقي قال القاضي وهو ظاهر كلام أصحابنا روي ذلك عن الحكم وابن أبي ليلى وأبي يوسف والحسن بن صالح لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا يرد المكاتب في الرق حتي يتوالى عليه نجمان ولأن ما بين النجمين محل الأداء الأول فلا يتحقق العجز عنه حتى يفوت محله بحلول الثاني (والراية الثالثة) أنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت رواها عنه ابن أبي موسى وروي عنه أنه إذا أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق واتبع بما بقي وإذا قلنا للسيد الفسخ لم تنفسخ الكتابة بالعجز بل له مطالبة المكاتب بل حل من نجومه لأنه دين له حل فأشبه دينه على الأجنبي وله الصبر عليه وتأخيره به سواء كان قادراً على الأداء أو عاجزا لأنه حق له سمع بتأخيره أشبه الدين على الأجنبي فإن اختار الصبر عليه لم يملك العبد الفسخ بغير خلاف نعلمه قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المكاتب إذا حل عليه نجم ونجم أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله أن الكتابة لا تنفسخ ما داما ثابتين على العقد الأول وأن أجله به ثم بدا له الرجوع فله ذلك لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل كالقرض وإن اختار(12/435)
السيد فسخ كتابته ورده إلى الرق فله ذلك بغير حضور حاكم ولا سلطان ولا يلزمه الاستبناء به، فعل ذلك ابن عمر وهو قول شريح والنخعي وأبي حنيفة والشافعي، وقال ابن أبي ليلى لا يكون عجزه إلا عند قاض، وحكي نحوه عن مالك، وقال الحسن إذا عجز استؤني بعد العجز سنتين، وقال الأوزاعي شهرين ولنا ما روى سعيد بإسناده عن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على ألف دينار وعجز عن مائة دينار فرده في الرق وبإسناده عن عطية العوفي عن ابن عمر أنه كاتب عبده على عشرين ألفاً فأدى عشرة آلاف ثم أتاه فقال إني طفت العراق والحجاز فردني في الرق فرده وروي عنه أنه كاتب عبداً له
على ثلاثين ألفاً فقال له أنا عاجز فقال له امح كتابتك فقالي امح أنت وروى سعيد بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال (أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق) ولأنه عقد عجز عن عوضه فملك فسخه كالمسلم إذا تعذر المسلم فيه فإن قيل فلم كانت الكتابة لازمة من جهة السيد غير لازمة من جهة العبد؟ قلنا بل هي لازمة من الطرفين ولا يملك العبد فسخها وإنما له أن يعجز نفسه ويمتنع من الكسب وإنما جاز له ذلك لوجهين (أحدهما) أن الكتابة تتضمن اعتاقاً بصفة ومن علق عتقه بصفة لم يملك إبطالها ويلزم وقوع العتق بالصفة ولا يلزم العبد الإتيان بها ولا الإجبار عليها(12/436)
(الثاني) أن الكتابة لحظ العبد دون سيده فكان لازماً لمن ألزم نفسه حظ غيره وصاحب الحظ بالخيار فيه كمن ضمن لغيره شيئاً أو كفل له أو رهن عنده رهناً (فصل) وإذا حل النجم على المكاتب وماله حاضر عنده طولب به ولم يجز الفسخ قبل الطلب كما لا يجوز فسخ البيع والسلم بمجرد وجوب الدفع قبل الطلب فإن طلب منه فذكر أنه غائب عن المجلس في ناحية من نواحي البلد أو قريب منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يمكن إحضاره قريباً لم يجز فسخ الكتابة وأمهل بقدر ما يأتي به إذا طلب الإمهال لأن هذا يسير لا ضرر فيه وإن كان معه مال من غير جنس مال الكتابة فطلب الإمهال ليبيعه بجنس مال الكتابة أمهل وإن كان المال غائباً أكثر من مسافة القصر لم يلزم الامهال وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان له مال حاضر أو غائب يرجو قدومه استؤني يومين وثلاثة لا أزيده على ذلك لأن الثلاثة آخر حد القلة والقرب لما بيناه فيما مضى وما زاد عليها في حد الكثرة وهذا كله قريب بعضه من بعض فأما إذا كان قادراً على الأداء واجداً لما يؤديه فامتنع من أدائه أو قال قد عجزت فقال الشريف أبو جعفر وجماعة من أصحابنا المتأخرين بملك السيد الفسخ وهذا الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وظاهر كلام(12/437)
الخرقي وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر بن جعفر ليس له ذلك ويجبر على تسليم العوض وهو قول
أبي حنيفة ومالك والاوزاعي وقد ذكر ذلك في كتاب البيع وفيه رواية أخرى أنه إذا قدر على اداء المال كله أنه يصير حراً بملك ما يؤدي وقد ذكرناها (فصل) فإن حل النجم والمكاتب غائب بغير إذن سيده فله الفسخ وإن كان غاب بإذنه لم يكن له أن يفسخ لأنه أذن في السفر المانع من الأداء لكن يرفع الأمر إلى الحاكم ليجعل للسيده فسخ الكتابة وإن كان قادراً على الأداء طالبه بالخروج إلى البلد الذي فيه السيد ليؤدي مال الكتابة أو يوكل من يفعل ذلك فإن فعله في أول حال الإمكان عند خروج القافلة إن كان لا يمكنه الخروج إلا معها لم يجز الفسخ وإن أخره مع الإمكان ومضى زمن المسير ثبت للسيد خيار الفسخ وإن كان قد جعل للوكيل الفسخ عند امتناع المكاتب من الدفع إليه جاز وله الفسخ إذا ثبتت وكالته ببينة بحيث يأمن المكاتب إنكار السيد فإن لم يثبت ذلك لم يلزم المكاتب الدفع إليه وكان له عذر يمنع جواز الفسخ لأنه لا يأمن أن يسلم إليه فينكر السيد وكالته ويرجع على المكاتب بالمال وسواء صدقه في أنه وكيل أو كذبه فإن كتب حاكم البلد الذي فيه السيد إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليقبض منه المال لم يلزمه ذلك لأن هذا توكيل لا يلزم الحاكم الدخول فيه فإن الحاكم لا يكلف القبض للبالغ الرشيد فإن اختار القبض جرى مجرى الوكيل ومتى قبض منه المال عتق(12/438)
(مسألة) (وليس للعبد فسخها بحال) لأنها عقد لازم ومقصودها ثبوت الحرية في العبد وذلك حق لله تعالى فلا يملك العبد فسخه وإن كان له فيه حظ وعنه له ذلك لأن العقد لحظه فملك فسخه كالمرتهن له فسخ الرهن دون الراهن وإن اتفق هو والسيد على فسخها جاز لأن الحق لهما فجاز باتفاقهما كفسخ البيع والإجارة (مسألة) (ولو زوج ابنته من مكاتبه ثم مات انفسخ النكاح) إذا زوج السيد ابنته من مكاتبه برضاها ثم مات السيد وكانت من الورثة انفسخ النكاح وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن لا ينفسخ حتى يعجز وبه قال أبو حنيفة لأنها لا ترثه وإنما تملك نصيبها من الدين الذي عليه بدليل أن الوارث لو أبرأ المكاتب من الدين عتق وكان الولاء للميت لا للوارث
فإن عجز وعاد رقيقاً قلنا انفسخ النكاح حينئذ لأنها ملكت نصيبها منه ولنا أن المكاتب مملوك لسيده ولا يعتق بموته فوجب أن ينتقل إلى ورثته كسائر أملاكه ولأنها لا يجوز لها ابتداء نكاحه لأجل الملك فانفسخ نكاحها بتجدد ذلك فيه كالعبد القن، وأما كون الولاء للميت فلأن السبب وجد منه فنسب العتق إليه وثبت الولاء له إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن ترثه كله أو ترث بعضه لأنها إذا ملكت منه جزءاً انفسخ النكاح فيه فبطل في باقيه لأنه لا ينجز فإن كانت لا ترث أباها لمانع من موانع الميراث فنكاحها(12/439)
باق بحاله والحكم في سائر الورثة من النساء كالحكم في البنت وكذلك لو تزوج رجل مكاتبة فورثها أو بعضها انفسخ نكاحه لذلك (مسألة) (ويجب على السيد أن يؤتيه ربع مال الكتابة إن شاء وضعه عنه وإن شاء قبضه ثم دفعه إليه) الكلام في الإيتاء في خمسة فصول وجوبه وقدوه وجنسه ووقت جوازه ووقت وجوبه (الفصل الأول) أنه يجب على السيد إيتاء المكاتب شيئاً مما كوتب عليه روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي وإسحاق وقال بريدة والحسن والنخعي والثوري ومالك وابو حنيفة ليس بواجب لأنه عقد معاوضة فلا يجب فيه الإيتاء كسائر عقود المعاوضات ولنا قول الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) وظاهر الأمر الوجوب قال علي رضي الله عنه: ضعوا عنه ربع مال الكتابة وعن ابن عباس قال ضعوا عنهم مكاتبتهم شيئاً وتفارق الكتابة سائر العقود فإن القصد بها رفق العبد بخلاف غيرها ولأن الكتابة يستحق بها الولاء على العبد مع المعاوضة فكذلك يجب أن يستحق العبد على السيد شيئاً فإن قيل المراد بالإيتاء إعطاؤه سهماً من الصدقة والندب إلى التصدق عليه وليس ذلك واجباً بدليل أن العقد يوجب العوض عليه فكيف يقتضي إسقاط شئ منه؟ قلنا أما الأول فإن علياً وابن عباس فسراه بما ذكرنا وهما أعلم بتأويل القرآن وحمل(12/440)
الأمر على الندب يخالف مقتضى الأمر فلا يصار إليه إلا بدليل وقولهم أن العقد يوجب عليه فلا يسقط عنه قلنا إنما يجب الرفق به عند آخر كتابته رفقاً به ومواساة له وشكراً لنعمة الله تعالى كما تجب الزكاد مواساة من النعمة التي أنعم الله تعالى بها على عبده ولأن العبد ولي جمع هذا المال وتعب فيه فاقتضى الحال مواساته منه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعام عبده من الطعام الذي ولي حره ودخانه واختص هذا بالوجوب لأن فيه معونة على العتق وإعانة لمن يحق على الله تعالى عونه فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف) قال الترمذي هذا حديث حسن (الفصل الثاني) في قدره وهو الربع ذكره الخرقي وأبو بكر وغيرهما من أصحابنا روي ذلك عن علي وقال قتادة العشر وقال الشافعي وابن المنذر يجزي ما يقع عليه الاسم وهو قول مالك إلا أنه عنده مستحب لقول الله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ومن للتبعيض والقليل بعض فيكتفي به وقال ابن عباس ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئاً ولأنه قد ثبت أن المكاتب لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة بما ذكرنا من الأخبار ولو وجب إيتاؤه الربع لوجوب أن يعتق إذا أدى ثلاثة أرباع الكتابة ولا يجب عليه أداء مال يجب رده إليه وقد روي عن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألفاً فأخذ منه ثلاثين وترك له خمسة(12/441)
ولنا ما روى أبو بكر باسناده عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) قال (ربع المكاتبة) وروي موقوفاً عن علي ولأنه مال يجب إيتاؤه مواساة بالشرع فكان مقدراً كالزكاة ولأن حكمة إيجابه الرفق بالمكاتب وإعانته على تحصيل العتق وهذا لا يحصل باليسير الذي هو أقل ما يقع عليه الاسم فلم يجز أن يكون هو الواجب وقول الله تعالى (وآتوهم من مال الله) إذا ورد غير مقدر فيه فإن السنة بينته وقدرته كالزكاة (الفصل الثالث) في جنسه إن قبض مال الكتابة ثم أعطاه منه أجزأ لأن الآية تقتضيه، وإن وضع عنه مما وجب عليه جاز لأن الصحابة رضي الله عنهم فسروا الآية بذلك ولأنه أبلغ في النفع
وأعون على حصول العتق فيكون أفضل من الإيتاء وتدل الآية عليه من طريق التنبيه وإن أعطاه من جنس مال الكتابة من غيره جاز ويحتمل أن لا يلزم المكاتب قبوله، وهو ظاهر كلام الشافعي لأن الله تعالى أمر بالإيتاء منه ولنا أنه لا فرق في المعنى بين الإيتاء منه والإيتاء من غيره إذا كان من جنسه فوجب أن يتساويا في الأجزاء كالزكاة وغير المنصوص إذا كان في معناه ألحق به ولذلك جاز الحط عنه وليس هو بإيتاء لما كان في معناه وإن آتاه من غير جنسه مثل أن يكاتبه على دراهم فيعطيه دنانير أو عروضاً لم يلزمه قبوله لأنه لم يؤته منه ولا من جنسه ويحتمل اللزوم لحصول الرفق به فإن رضي المكاتب بها جاز(12/442)
(الفصل الرابع) في وقت جوازه وهو من حين العقد لقول الله تعالى (فكاتبوتهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم) وذلك يحتاج إليه من حين العقد وكلما عجله كان أفضل لأنه يكون أنفع كالزكاة (الفصل الخامس) في وقت وجوبه وهو حين العتق لأن الله تعالى أمر بايتائه من المال الذي آتاه وإذا آتى المال عتق فيجب ايتاؤه حينئذ قال علي رضي الله عنه الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني فإن مات السيد قبل ايتائه فهو دين في تركته لأنه حق واجب فهو كسائر ديونه فإن ضاقت التركة عنه وعن غيره من الديون تحاصوا في التركة بقدر حقوقهم ويقدم على الوصايا لأنه دين وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الدين قبل الوصية (مسألة) (فإن أدى ثلاثة أرباع الكتابة وعجز عن الربع عتق ولم تنفسخ الكتابة في قول القاضي وأصحابه) وهو قول أبي بكر لأنه يجب رده إليه فلا يرد إلى الرق لعجزه عنه لأنه عجز عن أداء حق هو له لا حق للسيد فيه فلا معنى لتعجيزه فيما يجب رده إليه وقال علي رضي الله عنه يعتق بقدر ما أدى لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أصاب المكاتب حداً وميراثاً ورث بحساب ما عتق منه ويؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي دية عبد) رواه الترمذي وقال حديث حسن، وروي عن عمر وعلي أنه إذا أدى الشطر فلا رق عليه وروي ذلك عن النخعي(12/443)
وقال عبد الله بن مسعود إذا أدى قدر قيمته فهو غريم وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة وروى الأثرم عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وعائشة وسعيد بن المسيب والزهري أنهم قالوا: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وهو قول القاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء وقتادة والثوري وابن شبرمة ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن أم سلمة لما روى سعيد ثنا هشيم عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيما رجل كاتب غلامه على مائة أوقية فعجز عن عشر أواق فهو رقيق) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) رواه أبو داود ولأنه عوض عن المكاتب فلا يعتق قبل ادائه كالقدر المتفق عليه ولأنه لو عتق بعضه لسرى إلى باقيه كما لو باشره بالعتق فأما حديث ابن عباس فمحمول على مكاتب لرجل مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بكتابته وأنكر الآخر فأدى إلى المقر وما أشبهها من الصور جمعاً بين الأخبار وتوفيقاً بينها وبين القياس، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) دليل على اعتبار جميع ما يؤدي وروى سعيد بإسناده عن أبي قلابة قال: كن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن من(12/444)
ما بقي عليه دينار ويجوز أن يتوقف العتق على اداء الجميع وإن وجب رد البعض إليه كما لو قال ااذا اديت إلى فأنت حر ولله علي رد ربعها إليك فإنه لا يعتق حتى يؤديها وإن وجب عليه رد بعضها (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كاتب عبيداً له كتابة واحدة بعوض واحد صح) مثل أن يكاتب ثلاثة أعبد له بألف فيصح في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وسليمان بن موسى وابو حنيفة ومالك والحسن بن صالح واسحاق وهو المنصوص عن الشافعي وقال بعض أصحابه فيه قول آخر إنه لا يصح لأن العقد مع ثلاثة كعقود ثلاثة عوض كل واحد منهم مجهول فلم يصح كما لو باع
كل واحد منهم لواحد صفقة واحدة بعوض واحد ولنا أن جملة العوض معلومة وإنما جهل تفصيله فلم يمنع صحة العقد كما لو باعهم لواحد وعلى قول من قال إن العوض يكون بينهم على السواء فقد علم أيضاً تفصيل العوض وعلى كل واحد منهم ثلث وكذا يقول فيما لو باعهم لثلاثة إذا ثبت هذا فكل واحد منهم مكاتب بحصته من الألف يقسم بينهم على قدر قيمتهم حين العقد لأنه حين المعاوضة وزوال سلطان السيد عنهم فإذا أداه عتق، وهذا قول عطاء وسليمان بن موسى والحسن بن صالح والشافعي واسحاق وقال أبو بكر عبد العزيز يتوجه لأبي(12/445)
عبد الله قول آخر أن العوض بينهم على عدد رؤوسهم فيتساوون فيه لأنه أضيف إليهم إضافة واحدة فكان بينهم بالسوية كما لو أقر لهم بشئ ولنا أن هذا عوض فيتقسط على المعوض كما لو اشترى شقصاً وسيفاً وكما لو اشترى عبيداً فرد واحداً منهم بعيب أو تلف أحدهم ورد الآخر ويخالف الإقرار فإنه ليس بعوض إذا ثبت هذا فأيهم أدى حصته عتق وهذا قول الشافعي وقال ابن أبي موسى لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع الكتابة وحكي ذلك عن أبي بكر وهو قول مالك وحكي عنه أنه إذ امتنع أحدهم من الكسب مع القدرة عليه أجبر عليه الباقون واحتجوا بأن الكتابة واحدة بدليل أنه لا يصح من كل واحد منهم الكتابة بقدر حصته دون الباقين ولا يحصل العتق إلا بأداء جميع الكتابة كما لو كان المكاتب واحداً وقال أبو حنيفة إن لم يقل لهم السيد إن أديتم عتقتم فأيهم أدى بحصته عتق وإن أدوا جميعها عتقوا كلهم ولم يرجع على صاحبه بشئ وإن قال لهم إن أديتم عتقتم لم يعتق واحد منهم حتى يؤدي الكتابة كلها ويكون بعضهم حميلاً عن بعض ويأخذ أيهم شاء بالمال وأيهم أداها عتقوا كلهم ويرجع على صاحبيه بحصتهما ولنا أنه عقد معاوضة مع ثلاثة فيبرأ كل واحد منهم بأداء حصته كما لو اشتروا عبيداً وكما لو لم يقل لهم إن أديتم عتقتم على أبي حنيفة فإن قوله ذلك لا يؤثر لأن استحقاق العتق بأداء العوض لا بهذا القول بدليل أنه يعتق بالاداء بدون هذا القول ولم يثبت كون هذا القول مانعاً من العتق وقوله إن(12/446)
هذا العقد كتابة واحدة ممنوع فإن العقد مع جماعة عقود بدليل البيع ولا يصح القياس على كتابة الواحد لأن ما قدره في مقابلة عتقه وههنا في مقابلة عتقه ما يخصه فافترقا إذا ثبت هذا فإنه إن شرط عليهم في العقد أن كان واحد منهم ضامن عن الباقين فسد الشرط والعقد صحيح وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أن الشرط صحيح وخرجه ابن حامد وجهاً بناء على الروايتين في ضمان الحر لمال الكتابة وقال الشافعي العقد والشرط فاسدان لأن الشرط فاسد ولا يمكن تصحيح العقد بدونه لأن السيد إنما رضي بالعقد بهذا الشرط فإذا لم يثبت لم يكن راضياً بالعقد وقال مالك وأبو حنيفة العقد والشرط صحيحان لأنه من مقتضى العقد عندهما ولنا أن مال الكتابة ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فلم يصح ضمانة كما لو جعل المال صفة مجردة في العتق فقال إن أديت إلي ألفا فأنت حر ولأن الضامن لا يلزمه أكثر من المضمون عنه ومال الكتابة لا يلزم المكاتب فلا يلزم الضامن ولأن الضمان تبرع وليس للمكاتب التبرع ولان لا يملك الضمان عن حر ولا عمن ليس معه في الكتابة فكذلك من معه وأما العقد فصحيح بدليل أن الكتابة لا تفسد بفساد الشرط بدليل خبر بريرة (فصل) إذا مات بعض المكاتبين سقط قدر حصته نص عليه أحمد في رواية حنبل وكذلك إن أعتق بعضهم وعن مالك إن أعتق السيد أحدهم وكان مكتسباً نفذ عتقه لعدم الضرر فيه وهذا مبني على أنه لا يعتق واحد منهم حتى يؤدي جميع مال الكتابة وقد مضى الكلام فيه(12/447)
(فصل) فإن أدى أحد المكاتبين عن صاحبه أو عن مكاتب آخر قبل أداء ما عليه بغير علم سيده لم يصح لأن هذا تبرع وليس له التبرع بغير إذن سيده فإن كان قد حل نجم صرف ذلك فيه وإن لم يكن حل عليه نجم فله الرجوع فيه وإن علم السيد بذلك ورضي بقبضه عن الآخر صح لأن قبضه له راضياً مع العلم دليل على الإذن فيه فجاز كما لو أذن فيه صريحاً وإن كان الأداء بعد أن عتق صح سواء علم السيد أو لم يعلم فإذا أراد الرجوع على صاحبه بما أدى عنه وكان قد قصد التبرع عليه لم يرجع به وإن أداه محتسباً بالرجوع عليه بإذن المؤدى عنه رجع عليه لأنه قرض وإن كان بغير إذنه
لم يرجع عليه لأنه تبرع عليه بأداء ما لا يلزمه اداؤه بغير إذنه فلم يرجع عليه كما لو تصدق عنه صدقة تطوع وبهذا فارق سائر الديون وإن كان بإذنه وطلب استيفاءه قدم على أداء مال الكتابة كسائر الديون وإن عجز عن أدائه فحكمه حكم سائر الديون وهذا كله مذهب الشافعي (مسألة) (وإن اختلفوا بعد الاداء في قدر ما أدى كل واحد منهم فالقول قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه) وهذا إذا أدوا وعتقوا فقال من كثرت قيمته ادينا على قدر قيمنا وقال الآخر بل أدينا على السواء فبقيت لنا على الاكثر بقيمة فمن جعل العوض بينهم على عددهم قال القول قول من يدعي التسوية ومن جعل على كل واحد قدر حصته فعنده فيه وجهان (أحدهما) القول قول من يدعي(12/448)
التسوية لأن أيديهم على المال فيتساوون فيه (والثاني) قول من يدعي أداء قدر الواجب عليه لان الظاهران الإنسان لا يؤدي إلا ما عليه (فصل) فإن جنى بعضهم فجنايته عليه دون صاحبه وبهذا قال الشافعي وقال مالك يؤدون كلهم أرشه فإن عجزوا رقوا ولنا قول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يجني جان إلا على نفسه) ولأنه لو اشترك رجلان وتعاقدا لم يحمل أحدهما جناية صاحبه فكذا ههنا ولأن ما لا يصح لا يتضمنه عقد الكتابة ولا يجب على أحدهما بفعل الآخر كالقصاص وقد بينا أن كل واحد منهما مكاتب بقدر حصته فهو كالمنفرد بعقده (فصل) إذا شرط المكاتب في كتابته أن يوالي من شاء فالشرط بالطل والولاء لمن أعتق لا نعلم في بطلان الشرط خلافاً لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كانت في بريرة ثلاث قضيات أراد أهلها أن يبيعوها ويشترطوا الولاة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وانثى عليه ثم قال (أما بعد(12/449)
فما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق إنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه ولأن الولاء لا يصح نقله بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته وقال (إنما الولاء لمن أعتق) ولأنه لحمة كلحمة النسب فلم يصح اشتراطه لغير صاحبه كالقرابة ولأنه حكم العتق فلم يصح اشتراطه لغير المعتق كما لا يصح اشتراط حكم النكاح لغير الناكح ولا حكم البيع لغير العاقد وسواء شرط أن يوالي من شاء أو شرط لبائعه أو لرجل آخر بعينه ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط نص عليه أحمد وقال الشافعي تفسد به كما لو شرط عوضاً مجهولاً ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الشروط الفاسدة في البيع ولنا حديث بريرة فإن أهلها شرطوا لهم الولاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشرائها مع هذا الشرط وقال (إنما الولاء لمن اعتق) ويفارق جهالة العوض فإنه ركن العقد لا يمكن تصحيح العقد إلا به وربما أفضت جهالته إلى التنازع والاختلاف وهذا شرط زائد فإذا حذفناه بقي العقد صحيحاً بحاله فإن قيل المراد بقوله عليه السلام (اشترطي لهم الولاء) أي عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالشرط الفاسد واللام تستعمل بمعنى على كقوله تعالى (وإن أسأتم فلها) قلنا لا يصح لثلاث وجوه (أحدها) أنه مخالف وضع اللفظ والاستعمال (والثاني) أن أهل بريرة أبو هذا الشرط فكيف يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بشرط لا يقبلونه؟(12/450)
(الثالث) أن ثبوت الولاء لها لا يحتاج إلى شرط لأنه مقتضى العتق وحكمه ولأن في بعض الألفاظ (لا يمنعنك هذا الشرط منها، ابتاعي وأعتقي) وإنما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالشرط تعريفاً لنا ان وجود هذا الشرط كعدمه وأنه لا ينقل الولاء عن المعتق (فصل) فإن شرط السيد على المكاتب أن يرثه دون ورثته أو مزاحمتهم في مواريثهم فهو شرط فاسد في قول عامة العلماء منهم الحسن وعطاء وشريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي واسحاق وأجاز اياس بن معاوية أن يشرط شيئاً من ميراثه ولا يصح لأنه يخالف كتاب الله وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وروى سعيد ثنا هشيم عن منصور عن ابن سيرين
بإسناده أن رجلاً كاتب مملوكه واشترط ميراثه فلما مات المكاتب خاصم ورثته إلى شريح فقضى شريح بميراث المكاتب لورثته فقال الرجل ما يغني شرطي منذ عشرين سنة؟ فقال شريح كتاب الله أنزله على نبيه قبل شرطك بخمسين سنة ولا تفسد الكتابة بهذا الشرط كالذي قبله (فصل) فإن شرط عليه خدمة معلومة بعد العتق جاز وبه قال عطاء وابن شبرمة وقال مالك والزهري لا يصح لأنه ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط ميراثه ولنا أنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه أعتق كل من يصلي من سبي العرب وشرط عليهم: أن تخدمو الخليفة من بعدي ثلاث سنوات ولأنه اشترط خدمة في عقد الكتابة أشبه ما لو شرطها قبل(12/451)
العتق ولأنه شرط نفعاً معلوماً أشبه ما لو شرط عوضاً معلوماً ولا نسلم أن ينافي مقتضى العقد فإن مقتضاه العتق عند الأداء وهذا لا ينافيه (فصل) إذا كاتبه على ألفين في رأس كل شهر ألف وشرط أن يعتق عند أداء الأول صح في قياس المذهب ويعتق عند أدائه لأن السيد لو أعتقه بغير أداء شئ صح فكذلك إذا أعتقه عند أذاء البعض ويبقى الآخر ديناً عليه بعد عتقه كما لو باعه نفسه به (مسألة) وتجوز كتابة بعض عبده فإذا أدى عتق كله قاله أبو بكر) لأنها معاوضة فصحت في بعضه كالبيع فإذا أدى جميع كتابته عتق كله لأنه إذا سرى العتق فيه إلى ملك غيره فإلى ملكه أولى ويجب أن يؤدي إلى سيده مثلي كتابته لأن نصف كسبه يستحقه سيده بما فيه من الرق ونصفه يؤدي في الكتابة إلا أن يرضي سيده بتأدية الجميع في الكتابة فيصح وإذا استوفى المال كله عتق نصفه بالكتابة وباقيه بالسراية (مسألة) وتجوز كتابة حصته من العبد المشترك بغير إذن شريكه) إذا كان لرجل نصف عبد فكاتبه صح سواء كان باقيه حراً أو مملوكاً لغيره وسواء أذن الشريك أو لم يأذن وهذا ظاهر قول الخرقي وأبي بكر وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وحكي عن الحسن البصري والحسن بن صالح ومالك والعنبري وكره الثوري وحماد كتابته بغير إذن شريكه، وقال(12/452)
الثوري إن فعل رددته إلا أن يكون بعده فيضمن لشريكه نصف ما في يده وقال أبو حنيفة يصح بإذن الشريك ولا يصح بغير إذنه وهو أحد قولي الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال الإذن في ذلك إذن في تأدية مال الكتابة من جميع كسبه ولا يرجع الاذن بشئ منه، وقال أبو يوسف ومحمد يكون جميعه مكاتباً، وقال الشافعي في أحد قوليه إن كان باقيه حراً صحت كتابته وإن كان ملكاً لم يصح سواء أذن فيه الشريك أم لم يأذن لأن كتابته تقتضي إطلاقه في الكسب والسفر وملك نصفه يمنع ذلك ويمنعه أخذ نصيبه من الصدقات لئلا يصير كسباً فيستحق سيده نصفه ولأنه إذا أدى عتق جميعه فيفضي إلى أن يؤدي نصف كتابته ثم يعتق جميعه ولنا أنه عقد معاوضة على نصيبه فصح كبيعه ولانه ملك لم يصح بيعه وهبته فصحت كتابته كما لو ملك جميعه ولأنه ينفذ إعتاقه فصحت كتابته كالعبد الكامل وكما لو كان باقيه حراً عند الشافعي أو أذن فيه الشريك عند الباقين وقولهم إنه يقتضي المسافرة والكسب وأخذ الصدقة قلنا أما المسافرة فليست من المقتضيات الأصلية فوجود مانع منها لا يمنع أصل العقد، وأما الكسب وأخذ الصدقة فإنه لا يمنع كسبه وأخذه الصدقة بجزئه المكاتب ولا يستحق الشريك شيئاً منه لأنه إنما يستحق ذلك بالجزء المكاتب ولا حق للشريك فيه فكذلك ما حصل به كما لو ورث شيئاً بجزئه الحر، وأما الكسب فإن هايأه مالك نصفه فكسب في نوبته شيئاً لم يشاركه فيه أيضاً وإن لم يهايئه فكسب(12/453)
بجملته شيئاً كان بينهما له بقدر ما فيه من الجزء المكاتب ولسيده الباقي لأنه كسبه بجزئه المملوك فيه فأشبه ما لو كسب قبل كتابته فقسم بين سيديه وقولهم إنه يفضي إلى أن يؤدي بعض الكتابة فيعتق جميعه قلنا يبطل هذا بما لو علق عتق نصيبه على أداء مال فإنه يؤدي عوض البعض ويعتق الجميع على أنا نقول لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة فإن جميع الكتابة هو الذي كاتبه عليه مالك نصفه ولم يبق منها شئ فلا يعتق حتى يؤدي جميعها ولأنه لا يعتق الجميع بالأداء وإنما يعتق الجزء المكاتب لا غير وباقيه إن كان المكاتب معسراً لم يعتق وإن كان موسراً عتق بالسراية لا بالكتابة ولا يمتنع هذا كما لو أعتق
بعضه عتق جميعه وإذا جاز عتق جميعه باعتاق بعضه بطريق السراية جاز ذلك فيما يجري مجرى العتق (مسألة) (وإذا أدى ما كوتب عليه ومثله لسيده الآخر عتق كله إن كان الذي كاتبه موسراً وعليه قيمة حصة شريكه) وجملة ذلك أن أحد الشريكين إذا كاتب نصيبه لم تسر الكتابة ولم يتعد الجزء الحر الذي كاتبه لأن الكتابة عقد معاوضة فلم تسر كالبيع وليس للعبد أن يؤدي إلى مكاتبه شيئاً حتى يؤدي إلى شريكه مثله سواء أذن الشريك في كتابته أو لم يأذن لأنه إنما أذن في كتابة نصيب شريكه وذلك يقتضي أن يكون نصيبه باقياً له هذا إذا كان الكسب لجميعه فإن أدى الكتابة من جميع كسبه لم(12/454)
يعتق لأن الكتابة الصحيحة تقتضي العتق ببراءته من العوض وذلك لا يحصل بدفع ما ليس له وإن أدى إليهما جميعاً عتق كله لأن نصفه يعتق بالأداء فإذا عتق سرى إلى سائره ان كان الذي كاتبه موسراً وتلزمه قيمة نصيب شريكه لأن عتقه بسبب من جهته أشبه ما لو باشره بالعتق أو علق عتق نصيبه بصفة فعتق بها فأما إن ملك شيئاً بجزئه المكاتب كمن هايأه سيده فكسب شيئاً في نوبته أو أعطي من الصدقة من سهم الرقاب فلا حق لسيده فيه وله أداء جميعه في كتابته لأنه يستحق ذلك بما فيه من الكتابة فأشبه النصف الباقي بعد إعطاء الشريك حقه ولو كان ثلثه حراً وثلثه مكاتباً وثلثه رقيقاً فورث بجزئه الحر ميراثاً وأخذ بجزئه المكاتب من سهم الرقاب فله دفع ذلك كله في كتابته لأنه ما استحق بجزئه الرقيق شيئاً منه فلا يستحق مالكه منه شيئاً وإذا أدى جميع كتابته عتق فإن كان الذي كاتبه معسراً لم يسر العتق ولم يتعد نصيبه كما إذا واجهه بالعتق إلا على الرواية التي نقول فيها بالاستسعاء فإنه يستسعى في نصيب الذي لم يكاتب وإن كان موسراً سرى إلى باقيه (مسألة) (وإن أعتق الشريك قبل أدائه عتق عليه كله إن كان موسراً وعليه قيمة نصيب المكاتب وقال أبو بكر والقاضي لا يسري إلى النصف المكاتب) لأنه قد انعقد للمكاتب سبب الولاء فلا يجوز ابطاله إلا أن يعجز فيقوم عليه حينئذ، وقال ابن أبي ليلى عتق الشريك موقوف حتى تنظر ما يصنع في الكتابة فإن أداها عتق وكان المكاتب(12/455)
ضامناً لقيمة نصيب شريكه وولاؤه كله للمكاتب وإن عجز سرى عتق الشريك وضمن نصف القيمة للمكاتب وولاؤه كله له وأما الشافعي فلا يجوز كتابته إلا بإذن شريكه في أحد قوليه فإن كاتبه بإذن شريكه فأعتق الذي لم يكاتب فهل يسري في الحال أو يقف على العجز؟ فيه قولان ولنا أنه عتق لجزء من العبد من موسر غير محجور عليه فسرى إلى باقيه كالقن وقولهم إنه يفضي إلى إبطال الولاء قلنا إذا كان العتق يؤثر في إبطال الملك الثابت الذي الولاء من بعض آثاره فلأن يؤثر في نقل الولاء بمفرده أولى ولأنه لو أعتق عبداً له أولاد من معتقة قوم نقل ولاءهم إليه فإذا نقل ولاءهم الثابت بإعتاق غيرهم فلأن ينقل ولاء لم يثبت بعد بإعتاق من عليه الولاء أولى ولأنه نقل الولاء عمن لم يغرم له عوضاً فلأن ينقله بالعوض أولى فانتقال الولاء في موضع جر الولاء ينبه على سراية العتق وانتقال الولاء إلى المعتق لكونه أولى من ثلاثة أوجه (أحدها) أن الولاء ثم ثابت وهذا بعرض الثبوت (الثاني) أن النقل حصل ثم يا عتاق غيره وههنا بإعتاقه (الثالث) أنه انتقل بغير عوض وههنا بعوض (فصل) وإن كان المعتق معسراً لم يسر عتقه وكان نصيبه حراً وباقيه على الكتابة فإن أدى عتق عليهما وكان ولاؤه بينهما وإن عجز عاد الجزء المكاتب رقيقاً قناً إلا على الرواية التي تقول يستسعى العبد فانه يستعى عند عجزه في قيمة باقيه ولا يستسعى في حال الكتابة لأن الكتابة سعاية فيما اتفقا(12/456)
عليه فاستغني بها عن السعاية فيما يحتاج إلى التقويم فإذا عجز وفسخت الكتابة بطلت ورجع إلى السعاية في القيمة وحديث ابن عمر حجة لما ذهبنا اله وهو ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركا له في عبد فإن كان معه ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطي شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق) متفق عليه ورواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر وهذا الحديث حجة على من خالفه وهذا قول الخرقي والله تعالى أعلم (مسألة) (وإن كاتبا عبدهما جاز سواء كان على التساوي أو التفاضل ولا يجوز أن يؤدي
إليهما إلا على التساوي) إذا كان العبد لرجلين فكاتباه معا سواء تساويا في العوض أو اختلفا فيه وسواء اتفق نصيباهما فيه أو اختلفا وسواء كان في عقد واحد أو عقدين صح وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز أن يتفاضلا في المال مع التساوي في الملك ولا التساوي في المال مع التفاضل في الملك لأن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه ثم عجز رجع عليه الآخر بذلك(12/457)
ولنا أن كل واحد منهما يعقد على نصيبه عقد معاوضة فجاز أن يختلفا في العوض كالبيع وما ذكره لا يلزم لأن انتفاع أحدهما بمال الآخر إنما يكون عند العجز وليس ذلك من مقتضيات العقد وإنما يكون عند زواله فلا يضر ولأنه إنما يؤدي إليهما على التساوي فإذا عجز قسم ما كسبه بينهما على قدر الملكين فلم يكن أحدهما منتفعاً إلا بما يقابل ملكه وعاد الأمر بعد زوال الكتابة إلى حكم الرق كأنه لم يزل فإن قيل فالتساوي في الملك يقتضي التساوي في أدائه إليهما ويلزم منه وفاء كتابة أحدهما قبل الآخر فيعتق نصيبه ويسري إلى نصيب صاحبه ويرجع الآخر عليه بنصف قيمته قلنا يمكن أداء كتابته إليهما دفعة واحدة فيعتق عليهما ويمكن أن يكاتب أحدهما على مائة في نجمين في كل نجم خمسون ويكاتب الآخر على مائتين في نجمين في الأول خمسون وفي الثاني مائة وخمسون فيكون وقتهما واحداً فيؤدي إلى كل واحد منهما حقه على أن أصحابنا قد قالوا لا يسري العتق إلى نصيب الآخر ما دام مكاتباً فلا يفضي إلى ما ذكروه وإن قدر إفضاؤه إليه فلا مانع فيه من صحة الكتابة فإنه لا يخل بمقصود الكتابة وهو العتق بها ويكون سراية العتق من غير ضرر بأن يكاتبه على مثلي قيمته فإذا عتق عليه غرم لشريكه نصف قيمته وسلم إليه باقي المال وحصل له ولاء العبد ولا ضرر في هذا ثم لو كان فيه ضرر لكنه قد رضي به حين كتابته على أقل مما كاتبه به شريكه والضرر المرضي به من جهة المضرور لا عبرة به كما لو باشره بالعتق أو أبرأه من مال الكتابة فإنه يعتق عليه ويسري عتقه ويغرم لشريكه وهو جائز فهذا أولى بالجواز(12/458)
(فصل) ولا يجوز أن يختلفا في التنجيم ولا أن يكون لأحدهما في النجوم قبل النجم الأخير أكثر من الآخر في أحد الوجهين لأنه لا يجوز أن يؤدي إليهما إلا على السواء ولا يجوز تقديم أحدهما بالوفاء على الآخر واختلافهما في ميقات النجوم وقدر المؤدي يفضي إلى ذلك (والثاني) يجوز لأنه يمكن أن يعجل لمن تأخر نجمه قبل محله ويعطي من قل نجمه أكثر من الواجب له ويمكن أن يأذن له أحدهما في الدفع إلى الآخر قبله أو أكثر منه ويمكن أن ينظره من حل نجمه أو يرضي من له الكثير بأخذ دون حقه وإذا أمكن افضاء العقد إلى مقصوده فلا يبطله باحتمال عدم الإفضاء إليه (فصل) وليس للمكاتب أن يؤدي إلى أحدهما أكثر من الآخر ولا يقدم أحدهما على الآخر ذكره القاضي وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي قال شيخنا لا أعلم فيه خلافاً لأنهما سواء فيه فيستويان في كسبه وحقهما متعلق بما في يده تعلقاً واحداً فلم يكن له أن يخص احدهما بشئ منه دون الآخر ولأنه ربما عجز فيعود إلى الرق ويتساويان في كسبه فيرجع أحدهما على الآخر بما في يده من الفضل بعد انتفاعه به مدة فإن قبض أحدهما دون الآخر شيئاً لم يصح القبض وللآخر أن يأخذ منه حصته إذا لم يكن أذن في القبض فإن أذن فيه ففيه وجهان ذكرهما أبو بكر (أحدهما) يصح لأن المنع لحقه فجاز بإذنه كما لو أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه أو أذن المشتري للبائع في قبض المبيع قبل أن يوفيه(12/459)
ثمنه أو اذنا للمكاتب في التبرع ولأنهما لو أذنا له في الصدقة بشئ صح قبض المصدق عليه له كذلك ههنا (والثاني) لا يجوز وهو اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي واختيار المزني لأن ما في يد المكاتب ملك له فلا ينفذ إذن غيره فيه وإنما حق سيده في ذمته والأول أصح إن شاء الله تعالى لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا اتفقوا على شئ فلا وجه للمنع وقولهم إنه ملك للمكاتب تعليق على العلة ضد ما تقتضيه لأن كونه ملكاً له يقتضي جواز تصرفه فيه على حسب اختياره وإنما المنع لتعلق حق سيده به فإذا أذن زال المانع فصح التقبيض لوجود مقتضيه وخلوه من المانع ثم يبطل بما ذكرنا من المسائل فعلى هذا الوجه إذا دفع إلى أحدهما مال الكتابة بإذن صاحبه عتق نصيبه من
المكاتب لأنه استوفى حقه ويسري العتق إلى باقيه إن كان موسراً وعليه قيمة حصة شريكه لأن عتقه بسببه وهذا قول الخرقي ويضمنه في الحال بنصف قيمته مكاتباً مبقى على ما بقي من كتابته وولاؤه كله له وما في يده من المال للذي لم بقبض منه بقدر ما قبضه صاحبه والباقي بين العبد وبين سيده الذي عتق عليه لان نصفه عتق بالكتابة ونصفه بالسراية فحصة ما عتق بالكتابة للعبد وحصة ما عتق بالسراية للسيد وعلى ما اختاره شيخنا يكون الباقي كله للعبد لأن الكسب كان ملكاً له فلا يزول ملكه عنه بعتقه كما لو عتق بالأداء وقال أبو بكر والقاضي لا يسري العتق في الحال وإنما يسري عند عجزه فعلى قولهما يكون باقياً على الكتابة فإن أدى إلى الآخر عتق عليهما وولاؤه لهما(12/460)
وما يبقى في يده من كسبه فهو له وإن عجز وفسخت الكتابة قوم على الذي أدى إليه وكان ولاؤه كله له وتنفسخ الكتابة في نصفه، وإن مات فقد مات ونصفه حر ونصفه رقيق ولسيده الذي لم يعتق نصيبه أن يأخذ مما خلفه مثلما أخذه شريكه من مال الكتابة وله نصف ما يبقى والباقي لورثة العبد فإن لم يكن له وارث من نسبه فهو للذي أدى إليه بالولاء وإن قلنا لا يصح القبض فما أخذه القابض بينه ويين شريكه ولا تعتق حصته من المكاتب لأنه لم يستوف عوضه ولغير القابض مطالبة القابض بنصيبه مما قبضه كما لو قبض بغير إذنه وإن لم يرجع غير القابض بنصيبه حتى أدى المكاتب إليه كتابته صح وعتق عليهما جميعاً، وإن مات العبد قبل استيفاء الآخر حقه فقد مات عبداً ويستوفي الذي لم يقبض من كسبه بقدر ما أخذ صاحبه والباقي بينهما قال أحمد في رواية ابن منصور في عبد بين رجلين كاتباه فأدى إلى أحدهما كتابته ثم مات وهو يسعى للآخر لمن ميراثه؟ قال أحمد كل ما كسب العبد في كتابته فهو بينهما ويرجع هذا على الآخر بنصيبه مما أخذ وميراثه بينهما قال ابن منصور: قال اسحاق بن راهويه كما قال (فصل) عجز مكاتبهما فلهما الفسخ والإمضاء فإن فسخا جميعاً أو أمضيا الكتابة جاز ما اتفقا عليه وإن فسخ أحدهما وأمضى الآخر جاز وعاد نصفه رقيقاً قناً ونصفه مكاتباً وقال القاضي تنفسخ الكتابة في جميعه وهو مذهب الشافعي لأن الكتابة لو بقيت في نصفه لعاد ملك الذي
فسخ الكتابة إليه ناقصاً(12/461)
ولنا أنها كتابة عن ملك أحدهما فلم تنفسخ بفسخ الآخر كما لو انفرد بكتابته ولأنهما عقدان مفردان فلم ينفسخ أحدهما بفسخ الآخر كالبيع وما حصل من القبض لا يمنع لأنه إنما حصل ضمناً لتصرف الشريك في نصيبه فإذا لم يمنع العقد في ابتدائه فلأن لا يبطله في دوامه أولى ولأن ضرره حصل بعقده وفسخه فلا يزال بفسخ عقد غيره ولأن في فسخ الكتابة ضرراً بالمكاتب وسيده وليس دفع الضرر عن الشريك الذي فسخ بأولى من دفع الضرر عن الذي لم يفسخ لوجوه ثلاثة (أحدهما) أن ضرر الذي فسخ حصل ضمناً لبقاء عقد شريكه في ملك نفسه وضرر شريكه يزول بزوال عقده وفسخ تصرفه في ملكه (الثاني) أن ضرر الذي فسخ لم يعتبره الشرع في موضع ولا أصل لما ذكروه من الحكم ولا يعرف له نظير فيكون بمنزلة المصالح المرسلة التي وقع الأجماع على اطراحها وضرر شريكه بفسخ عقده معتبر في سائر عقوده من بيعه وهتبه وغير ذلك فيكون أولى (الثالث) إن ضرر الفسخ يتعدى إلى المكاتب فيكون ضرراً باثنين وضرر الفاسخ لا يتعداه، ثم لو قدر تساوي الضررين لوجب ابقاء الحكم على ما كان عليه ولا يجوز إحداث الفسخ من غير دليل راجح (فصل) وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وكان في يده مال فهو لسيده سواء كان من كسبه أو صدقة تطوع أو وصية وما كان من صدقة مفروضة ففيه روايتان (إحداهما) هو لسيده وهو قول(12/462)
أبي حنيفة وقال عطاء يجعله في السبيل أحب إلي وإن أمسكه فلا بأس (والرواية الثانية) يؤخذ ما بقي في يده فيجعل في المكاتبين نقلها حنبل وهو قول شريح والنخعي والثوري واختار أبو بكر والقاضي أنه يرد إلى أربابه وهو قول إسحاق لأنه إنما دفع إليه ليصرف في العتق فإذا لم يصرف فيه وجب رده كالعازي والغارم وابن السبيل ووجه الرواية الأولى أن ابن عمر رد مكاتباً في الرق فأمسك ما أخذه منه ولأنه يأخذ لحاجته فلم يرد ما أخذه كالفقير والمسكين، وأما الغازي فإنه يأخذ لحاجتنا إليه بقدر ما يكفيه لغزوه.
فأما
الغارم فإن غرم لإصلاح ذات البين فهو كالغازي يأخذ لحاجتنا إليه وإن غرم لمصلحة نسفه فهو كمسئلتنا لا يرده (فصل) فأما ما أداه إلى سيده قبل عجزه فلا يجب رده بحال لأن المكاتب صرفه في الجهة التي أخذه لها وثبت ملك سيده عليه ملكاً مستقراً فلم يزل ملكه عنه كما لو عتق المكاتب ويفارق ما في يد المكاتب فإن ملك سيده لم يثبت عليه قبل هذا والخلاف في ابتداء ثبوته وما تلف في يد المكاتب لم يرجع به عليه سواء عجز أو أدى لأن ماله تلف في يده أشبه ما لو تلف في يد سائر أصناف الصدقة وإن اشترى به عرضاً وعجز والعرض في يده ففيه من الخلاف مثل ما لو وجده بعينه لأن العرض عوضه وقائم مقامه فأشبه ما لو أعطى الغازي من الصدقة ما اشترى به فرساً وسلاحاً ثم فضل عن حاجته (فصل) وموت المكاتب قبل الأداء كعجزه فيما ذكرنا لأن سيده يأخذ ما في يده قبل حصول(12/463)
مقصود الكتابة وإن أدى وبقي في يده شئ فحكمه في رده وأخذه حكم سيده في ذلك عند عجزه لأنه مال لم يؤده في كتابته بقي بعد زوالها، فإن كان قد استدان ما أداه في الكتابة وبقي عنده من الصدقة ما يقضي به دينه لم يلزمه رده لأنه محتاج إليه بسبب الكتابة فأشبه ما يحتاج إليه في أدائها (فصل) إذا قال السيد لمكاتبه متى عجزت بعد موتي فأنت حر فهذا تعليق للحرية على صفة تحدت بعد الموت وفيه اختلاف ذكرناه، فإن قلنا لا يصح فلا كلام وإن قلنا يصح فمتى عجز بعد الموت صار حراً بالصفة، فإن ادعى العجز قبل حلول النجم لم يعتق لأنه لم يجب عليه شئ يعجز عنه.
وإن كان بعد حلوله ومعه ما يؤديه لم يقبل قوله لأنه غير عاجز وإن لم يكن معه مال ظاهر فصدقه الورثة عتق وإن كذبوه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم المال وعجزه فإذا حلف عتق وإذا عتق بهذه الصفة كان ما في يده له إن لم تكن كتابته فسخت لأن العجز لا تنفسخ به الكتابة وإنما يثبت به استحقاق الفسخ والحرية تحصل به بأول وجوده فتكون الحرية قد حصلت له في حال كتابته فيكون ما في يده له كما لو عتق بالإبراء من مال الكتابة ومقتضى قول بعض أصحابنا أن كتابته تبطل ويكون ما في يده لورثة سيده (فصل) إذا كاتب عبداً في صحته ثم أعتقه في مرض موته أو أبرأه من مال الكتابة فإن كان
يخرج من ثلثه الأقل من قيمته أو مال كتابته عتق مثل أن يكون له سوى المكاتب مائتان وقيمة(12/464)
المكاتب مائة ومال الكتابة مائة وخمسة فانا نعتير قيمته دون مال الكتابة وهي تخرج من الثلث وإن كان بالعكس اعتبرنا مال الكتابة ونفذ العتق ويعتبر الباقي من مال الكتابة دون ما أدي منها وإنما اعتبرنا الأقل لأن قيمته إن كانت أقل فهي قيمة ما أتلف بالإعتاق ومال الكتابة ما استقر عليه فإن للعبد إسقاطه بتعجيز نفسه أو يمتنع من أدائه فلا يجبر عليه فلم يحتسب له به وإن كان عوض الكتابة أقل اعتبرناه لأنه يعتق بأدائه ولا يستحق السيد عليه سواه وقد ضعف ملكه فيه وصار عوضه وإن كان كل واحد منهما لا يخرج من الثلث مثل أن يكون ماله سوى المكاتب مائة فإنا نضم الأقل من قيمته أو مال الكتابة ونعمل بحسابه قيعتق منه ثلثاه ويبقى ثلثه بثلث مال الكتابة فإن أداه عتق وإلا رق منه ثلثه ويحتمل أنه إذا كان مال الكتابة مائة وخمسين فيفي ثلثه بخمسين فأداها أن نقول قد زاد مال الميت لأنه حسب على الورثة بمائة وحصل لهم ثلثه خمسون فقد زاد مال الميت فينبغي أن يزيد ما يعتق منه لأن هذا المال يحصل لهم بعقد السيد والإرث عنه ويجب أن يكون المعتبر من مال الكتابة ثلاثة أرباعه لأن ربعه يجب إيتاؤه للمكاتب فلا يحسب من مال الميت فإن كان ثلاثة أرباع مال الكتابة مائة وخمسين وقيمة العبد مائة وللميت مائة أخرى عتق من العبد ثلثاه وحصل للورثة من كتابة البعد خمسون عن ثلث العبد المحسوب عليهم ثلث المائة فقد زاد لهم ثلث الخمسين فيعتق من العبد قدر ثلثها وهو تسع الخمسين وذلك نصف تسعه فصار العتق ثابتاً في ثلثيه ونصف تسعه(12/465)
وحصل للورثة المائة وثمانية أتساع الخمسين وهو مثلا ما عتق منه.
فإن قيل لم أعتقتم بعضه وقد بقي عليه بعض مال الكتابة؟ قلنا إنما أعتقنا بعضه ههنا بإعتاق سيده لا الكتابة، ولما كان العتق في مرض موته نفذ في ثلث ماله وبقي باقيه لحق الورثة، والموضع الذي لا يعتق إلا بأداء جميع الكتابة إذا كان عتقه بها لأنه إذا بقي عليه شئ فما حصل لاستيفاء يخص المعاوضة فلم تثبت الحرية في العوض (فصل) فإن وصى سيده بإعتاقه أو إبرائه من الكتابة وكان يخرج من ثلثه أقل الامرين من
قيمته أو مال الكتابة فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أعتقه في مرضه أو أبرأه إلا أنه لا يحتاج ههنا إلى إيقاع العتق لأنه أوصى به وإن لم يخرج الأقل منهما من ثلثه عتق منه بقدر الثلث ويسقط من الكتابة بقدر ما عتق ويبقى باقيه على باقي الكتابة فإذا أداه عتق جميعه وإن عجز عتق منه بقدر الثلث ورق الباقي.
وقياس المذهب أن يتنجز عتق ثلثه في الحال وإن لم يحصل للورثة في الحال شئ لأن حق الورثة متحقق الحصول فإنه إن أدى وإلا عاد الباقي قناً وذكر القاضي فيه وجهاً آخر أنه لا يتنجز عتق شئ منه إذا لم يكن للميت مال سواه لئلا يتنجز للوصية ما عتق ويتأخر حق الوارث ولذلك لو كان له مال غائب أو دين حاضر لم يتنجز وصيته من الحاضر والأول أصح لما ذكرناه وأما الحاضر والغائب فإنه إن كان موصى له بالحاضر أخذ ثلثه في الحال ووقف الباقي على قدوم الغائب فقد حصل(12/466)
للموصى له ثلث الحاضر ولم يحصل للورثة شئ في الحال فهي كسمئلتنا ولم تكمل له جميع وصيته لأن الغائب غير موثوق بحصوله فإنه ربما تلف بخلاف ما نحن فيه.
فأما الزيادة الحاصلة بزيادة مال الكتابة فإنها تقف على أدائه (فصل) قال الخرقي وإذا كان العبد لتلاثة فجاءهم بثلثمائة درهم فقال بيعوني نفسي بها فأجابوه فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئاً وشهد الرجلان عليه بالأخذ فقد صار العبد حراً بشهادة الشريكين إذا كانا عدليل ويشاركهما فيما أخذا من المال وليس على العبد الشئ، اعترض على الخرقي في هذه المسألة حيث أجاز له شراء نفسه بعين ما في يده مع أنه قد ذكر في باب العتق: إذا قال العبد لرجل اشترني من سيدي بهذا المال وأعتقني فاشتراه بعين المال كان الشراء والعتق باطلاً ويكون السيد قد أخذ ماله.
فأجاب القاضي عن هذا الإشكال بوجوه: منها أن يكون مكاتباً وقوله بيعوني نفسي بهذه أي أعجل لكم الثلاثمائة وتضعون عني ما بقي من كتابتي ولهذا ذكرها في باب المكاتب (الثاني) أن يكون العبد لأجنبي قال له اشتر نفسك بها من غير أن يملكه إياها (الثالث) أن يكون عتقاً بصفة تقديره إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر (الرابع) أن يكون سادته رضوا ببيعه نفسه بما في يده وفعلهم ذلك معه إعتاق منهم مشروط بتأدية ذلك إليهم فتكون صورته صورة
البيع ومعناه العتق بشرط الأداء كما لو قال بعتك نفسك بخدمتي سنة فإن منافعه مملوكة لسيده وقد صح(12/467)
هذا فيها فكذا ههنا قال شيخنا وهذا الوجه أظهر إن شاء الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى تأويل ومتى أمكن حمل الكلام على ظاهره لم يجز تأويله بغير دليل.
إذا تقرر هذا فمتى اشتري العبد نفسه من سادته عتق لأن البيع يخرجه عن ملكهم ولا يثبت عليه ملك آخر إلا أنه ههنا لا يعتق إلا بالقبض لأنا جعلناه عتقاً مشروطاً به ولهذا قال الخرقي وقد صار العبد حراً بشهادة الشريكين اللذين شهدا بالقبض ولو عتق بالبيع لعتق باعترافهم به لا بالشهادة بالقبض ومتى أنكر أحدهم أخذ نصيبه من الثمن فشهد عليه شريكاه وكانا عدلين قبلت شهادتهما لأنهما شهدا للعبد بأداء ما يعتق به فقبلت شهادتهما كالأجنبيين ويرجع المشهود عليه عليهما فيشاركهما فيما أخذاه لأنهما اعترفا بأخذ مائتين من ثمن العبد والعبد مشترك بينهم فثمنه يجب أن يكون بينهم ولأن ما في يد العبد لهم والذي أخذاه كان في يده فيجب أن يشترك فيه الجميع ويكون بينهم بالسوية وشهادتهما فيما لهما فيه نفع غير مقبولة ودفع مشاركته لهما فيه نفع لهما فلم تقبل شهادتهما فيه وقبلت بما ينتفع به العبد دون ما ينتفعان به كما لو اقر بشئ لغيرهما فيه نفع فإن إقرارهما يقبل فيما عليهما دون مالهما وقياس المذهب أن لا تقبل شهادتهما على شريكهما بالقبض لأنهما يدفعان بها عن أنفسهما ضرراً ومغرماً ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه نفعاً بطلت شهادته في الكل وإنما يقبل ذلك في الإقرار لأن العدالة غير معتبرة فيه والتهمة لا تمنع من صحته بخلاف الشهادة فعلى هذا القياس يعتق نصيب الشاهدين باقرارهما ويبقى نصيب المشهود عليه موقوفاً على(12/468)
القبض وله مطالبته بنصيبه أو مشاركة صاحبيه بما أخذ فإن شاركهما أخذ منهما ثلثي مائة ورجع على العبد بتمام المائة ولا يرجع المأخوذ منه على الآخر بشئ لأنه إن أخذ من العبد فهو يقول ظلمني وأخذ مني مرتين وإن أخذ من الشاهدين فهما يقولان ظلمنا وأخذ منا ما لا يستحقه علينا ولا يرجع المظلوم على غير ظالمه وإن كانا غير عدلين فكذلك سواء قلنا إن شهادة العدلين مقبولة أو لا لأن غير العدل لا تقبل شهادته وانما يؤاخذ بإقراره وإن أنكر الثالث البيع فنصيبه باق على الرق.
إذا حلف
إلا أن يشهدا عليه بالبيع ويكونان عدلين فتقبل شهادتهما لأنهما لا يجران إلى نفسهما بهذه الشهادة نفعاً (فصل) وإذا كان العبد بين شريكين فكاتباه بمائة فادعى دفعها إليهما وصدقاه عتق وإن أنكراه ولم تكن بينة فالقول قولهما مع أيمانهما وإن أقر أحدهما وأنكر الآخر عتق نصيب المقر، وأما المنكر فعلى قول الخرقي تقبل شهادة شريكيه عليه إذا كانا عدلا فيحلف العبد مع شهادتهما ويصير حراً ويرجع المنكر على الشاهد فيشاركه فيما أخذه، وأما القياس فيقتضي أن لا تسمع شهادة شريكه عليه لانه يدفع بشهادته عن نفسه مغرماً والقول قول السيد مع يمينه فإذا حلف فله مطالبة شريكه بنصف ما اعترف به وهو خمسة وعشرون لأن ما قبضه كسب العبد وهو مشترك بينهما فإن قيل فالمنكر ينكر قبض شريكه فكيف يرجع عليه؟ قلنا إنما ينكر قبض نفسه وشريكه مقر بالقبض ويجوز أن يكون قد قبض فلم يعلم به وإذا أقر بمتصور لزمه حكم اقراره ومن حكمه جواز رجوع شريكه عليه(12/469)
فإن قيل لو كان عليه دين لاثنين فوفى أحدهما لم يرجع الآخر على شريكه فلم رجع ههنا؟ قلنا إن كان الدين ثابتاً بسبب واحد فما قبض أحدهما منه رجع به الآخر عليه كمسئلتنا وعلى أن هذا يفارق الدين لكون الدين لا يتعلق بما في يد الغريم إنما يتعلق بذمته حسب والسيد يتعلق حقه بما في يد المكاتب فلا يدفع شيئاً منه إلى أحدهما إلا كان حق الآخر ثابتاً فيه.
إذا ثبت هذا فإنه إن رجع على العبد بخمسين استقر ملك الشريك على ما أخذه ولم يرجع العبد عليه بشئ لأنه إنما قبض حقه، وإن رجع على الشريك رجع عليه بخمسة وعشرين وعلى العبد بخمسة وعشرين ولم يرجع أحدهما على الآخر بما أخذه منه لما ذكرنا من قبل، وإن عجز العبد باداء ما رجع به عليه فله تعجيزه واسترقاقه ويكون نصفه حراً ونصفه رقيقاً ويرجع على الشريك بنصف ما أخذه ولا تسري الحرية فيه لأن الشريك والعبد يعتقدان أن الحرية ثابتة في جميعه وأن المنكر غاصب لهذا النصف الذي استرقه ظالماً باسترقاقه والمنكر يدعي رق العبد جميعه ولا يعترف بحرية شئ منه لأنه يزعم أنه ما قبضت نصيبي من كتابته وشريكي إن قبض شيئاً استحق نصفه بغير إذني فلا يعتق شئ منه بهذا القبض وسراية العتق ممتنعة على كلا القولين والسراية إنما تكون فيما إذا أعتق بعضه وبقي بعضه رقيقاً وجميعهم متفقون
على خلاف ذلك وهذا منصوص الشافعي (فصل) فإن ادعى العبد أنه دفع المائة إلى أحدهما ليدفع إلى شريكه حقه ويأخذ الباقي فأنكر(12/470)
المدعى عليه حلف وبرئ فإن قال إنما دفعت إلى حقي وإلى شريكي حقه ولا بينة للعبد فالقول قول المدعى عليه في أنه لم يقبض إلا قدر حقه مع يمينه ولا نزاع ببن العبد وبين الآخر لأنه لم يدع عليه شيئاً وله مطالبة العبد بجميع حقه وله مطالبته بنصفه ومطالبة القابض بنصف ما قبضه فإن اختار مطالبة العبد فله القبض منه بغير يمين وإن اختار الرجوع على شريكه بنصفه فللشريك عليه اليمين أنه لم يقبض من المكاتب شيئاً لأنه لو أقر بذلك لسقط حقه من الرجوع فإذا أنكره لزمته اليمين فان شهد القابض على شريكه بالقبض لم تقبل شهادته لمعنيين (أحدهما) أن المكاتب لم يدع عليه شيئاً وإنما تقبل البينة إذا شهدت بصدق المدعي (الثاني) أنه يدفع عن نفسه مغرماً فإن عجز العبد فلغير القابض أن يسترق نصفه ويقوم عليه نصيب شريكه لأن العبد معترف برقة غير مدع لحرية هذا النصيب بخلاف التي قبلها ويحتمل أن لا يقوم أيضاً لأن القابض يدعي حرية جميعه والمنكر يدعي ما يوجب رق جميعه فإنهما يقولان ما قبضه قبضه بغير حق فلا يعتق حتى يسلم إلى مثل ما سلم إليه وإذا كان أحدهما يدعي جميعه والآخر يدعي جزأه فما اتفقا على حرية البعض دون البعض (فصل) وإن اعترف المدعي بقبض المائة على الوجه الذي ادعاه المكاتب وقال قد دفعت إلى شريكي نصفها فأنكر الشريك فالقول قوله مع يمينه وله مطالبة من شاء منهما بجميع حقه وللمرجوع عليه أن يحلفه فإن رجع على الشريك فأخذ منه خمسين كان له ذلك لأنه اعترف بقبض المائة كلها(12/471)
ويعتق المكاتب لأنه وصل إلى كل واحد منهما قدر حقه من الكتابة ولا يرجع الشريك عليه بشئ لأنه يعترف له بأداء ما عليه وبراءته منه وإنما يزعم أن شريكه ظلمه فلا يرجع على غير ظالمه وإن رجع على العبد فله أن يأخذ منه الخمسين لأنه يزعم أنه ما قبض شيئاً من كتابته وللعبد الرجوع على القابض بها سواء صدقه في دفعها إلى المنكر أو كذبه لأنه وإن دفعها فقد دفعها دفعا غير مبر فكان
مفرطاً ويعتق العبد بأدائها فإن عجز عن أدائها فله أن يأخذها من القابض ثم يسلمها فإن تعذر ذلك فله تعجيزه واسترقاق نصفه ومشاركة القابض في الخمسين التي قبضها عوضاً عن نصيبه ويقوم على الشريك القابض إن كان موسراً إلا أن يكون العبد يصدقه في دفع الخمسين إلى شريكه فلا يقوم لأنه يعترف أنه حر وأن هذا ظلمه باسترقاق نصفه الحر وإن أمكن الرجوع على القبض بالخمسين ودفعها إلى المنكر فامتنع من ذلك فهل يملك المنكر تعجيزه واسترقاق(12/472)
نصفه؟ على وجهين بناء على القول في تعجيز العبد نفسه مع القدرة على الأداء إن قلنا له ذلك فللمنكر استرقاقه، وإن قلنا ليس له ذلك فليس للمنكر استرقاقه لأنه قادر على الأداء فإن قيل فلم لا يرجع المنكر على القابض بنصف ما قبضه إذا استرق نصف العبد؟ قلنا لأنه لو رجع بها لكان قابضاً جميع حقه من مال الكتابة فيعتق المكاتب بذلك إلا أن يتعذر قبضها في نجومها فتنفسخ الكتابة ثم يطالب بها بعد ذلك فيكون له الرجوع بنصفها كما لو كانت غائبة في بلد آخر وتعذر تسليمها حتى فسخت الكتابة والله أعلم (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإن اختلفا في الكتابة فالقول قول من ينكرها) لأن الأصل معه (مسألة) (وإن اختلفا في عوضها فالقول قول السيد في إحدى الروايتين) إذا اختلفا في عوض الكتابة فقال السيد كاتبتك على ألفين وقال المكاتب على ألف فعنه ثلاث روايات (أحدها) القول قول السيد ذكره الخرقي قال القاضي هذا المذهب نص عليه أحمد(12/473)
في رواية الكوسج وهو قول الثوري والاوزاعي واسحاق وقال أبو بكر اتفق أحمد والشافعي على أنهما يتحالفان ويترادان وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما فيتحالفان إذا لم تكن بينة كالمتبايعين وحكي عن أحمد رواية ثالثة أن القول قول المكاتب وهو قول أبي حنيفة لأنه منكر للألف الزائد والقول قول المنكر لأنه مدعى عليه فيدخل في عموم قوله عليه السلام (ولكن اليمين على المدعي عليه) ووجه الأولى أنه اختلاف في الكتابة فالقول قول
السيد فيه كما لو اختلفا في أصلها ويفارق البيع من وجهين (أحدهما) أن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده فالقول قوله فيه (الثاني) أن التحالف في البيع مفيد ولا فائدة في التحالف في الكتابة فإن الحاصل منه يحصل بيمين السيد وحده وبيان ذلك أن الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة ورد العبد إلى الرق إذا لم يرض بما حلف عليه سيده وهذا يحصل عند من جعل القول قول السيد مع يمينه فلا يشرع التحالف مع عدم فائدته(12/474)
وإنما قدمنا قول المنكر في سائر المواضع لأن الأصل معه والأصل ههنا مع السيد لأن الأصل ملكه للعبد وكسبه.
إذا ثبت هذا فمتى حلف السيد ثبتت الكتابة بألفين كما لو اتفقا عليها وسواء كان اختلافهما قبل العتق او بعده مثل أن يدفع إليه ألفين فيعتق ثم يدعي المكاتب أن أحدهما عن الكتابة والآخر وديعة ويقول السيد بل هي جميعاً مال الكتابة ومن قال بالتحالف قال إذا تحالفا فلكل واحد منهما فسخ الكتابة إلا أن يرضي بقول صاحبه وإن كان التحالف بعد العتق في مثل الصورة التي ذكرناها لم ترتفع الحرية لأنها لا يمكن رفعها بعد حصولها ولا إعادة الرق بعد رفعه ولكن يرجع السيد بقيمة ويرد إليه ما أدى إليه فإن كانا من جنسن واحد تقاصا بقدر أقلهما وأخذ ذو الفضل فضله (مسألة) (وإن اختلفا في وفاء مالها فقال العبد أديت وعتقت وأنكر السيد فالقول قول السيد مع يمينه) لأنه منكر والقول قول المنكر وإن اختلفا في ابرائه من مال الكتابة أو شئ منه فالقول قول السيد مع يمينه لذلك(12/475)
(فصل) إذا كاتب عبدين واستوفى من أحدهما ولم يدر أيهما استوفى فقياس المذهب أن يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر كما لو أعتق عبداً من عبيده وأنسيه وإن ادعى الآخر عليه أنه أدى فعليه اليمين أنه ما أدى فإن نكل عتق الآخر وإن مات السيد قبل القرعة أقرع الورثة فإن ادعى الآخر عليهم أنه المؤدي فعليهم اليمين أنهم لا يعلمون أنه أدى لأنها يمين على نفي فعل الغير
فإن أقام أحد العبدين بينة أنه أدى عتق سواء كان قبل القرعة أو بعدها في حياة سيده أو بعد موته وإن كان ذلك قبل القرعة تعينت الحرية فيه ورق الآخر فإن كان بعدها فكذلك لأن القرعة ليست عتقاً وإنما هي معينة للعتق والبينة أقوى منها فيثبت بها خطأ القرعة فيتبين بقاء الرق في الذي ظننا حريته كما تبينا حرية من ظننا رقه ولأن من لم يؤد لا يصير مؤديا بوقوع القرعة له فلا يوجد حكمه الذي هو العتق ويتخرج على قول أبي بكر وابن حامد أن يعتقا على ما نذكر في الطلاق، وكذلك الحكم فيما إذا ذكر السيد المؤدي منهما ومتى ادعى الآخر أنه أدى فله اليمين على المدعى عليه من(12/476)
السيد والورثة إلا أن السيد يحلف على البت، وأما الورثة فإن ادعى أنه دفع إلى موروثهم حلفوا على نفي العلم وإن ادعى أنه دفع إليهم حلفوا على البت وعلى كل واحد من الورثة يمين لأن كل واحد منهم مدعى عليه فلزمته اليمين كما لو انفرد بالدعوى (فصل) إذا كان للمكاتب أولاد من معتقة غير سيده فقال سيده قد أدى إلى وعتق فانجر ولاء ولده إلي فأنكر ذلك مولى أمهم وكان المكاتب حياً صار حراً بهذا القول لأنه إقرار من سيده بعتقه وينجر ولاء ولده إليه وإن كان ميتاً فالقول قول مولى أمهم لأن الأصل بقاء الرق وبقاء ولائهم له فيحلف ويبقى ولاؤهم له (مسألة) (وإن أقام العبد شاهداً وحلف معه أو شاهد وامرأتين ثبت الأداء وعتق وهذا قول الشافعي) لأن النزاع بينهما في أداء المال والمال يقبل فيه الشاهد واليمين والرجل والمرأتان فإن قيل القصد من هذه الشهادة العتق وهو لا يثبت بشاهد ويمين قلنا بل يثبت بشاهد(12/477)
ويمين في رواية، وإن سلمنا أن الشهادة لا تثبت لكن الشهادة ههنا بأداء المال والعتق يحصل عند أدائه بالعقد الأول ولم يشهد الشاهد به ولا بينهما فيه نزاع ولا يمتنع أن يثبت بشهادة الواحد ما يترتب عليه أمر لا يثبت إلا بشاهدين كما أن الولادة تثبت بشهادة النساء ويترتب عليها ثبوت النسب الذي لا يثبت بشهادة النساء ولا بشاهد واحد
(فصل) فإن لم يكن للعبد شاهد وأنكر السيد فالقول قوله فإن قال لي شاهد غائب أنظر ثلاثاً فإن جاء وإلا حلف السيد ثم متى جاء شاهده وأدى الشهادة ثبتت حريته وإن جرح شاهده فقال لي شاهد آخر أنظر ثلاثاً لما ذكرناه (فصل) وإن أقر السيد بقبض مال الكتابة عتق العبد إذا كان ممن يصح اقراره وإن أقر بذلك في مرض موته قبل لأنه إقرار لغير وارث فيقبل وإن قال استوفيت كتابتي كلها عتق العبد وإن قال استوفيتها كلها إن شاء الله أو إن شاء زيد عتق ولم يؤثر الاستثناء لأن هذا الاستثناء لا(12/478)
مدخل له في الاقرار قال أحمد في رواية أبي طالب إذا قال له ألف إن شاء الله كان مقراً بها ولأن هذا الاستثناء تعليق بشرط والذي يتعلق بالشرط إنما هو المستقبل، وأما الماضي فلا يمكن تعليقه لأنه قد وقع على صفة لا يتغير عنها بالشرط وإنما يدل الشرط على الشك فيه فكأنه قال استوفيت كتابتي وأنا أشك فيه فيلغو الشك ويثبت الاقرار وإن قال استوفيت آخر كتابتي وقال إنما أردت أني استوفيت النجم الآخر دون ما قبله وادعى العبد اقراره باستيفاء الكل فالقول قول السيد لأنه أعرف بمراده والله أعلم (فصل) قال رضي الله عنه (والكتابة الفاسدة مثل أن يكاتبه على خمر أو خنزير تغلب فيها حكم الصفة في أنه إذا أدى عتق ولا يعتق بالإبراء) إذا كاتبه كتابة فاسدة على عوض مجهول أو حال أو محرم كالخمر والخنزير فقد روي عن أحمد رحمه الله ما يدل عليه أن الكتابة على العرض المحرم باطلة لا يعتق بالأداء فيها اختاره أبو بكر فإنه(12/479)
روي عن أحمد أنه قال: إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب عليه عتق ما لم تكن الكتابة محرمة فحكم بالعتق بالأداء إلا في المحرمة واختار القاضي أنه يعتق بالاداء كسائر الكتابات الفاسدة ويمكن حمل كلام القاضي على ما إذا جعل السيد الأداء شرطاً للعتق فقال إذا أديت لي فأنت حر فأدى فإنه يعتق بالصفة المجردة لا بالكتابة ويثبت في هذه الكتابة حكم الصفة في العتق بوجودها لا حكم الكتابة فأما إن شرط في
في الكتابة شرطاً فاسداً فالمنصوص أنه لا يفسدها لكن يلغو الشرط وتصح الكتابة ويتخرج أن يفسدها بناء على الشروط الفاسدة في البيع وهو مذهب الشافعي وقد ذكرناه فأما الكتابة الفاسدة التي لا تكون عوضاً محرماً فإنها تساوي الصحيحة في أربعة أحكام (أحدها) أنه يعتق ما كوتب عليه سوا صرح بالصفة بأن يقول إذا أديت إلى فأنت حر أو لم يقل لأن معنى الكتابة يقتضي هذا فيصير كالمصرح به فيعتق بوجوده كالصحيحة (الثاني) إذا أعتقه بالأداء لم تلزمه قيمة نفسه ولم يرجع على سيده بما أعطاه ذكره أبو بكر وهو(12/480)
ظاهرا كلام أحمد وقال الشافعي يتراجعان فيجب على العبد قيمته وعلى السيد ما أخذه فيتقاصان بقدر أقلهما إن كانا من جنس واحد ويأخذ ذو الفضل فضله لأنه عقد معاوضة فاسد فوجب التراجع فيه كالبيع الفاسد ولنا أنه عقد كتابة حصل العتق فيه بالأداء فلم يجب التراجع كما لو كان العقد صحيحاً ولأن ما يأخذه السيد فهو من كسب عبده الذي يملك كسبه فلم يجب رده والعبد عتق بالصفة فلم تجب عليه قيمته كما لو قال إن دخلت الدار فأنت حر وأما البيع الفاسد فإنه إن كان بين هذا وسيده فلا رجوع على السيد بما أخذه وإن كان بينه وبين غيره فإنه أخذ مالا يستحقه ودفع إلى الآخر ما لا يستحقه بعقد المقصود منه المعاوضة بخلاف هذا في مسئلتنا (الثالث) أن المكاتب يملك التصرف في كسبه لأن عقد الكتابة تضمن الإذن في ذلك وله أخذ الصدقات والزكوات لأنه مكاتب يعتق بالأداء أشبه الكتابة الصحيحة (الرابع) أنه إذا كاتب جماعة كتابة فاسدة فأدى أحدهم حصتهم عتق على قول من قال إنه يعتق(12/481)
بالكتابة الصحيحة بأداء حصته لأن معنى العقد أن كل واحد منهم مكاتب بقدر حصته متى أدى إلى كل واحد منكم قدر حصته فهو حر ومن قال لا يعتق في الصحيحة إلا أن يؤدي جميعهم فههنا أولى (فصل) وتفارق الصحيحة في ثلاثة أحكام (أحدها) أن السيد إذا أبرأه من المال لم تصح البراءة ولم يعتق بذلك لأن المال غير ثابت في العقد بخلاف الكتابة الصحيحة وصار هذا كالصفة المجردة
في قوله إذا أديت إلي ألفا فأنت حر (الثاني) أن لكل واحد من السيد والمكاتب فسخها سواء كان ثم صفة أو لم تكن وهذا قول أصحاب الشافعي لأن الفاسد لا يلزم حكمه والصفة ههنا مبنية على المعاوضة وتابعة لها لأن المعاوضة هي المقصودة فلما أبطل المعاوضة التي هي الأصل بطلت الصفة المبنية عليها بخلاف الصفة المجردة ولأن السيد لم يرض بهذه الصفة إلا بأن يسلم له العوض المسمى فإذا لم يسلم كان له إبطالها بخلاف الصحيحة فإن العوض سلم له فكان العقد لازماً له(12/482)
(الثالث) أنه لا يلزم السيد أن يؤدي إليه شيئاً من الكتابة لأن العتق ههنا بالصفة المجردة فأشبه ما لو قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر (مسألة) (وتنفسخ بموت السيد وجنونه والحجر للسفه) اختلف في انفساخها بموت السيد فذهب القاضي وأصحابه إلى بطلانها به وهو قول الشافعي لأنه عقد جائز من الطرفين لا يئول إلى اللزوم فبطل بالموت كالوكالة ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة والصفة تبطل بالموت كذلك هذه الكتابة وقال أبو بكر لا تبطل بالموت ويعتق بالأداء إلى الوارث وهو قول أبي حنيفة لأنه مكاتب يعتق بالأداء إلى السيد فيعتق بالأداء إلى الوارث كالكتابة الصحيحة في باب العتق بالأداء فكذلك في هذا واختلف في انفساخها بجنون السيد والحجر عليه والخلاف فيه كالخلاف في بطلانها بموته قال شيخنا والأولى أنها لا تبطل ههنا إلا بالصفة المجردة لا بذلك والمغلب في هذه الكتابة حكم الصفة المجردة فلا تبطل به فعلى هذا لو أدى إلى سيده(12/483)
بعد ذلك عتق ولا يعتق عند من أبطالها (فصل) ويملك السيد أخذ ما في يده وإن فضل من الأداء فضل فهو لسيده هذا قول أبي الخطاب لأن كسب العبد لسيده بحكم الأصل والعقد ههنا فاسد لم يثبت الحكم في وجوب العوض في ذمته فلم ينقل الملك في المعوض كسائر العقود الفاسدة ولأن المغلب فيها حكم الصفة المجردة وهي(12/484)
لا تثبت له في كسبه فكذا ههنا وفارق الكتابة الصحيحة فإنها أثبتت الكتابة في العوض فاثبتته في المعوض وقال القاضي ما في يد المكاتب وما يكسبه وما يفضل في يده بعد الاداء وهو مذهب(12/485)
الشافعي لأنها كتابة يعتق بالأداء فيها فيثبت هذا الحكم فيها كالصحيحة والأول أصح لما بين الفاسدة والصحيحة من الفروق (مسألة) (وهل يتبع المكاتبة ولدها فيها؟ على وجهين)(12/486)
(أحدها) يتبعها لأنها كتابة تعتق فيها بالأداء فيعتق ولدها به كالكتابة الصحيحة (والثاني) لا يتبعها وهو أقيس وأصح لأن الأصل بقاء الرق فيه فلا يزول إلا بنص أو معنى نص وما وجد واحد منهما ولا يصح القياس على الكتابة الصحيحة لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما تقدم فيبقى على الأصل (مسألة) (وقال أبو بكر لا تنفسخ بموت السيد ولا جنونه ولا الحجر عليه للسفه) وقد ذكرناه(12/487)
(باب أحكام أمهات الأولاد) أم الولد هي التي ولدت من سيدها في ملكه ولا خلاف في إباحة التسري ووطئ الإماء لقول الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وقد كانت مارية القبطية أم ولد للنبي صلى الله عليه وسلم وهي أم أبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (أعتقها ولدها) وكانت هاجر سرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام أم اسماعيل عليه السلام وكان لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أمهات أولاد أوصى لكل واحدة منهن بأربعمائة وكان لعلي رضي الله عنه أمهات أولاد ولكثير من الصحابة وكان علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله من أمهات أولاد ويروى أن الناس لم يكونوا يرغبون في أمهات الاود حتى ولد هؤلاء الثلاثة فرغب الناس فيهن وروي عن سالم بن عبد الله قال كان لابن رواحة جارية وكان يريد الخلوة بها وكانت امرأته ترصده فخلا البيت فوقع عليها فندرت به امرأته وقالت أفعلتها؟ قال ما فعلت قالت فاقرا إذاً فقال
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الظالمينا وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا ويحمله ملائكة شداد * ملائكة الإله مسومينا(12/488)
قالت أما إذا أقرأت فأذهب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال فلقد رأيته يضحك حتى تبدو نواجذه ويقول (هيه كيف قلت؟) فأكرره عليه فيضحك (مسألة) (إذا حملت الأمة من سيدها فوضعت ما يتبين فيه خلق الإنسان صارت له بذلك أم ولد فإذا مات عتقت وإن لم يملك غيرها) ذكر ههنا لمصير الأمة أم ولد شرطين (أحدهما) أن تحمل به في ملكه سواء كان من وطئ مباح أو محرم كالوطئ في الحيض والنفاس والاحرام والظهار فأما إن علقت منه في غير ملكه لم تصر بذلك أم ولد سواء علقت منه بمملوك مثل أن يطأها في ملك غيره بنكاح أو زنا أو علقت بحرً مثل أن يطأها بشبهة أو غر من أمة فنزوجها على أنها حرة فاستولدها أو اشترى جارية فاستولدها ثم ظهرت مستحقة فإن الولد حر ولا تصير الامة أم ولد في هذه المواضع بحال فإن ملكها بعد ذلك ففيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى (الشرط الثاني) أن تضع ما يتبين فيه شئ من خلق الإنسان من رأس أو يد أو رجل أو تخطيط سواء وضعته حياً أو ميتاً وسواء أسقطته أو كان تاماً قال عمر رضي الله عنه إذا ولدت الأمة من سيدها فقد عتقت وإن كان سقطاً وروى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه قال أعتقها ولدها وإن كان سقطاً وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله أم الولد إذا اسقطت لا تعتق فقال إذا تبين فيه يد أو(12/489)
رجل أو شئ أو خلقة فقد عتقت هذا قول الحسن والشافعي وقال الشعبي إذا نكس في الخلق الرابع فكان مخلقاً انقضت به عد الحرة وعتقت به الأمة قال شيخنا ولا أعلم في هذا خلافاً بين من قال بثبوت حكم الاستيلاد، فأما إن ألقت نطفة أو علقة لم يثبت به شئ من أحكام الولادة لأنه ليس بولد وروى يوسف بن موسى أن أبا عبد الله قيل له ما تقول في الأمة إذا ألقت مضغة أو علقة؟ قال تعتق
وهذا قول ابراهيم النخعي وذكر الخرقي لمصيرها أم ولد شرطاً ثالثاً وهو أن تحمل بحر ويتصور ذلك في الملك في موضعين (أحدهما) في العبد إذا ملكه سيده وقلنا إنه يملك فوطئ أمته فاستولدها فولده مملوك ولا تصير الأمة به أم ولد يثبت لها حكم الاستيلاد بذلك وسواء أذن له سيده في التسري بها أو لم يأذن (الثاني) إذا استولد المكاتب أمته فان ولد مملوك له ولا يثبت للأمة أحكام أم الولد في العتق بموته في الحال لأن المكاتب ليس بحر وكذلك ولده منها فأولى أن لا تتحرر هي ومتى عجز المكاتب وعاد إلى الرق أو مات قبل أداء كتابته فهي أمة قن كالعبد القن وهل يملك المكاتب بيعها؟ فيه اختلاف ذكرناه في باب المكاتب(12/490)
(مسألة) (وتعتق بموت سيدها من رأس المال وإن لم يملك سواها) وهذا قول كل من رأى عتقهن لا نعلم بينهم خلافاً في ذلك وسواء ولدت في الصحة أو المرض لأنه حاصل بالنذاذه وشهوته وما يتلفه في لذاته يستوي فيه حال الصحة والمرض كالذي يأكله ويلبسه ولأن عتقها بعد الموت وما يكون بعد الموت يستوي فيه المرض والصحة كقضاء الدين والتدبير والوصية قال سعيد ثنا عن يحيى بن سعيد عن نافع قال أدرك ابن عمر رجلان فقالا إنا تركنا هذا الرجل يبيع أمهات الأولاد يعنيان ابن الزبير فقال ابن عمر أتعرفان أبا حفص؟ فإنه قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن يستمتع بها صاحبها فإذا مات فهي حرة وقال ثنا عتاب عن حصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال قال عمر ما من رجل كان يقر بأنه كان يطأ جاريته يموت الا اعتقتها وإن كان سقطا وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه) (فصل) وإذا عتقت بموت سيدها فما كان في يدها من شئ فهو لورثة سيدها لأن أم الولد أمة وكسبها لسيدها وسائر ما في يدها له فإذا مات سيدها فعتقت انتقل ما في يدها إلى ورثته كسائر(12/491)
ماله وكما في يد المدبرة بخلاف المكاتبة فإن كسبها في حياة سيدها لها فإذا عتقت بقي لها كما
كان لها قبل العتق (فصل) ولا فرق بين المسلمة والكافرة والعفيفة والفاجرة ولا بين المسلم والكافر والعفيف والفاجر في هذا في قول أهل الفتاوى من أهل الأمصار لأن ما يتعلق به العتق يستوي فيه المسلم والكافر كالتدبير والكتابة ولأن عتقها بسبب اختلاط دمها بدمه ولحمها بلحمه فإذا استويا في حكمه وقد روى سعيد ثنا هشيم ثنا منصور عن ابن سيرين عن أبي عطية الهمداني عن عمر بن الخطاب قال في أم الولد: إن أسلمت وأحصنت وعفت أعتقت وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت وقال هشيم حدثنا يحيى بن آدم عن أم ولد رجل ارتدت عن الإسلام فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمران بيعوها ليسبيها أحد من أهل دينها فعلى هذا الحديث ينبغي أن يختص العتق بالمسلمة العفيفة وترق الكافرة الفاجرة والله أعلم (مسألة) (وإن وضعت جسماً لا تخطيط فيه فعلى روايتين) أما إذا وضعت مضغة لم يظهر فيها شئ من خلق الآدمي فشهد ثقات من القوابل ان فيها صورة خفية تعلقت بها الأحكام لأنهن اطلعن على الصورة التي خفيت على غيرهن وإن لم يشهدن(12/492)
بذلك لكن علم أنه مبتدأ خلق آدمي بشهادتهن أو غير ذلك ففيه روايتان (إحداهما) لا تصير به الأمة أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة ولا يجب على الضارب المتلف له غرة ولا كفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي وظاهر ما نقله الأثرم عن أحمد وظاهر قول الحسن والشعبي وسائر من اشترط أن يتبين فيه شئ من خلق الآدمي (والثانية) تتعلق به الأحكام الأربعة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه إذا تبين وخرج أبو عبد الله ابن حامد رواية ثالثة وهي أن الأمة تصير أم ولد ولا تنقضي به عدة الحرة لأنه روي عن أحمد إذا وضعت شيئاً فمسته القوابل فعلمن أنه لحم ولم يتبين لحمه فيحتاط في العدة بأخرى ويحتاط بعتق الأمة فظاهر هذا أنه حكم بعتق الأمة ولم يحكم بانقضاء العدة لأن عتق الأمة تحصيل للحرية فاحتيط بتحصيلها والعدة يتعلق بها تحريم التزويج وحرمة الفرج فاحتيط بابقائها وقال بعض الشافعيا بالعكس لا تجب
العدة ولا تصير الأمة أم ولد لأن الأصل عدم كل واحد منهما فيبقى على أصله ولا يصح لأن العدة كانت ثابتة والأصل بقاؤها على ما كانت عليه والأصل في الآدمي الحرية فتغلب على ما يفضي إليها (مسألة) (وإن أصابها في ملك غيره بنكاح أو غيره ثم ملكها حاملاً عتق الجنين ولم تصر أم ولد له وعنه تصير)(12/493)
وسواء ملكها حاملاً فولدت في ملكه أو ملكها بعد ولادتها وبه قال الشافعي لأنها علقت منه بمملوك فلم يثبت لها حكم الاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها لأن الأصل بقاء الرق وإنما خولف هذا الأصل فيما إذا حملت منه في ملكه بقول الصحابة رضي الله عنهم ففيما عداه يبقى على الأصل ونقل ابن أبي موسى عن أحمد أنها تصير أم ولد في الحالين وهو قول الحسن وأبي حنيفة لأنها أم ولده وهو مالك لها فيثبت لها حكم الاستيلاد كما لو حملت في ملكه قال شيخنا ولم أجد هذه الرواية عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها إنما نقل عنه التوقف عنها في رواية مهنا فقال لا أقول فيها شيئاً وصرح في رواية سواه بجواز بيعها فقال لا أرى بأساً أن يبيعها إنما الحسن وحده قال إنها أم ولد وقال أكثر ما سمعنا فيه من التابعين يقولون إنها لا تصير أم ولد حتى تلد عنده وهو يملكها، كان عبيدة السلماني يقول ببيعها وشريح وإبراهيم والشعبي اما إذا ملكها حاملاً فظاهر كلام أحمد أنها تصير أم ولد وهو مذهب مالك لأنها ولدت منه في ملكه فأشبه ما لو أحبلها في ملكه وقد صرح أحمد في رواية إسحاق بن منصور أنها لا تكون أم ولد حتى تحدث عنده حملاً وروى عنه ابنه صالح قال سألت أبي عن الرجل ينكح الأمة فتلد منه ثم يبتاعها قال لا تكون أم ولد له قلت فإن اشتراها وهي حامل منه قال إذا كان الوطئ يزيد في الولد وكان يطؤها بعد ما اشتراها وهي حامل كانت أم ولد له قال ابن حامد أن وطئها في ابتداء حملها أو بواسطة صارت له بذلك أم(12/494)
ولد لأن الماء يزيد في سمع الولد وبصره وقال القاضي إن ملكها حاملاً فلم يطأها حتى وضعت لم تصر أم ولد وإن وطئها حال حملها نظرنا فإن كان بعد أن كمل الولد وصار له خمسة أشهر لم تصر بذلك أم ولد وإن وطئها قبل ذلك صارت له بذلك أم ولد لأن عمر قال أبعد ما اختلطت دماؤكم
ودماؤهن ولحومكم ولحومهن بعتموهن؟ فعلل بالمخالطة والمخالطة ههنا حاصلة لأن الماء يزيد في الولد ولأن لحرية البعض أثراً في تحرير الجميع بدليل ما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وقال أبو الخطاب أن وطئها بعد الشراء فهي أم ولد وكلام الخرقي يقتضي أن لا تكون أم ولد إلا أن تحبل منه في ملكه وهو الذي رواه اسحاق بن منصور عن أحمد وهو ظاهر المذهب لأنها لم تعلق منه بحر فلم يثبت له حكم لاستيلاد كما لو زنى بها ثم اشتراها ولأن حملها منه إذا لم يفد الحرية لولدها فلأن لا يفيدها الحرية أولى ويفارق هذا ما إذا حملت منه في ملكه فإن الولد حر فتحرر بتحريره وما ذكروه من أن الولد يزيد فيه الوطئ غير مستيقن فلا يثبت الحكم بالشك ولو ثبت أنه زاد لم يثبت الحكم بهذه الزيادة بدليل ما لو ملكها وهي حامل منه من زنا أو غيره فوطئها لم تصر أم ولد وإن زاد الولد به ولأن حكم الاستيلاد إنما ثبت بالإجماع(12/495)
في حق من حملت منه في ملكه وما عداه ليس في معناه وليس فيه نص ولا إجماع فوجب أن لا يثبت هذا الحكم ولأن الأصل الرق فتبقى على ما كانت عليه (فصل) قال أحمد فيمن اشترى جارية حاملاً من غيره فوطئها قبل وضعها فإن الولد لا يلحق بالمشتري ولا يبيعه لكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد، وقد روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال (لعله يريد أن يلم بها؟) قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له؟ أم كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟) رواه أبو داود يعني أنه لو استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده فإن اتخذه مملوكاً يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد.
(فصل) إذا وطئ الرجل جارية ولده فإن كان قد تملكها وقبضها ولم يكن الولد وطئها ولا تعلقت بها حاجته فقد ملكها الأب بذلك وصارت جاريته والحكم فيه كما لو اشتراها وإن وطئها قبل تملكها فقد فعل محرما لقول الله تعالى (والذين هو لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وهذه ليست زوجته ولا ملك يمينه فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) فأضاف مال الابن إلى أبيه بلام الملك والاستحقاق فيدل
على أنه ملكه قلنا لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الملك بدليل أنه أضاف إليه الولد وليس بمملوك وأضاف(12/496)
إليه ماله في حال إضافته إلى الولد ولا يكون الشئ ملكاً لمالكين حقيقة بدليل أنه يحل له وطئ إمائه والتصرف في ماله وصحة بيعه وهبته وعتقه ولأن الولد لو مات لم يرث أبوه منه إلا ما قدر له ولو كان ماله لاختص به ولو مات الأب لم يرث ورثته مال ابنه ولا يجب على الأب حج ولا زكاة ولا جهاد بيسار ابنه فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد التجوز بتشبيهه بما له في بعض أحكامه.
إذا ثبت هذا فإنه لاحد على الأب للشبهة لأنه إذا لم يثبت له حقيقة الملك فلا أقل من أن يكون شبهة تدرأ الحد فإن الحد يدرأ بالشبهات ولكن يعزر لانه وطئ وطئها محرما فأشبه وطئ الجارية المشتركة وفيه وجه آخر أنه لا يعزر لأن مال ولده كماله ولا يصح لأن ماله مباح له غير ملوم عليه بخلاف وطئ الأب فإنه عاد فيه ملوم عليه فإن علقت منه فالولد حر لأنه من وطئ درئ فيه الحد لشبهة الملك فكان حراً كولد الجارية المشتركة ولا يلزمه قيمته لأن الجارية تصير ملكا له بالوطئ فيحصل علوقها بالولد وهي ملكه وتصير أم ولد له تعتق بموته وتنتقل إلى ملكه فيحل له وطؤها بعد ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر لا تصير أم ولد له ولا يملكها لأنه استولدها في غير ملكه فأشبه الأجنبي ولأن ثبوت أحكام الاستيلاد إنما كان بالإجماع فيما إذا استولد مملوكته وهذه ليست مملوكته ولا في معنى مملوكته لأنها محرمة عليه فوجب أن لا يثبت لها هذا الحكم لأن(12/497)
الأصل الرق فتبقى على الأصل ولأن الوطئ المحرم لا ينبغي أن يكون سبباً للملك الذي هو نعمة وكرامة لأنه يفضي إلى تعاطي المحرمات.
ولنا أنها علقت منه بحر لأجل الملك فصارت أم ولد له كالجارية المشتركة وبهذا فارق وطأ الأجنبي.
إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه مهرها ولا قيمتها، وقال أبو حنيفة لا يلزمه مهرها وتلزمه قيمتها لأنه أخرجها عن ملك سيدها بفعل محرم أشبه ما لو قتلها وإنما لم يلزمه مهرها لأنه إذا ضمنها فقد دخلت قيمة البضع في ضمانها فلم يضمنه ثانياً كما لو قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها فإنه يضمن قيمة النفس
دون قيمة اليد، وقال الشافعي يلزمه مهرها لأنه وطئ جارية غيره وطئاً محرماً فلزمه مهرها كالأجنبي وتلزمه قيمتها على القول بكونها أم ولد كما يلزم أحد الشريكين نصيب شريكه إذا استولد الجارية المشتركة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) ولأنه لا يلزمه قيمة ولدها فلم يلزمه مهرها ولا قيمتها كمملوكته ولانه وطئ صارت به الموطوءة أم ولد لأمر لا يختص ببعضها فأشبه استيلاد مملوكته (فصل) فإن كان الابن قد وطأ جاريته ثم وطئها أبوه فأولدها فقد روي عن أحمد فيمن وقع على جارية ابنه إن كان الأب قابضاً لها ولم يكن الابن وطئها فهي أم ولده فليس للابن فيها شئ قال القاضي: فظاهر هذا أن الابن إن كان قد وطئها لم تصر أم ولد للأب باستيلادها لأنها تحرم عليه تحريماً مؤبداً بوطئ ابنه ولا تحل له بحال فاشبه وطئ الأجنبي فعلى هذا القول لا يملكها(12/498)
ولا تعتق بموته فأما ولدها فيعتق على أخيه لأنه ذو رحمه كما لو استولد مملوكته التي وطئها ابنه فإنها تصير أم ولد له مع تحريمها عليه على التأبيد فكذلك ههنا لانه وطئ يدرأ فيه الحد لشبهة الملك فصارت به أم ولد كما لو لم يطأها الابن (فصل) فإن وطئ الابن جارية أبيه فهو زان عليه الحد إذا كان عالماً بالتحريم ولا تصير أم ولد له ويلزمه مهرها ويعتق ولده على جده لأنه ابن ابنه إذا قلنا انه ولد الزنا يعتق على أبيه وتحرم الجارية على الأب على التأبيد ولا تجب قيمتها على الابن لأنه لم يخرجها عن ملك أبيه ولم يمنعه بيعها ولا التصرف فيها بغير الاستمتاع فإن استولدها الأب بعد ذلك فقد فعل محرم ولا حد عليه لانه وطئ صادف ملكاً وتصير أم ولد له لأنه استولد مملوكته فأشبه ما لو وطئ أمته المرهونة (فصل) فإن وطئ أمته وهي مزوجة فقد فعل محرما ولا حد عليه لأنها مملوكته ويعزر قال احمه يجلد ولا برجم يعني أنه يعزر بالجلد لأنه لو وجب عليه الحد لوجب الرجم إذا كان محصناً فإن أولدها صارت أم ولد له لأنه استولد مملوكته وتعتق بموته وولده حر وما ولدت بعد ذلك من الزوج فحكمه حكم أمه.(12/499)
(فصل) ولو ملك رجل أمه من الرضاع أو أخته أو ابنته لم يحل له وطؤها فإن وطئها فلا حد عليه في أصح الروايتين لأنها مملوكته ويعزر وإن ولدت منه فالولد حر ونسبه لاحق به وهي أم ولده ولذلك لو ملك أمة مجوسية أو وثنية فاستولدها أو ملك الكافر أمة مسلمة فاستولدها فلا حد عليه ويعزر ويلحقه نسب ولده وتصير أم ولد تعتق بموته لما ذكرنا وكذلك لو وطئ أمته المرهونة أو وطئ رب المال أمة من مال المضاربة فأولدها صارت له بذلك أم ولد وخرجت من الرهن والمضاربة وإن كان فيها ربح جعل الربح في مال المضاربة وعليه قيمتها للمرتهن تجعل مكانها رهناً أو يوفيه عن دين الرهن والله أعلم (مسألة) وأحكام أم الولد أحكام الأمة في الاجارة والاستخدام والوط وسائر أمورها إلا فيما ينقل الملك في رقبتها كالبيع والهبة والوقف أو ما يراد له كالرهن وعنه ما يدل على جواز بيعها مع الكراهة ولا عمل عليه) وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها وولدت منه ثبت لها حكم الاستيلاد وحكمها حكم الإماء في حل وطئها لسيدها واستخدامها وملك كسبها وتزويجها وإجارتها وعتقها وتكليفها وحدها(12/500)
وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن مالك أنه لا يملك إجارتها وتزويجها لأنه لا يملك بيعها فلا يملك تزويجها وإجارتها كالحرة ولنا أنها مملوكة ينتفع بها فيملك سيدها تزويجها وإجارتها كالحرة وإنما منع بيعها لأنها استحقت أن تعتق بموته وبيعها يمنع ذلك بخلاف التزويج والإجارة ويبطل دليلهم بالموقوفة والمدبرة عند من منع بيعها.
إذا ثبت هذا فإنها تخالف الأمة القن في أنها تعتق بموت سيدها من رأس المال ولا يجوز بيعها ولا التصرف فيها بما ينقل الملك من الهبة والوقف ولا ما يراد للبيع وهو الرهن ولا تورث لأنها تعتق بموت سيدها ويزول الملك عنها روي هذا عمر وعثمان وعائشة وعامة الفقهاء وروي عن علي وابن عباس وابن الزبير إباحة بيعهن وإليه ذهب داود قال ثنا سعيد ثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس في أم الولد قال بعها كما تبيع ثيابك أو بعيرك قال وثنا أبو عوانة
عن مغيرة عن الشعبي عن عبيدة قال خطب علي الناس فقال شاورني عمر في أمهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن اعتقهن فقضى به عمر حياته وعثمان حياته فلما وليت رأيت أن أرقهن قال عبيدة فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي على وحده وقد روى صالح بن أحمد قال قلت لأبي إلى أي(12/501)
شئ تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال أكرهه وقد باع علي بن أبي طالب وقال في رواية اسحاق ابن منصور لا يعجبني بيعهن، قال أبو الخطاب وظاهر هذا أنه يصح بيعهن مع الكراهة فجعل هذا رواية ثانية عن أحمد قال شيخنا والصحيح أن هذا ليس برواية مخالفة لقوله إنهن لا يبعن لأن السلف رحمة الله عليهم كانوا يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً ومتى كان التحريم والمنع مصرحاً به في سائر الروايات عنه وجب حمل هذا اللفظ المحتمل على المصرح به ولا يجعل ذلك اختلافاً وحجة من أجاز بيعهن ما روى جابر قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا وما كان جائزاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لم يجز نسخه بقول عمر ولا غيره ولأن نسخ الأحكام إنما يجوز في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النص إنما ينسخ بنص، وأما قول الصحابي فلا ينسخ ولا ينسخ به وان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتركون أقوالهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتركونه بأقوالهم وإنما تحمل مخالفة عمر لهذا النص على أنه لم يبلغه ولو بلغه لم يعده إلى غيره ولأنها مملوكة لم يعتقها سيدها ولا شيئاً منها ولا قرابة بينه وبينها فلم تعتق كما لو ولدت منه ابنه في نكاح أو غيره ولأن الأصل الرق ولم يرد بزواله نص ولا إجماع ولا ما في معنى ذلك فوجب البقاء عليه ولأن ولادتها لو كانت موجبة لعتقها لثبت العتق بها حين وجودها كسائر أسبابه(12/502)
وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها تجعل في سهم ولدها لتعتق عليه قال سعيد ثنا سفيان ثنا الأعمش عن زيد بن وهب قال: مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة أن يبيعها في دينه فأتينا عبد الله بن مسعود فذكرنا ذلك له فقال إن كان ولابد فاجعلوها من نصيب أولادها ولنا ما روى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما أمة ولدت من سيدها فهي
حرة عن دبر منه) وقال ابن عباس ذكرت أم ابراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أعتقها ولدها) رواهما ابن ماجة، وذكر الشريف أبو جعفر في مسائله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد ولا يبعن ولا يرهن ولا يرثن يستمتع بها سيدها ما بداله فإن مات فهي حرة قال شيخنا وهذا فيما أظن عن عمر ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول علي كان رأيي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد وقوله فقضى به عمر حياته وعثمان حياته وقول عبيدة رأي علي في الجماعة أحب إلينا من رأيه حده وروى عكرمة عن ابن عباس قال قال عمر ما من رجل يقر بأنه يطأ جارية ثم يموت إلا أعتقها إذا ولدت وإن كان سقطا فإن قيل فكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة على وابن عباس وابن الزبير قلنا قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة فروى عبيدة قال بعث إلي علي وإلى شريح فقال لي اقضوا كما كنتم تقضون فإني أبغض الاختلاف(12/503)
وابن عباس قال: ولد أم الولد بمنزلتها وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر فيدل على موافقته لهم ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة واتفاقهم معصوم عن الخطأ فإن الأمة لا تجمع على ضلالة ولا يجوز ان يخلو من زمن عن قائم لله بحجته ولو جاز ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره فإن قيل فلو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعاً حرمت مخالفته فكيف خالفه هؤلاء الائمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام قلنا الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون وهذا من المظنون فتمكن المخالفة منهم مع كونه حجة كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية ولم تخرج مخالفتهم عن كونها حجة كذا ههنا فأما قول جابر بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فليس فيه تصريح بأنه كان بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم أبي بكر فيكون ذلك واقعاً منهم على انفرادهم فلا تكون فيه حجة ويتعين حمل الأمر على هذا لأنه لو كان هذا واقعاً بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وأقرا عليه لم تجز مخالفته ولم يجمع الصحابة(12/504)
بعدهما على مخالفتهما ولو فعلوا ذلك لم يخل من منكر عليهم ويقول كيف تخالفون فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل صاحبيه؟ وكيف تتركون سنتهما وتحرمون ما أحلا ولأنه لو كان ذلك واقعاً بعلمهما لاحتج به علي حين رأى بيعهن واحتج به كل من وافقه على بيعهن ولم يجر شئ من هذا فوجب أن يحمل الأمر على ما حملناه عليه فلا يكون فيه إذاً حجة ويحتمل أنهم باعوا أمهات الأولاد في النكاح لا في الملك (فصل) ومن أجاز بيعهن فعلى قوله إن لم يبعها سيدها حتى مات ولم يكن له وارث إلا ولدها عتقت عليه وإن كان له وارث سوى ولدها حسبت منه نصيبه فعتقت وكان له ما بقي من ميراثه وإن لم يبق شئ فلا شئ له وإن كانت أكثر من نصيبه عتق منها قدر نصيبه وباقيها رقيق لسائر الورثة إلا على قول من قال إنه إذا ورث سهماً ممن يعتق عليه سرى العتق إلى باقيه فإنه يعتق إن كان موسراً وإن لم يكن لها ولد من سيدها ورثها ورثته كسائر رقيقه (مسألة) (وإن ولدت من غير سيدها فلولدها حكمها في العتق بموت سيدها سواء عتقت أو ماتت) إذا ولدت أم الولد بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها من غير سيدها من زوج أو غيره فحكمه حكمها في أنه يعتق بموت سيدها ويجوز فيه من التصرفات ما يجوز فيها ويمتنع فيه ما يمتنع فيها قال(12/505)
أحمد قال عمر وبن عباس وغيرهما ولدهما بمنزلتها ولا نعلم في هذا خلافاً بين القائلين بثبوت حكم الاستيلاد إلا أن عمر بن عبد العزيز قال هم عبيد فيحتمل أنه أراد أنهم لا يثبت لهم حكم أمهم لأن الاستيلاد يختص بها فتختص بحكمه كولد من علق عتقها بصفة ويحتمل أنه أراد أنهم عبيد حكمهم حكم أمهم مثل قول الجماعة لأن الولد يتبع أمه في الرق والحرية فيتبعها في سببه إذا كان متأكداً كولد المكاتبة والمدبرة بل ولد أم الولد أولى لأن سبب العتق فيها مستقر لا سبيل إلى إبطاله بحال وإن ماتت أم الولد قبل سيدها لم يبطل حكم الاستيلاد في الولد وتعتق بموت سيدها لأن السبب لم يبطل وإنما لم تثبت الحرية فيها لأنها لم تبق محلاً وكذلك ولد المدبرة لا يبطل الحكم فيه بموت أمه وأما ولد المكاتبة إذا ماتت فإنه يعود رقيقاً بموتها فلم يبق حكمه فيه وفي ذلك اختلاف ذكرناه في بابه فإن أعتق السيد أم الولد أو المدبرة لم يعتق ولدها لأنها عتقت بغير السبب الذي تبعها
فيه ويبقى عتقه موقوفاً على موت سيده وكذلك إن أعتق ولدهما لم يعتقا بعتقه وإن أعتق المكاتبة(12/506)
فقد قال أحمد وسفيان وإسحاق المكاتبة إذا أدت أو أعتقت عتق ولدها وأم الولد والمدبرة إذا أعتقت لم يعتق ولدها حتى يموت السيد فظاهر هذا أن ولد المكاتبة إذا اعتقها سيدها أنه يتبعها في العتق لأنه في حكم مالها تستحق كسبه فيتبعها في العتق كمالها ولان اعتاقها منع أداءها بسبب من السيد فأشبه ما لو أبرأها من مال الكتابة (فصل) فأما ولد أم الولد قبل استيلادها وولد المدبرة قبل تدبيرها وولد المكاتبة قبل كتابتها فلا يتبعها لوجوده قبل انعقاد السبب فيها وزوال حكم التبعية عنه قبل تحقق السبب في أمه ولهذا لا يتبعها في العتق المنجز ففي السبب أولى وذكر أبو الخطاب في ولد المدبرة قبل التدبير روايتين فيخرج ههنا مثله وهذا بعيد لأن الولد المنفصل لا يتبعها في عتق ولا بيع ولا هبة ولا في شئ من الأحكام سوى الاسلام بشرط كونه صغيرا فيكف يتبع في التدبير؟ ولأنه لا نص فيه ولا قياس يقتضيه فيبقى بحاله (مسألة) (وإن مات سيدها وهي حامل فهل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين) هذا يشبه ما إذا مات عن امرأة حامل هل تستحق النفقة لمدة حملها؟ على روايتين ومبني الخلاف على الخلاف في نفقة الحامل هل هي للحمل أو للحامل؟ فإن قلنا هي للحمل فلا نفقة لها ولا للأمة الحامل لأن الحمل(12/507)
له نصيب في الميراث فتجب نفقته في نصيبه لا في أنصباء شركائه، وإن قلنا للحامل فالنفقة على الزوج والسيد لأنهما شغلاها بحملها فكان عوض ذلك عليهما كما لو استأجرا داراً كانت أجرتها عليهما (مسألة) (وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو دونها وعنه يفديها بأرش الجناية كله) إذا جنت أم الولد تعلق أرش جنايتها برقبتها وعلى السيد أن يفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو دونها وبهذا قال الشافعي وحكى أبو بكر عبد العزيز قولاً آخر أنه يفديها بأرش جنايتها بالغة ما بلغت لأنه لم يسلمها في الجناية فلزمه أرش جنايتها بالغة ما بلغت كالقن وقال أبو ثور وأهل الظاهر ليس عليه فدؤاها وجنايتها في ذمتها تتبع بها إذا عتقت لأنه لا يملك بيعها فلم يكن عليه فداؤها كالحرة
ولنا أنها مملوكة له يملك كسبها لم يسلمها فلزمه أرش جنايتها كالقن ولا تلزمه زيادة على قيمتها لأنه لم يمتنع من تسليمها وإنما الشرع منع ذلك لكونها لم تبق محلاً للبيع ولا لنقل الملك فيها وأما القن إذا لم يسلمها فلنا فيه منع وإن سلم فلأن القن أمكن أن يسلمها للبيع فربما زاد فيها راغب أكثر(12/508)
من قيمتها فإذا امتنع مالكها من تسليمها أوجبنا عليه الأرش بكماله بخلاف أم الولد فإن ذلك لا يحتمل فيها لأنه لا يجوز بيعها فلم يكن عليه أكثر من قيمتها (فصل) فإن ماتت قبل فدائها فلا شئ على سيدها لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما تعلق برقبتها فإذا ماتت سقط الحق لتلف متعلقه وإن نقصت قيمتها قبل فدائها وجب فداؤها بقيمتها يوم الفداء لأنها لو تلفت جميعها لسقط الفداء فيجب أن يسقط بعضه بتلف بعضها وإن زادت قيمتها زاد فداؤها لأن متعلق الحق زاد فزاد الفداء بزيادته كالقن وينبغي أن تجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد لأن ذلك ينقصها فاعتبر كالمرض وغيره من العيوب ولأن الواجب قيمتها في حال فدائها وقيمتها ناقصة عن قيمة أم الولد فيجب ان ينقص فداؤها وأن يكون مقدراً بقيمتهما في حال كونها أم ولد والحكم في المدبرة كالحكم في أم الولد إن قلنا لا يجوز بيعها وإن قلنا يجوز بيعها فيمكن تسليمها للبيع ان اختار كيدها فإن امتنع منه فهل يفديها بقيمتها أو أرش الجناية بالغة ما بلغت يخرج على روايتين (فصل) فإن كسبت بعد جنايتها شيئاً فهو لسيدها لأن الملك ثابت له دون المجني عليه وكذلك ولدها لأنه منفصل عنها فأشبه الكسب ان فداها في حال حملها فعليه قيمتها حاملاً لأن الولد متصل بها أشبه سمنها وإن أتلفها سيدها فعليه قيمتها لأنه أتلف حق غيره أشبه إتلاف الرهن وأن نقصها فعليه نقصها لأنه لما ضمن العين ضمن أجزاءها(12/509)
(مسألة) (فإن عادت فجنب فداها أيضاً وعنه يتعلق ذلك بذمتها) فأما إن جنت جنايات فإن كانت الجنايات كلها قبل فداء شئ منها تعلق أرش الجميع برقبتها ولم يكن عليه فيها كلها إلا قيمتها أو ارش جميعها وعليه الأقل منهما ويشترك المجني عليهم في الواجب لهم
فإن لم يف بها تحاصوا فيها بقدر اروش جناياتهم وإن كانت الجناية الثانية بعد فدائه من الأولى فعليه فداؤها من التي بعدها كالأولى وحكى أبو الخطاب رواية ثانية عن أحمد أنه إذا فداها بقيمتها مرة لم يلزمه فداؤها بعد ذلك لأنها جانية فلم يلزمه أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها وقال الشافعي في أحد قوليه لا يضمنها ثانياً ويشارك الثاني الأول فيما أخذه كما لو كانت قبل فدائها ولنا أنها أم ولد جانية فلزمه فداؤها كالأولى ولأن ما أخذه الأول عوض جنايته أخذه بحق فلم يجز أن يشاركه غيره فيه كأرش جناية الحر أو الرقيق القن وفارق ما قبل الفداء لأن أرش الجنايات(12/510)
تعلق برقبتها في وقت واحد فلم يلزم السيد أكثر من قيمة واحدة كما لو كانت الجنايات على واحد (فصل) فإن أبرأ بعضهم من حقه توفر الواجب على الباقين إذا كانت كلها قبل الفداء وإن كانت المعفو عنها بعد فدائه توفر أرشها على سيدها (فصل) وللسيد تزويجها وإن كرهت وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي واختيار المزني وقال في القديم ليس له تزويجها إلا برضاها لأنه قد ثبت لها حكم الحرية على وجه لا يملك السيد إبطالها فلم يملك تزويجها بغير رضاها كالمكاتبة وقال في الثالث ليس له تزويجها وإن رضيت لأن ملكه فيها قد ضعف وهي لم تكمل فلم يملك تزويجها كاليتيمة وهل يزوجها الحاكم على هذا القول؟ فيه خلاف وقد روي عن أحمد أنه قيل له إن مالكاً لا يرى تزويجها فقال وما يصنع مالك؟ هذا ابن عمر وابن عباس يقولان إذا ولدت من غيره كان لولدها حكمها ولنا أنها أمة يملك الاستمتاع منها واستخدامها فملك تزويجها كالقن وفارق المكاتبة فإنه لا يملك ذلك منها والقول الثالث فاسد لذلك ولأنه يفضي إلى منع النكاح لامرأة بالغة محتاجة إليه وقولهم يزوجها الحاكم لا يصح فإن الحاكم لا يزوج إلا عند عدم الولي أو غيبته أو عضله ولم يوجد واحد منهما.
إذا ثبت هذا فإنه إذا زوجها فالمهر له لأنه بمنزلة كسبها وكسبها له(12/511)
(مسألة) (وإن قتلت سيدها عمداً فعليها القصاص وإن عفوا على مال أو كانت الجناية خطأ
فعليها قيمة نفسها وتعتق في الموضعين) إذا قتلت أم الولد سيدها عمداً فعليها القصاص لورثة سيدها إن لم يكن له منها ولد كما لو لم تكن أم ولد وإن كان له منها ولد وهو الوارث وحده لم يجب عليها القصاص لأنه لو وجب لوجب لولدها ولا يجب للولد على أمه قصاص وقد توقف أحمد عن هذه المسألة في رواية مهنا وقال دعنا من هذه المسائل وقياس مذهبه ما ذكرناه وإن كان مع ولده منها أولاد له من غيرها لم يجب القصاص أيضاً لأن حق ولدها من القصاص يسقط فيسقط كله ونقل مهنا عن أحمد أنه يقتلها أولاده من غيرها وهذه الرواية تخالف أصول مذهبه والصحيح أنه لا قصاص عليها وإذا لم يجب القصاص فعليها قيمة نفسها وهذا قول أبي يوسف وقال الشافعي عليها الدية لأنها تصير حرة ولذلك لزمها موجب جنايتها والواجب على الحر بقتل الحر ديته.
ولنا أنها جناية من أم ولد فلم يجب بها أكثر من قيمتها كما لو وجب على أجنبي ولأن اعتبار(12/512)
الجناية في حق الجاني بحال الجناية بدليل ما لو جنى عبد فأعتقه سيده وهي في حال الجناية أمة فإنها إنما عتقت بالموت الحاصل بالجناية فيكون عليها فداء نفسها بقيمتها كما يفديها سيدها إذا قتلت غيرها ولأنها ناقصة بالرق أشبهت القن وتفارق الحر فإنه جنى وهو كامل وإنما تعلق موجب الجناية بها لأنها فوتت رقها بقتلها سيدها فأشبه ما لو فوت المكاتب الجاني رقه بأدائه (مسألة) (ولا حد على قاذفها وعنه عليه الحد) والأول قول أكثر أهل العلم وروى عن أحمد أن عليه الحد لأن ذلك يروي عن ابن عمر ولان قذفها قذف لولدها الحر وفيها معنى منع بيعها أشبهت الحرة والأول أصح لأنها أمة حكمها حكم الإماء في أكثر أحكامها ففي الحد أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات ويحتاط لاسقاطها ولانها أمة تعتق بالموت أشبهت المدبرة وتفارق والحرة فإنها كاملة (فصل) ولا يجب القصاص على الحرة بقتلها لعدم المكافأة فإن كان القاتل رقيقاً وجب القصاص عليه لأنها أكمل منه وإن جنت على عبد أو أمة جناية فيها القصاص لزمها القصاص لأنها أمة أحكامها
أحكام الإماء واستحقاقها العتق لا يمنع القصاص كالمدبرة(12/513)
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا أسلمت أم ولد الكافر منع من غشيانها وحيل بينه وبينها وأجبر على نفقتها إن لم يكن لها كسب فإن مات قبل ذلك عتقت وعنه أنها تستسعى في حياته وتعتق يصح استيلاد الكافر لأمته كما يصح منه عتقها وإذا استولد أمته ثم أسلمت لم تعتق في الحال، وبه قال الشافعي وقال مالك تعتق إذ لا سبيل إلى بيعها ولا إلى إقرار ملكه عليها لما فيه من إثبات ملك كافر على مسلمة فلم يجز كالأمة القن ونقل مهنا عن أحمد مثل ذلك، وعن أحمد رواية أخرى أنها تستسعى فإن أدت عتقت، وهو قول أبي حنيفة لأن فيه جمعاً بين الحقين حقها في أن لا يبقى ملك الكافر عليه وحقه في حصول عوض ملكه فأشبه بيعها إذا لم تكن أم ولد.
ولنا أنه إسلام طرأ على ملك فلم يوجب عتقاً ولا سعاية كالعبد القن وما ذكروه حكمة لم يعرف من الشارع اعتبارها ويقابلها ضرر فإن في اعتاقها مجاناً إضراراً بالمالك بإزالة ملكه بغير عوض وفي الاستسعاء إلزامها الكسب بغير رضاها وتضييع لحق سيدها لأن فيه إحالة على سعاية لا يدري هل يحصل منها شئ أولا؟ وإن حصل فالظاهر أنه يكون يسيراً في أوقات متفرقة وجوده قريب من عدمه والأولى أن يبقى الملك على ما كان عليه ويمنع من وطئها والتلذذ بها كيلا يفعل ذلك وهو مشرك ويحال بينه وبينها ويمنع الخلوة بها لئلا يفضي الى الوطئ المحرم ويجبر على نفقتها على التمام لأنها مملوكته ومنعه من وطئها بغير معصية منها فأشبهت الحائض والمريضة وتسلم إلى امرأة ثقة تكون عندها لتحفظها وتقوم بأمرها، وإن احتاجت إلى آجر أو أجر مسكن فعلى سيدها وذكر(12/514)
القاضي أن نفقتها في كسبها والفاضل منه لسيدها فإن عجز كسبها عن نفقتها فهل يلزم سيدها تمام نفقتها؟ على روايتين، ونحو هذا مذهب الشافعي قال شيخنا والصحيح إن نفقتها عل سيدها وكسبها له يصنع به ما شاء وعليه نفقتها على التمام سواء كان لها كسب أو لم يكن لأنها مملوكته ولم يجر بينهما عقد يسقط نفقتها ولا تملك به كسبها فهي كأمته القن أو ما قبل إسلامها ولأن الملك سبب لهذين
الحكمين والحادث منهما لا يصلح مانعاً لأن الاستيلاد لا يمنع منها بدليل ما قبل إسلامها والإسلام لا يمنع بدليل ما لو وجد قبل ولادتها واجتماعهما لا يمنع لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأنه إذا لم تلزمه نفقتهه ولم يكن لها كسب أفضى إلى هلاكها وضياعها ولأنه يملك فاضل كسبها فلزمه فضل نفقتها كسائر مماليكا (مسألة) (وإذا وطئ أحد الشريكين الجارية وأولدها صارت أم ولد له وولده حر وعليه قيمة نصيب شريكه فإن كان معسراً كان في ذمته) وطئ الجارية المشتركة محرم بغير خلاف علمناه بين أهل العلم ولا حد فيه في قول أكثر أهل العلم، وقال أبو ثور يجب عليه الحد لأنه وطئ محرم فاشبه وطئ الأمة الأجنبية.
ولنا انه وطئ صادف ملكه فلم يجب الحد كوطئ زوجته الحائض ويفارق مالا ملك له فيه فإنه لا شبهة له فيها ولهذا لو سرق عيناً له فيها شرك لم يقطع ولو لم يكن له فيها ملك قطع ويجب عليه التعزير بغير خلاف نعلمه لما ذكرنا في حجة أبي ثور فإن وطئها ولم تحمل منه فهي باقية على ملكهما وعليه نصف مهر مثلها لانه وطئ سقط فيه الحد للشبهة فأوجب مهر المثل كما لو وطئها يظنها امرأته وسواء طاوعته أو اكرهها لان وطئ جارية الغير يوجب المهر وإن طاوعت لأن المهر لسيدها لا يسقط(12/515)
بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع بعض أعضائها والواجب عليه من المهر بقدر ملك الشريك فيها، فأما إن أحبلها ووضعت ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان فإنها تصير بذلك أم ولد للواطئ كما لو كانت خالصة له وتخرج بذلك عن ملك الشريك كما تخرج بالإعتاق موسراً كان الواطئ أو معسراً لأن الإيلاد أقوى من الإعتاق.
وهذا قول الخرقي ويلزمه نصف قيمتها لأنه أخرج نصفها من ملك الشريك فلزمته قيمته كما لو أخرجه بالإعتاق أو الإتلاف فإن كان موسراً أداه وإن كان معسراً فهو في ذمته كما لو أتلفها والولد حر يلحق نسبه بوالده لأنه من وطئ في محل له فيه ملك فأشبه ما لو وطئ زوجته فعلى هذا القول إن وطئها الثاني بعد ذلك فأولدها فعليه مهرها لانه وطئ صادف ملك الغير فاشبه وطئ الأمة الأجنبية فإن كان عالماً فولده رقيق لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك فهو كوطئ مملوكة غيره وإن جهل إيلاد شريكه وإنها صارت أم ولد له فولده حر لأنه من وطئ شبهة وعليه فداؤه
بقيمته يوم الولادة لأنه الوقت الذي يمكن التقويم فيه ذكره الخرقي.
وقال القاضي الصحيح عندي أن الأول لا يسري استيلاده إذا كان معسراً ولا يقوم عليه نصيب شريكه بل يصير نصفها أم ولد ونصفها قن باق على ملك الشريك لأن الإحبال كالعتق ويجري مجراه في التقويم والسراية واعتبر في سرايته اليسار كالعتق وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي فعلى هذا إذا ولدت يحتمل أن يكون الولد كله حراً، واحتمل أن يكون نصفه حراً ونصفه رقيقاً كأمه وكولد المعتق بعضها وبهذا يتبين أنه لم يستحل انعقاد الأول من حر وقن، ووجه القول الأول أن الاستيلاد أقوى من العتق ولهذا ينفذ من رأس المال من المريض ومن المجنون بخلاف الإعتاق(12/516)
(فصل) وهل يلزمه نصف قيمة الولد؟ على وجهين ذكرهما أبو الخطاب (أحدهما) لا يلزمه وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الولد خلق حراً فلم يلزمه قيمة ولده الحر (والثاني) يلزمه نصف قيمته لشريكه لأن الوطئ صادف ملك غيره وانما انتقلت بالوطئ الموجب للمهر فيكون الوطئ سبب الملك ولا يثبت الحكم إلا بعد تمام سببه فيلزم حينئذ تقدم الوطئ على ملكه فيكون في ملك غيره وفعله ذلك مع انخلاق الولد على ملك الشريك فيجب عليه نصف قيمته كولد المغرور، وقال القاضي إن وضعت الولد بعد التقويم فلا شئ على الواطئ لأنها وضعته في ملكه ووقت الوجوب حالة الوضع ولا حق للشريك فيها ولا في ولدها، وإن وضعته قبل التقويم فهل تلزمه قيمة نصفه؟ على روايتين ذكرهما أبو بكر واختار أنه لا يلزمه (مسألة) وعند القاضي وابي الخطاب إن كان الأول معسراً لم يسر استيلاده وتصير أم ولد لهما يعتق نصفها بموت أحدهما) لأنها أم ولد له وقد ذكرنا ذلك وإن أعتق أحدهما نصيبه بعد ذلك وهو موسر فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ على وجهين (أحدهما) لا يسري عتقه لانه يبطل حقه صاحبه من الولاء الذي قد انعقد سببه بالاستيلاد (والثاني) يقوم عليه لحديث ابن عمر وهو أولى وأصح إن شاء الله تعالى.
(فصل) ولا فرق بين أن يكون في الأمة ملك قليل أو كثير فالحكم في ذلك واحد لأن مالك اليسير يملك بعضها أشبه الكثير
والله سبحانه وتعالى اعلم * (تم الجزء الثاني عشر من كتابي..والشرح الكبير وبه تم الكتاب) *(12/517)
خاتمة الطبع الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المصلح الاعظم بالآيات البينات، والعلم النافع والحكم الباهرات، محمد رسول الله وخاتم النبيين، وآله الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، ومن تبعهم إلى يوم الدين أما بعد فانه قد تم طبع كتاب (المغني) في فقه الاسلام، ومدارك المجتهدين من أئمته الاعلام، مع كتاب الشرح الكبير المقتبس منه مع زيادة بعض الفوائد والاستدراكات، وقد بينا مزايا الكتابين ووجوه الحاجة اليهما وترجمة مؤلفيهما في المقدمة التي نشرناها في الجزء الاول، وقد بلغت أجزاؤهما 12 مجلدا كبيرا ولا يسعنا الا أن نعود في هذه الخاتمة إلى الثناء على مسدي هذا الخير العظيم إلى الامة الاسلامية بالامر بطبعه والإنفاق عليه من ماله الخاص به، امام السنة، ومحيي عدل الخلفاء وعلوم الائمة، مؤسس المملكتين، وخادم الحرمين الشريفين، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد، وعاهل العرب في كل غور ونجد، أعزه الله تعالى وأعز به العرب والاسلام، ونفع به الانام، وقد كان أمرنا أولا بطبع خمسمائة نسخة منه فقط ليوزعها على علماء نجد، وأذن لنا أن نطبع منه ما شئنا على حسابنا لاجل نشره في سائر الامصار، وبعد صدور عدة أجزاء منه وكان قد استولى على الحجاز، واتسع الباب لنشر مطبوعاته فيه وفي غيره من الاقطار، فاشترى منا أكثر النسخ التي طبعناها لاجل البيع، وكان قد اشتهر الكتاب في مصر وغيرها، وصار يزيد عدد طالبيه فاضطررنا إلى زيادة ما كنا نطبعه لمكتبتنا عما تحتاج إليه لتكملة نسخ الذين اشتروا الاجزاء الاولى وما زالوا يكثرون حتى اضطررنا إلى إعادة طبع الاجزاء الاولى، ولا شك أن لهذا الامام والملم الهمام ثواب الالوف من النسخ التي يوزعها على العلماء مجانا وثواب سائر النسخ التي يشتريها منا المنتفعون بهذا الكتاب الجليل لانه هو السبب في وجوده، ولولاه لما أقدمنا ولا أقدم غيرنا على
الاعلام، مع كتاب الشرح الكبير المقتبس منه مع زيادة بعض الفوائد والاستدراكات، وقد بينا مزايا الكتابين ووجوه الحاجة اليهما وترجمة مؤلفيهما في المقدمة التي نشرناها في الجزء الاول، وقد بلغت أجزاؤهما 12 مجلدا كبيرا ولا يسعنا الا أن نعود في هذه الخاتمة إلى الثناء على مسدي هذا الخير العظيم إلى الامة الاسلامية بالامر بطبعه والإنفاق عليه من ماله الخاص به، امام السنة، ومحيي عدل الخلفاء وعلوم الائمة، مؤسس المملكتين، وخادم الحرمين الشريفين، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد، وعاهل العرب في كل غور ونجد، أعزه الله تعالى وأعز به العرب والاسلام، ونفع به الانام، وقد كان أمرنا أولا بطبع خمسمائة نسخة منه فقط ليوزعها على علماء نجد، وأذن لنا أن نطبع منه ما شئنا على حسابنا لاجل نشره في سائر الامصار، وبعد صدور عدة أجزاء منه وكان قد استولى على الحجاز، واتسع الباب لنشر مطبوعاته فيه وفي غيره من الاقطار، فاشترى منا أكثر النسخ التي طبعناها لاجل البيع، وكان قد اشتهر الكتاب في مصر وغيرها، وصار يزيد عدد طالبيه فاضطررنا إلى زيادة ما كنا نطبعه لمكتبتنا عما تحتاج إليه لتكملة نسخ الذين اشتروا الاجزاء الاولى وما زالوا يكثرون حتى اضطررنا إلى إعادة طبع الاجزاء الاولى، ولا شك أن لهذا الامام والملم الهمام ثواب الالوف من النسخ التي يوزعها على العلماء مجانا وثواب سائر النسخ التي يشتريها منا المنتفعون بهذا الكتاب الجليل لانه هو السبب في وجوده، ولولاه لما أقدمنا ولا أقدم غيرنا على طبعه، لان التجار لا يقدمون على طبع اثني عشر مجلدا في الفقه لاحد فقهاء مذهب الامام أحمد بن حنبل مع قلة الحنابلة في الامصار وفقرهم، وقلة من يعلم أن هذا الكتاب هو في فقه الاسلام في جملته لا فقه الحنابلة وحدهم وقد بذلت مطبعتنا الجهد في تصحيح الكتاب بالمقابلة على أحسن النسخ الخطية المحفوظة في خزائن المكتبة المصرية الكبرى العامة وهذه النسخ من وقف الملك المؤيد رحمه الله تعالى ونسأل الله تعالى ان يثيبنا على ذلك وينفعنا نحن وسائر علماء المسلمين بهذا الكتاب النفيس.
ولله الحمد أولا وآخرا.
*.
صاحب مطبعة المنار ومكتبتها بمصر محمد رشيد رضا(12/518)