حامل من زوج آخر ولا قائل به، قال شيخنا وأظن أن قتادة ناظر عكرمة في هذا فقال عكرمة تنقضي عدتها بوضع أحد الولدين فقال له قتادة أيحل لها أن تتزوج؟ قال.
لا قال خصم العبد ولو خرج بعض الولد فارتجعها قبل أن تضع باقيه صح لأنها لم تضع جميع حملها فصارت كمن ولدت أحد الولدين * (مسألة) * (وإن طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فهل له رجعتها؟ على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا نقطع حيض المرأة المعتدة في المرة الثالثة ولما تغتسل فهل تنقضي عدتها بطهرها فيه روايتان ذكرهما ابن حامد [إحداهما] لا تنقضي حتى تغتسل ولزوجها رجعتها في ذلك، وهذا ظالم كلام الخرقي فإنه قال في العدد فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج وبه قال كثير من أصحابنا روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وسعيد بن المسيب والثوري وأبي عبيد وروي نحوه عن أبي بكر الصديق وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم وروي عن شريك له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة لأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان أجماعاً ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل فكذا هذا، والرواية الثانية أن العدة تنقضي بمجرد الطهر قبل الغسل وهو قول طاوس وسعيد بن جبير والاوزاعي واختاره أبو الخطاب لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والقرء الحيض وقد زالت فيزول التربص وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وقرء الأمة الحيضان "(8/478)
وقال " دعي الصلاة أيام اقرائك " أي أيام حيضك ولأن انقضاء العدة تتعلق به بينونتها من الزوج وحلها من غيره فلم يتعلق بفعل اختياري من جهة المرأة بغير تعليق الزوج كالطلاق وسائر العدد ولأنها لو تركت الغسل اختياراً أو لجنون أو نحوه لم تحل فأما أن يقال بقول شريك إنها تبقى معتدة ولو بقيت عشرين سنة وذلك خلاف قول الله تعالى (ثلاثة قروء) فإن عدتها تصير أكثر من مائتي قرء أو يقال تنقضي العدة قبل الغسل والله أعلم (فصل) إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحملت من الزوج الثاني انقطعت عدة الاول بوطئ الثاني وهل يملك الزوج رجعتها في مدة الحمل؟ يحتمل وجهين (أولهما) أن له رجعتها لأنها لم تنقض عدته فحكم نكاحه باق بأن يلحقها طلاقه وظهاره، وإنما انقطعت عدته لعارض فهو كما لو وطئت في صلب نكاحه فإنها تحرم عليه ويبقى سائر أحكام الزوجية ولأنه يملك ارتجاعها إذا عادت إلى عدته فملكه قبل ذلك كما لو ارتفع حيضها في أثناء عدتها (والوجه الثاني) ليس له رجعتها لأنها ليست في عدته فإذا وضعت الحمل انقضت عدة الثاني وبنت على ما مضى من عدة الأول وله ارتجاعها حينئذ وجهاً واحداً ولو كانت في نفاسها لأنها بعد الوضع تعود إلى عدة الأول وإن لم تحتسب به فكان له الرجعة فيه كما لو طلق حائضاً فإن له رجعتها في حيضها وإن كانت لا تعتد بها، وإن حملت حملا يمكن أن يكون منهما فعلى الوجه الذي لا يملك رجعتها في حملها(8/479)
من الثاني إذا رجعها في هذا الحمل ثم بان أنه من الثاني لم يصح فإن بان من الأول احتمل أن لا يصح لأنه راجعها في عدتها منه واحتمل أن لا تصح لأنه راجعها مع الشك في إباحه الرجعة والأول أصح فإن الرجعة ليست بعبادة ببطلها الشك في صحتها وعلى أن العبادة تصح مع الشك فيما إذا نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها فصلى خمس صلوات فان كل صلاة يشك في أنها هل هي المنسية أو غيرها؟ لو شك في الحدث فتطهر ينوي رفع الحدث صحت طهارته وارتفع حدثه فههنا أولى فإن راجعها بعد الوضع وبان الحمل من الثاني صحت رجعته وإن بان من الأول لم تصح لأن العدة انقضت بوضعه * (مسألة) * (وإن انقضت عدتها ولم يرتجعها بانت ولا تحل إلا بنكاح جديد) لقول الله سبحانه
(وبعولتهن أحق بردهن) يريد الرجعة عند جماعة أهل التفسير في ذلك أي في العدة، وأجمع أهل العلم على ان المرأة إذا طلقها زوجها فلم يرتجعها حتى انقضت عدتها أنها تبين منه فلا تحل له إلا بنكاح جديد * (مسألة) * (وتعود على ما بقي من طلاقها سواء رجعت بعد نكاح زوج غيره أو قبله وعنه أنها إن رجعت بعد نكاح زوج غيره رجعت بطلاق ثلاث) وجملة ذلك أن المطلقة لا تخلو من أحد ثلاثة أحوال (أحدها) أن يطلقها دون الثلاث ثم تعود إليه برجعة أو نكاح جديد قبل زوج ثان فهذه تعود إليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف علمناه(8/480)
(والثاني) أن يطلقها ثلاثاً فتنكح زوجاً غيره ويصيبها ثم تزوجها الأول فهذه تعود بطلاق ثلاث بإجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر (الثالث) طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول ففيها روايتان (أظهرهما) أنها تعود إليه على ما بقي من الثلاث وهو قول الأكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر وعلي وأبي ومعاذ وعمران بن حصين وأبو هريرة وزيد وعبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وعبيدة والحسن ومالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر (والرواية الثانية) عن أحمد أنها ترجع إليه عن طلاق ثلاث وهو قول ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي وشريح وأبي حنيفة وأبي يوسف لان وطئ الثاني يهدم الطلقات الثلاث فأولى أن يهدم ما دونها ولنا أن وط الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول فلا يغير حكم الطلاق كوطئ السيد ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطئ الثاني وقولهم ان وطئ الثاني يثبت الحل لا يصح لوجهين (أحدهما) منع كونه مثبتا للحل أصلا وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية التحريم بدليل قوله تعالى (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وحتى للغاية وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الذي قصد الحيلة محللاً تجوزاً بدليل أنه لبنه ومن أثبت حلالاً لم يستحق لعنا (والثاني) أن(8/481)
الحل انما يثبت في محل فيه تحريم وهي المطلقة ثلاثاً وههنا هي حلال له فلا يثبت فيها حل وقولهم انه
بهدم الطلاق قلنا بل هو غاية لتحريمه وما دون الثلاث لا تحريم فيها فلا يكون غاية له * (مسألة) * (وإن ارتجعها في عدتها وأشهد على رجعتها من حيث لا تعلم فاعتدت ثم تزوجت من أصابها ردت إليه ولا يطؤها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين والأخرى هي زوجة الثاني) وجملة ذلك أن زوج الرجعية إذا راجعها من حيث لا تعلم صحت المراجعة لأنها لا تفتقر إلى رضاها فلم تفتقر إلى علمها كطلاقها فإذا راجعها ولم تعلم فانقضت عدتها وتزوجت ثم جاء وادعى أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها وأقام البينة على ذلك ثبت أنها زوجته وأن نكاح الثاني فاسد لأنه تزوج امرأة غيره وترد إلى الأول سواء دخل بها أو لم يدخل وهذا هو الصحيح وهو قول أكثر الفقهاء منهم الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي وروي ذلك عن علي رضي الله عنه.
وروي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية ثانية أن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول روى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول مالك، وروي معناه عن سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن القاسم ونافع لأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز العقد عليها في الظاهر ومع الثاني مزية الدخول فقدم بها ولنا أن الرجعة قد صحت وتزوجت وهي زوجة الأول فلم يصح نكاحها كما لو لم يطلقها، إذا ثبت هذا فإن كان الثاني ما دخل بها فرق بينهما وردت إلى الأول ولا شئ على الثاني وإن كان دخل بها فلها عليه مهر المثل لأن هذا وطئ شبهة وتعتد ولا تحل للأول حتى تقضي عدتها منه فإن كان أقام البينة(8/482)
قبل دخول الثاني بها ردت إلى الأول بغير خلاف في المذهب وهي إحدى الروايتين عن مالك، وأما إن تزوجها مع علمها بالرجعة أو علم أحدهما فالنكاح باطل بغير خلاف والوطئ محرم على من علم وحكمه حكم الزاني في الحد وغيره لانه وطئ امرأة غيره مع علمه (فصل) وإن لم يكن للمدعي بينة بالرجعة فأنكره أحدهما لم يقبل قوله فان أنكراه جميعاً فالنكاح صحيح في حقهما وإن أعترفا له بالرجعة ثبتت والحكم فيه كالحكم فيما إذا قامت به البينة سواء في أنها ترد إليه، وإن أقر له الزوج وحدة فقد اعترف بفساد نكاحه فتبين منه وعليه المهر إن كان دخل بها أو نصفه إن كان لم يدخل بها لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاط حقها عنه ولا تسلم المرأة إلى المدعي
لأنه لا يقبل قول الزوج الثاني عليها وإنما يقبل في حقه ويكون القول قولها، وهل هو مع يمينها أولا؟ على وجهين.
قال شيخنا ولا تستحلف لأنها لو أقرت لم يقبل إقرارها فإذا أنكرت لم تجب اليمين وفيه وجه آخر أنها تجب عليها، وإن اعترفت المرأة وأنكر الزوج لم يقبل اعترافها على الزوج في فسخ نكاحه لأن قولها إنما يقبل على نفسها في حقها وهل يستحلف؟ يحتمل وجهين (احدهما) لا يستحلف اختاره القاضي لأنه دعوى في النكاح فلم يستحلف كما لو ادعى زوجية امرأة فانكرته (والثاني) يستحلف قال القاضي وهو قول الخرقي لعموم قوله عليه السلام " ولكن اليمين على المدعى عليه " ولأنه دعوى في حق آدمي فيستحلف فيه كالمال فإن حلف فيمينه على نفي(8/483)
العلم لأنه على نفي فعل الغير فإذا زال نكاحه بطلاق أو فسخ أو موت رددت إلى الأول من غير عقد لأن المنع من ردها إنما كان لحق الثاني فإذا زال زال المنع وحكم بأنها زوجة الأول كما لو شهد بحرية عبد ثم اشتراه عتق عليه ولا يلزمها للأول مهر بحال، وذكر القاضي أن له عليها مهراً وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنها أقرت أنها حالت بينه وبين بضعها بغير حق فأشبه شهود الطلاق إذا رجعوا ولنا أن ملكها استقر على المهر فلم يرجع به عليها كما لو ارتدت أو أسلمت أو قتلت نفسها فان ماتت الاول وهي في نكاح الثاني فينبغي أن ترثه لاقراره بزوجيتها واقرارها بذلك وإن ماتت لم يرثها لانها لا تصدق في إبطال ميراث الزوج الثاني كما لم تصدق في إبطال نكاحه ويرثها الزوج الثاني لذلك وإن مات الزوج الثاني لم ترثه لأنها تنكر صحة نكاحه فتنكر ميراثه * (مسألة) * وإن ادعت المرأة انقضاء عدتها قبل قولها إذا كان ممكناً إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل إلا ببينة) وجملة ذلك أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها في وقت يمكن انقضاوها فيها قبل قولها لقول الله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) قيل في التفسير هو الحيض والحمل ولولا أن قولهن مقبول لم يحرجن بكتمانه، ولأنه أمر تختص بمعروفته فكان القول قولها فيه كالنية من الإنسان فيما تعبر فيه النية أو أمر لا يعرف إلا من جهتها قبل قولها فيه كما يجب على التابعي قبول خبر الصحابي عن رسول الله(8/484)
صلى الله عليه وسلم فأما ما تنقضي به العدة فهو ثلاثة أقسام: (الأول) أن تدعي انقضاء عدتها بالقروء وهو ينبني على الخلاف في أقل الطهر بين الحيضتين وعلى الخلاف في أقل الحيض وهل الاقراء الحيض أو الطهر، فإن قلنا هي الحيض وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، فأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة وذلك أن يطلقها مع آخر الطهر ثم تحيض بعده يوماً وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوماً ثم تحيض يوماً وليلة ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض وإن لم تكن هذه اللحظة من عدتها فلا بد منها لمعرفة انقطاع حيضتها ولو صادفتها رجعته لم تصح ومن اعتبر الغسل في انقضاء العدة فلا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض، وإن قلنا القروء الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوماً فأقل ما تنقضي به العدة ثلاثة وثلاثون يوما لحظة تزيد أربعة أيام في الطهرين، وإن قلنا القروء الاطهار وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً فإن العدة تنقضي بثمانية وعشرين يوماً ولحظتين وهو أن يطلقها في آخر لحظة من طهرها فتحتسب بها قزءا ثم تحتسب طهرين آخرين ستة وعشرين يوماً وبينهما حيضتين يومين فإذا طعنت في الحيضة الثالثة لحظة انقضت عدتها وإن قلنا الطهر خمسة عشر يوماً زدنا على هذا أربعة أيام في الطهرين فيكون اثنين وثلاثين يوما لحظتين وهذا قول الشافعي، فإن كانت أمة انقضت عدتها بخمسة عشر يوماً ولحظة على الوجه الأول وتسعة عشر يوماً ولحظة على الوجه الثاني وباربعة عشر يوماً ولحظتين على الوجه الثالث وبستة عشر يوماً ولحظتين على الوجه الرابع فمتى ادعت انقضاء عدتها بالقروء في أقل من هذا لم يقبل قولها عند أحد فيما أعلم لأنه لا يحتمل صدقها(8/485)
* (مسألة) * (فإن ادعت انقضاء عدتها بالقروء في أقل من شهر لم يقبل إلا بينة) لأن شريحاً قال إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر وجاءت بينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالون ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت فأخذ أحمد بقول علي في الشهر فإن ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها لأنها أونمنت على ذلك وإنما لم
يصدقها في الشهر لأن حيضها ثلاث مرات فيه يندر جدا فرجع بينة ولا يندر فيما زاد على الشهر كندرته فيه، وقال الشافعي لا يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوماً ولحظتين لأنه لا يتصور عنده في أقل من ذلك وقال أبو حنيفة لا يقبل في أقل من ستين يوماً وقال صاحباه لا يقبل في أقل من تسعة وثلاثين يوماً ولحظتين لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام فثلاث حيض تسعة أيام وطهران ثلاثون، والخلاف في هذا مبني على أقل الحيض وأقل الطهر وفي القرء ما هو، ومما يدل عليه في الجملة قبول علي وشريح بينتها على انقضاء عدتها في شهر ولولا تصوره لما قبلت عليه بينة ولا سمعت فيه دعوى، ولا يتصور إلا بما قلنا، وأما إذا ادعت القضاء عدتها في أقل من ذلك لم تسمع دعواها ولا يصغى إلى بينتها لاننا نعلم كذبها فإن بقيت على(8/486)
دعواها حتى أتى عليها ما يمكن صدقها فيه نظرنا فإن بقيت على دعواها المردودة لم يسمع قولها لأنها تدعي محالاً، وإن ادعت أنها انقضت عدتها في هذه المدة كلها أو فيما يمكن منها قبل قولها لانه أمكن صدقها، ولا فرق في ذلك بين الفاسقة والمرضية والمسلمة والكافرة لأن ما يقبل فيه قول الإنسان على نفسه لا يختلف باختلاف حاله كإخباره عن نيته فيما تعتبر فيه نيته.
(فصل) فإن ادعت انقضاء عدتها بوضع الحمل فان ادعته لتمام لم يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين امكان الوطئ بعد العقد (1) لأن أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوماً لأنه يكون نطفة أربعين يوماً وعلقة مثل ذلك ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن يصير مضغة بحال، وهذا ظاهر قول الشافعي، فأما إن ادعت انقضاء عدتها بالشهور فلا يقبل قولها فيه لأن الخلاف في ذلك ينبني على الاختلاف في الطلاق والقول قول الزوج فيه فيكون القول قوله فيما ينبني عليه إلا أن يدعي انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها مثل أن يقول طلقتك في شوال فتقول هي بل في ذي القعدة فالقول قولها لأنه يدعي ما يسقط النفقة والأصل وجوبها فلا يقبل إلا بينة، فإن ادعت ذلك ولم يكن لها نفقة قبل قولها لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ وإن انعكس الحال فقال طلقتك في ذي القعدة فلي رجعتك قالت بل طلقتني في شوال
__________
(1) قوله بعد العقد لأنه لا يكمل في أقل من ذلك وإن ادعت أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطئ بعد عقد النكاح لها من المغني(8/487)
فلا رجعة لك فالقول قوله لأن الأصل بقاء نكاحه ولأن القول قوله في إثبات الطلاق ونفيه فكذلك في وقته، إذا ثبت ذلك فكل موضع قلنا القول قولها فأنكرها الزوج فقال الخرقي عليها اليمين، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب، وقال القاضي قياس المذهب أن لا يجب عليه يمين وقد أومأ إليه أحمد أيضاً فقال لا يمين في نكاح ولا طلاق وهو قول أبي حنيفة لأن الرجعة لا يصح بذلها فلا تستحلف فيها كالحدود والأول أولى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اليمين على المدعى عليه " ولأنه حق آدمي يمكن صدق مدعيه فتجب اليمين فيه كالأموال فإن نكلت عن اليمين فقال القاضي لا يقضى بالنكول لأنه لا يصح بذله.
قال شيخنا ويحتمل أن يستحلف الزوج وله رجعتها على القول برد اليمين على المدعى لأنه لما وجد النكول منها ظهر صدق الزوج وقوي جانبه واليمين تشرع في حق من قوي جانبه ولذلك شرعت في حق المدعى عليه لقوة جانبه باليد في العين وبالأصل في براءة الذمة في الدين وهو مذهب الشافعي (فصل) إذا ادعى الزوج في عدتها أنه كان راجعها أمس أو منذ شهر قبل قوله لأنه لما ملك الرجعة ملك الإقرار بها كالطلاق وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم فإن قال بعد انقضاء عدتها كنت راجعتك في عدتك فأنكرت فالقول قولها بإجماعهم لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدمها وحصول البينونة.(8/488)
* (مسألة) * (إذا قالت انقضت عدتي فقال قد كنت راجعتك فالقول قولها) وجملة ذلك أنه إذا كان اخلافهما في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها وبقاؤها فبدأت فقالت انقضت عدتي فقال قد كنت راجعتك فأنكرته فالقول قولها لأن خبرها بانقضاء عدتها مقبول لإمكانه فصارت دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضاء عدتها فلم تقبل.
* (مسألة) * وإن سبق فقال ارتجعتك فقالت قد انقضت عدتي قبل رجعتك فأنكرها فالقول قوله) ذكره القاضي لما ذكرنا وهو أحد الوجوه لأصحاب الشافعي وظاهر كلام الخرقي أن قولها مقبول
سواء سبقها بالدعوى أو سبقته وهو وجه ثان لأصحاب الشافعي لأن الظاهر البينونة والأصل عدم الرجعة فكان الظاهر معها ولأن من قبل قوله سابقاً كان كذلك مسبوقاً كسائر من يقبل قوله ولهم وجه ثالث أن القول قول الزوج بكل حال لأن المرأة تدعي ما يرفع النكاح وهو ينكره فكان القول قول من أنكره بخلاف ما قاسوا عليه.
* (مسألة) * (وإن تداعياً معاً قدم قولها) لأن خبرها بانقضاء عدتها يكون بعد انقضائها فيكون قوله بعد العدة فلا يقبل وقيل يقدم من تقع(8/489)
له القرعة ذكره أبو الخطاب احتمالا والصحيح الأول (فصل) فإن اختلفا في الإصابة فقال قد أصبتك فلي رجعتك فأنكرته أو قالت قد أصابني فلي المهر كاملاً فالقول قول المنكر منهما لأن الأصل معه فلا يزول إلا بيقين وليس له رجعتها في الموضعين لأنه إن أنكر الإصابة فهو يقر على نفسه بينونتها وأنه لا رجعة له عليها وإن أنكرتها هي فالقول قولها ولا تستحق إلا نصف المهر وإن انكرها فالقول قوله هذا إذا كان المهر غير مقبوض فإن كان اختلافهما بعد قبضها له وادعى إصابتها فانكرته لم يرجع عليها بشئ لأنه يقر لها به ولا يدعيه وإن كان هو المنكر رجع عليها بنصفه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن قيل فلم قبلتم قول المولي والعنين في الإصابة ولم تقبلوه ههنا؟ قلنا المولي والعنين يدعيان ما يبقي النكاح على الصحة ويمنع فسخه والأصل صحة العقد وسلامته فكان قولهما موافقاً للأصل فقبل وفي مسئلتنا قد وقع ما يرفع النكاح ويزيله وهو مار إلى بينونة وقد اختلفا فيما يرفع حكم الطلاق ويثبت له الرجعة والأصل عدم ذلك فكان قوله مخالفاً للأصل فلم يقبل ولأن المولي والعنين يدعيان الاصابة في موضع تحققت فيه الخلوة والتمكين من الوطئ لأنه لو لم يوجد ذلك لما استحقتا الفسخ بعدم الوطئ فكان الاختلاف فيما يختص به وفي مسئلتنا لم تتحقق خلوة ولا تمكين لأنه لو تحقق ذلك لوجب المهر كاملاً فكان الاختلاف في أمر ظاهر لا يختص به فلم يقبل فيه قول مدعيه إلا ببينة وهل تشرع اليمين في حق من القول قوله؟ على وجهين(8/490)
(فصل) والخلوة كالإصابة في إثبات الرجعة للزوج على المرأة التي خلا بها في ظاهر كلام الخرقي لقوله حكمها حكم الدخول في جميع أمورها وهذا قول الشافعي القديم وقال أبو بكر لا رجعة له عليها إلا أن يصيبها وبه قال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي في الجديد لأنها غير مصابة فلا يستحق وجعتها كالتي لم يخل بها ووجه الأول قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أوحامهن - إلى قوله - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ولأنها معتدة من طلاق لا عوض فيه ولم يستوف عدده فثبتت عليها الرجعة كالموطؤة ولأنها معتدة يلحقها طلاقه فملك رجعتها كالتي أصابها وفارق التي لم يخل بها فإنها بائن منه لا عدة لها ولا يلحقها طلاقه وإنما تكون الرجعة تلمعتدة التي يلحقها طلاقه والخلاف في هذا مبني على وجوب العدة بالخلوة من غير إصابة ويذكر في موضعه إن شاء الله تعالى (فصل) فإن ادعى زوج الأمة بعد عدتها فأنكره وصدقه مولاها فالقول قولها نص عليه وبذلك قال أبو حنيفة ومالك وقال أبو يوسف ومحمد القول قول الزوج وهو أحق بها لأن إقرار مولاها مقبول في نكاحها فقبل في رجعتها كالحرة إذا أقرت ولنا أن قولها في انقضاء عدتها مقبول فقبل إنكارها للرجعة كالحرة ولأنه اختلاف منهما فيما يثبت به النكاح فيكون المنازع هي دون سيدها كما لو اختلفا في الإصابة وإنما قبل قول السيد في النكاح لأنه يملك إنشاءه فملك الإقرار به بخلاف الرجعة وإن صدقته وكذبه مولاها لم يقبل إقرارها لأن حق السيد تعلق بها(8/491)
وحلت بانقضاء عدتها فلم يقبل قولها في إبطال حقه كما لو تزوجت ثم أقرت أن مطلقها كان راجعها ولا يلزم من قبول إنكارها قبول تصديقها كالتي تزوجت فإنه يقبل إنكارها ولا يقبل تصديقها إذا ثبت هذا فإن مولاها إذا علم صدق الزوج لم يحل له وطؤها ولا تزويجها وإن علمت هي صدق الزوج في رجعتها فهي حرام على سيدها ولا يحل لها تمكينه من وطئها إلا مكرهة كما قبل طلاقها (فصل) ولو قالت انقضت عدتي ثم قالت ما انقضت بعد فله رجعتها لانه أقرت بكذبها فيها يثبت له حقاً عليها فقبل إقرارها ولو قال أخبرتني بانقضاء عدتها ثم راجعتها ثم أقرت بكذبها في انقضاء عدتها ثم أقرت بكذبها في انقضاء عدتها وأنكرت ما ذكر عنها وأقرت بأن عدتها لم تنقض فالرجعة صحيحة لأنه لم يقر
بانقضاء عدتها وإنما أخبر بخبرها عن ذلك وقد رجعت عن خبرها فقبل رجوعها لما ذكرناه (فصل) قال الشيخ رحمه الله وإن طلقها ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ويطؤها في القبل وأدنى ما يمكن من ذلك تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل) وجملة ذلك أن المرأة إذا لم يدخل بها تبينها تطليفة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد وقد أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة ولا يستحق مطلقها رجعتها لأن الرجعة إنما تكون في العدة ولا عدة قبل الدخول لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها) فبين سبحانه أنه لا عدة(8/492)
عليها فتبين بمجرد طلاقها وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها لا رجعة عليها ولا نفقة لها فإن رغب فيها مطلقها فهو خاطب من الخطاب لا تحل له إلا أن يتزوجها برضاها جديداً وترجع إليه بطلقتين فإن طلقها اثنتين ثم تزوجها رجعت إليه بطلقة واحدة بغير خلاف إن لم تكن تزوجت غيره بغير خلاف فإن طلقها ثلاثاً بلفظ واحد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره) في قول عامة أهل العلم وقد ذكرنا ذلك فيما مضى ولا خلاف بينهم في أن المطلقة ثلاثاً بعد الدخول لا تحل حتى تنكح زوجا غيره لقول الله سبحانه (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وروت عائشة أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنها كانت عند رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطيقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن ابن الزبير وإنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحاكا وقال " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " متفق عليه وفي إجماع أهل العلم على هذا غنية عن الإطالة فيه وجمهور العلماء على أنها لا تحل للزوج الأول حتى يطأها الثاني وطئاً يوجد فيه التقاء الختانين إلا أن سعيد بن المسيب من بينهم قال إذا تزوجها تزويجاً صحيحاً لا يريد به اخلالا فلا بأس أن يتزوجها قال إبن المنذر ولا نعلم احدا من أهل العلم قال بقول سعيد بن المسيب هذا إلا الخوارج أخذوا بظاهر قوله سبحانه (حتى تنكح زوجا غيره) ومع تصريح النبي صلى الله عليه وسلم ببيان المراد من كتاب الله تعالى وأنها لا تحل للاول حتى يذوق الثاني عسيلتها وتذوق عسيلته لا يعرج(8/493)
على شئ سواه ولا يسوغ لأحد المصير إلى غيره مع ما عليه جملة أهل العلم منهم علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عمرو وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وممن بعدهم مسروق والزهري ومالك وأهل المدينة والثوري وأصحاب الرأي والاوزاعي وأهل الشام والشافعي وأبو عبيد وغيرهم (فصل) ويشترط لحلها للأول ثلاثة شروط (أحدها) أن تنكح زوجاً غيره فلو كانت أمة فوطئها سيدها لم تحل لقول الله تعالى (حتى تنكح زوجا غيره) وهذا ليس بزوج (الشرط الثاني) أن يكون نكاحاً صحيحاً فلو كان فاسداً لم يحلها الوطئ فيه وبهذا قال الحسن والشعبي وحماد ومالك والثوري والاوزاعي واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي والشافعي في الجديد وقال في القديم يحلها وهو قول الحكم وخرجه أبو الخطاب وجهاً في المذهب لأنه زوج فيدخل في عموم النص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له فسماه محللاً مع فساد نكاحه ولنا قوله تعالى (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح ولذلك لو حلف لا يتزوج فتزوج تزويجاً فاسداً لم يحنث ولو حلف ليتزوجن لم يبر بالتزوج الفاسد ولأن أكثر أحكام التزويج غير ثابتة فيه من الاحصان واللعان والظهار والإيلاء والنفقة وأشباه ذلك وأما تسميته محللاً فلقصد التحليل فيما لا يحل ولو أحل حقيقة لما لعن ولا لعن المحلل له وإنما هذا كقول النبي(8/494)
صلى الله عليه وسلم " ما آمن بالقرآن من استحل محارمه وقال الله تعالى (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) ولأنه وطئ في غير نكاح صحيح اشبه وطئ الشبهة وعلى هذا لو وطئها بشبهة لم تبح لأنه في غير نكاح * (مسألة) * (ولو كانت أمة فاشتراها مطلقها لم يحل له وطؤها في قول أكثر أهل العلم ويحتمل أن تحل) وقال بعض أصحاب الشافعي تحل له لأن الطلاق يختص الزوجية فأثر في التحريم بها وقول الله عزوجل (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) صريح في تحريمها فلا نعول على ما خالفه ولأن
الفرج لا يجوز أن يكون محرماً مباحاً فسقط هذا (الشرط الثالث) أن يطأها في الفرج لما ذكرنا من حديث عائشة فعلى هذا إن وطئها دون الفرج أو في الدبر لم يحلها لأنه علق الحل على ذواق العسيلة ولا يحصل إلا بالوطئ في الفرج وأدناه تغييب الحشفة في الفرج وإن لم ينزل لأن أحكام الوطئ تتعلق بذواق العسيلة ولا يحصل من غير انتشار * (مسألة) * (فإن كان مجبوباً قد بقي من ذكره قدر الحشفة فأولجه أحلها وإلا فلا) وإن وطئها زوج مراهق أحلها في قولهم الا مالكا وأبا عبيد فإنهما قالا لا يحلها ويروى ذلك عن الحسن لانه وطئ من غير بالغ فأشبه وطئ الصغير ولنا ظاهر النص وانه وطئ من زوج في نكاح صحيح فأشبه البالغ ويخالف الصغير فإنه لا يمكن(8/495)
الوطئ منه ولا تذاق عسيلته قال القاضي يشترط أن يكون له اثنتا عشرة سنة لأن من دون ذلك لا يمكنه المجامعة ولا معنى لهذا فإن الخلاف في المجامعة ومتى أمكنه الجماع فقد وجد منه المقصود فلا معنى لاعتبار سن ما ورد الشرع باعتبارها وتقدير بمجرد الرأي والتحكم * (مسألة) * (فإن كانت ذمية فوطئها زوجها الذمي أحلها لمطلقها المسلم) نص عليه أحمد وقال هو زوج وبه تجب الملاعنة والقسم وبه قال الحسن والزهري والثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال ربيعة ومالك لا يحلها ولنا ظاهر الآية لأنه وطئ من زوج في نكاح صحيح تام أشبه وطئ المسلم (فصل) فإن كانا مجنونين أو أحدهما فوطئها أحلها، وقال أبو عبد الله بن حامد لا يحلها لأنه لا يذوق العسيلة.
ولنا ظاهر الآية ولانه وطئ مباح في نكاح صحيح أشبه العاقل وقوله (لا يذوق العسيلة) لا يصح فإن الجنون إنما هو تفطية العقل وليس العقل شرطا في الشهرة وحصول اللذة بدليل البهائم، لكن إن كان المجنون ذاهب الحس كالمصروع والمغمى عليه لم يحصل الحل بوطئه ولا بوطئ مجنونة في هذه الحال لأنها لا تذوق العسيلة ولا تحصل لها اللذة ولعل ابن حامد إنما أراد المجنون الذي هذا حاله(8/496)
فلا يكون ههنا اختلاف وكوطئ مغمى عليها أو نائمة لا تحس بوطئه فينبغي أن لا تحل بهذا لما ذكرنا وحكاه ابن المنذر ويحتمل حصول الحل في ذلك كله لعموم النص، فإن وجد على فراشه امرأة فظنها أجنبية أو ظنها جاريته فوطئها فإذا هي امرأته أحلها لأنه صادف نكاحاً صحيحاً، ولو وطئها فأفضاها أو وطئها وهي مريضة تتضرر بوطئه أحلها لأن التحريم ههنا لحقها فإن استدخلت ذكره وهو نائم أو مغمى عليه لم تحل لأنه لم يذق عسيلتها ويحتمل أن تحل لعموم الآية (فصل) فإن كان خصياً أو مسلولاً أو موجوءاً حلت بوطئه لأنه يطأ كالفحل ولم يفقد إلا الإنزال وهو غير معتبر في الاحلال وهذا قول الشافعي، قال أبو بكر وقد روي عن أحمد في الخصي أنه لا يحلها فإن أبا طالب سألته عن المرأة تتزوج الخصي تستحل به قال لا حتى تذوق العسيلة، قال أبو بكر والعمل على ما رواه مهنا أنها تحل ووجه الأول أن الخصي لا يحصل منه لانزال فلا تنال لذة الوطئ فلا يذوق العسيلة، ويحتمل أن أحمد قال ذلك لأن الخصي في الغالب لا يحصل منه الوطئ أو ليس مظنة الإنزال ولا يحصل الاحلال بوطئه كالوطئ من غير انتشار، والأولى إن شاء الله حصول الإحلال به لأنه يحصل بوطئ المراهق الذي لا يحصل منه الإنزال ولذلك تحل المراهقة التي لا يتصور منها الإنزال قبل البلوغ كذلك هذا وعلى هذا يمنع أن لا تذوق العسيلة إذا حصل منه الانتشار كغير البالغ ولدخوله في عموم الآية.
* (مسألة) * (وإن وطئها في الدبر أو وطئت بشبهة أو بملك يمين لم تحل) لان الوطئ في الدبر لا تذوق به العسيلة والوط بالشبهة وبملك اليمين وطئ من غير زوج فلا يدخل(8/497)
في عموم قوله تعالى (حتى تنكح زوجا غيره) فتبقى علي المنع (فصل) فإن وطئها في ردته أو ردتها لم يحلها لأنه إن عاد إلى الإسلام فقد وقع الوطئ في نكاح غير تام لانعقاد سبب البينونة إن لم تعلم في العدة فلم يصادف الوطئ نكاحاً وهكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها الزوج قبل اسلام الآخر لم يحلها لذلك
* (مسألة) * (وإن وطئها زوجها في حيض أو نفاس أو إحرام أحلها وقال أصحابنا لا يحلها) اشتراط أصحابنا أن يكون الوطئ حلالاً فعلي قولهم إن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام أو صيام فرض من أحدهما أو منهما لم تحل، وهو قول مالك لانه وطئ حرام لحق الله تعالى فلم يحصل به الإحلال كوطئ المرتدة، وظاهر النص حلها وهو قوله تعالى (حتى تنكح زوجا غيره وهذه قد نكحت زوجاً غيره) وأيضاً قوله عليه السلام " حتى تذرقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقد وجد ولأنه وطئ في نكاح صحيح في محل الوطئ على سبيل التمام فأحلها كالوطئ المباح وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة أو وطئها مريضة يضرها الوطئ وهذا أصح إن شاء الله تعالى وهو قول أبي حنيفة ومذهب الشافعي، فأما وطئ المرتدة فقد ذكرناه وأشرنا إلى الفرق (فصل) فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها وبذلك قال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفاً لأنه دخل في عموم النص ووطؤه كوطئ الحر(8/498)
* (مسألة) * وإن طلق العبد زوجته اثنتين لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره سواء عتقا أو بقيا على الرق) وجملة ذلك أن الطلاق معتبر بالرجال فإذا كان الزوج حراً فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وإن كان عبداً فطلاقه اثنتان حرة كانت زوجته أو أمة فإذا طلق اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره روى ذلك عن عمر وزيد وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وفيه رواية أخرى أن الطلاق بالنساء وقد ذكرنا ذلك في كتاب الطلاق، والمختار أن الطلاق بالرجال والتفريع عليه.
فعلى هذا إذا طلقها اثنتين حرمت عليه بالطلاق تحريماً لا ينحل إلا بزوج واصابة ولم يوجد ذلك فلا يزول التحريم، هذا ظاهر المذهب وقد روي عن أحمد أنه يحل له أن يتزوجها وتبقى عنده على واحدة وذكر حديث ابن عباس في المملوكين إذا طلقها تطليقتين ثم عتقا فله أن يتزوجها وقال لا أرى شيئاً يدفعه وغير واحد يقول به أبو سلمة وجابر وسعيد بن المسيب رواه الإمام أحمد في المسند وأكثر الروايات عن أحمد على الأول وقال في حديث عثمان وزيد في تحريمها عليه جيد وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن مغيث ولا أعرفه وقال
ابن المبارك من أبو حسن هذا؟ لقد حمل صخرة عظيمة منكراً لهذا الحديث، قال أحمد أما أبو حسن(8/499)
فهو عندي معروف ولكن لا أعرف عمرو بن مغيث، قال أبو بكر إن صح الحديث فالعمل عليه وإن لم يصح فالعمل على حديث عثمان وزيد وبه أقول وقال أحمد ولو طلق عبد زوجته الأمة تطليقتين ثم عتق واشتراها لم تحل له ولو تزوج وهو عبد فلم يطلقها أو طلقها واحدة ثم عتق فله عليها ثلاث تطليقات أو طلقتان إن كان طلقها واحدة لانه في حال الطلاق حر فاعتبر حاله حينئذ كما يعتبر حال المرأة في العدة حين وجودها ولو تزوجها وهو حر كافر فسبي واسترق ثم أسلما جميعاً لم يملك الاطلاق العبيد اعتباراً بحاله حين الطلاق ولو طلقها في كفره واحدة وراجعها ثم سبي واسترق لم يملك إلا طلقة واحدة ولو طلقها في كفره طلقتين ثم استرق فأراد التزوج بها جاز وله طلقة واحدة لأن الطلقتين وقعتا غير محرمتين فلا يتغير حكمهما بما يطرأ بعدهما كما أن الطلقتين من العبد لما وقعتا محرمتين لم يتغير ذلك بالعتق بعدهما * (مسألة) * (وإذا غاب عن مطلقته فأتته فذكرت أنها نكحت من أصابها وانقضت عدتها منه وكان ذلك ممكنا فله نكاحها اذا غلب على ظنه صدقها وإلا فلا) وجملة ذلك أن المطلقة المبتونة إذا مضى بعد طلاقها زمن يمكن فيه انقضاء عدتين بينهما نكاح ووطئ فأخبرته بذلك وغلب على ظنه صدقها إما بأمانتها أو بخبر غيرها ممن يعرف حالها فله أن(8/500)
يتزوجها في قول عامة أهل العلم منهم الحسن والاوزاعي والثوري والشافعي وابو عبيد وأصحاب الرأي وذلك لأن المرأة مؤتمنة على نفسها وعلى ما أخبرت به عنها، ولا سبيل إلى معرفة هذه الحال على الحقيقة إلا من جهتها فيجب الرجوع إلى قولها كما لو أخبرت بانقضاء عدتها فأما إن لم يعرف ما يغلب على ظنه صدقها لم يحل له نكاحها، وقال الشافعي له نكاحها لما ذكرنا أولاً والورع أن لا ينكحها ولنا أن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تقل عنه فوجب البقاء عليه كما لو أخبره فاسق عنها (فصل) إذا أخبرت أن الزوج أصابها فأنكرها فالقول قولها في حلها للأول والقول قول الزوج في المهر ولا يلزمه إلا نصفه إذا لم يقر بالخلوة بها فإن قال الزوج الأول أنا أعلم أنه ما أصابها لم يحل
له نكاحها لأنه يقر على نفسه بتحريمها فإن عاد فأكذب نفسه وقال قد علمت صدقها دين فيما بينه وبين الله تعالى، فإذا علم حلها لم تحرم بكذبه، وهذا مذهب الشافعي ولأنه قد يعلم ما لم يكن علمه ولو قال ما أعلم أنه أصابها لم تحرم عليه بهذا لأن المعتبر في حلها له خبر يغلب على ظنه صدقه لا حقيقة العلم (فصل) إذا طلقها طلاقاً رجعياً وغاب فقضت عدتها وأرادت التزوج فقال وكيله توقفي كيلا يكون راجعك لم يجب عليها التوقف لأن الأصل عدم الرجعة وحل النكاح، فلا يجب الزوال عنه بأمر مشكوك فيه ولأنه لو وجب عليها التوقف في هذه الحال لوجب عليها التوقف قبل قوله لأن احتمال الرجعة موجود سواء قال أو لم يقل فيفضي إلى تحريم النكاح على كل رجعية غاب زوجها أبداً(8/501)
(فصل) فإذا قالت قد تزوجت من أصابني ثم رجعت عن ذلك قبل أن يعقد عليها لم يجز العقد لأن الخبر المبيح للعقد قد زال فزالت الاباحة وإن كان ذلك بعد العقد عليها لم يقبل لأن ذلك إبطال للعقد الذي لزمها بقولها فلم يقبل كما لو ادعى زوجية أمرأة فأقرت له بذلك ثم رجعت عن الإقرار * (كتاب الإيلاء) * الإيلاء في اللغة الحلف، يقال آلى يولي إيلاء وألية وجمع الألية ألايا.
قال الشاعر قليل الالايا حافظ ليمينه إذا صدرت منه الألية برت ويقال تألى يتألى وفي الخبر " من يتأل على الله يكذبه " * (مسألة) * (وهو الحلف على ترك الوطئ في موضع الشرع والأصل فيه قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن يقسمون) * (مسألة) * (ويشترط له أربعة شروط أحدهما) الحلف على ترك الوطئ في القبل لأنه الذي يحصل الضرر به فان تركه بغير يمين لم يكن موليا) لأن الإيلاء الحلف(8/502)
* (مسألة) * (فإن تركه مضراً بها من غير عذر فهل تضرب له مدة الإيلاء ويحكم عليه بحكمه؟ على روايتين) أما إذا تركه لعذر من مرض أو غيبة أو نحوه لم تضرب له مدة وإلا ففيه روايتان (إحداهما)
تضرب له مدة أربعة أشهر فإن وطئها وإلا دعي بعدها إلى الوطئ فإن امتنع منه أمر بالطلاق كما يفعل في الإيلاء سواء لانه أضر بها بترك الوطئ في مدة الإيلاء فيلزم حكمه كما لو حلف ولأن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه وجب أداؤه إذا لم يحلف كالنفقة وسائر الواجبات، يحققه أن اليمين لا تجعل غير الواجب واجباً إذا حلف على تركه فوجوبه معها يدل على وجوبه قبلها ولأن وجوبه في الإيلاء إنما كان لدفع حاجة المرأة وازالة الغرر عنها وضررها لا يختلف بالايلاء وعدمه فلا يختلف الوجوب، فإن قيل فلا يبقى للأيلاء أثر فلم أفردتم له باباً؟ قلنا بل له أثر فإنه يدل على قصد الإضرار فيتعلق الحكم به وإن لم يظهر منه قصد الاضرار اكتفينا بدلالته وإذا لم يوجد الإيلاء احتجنا إلى دليل سواه يدل على المضارة فيعتبر الإيلاء لدلالته على المقتضى لا لعينه (والثانية) لا تضرب له مدة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمول فلا تضرب له مدة كما لو لم يقصد الاضرار ولأن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه إذا لو ثبت هذا الحكم بدونه لم يكن له أثر وليس امتناعه باليمين أقوى من امتناعه بقصد الضرر لأنه يمتنع بقصد الضرر وبلزومه الكفارة فلا يصح الإلحاق إذا لم يحلف بما إذا حلف لقوة المانع والله أعلم(8/503)
* (مسألة) * (وإن حلف على ترك الوطئ في الدبر أو دون الفرج لم يكن موليا) لأنه إذا حلف على ترك الوطئ في الدبر لم يترك الوطئ الواجب عليه ولا تتضرر المرأة بتركه لانه وطئ محرم وقد أكد منع نفسه بيمينه وكذلك إن حلف على ترك الوطئ دون الفرج لأنه لم يحلف على الوطئ الذي يطالب به في الفيئة ولا ضرر على المرأة في تركه * (مسألة) * (وإن حلف لا يجامعها الاجماع سواء يريد جماعاً ضعيفاً لا يزيد على التقاء الختانين لم يكن موليا) لأنه يمكنه الوطئ الواجب عليه من غير حنث وإن قال أردت وطأ لا يبلغ التقاء الختانين فهو مول لأنه لا يمكنه الوطئ الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وكذلك إن أراد به الوطئ في الدبر أو دون الفرج فكذلك وإن لم يكن له نية فليس بمول لأنه محتمل فلا يتعين ما يكون به مولياً، وإن قال والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن مولياً بحال لأنه لم يحلف على ترك الوطئ إنما حلف على ترك صفته المكروهة.
* (مسألة) * (وإذا حلف على ترك الوطئ بلفظ لا يحتمل غيره كلفظه الصريح وقوله لا أدخلت ذكري في فرجك وللبكر خاصة لا افتضضتك لم يدين فيه) وجملته أن الألفاظ التي يكون به مولياً تنقسم ثلاثة أقسام (أحدها) ما هو صريح في الحكم والباطن جميعاً كقوله والله لا أنيكك ولا أدخل أو أغيب(8/504)
أو أولج ذكرى في فرجك ولا افتضضتك للبكر خاصة فهذه صريحة لا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الإيلاء.
(القسم الثاني) صريح في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وهي عشرة ألفاظ لا وطئتك ولا جامعتك ولا باضعتك ولا باعتك ولا باشرتك ولا قربتك ولا أصبتك ولا أتيتك ولا مسستك ولا اغتسلت منك فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في العرف في الوطئ وقد ورد القرآن ببعضها فقال سبحانه (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن) وقال (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وقال (من قبل أن تمسوهن) وأما الجماع والوطئ فهما أشهر الألفاظ في الاستعمال فلو قال أردت بالوطئ الوطئ بالقدم وبالجماع اجتماع الأجسام وبالاصابة الاصابة باليد دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر والعرف وقد اختلف قول الشافعي فيما عدا الوطئ والجماع من هذه الألفاظ فقال في موضع ليس بصريح في الحكم لأنه حقيقة في غير الجماع وقال في لا باضعتك ليس بصريح لأنه يحتمل أن يكون انتقاء البضعتين البضعة من البدن بالبضعة منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فاطمة بضعة مني "(8/505)
ولنا أنه مستعمل في الوطئ عرفا وقد ورد ببعضه القرآن والسنة فكان صريحاً كلفظ الوطئ والجماع وكونه حقيقة في غير الجماع لا يبطل بلفظ الوطئ والجماع وكذلك قوله فارقتك وسرحتك في ألفاظ الطلاق فانهم قالوا هي صريحة في ألفاظ الطلاق مع كونها حقيقة في غيره، وأما قوله باضعتك فهو مشتق من البضع ولا يستعمل هذا اللفظ في غير الوطئ فهو أولى أن يكون صريحاً من سائر الألفاظ لأنها
تستعمل في غيره وبه قال أبو حنيفة (القسم الثالث) ما لا يكون موليا فيها إلا بالنية وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع كقوله والله لا يجمع رأسي ورأسك شئ لا ساقف رأسي رأسك لا سوءنك لا غيظتك لتطولن غيبتي عنك لا مس جلدي جلدك لا قربت فراشك لا أويت معك لا نمت عندك فهذه إن أراد بها الجماع واعترف بذلك كان موليا وإلا فلا لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها ولم يرد النص في استعمالهما فيه الا إن هذه الألفاظ منقسمة إلى ما يفتقر إلى نية الجماع والمدة معاً وهي قوله لا سوءنك أو لا غيظنك أو لتطولن غيبتي عنك فلا يكون موليا حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن غيظها يوجد بترك الجماع فيما دون ذلك وسائر الألفاظ يكون موليا بنية الجماع فقط فإن قال والله لا أدخلت جميع ذكري في فرجك لم يكن موليا لأن الوطئ الذي تحصل به الفيئة يحصل بدون إيلاج جميع الذكر فإن قال والله لا أولجت حشفتي في فرجك كان كان موليا لأن الفيئة لا تحصل بدون ذلك (الشرط الثاني) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء.(8/506)
* (مسألة) * (فإن حلف بنذر أو عتق أو طلاق لم يصر موليا في الظاهر عنه وعنه يكون مولياً) إذا حلف على ترك الوطئ بغير اسم الله تعالى وصفة من صفاته مثل أن حلف بطلاق أو عتاق أو صدقة المال أو الحج أو الظهار ففيه روايتان: [إحداهما] لا يكون موليا وهو قول الشافعي القديم (والرواية الثانية) هو مول، وروي عن ابن عباس أنه قال كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء وبذلك قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل الحجار والثوري وأبو حنيفة وأهل العراق والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلب بالله تعالى ولأن تعليق الطلاق والعتاق حلف بدليل أنه لو قال متى حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال إن وطئتك فأنت طالق طلقت في الحال، وقال أبو بكر كل يمين من حرام أو غيرها تجب بها كفارة يكون الحالف بها موليا
وأما الطلاق والعتاق فليس الحلف به إيلاء لأنه يتعلق به حق آدمي وما أوجب كفارة تعلق به حق الله تعالى.
(والرواية الأولى) هي المشهورة لأن الايلاء المطلق إنما هو القسم ولهذا قرأ أبي وابن عباس (يقسمون) بدل يؤلون وروي عن ابن عباس في تفسير (يؤلون) قال يحلفون بالله ذكره الإمام أحمد والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه ولا ذكره أهل العربية في باب(8/507)
القسم فلا يكون إيلاء وانما يمسى حلفا تجوزا لمشاركته القسم في المعنى المشهور فيه وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر والكلام عند إطلاقه لحقيقته ويدل على هذا قول الله تعالى (فان فاءوا فإن الله غفور رحيم) وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " متفق عليه وإن سلمنا أن غير القسم حلف لكن الحلف باطلاقه إنما ينصرف إلى القسم وانما يصرف إلى غيره بدليل، ولا خلاف في أن القسم بغير الله وصفاته لا يكون إيلاء لأنه لا يوجب كفارة ولا شيئاً يمنع من الوطئ فلا يكون إيلاء كالخبر بغير قسم وإذا قلنا بالرواية لثانية فلا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله إن وطئتك فعبدي حر أو فأنت طالق أو فأنت علي كظهر أمي أو فأنت حرام أو فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقه فهذا يكون إيلاء لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه * (مسألة) * (وإن قال إن وطئتك فأنت زانية أو فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها لم يلزمه حق ولا بصير قاذفا بالوطئ لأن القذف لا يتعلق بالشرط ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها كما لا تصير زانية بطلوع الشمس، وأما قوله إن وطئتك فلله على صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها بعد مضيه لم يلزمه حق فإن صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضي بعضه فلا يلزم بالنذر(8/508)
كما لو قال أن وطئتك فلله علي صوم أمس فلو قال ان وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين رجعة كان موليا وقال أبو حنيفة لا يكون موليا لأن الصلاة لا يتعلق بها مال ولا تتعلق بمال فلا يكون الحالف بها
موليا كما لو قال إن وطئتك فلله علي أن أمشي في السوق ولنا أن الصلاة تجب بالنذر فكان الحالف بها موليا كالصوم والحج وما ذكره لا يصح فإن الصلاة تحتاج إلى الماء والسترة، وأما المشي في السوق فقياس المذهب على هذه الرواية أنه يكون موليا لأنه يلزمه بالحنث في هذا النذر أحد شيئين إما الكفارة وإما المشي فقد صار الحنث موجباً لحق عليه فعلى هذا يكون موليا بنذر فعل المباحات والمعاصي فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب وإن سلمنا فالفرق بينهما أن المشي لا يجب بالنذر بخلاف مسئلتنا وإذا استثنى في يمينه لم يكن موليا في قول الجميع لأنه لا يلزمه كفارة بالحنث فلم يكن الحنث موجباً لحق عليه وهذا إذا كانت اليمين بالله تعالى أو كانت يمينا مكفرة فأما الطلاق والعتاق فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر فوجوده كعدمه ويكون موليا بهما سواء استثنى أو لم يستثن (الشرط الثالث) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومالك والاوزاعي والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان موليا وحكى ذلك القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأنه ممتنع عن الوطئ باليمين أربعة أشهر فكان موليا كما لو حلف على(8/509)
ما زاد وقال النخعي وقتادة وحماد وابن أبي ليلى واسحاق من حلف على ترك الوطئ في قليل من الأوقات أو كثير فتركها أربعة أشهر فهو مول لقول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وهذا مول لأن الإيلاء الحلف وهذا حالف ولنا أنه لم يمنع نفسه من الوطئ باليمين أكثر من أربعة أشهر إذا حلف على أربعة فما دونها فلا معنى للتربص لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء ولأن المطالبة إنما تكون بعد أربعة أشهر فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون لم تصح المطالبة من غير ايلاء وأبو حنيفة ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في العنة إنها تكون في مدة أربعة أشهر وظاهر الآية خلافه فإن الله تعالى قال (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا) فعقب الفيئة عقيب التربص بقاء التعقيب فيدل على تأخيرها عنه إذا ثبت هذا فقد حكي
عن ابن عباس أن المؤلي من يحلف على ترك الوطئ أبداً أو مطلقاً لأنه إذا حلف على ما دون ذلك أمكنه التخلص بغير الحنث فلم يكن موليا كما لو حلف لا وطئها في مدينة بعينها ولنا أنه لا يمكنه التخلص بعد التربص من يمينه بغير حنت فأشبه المطلقة بخلاف اليمين على مدينة معينة فإنه يمكن التخلص بغير الحنث ولأن الأربعة الأشهر مدة تتضرر المرأة بتأخير الوطئ عنها فإذا حلف على أكثر منها كان موليا كالابد ودليل الوصف ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول:(8/510)
تطاول هذا الليل وازور جانبه * وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا رب غيره * لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني * وإكرام بعلي أن ننال مراكبه فسأل عمر نساء كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفد الصبر فكتب إلى أمراء الاجناد أن لا يحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر (فصل) إذا علق الإيلاء بشرط مستحيل كقوله والله لا وطئتك حتى تصعدي السماء أو تقلبي الحجر ذهباً أو يشيب الغراب فهو مؤل لأن معنى ذلك ترك وطئها فإن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات قال الله تعالى في الكفار (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) معناه لا يدخلون الجنة أبداً.
وقال بعضهم إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب * (مسألة) * (أو يعلقه على شرط يغلب على الظن أنه لا يوجد في أقل من أربعة أشهر) كقوله والله لا وطئك حتى ينزل عيسى بن مريم أو يخرج الدجال أو الدابة أو غير ذلك من اشراط الساعة أو ما عشت أو حتى أموت أو تموتي أو يموت ولدك أو زيد أو حتى يقدم زيد من مكة والعادة أنه لا يقدم في أربعة أشهر فإنه يكون موليا فإن الغالب أن ذلك لا يوجد في أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك في نكاحي هذا كذلك لو علق الطلاق على مرضها أو مرض بعينه، وإن قال والله لا وطئتك(8/511)
إلى قيام الساعة أو حتى آتي الهند أو نحوه فهو مؤل لأنه معلوم أنه لا يوجد ذلك في أربعة أشهر لأن قيام الساعة له علامات تسبقه فقد علم أنه لا يوجد في المدة المذكورة * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مؤل) لأن حبلها من غير وطئ مستحيل عادة فهو كصعود السماء، وقال القاضي وابو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس بمؤل إلا أن تكون صغيرة يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر أو تكون آيسة فأما إن كانت من ذوات الإقراء لم يكن مؤليا لأن حملها ممكن ولنا أن الحمل بدون الوطئ مستحيل عادة فكان تعليق اليمين عليه إيلاء كصعود السما، ودليل استحالته قول مريم (أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا؟) ولولا استحالته لما نسبت نفسها إلى البغاء لوجود الولد وأيضاً قول عمر رضي الله عنه: الرجم حق على من زنى وقد أحصن اذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأن العادة أن الحبل لا يوجد من غير الوطئ فإن قالوا يمكن حبلها من وط غيره أو باستدخال منيه قلنا أما الأول فلا فإنه لو صرح به فقال لا وطئتك حتى تحبلي من غيري أو ما دمت في نكاحي أو حتى نزني كان مؤليا ولو صح ما ذكروه لم يكن مؤليا وأما الثاني فهو من المستحيلات عادة إن وجد كان من خوارق العادات بدليل ما ذكرناه، وقد قال أهل الطب أن المني إذا يرد لم يخلق منه ولد وصحح قولهم قيام الأدلة التي ذكرنا بعضها وجريان العادة على وفق ما قالوه وإذا كل تعليقه على موتها أو موته إيلاء فتعليقه على حبلها من غير وطئ أولى فإن قال أردت بقولي حتى تحبلي السببية ولم أرد الغاية ومعناه لا أطؤك لتحبلي قبل منه ولم يكن مؤليا لأنه ليس بحالف على ترك الوطئ وإنما حلف على ترك قصد الحبل به فإن حتى تستعمل بمعنى السببية(8/512)
* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك مدة أو ليطولن تركي لجماعك لم يكن موليا حتى ينوي أكثر من أربعة أشهر) لأن ذلك بقع على القليل والكثير فلا يصير موليا به فإن نوى أكثر من أربعة أشهر صار موليا
* (مسألة) * (وإن حلف على ترك الوطئ حتى يقدم زيد أو نحوه مما لا يغلب على الظن عدمه في أربعة أشهر أو لا وطئتك في هذه البلدة لم يكن موليا) لأنه لا يعلم قدره فهذا ليس بإيلاء لكونه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر ولأنه يمكنه وطؤها في غير البلدة المحلوف عليها وهذا قول الثوري والاوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وقال ابن أبي ليلى وإسحاق هو مول لأنه حالف على ترك وطئها ولنا أنه يمكن وطؤها بغير حنث فلم يكن موليا كما لو استثنى في يمينه، فإن علقه على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر أو يظن ذلك كذبول يقل وجفاف ثوب ونزول المطر في أوانه وقدوم الحاج في زمانه فهذا لا يكون موليا لما ذكرناه، ولأنه لم يقصد الاضرار بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر أشبه ما لو قال والله لا وطئتك شهرا (فصل) فإن علقه على فعل منها هي قادرة عليه أو فعل من غيرها فهو منقسم ثلاثة أقسام(8/513)
(أحدها) أن يعلقه على فعل مباح لا مشقة فيه كقوله والله لا أطؤك حتى تدخلي الدار أو تلبسي هذا الثوب أو حتى أتنفل بصوم يوم أو حتى أكسوك، فهذا ليس بإيلاء لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليه فيه (الثاني) أن يعلقه على محرم كقوله والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر أو تزني أو تسقطي ولدك أو تتركي صلاة الفرض أو حتى أقتل زيداً ونحوه فهذا إيلاء لأنه علقه على ممتنع شرعا فأشبه الممتنع حسا (الثالث) أن يعلقه على ما على فاعله فيه مضرة كقوله والله لا أطؤك حتى تسقطي صداقك أو جنينك أو حتى تكفلي ولدي أو حتى تهبيني دارك أو حتى يبيعني أبوك داره أو نحو ذلك فهذا ايلاء لان أخذه لمالها أو مال غيرها عن غير رضى صاحبه محرم فجرى مجرى شرب الخمر فإن قال والله لا أطؤك حتى أعطيك مالاً أو أفعل في حقك جميلا لم يكن ايلاء لأن فعله ذلك ليس بمحرم ولا ممتنع فجرى مجرى قوله حتى أصوم يوماً.
(فصل) فإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن موليا لإمكان وطئها بغير حنث ولأنه محسن في
كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها، وعلى قياس ذلك كل حال يمكنه الوطئ فيها بغير حنث كقوله والله لا وطئتك مكرهة أو محزونة ونحو ذلك فإن قال والله لا وطئتك مريضة لم يكن موليا إلا أن يكون بها مرض لا يرجى برؤه أو لا يزول في أربعة أشهر فينبغي أن يكون موليا لأنه حالف على ترك وطئها أربعة أشهر(8/514)
فإن قال ذلك لها وهي صحيحة فمرضت مرضا يمكن برؤه قبل أربعة أشهر لم يصر موليا وإن لم يرج برؤه فيها صار موليا، وكذلك إن كان الغالب أنه لا يزول في أربعة أشهر لأن ذلك بمنزلة ما لا يرجى زواله وإن قال والله لا وطئتك حائضا أو نفساء أو محرمة أو صائمة فرضا لم يكن موليا لأن ذلك ممنوع منه شرعا فقد أكد منع نفسه بيمينه، وإن قال والله لا وطئتك طاهرا أولا وطئتك وطأ مباحا صار موليا لأنه حالف على ترك الوطئ الذي يطالب به في الفيئة فكان موليا كما لو قال والله لا وطئتك في قبلك وإن قال والله لا وطئتك ليلاً أو والله لا وطئك نهاراً لم يكن موليا لان الوطئ ممكن بدون الحنث * (مسألة) * (وإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك وإن دخلت الدار فوالله لا وطئتك لم يكن موليا في الحال لأنه لا يلزمه بالوطئ حق لكن إن وطئها أو دخلت الدار صار موليا) لأنها تبقى يمينا تمنع الوطئ على التأييد وهذا الصحيح عن الشافعي ويحتمل أن يكون موليا، وحكي عنه قول قديم أنه يكون موليا من الأول لأنه لا يمكنه الوطئ إلا أن يصير موليا فيلحقه بالوطئ ضرر ولأنه علقه على شئ إذا وجد صار موليا فيصير موليا في الحال كذلك ههنا ولنا أن يمينه معلقة على شرط ففيما قبله ليس بحالف فلا يكون موليا ولأنه يمكنه الوطئ من غير حنث فلم يكن موليا كما لو لم يقل شيئاً(8/515)
* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئك في السنة إلا مرة لم يصر موليا في الحال) لأنه يمكنه الوطئ بغير حنث فلم يكن ممنوعا من الوطئ بحكم يمينه فإن وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار موليا وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وظاهر مذهب الشافعي وقال الشافعي في القديم يكون موليا في الحال لأنه لا يمكنه الوطئ إلا بأن يصير موليا فيلحقه بالوطئ ضرر
ولنا أن يمينه معلقة بالإصابة فقيلها لا يكون حالفا لأنه لا يلزمه بالوطئ شئ وكونه يصير موليا لا يلزمه به شئ إنما يلزمه بالحنث، وقوله لا يمكنه الوطئ إلا بأن يصير موليا ممنوع فيما إذا لم يطأ إلا وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك في السنة إلا يوما فكذلك في أحد الوجهين) وهو قول أبي حنيفة لأن اليوم منكر فلم يختص يوما دون يوم وكذلك لو قال صمت رمضان إلا يوما لم يختص اليوم الآخر، وكذلك لو قال لا أكلمك في السنة إلا يوما لم يختص يوما منها، وفيه وجه آخر أنه يصير موليا في الحال لأن اليوم المستثنى يكون من آخر المدة كالتأجيل، ومدة الخبار بخلاف قوله لا وطئتك في السنة إلا مرة فإن المرة لا تختص وقتا بعينه، ومن نصر الأول فرق بين هذا وبين التأجيل ومدة الخيار من حيث إن التأجيل ومدة الخيار تجب الموالاة فيهما ولا يجوز أن يتخلاهما يوم لا أجل فيه ولا خيار لو جازت له المطالبة لزم قضاء الدين فيسقط التأجيل(8/516)
بالكلية ولو لزم العقد في أثناء مدة الخيار لم يعد إلى الجواز فتعين جعل اليوم المستثنى من آخر المدة بخلاف ما نحن فيه فإن جواز الوطئ في يوم من أول السنة أو أوسطها لا يمنع حكم اليمين فيما بقي منها فصار كقوله لا وطئتك في السنة إلا مرة (فصل) فإن قال والله لا وطئك عاما ثم قال والله لا وطئتك عاما فهو إيلاء واحد حلف عليه بيمينين إلا أن ينوي عاماً آخر سواه، فإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك نصف عام أو قال والله لا وطئتك نصف عام ثم قال والله لا وطئتك عاما دخلت المدة القصيرة في الطويلة لأنها بعضها ولم يجعل إحداهما بعد الأخرى فأشبه ما لو أقر بدرهم لرجل ثم أقر له بنصف درهم أو أقر بنصف درهم ثم بدرهم فيكون إيلاء واحداً لهما وقت واحد وكفارة واحدة، وإن نوى باحدى المدتين غير الاخرى في هذه أو في التي قبلها أو قال والله لا وطئتك عاما فإذا مضى فوالله لا وطئتك عاما فهما إيلاآن في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الآخر، أحدهما منجز والآخر متأخر فإذا مضى حكم أحدهما بقي حكم الآخر لأنه أفرد كل واحد منهما بزمن غير زمن صاحبه فيكون له حكم ينفرد به، فإن قال في المحرم والله
لا وطئتك هذا العام ثم قال في رجب والله لا وطئتك عاما فهما إيلاآن في مدتين بعض إحداهما داخل في الاخرى فان فا في رجب أو فيما بعده من بقية العام الأول حنث في اليمينين ويجزئه كفارة واحدة وينقطع حكم الايلاءين وإن فاء قبل رجب أو بعد العام الأول حنث في إحدى اليمينين دون الاخرى، وإن فاء في الموضعين حنث في اليمينين وعليه كفارتان(8/517)
(فصل) فإن حلف على وطئ امرأته عاما ثم كفر يمينه انحل الايلاء قال الأثرم قيل لأبي عبد الله المولى يكفر يمينه قبل مضي أربعة أشهر قال يذهب عنه الايلاء ويوقف بعد الأربعة وذهب الايلاء حين ذهبت اليمين وذلك لأنه لم يبق ممنوعا من الوطئ بيمينه فأشبه من حلف واستثنى، فإن كان تكفيره قبل مضي الأربعة الأشهر انحل الايلاء حين التكفير وصار كالحالف على ترك الوطئ أقل من أربعة أشهر وإن كفر بعد الأربعة وقبل الوقف صار كالحالف على أكثر منها إذا مضت يمينه قبل وقفه * (مسألة) * (فإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر أو فإذا مضت فلا وطئتك شهرين أو لا وطئتك فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان (أحدهما) ليس بمول لأنه حالف بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الايلاء فلم يكن موليا كما لو لم ينو الا مدتهما ولانه يمكنه الوطئ بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها فأشبه ما لو أقتصر عليها، ويحتمل أن يصير موليا لأنه منع نفسه من الوطئ بيمينه أكثر من أربعة أشهر متوالية فكان موليا كما لو منعها بيمين واحدة، ولأنه لا يمكن الوطئ بعد المدة إلا بحنث في يمينه فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة، ولو لم يكن هذا إيلاء أفضى إلى أن يمتنع من الوطئ طول دهره باليمين وفلا يكون موليا وهكذا الحكم في كل مدتين متواليتين يزيد مجموعها على أربعة أشهر لما ذكرنا من التعليلين هذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى(8/518)
* (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئتك إن شئت فشاءت صار موليا) وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يصير ممتنعا من الوطئ حيث تشاء إلا أن أصحاب
الشافعي قالوا إن شات على الفور جوابا لكلامه صار موليا وإن أخرت المشيئة انحلت يمينه لأن ذلك تخيير لها فكان على الفور كقوله اختاري في الطلاق ولنا أنه علق اليمين على المشيئة بحرف إن فكان على التراخي كمشيئة غيرها، فإن قيل فهلا قلتم لا يكون موليا فإنه علق ذلك باردتها فأشبه ما لو قال لا وطئتك إلا برضاك؟ قلنا الفرق بينهما أنها إذا شات انعقدت يمينه مانعة من وطئها بحيث لا يمكنه الوطئ بعد ذلك بغير حنث، وإذا قال والله لا وطئتك إلا برضاك فما حلف إلا على ترك وطئها في بعض الأحوال وهو حال سخطها فيمكنه الوطئ في حال رضاها بغير حنث وإذا طالبته بالفيئة فهو برضاها، وإن قال والله لا وطئتك إلا أن يشاء أبوك أو فلان لم يكن موليا لانه عقله بفعل منه يمكن وجوده في الأربعة الأشهر امكانا غير بعيد وليس بمحرم ولا فيه مضرة أشبه ما لو قال والله لا وطئتك إلا أن تدخلي الدار * (مسألة) * (وإن قال إلا أن تشائي أو إلا باختيارك أو إلا أن تختاري لم يصير موليا وصار كقوله إلا برضاك أو حتى تشائي) وقال أبو الخطاب أن شاءت في المجلس لم يصر موليا وإلا صار موليا وقال أصحاب الشافعي إن شاءت(8/519)
على الفور عقيب كلامه لم يصر موليا وإلا صار موليا لأن المشيئة عندهم على الفور وقد فانت بتراخيها، وقال القاضي تنعقد يمينه فإن شاءت انحلت وإلا فهي منعقدة ولنا أنه منع نفسه بيمينه من وطئها إلا عند ارادتها فأشبه ما لو قال إلا برضاك أو حتى تشائي ولأنه علقه على وجود المشيئة أشبه ما لو علقه على مشيئة غيرها، فأما قول القاضي فإن أراد وجود المشيئة على الفور فهو كقولهم، وإن أراد وجود المشيئة على التراخي تنحل به اليمين لم يكن ذلك إيلاء لأن تعليق اليمين على فعل يمكن وجوده في مدة أربعة أشهر امكانا غير بعيد ليس بإيلاء * (مسألة) * (وإن قال لنسائه والله لا وطئت واحدة منكن صار موليا منهن إلا أن يريد واحدة بعينها وإن أراد واحدة مبهمة فقال أبو بكر تخرج بالقرعة) وجملة ذلك أن الرجل إذا قال لنسائه والله لا وطئت واحدة منكن واطلق كان موليا من جميعهن
في الحال لأنه لا يمكنه وطئ واحدة منهن إلا بالحنث، فإن طلق واحدة منهن أو مانت كان موليا من البواقي فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات لأنها يمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لم يحنث مرة ثانية ولا يبقى حكم اليمين بعد حنثه فيما بخلاف ما إذا طلق واحدة أو ماتت فإنه لم يحنث ثم فيبقى حكم يمينه في الباقيات منهن وهذا مذهب الشافعي، وذكر القاضي أنه إذا أطلق كان الإيلاء في واحدة غير معينة وهو اختيار بعض أصحاب الشافعي لأن لفظه تناول واحدة منكرة فلا يقتضي العموم(8/520)
ولنا أن النكرة في سياق النفي تعم كقوله (لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) وقوله (ولم يكن له كفوا أحد) ولو قال انسان والله لا شربت ماء من ادواة حنث بالشرب من أي ادواة كانت فيجب حمل اللفظ عند الاطلاق على مقتضاه في العموم فإن قال نويت واحدة بعينها تعلقت يمينه بها وحدها وصار موليا منها دون غيرها لأن اللفظ يحتمله احتمالا غير بعيد، وإن قال نويت واحدة مبهمة قبل منه لذلك، وهذا مذهب الشافعي ولا يصير موليا منهن في الحال فإذا وطئ ثلاثا كان موليا من الرابعة، وقال أبو بكر تخرج بالقرعة كما لو طلق واحدة من نسائه لا بعينها ومذهب الشافعي فيما إذا أبهم المحلوف عليها فله أن يعينها بقوله وأصل هذا مذكور فيما إذا طلق واحدة بعينها * (مسألة) * (وإن قال والله لا وطئت كل واحدة منكن كان موليا من جميعهن في الحال ولا يقبل فوله نويت واحدة منهن معينة ولا مبهمة لأن لفظة كل أزالت احتمال الخصوص وتنحل يمينه بوطئ واحدة كالمسألة التي قبلها) وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي لا تنحل في الباقيات لأنه صرح يمنع نفسه من كل واحدة فأشبه ما لو حلف على كل واحدة يميناً ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فسقط حكمها كما لو حلف على واحدة ولأن اليمين الواحدة إذا حنث فيها مرة لم يمكن الحنث فيها مرة أخرى فلم يبق ممتنعا من وطئ الباقيات بحكم اليمين فلم يبق الايلاء كسائر الايمان التي حنث فيها(8/521)
* (مسألة) * (وإن قال والله لا أطؤكن فهي كالتي قبلها في أحد الوجهين) وهذا ينبني على أصل وهو الحنث بفعل بعض المحلوف عليه أولا؟ فإن قلنا يحنث فهو مؤل منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطئ واحدة بغير حنث فصار مانعا لنفسه من وطئ كل واحدة منهن في الحال فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وزال الايلاء من البواقي وإن طلق بعضهن أو ماتت لم ينحل الايلاء في البواقي وإن قلنا لا يحنث بفعل البعض لم يكن موليا منهن في الحال لأنه يمكنه وطئ واحدة منهن من غير حنث فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها فلم يكن موليا منها فإن وطئ ثلاثا صار موليا من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها من غير حنث في يمينه وإن ماتت بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الايلاء لأنه لا يحنث إلا بوطئ الأربع فإن راجع المطلقة أو تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه وذكر القاضي أنا إذا قلنا يحنث بفعل البعض فوطئ واحدة يحنث ولم ينحل الإيلاء في البواقي لأن الإيلاء من امرأة لا ينحل بوطئ غيرها(8/522)
ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فوجب أن تنحل كسائر الايمان ولأنه إذا وطئ واحدة حنث ولزمته الكفارة فلا يلزمه بوطئ الباقيات شئ فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه فانحل الايلاء كما لو كفرها، واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهما لا يكون موليا منهن حتى يطأ ثلاثا فيصير موليا من الرابعة وحكى المزني عن الشافعي أنه يكون موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة منهن فإذا أصاب بعضهن خرجت من حكم الايلاء ويوقف لمن بقي حتى يفئ أو يطلق ولا يحنث حتى يطأ الأربع، وقال أصحاب الرأي يكون موليا منهن كلهن فإن تركهن أربعة أشهر بن منه جميعا بالايلاء وإن وطئ بعضهن سقط الايلاء في حقها ولا يحنث إلا بوطئهن جميعا.
ولنا أن من لا يحنث بوطئها لا يكون موليا منها كالتي لم يحلف عليها (فصل) وفي هذه المواضع التي قلنا يكون موليا منهن كلهن إذا طالبن كلهن بالفيئة وقف لهن كلهن وإن طالبن في اوقات مختلفة ففيه روايتان(8/523)
[إحداهما] يوقف للجميع وقت مطالبة أولاهن، قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد (والثانية) يوقف لكل واحدة منهن عند مطالبتها اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي وإذا وقف للاولى فطلقها وقف للثانية فإن طلقها وقف للثالثة فإن طلقها وقف للرابعة وكذلك من مات منهن لم يمنع من وقفه للاخرى لأن يمينه لم تنحل وإيلاؤه باق لعدم حنثه فيهن فإن وطئ إحداهن حين وقف لها أو قبلها انحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات على ما قلناه وعلى قول القاضي ومن وافقه يوقف للباقيات كما لو طلق التي وقف لها.
(فصل) فإن قال كلما وطئت واحدة منكن فضرائرها طوالق فإن قلنا ليس هذا بإيلاء فلا كلام وإن قلنا هو إيلاء فهو مول منهن كلهن لأنه لا يمكنه وطئ واحدة منهن إلا بطلاق ضرائرها فيوقف لهن فإن فاء إلى واحدة طلق ضرائرها فإن كان الطلاق بائنا انحل الايلاء لأنه لم يبق ممنوعا من وطئها بحكم يمينه فإن كان رجعياً فراجعهن بقي حكم الايلاء في حقهن لأنه لا يمكنه وطئ واحدة إلا بطلاق(8/524)
ضرائرها وكذلك إن راجع بعضهن كذلك إلا أن المدة تستأنف من حين الرجعة ولو كان الطلاق تاما فعاد فتزوجهن أو تزوج بعضهن عاد حكم الايلاء واستؤنفت المدة من حين النكاح وسواء تزوجها في العدة أو بعدها أو بعد زوج آخر واصابة لما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى وإن قال نويت واحدة بعينها قبل منه وتعلقت يمينه بها فإذا وطئها طلق ضرائرها وإن وطئ غيرها لم يطلق منهن شئ ويكون موليا من المعينة دون غيرها لأنها التي يلزمه بوطئها الطلاق دون غيرها * (مسألة) * (وإن آلى من واحدة وقال للاخرى شركتك معها لم يصر موليا من الثانية لأن اليمين بالله لا تصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة والتشريك بينهما كناية فلم تصح به اليمين، وقال القاضي يكون موليا منهما كما لو طلق واحدة، وقال للاخرى شركتك معها ينوي به الطلاق والفرق بينهما أن الطلاق ينعقد بالكناية ولا كذلك اليمين وإن قال إن وطئتك فأنت طالق ثم قال للاخرى شركتك معها ونوى فقد صار طلاق الثانية معلقا على وطئها أيضاً لأن الطلاق يصح بالكناية وإن(8/525)
قلنا إن ذلك ايلاء في الأولى صار ايلاء في الثانية لأنها صارت في معناها وإلا فليس بإيلاء في واحدة منهما وكذلك لو إلى رجل من زوجته فقال آخر لامرأته أنت مثل فلانة لم يكن موليا، وقال أصحاب الرأي هو مول.
ولنا أنه ليس بصريح في القسم فلا يكون موليا به كما لو لم يشبهها بها ويصح الايلاء بكل لغة كالعجمية وغيرها ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها لأن اليمين تنعقد بغير العربية وتجب بها الكفارة والمولي هو الحالف بالله أو بصفته على ترك وطئ زوجته الممتنع من ذلك بيمينه فإن آلى بالعجمية من لا يحسنها وهو لا يدري معناها لم يكن موليا وإن نوى موجبها عند أهلها وكذلك الحكم اذا آلى بالعربية من لا يحسنها لأنه لا يصح منه قصد الايلاء بلفظ لا يدري معناه فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك فالقول قوله إذا كان متكلما بغير لسانه لأن الأصل عدم(8/526)
معرفته بها فأما إن آلى العربي بالعربية ثم قال جرى على لساني من غير قصد أو قال ذلك العجمي في إيلائه بالعجمية لم يقبل قوله في الحكم لأنه خلاف الظاهر (فصل) ولا يصح الايلاء إلا من زوجته لقول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) وإن حلف على ترك وطئ أمته لم يكن موليا إذا بقي من مدة يمينه أكثر من أربعة أشهر لأنه ممتنع من وطئ امرأته بتحكم يمينه مدة الايلاء فكان موليا كما لو حلف في الزوجية وحكي عن أصحاب الرأي أنه من مرت به امرأة فحلف أن لا يقربها ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قال تزوجت فلانة فوالله لا قربتها صار موليا لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجية فأشبه ما لو حلف بعد تزوجها ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم) وليست هذه من نسائه ولأن الايلاء حكم من أحكام النكاح فلم يتقدمه كالطلاق والقسم ولأن المدة تضرب له لقصده الاضرار بها بيمينه فإذا كانت اليمين(8/527)
قبل النكاح لم يكن قاصداً للاضرار فأشبه الممتنع بغير يمين، قال الشريف أبو جعفر وقد قال أحمد يصح الظهار قبل النكاح والمنصوص عدم الصحة لما ذكرنا
(فصل) فإن آلى من الرجعية صح إيلاؤه، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وذكر ابن حامد فيه رواية أخرى أنه لا يصح ايلاؤه لأن الطلاق يقطع مدة الايلاء إذا طرأ فلان يمنع صحته ابتداء أولى.
ولنا أنها زوجة يلحقها طلاقه فصح ايلاؤه منها كغير المطلقة وإذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى وإن كانت في العدة ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة ويجئ على قول الخرقي أن لا يحتسب عليه بالمدة إلا من حين راجعها لأن الرجعة في ظاهر كلامه محرمة وهو مذهب الشافعي لأنها معتدة أشبهت البائن ولأن الطلاق إذا طرأ قطع المدة ثم لا يحتسب عليه بشئ من المدة قبل رجعتها فأولى أن لا يستأنف المدة في العدة ووجه الأول أنه من صح إيلاؤه احتسب عليه بالمدة من حين إيلائه كما لو لم تكن مطلقة، ولأنها(8/528)
مباحة واحتسب عليه بالمدة فيها كما لو لم يطلقها، وفارق البائن فانها ليست زوجة، ولا يصح الايلاء منها بحال فهي كسائر الأجنبيات (فصل) ويصح الايلاء من كل زوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة أو أمة لعموم قوله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) ولأن كل واحدة منهن زوجة فصح الايلاء منها كالحرة المسلمة، ويصح الايلاء قبل الدخول وبعده، وبهذا قال النخعي ومالك والاوزاعي والشافعي، وقال عطاء والزهري والثوري إنما الايلاء بعد الدخول ولنا عموم الآية والمعنى ولأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه فأشبه ما بعد الدخول ويصح الايلاء من الصغيرة والمجنونة إلا أنه لا يطالب بالفيئة في حال الصغر والجنون لانهما ليستا من أهل المطالبة.
فأما الرتقاء والقرناء فلا يصح الايلاء منهما لأن الوطئ متعذر دائماً فلم تنعقد اليمين على تركه كما لو حلف(8/529)
لا يصعد السماء ويحتمل أن يصح وتضرب له المدة لأن المنع بسبب من جهتها فهي كالمريضة، فعلى هذا يفئ فيئة المعذور لأن الفيئة بالوطئ في حقها متعذرة فلا يمكن المطالبة به فأشبه المجبوب * (فصل) * (الشرط الرابع أن يكون من زوج يمكنه الوطئ وتلزمه الكفارة بالحنث مسلما كان أو
كافراً حراً أو عبداً سليماً أو خصياً أو مريضاً يرجى برؤه) وجملة ذلك أنه يشترط أن يكون الايلاء من زوج لقول الله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم) ويشترط أن يكون مكلفاً فأما الصبي والمجنون فلا يصح إيلاؤهما لان القلم مرفوع عنهما * (مسألة) * (ويصح إيلاء الذمي ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وإن أسلم لم ينقطع حكم إيلائه، وقال مالك إن أسلم سقط حكم يمينه وقال أبو يوسف ومحمد إن حلف بالله لم يكن موليا لأنه لا يحنث إذا جامع لكونه غير مكلف وإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق فهو مول لأنه يصح عتقه وطلاقه ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) ولأنه مانع نفسه باليمين من(8/530)
جماعها فكان مولياً كالمسلم ولأن من صح طلاقه صح إيلاؤه ومن صحت يمينه عند الحاكم صح إيلاؤه كالمسلم فأما العاجز عن الوطئ فإن كان لعارض مرجو الزوال كالمرض والحبس صح إيلاؤه لأنه يقدر على الوطئ فصح منه للامتناع منه وإن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل لم يصح إيلاؤه لأنها يمين على ترك مستحيل فلم تنعقد كما لو حلف لا يقلب الحجارة ذهباً ولأن الايلاء اليمين المانعة من الوطئ وهذا لا يمنعه بيمينه فإنه متعذر منه ولا يضر المرأة بيمينه قال أبو الخطاب ويحتمل أن يصح الايلاء منه قياساً على العاجز بمرض أو حبس، وفيئته لو قدرت لجامعتك لانه معذور فيفئ بلسانه كالعاجز بعذر يزول، وللشافعي في ذلك قولان والأول أولى لما ذكرنا فأما الخصي الذي سلت بيضتاه أو رضت فيمكنه الوطئ وينزل ماء رقيقاً فيصح إيلاؤه وكذلك المجبوب الذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به * (مسألة) * (ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون) لان القلم مرفوع عنهما ولأنه قول يجب بمخالفته كفارة أو حق فلم ينعقد منهما كالنذر(8/531)
* (مسألة) * (وفي إيلاء السكران وجهان) بناء على طلاقه
(فصل) ولا يشترط في صحة الايلاء الغضب ولا قصد الاضرار روى ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الثوري والشافعي وأهل العراق وابن المنذر وروي عن علي رضي الله عنه ليس في إصلاح إيلاء، وعن ابن عباس قال: إنما الايلاء في الغضب ونحوه عن الحسن والنخعي وقتادة، وقال مالك والاوزاعي وأبو عبيد من حلف لا يطأ زوجته حتى تفطم ولده لا يكون إيلاء إذا أراد الصلاح لولده ولنا عموم الآية ولأنه مانع لنفسه من جماعها بيمينه فكان مولياً كحال الغضب، يحققه أن حكم الإيلاء ثبت لحق الزوجة فيجب أن يثبت سواء قصد الاضرار أو لم يقصد كاستيفاء ديونها واتلاف مالها ولأن الطلاق والظهار وسائر الايمان سواء في الغضب والرضاء فكذلك في الإيلاء، وأما إذا حلف أن لا يطأها حتى تفطم ولده فإذا أراد وقت الفطام وكانت مدته تزيد على أربعة أشهر فهو مول(8/532)
وإن أراد فعل الفطام لم يكن مولياً لأنه ممكن قبل أربعة أشهر وليس بمحرم ولا فيه تفويت حق لها فلم يكن موليا كما لو حلف أن لا يطأها حتى تدخل الدار * (مسألة) * (ومدة الإيلاء في الأحرار والرقيق سواء، وعنه أنها في العبد على النصف) يصح إيلاء العبد كما يصح من الحر قياساً عليه ولدخوله في عموم الآية ولا تختلف مدته فلا فرق بين الحرة والمسلمة والذمية والامة والصغيرة والكبيرة في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وابن المنذر.
وعن أحمد رواية أخرى أن مدة الإيلاء للعبد شهان وهو اختيار أبي بكر وقول عطاء والزهري ومالك واسحاق لأنهم على النصف في الطلاق وعدد المنكوحات فكذلك في الايلاء.
وقال الحسن والشعبي إيلاؤه من الامة شهران ومن الحرة أربعة وقال أبو حنيفة إيلاء الامة نصف إيلاء الحرة لأن ذلك تتعلق به البينونة فاختلف بالرق والحرية كالطلاق ولأنها مدة ثبت ابتداؤها بقول الزوج فوجب أن تختلف برق الامة وحريتها كمدة العنة ولنا عموم الآية ولأنها مدة ضربت للوطئ فاستوى فيها الرق والحرية، ولا نسلم أن البينونة تتعلق بها(8/533)
ثم يبطل ذلك بمدة العنة ويخالف مدة العدة لأن العدة مبنية على الكمال بدليل أن الاستبراء يحصل بقرء واحد، وأما مدة الإيلاء فإن الاستمتاع بالحرة أكثر وكان ينبغي أن تقدم مطالبتها مطالبة الامة والحق على الحر في الاستمتاع أكثر منه على العبد ولا تجوز الزيادة عليه في مطالبة العبد عليه * (مسألة) * (ولا حق لسيد الامة في طلب الفيئة والعفو عنها وإنما ذلك إليها) وجملة ذلك أن الحرة والامة سواء في استحقاق المطالبة سواء عفا السيد عن ذلك أو لم يعف لأن الحق لها لأن الاستمتاع يحصل لها فإن تركت المطالبة لم يكن لمولاها الطلب، ولأنه لا حق له، فإن قيل حقه في الولد ولهذا لم يجز العزل عنها إلا بإذنه، قلنا لا يستحق على الزوج استيلاد المرأة ولذلك لو حلف ليعزلن عنها أو لا يستولدها لم يكن مولياً ولو أن المولي وطئ بحيث يوجب التقاء الختانين وجبت الفيئة وزالت عنه المطالبة وإن لم ينزل وإنما استؤذن السيد في العزل لأنه يضر بالامة فربما نقص قيمتها ولنا في وجوب استئذانه منع(8/534)
* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا صح الإيلاء ضربت له مدة أربعة أشهر) وجملة ذلك أن المولي يتربص أربعة أشهر كما أمر الله تعالى ولا يطالب بالوطئ فيهن فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته امرأته إلى الحاكم أمره بالفيئة فإن أبى أمره بالطلاق ولا تطلق زوجته بمضي المدة قال أحمد في الإيلاء يوقف عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمر ما يدل على ذلك وعن عثمان وعلي وجعل يثبت حديث علي وبه قال ابن عمر وعائشة وروي ذلك عن أبي الدرداء وقال سليمان ابن يسار كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوقفون في الإيلاء وقال سهيل بن أبي صالح سألت اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكلهم يقول ليس عليه شئ حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق وبه قال سعيد بن المسيب وعروة ومجاهد وطاوس ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وقال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء ومسروق والحسن وقبيصة والنخعي(8/535)
والاوزاعي وابن أبي ليلى واصحاب الرأي: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
وروي ذلك أيضاً عن علي وعثمان وزيد وابن عمر وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن ومكحول والزهري تطليقة رجعية.
ويحكى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ (فان فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم) ولأن هذه مدة ضربت لاستدعاء الفعل منه فكان ذلك في المدة كمدة العنة ولنا قول الله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب ثم قال (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع) ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه وقوله سميع عليم يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلاماً ولأنها مدة ضربت له تأجيلا فلم يستحق المطالبة فيها كسائر الآجال ولأن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع فلم يتقدمها وقوع كمدة النعة ومدة العنة حجة لنا فإن الطلاق لا يقع بمضيها ولأن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها ويعرف عجزه عن الوطئ بتركه في مدتها وهذه ضربت تأخيراً لها وتأجيلاً فلا تستحق المطالبة إلا بمضي الأجل كالدين(8/536)
(فصل) وابتداء المدة من حين اليمين ولا تفتقر إلى ضرب مدة لأنها ثبتت بالنص والإجماع فلا تفتقر إلى ضرب كمدة العدة ولا يطالب بالوطئ فيها لما ذكرنا * (مسألة) * (فإن كان بالرجل عذر يمنع الوطئ احتسبت عليه بمدة وإن كان ذلك نهاية لم يحتسب عليه وإن طرأ بها استؤنفت المدة عند زواله) يعني إذا انقضت المدة وكان بالرجل عذر يمنع الوطئ كحبسه واحرامه حسبت عليه المدة من حين إيلائه لأن المانع من جهته وقد وجد التمكين الذي عليها ولذلك لو أمكنته من نفسها وكان ممتنعاً لعذر وجبت لها النفقة وإن طرأ شي من هذه الأعذار بعد الإيلاء أو جن لم تنقطع المدة للمعنى الذي ذكرناه وإن كان المانع من جهتها كصغرها ومرضها وحبسها وصيامها واعتكافها المفروضين واحرامها وغيبتها فإن وجد منها حال الإيلاء لم تضرب له المدة حتى يزول لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها والمنع ههنا من قبلها وإن طرأ بها شئ من هذه الأسباب استؤنفت المدة ولم تبن على ما مضى لأن قوله سبحانه (تربص أربعة أشهر) يقتضي متوالية فإذا قطعتها وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة
* (مسألة) * (إلا الحيض فإنه يحتسب عليه بمدته وفي النفاس وجهان) قد ذكرنا أن المانع إذا كان من جهتها لا يحتسب عليه إلا الحيض فإنه يحتسب عليه ولا يمنع ضرب المدة إذا كان موجوداً وقت الإيلاء لأنه لو منع لم يمكن ضرب المدة لأن الحيض في الغالب لا يخلو منه شهر فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء وإن طرأ الحيض لم تقع المدة لما ذكرنا والنفاس مثل الحيض(8/537)
في أحد الوجهين لأن أحكامه أحكام الحيض (والثاني) هو كسائر الأعذار التي من جهتها لأنه نادر غير معتاد فأشبه سائر الأعذار فأما إن جنت وهربت من يده انقطعت المدة وإن بقيت في يده وأمكنه وطؤها احتسب عليه بها فإن قيل فهذه الأسباب منها ما لا صنع لها فيه فلا ينبغي أن يقطع المدة كالحيض قلنا إذا كان المنع لمعنى فيها فلا فرق بين كونه بفعلها أو بغير فعلها كما إن البائع إذا تعذر عليه تسليم المعقود عليه لم تتوجه له المطالبة بعوضه سواء كان لعذر أو لغير عذر وإن آلى في الردة لم تضرب له المدة إلا من حين رجوح المرتد منهما إلى الإسلام فإن طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث وحرم الوطئ فإن عاد إلى الإسلام استؤنفت المدة سواء كانت الردة منهما أو من أحدهما وكذلك إن أسلم أحد الزوجين الكافرين أو خالعها ثم تزوجها * (مسألة) * (وإن طلقها في أثناء المدة انقطعت) لأنها صارت ممنوعة بغير اليمين قانقطعت المدة كما لو كان الطلاق بائنا سواء بانت بفسخ أو طلاق ثلاث أو بخلع أو بانقضاء عدتها من الطلاق الرجعي لأنها صارت أجنبية منه ولم يبق شئ من أحكام نكاحها فإن عاد فتزوجها عاد حكم الايلاء من حين تزوجها وكذلك إن كان الطلاق رجعياً فراجعها استؤنفت المدة كما لو كان الطلاق بلائنا فتزوجها فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون لم يثبت حكم الإيلاء لأن مدة التربص أربعة أشهر وإن كان أكثر من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر ثم وقف لها فإما ان يفئ أو يطلق فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة إن كان الطلاق أقل من ثلاث ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم نكحها عاد الإيلاء وإن استوفي عدد الطلاق لم يعد الإيلاء(8/538)
لأن حكم النكاح الأول زال بالكلية ولهذا ترجع إليه في طلاق ثلاث فصار إيلاؤه في النكاح الأول كإيلائه من أجنبية وقال أصحاب الشافعي يحصل من أقواله ثلاثة أقاويل قولان كالمذهبين وقول ثالث لا يعود حكم الإيلاء بحال وهو قول ابن المنذر لأنها صارت بحال لو آلى منها لم يصح إيلاؤه فبطل حكم الايلاء منهما كالمطلقة ثلاثاً ولنا أنه ممتنع من وطئ امرأته بيمين في حال نكاحها فثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلق وفارق الإيلاء من الأجنبية فإنه لا يقصد باليمين عليها الاضرار بها بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن آلى من امرأته الأمة ثم اشتراها ثم اعتقها وتزوجها عاد الإيلاء ولو كان المولي عبداً فاشترته امرأته ثم اعتقته وتزوجته عاد الإيلاء ولو بانت الزوجة بردة أو اسلام من أحدهما أؤ غيره ثم تزوجها تزويجاً جديداً عاد الإيلاء وتستأنف المدة في جميع ذلك سواء عادت إليه بعد زوج ثان أو قبله لأن اليمين كانت منه في حال الزوجية فبقي حكمها ما وجدت الزوجية وهكذا لو قال لزوجته إن دخلت الدار والله لا جامعتك ثم طلقها ثم نكحت غيره ثم تزوجها عاد حكم الإيلاء لأن الصفة المعقودة في حال الزوجية لا تنحل بزوال الزوجية فإن دخلت الدار في حال البينونة ثم عاد فتزوجها لم يثبت حكم الإيلاء في حقه لأن الصفة وجدت في حال كونها أجنبية ولا ينعقد الايلاء بالحف على الأجنبية بخلاف ما إذا دخلت وهي امرأته * (مسألة) * (وإن انقضت المدة وبها عذر يمنع الوطئ لم تملك طلب الفيئة) لان الوطئ ممتنع من جهتها فلم يكن لها مطالبته بما تمنعه منه ولأن المطالبة مع الاستحقاق وهي(8/539)
لا تستحق الوطئ في هذه الأحوال وليس لها المطالبة بالطلاق لأنه إنما يستحق عند امتناعه ولم يجب عليه شئ ولكن تتأخر المطالبة إلى حال زوال العذر وإن لم يكن العذر قاطعاً للمدة كالحيض أو كان العذر حدث بعد انقضاء المدة * (مسألة) * (وإن كان العذر به وهو مما يعجز به عن الوطئ من مرض أو حبس بغير حق أو غيره لزمه ان يفئ بلسانه)
فيقول متى قدرت جامعتك أو نحو هذا وممن قال يفئ بلسانه إذا كان ذا عذر ابن مسعود وجابر بن زيد والنخعي والحسن والزهري والاوزاعي وعكرمة وأبو عبيد وأصحاب الرأي وقال سعيد بن جبير لا يكون الفيئ الا الجماع في حال العذر وغيره وقال أبو ثور إذا لم يقدر لم يوقف حتى يصح أو يصل إن كان غائباً ولا تلزمه الفيئة بلسانه لان الضرر ترك الوطئ ولا يزول بالقول وقال بعض الشافعية يحتاج أن يقول قد ندمت على ما فعلت وإن قدرت وطئت ولنا ان القصد بالفيئة ترك ما قصد بنفس الاضرار وقد ترك قصد الاضرار بما أتى به من الاعتذار والقول مع العذر يقوم مقام فعل القادر بدليل إن إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها يقوم مقام طلبها عند الحضور في إثباتها ولا يحتاج أن يقول ندمت لأن الغرض أن يظهر رجوعه من المقام على اليمين وقد حصل بظهور عزمه عليه وحكى أبو الخطاب عن القاضي أن فيئة المعذور أن يقول فئت إليك وهو قول الثوري وأبي عبيد وأصحاب الرأي والذي ذكر القاضي في المجرد مثل ما ذكر الخرقي وهو أحسن لأن وعده بالفعل عند القدرة عليه دليل على ترك قصد الاضرار وفيه نوع من الاعتذار وإخبار(8/540)
بإزالته الضرر عند إمكانه ولا يحصل بقوله فئت إليك شئ من هذا فأما العاجز لجب أو شلل ففيئته أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بايلائه والإحرام كالمرض في ظاهر قول الخرقي وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور والظهار ومتى قدر على الفيئة وهي الجماع طولب به لأنه تأخر للعذر فإذا زال العذر طولب به كالدين الحال فان لم يفعل أمر بالطلاق وهذا قول كل من يقول يوقف المولي لأن الله تعالى قال (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإذا امتنع من أداء الواجب عليه فقد امتنع من الإمساك بالمعروف فيؤمر بالتسريح بالإحسان فإن كان قد فاء بلسانه في حال العذر ثم قدر على الوطئ أمر به فإن فعل وإلا أمر بالطلاق وهذا قول الشافعي وقال أبو بكر إذا فاء بلسانه لم يطالب بالفيئة مرة أخرى وخرج من الإيلاء وهو قول الحسن وعكرمة والاوزاعي لأنه فاء مرة فخرج من الإيلاء ولم تلزم فيئة ثانية كما لو فاء بالوطئ وقال أبو حنيفة تستأنف له مدة الإيلاء لأنه وفاها حقها بما أمكنه من الفيئة فلا يطالب إلا بعد استئناف مدة الإيلاء كما لو طلقها ولنا أنه أخر حقها لعجزه عنه فإذا قدر عليه لزمه أن يوفيها إياه كالدين على المعسر إذا قدر
عليه وما ذكره فليس بحقها ولا يزال الضرر عنها وإنما وعدها بالوفاء فلزمها الصبر عليه وانظاره كالغريم المعسر.(8/541)
(فصل) وليس على من فاء بلسانه كفارة ولا حنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإنما وعد بفعله فهو كمن عليه دين حلف أن لا يوفيه ثم أعسر به فقال متى قدرت وفيته * (مسألة) * (وإن كان مظاهراً فقال أمهلوني حتى أطلب رقبة أعتقها عن ظهاري أمهل ثلاثة أيام ذكر شيخنا أن الظهار كالمرض في قياس قول الخرقي.
وكذلك الاعتكاف المنذور، وقد ذكر أصحابنا أن المظاهر لا يمهل ويؤمر بالطلاق فيخرج من هذا أن كل عذر من فعله يمنع الوطئ لا يمهل من أجله وهو مذهب الشافعي لأن الامتناع بسبب منه فلا يسقط حكماً واجباً فعلى هذا لا يؤمر بالوطئ لانه محرم عليه ولكن يؤمر بالطلاق ووجه القول الأول أنه عاجز من الوطئ بأمر لا يمكنه الخروج منه فأشبه المريض.
فأما المظاهر فيقال له اما ان تكفر وتفئ وأما أن تطلق فإن قال أمهلوني حتى أطلب رقبة أو أطعم فان علم أنه قادر على التكفير في الحال وإنما يقصد المدافعة والتأخير لم يمهل لأن الحق حال عليه وإنما يمهل للحاجة وإن لم يعلم أمهل ثلاثة أيام فإنها قريبة ولا يزاد على ذلك وإن كان فرضه الصيام فطلب الإمهال ليصوم شهرين متتابعين لم يمهل لأنه كثير ويتخرج أن يفئ بلسانه فيئة المعذور ويمهل حتى يصوم كقولنا في المحرم فإن وطئها فقد عصى وانحل إيلاؤه ولها منعه لأنه وطئ محرم عليهما، وقال القاضي: يلزمها التمكين، وإن امتنعت سقط حقها في الوطئ وقد بذله لها ومتى وطئها فقد وفاها حقها والتحريم عليه دونها.
ولنا انه وطئ حرام فلا يلزم التمكين منه كالوطئ في الحيض والنفاس وهذا ينقض دليله ولا نسلم أن التحريم عليه دونها فان الوطئ متى حرم علي احدهما حرم على الآخر لكونه فعلاً واحداً(8/542)
ولو جاز اختصاص أحدهما بالتحريم لاختصت المرأة بتحريم الوطئ في الحيض والنفاس واحرامها
وصيامها لاختصاصها بسببه (فصل) وإن انقضت المدة وهو محبوس بحق يمكنه أداؤه طولب بالفيئة لأنه قادر عليها بأداء ما عليه فان لم يفعل أمر بالطلاق وإن كان عاجزاً عن أدائه أو حبس ظلما أمر بفيئة المعذور وإن انقضت وهو غائب والطريق آمن فلها أو توكل من يطالبه بالمسير إليها أو حملها إليه فان لم يفعل أخذ بالطلاق وإن كان الطريق مخوفا أوله عذر يمنعه فاء فيئة المعذور (فصل) فإن كان مغلوباً على عقله بجنون أو إغماء لم يطالب لأنه لا يصلح للخطاب ولا يصح منه الجواب وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر ثم يطالب حينئذ * (مسألة) * وإن قال أمهلوني حتى أقضي صلاتي أو أتغدى فإني جائع أو حتى ينهضم الطعام أو أنام فإني ناعس أمهل بقدر ذلك) لأنه عذر ولا يمهل أكثر من قدر الحاجة كالدين الحال وكذلك إن قال أمهلوني حتى أفطر من صومي أمهل لذلك وإن قال أمهلوني حتى أرجع إلى بيتي أمهل لأن العادة فعل ذلك في بيته (فصل) فإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة فليس لهما المطالبة لأن قولهما غير معتبر وليس لوليهما المطالبة لأن هذا طريقه الشهوة فلا يقوم غيرهما مقامهما فيه فإن كانتا ممن لا يمكن وطؤهما لم يحتسب عليه بالمدة لأن المنع من جهتهما وإن كان وطؤهما ممكناً فأفاقت المجنونة أو بلغت الصغيرة قبل انقضاء المدة تمت المدة ثم لهما المطالبة وإن كان ذلك بعد انقضاء المدة فلهما المطالبة يومئذ لأن الحق لهما(8/543)
ثابت وإنما تأخر لعدم إمكان المطالبة، وقال الشافعي لا تضرب المدة في الصغيرة حتى تبلغ وقال أبو حنيفة تضرب المدة سواء أمكن الوطئ أو لم يمكن فإن لم يمكن الوطئ فاء بلسانه وإلا بانت بانقضاء المدة وكذلك الحكم عنده في الناشز والرتقاء والقرناء والتي غابت في المدة لأن هذا إيلاء صحيح فوجب أن تتعقبه المدة كالتي يمكنه جماعها ولنا أن حقها من الوطئ يسقط بتعذر جماعها فوجب أن تسقط المدة المضروبة له كما يسقط أجل الدين بسقوطه، وأما التي أمكنه جماعها فتضرب له المدة في حقها لأنه إيلاء صحيح ممن يمكنه جماعها
فتضرب له المدة كالبالغة ومتى قصد الاضرار بهما بترك الوطئ أثم ويستحب أن يقال له اتق الله فإما أن تفئ وأما أن تطلق فإن الله تعالى قال (وعاشروهن بالمعروف) * (مسألة) * فإن لم يبق له عذر طلبت الفيئة وهي الجماع وليس في هذا اختلاف قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الفئ الجماع كذلك قال ابن عباس، وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال عطاء والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والثوري والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي إذا لم يكن عذر وأصل الفئ الرجوع إلى فعل ما تركه.
* (مسألة) * (فإذا جامع انحلت يمينه وعليه كفارتها) في قول أكثر أهل العلم منهم زيد وابن عباس وبه قال ابن سيرين والثوري والنخعي وقتادة ومالك وأهل المدينة وأبو عبيد وأصحاب الرأي وابن(8/544)
المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر لا كفارة عليه وهو قول الحسن وقال النخعي كانوا يقولون ذلك لأن الله تعالى قال (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) قال قتادة هذا خالف الناس يعني قول الحسن ولنا قول الله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين - إلى قوله - ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وقال سبحانه (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمينه فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك " متفق عليه ولأنه حالف حانث في يمينه فقبلت منه الكفارة كما لو حلف على ترك فريضة ثم فعلها، والمغفرة لا تنافي الكفارة فإن الله تعالى قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد كان يقول " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " متفق عليه * (مسالة) * (وأدنى ما يكفي من ذلك تغييب الحشفة في الفرج) لأن أحكام الوطئ تتعلق به فإن وطئ في الدبر أو دون الفرج لم تحصل الفيئة به لأنه ليس بمحلوف عليه ولا يزول الضرر بفعله (فصل) فإن وطئها ناسياً ليمينه فهل يحنث؟ على روايتين فإن قلنا يحنث أنحل إيلاؤه وإن قلنا لا يحنث فهل ينحل إيلاؤه؟ على وجهين قياساً على المجنون، وكذلك يخرج فيما إذا آلى من زوجته ثم وجدها
في فراشه فظنها الأخرى فوطئها لأنه جاهل بها والجاهل كالناسي في الحنث وكذلك إن ظنها أجنبية فبانت زوجته وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه، ولأن القلم مرفوع عنه وهل يخرج من حكم الإيلاء؟ يحتمل وجهين (احدهما) يخرج لأن المرأة وصلت إلى حقها فأشبه ما لو وطئ (الثاني)(8/545)
لا يخرج من حكم الإيلاء لأنه ما وفاها حقها وهو باق على الامتناع من الوطئ بحكم اليمين فكان موليا كما لو لم تفعل به ذلك والحكم فيما إذا وطئ وهو نائم كذلك لأنه لا يحنث به * (مسألة) * (وإن وطئها في الفرج وطأ محرماً مثل أن يطأ في الحيض أو النفاس أو الإحرام أو صيام فرض من أحدهما أو مظاهراً فقد فاء إليها) لأن يمينه انحلت فزال حكمها وزال عنها الضرر وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر قياس المذهب أن لا يخرج من الإيلاء لانه وطئ لا يؤمر به في الفيئة فلم يخرج به من الفيئة كالوطئ في الدبر، والذي ذكره لا يصح لأن يمينه انحلت ولم يبق ممتنعا من الوطئ بحكم اليمين فلم يبق الايلاء كما لو كفر يمينه أو كما لو وطئها مريضة، وقد نص أحمد فيمن حلف ثم كفر يمينه أنه لا يبقى مولياً لعدم حكم اليمين مع أنه ما وفاها حقها فلأن يزول بحنثه فيها أولى، وقد ذكر القاضي في المحرم والمظاهر أنهما إذا وطئا فقد وفياها حقها، وفارق الوطئ في الدبر فإنه لا يحنث به وليس بمحل للوطئ بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن كان الإيلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع بنفس الوطئ لأنه معلق بصفة وقد وجدت وان كان على نذر عتق أو صوم أو صلاة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات فهو مخير بين الوفاء به وبين التكفير لانه نذر لجاج أو غضب وهذا حكمه، فإن علق طلاقها الثلاث بوطئها لم يؤمر بالفيئة وأمر بالطلاق لأن الوطئ غير ممكن لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة فيصير مستمتعاً بأجنبية وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأكثرهم قال تجوز الفيئة لأن النزع ترك للوطئ وترك الوطئ ليس بوطئ وقد ذكر القاضي أن كلام أحمد يقتضي روايتين كهذين الوجهين، قال شيخنا واللائق بمذهب أحمد تحريمه لوجوه ثلاثة: (أحدها) أن آخر الوطئ يحصل في أجنبية كما ذكرناه فإن النزع يتلذذ به كما يلتذ بالايجلاج فيكون في(8/546)
حكم الوطئ ولذلك قلنا فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع أنه يفطر، والتحريم ههنا أولى لأن الفطر بالوطئ ويمكن منع كون النزع وطأ والمحرم ههنا الاستمتاع والنزع استمتاع فكان محرماً ولأن لمسها على وجه التلذذ محرم فمس الفرج بالفرج أولى بالتحريم، فإن قيل فهذا إنما يحصل ضرورة ترك الوطئ المحرم قلنا فإذا لم يمكن الوطئ إلا بفعل محرم حرم ضرورة ترك الحرام كما لو اختلط لحم الخنزير بلحم مباح لا يمكنه أكله إلا بأكل لحم الخنزير حرم، ولو اشتبهت ميته بمذكاة أو امرأته بأجنبية حرم الكل (والوجه الثاني) أنه بالوطئ يحصل الطلاق بعد الإصابة وهو طلاق بدعة فكما يحرم إيقاعه بلسانه يحرم بتحقيق سببه (الثالث) أنه يقع به طلاق البدعة من وجه آخر وهو جمع الثلاث فإن وطئ فعليه النزع حين يولج الحشفة ولا يزيد على ذلك ولا يلبث ولا يتحرك عند النزع لأنها أجنبية فان فعل ذلك فلا حد ولا مهر لأنه تارك للوطئ وإن لبث أو تمم الإيلاج فلا حد عليه لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ في زوجته، وفي المهر وجهان (أحدهما) يلزمه لأنه حصل منه وطئ محرم في محل غير مملوك فأوجب المهر كما لو أولج بعد النزع (والثاني) لا يجب لأنه تابع الإيلاج في محل مملوك فكان تابعاً له في سقوط المهر، وإن نزع ثم أولج وكانا جاهلين بالتحريم فلا حد عليهما وعليه المهر لها ويلحقه النسب، وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد لأنه إيلاج في أجنبية بغير شبهة فأشبه ما لو طلقها ثلاثا ثم وطئها ولا مهر لها لأنها مطاوعة على الزنا ولا يلحقه النسب لان من زنا لا شبهة فيه، وذكر القاضي وجها أنه لا حد عليهما لان هذا يخفى على كثير من الناس وهو وجه لأصحاب الشافعي، والصحيح الأول لأن الكلام في العالمين وليس هو في مظنة الخفاء لأن أكثر(8/547)
المسلمين يعلمون أن الطلاق الثلاث محرم للمرأة، وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً نظرت فإن كان هو العالم فلها المهر وعليه الحد ولا يلحقه النسب لأنه زان محدود وإن كانت هي العالمة دونه فعليها الحد وحدها ولا مهر لها ويلحقه النسب لأن وطأه وطئ شبهة (فصل) فإن قال إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي فقال أحمد لا يقربها حتى يكفر وهذا نص في تحريمها قبل التكفير وهو دليل على تحريم الوطئ في المسألة التي قبلها بطريق التنبيه لأن المطلقة ثلاثاً
أعظم تحريماً من المظاهر منها فإذا وطئ ههنا فقد صار مظاهراً من زوجته وزال حكم الإيلاء ويحتمل أن أحمد أراد إذا وطئها مرة فلا يطؤها اخرى حتى يكفر لكونه صار بالوطئ مظاهراً إذ لا يصح تقديم الكفارة على الظهار لأنه سببها ولا يجوز تقديم الحكم على سببه، ولو كفر قبل الظهار لم يجزئه وقد روى إسحاق قال قلت لأحمد فيمن قال لزوجته أنت علي كظهر أمي ان قربتك إلى سنة فقال إن جاءت تطلب فليس له أن يعضلها بعد مضي الأربعة الأشهر فيقال له اما ان تفئ وأما أن تطلق فإن وطئها فقد وجب عليه كفارة وإن أبي وأرادت مفارقته طلقها الحاكم عليه فينبغي أن تحمل الرواية الأولى على الوطئ بعد الوطئ الذي صار به مظاهرا لما ذكرناه فتكون الروايتان متفقتين والله أعلم (فصل) وإن انقضت المدة وادعى أنه عاجز عن الوطئ فإن كان قد وطئها مرة لم تسمع دعواه الفيئة كما لا تسمع دعواها عليه ويؤخذ بالفيئة أو بالطلاق كغيره وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة فقال القاضي تسمع دعواه ويقبل قوله لأن العنة من العيوب التي لا يقف عليها غيره وهذا ظاهر نص(8/548)
الشافعي ولها أن تسأل الحاكم فيضرب له مدة العنة بعد ان يفئ فيئة المعذور، وفيه وجه آخر أنه لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقاً توجه عليه الطلب به والأصل سلامته منه، وإن اعترفت أنه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب مدة العنة لاعترافها بعدم عنته والقول قوله في عدم الإصابة * (مسألة) * (وإن لم يفئ وأعفته المرأة سقط حقها ويحتمل أن لا يسقط ولها المطالبة بعد) إذا عفت المرأة عن المطالبة بالفيئة بعد وجوبها فقال بعض أصحابنا يسقط حقها وليس لها المطالبة قال القاضي هذا قياس المذهب لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ فسقط حقها منه كامرأة العنين إذا رضيت بعنته ويحتمل أن لا يسقط حقها ولها المطالبة متى شاءت وهذا مذهب الشافعي لأنها ثبتت لدفع الضرر بترك ما يتجدد مع الأحوال فكان لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ ثم طالبت، وفارق الفسخ للعنة فإنه فسخ لعيبه فمتى رضيت بالعيب سقط حقها كما لو عفا المشتري عن عيب المبيع، فأما إن سكتت عن المطالبة ثم طالبت بعد فلها ذلك وجها واحدا لانها حقها يثبت على التراخي فلم يسقط
بتأخر المطالبة كاستحقاق النفقة * (مسألة) * (وإن لم تعفه أمر بالطلاق إن طلبت ذلك) لقول الله سبحانه (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) وقال تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإذا امتنع من أداء الواحب فقد امتنع من الإمساك بالمعروف فيؤمر بالتسريح بإحسان(8/549)
* (مسألة) * (فإن طلق واحدة فله رجعتها وعنه أنها تكون بائنة) وجملة ذلك أن الطلاق الواجب على المولى رجعي سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه وبهذا قال الشافعي قال الأثرم قلت لأبي عبد الله في الولي فإن طلقها قال تكون واحدة وهو أحق بها وعن أحمد رواية أخرى أن فرقة الحاكم تكون بائناً ذكر أبو بكر الروايتين جميعاً وقال القاضي المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم أنها تكون بائناً فإن في رواية الأثرم وقد سئل إذا طلق عليه السلطان أتكون واحدة؟ فقال إذا طلق فهي واحدة وهو أحق بها، فأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة، وقال أبو ثور طلاق المولي بائن سواء طلق هو أو طلق عليه الحاكم لأنها فرقة لدفع الضرر فكانت بائناً كفرقة العنة ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر، وقال أبو حنيفة يقع الطلاق بانقضاء المدة بائناً، ووجه الأول أنه طلاق صادق مدخولاً بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعياً كالطلاق في غير الايلاء، ويفارق فرقة العنة لأنها فسخ لعيب وهذه طلقة ولأنه لو أبيح له إرتجاعها لم يندفع عنها الضرر وهذه يندفع عنها الضرر فهذه إذا ارتجعها ضربت له مدة أخرى ولأن العنين قد يئس من وطئه فلا فائدة في رجعته وهذا غير عاجز ورجعته دليل على رغبته فيها وإقلاعه عن الاضرار بها فافترقا * (مسألة) * (فإن لم يطلق حبس وضيق عليه حتى يطلق في إحدى الروايتين والأخرى يطلق الحاكم عليه) إذا امتنع المولي من الفيئة بعد التربص أو امتنع المعذور من الفيئة بلسانه أو امتنع من الوطئ بعد زوال عذره أمر بالطلاق فإن طلق وقع طلاقه الذي أوقعه واحدة كانت أو أكثر وليس للحاكم إجباره(8/550)
على أكثر من طلقة لأنه يحصل الوفاء لحقها بها فإنها تفضي إلى البينونة والتخلص من ضرره، وإن امتنع من الطلاق طلق الحاكم عليه وبه قال مالك، وعن أحمد رواية أخرى ليس للحاكم الطلاق عليه لأن ما خير الزوج فيه بين أمرين لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أو أختان، فعلى هذا يحبسه أو يضيق عليه حتى يفئ أو يطلق وللشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأخرى أن ما دخلته النيابة وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين وفارق الاختيار فإنه ما تعين مستحقه وهذا أصح في المذهب وهو اختيار الخرقي وليس للحاكم أن يأمره بالطلاق ولا يطلق عليه إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه حق لها وإنما الحاكم يستوفي لها الحق فلا يكون الا عند طلبها * (مسألة) * (فإن طلق واحدة فهو كطلاق المولي) يعني إذا طلق الحاكم واحدة فهل هي رجعية أو بائنة؟ على روايتين لأنه قام مقامه وناب عنه فكان حكمه حكم المولي وإن طلق الحاكم ثلاثاً أو فسخ جاز لأن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق قام الحاكم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه المولي وإليه الخيرة فيه وإن شاء طلق واحدة وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثاً وإن شاء فسخ قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي ليس له إلا واحدة لأن إيفاء الحق يحصل بها فلم يملك زيادة عليها كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع ولنا ان الحاكم قائم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه كما لو وكله في ذلك وليس ذلك زيادة على حقها فإن حقها الفرقة غير أنها تتنوع وقد يرى الحاكم المصلحة في تحريمها عليه ومنعه رجعتها لعلمه بسوء قصده وحصول المصلحة ببعده قال أبو عبد الله إذا قال فرقت بينكما فإنما هو فسخ وإذا قال طلقت واحد فهي واحدة وإذا قال طلقت ثلاثاً فهي ثلاث * (مسألة) * (وإن ادعى أن المدة ما انقضت وادعت مضيها فالقول قوله في أنها لم تمض مع يمينه) وإنما كان كذلك لأن الاختلاف في مضي المدة ينبني على الخلاف في وقت يمينه فإنهما لو اتفقا(8/551)
على وقت اليمين حسب من ذلك الوقت فعلم هل انقضت المدة أو لا وزال الخلاف، أما إذا اختلفا في
وقت اليمين فقال حلفت في غرة رمضان وقالت بل حلفت في غرة شعبان فالقول قوله لأنه يصدر من جهته وهو أعلم به فكان القول قوله فيه كما لو اختلفا في اصل الإيلاء، ولأن الأصل عدم الحلف في غرة شعبان فكان قوله في نفيه موافقاً للأصل ويكون ذلك مع يمينه في قول الخرقي وهو مذهب الشافعي وقال أبو بكر لا يمين عليه قال القاضي وهو أصح لأنه اختلاف في أحكام النكاح فلم تشرع فيه اليمين كما لو ادعى زوجية امرأة فانكرته، والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعي عليه ولأنه حق لآدمي يجوز بذله فيستحلف فيه كالديون * (مسألة) * (فإن ادعى أنه وطئها فأنكرته وكانت ثيباً فالقول قوله مع يمينه) اختاره الخرقي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل بقاء النكاح والمرأة تدعي رفعه وهو يدعي ما يوافق الأصل فكان القول قوله كما لو ادعى الوطئ في العنة ولأن هذا أمر خفي ولا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كقول المرأة في حيضها وتلزمه اليمين لأن ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين ونص أحمد في رواية الأثرم على أنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضى فيه بالنكول وهذا اختيار أبي بكر فأما إن كانت بكرا واختلفا في الإصابة وادعت أنها عذراء أريت النساء الثقات فإن شهدن بثيوبتها فالقول قوله وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها لأنه لو وطئها زالت بكارتها، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يمين ههنا لأنه قال في باب العنين فإن شهدن بما قالت أجل سنة ولم يذكر يمينه وهذا قول أبي بكر لأن البينة تشهد لها فلا تجب اليمين معها وقيل تجب عليها اليمين لاحتمال أن تكون العذرة عادت بعد زوالها وإن لم يشهد بها أحد فالقول قوله كما لو كانت ثيباً وهل يحلف؟ على وجهين مضى توجيههما(8/552)
(كتاب الظهار) الظهار مشتق من الظهر وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء لأن كل مركوب يسمى ظهراً لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك وهو محرم لقول الله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم قال الله تعالى (ما هن أمهاتهم - وقال سبحانه - وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن امهاتهم) والأصل في الظهار الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقوله تعالى (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم) والآية التي بعدها وأما السنة فروى أبو داود بإسناده عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت تظاهر مني أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم اشكوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول " اتق الله فإنه ابن عمك " فما برحت حتى نزل القرآن (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) فقال - يعتق رقبة - فقلت لا يجد فقال - يصوم شهرين متتابعين - فقلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال - فليطعم ستين مسكيناً - قلت ما عنده من شئ يتصدق قال " فإني سأعينه بعرق من تمر - فقلت يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر قال - قد أحسنت اذهبي فاطعمي عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك - قال الاصمي العرق بفتح العين والراء هو ماسف من خوص كالزنبيل الكبير وروى أيضاً باسناده عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي قال كنت أصيب من النساء(8/553)
ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتتايع حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شئ فلم ألبث أن نزوت عليها فلم أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرتبه الخبر فقال " أنت بذاك يا سلمة؟ " فقلت أنا بذاك يا رسول الله وأنا صابر لحكم الله فاحكم في ما أراد الله قال حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيري وضربت صفحة رقبتي قال " فصم شهرين متتابعين " قلت وهل أصبت إلا من الصيام؟ قال " فاطعم وسقا من تمر بين ستين مسكيناً " قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين مالنا طعام قال - فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك - قال - فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها " فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم * (مسألة) * (والظهار أن يشبه امرأته أو عضوا منها بظهر من تحرم عليه على التأبيد أو بها أو بعضو منها قيقول أنت علي كظهر أمي أو كيد أختي أو كوجه حماتي أو يقوم ظهرك أو يدك علي كظهر(8/554)
أمي أو كيد أختي أو خالتي من نسب أو رضاع فمتى شبه امرأته بظهر من تحرم عليه على التأبيد فيقول أنت علي كظهر أمي فهذا ظهار إجماعاً) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول أنت علي كظهر أمي وفي حديث خويلة امرأة أوس بن الصامت أنه قال لها أنت علي كظهر أمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة (الضرب الثاني) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته فهذا ظهار في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء وجابر بن زيد والشعبي والنخعي والزهري والثوري والاوزاعي ومالك واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو جديد قولي الشافعي وقال في القديم لا يكون الظهار إلا بأم وجدة لأنها أم أيضاً لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالام فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم وأما الآية فقد قال فيها (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) وهذا موجود في مسئلتنا فجرى مجراه وتعليق الحكم بالأم لا يمنع الحكم في غيرها إذا كانت مثلها.
(الثالث) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب كالأمهات المرضعات والأخوات(8/555)
من الرضاعة وحلائل الآباء والابناء وأمهات النساء والربائب اللاتي دخل بأمهن فهو ظهار أيضاً والخلاف فيها كالتي قبلها ووجه المذهبين ما تقدم ويزيد في الأمهات المرضعات في دخولها في عموم الأمهات وسائرهن في معناها فيثبت فيهن حكمها (فصل) وإن قال أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي كان ظهاراً بمنزلة علي لأن هذه الألفاظ في معناه وإن قال جملتك أو بدنك أو جسمك أو ذاتك أو ذلك علي كظهر أمي كان ظهاراً لأنه اشار إليها فهو كقوله أنت وإن قال أنت كظهر أمي كان ظهاراً لأنه أتى بما يقتضي تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه كما لو قال أنت طالق وقال بعض الشافعية ليس بظهار لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه
وليس بصحيح فإنها إذا كانت كظهر أمه فظهر أمه محرم عليه، وأما إذا شبه عضواً من امرأته بظهر أمه أو عضواً من اعضائها فهو مظاهر فلو قال فرجك أو ظهرك أو رأسك أو جلدك كظهر أمي أو بدنها أو رأسها أو يدها فهو مظاهر، وبهذا قال مالك وهو نص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انه ليس بمظاهر حتى يشبه جملة امرأته لأنه لو حلف بالله لا يمس عضواً منها لا يسري إلى غيره فكذلك المظاهرة ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص لأن تشبيهه بجملتها تشبيه بمحل الاستمتاع بما يتأكد تحريمه وفيه تحريم لجملتها فيكون آكد وقال أبو حنيفة إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفرج والفخذ ونحوهما فهو مظاهر وإن(8/556)
لم يحرم النظر إليه كالرأس والوجه لم يكن مظاهراً لأنه شبهها بعضو من أمه فكان مظاهراً كما لو شبهها بظهرها وفارق الزوجة فإنه لو شبهها بظهرها لم يكن مظاهراً والنظر إن لم يحرم فإن التلذذ يحرم وهو المستفاد بعقد النكاح (فصل) فإن قال كشعر أمي أو سنها أو ظفرها أو شبه شيئاً من ذلك من امرأته بأمه أو بعضو من أعظائها لم يكن مظاهراً لأنها ليست من اعضاء الأم الثابتة ولا يقع الطلاق بإضافته إليها فكذلك الظهار وكذلك إن قال بروح أمي فان الروح لان توصف بالتحريم ولا هي محل للاستمتاع وكذلك الريق والعرق والدم فإن قال وجهي من وجهك حرام فليس بظهار نص عليه أحمد وقال هذا شئ يقوله الناس ليس شيئاً وذلك لأن هذا يستعمل كثيراً في غير الظهار ولا يؤدي معنى الظهار فلم يكن ظهاراً كما لو قال لا أكلمك.
(فصل) فإن قال أنا مظاهر أو علي الظهار أو علي الحرام أو الحرام لي لازم ولا نية له لم يلزمه شئ لأنه ليس بصريح في الظهار وإن نوى به الظهار أو أقترنت به قرينة تدل على إرادة الظهار مثل أن يعلقه على شرط مثل أن يقول علي الحرام إن كلمتك احتمل أن يكون ظهاراً لأنه أحد نوعي التحريم للزوجة فصح بالكناية مع البينة كالطلاق ويحتمل أن لا يثبت الظهار به لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه، وهذا ليس بصريح فيه ولأنه يمين موجبة للكفارة فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى.(8/557)
(فصل) يكره أن يسمي الرجل امرأته بمن تحرم عليه كأمه وأخته وبنته لما روى أبو داود بإسناده عن أبي تميم الهجيمي أن رجلاً قال لامرأته يا أخته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أختك هي؟ " فكره ذلك ونهى عنه ولانه لفظ يشبه لفظ الظهار ولا تحرم بهذا ولا يثبت حكم الظهار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له حرمت عليك ولأن هذا اللفظ ليس بصريح في الظهار ولا نواه به فلا يثبت التحريم وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن إبراهيم عليه السلام أرسل إليه جبار فسأله عنها يعني عن سارة فقال إنها أختي ولم يعد ذلك ظهاراً * (مسألة) * (وإن قال أنت علي كأمي كان مظاهرا فإن قال أردت كأمي في الكرامة أو نحوه دين وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين) إذا قال أنت علي كأمي أو مثل أمي ونوى الظهار فهو ظهار في قول عامة العلماء منهم أبو حنيفة وصاحباه والشافعي واسحاق وإن أطلق فقال أبو بكر هو صريح في الظهار وهو قول مالك ومحمد ابن الحسن.
وقال ابن أبي موسى فيه روايتان أظهرهما إنه ليس بظهار حتى ينويه وهذا قول أبي حنيفة والشافعي لأن هذا يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه بغير نية(8/558)
ككنايات الطلاق.
(والثانية) هو ظهار لأنه شبه امرأته بجملة أمه فكان مشبهاً لها بظهرها فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفرداً قال شيخنا والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف فيقول إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار لأنه إذا أخرجه مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شئ أو الحث عليه وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه ولأن كونها مثل أمه في صفتها وكرامتها لا يتعلق بشرط فيدل على أنه إنما أراد الظهار ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق بأدائها ويوجب اجتنابها وهو الظهار وإن عدم ذلك فليس بظهار لأنه محتمل لغيره احتمالاً كثيراً فلا يتعين الظهار فيه
بغير دليل ونحوه قول أبي ثور فأما إن قال أردت كأمي في الكرامة ونحو ذلك فإنه يدين لأن ما قاله محتمل ويقبل في الحكم في أصح الروايتين.
اختاره شيخنا لأنه لما احتمل الظهار وغيره ترجح عدم الظهار بدعوى الإرادة، (والثانية) لا يقبل لأنه لما قال أنت علي كأمي اقتضى أن يكون عليه فيها تحريم فأشبه ما لو قال أنت علي كظهر أمي(8/559)
* (مسألة) * (وإن قال أنت كأمي أو مثل أمي ولم يقل علي ولا عندي فإن نوى به الظهار كان ظهاراً لأنه يحتمله) قال شيخنا وحكمه كما إذا قال أنت علي كأمي أو قال أنت أمي أو امرأتي أمي إن نواه أو كان مع الدليل الصارف له إلى الظهار فهو ظهار وإلا فلا.
وذكر أبو الخطاب فيها روايتين مثل قوله: أنت علي كأمي والأولى أن هذا ليس بظهار إذا أطلق لأنه ليس صريح في الظهار لكونه غير اللفظ المستعمل فيه فلا يكون ظهاراً بغير نية كما لو قال انت كبيرة مثل أمي ولأنه يحتمل التشبيه في التحريم وغيره فلا يجوز أن يتعين التحريم بغير نية فأما إن قال أمي امرأتي او مثل امرأتي لم يكن ظهاراً لأنه تشبيه لأمه وصف لها وليس بوصف لامرأته * (مسألة) * (وإن قال أنت علي كظهر أبي ففيه روايتان) (إحداهما) هو ظهار لأنه شبهها بظهر من يحرم عليه على التأبيد أشبه الأم وكذلك إن شبهها بظهر غيره من الرجال أو قال أنت علي كظهر البهيمة أو أنت علي كالميته والدم قال الميموني قلت لأحمد إن ظاهر من ظهر الرجل قال فظهر الرجل حرام يكون ظهاراً وبهذا قال ابن القاسم صاحب مالك فيما إذا قال أنت علي كظهر أبي وروي ذلك عن جابر بن زيد(8/560)
والرواية الثانية ليس بظهار وهو قول أكثر العلماء لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه ما لو قال أنت علي كمال زيد وهل فيه كفارة؟ على روايتين (أحدهما) فيه كفارة لأنه نوع تحريم أشبه ما لو حرم ماله (والثانية) ليس فيه شئ نقل ابن القاسم عن أحمد فيمن شبه امرأته بظهر الرجل لا يكون ظهاراً ولم
أر يلزمه فيه شئ وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه التشبيه بمال غيره وإن قال أنا عليك كظهر أمي أو حرام ونوى به الظهار فهل هو ظهار؟ على وجهين ذكره في المحرر * (مسألة) * (وإن قال أنت علي كظهر أجنبية أو أخت زوجتي أو عمتها أو خالتها فعلى روايتين) إذا شبه امرأته بظهر من تحرم عليه تحريماً مؤقتا كأخت امرأته أو عمتها أو الأجنبية فعن أحمد فيه روايتان (إحداهما) أنه ظهار اختاره الخرقي وهو قول أصحاب مالك (والثانية) ليس بظهار وهو مذهب الشافعي لانها غير محرمة على التأبيد فلا يكون التشبيه بها ظهاراً كالحيض والمحرمة من نسائه، ووجه الرواية الأولى أنه شبهها بمحرمة فأشبه ما لو شبهها بالأم ولأن مجرد قوله أنت علي حرام إذا نوى به الظهار ظهار، والتشبيه بالمحرمة تحريم فكان ظهارا، فأما الحائض فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج والمحرمة يحل النظر إليها ولمسها لغير شهوة وليس في وطئ واحدة منهما حد بخلاف مسئلتنا، واختار أبو بكر أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحارم من النساء قال فبهذا أقول * (مسألة) * (وإن قال أنت علي كظهر البهيمة لم يكن مظاهراً) لأنه ليس بمحل للاستمتاع وفيه وجه آخر أنه يكون مظاهراً كما لو شبهها بظهر أبيه(8/561)
* (مسألة) * (وإن قال أنت علي حرام فهو ظهار إلا أن ينوي طلاقاً أو يميناً فهل يكون ظهاراً أو ما نواه؟ على روايتين) إذا نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وإن نوى به الطلاق فقد ذكرناه في باب صريح الطلاق وكنايته، وإن أطلق ففيه روايتان (إحداهما) أنه ظهار ذكره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وحكاه ابراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي أنهم قالوا الحرام ظهار، وروى عن أحمد ما يدل على أن التحريم يمين وروي عن ابن عباس أنه قال التحريم يمين في كتاب الله عزوجل قال الله عزوجل (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟ - ثم قال - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذ لم ينو به الظهار فليس بظهار وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي للآية المذكورة ولأن التحريم يتنوع منه ما هو
بظهار وبطلاق وبحيض وإحرام وصيام فلا يكون التحريم صريحاً في واحد منها ولا ينصرف إليه بغير نية كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق، ووجه الأولى أنه تحريم أوقعه في امرأته فكان بإطلاقه ظهاراً كتشبيهها بظهر أمه، قولهم إن التحريم يتنوع قلنا إلا أن تلك الأنواع منتفية ولا يحصل بقوله منها إلا الطلاق وهذا أولى منه لأن الطلاق تبين به المرأة وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية فكان أدنى التحريمين فكان أولى، فأما إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض أو نحوه ونوى الظهار فهو ظهار وإن قصد أنها محرمة عليه بذلك فليس بظهار لأنه يحتمل الخبر عن حالها ويحتمل إنشاء التحريم فيها بالظهار فلا يتعين أحدهما بغير تعيين(8/562)
(فصل) فإن قال الحل علي حرام أو ما أحل الله علي حرام أو ما انقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر نص عليه أحمد في الصور الثلاث وذلك لانه لفظه يقتضي العموم فيتناول المرأة بعمومه وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها فهو آكد قال أحمد فيمن قال ما أحل الله علي حرام من أهل ومال: عليه كفارة الظهار هو يمين ويجزئه كفارة واحدة في ظاهر كلام أحمد هذا، واختار ابن عقيل أنه يلزمه كفارتان للظهار ولتحريم المال لأن التحريم يتناولهما وكل واحد منهما لو انفرد أوجب كفارة فكذلك إذا اجتمعا.
ولنا أنها يمين واحدة فلا توجب كفارتين كما لو تظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين وما ذكره منتقض بهذا وفي قول أحمد هو يمين إشارة الى التعليل بما ذكرناه لأن اليمين الواحدة لا توجب أكثر من كفارة واحدة، فإن نوى بقوله ما أحل الله علي حرام وغيره من لفظات العموم المال لم يلزمه إلا كفارة اليمين لأن اللفظ العام يجوز استعماله في الخاص، وعلى الرواية الأخرى التي تقول إن الحرام بإطلاقه ليس بظهار لا يكون ههنا مظاهراً إلا أن ينوي الظهار (فصل) وإن قال أنت علي كظهر أمي حرام فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره سواء نوى الطلاق أو لم ينوه وليس فيه اختلاف بحمد الله لأنه صرح بالظهار وبينه بقوله حرام وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي أو كأمي فكذلك وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، والقول الثاني إذا نوى الطلاق فهو طلاق وهو قول أبي يوسف ومحمد إلا أن أبا يوسف قال لا أقبل قوله في
نفي الظهار، ووجه قولهم أن قوله أنت علي حرام إذا نوى به الطلاق فهو طلاق، وزيادة قوله كظهر أمي بعد ذلك لا تنفي الطلاق كما لو قال قال أنت طالق كظهر أمي(8/563)
ولنا أنه أتى بصريح الظهار فلم يكن طلاقاً كالتي قبلها، وقولهم أن التحريم مع نية الطلاق طلاق لا نسلمه وإن سلمناه لكنه فسر لفظه ههنا بصريح الظهار بقوله فكان العمل بصريح القول أولى من العمل بالنية (فصل) وإن قال أنت طالق كظهر أمي طلقت وسقط قوله كظهر أمي لأنه أتى بصريح الطلاق اولاً وجعل قوله كظهر أمي صفة له فإن نوى بقوله كظهر أمي تأكيداً للطلاق لم يكن ظهاراً كما لو أطلق وإن نوى به الظهار وكان الطلاق بائناً فهو كالظهار من الأجنبية لأنه أتى به بعد بينونتها بالطلاق وإن كان رجعياً كان ظهارا صحيحاً ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه أتى بلفظ الظهار في زمن هي زوجة، وإن نوى بقوله أنت طالق الظهار لم يكن ظهاراً لأنه نوى الظهار بصريح الطلاق وإن قال أنت علي كظهر أمي طالق وقع الظهار والطلاق معاً سواء كان الطلاق بائناً أو رجعياً لأن الظهار سبق الطلاق.
(فصل) وإن قال أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار معاً كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهاراً وطلاقاً، والظهار أولى بهذا اللفظ فينصرف إليه، وقال بعض أصحاب الشافعي يقال له اختر أيهما شئت وقال بعضهم أن قال أردت الطلاق والظهار كان طلاقاً لأنه بدأ به وإن قال أردت الظهار والطلاق كان ظهاراً لأنه بدأ به فيكون ذلك اختياراً له ويلزمه ما بدأ به ولنا أنه أتى بلفظ الحرام ينوي به الظهار فكانت ظهاراً كما لو انفرد الظهار بنيته ولا يكون طلاقاً لأنه زاحمت نيته نية الظهار وتعذر الجمع والظهار أولى بهذه اللفظة لأن معناهما واحد وهو التحريم فيجب أن يغلب ما هو الأولى.
أما الطلاق فإن معناه الإطلاق وهو حل قيد النكاح وإنما التحريم حكم(8/564)
له في بعض أحواله وقد ينفك عنه فإن الرجعية مطلقة مباحة، وأما التخبير فلا يصح لأن هذه اللفظة
قد ثبت حكمها حين لفظ بها لكونه أهلاً والمحل قابلا ولهذا لو حكمنا بأنه طلاق لكانت عدتها من حين أوقع الطلاق وليس إليه رفع حكم ثبت في المحل باختياره وإبداله بإرادته، والقول الآخر مبني على أن له الاختيار وهو فاسد على ما ذكرنا ثم إن الاعتبار بجميع لفظه لا بما بدأ به ولذلك لو قال طلقت هذه أو هذه لم يلزمه طلاق الأولى * (فصل) * قال الشيخ رضي الله عنه (ويصح من كل زوج يصح طلاقه مسلما كان أو ذمياً) كل زوج صح طلاقه صح ظهاره وهو البالغ العاقل مسلما كان أو كافراً حراً أو عبدا قال أبو بكر وظهار السكران مبني على طلاقه قال القاضي وكذلك ظهار الصبي مبني على طلاقه، قال شيخنا والأقوى عندي أنه لا يصح من الصبي ظهار ولا إيلاء لأنها يمين موجبة للكفارة فلم تنعقد يمينه كاليمين بالله تعالى ولأن الكفارة وجبت لما فيه من قول المنكر والزور وذلك مرفوع عن الصبي لكون القلم مرفوعاً عنه فأما ظهار العبد فهو صحيح، وقيل لا يصح ظهاره لأن الله تعالى قال (فتحرير رقبة) والعبد لا يملك الرقاب.
ولنا عموم الآية ولأنه مكلف يصح طلاقه فصح ظهاره كالحر وأما إيجاب الرقبة فإنما هو على من يجدها ولا ينفي الظهار في حق من لم يجدها كالمعسر فرضه الصيام، ويصح ظهار الذمي وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة لا يصح لأن الكفارة لا تصح منه وهي الرافعة للتحريم فلا يصح منه التحريم ودليل أن الكفارة لا تصح منه أنها تفتقر إلى النية فلا تصح منه كسائر العبادات ولنا أن من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فأما ما ذكروه فيبطل بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم(8/565)
وكذلك الحد يقام عليه ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه فإنه يصح منه العتق وإنما لا يصح منه الصيام فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد، والنية إنما تعتبر لتعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الكافر كالنية في كنايات الطلاق ومن يخنق في الاحيان يصح ظهاره في إفاقته كما يصح طلاقه فيه (فصل) ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالطفل والزائل العقل بجنون أو إغماء أو نوم أو غيره
وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا ولا يصح ظهار المكره، وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو يوسف يصح ظهاره، والخلاف في ذلك مبني على الخلاف في صحة طلاقه وقد مضى ذكره.
* (مسألة) * (ويصح من كل زوجة كبيرة كانت أو صغيرة مسلمة أو ذمية ممكن وطؤها أو غير ممكن) وبه قال مالك والشافعي وقال أبو ثور لا يصح الظهار ممن لا يمكن وطؤها لأن الظهار لتحريم وطئها وهو ممتنع منه بغير اليمين.
ولنا عموم الآية ولأنها زوجة يصح طلاقها فصح الظهار منها كغيرها * (مسألة) * فإن ظاهر من أمته أو أم ولده لم يصح وعليه كفارة يمين ويحتمل أن تلزمه كفارة الظهار وممن روي عنه أنه لا يصح الظهار منهما أبن عمر وعبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي وربيعة والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن الحسن وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار وسليمان بن يسار والزهري وقتادة والحكم والثوري ومالك في الظهار من الأمة كفارة تامة لأنها مباحة(8/566)
له فصح الظهار منها كالزوجة وعن الحسن والاوزاعي إن كان يطؤها فهو ظهار وإلا فلا لأنه إذا لم يطأها فهو كتحريم ماله، وقال عطاء عليه نصف كفارة حرة لأن الأمة على النصف من الحرة في كثير من احكامها وهذا من أحكامها فيكون على النصف ولنا قوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم) فخصهن به ولأنه لفظ تعلق به تحريم الزوجة فلا تحرم به الأمة كالطلاق، ولأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنقل حكمه وبقي محله قال أحمد قال أبو قلابة وقتادة إن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية ويلزمه كفارة يمين لأنه تحريم لمباح من ماله فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله، قال نافع حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته فأمره الله أن يكفر يمينه وعن أحمد عليه كفارة ظهار لأنه أتى بالمنكر من القول والزور وكما لو قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي قال أبو بكر لا يتوجه هذا على مذهب لأنه لو كانت عليه كفارة ظهار كان ظهاراً ويحتمل أن لا يلزمه شئ قاله أبو الخطاب بناء على قوله في المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي لا يلزمها شئ فإن قال لأمته أنت علي حرام فعليه كفارة يمين لقول الله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
لك؟ - إلى قوله - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) نزلت في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لجاريته في قول بعضهم ويخرج على الرواية الأخرى أن يلزمه كفارة ظهار لأن التحريم ظهار والأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى.
* (مسألة) * (وإن قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي لم تكن مظاهرة) وجملة ذلك أن المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي أو قالت إن تزوجت فلاناً فهو علي(8/567)
كظهر أبي فليس ذلك بظهار قال القاضي لا تكون مظاهرة رواية واحدة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الزهري والاوزاعي هو ظهار روى ذلك عن الحسن والنخعي إلا أن النخعي قال إذا قالت ذلك بعدما تزوجت فليس بشئ، ولعلهم يحتجون بأنها أحد الزوجين ظاهر من الآخر فكان مظاهراً كالرجل ولنا قول الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم) فخصهم بذلك ولأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق، ولأن الحل في المرأة حق الرجل فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه.
إذا ثبت ذلك فاختلف عن أحمد في الكفارة فنقل عنه جماعة عليها كفارة الظهار لما روى الأثرم باسناده عن إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي فسألت أهل المدينة فرأوا أن عليها الكفارة وروى علي بن مسهر عن الشيباني قال كنت جالساً في المسجد أنا وعبد الله بن المغفل المري فجاء رجل حتى جلس الينا فسألته من أنت فقال أنا مولى لعائشة بنت طلحة اعتقتني عن ظهارها خطبها مصعب بن الزبير فقالت هو علي كظهر أبي إن تزوجته ثم رغبت فيه بعد فاستفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه فتزوجته وأعتقتني، وروى سعيد هذين الخبرين مختصرين ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور فلزمه كفارة الظهار كالآخر ولأن الواجب كفارة يمين فاستوى فيها الزوجان كاليمين بالله تعالى والرواية الثانية عليها كفارة يمين قال أحمد قد ذهب عطاء مذهباً حسناً جعله بمنزلة من حرم على نفسه شيئاً كالطعام وما أشبه(8/568)
وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله لأنه ليس بظهار ومجرد القول من المنكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب والظهار قبل العود والظهار من أمته وأم ولده ولأنه تحريم لا يثبت التحريم في المحل فلم يوجب كفارة الظهار كتحريم سائر الحلال ولانه ظهار من غير امرأته فأشبه الظهار من أمته وما روي عن عائشة بنت طلحة في عتق الرقبة فيجوز أن يكون اعتاقها تكفيراً ليمينها فإن عتق الرقبة أحد خصال كفارة اليمين ويتعين وحمله على هذا لكون الموجود منها ليس بظهار وكلام أحمد في رواية الأثرم لا يقتضي وجوب كفارة الظهار وإنما قال الأحوط أن يكفر وكذا قال إبن المنذر ولا شك أن الاحوط التكفير بأغلظ الكفارات ليخرج من الخلاف وعن أحمد رواية ثالثة لا شئ عليها وهو قول مالك والشافعي واسحاق وأبي ثور لأنه قول منكر وزور وليس بظهار فلم يوجب كفارة كالسب والقذف واذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فلا تجب عليها حتى يطأها وهي مطاوعة فإن طلقها أو مات أحدهما قبل وطئها أو أكرهها على الوطئ فلا كفارة عليها لأنها يمين فلم تجب كفارتها قبل الحنث فيها كسائر الأيمان ويجوز تقديمها لذلك * (مسألة) * (وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير) لأنه حق له عليها فلا يسقط بيمينها ولأنه ليس بظهار وإنما هو تحريم للحلال فلا يثبت تحريمها كما لو حرم طعامه وقيل ظاهر كلام أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير إلحاقاً بالرجل وليس بجيد لأن الرجل ظهاره صحيح وظهار المرأة غير صحيح ولأن حل الوطئ حق للرجل فملك رفعه وهو حق عليها فلا تملك إزالته(8/569)
* (مسألة) * وإن قال لأجنبية أنت علي كظهر أمي لم يطأها إن تزوجها حتى يكفر) الظهار من الأجنبية صحيح سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال كل النساء علي كظهر أمي وسواء أوقعه مطلقا أو علقه على التزويج فقال كل امرأة تزوجها فهي علي كظهر أمي ومتى تزوج التي ظاهر منها لم يطأها حتى يكفر يروى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب
وعروة وعطاء والحسن ومالك واسحاق، ويحتمل أن لا يثبت حكم الظهار قبل التزويج وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي، وروي ذلك عن ابن عباس لقول الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم) والاجنبية ليس من نسائه ولأن الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيداً بنسائه فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالإيلاء فإن الله تعالى قال (والذين يظاهرون من نسائهم - كما قال - للذين يؤلون من نسائهم) ولانها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته ولأنه حرم محرمة فلم يلزمه شئ كما لو قال أنت حرام ولأنه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله أنه قال في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي فتزوجها قال عليه كفارة الظهار ولأنها يمين مكفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى وأما الآية فإن التخصيص خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الإنسان إنما يظاهر من نسائه فلا يوجب تخصيص الحكم بهن كما ان تخصيص الرببية التي في حجرة بالذكر لم يوجب اختصاصها بالتحريم وأما الإيلاء فإنما اختص حكمه بنسائه لكونه يقصد الإضرار بهن دون غيرهن والكفارة ههنا وجبت لقول المنكر والزور فلا يختص ذلك بنسائه ويفارق الظهار الطلاق من وجهين(8/570)
(أحدهما) أن الطلاق حل قيد النكاح ولا يمكن حله قبل عقده والظهار تحريم للوطئ فيجوز تقديمه على العقد الحيض (الثاني) أن الطلاق يرفع العقد فلم يجز أن يسبقه وهذا لا يرفعه وإنما تعلق الإباحة علي شرط فجاز تقديمه وأما الظهار من الأمة فقد انعقد يميناً وجبت به الكفارة ولم تجب كفارة الظهار لأنها ليست امرأة له حال التكفير بخلاف مسئلتنا (فصل) إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي وقلنا بصحة الظهار من الأجنبية ثم تزوج نساء وأراد العود فعليه كفارة واحدة سواء تزوجهن في عقد أو في عقود متفرقة نص عليه أحمد وهو قول عروة وإسحاق لأنها يمين واحدة فكفارتها واحدة كما لو ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة وعنه أن لكل عقد كفارة فلو تزوج اثنتين في عقد وأراد العود فعليه كفارة واحدة ثم إذا تزوج أخرى
وأراد العود فعليه كفارة أخرى وروي ذلك عن إسحاق لأن المرأة الثالثة وجد العقد عليها الذي يثبت به الظهار وأراد العود إليها بعد التفكير عن الأولتين فكانت لها عليه كفارة كما لو ظاهر منها ابتداء فإن قال لأجنبية أنت علي كظهر أي وقال أردت أنها مثلها في التحريم في الحال دين في ذلك وهل يقبل في الحكم؟ يحتمل وجهين (احدهما) لا يقبل لأنه صريح للظهار فلا يقبل صرفه إلى غيره (والثاني) يقبل لأنها حرام عليه كما أن أمه عليه حرام * (مسألة) * (وإن قال لأجنبية أنت علي حرام وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شئ لأنه صادق وإن أراد في كل حال لم يطأها إن تزوجها حتى يكفر)(8/571)
أما إذا أراد تحريهما في الحال أو أطلق فلا شئ عليه لذلك وإن أراد تحريمها في كل حال فهو ظهار لأن لفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة فكذلك في الاجنبية وصار كقوله أنت علي كظهر أمي * (مسالة) * (ويصح الظهار معجلاً ومعلقاً بشرط ومطلقاً وموقتاً نحو أن يقول أنت علي كظهر أمي في شهر رمضان وإن دخلت الدار فمتى انقضى الوقت زال الظهار وإن أصابها فيه وجبت الكفارة عليه) أما الظهار المطلق فهو أن يقول أنت علي كظهر أمي وقد سبق ذكره ويصح موقتا مثل أن يقول أنت علي كظهر أمي شهراً أو حتى ينسلخ شهر رمضان فإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت بلا كفارة ولا يكون عائداً إلا بالوطئ في المدة وهذا قول ابن عباس وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق وابي ثور وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يكون ظهاراً وبه قال ابن أبي ليلى والليث لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقاً وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت وقال طاوس إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة وإن بر وقال مالك يسقط التأقيت ويكون مظاهراً مطلقاً لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة فإذا وقته لم يتوقت ولنا حديث سلمة بن صخر وقوله تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة ولم يغير عليه تقييده ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة فصح(8/572)
مؤقتاً كالإيلاء وفارق الطلاق فإنه يزيل الملك وهذا يقع تحريماً يرفعه التكفير فجاز تأقيته ولا يصح قول من أوجب الكفارة وإن بر لأن الله تعالى إنما أوجب الكفارة على الذين يعودون لما قالوا ومن بر وترك العود في الوقت الذي ظاهر فيه فلم يعد لما قال فلا تجب عليه كفارة وفارق التشبيه بمن لا تحرم عليه على التأبيد لأن تحريمها غير كامل وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبهاً بتحريم ظهر أمه على أنا نمنع الحكم فيها إذا ثبت هذا فإنه لا يكون عائدا إلا بالوطئ في المدة وهذا المنصوص عن الشافعي وقال بعض أصحابه أن لم يطلقها عقيب الظهار فهو عائد عليه الكفارة وقال أبو عبيد إذا أجمع علي غشيانها في الوقت لزمته الكفارة وإلا فلا لأن العود العزم على الوطئ ولنا حديث سلمة بن صخر وأنه لم يوجب عليه الكفارة إلا بالوطئ ولأنها يمين لم يحنث فيها فلا يلزمه كفارتها كاليمين بالله تعالى ولأن المظاهر في وقت عازم على إمساك زوجته في ذلك الوقت فمن أوجب عليه الكفارة كان قوله كقول طاوس فلا معنى لقوله يصح الظهار مؤقتا لعدم تأثير التأقيت (فصل) ويصح تعليق الظهار بالشروط نحو أن يقول الرجل إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي أو إن شاء زيد فأنت علي كظهر أمي فمتى شاء زيد أو دخلت الدار صار مظاهراً وإلا فلا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي لأنه يمين فجاز تعليقه على شرط كالإيلاء ولأن أصل الظهار أنه كان طلاقاً والطلاق يصح تعليقه بالشرط فكذلك الظهار ولأنه قول تحرم به الزوجة فصح تعليقه على شرط كالطلاق ولو قال لامرأته إن تظاهرت من امرأتي الأخرى فأنت علي كظهر أمي ثم تظاهر من الأخرى صار مظاهراً منهما جميعاً وإن قال إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم قال للأجنبية(8/573)
أنت علي كظهر أمي صار مظاهراً من امرأته عند من يرى الظهار من الأجنبية ومن لا فلا وقد ذكرنا ذلك (فصل) وإن قال أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم ينعقد ظهاره نص عليه أحمد فقال إذا قال لامرأته عليه كظهر أمه إن شاء الله فليس عليه شئ هي يمين وقال ابن عقيل هو مظاهر ذكره في المحرر وإذا قال ما أحل الله علي حرام إن شاء الله وله أهل هي يمين ليس عليه شئ وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب
الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنها يمين مكفرة فصح الاستثناء فيها كاليمين بالله تعالى أو كتحريم ماله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي لفظ " من حلف فاستثنى فإن شاء فعل وإن شاء رجع غير حنث " رواه أبو داود والنسائي وإن قال أنت علي حرام والله لا أكلمك إن شاء الله عاد الاستثناء إليهما في أحد الوجهين لأن الاستثناء إذا تعقب جملاً عاد إلى جميعها إلا أن ينوي الاستثناء في بعضها فيعود إليه وحده وإن قال أنت علي حرام إذا شاء الله أو إلا ما شاء الله أو إلى أن يشاء الله أو ما شاء الله فكله استثناء يرفع حكم الظهار ولأن الشرط إذا تقدم يجاب بالفاء وإن قال إن شاء الله أنت حرام فهو استثناء لأن الفاء مقدرة وإن قال إن شاء الله فأنت حرام صح أيضاً والفاء زائدة وإن قال أنت حرام إن شاء الله وشاء زيد فشاء زيد لم يكن مظاهراً إلا أنه علقه علي مشيئتين فلا يحصل باحديهما قال رضي الله عنه (فصل) في حكم الظهار، يحرم وطئ المظاهر منها قبل التكفير إذا كان التكفير بالعتق أو بالصيام وليس في ذلك اختلاف لقول الله تعالى (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) قوله سبحانه (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) وأكثر أهل العلم على ان التكفير بالإطعام مثل ذلك منهم(8/574)
عطاء والزهري والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد اباحة الوطئ قبل التكفير بالإطعام لأن الله تعالى لم يمنع المسيس قبله كما في المعتق والصيام اختاره أبو بكر وهو قول أبي ثور لما ذكرنا ولنا ما روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني تظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر " فقال ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ " قال رأيت خلخالها في ضوء القمر فقال " لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله " رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فحرم عليه جماعها كما لو كانت كفارته العتق والصيام وترك النص عليها لا يمنع قياسها علي المنصوص الذي في معناها * (مسألة) * (وهل يحرم الاستمتاع منها بما دون الفرج؟ على روايتين) (إحداهما) يحرم وهو قول أبي بكر وبه قال الزهري ومالك والاوزاعي وابو عبيد وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي لأن ما حرم الوطئ من القول حرم دواعيه كالطلاق والإحرام (والثانية)
لا يحرم قال أحمد أرجو ألا يكون به بأس وهو قول الثوري وإسحاق وابي حنيفة وحكي عن مالك أيضاً وهو القول الثاني للشافعي لانه وطئ يتعلق بتحريمه مال فلم يتجاوزه التحريم كوطئ الحائض * (مسألة) * (وتجب الكفارة بالعود وهو الوطئ نص عليه أحمد وأنكر قول مالك أنه العزم على الوطئ) العود هو الوطئ عند أحمد رحمه الله وهو اختيار الخرقي فمتى وطئ لزمته الكفارة ولا تجب قبل ذلك إلا أنها شرط لحل الوطئ فيأمر بها من أراده ليستحله بها كما يأمر بعقد النكاح من أراد حال المرأة.
وحكي نحو ذلك عن الحسن والزهري، وهو قول أبي حنيفة إلا أنه لا يوجب الكفارة على من وطئ وهي عنده في حق من وطئ كمن لم يطأ.
وقال القاضي وأصحابه العود العزم على الوطئ إلا أنهم لم يوجبوا الكفارة على العازم إذا مات(8/575)
أحدهما أو طلق قبل الوطئ إلا أبا الخطاب فإنه قال: إذا مات بعد العزم أو طلق فعليه الكفارة، وهذا قول مالك وأبي عبيد، وقد أنكر أحمد هذا وقال مالك يقول إذا أجمع لزمته الكفارة، فكيف يكون هذا لو طلقها بعدما يجمع كان عليه كفارة؟ إلا أن يكون يذهب إلى قول طاوس إذا تكلم لزمه مثل الطلاق ولم يعجب أحمد قول طاوس.
وقال أحمد في قو تعالى (ثم يعودون لما قالوا) قال العود الغشيان إذا أراد أن يغشى كفر واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس وما يحرم قبل الكفارة لا يجوز كونه متقدماً عليها ولأنه قصد بالظهار تحريمها فالعزم علي وطئها عود فيما قصده ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائداً.
وقال الشافعي العود إمساكها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها فإمساكها عود فيما قال.
وقال داود: العود تكرار الظهار مرة ثانية لأن العود في الشئ إعادته.
ولنا أن العود فعل ضد قوله ومنه العائد في هبته هو الراجع في الموهوب والعائد في عدته التارك للوفاء بما وعد والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي عنه قال الله تعالى (ثم يعودون لما نهوا عنه) فالمظاهر
محرم للوطئ على نفسه ومانع لها منه فالعود فعله، وقولهم إن العود يتقدم التكفير والوطئ يتأخر عنه، قلنا المراد بقوله (ثم يعودون) أي يريدون العود كقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة) أي أردتم ذلك وقوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) فإن قيل هذا تأويل وهو رجوع إلى وجوب الكفارة(8/576)
بالعزم المجرد قلنا دليل التأويل ما ذكرنا، وأما الأمر بالكفارة عند العزم فإنما أمر بها شرطاً للحل كالأمر بالطهارة لمن أراد النافلة والأمر بالنية لمن أراد الصيام، فأما الإمساك فليس بعود لأنه ليس بعود في الظهار المؤقت فكذلك في المطلق ولأن العود فعل ضد ما قاله والإمساك ليس بضد له، وقولهم إن الظهار يقتضي إبانتها ممنوع وإنما يقتضي تحريمها واجتنابها ولذلك صح توقيته ولأنه قال (ثم يعودون) وثم للتراخي والإمساك غير متراخ وأما قول داود فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أوساً وسلمة بن صخر بالكفارة من غير إعادة للفظ ولأن العود إنما هو في مقولة دون قوله كالعود في العدة والهبة والعود فيما نهي عنه، ويدل على إبطال هذه الأقوال كلها أن الظهار يمين مكفرة فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الايمان وتجب الكفارة به كسائر الأيمان ولأنها يمين تقتضي ترك الوطئ فلا تجب كفارتها إلا به كالإيلاء * (مسألة) * (فإن مات أحدهما أو طلقها قبل الوطئ فلا كفارة عليه فإن عاد فتزوجها لم يطأها حتى يكفر) وجملة ذلك أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار فلو مات أحدهما أو فارقها قبل العود فلا كفارة عليه وهو قول عطاء والنخعي والحسن والاوزاعي والثوري ومالك وأبي عبيد وأصحاب الرأي، وقال طاوس ومجاهد والشعبى والزهري وقتادة: عليه الكفارة بمجرد الظهار لأنه سبب الكفارة وقد وجد، ولأن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور، وهذا يحصل بمجرد الظهار.
وقال الشافعي متى أمسكها بعد ظهاره زمناً يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فعليه الكفارة لأن ذلك هو العود عنده.(8/577)
ولنا قول الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) فأوجب الكفارة بأمرين ظهار وعود فلا يثبت بأحدهما ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين فلا تجب بغير
الحنث كسائر الأيمان والحنث فيها هو العود وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع وقد ذكرنا ذلك في المسألة التي قبلها.
إذا ثبت هذا فإنه لا كفارة عليه إذا مات قبل وطئها وكذلك إن فارقها سواء كان ذلك متراخياً عن يمينه أو عقيبه وأيهما مات ورثه صاحبه في قول الجمهور وقال قتادة إن ماتت لم يرثها حتى يكفر ولنا أن من ورثها إذا كفر ورثها وإن لم يكفر كالمولي منها ومتى طلق من ظاهر منها ثم تزوجها لم يحل له وطؤها حتى يكفر سواء كان الطلاق ثلاثاً أو أقل منه وسواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله نص عليه أحمد وهو قول الحسن وعطاء والزهري والنخعي ومالك وأبي عبيد.
وقال قتادة إذا بانت سقط الظهار فإذا عاد فنكحها فلا كفارة عليه.
وللشافعي قولان كالمذهبين وقول ثالث ان كانت البينونة بالثلاث لم يعد الظهار وإلا عادو بناه على الأقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني.
ولنا عموم قوله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) وهذا قد ظاهر من امرأته فلا يحل أن يتماسا حتى يكفر ولأنه ظاهر من امرأته فلا يحل له مسها قبل التكفير كالتي لم يطلقها ولأن الظهار يمين مكفرة فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء * (مسألة) * (وإن وطئ قبل التكفير أثم واستقرت عليه الكفارة)(8/578)
قد ذكرنا أن المظاهر يحرم عليه وطئ زوجته قبل التكفير لقول الله تعالى في العتق والصيام (من قبل أن يتماسا) فإن وطئ عصى ربه وتستقر الكفارة في ذمته فلا تسقط بعد ذلك بموت ولا طلاق ولا غيره وتحريم زوجته عليه باق حتى يكفر هذا قول أكثر أهل العلم.
روي ذلك عن سعيد بن المسيب وعطا وطاوس وجابر بن زيد ومورق العجلي والنخعي وعبد الله ابن أذينة ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وتلزمه الكفارة إذا وطئها وهو مجنون نص عليه في المجرد * (مسألة) * (وتجزئه كفارة واحدة) وهو قول الحسن وابن سيرين وبكر المزني ومورق وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وقتادة وحكي عن عمرو بن العاص أن عليه كفارتين، وروي ذلك عن قبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة
لان الوطئ يوجب كفارة والظهار يوجب أخرى، وقال أبو حنيفة لا تثبت الكفارة في ذمته وإنما هي شرط للاباحة بعد الوطئ كما كانت قبله، وحكي عن بعض العلماء أن الكفارة تسقط لأنه قد فات وقتها لكونها وجبت قبل المسيس ولنا حديث سلمة بن صخر حين ظاهر ثم وطئ قبل التكفير فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة ولأنه وجد الظهار والعود فيدخل في عموم قوله (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) فأما قولهم فات وقتها فيبطل بما ذكرناه وبالصلاة وسائر العبادات يجب قضاؤها بعد فوات وقتها(8/579)
* (مسألة) * (وإن ظاهر من امرأته الأمة ثم اشتراها لم تحل له حتى يكفر، وقال أبو بكر يبطل الظهار وتحل له فإن وطئها فعليه كفارة يمين) وجملة ذلك أن الظهار يصح من كل زوجة أمة كانت أو حرة لعموم الآية فإذا ظاهر من زوجته الامة ثم ملكها انفسخ النكاح، واختلف أصحابنا في بقاء حكم الظهار فذكر الخرقي أنه باق ولا يحل له الوطئ حتى يكفر وبه يقول مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي ونص عليه الشافعي، قال القاضي المذهب ما ذكر الخرقي وهو قول أبي عبد الله بن حامد لقول الله تعالى [والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا] وهذا قد ظاهر من امرأته فلم يحل له مسها حتى يكفر، ولأن الظهار قد صح فيها وحكمه لا يسقط بالطلاق المزيل للملك والحل فبملك اليمين أولى ولأنها يمين انعقدت موجبة للكفارة فوجبت دون غيرها كسائر الأيمان، وقال أبو بكر عبد العزيز وابو الخطاب يسقط الظهار بملكه لها، وإن وطئها حنث وعليه كفارة يمين كما لو تظاهر منها وهي أمته ويقتضي قول أبي بكر وأبي الخطاب ههنا أن تباح قبل التكفير لأنه اسقط الظهار وجعله يمينا كتحريم أمته، فإن أعتقها عن كفارته صح على القولين جميعا فإن تزوجها بعد ذلك حلت له بغير كفارة لأنه كفر عن ظهاره باعتاقها ولا يمتنع إجزاؤها عن الكفارة التي وجبت بسببها كما لو قال إن ملكت أمة فلله علي عتق رقبة فملك أمة فأعتقها، وإن أعتقها عن غير الكفارة ثم تزوجها لم تحل له حتى يكفر * (مسألة) * [وإن كرر الظهار قبل التكفير فكفارة واحدة](8/580)
هذا ظاهر المذهب سواء كان في مجلس او مجالس ينوي به التأكيد أو الاستئناف أو أطلق نقله عن أحمد جماعة اختاره أبو بكر وابن حامد والقاضي وبه قال مالك واسحاق وأبو عبيد والشافعي في القديم ونقل عن أحمد من حلف أيمانا كثيرة فأراد التأكيد فكفارة واحدة فمفهومه أنه إن نوى الاستئناف فكفارتان وهو قول الثوري والشافعي في الجديد، وقال أصحاب الرأي إن كان في مجلس فكفارة واحدة، وإن كان في مجالس فكفارات وعن أحمد مثل ذلك، وروي ذلك عن علي وعمرو بن دينار لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فإذا نوى الاستئناف تعلق بكل مرة حكم كالطلاق ولنا أنه قول لم يؤثر تحريماً في الزوجة فلم تجب به كفارة الظهار كاليمين بالله تعالى ولا يخفى أنه لم يؤثر تحريماً فانها حرمت بالقول الأول ولأنه لفظ يتعلق به كفارة فإذا تكرر كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، وأما الطلاق فإن ما زاد منه على الثلاث لا يثبت له حكم بالاجماع وبهذا ينتقض ما ذكروه، وأما الثالثة فإنها تثبت تحريماً زائداً وهو التحريم قبل زوج واصابة بخلاف الظهار الثاني فإنه لا يثبت به تحريم فنظير الظهار الطلقة الثالثة لا يثبت بما زاد عليها تحريم ولا يثبت له حكم كذلك الظهار، فأما إن كفر عن الأول ثم ظاهر لزمه للثاني كفارة بلا خلاف لأن الظهار الثاني مثل الأول فإنه حرم الزوجة المحللة فأوجب الكفارة كالأول بخلاف ما قبل التكفير * (مسألة) * (وإن ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفارة واحدة، وإن كان بكلمات فلكل واحدة كفارة) إذا ظاهر من نسائه بلفظ واحد فقال أنتن علي كظهر أمي فليس عليه أكثر من كفارة بغير خلاف في المذهب وهو قول عمر وعلي وعروة وطاوس وعطاء وربيعة ومالك والاوزاعي وإسحاق(8/581)
وأبي ثور والشافعي في القديم، وقال الحسن والنخعي والزهري ويحيى الانصاري والحكم والثوري وأصحاب الرأي والشافعي في الجديد عليه لكل امرأة كفارة، وعن أحمد مثل ذلك من المحرر لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه لكل واحدة كفارة كما لو أفردها ولنا قول عمر وعلي رضي الله عنهما رواه عنهما الأثرم ولا نعرف لهما في الصاحبة مخالفا فكان
إجماعا ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، وفارق ما إذا ظاهر بكلمات فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر اثمها وههنا الكلمة واحدة فالكفارة الواحدة ترفع حكمها وتمحوا إثمها فلا يبقى لها حكم.
فأما إن كرره بكلمات فقال لكل واحدة أنت علي كظهر أمي فإن لكل يمين كفارة وهذا قول عروة وعطاء قال أبو عبد الله بن حامد المذهب رواية واحدة في هذا قال القاضي المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو عبد الله وقال أبو بكر فيه رواية أخرى انه يجزئه كفارة واحدة، واختار ذلك وقال هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب والحسن وعطاء وابراهيم وربيعة وقبيصة وإسحاق لأن كفارة الظهار حق الله تعالى فلم تكرر بتكرر سببها كالحدود وعليه يخرج الطلاق ولنا أنها ايمان متكررة على أعيان متفرقة فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى فلا يكفرها كفارة واحدة كالأصل ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعدد الكفارة بتعدده في المجال المختلفة كالقتل، ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات (فصل) فإن قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ثم تزوج نساء في عقد واحد فكفارة(8/582)
واحدة وإن تزوجهن في عقود فكذلك في إحدى الروايتين لأنها يمين واحدة، والاخرى لكل عقد كفارة فعل هذا لو تزوج امرأتين في عقد وأخرى في عقد لزمته كفارتان لأن لكل عقد حكم نفسه فتعلق بالثاني كفارة كالأول * (فصل في كفارة الظهار وما في معناها) * * (مسألة) * (كفارة الظهار على الترتيب فيجب عليه تحرير رقبة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) والأصل في ذلك قول الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) الآيتين.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لخولة حين ظاهر منها زوجها " يعتق رقبة " قلت لا يجد قال " فيصوم شهرين متتابعين " قلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به صيام قال " فيطعم ستين مسكيناً " وهذا الترتيب
لا خلاف فيه إذا كان المظاهر حراً فأما العبد فنذكر حكمه إن شاء الله، تعالى وكفارة الوطئ في نهار رمضان مثلها في ظاهر المذهب لما روى أبو هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تجد رقبة تعتقها؟ قال لا قال " فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال لا قال " فهل تستطيع إطعام ستين مسكيناً؟ " وذكر الحديث وهو صحيح متفق عليه وفي كفارة الوطئ في رمضان رواية أنها علي التخيير وقد ذكرنا ذلك في الصوم * (مسالة) * (وكفارة القتل مثلها)(8/583)
لأن التحرير والصيام منصوص عليهما في كتاب الله تعالى إلا الاطعام ففي وجوبه روايتان (إحداهما) لا يجب لأن الله تعالى لم يذكره في الكفارة (والثانية) يجب قياسا على كفارة الظهار والجماع في نهار شهر رمضان * (مسألة) * (والاعتبار في الكفارة بحال الوجوب في إحدى الروايتين) وهي ظاهر كلام الخرقي لأنه قال إذا حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم لا يجزئه غيره وكذلك قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن عبد حلف على يمين فحنث فيها وهو عبد فلم يكفر حتى عتق أيكفر كفارة حر أو كفارة عبد؟ قال يكفر كفارة عبد لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث لا يوم حلف قلت له حلف وهو عبد وحنث وهو حر قال يوم حنث واحتج فقال افترى وهو عبد أي ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد وهذا أحد أقوال الشافعي، فعلى هذه الرواية يعتبر يساره واعساره حال وجوبها عليه فإن كان موسراً حال الوجوب استقر وجوب الرقبة عليه فلم تسقط بإعساره بعد ذلك وإن كان معسراً ففرضه الصوم فإذا أسر بعد ذلك لم يلزمه الانتقال إلى الرقبة (والرواية الثانية) الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين التكفير فمتى وجد رقبة فيما بين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا الاعتاق وهو قول ثان للشافعي لأنه حق يجب في الذمة بوجود مال فاعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحج، وله قول ثالث أن الاعتبار بحالة الاداء وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه حق له بدل من غير جنسه فكان الاعتبار فيه بحالة الاداء كالوضوء
ولنا أن الكفارة تجب علي وجه الطهرة فكان الاعتبار فيها بحالة الوجوب كالحد أو نقول من وجب عليه الصيام في الكفارة لم يلزمه غيره كالعبد إذا عتق، ويفارق الوضوء فإنه لو تيمم ثم وجد الماء لما بطل تيممه وههنا لو صام ثم قدر على الرقبة لم يبطل صومه وليس الاعتبار في الوضوء بحالة الاداء(8/584)
إنما الاعتبار باداء الصلاة فأما الحج فهو عبادة العمر وجميعه وقت لها فمتى قدر عليه في جزء من وقته وجب بخلاف مسئلتنا ثم يبطل ما ذكروه فإن قيل العبد كان ممن لا تجب عليه الرقبة ولا تجزئه في حال رقه فلما لم تجزئه لم تلزمه بتغير الحال بخلاف مسألتنا قلنا هذا مما لا أثر له (فصل) وإذا قلنا أن الاعتبار بحالة الوجوب وكان معسراً ثم أيسر فله الانتقال إلى العتق إن شاء وهو قول الشافعي على القول الذي يوافقنا فيه بأن الاعتبار بحالة الوجوب لأن العتق هو الأصل فوجب أن يجزئه كسائر الاصول وعن أحمد في العبد إذا اعتق لا يجزئه غير الصوم وهذا على قولنا أن الاعتبار بحالة الوجوب وهي حين حنث اختاره الخرقي لأنه حنث وهو عبد فلم يكن يجزئه غير الصوم فكذلك بعد وقد نص أحمد على أنه يكفر كفارة عبد قال القاضي وفي ذلك نظر ومعناه أنه لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه وهذا منصوص الشافعي ومن أصحابه من قال كقول الخرقي ووجه ذلك أنه حكم تعلق بالعبد في رقه فلم يتغير بحريته كالحد وهذا على القول الذي لا يجوز للعبد التكفير بالمال بأذن سيده فأما على القول الآخر فله التكفير ههنا بطريق الأولى لأنه إذا جاز له في حال رقه ففي حال حريته قد زال ذلك فلا حاجة الى إذنه فأما إن قلنا الاعتبار في التكفير بأغلظ الأحوال لم يكن له أن يكفر إلا بالمال إن كان له مال فأما إن حلف وهو عبد وحنث وهو حر فحكمه حكم الأحرار لأن الكفارة لا تجب قبل الحنث وإنما وجبت وهو حر والله أعلم * (مسألة) * (فإن شرع في الصوم ثم قدر على العتق لم يلزمه الانتقال إليه) وبه قال الشعبي وقتادة ومالك والاوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وهو أحد قولي الحسن ويحتمل أن يلزمه وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو عبيد(8/585)
وأصحاب الرأي لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل فلزمه العود إليه كالمتيمم يجد الماء قبل الصلاة أو في أثنائها ولنا أنه لم يقدر على العتق قبل تلبسه بالصيام فأشبه ما لو استمر العجز إلى ما بعد الفراغ ولأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل فلم يلزمه الانتقال إليه كالمستمتع يجد الهدي بعد الشروع في الأيام السبعة ويفارق ما إذا وجد الماء في الصلاة قضاؤها يسير والمشقة في هذا أكبر (فصل) وإذا قلنا الاعتبار بحال الوجوب فوقته في الظهار من حين العود لا وقت المظاهرة لأن الكفارة لا تجب حتى يعود ووقته في اليمين من الحنث لا وقت اليمين وفي القتل زمن الزهوق لا زمن الجرح وتقديم الكفارة قبل الوجوب تعجيل لها قبل وجوبها لوجود سببها كتعجيل الزكاة قبل الحول بعد كمال النصاب (فصل) إذا كان المظاهر ذمياً فتكفيره بالعتق أو بالاطعام لأنه يصح منه في غير الكفارة فصح منه فيها وليس له الصيام لأنها عبادة محضة والكافر ليس من أهلها ولأنه لا يصح منه في غير الكفارة فلا يصح منه فيها ولا يجزئه في العتق إلا عتق رقبة مؤمنة فإن كانت في ملكه أو ورثها أجزأت عنه وإن لم يكن كذلك فلا سبيل له إلى شراء رقبة مؤمنة لأن الكافر لا يصح منه شراء المسلم ويتعين تكفيره بالاطعام إلا أن يقوم لمسلم أعتق عن كفارتي وعلي تمنه فيصح في إحدى الروايتين وإن أسلم الذمي قبل التكفير بالاطعام فحكمه حكم العبد يعتق قبل التكفير بالصيام على ما مضى لأنه في معناه وإن ظاهر وهو مسلم ثم ارتد وصام في ردته عن كفارته لم يصح وإن كفر بعتق أو اطعام فقد أطلق أحمد القول(8/586)
أنه لا يجزئه وقال القاضي المذهب أن ذلك موقوف فإن أسلم تبينا أنه أجزأه وإن مات أو قتل تبينا أنه لم يصح منه كسائر تصرفاته (فصل) قال الشيخ رحمه الله فمن ملك رقبة أو أمكنه تحصيلها فاضلاً عن كفايته وكفاية من يمونه على الدوام وغيرها من حوائجه الأصلية بثمن مثلها لزمه العتق أجمع أهل العلم على ذلك وأنه ليس له الانتقال إلى الصيام إذا كان مسلماً حراً
* (مسألة) * (فإن كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها لكبر أو مرض أو زمن أو عظم خلق ونحوه مما يعجز عن خدمة نفسه أو يكون ممن لا يخدم نفسه في العادة ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته فليس عليه الإعتاق) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي متى وجد رقبة لزمه اعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام سواء كان محتاجاً إليه أو لم يكن لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام أن لا يجد رقبة بقوله (فمن لم يجد) وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليه لم يلزمه شراؤها وبه قال أبو حنيفة وقال مالك يلزمه لأن وجدان ثمنها كوجدانها ولنا أن ما استغرقته حاجة الانسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم فإن كان له خادم وهو ممن يخدم نفسه عادة لزمه اعتاقها لأنه فاضل عن حاجته بخلاف من لم تجر عادته بخدمة نفسه فإن عليه مشقة في اعتاق خادمه وتضبيعا لكثير من حوائجه وإن كان له خادم يخدم امرأته وهو ممن عليه خدمتها أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم لم يلزمه العتق لما ذكرنا(8/587)
* (مسألة) * (فإن كان له دار يسكنها أو عقار يحتاج إلى غلته لمؤنته أو عرض للتجارة لا يستغني عن ريحه في مؤنته لم يلزمه العتق) وإن استغنى عن شئ من ذلك مما يمكنه أن يشتري به رقبة لزمه لأنه واجد للرقبة وإن كانت له رقبة تخدمه يمكنه بيعها وشراء رقبتين بثمنها يستغني بخدمة إحداهما ويعتق الاخرى لزمه لأنه لا ضرر في ذلك وهكذا لو كانت له ثياب فاخرة تزيد على ملابس مثله يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه في لباسه ورقبة يعتقها لزمه ذلك وكذلك إن كانت له دار يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه لسكنى مثله ورقبة أو ضيعة يفضل منها عن كفايته ما يمكنه به شراء رقبة ومراعي في ذلك الكفاية التى يحرم معها أخذ الزكاة فإذا فضل عن ذلك شئ يمكنه شراء رقبة به لزمته الكفارة وإن كان له دابة يحتاج إلى ركوبها أو كتب يحتاج إليها لم يلزمه العتق ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا وإن كانت له سرية لم يلزمه
اعتاقها لأنه محتاج إليها وإن أمكنه بيعها وشراء سرية اخرى ورقبة يعتقها لم يلزمه ذلك لأن الغرض قد يتعلق بعينها فلا يقوم غيرها مقامها سيما إذا كان بدون مثلها * (مسألة وإن وجد رقبة بثمن مثلها لزمه شراؤها وإن كانت بزيادة تجحف بماله لم يلزمه شراؤها لأن عليه ضرراً في ذلك وإن كانت الزيادة لا تجحف بما له ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه لأنه قدر على الرقبة بثمن يقدر عليه لا تجحف به فأشبه ما لو بيعت بثمن مثلها (والثاني) لا يلزمه لأنه لم يجد رقبة بثمن مثلها فأشبه العادم واصل الوجهين العادم للماء إذا وجده بزيادة على ثمن مثله فإن وجد رقبة بثمن مثلها إلا أنها رقبة رفيعة يمكن أن يشتري بثمنها رقابا من غير جنسها لزمه(8/588)
شراؤها لأنها بثمن مثلها ولا يعد شراؤها بذلك ضررا وإنما الضرر في اعتاقها وذلك لا يمنع الوجوب كما لو كان مالكا لها * (مسألة) * (وإن وهب له رقبة لم يلزمه قبولها) لان عليه منة في قبولها وذلك ضرر في حقه * (مسألة) * (وإن كان ماله غائباً وأمكنه شراؤها بنسيئة فقد ذكر شيخنا فيما إذا عدم الماء فبذل له بثمن في الذمة يقدر على ادائه في بلده وجهين أحدهما يلزمه شراؤه قاله القاضي لأنه قادر على أخذه بما لا مضرة فيه وقال أبو الحسن التميمي لا يلزمه لأن عليه ضرراً في بقاء الدين في ذمته وربما تلف ماله قبل ادائه فيخرج ههنا على وجهين والأولى إن شاء الله أنه لا يلزمه لذلك وإن كان ماله غائباً ولم يمكنه شراؤها نسيئة فإن كان مرجو الحضور قريباً لم يجز الانتقال إلى الصيام لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة وإن كان بعيداً لم يجز الانتقال إلى الصيام في غير كفارة الظهار لأنه لا ضرر في الانتظار وهل يجوز في كفارة الظهارة؟ على وجهين (أحدهما) لا يجوز لوجود الأصل في ماله لوجود الكفارات (والثاني) يجوز لأنه يحرم عليه المسيس فجاز له الانتقال للحاجة فإن قيل فلو عدم الماء وثمنه جاز له الانتقال إلى التيمم وإن كان قادراً عليهما في بلده قلنا الطهارة تجب لأجل الصلاة وليس له تأخيرها عن وقتها فدعت الحاجة إلى الانتقال بخلاف
مسئلتنا ولأننا لو منعناه من التيمم لوجود العذر للقدرة على الماء في بلده بطلت رخصة التيمم فإن كل أحد يقدر على ذلك * (مسألة) * (ولا يجزئ في كفارة القتل إلا رقبة مؤمنة) لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) وكذلك في سائر الكفارات في ظاهر(8/589)
المذهب وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وعن أحمد رواية ثانية أنه يجزئ فيما عدا كفارة القتل من الظهار وغيره عتق رقبة ذمية وهو قول عطاء والثوري والنخعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن الله تعالى أطلق الرقبة في كفارة الظهار فوجب أن يجزئ ما تناوله الاطلاق ولنا ما روى معاوية بن الحكم قال كانت لي جارية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ - قالت في السماء - قال - من أنا؟ قالت أنت رسول الله فقال رسول صلى الله عليه وسلم - أعتقها فإنها مؤمنة " أخرجه مسلم فعلل جواز اعتاقها عن الرقبة التي عليها بانها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليها إلا مؤمنة ولأنه عتق في كفارة فلا يجزئ فيه الكفارة ككفارة القتل والجامع بينهما إن الاعتاق يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده ومعونة المسلمين فناسب ذلك شرع اعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذا المصالح والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الايمان فيها فيعلل بها ويتعدى ذلك إلى كل عتق في كفارة مختص بالمؤمنة لاختصاصها بهذه الحكمة فأما المطلق الذي احتجوا به فانه يحمل على المقيد في كفارة القتل كما حمل مطلق قوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) على المقيد في قوله (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وإن لم يحمل عليه من جهة اللغة حمل عليه من جهة القياس * (مسألة) * (ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا) لأن المقصود تمليك العبد منافعه وتمكينه من التصرف لنفسه ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا(8/590)
بينا فلا يجزئ الاعمى لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ولا المقعد وكذلك مقطوع اليدين والرجلين
أو اشلهما لأن اليدين آلة البطش والرجلين آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما ولا يجزئ المجنون جنونا مطبقا لأنه وجد فيه المعنيان ذهاب منفعة الجنس وحصول الضرر بالعمل وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن داود أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم أخذا بإطلاق اللفظ ولنا أن هذا نوع كفارة فلم يجزئ مطلق ما يقع عليه الاسم كالاطعام فإنه لا يجزئ إن يطعم مسوسا ولا عفنا وإن كان سمى طعاما والآية مقيدة بما ذكرناه * (مسألة) * (لا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ولا أشلهما ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى) لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة لأن نفع اليد يزول أكثره بذلك وإن قطعت كل واحدة منهما من يد جاز لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطعها لأن نفعها يذهب بذلك لكونها انملتين وإن كان من غير الابهام لم يمنع لأن منفعتها لا تذهب فانها تصير كالاصابع القصار حتى لو كانت أصابعه كلها غير الابهام قد قطعت من كل واحدة منهما أنملة لم يمنع وإن قطع من الاصبع انملتان فهو كقطعها لأنه يذهب بمنفعتها وهذا كله مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئ مقطوع احدى اليدين واحدى الرجلين ولو قطعت يده ورجله جميعاً من خلاف أجزأ لأن منفعة الجنس باقية فاجزأ في الكفارة كالأعور وأما إن قطعتا من وفاق أي من جانب واحد لم يجزئ لان منفعة الشئ تذهب ولنا أن هذا يؤثر في العلم ويضر ضرراً بينا فيمنع كما لو قطعتا من وفاق ويخالف العور فإنه لا يضر ضرراً بينا(8/591)
ولنا فيه منع وإن سلم فالاعتبار بالضرر أولى بالاعتبار بمنفعة الجنس فإنه لو ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس * (مسالة) * (ولا يجزئ المريض المأيوس من برئه كمرض السل) لأن برأه يندر ولان يتمكن من العمل مع بقائه وإن كان المرض يرجى زواله كالحمى ونحوها لم يمنع الاجزاء في الكفارة ولا يجزئ النحيف العاجز عن العمل لأنه كالمريض المأيوس من برئه وإن
كان يتمكن من العمل أجزأ * (مسألة) * (ولا يجزئ غائب) لا يعلم خبره لأنه مشكوك في حياته والأصل بقاء شغل الذمة فلا تبرأ بالشك وهو مشكوك في وجوده فيشك في اعتاقه فإن قيل الأصل حياته قلنا إن الموت قد علم أنه لابد منه وقد وجدت دلالة عليه وهو انقطاع اخباره فإن تبين بعد هذا كونه حيا صح اعتاقه وتبينا براءة ذمته من الكفارة وإلا فلا وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه لأنه عتق صحيح: * (مسألة) * (ولا يجزئ مجنون مطبق لأنه لا يقدر على العمل) * (مسألة) * (ولا يجزئ الأخرس) وهو قول القاضي وبعض الشافعية قال شيخنا والأولى أنه متى فهمت اشارته وفهم اشارة غيره أنه يجزئ لأن الاشارة تقوم مقام الكلام في الافهام وأحكامه كلها تثبت اشارته فكذلك عتقه وكذلك الأخرس الذي تفهم إشارته، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وعن أحمد أنه لا يجزئ وبه قال(8/592)
أصحاب الرأي لأن منفعة الجنس ذاهبة فأشبه زائل العقل ولأن الخرس نقص كبير يمنع كثيراً من الأحكام مثل القضا والشهادة وكثير من الناس لا تفهم اشارته فيتضرر بترك استعماله، والأول أولى إن شاء الله لما ذكرنا، وذهاب منفعة الجنس لا يمنع الإجزاء كذهاب الشم وذهاب الشم لا يمنع الاجزاء لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره ويجزئ مقطوع الاذنين وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك وزفر لا يجزئ ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل ضرراً بيناً فلم يمنع كنقص السمع بخلاف قطع اليدين ويجزئ مقطوع الأنف لذلك.
* (مسألة) * (ولا يجزئ عتق من علق عتقه بصفة عند وجودها) فأما إن علق عتقه للكفارة وأعتقه عند وجود الصفة أجزأه لأنه أعتق عبده الذي يملكه عن كفارته ولا يجزئ عتق المدبر لأن عتقه مستحق في غير الكفارة فلم يجزئه كالذي استحق عليه
الاطعام في النفقة فدفعه في الكفارة.
* (مسألة) * (ولا يجزئ من يعتق عليه بالقرابة) وجملة ذلك أنه إذا اشترى من يعتق عليه إذا ملكه ينوي بشرائه عتقه عن الكفارة عتق ولم يجزئه وبهذا قال مالك والشافعي وأبي ثور وقال أصحاب الرأي يجزئه استحسانا لأنه يجزئ عن كفارة البائع فأجزأ عن كفارة المشتري كغيره ولنا قوله تعالى (فتحرير رقبة) والتحرير فعل العتق ولم يحصل العتق ههنا بتحرير منه ولا(8/593)
اعتاق فلم يكن ممتثلا للأمر ولأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه كما لو ورثه ينوي به العتق عن كفارته أو كام الولد ويخالف المشتري البائع من وجهين (أحدهما) أن البائع يعتقه والمشتري لم يعتقه وإنما يعتق بإعتاق الشرع عن غير اختيار منه (الثاني) أن البائع لا يستحق عليه اعتاقه والمشتري بخلاف ذلك (فصل) إذا اشترى عبداً ينوي اعتاقه عن كفارته فوجد به عيبا لا يمنع من الاجزاء في الكفارة وأخذ أرشه ثم أعتق العبد عن كفارته أجزأه وكان الأرش له لأن العتق إنما وقع على العبد المعيب دون الأرش فانه أعتقه قبل العلم بالعيب ثم ظهر على العيب فأخذ أرشه فهو له كما لو أخذ قبل اعتاقه وعنه أنه يصرف الأرش في الرقاب لأنه أعتقه معتقداً أنه سليم فكان بمنزلة العوض عن حق الله تعالى فكان الأرش مصروفا في حق الله تعالى كما لو باعه كان الأرش للمشتري فإن علم العيب ولم يأخذ أرشه حتى اعتقه كان الأرش للمعتق لأنه أعتقه معيباً عالما بعيبه فلم يلزمه أرش كما لو باعه لمن يعلم عيبه.
* (مسألة) * (ولا يجزئ من اشتراه بشرط العتق) في ظاهر المذهب وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقد روي عن معقل بن يسار ما يدل عليه وذلك لأنه إذا اشتراه بشرط العتق فالظاهر أن البائع نقصه من الثمن لأجل هذا الشرط فكأنه أخذ عن العتق عوضا فلم يجزئه عن الكفارة.
قال أحمد إن كانت رقبة واجبة لم تجزئه لأنها ليست رقبة
سليمة ولأن عتقها مستحق بسبب آخر وهو الشرط فلم يجزئه كما لو اشترى قريبه فنوى بشرائه(8/594)
العتق عن الكفارة أو قال إن دخلت الدار فأنت حر ثم نوى عند دخوله أنه عن كفارته (فصل) ولو قال رجل له أعتق عبدك عن كفارتك ولك عشرة دنانير ففعل لم يجزئه عن الكفارة لأن الرقبة لم تقع خالصة عن الكفارة، وذكر القاضي أن العتق كله يقع عن باذل العوض وله ولاؤه وهذا فيه نظر فإن المعتق لم يعتقه عن باذل العوض ولا رضي باعتاقه عنه وباذل العوض لم يطلب ذلك، والصحيح أن اعتاقه عن المعتق والولاء له فإن رد العشرة على باذلها ليكون العتق عن الكفارة لم يجز عنها لأن العتق إذا وقع على صفة لم ينتقل عنها وإن قصد العتق عن الكفارة وحدها وعزم على رد العشرة أو رد العشرة قبل العتق وأعتقه عن كفارته أجزأه * (مسالة) * (ولا أم ولده في الصحيح عنه) هذا ظاهر المذهب وبه قال الأوزاعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أنها تجزئ يروي ذلك عن الحسن وطاوس والنخعي وعثمان البتي لقول الله تعالى (فتحرير رقبة) ومعتقها قد حررها ولنا أن عتقها مستحق بسبب آخر فلم تجز عنه كما لو اشترى قريبه أو عبداً بشرط العتق فأعتقه وكما لو قال لعبده أنت حر إن دخلت الدار ونوى عتقه عن كفارته عند دخوله والآية مخصوصة بما ذكرنا فنقيس عليه ما اختلفنا فيه وولد أم الولد الذي ولدته بعد كونها أم ولد حكمه حكمها فيما ذكرناه لأن حكمه حكمها في العتق بموت سيدها * (مسألة) * ولا يجزئ مكاتب قد أدى من كتابته شيئاً في اختيار شيوخنا وعنه يجزئ وعنه لا يجزئ مكاتب بحال)(8/595)
روي عن أحمد رحمه الله في المكاتب ثلاث روايات: (إحداهن) يجزئ مطلقا اختاره أبو بكر وهو مذهب أبي ثور لأن المكاتب عبد يجوز بيعه
فأجزأ عتقه كالمدبر ولأنه رقبة فيدخل في عموم مطلق قوله سبحانه (فتحرير رقبة) (والثانية) لا يجزئ مطلقاً وهو قول مالك والشافعي وأبو عبيد لأن عتقه مستحق بسبب آخر ولهذا لا يملك إبطال كتابته فأشبه أم الولد (والثالثة) إن كان أدى شيئاً من كتابته لم يجزئه ولا أجزأه وبه قال الليث والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي قال القاضي هو الصحيح لأنه إذا أدى شيئا فقد حصل العوض عن بعضه فلم يجز كما لو اعتق بعض رقبة وإذا لم يؤد فقد أعتق رقبة كاملة مؤمنة سالمة الخلق تامة الملك لم يحصل عن شئ منها عوض فأجزأ عتقها كالمدبر ولو أعتق عبدًا عن مال يأخذه من العبد لم يجز عن كفارته في قولهم جميعاً.
(فصل) ولا يجزئ اعتاق الجنين في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وقال أبو ثور يجزئ لأنه آدمي مملوك يصح اعتاق فصح عن الرقبة كالمولود ولنا أنه لم يثبت له أحكام الدنيا بعد فإنه لا يملك إلا بالإرث والوصية ولا يشترط لهما كونه آدميا لكونه يثبت له ذلك وهو نطفة أو علقة وليس بآدمي في تلك الحال (فصل) فإن أعتق غيره عنه عبدا بغير إذنه لم يقع عن المعتق عنه اذا كان حيا وولاؤه للمعتق ولا(8/596)
يجزئ من كفارته وإن نوى ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أنه يجزئ إذا أعتق عن واجب على غيره بغير إذنه لأنه قضى عنه واجبا فصح كما لو قضى عنه دينا ولنا أنه عبادة من شرطها النية فلم يصح أداؤها عمن وجب عليه بغير أمره مع كونه من أهل الأمر كالحج ولأنه أحد خصال الكفارة فلم يصح عن المكفر بغير أمره كالصيام، وهكذا الخلاف فيمن كفر عنه بالاطعام، فأما الصيام فلا يجوز أن ينوب عنه أذنه ولا بغير اذنه لأنه عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة فأما إن أعتق عنه بأمره نظرت فإن جعل له عوضاً صح العتق عن المعتق عنه وله ولاؤه وأجزأ عن كفارته بغير خلاف علمناه وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه حصل العتق عنه بماله فأشبه ما لو اشتراه ووكل البائع في إعتاقه عنه وإن لم يشترط عوضا ففيه روايتان.
(إحداهما) يقع العتق عن المعتق عنه ويجزئ عن كفارته وهو قول مالك والشافعي لأنه أعتق عنه بأمره فصح كما لو شرط عوضاً.
(والأخرى) لا يجزئ والولاء للمعتق وهو قول أبي حنيفة لأن العتق بعوض كالبيع وبغير عوض كالهبة ومن شرط الهبة القبض ولم يحصل فلم يقع عن الموهوب له، ويفارق البيع لأنه لا يشترط فيه القبض، فإن كان المعتق عنه ميتا وكان قد وصى بالعتق عنه صح لانه بأمره وإن لم يوص فأعتق عنه أجنبي لم يصح لأنه ليس بنائب عنه، وإن أعتق عنه وارثه فإن لم يكن عليه واجب لم يصح العتق عنه ووقع عن المعتق، وان كان عليه عتق واجب صح العتق عنه لأنه نائب عنه في ماله وأداء واجباته فإن كنت عليه كفارة يمين فأطعم عنه جاز، وإن أعتق عنه ففيه وجهان(8/597)
(أحدهما) ليس له ذلك لأنه غير متعين فجرى مجرى التطوع (والثاني) يجزئ لان العتق يقع واجباً لأن الوجوب يتعين فيه بالفعل فأشبه المعين ولأنه أحد خصال كفارة اليمين فجاز أن يفعله عنه كالإطعام والكسوة، ولو قال من عليه الكفارة أطعم عن كفارتي أو اكس صح إذا فعل رواية واحدة سواء ضمن له عوضاً أو لا * (مسألة) * (ويجزئ الأعرج يسيرا) لأنه قليل الضرر بالعمل فإن كان فاحشاً كثيراً لم يجز لأنه يضر بالعمل فهو كقطع الرجل ويجزئ المجدع الأنف والاذن، وفي مجدع الاذنين خلاف ذكرناه، ويجزئ المجبوب والخصي ومن يخنق في الاحيان والاصم لأن هذا لا يضر بالعمل، وتجزئ الرتقاء والكبيرة التي تقدر على العمل لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه وتكميل أحكامه فحصل الاجزاء به كالسالم من العيوب.
(فصل) ويجزئ عتق الجاني وإن قتل قصاصاً والمرهون وعتق المفلس عبده إذا قلنا بصحة عتقه (فصل) ويجزي الأعور في قولهم جميعاً، وقال أبو بكر فيه قول آخر لا يجزئ لأنه نقص يمنع التضحية والاجزاء في الهدي فأشبه العمى، والصحيح ما ذكرناه فإن المقصود تمليك العبد المنافع وتكميل الأحكام والعور لا يمنع ذلك، ولأنه لا يضر بالعمل أشبه قطع إحدى الاذنين، ويفارق العمى فإنه يضر
بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيراً من الصنائع ويذهب بمنفعة الجنس، ويفارق قطع إحدى اليدين أو الرجلين فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما وأما الاضحية(8/598)
والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور وإنما يمنع انخساف العين لأنها عضو مستطاب ولان الاضحية يمنع فيها قطع الاذن والقرن والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل * (مسألة) * (ويجزئ عتق المدبر) وهذا قول طاوس والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وقال مالك والاوزاعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي: لا يجزئ لأن عتقه مستحق بسبب آخر فأشبه أم الولد ولأن بيعه عندهم غير جائز فهو كأم الولد ولنا قوله تعالى (فتحرير رقبة) وقد حرر رقبة ولأنه عبد كامل المنفعة لم يحصل عن شئ منه عوض فجاز عتقه كالقن ولأنه يجوز بيعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبراً، وقد ذكرنا ذلك، ولأن التدبير إما أن يكون وصية أو عتقاً بصفة وأيهما كان فلا يمنع التكفير باعتاقه قبل وجود الصفة والصفة ههنا الموت ولم توجد، ويجزئ المعلق عتقه بصفة قبل وجودها لأن ملكه فيه تام ويجوز بيعه * (مسألة) * (ويجوز عتق ولد الزنا) وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن فضالة بن عبيد وأبي هريرة وبه قال ابن المسيب والحسن وطاوس والشافعي واسحاق وأبو عبيد وابن المنذر وروي عن عطاء والشعبى والنخعي والاوزاعي وحماد أنه لا يجزئ لأن أبا هريرة رضي الله عنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ولد الزنا شر الثلاثة " قال أبو هريرة ولأن امتع بسوط في سبيل الله أحب إلي منه رواه أبو داود ولنا دخوله في مطلق قوله (فتحرير رقبة) ولأنه مملوك مسلم كامل العمل لم يعتق عن شئ ولا استحق عتقه بسبب آخر فاجزأ عتقه كولد الرشدة، فأما الأحاديث الواردة في ذمة فاختلف(8/599)
أهل العلم في تفسيرها فقال الطحاوي ولد الزنا هو الملازم للزنا كما يقال ابن السبيل الملازم لها وولد الليل الذي لا يهاب السير فيه.
وقال الخطابي عن بعض أهل العلم قال هو الثلاثة أصلا وعنصراً ونسباً
لأنه خلق من ماء الزنا وهو خبيث وأنكر قوم هذا التفسير وقالوا ليس عليه من وزر والدية شئ.
قال الله تعالى (ولا تزرر وازرة وزر أخرى) وقد جاء في بعض الأحاديث " هو شر الثلاثة إذا عمل عملهم " فإن صح ذلك اندفع الإشكال.
وفي الجملة هذا يرجع إلى أحكام الآخرة أما أحكام الدنيا فهو كغيره في صحة امامته وبيعه وعتقه وقبول شهادته فكذلك في اجزاء عتقه عن الكفارة لأنه من أحكام الدنيا * (مسألة) * (ويجزئ الصغير) وقال الخرقي لا يجزئ حتى يصلي ويصوم.
قال القاضي لا يجوز اعتاق من له دون سبع سنين لأنه لا تصح منه العبادات في ظاهر كلام أحمد، ظاهر كلام الخرقي أن المعتبر العقل دون السن فمن صلى وصام ممن له عتق يعرف الصلاة والصيام ويتحقق من الإتيان به بنيته واركانه فانه يجزئ في الكفارة وان لم يبلغ السبع، وإن لم يوجد منه لم يجز في الكفارة وإن كان كبيراً وقال أبو بكر وغيره من اصحابنا يجوز اعتاق الطفل في الكفارة وهو قول الحسن وعطاء والزهري والشافعي وابن المنذر لأن المراد بالإيمان ههنا الاسلام بدليل اعناق الفاسق قال الثوري المسلمون مؤمنون كلهم عندنا في الأحكام وما ندري ما هم عند الله وبهذا تعلق حكم القتل بكل مسلم بقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) والصبي محكوم بإسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر المسلمين ويغسل ويصلى عليه وإن سبي(8/600)
منفرداً عن أبويه أجزأ عنه عتقه لأنه محكوم بإسلامه وكذلك إن سبي مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل كافراً والآخر مسلما أجزأ اعتاقه لأنه محكوم بإسلامه قال القاضي في موضع يجزئ اعتاق الصغير في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإنها على روايتين وقال إبراهيم النخعي ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزئ إلا من صام وصلى وما كان في القرآن رقبة ليست بمؤمنة فالصبي يجزئ ونحو هذا قول الحسن ووجه قول الخرقي إن الواجب رقبة مؤمنة والإيمان قول وعمل فما لم يحصل الصلاة والصيام لا يحصل العمل قال مجاهد وعطاء في قوله (فتحرير رقبة مؤمنة) قد صلت ونحو هذا قول الحسن وابراهيم وقال مكحول إذا ولد المولود فهو نسمة فإذا انقلب ظهراً لبطن فهو رقبة فإذا صلى فهو مؤمنة ولأن الطفل لا يصح منه عبادة لأنه لا نية له فلم يجز في الكفارة كالمجنون ولان الصبى نقص
يستحق به النفقة على القرابة فأشبه الزمانة قال شيخنا والقول الآخر أقرب الى الصواب والصحة إن شاء الله لأن الايمان الاسلام وهو حاصل في حق الصبي الصغير ويدل على هذا أن معاوية بن الحكم السلمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله؟ " فأشارت برأسها إلى السماء قال " من أنا؟ " فأشارت إلى رسول الله وإلى السماء أي أنت رسول الله قال " أعتقها فإنها مؤمنة " فحكم لها بالايمان بهذا القول * (مسألة) * (ولو ملك نصف عبد فأعتقه عن كفارته ثم اشترى باقيه فأعتقه أجزأه) لأنه أعتق رقبة كاملة في وقتين فأجزأ كما لو أطعم المساكين في وقتين إلا على رواية وجوب الاستسعاء والصحيح في المذهب خلافها(8/601)
* (مسألة) * (فإن أعتقه عن كفارته وهو موسر فسرى إلى نصيب شريكه عتق) ولم يجزئه عن كفارته في قول أبي بكر الخلال وصاحبه وحكاه عن أحمد وهو قول أبي حنيفة لأن عتق نصيب شريكه لم يحصل بإعتاقه إنما حصل بالسراية وهو غير فعله وانما هي من آثار فعله فأشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ينوي به الكفارة يحقق هذا أنه لم يباشر بالاعتاق إلا نصيبه فسرى إلى غيره ولو خص نصيب غيره بالإعتاق لم يعتق منه شئ ولأنه إنما يملك اعتاق نصيبه لا نصيب غيره، وقال القاضي قال غيرهما من أصحابنا يجزئه إذا نوى إعتاق جميعه عن كفارته وهو مذهب الشافعي لأنه أعتق عبداً كامل الرق سليم الخلق غير مستحق العتق ناويا به الكفارة فأجزأ كما لو كان الجميع ملكه والأول أصح إن شاء الله تعالى ولا نسلم أنه أعتق العبد كله وإنما أعتق نصفه وعتق الباقي عليه فأشبه شراء قريبه ولأن إعتاق باقيه مستحق بالسراية فهو كالقريب فعلى هذا هل يجزئه عتق نصفه الذي هو نصيبه ويعتق نصفاً آخر وتكمل الكفارة؟ ينبني على ما إذا أعتق نصفي عبدين، وسنذكر ذلك فأما ان نوى عتق نصيبه عن الكفارة ولم ينو ذلك في نصيب شريكه لم يجزئه في نصيب شريكه، وفي نصيب نفسه ما سنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) فإن كان العبد كله له فأعتق جزءا منه معيناً أو مشاعاً عتق جميعه فإن نوى به الكفارة أجزأ
عنه لأن اعتاقه بعض العبد اعتاق لجميعه وإن نوى اعتاق الجزء الذي باشره بالاعتاق عن الكفارة دون غيره وهل يحتسب له بما نوى به الكفارة؟ على وجهين(8/602)
* (مسألة) * ولو أعتق نصفي عبدين أو نصفي أمتين أو نصف عبد ونصف أمة أجزأ عنه) ذكره الخرقي قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم، وقال أبو بكر بن جعفر لا يجزئ لأن المقصود من العتق تكميل الاحكام ولا يحصل من اعتاق نصفين، واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أوجه (أحدها) كقول الخرقي، (والثاني) كقول أبي بكر، (والثالث) إن كان نصف الرقيق حراً أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام، وان كان رقيقا لم يجز لأنه لا يحصل، ووجه الأول أن الأشقاص كالاشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير وبدليل الزكاة فإذا كان له نصف ثمانين شاة مشاعا وجبت الزكاة كما لو ملك أربعين منفردة وكالهدايا والضحايا إذا اشتركوا فيها قال شيخنا والأولى أنه لا يجزئ اعتاق نصفين إذا لم يكن الباقي منهما حراً لأن إطلاق الرقبة إنما ينصرف إلى إعتاق الكاملة ولا يحصل من الشخصين ما يحصل من الرقبة الكاملة في تكميل الآحكام وتخليص الآدمي من ضرر الرق ونقصه فلا يثبت به من الأحكام ما يثبت باعتاق رقبة كاملة، ويمتنع قياس الشخصين على الرقبة الكاملة ولهذا لو أمر انسانا بشراء رقبة أو بيعها أو بإهداء حيوان أو بالصدقة به لم يكن له أن يشقصه كذا ههنا (فصل) فمن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين إذا قدر على الصيام وهذا إجماع من أهل العلم لقول الله تعالى (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) ولحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر حراً كان أو عبداً ويستوي في ذلك الحر والعبد عند أهل العلم لا نعلم فيه خلافا، وأجمعوا على وجوب التتابع لأنه شرط في الصيام وقد تناوله نص القرآن والسنة ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها فلا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفارة ولا تجب نية التتابع ويكفي فعله لأنه شرط(8/603)
وشرائط العبادات لا تحتاج الى نية، وإنما تجب النية لأفعالها وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر أنها واجبة لكل ليلة لأن ضم العبادة إلى العبادة إذا كان شرطاً وجبت النية فيه
كالجمع بين الصلاتين، والثالث تكفي نية التتابع في الليلة الاولى ولنا أنه تتابع واجب في العبادة فلم يفتقر إلى نية كالتتابع بين الركعات، ويفارق الجميع بين الصلاتين فإنه رخصة فافتقر إلى نية الترخص وما ذكروه ينتقض بالمتابعة بين الركعات * (مسألة) * (فإن تخلل صومها صوم شهر رمضان أو فطر واجب كفطر العيد أو الفطر لحيض أو نفاس لم ينقطع التتابع وبنى على ما مضى من صيامه) وجملة ذلك أنه إذا تخلل صوم الظهار زمان لا يصح صومه فيه عن الكفارة مثل أن يبتدئ الصوم من أول شعبان فيتخلله رمضان ويوم الفطر أو يبتدئ من ذي الحجة فيتخلله يوم النحر وأيام التشريق فإن التتابع لا ينقطع بهذا وينبني على ما مضى من صيامه، وقال الشافعي ينقطع التتابع ويلزمه الاستئناف لأنه أفطر في أثناء الشهرين بما كان يمكنه التحرز منه فأشبه إذا أفطر لغير ذلك أو صام عن نذر أو كفارة أخرى ولنا أنه زمن منعه الشرع عن صومه في الكفارة فلم يقطع التتابع كالحيض والنفاس فإن قالوا الحيض والنفاس غير ممكن التحرز منه قلنا قد يمكن التحرز من النفاس بأن لا يبتدئ الصوم في حال الحمل، ومن الحيض إذا كان طهرها يزيد على الشهرين بأن تبتدئ الصوم عقيب طهرها من الحيضة ومع هذا لا ينقطع التتابع به، ولا يجوز للمأموم مفارقة إمامه لغير عذر ويجوز أن يدخل معه المسبوق مع(8/604)
علمه بلزوم مفارقته قبل إتمامها، ويتخرج في أيام التشريق رواية أخرى أنه يصومها عن الكفارة ولا يفطر إلا يوم النحر وحده فعلى هذا إن أفطرها استأنف لأنها أيام أمكنه صيامها في الكفارة ففطرها يقطع التتابع كغيرها إذا ثبت هذا فإنه إن ابتدأ الصوم من أول شعبان أجزأه صوم شعبان عن شهر، وإن كان ناقصاً، وأما شوال فلا يجوز أن يبتدأ من أوله لأن أوله يوم الفطر وصومه حرام فيشرع فيه من اليوم الثاني ويتمم شهراً بالعدد ثلاثين، وإن بدأ من أول ذي الحجة إلى آخر المحرم قضى أربعة أيام وأجزأه لأنه بدأ من أولهما ولو ابتدئ صوم الشهرين من يوم الفطر لم يصح صوم يوم الفطر ويصح صوم بقية الشهر وصوم ذي القعدة ويحتسب له بذي القعدة، وإن كان ناقصاً لانه بدأه
من أوله، وأما شوال فإن كان تاما صام يوما من ذي الحجة وإن كان ناقصاً صام يومين لأنه لم يبدأه من أوله وإن بدأ بالصيام من أول أيام التشريق وقلنا يصح صومها عن الفرض فإنه يحتسب له بالمحرم ويكمل صوم ذي الحجة بتمام ثلاثين يوما من صفر، وإن قلنا لا يصح عن الفرض صام مكانها من صفر (فصل) وإن أفطر لحيض أو نفاس فقد أجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا إذا حاضت قبل اتمامه تقضي إذا طهرت وتبني وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس وفيه تغرير بالصوم لأنها ربما ماتت قبله، والنفاس كالحيض في أنه لا ينقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه بمنزلته في أحكامه ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما (والثاني) أن النفاس يقطع التتابع لأنه فطر أمكن التحرز منه لا يتكرر في العام فقطع التتابع كالفطر لغير عذر ولا يصح قياسه على الحيض لأنه أندر منه ويمكن التحرز منه * (مسألة) * (فإن أفطر لمرض مخوف أو جنون لم ينقطع التتابع)(8/605)
روى ذلك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والشعبي وطاوس ومجاهد ومالك واسحاق وأبو عبيد وابو ثور وابن المنذر والشافعي في القديم، وقال في الجديد ينقطع التتابع وهو قول سعيد بن جبير والحكم والثوري وأصحاب الرأي لأنه أفطر فعله فلزمه الاستئناف كما لو أفطر لسفر ولنا أنه أفطر بسبب لا صنع له فيه فلم يقطع التتابع كافطار المرأة للحيض وما ذكروه من الأصل ممنوع وإن أفطر لجنون أو إغماء لم ينقطع التتابع لأنه لا صنع له فيه فهو كالحيض * (مسألة) * (وكذلك فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما) لأنهما كالمريض * (مسألة) * (فإن خافتا على ولديهما فأفطرتا ففيه وجهان) (أحدهما) لا ينقطع التتابع اختاره أبو الخطاب لأنه فطر أبيح لهما بسبب لا يتعلق باختيارهما فلم ينقطع التتابع كما لو أفطرتا خوفا على أنفسهما (والثاني) ينقطع لأنه لأجل الخوف على غيرهما، ولذلك يلزمهما الفدية مع القضاء
* (مسألة) * (وإن أفطر لغير عذر أو صام تطوعا أو قضاء أو نذراً أو عن كفارة أخرى لزمه الاستئناف) لأنه أخل بالتتابع المشروط ويقع صومه عما نواه لأن هذا الزمان ليس بمستحق معين للكفارة ولهذا يجوز صومها في غيره بخلاف شهر رمضان فإنه متعين لا يصلح لغيره وإذا كان عليه نذر صوم غير معين أخره إلى فراغه من الكفارة وإن كان متعينا أخر الكفارة عنه أو قدمها عليه إن أمكن وإن كان أياما من كل شهر كيوم الخميس وأيام البيض قدم الكفارة عليه وقضاه بعدها لأنه لو وفي بنذره(8/606)
انقطع التتابع ولزمه الاستئناف فيفضى إلا أن لا يتمكن من التكفير والنذر يمكن قضاؤه فيكون هذا عذراً في تأخيره كالمرض * (مسألة) * (وإن أفطر لعذر يبيح الفطر كالسفر والمرض غير المخوف فعلى وجهين) إذا افطر لمرض غير مخوف يبيح الفطر ففيه وجهان ذكرهما أبو الخطاب (أحدهما) لا يقطع التتابع لأنه مرض أباح الفطر أشبه المخوف (والثاني) يقطع التتابع لأنه أفطر اختياراً فانقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر فإن السفر مبيح للفطر فكلام أحمد محتمل الأمرين وأظهرهما أنه لا ينقطع التتابع فإنه قال في رواية الأثرم كان السفر غير المرض ولا ينبغي أن يكون أوكد من رمضان فظاهر هذا أنه لا ينقطع التتابع وهذا قول الحسن ويحتمل أن ينقطع التتابع وهو قول مالك وأصحاب الرأي واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال فيه قولان كالمرض ومنهم من يقول يقطع التتابع وجهاً واحداً لأن السفر يحصل باختياره فقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر والصحيح الأول لأنه أفطر لعذر يبيح الفطر في رمضان فلم ينقطع التتابع كافطار المرأة للحيض وفارق الفطر لغير عذر فإنه لا يباح فإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو افطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب افطر ويتخرج في انقطاع التتابع وجهان (أحدهما) لا ينقطع لأنه فطر لعذر (والثاني) ينقطع التتابع لأنه بفعل أخطأ فيه فأشبه ما لو ظن أنه قد أتم الشهرين انقطع التتابع لأنه أفطر لجهله فقطع التتابع كما لو ظن أن الواجب شهر واحد وإن أكره على الأكل والشرب بان أوجر الطعام والشراب لم يفطر وإن أكل خوفاً فقال القاضي لا يفطر وفيه وجه آخر أنه يفطر فعلى ذلك هل يقطع التتابع؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يقطعه لأنه عذر مبيح للفطر
أشبه المرض (والثاني) يقطعه وهو مذهب الشافعي لأنه أفطر بفعله لعذر نادر والأول أولى(8/607)
(فصل) ويجوز أن يبتدئ صوم الشهرين من أول شهر ومن ائنائه بغير خلاف نعلمه لأن الشهر اسم لما بين الهلالين والثلاثين يوما فأيهما صام فقد أدى الواجب فإن بدأ من أول شهر فصام شهرين بالأهلة أجزأه ذلك وإن كانا ناقصين إجماعا وبه قال الثوري وأهل العراق ومالك في أهل الحجاز والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم لأن الله تعالى قال (فصيام شهرين متتابعين) وهذان شهران متتابعان وان بداء من اثناء شهر فصام ستين يوما أجزأه بغير خلاف أيضاً.
قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا فأما إن صام شهراً بالهلال وشهراً بالعدد فصام خمسة عشر يوماً من المحرم وصفر جميعه وخمسة عشر من ربيع فإنه يجزئه سواء كان صفر تاماً أو ناقصاً لأن الأصل اعتبار الشهور بالاهلة لكن تركناه في الشهر الذي بدأ من وسطه لتعذره ففي الشهر الذي أمكن اعتباره وجب ان يعتبر وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ويتوجه أن لا يجزئه إلا شهران بالعدد لأنا لما ضممنا إلى الخمسة عشر من المحرم خمسة عشر من صفر فصار ذلك شهراً صار ابتداء صوم الشهر الثاني من اثناء شهر أيضاً وهذا قول الزهري (فصل) فإن نوى شهر رمضان عن الكفارة لم يجزئه عن رضمان ولا عن الكفارة وانقطع التتابع حاضرا كان أو مسافراً لأنه تخلل صوم الكفارة فطر غير مشروع وقال مجاهد وطاوس يجزئه عنهما وقال أبو حنيفة إن كان حاضراً أجزأه عن رمضان دون الكفارة لأن تعيين النية غير مشترط لرمضان وإن كان في سفر أجزأه عن الكفارة دون رمضان وقال صاحباء تجزئ عن الكفارة دون رمضان حضرا أو سفرا(8/608)
ولنا أن رمضان متعين لصومه محرم صومه عن غيره فلم يجزئه عن غيره كيومي العيدين ولا يجزئ عن رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأعمال بالنيات وإنما لأمرئ ما نوى) وهذا ما نوى رمضان فلا يجزئه، ولا فرق بين الحضر والسفر لأن الزمان متعين وإنما جاز فطره في السفر رخصة فإذا تكلف
وصام رجع إلى الأصل فإن سافر في رمضان المتخلل لصوم الكفارة وأفطر لم ينقطع التتابع لأنه زمن لا يستحق صومه عن الكفارة فلم ينقطع التتابع بفطره كالليل * (مسألة) * (وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع) وبهذا قال مالك والثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي لأن الله تعالى قال (فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا) فأمر بهما خاليين عن وطئ ولم يأت بهما على ما أمر فلم يجزئه كما لو وطئ نهارا ذاكراً ولأنه تحريم للوطئ لا يختص النهار فاستوى فيه الليل والنهار كالاعتكاف وروى عن أحمد أن التتابع لا ينقطع بالوطئ ليلا وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر لانه وطئ لا يفسد الصوم فلا يوجب الاستئناف كوطئ غيرها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق وهذا متحقق وإن وطئ ليلا - وارتكاب المنهي في الوطئ قبل اتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه كما لو وطئ قبل الشهرين أو لو وطئ ليلة أول الشهرين وأصبح صائماً والاتيان بالصيام قبل الثمانين لا سبيل إليه سواء بنى أو استأنف وإن وطئها أو وطئ غيرها في نهار الشهرين عامداً أفطر وانقطع التتابع(8/609)
إجماعا إذا كان غير معذور وإن وطئها أو وطئ غيرها نهاراً ناسيا أفطر وانقطع التتابع في إحدى الروايتين لان الوطئ لا يعذر فيه بالنسيان وعن أحمد رواية أخرى لا يفطر ولا ينقطع التتابع وهو قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأنه فعل المفطر ناسياً أشبه ما لو أكل ناسياً ولو أبيح له الفطر لعذر فوطئ غيرها نهارا لم ينقطع التتابع لان الوطئ لا أثر له في قطع التتابع وإن كان وطئها كان كوطئها ليلا هل يقطع التتابع على وجهين * (مسألة) * (وإن وطئ غيرها ليلا لم ينقطع التتابع) لأن ذلك غير محرم عليه ولا هو يخل باتباع الصوم فلم يقطع التتابع كالأكل وليس في هذا اختلاف نعلمه فإن لمس المظاهر منها أو باشرها دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام وإلا لم ينقطع والله أعلم * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (فإن لم يستطع لزمه إطعام ستين مسكيناً مسلما حرا صغيرا كان أو كبيرا إذا أكل الطعام) أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام إن فرضه إطعام ستين مسكيناً على ما أمر الله تعالى في كتابه وجاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم سواء عجز عن الصيام لكبر أو
مرض يخاف بالصوم تباطؤه والزيادة فيه أو الشبق فلا يصبر فيه عن الجماع فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوم قالت امرأته يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال " فيطعم ستين مسكيناً " ولما أمر سلمة بن صخر بالصيام قال وهل اصبت ما أصبت إلا من الصيام؟ قال " فاطعم " فنقله إلى الاطعام لما أخبره إن به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام وقسنا على هذين ما يشبههما في معناهما ويجوز أن ينتقل إلى الإطعام إذا عجز عن الصيام للمرض وإن كان مرجو الزوال لدخوله في قوله تعالى (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) ولأنه لا يعلم إن له نهاية فأشبه الشبق، ولا يجوز أن ينتقل لأجل السفر(8/610)
لأن السفر لا يعجزه عن الصيام وله نهاية ينتهي إليها وهو من أفعاله الاختيارية والواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزئه أقل من ذلك وقال أبو حنيفة لو أطعم مسكينا واحدا في ستين يوما أجزأه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) يشترط في المساكين ثلاثة شروط الاسلام والحرية وأن يكون قد أكل الطعام، والمساكين هم الذين تدفع إليهم الزكاة لحاجتهم المذكورون في أبواب الزكاة ويدخل في ذلك الفقراء لأنهم وإن كانوا في الزكاة صنفين فهم في غيرها صنف واحد لكونهم يأخذون لحاجتهم إلى ما يكفيهم أو ما تتم به كفايتهم (أحدها) اسلامهم فلا يجوز دفعها إلى كافر ذمياً كان أو حربيا وبذلك قال الحسن والنخعي والاوزاعي ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز دفعها إلى الذمي لدخوله في اسم المساكين فيدخل في عموم الآية ولأنه مسكين من أهل دار الاسلام فأجزأ الدفع إليه من الكفارة كالمسلم وروي نحوه عن الشعبي وخرجه أبو الخطاب وجهاً في المذهب بناء على جواز اعتاقه في الكفارة وقال الثوري يعطيهم إذا لم يجد غيرهم ولنا أنهم كفار فلم يجز اعطاؤهم كمساكين أهل الحرب والآية مخصوصة بهذا فنقيس عليه.
(الثاني) أن يكونوا أحراراً فلا يجوز دفعها إلى عبد ولا مكاتب ولا أم ولد ولا خلاف في أنه لا يجوز دفعها إلى عبد لأن نفقته واجبة على سيده، ولا إلى أم ولد لذلك وبهذا قال مالك والشافعي واختار الشريف أبو جعفر جواز دفعها إلى مكاتبه وغيره وقال أبو الخطاب يتخرج دفعها إليه بناء على جواز اعتاقه لأنه يأخذ من الزكاة حاجته فأشبه المسكين(8/611)
ولنا أن الله تعالى عده صنفاً في الزكاة غير صنف المساكين ولا هو في معنى المساكين لأن حاجته من غير جنس حاجتهم فيدل على أنه ليس بمسكين والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته، وأما كفايته فإنها حاصلة بكسبه وماله فإن لم يكن له كسب ولا مال عجزه سيده ورجع إليه فاستغنى بانفاقه عليه، ويفارق الزكاة فانها تصرف إلى الغني والكفارة بخلافها (الثالث) أن يكونوا أكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يأكل الطعام لم يدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي وهو قول القاضي وهو ظاهر قول مالك فإنه قال يجوز الدفع إلى الفطيم وهذا إحدى الروايتين عن أحمد والثانية يجوز دفعها إلى الصغير الذي لم يطعم وبقبض له وليه وهذا الذي ذكره أبو الخطاب المذهب وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو الخطاب وهو قول أكثر الفقهاء لأنه حر مسلم محتاج فأشبه الكبير ولانه أكله للكفارة ليس بشرط وهذا يصرف الكفارة إلى ما يحتاج إليه مما تتم به كفايته فأشبه الكبير ولنا قوله تعالى (فاطعام عشرة مساكين) وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم يعتبر حقيقة أكلهم وجب اعتبار إمكانه ومظنته ولا تتحق مظنته فيمن لا يأكل ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته لجاز دفع القيمة(8/612)
ولم يتعين الاطعام وهذا يفسد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف في واحد جاز الدفع إليه كبيراً كان أو صغيراً محجوراً عليه أو غير محجور عليه إلا أن من لا حجر عليه يقبض لنفسه أو يقبض له وكيله والمحجور عليه كالصغير والمجنون يقبض له وليه.
* (مسألة) * (ولا يجوز دفعها إلى الكافر) وقد ذكرناه، ولا إلى من تلزمه مؤنته وقد ذكرنا ذلك في الزكاة وفي دفعها إلى الزوج وجهان بناء على دفع الزكاة إليه * (مسألة) * ويجوز دفع الكفارة إلى من ظاهره العقر فإن بان غنيا فهل يجزئه؟ فيه وجهان) بناء على الروايتين في الزكاة وإن بان كافراً أو عبداً لم يجزئه وجهاً واحداً * (مسألة) * (وإن رددها على مسكين واحد ستين يوما لم يجزئه إلا أن لا يجد غيره فيجزئه في ظاهر المذهب وعنه لا يجزئه وعنه يجزئه وإن وجد غيره)
وجملة ذلك أن الواجب في كفارة الظهار إطعام ستين مسكيناً للآية لا يجزئه أقل من ذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئه أن يطعم مسكينا واحدا في ستين يوما، وروي ذلك عن أحمد حكاه القاضي أبو الحسين لأن هذا المسكين لم يستوف إلا قوت يومه من هذه الكفارة فجاز أن يعطى منها كاليوم الأول، وعن أحمد رواية ثالثة أن وجدهم لم يجزئه لأنه أمكنه امتثال الأمر بصورته ومعناه وإن لم يجد غيره أجزأه لتعذر المساكين ووجه الأولى قول الله تعالى (فإطعام ستين مسكينا) وهذا لم يطعم إلا واحدا فلم يمتثل الأمر لأنه لم يطعم ستين مسكينا فلم يجزئه كما لو دفعها اليه في يوم واحد ولأنه لو جاز الدفع إليه في أيام لجاز الدفع اليه في يوم واحد كالزكاة وصدقة الفطر، يحقق هذا أن الله تعالى أمر بعدد المساكين لا بعدد الأيام وقائل هذا يعتبر عدد الأيام دون عدد المساكين، والمعنى في اليوم الأول أنه لم يستوف حقه من هذه الكفارة وفي اليوم الثاني قد استوفى حقه وأخذ منها قوت يوم فلم يجز أن يدفع إليه في اليوم الثاني كما لو أوصى انسان بشئ لستين مسكينا(8/613)
* (مسألة) * (وإن دفع إلى مسكين واحد في يوم من كفارتين أجزأه) وهذا مذهب الشافعي وهو اختيار الخرقي لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب فأجزأ كما لو دفع إليه المدين في يومين وفيه رواية أخرى أنه لا يجزئه وهو قول أبي حنيفة لأنه استوفى قوت يوم من كفارة فلم يجز الدفع إليه ثانياً كما لو دفعها إليه من كفارة واحدة، فعلى هذه الرواية يجزئه عن احدى الكفارتين وهل لها الرجوع في الاخرى؟ ينظر فإن كان اعلمه أنها عن كفارتين فله الرجوع وإلا فلا ويتخرج أن لا يرجع بشئ على ما ذكرنا في الزكاة، والرواية الأولى أقيس وأصح فإن اعتبار عدد المساكين أولى من اعتبار عدد الأيام ولو دفع إليه ذلك في يوم أجزأه ولأنه لو كان الدافع اثنين أجزأ عنهما فكذلك إذا كان الدافع واحدا ولو دفع ستين مدا إلى ثلاثين مسكينا من كفارة واحدة أجزأه من ذلك ثلاثون ويطعم ثلاثين آخرين فإن دفع الستين من كفارتين خرج على الروايتين في المسألة قبلها وهي إذا أطعم مسكينا واحدا مدين من كفارتين في يوم واحد.
* (مسألة) * (والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب سواء كان قوت بلده أو لم يكن) وما عداها فقال القاضي: لا يجزئ اخراجه سواء كان قوت بلده أو لم يكن لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأوصاف على ما جاء في الأحاديث التي نذكرها ولأنه الجنس المخرج في الفطرة فلم يجز غيره كما لو لم يكن قوت بلده * (مسألة) * (فإن كان قوت بلده غير ذلك كالذرة والدخن والأرز لم يجز اخراجه على قول القاضي وقال أبو الخطاب عندي أنه يجزئه الاخراج من جميع الحبوب التي هي قوت بلده لأن الله تعالى قال (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وهذا مما يطعمه أهله فوجب أن يجزئه بظاهر النص وهذا مذهب الشافعي فإن أخرجه عن قوت بلده أجود منه فقد زاد خيراً * (مسألة) * (وإخراج الحب أفضل عند أبي عبد الله) لأنه يخرج به من الخلاف وهي حالة كماله لانه يدخر فيها ويتهيأ لمنافعه كلها بخلاف غيره فإن أخرج دقيقا جاز لكن يزيد على المد قدرا يبلغ المد حبا أو يخرجه بالوزن لأن الحب يروع فيكون في مكيال الحب أكثر مما يكون في مكيال الدقيق قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فيعطي البر والدقيق قال أما الذي جاء فالبر ولكن إن أعطاهم الدقيق بالوزن جاز وقال الشافعي لا يجزئ لأنه ليس بحال الكمال لاجل ما يقوت به من وجوه الانتفاع فأشبه الهريسة(8/614)
ولنا قول الله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم والدقيق من أوسط ما يطعمه أهله ولأن الدقيق أجزاء الحنطة وقد كفاهم مؤنته وطحنه وهيأه وقربه من الأكل وفارق الهريسة فانها تفسد عن قرب ولا يمكن الانتفاع بها في غير الأكل في تلك الحال بخلاف مسئلتنا * (مسألة) * (وفي الخبز روايتان) (إحداهما) يجزئ اختارها الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال قلت لأبي عبد الله رجل أخذ ثلاثة عشر رطلا وثلثا دقيقا وهو كفارة اليمين فخبزه للمساكين وقسم الخبز على عشرة مساكين أيجزئه ذلك؟ قال ذلك أعجب إلى والذي جاء فيه الحديث أن يطعمهم مد بر وهذا أن فعل
فأرجو أن يجزئه قلت إنما قال الله (فاطعام عشرة مساكين) فهذا قد أطعمهم وأوفاهم المد قال أرجو أن يجزئه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، ونقل الأثرم في موضع آخر أن أحمد سأله رجل عن الكفارة قال أطعمهم خبزاً وتمراً قال ليس فيه تمر قال فخبز قال لا ولكن برا أو دقيقا بالوزن رطل وثلث لكل مسكين فظاهر هذا أنه لا يجزئه وهو مذهب الشافعي لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار فأشبه الهريسة، قال شيخنا والأول أحسن لأن الله تعالى قال (فاطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم وهذا من أوسط ما يطعم أهله وليس الادخار مقصودا في الكفارة فانها مقدرة بما يقوت المسكين في يومه فيدل ذلك على أن المقصود كفايته في يومه وهذا قد هيأه للأكل المعتاد للاقتيات وكفاهم مؤنته فأشبه ما لو نقى الحنطة وغسلها، فأما الهريسة والكبولا ونحوهما فلا يجزئ لأنهما خرجا عن الاقتيات المعتاد إلى حيز الادام، وأما السويق فيحتمل الا يجزئ لذلك ويحتمل أن يجزئ لأنه يقتات(8/615)
في بعض البلدان ولأن السويق يجزئ في الفطرة فكذلك ههنا * (مسألة) * (ولا يجزئ من البر أقل من مد ولا من غيره أقل من مدين) وجملة ذلك أن قدر الاطعام في الكفارات مد من بر لكل مسكين أو نصف صاع تمر أو شعير وممن قال مد بر زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد ورواه عنهم الأثرم وعن عطاء وسليمان بن موسى وقال سليمان بن يسار أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو هريرة يطعم مدا من أي الأنواع كان، وبه قال عطاء والاوزاعي والشافعي لما روى أبو داود بإسناده عن أوس بن أخي عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكيناً، وروى الأثرم باسناده عن أبي هريرة في حديث المجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال " خذه وتصدق به " وإذا ثبت هذا في المجامع بالخبر ثبت في المظاهر قياساً عليه ولأنه اطعام واجب فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج كالفطرة، وقال مالك لكل مسكين مدان من جميع الانواع، وممن قال مدان من قمح مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي لأنها كفارة تشتمل على صيام
واطعام فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى، وقال الثوري وأصحاب الرأي من القمح مدان ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن صخر " فأطعم وسقا من تمر " رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما وروى الخلال بإسناده عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " فليطعم ستين مسكيناً وسقاً (1) من تمر " وفي رواية أبي داود
__________
(1) لعله عرقا(8/616)
والعرق ستون صاعا، وروى ابن ماجة بإسناده عن ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس " فمن لم يجد فنصف صاع من بر " وروى الأثرم باسناده عن عمر رضي الله عنه قال: أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر ولانه اطعام للمساكين فكان صاعاً من التمر والشعير أو نصف صاع من بر كصدقة الفطر ولنا ما روى الإمام أحمد ثنا إسماعيل ثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر " أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مدبر " وهذا نص ولأنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفاً فكان اجماعا وعلى أنه نصف صاع من التمر والشعير ما روى عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخويلة امرأة أوس ابن الصامت " اذهبي إلى فلان الأنصاري فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا " وفي حديث أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني سأعينه بعرق من تمر - قلت يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر - قال أحسنت اذهبي فأطعمي(8/617)
بها عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك " وروى أبو داود بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال العرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا فالعرقان ثلاثون صاعا لكل مسكين نصف صاع ولأنها كفارة تشتمل على صيام واطعام فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير كفدية الأذى، وأما رواية أبي داود أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها وقال غيرها أصح منها وفي الحديث ما يدل
على الضعف لأن ذلك في سياق قوله " إني سأعينه بعرق - فقال امرأته إني سأعينه بعرق آخر - قال - فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً " فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به، وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا فقال تصدق به فيحتمل أنه اقتصر عليه إذا لم يجد سواه ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا وليس ذلك مذهبا لأحد فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه وحديث أوس أخي عبادة مرسل يرويه عنه عطاء ولم يدركه على أنه حجة لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عرقا وأعانته امرأته بعرق آخر فصارا جميعا ثلاثين صاعا كما فسر أبو سلمة بن عبد الرحمن وسائر الأحاديث يجمع بينها وبين اخبارنا بحملها على الجواز واخبارنا على الاجزاء، وقد عضد هذان ابن(8/618)
عباس راوي بعضها ومذهبه أن المد من البر يجزئ وكذلك أبو هريرة وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الاجماع الذي نقله سليمان بن يسار * (مسألة) * (ولا يجزئ من الخبر أقل من رطلين بالعراقي إلا أن يعلم أنه مد) وجملة ذلك أنه إذا أعطى المسكين رطلي خبز بالعراقي أجزأه ذكره الخرقي وذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم خمس أواقي وسبع أوقية لأن ذلك لا يكون أقل من مد وقال القاضي المد يجئ منه رطلان لأن الغالب أن رطلين من الخبز لا يكون أقل من مد فأما ان علم أنه مد بحيث يأخذ مدا من حنطة فيطحنه ويخبزه أو رطلا وثلثاً من دقيق الحنطة فيصنعه خبزاً فيجزئه وهذا في البر فأما إن كان من الشعير فلا يجزيه الا ضعف ما قدرنا أو يخبز نصف صاع شعير كما قلنا في البر ويخرجه فيجزئه * (مسألة) * (فإن أخرج القيمة أو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه ويحتمل أن يجزئه لا يجزئ إخراج القيمة في الكفارة) نقلها الميموني والاثرم وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر وهو الظاهر من قول عمر بن الخطاب وابن عباس وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي لأن المقصود دفع حاجة المسكين وهو يحصل بذلك(8/619)
وخرج بعض أصحابنا من كلام أحمد رواية أخرى انه يجزئه وهو ما روى الأثرم أن رجلا سأل أحمد قال أعطيت في كفارة خمس دوانيق فقال لو استشرتني قبل أن تعطي لم أشر عليك ولكن أعط ما بقي من الأثمان على ما قلت لك وسكت عن الذي أعطى وهذا ليس برواية وإنما سكت عن الذي أعطى لأنه مختلف فيه فلم ير التضييق عليه فيه والمذهب الأول لظاهر قوله سبحانه (فإطعام ستين مسكينا) ومن أخرج القيمة لم يطعم وقد ذكرناه في الزكاة * (مسألة) * (وإن غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه وعنه يجزئه) ظاهر المذهب في كيفية إطعام المساكين أن الواجب أن يملك كل انسان من المساكين القدر الواجب من الكفارة فلو غدى المساكين أو عشاهم لم يحزئه سواء كان ذلك بقدر الواجب أو أقل أو أكثر، ولو غدى كل واحد غداء لم يجزئه إلا أن يملكه إياه وهذا مذهب الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم وهو قول النخعي وأبي حنيفة وأطعم أنس في فدية الصيام قال أحمد أطعم شيئاً كثيراً وضع الجفان، وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وذلك لقول الله تعالى (فإطعام ستين مسكينا) وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئه ولأنه أطعم(8/620)
المساكين فأجزأه كما لو ملكهم ووجه الأولى أن المنقول عن الصحابة اعطاؤهم ففي قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة مد لكل فقير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب في فدية الأذى " أطعم ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين " ولأنه مال وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة فإن قلنا يجزئ اشترط ان يغديهم ستين مدا فصاعدا ليكون قد أطعمهم قدر الواجب، وإن قلنا لا يجزئ أن يغديهم فقدم إليهم ستين مدا وقال هذا بينكم بالسوية فقبلوه أجزأ لأنه ملكهم التصرف فيه والامتناع قبل القسمة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو عبد الله بن حامد يجزئه وإن لم يقل بالسوية لأن قوله خذوها عن كفارتي يقتضي التسوية لأن ذلك حكمها وقال القاضي إن علم أنه وصل إلى كل واحد قدر حقه أجزأ وإن لم يعلم لم يجزئه لأن الأصل شغل ذمته ما لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه، ووجه الأول أنه دفع الحق إلى مستحقه مشاعاً فقبلوه فبرئ منه كديون غرمائه
(فصل) ولا يجب التتابع في الاطعام نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقيل له يكون عليه كفارة يمين فيطعم اليوم واحداً والآخر بعد أيام وآخر بعد حتى يستكمل عشرة فلم ير بذلك بأساً وذلك لأن(8/621)
الله تعالى لم يشترط التتابع فيه ولو وطئ في أثناء الاطعام لم يلزمه اعادة ما مضى منه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يستأنف لأنه وطئ في أثناء الكفارة فوجب الاستئناف كالصيام ولنا أنه وطئ في أثناء ما لا يشترط فيه التتابع فلم يوجب الاستئناف كوطئ غير المظاهر منها أو كما لو وطئ في كفارة اليمين وبهذا فارق الصيام (فصل) ولا يجزئ الاخراج إلا بنية وكذلك الاعتاق والصيام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " ولان العتق يقع متبرعا به وعن كفارة أخرى أو نذر فلم ينصرف إلى هذه الكفارة إلا بنيته وصفتها إن ينوي العتق أو الاطعام أو الصيام عن الكفارة فإن زاد الواجبة فهو تأكيد وإلا أجزأت نية الكفارة وإن نوى وجوبها ولم ينو الكفارة لم تجزئه لأن الوجوب يتنوع عن كفارة ونذر(8/622)
فوجب تمييزه وموضوع النية مع التكفير أو قبله بيسير وهذا الذي نص عليه الشافعي وقال به بعض أصحابه وقال بعضهم لا يجزئ حتى يستصحب النية وإن كانت الكفارة صياماً اشترطت نية الصيام عن الكفارة في كل ليلة لقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " * (مسألة) * (فإن كانت عليه كفارة واحدة فنوى عن كفارتي أجزأه لأن النية تعينت لها وإن كان عليه كفارات من جنس واحد لم يجب تعيين سببها) وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً.
فعلى هذا لو كان مظاهراً من أربع نسائه فأعتق عبداً عن ظهاره أجزأه عن إحداهن وحلت له إحداهن غير معينة لأنه واجب من جنس واحد فأجزأته نية مطلقة كما لو كان عليه صوم يومين من رمضان، وقياس المذهب أنه يقرع(8/623)
بينهن فتخرج المحللة منهن بالقرعة، وهذا قول أبي ثور وقال الشافعي له أن يصرفها إلى أيتهن شاء
فتحل، وهذا يفضي إلى أنه يتخير بين كون هذه المرأة محللة له أو محرمة عليه وإن كان الظهار من ثلاث نسوة فأعتق عبداً عن إحداهن ثم صام شهرين عن أخرى ثم مرض فأطعم ستين مسكينا عن أخرى أجزأه وله الجميع من غير قرعة ولا تعيين، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يقرع بينهن فمن تقع لها القرعة فالعتق لها ثم يقرع بين الباقيتين فمن تقع لها القرعة فالصيام لها والاطعام عن الثالثة لأن كل واحدة من هذه الخصال لو انفردت احتاجت إلى قرعة فكذلك إذا اجتمعت ولنا أن التكفير قد حصل عن الثلاث وزالت حرمة الظهار فلم يحتج إلى قرعه كما لو اعتق ثلاثة عن ظهارهن دفعة واحدة * (مسألة) * (وإن كانت من أجناس كظهار وقتل وجماع في رمضان ويمين فقال أبو الخطاب لا تفتقر إلى تعيين السبب.
وبهذا قال الشافعي لأنها عبادة واجبة فلم تفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها كما لو كان من جنس واحد)(8/624)
وقال القاضي يحتمل أن يشترط تعيين سببها ولا يجزئ بنية مطلقة وحكاه بعض أصحاب الشافعي عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنهما عبادتان من جنسين فوجب تعيين النية لهما كما لو وجب عليه صوم من قضاء ونذر فعلى هذا لو كانت عليه كفارة واحدة لا يعلم سببها أجزأته كفارة واحدة على الوجه الأول قاله أبو بكر وعلى الوجه الثاني ينبغي أن يلزمه كفارات بعدد الأسباب كل واحد عن سبب كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها فإنه يلزمه خمس صلوات، ولو علم أن عليه يوماً لا يعلم هل هو من قضاء أو من نذر لزمه صوم يومين فإن كان عليه صيام ثلاثة أيام لا يدري أهي من كفارة أو نذر أو قضاء لزمه صوم تسعة أيام كل ثلاثة عن واحدة من الجهات الثلاث (فصل) إذا كان على رجل كفارتان فاعتق عنهما عبدين لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول اعتقت هذا عن هذه الكفارة وهذا عن هذه فيجزئه اجماعاً (الثاني) أن يقول اعتقت هذا عن احدى الكفارتين وهذا عن الاخرى من غير تعيين فإن كانا من جنس واحد ككفارتي ظهار أو قتل أجزأه وإن كانتا من جنسين ككفارة ظهار وكفارة قتل خرج
على وجهين في اشتراط تعيين السبب فإن قلنا يشترط لم يجزئه واحد منهما وإن قلنا لا يشترط أجزأه عنهما (الثالث) أن يقول اعتقتهما عن الكفارتين فإن كانتا من جنس أجزأ عنهما ويقع كل واحد عن كفارة لأن عرف الشرع والاستعمال اعتاق الرقبة عن الكفارة فإذا أطلق ذلك وجب حمله عليه وإن(8/625)
كانتا من جنسين خرج على الوجهين (الرابع) أن يعتق كل واحد منهما عنهما جميعاً فيكون معتقا عن كل واحدة من الكفارتين نصف العبدين فينبني على أصل آخر وهو إذا اعتق نصف رقبتين عن كفارة هل يجزئه اولا؟ فعلى قول الخرقي يجزئه لأن الأشقاص بمنزلة الأشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير بدليل الزكاة فإن من ملك نصف ثمانين شاة كان كمن ملك أربعين ولا تلزم الأضحية فإنه يمنع منها العيب اليسير.
وقال أبو بكر وابن حامد ولا يجزئه وهو قول مالك وأبي حنيفة لأن ما أمر بصرفه إلى شخص في الكفارة لم يجز تفريقه على اثنين كالمد في الاطعام ولأصحاب الشافعي كهذين الوجهين، ولهم وجه ثالث وهو أنه إن كان باقيهما حراً أجزأ وإلا فلا لأنه متى كان باقيهما حراً حصل تكميل الأحكام والتصرف وخرجه القاضي وجها لنا أيضاً إلا أن للمعترض عليه أن يقول إن تكميل الأحكام ما حصل بعتق هذا وإنما حصل بانضمامه إلى عتق النصف الآخر فلم يجزئه فإذا قلنا لا يجزئ عتق النصفين لم يجز في هذه المسألة عن شئ من الكفارتين وإن قلنا يجزئ وكانت الكفارتان من جنس أجزأ العتق عنهما وإن كانتا من جنسين فقد قيل يخرج على الوجهين والصحيح أنه يجزئ وجهاً واحداً لأن عتق النصفين عنهما كعتق عبدين عنهما (فصل) ولا يجوز تقديم كفارة الظهار قبله لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه فلو قال لعبده أنت حر الساعة إن تظاهرت عتق ولم يجزئه عن ظها إن تظاهر لأنه قدم الكفارة على سببها المختص لم يجز كما لو قدم كفارة القتل على الجرح، ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فانت علي كظهر أمي(8/626)
لم يجز التكفير قبل دخول الدار لأنه تقديم للكفارة قبل الظهار فإن أعتق عبداً عن ظهاره ثم دخلت الدار عتق العبد وصار مظاهراً ولم يجزئه لأن الظهار معلق على شرط ولو قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري ثم قال لامرأته أنت علي كظهر أمي عتق العبد لوجود الشرط وهل يجزئه
وخرجه القاضي وجها لنا أيضاً إلا أن للمعترض عليه أن يقول إن تكميل الأحكام ما حصل بعتق هذا وإنما حصل بانضمامه إلى عتق النصف الآخر فلم يجزئه فإذا قلنا لا يجزئ عتق النصفين لم يجز في هذه المسألة عن شئ من الكفارتين وإن قلنا يجزئ وكانت الكفارتان من جنس أجزأ العتق عنهما وإن كانتا من جنسين فقد قيل يخرج على الوجهين والصحيح أنه يجزئ وجهاً واحداً لأن عتق النصفين عنهما كعتق عبدين عنهما (فصل) ولا يجوز تقديم كفارة الظهار قبله لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه فلو قال لعبده أنت حر الساعة إن تظاهرت عتق ولم يجزئه عن ظها إن تظاهر لأنه قدم الكفارة على سببها المختص لم يجز كما لو قدم كفارة القتل على الجرح، ولو قال لامرأته إن دخلت الدار فانت علي كظهر أمي(8/627)
لم يجز التكفير قبل دخول الدار لأنه تقديم للكفارة قبل الظهار فإن أعتق عبداً عن ظهاره ثم دخلت الدار عتق العبد وصار مظاهراً ولم يجزئه لأن الظهار معلق على شرط ولو قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري ثم قال لامرأته أنت علي كظهر أمي عتق العبد لوجود الشرط وهل يجزئه عن الكفارة فيه وجهان (أحدهما) يجئه لأنه عتق بعد الظها وقد نوى اعتاقه عن الكفارة (والثاني) لا يجزئه لأن عتقه مستحق بسبب آخر وهو الشرط ولان النية لم توجد عند عتق العبد والنية عند التعليق لا تجزئ لأنه تقديم لها على سببها والله سبحانه وتعالى أعلم آخر الباب ويتلوه باب اللعان إن شاء الله تعالى، تم تسويد كتابة ذلك الكتاب في اليوم السادس من العشر الثانية من الشهر السابع من السنة السادسة من العشر الخامسة من المائة الثالثة من الالف الثاني من الهجرة النبوية على مهاجرها افضل الصلاة والسلام بقلم الفقير إلى الله محمد بن حمد بن نصر الله بن فوزان بن نصر الله بن محمد بن عيسي بن حمد بن عيسي بن صقر بن مشعاب ان تجد عيبا فسد الخللا * جل من لا عيب فيه وعلا * (تم بحمد الله وعونه الجزء الثامن من كتابي المغني والشرح الكبير) * * (ويليه بمشيئة الله وتوفيقه الجزء التاسع وأوله (كتاب اللعان) *(8/627)
بسم الله الرحمن الرحيم (كتاب اللعان) قيل هو مشتق من اللعن لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً.
وقال القاضي سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإبعاد، والأصل فيه قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) الايات وروى سهل ابن سعد أن عويمراً العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أنزل الله عزوجل فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها " قال سهل فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا(9/2)
قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها.
فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه.
وروى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم - فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندهم رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثه واشتد عليه فنزلت (والذين يرمون أزواجهم
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم) الآيتين كلتيهما فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً " قال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله لقد صدقت عليها: فقالت كذب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعنوا بينهما " فقيل لهلال اشهد فقال أشهد بالله فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال والله لا يعذبني الله عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قيل لها: اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب(9/3)
فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها، وقال " إن جاءت به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين فهو للذي رميت به " فجاءت به جعداً أورق جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " قال عكرمة فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يدعى لأب.
ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً " (مسألة) (إذا قذف الرجل زوجته بالزنا فله إسقاط الحد عنه باللعان) وجملة ذلك أن الرجل إذا قذف زوجته المحصنة بالزنا وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن، فإن لم يأت بأربعة شهداء وامتنع من اللعان لزمه ذلك كله وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجب اللعان دون الحد فإن أبى حبس حتى يلاعن لأن الله تعالى قال (والذين(9/4)
يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه) الآيات فلم يوجب بقذف الأزواج إلا اللعان ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون) وهذا عام في الزوج وغيره وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية " البينة والاحد في ظهرك " وقوله له لما لاعن " عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة " ولأنه قاذف فلزمه الحد كما لو اكذب نفسه إذا لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي (مسألة) (وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا ويشير إليها) ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى تسمية ونسب كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود، وإن لم تكن حاضرة أسماها حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يقول في الخامسة وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.
ثم تقول هي أشهد بالله أن زوجي هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه إن كان حاضراً وإن كان غائباً أسمته ونسبته فإذا كملت أربع مرات تقول في الخامسة وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا لقول(9/5)
الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات ولما ذكرنا من حديث عويمر العجلاني وحديث هلال بن أمية في أول الباب (مسألة) (فإن نقص أحدهما من الألفاظ الخمسة شيئاً أو بدأت باللعان قبله أو تلاعنا بغير حضرة الحاكم أو نائبه لم يعتد به) وجملة ذلك أنه يشترط في صحة اللعان شروط ستة (أحدها) استكمال اللفظات الخمسة فان نقص منها لفظة لم يصح لأن الله تعالى علق الحكم عليها فلا يثبت بدونها ولأنها بينة فلم يجز النقص من عددها
كالشهادة (الثاني) أن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد القائه عليه فإن بادر قبل أن يلقيه الإمام عليه أو نائبه لم يصح كما لو حلف قبل أن يحلفه الحاكم (الثالث) أن يبدأ الزوج باللعان فإن بدأت المرأة به قبله لم يعتد به لأنه خلاف ما ورد به الشرع وكذلك إن قدم الرجل اللعنة على شئ من الألفاظ الأربعة أو قدمت المرأة الغضب، ولأن لعان الرجل بينة الإثبات ولعان المرأة بينة الإنكار فلم يجز تقديم الإنكار على الإثبات (الرابع) أن يكون بحضرة الحاكم أو نائبه لأنه يمين في دعوى فاعتبر فيه أمر الحاكم كسائر الدعاوى (الخامس) أن يشير كل واحد منهما إلى صاحبه وإن كان حاضراً أو يسميه أو ينسبه إن كان غائباً ولا يشترط حضورهما معاً بل لو كان أحدهما غائباً عن صاحبه قبل، وإن لاعن الرجل في المسجد والمرأة على بابه لعذر جاز(9/6)
(مسألة) (وإن أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف أو لفظة اللعنة بالإبعاد أو الغضب بالسخط فعلى وجهين) وهذا الشرط السادس وهو أن يأتي بالألفاظ على صورة ما ورد في الشرع فإن أبدل لفظاً منها فظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يبدل قوله من الصادقين بقوله لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها إبدال إنه لمن الكاذبين بقولها لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن، وإن أبدل لفظ أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال أقسم أو أحلف لم يعتد به وفيه وجه آخر أنه يعتد به ذكره أبو الخطاب لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو أبدل إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت وللشافعي وجهان في هذا.
قال شيخنا والصحيح أن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق ولأن اللعان يقصد فيه التغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز بدله، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد، وفيه وجه آخر أنه يعتد به لأنه أتى بالمعنى أشبه ما قبله، فإن ابدل لفظة اللعنة بالإبعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأن معناهما واحد، وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا اختصت المرأة به لأن إثمها أعظم والمعرة بزناها أقبح، وإن أبدلتها
بالسخط خرج على وجهين فيما إذا أبدل الرجل لفظ اللعنة بالإبعاد، وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بالغضب(9/7)
احتمل أن يجوز لأنه أبلغ واحتمل أن لا يجوز لمخالفة المنصوص، قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة: من الفقهاء من اشترط أن يراد بقوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله سبحانه أنزل ذلك فبينه ولم يذكر هذا الاشتراط (مسألة) (ومن قدر على اللعان بالعربية لم يصح منه إلا بها فإن عجز عنها لزمه تعلمها في أحد الوجهين وفي الآخر يصح بلسانه) إذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية فلم يصح بغيرها كأذكار الصلاة، وإن لم يحسنها بالعربية لزمه تعلمها في أحد الوجهين وفي الآخر يصح بلسانه ولا يلزمه التعلم لأنه موضع حاجة كما قلنا في النكاح وهو أصح إن شاء الله تعالى، فإن كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ذلك، ويستحب أن يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما وإن كان الحاكم لا يحسن فلا بد من ترجمان، قال القاضي ولا يجزئ في الترجمة أقل من عدلين وهو قول الشافعي وظاهر قول الخرقي وفيه رواية أخرى أنه يجزئ قول عدل واحد ذكرها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وسنذكر ذلك في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإذا فهمت إشارة الأخرس أو كتابته صح لعانه بها وإلا فلا) وجملة ذلك أن الأخرس والخرساء إذا كانا غير معلومي الإشارة والكتابة لم يصح لعانهما لأنه(9/8)
لا يتصور منهما لعان ولا يعلم من الزوج قذف ولا من المرأة مطالبة وإن كانا معلومي الإشارة والكتابة فقد قال أحمد إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها وحكاه ابن المنذر عنه وعن أبي عبيد واسحاق وأصحاب الرأي فكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس وذلك لأن اللعان لفظ يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الاخرس كالشهادة الحقيقة ولأن الحد يدرأ بالشبهات والإشارة ليست صريحة كالنطق ولا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته
وقال القاضي وابو الخطاب هو كالناطق في قذفه ولعانه وهو مذهب الشافعي لأنه يصح طلاقه فصح قذفه ولعانه كالناطق وى * فارق الشهادة فإنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إليه فيها وفي اللعان لا يحصل إلا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق، قال شيخنا والأول أحسن لأن موجب القذف وجوب الحد وهو يدرأ بالشهادة، ومقصود اللعان الأصلي نفي النسب وهو يثبت بالإمكان مع ظهور انتفائه فلا ينبغي أن يشرع ما ينفيه ولا ما يوجب الحد مع الشبهة العظيمة ولذلك لم تقبل شهادته قولهم إن الشهادة تحصل من غيره قلنا قد لا تحصل إلا منه لاختصاصه برؤية المشهود عليه أو سماعه إياه (فصل) فإن قذف الأخرس ولاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل إنكاره للقذف لأنه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر ولا يقبل إنكاره له ويقبل إنكاره للعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه(9/9)
النسب ولا تعود الزوجية فإن قال أنا ألاعن لسقوط الحد ونفي النسب كان له ذلك لأنه إنما لزمه بإقراره أنه لم يلاعن فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك (مسألة) (وهل يصح لعان من اعتقل لسانه وأيس من نطقه بالإشارة؟ على وجهين) (أحدهما) يصح لأنه مأيوس من نطقه أشبه الأخرس (والثاني) لا يصح لأنه ليس بأخرس فلم يكتف بإشارته كغير المأيوس ذكر هذين الوجهين أبو الخطاب، وذكر شيخنا فيما إذا قذف وهو ناطق ثم خرس وأيس من نطقه أن حكمه حكم الأخرس الأصلي فإن رجي عود نطقه انتظر به ذلك ويرجع فيه إلى قول عدلين من أطباء المسلمين، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وذكر أنه يلاعن في الحالين بالإشارة لأن أمامة بنت أبي العاص أصمتت فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا فأشارت ان نعم فرأو أنها وصية، قال شيخنا وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر من الراوي لذلك ولم يعلم أنه قول من قوله حجة ولا علم هل كان ذلك لخرس يرجى زواله أولا؟ (فصل) قال الشيخ رحمه الله (والسنة أن يتلاعنا قياماً بمحضر جماعة في الأوقات والأماكن المعظمة) وجملة ذلك أنه يسن في اللعان أمور (أحدهما) أن يتلاعنا قياماً فيبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية " قم فاشهد أربع
شهادات " ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته وفي حديث ابن عباس فقام هلال فشهد(9/10)
ثم قامت فشهدت (الثاني) أن يكون بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروا مع حداثة أسنانهم فدل على أنه حضر جمع كثير لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعاً للرجال ولأن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع به والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ويستحب أن لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا التي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة وليس ينبني من هذا واجباً وبهذا كله قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً (الثالث) أن يكون في الأوقات والأماكن المعظمة وهذا قول أبي الخطاب وهو مذهب الشافعي إلا أن عنده في التغليظ بالمكان قولين (أحدهما) أن التغليظ به مستحب كالزمان (والثاني) أنه واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بينهما عند المنبر فكان فعله بياناً للعان ومعنى التغليظ بالمكان بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها، وأما الزمان فبعد العصر لقول الله تعالى (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) أجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر وقال أبو الخطاب في موضع آخر بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد، وقال القاضي لا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان، وبهذا قال أبو حنيفة لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان ولا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً بإحضار امرأته ولم يخصه بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل ولو استحب ما ذكروه لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو فعله لنقل ولم يسع(9/11)
تركه وإهماله ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دل حديثه في لعان أوس أنه إنما كان في صدر النهار لقوله في الحديث فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم والغدو في أول النهار، وهذا اختيار شيخنا وأما قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن ببنهما عند المنبر فليس هذا في شئ من الأحاديث المشهورة وإن ثبت هذا فلعله كان بحكم الإتفاق لأن مجلسه كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه، فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم فيه كالحكم في اللعان بين المسلمين ويحتمل أن يغلظ في المكان لقوله في الأيمان وان كان لهم مواضع
يعظمونها ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهم في المواضع التي يعظمونها اليهودي في البيعة، والنصراني في الكنيسة، والمجوسي في بيت النار، وإن لم يكن لهم مواضع يعظمونها أحلفهم الحاكم في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وإن كانت المرأة المسلمة حائظا وقلنا إن اللعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه (مسألة) (فإذا كان واحدة منهما الخامسة أمر الحاكم رجلاً فأمسك يده على في الرجل وامرأة تضع يدها على في المرأة ثم يعظه فيقول اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) لما روى ابن عباس في حديث المتلاعنين، قال فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمره به فأمسك على فيه فوعظه، وقال ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعا بها فشهدت بذلك أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم(9/12)
ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها، وقال ويلك كل شئ أهون عليك من غضب الله أخرجه الجوزجاني (مسألة) (وأن يكون ذلك بحضرة الحاكم أو نائبه) قد ذكرنا من شروط صحة اللعان أن بحضرة الحاكم أو نائبه.
وهذا مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهمأ ولأنه إما يمين وإما شهادة وأيهما كان فمن شرطه الحاكم فإن تراضى الزوجان بغير الحاكم فلاعن بينهما لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز لغير الحاكم كالحد وقد حكى شيخنا في آخر كتاب القضاء في كتابه المشروح: إذا تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء فحكماه بينهما أنه ينفذ حكمه في اللعان في ظاهر كلام أحمد ولذك حكاه أبو الخطاب وقيل لا ينفذ إلا في المال فيكون فيه روايتان (إحداهما) لا ينفذ لما ذكرنا.
(والثانية) ينفذ قياساً على حاكم الإمام وسواء كان الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي.
وقال أصحاب الشافعي للسيد أن يلاعن بين عبده وأمته لأن له إقامة الحد عليهما ولنا أنه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان بين الحرين ولا يسلم أن السيد
يملك إقامة الحد على أمته المزوجة ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب، واللعان إما شهادة وإما يمين، فافترقا، ولأن اللعان درأ للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به أو نفيه(9/13)
(مسألة) (وإن كان المرأة خفرة بعث من يلاعن بينهما) فيبعث نائبه ويبعث معه عدولاً ليلاعنوا بينهما وإن بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب كما يبعث من يستحلفها في الحقوق (مسألة) (وإذا قذف رجل نساءه فعليه أن يفرد كل واحدة بلعان وعنه يجزئه لعان واحد) إنما لزمه لكل واحدة لعان لأنه قذفها فلزمه لها لعان مفرد كما لو لم يقذف غيرها ويبدأ بلعان التي تبدأ بالمطالبة فإن طالبن جميعاً أو تشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة، وإن لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة مع المشاحة صح وعنه يجزئه لعان واحد لأن القذف واحد فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجاتي هؤلاء من الزنا وتقول كل واحدة أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا لأنه يحصل المقصود بذلك والأول أصح لأن اللعان أيمان فلا يتداخل لجماعة كالأيمان في الديون وعنه إن كان القذف بكلمة واحدة أجزأ لعان واحد، لأنه قذف واحد فخرج عن عهدته بلعان واحد كما لو قذف واحدة وإن قذفهن بكلمات أفرد كل واحدة بلعان لأنه أفرد كل واحدة بقذف أشبه ما لو قذف كل واحدة بعد لعان الأخرى(9/14)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا يصح إلا بشروط ثلاثة) (أحدها) أن يكون بين زوجين عاقلين بالغين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو رقيقين أو فاسقين أو كان أحدهما كذلك في إحدى الروايتين.
اختلف الرواية عن أحمد في ذلك فروي أنه يصح بين كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو عدلين أو فاسقين أو رقيقين أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
واسحاق.
قال أحمد في رواية إسحاق بن منصور جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية وعن أحمد رواية أخرى لا يصح اللعان إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف فان اختل شرط منها في أحدهما فلا لعان بينهما لفوات الشرط، روي هذا عن الزهري والثوري والاوزاعي وحماد وأصحاب الرأي، وعن مكحول ليس بين المسلم والذمية لعان، وعن عطاء والنخعي في المحدود في القذف يضرب في الحد ولا يلاعن، وروي فيه حديث ولا يثبت كذلك قال الشافعي والساجي لأن اللعان شهادة بدليل قوله تعالى (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) فاستثنى أنفسهم من الشهداء وقال (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) فلا تقبل ممن ليس من أهل الشهادة وإن كانت المرأة ممن لا تحد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لإسقاط الحد بدليل قوله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد(9/15)
أربع شهادات بالله) فلا حد ههنا فينتفي اللعان بانتفائه وذكر القاضي في المجرد أن من لا يجب الحد لقذفها وهي الأمة والذمية والمحدودة في الزنا لزوجها لعانها لنفي الولد خاصة وليس له لعانها لاسقاط حد القذف والتعزير لأن الحد لا يجب واللعان إنما يشرع لإسقاط حد أو نفي ولد فإذا لم يكن واحد منهما لم يشرع اللعان ولنا عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية ولأن اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه كسائر الأيمان ودليل أنه يمين قول النبي صلى الله عليه وسلم " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " وأنه يفتقر إلى اسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى وأما تسميته شهادة فلقوله أشهد بالله فسمي ذلك شهادة وإن كان يميناً كما قال تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) ولأن الزوج يحتاج إلى نفي الولد فيشرع له طريقاً إلى نفيه كما لو كانت امرأته ممن تحد بقذفها وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة وما يخالفها شاذ في النقل (فصل) ولا فرق بين كون الزوجة مدخولاً بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم عطاء والحسن
والشعبي والنخعي وعمرو بن دينار وقتادة ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وذلك لظاهر قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) فإن كانت غير مدخول بها فلها نصف الصداق وعنه لا شئ لها وقد ذكر ذلك في كتاب الصداق والله أعلم(9/16)
(مسألة) (وإن قذف أجنبية ثم تزوجها * حد ولم يلاعن) لأنه وجب في حال كونها أجنبية فلم يملك اللعان من أجله كما لو لم يتزوجها وكذلك إن قال لها وهي زوجته زنيت قبل أن أنكحك حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن وهو قول مالك وأبي ثورا وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي وقال الحسن وزرارة بن أوفى وأصحاب الرأي له أن يلاعن لأنه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه الى ما قبل النكاح وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية كذلك وقال الشافعي إن لم يكن ثم ولد يلاعن وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان ولنا أنه قذفها بزنا مضافاً إلى حال البينونة أشبه ما لو قذفها وهي بائن، وفارق قذف الزوجة لأنه محتاج إليه لأنها غاظته وخانته، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج لى ففيه وههنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه، فأما إن قذفها ولم يتزوجها فعليه للمحصنة الحد والتعزير لغيرها ولا لعان، ولا خلاف في هذا لأن الله تعالى قال (والذين يرمون المحصنات) الآية خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله سبحانه (والذين يرمون أزواجهم) فيبقى فيما عداه على قضية العموم، وإن ملك أمة وقذفها فلا لعان سواء كانت فراشاً له أو لم تكن ولا حد عليه ويعزر(9/17)
(فصل) فإن قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً يا زانية فنقل منهأ قال سألت أحمد عن رجال قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثاً فقال يلاعن قلت فإنهم يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة فقال بئس ما يقولون فهذا يلاعن لأنه قذفها قبل الحكم بينونها فأشبه قذف الرجعية.
فأما إن قال أنت طالق ثلاثا يا زانية
فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد ولم يلاعن لانه يتين إضافة القذف الى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد ابانها زنيت إذ كنت زوجتي على ما نذكره (مسألة) (وإن أبان زوجته ثم قذفها بزنا إضافة إلى حال الزوجية فإن كان بينهما ولد يريد نفيه فله أن ينفيه باللعان وإلا حد ولم يلاعن) وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يحد ويلحقه الولد ولا يلاعن وهو قول عطاء لأنها أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد ولنا أن هذا ولد يحلقه نسبه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح باقياً، ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية وتفارق سائر الأجنبيات فإنه لا يلحقه ولدهن فلا حاجة به إلى قذفهن، وقال عثمان البتي في هذه المسألة له أن يلاعن وإن لم يكن بينهما ولد وروي عن ابن عباس والحسن لأنه قذف مضاف إلى حال الزوجية أشبه ما لو كانت زوجته ولنا أنه إذا كان بينهما ولد فيه حاجة لى القذف نشرع كما لو قذفها وهي زوجته وإذا لم يكن له(9/18)
ولد فلا حاجة به اليه وقد قذفها وهي أجنبية فأشبه ما لو لم يضفه الى حال الزوجية، ومتى لاعنها لنفي ولدها انتفى وسقط عنه الحد، وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان، وهل له أن يلاعنها قبل وضع الولد؟ فيه وجهان (أحدها) له ذلك لأن من كان له لعانها بعد الوضع كان له لعانها قبله كالزوجة (والثاني) ليس له ذلك وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الولد عنده لا ينتفي في حال الحمل، ولأن اللعان ههنا إنما يثبت لأجل الولد فلم يجز أن يلاعن إلا بعد تحققه بوضعه، بخلاف الزوجة فإنه يجوز لعانها مع عدم الولد وهكذا الحكم في نفي الحمر في النكاح الفاسد (مسألة) (وإن قذفها في نكاح فاسد فهي كالمسألة التي قبلها إن كان بينهما ولد فله لعانها ونفيه وإن لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما) بهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية أشبهت سائر
الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد ولنا أن هذا ولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كالنكاح الصحيح، ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية، ويفارق الزوجة فانه يحتاج الى قذفها مع عدم لولد لكونها خائنة وأفسدت فراشه فإذا كان له ولد فالحاجة موجودة فيهما(9/19)
ومتى لاعن سقط الحد لأنه لعان مشروع لنفي الولد فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان (أحدهما) يثبت لأنه لعان صحيح أشبه لعان الزوجة (والثاني) لا يثبت لأن الفرقة لم تحصل به فإنه لا نكاح بينهما يثبت قطعه به بخلاف لعان الزوجة فإن الفرقة حصلت به ولو لاعنها من غير ولد لم يسقط الحد ولم يثبت التحريم المؤبد لأنه لعان فاسد فلم تثبت أحكامه وسواء اعتقد أن النكاح صحيح أو لم يعتقد ذلك لأن النكاح في نفسه بنكاح صحيح فأشبه ما لو لاعن أجنبية يظنها زوجته (مسألة) (وإن أبان امرأته بعد قذفها فله أن يلاعن سواء كان بينهما ولد أو لم يكن نص عليه) وروي ذلك عن الحسن والقاسم بن محمد ومكحول ومالك والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر وقال الحارث العكلي وجابر بن زيد وقتادة والحكم يجلد وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي لا حد عليه ولا لعان لأن اللعان إنما يكون بين زوجين وليس هذان بزوجين ولا يحد لأنه لم يقذف أجنبية.
ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) وهذا قد رمى زوجته فيدخل في عموم الآية وإذا لم يلاعن وجب الحد لعموم قوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولأنه قاذف لزوجته فوجب أن يكون له أن يلاعن كما لو بقيا على النكاح إلى حالة اللعان.(9/20)
(فصل) فإن قالت قذفني قبل أن يتزوجني وقال بل بعده أو قالت قذفني بعد * ما بنت منه وقال
بل قبله فالقول قوله لأن القول قوله في أصل القذف فكذلك في وقته.
وإن قالت أجنبية قذفتني قال كنت زوجتي حينئذ فأنكرت الزوجية فالقول قولها لأن الأصل عدمها (فصل) إذا استبرأ زوجته الأمة ثم أقر بوطئها ثم أتت بولد لستة أشهر كان لاحقا به إلا أن يدعي الاستبراء فينتفي عنه لأنه ملحق به بالوطئ في الملك دون النكاح لكون الملك حاضراً فكان كالزوج الثاني يلحق به الولد وإن أمكن أن يكون من الأول، وإن لم يكن أقر بوطئها أو أقر به وأتت بولد لدون ستة أشهر منذ وطئ كان ملحقاً بالنكاح إن أمكن ذلك وله نفيه باللعان وهل يثبت هذا اللعان التحريم المؤبد؟ على جهين (فصل) وإن قذف زوجته الرجعية صح لعانها سواء كان بينهما ولد أو لم يكن قال أبو طالب سألت أبا عبد الله عن الرجل يطلق تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال: قال ابن عباس لا يلاعن ويجلد وقال ابن عمر يلاعن ما كانت في العدة قال وقول ابن عمر أجود لأنها زوجة وهو يرثها وترثه فهو يلاعن وبهذا قال جابر بن زيد والنخعي والزهري وقتادة والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرجعية زوجة فكان له لعانها كما لو لم يطلقها (فصل) وكل موضع قلنا لا لعان فيه فالنسب لا حق فيه ويجب بالقذف موجبه من الحد(9/21)
والتعزير إلا أن يكون القاذف صبياً أو مجنوناً فلا ضرب فيه ولا لعان كذلك، وبه قال الثوري والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر قال ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم (مسألة) (فإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة عزر ولا لعان بينهما) وجملة ذلك أن الزوج إذا قذف امرأته وأحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول تحصل به الفرقة فلا يصح من غير مكلف كالطلاق أو يمين فلا يصح من غير مكلف كسائر الأيمان ولا يخلو غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما.
فإن كان الزوج فله حالان (أحدهما) أن يكون طفلاً (والثاني) أن يكون بالغاً زائل العقل فإن كان طفلا لم يصح منه القذف ولا يلزمه به جد لان لقلم مرفوع عنه وقوله غير معتبر وإن أتت امرأته بولد وكان له دون عشر سنين لم يلحقه
نسبه وكان منفياً عنه لأن العلم يحيط بأنه ليس منه فإن الله عزوجل لم يجر العادة بأن يكون له ولد يدون ذلك فينتفي عنه كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزوجها وإن كان ابن عشر فصاعداً فقال أبو بكر لا يلحق به إلا بعد البلوغ أيضاً لأن الولد لا يخلق إلا من ماء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ وقال ابن حامد يلحق به.
قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وهو مذهب الشافعي لان الولد يلحق بالإمكان وإن خالف الظاهر ولهذا لو أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحق بالزوج وإن كان خلاف الظاهر وكذلك يلحق به إذا أتت به لأربع سنين مع ندرته، وليس له نفيه في الحال حتى يتحقق بلوغه بأحد أسباب البلوغ فله نفي الولد أو استلحاقه، فإن قيل فإذا الحقتم به الولد فقد(9/22)
حكمتم ببلوغه سمعتم نفيه ولعانه؟ قلنا الحاق لولد يكفي فيه الإمكان والبلوغ لا يثبت إلا بسبب ظاهر ولأن إلحاق الولد به حق عليه واللعان حق له فلم يثبت مع الشك؟ فإن قيل فإن لم يكن بالغاً انتفى عنه الولد وإن كان بالغاً انتفى عنه اللعان قلنا إلا أنه لا يجوز أن يبتدئ اليمن مع الشك في صحتها فسقطت للشك فيها.
(الثاني) إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لأن القلم عنه مرفوع أيضاً، وإن أتت امرأته بولد فنسبه لاحق به لا مكانه ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله فإذا عقل فله نفي الولد حينئذ واستلحاقه، وإن ادعى أنه كان ذاهب العقل حين قذفه فأنكرت ذلك ولأحدهما بينة بما قال ثبت قوله وإن لم يكن لواحد منهما بينة ولم يكن له حال علم فيها زوال عقله فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل والظاهر السلامة والصحة، وإن عرفت له حال جنون ولم تعرف له حال إفاقة فالقول قوله مع يمينه، وإن عرفت له حال جنون وحالة إفاقة ففيه وجهان (أحدهما) القول قولها قال القاضي وهو قياس قول أصحابنا في الملفوف إذا ضربه فقده ثم ادعى أنه كان ميتاً وقال الولي كان حياً (الوجه الثاني) أن القول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الحد فلا يجب بالشك ولأن الحد يسقط بالشبهة ولا يشبه هذا الملفوف لأن الملفوف قد علم أنه كان حياً ولم يعلم منه ضد ذلك فنظيره(9/23)
في مسئلتنا أنه يعرف له حالة إفاقة ولا يعلم منه ضدها، وفي مسئلتنا قد تقدمت حالة جنون فيجوز أن يكون قد استرت إلى حين قذفه فإن كانت الزوجة غير مكلفة فقذفها الزوج فإن كانت طفلة لا يجامع مثلها فلا حد على قاذفها لأنه قول يتقين كذبه فيه وبراءة عرضها منه فلم يجب به حد كما لو قال أهل الدنيا زناة ولكنه يعزر للسب لا للقذف ولا يحتاج في التعزير إلى مطالبة لأنه مشروع لتأديبه للإمام فعله إذا رأى ذلك فإن كانت يجامع مثلها كابنة تسع سنين فعليه الحد وليس لوليها ولا لها المطالبة به حتى تبلغ فإذا بلغت فطالبت فلها الحد وله إسقاطه باللعان، وليس له لعانها قبل البلوغ لأن اللعان يراد لإسقاط الحد أو نفي الولد ولا حد عليه قبل بلوغها ولا ولد فينفيه، وإن أتت بولد حكم ببلوغها لأن الحمل أحد أسباب البلوغ ولأنه لا يكون إلا من نطفتها ومن ضرورته إنزالها وهو من أسباب بلوغها فإن قذف امرأته المجنونة بزنا وأضافه إلى حال إفاقتها أو قذفها وهي عاقلة ثم جنت لم يكن لها الطالبة ولا لوليها قبل إفاقتها لأن هذا طريقه التشفي فلا ينوب عنه الولي فيه كالقصاص فإذا أفاقت فلها المطالبة بالحد وللزوج إسقاطه باللعان، وإن أراد لعانها في حال جنونها ولا ولد ينفيه لم يكن له ذلك لعدم الحاجة إليه لأنه لم يتوجه عليه حد فيسقطه ولا نسب فينفيه، وإن كان هناك وله يريد نفيه فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذه لا يصح(9/24)
منها لعان، وقد نص أحمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن فهذه أولى، وقال الخرقي فيه العاقلة لا يعرض له حتى تطالبه زوجته وهذا قول أصحاب الرأي لأنها أحد الزوجين فلم يشرع اللعان مع جنونه كالزوج ولأن لعان الزوج وحده لا ينفى به الولد فلا فائدة في مشروعيته، وقال القاضي له أن يلاعن لنفي الولد لأنه محتاج الى نفيه فيشرع له طريق إليه، وقال الشافعي له أن يلاعن، وظاهر مذهبه أن له لعانها مع عدم الولد لدخوله في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولأنه زوج مكلف قاذف لامرأته التي يولد لمثلها فكان له أن يلاعنها كالعاقلة (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الشرط الثاني) أن يقذفها بالزنا فيقول زنيت أو يا زانية أو رأيتك
تزنين وسواء قذفها بزنا في القبل أو في الدبر لأن كل قذف يجب به الحد، وسواء في ذلك الأعمى والبصير نص عليه أحمد، وبهذا قال الثوري والشافعي وابو ثور وهو قول عطاء وقال يحيى الانصاري وابو الزناد ومالك لا يكون اللعان إلا بأحد أمرين إما رؤية وإما إنكار الحمل لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان قال رأيت بعيني وسمعت بأذني فلا يثبت اللعان إلا في مثله ولنا قول الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية وهذا رام لزوجته فيدخل في عموم الآية ولأن اللعان معنى يتخلص به من موجب القذف فيشرع في حق كل رام لزوجته كالبينة والأخذ بعموم(9/25)
اللفظ أولى من خصوص السبب ثم لم يعملوا به في قوله وسمعت بأذني إذا ثبت ذلك فسواء قذفها بزنا في القبل أو في الدبر وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يثبت اللعان بالقذف بالوطئ في الدبر وبناه على أصله في ان ذلك لا يجب به الحد ولنا أنه رام لزوجته بوطئ في فرجها فأشبه ما لو قذفها بالوطئ في قبلها (مسألة) (فإن قال وطئت بشبهة أو مكرهة فلا لعان بيهما) لأنه لم يقذفها بما يوجب الحد وعنه إن كان ثم ولد لاعن لنفيه وإلا فلا لأنه محتاج إلى نفيه (مسألة) (وإن قال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم ولا حد عليه لها) لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال أن يريد أنه من زوج آخر أو من وطئ شبهة أو غير ذلك ولكنه يسئل فان قال زنيت فولدت هذا من الزنا هذا قذف يثبت به اللعان، وإن قال أردت أنه لا يشبهني خلقاً ولا خلقاً فقالت بل أردت قذفي فالقول قوله لأنه أعلم بمراده لا سيما وقد صرح بقوله لم تزن فإن قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه أيضاً لأنه لم يقذفها ولا قذف واطئها وإن قال أكرهت على الزنا فلا حد عليه لأنه لم يقذفها ولا لعان في هذه المواضع لعدم القذف الذي هو من شرط اللعان ويلحقه نسب الولد وبهذا قال أبو حنيفة وذكر القاضي أنه إذا قال أكرهت رواية أخرى أن له اللعان لأنه محتاج الى نفي الولد بخلاف ما إذا قال وطئت بشبهة فإنه يمكنه نفي الولد(9/26)
بعرضه على القافة فيستغني بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع لعان أمته لما أمكن نفي ولدها بدعوى الاستبراء وهذا مذهب الشافعي ولنا أن اللعان إنما ورد به الشرع بعد القذف لقوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) الآية ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين هلال وامرأته وبين عويمر العجلاني وامرأته إنما كان بعد قذفه إياها ولا يثبت الحكم إلا في مثله، ولأن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بعد تمامه منهما ولا يتحقق اللعان من المرأة ههنا فأما إن قال وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فقد قذفها وله لعانها ونفي نسب ولدها وقال القاضي ليس له نفيه باللعان وكذلك قال أصحاب الشافعي لا يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة فأشبه ما لو قال واشتبه عليك أيضاً ولنا أنه رام لزوجته فيدخل في عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) ولأنه رام لزوجته بالزنا فملك لعانها ونفي ولدها كما لو قال زنى بك فلان وما ذكروه لا يصح فإنه قد لا يوجد قافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه أو يغيب أو يموت فلا ينتفي الولد، وإن قال ما ولدته وانما التقتطه أو استعرته فقالت بل هو ولدي منك لم يقبل قول المرأة إلا ببينة وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير بينة كالدين.
قال القاضي وكذلك لا تقبل دعواها في الولادة(9/27)
فيما إذا علق طلاقها بها ولا دعوى الأمة لها لتصير بها أم ولد ويقبل قولها فيه لتنقضي عدتها بها فعلى هذا لا يلحقه الولد إلا أن تقيم بينة وهي امرأة مرضية تشهد بولادتها له فإذا ثبتت ولادتها لحقه نسبه لأنه ولد على فراشه والولد للفراش وذكر القاضي في موضع آخر أن القول قول المرأة لقول الله تعالى (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه لأنه خارج من المرأة تنقضي به عدتها فقبل قولها فيه كالحيض ولأنه حكم معلق بالولادة فقبل قولها فيه كالحيض فعلى هذا يلحقه النسب وهل له نفيه باللعان فيه وجهان (أحدهما) له نفيه لأن إنكاره لولادتها إياه إقرار بأنها
لم تلده من زنا فلا يقبل إنكاره كذلك لأنه تكذيب لنفسه (والثاني) له نفيه لأنه رام لزوجته وناف لولدها فكان له نفيه باللعان كغيره (مسألة) (وإن قال ذلك بعد أن أبانها فشهدت امرأة مرضية أنه ولد على فراشه لحقه نسبه لأن شهادة المرأة الواحدة بالولادة مقبولة لأنها مما لا يطلع الرجال) (مسألة) (وإن ولدت توأمين فأقر بأحدهما ونفى الآخر لحقه نسبهما ويلاعن لنفي الحد عنه وقال القاضي يحد)(9/28)
إذا ولدت توأمين بينهما أقل من ستة أشهر فاستلحق أحدهما ونفى الآخر لحقا به لأن الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعاً لما استلحقه ولم يجعل ما أقر به تابعاً لما نفاه لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن كونه من غيره ألحقناه به احتياطاً ولم نقطعه عنه احتياطاً لنفيه فعلى هذا إن كان قد قذف أمهما فطالبته بالحد فله إسقاطه باللعان وحكي عن القاضي أنه يحد ولا يملك إسقاطه باللعان وهو مذهب الشافعي لأنه باستلحاقه اعترف بكونه في قذفه فلم يسمع إنكاره بعد ذلك ووجه الأول أنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من وجود الزنا كون الولد منه ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه فلا تنافي بين لعانه وبين استلحاقه للولد فإن إستلحق أحد التوأمين وسكت عن الآخر لحقه لأنه لو نفاه للحقه فإذا سكت عنه كان أولى ولأن امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر لحقاه جميعاً فإن قيل ألا نفيم المسكوت عنه لأنه قد نفى أخاه وهما حمل واحد؟ قلنا لحوق النسب مبني على التغليب وهو يثبت بمجرد الإمكان وإن لم يثبت الوطئ ولا ينتفي لإمكان النفي فافترقا.
فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول لأن اللعان يتناول الأول وحده ولا يحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ويحتمل أنه ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان لأنهما حمل واحد وقد(9/29)
لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان ذكره القاضي فان أقر بالثاني لحقه هو والاول لما ذكرناه وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضاً فأما إن نفى الولد باللعان ثم ولد آخر بعد ستة أشهر فهو من حمل آخر فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ولا ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول وإن لاعنها قبل وضع الأول فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني لأنها بانت باللعان وانقضت عدتها بوضع الأول وكان حملها الثاني بعد انقضاء عدتها في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه (فصل) فإن مات أحد التوأمين أو ماتا معافله أن يلاعن لنفي نسبهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه نسب الحي ولا يلاعن لنفي الحد لأن الميت لا يصح نفيه باللعان فإن نسبه قد انقطع بموته ولا حاجة الى نفيه باللعان كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح لكونه قد انقطع وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفي نسبه واسقاط مؤنته كالحي وكما لو كان للميت ولد (فصل) قال المنصف رضي الله عنه (الثالث) أن تكذبه به الزوجة ويستمر ذلك إلى انقضاء اللعان لأن الملاعنة إنما تنتظم من الزوجين وإذا لم تكذبه لم تلاعنه فلا يصح اللعان فإن صدقته أو سكتت(9/30)
لحقه النسب لأن الولد للفراش وإنما ينتفي عنه باللعان ولم يوجد اللعان لانتفاء شرطه فنفي النسب لا حق به ولا لعان في قياس المذهب ثم إن كان تصديقها له قبل لعانه فلا لعان بينهما لأن اللعان كالبينة إنما تقام مع الإنكار فإن كان بعد لعانه لم تلاعن هي لأنها لا تحلف مع الإقرار وحكمها حكم ما لو امتنعت من غير إقرار وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن صدقته قبل لعانه فعليها الحد وليس له أن يلاعن إلا أن يكون له نسب ينفيه فيلاعن وحده وينتفي النسب بمجرد لعانه وإن كان بعد لعانه فقد انتفى النسب ولزمها الحد بناء على أن النسب ينتفي بمجرد لعانه وتقع الفرقة ويجب الحد فإن الحد يجب باقراره مرة
وهذه الأصول تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى ولو أقرت أربعاً وجب الحد ولا لعان بينهما إذا لم يكن ثم نسب ينتفي وإن رجعت سقط الحد عنها بغير خلاف علمناه وبه يقول الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قال الرجوع عن الإقرار بالحد مقبول وليس له أن يلاعن للحد فإنه لم يجب عليه لتصديقها إياه فإن أراد لعانها لنفي نسب فليس له ذلك في جميع هذه الصور وهو ظاهر قول الخرقي وقول أصحاب الرأي وقال الشافعي له لعانها لنفي النسب فيها كلها لأنها لو كانت عفيفة صالحة فكذبته ملك نفي ولدها فإذا كانت فاجرة فصدقته فلأن يملك نفي ولدها أولى ووجه الأول أن نفى الولد إنما يكون بلعانهما معاً وقد تعذر اللعان منها لأنها لا تستحلف على نفي ما تقر به فتعذر نفي الولد لتعذر سببه كما لو مات بعد القذف وقبل اللعان(9/31)
(مسألة) (وإن مات أحدهما قبل اللعان ورثه صاحبه ولحقه نسب الولد ولا لعان) وجملة ذلك أنه إذا قذفها ثم مات قبل لعانهما أو قبل تمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في قول الجميع لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه وإن مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكذلك وقال الشافعي تبين بلعانه ويسقط التوارث وينتفي الولد ويلزمها الحد إلا أن تلتعن ولنا أنه مات قبل إكمال اللعان أشبه ما لو مات قبل إكمال التعانه وذلك لأن الشرع إنما رتب هذه الأحكام على اللعان التام والحكم لا يثبت قبل كمال سببه وإن ماتت المرأة قبل اللعان فقد ماتت على الزوجية ويرثها في قول عامة أهل العلم وروى عن ابن عباس إن التعن لم يرث ونحو ذلك عن الشعبي وعكرمة لأن اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث كما لو التعن في حياتها ولنا أنها ماتت على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن، ولأن اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكمه بعد موتها كالطلاق وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع الزوجية على أنا نقول إنه لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فهاهنا أولى، فإن قيل فعندكم لو التعن من الولد الميت ونفاه لم يرثه فكذلك الزوجة، قلنا لو التعن الزوج وحده دونها لم ينتف الولد ولم يثبت حكم اللعان على ما نذكره ثم الفرق بينهما أنه إذا نفى الولد تبينا أنه لم يكن منه أصلاً في حال من الأحوال والزوجة قد كانت امرأته فيما قبل اللعان وإنما يزيل نكاحها اللعان كما يزيله الطلاق فإذا ماتت قبل(9/32)
وجود ما يزيله فيكون موجوداً حال الموت فيوجب التوارث وينقطع بالموت فلا يمكن انقطاعه مرة أخرى فإن أراد الزوج اللعان ولم تكن طالبت بالحد في حياتها لم يكن له أن يلتعن سواء كان ثم ولد يريد نفيه أو لم يكن، وعند الشافعي إن كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن، وهذا ينبني على أصل وهو أن اللعان إنما يكون بين الزوجين، فإن لعان الرجل وحده لا يثبت به حكم وعندهم بخلاف ذلك فأما إن كانت طالبت بالحد في حياتها فإن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها فإن طولب به فله إسقاطه باللعان، ذكره القاضي وإلا فلا فإنه لا حاجة إليه مع عدم الطلب لأنه لا حد عليه، وقال أصحاب الشافعي إن كان للمرأة وارث غير الزوج فله اللعان ليسقط الحد عن نفسه وإلا فلا (مسألة) (وإن مات الولد فله لعانها ونفيه لأن شروط اللعان تتحقق بدون الولد فلا تنتفي بموته) (فصل) إذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد لم يكن لورثته الطلب به، وقال أصحاب الشافعي يورث وإن لم يكن طالب به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ترك حقاً فلورثته) ولأنه حق ثبت له في الحياة يورث إذا طالب به فبورث وإن لم يطالب به لحق للقصاص.
ولنا أنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة والحديث(9/33)
يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك، وأما حق القصاص فإنه حق يجوز الاعتياض عنه وينتقل إلى امال بخلاف هذا، فأما إن طالب به ثم مات فإنه يرثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح، وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي، ومتى ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه، وإن طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وإن عفا بعضهم لم يسقط وكان للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر فلم يتبعض كسائر الحدود ولا يسقط بإسقاط البعض لأنه يراد لدفع العار عن المقذوف وكل واحد من العصبات يقوم مقامه في استيفائه فيثبت له جميعه كولاية النكاح، ويافرق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه ههنا لسقط في غير العافي إلى غير بدل.
(فصل) وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما سببان فكانت له الخيرة في إقامة أيهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان ولأن كل اوحدة منهما يحصل بها ما لا يحصل بالا نرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإنامة الحد عليها ولا يحصل باللعان، فإن لاعنها ونفى ولدها ثم أراد إقامة البينة فله ذلك فإذا أقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة، وإن أقام البينة أو لا ثبت الزنا وموجبه ولم ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه، وان أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد يريد(9/34)
نفيه لم يكن ذلك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد نفيه فعلى قول القاضي له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك.
(فصل) وإن قذفها فطالبته بالحد فأقام شاهدين على إقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت تصديقها إياه ولم يجب عليها لأنه لا يجب إلا بإقرار أربع مرات ويسقط بالرجوع عن الإقرار فإن لم يكن له بينة حاضرة فقال لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب فإن أتى بالبينة والاحد إلا أن يلاعن إذا كان زوجا فإن قال قذفتها وهي صغيرة فقالت قذفني وأنا كبيرة وأقام كل واحد منهما بينة بما قال فهما قذفان وكذلك إن اختلفا في الكفر والرق أو الوقت لأنه لا تنافي بينهما إلا أن يكونا مؤرخين تاريخاً واحداً فيسقطان في أحد الوجهين وفي الآخر يقرع بينهما فمن خرجت قرعته قدمت بينته (فصل) فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانه وقذفها لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما وشهادة العدو لا تقبل على عدوه، وإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه لذلك لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ثم أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ولو شهدا أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما بطلت شهادتهما(9/35)
لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وإن كان بعد الحكم لم تبطل لأن الحكم تم قبل وجود المانع كظهور الفسق، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما لانهما ردت في البعض للتهمة فوجب أن ترد في الكل، وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما وبهذا قال
مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد وقال في القديم لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعاً وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشئ لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به وإن شهدا بطلاق الضرة ففيه وجهان (أحدهما) لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعاً وهو توفره على أمهما (والثاني) تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعاً (فصل) ولو شهد شاهد انه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر انه أقر بذلك بالعجمية ثبتت الشهادة لأن الاختلاف في العجمية والعربية عائد إلى الإقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف واحداً والإقرار في مرتين ولذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر انه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد آخر انه قذفها(9/36)
بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ففيه وجهان (أحدهما) تكمل للشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطاً في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف فيه كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية (والثاني) لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة، وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحداً أقر به في وقتين بلسانين (مسألة) (وإن لاعن ونكلت الزوجة عن اللعان خلي سبيلها ولحقه الولد ذكره الخرقي وعن أحمد أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن) إذا لاعن امرأته وامتنعت من الملاعنة فلا حد عليها والزوجية بحالها، وبه قال الحسن والاوزاعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن الحارث العكلي وعطاء الخراساني وذهب مكحول والشعبي ومالك
والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر إلى أن عليها الحد لقول الله تعالى(9/37)
(ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) والعذاب الذي يدرؤه عنها لعلها هو الحد المذكور في قوله تعالى (وليشهد عذابها طائفة من المؤمنين) ولأنه بلعانه حقق زناها فوجب عليها الحد كما لو شهد عليها أربعة ولنا أنه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد كما لو لم يلاعن ودليل ذلك أن تحقيق وزناها لا يخلو إما أن يكون بلعان الزوج أو بنكولها لا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو يثبت زناها به لما سمع لعلنها ولا وجب الحد على قاذفها ولأنه إما يمين وإما شهادة وكلاهم لا يثبت له الحق على غيره ولا يجوز أن يثبت بنكولها لأن الحد لا يثبت بالنكول فإنه يدرأ بالشبهات فلا يثبت بها، وذلك لأن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لثقلها على لسانها أو غير ذلك فلا يجوز إثبات الحد الذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود واعتبر في حقهم ان يصفوا صورة الفعل وأن يصرحوا بلفظه وغير ذلك مبالغة في نفي الشبهات عنه وتوسلاً إلى إسقاطه، ولا يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شئ من الحدود ولا العقوبات ولا ما عدا الأموال مع أن الشافعي لا يرى القضاء بالنكول في شئ فكيف يقضي به في أعظم الأمور أبعدها ثبوتاً وأسرعها سقوطاً؟ ولانها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على برأتها أولى، ولا يجوز أن يقضى فيه بهما لأن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين(9/38)
مع النكول كسائر الحقوق ولأن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا ينتفي بضم أحدهما إلى الآخر فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وعجزها عن النطق باللعان في مجمع الناس لا يزول بالعان الزوج، والعذاب يجوز أن يكون الحبس أو غيره فلا يتعين في الحد، وإن احتمل أن يكون هو المراد فلا يثبت الحد بالاحتمال وقد يرجح ما ذكرناه بقول عمر رضي الله عنه أن الرجم على من زنى وقد أحصى إذا كانت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف فذكر موجبات الحمل ولم يذكر اللعان
واختلفت الرواية فيما يصنع بها فروي أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعاً.
قال أحمد فإن أبت المرأة أن تلتعن بعد التعان الزوج أجبرتها عليه وهبت أن أحكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم ارجمها إذا رجعت فكيف إذا ابت اللعان؟ ولا يسقط النسب إلا بالتعانهما جميعاً لأن الفراش قائم حتى تلتعن والولد للفراش قال القاضي هذه الرواية أصح وهذا قول من وافقنا في أنه لا حد عليها وذلك لقول الله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات) فيدل على أنها إذا لم تشهد لا يدرأ عنها العذاب (والرواية الثانية) يخلى سبيلها وهو قول أبي بكر لأنه لم يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها كما لو تكمل البينة، فأما الزوجية فلا تزول والولد لا ينتفي ما لم يتم اللعان بينهما في قول عامة أهل العلم إلا الشافعي فإنه قضى بالفرقة ونفي الولد بمجرد لعان الرجل على ما نذكره(9/39)
(مسألة) (ولا يعرض للزوج حتى تطالبه امرأته فإن أراد اللعان من غير طلبها فإن كان بينهما ولد يريد نفيه فله ذلك وإلا فلا) يعني لا يتعرض له باقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها وليس لوليها المطالبة عنها إن كانت مجنونة أو محجوراً عليها ولا لولي صغيرة وسيد أمة المطالبة بالتعزير من اجلمها لأن هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم الغير فيه مقام المستحق كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك ولد يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن، وكذلك كل موضع سقط فيه الحد مثل إن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان وهذا قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفاً إلا بعض أصحاب الشافعي قالوا له الملاعنة لإزالة الفراش والصحيح عندهم مثل قول الجماعة لأن إزالة الفراش ممكنة بالطلاق والتحريم المؤبد ليس بمقصود شرع اللعان من أجله وإنما حصل ضمناً.
فأما إن كان هناك ولد يريد نفيه فقال القاضي له أن يلاعن وهو مذهب الشافعي لأن هلال ابن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فلاعن بينهما ولم تكن طالبته ولأنه محتاج إلى نفيه فيشرع له طريق إليه كما لو طالبته ولأن نفي النسب الباطل حق له فلا
يسقط برضاها به كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد ويحتمل أن لا يشرع اللعان ههنا كما لو قذفها فصدقته وهو قول أصحاب الرأي لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد(9/40)
(فصل) فإذا تم اللعان بينهما ثبت اربعة احكام (احدهما) سقوط الحد عنه أو التعزير ولو قذفها برجل بعينه سقط الحد عنه لهما وجملة ذلك أن اللعان إذا تم سقط الحد الذي أوجبه القذف عن الزوج إذا كانت الزوجة محصنة والتعزير إن لم تكن محصنة لأن هلال بن أمية قال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها ولأن شهادته أقيمت مقام بينته وبينته تسقط الحد كذلك لعانه ويحصل هذا بمجرد لعانه لذلك فإن نكل عن اللعان أو عن تمامه فعليه الحد وإن ضرب بعضه فقال أنا ألاعن سمع ذلك منه لأن ما اسقط كله اسقطه بعضه كالبينة، ولو نكلت المرأة عن الملاعنة ثم بذلتها سمعت منها كالرجل فإن قذفها برجل بعينه سقط الحد عنه لهما إذا تم اللعان سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره وإن لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة وأيهما طالب حد له دون من لم يطالب كما لو قذف رجلاً بالزنا بامرأة معينة وبهذا قال أبو حنيفة ومالك إلا في أنه لا يسقط حده بلعانها وقال بعض أصحابنا: القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا الحد لان هلال ابن أمية قذف زوجته بشريك بن السحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره له.
وقال بعض أصحاب الشافعي يجب الحد لهما وهل يجب حد واحد أو حدان؟ على وجهين، وقال بعضهم لا يجب إلا حد واحد قولا واحداً ولا خلاف بينهم أنه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه أنه يسقط حكمه عنه وإن لم يذكره فعلى وجهين(9/41)
ولنا أن اللعان بينة في أحد الطرفين فكان بينة في الطرف الآخر كالشهادة ولأن به حاجة إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد للمقذوف على صدق قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه وسلم على صدق هلال بن أمية بشبه الولد لشريك بن سحماء فوجب
أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها قياساً له عليها (فصل) فإن قذف امرأته وأجنبية أو أجنبياً بكلمتين فعليه حدان لهما فيخرج من حد الأجنبية بالبينة خاصة ومن حد الزوجية بالبينة أو اللعان وإن قذفهما بكلمة فكذلك إلا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما حداً واحداً أو حدين على روايتين (إحداهما) يحد حداً واحداً وبه قال أبو حنيفة والشافعي في القديم وزاد أبو حنيفة سواء كان بكلمة أو بكلمات لأنهما حدود من جنس فوجب أن تتداخل كحد الزنا (والثانية) وان طالبوا مجتمعين فحد واحد، وان طالبوا مفترقين فلكل واحد حد لأنهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن إلغاؤهم بالحد الواحد وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد إيفاء لمن لم يطالب لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه.
وقال الشافعي في الجديد يقام لكل واحد حد بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة يجزئ حد واحد لأنه يظهر كذبه في قذفه وبراءة عرضهما من(9/42)
رميه بحد واحد فأجزأ كما لو كان القذف لواحد، وإذا قذفهما بكلمتين وجب حدان لأنهما قذفان لشخصين فوجب لكل واحد حد كما لو قذف الثاني بعد حد الأول وهكذا الحكم فيما إذا قدف أجنبيتين أو أجنبيات والتفصيل فيه على ما ذكرناه (فصل) وإن قال لزوجته يا زانية بنت الزانية فقد قذفها وقذف أمها بكلمتين والحكم في الحد لهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن اجتمعتا في المطالبة ففي أيتهما يقدم وجهان (أحدهما) الأم لأن حقها آكد لكونه لا يسقط إلا بالبينة ولأن لها فضيلة الأمومة (والثاني) تقدم البنت لأنه بدأ بقذفها ومتى حد لإحداهما ثم وجب عليه الحد للأخرى لم يحد حتى يبرأ جلده من حد الأولى فإن قيل أن الحد ههنا حق لآدمي فلم لا يوالى بينهما كالقصاص فإنه لو قطع يدي رجلين قطعنا يديه لهما ولم يؤخره؟ قلنا لأن حد القذف لا يتكرر بتكرر سببه قبل إقامة حده فالموالاة بين حدين فيه تخرجه عن موضوعه والقصاص يجوز أن يقطع أطرافه كلها في قصاص
واحد فإذا جاز لواحد فلاثنين أولى " مسألة " (الثاني الفرقة بينهما وعنه لا تحصل حتى يفرق الحاكم بينهما) وجملة ذلك أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بتلاعنهما جميعاً وهل يعتبر تفريق الحاكم؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يعتبر وإن الفرقة تحصل بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك وأبي(9/43)
عبيد وابي ثور وداود وزفر وابن المنذر، وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً رواه سعيد: ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه كالتفريق للعنت والإعسار ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما إن يبقى النكاح مستمراً، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا سبيل لك عليها " يدل على هذا وعلى هذا تفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما حصول الفرقة (والثانية) لا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول أصحاب الرأي لقوله ابن عباس في حديثه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله وفي حديث عويمر قال كذبت عليها يا رسول الله أمسكتها فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي إمكان إمساكها وأنه وقع طلاقه ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها ولأن سبب هذه الفرقة يتوقف على الحاكم فالفرقة المتعلقة به لا تقع إلا بحكم حاكم كتفرقة العنة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام لعانهما، وقال الشافعي تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تتقين المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق.
قال شيخنا ولا نعلم احد وافق الشافعي على هذا القول(9/44)
وحكي عن البتي انه لا يتعلق باللعان فرقه لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثاً فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد أخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان
بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وقال عمر المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً، وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إما أيمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا ورد الشرع بالتفريق بينهما لم تحصل الفرقة وانما ورد الشرع بها بعد لعانهما فلا يجوز تعليقها على بعضه كما لم يجز تعلقيها على بعض لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت لأيمان مختلفين فلم يثبت يمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج اختاري نفسك أو أمرك بيدك أو وهبتك لأهلك أو لنفسك واشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قيل أن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان بينهما وإن قلنا لا تحصيل الا بتفريق لحاكم لم يجز له ان تفريق بينهما إلا بعد كمال لعانها فإن فرق قبل ذلك كان(9/45)
تفريقه باطلاً وجوده كعدمه.
وبهذا قال مالك وقال الشافعي لا تقع الفرقة حتى يكمل للزوج لعانه وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فتعلق الحكم به ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولانها أيمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة اذا قال من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة وروى
سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين أخرجهما(9/46)
سعيد ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح بحاله باق لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن (فصل) وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي وقال أبوحينفة هي طلاق لأنها فرقة من قبل الزوج تختص النكاح فكان طلاقاً كالفرقة بقوله أنت طالق ولنا أنها فرقة توجب تحريماً مؤبداً فكانت فسخا كفرقة الرضاع ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقاً كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاقاً لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة (فصل) ذكر بعض أهل العلم أن الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع بأحدهما لتلاعنهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند الخامسة " إنها الموجبة " أي أنها توجب لعنة الله وغضبه ولا نعلم من هو منهما يقيناً ففرقنا بينهما خشبة أن يكون هو الملعون فيلعنو امرأة غير ملعونة وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر ويمكن أن يقال على هذا لو كان هذا الاحتمال مانعاً من دوام نكاحهما لمنعه من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه.
ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة وقوع اللعنة أو الغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون غير ملعونة أو إلى امساك معلونة مغضوبة عليها(9/47)
ويحتمل أن سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبها فإن الرجل إن كان صادقاً فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رءوس الاشهاد واقامتها مقام خزي وحقق عليها الغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرقه العظيمة والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رءوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته اللعان والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد منهما نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءة لا يكاد يلتئم لهما معها حال فاقتضت
حكمة الشارع التزام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقاً فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ولهذا قال العجلاني كذبت عليها إن أمسكتها " مسألة " (الثالث: التحريم المؤبد وعنه أنه إن اكذبت نفسه حلت له) ظاهر المذهب أن الملاعنة تحرم على الملاعن تحريماً مؤبداً فلا تحل له وإن أكذب نفسه ولا خلافا بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه أنها لا تحل له إلا أن يكون قولاً شاذاً فإن أكذب نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضاً وجاءت الأخبار عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً وبه قال الحسن وعطاء وجابر بن زيد والنخعي والزهري(9/48)
والحكم ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وابو يوسف، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذ شذ بها حنبل عن أصحابه قال أبو بكر لا نعلم أحدا رواها غيره.
قال شيخنا وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله، وقد ذكرنا أن مذهب البتي أن اللعان لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب.
وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد بن جبير إن أكذب نفسه ردت إليه مادامت في العدة.
ولنا ما روى سهل بن سعد قال مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً رواه الجوزجاني باسناده في كتابه وروي مثل هذا عن الزهري ومالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع (مسألة) وإذا قلنا تحل له بإكذاب نفسه فإن لم يكن وجد منه طلاق فهي باقية على النكاح) لأن اللعان على هذا القول لا يحرم على التأييد وإنما يؤمر بالطلاق كما يؤمر المولى به إذا لم يأت بالفيئة فإذا لم يأت بالطلاق بقي النكاح بحاله وزوال الإجبار على الطلاق لتكذيبه نفسه كما لو امتنع(9/49)
المولى من الفئية فأمر بالطلاق فعاد فأجاب إلى الفيئة، وان جاء منه طلاق دون الثلاث فله رجعتها كالمطلقة دون الثلاث بغير عوض (مسألة) (الرابع انتفاء الولد عنه بمجرد اللعان ذكره أبو بكر وينتفي عنه حملها وإن لم يذكره وقال الخرقي لا ينتفي حتى يذكره في اللعان) وجملة ذلك أن الزوج إذا ولدت امرأته ولداً يمكن أن يكون منه فهو ولده في الحكم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان تام الذي اجتمعت شروطه وهي أربعة (أحدهما) ان يوجد اللعان منهما جميعاً وهذا قول عامة أهل العلم، وقال الشافعي ينتفي بلعان الزوج وحده لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانه لا بيمين المرأة على تكذيبه ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي نثبته وتكذب قول من ينفيه وإنما لعانها لدرء الحد عنها كما قال الله تعالى (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما فلا يجوز النفي ببعضه كبعض لعان الزوج (الثاني) أن يكمل اللعان منهما جميعاً (الثالث) أن يبدأ الزوج باللعان قبل المرأة فإن بدأت باللعان قبله لم يعتد به وبه قال أبو ثور وابن المنذر، وقال مالك وأصحاب الرأي إن فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينفى الولد عنه لأن الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو هي لا تقتضي ترتيباً ولأن اللعان قد وجد منهما جميعاً فأشبه(9/50)
ما ورتب، وعند الشافعي لا يتم اللعان إلا بالترتيب إلا أنه يكفي عنده لعان الرجل وحده لنفي الولد وذلك حاصل مع إخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظه من المرأة ولنا أنه أتى باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة فلم يصح كما لو اقتصر على لفظة واحدة ولأن لعان الرجل بينة لإثبات زناها ونفى ولدها ولعان المرأة للإنكار فقدمت بينة الإثبات لتقديم الشهود على الأيمان ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها، ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل فإذا
قدمت لعانها على لعانه فقد قدمته على وقته فلم يصح كما لو قدمته على القذف (الرابع) أن يذكر نفي الولد في اللعان فإن لم يذكره لم ينتف إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار القاضي ومذهب الشافعي، فإذا قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا يقول وما هذا الولد ولدي، وتقول هي أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا وهذا الولد ولده في كل لفظة، وقال الشافعي لا تحتاج المرأة إلى ذكره لأنها لا تنفيه ولنا أنها أحد الزوجين فكان ذكر الولد شرطا في لعانه كالزوج وقال أبو بكر لا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه وينتفي بزوال الفراش لأن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها رواه أبو داود(9/51)
وفي حديث رواه مسلم عن عبد الله أن رجلاً لاعن امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه.
ولنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكر مشرطا كالمرأة ولأن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها وذلك لا يوجب نفي الولد كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما حديث سهل فقد روي فيه فكانت حاملاً فأنكر حملها من رواية البخاري، وروى ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة والزيادة من الثقة مقبولة، فعلى هذا لابد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من لفظات اللعان، وذكر الخرقي شرطاً خامساً وهو تفريق الحاكم بينهما وهذا على الرواية التي تشترط تفريق الحاكم بينهما لوقوع الأخرى أما على الرواية الأخرى فلا يشترط تفريق الحاكم لنفي الولد كما لا يشترط لدرء الحد عنه ولا لفسخ النكاح، وشرط أيضاً شرطاً سادساً وهو أن يكون قد قذفها وهذا من شروط اللعان وقد ذكرناه (فصل) متى كان اللعان لنفي الولد اشترط ذكره وقد مضى ذلك قال يشترط أن يقول هذا الولد من زنى وليس هو مني وهو مذهب الشافعي لأنه قد يريد بقوله ليس هو مني يعني خلقاً وخلقاً ولم يقتصر على قوله هو من زنى لأنه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح الفاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعاً
ولنا أنه نفي الولد في اللعان فانتفى به كما لو ذكر اللفظين، وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل(9/52)
ولا ينتفي اللعان بضم إحدى اللفظين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطئ فاسد واعتقد أن ذلك زنا صح منه أن يقول اللفظين جميعاً وقد يريد أنه لا يشبهني خلقاً ولا خلقاً وأنه من وطئ فاسد (مسألة) (وإن نفي الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن) اختلف أصحابنا في ذلك فقال الخرقي وجماعة لا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة لأن الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحاً أو أو غيرها فيصير فيصير نفيه مشروطاً بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط، وقال مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالأم وبأنه كان حملاً ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انظروها فإن جاءت به كذا وكذا " قال ابن عبد البر الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة وأوردها، ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه ولهذا ثبت للحامل أحكام تخالف فيها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك اقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره، ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا القول الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائناً ما كان، وقال أبو بكر ينتفي الولد بزوال الفراش، ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجاً بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل فيها نفي الحمل ولا التعرض لنفيه، فأما من قال إن الولد لا ينتفي إلا بنفيه بعد الوضع فانه(9/53)
يحتاج إلى عادة اللعان بعد الوضع، وقال أبو حنيفة ومن وافقه أن لاعنها حاملاً ثم أت بولد لزمه ولم يتمكن من نفيه لأن اللعان لا يكون إلا بين زوجين وهذه قد بانت بلعانها في حملها وهذا فيه الزامه ولد ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا، والله تعالى قد جعل له إلى ذلك سبيلاً وطريقاً فلا يجوز سده وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف إليها الزنا لأن الولد الذي يأتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه، وهذه كانت زوجة في تلك الحال فملك نفيه والله أعلم (فصل) فإن استلحق الحمل فمن قال لا يصح نفيه قال استلحاقه وهو المنصوص عن
أحمد ومن أجاز نفيه قال يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنه محكوم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث نصح الإقرار به كالمولود، وإذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه بعد الوضع، ومن قال لا يصح استلحاقه قال لو صح استلحاقه لزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك بالإجماع ولان للشبه اثراً في الاستلحاق بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص صحة الاستلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك فأما ان سكت عنه فلم ينفه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأن بتركه يحتمل أن يكون لأنه لا يتحقق وجوده إلا أن يلاعنها فإن أبا حنيفة الزمه الولد على ما أسلفناه(9/54)
(فصل) ومن شرط نفي الولد أن لا يوجد منه دليل على الاقرار به فإن أقر به لم يملك نفيه في قول جماعة أهل العلم منهم الشعبي والنخعي وعمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي، وإن أقر بتوامه أو نفاه وسكت عن توأمه لحقه نسبه ولم يكن له نفيه وقد ذكرناه ولأنه إذا أقر بأحدهما كان إقراراً بالآخر إذ لا يمكن أن يعلم الذي له منهما فإذا نفى الأخير كان رجوعاً عن إقراره فلا يقبل منه ومثله إذا نفاه وسكت عن توأمه (مسألة) (وان هنئ به فسكت كان إقراراً ذكره أبو بكر) لأن السكوت صلح دالاً على الرضا في حق البكر فههنا أولى (مسألة) (فإن امن على الدعاء لزمه في قولهم جميعاً) فإن قال أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لزمه الولد وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يلزمه لأنه جازاه على قصده وإذا قال رزقك الله مثله فليس ذلك اقرارا ولا متضمغا له.
لنا ان ذلك جواب الراضي في العادة فكان إقراراً كالتأمين على الدعاء (مسألة) (وإن أخر نفيه مع إمكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك) وبهذا قال الشافعي قال أبو بكر لا يتقدر ذلك بثلاث هل هو ما جرت به العادة إن كان ليلاً فحتى يصبح وينتشر الناس وإن كان جائعاً أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب أو ينام إن كان ناعساً أو(9/55)
يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلي إن حضرت الصلاة ويحرز ماله إن كان غير محرز وأشباه هذا من أشغاله فإن أخره بعد هذا كله لم يكن له نفيه وقال أبو حنيفة له تأخير نفيه يوماً ويومين استحسانا لأن النفي عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلتهما.
وقال أبو يوسف ومحمد يتقدر بمدة النفاس لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم.
وحكي عن عطاء ومجاهد أن له نفيه ما لم يعترف به كحالة الولادة ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " عام خرج منه ما اتفقنا عليه مع السنة الثابتة ففيما عداه يبقى على عموم الحديث، وما ذكره أبو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة، وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه.
وما قاله عطاء يبطل أيضاً بما ذكرناه ولا يلزم عليه القصاص فإنه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم يتحقق ضرره؟ وهل يتقدر الخيار في النفي بمجالس العلم أو بإمكان النفي، على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة (مسألة) (فإن قال أخرته رجاء موته لم يعذر بذلك ويبطل خياره لأنه أخر نفيه مع إمكانه لغير عذر)(9/56)
(مسألة) (وإن قال لم أعلم به أو لم أعلم أن لي نفيه أو لم أعلم أن ذلك على الفور وأمكن صدقه قبل منه) إذا أخر نفيه ثم ادعى أنه لم يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في مكان يخفي عليه ذلك كمن هو في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم العلم فإن لم يمكن مثل أن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه أو علمت ذلك أو لم أعلم أنه على الفور وكان من يخفي عليه ذلك كعامة الناس قبل منه لأن هذا مما يخفى عليهم فأشبه كما لو كان حديث عهد بإسلام فإن كان فقيهاً لم يقبل منه لأنه مما لا يخفي عليه ذلك ويحتمل أن يقبل منه لأن الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام وقال أصحابنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشئ ببادية وحديث العهد بالإسلام ويقبل من سائر الناس وفيه وجه آخر أنه لا يقبل والأول أولى
(مسألة) (وإن أخره لغيبة أو مرض أو شئ يمنعه ذلك لم يسقط نفيه) وجملة ذلك أنه إذا كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس أو الاشتغال بحفظ مال يخاف ضيعة أو بملازمه غريم يخاف فوته او غيبته نظرت فإن كانت مدة ذلك قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره لم يبطل نفيه لأنه بمنزلة من علم ذلك ليلاً فأخره إلى الصبح وإن كانت(9/57)
تتطاول ما مكنه التنفيذ الى الحاكم ليبعث اليه من يستوفي عليه اللعان والنفي فلم يفعل سقط نفيه وإن لم يمكنه اشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأته فان لم يفعل بطل خياره لأنه إذا لم يقدر على نفيه قام الإشهاد مقامه كما يقيم المريض الفيئة بالقول بدلاً عن الفيئة بالجماع (فصل) فإن قال لم أصدق المخبر به وكان مستفيضاً منتشراً لم يقبل قوله وإن لم يكن مستفيضاً وكان المخبر مشهور العدالة لم يقبل قوله وإلا قبل، وإن قال لم أعلم أن علي ذلك قبل قوله لأنه مما يخفى وإن علم وهو غائب فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره وإن أقام من غير حاجة بطل لأنه أخر لغير عذر، وإن كانت له حاجة تمنعه من السير فهو على ما ذكرنا من قبل وإن أخره من غير عذر بطل وفي كل موضع لزمه الولد لم يكن له نفيه بعد ذلك في قول جماعة أهل العلم مالك والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال الحسن له أن يلاعن لنفيه مادامت أمه عنده يصير لها الولد ولو أقر به والذي عليه الجمهور أولى فإن أقر به فلم يملك جحده كما لو بانت منه أمه ولأنه أقر بحق عليه فلم يقبل منه جحده كسائر الحقوق(9/58)
(مسألة) (ومتى أكذب نفسه بعد نفيه لحقه نسبه ولزمه الحد ان كانت المرأة محصنة أو التعزير إن لم تكن محصنة) إذا لاعن الرجل امرأته ونفي ولده ثم أكذب نفسه لحقه الولد اذا كان حيا غنياً كان أو فقيراً بغير خلاف بين أهل العلم وكذلك إن كان ميتاً.
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال الثوري إذا استلحق الولد الميت وكان إذا مال لم يلحقه لأنه إنما يدعي مالاً وإن لم يكن له مال لحقه وقال أصحاب
الرأي إن كان الولد الميت ترك ولداً ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه وإن لم يكن ترك ولداً لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعي شيئاً لأن نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه فإذا كان له ولدا كان مستلحقاً لولده وتبعه نسب الميت ولنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حياً أو كان له ولد ولأن ولد الولد يتبع نسب الولد وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الاصل تابع للفرع وذلك باطل فأما قول الثوري إنه إنما يدعي مالاً قلنا إنما يدعي النسب والميراث تبع له فإن قيل فهو متهم في أن غرضه في حصول الميراث قلنا النسب لا يمنع التهمة لحوقه بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن لزمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حياً غنياً والأب فقيراً فاستلحقه فهو متهم في إيجاب(9/59)
نفقته على ابنه ويقبل قوله كذلك ههنا ثم كان ينبغي أن يثبت ههنا لأنه حق للولد ولا تهمة فيه ولا يثبت الميراث المختص بالتهمة ولا يلزم من انقطاع البيع انقطاع الأصل قال القاضي يتعلق باللعان أربعة أحكام حقان عليه وجوب الحد ولحوق النسب.
وحقان له الفرقة والتحريم المؤبد فإذا أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه فلزمه الحد والنسب ولم يقبل فيما له فلم تزل الفرقة ولا التحريم المؤبد (فصل) فإن لم يكذب نفسه ولكن لم تكن له بينة ولا لاعن أقيم عليه الحد فإن أقيم عليه بعضه فأراد اللعان وقال أنا ألاعن قبل منه لأن اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا فقال صدقت البينة وليس ذلك قذفاً لأن القذف الرمي بالزنا كذباً وأنا صادق فيما رميتها به ولم يكن ذلك إكذاباً لنفسه لأنه مصر على رميها بالزنا وله إسقاط الحد باللعان ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا فأما إن قال ما زنت ولا رميتها بالزنا فقامت البينة عليه بقذفها لزمه الحد ولم تسمع بينته ولا لعانه، نص عليه أحمد لأن قوله ما زنت تكذيب للبينة واللعان فلا يثبت له حجة قد أكذبها وجرى هذا مجرى قوله في الوديعة اذا ادعيت عليه فقال ما أودعتني فقامت عليه البينة بالوديعة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ولو أجاب بانه ما له عندي
شئ أو لا يستحق علي شيئاً فقامت عليه البينة فادعى الرد أو التلف قبل منه(9/60)
(مسألة) (ويلزمه الحد إذا أكذب نفسه سواء أكذبها قبل لعانها أو بعده) وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفاً لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان أن لعانه كذب وزيادة في هتكها وتكرار لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجباً بالقذف المجرد فإن عاد عن اكذاب نفسه وقال لي بينة أقيمها بزناها أو أراد إسقاط الحد عنه باللعان لم تسمع لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله وقد اقر بكذب ننفسه فلا يسمع منه خلافه.
وهذا إذ كانت المقذوفة محصنة فإن كانت غير محصنة فعليه التعزير.
(فصل) فيما يلحق من النسب، من أتت امرأته بولد يمكن كونه منه وهو أن يأتي به بعد ستة أشهر منذ أمكن اجتماعه بها ولأقل من أربع سنين منذ أبانها وهو ممن يولد لمثله كابن عشر سنين لحقه الولد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ولأن مع ذلك يمكن كونه منه وقدرناه بعشر سنين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وقال القاضي يلحق به إذا أتت له تسعة أعوام ونصف مدة الحمل قياساً على الجارية وقال أبو بكر لا يلحقه حتى يبلغ لأن الولد إنما يكون من الماء ولا ينزل حتى يبلغ(9/61)
ولنا أنه زمن يمكن البلوغ فيه فيلحقه الولد كالبالغ.
وقد روي أن عمرو بن العاص وابنه لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاماً وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم دليل على امكان الوطئ الذي هو سبب الولادة.
واما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح فإن الجارية يمكن الاستمتاع بها لتسع عادة وقد تحيض لتسع والغلام لا يمكنه الاستمتاع لتسع ما عهد بلوغ غلام لتسع.
(مسألة) فأما إن أتت به لدون ستة أشهر منذ تزوجها أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها لم
يلحق الزوج لأنا علمنا أنها علقت به قبل النكاح ولا يحتاج إلى نفيه باللعان لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين ونفي أحد المحتملين وما لا يجوز لا يحتاج إلى نفيه (مسألة) (وإن أقرت بانقضاء عدتها بالقروء ثم أتت به لأكثر من ستة أشهر لم يلحق بالزوج) وهذا قول أبي العباس ابن شريح وقال غيره من أصحاب الشافعي يلحق به لأنه يمكن أن يكون منه والولد يحلق بالإمكان(9/62)
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بإنقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل وإنما يعتبر الإمكان مع بقاء الزوجية أو العدة وأما بعدهما فلا يكتفى بالإمكان للحاقه وإنما يكتفى بالإمكان لنفيه وذلك لأن الفراش سبب ومع وجود السبب يكتفى بإمكان الحكمة واحتمالها فإذا انتفى السبب وآثاره انتفى الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الإمكان.
فأما إن طلقها فاعدت بالأقراء ثم ولدت ولداً قبل مضي ستة أشهر من آخر أقرائها لحق الزوج لأنا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ويعلم أنها كانت حاملاً به في زمن رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضاً فلم تنقض عدتها به.
(مسألة) (فإن طلقها وهي حامل فولدت ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر فهو من الزوج) لأنا نعلم أنهما حمل واحد فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق بالزوج وانتفى عنه من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملاً واحداً وبينهما مدة الحمل فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة وكونها أجنبية فهي كسائر الاجنبيات (مسألة) (أو مع العلم بأنه لم يجتمع بها)(9/63)
كالذي يتزوجها بحضرة الحاكم ويطلقها في المجلس قبل غيبته عنهم ثم أتت المرأة بولد لستة أشهر أو يتزوجها وبينهما مسافة لا يصل إليها في المدة التي ولدت فيها كمشرقي يتزوج بمغربية ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يلحقه نسبه لأن الولد
إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى انكم قلتم إذ امضى زمان الإمكان لحق الولد وإن علم أنه لم يحصل منه الوطئ.
ولنا أنه لم يحصل امكان الوطئ في هذا العقد فلم يلحق به الولد كزوجية الطفل أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر وفارق ما قاسوا عليه فإن الإمكان إذا وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعاً لجواز أن يكون وطئها من حيث لا نعلم ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح ولم يجز حذف الامكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز إلحاقه بدفع يقين كونه ليس منه.(9/64)
(مسألة) (أو صبي دون عشر سنين أو مقطوع الذكر والأنثيين) أما الصبي الذي له دون عشر سنين فقد ذكرناه في أول الفصل.
واما مقطوع الذكر والأنثيين فلا يلحق به الولد في قول عامة أهل العلم لأنه يستحيل منه الإيلاج والإنزال.
فإن قطعت أنثياه دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل ماء يخلق منه الولد وقال أصحابنا يلحقه وفيه بعد قالوا لأنه يتصور منه الإيلاج وينزل ماء رقيقاً ولنا أن هذا لا يخلق منه الولد عادة ولا وجد ذلك فأشبه ما لو قطع ذكره معهما ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد فهو كما لو أولج أصبعه.
فأما إن قطع ذكره وحده فقد قيل يلحقه الولد لأنه يمكن أن يساحق فينزل ما يخلق منه الولد فيدخل الماء إلى فرج المرأة ولهذا ألحقنا ولد الأمة بسيدها إذا اعترفت بوطئها فيما دون الفرج(9/65)
ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك كنحو ما ذكرنا من الاختلاف عندنا.
وقال ابن اللبان لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور وقال بعضهم يلحقه بالفراش وهو غلط لأن الولد إنما يلحق بالفراش إذا أمكن، ألا ترى أنها إذا ولدت بعد شهر منذ تزوجها لم يلحقه وههنا لا يمكن لفقد المني من المسلول وتعذر اتصال المني الى قعر الرحم من المجبوب ولا معنى لقول من قال يجوز
أن تستدخل المرأة مني الرجل فتحبل لأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعاً ولذلك يأخذ الشبه منهما وإذا استدخلت المني بغير جماع لم يحدث لها لذة تمني بها فلا يختلط منهما، ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادقا أنها استدخلت منيه وإن الولد من ذلك المني يحلقه نسبه وما قال ذلك أحد، والذي ذكره ابن اللبان إنما يصح إذا استدخلت منيه من غير مباشرة فأما مع المباشرة والمساحقة فيمكن أن يحدث لها شهوة ينزل المني معها فتحبل فلا يشبه ما ذكره من الأصل والله أعلم (مسألة) (وإن طلقها طلاقاً رجعياً فولدت لأكثر من أربع سنين منذ طلقها ولأقل من أربع سنين منذ انقضت عدتها ففيه وجهان) (أحدهما) لا يلحقه بنسبه وينتفي عنه بغير لعان لأنها علقت به بعد طلاقه فأشبهت البائن(9/66)
(والثاني) يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء والحل في رواية فأشبهت ما قبل الطلاق، فأما إن وضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة لم يلحق به لأنها حلت به بعد زوال الفراش وكذلك إن كان الطلاق بائناً فوضعته لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق فإنه ينتفي عنه بغير لعان ولا يحلقه لذلك (فصل) إذا غاب عن زوجته سنين فبلغها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحاً صحيحاً في الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولاداً ثم قدم الأول فسخ نكاحا الثاني وردت إلى الأول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له لأنهم ولدوا على فراشه، روى ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري وأهل العراق وابن أبي ليلى ومالك وأهل الحجاز والشافعي وإسحاق وأبي يوسف وغيرهم من أهل العلم الا أبا حنيفة، قال الولد للأول لأنه صاحب الفراش لانه نكاحه صحيح ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي ولنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له كوالد الأمة من زوجها يلحقه دون سيدها وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح(9/67)
(فصل) ولو وطئ رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وقال القاضي وجدت بخط أبي بكر أنه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك ولم يوجد شئ من ذلك، ولأنه وطئ لا يسند إلى عقد فلم يلحق الولد فيه الواطئ كالزنا، والصحيح في المذهب الأول، قال أحمد كل من درأت عند الحد ألحقت به الولد ولانه وطئ اعتقد الواطئ حله فلحق به النسب كالوطئ في النكاح الفاسد، وفارق وطئ الزنا فإنه لا يعتقد الحل فيه.
(فصل) ولو تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما الى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ لأنه يعتقد حله فلحق به النسب كالواطئ في نكاح فاسد وقال أبو بكر لا يكون الولد للواطئ وإنما يكون للزوج وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة لأن الولد للفراش.
ولنا أنه الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به كما لو لم تكن ذات زوج وكما(9/68)
لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا والخبر مخصوص بهذا فنقيس عليه ما كان في معناه.
(فصل) وان وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن الزوج من غير لعان، وعلى قول أبي بكر وأبي حنيفة يلحق الزوج لأن الولد للفراش، وان أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويلحق نسب الولد بالزوج لأنه لا يمكن إلحاقه بالمنكر ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد، وإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس من الواطئ، فإن اشتركها في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لأن الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وإن ادعى الزوج أنه من الواطئ فقال بعض أصحابنا يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته به منهما فان ألحقته بالواطئ لحقه ولم يملك نفيه عن نفسه وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن الحقته بالزوج لحق
ولم يملك نفيه باللعان في أصح الروايتين وإن ألحقته بهما لحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه، وهل يملك الزوج نفيه باللعان؟ على روايتين، فإن لم يوجد قافة أو اشتبهه عليهم لحق الزوج لأن المقتضي للحاق(9/69)
النسب به متحقق ولم يوجد ما يعارضه فوجب إثبات حكمه، ويحتمل أن يلحق الزوج بكل حال لأن دلالة قول القافة ضعيفة ودلالة الفراش قوية فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة (فصل) فإن أتت امرأته بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرنا فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة لم يلحق بالأول بحال، وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من الأول لم يلحق به أيضاً وإن وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يلحق به وينتفي عنهما وإن كان لأكثر من ستة أشهر فهو ولده، وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولأقل من أربع سنين من طلاق الأول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق بالزوج وهل له نفيه باللعان؟ على روايتين (فصل) قال رضي الله عنه (ومن اعترف بوطئ أمته في الفرج أو دونه فأتت بولد لستة أشهر لحقه نسبه وإن ادعى العزل إلا أن يدعي الاستبراء وهل يحلف؟ على وجهين) من اعترف بوطئ أمته في الفرج صارت فراشاً له فإذا أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه نسبه وبهذا قال(9/70)
مالك والشافعي وقال الثوري وأبو حنيفة لا تصير فراشاً حتى يقر بولدها فإذا أقر به صارت فراشاً ولحقه أولاده بعد ذلك لأنها لو صارت فراشا بالوطئ لصارت فراشاً بإباحته كالزوجة ولنا أن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر " متفق عليه، وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قال ما بال رجال يطؤن ولائدهم ثم يعزلون لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعتزلوا بعد ذلك أو اتركوا، ولان الوطئ يتعلق به تحريم المصاهرة فإذا كان مشروعاً صارت به المرأة فراشاً كالنكاح، ولأن المرأة إنما سميت فراشاً تجوزاً إما لمضاجعته
لها على الفراش وإما لكونها تحته في حال المجامعة وكلا الأمرين يحصل في الجماع، وقياسهم الوطئ على الملك لا يصح لأن الملك لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تنعقد في محل يحرم الوطئ فيه، كالمجوسية والوثنية وذوات محارمه.
إذا ثبت هذا فإنه إذا أراد نفي ولد أمته التي يلحقه ولدها فطريقه أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها بحيضة فينتفي بذلك وإن ادعى أنه كان يعزل عنها لحقه النسب ولم ينتف عنه(9/71)
بذلك لما روى جابر قال جاء رجل من الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها " رواه أبو داود ولما ذكرنا من حديث عمر وروي عن أبي سعيد أنه قال كنت أعزل عن جاريتي فولدت أحب الخلق إلي يعني ابنه، ولأنه حكم تعلق بالوطئ فلم يعتبر معه الاعتزال كسائر الأحكام وقد قيل إنه ينزل من الماء ما لا يحس به، فأما إن أقر بالوطئ دون الفرج أو في الدبر لم تصر بذلك فراشاً لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص وروى عن أحمد أنها تصير فراشاً لأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا اعى الاستبراء قبل قوله بغير يمين في أحد الوجهين لأن من قبل قوله في الاستبراء قبل بغير يمين كالمرأة تدعي انقضاء عدتها، وفي الآخر يستحلف وهو مذهب الشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام " ولكن اليمين على المدعى عليه " ولأن الاستبراء غير مختص به فلم يقبل قوله فيه بغير يمين كسائر الحقوق، ومتى لم يدع الاستبراء لحقه ولدها ولم ينتف عنه وقال الشافعي في أحد قوليه له نفيه باللعان لأنه ولد لم يرض به فأشبه ولد المرأة(9/72)
ولنا قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) فخص بذلك الآزواج ولأنه ولد يلحقه نسبه من غير الزوجة فلم يملك نفيه باللعان كما لو وطئ أجنبية بشبهة فألحقت الفاقة ولدها به ولأن له طريقاً إلى نفي الولد بغير اللعان فلم يحتج إلى نفيه باللعان فلا يشرع ولأنه لو وطئ أمته ولم يستبرئها فأتت بولد احتمل أن يكون منه فلم يجز له نفيه لكون النسب يلحق بالإمكان فكيف مع الظهور ووجود نسبه؟
فإن ادعى الاستبراء فأتت بولدين فأقر بأحدهما ونفى الآخر لحقاه معاً لأنه لا يمكن جعل أحدهما منه والآخر من غيره وهما حمل واحد ولا يجوز نفي الولد المقر به عنه مع اقراره به فوجب إلحاقهما به معاً وكذلك لو أتت التي لم يعترف بوطئها بولدين توأمين فاعترف بأحدهما ونفى الآخر (مسألة) (وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العتق أو البيع فهو ولده) لأنها حملت به وهي فراش لأن أقل الحمل ستة أشهر فإذا أتت به لأقل من ذلك علم أن حملها(9/73)
كان قبل بيعها فيلحق النسب به كما لو لم يبعها وتصير أم ولد والبيع باطل لأنها صارت أم ولد (مسألة) (وكذلك إن لم يستبرئها فأتت به لأكثر من ستة أشهر فادعى المشتري أنه منه سواء ادعاه البائع أو لم يدعه) لأنه وجد منه سببه وهو الوطئ ولم يوجد ما يعارضه ولا يمنعه فتعين إحالة حكمه عليه وإلحاق الولد بمن وجد السبب منه سواء ادعاه البائع أو لا (مسألة) (وإن استبرئت ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر لم يلحقه نسبه) لأن الاستبراء يدل على براءتها من الحمل وقد أمكن أن يكون من غيره لوجود مدة الحمل بعد الاستبراء مع قيام الدليل على ذلك، فإما إن أتت به لأقل من ستة أشهر فقد علمنا أنها كانت حاملاً في زمن الاستبراء فيكون الاستبراء غير صحيح وتكون بمنزلة من لم يستبرئها وكذلك إن لم يستبرئ ولم يقر المشتري له به ولد أمة المشتري فلا تقبل دعوى غيره له إلا بإقرار من المشتري(9/74)
(مسألة) (فأما إن لم يكن البائع أقر بوطئها قبل بيعها لم يلحقه الولد بحال سواء ولدته لستة أشهر أو لأقل منها) لأنه يحتمل أن يكون من غيره وإن اتفقا على أنه ولد البائع لحقه لأن الحق لهما فيثبت باتفاقهما (مسألة) (وإن ادعاه البائع فهو عبد للمشتري)
لا يقبل دعوى البائع في الإيلاد لأن الملك انتقل إلى المشتري في الظاهر فلا يقبل قول البائع فيما يبطل حقه كما لو باع عبداً ثم أقر أنه كان أعتقه والقول قول المشتري مع يمينه لأنه منكر.
وهل يلحق البائع نسبه؟ على وجهين (أحدهما) يلحقه مع كونه عبداً للمشتري لأنه يجوز أن يكون ابناً لواحد مملوكاً لآخر كولد الأمة المزوجة (والثاني) لا يلحقه لأن فيه ضرراً على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه (مسألة) (وإن وطئ المجنون من لا ملك له عليها ولا شبهة ملك فأتت بولد لم يلحقه نسبه لأنه لا يسند إلى ملك ولا اعتقاد إباحة فإن أكرهها على الوطئ فعليه مهر مثلها كالمكلف لأن الضمان يستوي فيه المكلف وغيره والله أعلم(9/75)
كتاب العدد الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، وقوله سبحانه (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقوله سبحانه (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشر " وقال لفاطمة بنت قيس " اعتدي في بيت ابن أم مكتوم " في آي واحاديث كثيرة واجتمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع فيها (مسألة) (كل امرأة فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة بها فلا عدة عليها) أجمع العلماء على ذلك لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنان ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولأن العدة إنما وجبت في الأصل لبراءة الرحم وقد تيقناها ههنا(9/76)
(فصل) وتجب العدة على الذمية من الذمي والمسلم.
وقال أبو حنيفة إن لم يكن من دينهم لم يلزمها لأنهم لا يخاطبون بفروع الإسلام ولنا عموم الآيات ولأنها بائن بعد الدخول أشبهت المسلمة.
وعدتها كعدة المسلمة في قول علماء الأمصار منهم الثوري والشافعي وابو عبيد وأصحاب الرأي وهو قول مالك.
وروي عنه أنه قال تعتد من الوفاة بحيضة ولنا عموم قوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) ولأنها معتدة من الوفاة أشبهت المسلمة (مسألة) (وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدة سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطئ كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة أو لم يكن إلا ألا يعلم بها كالأعمى والطفل فلا عدة عليها) وجملة ذلك أن العدة تجب على من خلا بها زوجها ولم يمسها ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن العدة تجب عليها روى ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزهري والثوري والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في قديم قوله وقال في الجديد لا عدة عليها لقوله تعالى(9/77)
(يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس فاشبهت من لم يخل بها ولنا إجماع الصحابة فروى الإمام أحمد والاثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو غلق باباً فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضاً عن عمر وعلي.
وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعاً وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك وقد ذكرناه في الصداق ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة بما ذكرناه ولا يصح
القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين ولا فرق بين أن يخلو بها مع المانع من الوطئ أو مع عدمه وسواء كان المانع حقيقيا كالجب والعنة والرتق أو شرعياً كالصوم والإحرام والحيض والنفاس والظهار لإن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا بها فأتت بولد لمدة الحمل لحقه نسبه وإن يطأ وقد روي عن أحمد أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع فكذلك يخرج في العدة.
وروي عنه أن صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا يدل على أن المانع متى كان متأكد كالإحرام وشبهه مع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما إقيمت مقام المسيس لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة(9/78)
(مسألة) (إلا ألا يعلم بها كالأعمى والطفل فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة لا تتحقق وكذلك إن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها أو لم تكن مطاوعة لعدم تحقق المظنة مع ظهور استحالة المسيس والمعتدات على ستة أضرب (أحدها) أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن حرائركن أو إماء من فرقة الحياة أو الممات) كل امرأة حامل من زوج إذا فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو موته حرة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة فعدتها بوضع الحمل لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وهذا إجماع أهل المدينة إلا أنه روي عن ابن عباس وعن علي من وجه ان المتوفى عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وقد روي أن ابن عباس رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة وكره الحسن والشعبي أن تنكح في دمها، وحكي عن إسحاق وحماد ان عدتها لا تنقضي حتى تطهر وأبي سائر أهل العلم هذا القول وقالوا لو بعد ساعة من وفاة زوجها حل لها أن تتزوج، ولكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل وذلك لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وروي عن أبي كعب قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) للمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها زوجها، قال " هي للمطلقة ثلاثاً والمتوفى عنها وقال ابن مسعود من شاء باهلته(9/79)
أو لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) نزلت بعد التي في سورة البقرة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) يعني أن هذه الآية هي الأخيرة فتقدم على ما خالفها من عموم الآية المتقدمة ويختص بها عمومها.
وروى عبد الله بن الأرقم أن سبيعة الأسلمية أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفناني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
متفق عليه.
قال ابن عبد البر هذا حديث حسن صحيح قد جاء من وجوه شتى كلها ثابتة إلا ما روي عن ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع ولأنها معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعه كالمطلقة يحققه أن العدة إنما شرعت لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي به العدة ولانه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة (فصل) وإذا كان الحمل واحداً انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه وإن ظهر بعضه فهي في عدتها حتى ينفصل باقيه لأنها لا تكون واضعة لحملها حتى يخرج كله وإن كان الحمل اثنين أو أكثر(9/80)
لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لأن الحمل هو الجميع، هذا قول جماعة أهل العلم إلا إبا قلابه وعكرمة فانهما قالا تنقضي عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها قيل له أفتزوج؟ قال لا قال قتادة خصم العبد، وهذا قول شاذ يخالف ظاهر الكتاب وقول أهل العلم والمعنى أن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل فإذا علم وجود الحمل فقد تبين وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها ولانها لو انقضت عدتها بوضع الأول لأبيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر فإن وضعت ولداً وشكت في وجود ثان لم تنقض عدتها حتى تزول الربية وتتيقن أنه لم يبق معها حمل
لأن الأصل بقاؤها فلا يزول بالشك (مسألة) (والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الإنسان فإن وضعت مضغة لا يتبين فيها شئ من ذلك فذكر ثقات من النساء أنه مبتدأ خلق آدمي فهل تنقضي به العدة؟ على روايتين) وجملة ذلك أن المرأة إذا ألقت بعد فرقة زوجها شيئاً لم تخل من خمسة أحوال (أحدهما) أن تضع ما بان فيه خلق آدمي من الرأس واليد والرجل فتنقضي به العدة بغير خلاف بينهم، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن عدة المرأة تنقضي بالقسط إذا علم أنه(9/81)
ولد وممن نحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إذا نكس في الخلق الرابع يعني تنقضي به العدة فقال إذا نكس في الخلق الرابع فليس فيه اختلاف ولكن إذا تبين خلقه هذا أدل وذلك لأنه إذا بان فيه شئ من خلق الآدمي علم أنه حمل فيدخل في عموم قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (الحال الثاني) ألقت نطفة أو دماً لا تدري هل هو ما يخلق منه آدمي أو لا فهذا لا يتعلق به شئ من الأحكام لأنه لم يثبت أنه ولد بالمشاهدة ولا بالبينة (الحال الثالث) ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بأن بها أنها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال والاول (الحال الرابع) ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي فاختلفت الرواية عن أحمد فنقل مهنا وابو طالب أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه خلق آدمي أشبه الدم، وقد ذكر هذا قولا للشافعي وهو اختيار أبي بكر، ولقل الأثرم عن أحمد أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولداً فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها فيثبت كونها أم ولد احتياطاً ولا تنقضي(9/82)
العدة احتياطا وقال حنبل أنها تصير أم ولد ولم يذكر العدة فقال بعض أصحابنا على هذا تنقضي به العدة وهو قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور، قال شيخنا والصحيح أن هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها ولم يتعرض لها (الحال الخامس) أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فلا تنقضي به العدة ولا تصير به الأمة أم ولد لم يثبت كونه ولداً ببينة ولا مشاهدة فأشبه العلقة ولا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة وسواء قيل إنه بدء خلق آدمي أو لم يقل نص عليه أحمد فقال: أما إذا كان علقا فليس بشئ انما هود.
لا نقضي بها عدة ولا نعتق بها أمة ولا نعلم في هذا مخالفاً إلا الحسن فإنه قال: إذا علم أنها حمل انقضت به العدة، وفيه الغرة والأول أصح وعليه الجمهور (مسألة) (وان أتت بولد لا يلحقه نسبه كامرأة الطفل لم تنقض به العدة وعنه تنقضي وفيه بعد) إذا أتت بولد بعد أربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلاق أو فسخ أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية لم يلحقه ولدها لأنا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح والبينونة منه وكونها قد صارت أجنبية منه فأشبهت سائر الأجنبيات، فعلى هذا لا تنقضي به العدة وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ينتفي عنه بغير لعان فلم تنقض عدتها به كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ نكحها، وقال أبو الخطاب هل تنقضي(9/83)
به العدة؟ على وجهين، وذكر القاضي أن عدتها تنقضي به وهو مذهب الشافعي لأنه ولد يمكن أن يكون منه بعد نكاحه بأن يكون قد وطئها بشبهة أو جدد نكاحها فوجب أن تنقضي به العدة وإن لم يلحق، به كالولد المنفي باللعان، وبهذا فارق الذي أتت به لأقل من ستة أشهر فإنه ينتفي عنه يقينا، ثم ناقضوا قولهم فقالوا لو تزوجت في عدتها وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين دخل بها الثاني ولأكثر من أربع سنين من حين بانت من الأول فالولد منتف عنهما ولا تنقضي عدتها بوضعه عن واحد منهما، وهذا أصح فإن احتمال كونه منه لم يكف في إثبات نسب الولد منه مع أنه يثبت بمجرد الإمكان فلأن لا يكفي في انقضاء العدة أولى وأحرى، وما ذكروه منتقض بما سلموه، وما ذكروه من الفرق بين هذا وبين الذي أتت به قبل ستة أشهر غير صحيح فإنه يحتمل أن يكون اصابها قبل نكاحها بشبهة
أو نكاح غير هذا النكاح الذي أتت بالولد فيه فاستويا، واما المنفي بلعان فإننا نفينا الولد عن الزوج بالنسبة إليه ونفينا حكمه في كونه منه بالنسبة إليها حتى أوجبنا الحد على قاذفها وقاذف ولدها وانقضاء العدة من الأحكام المتعلقة بها دونه مثبت (فصل) فأما امرأة الطفل الذي لا يولد لمثله إذا مات عن زوجة فولدت لم يلحقه نسبه ولم تقض به عدتها وتعتد بالأشهر وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة إن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع فإن ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به، وقد روي عن أحمد في الصبي مثل قول أبي حنيفة(9/84)
وذكره ابن أبي موسى قال أبو الخطاب وفيه بعد، وهكذا الخلاف فيما إذا تزوج امرأة دخل بها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعنده تعتد به، واحتج بقوله سبحانه (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ولنا أن هذا حمل منفي عنه يقينا فلم تعتد بوضعه كما لو ظهر بعد موته والآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه.
إذا ثبت هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي علقت به منه سواء كان هذا الولد ملحقاً بغير الصغير مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ بشبهة أو كان من زنا لا يلحق بأحد لأن العدة تجب من كل وطئ فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة اشهر وعشر لأن العدة من رجلين لا يتداخلان، وإن كانت الفرقة في الحياة بعد الدخول كزوجة كبير دخل بها ثم طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر منذ تزوجها فإنها تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء، وكذلك إذا طلق الخصي المجبوب امرأته أو مات عنها فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض عدتها بوضعه وتنقضي به عدة الوطئ ثم تستأنف عدة الطلاق أو عدة الوفاة على ما بيناه، وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن الولد يلحق به لأنه قد يتصور منه الانزال بأن يحك موضع ذكره بفرجها فينزل، فعلى هذا القول يحلق به الولد وتنقضي به العدة، والصحيح أن هذا لا يحلق به ولد لأنه لم تجر به عادة فلا يلحق به ولدها كالصبي الذي لم يبلغ تسع سنين، وكذلك إذا تزوج امرأة بحضرة الحاكم ثم طلقها في المجلس أو تزوج(9/85)
المشرقي بالمغربية ثم أتت بولد لم يلحقه ولا تنقضي به العدة وقد ذكرناه في الباب الذي قبله وذكرنا الخلاف فيه، وانقضاء العدة مبني على لحوق النسب (مسألة) (وأقل مدة الحمل ستة أشهر وغالبها تسعة وأكثرها أربع سنين وعنه سنتان) إنما كان أقل مدة الحمل ستة اشهر لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع الى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له علي ليس لك ذلك قال الله تعالى (والوالدات يرضعن وأولادهن حولين كاملين) وقال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا لارجم عليها فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرى لذلك الحد، ورواه الأثرم أيضاً عن عكرمة أن ابن عباس قال ذلك قال عاصم الأحول قلت لعكرمة إنه بلغنا ان عليا قال هذا قال فقال عكرمة لا ما قال هذا إلا ابن عباس، وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة اشهر، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم غالبه تسعة أشهر لأن غالب النساء كذلك وهذا أمر معروف بين الناس، وأكثر مدة الحمل أربع سنين هذا ظاهر المذهب وبه قال الشافعي وهو المشهور عن مالك، وروي عن أحمد أن أقصى مدته سنتان روى ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل، ولأن التقدير إنما يعلم بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف ههنا والاتفاق إنما هو على ما ذكرنا، وقد وجد ذلك فإن الضحاك بن مزاحم(9/86)
وهرم بن حبان حملت أم كل واحد منهما به سنتين، وقال الليث أقصاه ثلاثه سنين حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين، وقال أبو عبيد ليس لاقصاءه وقت يوقف عليه وقال عباد بن العوام خمس سنين وعن الزهري قال قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين ولنا أن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل أربع سنين فروى الوليد بن مسلم قال قلت لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال مالك سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل اربع سنين قبل أن تلد، وقال الشافعي بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين قال أحمد نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة
عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي في بطن أمه أربع سنين وهكذا ابراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك ابو الخطاب وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد ولأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحمل، وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما.
إذا ثبت هذا فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء، ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها تنقضي به(9/87)
(مسألة) (وأقل ما يتين به الولد أحد وثمانون يوما وهو أقل ما تقضي به العدة من الحمل وهو ان تضعه بعد ثمانين يوماً منذ أمكنه وطؤها) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن خلق أحدكم ليجع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك " ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين فأما بعد أربعة أشهر فليس فيه إشكال لأنه يستكمل الخلق في الرابع (فصل) الضرب الثاني المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة وشهران وخمسة أيام إن كانت أمة وسواء ما قبل الدخول وبعده أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها سواء كانت بالغة أو لم تبلغ لقول الله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه فإن قيل ألا حملتم الآية على المدخول بها كما قلتم في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) قلنا إنما خصصنا هذه بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن(9/88)
تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياساً على المطلقة
في التخصيص لوجهين (أحدهما) أن النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشئ إذا انتهى تقررت أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الاجارة بانقضائها والعدة من أحكامه (الثاني) أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يأمن أن يأتي بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والميت في غير منزلها حفظاً لها إذا ثبت هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم، وحكي عن مالك أنها إذا كانت مدخولاً بها وجبت أربعة أشهر وعشر فيها حيضة واتباع الكتاب والسنة أولى ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة وهذا الخلاف مختص بذات القروء فأما الآيسة والصغيرة فلا خلاف فيهما وأما الأمة المتوفى عنها فعدتها شهرين وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم إلا ابن سيرين فإنه قال ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة فإن السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر اللفظ وعمومه(9/89)
ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة (فصل) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال فيجب عشرة أيام مع الليالي وبه قال مالك والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي يجب عشر ليال وتسعة أيام لان العشرة تستعمل في الليالي دون الأيام وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعاً.
قلنا العرب تغلب حكم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يريد بأيامها ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزمه الليالي والأيام ويقول القائل: سرنا عشراً يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدة إلى الإباحة بالشك (مسألة) (وإن مات زوج الرجعية في عدتها استأنفت عدة الوفاة من حين موته وسقطت عدة الطلاق) وهذا لا خلاف فيه، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك لأن الرجعية
زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة، وحكى في المحرر أنها تعتد أطول الأجلين وهو بعيد.
(مسألة) (وإن طلقها في الصحة طلاقاً بائناً ثم مات في عدتها لم تنتقل عن عدتها وتبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة) وهذا قول مالك والشافعي وأبي عبيد وابن المنذر، وقال الثوري وأبو حنيفة عليها أطول الأجلين كما لو طلقها في مرض موته(9/90)
ولنا قوله سبحانه (والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء) ولانها أجنبية منه في نكاحه وميراثه والحل له ووقوع طلاقه وظهاره وتحل له أختها وأربع سواها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها.
وذكر القاضي في المطلقة في المرض أنها إذا كانت حاملاً تعتد أطول الأجلين وليس بشئ فإن الحمل تنقضي بوضعه كل عدة ولا يجوز أن يجب عليها الاعتداد بغير الحمل لما ذكرناه والله أعلم (مسألة) (وإن كان الطلاق في مرض موته اعتدت أطول الأجلين من عدة الطلاق وعدة الوفاة) نص على هذا أحمد وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر: تبني على عدة الطلاق لأنه مات وليست زوجة له لأنها بائن من النكاح فلا تكون منكوحة.
عن أحمد مثل ذلك، وعنه رواية ثالثة أنها تعتد عدة الوفاة فقط ذكرها هاتين في المحرر لأنها ترثه أشبهت الرجعية والأولى ظاهر المذهب ووجه ذلك أنها وارثة فتجب عليها عدة الوفاة كالرجعية ويلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم (فصل) وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول فليس عليها عدة لموته، وقال القاضي عليها عدة الوفاة إذا قلنا ترثه فتجب عليها عدة الوفاة كما لو مات بعد الدخول قبل قضاء العدة ورواه أبو طالب عن أحمد في التي انقضت عدتها،(9/91)
وذكر ابن أبي موسى فيها روايتين، والصحيح أنها لا عدة عليها لأن الله تعالى قال (إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وقال (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقال (واللائي يئسن من الحيض من نسائكم إن ارتبم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم تحضن) فلا يجوز تخصيص هذه النصوص بالتحكم ولأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة لموته كما لو تزوجت وتخالف التي مات زوجها في عدتها فإنها لا تحل لغيره في هذه الحال ولم تنتقض عدتها وتمنع أنها ترثه لأنها لو ورثته لا أفضى إلى أن يرث الرجل ثماني زوجات فأما إن تزوجت إحدى هؤلاء فلا عدة عليها بغير خلاف نعلمه ولا ترثه فإن كانت المطلقة البائن لا ترث كالأمة أو الحرة يطلقها العبد أو الذمية يطلقها المسلم والمختلعة أو فاعلة ما يفسخ نكاحها لم يلزمها عدة سواء مات زوجها في عدتها أو بعدها على قياس قول أصحابنا لأنهم عللوا نقلها إلى عدة الوفاة بإرثها وهذه ليست وارثة فأشبهت المطلقة في الصحة (مسألة) (وإن ارتابت المتوفى عنها لظهور أمارات الحمل من الحركة وانتفاخ البطن وانقطاع الحيض قبل أن تنكح لم تزل في عدتها حتى تزول الربية وإن تزوجت قبل زوالها لم يصح النكاح وإن ظهر بها ذلك بعد نكاحها لم يفسد به لكن إن أتت بولد لأقل من ستة أشهر منذ نكحها فهو باطل وإلا فلا)(9/92)
وجملة ذلك أن المعتدة إذا ارتابت في عدتها بان ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة أو نحوهما وشكت هل هو حمل أم لا؟ لم تخل من ثلاثة أحوال (أحدهما) أن تحدث بها الريبة قبل انقضاء عدتها فإنها تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة فان بان حملاً انقضت عدتها بوضعه فإن زال وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بالشهور أو بالأقراء ان كان فارقها في الحياة فإن تزوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدات في الظاهر، ويحتمل أنه إذا تبين عدم الحمل أنه يصح النكاح إذا كان بعد انقضاء العدة (الثاني) أن تظهر الريبة بعد قضاء عدتها والتزوج فالنكاح صحيح لأنه وجد بعد قضاء العدة ظاهراً والحمل مع الريبة مشكوك فيه فلا يزول ما حكمنا بصحته لكن لا يحل لزوجها وطؤها لأننا شككنا في صحة النكاح ولأنه لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره ثم ينظر فإن وضعت
الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل لأنه نكاحها وهي حامل وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به.
(الثالث) ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان (أحدهما) لا يحل لها أن تتزوج وإن فعلت لم يصح النكاح لأنها تتزوج مع الشك في انقضاء العدة فلم تصح كما لو وجدت الريبة في العدة ولأننا لو صححنا النكاح لوقع موقوفاً ولا يجوز كون النكاح موقوفاً ولهذا لو أسلم وتخلفت امرأته في الشرك لم يجز أن يتزوج أختها لان نكاحها يكون موقوفاً على إسلام الأولى(9/93)
(والثاني) يحل لها النكاح ويصح لانا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة والسكنى فلا يجوز زوال ما حكمنا به بالشك الطارئ ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده وروجوع الشهود (فصل) وإذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أخرجت بالقرعة وعليها العدة دون غيرها وتحسب عدتها من حين طلق لا من حين خرجت القرعة وإن طلق واحدة بعينها وأنسيها ففي قول اصحابنا الحكم فيها كذلك.
والصحيح أنه يحرم عليه الجميع وهو اختيار شيخنا وقد ذكرناه في باب الشك في الطلاق فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الأجلين من عدة الطلاق أو الوفاة لأن النكاح كان بائناً بيقين وكل واحدة منهن يجوز أن تكون المطلقة ويجوز أن تكون زوجة فوجب أقصى الأجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات لكن ابتداء القرء من حين طلق وابتداء عدة الوفاة من حين الموت وهذا مذهب الشافعي وإن طلق الجميع ثلاثاً بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن، وإن طلق ثلاثاً وأنسيهن فهو كما لو طلق واحدة (مسألة) (واذا مات عن امرأة نكاحها فاسد فقال القاضي عليها عدة الوفاة نص عليه وقال ابن حامد لا عدة عليها للوفاة لذلك فإن كان النكاح مجمعاً على بطلانه لم تعتد للوفاة من أجله وجهاً واحداً) أما إذا كان النكاح مجمعاً على بطلانه مثل أن ينكح ذات محرمة أو معتدة يعلم حالها وتحريمها فلا حكم لعقدها والخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا توجب عدة وكذلك الموت عنها لا يوجب
عدة الوفاة وإن وطئها اعتدت لوطئها بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها كالمزني بها من(9/94)
غير عقد فأما إن نكحها نكاحاً مختلفاً فيه فهو فاسد مات عنها فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة وهو اختيار أبي بكر وقال أبو عبد الله بن حامد ليس عليها عدة الوفاة وهو مذهب الشافعي لأنه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل فعلى هذا إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء ووجه الأول أنه نكاح يلحق به النسب فوجبت به العدة كالنكاح الصحيح بخلاف الباطل فإنه لا يلحق به النسب وإن فارقها في الحياة بعد الإصابة اعتدت بعد فرقته بثلاثة قروء إن كانت من ذوات الاقراء أو بثلاثة أشهر إن لم تكن ولا خلاف في ذلك، وإن كان قبل الخلوة فلا عدة عليها بغير خلاف لأن المفارقة في الحياة في النكاح الصحيح لا عدة عليها ففي الفاسد أولى، وإن كان بعد الخلوة قبل الإصابة فالمنصوص عن أحمد أن عليها العدة لأنه أجري مجرى النكاح الصحيح في لحوق النسب فكذلك في العدة وقال الشافعي لا عدة عليها لوجهين (أحدهما) أنها خلوة في غير نكاح صحيح أشبهت التي نكاحها باطل (والثاني) أن الخلوة عنده في النكاح الصحيح لا توجب العدة ففي الفاسد أولى، وهذا مقتضى قول ابن حامد.
(فصل) (الثالث ذات القروء التي فارقها في الحياة بعد دخوله بها عدتها ثلاثة قروء إن كانت حرة وقرءان كانت أمة) أما الحرة من ذوات القروء فعدتها ثلاثة قروء بغير خلاف بين أهل العلم لقول الله تعالى (والمطلقات(9/95)
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وأما الأمة فعدتها بالقرء قرءان في قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وعبد الله بن عتبة والقاسم وسالم والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعن ابن سيرين عدتها عدة الحرة إلا أن تكون قد مضت بذلك سنة وهو قول داود لقول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " ولأنه قول من ذكرنا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً في الصحابة فكان إجماعاً وهذا يخص عموم الآية ولأنه معنى ذو عدد بني على التفاضل فلا تساوي
الأمة فيه الحرة كالحد وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفاً كما كان حدها على النصف من حد الحرة إلا أن الحيض لا يتبعض فكمل حيضتين، ولهذا قال عمر رضي الله عنه أو استطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفاً لفعات (مسألة) (والقرء الحيض في أصح الروايتين (والثانية) هي الاطهار) القرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعاً فهو من الأسماء المشتركة قال أحمد بن يحيى ثعلب القروء الأوقات الواحد قرء وقد يكون حيضاً وقد يكون طهراً لأن كل واحد منهما يأتي لوقت قال الشاعر: كرهت العقر عقر بني تميم * * إذا هبت لقارئها الرياح يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام إقرائك فهذا الحيض " وقال الشاعر: مورثة عزاً وفي الحي رفعة * * لما ضاع فيها من قروء نسائكا فهذا الطهر، واختلف أهل العلم في المراد في قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) واختلفت(9/96)
الرواية عن أحمد في ذلك فروي أنها الحيض روى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري والاوزاعي والعنبري واسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي وروي أيضاً عن أبي بكر الصديق وعثمان ابن عفان وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي الصحيح عن أحمد أن الإقراء الحيض وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالأطهار فقال في رواية النيسابوري كنت أقول أنه الأطهار وأنا أذهب اليوم إلى أن الإقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت أقول أنه الاطهار ثم وقفت لقول الأكابر.
(والرواية الثانية) عن أحمد أن القروء الأطهار وهو قول زيد وابن عمر وعائشة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك والشافعي وابي ثور، وقال أبو بكر بن عبد الرحمن ما أدركت احدا من فقهائا إلا وهو يقول ذلك قال ابن عبد البر رجع احمد إلى القرء والأطهار قال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القرء الحيض تختلف والاحاديث
عمن فال إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح قوية واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) أي في عدتهن كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن(9/97)
عمر " فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " متفق عليه، وفي رواية ابن عمر: فطلقوهن في قبل عدتهن ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح فوجب أن تعتبر عقيب الطلاق كعدة الآيسة والصغيرة، ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة اشهر اللائي لم يحضن) فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فيدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى (فإن لم تجدوا ماء فتيمموا) ولأن المعهود في لسان الشارع استعمال القرء بمعنى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تدع الصلاة أيام إقرائها " رواه أبو داود، وقال لفاطمة بنت أبي حبيش " انظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء " رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " طلاق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان " رواه أبو داود وغيره فإن قالوا هذا يرويه مظاهر بن أسلم وهو منكر الحديث قلنا قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة الحرة ولأن ظاهر قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل القروء الأطهار لم يوجب(9/98)
ثلاثة بل يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله الحيض أوجبه ثلاثة كاملة فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة، وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل عليه الحيض فوجب أن يكون الاستبراء به فإن قيل لا نسلم أن استبراء الأمة بالحيضة لذلك قال ابن عبد البر وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة
وقال قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال اسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه، قلنا هذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حامل حتى تستبرئ بحيضة " ولأن الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالحيض كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها براءة المرأة من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه فأما قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) فيجوز أنه أراد قبل عدتهن إذ لا يمكن حمله على الطلاق في العدة ضرورة أن الطلاق يسبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم الحكم ولا يؤخذ الحكم قبله والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الإقراء بالحيض (مسألة) (ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها حتى تأتي بثلاث كاملة بعدها(9/99)
لا نعلم في ذلك خلافاً بين أهل العلم لأن الله تعالى أمر بثلاثة قروء فيتناول ثلاثة كاملة والتي طلق فيها لم يبق ما تتم به مع اثنتين ثلاثة كاملة فلا تعتد بها ولأن الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل العدة عليها فلو احتسب بتلك الحيضة قرءا كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محرماً (مسألة) (ولا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها، وإذا طهرت من الحيضة الثالثة حلت في إحدى الروايتين، ولاخرى لا تحل حتى تغتسل) حكى هاتين الروايتين أبو عبد الله بن حامد (إحداهما) أنها في العدة ما لم تغتسل يباح لزوجها ارتجاعها ولا يحل لغيره نكاحها قال قال أحمد وعمر وعلي وابن مسعود يقولون قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة روى ذلك عن سعيد بن المسيب والثوري وإسحاق، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم قال شريك له الرجعة، وإن فرطت في الغسل عشرين سنة قال أبو بكر روي عن أبي عبد الله أنها في عدتها ولزوجها رجعتها حتى يمضي وقت الصلاة التي قد طهرت في وقتها وهذا قول الثوري، وقال أبو حنيفة إذا انقطع الدم لدون أكثر
الحيض، وان انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه، ووجه اعتبار الغسل أنه قول الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعاً، ولأنها ممنوعة من الصلاة بحكم حدث الحيض فأشبهت الحائض(9/100)
(والرواية الثانية) أن العدة تنقضي بطهرها من الحيضة الثالثة، وانقطاع دمها.
اختاره أبو الخطاب وهو قول سعيد بن جبير والاوزاعي والشافعي في القديم لقول الله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وقد كملت القروء بوجوب الغسل عليها ووجوب الصلاة وفعل الصيام وصحته منها ولأنه لم يبق حكم العدة في الميراث ووقوع الطلاق بها واللعان النفقة وكذلك فيما نحن فيه قال القاضي إذا شرطنا الغسل أفاد عدمه الرجعة وتحريمها على الأزواج فأما سائر الأحكام فلها تنقطع بانقطاع دمها (فصل) ومن قال القرء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً، وإن بقي منه لحظة حسبها قرءاً، هذا قول كل من قال إن القروء الأطهار إلا الزهري فإنه قال تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه، وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم تحتسب ببقيته لأنه زمن حرم فيه الطلاق فلم تحتسب به من العدة كزمن الحيض ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعاً لضرر تطويل العدة عليها فلو لم تحتسب ببقية الطهر قرءاً كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها وما ذكر عن ابي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولاً وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها فأما انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرماً ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج أن تعتد بثلاث حيض أو ثلاثة أطهار على الرواية الأخرى ولو قال(9/101)
لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك أو في آخر جزء من طهرك فإنها لا تحتسب الذي وقع فيه الطلاق لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما
قارنه، ومن جعل القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة لم يقع فيها طلاق فوجب أن تعتد بها قرءاً فإن اختلفا فقال الزوج وقع الطلاق في أول الحيض وقالت بل في آخر الطهر أو قال انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت بل قد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها مقبول في الحيض وفي انقضاء العدة (مسألة) (والرواية الثانية القروء الاطهار وتعتد بالطهر الذي طلقها فيه قراءا فإذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة، وإن طلقها حائضاً انقضت برؤية الدم من الحيضة الرابعة وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبان بن عثمان ومالك وأبي ثور وهو ظاهر مذهب الشافعي وحكي عنه قول آخر لا تنقضي العدة حتى يمضي من الدم يوم وليلة لجواز أن يكون الدم دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال، وحكى القاضي هذا الاحتمال في مذهبنا أيضاً.
ولنا أن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم عنهم بإسناده ولفظ حديث زيد بن ثابت إذا دخلت(9/102)
في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها وقولهم إن الدم يجوز أن يكون دم فساد قلنا قد حكم بكونه حيضاً في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء العدة ثم إن كل التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم كما لو قال لها إن حضت فأنت طالق اختلف القائلون بهذا القول فمنهم من قال اليوم والليلة من العدة لأنه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الاطهار ومنهم من قال ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها لأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضي يوم وليلة، ولو راجعها زوجها فيها لم تصح الرجعة وهذا أصح الوجهين (فصل) وكل فرقة بين زوجين في الحياة بعد الدخول فعدة المرأة منها عدة الطلاق سواء كانت يخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو إعسار أو إعتاق أو اختلاف دين أو غيره في قول أكثر أهل
العلم، وروى عن ابن عباس أن عدة الملاعنة تسعة أشهر وابي ذلك سائر أهل العلم وقالوا عدتها عدة الطلاق لأنها مفارقة في الحياة أشبهت المطلقة وأكثر أهل العلم يقولون عدة المختلفة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز والحسن الشعبي والنخعي والزهري وقتادة وحلاس بن عمرو وأبو عياض ومالك والليث والاوزاعي والشافعي، وروي عن عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وأبان بن عثمان وإسحاق وابن المنذر أن عدة المختلعة حيضة،(9/103)
ورواه ابن القاسم عن أحمد لما روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة.
رواه النسائي، وعن ربيع بنت معوذ مثل ذلك ولأن عثمان قضى به رواه النسائي وابن ماجة ولنا قول الله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " قرء الأمة حيضتان " عام وحديثهم يرويه عكرمة مرسلاً قال أبو بكر هو ضعيف مرسل، وقول عثمان وابن عباس وقد خالفه قول عمر وعلي فإنهما قالا: عدتها ثلاث حيض وقولهما اولى، وأما ابن عمر فقد روي مالك عن نافع عنه أنه قال عدة المخلعة عدة المطلقة وهو أصح عنه (فصل) الرابع اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر إن كن حرائر وإن كن إماء فشهران وعنه ثلاثة أشهر وعنه شهر ونصف أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة الآيسة الصغيرة التي لم تحض ثلاثة أشهر لقوله الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) فإن كان الطلاق في أول الشهر اعتبر ثلاثة أشهر بالأهلة لقول الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وقال سبحانه (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم) ولم يختلف الناس في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة وإن وقع الطلاق في اثناء شهر اعتدت بقية ثم اعتدت شهرين(9/104)
بالأهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوماً، وهذا مذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تحسب
بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الأول تاماً كان أو ناقصاً لأنه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالأهلة فإذا كان من بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه وخرج أصحابنا وجهاً ثانياً أن جمع الشهور محسوبة بالعدد وهو قول ابن بنت الشافعي لأنه إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء الثاني من نصف الشهر وكذلك الثالث ولنا أن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والاصل الهلال ماذا أمكن اعتبار الهلال اعتبر وإذا تعذر رجع إلى العدد وفي هذا انفصال عما ذكر لابي حنيفة وأما التخريج الذي ذكر لأصحابنا فإنه لا يلزم إتمام الشهر الأول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع (فصل) وتحسب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها فلو فارقها نصف النهار أو نصف الليل اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم وقال ابن حامد لا تحتسب بالساعات وإنما يحتسب بأول الليل والنهار فإذا طلقها نهاراً احتسبت من أول الليل الذي يليه وإن طلقها ليلاً احتسبت من أول النهار الذي يليه وهذا قول مالك لأن حساب الساعات يشق فسقط اعتباره ولنا قول الله تعالى (فعدتهن ثلاثة أشهر) فلا تجوز الزيادة عليها بغير دليل وحساب الساعات ممكن(9/105)
إما يقيناً وإما استظهاراً فلا وجه للزيادة على ما اوجبه الله تعالى، واختلفت الرواية في عدة الأمة فأكثر الروايات عنه أنها شهران وهو الذي ذكره الخرقي رواه عنه جماعة من أصحابه واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كانت عدتها شهرين، رواه الأثرم عنه بإسناده وهذا قول عطاء والزهري وإسحاق وأحد أقوال الشافعي، ولان الأشهر بدل من القروء وعدة ذات القروء قرآن فبدلهما شهران ولأنها معتدة بالشهور من غير الوفاة فكان عددها كعدد القروء ولو كانت ذات قروء كالحرة (والرواية الثانية) أن عدتها شهر ونصف، نقلها الميموني والاثرم واختارها أبو بكر وهذا قول علي رضي الله عنه، وروى ذلك عن ابن عمر وابن المسيب وسالم والشعبي الثوري وأصحاب الرأي وهو قول ثان للشافعي لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة وعدة الحرة وعدة الحرة ثلاثة أشهر فنصفها شهر
ونصف وإنما كملنا لذات الحيض حيضتين لتعذر تبعيض الحيضة فإذا صرنا إلى الشهور أمكن النصيف فوجب المصير اليه كما في عدة الوفاة ويصير هذا كالمحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد مكيل أخرجه فإن أراد الصيام مكانه صام يوماً كاملاً ولأنها عدة أمكن تنصيفها فكانت على النصف من عدة الحرة كعدة الوفاة.
(والثالثة) أن عليها ثلاثة أشهر روى ذلك عن الحسن ومجاهد وعمر بن عبد العزيز ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك، وهو القول الثالث للشافعي لعموم قوله تعالى (فعدتهن ثلاثة أشهر) ولأن اعتبار الشهور(9/106)
ههنا للعلم ببراءة رحمها ولا يحصل هذا بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة جميعاً لأن الحمل يكون نطفة أربعين يوماً وعلقة أربعين يوما ثم يصير مضغة ثم تتحرك ويعلو بطن المرأة فيظهر الحمل، وهذا معنى لا يختلف بالرق والحرية ومن رد هذه الرواية قال هي مخالفة لإجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم ولا يجوز ذلك ولأنها معتدة بغير الحمل فكانت دون عدة الحرة كذات القروء المتوفى عنها زوجها (مسألة) (وعدة أم الولد عدة الأمة لأنها أمة مملوكة وعدة المتعق بعضعها بالحساب من عدة حرة وأمة أما إذا اعتدت بالحمل أو بالقروء فعدتها كعدة الحرة) لأن عدة الحامل لا تختلف بالرق والحرية وعدة الأمة بالقروء قرآن فأدنى ما يكون فيها من الحرية يوجب قرءاً ثالثاً لأنه لا يتبعض وإن كانت عدتها بالشهور للوفاة وكان نصفها حراً اعتدت بثلاثة شهور وثمانية ايام وإذا كان نصفها حراً فعدتها ثلاثة أرباع عدة الحرة فإن قلنا عدة الأمة شهران فعدتها شهران ونصف وإن قلنا شهر ونصف فعدتها شهران وسبعة أيام ونصف وإن قلنا عدتها ثلاثة أشهر فهي كالحرة (مسألة) (وحد الإياس خمسون سنة وعنه أن ذلك حده في نساء العجم وحده في نساء العرب ستون سنة) اختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات فعنه أوله خمسون سنة لأن(9/107)
عائشة رضي الله عنها قالت لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد خمسين سنة وعنه إن كانت من نساء العجم فخمسون سنة وان كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى جبلة وطبيعة وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هند ابنة أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن ابي طالب ولها ستون سنة وقال يقال إنه لن تلد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية وللشافعي قولان (أحدهما) يعتبر السن الذي بتيقن أنها إذا بلغته لم تحض، قال بعضهم هو اثنان وستون سنة (والثاني) يعتبر السن الذي ييئس فيه نساء عشيرتها لأن الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطبعهن وقال شيخنا الصحيح إن شاء الله أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة لأن وجود الحيض في حق هذه نادر بدليل قول عائشة وقله وجوده فإذا انضم الى هذا انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده فلها حينئذ أن تعتد بالأشهر وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه على ما نذكره إن شاء الله تعالى وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض في الصحيح لأن دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادراً وإن رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض فعند ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر كالتي لا ترى دما، أما أقل سن تحيض له(9/108)
المرأة فقد ذكرناه في باب الحيض وذكرنا دليله فإن رأته قبل ذلك اعتدت بالأشهر وإن رأته بعد ذلك فالمعتبر من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة وإن لم يوجد ذلك لم تعتد به (مسألة) (وإن حاضت الصغيرة في عدتها انتقلت الى القروء ويلزمها إكمالها) وجملة ذلك أن الصغيرة التي لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعه لزمها استئناف العدة بالإقراء في قول عامة فقهاء الأمصار منهم سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وقتادة والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وأهل المدينة وأهل البصرة وذلك لأن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء ويلزمها
أن تعتد بثلاث حيض إن قلنا القروء الحيض وإن قلنا القروء الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءاً؟ فيه وجهان (أحدهما) تعتد به لأنه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين (الثاني) لا تعتد به وهو ظاهر كلام الشافعي لأن القرء هو الطهر بين حيضتين وهذا لم يتقدمه حيض فأما إن حاضت بعد انقضاء عدتها بالشهور ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة لأنه حدث بعد انقضاء العدة فأشبه ما لو حدث بعد طول الفصل ولا يمكن منع هذا الأصل لأنه لو صح منعه لم يحصل للصغيرة الاعتداد بالشهور بحال.(9/109)
(مسألة) (وإن يئست ذات القروء في عدتها انتقلت إلى عدة الآيسات ثلاثة أشهر) لأن العدة لا تلفق من جنسين وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها بالأشهر لأنها عجزت عن الاصل فانتقلت إلى البدل كمن عجز عن الماء ينتقل الى التراب فإن ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وبان لنا أن ما رأته من الدم لم يكن حيضاً لأن الحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل فولدت لأقل من ستة أشهر منذ انقضت الحيضة الثانية تبينا أن الدم ليس بحيض لأنها كانت حاملاً مع رؤية الدم والحامل لا تحيض فأما إن حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل يمكن حدوثه بعد العدة بأن تلد لستة أشهر منذ انقضت عدتها لم يلحق الزوج وحكما بصحة الاعتداد وكان هذا الولد حادثاً (مسألة) (وإن عتقت الأمة الرجعية في عدتها بنت على عدة حرة وإن كانت بائناً بنت على عدة أمه) هذا قول الحسن والشعبي والضحاك واسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد أقوال الشافعي والقول الثاني تكمل عدة أمة سواء كانت بائناً أو رجعية وهو قول مالك وأبي ثور لأن الحرية طرأت بعد وجوب العدة عليها فلا يغير حكمها كما لو كانت بائناً أو كما لو طرأت بعد وجوب الاستبراء ولأنه معنى يختلف بالرق والحرية فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحد وقال عطاء والزهري وقتادة تبني على عدة حرة بكل حال وهو القول الثالث للشافعي لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد في أثناء العدة انتقلت إليها وإن
كانت بائناً كما لو اعتدت بالشهور ثم حاضت(9/110)
ولنا أنها إذا اعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة تعتد عدة الوفاة لو مات فوجب أن تعتد عدة الحرائر كما لو اعتقت قبل الطلاق، وإن اعتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية فلم تجب عليها عدة الحرائر كما لو عتقت بعد مضي القرأين ولأن الرجعية تنتقل إلى عدة الوفاة لو مات فتنتقل الى عدة الحرائر، والبائن لا تنتقل إلى عدة الوفاة فلا تنتقل الى عدة الحرائر كما لو انقضت عدتها وما ذكره مالك يبطل بما إذا مات زوج الرجعية فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة والفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت الصغيرة أن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل زال حكم البدل كالتيمم يجد الماء، وليس كذلك ههنا فإن عدة الأمة ليست ببدل ولذلك تبني الأمة على ما مضى من عدتها اتفاقاً وإذا حاضت الصغيرة استأنفت العدة فافترقا وتخالف الاستبراء فإن الحرية لو قاربت سبب وجوبه لم يكمل الا ترى أن أم الولد إذا مات سيدها عتقت لموته ووجب الاستبراء كما يجب على التي لم تعتق ولأن الاستبراء لا يختلف بالرق والحرية بخلاف مسئلتنا (فصل) إذا عتقت الأمة تحت العبد فاختارت نفسها اعتدت عدة الحرة لأنها بانت من زوجها وهي حرة وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بريرة أن تعتد عدة الحرة وإن طلقها العبد طلاقا رجعيا فأعتقها سيدها بنت على عدة حرة سواء فسخت أو أقامت على النكاح لأنها عتقت في عدة رجعية وإن لم يفسخ فراجعها في عدتها فلها الخيار بعد رجعتها فإن اختارت الفسخ قبل المسيس فهل تستأنف العدة أو تبني على ما مضى من عدتها؟ على وجهين فإن قلنا تستأنف فإنها تستأنف عدة حرة، وإن قلنا تبني بنت على عدة حرة.
(فصل) (الخامس من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تعتد سنة تسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة) وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق زوجته وهي من ذوات الإقراء فلم ترى الحيض في عادتها ولم تدر(9/111)
ما رفعه فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها لأن هذه غالب مدة الحمل فإذا لم يبن
الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة لآيسات ثلاثة أشهر، هذا قول عمر رضي الله عنه.
قال الشافعي هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر علمناه، وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وروي ذلك عن الحسن، وقال الشافعي في قول آخر تتربص اربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لأن هذه المدة هي التي تتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا.
وحكى شيخنا مثل ذلك في المذهب، وقال الشافعي في الجديد تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس فتعتد حينئذ بثلاثة أشهر وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبي والنخعي والزهري والثوري وأبي عبيد وأهل العراق ولأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز قبله وهذه ليست آيسة ولأنها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور كما لو تباعد حيضها لعارض ولنا الإجماع الذي ذكرناه حكاه الشافعي ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا يحصل به براءة رحمها فاكتفي به ولهذا اكتفي في حق ذات القروء بثلاثة قروء وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر ولو روعي اليقين لاعتبر أقصى مدة الحمل ولأن عليها في تطويل العدة ضرراً فإنها تمنع من الأزواج وتحبس دائماً ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليها الشقة كفاها تسعة أشهر، فإن قيل فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهر فلم اعتبرتم بثلاثة أشهر بعدها؟ قلنا الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل وقد تجب العدة مع العلم ببراءة رحمها بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل فوضعته وقع الطلاق ولزمها العدة (مسألة) (وإن كانت امة اعتدت أحد عشر شهراً تسعة أشهر للحمل وشهرين للعدة) وهذا مبني على أن الحرة تعتد بتسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة على ما ذكرنا في المسألة قبلها وأن عد(9/112)
الأمة شهران لأن مدة الحمل تتساوى فيها الحرة والأمة لكونه أمراً حقيقياً فإذا يئست من الحمل اعتدت عدة آيسة شهرين وعلى قولنا أن عدة الأمة شهر ونصف تكون عدتها عشرة أشهر ونصفا ومن جعل عدتها ثلاثة أشهر فهي كالحرة سواء (فصل) فإن عاد الحيض اليها في السنة ولو في آخرها أو عاد إلى الأمة قبل انقضاء عدتها على ما فيها من الاختلاف لزمها الانتقال الى القروء لأنها الأصل فبطل بها حكم البدل وان عاد بعد مضيها
ونكاحها لم تعد إلى القروء لأن عدتها انقضت وحكمنا بصحة نكاحها فلم تبطل كما لو اعتدت الصغيرة بثلاثة أشهر وتزوجت ثم حاضت، وإن حاضت بعد السنة وقبل نكاحها ففيه وجهان (أحدهما) لا تعود لأن العدة انقضت بالشهور فلم تعتد كالصغيرة (والثاني) تعود لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق زوج بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة (فصل) فإن حاضت حيضة ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فهي كالمسألة التي قبلها تعتد سنة من وقت انقطاع الحيض وذلك لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تجلس تسعة أشهر فإن لم يتبين بها حمل تعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة ولا نعلم له مخالفاً.
قال إبن المنذر قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منكر، وقال(9/113)
الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم ترتفع حيضتها؟ قال أذهب إلى حديث عمر إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت فإنها تنتظر سنة، قيل له فحاضت دون السنة؟ فقال ترجع الى الحيض، قيل له فإن ارتفعت حيضتها لا تدري مما ارتفعت؟ قال تقعد سنة أخرى وهذا قول كل من وافقنا في المسألة قبلها وذلك لأنها لما ارتفعت حيضتها حصلت مرتابة فوجب أن تنتقل ألى الاعتداد بسنة كما لو ارتفع حيضها حين طلقها ووجب عليها سنة كاملة، لأن العدة لا تبنى على عدة أخرى ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست انتقلت الى ثلاثة أشهر كاملة ولو اعتدت الصغيرة شهراً أو شهرين ثم حاضت انتقلت الى ثلاثة قروء (فصل) فإن كان عادة المرأة أن يتباعد ما بين حيضتيها لم تنقض عدتها إلا بثلاث حيضات، وإن طالت لأن هذه لم يرتفع حيضها ولم يتأخر عن عادتها فهي من ذوات القروء باقية على عادتها فأشبهت من لم يتباعد حيضها ولا نعلم فيه مخالفاً (مسألة) (وعدة الجارية التي أدركت فلم تحض والمستحاضة اليائسة ثلاثة أشهر وعنه سنة) إذا بلغت الجارية سناً تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر وهو ظاهر قول الخرقي وقول أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وضعف أبو بكر الرواية
المخالفة لهذا وقال رواه أبو طالب فخالف فيها أصحابه فروى أبو طالب عن احمد أنها تعتد سنة، وقال(9/114)
القاضي هذه الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض حصلت مرتابة يجوز أن يكون بها حمل منع حيضها فيجب أن تعتد بسنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده ولنا قول الله تعالى (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن) وهذه من اللائي لم يحضن، ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن تحيض لمثله النساء في الغالب مثل أن تحيض لعشر سنين اعتدت بالحيض، وفارق من ارتفع حيضها فإنها من ذوات القروء (مسألة) (وهكذا حكم المستحاضة الناسية) وجملة ذلك القول في المستحاضة وهي لا تخلو إما أن تكون لها حيض محكوم بعادة أو تمييز أولا فان كان لها محكوم به فحكمها فيه حكمها غير المستحاضة إذا مرت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها.
قال أحمد المستحاضة تعتد أيام اقرائها التي تعرف فان علمت أن لها في كل في شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر، وإن شكت في شئ تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتاً ولا تمييزاً فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) ان عدتها ثلاثة أشهر وهو قول عكرمة وقتادة وأبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حمنة(9/115)
بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة فجعل لها حيضة كل شهر، ولأننا نحكم لها بحيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصيام ونثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب أن تنقضي بها العدة لأن ذلك من أحكام الحيض (والرواية الثانية) تعتد سنة بمنزلة من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، قال أحمد إذا كانت اختلطت ولم تعلم إقبال الدم وإدباره اعتدت سنة لحديث عمر لأن به يتبين الحمل وهو قول مالك وإسحاق لأنها لم تتيقن لها حيضاً مع أنها من ذوات القروء فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها، وعلى الرواية الأولى
ينبغي أن يقال إننا متى حكمنا بأن حيضها سبعة أيام من كل شهر فمضى لها شهران بالهلال وسبعة أيام من أول الثالث فقد انقضت عدتها، وإن قلنا القروء الأطهار فطلقها في آخر شهر ثم مضى لها شهران وهل الثالث انقضت عدتها وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (فأما التي عرفت ما رفع الحيض من مرض ورضاع ونحوه فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به) أما إذا عرفت ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم وإن طال إلا أن تصير في سن الاياس وقد ذكرناه فتعتد حينئذ عدة الآيسات وقد روى الشافعي في مسنده بإسناده عن حبان بن منفذ أنه طلق امرأته طلقة واحدة وكان لها منه بنية ترضعها فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك إن مت ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد(9/116)
ابن ثابت فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد ما تريان فقالا نرى أنها إن ماتت ورثها وان مات ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورثها عثمان رضي الله عنه.
وروى الأثرم باسناده عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كانت عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض فقالت الأنصارية لم أحض فاختصموا الى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال: هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه (فصل) (السادس امرأة المفقود الذي انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله أو في مفازة مهلكة أو بين الصفين إذا قتل قوم أو من غرق مركبة ونحو ذلك فإنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة) وجملة ذلك أنه إذا غالب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين أحدهما أن تكون غيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلاً ونهاراً أو يخرج الى الصلاة
فلا يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجة ويرجع فلا يظهر له خبر أو يفقد بين الصفين أو من انكسر مركبة فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكة كبرية الحجاز ونحوها فمذهب أحمد الظاهر عنه أن(9/117)
زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة اشهر وعشراً وتحل للأزواج قال الأثرم قيل لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمر وقال هو أحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه ثم قال زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين، قلت فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا قال لا إلا أن يكون إنسان يكذب، وقلت له مرة إن انساناً قال لي أن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك فضحك ثم قال من ترك هذا القول أي شئ يقول؟ وهذا قول عمر عثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير قال أحمد خسمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وقتادة والليث وعلي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة وبه يقول مالك والشافعي في القديم إلا أن مالكا قال ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت، وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين تتربص سنة لأن غلبة هلاكه ههنا أكثر من غلبة غيره لوجود سببه، وقد نقل عن أحمد أنه قال كنت أقول إذا تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة اشهر وعشراً تزوجت وقد ارتبت فيها وهبت الجواب فيها لما اختلف الناس فكأني أحب السلامة، وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله وتتربص أبداً، ويحتمل التورع ويكون المذهب ما قاله أولاً، قال القاضي أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة وعندي أن المسألة على روايتين، وقال أبو بكر الذي أقول به إن صح الاختلاف في المسألة أن لا نحكم بحكم ثان إلا بدليل على الانتقال، وإن ثبت الإجماع فالحكم فيه على ما نص عليه.
وظاهر المذهب(9/118)
على ما حكيناه أولاً نقله عن أحمد الجماعة وقد أنكر أحمد رواية من روي عنه الرجوع على ما حكيناه من رواية الأثرم وقال أبو قلابة والنخعي والثوري وابن أبي ليلى واصحاب الرأي والشافعي في الجديد لا تتزوج امرأة المفقود حتى تتيقين موته أو فراقه لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها زوجها " وروى الحكم وحماد عن علي لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه،
ولأنه شك في زوال الزوجية فلم تثبت به الفرقة كما لو كان ظاهرها السلامة ولنا ما روى الاثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير قال: فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته الى عمر فذكرت ذلك له فقال انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم اتته فقال انطلقي فاعتدي أربعة أشهر وعشراً ففعلت ثم اتته فقال أين ولي هذا الرجل؟ فجاء وليه فقال طلقها ففعل فقال لها عمر انطلقي فتزوجي من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال له عمر أين كنت؟ فقال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين قال فوالله ما أدري في أي أرض الله، كنت عند قوم يستعبدونني حتى غزاهم قوم مسلمون فكنت فيمن غنموه فقالوا لي أنت رجل من الإنس وهؤلاء الجن فما لك وما لهم؟ فأخبرتهم خبري فقالوا بأية أرض الله تحب أن تصبح قلت المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا أنظر الى الحرة فخيره عمر إن(9/119)
شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقال قد حبلت لا حاجة لي فيها.
قال أحمد يروى عن عمر من ثمانية وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف وروى الجوزجاني وغيرهم بإسنادهم عن علي امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم تطلقها ولي زوجها وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين امرأته وقضى به عثمان أيضاً، وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر فكانت إجماعاً، فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت ولم يذكره أصحاب السنن وما رووه عن علي فيرويه الحكم وحماد مرسلاً والمسند عنه مثل قولنا، ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته السلامة جمعاً بينه وبين ما رويناه وقولهم إنه شك في زوال الزوجية ممنوع فإن الشك ما يتساوى فيه الأمران والظاهر في مسئلتنا الهلاك (فصل) وهل يعتبر أن يطلقها ولي زوجها ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة قروء؟ فيه روايتان (إحداهما) يعتبر ذلك لأنه في حديث عمر الذي رويناه، وقد قال أحمد هو أحسنها، وذكر في حديث علي أنه يطلقها ولي زوجها (الثانية) لا يعتبر كذلك قاله ابن عمر وابن عباس وهو القياس فإن ولي الرجل لا ولاية له في طلاق امرأته ولاننا حكمنا عليها بعدة الوفاة فلا يجب عليها مع ذلك عدة الطلاق كما لو(9/120)
تيقنت وفاته ولأنه قد وجد دليل هلاكه على وجه اباح التزويج لها وأوجب عليها عدة الوفاة فأشبه ما لو شهد به شاهدان (مسألة) (وهل تفتقر إلى رفع الأمر إلى الحاكم ليحكم بضرب المدة وعدة الوفاة؟ على روايتين) (إحداهما) تفتقر لانها مدة تختلف فيها فافتقرت الى ضرب الحاكم كمدة العنة، فعلى هذا يكون ابتداء المدة من آن ضربها الحاكم (والثانية) لا تفتقر لانها تعتبر لإباحة النكاح فلم تفتقر إلى الحاكم كمدة من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فيكون ابتداء المدة من حين انقطع خيره وبعده أثره ولأن هذا ظاهر في موته فكان ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان وللشافعية وجهان كالروايتين (مسألة) (وإذا حكم الحاكم بالفرقة نفد حكمه في الظاهر دون الباطن فلو طلق الأول صح طلاقه) لأنا حكمنا بالفرقة على أن الظاهر هلاكه فإذا ثبتت حياته انتقض ذلك الظاهر ولم يبطل طلاقه كما لو شهدت به بينة كاذبة ولذلك خير في أخذها وكذلك إن ظاهر أو آلى أو قذف لأن نكاحه باق بدليل تخيبره في أخذها، وقال أبو الخطاب القياس أننا إذا حكمنا بالفرقة نفذ ظاهراً وباطناً فتكون امرأة(9/121)
الثاني ولا خيار للأول لأنها بانت منه بفرقة الحاكم في محل مختلف فيه فنفذ حكمه في الباطن كما لو فسخ نكاحها لعسرته او عيبه فلهذا لم يقع طلاقه وإن لم يحكم بفرقته باطناً فهي امرأة الأول ولا خيار له (مسألة) (فإذا فعلت ذلك يعني تربصت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم تزوجت ثم قدم زوجها الأول فإن كان قبل أن تتزوج فهي امرأته) وقال بعض أصحاب الشافعي إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول والذي ذكرنا أولى لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن الظاهر موته فإذا بان حياً انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته فبان حياً ولأنه أحد المالكين فأشبه مالك المال فإن قدم بعد التزويج وكان قبل دخول الثاني بها فكذلك ترد اليه وليس على الثاني صداق لأننا تبينا أن النكاح باطل ولم يتصل به
دخول، أحمد أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما تخير بعد الدخول، وهذا قول عطاء والحسن وخلاس بن عمرو النخعي وقتادة ومالك واسحاق، وقال القاضي فيه رواية أخرى أنه يخير أخذه من عموم قول أحمد إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته، والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على خصوصه في رواية الأثرم وأنه لا يتخير إلا بعد الدخول فتكون زوجة الأول رواية واحدة لأن النكاح إنما صح في الظاهر دون الباطن فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلاً لأنه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلاً كما لو شهدت بينة بموته، وتعود الى الزوج بالعقد الأول كما لو لم تتزوج(9/122)
(مسألة) (وإن قدم بعد دخول الثاني بها خير الأول بين أخذها فتكون امرأته بالعقد الأول وبين صداقها وتكون زوجة الثاني) وهذا قول مالك لإجماع الصحابة عليه فروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا إن جاء زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي ساق هو رواه الجوزجاني والاثرم وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وقال على ذلك في الحديث الذي رويناه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً.
فعلى هذا إن أمسكها الأول فهي زوجته بالعقد الأول، والمنصوص عن أحمد أن الثاني لا يحتاج إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلاً في الباطن وقال القاضي قياس قوله أنه يحتاج إلى طلاق لأن هذا نكاح مختلف في صحته فكان مأموراً بالطلاق ليقطع حكم العقد الثاني كسائر الا نكحة الفاسدة ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني، وإن لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني ولم يذكروا لها عقداً جديداً.
قال شيخنا: والصحيح أنه يجب أن تستأنف لها عقداً لأننا تبينا بطلان عقده بمجئ الأول ويحمل قول الصحابة على هذا لقيام الدليل عليه فإن زوجة الإنسان لا تصير زوجة لغيره بمجرد تركه لها (مسألة) (ويأخذ منه صداقها) أي يأخذ الزوج الأول من الزوج الثاني إذا تركها له صداقها لقضاء الصحابة بذلك (مسألة) (وهل يأخذ منه صداقها الذي أعطاها أو الذي أعطاها الثاني؟ على روايتين)(9/123)
اختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع بالصداق الذي اصدقها هو وهو اختيار أبي بكر وقول الحسن والزهري وقتادة وعلي بن المديني لقضاء علي وعثمان أنه يخير بينها وبين الصداق الذي ساق إليها هو ولأنه أتلف عليه المعوض فرجع عليه بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عن الشهادة، فعلى هذا إن كان لم يدفع اليها الصداق لم يرجع بشئ وإن كان دفع بعضه رجع بما دفع ويحتمل أن يرجع عليه بالصداق وترجع المرأة عليه بما بقي عليه من صداقها، وعن أحمد أنه يرجع عليه بالمهر الذي أصدقها الثاني لأن الإتلاف من جهته والرجوع عليه بقيمتة والبضع لا يتقوم إلا على زوج أو من جرى مجراه فيجب الرجوع عليه بالمسمى الثاني دون الأول وهل يرجع الزوج الثاني على الزوجة بما أخذ منه؟ فيه روايتان ذكر ذلك أبو عبد الله بن حامد (إحداهما) يرجع به لأنها غرامة لزمت الزوج بسبب وطئه لها فرجع بها كالمغرور، ولأن ذلك يقضي إلى أن يلزمه مهران بوطئ واحد (والثانية) لا يرجع لأن الصحابة لم يقضوا بالرجوع فإن سعيد بن المسيب روي ان عليا وعثمان قضيا في المرأة التي لا تدري ما مهلك زوجها أن تتربص أربع سنين ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً ثم تتزوج إن بدا لها، فإن جاء زوجها خير إما امرأته وإما الصداق فإن اختار الصداق فالصداق على زوجها الآخر وتثبت عنده، وإن اختار امرأته عزلت من زوجها الآخر حتى تنقضي(9/124)
عدتها، وإن قدم زوجها وقد توفي زوجها الآخر ورثت واعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وترجع إلى الى الأول رواه الجوزجاني ولأن المرأة لا تعزير منها فلم يرجع عليها بشئ كغيرها وإن قلنا يرجع عليها فإن كان قد دفع اليها الصداق رجع به وإن كان لم يدفعه اليها دفعه الى الأول ولم يرجع عليها بشئ وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع، وإن قلنا لا يرجع عليها وكان قد دفع اليها الصداق لم يرجع به وإن لم يكن دفعه اليها لزمه دفعه ويدفع الى الأول صداقاً آخر (فصل) قال شيخنا (والقياس أن ترد الى الأول ولا خيار)
لأن زوجها لم يطلقها ولم ينفسخ نكاحه فردت إليه كما لو تزوجت لبينة قامت بوفاته ثم تبين كذبها بقدومه إلا أن يفرق الحاكم بينهما ونقول بوقوع الفرقة باطناً فينفسخ نكاح الأول لأن نكاحه انفسخ بحكم حاكم ووقوع نكاح الثاني بعد بطلان نكاح الأول وقضاء عدتها فأشبه ما لو طلقها الأول فتكون زوجة الثاني بكل حال لذلك وعن أحمد التوقف في أمره وقد ذكرناه فيما مضى والمذهب الأول أولى (فصل) إذا فقدت الأمة زوجها لغيبة ظاهرها الهلاك تربصت أربع سنين ثم اعتدت للوفاة شهرين وخمسة أيام، وهذا اختيار أبي بكر، وقال القاضي تتربص نصف تربص الحرة ورواه أبو طالب عن(9/125)
أحمد وهو قول الاوزاعي والليث لأنها مدة مضروبة للمرأة لعدم زوجها فكانت الأمة فيه على النصف من الحرة كعدة الوفاة.
ولنا أن الأربع السنين مضروبة لكونها أكثر مدة الحمل في الأمة والحرة سواء فاستويا في التربص لها كالتسعة الأشهر في حق من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه وكالحمل نفسه، وبهذا ينتقض قياسهم فأما العبد فإن كانت زوجته حرة فتربصها كتربص تحت الحر، وإن كانت أمة فهي كالأمة تحت الحر لأن العدة معتبرة بالنساء دون الرجال وكذلك مدة التربص، وحكي عن الزهري ومالك أنه يضرب له نصف أجل الحرة، والاولى ما قلناه لأنه تربص مشرع في حق المرأة لفرقة زوجها فأشبهت العدة (الثاني) من انقطع خبره لغيبية ظاهرها السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وإباق العبد وطلب العلم والسياحة فإن امرأته تبقى أبدا حتى تتقين موته روى ذلك عن علي واليه ذهب ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، وروي عن أبي قلابة والنخعي وأبي عبيد وقال مالك، والشافعي(9/126)
في القديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة اشهر وعشراً وتحل للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالعنة وتعذر النفقة بالاعسار فلأن يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى.
واحتجوا بحديث عمر الذي ذكرناه في المفقود مع موافقة الصحابة وتركهم إنكاره ونقل احمد بن أصرم عن أحمد إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله، وهذا يقضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، قال أصحابنا انما اعتبر تسعين سنة من
يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر منها فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده لغيبة ظاهرها الهلاك، والمذهب الأول لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل أربع سنين أو كما قبل التسعين ولأن هذا التقدير بغير توقيف فلا ينبغي أن يصار إليه إلا بالتوقيف ولأن تقدير هذا بتسعين سنة من يوم ولادته يقضي الى اختلاف العدة في حق المرأة ولا نظير لهذا وخبر عمر ورد فيمن غيبته ظاهرها الهلاك فلا يقاس عليه غيره (فصل) فإن كانت غيبة غير منقطعة يعرف خبره ويأتي كتابه فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم أجمعين إلا ان تتعذر الانفاق عليها من ماله فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه.
وأجمعوا أن امرأة الأسير لا تنكح حتى يعلم يقين وفاته هذا قول النخعي والزهري ويحيى الانصاري ومكحول والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور واسحاق وأصحاب الرأي، وإن ابق العبد فزوجته على الزوجية حتى تعلم موته أو ردته وبه قال الأوزاعي والثوري والشافعي واسحاق وقال الحسن إباقه طلاقه(9/127)
ولنا أنه ليس بمفقود فلم ينفسخ نكاحه كالحر ومن تعذر الأنفاق من ماله على زوجته فحكمه في الفسخ حكم ما ذكرنا إلا أن العبد نفقة زوجته على سيده أو في كسبه فيعتبر تعذر الأنفاق في محل الوجوب (فصل) إذا تزوج الرجل امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها فإن أحمد قال يعتزل امرأته حتى تحيض حيضة وهذا يروي عن علي بن أبي طالب والحسن ابنه ونحوه عن عمر بن الخطاب وعن الحسين بن علي والصعب بن جثامة وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك واسحاق وأبو عبيد قال عمر بن عبد العزيز حتى ينظر بها حمل اولا، وإنما قالوا ذلك لأنها إن كانت حاملاً حين موته ورثه حملها وإن حدث الحمل بعد الموت لم يرثه وان كان للميت ولد أو أب أو جد لم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل لا ميراث له وإن كانت حاملاً فقد تبين حملها فلم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل معلوم، وإن كانت آيسة لم يحتج إلى استبرائها لليأس من حملها، وإن كانت ممن يمكن حملها ولم يتبين بها حمل ولم يعتزلها زوجها فأتت بولد قبل ستة أشهر ورث وإن أتت به بعد ستة أشهر من حين وطئها بعد موت ولدها لم يرث لانا لا نتيقن وجوده حال موته وهذا يروى عن سفيان وهو قياس قول الشافعي
(مسألة) ومن مات عنها زوجها أو طلقها وهو غائب فعدتها من يوم مات أو طلق وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدات وعنه إن ثبت ذلك بينة فكذلك وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر) والمشهور في المذهب أنه متى مات عنها أو طلقها زوجها فعدتها من يوم موته وطلاقه قال أبو بكر لا خلاف(9/128)
عن أبي عبد الله علمه أن العدة تجب من حين الموت والطلاق إلا ما رواه إسحاق بن إبراهيم وهذا قول ابن عمر وابن عباس وابن مسعود ومسروق وعطاء وجابر بن زيد وابن سيرين ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وطاوس وسليمان بن يسار وأبي قلابة وأبي العالية والنخعي ونافع ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد أن قامت بذلك بينة فكما ذكرنا وإلا فعدتها من يوم يأتيها الخبر وروي ذلك عن ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ويروى عن علي والحسن وقتادة وعطاء وخلاس بن عمرو أن عدتها من يوم يأتيها الخبر لأن العدة من اجتناب أشياء وما اجتنبها ولنا أنها لو كانت حائلاً فوضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لا نقضت عدتها فكذلك سائر أنواع العدد ولأنه زمان عقيب الموت أو الطلاق فوجب أن تعتد به كما لو كان حاضراً ولأن القصد غير معتبر في العدة بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما من غير قصد ولم يعدم ههنا إلا القصد وسواء في هذا اجتنبت ما تجتنبه المعتدات أو لم تجتنبه فإن الإحداد الواجب ليس بشرط في العدة فلو تركته قصداً أو عن غير قصد لا نقضت عدتها فإن الله تعالى قال (يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا - وقال يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - وقال - فعدتهن ثلاثة أشهر - وقال - وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وفي الاشتراط الإحداد مخالفة هذه النصوص فوجب أن تشترط(9/129)
(مسألة) (وعدة الموطوءة بشبهة عدة المطلقة وكذلك المزني بها وعنه أنها تستبرأ بحيضة) وبهذا قال الشافعي لان وطئ الشبهة وفي النكاح الفاسد في شغل الرحم ولحوق النسب كالوطئ في النكاح الصحيح فكان مثله فيما تحصل به البراءة وإن وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل قضاء عدتها كيلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين
لأنها زوجة حرم وطؤها لعارض يختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه كالحيض (والثاني) لا تحل لأن ما حرم الوطئ حرم دواعيه كالإحرام (فصل) كذلك المزني بها عدتها عدة الموطؤة بشبهة وبهذا قال الحسن والنخعي وعن أحمد رواية أخرى انها تستبرأ بحيضة ذكرها ابن أبي موسى وهو قول مالك لأن المقصود به معرفة البراءة من الحمل فأشبه استبراء الأمة، وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا عدة عليها وهو قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأن العدة لحفظ النسب وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك ولنا أنه وطئ يقتضي شغل الحرم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة ولنا وجوبها كعدة المطلقة فلأنها حرة فاشبهت الموطؤة بشبهة، وقولهم إنما تجب لحفظ النسب قلنا لو وجب لذلك لما وجب على الملاعنة المنفي ولدها والآيسة والصغيرة ولما وجب استبراء الأمة التي لا يلحق ولدها بالبائع ولو وجب كذلك(9/130)
كان استبراء الأمة على البائع ثم لو ثبت أنها وجبت فالحاجة اليها داعية فإن المزني بها إذا تزوجت قبل الاعتداد اشتبه ولد الزوجة بالولد من الزنا فلا يحصل حفظ النسب (فصول تتعلق بالمفقود) إذا اختارت امرأة المفقود المقام والصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة مادام حياً وينفق عليها من ماله لأنها محكوم لها بالزوجية فيجب لها النفقة كما لو علمت حياته، فإذا تبين أنه كان حياً وقدم فلا كلام وإن تبين أنه مات أو فارقها فلها النفقة إلى يوم موته أو بينونتها منه ويرجع عليها بالباقي لأننا تبينا أنها أنفقت مال غيره أو أنفقت من ماله وهي غير زوجة له، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم فضرب لها مدة فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لان مد العدة لم يحكم فيها ببينونتها من زوجها فهي محبوسة عليه بحكم الزوجية فأشبه ما قبل العدة وأما مدة العدة فإنها غير منتفية بخلاف عدة الوفاة فإن موته متقين، وما بعد العدة إن تزوجت أو فرق الحاكم بينهما سقطت نفقتها لأنها أسقطتها بخروجها عن حكم نكاحه وإن لم تتزوج ولا فرق الحاكم بينهما فنفقتها باقية لأنها لم تخرج من نكاحه، فإن قدم الزوج بعد ذلك وردت اليه عادت نفقتها من حين الرد، وقد روى الأثرم والجوزجاني عن ابن عمر وابن عباس قالا تنتظر امرأة المفقود أربع سنين قال ابن عمر ينفق عليها من مال زوجها وقال ابن عباس إذاً يجحف ذلك بالورثة
ولكنها تستدين فإذا جاء زوجها اخذت من ماله وإن مات أخذت من نصيبها.
من الميراث وقالا ينفق عليها(9/131)
بعد في العدة بعد الأربع سنين مال زوجها جميعه أربعة أشهر وعشرا، وإن قلنا ليس لها أن تتزوج لم تسقط نفقتها ما لم تتزوج، فإن تزوجت سقطت نفقتها لانها بالتزوج تخرج عن يديه وتصير ناشزاً، وإن فرق بينهما فلا نفقة لها مادامت في العدة فإذا انقضت فلم تعد الى مسكن زوجها فلا نفقة لها أيضاً لأنها باقية على النشوز وإن عادت الى مسكنه احتمل أن تعود النفقة لأن النشوز المسقط لنفقتها قد زال ويحتمل أنها لا تعود لأنها ما سلمت نفسها إليه، وإن عاد فتسلمها عادت نفقتها، ومتى أنفق عليها ثم بان أن الزوج كان قد مات قبل ذلك حسب عليها ما أنفق عليها من حين موته من ميراثها فإن لم يرث شيئاً فهو عليها لأنها أنفقت من مال الوارث ما لا تستحقه، فأما نفقتها على الزوج الثاني فإن قلنا لها أن تتزوج فنكاحها صحيح حكمه في النفقة حكم الأنكحة الصحيحة وإن قلنا ليس لها أن تتزوج فلا نفقة لها فإن أنفق لم يرجع بشئ لأنه متطوع إلا أن يجبره الحاكم على ذلك فيحتمل أن يرجع بها لأنه ألزمه أداء ما لم يكن واجباً عليه ويحتمل أن لا يرجع به لأن ما حكم به الحاكم لا يجوز نقضه ما لم يخالف كتاباً أو سنه أو إجماعاً فإن فارقها بتفريق الحاكم أو غيره فلا نفقة لها، إلا أن تكون حاملاً فينبني وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل اولها من أجله؟ فإن قلنا هي للحمل فلها النفقة لأن نسب الحمل لاحق به فيجب عليه الإنفاق على ولده وإن قلنا لها من أجله فلا نفقة لها لأنها في غير نكاح صحيح فأشبه حمل الموطوءة بشبهة، وإذا أتت بولد يمكن كونه من الثاني لحقه نسبه لأنها صارت فراشاً له وقد علمنا أن الولد ليس من الأول لأنها(9/132)
تربصت بعد فقده أكثر من مدة الحمل وتنقضي عدتها من الثاني بوضعه لأن الولد منه، وعليها أن ترضعه اللبأ لأن الولد لا يقوم بدنه إلا به فإن ردت إلى الأول فله منعها من رضاعة كما له أن يمنعها من رضاع أجنبي لأن ذلك يشغلها عن حقوقه إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف فليس له منعها من رضاعه لأن هذا حال ضرورة فإن ارضعته في بيت المال الزوج الأول لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته ويده وإن أرضعته في غير بيته بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها ناشز وإن كان بإذنه خرج على الروايتين فيما إذا سافرت بإذنه
(فصل) في ميراثها من الزوجين وتوريثهما منها، متى مات زوجها الأول أو ماتت قبل تزويجها للثاني ورثته وورثها وكذلك إن تزوجت الثاني فلم يدخل بها لأننا تبينا أنه متى قدم قبل الدخول بها ردت إليه بغير تخيبر، وذكر القاضي فيها رواية أنه يخير فيها، فعلى هذه الرواية حكمها حكم ما لو دخل بها الثاني فأما إذا دخل بها الثاني وقدم زوجها الاول فاختارها ردت اليه وورثها وورثته ولم ترث الثاني ولم يرثها لأنه لا زوجية بينهما، وإن مات أحدهما قبل اختيارها إما في الغيبة أو بعد قدومه فإن قلنا أن لها أن تتزوج ورثت الزوج الثاني وورثها ولم ترث الأول لم يرثها، ولأن من خير بين شيئين فتعذر أحدهما تعين الآخر، وإن ماتت قبل اختيار الأول خير فإن اختارها ورثها وإن يخترها ورثها الثاني، هذا ظاهر قول اصحابنا.
وأما على ما اختاره شيخنا فإنها لا ترث الثاني ولا يرثها بحال إلا أن يجدد لها عقداً أو لا يعلم أن الأول كان حياً ومتى علم أن الأول كان حياً ورثها وورثته إلا أن يختار تركها فتبين منه بذلك فلا(9/133)
ترثه ولا يرثها، وعلى قول أبي الخطاب إن حكمنا بوقوع الفرقة بتفريق الحاكم ظاهر أو باطناً ورثت الثاني وورثها دون الأول وإن لم يكن يحكم بوقوع الفرقة باطناً ورثت الأول وورثها دون الثاني، فأما عدتها منهما فمن ورثته اعتدت لوفاته عدة الوفاة، وإن مات الثاني في موضع لا ترثه فالمنصوص عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة في النكاح الفاسد، فعلى هذا عليها عدة الوفاة لوفاته وهو اختيار أبي بكر، وقال ابن حامد لا عدة عليها لوفاته لكن تعتد من وطئه بثلاثة قروء، فإن ماتا معاً اعتدت لكل واحد منهما وبدأت بعدة الأول فإن أكملتها اعتدت للآخر، وإن مات الأول اولاً فكذلك، وإن مات الثاني أولاً بدأت بعدته فإن مات الأول انقطعت عدة الثاني ثم ابتدأت عدة الأول فإذا أكملتها أتمت عدة الثاني، وإن علم موت أحدهما وجهل موت الآخر أو جهل موتهما فعليها أن تعتد عدتين من حين تيقنت الموت وتبدأ بعدة الأول لأنه أسبق وأولى وإن كانت حاملاً فبوضع الحمل تنقضي عدة الثاني لأن الولد منه ثم تبتدى، بعدة الوفاة أربعة أشهر وعشر.
(فصل) إذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه نحو أن تتزوج قبل مضي المدة التي يباح لها التزوج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا فنكاحها باطل
وقال القاضي إن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان (أحدهما) هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك(9/134)
(والثاني) لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه، وأصل هذا من باع عيناً في يده يعتقدها لموروثه فبان موروثه ميتاً والعين مملوكة له بالإرث هل يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا ومذهب الشافعي مثل هذا.
ولنا أنها تزوجت في مدة منعها الشرع النكاح فيها فلم يصح كما لو تزوجت المعتدة في عدتها والمرتابة قبل زوال الريبة.
(فصل) وإن غاب رجل عن زوجته فشهد ثقات بوفاته فاعتدت زوجته للوفاة أبيح لها أن تتزوج فإن عاد الزوج بعد ذلك فحكمه حكم المفقود يخير زوجها بين أخذها وتركها وله الصداق، وكذلك إن تظاهرت الأخبار بموته، وقد روى الأثرم بإسناده عن أبي المليح عن سهية أن زوجها صيفي بن فشيل نعي لها من قيذائيل فتزوجت بعده ثم إن زوجها الأول قدم فأتينا عثمان وهو محصور فأشرف علينا ثم ثم قال كيف أقضي بينكما وأنا على هذه الحال؟ فقلنا قد رضينا بقولك فقضى أن يخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فلما قتل عثمان أتينا علياً فخير الزوج الأول بين الصداق والمرأة فاختار الصداق فأخذ مني ألفين ومن زوجي الآخر ألفين فإن حصلت الفرقة بشهادة مصحورة فما حصل من غرامة فعليهما لأنهما سبب في إيجابها وإن شهدا بموت رجل فقسم ماله ثم قدم فما وجده من ماله أخذه وما تلف منه أو تعذر رجوعه فيه فله تضمين الشاهدين لأنهما سبب الاستيلاء عليه وللمالك تضمين المتلف لأنه أتلف ماله بغير إذنه.(9/135)
(فصل) وإن وطئت المعتدة بشبهة أو غيرها أتت عدة الأول ثم استأنف العدة من الوطئ، إنما كان كذلك لأن العدتين من رجلين لا يتداخلان لكونهما حقين لرجلين أشبه الدينين فتم عدة الأول وتجب للثاني عدة كاملة بعد قضاء عدة الأول
(مسألة) (وإن كانت بائناً فأصابها المطلق عمداً فكذلك) لأنها قد صارت أجنبية منه فأشبه وطئ الأجنبي، وإن أصابها بشبهة استأنفت العدة من الوطئ ودخلت فيها بقية الاولى لان الوطئ بالشبهة يلحق به النسب فدخلت بقية الأولى في العدة الثانية (مسألة) (وان تزوجت في عدتها لم تنقطع عدتها حتى تدخل بها فتنقطع حينئذ) وجملة ذلك أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها اجماعا لقول تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يلغ الكتاب أجله) ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحاً باطلاً كما لو تزوجت وهي في نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها لا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشاً ولا يستحق عليه بالعقد شئ وتسقط نفقتها وسكناها عن الزوج الأول لأنها ناشز، وإن وطئها انقطعت العدة سواء علم التحريم أو جهله، وقال أبو حنيفة لا ينقطع لأن كونها فراشاً لغير من له العدة لا يمنعها كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشاً للزوج،(9/136)
وقال الشافعي إن وطئها عالماً بأنها معتدة وأنه محرم فهو زان فلا تنقطع العدة بوطئه لأنها لا تصير به فراشاً ولا يلحق به نسب، وإن كان جاهلاً أنها معتدة أو بالتحريم انقطعت العدة بالوطئ لأنها تصير به فراشاً، والعدة تراد للاستبراء وكونها فراشاً ينافي ذلك فوجب أن يقطعها فأما طريانه عليها فلا يجوز ولنا أن هذا وطئ بشبهة نكاح فتنقطع به العدة كما لو جهل، وقولهم إنها لا تصير به فراشاً قلنا لكنه لا يحلق الولد الحادث من وطئه بالزوج الأول فهما سيان، إذا ثبت هذا فعليه فراقها فان لم يفعل وجب التفريق بينهما.
(مسألة) (ثم إذا فارقها بنت على عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني إنما بنت على عدة الاول لان حق أسبق ولأن عدته وجبت عن وطئ في نكاح صحيح فإذا كملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين، وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة تتداخلان فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن بقية عدة الاول وعدة للثاني لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا يحصل
به براءة الرحم منهما جميعاً.
ولنا ما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ان طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها ضربات بمحفقة وفرق(9/137)
بينهما ثم قال.
أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها يفرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبداً وروى باسناده عن علي أنه قضى في التي يتزوج في عدتها في أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما افسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولا سيدين من الخلفاء لم يعرف لها في الصحابة مخالف ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين واليمينين ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء فلم يجزان تكون المرأة في حبس رجلين كالزوجة (مسألة) (وكل معتدة من غير النكاح الصحيح كالزانية والموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد فقياس المذهب تحريم نكاحها على الواطئ وغيره) قال شيخنا والأولى حل نكاحها لمن هي معتدة منه إن كان يلحقه نسب والدها لأن العدة لحفظ مائة وصيانة نسبه ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم ولا يحفظ نسبه عنه ولذلك أبيح للمختلعة نكاح من خالعها ومن لا يلحقه نسب ولدها كالزانية لا يحل له نكاحها لأنه يقضي إلى اشتباه النسب فالواطئ كغيره في أن النسب لا يلحق بواحد منهما.
(مسألة) (وإن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها منه ثم اعتدت للآخر أيهما كان)(9/138)
وجملة ذلك أن التي تزوجت في عدتها إذا كانت حاملاً انقضت عدتها بوضع حملها لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) فإن كان يمكن أن تكون من الأول دون الثاني هو أن تأتي به لدون ستة أشهر من وطئ الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها منه بوضعه ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني وإن أمكن كونه من الثاني دون الأول وهو أن تأتي به لستة أشهر فما
زاد إلى أربع سنين من وطئ الثاني ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو ملحق بالثاني وحده تنقضي به عدتها منه ثم تتم عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره (مسألة) (وإن أمكن أن يكون منهما وهو أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطئ الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول أري القافة معهما فان الحقه بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني وإن ألحقته بالثاني لحق به وكان الحكم كما لو أمكن أن يكون من الثاني دون الأول فإن ألحقته بهما لحق بهما) ومقتضى المذهب أن تنقضي عدتها به منهما جميعاً لأن نسبه ثبت منهما كما تنقضي عدتها به من الواحد الذي ثبت نسبه منهما فأما إن نفته القافة عنهما فحكمه حكم ما لو أشكل أمره فعلى هذا تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة(9/139)
الأول لتسقط الفرض بيقين ولا ينفي الولد عنهما لقول القافة لأن عمل القافة ترجيح أحد صاحبي الفراش لا في النفي عن الفراش كله ولهذا لو كان صاحب الفراش واحداً فنفته القافة عنه لم ينتف بقولها فأما إن ولدت لدون ستة أشهر من وطئ الثاني ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول لم يلحق بواحد منهما ولا تنقضي عدتها منه لأنا نعلم انه من وطئ آخر فتنقضي به عدتها من ذلك الوطئ ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني لأنه قد وجد ما يقتضي عدة ثالثة وهو الوطئ الذي حملت منه فيجب عليها عدتان واتمام العدة الاولى (مسألة) (وللثاني أن ينكحها بعد انقضاء العدتين وعنه أنها تحرم عليه على التأبيد) أما الزوج الأول فإن كان طلق ثلاثاً لم تحل له بهذا النكاح وان وطئ فيه لأنه نكاح باطل وإن طلق دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه وأما الزوج الثاني ففيه روايتان (إحداهما) تحرم عليه على التأبيد وبه قال مالك والشافعي في القديم لقول عمر رضي الله عنه لا ينكحها أبداً ولأنه استعجل الحق في غير وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل موروثة ولأنه يفسد النسب فيوقع التحريم المؤبد كاللعان (والثانية) تحل له قال الشافعي في الجديد
له نكاحها بعد قضاء عدة الأول ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه لأنه وطئ يلحق به النسب فلا يمنع من نكاحها في عدتها منه كالوطئ في النكاح ولأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب وصيانة للماء(9/140)
والنسب لاحق به ههنا فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها، قال شيخنا وهذا قول حسن موافق النظر ولنا على إباحتها بعد العدتين أنه لا يخلوا إما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطئ في النكاح الفاسد أو بهما وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو نكحها بلا ولي ووطئها ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه على التأبيد فهذا أولى ولأن آيات الاباحة عامة كقول تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم - وقوله - والمحصنات من المؤمنات) فلا يجوز تخصيصها بغير دليل وما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي فيه وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن علياً قال إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فقال عمر: وردا الجهالات الى السنة ورجع إلى قول علي وقياسهم يبطل بما إذا زنى بها فإنه قد استعجل وطأها ولا تحرم عليه على التأبيد ووجه تحريمها قبل قضاء عدة الثاني عليه قول الله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) ولانه وطئ يفسد به النسب فلم يجز النكاح في العدة منه كوطئ الأجنبي (فصل) إذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وبتحريم النكاح فيها ووطئها فمها زانيان عليهما حد الزنا ولا مهر لها ولا يلحقه النسب وإن كانا جاهلين بالعدة أو بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد ووجب المهر وإن علم هو دونها فعليه الحد والمهر ولا يلحقه النسب وإن علمت هي دونه فعليها الحد ولا مهر لها ويلحقه النسب وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه فأشبه نكاح ذوات المحارم(9/141)
(مسألة) (وإن وطئ رجلان امرأة فعليها عدتان لها الحديث عمر وعلى الذي ذكرناه فيما إذا تزوجت في عدتها ولانهما حقان مقصود ان لادميين فلم يتداخلان كالدينين) (فصل) إذا خالع الرجل امرأته أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول الجمهورية قال سعيد بن المسيب وعطاء والزهري والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وشذ بعض التاخرين فقال لا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ولنا أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه اذا كانا من نكاح صحيح فإذا تزوجها انقطعت العدة لأن المرأة تصير فراشا له بعقده ولا يجوز أن تكون زوجته معتدة (فصل) إذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطئ ولا رجعة فأشبها الطلقتين في وقت واحد (مسألة) (وإن راجعها ثم طلقها بعد دخوله بها استأنفت العدة من الطلاق الثاني لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس (مسألة) (وإن طلقها قبل دخوله بها فهل تبني أو تستأنف؟ على روايتين) (أولاهما) أنها تستأنف لان الرجعة أزالت شعث الطلاق الأول ورد بها الى النكاح الأول فصار الطلاق الثاني طلاقاً من نكاح اتصل به المسيس (والثانية) تبني لأن الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها(9/142)
لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة فإن فسخ النكاح قبل الرجعة يخلع او غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق لأن موجبها في العدة موجب الطلاق ولا فرق بينهما واحتمل أن تستأنف العدة لأنهما جنسان بخلاف الطلاق وإن لم يرتجعها بلفظه لكنه وطئها في عدتها فهل تحصل بذلك رجعة؟ فيه روايتان (إحداهما) تحصل فيكون حكمها حكم من ارتجعها بلفظه ثم وطئها سواء (والثانية) لا تحصل الرجعية به ويلزمها استئناف عدة لأنه وطئ في نكاح تشعت فهو كوطئ الشبهة وتدخل بقية عدة الطلاق فيها لأنهما من رجل واحد، وان حملت من هذا الوطئ فهل تدخل فيها بقية الأولى؟ على وجهين (أحدهما) تدخل لأنهما من رجل واحد (والثاني) لا تدخل لأنهما من جنسين فعلى هذا إذا وضعت حملها أتمت عدة الطلاق، وإن وطئها وهي حامل ففي تداخل العدتين وجهان، وإن قلنا تتداخلان فانقضاؤها معاً بوضع الحمل وإن قلنا لا تتداخلان فانقضاء عدة الطلاق بوضع الحمل وتستأنف عدة الوطئ بالقروء (مسألة) (وإن طلقها طلاقاً بائناً ثم نكحها في عدتها ثم طلقها قبل دخوله بها فعلى روايتين) (إحداهما) تستأنف، وهو قول أبي حنيفة لأنه طلاق لا يخلو من عدة فأوجب عدة مستأنفة
كالأول (والثانية) لا يلزمها استئناف عدة، اختارها شيخنا، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله سبحانه (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم)(9/143)
عليهن من عدة تعتدونها) ، وذكر القاضي في كتاب الروايتين أنه لا يلزمها استئناف العدة رواية واحدة لكن يلزمها إتمام بقية العدة الأولى لأن إسقاطها يفضي الى اختلاط المياه لانه تتزوج امرأة ويطؤها ويخلعها ثم يتزوجها ويطلقها في الحال ويتزوجها الثاني في يوم واحد (فصل) وإن خلعها حاملاً ثم طلقها وهي حامل انقضت عدتها بوضع الحمل على كلتا الروايتين ولا نعلم فيه مخالفاً ولا تنقضي عدتها قبل وضع حملها بغير خلاف نعلمه، وإن وضعت حملها قبل النكاح الثاني فلا عدة عليها للطلاق من النكاح الثاني بغير خلاف أيضاً لأنه نكحها بعد قضاء عدة الأول، وإن وضعته بعد النكاح الثاني وقبل طلاقه فمن قال يلزمها استئناف عدة أوجب عليها الاعتداد بعد طلاق الثاني بثلاثة قروء ومن قال لا يلزمها استئناف عدة لم يوجب عليها ههنا عدة لأن العدة الأولى انقضت بوضع الحمل إذ لا يجوز أن تعتد الحامل بغير وضعه وان كانت من ذوات القروء أو الشهور فنكحها الثاني بعد مضي قرء أو شهر ثم مضى قرآن أو شهران قبل طلاقه من النكاح الثاني فقد انقطعت العدة بالنكاح الثاني وإن قلنا تستأنف العدة فعليها عدة تامة بثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر وإن قلنا تبني أتمت العدة الأولى بقرأين أو شهرين (فصل) فإن طلقها طلاقاً رجعياً فنكحت في عدتها من وطئها فقد ذكرنا أنها تبني على عدة الأول ثم تستأنف عدة الثاني ولزوجها الأول رجعتها في بقية عدتها منه، لأن الرجعة إمساك للزوجة وطريان الوطئ من أجنبي على النكاح لا يمنع الزوج إمساك زوجته كما لو كانت في صلب النكاح، وقيل(9/144)
ليس له رجعتها لأنها محرمة عليه فلم يصح له ارتجاعها كالمرتدة.
والصحيح الأول فإن التحريم لا يمنع الرجعة كالإحرام، ويفارق الردة لأنها جارية إلى بينونة بعد الرجعة بخلاف العدة، وإذا انقضت عدتها منه فليس له رجعتها في عدة الثاني لانها ليست منه وإذا ارتجعها في عدتها من نفسه وكانت بالقروء أو بالأشهر انقطعت عدته بالرجعة وابتدأت عدة من الثاني ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدة الثاني كما لو
وطئت بشبهة في صلب نكاحه، وإن كانت معتدة بالحمل لم يكن شروعها في عدة الثاني قبل وضع الحمل لأنها بالقروء فإذا وضعت حملها شرعت في عدة الثاني وتنقدم عدة الثاني عن الأول فإذا أكملتها شرعت في إتمام عدة الأول، وله حينئذ أن يرتجعها لأنها في عدته، وإن أحب أن يرتجعها فحال حملها ففيه وجهان: (أحدهما) ليس له ذلك لأنها ليست في عدته وهي محرمة عليه فأشبهت الأجنبية أو المرتدة.
(الثاني) له رجعتها لأن عدتها منه لم تنقض وتحريمها لا يمنع رجعتها كالمحرمة.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويجب الإحداد على المعتدة من الوفاة وهل يجب على البائن؟ على روايتين، ولا يجب على الرجعية والموطوءة بشبهة أو زنا أو في نكاح فاسد أو يملك اليمين) لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن فإنه قال لا يجب الاحداد هو قول شذ به عن أهل العلم وخالف فيه السنة فلا يعرج عليه.(9/145)
(مسألة) (ويستوي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال أصحاب الرأي لا إحداد على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفين) ولنا عموم الأحاديث التي نذكرها إن شاء الله ولأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا وإنما يفترقان في الإثم فكذلك الإحداد ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة فكذلك فيما عليها.
(مسألة) (وهل يجب على البائن؟ على روايتين) (إحداهما) يجب عليها وهو قول سعيد بن المسيب وأبي عبيد وأبي ثور وأصحاب الرأي.
(والثانية) لا يجب عليها وهو قول عطاء وربيعة ومالك وابن المنذر ونحوه قال الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة، ولأنها معتدة من غير وفاة فلم يجب عليها الإحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة، ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكلفها الحزن عليه
ولأن المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج وليس له من ينفيه فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره، ووجه(9/146)
الرواية الأولى أنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وذلك لأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه بخلاف الرجعية فإنها زوجة والموطوءة بشبهة ليست معتدة من نكاح فلم تكمل الحرمة فأما الحديث فإنما مدلوله تحريم الإحداد على ميت غير الزوج ونحن نقول به، ولهذا جاز الإحداد ههنا بالإجماع، فإذا قلنا يلزمها الإحداد فحكمها حكم المتوفى عنها زوجها من توقي الطيب والزينة في نفسها على ما نذكره إن شاء الله وذكر شيخنا في كتاب الكافي أن المختلعة كالبائن فيما ذكرنا من الخلاف والصحيح أنه لا يجب عليها لأنها يحل لزوجها الذي خالعها أن يتزوجها في عدة بخلاف البائن بالثلاث (مسألة) (ولا إحداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه) لأنها في حكم الزوجات لها أن تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتنفق عنده كما تفعل في صلب النكاح ولا إحداد على المنكوحة نكاحها فاسداً لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له وتحزن على فقده كذلك الموطوءة بشبهة والمزني بها، ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها والأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " (مسألة) (والإحداد اجتناب الطيب والزنية والتحسين كلبس الحلي والملون من الثياب للتحسين)(9/147)
وجملة ذلك أن الحادة يجب عليها اجتناب ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك أربعة أمور (أحدهما) الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تمس طيباً إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها نبذه من قسط أو اظفار " متفق عليه وردت زينب بنت أم سلمة قالت دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان
فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها وقالت والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة، ولا يحل لها استعمال الأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان وما أشبهه لأنه استعمال للطيب، فأما الأدهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لأنه ليس بطيب (الثاني) اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمرو ابن عباس وعطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام (أحدها) الزينة في نفسها فيحرم عليها أن تختضب وأن تحمر وجهها بالكلكون وأن تبيضه باسفيداج العرائس وأن تجعل عليه صبراً يصفره وان تنفش وجهها وبدنها وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة لما روت ام سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب(9/148)
ولا تكتحل " رواه النسائي وأبو داود وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو اظفار " متفق عليه وعن أم سلمة قالت جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " مرتين أو ثلاثا متفق عليه وروت أم سلمة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال " ماذا يا أم سلمة " قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب قال " إنه يشب الوجه لا تجعلنه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب " قالت قلت بأي شئ أمتشط؟ قال " بالسدر وتغلفين به رأسك " ولأن الكحل من أبلغ الزينة والزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه، وحكي عن بعض الشافعية ان للسوداء أن تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فانه يزنيها ويحسنها.
فإن اضطرت الحادة الى الكحل بالإثمد للتداوي به فلها أن تتكحل ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة
عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحل إلا ما لابد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار.
رواه أبو داود والنسائي وإنما تمنع(9/149)
من الكحل بالإثمد لأنه الذي يحصل به الزينة، فأما الكحل بالتوتيا والغزروت ونحوهما فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يفتح العين ويزيدها مرهاً ولا تمنع من جعل الصبر على وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يشب الوجه " ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الأبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب (القسم الثاني) زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر فلا يجوز لبسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تلبس ثوبا مصبوغا " وقوله لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق فأما ما لا يقصد بصيغة حسنة كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا يمنع منه لأنه ليس بزينة، وما صبغ غزله ثم نسج ففيه احتمالان (أحدهما) يحرم لبسه لأنه أحسن وأرفع ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسجه (والثاني) لا يحرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ام سلمة " الاثوب عصب قال القاضي هو ما صبغ غزله قبل نسجه ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسناً من الثياب غير مصبوغ والأول أصح، وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض: الورس والعصب بنتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب لأنه في معنى ما صبغ لغير التحسين أما ما صبغ غزله للتحسين كالاحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغة كحصولها بما صبغ بعد نسجه(9/150)
(القسم الثالث) الحلي فيحرم عليها لبس الحلي كله حتى الخاتم في قوله عامة أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا الحلي " وقال عطاء يباح حلي الفضة دون الذهب ولا يصح لعموم النهي ولأن الحلي يزيدها حسناً
ويدعو إلى مباشرتها قال الشاعر وما الحلي إلا زينة لنقيصة * * تتم من حسن إذا الحسن قصرا (مسألة) (ولا يحرم عليها الأبيض من الثياب وإن كان حسناً) سواء كان من قطن أو كتان أو صوف أو إبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها ولا الملون لدفع الوسخ كالكحلي والأسود والأخضر المشبع لأنه لا يراد للزينة أشبه الأبيض، قال الخرقي وتجتنب النقاب وما في في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمنع من ذلك فإن احتاجت الى ستر وجهها سدلت عليه كما تفعل المحرمة، ويحتمل أن لا تمنع من ذلك لأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص وإنما منعت منه المحرمة لأنها ممنوعة من تغطية وجهها بخلاف الحادة ولأن المحرمة يحرم عليها لبس القفازين بخلاف الحادة، ويجوز لها لبس الثياب المزعفرة وغيرها من الثياب المصبوغة والحلي، والحادة يحرم عليها ذلك فلا يصح القياس ولأن المبتوتة لا يحرم عليها النقاب فإن وجب عليها الإحداد فكذلك المتوفى عنها زوجها (فصل) وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه روى ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر(9/151)
وابن مسعود وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق قال ابن عبد البر وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء تعتد حيث شاءت روى ذلك عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها اهله وسكتت في وصيتها وإن شاءت خرجب لقول الله تعالى (فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت رواهما أبو داود ولنا ما روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " قالت فخرجت
حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو امر بي فدنيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف قلت " فرددت عليه القصة فقال " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به رواه مالك في موطئه والاثرم وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي(9/152)
صلى الله عليه وسلم قال لفريعة " امكثي في بيتك " ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك " وفي لفظ " اعتدي حيث أتاك الخبر " فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت الى مسكنها أو اعتدت فيه وقال سعيد بن المسيب والنخعي لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " امكثي في بيتك " واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا فإن قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها (مسألة) (إلا أن تدعو ضرورة الى خروجها منه بأن يحولها مالكه أو تخشى على نفسها) وجملة ذلك أنها إذا خافت هدماً أو غرما أو عدواً أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية(9/153)
رجع فيها او بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعدياً أو امتنع من إجارته أو طلب به أكثر من أجر المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذل أجرة المسكن وإنما الواجب عليها السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت وتسكن حيث شاءت ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أنها تنتقل إلى أقرب ما يمكنها النقلة اليه وهو مذهب الشافعي لأنه قرب إلى موضع الوجوب أشبه من وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان فإنه ينقلها إلى موضع يجدهم فيه
ولنا أن الواجب سقط لعذر ولم يرد الشرع له ببدل فلا يجب كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات شرط والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد ولأن ذكروه إثبات حكم بلا نص ولا معنى نص فإن معنى الاعتداد في بيتها لا يوجد في السكنى فيما قرب منه ويفارق أهل السهمان فإن القصد نفع الأقرب وفي نقلها إلى أقرب موضع يجده نفع الأقرب(9/154)
(فصل) ولا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلاً رواية واحدة وإن كانت حاملاً فعلى روايتين، وللشافعي فيها قولان (أحدهما) لها السكنى لقوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على الوجوب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بالسكنى في بيتها من غير استئذان الورثة ولو لم تجب السكنى لم يكن لها أن تسكن إلا بإذنهم كما أنها ليس لها أن تتصرف في مال زوجها بغير إذنهم ولنا أن الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها وجعل باقيها لسائر الورثة والمسكن من التركة فوجب أن لا تستحق منه أكثر من ذلك، وأما إذا كانت حاملاً وقلنا لها السكنى فلأنها حامل من زوجها فوجبت لها السكنى قياساً على المطلقة فأما الآية التي احتجوا بها فإنها منسوخة، وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فريعة بالسكنى فقضية في عين يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن الوارث يأذن في ذلك أو تكون السكنى واجبة عليها ويتقيد ذلك بالإمكان وإذن الوارث من جملة ما يحصل به الإمكان فإذا قلنا لها(9/155)
السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفى ولا يباع في دينه بيعاً يمنعها السكنى حتى تقضي العدة وبهذا قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء وإن تعذر ذلك المسكن فعلى الوارث أن يكتري لها مسكناً من مال الميت فان لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل إلا لعذر كما ذكرنا، وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم يجز لأن السكنى ههنا يتعلق لها حق الله سبحانه وتعالى فلم يجز اتفاقهما على ابطالها بخلاف سكنى النكاح فانه حق لهما ولان السكنى ههنا من الاحداد فلم يجز الانفاق على تركها كسائر خصال الإحداد وليس لهم إخراجها
إلا أن تأتي بفاحشة مبينة لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وهو أن يطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه روى ذلك عن ابن عباس وهو قول الأكثرين وقال ابن مسعود والحسن هي الزنا لقول الله تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) واخراجهن هو لإقامة حد الزنا ثم ترد إلى مكانها(9/156)
ولنا أن الآية تقتضي الإخراج من المسكن وهذا لا يتحقق فيما قالاه، وأما الفاحشة فهي اسم للزنا وغيره من الأقوال الفاحشة يقال أفحش الرجال في قوله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالت له عائشة يا رسول الله قلت لفلان بئس أخو العشيرة - ثم ألنت له القول لما دخل قال - يا عائشة أن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم فإن كانت لا تجمعهم أو لم يكمن نقلها إلى غيرها في الدار أو لم يتخلصوا من أذاها بذلك فلهم نقلها وقال بعض أصحابنا ينتقلون هم عنها لأن سكناها واجب في المكان وليس بواجب عليهم والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه ولأن الفاحشة منها فكان الإخراج لها، وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوهم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بقتضى النص ولأن الذنب لهم فيخصون بالإخراج، وإن كان المسكن لغير الميت فيتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به، وإن أبى ان يسكنها إلا بالأجرة وجب بذلها من مال الميت إلا أن يتبرع إنسان(9/157)
ببدلها ويلزمها الاعتداد به فإن حولها مالك المكان أو طلب أكثر من أجر المثل فعلى الورثة إسكانها إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن لأنه حق لها يقدم على الميراث فإن اختارت النقلة عن المسكن الذي ينقلونها اليه فلها ذلك لان سكناها به حق لها وليس بواجب عليها فإن المسكن الذي كان تجب عليها السكنى به هو الذي تسكنه حين موت زوجها وقد سقطت عنها السكنى به وسواء كان المسكن الذي كانت به لأبويها أو لأحدهم أو لغيرهم، وإن كانت تسكن في دار لها فاختارت الاقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز وعلى الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها وإن طلبت أن تسكنها
غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم إسكانها (فصل) فأما إذا قلنا ليس لها السكنى فتطوع الورثة بإسكانها في مسكن زوجها أو السلطان أو أجنبي لزمها الاعتداد به وإن منعت السكنى أو طلبوا منها الأجرة فلها أن تنتقل عنه إلى غيره كما ذكرنا فيما إذا أخرجها المؤجر عند انقضاء الإجارة وسواء قدرت على الأجرة أو عجرت لأنه إنما تلزمها السكنى(9/158)
لا تحصيل المسكن، وإن كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها مسكناً آخر لم تلزمها السكنى به ولذلك إن أخرجت من المسكن الذي هي به أو خرجت لأي عارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه سواء بذله الورثة أو غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره، وكذلك إذا قلنا لها السكنى فتعذر سكناها في مسكنها وبذل لها سواه وإن طلبت مسكناً بأجرة أو بغيرها لزم الورثة تحصيله إن خلف الميت تركة تفي بذلك وتقدم على الميراث لأنه حق على الميت فأشبه الدين، فإن كان على الميت دين يسترق تركته ضربت بأجرة المسكن لأن حقها مساو لحقوق الغرماء وتستأجر بما يخصها موضعها تسكنه، وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها فإنها تضرب باجرة المسكن كمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملاً فان قيل فهل لا قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق؟ قلنا لأن حقها ثبت عليه بغير اختياره فشاركت الغرماء فيه كما لو اتلف المفلس مالاً لإنسان أو جنى عليه، وإن مات وهي في مسكنه لم يجز إخراجها منه لأن حقها تعلق(9/159)
بين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه فكان حقها مقدماً كحق المرتهن، وإن طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت حاملاً ومدة الحمل مجهولة فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة، وإن أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في السكنى لم يكن لهم ذلك، وإن أرادو التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليها فيه (فصل) إذا قلنا إنها تضرب مع الغرماء بقدر مدة عدتها فإنها تضرب بمدة عادتها في وضع الحمل إن كانت حاملاً وإن كانت مطلقة من ذوات القرء وقلنا لها السكنى ضربت بمدة عادتها في القرء فإن لم تكن
لها عادة ضربت بغالب عادات النساء وهي تسعة أشهر للحمل وثلاثة اشهر لكل قرء شهر أو بما بقي من ذلك إن كان قد مضى من مدة حملها شئ لأنه لا يمكن تأخير القسمة لحق الغرماء فإذا ضربت بذلك فوافق الصواب لم يزد ولم ينقص استقر الحكم ويستأجر بما يحصل لها مكاناً تسكنه فإذا تعذر ذلك سكنت حيث شاءت، وإن كانت المدة أقل مما ضربت مثل أن وضعت حملها لستة أشهر أو تربصت(9/160)
ثلاثة قروء في شهرين فعليها رد الفضل وتضرب فيه بحصتها منه، وإن طالت العدة أكثر من ذلك مثل أن وضعت حملها في عام أو رأت ثلاثة قروء في نصف عام رجعت بذلك على الغرماء كما يرجعون عليها في صورة النقص، ويحتمل أن لا ترجع به وتكون في ذمة زوجها لأننا قدرنا ذلك مع تجويز الزيادة فلم يكن لها الزياة عليه (مسألة) (ولا تخرج ليلاً وتخرج نهاراً لحوائجها سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها) لما روى جابر قال طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تصديق منه أو تفعلي خيرا " رواه النسائي وأبو داود، وروى مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن يا رسول نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحدثن عند إحداكن(9/161)
حتى إذا أردتن فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة ولأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه، وإن وجب عليها حق لا يمكن اسيتفاؤه إلا بها كاليمين والحد وكانت ذات خدر بعث اليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها، وإن كانت برزة جاز احضارها لا ستيفائه وترجع إلى منزلها إذا فرغت (فصل) والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في منزلها إلا أن سكناها في العدة كسكناها في حياة زوجها للسيد إمساكها نهار أو يرسلها ليلاً فإن ارسلها ليلاً ونهاراً اعتدت زمانها كله في المنزل وعلى الورثة إسكانها كالحرة سواء.
(فصل) والبدوية كالحضرية في الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه فإن انتقلت الحلة انتقلت معهم لأنها لا يمكنها المقام وحدها، وإن انتقل غير أهلها لزمها المقام مع أهلها، وإن انتقل(9/162)
أهلها انتقلت معهم إلا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم فتخير بين الاقامة والرجل والرحيل، وإن هرب أهلها فخافت هربت معهم فإن أمنت أقامت لقضاء العدة في منزلها (فصل) فإن مات صاحب السفينة وامرأته في السفينة ولها مسكن في البر فحكمها حكم المسافرة في البر على ما نذكره، وإن لم يكن لها مسكن سواها وكان لها فيها بيت يمكنها السكنى فيه بحيث لا تجتمع مع الرجال وأمكنها المقام فيه بحيث تأمن على نفسها ومعها محرمها لزمها أن تعتد به، وإن كانت ضيقة وليس معها محرمها أو لا يمكنها الإقامة فيها إلا بحيث تختلط بالرجال ولزمها الانتقال عنها إلى غيرها (مسألة) (وإن أذن لها زوجها في النقلة إلى بلد للسكنى فيه فمات قبل مفارقة البنيان لزمها العود إلى منزلها، وإن مات بعده فلها الخيار بين البلدين) إذا أذن للمراة زوجها في النقلة من بلد إلى بلد أو من دار إلى دار أخرى فمات قبل انتقالها من الدار وقبل خروجها من البلد لزمها الاعتداد في الدار وكذلك إن مات قبل خروجها من الدار لأنها بيتها وسواء مات قبل نقل(9/163)
متاعها من الدار أو بعده لأنها مسكنها ما لم تنتقل عنها وإن مات بعد انتقالها إلى الثانية اعتدت فيها لأنها مسكنها وكذلك إن مات بعد وصولها إلى البلد الآخر على قياس ذلك، وإن مات وهي بينهما فهي مخيرة لأنها لا مسكن لها منهما فإن الأولى خرجت عنها منتقلة فخرجت عن كونها مسكناً لها والثانية لم تسكن بها فهما سواء وكذلك إن مات بعد خروجها من البلد لما ذكرناه وقيل يلزمها الاعتداد في الثانية لأنها المسكن الذي أذن لها زوجها في السكنى به وهذا يمكن في الدارين، فأما إذا كانا بلدين لم يلزمها الانتقال إلى البلد الثاني بحال لأنها إنما كانت تنتقل لغرض زوجها في صحبتها إياه وإقامتها معه فلو ألزمناها ذلك بعد موته لكلفناها السفر الشاق والتغرب عن وطنها وأهلها والمقام مع غير محرمها والمخاطرة بنفسها مع فوات الغرض وظاهر حال الزوج أنه لم علم أنه يموت لما نقلها فصارت الحياة مشروطة في النقلة.
فأما إن انتقلت الى الثانية ثم عادت الى الأولى لنقل متاعها
فمات زوجها وهي بها فعليها الرجوع إلى الثانية لأنها صارت مسكنها بانتقالها وإنما عادت الى الأول لحاجة والاعتبار بمسكنها دون موضعها، وإن مات وهي في الثانية فقالت أذن لي زوجي في السكنى بهذا(9/164)
المكان وأنكر ذلك الورثة أو قالت إنما أذن لي زوجي في المجئ اليه لا في الإقامة به وأنكر ذلك لورثة فالقول قولها لأنها أعرف بذلك منهم، وكل موضع قلنا يلزمها السفر عن بلدها فهو مشروط بوجود محرم يسافر معها والا من على نفسها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها " أو كما قال (مسألة) (وإن سافر بها فمات في الطريق وهي قريبة لزمها العود) لأنها في حكم الإقامة وإن.
تباعدت خيرت بين البلدين لأن البلدين تساويا فكانت الخيرة إليها فيما المصلحة لها فيه لأنها أخبر بمصلحتها.
(فصل) وإن أذن لها زوجها في السفر لغير النقلة فخرجت ثم مات زوجها فالحكم في ذلك كالحكم في سفر الحج على ما نذكره من التفصيل وإذا مضت إلى مقصدها فلها الإقامة حتى تقضي ما خرجت اليه وتنقضي حاجتها من تجارة أو غيرها فإن كان خروجها لنزهة أو زيادة ولم يكن قدر لها مدة فإنها تقيم إقامة(9/165)
المسافر ثلاثاً وإن كان قدر لها مدة فلها إقامتها لأن سفرها بحكم إذنه فكان لها إقامة ما اذن لها فيه فإذا مضت مدتها أو قضت حاجتها ولم يمكنها الرجوع لخوف أو غيره أتمت العدة في مكانها وإن أمكنها الرجوع لكن لا يمكنها الوصول الى منزلها حتى تنقضي عدتها لزمها الإقامة في مكانها لأن الإعتداد وهي مقيمة أولى من الإتيان به في السفر، وإن كانت تصل وقد بقي من عدتها شئ لزمها العود لتأتي بالعدة في مكانها.
(مسألة) (وإن أذن لها في الحج فأحرمت به ثم مات فخشيت فوات الحج مضت في سفرها وإن لم تخش وهي في بلدها أو قرية يمكنها العود أقامت لتقضي العدة في منزلها وإلا مضت في سفرها وإن لم تكن أحرمت به أو أحرمت بعد موته فحكمها حكم من لم تخش الفوات)
وجملة ذلك أن المعتدة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا غيره روى ذلك عن عمر وعثمان وبه قال(9/166)
سعيد بن المسيب ومالك والشافعي والثوري وأصحاب الرأي فإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت إن كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة، وإن تباعدت مضت في سفرها، وقال مالك ترد ما لم تحرم، والصحيح ما ذكرنا لأنه يضر بها وعليها مشقة ولابد لها من سفر وإن رجعت، ويحد القريب بما لا تقصر اليه الصلاة والبعيد بما تقصر فيه قاله القاضي وهو قول أبي حنيفة إلا أنه لا يرى القصر الا في مدة ثلاثة أيام، فعلى قوله متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام لزمها الرجوع إليه، وإن كان فوق ذلك لزمها المضي الى مقصدها إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام، وإن كان بينها وبينه ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي به مكان يمكنها الإقامة فيه لزمتها والاقامة وإلا مضت إلى مقصدها، وقال الشافعي إن فارقت البينان فلها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السفر فأشبه ما لو بعدت ولنا على وجوب الرجوع على القريبة ما روى سعيد بإسناده عن سعيد بن المسيب قال توفي ازواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن في بيوتهن ولأنه أمكنها الاعتداد في منزلها قبل أن تعتد فلزمها كما لو لم تفارق البنيان.(9/167)
وعلى أن البعيدة لا يلزمها الرجوع لأن عليها مشقة وتحتاج إلى سفر طويل في رجوعها أشبهت من بلغت مقصدها، وإن اختارت البعيدة الرجوع فلها ذلك إذا كانت تصل إلى منزلها في عدتها، ومتى كان عليها في الرجوع خوف أو ضرر فلها المضي في سفرها كالبعيدة ومتى رجعت وقد بقي عليها شئ من عدتها لزمها أن تأتي به في منزل زوجها بلا خلاف بينهم لأنه أمكنها الاعتداد فيه فهو كما لو لم تسافر منه (فصل) ولو كان عليها حجة الإسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الاتيان به بعدها، وإن مات زوجها بعد إحرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها فيه وكان وقت الحج متسعاً لا يخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها الاعتداد في
منزلها لإمكان الجمع بين الحقين، وإن خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمها المقام، وإن فاتها لأنها معتدة فلم يجز أن تنشئ سفراً كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها(9/168)
ولنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو سبقت العدة ولان الحج آكد لانه أحد أركان الإسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها اليه، وإن أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته احتمل أن يجوز لها المضي إليه لما في بقائها على الإحرام من المشقة واحتمل أن تلزمها العدة في منزلها لأنها أسبق ولأنها فرطت وغلظت على نفسها فإذا قضت العدة وأمكنها السفر الى الحج لزمها ذلك فإن أدركته وإلا تحللت بعمرة وحكمها في القضاء حكم من فاته الحج وإن لم يمكنها السفر فهي كالمحصرة التي يمنعها زوجها من السفر وحكم الإحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف (مسألة) (وأما المبتوتة فلا تجب عليها عدة الوفاة في منزله وتعتد حيث شاءت نص عليه قال(9/169)
اصحابنا لا يتعين الموضع الذي تسكنه المبتوتة في الطلاق سواء قلنا لها السكنى أو لم نقل بل يتخير الزوج بين إقرارها في موضع طلاقها وبين نقلها إلى مسكن مثلها لحديث فاطمة بنت قيس يذكر في النفقات إن شاء الله تعالى.
والمستحب إقرارها لقوله سبحانه (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) ولأن فيه خروجاً من الخلاف فإن الذين يرون لها السكنى يوجبون عليها الاعتداد في منزلها فان كان في بيت يملك الزوج سكناه يصلح لمثلها اعتدت فيه فإن ضاق عنهما انتقل عنها لأنه يستحب سكناها في البيت الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وأمكنهما السكنى في موضع منفرد كالحجرة وعلو الدار وبينهما باب مغلق جاز وسكن الزوج في الباقي كالحجرة بين المتجاورين وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تستتر فيه بحيث لا يراها ومعها محرم تتحفظ به جاز وتركه أولى ولا يجوز مع عدم المحرم لان الخلوة لأجنبية محرمة وإن امتنع من إسكانها وكانت ممن لها عليه السكنى أجبره الحاكم فإن لم يكن ثم(9/170)
حاكم رجعت على الزوج وإن وجد الحاكم ففي رجوعها روايتان فإن كان الزوج حاضراً ولم يمنعها المسكن فاكترت لنفسها مسكناً أو سكنت في موضع تملكه لم ترجع لأنها تبرعت بذلك وإن عجز الزوج عن إسكانها لعسرته أو غيبة أو امتنع منه مع المقدرة سكنت حيث شاءت.
(باب في استبراء الإماء) ويجب الاستبراء في ثلاثة مواضع: (أحدهما) إذا ملك أمه لم يحل له وطؤها ولا الإستمتاع بها بمباشرة أو قبلة حتى يستبرئها إلا المسبية هل له الاستمتاع منها بما دون الفرج؟ على روايتين) من ملك أمة بسبب من أسباب الملك كالبيع والهبة والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها بكراً كانت أو ثيباً صغيرة او كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل هذا قول الحسن وابن سيرين(9/171)
وأكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وقال ابن عمر لا يجب استبراء البكر وهو قول داود لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجة الى الاستبراء وقال الليث إن ان ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراؤها لذلك وقال عثمان البتي يجب الاستبراء على البائع دون المشتري لأنه لو زوجها لكان الاستبراء على السيد دون الزوج كذلك ههنا.
ولنا ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام أو طاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض رواه أحمد في المسند.
وعن رويفع بن ثابت قال إنني لا أقول إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه أبو داود وفي لفظ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يقول " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه(9/172)
الأثرم ولأنه ملك جارية محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالبنت التي تحمل ولأنه سبب وجب للاستبراء فلم تفترق الحال فيه بين البكر والثيب والتي لا تحمل كالعدة قال أبو عبد الله قد بلغني أن العذراء تحمل فقال له بعض أهل المجلس نعم قد كان في جيراننا.
وذكره بعض أصحاب الشافعي وما ذكروه يبطل بما إذا اشتراها من امرأة أو صبي أو من تحرم عليه برضاع أو غيره وما ذكره البتي لا يصح لأن الملك قد يكون بالسبي والإرث والوصية فلو لم يستبرئها المشتري أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب والفرق بين البيع والتزويج أن التزويج لا يراد إلا للاستمتاع فلا يجوز إلا فيمن تحل له فوجب أن يتقدمه الاستبراء ولهذا لا يصح تزويج معتدة ولا مرتدة ولا مجوسية ولا وثنية ولا محرمة بالرضاع ولا المصاهرة والبيع يراد لغير ذلك فصح قبل الاستبراء ولهذا صح في هذه المحرمات ووجب الاستبراء على المشتري لما ذكرناه (مسألة) (ويحرم الاستمتاع بالقبلة والنظر لشهوة)(9/173)
والاستمتاع بها فيما دون الفرج إذا لم تكن مسبية رواية واحدة وقال الحسن لا يحرم من المستبرأة إلا فرجها وله أن يستمتع منها بما شاء ما لم يمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن الوطئ ولانه تحريم للوطئ مع ثبوت الملك فاختص بالفرج كالحيض.
ولنا أنه استبراء يحرم الوطئ فحرم الاستمتاع كالعدة ولأنه لا يأمن كونها حاملاً من بائعها فتكون أم ولد فلا يصح بيعها فيكون مستمتعاً بأم ولد غيره وبهذا فارق الحائض فأما المسبية ففيها روايتان (إحداهما) تحريم مباشرتها وهو ظاهر كلام الخرقي وهو الظاهر عن أحمد إذا كان لشهوة قياساً على العدة ولأنه داعية إلى الوطئ المحرم المفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فأشبهت المبيعة والرواية الثانية لا يحرم لما روي عن ابن عمر أنه قال وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت اليها فقبلتها والناس ينظرون ولأنه لا نص في المسبية ولا يصح قياسها على المبيعة لأنها تحتمل أن تكون أم ولد للبائع فيكون مستمتعاً بأم ولد غيره ومباشر لمملوكة غيره والمسبية مملوكة له على كل حال وإنما حرم وطؤها لئلا يسقي ماءه زرع غيره.
(مسألة) (وسواء ملكها من صغير أو كبير أو رجل أو امرأة أو مجبوب أو من رجل قد استبرأها ثم لم يطأها لقوله عليه الصلاة والسلام " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولأنه يجوز أن تكون حاملاً من غير البائع فوجب استبراؤها كالمسبية من امرأة.(9/174)
(مسالة) (وإن أعتقها قبل استبرائها لم يحل له نكاحها حتى يستبرئها ولها نكاح غيره إن لم يكن بائعها يطؤها) إذا اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها لم يجز أن يتزوجها حتى يستبرئها وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي له ذلك ويروى أن الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه الى جماعها قبل استبرائها وأمره أبو يوسف إن يعتقها ويتزوجها ويطأها قال أبو عبد الله وبلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها قال أبو عبد الله ما أعظم هذا أبطلوا الكتاب والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا وتعتد من أجل الحمل وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبراء الأمة بحيضة من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقها على المكان ثم يتزوجها فيطؤها يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غداً فإن كانت حاملاً كيف يصنع؟ هذا نقض الكتاب والسنة قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض " وهذا لا يدري أهي حامل أم لا؟ ما أسمج هذا قيل له إن قوماً يقولون هذا فقال قبح الله هذا وقبح من يقوله وفيما نبه عليه أبو عبد الله من الأدلة كفاية إذا ثبت هذا فليس له تزويجها لغيره قبل استبرائها إذا لم يعتقها لأنها ممن يجب استبراؤها فلم يجز أن تتزوج كالمعتدة وسواء في ذلك المستبرأة من رجل يطؤها أو من رجل قد اشتراها ثم لم يطأها أو ممن لا يمكنه الوطئ كالصبي والمجبوب والمرأة وقال الشافعي إذا اشترها ممن لا يطؤها فله تزويجها سواء أعتقها أو لم يعتقها وله أن يتزوجها إذا أعتقها لأنها ليست فراشاً وقد كان لسيدها تزويجها قبل(9/175)
بيعها فجاز ذلك بعد بيعها ولأنها لو عتقت على البائع بإعتاقه أو غيره لجاز لكل أحد نكاحها فكذلك إذا أعتقها المشتري.
ولنا عموم قوله عليه السلام " لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ولأنها أمة يحرم عليه وطؤها قبل استبرائها
فحرم عليه تزويجها والتزوج بها كما لو كان بائعها يطؤها فأما إن أعتقها في هذه الصورة فله تزويجها لغيره لأنها حرة لم تكن فراشاً فأبيح لها النكاح كما لو أعتقها البائع وفارق الموطؤة فإنها فراش يجب عليها استبراء نفسها فحرم عليها النكاح كالمعتدة وفارق ما إذا أراد سيدها نكاحها فإنه لم يكن له وطؤها بملك اليمين فلم يكن له أن يتزوجها كالمعتدة ولأن هذا يتخذ حيلة على إبطال الاستبراء فحرم بخلاف تزويجها لغيره (مسألة) (والصغيرة لا يوطأ مثلها هل يجب استبراؤها؟ على وجهين) (أحدهما) يجب وهو ظاهر كلام أحمد في أكثر الروايات عنه فإنه قال تسبترأ وإن كانت في المهد وتحرم مباشرتها على هذه الرواية كالكبيرة لأن الاستبراء يجب عليها بالعدة كذلك هذا وروي عنه أنه قال إن كانت صغيرة تأتي شيئاً يسيراً إذا كانت رضيعة وقال في رواية أخرى تستبرأ بحيضة إن كانت تحيض وإلا ثلاثة أشهر إن كانت ممن يوطأ ويحبل فظاهر هذا أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها وهذا اختيار ابن أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيه ولا معنى نص ولا يراد لبراءة الرحم ولا يوجد الشغل في حقها(9/176)
(مسألة) (وإن اشترى زوجته لم يلزمه استبراؤها لأنها فراش له) فلم يلزمه استبراؤها من مائه لكن يستحب ذلك ليعلم هل الولد من النكاح ليكون عليه ولاء له لأنه عتق بملكه ولا تصير به الجارية أم ولد أو هو حادث في ملك يمينه فلا يكون عليه ولاء تصير به الأمة أم ولد ومتى تبين حملها فله وطؤها لأنه قد تبين الحمل وزال الاشتباه (مسألة) (أو عجزت مكاتبته حلت لسيدها بغير استبراء) وبهذا قال أبو حنيفة وكذلك إن ارتدت أمته ثم أسلمت أو زوج الرجل أمته فطلقها الزوج لم يلزم السيد استبراؤها وقال الشافعي يجب عليه الاستبراء في هذا كله لأنه زال ملكه عن استمتاعها ثم عاد فأشبهت المشتراه.
ولنا أنه لم يتجدد ملكه عليها فأشبهت المحرمة إذا حلت وإن فك أمته من الرهن حلت بغير استبراء بغير خلاف فكذلك هذا ولأن الاستبراء إنما شرع لمعنى مظنته تجديد الملك فلا يشرع مع تخلف المظنة والمعنى
(مسألة) (أو أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة أو الوثنية التي حاضت عنده أو كان هو المرتد فأسلم فهي حلال بغير استبراء) إذا ملك مجوسية أو وثنية فأسلمت قبل استبرائها لم تحل حتى يستبرئها أو يتم ما بقي من استبرائها لما مضى فان استبرأها ثم اسلمت بغير استبراء وقال الشافعي لا تحل حتى يجدد استبراءها بعد إسلامها لأن ملكه تجدد على استمتاعها فأشبه من تجدد ملكه على رقبتها.(9/177)
ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة " وهذا ورد في سبايا أو طاس وهن مشركات ولم يأمر في حقهن بأكثر من حيضة ولأنه لم يتجدد ملكه عليها ولا اصابها وطئ من غيره فلم يلزمه استبراؤها كما لو حلت المحرمة، ولأن الاستبراء إنما وجب كيلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب ومظنة ذلك تجديد الملك على رقبتها ولم يوجد.
(مسألة) (أو اشترى مكاتبة ذوات رحمه فحضن عنده ثم عجز أو اشترى عبده التاجر امة فاستبرأها ثم أخذها سيده منه فانها تحمل بغير استبراء لأن ملكه ثابت على ما في يد عبده فقد حصل استبراؤها في ملكه) وأما إذا اشترى مكاتبه أمة فاستبرأها ثم صارت إلى سيده ولم تكن من ذوات رحم المكاتب فعلى السيد استبراؤها لان ملكه تجدد عليها إذ ليس للسيد ملك ما في يد مكاتبه فان كانت من ذوات محارمه فإنها تباح للسيد بغير استبراء كذلك ذكره أصحابنا لأنه يصير حكمها حكم المكاتب إن رق رقت وإن عتق عتقت والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
(فصل) فإن وطئ الجارية التي يلزمه استبراؤها قبل استبرائها أثم والاستبراء باق بحاله لأنه حق عليه فلا يسقط بعدوانه فإن لم تعلق منه استبرأها بما كان يستبرئها به قبل الوطئ وتبني على ما مضى من الاستبراء وإن علقت منه فمتى وضعت حملها استبرأها بحيضة ولا يحل له الاستمتاع بها في حال حملها(9/178)
لأنه لم يستبرئها، وإن وطئها وهي حامل حملاً كان موجوداً حين البيع من غير البائع فمتى وضعت حملها انقضى استبراؤها قال أحمد ولا يلحق بالمشتري ولا يبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد
في الولد وقد روي أبو داود بإسناده عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بامرأة مجح على فسطاط فقال " لعله يريد أن يلم بها؟ - قالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له أو كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ " ومعناه أنه ان استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وإن أتخذه مملوكاً له لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد وعن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وطئ الحبالى حتى يضعن ما في بطونهم رواه النسائي.
(مسألة) (وإن وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض أجزأ ويحتمل أن لا يجزئ) لا يكون الاستبراء إلا بعد ملك المشتري لجميع الأمة فلو ملك بعضها ثم ملك باقيها لم يحتسب الاستبراء إلا من حين ملك باقيها فإن ملكها ببيع فيه الخيار انبنى على نقل الملك في مدته فإن قلنا ينتقل فابتداء الاستبراء من حين البيع وإن قلنا لا ينتقل فابتداؤه من حين انقطع الخيار وإن كان البيع معيباً فابتداؤه من حين البيع لأن العيب لا يمنع نقل الملك بغير خلاف، فإن ابتدأ الاستبراء بعد البيع وقبل القبض أجزأ في أظهر الوجهين لأن الملك ينتقل به والثاني لا يجزئ لأن القصد معرفة براءتها من مال البائع ولا يحصل ذلك مع كونها في يده.
(مسألة) (وإن باع أمته ثم عادت إليه بفسخ أو غيره بعد القبض وجب استبراؤها وإن كان قبله فعلى روايتين) أما إذا عادت إليه بعد القبض وافتراقهما لزمه استبراؤها لأنه تجديد ملك سواء كان المشتري لها(9/179)
رجل أو امرأة وإن كان ذلك قبل افتراقهما او قبل غيبة المشتري بالجارية فعليه الاستبراء أيضاً في إحدى الروايتين، وهو مذهب الشافعي لأنه تجديد ملك والثانية ليس عليه استبراء وهذا قول أبي حنيفة إذا تقايلا قبل القبض لأنه لا فائدة في الاستبراء مع يقين البراءة (مسألة) (وإذا اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قبل الدخول وجب استبراؤها) نص عليه أحمد وقال هذه حيلة وضعها أهل الرأي لابد من استبراء لأنها تجدد الملك فيها ولم يحصل استبراؤها في ملكه فلم تحل بغير استبراء كما لو لم تكن مزوجة ولأن إسقاطه ههنا ذريعة إلى إسقاط الاستبراء في حق من أراد اسقاطه بان يزوجها عند بيعها ثم يطلقها زوجها بعد تمام البيع والحيل حرام
(مسألة) (وإن كان بعده لم يجب في أحد الوجهين) أما إذا كان الزوج دخل بها ثم طلقها فعليها العدة ولا يلزم المشتري استبراؤها لأن ذلك قد حصل بالعدة ولأنها لو عتقت لم يجب عليها مع العدة استبراء ولأنها قد استبرأت نفسها ممن كانت فراشاً له فاجزأ ذلك كما لو استبرأت نفسها من سيدها إذا كانت خالية من زوج، وإن استبرأها وهي معتدة من زوجها لم يجب عليه الاستبراء لأنها لم تكن فراشاً لسيدها وقد حصل الاستبراء من الزوج بالعدة ولذلك لو عتقت في هذه الحال لم يجب عليها استبراء وقال أبو الخطاب في المزوجة هل يدخل الاستبراء في العدة؟ على وجهين وقال القاضي في المعتدة يلزم السيد استبراؤها بعد قضاء العدة ولا يتداخلان لأنهما من رجلين(9/180)
ومفهوم كلام احمد ما ذكرناه أولاً لأنه عدل فيما قبل الدخول بأنها حيلة وضعها أهل الراي ولا يوجد ذلك ههنا ولا يصح قولهم إن الاستبراء من رجلين فإن السيد ههنا ليس له استبراء.
(فصل) إذا كانت الأمة لرجلين فوطئاها ثم باعاها لرجل آخر أجزأ استبراء واحد لأنه يحصل به معرفة البراءة، فإن قيل فلو أعتقاها ألزمتموها استبراءين قلنا وجوب الاستبراء في حق المعتقة معلل بالوطئ ولذلك لو أعتقها وهي ممن لا يطؤها لم يلزمها استبراء وقد وجد الوطئ من اثنين فلزمها حكم وطئها وفي مسئلتنا هو معلل بتجديد الملك لا غير ولهذا يجب على المشتري الاستبراء سواء كان سيدها يطؤها أو لم يكن والملك واحد فوجب أن يتجدد الاستبراء الثاني إذا وطئ أمته ثم أراد تزويجها لم يجزئ حتى يستبرئها، وإن اراد بيعها فعلى روايتين، وإن لم يكن بائعها يطؤها لم يجب استبراؤها في الموضعين.
أما إذا أراد تزويجها وكان يطؤها وجب عليه استبراؤها قبل تزويجها وجهاً واحداً لأن الزوج لا يلزمه استبراء فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وهو قول الثوري والشافعي وقال أصحاب الرأي ليس عليها استبراء لأن له بيعها فكان له تزويجها كالتي لا يصيبها وتستبرئ بحيضة وقال عطاء وقتادة عدتها حيضتان كعدة الأمة المطلقة.
ولنا أنها فراش لسيدها فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره بغير استبراء كما لو مات عنها ولانها موطؤة وطأ له حق فلزمه استبراؤها قبل التزويج كالموطوء بشبهة، ولأنه يفضي إلى أن يطأها سيدها اليوم
وزوجها غداً فيفضي إلى اختلاط المياه وهذا لا يحل ويفارق البيع فإنها لا تصير للمشتري فراشاً حتى يستبرئها فلا يفضي إلى اختلاط المياه، ولهذا يصح بيع المزوجة والمعتدة بخلاف تزويجها على أن لنا(9/181)
في البيع منعاً أيضاً أنه لا يجوز، فإن أراد بيعها وكان لا يطؤها أو كانت آيسة فليس عليه استبراؤها لكن يستحب ذلك ليعلم خلوها من الحمل فيكون أحوط للمشتري وأقطع للنزاع، قال أحمد وإن كانت لامرأة فإني أحب أن لا تبيعها حتى تستبرئها بحيضة فهو أحوط لها وإن كان يطؤها أو كانت آيسة فليس عليه استبراء لأن انتفاء الحمل معلوم وإن كانت ممن يحمل وجب عليه استبراؤها في أصح الروايتين، وبه قال النخعي والثوري والثانية لا يجب عليه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن عبد الرحمن بن عوف باع جارية كان يطؤها قبل استبرائها ولأن الاستبراء على المشتري فلا يجب على البائع ولأن الاستبراء في حق الحرة آكد ولا يجب قبل النكاح وبعده كذلك لا يجب في الأمة قبل البيع وبعده.
ولنا أن عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية كان يطؤها قبل استبرائها فروى عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: باع عبد الرحمن جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها فظهر بها حمل عند الذي اشتراها فخاصموه الى عمر فقال له عمر كنت تقع عليها؟ قال نعم قال فبعتها قبل أن تستبرئها؟ قال نعم قال ما كنت لذلك بخليق قال فدعا القالة فنظروا إليه فألحقوه به ولانه تجب على المشتري الاستبراء لحفظ مائه فكذلك البائع ولأنه قبل الاستبراء مشكوك في صحة البيع وجوازه لاحتمال أن تكون أم ولد فيجب الاستبراء لإزالة الاحتمال ولأنه قد يشتريها من لا يستبرئها فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب فإن باع فالبيع صحيح في الظاهر لأن الأصل عدم الحمل ولأن عمر وعبد الرحمن لم يحكما بفساد البيع في الأمة التي باعها قبل استبرائها إلا بلحاق الولد به ولو كان البيع باطلاً قبل ذلك لم يحتج(9/182)
الى ذلك، قال شيخنا وذكر أصحابنا الروايتين في كل أمة يطؤها من غير تفريق بين الآيسة وغيرها والأولى ان ذلك لا يجب في الآيسة لأن علة الوجوب احتمال الحمل وهو وهم بعيد والأصل عدمه
فلا يثبت به حكم بمجرده.
(فصل) إذا اشترى جارية فظهر بها حمل لم يخل من أحوال خمسة (أحدهما) أن يكون البائع أقر بوطئها عند البيع أو قبله وأتت بولد لدون ستة أشهر أو يكون البائع ادعى الولد فصدقه المشتري فإن الولد يكون للبائع والجارية أم ولد له والبيع باطل (والثاني) أن يكون أحدهما استبرأها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها المشتري فالولد للمشتري والجارية أم ولد له (الحال الثالث) أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر بعد استبراء أحدهما لها ولأقل من ستة أشهر منذ وطئها المشتري فلا يلحق نسبه بواحد منهما، يكون ملكاً للمشتري ولا يملك فسخ البيع لأن الحمل تجدد في ملكه ظاهراً فإن ادعاه كل واحد منهما فهو للمشتري لأنه ولد في ملكه مع احتمال كونه منه، وإن ادعاه البائع وحده فصدقه المشتري لحقه وكان البيع باطلاً وإن كذبه فالقول قول المشتري في ملك الولد لأن الملك انتقل إليه ظاهراً فلا تقبل دعوى البائع فيما يبطل حقه كما لو أقر بعد البيع أن الجارية مغصوبة أو معتقة وهل يثبت نسب الولد مع البائع؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت لأنه نفع للولد من غير ضرر على المشتري فيقبل قوله فيه كما لو أقر لولده بمال (والثاني) لا يقبل لأن فيه ضرراً على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بماله منه ميراثاً وكذلك لو أقر عبد أن كل واحد منهما بأخوة صاحبه لم يقبل إلا ببينة(9/183)
(الحال الرابع) أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ وطئها المشتري وقبل استبرائها فنسبه لاحق بالمشتري فإن ادعاه البائع فأقر له المشتري لحقه وبطل البيع وإن كذبه فالقول قول المشتري، وإن ادعى كل واحد منهما أنه من الآخر عرض على القافة فألحق بمن ألحقته به لحديث عبد الرحمن بن عوف ولأنه يحتمل أن يكون من كل واحد منهما فإن ألحقته بهما لحق بهما وينبغي أن يبطل البيع فتكون الجارية أم ولد للبائع لأنا نتبين أنها كانت حاملاً منه قبل بيعها.
(الحال الخامس) أتت به لأقل من ستة أشهر منذ باعها ولم يكن أقر بوطئها فالبيع صحيح في الظاهر
والولد مملوك للمشتري فإن ادعاه البائع فالحكم فيه كما ذكرنا في الحال الثالث سواء (الموضع الثالث) إذا أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو مات عنها لزمها الاستبراء لأنها صارت فراشاً له فلم تحل لغيره قبل استبرائها لئلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب إلا أن تكون مزوجة أو معتدة فلا يلزمها استبراء وإذا زوج أم ولده ثم مات عتقت ولم يلزمها استبراء لأنها محرمة على المولى وليست له فراشاً وإنما هي فراش للزوج فلم يلزمها الاستبراء ممن ليست له فراشاً ولأنه لم يزوجها حتى استبرأها فان لا يحل له تزويجها قبل استبرائها، وفيه خلاف ذكرناه، وكذلك إن أعتقها أو مات عن أمه كان يطؤها أو أعتقها فهي على ما ذكرنا، فإن زوجها فطلقها الزوج قبل دخوله بها فلا عدة عليها أيضاً لأنه لم يوجد في حقها ما يوجب الاستبراء فإن طلقها بعد المسيس أو مات عنها قبل ذلك أو بعده فلها عدة حرة كاملة ولأنها قد صارت حرة في حال وجوب العدة عليها، وإن مات سيدها وهي في عدة الزوج(9/184)
عتقت ولم يلزمها استبراء لما ذكرناه ولأنه زال فراشه عنها قبل موته فلم يلزمها استبراء من أجله كغير أم الولد إذا باعها ثم مات وتبنى على عدة أمة إن كان طلاقها بائناً وكانت متوفى عنها وإن كانت رجعية بنت على عدة حرة على ما ذكرناه، وإن بانت من الزوج قبل الدخول بطلاق أو بانت بموت زوجها أو طلاقه بعد للدخول فأتمت عدتها ثم مات سيدها فعليها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه وقال أبو بكر لا يلزمها استبراء لا أن يردها السيد إلى نفسه لأن فراشه قد زال بتزويجها ولم يتجدد لها ما يردها إليه فأشبهت الأمة التي لم يطأها.
(مسألة) (وإن مات زوجها وسيدها ولم يعلم السابق منهما وبين موتهما أقل من شهرين وخمسة أيام لزمها بعد موت الآخر منهما عدة الوفاة حسب وليس عليها استبراء) لأن السيد إن كان مات أولاً فقد مات وهي زوجة وإن كان مات آخراً فقد مات وهي معتدة وليس عليها استبراء في هاتين الحالتين وعليها أن تعتد بعد موت الآخر منهما عدة حرة لأنه يحتمل أن سيدها مات أولاً ثم مات زوجها وهي حرة فلزمتها عدة الحرائر لتخرج من العدة بيقين وكذلك على قول أبي بكر لأنه ليس عليها عدة استبراء لأن فراش سيدها قد زال عنها ولم تعد إليه فتلزمها
عدة حرة لما ذكرنا.
(مسألة) (وإن كان بينهما أكثر من ذلك أو جهلت المدة فعليها بعد موت الآخر منهما أطول(9/185)
الأجلين من أربعة أشهر وعشر واستبراء بحيضة) لأنه يحتمل أن السيد مات أولاً فيكون عليها عدة الحرة من الوفية ويحتمل أنه مات آخراً بعد انقضاء عدتها من الزوج وعودها إلى فراشه فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين قال ابن عبد البر وعلى هذا جميع القائلين من العلماء بأن عدة أم الولد من سيدها حيضة ومن زوجها شهران وخمس ليال وقول أصحابنا الشافعي في هذا الفصل كقولنا وكذلك قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أنهم جعلوا مكان الحيضة ثلاث حيضات بناء علي أصلهم في استبراء أم الولد وقال ابن المنذر حكمها حكم الإماء وعليها شهران وخمسة أيام ولا أنقلها إلى حكم الحرائر الا باحاطة أن لزوج مات بعد المولى وقيل إن هذا قول أبي بكر عبد العزيز أيضاً والذي ذكرناه أحوط (فصل) فأما الميراث فإنها لا ترث من زوجها شيئاً لأن الأصل الرق والحرية مشكوك فيها فلم ترث مع الشك والفرق بين العدة والإرث إن إيجاب العدة عليها استظهار لا ضرر فيه على غيرها وإيجاب الإرث إسقاط لحق غيرها ولأن الأصل تحريم النكاح عليها فلا يزول إلا بيقين والأصل عدم الميراث لها فلا يزول إلا بيقين فان قيل أليس زوجة المفقود لو مات وقف ميراثه مع الشك في إرثه؟ قلنا الفرق بينهما أن الأصل ههنا الرق والشك في زواله وحدوث الحال التي يرث فيها والمفقود الأصل حياته والشك في موته وخروجه عن كونه وارثاً فافترقا.
(فصل) فإن اعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو غيرهما ممن تحل له إصابتها ثم أراد أن يتزوجها فله ذلك في الحال من غير استبراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها وقال صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن(9/186)
تعليمها ثم أعتقها وتزوجها، ولم يذكر استبراء ولأن الاستبراء لصيانة مائه وحفظ نسبه عن الاختلاط
بماء غيره ولا يصان ماؤه عن مائه ولهذا كان له أن يتزوج مختلفة في عدتها.
وقد روي عن أحمد في الأمة التي لا يطؤها: إذا أعتقها لا يتزوجها بغير استبراء، لأنه لو باعها لم تحل للمشتري بغير استبراء، والصحيح أنها لا تحل له لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين فكذلك بالنكاح كالتي كان يصيبها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها ولم يقل أنه كان قد اصابها، والحديث الآخر يدل على حلها له بظاهره لدخولها في العموم ولأنها تحل لمن يتزوجها سواه فله أولى ولأنه لو استبرأها ثم أعتقها ثم تزوجها في الحال كان جائزاً حسناً فكذلك هذه فإنه تارك لوطئها ولأن وجوب الاستبراء في حق غيره إنما كان لصيانة مائه عن الاختلاط بغيره ولا يوجد ذلك ههنا وكلام أحمد محمول على من استبرأها ثم تزوجها قبل استبرائها.
(فصل) إذا كانت له أمة يطؤها فاستبرأها ثم أعتقها لم يلزمها استبراء لأنها خرجت عن كونها فراشاً باستبرائها وإن باعها فأعتقها المشتري قبل وطئها لم تحتج إلى استبراء لذلك وإن باعها قبل استبرائها فأعقتها المشتري قبل وطئها واستبرائها فعليها استبراء نفسها فإن مضى بعض الاستبراء في ملك المشتري لزمها إتمامه بعد عتقها ولا ينقطع بانتقال الملك فيها لأنها لم تصر فراشاً للمشتري ولم يلزمها استبراء بإعتاقه (مسألة) (وإن اشترك رجلان في وطئ أمة لزمها استبراءان) وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يلزمها استبراء واحد لأن القصد معرفة براءة الرحم ولذلك لا يجب استبراء بأكثر من حيضة واحدة وبراءة الرحم تعلم باستبراء واحد ولنا أنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالعدتين ولأنهما استبراءان من رجلين فأشبها العدتين وما ذكروه يبطل بالعدتين من رجلين (فصل) قال شيخنا رحمه الله (والاستبراء يحصل بوضع الحمل إن كانت حاملاً)(9/187)
ولا خلاف في ذلك بحمد الله لقول الله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع حملها " ولأن عدة الحرة والأمة والمتوفى عنها والمطلقة واستبراء كل أمة إذا كانت حاملاً بوضع حملها ولأن المقصود من العدة والاستبراء معرفة براءة الرحم من
الوضع وهذا يحصل بوضعه ومتى كانت حاملاً بأكثر من واحد فلا ينقضي استبراؤها حتى تضع آخر حملها على ما ذكرناه في المعتدة (مسألة) (أو بحيضة إن كانت ممن تحيض) وقد اختلف أهل العلم في أم الولد مات عنها سيدها ولم تكن حاملاً فالمشهور عن أحمد أن استبراءها يحصل بحيضة روى ذلك عن ابن عمر وعثمان وعائشة والحسن والشعبي والقاسم بن محمد وأبي قلابة ومالك والشافعي وأبي ثور وروى عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن ابن عبد العزيز والزهري والاوزاعي واسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عتدها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أبو داود ولأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشر كالزوجة الحرة.
وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة أنها تعتد شهرين وخمسة أيام.
قال شيخنا ولم أجد هذه الرواية عن أحمد في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد وروي ذلك عن عطاء وطاوس وقتادة لأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة أمه كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد موته ويروى عن علي وابن مسعود وعطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي إن عدتها ثلاث حيض لانها حرة تستبرئ فكان استبراؤها ثلاث حيض كالحرة المطلقة ولنا أنه استبراء لزوال الملك عن الرقبة فكان حيضة في حق من تحيض كسائر استبراء المعتقات والمملوكات ولأنه استبراء الغير لزوجات والموطوءات فأشبه ما ذكرنا قال القاسم بن محمد سبحان الله يقول الله تعالى في كتابه (والذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا) ما هن بأزواج وأما حديث عمرو بن(9/188)
العاص فضعيف قال إبن المنذر ضعف احمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص وقال محمد بن موسى سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال لا يصح وقال الميموني رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال أين سنة النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في هذا؟ وقال أربعة شهر وعشر
إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه امة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال تعتد بثلاث حيض وجه وإنما تعتد بذلك المطلقة وليست هذه مطلقة ولا في معنى المطلقة وأما قياسهم إياها على الزوجات فلا يصح فإنها ليست زوجة ولا في حكم لزوجة ولا مطقة ولا في حكم المطلقة (فصل) ولا يكفي في الاستبراء طهر ولا بعض حيضة وهو قول أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب مالك متى طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها وزعم أنه مذهب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه يكفي طهر واحد إذا كان كاملاً وهو أن يموت في حيضها فإذا رأت الدم من الحيضة الثانية وتم استبراؤها وهكذا الخلاف في الاستبراء كله وبنوا هذا على أن القروء الأطهار وهذا يرده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " وقال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر " من كان يؤمر بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة " رواه الأثرم وهذا صريح فلا يعول على ما خالفه ولأن الواجب الذي يدل على البراءة هو الحيض لأن الحامل لا تحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الاستبراء على ما لا دلالة فيه عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم قولهم هذا على أن القروء الاطهار وبناء للخلاف على الخلاف وليس ذلك بحجة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذاك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءاً ولم يجعلوا الطهر الذي مات فيه سيد أم الولد قرءاً فخالفوا الحديث والمعنى فإن قالوا إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة قلنا فيكون الاعتماد حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءاً عند أحد إذا تقرر هذا فمات عنها وهي طاهر فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة حلت فإن كانت حائضاً لم تعتد ببقية ملك الحيضة ولكن متى طهرت من الحيضة الثانية حلت لان الاستبراء هذه بحيضة فلا بد من حيضية كاملة (مسألة) (أو يمضي شهر إن كانت آيسة أو صغيرة وعنه بثلاثة أشهر اختارها الخرقي) يروى عن أحمد رحمه الله في ذلك ثلاث روايات (أحدهما) ثلاثة أشهر وهو قول الحسن وابن سيرين والنخعي وأبي قلابة وأحد قولي الشافعي وسأل عمر بن العزيز أهل المدينة والقوابل فقالوا(9/189)
لا تستبرئ الحبلى في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه قولهم، والثانية أنها تستبرأ بشهر وهو قول
ثان للشافعي لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلقة فكذلك في الاستبراء وذكر القاضي رواية ثالثة أنها تستبرأ بشهرين كعدة الامة المطلقة قال شيخنا ولم ار لذلك وجهاً ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القرء بقرأين ولم نعلم به قائلاً وقال سعيد بن المسيب وعطاء والضحاك والحكم في الأمة التي لا تحيض تسبترأ بشهر ونصف ورواه حنبل عن أحمد أنه قال.
قال عطاء إن كانت لا تحيض فخمس وأربعون ليلة قال عمي كذلك اذهب لأن عدة الأمة المطلقة الآيسة كذلك والمشهور عن أحمد الأول قال أحمد بن القسم قلت لأبي عبد الله كيف جعلت ثلاثة اشهر مكان حيضة وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهراً؟ فقال إنما قلنا أشهر من أجل الحمل فإنه لا يبين في أقل من ذلك فإن عمر بن العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال إلا تسمع قول ابن مسعود إن النطفة أربعين يوما ثم علقه أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك قال أبو عبد الله فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فتبين حينئذ وقال لي هذا معروف عند النساء فاما شهر فلا معنى فيه ولا نعلم به قائلاً ووجه استبرائها بشهر أن الله تعالى جعل الشهر مكان الحيضة وكذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة اشهر مكان ثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان قرأين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فيجب ان يكون مكان الحيضة ههنا شهراً كما في حق من ارتفع حيضها فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تسعة أشهر قلنا وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا (مسألة) (ومن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة) وفي هذه المسألة روايتان: (إحداهما) أنها تستبرأ بعشرة أشهر (والثانية) بسنة، تسعة أشهر للحمل لأنه غالب عادات النساء في الحمل، وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات وقد ذكرنا أن المختار عند أحمد في الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر واختار ههنا أن جعل مكان(9/190)
الحيضة شهراً لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لنعلم براءتها من الحمل وقد علمت براءتها منه ههنا بمضي
غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس، فأما إن علمت ما رفع حيضها من مرض أو غيره فإنها لا تزال في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرئ نفسها بحيضة إلا أن تصير آيسة فتستبرئ نفسها استبراء الآيسات فإن ارتابت بنفسها فهي كالحرة المستبرئة وقد ذكرنا حكمها في العدد والله سبحانه وتعالى أعلم كتاب الرضاع الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات وأما السنة فما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " متفق عليه وفي لفظ " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رواه النسائي وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة " لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة " متفق عليه في أخبار كثيرة نذكر أكثرها في تضاعيف الباب إن شاء الله تعالى وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع إذا ثبت ذلك فإن تحريم الأم والاخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت بالبينة فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان(9/191)
بسبب مباح وأما بقية أحكام النسب من النفقة والإرث والعتق ورد الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما شبه به فيما نص عليه فيه (مسألة) (إذا حملت المرأة من رجل ثبت نسب ولدها منه فثاب لها لبن فارضعت به طفلاً صار ولداً لهما في تحريم النكاح وإباحة النظر والخلوة وثبوت المحرمية وأولاده وإن سلفوا أولاد أولادهما وصار أبويه وآباؤهما أجداده وجداته وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته وتنتشر حرمة الرضاع من المرتضع إلى أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا فيصيرون أولاداً لهما) وجملة ذلك أن المرأة إذا حملت من رجل يثبت نسب ولدها منه وثاب لها منه لبن فارضعت به طفلاً رضاعاً محرماً صار الطفل المرضع ابناً للمرضعة بغير خلاف وصار أيضاً ابناً لمن نسب الحمل إليه فصار في التحريم وإباحة النظر والخلوة ولداً لهما وأولاده من البنين والبنات وأولاد أولادهما وإن نزلت
درجتهم وجميع أولاد المرأة المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي نسب الحمل إليه من المرضعة وغيرها إخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادهما أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم وأم المرضعة جدته وأبوها جده وإخوتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده وأمه جدته واخوته أعمامه وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينسبون إلى المرتضع كما ينسبون إلى ولدهما من النسب لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم أليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وإلى(9/192)
أقاربه وهو الذي يسمى لبن الفحل وفي التحريم به اختلاف ذكر في باب المحرمات في النكاح، والحجة فيه ما روت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب فقلت والله لا آذن له حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني المرأة فقال " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك " قال عروة فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول " حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب " متفق عليه وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاماً هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال لا اللقاح واحد.
قال مالك اختلف قديماً في الرضاعة من قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك فاختلف عليهم ففارقوا زوجاتهم، فأما الولد المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا (مسألة) (ولا ينتشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته ولا من هو أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على أبيه من الرضاع ولا أخيه فيجوز للمرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع وأخيه وعمه وخاله، ولا يحرم على زوج المرضعة نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته، ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها إخوة الطفل المرتضع وأخواته)(9/193)
قال أحمد لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما الرضاع بين الجارية وأخيه
(مسألة) (وإن أرضعت بلبن ولدها من الزنا طفلاً صار ولداً لها وحرم على الزاني تحريم المصاهرة ولم تثبت حرمة الرضاع في حقه في قول الخرقي وقال أبو بكر تثبت) قال أبو الخطاب وكذلك الولد المنفي باللعان الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح أن من شرط ثبوت الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينسب إلى الواطئ كالوطئ في نكاح أو وطئ يملك يمين أو شبهة، فأما لبن الزاني والولد المنفي باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما في مفهوم كلام الخرقي وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز ينشر الحرمة بينهما لأنه معنى ينشر الحرمة فاستوى فيه مباحة ومحظورة كالوطئ، يحققه ان الوطئ حصل منه لبن وولد ثم إن الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ كذلك اللبن، ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فينشرها إلى الواطئ كصورة الإجماع، ووجه القول الأول أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها، ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف مسئلته، ويفارق تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوا النسب ولهذا تحرم أم زوجته وابنتها من غير نسب وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه الصلاة السلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "(9/194)
وقال أبو الخطاب في الولد المنفي باللعان انه في تحريم الرضاع على الملاعن كتحريم ولد الزنا على الزاني، قال شيخنا ويحتمل أن لا يثبت حكم الرضاع في حق الملاعن بحال لأنه ليس بولده حقيقة ولا حكماً، فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك يحرم جميع أولادها واقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاعة باللبن المباح، وإن كان المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضاً لانها ريبته فإنها بنت امرأته من الرضاع وتحرم على الزاني عند من برى تحريم المصاهرة وكذلك تحريم بناتها وبنات المرضع من العلماء كذلك (مسألة) (وإن وطئ رجلان امرأة بشبهة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلاً صار ابناً لمن يثبت نسب المولود منه سواء ثبت بالقافة أو بغيرها) لأن تحريم الرضاع فرع على ثبوت النسب وإن ألحق بهما كان المرتضع ابناً لهما لأن المرتضع في
كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وإن لم يلحق بواحد منهما ثبت التحريم بالرضاع في حقهما وإذا لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو لاشتباهه عليهم أو نحو ذلك حرم عليهما تغليباً للحظر فإنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون ابن أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب(9/195)
الآخر فقد اختلطت اخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته بعينها ثم اختطلت بأجنبيات، وإن انتفى عنهما جميعاً بأن تأتي به لدون ستة أشهر من وطئهما أو لأكثر من أربع سنين من وطئ الآخر انتفى المرتضع عنهما ايضاً، فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة وتحرم أولادهما عليهما أيضاً لأنها ابنة موطوءتهما فهي ابنة لهما (مسألة) (وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم لم ينشر الحرمة نص عليه في لبن البكر وعنه ينشرها ذكرها ابن أبي موسى) قال شيخنا والظاهر أنه قول ابن حامد ومذهب مالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطئ ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال وإن كان هذا نادراً فجنسه معتاد (والرواية الثانية) لا ينشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال والأول أصح (مسألة) (ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة فلو ارتضع طفلان من رجل أو بهيمة أو خنثى مشكل لم ينشر الحرمة وقال ابن حامد يوقف أمر الخنثى حتى يتبين أمره) وجملة ذلك أن ابنين لو ارتضعا من بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي(9/196)
وابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأي وكذلك لو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين ولم تنشر الحرمة بينه وبينهما في قول علمتهم وقال الكرابيسي يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي اشبه لبن المرأة، وحكي عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا أخوين وليس ذلك صحيحاً لأن هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الأخوة لأن الأخوة فرع على الأمومة، وكذلك لا يتعلق به تحريم
الأبوة ولأن هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود الآدمي فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام، فإن ثاب لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك، وقال ابن حامد يقف الأمر حتى ينكشف أمر الخنثى، فعلى هذا يثبت التحريم إلى أن يتقين كونه رجلاً لأنه لا يأمن كونه محرماً (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ولا تثبت الحرمة بالرضاع إلا بشرطين) (أحدهما) أن يرتضع في الحولين فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت هذا قول أكثر أهل العلم روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ورواية عن مالك، وروي عنه إن زاد شهراً جاز، وروي شهران وقال أبو حنيفة: يحرم الرضاع في ثلاثين شهراً لقوله سبحانه (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال، وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة رضي الله عنها(9/197)
ترى رضاعة الكبير تحرم ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالماً ولداً فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلاً وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أرضيعه " فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ: تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً، وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس رواه النسائي وأبو داود وغيرهما ولنا قول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فجعل تمام الرضاعة حولين كاملين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أنه أخي من الرضاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " متفق عليه وعن أم سلمة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب والسنة وقول الصحابة(9/198)
فقد روينا عن ابن عباس أن المراد بالحمل البطن وبه استدل على أن أقل الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قول الله تعالى (وفصاله في عامين) فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفاً لهذه الآية: إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما حصل التحريم ولو لم يفطم حتى يجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم، وقال ابن القاسم صاحب مالك لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم يحرم لقوله عليه الصلاة والسلام " وكان قبل الفطام " ولنا قوله سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) وروي عنه عليه الصلاة والسلام " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه (مسألة) (فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم يثبت التحريم وقال أبو الخطاب إذا ارتضع بعد الحولين بساعة لم يحرم وقال القاضي لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم) ولا يصح هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا ينبغي أن يسقط حكمه باتصال ما لا أثر له به (الثاني) (أن يرتضع خمس رضعات وعنه ثلاث يحرمن وعنه واحدة) الصحيح من المذهب أن الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعداً روي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير وعطاء وطاوس وهو قول الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع يحرم كما يحرم كثيره وروي ذلك عن(9/199)
علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والاوزاعي والثوري والليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر به الصائم، واحتجوا بقول الله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
وأخواتكم من الرضاعة) وقوله عليه الصلاة والسلام " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ " متفق عليه ولأنه فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول (والرواية الثالثة) لا يحرم إلا ثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وداود وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحرم المصة ولا المصتان " وعن أم الفضل بنت الحارث قالت قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم إلا ملاجة ولا الا ملاجتان " رواهما مسلم ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث، وروي عن حفصة لا يحرم دون عشر رضعات وروي ذلك عن عائشة لأن عروة روي في حديث سهلة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " أرضعيه عشر رضعات فيحرم بلبنها " ولنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر(9/200)
على ذلك رواه مسلم، وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل " أرضعي سالماً خمس رضعات " فتحرم بلبنها ولأنها فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فيجمع بين الأخبار بحملها على الصريح الذي رويناه (مسألة) (ومتى أخذ الثدي فامتص منه ثم تركه أو قطع فهي رضعة فإن عاد فأخذه فهي رضعة أخرى بعد ما بينهما أو قرب) يشترط أن تكون الرضعات متفرقات، وبه قال الشافعي والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد به مطلقاً ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعا بينا باختياره كان ذلك رضعة فإذا عاد كانت رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي أو لشئ يلهيه أو قطعت عليه المرضعة فإن لم يعد قريباً فهي رضعة فإن عاد في الحال ففيه وجهان (أحدهما) أن الأول رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد
في رواية حنبل فإنه قال أما ترى الصبي يرضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس ويستريح؟ فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره(9/201)
(والوجه الآخر) ان جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمناً أو قطع لشرب ماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا ههنا والأولى أولى لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا، وقال ابن حامد إن قطع لعارض وعاد في الحال فهي رضعة وإن تباعدوا وانتقل من امرأة إلى أخرى فهما رضعتان كما ذكرنا في الأكل (مسألة) (والسعوط والوجور كالرضاع في إحدى الروايتين) السعوط أن يصيب في أنفه اللبن من إناء أو غيره فيدخل والوجور أن يصيب في حلقه من غير الثدي) واختلفت الرواية في التحريم بها فأصبح الروايتين أن التحريم يثبت بهما كما يثبت بالرضاع، وهو قول الشعبي والثوري وأصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور (والثانية) لا يثبت التحريم بهما وهو اختيار أبي بكر ومذهب داود وعطاء الخراساني في السعوط لأن هذا ليس برضعا وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع فأشبه مال وحصل من جرح في بدنه ولنا ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه أبو داود ولأن هذا يصل إليه اللبن كما يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل بالرضاع فيجب أن يساويه في التحريم والأنف سبيل لفطر الصائم فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم(9/202)
(فصل) وإنما يحرم من ذلك كالذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه فرع على الرضاع فيأخذ حكمه فإن ارتضع دون الخمس وكمل الخمس بسعوط ووجور أو أسعط وأوجر وكمل الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في إكمال العدد ولو حلب
في إناء لبناً دفعة واحدة ثم سقى الغلام في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من طعام خمس دفعات متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات وإن حلب في إناء خمس حلبات في خمسة أوقات ثم سقي دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحد في خمسة أوقات ثم أكله دفعة واحدة كان أكلة واحدة، وحكي عن الشافعي في الصورتين عكس ما قلناه اعتباراً بخروجه من المرأة لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه ولنا أن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا يثبت التحريم به من غير رضاع، ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه إلا دفعة واحدة فكان رضعة واحدة وإن سقاه في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان خمس رضعات فأما إن سقاه اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة، فظاهر قول الخرقي أنه رضعة واحدة لأن المعتبر في الرضعة العرف وهم لا يعدون هذا رضعات فأشبه ما لو أكل الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات ويحتمل أن يخرج على ما إذا قطعت عليه المرضعة الرضاع على ما قدمناه(9/203)
(فصل) فإن عمل اللبن جبناً ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحرم به لزوال الإسم، وكذلك على الرواية التي نقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت ههنا بطريق الأولى.
ولنا أنه واصل من الحلق يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحصل به التحريم كما لو شربه (مسألة) (ويحرم لبن الميتة واللبن المشوب ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يثبت التحريم بهما) المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي في لبن الميتة أنه ينشر الحرمة، وهو اختيار أبي بكر وقول أبي ثور والاوزاعي وابن القاسم وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال أبو بكر الخلال لا ينشر الحرمة وتوقف عنه أحمد في رواية مهنا، وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس هو بمحل للولادة فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل ولنا أنه وجد الرضاع على وجه يثبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كحال الحياة
ولانه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها إلا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر له فإن اللبن لا يموت والنجاسة لا تؤثر كما لو حلب في إناء نجس ولأنه لو حلب منها في حياتها فشربه به بعد موتها لنشر الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الاتاء في عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة(9/204)
(فصل) ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور محرماً، وبه قال أبو ثور والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه لبن امرأة حلب في حياتها فأشبه ما لو شربه وهي في الحياة.
(مسألة) (ويحرم اللبن المشوب) ذكره الخرقي والمشوب المختلط بغيره وسواء اختلط بطعام أو شراب أو غيره في قول الخرقي وبه قال الشافعي وقال أبو بكر قياس قوله أحمد أنه لا يحرم لأنه وجور وقال ابن حامد إن غلب اللبن حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور والمزني لأن الحكم للأغلب ولأنه يزول بذلك الإسم والمعنى، ونحوه قول أصحاب الرأي وزادوا فقالوا إن كانت النار مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع ووجه الأول أن اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحرم كما لو كان غالباً وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية فأما إن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم لأن هذا ليس بمشوب ولا يحصل به التغذي ولا إنبات اللحم وإنشاز العظم، وحكي عن القاضي أن التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطته أشبه ما لو كان لونه ظاهراً ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب أن لا يثبت حكمه فيه (فصل) فإن حلب من نسوة وسقي الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب(9/205)
بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعاً محرماً فكذلك إذا شيب بلبن آخر (مسألة) (والحقنة لا تنشر الحرمة نص عليه وقال ابن حامد ينشرها) المنصوص عن أحمد أن الحقنة لا تحرم قاله أبو الخطاب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وقال ابن حامد
وابن أبي موسى يحرم وهو من مذهب الشافي لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع ولنا أن هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله ولأنه ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه إثبات اللحم ولا إنشاز العظم وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا تزوج كبيرة لم يدخل بها وثلاث صغائر فأرضعت الكبيرة إحداهن في الحولين حرمت الكبيرة على التأبيد وثبت نكاح الصغيرة وعنه ينفسخ نكاحهما) ، إذا تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح الكبيرة في الحال وحرمت على التأبيد وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي نكاح الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة ولا يصح ذلك فإن الكبيرة صارت من أمهات النساء فتحرم أبداً(9/206)
لقول الله (وأمهات نسائكم) ولم يشترط دخوله بها فأما الصغيرة ففيها روايتان (إحداهما) نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم يدخل بأمها فلا تحرم لقول الله (فإن لم تكونوا دخلتهم بهن فلا جناح عليكم) (والرواية الثانية) ينفسخ نكاحها، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنهما صارتا إماء وبنتاً واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقداً واحداً ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية ولأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختص الفسخ بنكاح الأم كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى بالفسخ من الأخرى وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء (مسألة) (وإن أرضعت اثنتين منفردتين انفسخ نكاحهما على الرواية الأولى وعلى الثانية ينفسخ
نكاح الأولى ويثبت نكاح الثانية) أما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو(9/207)
أرضعتها معاً، وهذا على الرواية الأولى التي تقول ينفسخ نكاح الكبيرة وحدها فأما على الرواية التي تقول ينفسخ نكاحهما معاً فإنه يثبت نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الصغيرة أولا انفسخ نكاحها ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معهما في النكاح فلم ينفسخ نكاحها (فصل) إذا أرضعت الصغيرة أجنبية انفسخ نكاحهما أيضاً، وهذا قول أبي حنيفة والمزني وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ينفسخ نكاح الأخيرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو الجمع فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى ولنا أنه جمع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معاً وفارق ما لو عقد على واحدة بعد أخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصير به جامعاً بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا يمكن القول بأنه لم يصح فحصلتا معاً في نكاحه وهما أختان لا محالة (مسألة) (وإن أرضعت الثلاث متفرقات انفسخ نكاح الأولتين وثبت نكاح الثالثة على الرواية الأولى وعلى الثانية ينفسخ نكاح الجميع لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الثالثة لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الكبيرة والصغيرتين اللتين قبلها فلم يصادف اخوتها جمعاً في النكاح) (مسألة) (وأن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعدها معاً بأن تلقم كل واحدة منهما ثدياً فيمتصان معاً أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما معاً انفسخ نكاح الجميع لأنهن صرن أخوات في نكاحه)(9/208)
لأنها إذا أرضعت إحداهن منفردة لم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة ثم إذا أرضعت اثنتين بعد ذلك مجتمعات انفسخ نكاح الجميع لأنهن أخوات في النكاح، هذا على الرواية الأولى، وعلى الثانية ينفسخ نكاح الأم والأولى بالاجتماع ثم ينفسخ نكاح الأثنتين لكونهما صارتا أختين معاً.
(مسألة) (وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر)
لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وإن كان دخل بالأم حرم الكل عليه على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن.
(مسألة) (وكل امرأة تحرم ابنتها عليه كأمه وأخته وجدته وربيبته إذا أرضعت طفلة حرمتها عليه) لأنها تصير ابنتها وكل رجل تحرم ابنته كأخيه وابنه وأبيه إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عليه وفسخت نكاحها لأنها صارت ابنة من تحرم ابنته عليه، وإن أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن غيره لم تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها، وإن أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها عليه، ولو تزوج بنت عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيراً انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار عم زوجته وإن ارضعت الزوجة صارت عمته وإن أرضعتهما جميعاً صار عمها وصارت عمته.
وإن تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيراً انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار خالها وإن أرضعت الزوجة صارت عمته.
وإن تزوج بنت خاله فأرضعت جدتهما الزوج صار عم زوجته(9/209)
وإن أرضعتها صارت خالته، وإن تزوج ابنة خالته فأرضعت الزوج صار خال زوجته وإن أرضعتها صارت خالة زوجها (فصل) وكل من أفسد نكاح امرأة برضاع قبل الدخول فإن الزوج يرجع عليه نصف مهرها الذي يلزمه لها لأنه قرره عليه بعد أن كان بعرض السقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود الطلاق إذا رجعوا وإنما لزمه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها والفسخ إذا جاء من أجنبي كان كطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه (مسألة) (وإن أفسدت نكاحها قبل الدخول فلا مهر لها لأن فسخ نكاحها بسبب من وجهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا، فعلى هذا إذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاح الصغرى فعلى الزوج نصف مهر الصغرى يرجع به على الكبرى لما ذكرنا، وبهذا قال الشافعي وحكي عن بعض أصحابه أنه يرجع بجميع صداقها لأنها اتلفت البضع فوجب ضمانه، وقال أصحاب الرأي إن كانت المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق وإلا فلا يرجع بشئ وقال مالك لا يرجع بشئ
ولنا على أنه يرجع عليها بالنصف انها قررته عليه وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع.(9/210)
ولنا على أبي حنيفة إن ما ضمن في العدة ضمن في الخطأ كالمال ولأنها أفسدت نكاحه وقررت عليه نصف الصداق فأشبه ما لو قصدت الإفساد.
ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف أنه لم يغرم إلا النصف فلم يجب لم أكثر مما غرم ولأنه بالفسخ رجع اليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى، ولأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما ضمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضاً للسقوط بسبب يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا أكثر مما ألزمته.
(فصل) والواجب نصف المسمى لا نصف مهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بارضاعه فانها لا نغرم له شيئا انما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره ولأنه لو رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بالنصف ولأن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لزمهم نصف المسمى كذلك ههنا.
(مسألة) وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها ويجب على زوجها وإن أفسده(9/211)
غيرها وجب مهرها ولم يرجع به على أحد ونص أحمد على أنه يرجع بالمهر كله) قال القاضي وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فيرجع بما لزمه كنصف المهر في غير المدخول بها، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أنه لا يرجع على من أفسده بعد الدخول بشئ لأنه لم يقرر على الزوج شيئاً ولم يلزمه إياه فلم يرجع عليه بشئ كما لو أفسدت المرأة نكاح نفسها ولأنه
لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كما قبل الدخول ولأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى وكذلك لا يجب مهر المثل وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه وكذلك يسقط إذا كانت هي المفسدة لنكاحها قبل الدخول ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ولأنه لو رجع بالمهر بعد الدخول لم يخل إما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه: لا يجوز أن يكون ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان الواجب لها مهر مثلها ولا يجوز أن يجب لها بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا لها أثر في إيجابه ولا تقريره (مسألة) (وإن أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول لم يسقط مهرها)(9/212)
قال شيخنا لا نعلم بينهم خلافاً في ذلك وإن الزوج لا يرجع عليها بشئ إذا كان أداه إليها ولا في أنها إذا أفسدته قبل الدخول أنه يسقط وأنه يرجع عليها بما أعطاها (مسألة) (فإذا أرضعت امرأته الكبرى الصغرى فانفسخ نكاحها فعليه نصف مهر الصغرى يرجع به على الكبرى) ولا مهر للكبرى إن كان قبل الدخول لأنها أفسدت نكاح نفسها وقد ذكرنا وجه ذلك إن كان المفسدة غيرهما (مسألة) (فلو دبت الصغرى إلى الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات انفسخ نكاح الكبيرة وحرمت على التأبيد، فإن كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة) لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا ولا يرجع به على ما اخترناه وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه نصف صداقها يرجع به في مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها، وإن ارتضعت الصغيرة منها رضعتين وهي نائمة ثم أنتهبت الكبيرة فأنمت لها ثلاث رضعات فقد حصل الفساد بفعليهما فينقسط الواجب عليهما وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة ويرجع به على الكبيرة وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ على روايتين(9/213)
(فصل) وإن أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها الكبيرة لأنها صارت جدتها والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح، وإن ارضعتها أم الكبيرة انفسخ نكاحهما معاً لأنهما صارتا أختين، فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن ينكح من شاء منهما ويرجع على المرضعة بنصف صداقها وإن كان دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة عليها وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها وكذلك الحكم إن أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم، وكذلك إن أرضعتها أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك إن أرضعتها أختها أو بنت أختها ولا يحرم في شئ من هذا واحدة منهن على التأبيد لانه تحريم جمع إلا إذا ارضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها (مسألة) (وإذا كان لرجل خمس أمهات أولاد لهن منه لبن فأرضعن امرأة الصغرى كل واحدة منهن رضعة حرمت عليه في أحد الوجهين) لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعها من لبنه فصار أبا لها كما لو أرضعتها واحدة منهن والوجه الثاني لا يصير أباً لها لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم يثبت به الابوة كلبن البهيمة ولا تحرم أمهات الأولاد لأنه لم يثبت لهن أمومة (فصل) فإن أرضعن طفلاً كذلك لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له وهذا قول ابن حامد لأنه(9/214)
ارتضع من لبنه خمس رضعات، وفيه وجه آخر لا نثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت إلا مرمة فلم يثبت الأبوة كالارتضاع بلبن الرجل، والأول أصح لأن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه لا لكون المرضعة أماً له، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه.
(فصل) وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلاً كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له وهل يصير الرجل جداً له وأولاده أخوالاً له وخالات؟ على وجهين: (أحدهما) يصير جداً وأخوهن خالاً لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته فأشبه ما لو كان
من واحدة (والآخر) لا يثبت ذلك لأن كونه جداً فرع كون ابنته أماً وكونه خالاً فرع كون أخته أماً ولم يثبت فلا يثبت ذلك الفرع، وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية متحققة بخلاف التي قبلها.
فإن قلنا يصير أخوهن خالاً لم تثبت الخؤولة في حق واحدة منهن لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من بنت المحرم خمس رضعات، ولو كمل للطفل خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجة أبيه من كل واحدة رضعة خرج على الوجهين (فصل) إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت به طفلاً ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت آخر فصار(9/215)
لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت أماً له بغير خلاف علمناه عند القائلين بأن الخمس محرمات ولم يصيروا حد من الزوجين أباً له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما (مسألة) (ولو كان له ثلاث نسوة لهن لبن منه فأرضعن امرأة له صغرى كل واحدة رضعتين لم تحرم المرضعات) لأنه لم تكمل عدد الرضعات لكل واحدة منهن وهل تحرم الصغرى؟ على وجهين أصحهما تحرم لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات وعليه نصف مهرها يرجع به عليهن على قدر رضاعهن يقسم بينهن أخماساً لأن الرضعات الخمس محرمة وقد وجد من الأولى رضعتان ومن الثانية رضعتان والخامسة وجدت من الثانية فيجب على الأولى خمس مهرها وعلى الثانية خمس وعلى الثالثة عشر (مسألة) (فإن كل لرجل ثلاث بنات امرأة لهن لبن فأرضعن ثلاث نسوة له صغار حرمت الكبيرة) لأنها من جدات النساء وجدة الزوجة محرمة ولم ينفسخ نكاح الصغار لأنهن لسن أخوات وإنما هن بنات خالات ولبن الربيبة لا يحرم إلا بالدخول بالأم وإن كان دخل بالأم حرم الاصغار أيضاً لأنهن ربائب مدخول بأمهن وإن لم يكن دخل بها فهل ينفسخ نكاح من كمل رضاعها أولا؟ على روايتين بناء على ما إذا أرضعت زوجته الكبرى زوجته الصغرى فإن الكبرى تحرم وهل ينفسخ نكاح الصغرى؟ على روايتين ذكرنا توجيههما فيما مضى(9/216)
(مسألة) (وإن أرضعن واحدة كل واحدة منهن رضعتين فهل تحرم الكبرى بذلك؟ على وجهين) (أحدهما) تحرم لأنها صارت جدة بكون الصغيرة قد كمل لها خمس رضعات من لبن بناتها (والثاني) لا تصير جدة ولا ينفسخ نكاحها لأن كونها جدة فرع على كون ابنتها أماً ولم تثبت الأموة فما هو فرع عليها أولى أن لا يثبت وهذا أولى والله أعلم (فصل) إذا تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتاً له وإن أرضعتها بلبن غيره صارت ربيبته فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم لأنها ربيبة لم يدخل بأمها وإن تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعت امرأة له حرمت المرضعة على التأبيد لأنها من أمهات نسائه وإن تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة وانفسخ نكاحها فإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها وتحرم هي والصغيرة على التأبيد وإن طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن دخل بالكبيرة ثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع على الكبيرة بنصف صداقها وإن طلقهما جميعاً فالحكم في التحريم على ما مضى (فصل) ولو تزوج رجل كبيرة وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم(9/217)
أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة عليهما وانفسخ نكاحها وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة حرمت عليه وانفسخ نكاحها وإلا فلا (فصل) قال الشيخ رحمه الله إذا طلق امرأته ولها منه لبن فتزوجت بصبي فأرضعته بلبنه انفسخ نكاحها منه لأنها صارت أمه من الرضاع وحرمت عليه لأنها صارت أمه من الرضاع وإن تزوجت بآخره دخل بها ومات عنها لم يجز أن يتزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به (مسألة) (ولو تزوجت الصبي أولاً ثم فسخت نكاحه لعيب ثم تزوجت كبيراً فصار لها منه لبن فأرضعت به الصبي حرمت عليهما على الأبد على الزوج الثاني لأنها صارت من حلائل أبنائه وعلى الصبي لأنها صارت أمه (فصل) ولو زوج رجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ نكاحه
وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حراً لم يتصور هذا الفرع عندنا لأنه لا يصح نكاحه لأن من شرط نكاح الحر للأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل فإن تزوج بها كان النكاح فاسداً وإن أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة (فصل) قال الشيخ رحمه الله فإن أفسد النكاح جماعة يسقط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة صغيرة من لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة شربتين وأخرى ثلاثاً فعلى الأولى الخمس وعلى الثانية خمس وعشر وإن اسقاها واحدة شربتين وسقاها(9/218)
ثلاث ثلاث شربات فعلى الأولى الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر وإن كان له ثلاث نسوة كبار وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في إناء وسقينه الصغيرة حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى الروايتين وعليه لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها وفعلهما فسقط ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان صداقهن متساوياً سقط ولم يجب شئ لأنه يتقاص ما لها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في أن يجب لها عليه ما يرجع به عليها وإن كان مختلفاً وهو من جنس واحد تقاص منه بقدر أقلهما ووجبت الفضلة لصاحبها وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا وإن كان قد دخل بإحدى الكبار حرمت الصغيرة أيضاً وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن أثلاثاً وللتي دخل بها المهر كاملاً وفي الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف.
وإن حلبن في إناء فسقته إحداهن الصغيرة خمس مرات كان صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت نكاحهن ويسقط مهرها إن لم يكن(9/219)
دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها لا يرجع به على أحد وإن كانت كل واحدة من الكبار أرضعت الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل بهن فلا مهر لهن عليه وإن كان دخل بهن فعليه لكل واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى لأنها
التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها ولو أرضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين صارت بنتاً لزوجها في الصحيح وينفسخ نكاحها وترجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأولتين أربعة أخماسه وعلى الثالثة خمسة لأن رضعتها الأولى هي التي حصل بها التحريم والثانية لا أثر لها ولا ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها.
فإن قيل فلم لا ترجع به عليهن على عددهن لكون الرضاع مفسداً فيستوي قليله وكثيره كما لو طرح الجماعة نجاسة في مائع في حالة واحدة؟ قلنا لأن التحريم يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقاً بالعدد بخلاف النجاسة فان النتجيس لا يتعلق بقدر فيستوي قليله وكثيره لكون الكثير والقليل سواء في الإفساد فنظير ذلك أن يشرب في الرضعة من إحداهما أكثر ما يشرب من الأخرى (فصل) وإن كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها كان ما لزمه من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها وإن أرضعتها أم ولده أفسدت نكاحها وحرمتها(9/220)
عليها لأنها ربيبته دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه أبداً لأنها من أمهات نسائه ولا غرامة عليها لأنها أفسدت على سيدها وإن كانت مكاتبته رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وإن أرضعت أم امرأة ابنة بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته وإن أرضعت زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه باقل الأمرين مما غرمه لزوجتها أو قيمتها لأن ذلك من جناية أم ولده.
وإن أرضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده (فصل) قال رضي الله عنه إذا شك في الرضاع أو عدده بني على اليقين فلم يحرم لأن الأصل عدم الرضاع في مسألة الأولى وعدم وجود الرضاع المحرم في الثانية فهو كما لو شك في وجود الطلاق أو عدده (مسألة) (وإن شهدت به امرأة مرضية ثبت بشهادتها وعنه أنها إن كانت مرضية استحلفت فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها وذهب فيه إلى قول ابن عباس) وجملة ذلك أن الرضاع إذا شهدت به امرأة مرضعة حرم النكاح وثبت الرضاع بشهادتها وعنه رواية أخرى كالتي ذكرناها عن ابن عباس فإن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلاً
وأهله قال إن كانت مرضية استحلفت وفارق أهله وقال إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها أي يصيها فيهما برص عقوبة على كذبها وهذا لا يقتضيه القياس ولا يهتدى اليه رأي فالظاهر أنه لا يقوله إلا توقيفاً وممن ذهب إلى أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية طاوس(9/221)
والزهري والاوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز، وعن أحمد رواية أخرى لا تقبل إلا شهادة امرأتين، وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا تقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى وقال عطاء والشافعي لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل، وقال أصحاب الرأي لا يقبل فيه إلا رجلان أو رجل وامرأتان، وروي ذلك عن عمر لقول الله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " وكيف وقد زعمت ذلك " متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي قال فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة فقال " وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟ خل سبيلها " وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة، وقال الزهري فرق بين أهل ابيات في زمن عثمان بشهادة امرأة في الرضاع، وقال الشعبي كان القضاء يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولأن هذه شهادة على عورة فتقبل فيه شهادة المنفردات كالولادة وعلى الشافعي أنه معنى يقبل فيه قول(9/222)
النساء المنفردات فيقبل فيه امرأة منفردة كالخبر (فصل) وتقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا من حديث عقبة من أن الاما السوداء قالت قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شهادتها ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا يدفع عنها به ضرراً فقبلت شهادتها كفعل غيرها فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرماً له قلنا ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة الا ترى أن رجلين لو شهدا أن فلاناً طلق زوجته أو أعتق أمته قبلت شهادتهما وإن حل لهما نكاحها بذلك
(مسألة) (وإن تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول هي أختي من الرضاع انفسخ النكاح فإن صدقته فلا مهر لها وإن كذبته فلها نصف المهر وجملته أن التزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاع انفسخ نكاحه ويفرق بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله ذلك يتضمن أنه لم يكن بينهما نكاح ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا(9/223)
ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن أمته أخته من النسب وما قاسوا عليه ممنوع وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني ذلك على علمه بصدقه فإن علم أن الأمر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وإن علم كذب نفسه فالنكاح باق بحاله وقوله كذب لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وإن شك في ذلك لم يزل عن اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان، والصحيح ما قلناه لأن قوله ذلك إذا كان كذباً لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه هي ابنتي من الرضاعة إذا ثبت هذا فإنه إن كان قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شئ لها لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل من أصله لا تستحق فيه مهراً فأشبه ما لو ئبت ذلك ببينة وإن أكذبته فالقول قولها لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو يحرمها عليه وفسخ نكاحه ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر (فصل) وإن قال ذلك بعد الدخول انفسخ النكاح لما ذكرنا ولها المهر بكل حال لأن المهر يستقر بالدخول "(9/224)
(فصل) وإن قال هي عمتي أو خالتي أو ابنه أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه فالحكم فيه كما لو قال هي أختي، وإن لم يمكن صدقه مثل أن يقول لهن هي مثله هذه أمي أو لأكبر منه أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد تحرم عليه لأنه أقر بما يحرمها فقبل كما لو أمكن
ولنا أنه أقر بما يتحقق كذبه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما قال هذه حواء وما ذكروه تنتقض بهذه الصور، ويفارق ما إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في لاقرار بقرابة من النسب تحرمها عليه كالحكم في لاقرار بالرضاع لأنه في معناه (فصل) إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمة أو ابنته لم تقبل شهادتهما لان شهادة الولد لوالده والوالد لولده لا تقبل، وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت وعنه لا تقبل بناء على شهادة الوالد على ولده والد على والده وهي مقبولة في أصح الروايتين، وإن ادعت ذلك المرأة وأنكرها الزوج فشهدت لها أمها أو ابنتها لم تقبل وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته قبل في أصح الروايتين (مسألة) (وإن كانت هي التي قبلت هو أخي من الرضاع وأكذبها فهي زوجته في الحكم لأنه لا يقبل قولها في فسخ النكاح)(9/225)
لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه وإن كانت قد قبضته لم يكن المزوج أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها، وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه وطاوعته في الوطئ فلا مهر لها أيضاً لإقرارها بأنها زانية مطاوعة، وإن أنكرت شيئاً من ذلك فلها المهر لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها غير مقبول، فأما فيما بينها وبين الله تعالى فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما أمكنها لأن وطأه لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما قلنا في التي علمت أن زوجها طلقها ثلاثاً وأنكر وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب زائد عليه، وإن كان الأقل مهر المثل لم يستحق أكثر منه لاعترافها بأن استحقاقها له بوطئها لا بالعقد فلا تستحق أكثر منه، وان كان إقرارها بأخوته قبل النكاح لم يجز لها نكاحه ولا يقبل رجوعها عن إقرارها في ظاهر الحكم لأن إقرارها لم يصادف زوجية عليها يبطلها فقبل إقرارها على نفسه بتحريمه عليها، وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته من الرضاع أو محرمة عليه برضاع أو غيره وأمكن صدقه لم يحل له تزوجها فيما بعد ذلك في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني
على علمه بحقيقة الحال على ما ذكرنا (مسألة) (ولو قال الزوج هي ابنتي من الرضاع وهي في سنه أو أكبر منه لم تحرم) لتحققتا كذبه وقد ذكرناه.
(مسألة) (ولو تزوج رجل امرأة لها لبن من زوج قبله فحملت منه ولم يزد لبنها فهو للأول وإن(9/226)
زاد لبنها فأرضعت به طفلاً صار ابناً لهما وإن انقطع من الأول ثم ثاب بحملها من الثاني فكذلك عند أبي بكر وعند أبي الخطاب هو ابن الثاني وحده) وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال (أحدها) أن يبقى الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل لا نعلم فيه خلافاً لأن اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول (الثاني) أن لا تحمل من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع (الثالث) أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة، قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه وهو قول أبي حنيفة والشافعي سواء زاد أو لم يزد انقطع أو لم ينقطع، لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني فإن حا جة المولود تمنع كونه لغيره (الرابع) أن يكون لبن الأول باقياً وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما جميعاً في قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني، وقال الشافعي إن لم ينته الحمل إلى حال ينزل به اللبن فهو للأول وإن بلغ إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان (أحدهما) هو للأول والثاني هو لهما ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن الأول يقتضي كون أصله منه فيجب أن يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما (الحال الخامس) انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني فقال أبو بكر هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن وذلك لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل(9/227)
الثاني فكان مضافاً إليهما كما لو يقطع، واختار أبو الخطاب أنه من الثاني وهو القول الثاني للشافعي لان ليس الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن من الأول، وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث للشافعي لأن الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلفه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه وقد سبق الكلام عليه (فصل) وإذا ادعى أحد الزوجين على الآخر أنه أقر أنه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم يقبل في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الاقرار والافرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه (فصل) كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما: اللبن يشتبه فلا تستق من يهودية ولا نصرانية ولا زانية ولا يقل أهل الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن، ولان لبن مفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور ويجعلها أماً لولده فيتعير بها ويتضرر طبعاً وتعيراً والارتضاع من المشركة يجعلها أماً لها حرمة الأم مع شركها وربما مال إليها في محبة دينها، وبكره الارتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال إن الرضاء يغير الطباع(9/228)
(كتاب النفقات) (يجب على الرجال نفقة زوجته وما لا غناء لها عنه وكسوتها ومسكنها بما يصلح مثلها) نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه وتعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) ومعنى قدر ضيق وقال سبحانه (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) ، وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف " رواه مسلم ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال " ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا
إليهن في كسوتهن وطعامهن " وقال حديث حسن صحيح وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وفيه دلالة على وجوب النفقة لها على زوجها وأن ذلك مقدر بكفايتها(9/229)
وأن نفقة ولده عليه دونها مقدر بكفايتهم وأن ذلك بالمعروف وأن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه، واتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة وهو المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده، فمتى سلمت نفسها إلى الزوج على الوجه الواجب عليها فلها عليه جميع حاجتها من مأكول وملبوس ومسكن (مسألة) (وليس ذلك مقدراً لكنه معتبر بحال الزوجين جميعاً) .
هكذا ذكره أصحابنا فإن كانا موسرين فعليه لها نفقة الموسرين وإن كانا معسرين فعليه نفقة المتوسطين وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر، وقال أبو حنيفة ومالك تعتبر حال المرأة على قدر كفايتها لقول الله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمعروف الكفاية ولأنه سوى بين النفقة والكسوة على قدر حالها فكذلك الفقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فاعتبر كفايتها دون حال زوجها ولأن نفقتها واجبة لدفع حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من وجبت عليه كنفقة المماليك ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبراً بها كمهرها، وقال الشافعي الاعتبار بحال الزوج وحده لقول الله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)(9/230)
ولنا أن فيما ذكرناه جمعاً بين الدليلين وعملاً بكلا النصين ورعاية لكلا الجانبين فكان أولى (فصل) والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها، وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك وقال القاضي هي مقدرة بمقدار لا يختلف في الكثرة والقلة، والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتباراً بالكفارات، وإنما يختلفان في صفته وجودته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة، وقال الشافعي نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال سبحانه (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وعلى الموسر مدان، لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في فدية الأذى، وعلى المتوسط مد ونصف، نصف نفقة الفقير ونصف نفقة الموسر ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فأمرها باخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص ولأن الله تعالى قال (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وإيجاب قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو رطلي خبر إنفاق بالمعروف فيكون ذلك واجباً بالكتاب والسنة(9/231)
واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ولا هي مقدرة بالكفاية وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ولهذا لا يجب فيها الأدم (فصل) ولا يجب فيها الحب وقال الشافعي يجب فيها الحب اعتباراً بالإيجاب في الكفارة حتى لو دفع إليها دقيقاً أو سويقاً أو خبزاً لم يلزمها قبوله كما لا يلزم المسكين في الكفارة، وقال بعضهم يجئ على قول اصحابنا أنه لا يجوز وإن تراضيا عليه لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلاً ولنا قول ابن عباس في قول الله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال الخبز والزيت وعن ان عمر الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز والتمر وأفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم ففسر طعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم، ولأن الشرع ورد بالايجاب مطلقاً من غير تقدير ولا تقييد فوجب أن يرد إلى العرف كما في القبض والإحراز، وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الإنفاق على أهليهم
الخبز والأدم دون الحب والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إنما كانوا ينفقون ذلك دون ما ذكروه فكان ذلك هو الواجب ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية فكان الواجب الخبز كنفقة العبيد ولأن الحب تحتاج فيه إلى طحنه وخبزه فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته، وفارق الإطعام فإنها لا تتقدر بالكفاية ولا يجب فيها الأدم، فعلى هذا لو طلبت مكان الخبز حباً أو دراهم أو دقيقاً أو غير ذلك لم يلزمه بذله ولو عرض عليها بدل الواجب لها لم يلزمها قبوله لانها معارضة فلا يجبر واحد منهما على(9/232)
قبولها كالبيع وإن تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضعة عنه كالطعام في القرض ويفارق الطعام في الكفارة فانه حق لله تعالى وليس هو لآدمي معين فيرضى بالعوض عنه وإن أعطاها مكان الخبز حباً أو دقيقاً جاز إذا تراضيا عليه لأن هذا ليس بمعاوضة حقيقة فإن الشارع لم يعين الواجب بأكثر من الكفاية فبأي شئ حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب وإنما صرنا إلى إيجاب الخبز عند الاختلاف لترجحه بكونه القوت المعتاد (مسألة) (فان تنازعا رجع الأمر إلى الحاكم) وجملة ذلك أن الأمر يرجع في تقدير الواجب للزوجة إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه إن لم يتراضيا على شئ فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالها وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت العادة في حق أمثاله وكذلك الأدم للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها من أرفع الأدم من الأرز واللحم واللبن وما ينطبخ به اللحم والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشحم في آخر والشيرج في آخر وللمعسرة تحت المعسر من الأدم أدونه كالباقلاء والخل والبقل والكامخ وما جرت به عادة أمثالهم وما يحتاج إليه من الدهن وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك من الخبز والإدام على حسب عادته(9/233)
وقال الشافعي الواجب من جنس قوت البلد لا يختلف باليسار والإعسار سوى المقدار والأدم
هو الدهن خاصة لأنه أصلح للابدان وأجود في المؤنة لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ويعتبر الأدم بغالب عادة أهل البلد كالزيت بالشام والشيرج بالعراق والسمن بخراسان ويعتبر قدر الأدم بالقوت فإذا قيل إن الرطل يكفيه الأوقية من الدهن فرض ذلك وفي كل يوم جمعة رطل لحم فان كان في موضع يرخص اللحم زادها على الرطل شيئاً وذكر القاضي مثل هذا في الأدم وهذا مخالف لقول الله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر فما أنفق من سعته ولا رزقها بالمعروف وقد فرق الله تعالى بين الموسر والمعسر في الإنفاق وفي هذا جمع بين ما فرقه الله تعالى وتقدير الأدم بما ذكروه تحكيم لا دليل عليه وخلاف العادة والعرف بين الناس في إنفاقهم فلا يعرج على مثل هذا وقد قال ابن عمر من أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم والصحيح ما ذكرناه من رد النفقة المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم في حق الموسر والمعسر والمتوسط كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك ولأن النفقة من مؤنة المرأة على الزوج فاختلف جنسها باليسار والإعسار كالكسوة وحكم المكاتب والعبد كالمعسر لأنهما ليسا بأحسن حالاً منه ومن نصفه حر إن كان موسراً فحكمه حكم المتوسط لأنه متوسط نصفه موسر ونصفه معسر(9/234)
(مسألة) (ويجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم) لما ذكرنا من النصوص ولأنها لا بد لها منها على الدوام فلزمته كالنفقة وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع كما قلنا في النفقة وهو قول أصحاب الشافعي ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها قدر كفايتها على قدر يسرها وعسرها وما جرت عادة أمثالها به من الكسوة فيجتهد الحاكم في ذلك نحو اجتهاده في المتعة للمطلقة كما قلنا في النفقة فيفرض للوسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والقطن والخز والإبريسم وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط من ذلك وأقل ما يجب من ذلك قميص وسراويل ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد من عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غناء عنه دون ما للتجمل والزينة وذلك لقول الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)
والكسوة بالمعروف هي الكسوة التى جرت عادة أمثالها بلبسه وعليه ما يحتاج إليه للنوم من الفراش واللحاف والوسادة كل على حسب عادته فان كانت ممن عادته النوم في الأكسية والبسط فعليه لها لنومها ما جرت عادتهم به ولجلوسها بالنهار البساط والزلى ولحصير الرفيع أو الخشن الموسر على حسب يساره والمعسر على قدر إعساره والمتوسط بين ذلك على حسب العوائد (مسألة) (وعليه ما يعود بنظافة المرأة من الدهن والسدر وثمن الماء مما تغسل به رأسها وما يعود بنظافتها) لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها ولا تجب عليه الأدوية وأجرة الطبيب لأنه يراد لإصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها وكذلك أجرة الحجام والفاصد(9/235)
(مسألة) (فأما الطيب والخضاب والحناء ونحوه فلا يلزمه إلا أن يريد منها التزين به) أما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج منها لم يلزمه وإن طلبه منها فهو عليه وأما الطيب فما يراد لقطع السهوكة كدواء العرق يلزمه لأنه يراد للتنظيف وما يراد للتلذذ أو الاستمتاع لا يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجب عليه ما يدعوه إليه (فصل) ويجب لها مسكن بدليل قوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للسترة عن العيون في التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى (من وجدكم) ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة (مسألة) (وإن احتاجت إلى من يخدمها لكون مثلها لا تخدم نفسها أو لمرضها لزمه ذلك) لقول الله تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ومن العشرة بالمعروف ان يقم لها خادمها لأنها مما يحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة (مسألة) (فإن كان لها خادم وإلا أقام لها خادماً بشراء أو كراء أو عارية ولا يلزم الزوج
أن يملكها خادما)(9/236)
لأن المقصود الخدمة فإذا حصلت من غير تمليك جاز كما أنه إذا أسكنها داراً بأجرة جاز ولا يلزمه تمليكها مسكناً فإن ملكها الخادم فقد زاد خيراً وإن أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك جاز سواء كان له أو استأجره حراً كان أو عبداً فإن كان الخادم لها فرضيت بخدمته لها ونفقته على الزوج جاز وإن طلبت منه أجر خادمها فوافقها جاز وإن أبى وقال أنا آتيك بخادم سواه فله ذلك إذا أتاها بمن يصلح لها.
ولا يكون الخادم إلا ممن يحل له النظر إليها إما امرأة وإما ذو رحم محرم لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله فلا يسلم من النظر وهل يجوز أن يكون خادم المسلمة من أهل الكتاب؟ فيه وجهان أصحهما جوازه لأن استخدامهم مباح ولأن الصحيح إباحة النظر لهم (والثاني) لا يجوز لأن في إباحة نظرهم اختلافاً وتعافهم النفس ولا يتنظفون من النجاسة (مسألة) (وعليه نفقته بقدر نفقة الفقيرين إلا في النظافة) يجب على الزوج نفقة الخادم وكسوته مثل ما لامرأة المعسر إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن والسدر لرأسها لأن ذلك مما يراد للزينة والتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم.
فإن احتاجت إلى خف لتخرج إلى شراء الحوائج لزمه ذلك (مسألة) (ولا يلزمه أكثر من نفقة خادم واحد، لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل ذلك بواحد) ، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان لا يصلح المرأة إلا(9/237)
أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من خادم واحد ونحوه قال أبو ثور إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين.
ولنا أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها والزيادة تراد لحفظ ملكها وللتجمل وليس عليه ذلك (مسألة) فإن قالت أنا أخدم نفسي وآخذ ما يلزمك لخادمي لم يكن لها ذلك ولم يلزمه) لأن الأجر عليه فتعيين الخادم إليه ولأن في خدمة غيرها إياها توفيرها على حقوقه وترفهها ورفع قدرها وذلك
يفوت بخدمتها لنفسها.
(مسألة) فإن قال الزوج أنا أخدمك بنفسي لم يلزمها) لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها لكون زوجها خادماً وفيه وجه آخر أنه يلزمها الرضى به لأن الكفاية تحصل به (فصل) ويلزمه نفقة المطلقة الرجعية وكسوتها ومسكنها كالزوجة سواء، لأنها زوجة بدليل قوله سبحانه (وبعولتهن أحق بردهن) ولأنه يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه فأشبه ما قبل الطلاق وللأدلة الدالة على وجوب نفقة الزوجة من الكتاب والسنة والإجماع (مسألة) (وأما البائن بفسخ أو طلاق فإن كانت حاملاً فلها النفقة والسكنى وإلا فلا شئ لها وعنه لها السكنى) وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً إما أن يكون ثلاثاً أو بخلع أو بانت بفسخ وكانت حاملاً فلها النفقة والسكنى بإجماع أهل العلم لقول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وفي(9/238)
بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت قيس " لا نفقة لك " إلا أن تكون حاملاً ولأن الحمل ولده فيلزمه الإنفاق عليه ولا تمكنه النفقة عليه إلا بالإنفاق عليها فوجب كما وجبت أجرة الرضاع وإن كانت حائلاً فلا نفقة لها وفي السكنى روايتان (إحداهما) لا يجب لها ذلك وهو قول علي وابن عباس وجابر وبه قال عطاء وطاوس والحسن وعمر بن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبو ثور وداود (والثانية) يجب لها وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم والفقهاء السبعة ومالك والشافعي لقول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فأوجب لها السكنى مطلقاً ثم خص الحامل بالإنفاق عليها، وقال أكثر فقهاء العراق: لها السكنى والنفقة وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه والبتي والعنبري ويروى ذلك عن عمر وابن
مسعود لأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية وردوا خبر فاطمة بنت قيس بما روي عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة وأنكرته عائشة وسعيد بن المسيب وتأولوه، قال عروة لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب وقالت أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب تلك امرأة فتنت الناس بلسانها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى(9/239)
ولنا ما روت فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطنه فقال والله ما لك علينا من شئ فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " ليس لك عليه نفقة ولا سكنى " فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك متفق عليه وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظري يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعية فإذا لم يكن له عليها الرجعة فلا نفقة ولا سكنى " رواه الإمام أحمد والاثرم والحميدي، قال ابن عبد البر من طريق الحجة وما يلزم منها: قول أحمد بن حنبل ومن تابعه اصح وأحج لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصاً صريحا فأي شئ يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المبين عن الله تعالى مراده ولا شئ يدفع ذلك ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) ؟ وأما قول عمر ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس وجابر ومن وافقهم والحجة معهم ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على عمر وغيره ولم يصح عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن أحمد أنكره وقال أما هذا فلا فإنه قال لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية فقد أجد تقول فريعة وهي امرأة وتخبر عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار خبر فاطمة إذا لم تكن حاملاً مثل نظر المرأة إلى الرجال وخطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى الأول وأما تأويل من تأول حديثها فليس بشئ فإنها تخالفهم في ذلك وهي أعلم بحالها ولم يتفق المتأولون(9/240)
على شئ وقد رد على من رد عليها فقال ميمون بن مهران لسعيد بن المسيب لما قال تلك امرأة فتنت الناس بلسانها: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فنت الناس وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة
حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس له عليها رجعة ولا بينهما ميراث، وقول عائشة أنها كانت في مكان وحش لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل بغير ذلك فقال " يا ابنة آل قيس إنما النفقة والسكنى ما كان لزوجك عليك الرجعة " هكذا رواه الحميدي والاثرم ولو صح ما قالته عائشة ما احتاج عمر في رده إلى أن يعتذر بأنه قول امرأة وهي أعرف بنفسها وبحالها، وأما قول عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا فقد قال اسماعيل بن إسحاق نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملاً بقوله سبحانه (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق وقد روى أبو داود وغيره بإسنادهم عن ابن عباس في حديث المتلاعنين قال ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا بيت لها ولا قوت ولأن هذه محرمة عليه تحريماً لا تزيله الرجعة فلم يكن لها سكنى ولا نفقة كالملاعنة وتفارق الرجعية فانها زوجية يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه بخلاف البائن (فصل) ولا سكنى للملاعنة ولا نفقة إن كانت حائلاً للخبر وكذلك إن كانت حاملاً فنفى حملها وقلنا(9/241)
أنه ينتفي عنه أو قلنا إنه ينتفي بزوال الفراش وإن قلنا لا ينتفي أو لم ينفه وقلنا إنه يلحقه نسبه فلها السكنى والنفقة لأن ذلك للحمل أو لها بسببه وهو موجود فأشبهت المطلقة البائن، فإن نفى الحمل فأنفقت أمه وسكنت من غير الزوج وأرضعت ثم استحقه الملاعن لحقه ولزمته النفقة وأجر المسكن والرضاع لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له فإذا ثبت أب لزمه ذلك ورجع به عليه، فإن قيل النفقة لاجل الحمل فقة الأقارب وهي تسقط بمضي الزمان فكيف يرجع عليه بما يسقط عنه؟ قلنا بل النفقة للحامل لأجل الحمل فلا تسقط كنفقتها في الحياة وإن سلمنا أنها للحمل إلا أنها مصروفة إليها ويتعلق به حقها فلا تسقط بمضي الزمان كنفقتها (مسألة) (فإن طلق زوجته ولم ينفق عليها يظنها حائلاً ثم تبين أنها كانت حاملاً فعليه نفقة ما مضى) لأننا تبينا استحقاقها له فرجعت به عليه كالدين (مسألة) (وإن أنفق عليها يظنها حاملاً وبانت حائلاً مثل من ادعت الحمل لتكون لها النفقة أنفق عليها ثلاثة أشهر ثم أريت الفوايل بعد ذلك)
لأن الحمل يتبين بعد ثلاثة أشهر إلا أن تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره فتنقطع نفقتها كما تنقطع إذا قال القوابل ليست حاملاً رجع عليها بما أنفق لأنها أخذت منه ما لا تستحق فرجع عليها كما لو ادعت عليه ديناً وأخذته منه ثم تبين كذبها، وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع بشئ لأنه أنفق عليها بحكم آثار النكاح فلم يرجع به كالنفقة في النكاح الفاسد إذا تبين فساده وإن علمت براءتها من الحمل بالحيض فكتمته فينبغي أن يرجع عليها قولاً واحداً لأنها أخذت النفقة مع علمها ببراءته منها كما لو أخذتها من ماله بغير علمه، وإن ادعت الرجعية الحمل فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها رجع عليها(9/242)
بالزيادة ويرجع في مدة العدة إليها لأنها أعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها فإن قالت قد ارتفع حيضي فلم أدر ما رفعه فعدتها سنة إن كانت حرة، وإن قالت قد انقضت بثلاثة قروء وذكرت آخرها فلها النفقة إلى ذلك ويرجع عليها بالزائد وإن قالت لا أدري متى آخرها رجعنا إلى عادتها فحسبنا لها بها وإن قالت عادي تختف فتطول وتقصر انقضت العدة بالأقصر لأنه اليقين وإن قالت عادتي تختلف ولا أعلم رددناها إلى غالب عادات النساء في كل شهر قرء كما رددنا المتحيرة الى ذلك في أحكامها كذلك هذه، فإن بان أنها حامل من غيره مثل أن تلده لأكثر من أربع سنين فلا نفقة عليه كمدة حملها لأنه من غيره وإن كانت رجعية فلها النفقة في مدة عدتها فان كانت انقطعت قبل حملها فلها النفقة إلى انقضائها وان حملت في أثناء عدتها فلها النفقة إلى الوطئ الذي حملت منه ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ثم تكون لها النفقة في تمام عدتها وإن وطئها زوجها في العدة الرجعية حصلت الرجعة، وإن قلنا لا تحصل فالنسب لاحق به وعليه النفقة لمدة حملها، وإن وطئها بعد انقضاء عدتها أوطئ البائن عالماً بذلك وبتحريمه فهو زنا لا يلحقه نسب الولد ولا نفقة له عليه من أجله وإن جهل بينونتها أو انقضاء عدة الرجعية أو تحريم ذلك وهو ممن يجهله لحقه النسب وفي وجوب النفقة عليه روايتان(9/243)
(مسألة) (وهل تجب النفقة للحامل لحملها أو لها من أجله؟ على روايتين) (إحداهما) تجب للحمل اختارها أبو بكر لأنها تجب بوجوده وتسقط عند انقضائه فدل على أنها
له (والثانية) تجب لها من أجله لأنها تجب مع اليسار والإعسار فكانت لها كنفقة الزواجات ولأنها لا تسقط بمضي الزمان فأشبهت نفقتها في حياته وللشافعي قولان كالروايتين.
وينبني على هذا الاختلاف فروع (منها) أنها إذا كانت المطلقة الحامل أمة وقلنا النفقة للحمل فنفقها على سيدها لأنه ملكه وإن قلنا لها فعلى الزوج لأن نفقتها عليه، وإن كان الزوج عبدا وقلنا هي للحمل فليس عليه نفقة لأنه لا يلزمه نفقة ولده، وإن قلنا لها فالنفقة عليه لما ذكرنا وإن كانت حاملاً من نكاح فاسد أو وطئ شبهة وقلنا النفقة للحمل فعلى الزوج والوطئ لأنه ولده فلزمته نفقته كما بعد الوضع، وإن قلنا للحامل فلا نفقة عليه لأنها ليست زوجة يجب الإنفاق عليها، وإن نشزت امرأة إنسان وهي حامل وقلنا النفقة للحمل لم تسقط نفقتها لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه وإن قلنا لها فلا نفقة لها لأنها ناشز (فصل) ويلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها يوماً فيوماً كما يلزمه دفع نفقة الرجعية وقال الشافعي في أحد قوليه لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع لأن الحمل غير متحقق ولهذا أوقفنا الميراث وهذا خلاف قول الله تعالى (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) ولأنها محكوم لها بالنفقة فوجب دفعها إليها كالرجعية وما ذكره لا يصح فإن الحمل يثبت بالأمارات وتثبت أحكامه في منع النكاح والحد والقصاص وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فهو كالمتحقق، ولا يشبه هذا الميراث فإن الميراث لا يثبت بمجرد الحمل فإنه يشترط له الوضع والاستهلال بعد(9/244)
الوضع ولا يوجد ذلك قبله ولأننا لا نعلم صفة الحمل ووجود شرط توريثه بخلاف مسئلتنا فإن النفقة تجب بمجرد الحمل ولا تختلف باختلافه.
إذا ثبت هذا فمتى ادعت الحمل فصدقها دفع إليها فإن كان حملاً فقد استوفت حقها وإن بان أنها ليست حاملاً رجع عليها سواء دفع إليها بحكم حاكم أو بغيره وسواء شرط أنها نفقة أو لم يشترط وعنه لا يرجع، والصحيح الأول لأنه دفعه على أنه واجب فإذا بان أنه ليس بواجب استرجعه كما لو قضاها ديناً فبان أنه لم يكن عليه دين، وإن أنكر حملها نظر النساء الثقات فرجع إلى قولهن ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة لأنها شهادة على ما لا يطلع عليه الرجال غالباً اشبه الرضاع وقد ثبت الأصل بالخبر المذكور
(مسألة) (وأما المتوفى عنها زوجها فإن كانت حائلاً فلا سكنى لها ولا نفقة في مدة العدة لأن النكاح قد زال بالموت وإن كانت حاملاً ففيها روايتان) (إحداهما) لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة (والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لأنه قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه وإن لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الإنفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة قال القاضي وهذه الرواية أصح (فصل) ولا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد لأنه ليس بينهما نكاح صحيح فإن طلقها(9/245)
أو فرق بينهما قبل الوطئ فلا عدة عليها وإن كان بعده فعليها العدة ولا نفقة لها ولا سكنى إن كانت حائلا لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبعده أولى، وإن كانت حاملاً فعلى ما ذكرنا فإن قلنا لها النفقة إذا كانت حاملاً فلها ذلك قبل التفريق لأنه إذا وجب بعد التفريق فقبله أولى، ومتى أنفق عليها قبل مفارقتها أو بعدها لم يرجع عليها بشئ لأنه إن كان عالماً بعدم الوجوب فهو متطوع به وإن لم يكن عالماً فهو مفرط فلم يرجع به كما لو أنفق على أجنبية، وكل معتدة من وطئ من غير نكاح صحيح كالموطوءة بشهة وغيرها إن كان يلحق الواطئ نسب ولدها فهي كالموطوة في النكاح الفاسد وإن كان لا يلحقه نسب ولدها كالزاني فليس عليه نفقتها حاملاً كانت أولاً لأنه لا نكاح بينهما ولا بينهما ولد ينسب إليه (فصل) ولا تجب على الزوج نفقة الناشز فان كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها، والنشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها مما أوجبه الشرع بسبب النكاح، فمتى امتنعت من فراشه أو من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو خرجت من منزله بغير إذنه أو أبت السفر معه إذا لم تشترط بلدها فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي وحماد ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور وقال الحكم لها النفقة قال إبن المنذر ولا أعلم أحداً خالف هؤلاء إلا الحكم ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها ولنا أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه ولأنه إذا منعها النفقة(9/246)
كان لها منعه التمكين فكذلك إذا منعته التمكين كان له منعها النفقة كما قبل الدخول، ويخالف المهر فإنه يجب بمجرد العقد كذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة فأما نفقة ولدها منه فهي واجبة عليه فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير وعليه دفعها إليها إذا كانت هي الحاضنة له أو المرضعة وكذلك أجر رضاعها يلزمه تسليمه إليها لأنه أجر ملكته عليه بالإرضاع لا في مقابلة الاستمتاع فلا يزول بزواله (فصل) وإذا سقطت نفقتها بالنشوز فعادت عن النشوز والزوج حاضر عادت نفقتها لزوال المسقط لها ووجود التمكين المقتضي لها وإن كان غائباً لم تعد نفقتها حتى يعود التسليم بحضوره أو حضور وكيله أو حكم الحاكم بالوجوب إذا مضى زمن الإمكان، ولو ارتدت سقطت نفقتها فإن عادت الى الاسلام عادت بمجرد عودها لأن المرتدة إنما سقطت النفقة بخروجها عن الإسلام فإذا عادت إليه زال المعنى المسقط فعادت النفقة وفي النشوز سقطت النفقة بخروجها عن يده أو منعها له من التمكين المستحق عليها ولا يزول ذلك إلا بعودها إلى يده وتمكينه منها ولا تحصيل ذلك في غيبته وكذلك لو بذلت تسليم نفسها قبل دخوله بها وهو غائب لم تستحق النفقة بمجرد البذل كذا ههنا (فصل) إذا خالعت المرأة زوجها وهي حامل ولم تبرئه من حملها فلها النفقة كالمطلقة ثلاثا وهي حامل لأن الحمل ولده فعليه نفقته وإن أبرأته من الحمل عوضاً في الخلع صح سواء كان العوض كله أو بعضه وقد ذكرناه في الخلع وذكرنا الخلاف فيه ولا تبرأ حتى تفطمه إذا كانت قدا برأته من نفقة(9/247)
الحمل وكفالة الولد إلى ذلك أو أطلقت البراءة من نفقة الحمل وكفالة لأن البراءة المطلقة تنصرف إلى المدة التي تستحق المرأة العوض عليه فيها وهي مدة الحمل والرضاع لأن المطلق إذا كان له عرف انصرف إليه، وإن اختلفا في مدة الرضاع انصرف إلى حولين لقول الله سبحانه (وفصاله في عامين) وقال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) ثم قال تعالى (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح علهيما) فدل على أنه لا يجوز فصاله قبل الحولين إلا بتراض
منهما وتشاور، وإن قدرا مدة البراءة بزمن الحمل أو بعام نحو ذلك فهو على ما قدراه وهو أولى لأنه أقطع للنزاع وأبعد من اللبس والاشتباه، ولو أبرأته من نفقة الحمل انصرف ذلك إلى زمن الحمل قبل وضعه قال القاضي إنما صح مخالعتها على نفقة الولد وهي الولد دونها لأنها في حكم المالكة لها لأنها التي تقبضها وتستحقها وتتصرف فيها فإنها في مدة الحمل هي الآكلة لها المنتفعة بها وبعد الولادة هي أجر رضاعها إياه وهي الآخذة لها المتصرفة فيها كملك من أملاكها فصح جعلها عوضاً، فأما النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ونحو ذلك فلا يصح أن تعاوض به في الخلع لأنه ليس هو لها ولا في حكم ما هو لها (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويجب دفع النفقة إليها في صدر نهار كل يوم ذلك إذا طلعت الشمس)(9/248)
لانه أزل وقت الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها او تعجيلها لمدة قليلة أو كثيرة جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فجاز من تعجيله وتأخيره ما انفقا عليه كالدين ولا خلاف بين أهل العلم هذا فيما علمنا (مسألة) (فإن طلب أحدهما دفع القيمة لم يلزم الآخر) لأنه طلب غير الوجب فلم يلزم الآخر لأنها معاوضة فلا يجبر عليها واحد منهما كالبيع، وإن تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في القرض (مسألة) (وعليه كسوتها في كل عام مرة) لانه العادة ويكون الدفع إليها في أوله لأنه أول وقت الوجوب (مسألة) (فإذا قبضتها فسرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها) إذا تلفت الكسوة أو سرقت بعد قبضها لم يلزمه عوضها لأنها قبضت حقها فلم يلزمه غيره كالدين إذا وفاها إياه ثم ضاع منها (مسألة) (وإن انقضت السنة وهي صحيحة فعليه كسوة السنة الأخرى ويحتمل أن لا يلزمه) وجملة ذلك أنه إذا دفع إليها كسوة العام برئ منها كما إذا دفع إليها نفقة اليوم فإن بليت قبل ذلك لكثرة خروجها ودخولها أو استعمالها لم يلزمه إبدالها لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في(9/249)
العرف، وإن مضى الزمان الذي يلي في مثله بالاستعمال ولم يهل فهل يلزمه بدلها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه لأنها غير محتاجة إلى الكسوة (والثاني) يلزمه لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة بدليل أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها ولو أهدي إليها كسوة لم تسقط كسوتها وكذلك لو أهدي إليها طعام فأكلته وبقي قوتها إلى الغد لم يسقط قوتها فيه (مسألة) (وإن ماتت أو طلقها قبل مضي السنة فهل يرجع عليها بقسط بقية السنة؟ على وجهين) (أحدهما) له الرجوع لأنه دفعها للزمان المستقبل فإذا طلقها قبل مضيه كان له استرجاعها كما لو دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها قبل انقضائها (والثاني) ليس له الاسترجاع لأنه دفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه فلم يكن له الرجوع فيها كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها بخلاف النفقة الستقبلة.
(مسألة) (وإذا قبضت النفقة فلها التصرف فيها على وجه لا يضر بها ولا ينهك بدنها فيجوز لها بيعها وهبتها والصدقة بها وغير ذلك) لأنها حقها فملكت التصرف فيه كسائر ما لها فإن عاد ذلك عليها بضرر في بدنها ونقص في استمتاعها فلا تملكه لأنها تفوت حقه بذلك، وكذلك الحكم في الكسوة في أحد الوجهين قياساً على النفقة واحتمل المنع لأن له استرجاعها لو طلقها في أحد الوجهين بخلاف النفقة(9/250)
(مسالة) (وإن غاب مدة ولم ينفق نفقة ما مضى سواء تركها لعذر أو غير عذر في أظهر الروايتين) وبه قال الحسن والشافعي وإسحاق وابن المنذر والرواية الأخرى تسقط ما لم يكن الحاكم قد فرضها لها وهو مذهب أبي حنيفة لأنها نفقة تجب يوماً فيوماً فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب ولأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها أشبهت نفقة الأقارب ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنها حق يجب مع اليسار والإعسار فلم يسقط بمضي الزمان
كأجرة العقار والديون قال إبن المنذر: هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها وفارق نفقة الأقارب فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له وجبت لتزجية الحال فإذا مضى زمنها استغنى عنها فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره وهذا بخلاف ذلك.
إذا ثبت هذا فإنه إن ترك النفقة عليها مع يساره فعليه النفقة بكمالها، وإن تركها لإعساره لم يلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزائد سقط بالإعسار (فصل) والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة في قول عامة أهل العلم وبه يقول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لعموم النصوص والمعنى (فصل) قال الشيخ رحمه الله إذا بذلت المرأة تسليم نفسها إليه وهي ممن يوطأ مثلها أو يتعذر(9/251)
وطؤها لمرض أو حيض أو رتق أو نحوه لزم زوجها نفقتها سواء كان الزوج صغيراً أو كبيراً يمكنه الوطئ أو لا يمكنه كالمجبوب والعنين والمريض) وجملته أن المرأة إذا بذلت تسليم نفسها وهي ممن يوطأ مثلها لزم زوجها نفقتها لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " رواه مسلم (مسألة) (وإن سلمت نفسها وهي ممن يتعذر وطؤها لرتق أو حيض أو نفاس أو لكونها نضوة الخلق لا يمكنه وطؤها لذلك أو لمرضها لزمته نفقتها أيضاً وإن حدث بها شئ من ذلك لم تسقط نفقتها) لأن الاستمتاع ممكن ولا تفريط من جهتها وإن منع من الوطئ فإن قيل فالصغيرة التي لا يمكن وطؤها إذا سلمت نفسها لا تجب نفقتها قلنا الصغيرة لها حال يتمكن من الاستمتاع بها فيها استمتاعا تاماً والظاهر أنه تزوجها انتظارا لملك الحال بخلاف هؤلاء وكذلك لو طلب تسليم هؤلاء وجب تسليمهن ولا يجب تسليم الصغيرة إذا طلبها فإن قيل فلو بذلت الصحيحة الاستمتاع مما دون الوطئ لم تجب نفقتها فكذلك هؤلاء، قلنا تلك متعة مما يجب عليها وهؤلاء لا يجب عليهن التمكين مما فيه ضرر، فإن ادعت أن عليها ضرراً في وطئه لضيق فرجها أو قروح به أو نحو ذلك وأنكره أريت امرأة ثقة وعمل بقولها وإن ادعت(9/252)
عيالة ذكره وعظمه جاز أن تنظر المرأة إليهما حال اجتماعهما لأنه موضع حاجة ويجوز النظر إلى العورة للحاجة والشهادة.
(مسألة) (وإن أسلمت نفسها وهي صغيرة وجبت عليه نفقتها إذا كانت كبيرة يمكن وطؤها) وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر لا نفقة لها وهو قول مالك لأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها فلم يلزمه نفقتها كما لو كانت صغيرة ولنا أنها سلمت نفسها تسليماً صحيحاً فوجبت لها النفقة كما لو كان الزوج كبيراً ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما تعذر من جهة الزوج فهو كما لو تعذر لغيبته بخلاف ما إذا كانت صغيرة فإنها لم تسلم نفسها تسليماً صحيحاً ولم تبذل ذلك وكذلك إذ كان يتعذر عليه الوطئ إذا كان مريضاً أو مجبوباً أو عنيناً لأن التمكين وجد من جهتها وإنما تعذر من جهته فوجبت النفقة كما لو سلمت إليه نفسها وهو كبير فهرب، إذا ثبت هذا فإن الولي يجبر على نفقتها من مال الصبي لأن النفقة عليه وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه كما يؤدي أروش جناياته وزكواته (مسألة) (فإن كانت صغيرة لا يمكن وطؤها لم تجب نفقتها ولا تسليمها إليه إذا طلبها) وبهذا قال الحسن وبكر بن عبد الله المزني والنخعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو نص الشافعي وقال في موضع لو قيل لها النفقة كان مذهباً وهو قول الثوري لان تعذر الوطئ لم يكن بفعلها ولم يمنع وجوب النفقة كالمرض.(9/253)
ولنا أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع فلم تجب نفقتها كما لو منعه أولياؤها من تسليم نفسها وبهذا يبطل ما ذكروه وتفارق المريضة فإن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض ولأن من لا تمكن الزوج من نفسها لا تلزمه نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن الزوج قهرها ووطؤها كرهاً وهذه لا يمكن فيها ذلك بحال وعلى هذا لا يجب على الزوج تسلمها ولا تسليمها إليه إذا طلبها لأنه لا يمكنه استيفاء حقه منها.
(مسألة) (وإن بذلته والزوج غائب لم يفرض لها حتى يراسله الحاكم ويمضي زمن يمكن أن يقدم في مثله) .
وجملة ذلك أن المرأة بذلت التسليم والزوج غائب لم تستحق النفقة لأنها بذلته في حال لا يمكنه التسليم فيه فإن مضت إلى الحاكم فبذلت التسليم كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي هو فيه ليستدعيه ويعلمه ذلك فإن سار إليها أو وكل من يسلمها إليه فوصل وتسلمها هو أو نائبه وجبت النفقة حينئذ وإن لم يفعل فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها وتسلمها فيه لأن الزوج امتنع من تسلمها وإمكان ذلك وبذلها إياه له فلزمته نفقتها كما لو كان حاضراً فأما إن غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب نفقتها عليه لم تسقط عنه بل تجب عليه في زمن غيبة لأنها استحقت النفقة بالتمكين ولم يوجد منها ما يسقطها (فصل) فإن سلمت الصغيرة التي يمكن وطؤها نفسها أو المجنونة فتسلمها لزمته نفقتها كالكبيرة وإن(9/254)
لم يتسلمها لمنعها نفسها أو لمنع أوليائها فلا نفقة لها عليه كالكبيرة وإن غاب الزوج فبذل وليها تسليمها فهو كما لو بذلت المكلفة التسليم لأن وليها يقوم مقامها وإن بذلت هي دون وليها لم يفرض الحاكم لها نفقة لأنه لا حكم لكلامها (مسألة) (وإن منعت نفسها أو منعها أهلها فلا نفقة لها وإن تساكنا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة لها وإن طال مقامها على ذلك) فإن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله ولم يلتزم نفقتها لما مضى ولأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئاً (فصل) ولو بذلت تسليمها غير تام بأن تقول أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره أو في المنزل الفلاني دون غيره لم تستحق شيئا إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد لأنها لم تبذل التسليم الواجب بالعقد فلم تستحق النفقة كما لو قال البائع أسلم إليك السلعة على أن تتركها في موضعها أو في مكان يعينه فان شرطت دارها أو بلدها فسلمت نفسها في ذلك استحقت النفقة لأنها فعلت الواجب عليها ولذلك
لو سلم السيد أمته المزوجة في الليل دون النهار استحقت النفقة بخلاف الحرة فإنها لو بذلت نفسها في بعض الزمان لم تستحق شيئاً لأنها لم تسلم التسليم الواجب بالعقد وكذلك إن أمكنته من استمتاع ومنعته استمتاعاً لم تستحق شيئاً كذلك (مسألة) (إلا أن تمنع نفسها قبل الدخول حتى تقبض صداقها الحال فلها ذلك وتجب نفقتها)(9/255)
وجملة ذلك أن امرأة تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها لأن تسليم نفسها قبل صداقها يفضي إلى أن يتسلم منفعتها المعقود عليها بالوطئ ثم لا يسلم صداقها فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها بخلاف المبيع إذا سلمه المشتري ثم أعسر بالثمن فإنه يمكنه الرجوع فيه فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولاً وجعلنا لها أن تمتتع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها لأنه إذا سلم إليها الصداق ثم امتنعت من التسليم أمكن الرجوع فيه.
إذا ثبت هذا فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها فلها نفقتها لأنها امتنعت لحق فإن قيل فلو امتنعت لصغر أو مرض لم يلزمه نفقتها، قلنا الفرق بينهما أن امتناعها لمرض لمعنى من جهتها وكذلك الامتناع لصغر وههنا الامتناع لمعنى من جهة الزوج هو منعه لما وجب عليه فأشبه ما لو تعذر الاستمتاع لصغر الزوج فإنه لا يسقط نفقتها عنه ولو تعذر لصغرها لم يلزمه نفقتها (مسألة) (وإن كان بعد الدخول فكذلك في أحد الوجهين قياساً على ما قبل الدخول (والثاني) ليس لها ذلك كما لو سلم المبيع إلى المشتري ثم أراد منعه بعد ذلك (مسألة) (فأما الصداق المؤجل فليس لها منع نفسها حتى تقبضه كالثمن المؤجل في البيع وقد ذكرنا هذه المسائل في كتاب الصداق بأبسط من هذا وذكرنا الخلاف فاختصرنا ههنا) (مسألة) (وإن سلمت الأمة نفسها ليلاً أو نهاراً فهي كالحرة في وجوب النفقة) وجملة ذلك أن زوج الأمة لا يخلو إما أن يكون حراً أو عبداً أو بعضه حر وبعضه عبد فإن كان حراً فنفقتها(9/256)
عليه للنص ولاتفاق أهل العلم على وجوب نفقة الزوجات على أزواجهن البالغين والأمة داخلة في عمومهن ولأنها زوجة ممكنة من نفسها فوجب على زوجها نفقتها كالحرة، وإن كان زوجها مملوكاً فالنفقة واجبة
لزوجته كذلك، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على العبد نفقة زوجته هذا قول الشعبي والحكم والشافعي وبه قال أصحاب الرأي إذا بوأها بينا، وحكي عن مالك أنه قال ليس عليه نفقتها لأن النفقة مواساة وليس هو من أهلها وكذلك لا يجب عليه نفقة أقاربه ولا زكاة ماله ولنا أنه عوض واجب في النكاح فوجب على العبد كالمهر، والدليل على أنها عوض أنها تجب في مقابلة التمكين ولهذا تسقط عن الحر بفوات التمكين، وبذلك فارقت نفقة الأقارب.
إذا ثبت وجوبها على العبد فإنها تلزم سيده لأن السيد أذن في النكاح المفضي إلى إيجابها، وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أنها تجب في كسب العبد وهو قول أصحاب الشافعي لأنه لم يمكن إيجابها في ذمته ولا رقبته ولا ذمة سيده ولا إسقاطها فلم يبق إلا أن تتعلق بكسبه، وقال القاضي تتعلق برقبته لأن الوطئ في النكاح بمنزلة الجناية وأرش جناية العبد يتعلق برقبته يباع فيها أو يفديه سيده وهذا قول أصحاب الرأي ولنا أنه أذن السيد فيه فيلزم ذمته كالذي استدانه وكيله وقولهم إنه في مقابلة الوطئ لا يصح فإنه يجب من غير وطئ ويجب للرتقاء والحائض والنفساء وزوجة المجبوب والصغيرة وإنما تجب بالتمكين وليس(9/257)
ذلك بجناية ولا قائم مقامها، وقول من قال إنه تعذر إيجابها في ذمة السيد غير صحيح فإنه لا مانع من إيجابها وقد ذكرنا وجود مقتضيه فلا معنى لدعوى التعذر (مسألة) (وإن كانت تأوي إليه ليلاً وعند السيد نهاراً فعلى كل واحد منهما النفقة بقدر مقامها عنده) وقد تقدم ذكر هذه المسألة، وقد ذكرنا أن النفقة تجب في مقابلة التمكين وقد وجد منها في الليل فيجب على الزوج النفقة فيه والباقي منها على السيد بحكم أنها مملوكته ولم تجب نفقتها على غيره في هذا الزمن، فعلى هذا على كل واحد منهما نصف النفقة وهذا أحد قولي الشافعي وقال الآخر لا نفقة لها على الزوج لأنها لم تمكن من نفسها في جميع الزمان فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا بذلت نفسها في زمن دون غيره ولنا أنه وجد التمكين الواجب بعقد النكاح فاستحقت النفقة كالحرة إذا أمكنت من نفسها في غير أوقات الصلوات المفروضات والصوم الواجب والحج المفروض، وفارق الحرة إذا امتنعت في أحد
الزمانين فإنها لم تبذل الواجب فتكون ناشزاً وهذه ليست ناشزاً ولا عاصية (فصل) وإذا طلق الأمة طلاقاً رجعياً فلها النفقة في العدة لأنها زوجة فإن أبانها وهي حائل فلا نفقة لها لأنها لو كانت حرة لم تجب لها نفقة فالأمة أولى وإن كانت حاملاً فلها النفقة لقول الله تعالى(9/258)
(وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) نص على هذا أحمد وبه قال إسحاق وقد ذكرنا في نفقة الحامل هل هي للحمل أو للحامل؟ على روايتين عن أحمد رحمه الله إحداهما أنها للحمل فعلى هذا لا تجب للمملوكة الحامل البائن لأن الحمل مملوك لسيدها فنفقته عليه وعلى الرواية الأخرى تجب وللشافعي في هذا قولان كالروايتين (فصل) فإن كان المطلق عبداً فطلقها ثانياً وهي حامل انبنى وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل أو للحامل؟ فإن قلنا هي للحمل فلا نفقة على العبد وبه قال مالك وروي ذلك عن الشعبي لأنه لا يجب عليه نفقة ولده وإن قلنا هي للحامل بسببه وجبت لها النفقة وهذا قول الأوزاعي للآية ولأنها حامل فوجبت لها النفقة كما لو كان زوجها حراً (فصل) والمعتق بعضه عليه من نفقة امرأته بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على سيده أو في ضريته أو في رقبته على ما ذكرنا في العبد القن، والقدر الذي يجب عليه بالحرية يعتبر فيه حاله إن كان موسراً فنفقة الموسرين وإن كان معسراً فنفقه المعسرين والباقي يجب فيه نفقة المعسرين، لأن النفقة مما يتبعض وما يتبعض بعضناه في حق المعتق بعضه كالميراث والديات وما لا يتبعض فهو فيه كالعبد لان الحرية إما شرط فيه أو سبب له ولم يكمل وهذا اختيار المزني، وقال الشافعي حكمه حكم القن في الجميع إلحاقاً لأحد الحكمين بالآخر.(9/259)
ولنا أنه يملك بنصفه الحر ملكاً تاماً ولهذا يورث عنه ويكفر بالإطعام ويجب فيه نصف دية الحر فوجب أن تتبعض فنفقته لأنها من جملة الأحكام القابلة للتبعيض (فصل) وحكم المكاتب في نفقة الزوجات حكم العبد القن لأنه عبد ما بقي عليه درهم ويجب عليه
نفقة زوجته من كسبه، لأن نفقة الزوجة واجبة بحكم المعاوضة مع اليسار والإعسار ولذلك وجبت على العبد فعلى المكاتب أولى، ولأن نفقة المرأة لا تسقط عن أحمد من الناس إذا لم يوجد منها ما يسقط نفقتها ولا يمكن إيجابها على سيده لأن نفقة المكاتب لا تجب على سيده فنفقة امرأته أولى (مسألة) (وإذا نشزت المرأة أو سافرت بغير إذنه أو تطوعت بحج أو صوم أو أحرمت بحج منذور في الذمة بغير إذنه فلا نفقة لها) لا تجب نفقة الناشز في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر لا نعلم احدا خالف فيه إلا الحكم ولعله قاسه على المهر ولا يصح القياس، لأن النفقة وجبت في مقابلة التمكين من نفسها فإذا لم يوجد منها التمكين لا تستحقها بخلاف المهر فإنه يجب بمجرد العقد، وكذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة وقد ذكرناه، فأما إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها فإن نفقتها تسقط لأنها ناشز وكذلك إن انتقلت من منزله بغير إذنه وإن سافرت في حاجة نفسها بإذنه سقطت نفقتها، ذكره الخرقي لأنها فوتت التمكين لحظ نفسها وقضاء أربها فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها إلا أن يكون مسافراً(9/260)
معها متمكناً من استمتاعها فلا تسقط نفقتها لأنها لم تفوت التمكين فأشبهت غير المسافرة، ويحتمل أن لا تسقط نفقتها وإن لم يكن معها لأنها مسافرة بإذنه أشبه ما لو سافرت في حاجته وسواء كان سفرها للتجارة أو حج تطوع أو زيارة وإن أحرمت بحج تطوع بغير إذنه سقطت نفقتها لأنها في معنى المسافرة فإن أحرمت به بإذنه فقال القاضي لها النفقة والصحيح أنها كالمسافرة لأنها باحرامها مانعة له من التمكين (مسألة) (وإن بعثها في حاجته فهي على نفقتها) لأنها سافرت في شغلة ومراده وإن أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواجبة في الوقت الواجب من الميقات فلها النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل الشرع في وقته فلم تسقط نفقتها كصيام رمضان، وإن قدمت الإحرام على الميقات أو قبل الوقت خرج فيها من القول مثل ما في المحرمة بحج التطوع لأنها فوتت عليه التمكين بشئ تستغني عنه، فإن اعتكفت فالقياس أنه كفرها ان كان بغير إذنه فهي ناشز لخروجها من منزل زوجها بغير إذنه فيما ليس واجباً بأصل الشرع وإن كان بإذنه فلا نفقة لها على
قول الخرقي وعند القاضي لها النفقة، وإن صامت رمضان لم تسقط نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع لا يملك منعها منه فهو كالصلاة، ولأنه يكون صائماً معها فيمتنع الاستمتاع لمعنى وجد فيه، وإن كان تطوعا تسقط(9/261)
نفقتها لأنها لم تأت ما يمنعه من استمتاعها فإنه يمكنه تفطيرها ووطؤها إلا أن يريد ذلك منها فتمنعه فتسقط نفقتها بامتناعها من التمكين الواجب.
(مسألة) (وإن أحرمت بمنذور معين في وقته فعلى وجهين) (أحدهما) لها النفقة، ذكره القاضي لأن أحمد نص على أنه ليس له منعها (والثاني) أنه إن كان نذرها قبل النكاح أو كان النذر بإذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجباً عليها بحق سابق على نكاحه أو واجب أذن في سببه وإن كان النذر في نكاحه بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه حقه من الاستمتاع باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه وإن كان النذر مطلقاً أو كان صوم كفارة فصامت بإذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب بإذنه فأشبه ما لو صامت المعين بإذنه في وقته وإن صامت بغير إذنه فقال القاضي لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي، وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك وإن كان وقته مضيقاً مثل أن قرب رمضان آخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان (مسألة) (وإن اختلفا في نشوزها فادعى أنها نشزت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمينها) لأن الأصل عدم النشوز (مسألة) (وكذلك إن ادعى تسليم النفقة فأنكرته فالقول قولها كذلك)(9/262)
(مسألة) (وإن اختلفا في بذل التسليم فقالت بذلت لك تسليم نفسي فأنكرها فالقول قوله) لأنه منكرا والأصل عدم التسليم (فصل) وإن أعسر الزوج بنفقتها أو بعضها أو بالكسوة خيرت بين فسخ النكاح والمقام وتكون النفقة ديناً في ذمته، وعن أحمد ما يدل على أنها لا تملك الفسخ بإعساره، والأول المذهب، إذا منع الرجل
نفقة امرأته لعسرته وعدم ما ينفقه خيرت بين الصبر عليه وبين فراقه روي نحو ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحماد ومالك وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وعن أحمد أنها لا تملك الفسخ بالإعسار والأول المذهب وذهب عطاء والزهري وابن شبرمة وأبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها لتكتسب لأنه حق لها عليه فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين، وقال العنبري يحبس إلى أن ينفق ولنا قول الله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكاً بمعروف فتعين التسريح، وروى سعيد عن سفيان عن أبي الزنا وقال سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال نعم قلت سنة قال سنة؟ وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الاجناد في رجال غابوا من نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، ولأنه إذا ثبت الفسخ بالبجر عن الوطئ(9/263)
والضرر فيه أقل لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه، فلأن يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم البدن إلا بها أولى إذا ثبت هذا فانه متى ثبت الإعسار بالنفقة على الاطلاق فللمرأة المطالبة بالفسخ من غير إنظار، وهذا أحد قولي الشافعي، وقال حماد بن أبي سليمان يؤجل سنة قياساً على العنين، وقال عمر بن عبد العزيز اضربوا له شهراً أو شهرين، وقال مالك الشهر ونحوه، وقال الشافعي في القول الآخر يؤجل ثلاثاً لأنه قريب.
ولنا ظاهر حديث عمر رضي الله عنه ولأنه معنى يثبت الفسخ ولم يرد الشرع بالانظار فيه فأثبت الفسخ في الحال كالعيب ولأن سبب الفسخ الإعسار وقد وجد فلا يلزم التأخير (فصل) فإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم فليس ذلك إعساراً يثبت به الفسخ، لأن ذلك هو الواجب عليه وقد قدر عليه، وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها لم يكن لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وما يقوم به بدنها وإن كان صانعاً يعمل في الإسبوع ما يبيعه يوم بقدر كفايتها في الإسبوع كله لم يثبت الفسخ، لأن هذا يحصل الكفاية في جميع زمانه وإن تعذر عليه الكسب في بعض زمانه
أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ لأنه يمكنه الاقتراض إلى زوال العارض وحصول الاكتساب وكذلك إن عجز عن الاقتراض أياماً يسيرة، ولأن ذلك يزول عن قريب ولا يكاد يسلم منه كثير من الناس، وإن مرض مرضاً يرجى برؤه في أيام يسيرة فلم يفسخ لما ذكرناه وإن كان ذلك يطول فلها الفسخ لأن(9/264)
الضرر الغالب يلحقها ولا يمكنها الصبر وكذلك إن كان لا يجد من النفقة إلا يوماً دون يوم لأنها لا يمكنها الصبر على هذا فهو كمن لا يجد إلا بعض الفوت وإن اعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دونها فإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر فلا خيار لها لأن تلك الزيادة تسقط بإعساره ويمكن الصبر عنها (مسألة) (وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته وترك المطالبة جاز) لأن الحق لها وتكون النفقة ديناً في ذمته ثم إن بدا لها الفسخ أو تزوجت معسراً عالمة بحاله راضية بعسرته وترك إنفاقه أو شرط عليها أن لا ينفق عليها ثم عن لها الفسخ فلها ذلك وبه قال الشافعي وقال القاضي: كلام أحمد أنه ليس لها الفسخ ويبطل خيارها في الموضعين وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنيناً عالمة بعيبه أو قالت بعد العقد قد رضيت به عنيناً ولنا أن وجوب النفقة تتجدد كل يوم فتجدد لها الفسخ ولا يصح إسقاط حقها فيما لم يجب لها كإسقاط شفعتها قبل البيع، وكذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط ولو أسقطها أو أسقطت المهر قبل النكاح لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به وإن أعسر بالمهر وقلنا لها الفسخ لإعساره به فرضيت بالمقام لم يكن لها الفسخ لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة فإن(9/265)
تزوجته عالمة بإعساره بالمهر راضية فينبغي أن لا تملك الفسخ بإعساره لأنها رضيت بذلك في وقت لو أسقطته فيه سقط.
(فصل) وإذا رضيت بالمقام مع ذلك لم يلزمها التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها
وتحصل ما تنفقه عليها لأن في حبسها بغير نفقة إضراراً بها، وإن كانت موسرة لم يكن له حبسها لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عنما لابد لها منه ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب له عليها فإذا انتفي الامر إن لم يملك حبسها (مسألة) (وإن أعسر بنفقة الخادم أو النفقة الماضية أو نفقة الموسر أو المتوسط أو الأدم فلا فسخ لها وتكون النفقة ديناً في ذمته، وقال القاضي تسقط) إذا أعسر بالنفقة الماضية لم يكن لها الفسخ لأنها دين يقوم البدن بدونها فأشبهت سائر الديون وكذلك إن أعسر بنفقة الموسر أو المتوسط فلا فسخ لها لأن الزيادة تسقط بإعساره ويمكن الصبر عنها وكذلك إن أعسر بنفقة الخادم أو الأدم كذلك (مسألة) (ويثبت ذلك في ذمته، وكذلك إن أعسر بالسكن وقلنا لا يثبت لها الفسخ) وبهذا قال الشافعي، وقال القاضي لا يثبت لأنه من الزوائد فلم يثبت في ذمته كالزوائد عن الواجب عليه(9/266)
ولنا أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة كالنفقة الواجبة للمرأة قوتاً وهذا فيما عدا الزائد على نفقة المعسر فإن ذلك يسقط بالإعسار (مسألة) (وإن أعسر بالسكنى أو المهر فهل لها الفسخ؟ يحتمل وجهين) إذا أعسر بأجرة المسكن فلها الخيار في أحد الوجهين لأنه مما لابد منه أشبه النفقة والكسوة (والثاني) لا خيار لها لأن البينة تقوم بدونه، وهذا الوجه الذي ذكره القاضي، وإن أعسر بالصداق ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) ليس لها الفسخ اختاره ابن حامد (والثاني) لها الفسخ اختاره أبو بكر لأنه أعسر بالعوض فكان لها الرجوع في المعوض كما لو أعسر بثمن مبيعها (والثالث) إن أعسر قبل الدخول فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع بحاله، وإن كان بعد الدخول لم يملك الفسخ لأن المعقود عليه قد استوفي فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع أو بعضه وهذا المشهور في المذهب واختار شيخنا الرواية الأولى لأنه دين فلم يفسخ النكاح، للإعسار به كالنفقة الماضية ولأن تأخيره ليس فيه ضرر ومجحف فأشبه نفقة الخادم ولأنه لا نص فيه ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع لأن الثمن
كل مقصود البائع والعادة تعجيله والصداق فضلة ونحلة ليس هو المقصود في النكاح وكذلك لا يفسد النكاح بفساده ولا بترك ذكره والعادة تأخيره ولأن أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسراً به يشتري بثمن حال يكون موسراً به وليس الأكثر أن من يتزوج بمهر يكون موسراً به ولا يصح قياسه على النفقة لأن الضرورة لا تندفع(9/267)
إلا بها بخلاف الصداق فأشبه شئ به النفقة الماضية وللشافعي نحو هذه الوجوه، وإنما قلنا لها الفسخ للإعسار به فتزوجته عالمة بعسرته فلا خيار لها وجهاً واحداً لانها رضيت به كذلك، وكذا إن علمت عسرته فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ لأنها رضيت بإسقاط حقها بعد وجوبه فسقط كما لو رضيت بعثته (مسألة) (وإن أعسر زوج الأمة فرضيت لم يكن لسيدها الفسخ ويحتمل أن له ذلك) وجملة ذلك أن نفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها لأن كل واحد منهما ينتفع بها ولكل واحد منهما طلبها إذا امتنع الزوج من أدائها ولا يملك واحد منهما إسقاطها لأن في سقوطه بإسقاط إحداهما ضرراً بالآخر فعلى هذا إن أعسر الزوج فلها الفسخ لأنه عجز عن نفقتها فملكت الفسخ كالحرة، وإن لم تفسخ فقال القاضي: لسيدها الفسخ لأن عليه ضرراً في عدمها لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه وتلفه فان أتفق عليها سيدها محتسباً بالرجوع فله الرجوع بها على الزوج رضيت بذلك أو كرهت لأن الدين خالص حقه لا حق لها فيه وإن تعلق حقها بالنفقة الحاضرة لوجوب صرفها إليها وقوام بدنها به بخلاف الماضية، وقال أبو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها بالنفقة لانها حق لها فلم يملك سيدها الفسخ دونها كالفسخ للعنة فإن كانت معتوهة أنفق المولى وتكون النفقة ديناً في ذمة الزوج، وإن كانت عاقلة قال لها السيد: إن أردت النففة فافسخي النكاح وإلا فلا نفقة لك عندي (مسألة) (وإن أعسر زوج الصغيرة أو المجنونة لم يكن لوليهما الفسخ)(9/268)
لأنه فسخ نكاحها فلم يكن له ذلك كالفسخ بالعيب، ويحتمل أن يملك الفسخ لأنه فسخ لفوات
العوض فملكه كفسخ لتعذر الثمن (فصل) وإن اختلف الزوجان في الإنفاق عليها أو في تقبيضها نفقتها فالقول قول المرأة لأنها منكرة والأصل معها، وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة ليفرض لها نفقة الموسرين أو قالت كنت موسراً وأنكر ذلك فإن عرف له مال فالقول قولها وإلا فالقول قوله وبهذا كله قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن اختلفا في فرض الحاكم للنفقة أو في وقتها فقال فرضها منذ شهرين قالت بل منذ عام فالقول قوله، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان مقيماً معها فالقول قوله وإن كان غائباً عنها فالقول قول المرأة من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم ولنا أن قوله يوافق الأصل فقدم كما لو كان مقيماً معها وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه اليمين لأنها دعاو في المال فأشبهت دعوى الدين ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولكن اليمين على المدعى عليه " وإن دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت إنما فعلت ذلك تبرعاً وهبة قال بل وفاء للواجب علي فالقول قوله لأنه أعلم بنية أشبه ما لو قضى دينه فاختلف هو وغريمه في نيته، وإن طلق امرأته وكانت حاملاً فوضعت فقال طلقتك حاملاً فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت نفقتك ورجعتك قالت بل بعد الوضع فلي النفقة ولك الرجعة فالقول قولها لأن الأصل بقاء النفقة وعدم المسقط(9/269)
لها وعليها العدة ولا رجعة للزوج لإقراره بعدمها، وإن رجع فصدقها فله الرجعة لأنها مقرة لديها، ولو قال طلقتك بعد الوضع فلي الرجعة ولك النفقة قالت بل وأنا حامل فالقول قولها فيها فإن عاد فصدقها سقطت رجعته ووجبت لها النفقة هذا في ظاهر الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فيبني على ما يعلمه من حقيقة الأمر دون ما قاله (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن منعها النفقة أو بعضها مع اليسار وقدرت له على مال أخذت منه ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف بغير إذنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند حين قالت أن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وجملة ذلك أن الزوج إذا لم يدفع إلى زوجته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو دفع إليها
أقل من كفايتها فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه بإذنه وبغير إذنه لما ذكرنا من حديث هند وهو إذن لها في الأخذ من ماله بغير إذنه ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها وهو متناول لأخذ تمام الكفاية فإن ظاهر الحديث دل على أنه كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتممها لها فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه لأنه موضع حاجة فإن النفقة لا غنى عنها ولا قوام إلا بها فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى إلى ضياعها وهلاكها فرخص لها في أخذ قدر نفقتها دفعاً لحاجتها ولأن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئاً فشيئاً فتشق الرافعة إلى الحاكم والمطالبة(9/270)
بها في كل الأوقات فلذلك رخص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه وذكر القاضي بينها وبين الدين فرقاً آخر وهو أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض أهل العلم ما لم يكن الحاكم فرضها لها فلو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها والإضرار بها بخلاف الدين فإنه لا يسقط عند أحد بترك المطالبة فلا يؤدي ترك الأخذ إلى الإسقاط (مسألة) (فإن لم تقدر أجبره الحاكم وحبسه فإن صبر على الحبس ولم ينفق أخذ الحاكم النفقة من ماله فدفعها إلى المرأة فان لم يجد إلا عروضا أو عقار اباعه في ذلك) وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة النفقة في ماله من الدنانير والدراهم ولا يبيع عرضاً لأن بيع مال الإنسان لا ينفذ إلا بإذنه أو إذن وليه ولا ولاية على الرشيد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك " ولم يفرق ولأن ذلك مال له فتؤخذ منه النفقة كالدراهم والدنانير وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع بدليل ولايته على دراهمه ودنانيره وإن تعذرت النفقة في حال غيبته وله وكيل فحكم وكيله حكمه في المطالبة والأخذ من المال عند امتناعه وإن لم يكن له وكيل ولم تقدر المرأة على الأخذ أخذ لها الحاكم من ماله ويجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك إذا لم يجد ما ينفق سواه وينفق على المرأة يوماً بيوم وبه قال الشافعي ويحيى بن آدم وقال أصحاب الرأي يفرض لها في كل شهر(9/271)
ولنا أن هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها فلم يجز كما لو عجل لها أكثر من شهر (مسألة) (فإن غيب ماله وصبر على الحبس فلها الفسخ إذا لم يقدر الحاكم له على مال يأخذه أو لم يقدر على النفقة من مال الغائب في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي الخطاب) واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الفسخ في المعسر لعيب الإعسار ولم يوجد ههنا ولأن الموسر في مظنة الأخذ من ماله وإذا امتنع فربما لا يمتنع في غده بخلاف المعسر ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقو أو هذا اجبار على الطلاق عند الامتناع من الإنفاق ولأن الإنفاق عليها من ماله متعذر فكان لها الخيار كحال الإعسار بل هذا أولى بالفسخ فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فعلى غيره أولى، ولأن في الصبر ضرراً أمكن إزالته بالفسخ فوجبت إزالته دفعاً للضرر ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ فلم يفترق الحال بين المعسر والموسر كأداء ثمن المبيع فإنه لا فرق في جواز لفسخ بين أن يكون المشتري معسراً وبين أن يهرب قبل أداء الثمن ولأن عيب الإعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الإنفاق بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليها أو تبرع له إنسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ، وقولهم أنه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا قلنا وكذلك المعسر يحتمل أن يعينه الله تعالى وإن يقترض أو يعطى ما ينفقه فاستويا (مسألة) (وإن غاب زوجها ولم يترك لها نفقة فإن قدرت له على مال أخذت بقدر حاجتها(9/272)
لحديث هند، وإن لم تقدر ولا قدرت على الاستدالة عليه فلها الفسخ إلا عند القاضي فيما إذا لم يثبت إعساره وهذا ظاهر مذهب الشافعي، لأن الفسخ ثبت لعيب الإعسار ولم يثبت الاعسار ههنا وقد دللنا على جواز الفسخ في المسألة التي قبلها، وهذه مثلها بل هي أولى لان الحاضر ربما إذا أطال عليه الحبس اتفق وهذا قد تكون غيبته بحيث لا يعلم خبره فيكون الضرر فيه أكثر (فصل) ومن وجب عليه نفقة زوجته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها فله ذلك إن كانت موسرة لأن من له عليه حق فله أن يقتضيه من أي أمواله وشاء وهذا من ماله وإن كانت معسرة لم يكن له ذلك لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته وهذا لا يفضل عنها ولأن الله تعالى أمر بإنظار المعسر بقوله سبحانه (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) فيجب أنظارها بما عليها
(فصل) إذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ثم بان أنه قد مات قبل انفاقها حسب عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم، وبه قال أبو العالية وابن سيرين والشافعي وابن المنذر ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأنها أنفقت ما لا تستحق وإن فضل لها شئ أخذته وإن فضل عليها شئ وكان لها صداق أو دين على زوجها حسب منه وإن لم يكن لها شئ كان الفضل ديناً عليها والله أعلم.(9/273)
(مسألة) (ولا يجوز الفسخ في ذلك كله إلا بحكم الحاكم) كل موضع وجب لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز إلا بحكم حاكم لأنه فسخ مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنة ولا يجوز له الفسخ إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال مالك هو تطليقة وهو أحق بها أن أيسر في عدتها لانه تفريق لامتاع، من الواجب عليه لما فأشبه تفريقه بين المولى وامرأته إذا امتنع من العنة والطلاق ولنا أنها فرقة لعجزه عن الواجب عليه أشبهت فرقة العنة، فأما إن أجبره الحاكم على الطلاق فطلق اقل من ثلاث فله الرجعة عليها مادامت في العدة فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها ولم يمكن الأخذ من ماله فطلبت المرأة الفسخ فللحاكم الفسخ لبقاء المقتضي له أشبه ما قبل الطلاق (باب نفقة الأقارب والمماليك) يجب على الإنسان نفقة والديه وولده بالمعروف إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه وامرأته، والأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولودين الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال سبحانه (وقضى ربك أن لا تعبدوا(9/274)
إلا إياه وبالوالدين إحسانا) ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أطيب
ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " رواه أبو داود، وأما الإجماع فحكاه ابن المنذر وقال أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم، ولأن ولد الانسان بعضه والده كما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله، إذا ثبت هذا فإن الأم تجب نفقتها ويجب عليها نفقة ولدها إذا لم يكن له أب، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أنه لا نفقة لها ولا عليها لأنها ليست عصبة لولدها ولنا قوله سبحانه (وبالوالدين إحسانا) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سأله من أبر؟ قال " أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب " رواه أبو داود ولانها أحد الولدين فأشبهت الأب ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العفو فأشبهت الأب فان أعسر الاب وجبت النفقة على الأم ولم ترجع بها عليه إن أيسر، وقال أبو يوسف ومحمد ترجع عليه ولنا أن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب(9/275)
(مسألة) (ويلزمه نفقة سائر آبائه وإن علوا وأولاده وإن سلفوا) وبذلك قال الشافعي والثوري وأصحاب الرأي، وقال مالك لا تجب النقة عليهم ولا لهم لأن الجد ليس بأب حقيقي.
ولنا قوله سبحانه (وعلى الوارث مثل ذلك) ولا يدخل في مطلق اسم الولد والولد بدليل أن الله تعالى قال (يوصيكم الله في أولادكم الذكر مثل حظ الاثنين) فيدخل فيهم ولد البنين وقال (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) وقال (ملة أبيكم إبراهيم) ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالدين القريبين (فصل) ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكونوا فقراء لا مال لهم ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يكفيهم فلا نفقة لهم لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة (الثاني) أن يكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلاً
عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شئ فلا يجب عليه شئ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته " وفي لفظ " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " حديث صحيح وروى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال " تصدق به على نفسك " قال عندي آخر قال " تصدق به على(9/276)
ولدك " قال عندي آخر قال " تصدق به على زوجك " قال عندي آخر قال " تصدق به على خادمك " قال عندي آخر قال " أنت أبصر " رواه أبو داود ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة (والثالث) أن يكون المنفق وارثاً لقول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) ولأن بين المتوارثين قرابة يقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم فإن لم يكن وارثاً لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة كذلك (فصل) ولا يشترط في نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي لا يشترط ذلك في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين (إحداهما) تلزم نفقته لأنه فقير (والثانية) أنه إن كان يكتسب فينفق على نفسه لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته رواية واحدة سواء كان ناقص الأحكام كالصغير والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن، وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن يقدر على الكسب بيديه، وقال الشافعي يشترط نقصانه إما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة وقال أبو حنيفة ينفق على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحاً انقطعت نفقته، ولا تسقط نفقة الجارية حتى(9/277)
تزوج ونحوه قال مالك إلا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن وإن طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولم يستثن منهم صحيحاً ولا بالغاً ولأنه والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمناً، ووافق أبو حنيفة
على وجوب نفقة الوالد وإن كان صحيحاً إذا لم يكن ذا كسب وللشافعي في ذلك قولان ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن (مسألة) (وتلزمه نفقة كل من يرثه بفرض أو تعصيب ممن سواهم سواء ورثه الآخر لولا كعمته وعتيقه وحكي عنه ان لم يرثه الآخر فلا نفقة له) ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لورثته إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرها وهو الذي ذكره الخرقي، وبه قال الحسن ومجاهد والنخعي وقتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وأبو ثور، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء وكذلك روى عن أبيه عن أحمد النفقة على العصبات وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وذلك لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقة احتج به أحمد قال إبن المنذر وروي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء، ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة فاختصت بالعصبات كالعقل، وقال أصحاب الرأي تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ولا تجب على غيرهم(9/278)
لقول الله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقال مالك والشافعي وابن المنذر لا نفقة إلا على المولودين والوالدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عندي دينار قال " أنفقه على نفسك - قال عندي آخر قال - أنفقه على ولدك - قال عندي آخر قال - أنفقه على زوجك - قال عندي آخر قال - أنفقه على خادمك - قال عندي آخر قال - أنت أبصر " رواه أبو داود ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يحلق بهم في الولادة وأحكامها فلا يصح قياسه عليهم ولنا قول الله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ثم قال (وعلى الوارث مثل ذلك) فأوجب على الأب نفقة الرضاع ثم عطف الوارث عليه وأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد وروي ان رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أبر؟ قال " أمك وأباك وأختك وأخاك " وفي لفظ " ومولاك الذي هو أدناك حقاً واجباً ورحماً موصولاً " رواه أبو داود وهذا نص لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة جعلها حقاً واجبا، وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه فإن اللفظ عام في كل ذي رحم محرم فيكون حجة عليه فيمن عدا الرحم المحرم وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الانفاق وأما خبر أصحاب الشافعي فقضية في عين يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه ولهذا لم يذكر الوالد والاجداد وأولاد الأولاد، وقولهم لا يصح القياس قلنا إنما أثبتناه بالنص ثم أنهم قد ألحقوا أولاد الأولاد بالأولاد مع التفاوت ما قالوا.
إذا ثبت هذا فإنه يختص بالوارث بفرض أو تعصيب لعموم الآية ولا يتناول ذوي الأرحام على ما نذكره (فصل) فإن كان اثنان يرث أحدهما قريبة ولا يرثه الآخر كالرجل مع عمته أو ابته عمه وابنة أخيه والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها فالنفقة على الوارث دون الموروث نص عليه أحمد في رواية(9/279)
ابن زياد فقال يلزم الرجل نفقة بنت عمه ولا يلزمه نفقة بنت أخته، وذكر أصحابنا رواية أخرى لا تجب النفقة على الوارث ههنا لأنها قرابة ضغيفة لكونها لا يثبت التوارث من الجهتين لقول أحمد العمة والخالة لا نفقة لهما إلا أن القاضي قال: هذه الرواية محمولة على العمة من الأم فإنه لا يرثها لكونها ابن أخيها من أمها، وذكر الخرقي أن على الرجل نفقة معتقه لأنه وارث، ومعلوم أن المعتق لا يرث معتقه ولا يلزمه نفقته فعلى هذا يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمه وابنة أخيه كذلك ولا يلزمهن نفقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول سبحانه وتعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) وكل واحد من هؤلاء وارث (مسألة) (فأما ذوو الأرحام فلا نفقة عليهم رواية واحدة ذكره القاضي وقال أبو الخطاب يخرج في وجوبها عليهم روايتان) أما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم نص عليه أحمد فقال الخالة والعمة لا نفقة عليهما قال القاضي لا نفقة لهم رواية واحدة لأن قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسلمين فإن المال يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث وذلك الذي يأخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم
وقال أبو الخطاب يخرج في وجوبها عليهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات(9/280)
وذوي الفرض لأنهم وارثون في تلك الحال.
قال ابن أبي موسى هذا يتوجه على معنى قوله، والأول هو المنصوص عنه، وأما عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء كانوا من ذوي الأرحام كأبي الأم وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضيه تقتضي رد الشهادة وتمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد، وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى (مسألة) (وإن كان للفقير وارث فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه لأن الله تعالى رتب النفقة على الإرث لقوله سبحانه وعلى الوارث مثل ذلك فيجب أن يترتب في المقدار عليه) وجملة ذلك أن الصبي إذا لم يكن له أب فالنفقة على وارثه لما ذكرنا فإن كان له وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه، وإن كانوا ثلاثة أو أكثر فالنفقة عليهم على قدر ارثهم منه (مسألة) (فإذا كان له أم ولد فعلى الأم الثلث والباقي على الجد) لانهما يرثانه كذلك، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي النفقة كلها على الجد لأنه يتفرد بالتعصيب فأشبه الأب، وقد ذكرنا عن أحمد رواية أخرى أن النفقة على العصبات خاصة، ووجه الأول ما ذكرنا من الآية والأم وارثة فكان عليها بالنص ولأنه معنى يستحق بالنسب فلم يختص به العصبة دون الأم كالوراثة(9/281)
(فصل) فإن اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثاً كالميراث، وقال أبو حنيفة النفقة عليهما سواء لاستوائهما في القرب، وإن كانت أم وابن فعلى الأم السدس والباقي، إن كانت بنت وابن ابن فالنفقة عليهما نصفين، وعند أبي حنيفة هي على البنت لأنها أقرب، وقال الشافعي في المسائل الثلاث: النفقة على الابن لأنه العصبة فإن كانت له أم وبنت فالنفقة عليهما أرباعاً كميراثهما منه وبه قال أبو حنيفة، وعند الشافعي النفقة على البنت لانهما تكون عصبة مع أخيها فإن كان له بنت
وابن بنت فالنفقة على البنت، وقال أصحاب الشافعي النفقة على الابن في أحد الوجهين لأنه ذكر ولنا قول الله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) فرتب النفقة على الإرث فيجب أن تترتب في المقدار عليه وإيجابها على ابن البنت يخالف النص والمعنى فإنه ليس بعصبة ولا وارث فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثة (مسألة) (وان اجتمع جدة وأخ فعلى الجدة السدس والباقي على الأخ لأن ميراثهما منه كذلك وعلى هذا المعنى حساب النفقات) يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث فكما أن للجدة السدس من الميراث فكذلك عليها سدس النفقة والباقي على الأخ لأن باقي الميراث له وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي النسب يجعل النفقة كلها على الجدة وهذا أصل قد سبق الكلام فيه فان اجتمع بنت وأخت(9/282)
أو بنت وأخ أو بنت وعصبة أو أخت وعصبة أو أخت وأم أو بنت وبنت ابن أو أخت لأبوين وأخت لأب أو ثلاث أخوات متفرقات فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك سواء كان في المسألة رد أو عول أو لم يكن، وعلى هذا تحسب ما آتاكك من المسائل.
فإن اجتمع أم أم وأم أب فهما سواء في النفقة لاستوائهما في الميراث (فصل) فإن اجتمع معها أبو أم فالنفقة على أم الأم لأنها الوارثة، وإن اجتمع أم أب وأبوان فعلى الأب السدس والباقي على الجد، وإن اجتمع جد وأخ فهما سواء، وإن اجتمعت أم وجد وأخ فالنفقة عليهم أثلاثاً وعند الشافعي النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى فالنفقة عليهما بالسوية وقد مضى الكلام في هذا (فصل) فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه على قدر ميراثه فإن انكشف بعد ذلك حاله فبان أنه أنفق.
أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكه في الإنفاق، وإن بان أنه أنفق أقل رجع عليه فلو كان للرجل ابن وولد خنثى عليهما نفقته فأنفقا عليه ثم بان أن الخنثى ابن رجع عليه أخوه بالزيادة، وإن بان بنتاً رجعت على أخيها بفضل نفقتها لأن من له الفضل أدى ما لا
يجب عليه أداؤه معتقداً وجوبه فإذا تبين خلافه رجع بذلك كما لو ادى ما يعتقده ديناً فبان خلافه (مسألة) (إلا أن يكون له أب فتكون النفقة عليه وحده)(9/283)
لأن الله تعالى قال (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن - وقال - وعلى المولود رزقهن وكسوتهن) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فجعل النفقة عليه دونها ولا خلاف في هذا نعلمه إلا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجهين (أحدهما) أن النفقة على الأب وحده (والثاني) عليهما لأنهما سواء في القرب ولنا أن النفقة على الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه (مسألة) (ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما وهكذا ذكره القاضي وأبو الخطاب) لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ لا نفقة عليه لعدم إرثه ولأن قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له فإذا لم يكن وارثاً لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم.
قال شيخنا ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان من يحجبه معسراً وجهان (أحدهما) لا نفقة عليه لأنه غير وارث أشبه الأجنبي (والثاني) عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والإنفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الإنفاق لأنه معسر لا يمكنه الإنفاق فوجوده بالنسبة إلى الإنفاق كعدمه (مسألة) (ومن له أم فقيرة وجدة موسرة فالنفقة عليها يعني على الجدة) وجملة ذلك أن الوارث القريب إذا كان معسراً وكان البعيد الموسر من عمودي النسب كهذه المسألة وجبت نفقته على الموسر ذكر القاضي في أب معسر وجد موسر أن النفقة على الجد، وقال في(9/284)
أم معسرة وجدة موسرة النفقة على الجدة وقد قال أحمد لا تدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن " إن ابني هذا سيد " فسماه ابنه وهو ابن بنته وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب أن تلزمه نفقتهم مع حاجتهم وهذا مذهب الشافعي (فصل) فإن كان له قرابتان موسران وأحدهما محجوب عن ميراثه بفقير فقد ذكرنا أن المحجوب إذا كان من عمودي النسب فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفة عنه في المسألة قبل هذا الفصل، وإن كان من غيرهما فلا نفقة عليه في الظاهر فعلى هذا إذا كان له أبوان وجد والأب معسر فالأب
كالمعدم فيكون على الأم ثلث النفقة والباقي على الجد، وإن كان معهم زوجة فكذلك، وإن قلنا لا نفقة على المحجوب فليس على الأم ههنا الاربع النفقة ولا شئ على الجد، وإن كان أبوان وأخوان وجد والأب معسر فلا شئ على الاخوين لأنهما محجوبان وليسا من عمودي النسب ويكون على الأم الثلث والباقي على الجد كما لو لم يكن أحد غيرهما ويحتمل أن لا يجب على الأم إلا السدس لأنه لو كان الأب معدوماً لم يرث إلا السدس، وإن قلنا أن كل محجوب لا نفقة عليه فعلى الأم السدس حسب ولا شئ على غيرها وإن لم يكن في المسألة جد فالنفقة كلها على الأم على القول الأول وعلى الثاني ليس عليها إلا السدس وإن قلنا أن على المحجوب بالعسر النفقة وإن كان من غير عمودي النسب فعلى الأم السدس والباقي على الجد والأخوين أثلاثاً كما يرثون إذا كان الأب معدوماً فإن كان بعض من(9/285)
عليه النفقة غائباً وله مال حاضر أنفق الحاكم منه حصته وإن لم يوجد له مال حاضر فأمكن الحاكم الاقتراض عليه اقترض فإذا قدم فعليه وفاؤه (مسألة) (ومن كان صحيحاً مكلفاً لا حرفة له سوى الوالدين فهل تجب نفقة؟ على روايتين) (إحداهما) تجب إذا كان فقيراً عاجزاً عن الكسب لعموم قول النبي صلى لله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولم يستثن بالغاً ولا صحيحاً ولأنه ولد فقير فاستحق النفقة على والده الغني كالزمن (والثانية) لا يجب وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الولد الذكر فأما الجارية فقال أبو حنيفة لا تسقط نفقتها حتى تتزوج ونحوه قول مالك لأنه في مظنة الكسب يقدر عليه غائبا أشبه الغني والأول أولى (مسألة) (ومن لم يفضل عنده لا نفقة شخص واحد بدأ بالأقرب فالأقرب فإن كان له أبوان ان جعله بينهما) إذا لم يفضل عن الرجل إلا نفقة شخص واحد وله امرأة فالنفقة لها دون الأقارب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل فعلى قرابته " ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة المرأة تجب على سبيل المعارضة فقدمت على مجرد المواساة وكذلك وجبت مع يساره وإعساره بخلاف نفقة القريب ثم بعدها نفقة الرقيق لأنها تجب مع اليسار والإعسار فقدمت على مجرد المواساة ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب
(مسألة) (فإن كان له أبوان فهو بينهما)(9/286)
هذا أحد الوجوه لتساويهما في القرب (والثاني تقدم الأم لأنها أحق بالبر ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية وزيادة الشفقة وهي أضعف وأعجز (والثالث) يقدم الاب لفضيلته وانفرده بالولاية على ولده واستحقاق الأخذ من ماله واضافة النبي صلى الله عليه وسلم الولد وماله إليه بقوله " أنت ومالك لأبيك " والأول أولى (مسألة) (وإن كان معهما ابن فقال القاضي إن كان الابن صغيراً أو مجنوناً قدم) لأن نفقة وجبت بالنص مع أنه عاجز عن الكسب والكبير في مظنة الكسب وإن كان الابن كبيراً والأب زمن فهو أحق لانه لأن حرمته آكد وحاجته أشد ويحتمل تقديم لابن لان نفقته وجبت بالنص وإن كانا صحيحين فقيرين ففيه ثلاثا أوجه (أحدها) التسوية لتساويهما في القرب (والثاني) تقديم الابن لوجوب نفقته بالنص (والثالث) تقديم الوالد لتأكد حرمته (مسألة) (وإن كان له أب وجد أو ابن وابن ابن فالأب والابن أحق) وقال أصحاب الشافعي يستوي الأب والجد في أحد الوجهين وكذلك الابن وابنه لتساويهم في الولادة والتعصيب ولنا ان الابن والأب أقرب وأحق بميراثه فكانا أحق الاب مع الأخ (فصل) وإن اجتمع ابن وجد أو أب ابن ابن احتمل وجهين (أحدهما) تقديم الابن والأب(9/287)
لانهما أقرب فانما يليانه بنبر واسطة ولا يسقط إرثهما بحال والجد وابن الابن بخلافهما ويحتمل التسوية بينهما لأنهما سواء في الإرث والتعصيب والولادة والأول أولى فإن اجتمع جد وابن ابن فهما سواء لتساويهما في القرب والإرث والولادة والتعصيب ويحتمل تقديم الابن لأن نفقة ثبتت بالنص ولأنه يسقط تعصيب الجد ويحتمل تقدم الجد لتأكد حرمته بالأبوة وإن اجتمع جد وأخ احتمل التسوية بينهما لتساويهما في استحقاق الميراث والصحيح تقديم الجد لأن له مزية الولادة والأبوة ولأن ابن ابنه
يرثه ميراث ابن والأخ ميراث أخ وميراث الابن آكد فالنفقة الواجبة به تكون آكد وإن كان مكان الأخ ابن أخ أو عم فالجد أحق بكل حال لأنه يقدم عليهما في الميراث (مسألة) (ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين) وقبل في عمودي النسب روايتان ذكرهما القاضي (إحداهما) تجب مع اختلاف الدين وهو مذهب الشافعي لأنها نفقة مع اتفاق الدين فتجب مع اختلافه كنفقة لزوجة والمملوك ولأنه يعتق عليه فيجب عليه لانفاق عليه كما لو انفق دينهما ولنا أنها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب ولانهما لا يتوارثان فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقة القرابة كما لو كان أحدهما رقيقاً ويفارق نفقة الزوجات لأنها عوض يجب مع الإعسار فلم ينافها اختلاف الدين كالصداق والأجرة وكذلك يجب(9/288)
مع الرق فبهما أو في أحدهما وكذلك النفقة المماليك ولأن هذه النفقة صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف الدين كأداء زكاته إليه ونقله عنه وارثه منه (مسألة) (وإن ترك الإنفاق الواجب مدة لم يلزمه عوضه) لأن نفقة القريب وجبت لدفع الحاجة وإحياء النفس وتزجية الحال وقد حصل له ذلك في الماضي بدونها فإن كان الحاكم قد فرضها فينبغي أن تلزمه لأنها تأكدت بفرض الحاكم فلزمته كنفقة الزوجة (فصل) ويلزم الرجل إعفاف أبيه إذا احتاج إلى النكاح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم في إعفاف الأب الصحيح وجه أنه لا يجب، وقال أبو حنيفة لا يلزم الرجل إعفاف أبيه سواء وجبت نفقته أو لم تجب لأن ذلك من املاذ فلم تجب للأب كالحلوى، ولانه أحد الأبوين فلم يجب ذلك له كالأم ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلوى فإنه لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والأدم، وأما الأم فإن إعفافها إنما هو بتزويجها إذا طلبت ذلك وخطبها كفء لها ونحن نقول بوجوبه عليه وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت ذلك.
فإنه يجب إعفاف من وجبت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يكن إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب إلا
أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الأم فيقدم الذي من جهة الأب وإن بعد لأنه عصبة والشرع قد اعتبر جهته في التوريث والتعصيب فكذلك في الانفاق والاستحقاق(9/289)
(فصل) واذا وجب عليه إعفاف أبيه فهو مخير إن شاء زوجه وان شاء ملكه أمة أو دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة وليس للأب التخيير عليه إلا أن الأب إذا عين امرأة وعين الابن أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحد فقدم قوله كما لو عينت البنت كفؤا ولاب غيره قدم تعينها فإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر لأنه إنما يلزمه أقل ما يحصل به الكفاية وليس له أن يزوجه قبيحة ولا يملكه إياها ولا كبيرة لا استمتاع فيها ولان يزوجه أمة لأن فيه ضرراً بإرقاق ولده والنقص في استمتاعه فإن رضي الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يلحق بغيره وهو الولد وكذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة، ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع ما دفعه إليه ولا عرض ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة فإن زوجه أو ملكه أمة فطلق لزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانياً لأنه فوت ذلك على نفسه فإن ماتتا فعليه إعفافه ثانياً لأنه لا صنع له في ذلك، وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجاً إلى الأعفاف ذكره أصحابنا وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم لا يجب ذلك.
ولنا أنه من عمودي نسبه فلزمه نفقته فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه كأبيه، قال القاضي وكذلك يجئ في كل من لزمته نفقته من أخ وعم وغيرهم، لأن أحمد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه.(9/290)
(مسألة) (ومن لزمته نفقة رجل فهل يلزمه نفقة امرأته؟ على روايتين) كل من لزمه إعفاف رجل لزمته نفقة امرأته.
لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك، وقد روي عن أحمد أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الأبن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها.
(فصل) والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والأدم والكسوة بقدر العادة كما
ذكرنا في الزوجة لأنها وجبت للحاجة فتقدرت بما تندفع به الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفارة فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه كقولنا في الزوجة لأن ذلك من تمام الكفاية (فصل) ويجب على المعتق نفقة عتيقه على قولنا إن النفقة تجب على الوارث على ما قررناه والمعتق وارث عتيقه فوجبت عليه نفقته إذا كان فقيراً ولمولاه يسار ينفق عليه منه وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لا تجب عليه نفقته بناء على أصولهم المذكورة ولنا قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ومولاك الذي يلي ذاك، حقاً واجباً ورحماً موصولاً " ولأنه يرثه بالتعصيب فكانت عليه نفقته كالأب، ويشترط في وجوب الإنفاق عليه الشروط المذكورة في غيره(9/291)
(فصل) فإن مات مولاه فالنفقة على الوارث من عصباته على ما ذكرناه في الولاء ويجب على السيد نفقة أولاد عتيقه إذا كان له عليهم ولاء لأنه عصبتهم ووارثهم وعليه نفقة أولاد معتقيه إذا كان أبوهم عبداً كذلك فإن أعتق أبوهم فاتجر الولاء إلى معتقه صار ولاؤهم لمعتق أبيهم ونفقتهم عليه إذا كملت الشروط وليس على العتيق نفقة معتقه وإن كان فقيراً لأنه لا يرثه، فإن كان واحد منهما مولى الآخر فعلى كل واحد منهما نفقة الآخر لأنه يرثه (فصل) وليس على العبد نفقة ولده حرة كانت الزوجة أو أمة لأن الحرة ولدها أحرار وليس على العبد نفقة أقاربه الأحرار لأن نفقتهم تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها وإن كانت زوجته مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها فتكون نفقتهم على مالكهم (فصل) ونفقة أولاد المكاتب الأحرار وأقاربه لا تجب عليه لأنها تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها وكذلك لا تجب عليه الزكاة في ماله فإن كانت زوجته حرة فنفقة أولادها عليها لأنهم يتبعونها في الحرية، وإن كان لهم أقارب أحرار كجد وأخ حر مع الأم أنفق كل واحد منهم بحسب ميراثه والمكتب كالمعمدوم بالنسبة إلى النفقة، فأما ولد المكاتب من أمته فنفقتهم عليه لأن ولده من
أمته تابع له يعتق بعتقه فجرى مجرى نفسه في النفقة فكما أنه ينفق على نفسه فكذلك على ولده الذي هذا حاله وهذا الولد ليس له من ينفق عليه سوى أبيه فإن أمه أمة للمكاتب وليس له من الأحرار أقارب(9/292)
فيتعين على المكاتب الانفاق عليه كأنه ولأنه لا ضرر على السيد في إنفاق المكاتب على ولده من أمته لأنه إذا أدى وعتق فقد في مال الكتابة وليس للسيد أكثر منه وان عجز ورق عاد إليه المكاتب وولده الذي أنفق عليه فكأنه إنما أنفق على عبده وتصير نفقته عليه كنفقته على سائر رقيقه (فصل) فأما ولد المكاتب إذا كان من زوجته المكاتبة فإنهم يتبعونها في الكتابة ويكون حكمهم حكمها إن رقت رقوا وإن عتقت بالأداء.
عتقوا فتكون نفقتهم عليها مما في يديها في حكم نفسها ونفقتها على نفسها مما في يدها فكذلك نفقة ولدها، وأما زوجها المكاتب فليس عليه نفقتهم لأنهم عبيد لسيد المكاتبة فإن أراد المكاتب التبرع بالنفقة على ولده من أمة أو مكاتبة لغير سيده أو حرة فليس له ذلك لأن فيه تغريراً بمال سيده، وإن كان من أمة لسيده جاز لأنه مملوك لسيده فهو ينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده وإن كان من مكاتبة لسيده احتمل الجواز لأنه في الحال بمنزلة أمه وأمه مملوكة لسيدها واحتمل أن لا يجوز لأن فيه تغريراً ويحتمل أن يعجز هو وتؤدي المكاتبة فيعتق لدها فيحصل الإنفاق عليه من مال سيده ويصير حراً (فصل) ويجب نفقة ظئر الصبي على من تلزمه نفقته، لأن نفقة ظئر الصغير كنفقة الكبير ويختص وجوب النفقة بالأب وحده كالكبير (مسألة) (وليس له منع المرأة من رضاع ولدها إذا طلبت ذلك)(9/293)
إذا طلبت الأم رضاع ولدها بأجر مثلها فهي أحق به سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد، وقال أصحاب الشافعي إن كانت في حبال الزوج فلزوجها منعها من رضاعة لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان، وإن استأجرها على رضاعه لم يجر لان النافع حق له فلا يجوز أن يستأجر ما هو أو بعضه حق له، وان ارضعت الولد فهل لها أجر المثل؟ على وجهين
وإن كانت مطلقة فطلبت أجر المثل فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من يرضعه بأجر المثل أو أكثر لم يكن له ذلك، وإن وجد متبرعة أو مرضعة بدون أجر المثل فله انتزاعه منها في ظاهر المذهب لأنه لا يلزمه التزام المؤنة مع دفع حاجة الولد بدونها، وقال أبو حنيفة إن طلبت الأجرة لم يلزم الأب بذلها ولا يسقط حقها من الحضانة وتأتي المرضعة ترضعه عندها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز الإخلال بأحدهما ولنا قوله سبحانه (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فقدمهن على غيرهن وهذا خبر يراد به الأمر وهو عام في كل والده وقوله فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) ولنا على جواز الاستئجار أنه عقد اجارة يجوز مع غير الزوج إذا أذن فيه فجاز مع الزوج كإجارة نفسها للخياطة، وقولهم إن المنافع مملوكة له لا يصح لأنه لو ملك منفعة الحضانة لملك إجبارها عليها ولم يجز إجارة نفسها لغيره بإذنه ولكانت الأجرة له وإنما امتنع إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الزمان ولهذا جازت بإذنه وإذا استأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي، أما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا(9/294)
طلبت أجر المثل على المتبرعة فما ذكرنا من الآيتين، ولان الام حتى وأشفق ولبنها أمرأ من لبن غيرها فكانت أحق به من غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعه.
بأجر مثلها ولأن في رضاع غيرها تفويتاً لحق الأم من الحضانة وإضراراً بالولد ولا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب، وقول أبي حنيفة يفضي الى تفويت حق الولد من لبن أمه وتفويت الأم في إرضاعه لبنها فلم يجز ذلك كما لو تبرعت برضاعه.
فأما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها ووجد الأب من يرضعه بأجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها لأنها أسقطت حقها باشتطاطها وطلبها ما ليس لها فدخلت في قوله تعالى (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) وإن لم يجد مرضعة إلا بتلك الأجرة فالأم أحق لأنهما تساوتا في الآجر فقدمت الأم كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها (فصل) وإن طلبت المزوجة بأجنبي إرضاع ولدها بأجر مثلها بإذن زوجها ثبت حقها وكانت
أحق به من غيرها لأن الأم إنما منعت من الإرضاع لحق الزوج فإذا أذن فيه زال المانع فصارت كغير ذات الزوج وإن منعها الزوج سقط حقها لتعذر وصولها إليه (فصل) وإن أرضعت المرأة ولدها وهي في حبال والده فاحتاجت إلى زيادة نفقة لزمه لقول الله(9/295)
تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ولأنها تستحق عليه قدر كفايتها فإذا زادت حاجتها زادت كفايتها (مسألة) (وإن امتنعت من رضاعه لم تجب إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه) ليس للزوج إجبار أم الولد على ارضاعه دنية كانت أو شريفة وسواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة قال شيخنا ولا نعلم في عدم إجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافاً وكذلك إن كانت مع الزوج عندنا، وبه يقول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح له إجبارها على ذلك وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) والمشهور عن مالك أنها إن كان شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع لولدها لم تجبر عليه وإن كانت ممن ترضع في العادة أجبرت عليه ولنا قول الله تعالى (وإن تعاسرهم فسترضع له أخرى) وإذا اختلفا فقد تعاسراً ولأن الإجبار على الرضاع إما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج أو لهما لا يجوز أن يكون لحق الزوج فإنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به، ولا يجوز أن يكون لحق الولد لأنه لو كان له للزمها بعد الفرقة ولأنه مما يلزم الوالد لولده فلزم الأب على الخصوص كالنفقة أو كما بعد الفرقة، ولا يجوز أن يكون لهما لأن مالا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض(9/296)
ولأنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة والآية محمولة على حالة الإنفاق وعدم التعاسر فأما إن اضطر الولد إليها بأن لا توجد مرضعة سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب عليها التمكين من إرضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها كما لو لم يكن أحد غيرها
(مسألة) (ولا يجب عليه أجرة الظئر لما زاد على الحولين لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) (مسألة) (وإن تزوجت المرأة فلزوجها منعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها) وجملة ذلك أن للزوج منع امرأته من رضاع ولدها من غيره ومن رضاع ولد غيرها إلا أن يضطر إليها لأن عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات الصلوات والرضاع يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له منعها كالخروج من منزله فأما إن اضطر إليه بأن لا توجد من ترضعه غيرها أو لا يقبل الارتضاع من غيرها وجب التمكين من إرضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها فقدم على حق الزوج كتقديم المضطر على المالك إذا لم يكن بالمالك مثل ضرورته.
(فصل) فإن أرادت إرضاع ولدها فكلام الخرقي يحتمل وجهين:(9/297)
(أحدهما) له منعها لعموم لفظه في هذه المسألة وهو قول الشافعي لأنه يخل بالاستمتاع منها فأشبه ولد غيرها (والثاني) ليس له منعها فإنه قال ألا إن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وذلك لقول الله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) وهو خبر يراد به الأمر وهو عام في كل والده، وقال أصحاب الشافعي يحمل على المطلقات ولا يصح ذلك لأنه جعل لهن رزقهن وكسوتهن وهم لا يجيزون جعل ذلك أجر الرضاع ولا غيره وقولنا في الوجه الأول أنه يخل باستمتاعه.
قلنا: ولكن لإيفاء حق عليه وليس ذلك ممتنعاً كما أن قضاء دينه بدفع ما له فيه واجب لا سيما إذا تعلق به حق الولد مع كونه مع أمه وحق الأم في الجميع بينهما وبين ولدها، وهذا الوجه ظاهر كلام ابن أبي موسى والأول ظاهر كلام القاضي أبي يعلى.
(فصل) فإن أجرت المرأة نفسها للرضاع ثم تزوجت صح النكاح ولم يملك الزوج فسخ الإجارة ولا منعها من الرضاع حتى تمضي المدة لأن منافعها ملكت بعقد سابق على نكاحه أشبه ما لو اشترى
أمة مستأجرة، وإن نام الصبي أو اشتغل بغيرها فللزوج الاستمتاع وليس لولي الصبي منعه وبهذا قال الشافعي وقال مالك ليس له وطؤها إلا برضى الولي لأن ذلك ينقص اللبن ولنا أن وطئ الزوج مستحق بالعقد فلا يسقط بأمر مشكوك فيه كما لو أذن فيه الولي، ولأنه(9/298)
يجوز له الوطئ مع إذن الولي فجاز مع عدمه لأنه ليس للولي الاذن فيما يضر بالصبي ويسقط حقه (فصل) فإن أجرت المرأة المزوجة نفسها للرضاع بإذن زوجها جاز ولزم العقد لأن الحق لهما لا يخرج عنهما.
وإن اجرتها بغير إذنه لم يصح لتضمنه تفويت حق زوجها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والآخر يصح لأنه يتأول محلاً غير محل النكاح لكن للزوج فسخه لأنه يفوت به الاستمتاع ويختل.
ولنا أنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق فلم يصح كإجارة المستأجر (فصل) قال الشيخ رحمه الله وعلى السيد الإنفاق على رقيقه قدر كفايتهم وكسوتهم بالمعروف نفقة المملوكين على ملاكهم ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فان كلفتموهم فأعينوهم عليه " متفق عليه.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " رواه الشافعي في مسنده.
وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده، ولانه لابد له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته (فصل) والواجب من ذلك قدر كفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه وأدم مثله بالمعروف لحديث أبي هريرة، والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه لقوله " فليطعمه(9/299)
مما يأكل فجمعنا بين الخبرين فحملنا خبر أبي هريرة على الإجزاء وحديث أبي ذر على الاستحباب والسيد مخير بين أن يجعل نفقته من كسبه إن كان له كسب وأن ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه أو يجعله برسم نفقة خدمته وينفق عليه من ماله لأن الكل ماله فإن جعل نفقته في كسبه وكانت
وفق الكسب صرفها إليه وإن فضل من الكسب شئ فهو لسيده وإن أعوز فعليه تمامه، وأما الكسوة فبالمعروف من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به والمستحب أن يلبسه من لباسه لحديث أبي ذر، ويستحب أن يستوي بين عبيده الذكور في الكسوة والإطعام وبين إمائه إن كن للخدمة أو للاستمتاع وإن كان فيهن من هو للخدمة ومن هو للاستمتاع فلا بأس بزيادة من هي للاستمتاع في الكسوة لانه للعرف ولان غرضه تجميل من يستمتع بها بخلاف الخادمة (مسألة) (وعليه تزويجهم إذا طلبوا ذلك) وهذا أحد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجبر عليه لأن فيه ضرراً عليه وليس مما تقوم به البنية فلم يلزمه كإطعام الحلواء ولنا قول الله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) والأمر يقتضي الوجوب ولا يجب إلا عند الطلب وروى عكرمة عن ابن عباس قال من كانت له جارية فلم يزوجها ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شئ كان على السيد ولولا وجوب إعفافهما لما لحق السيد(9/300)
الإثم بفعلهما ولأنه مكلف محجور عليه دعي إلى تزويجه فلزمت إجابته كالمحجور عليه للسفه ولأن النكاح مما تدعوا الحاجة إليه غالباً ويتضرر بفواته فأجبر عليه كالنفقة ولأنه يخاف من ترك إعفافه الوقوع في المحظور بخلاف الحلواء.
إذا ثبت هذا فالسيد مخير بين تزويجه أو تملكيه أمة يتسراها وله أن يزوجه أمة لان النكاح الأمة مباح للعبد من غير شرط ولا يجب عليه تزويجه إلا عند طلبه لأن هذا مما يختلف الناس فيه وفي الحاجة إليه ولا نعلم حاجته إلا بطلبه ولا يجوز تزويجه إلا باختياره إذا كان عبداً كبيراً وإذا كان للعبد زوجة فعلى سيده تمكينه من الاستمتاع بها ليلاً لأن إذنه في النكاح إذن في الاستمتاع المعتاد والعادة جارية بذلك ليلاً وعليه نفقة زوجته على ما قدمناه (مسألة) (إلا الأمة إذا كان يستمتع بها) وجملته أن السيد مخير في الأمة بين تزويجها إذا طلبت ذلك وبين الاستمتاع بها فيغنيها باستمتاعه عن غيره لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة وذلك يحصل بأحدهما فلم يتعين الآخر
(مسألة) (ولا يكلفهم من العمل ما لا يطيقون) وهو ما يشق عليه ويقرب من العجز عنه لحديث أبي ذر ولأن ذلك يضر به ويؤذيه وهو ممنوع من ذلك (مسألة) (ويريحهم وقت القيلولة والنوم وأوقات الصلوات)(9/301)
لأن العادة جارية بذلك ولأن عليهم في ترك ذلك ضرراً ولا يحل الإضرار بهم (مسألة) (ويداويهم إذا مرضوا) إذا مرض المملوك أو زمن أو عمى أو انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والإنفاق عليه لأن نفقته تجب بالملك ولهذا تجب مع الصغر والملك باق مع المرض والعمى والزمانة فتجب نفقته معهما لعموم النصوص المذكورة (مسألة) (وإذا ولي أحدهم طعامه أطعمه معه فإن أبى أطعمه منه) لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اذا كفى احدكم خادمه حره ودخانه فليدعه وليجاسه معه فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين " رواه البخاري ومعنى ترويغ اللقمة غمسها في المرق والدسم وترويتها بذلك ودفعها إليه ولأنه يشتهيه لحضوره فيه وتوليه إياه وقد قال الله تعالى (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) ولأن نفس الحاضر تتوق ما لا تتوق نفس الغائب (مسألة) (ولا يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه) لأن فيه إضراراً بولدها لنقصه في كفايته وصرف اللبن المخلوق له إلى غيره مع حاجته اليه فلم يجز كما لو أراد أن ينقص الكبير عن كفايته ومؤنته فإن كان فيها فضل عن ري ولدها جاز لأنه(9/302)
ملكه وقد استغنى عنه الولد فكان له استبقاؤه كالفاضل من كسبه أو كما لو مات ولدها وبقي لبنها (مسألة) (ولا يجبر العبد على المخارجة وإن اتفقا عليها جاز)
معنى المخارجة أن يضرب عليه خراجاً معلوماً يؤديه إلى سيده وما فضل للعبد لأن ذلك عقد بينهما فلا يجبر عليه كالكتابة، وإن طلب العبد ذلك وأباه السيد لم يجبر عليه لما ذكرنا فإن اتفقا على ذلك جاز لما روى أن أبا طيبة حجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه أجره وأمر مواليه أن يخلفوا عنه من خراجه وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجاً فروي أن الزبير كان له ألف مملوك على كل واحد منهم كل يوم درهم وجاء أبو لؤلؤة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله أن يسأل المغيرة بن شعبة يخفف عنه من خراجه، ثم ينظر فإن كان ذا كسب فجعل عليه بقدر ما يفضل عن كسبه عن نفقته وخراجه شئ جاز فإن لهما به نفعاً فإن العبد يحرص على الكسب وربما فضل معه شئ يزيده في النفقة ويتسع به، وإن وضع عليه أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز وكذلك إن كلف من لا كسب له المخارجة لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى كلفتموه الكسب سرق ولا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها ولأنه متى كلف غير ذي الكسب خراجاً كلفه ما يغلبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تكلفوهم ما يغلبهم وربما حمله ذلك على أن يأتي به من غير وجهه فلم يكن للسيد أخذه(9/303)
(مسألة) (ومتى امتنع السيد من الواجب عليه وطلب العبد البيع لزمه بيعه) وجملة ذلك أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج فطلب العبد البيع أجبر سيده عليه سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه أو مع قدرته عليه لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد خلاته إضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجب إزالته وكذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح عند عجز زوجها عن الإنفاق عليها وقد روي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه أنه قال " عبدك يقول أطعمني وإلا فبعني وامرأتك تقول أطعمني أو طلقني وهذا يدل بمفهومه على أن السيد متى وفى بحقوق عبده وطلب العبد لم يجبر السيد عليه، وقد روي أبو داود عن أحمد أنه قبل له استباعت المملوكة وهو يكسوها مما يكتسي ويطعمها مما يأكل؟ قال لاتباع وإن أكثرت من ذلك إلا أن تحتاج إلى زوج
فتقول زوجني، وقال عطاء واسحاق في العبد يحسن إليه سيده وهو يستبيع لا يبعه لأن الملك للسيد واعتق له فلا يجبر على إزالتة من غير ضرر بالعبد كما لا يجبر على طلاق زوجته مع القيام بما يجب لها ولا على بيع بهيمته مع الإنفاق عليها.
(مسألة) (وله تأديب رقيقه بما يؤدب به ولده وامرأته) له تأديب عبده وأمته إذا اذنبا بالتوبيخ والضرب الخفيف كما يؤدب ولده وامرأته في النشوز وليس له ضربه على غير ذنب ولا أن يضربه ضرباً مبرحاً وإن أذنب ولا لطمه في وجهه، وقد روي(9/304)
عن ابن مقرن المزني قال قد رأيتني سابع سبعة ما لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باعتاقها وروي عن أبي مسعود قال كنت أضرب غلاماً لي وإذا رجل من خلفي يقول اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول " اعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك على هذا الغلام " (مسألة) (وللعبد التسري بإذن سيده ولو ملكه سيده جارية لم يكن له التسري بها إلا بإذنه) هذا هو المنصوص عن أحمد في رواية الجماعة وهو قول ابن عمر وابن عباس والشعبي والنخعي والزهري، ومالك والاوزاعي وأبي ثور، وكره ذلك ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب الرأي، وللشافعي فيه قولان مبنيان على أن العبد هل يملك بتمليك سيده او لا، وقال القاضي يجب أن يكون في مذهب أحمد في تسري العبد وجهان مبنيان على الروايتين في ثبوت الملك بتمليك سيده واحتج من منع ذلك بأن العبد لا يملك المال ولا يجوز الوطئ إلا في نكاح أو تمليك يمين لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) ولنا قول ابن عمر وابن عباس ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفاً، وروى الأثرم عن ابن عمر بإسناده أنه كان لا يرى بأساً أن يتسرى العبد ونحوه عن ابن عباس، ولأن العبد يملك في النكاح فملك التسري كالحر، وقولهم أن العبد لا يملك المال ممنوع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من باع عبداً وله مال " فجعل المال له ولأنه آدمي فيملك المال كالحر وذلك لأنه بآدميته يتمهد لأهلية الملك إذ كان الله(9/305)
تعالى خلق الأموال للآدميين ليستعينوا بها على القيام بوظائف التكليف وأداء العبادات، قال الله تعالى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) والعبد داخل في العموم ومن أهل التكاليف والعبادات فيكون أهلاً للملك وكذلك ملك في النكاح، وإذا ثبت الملك للجنين مع كونه نطفة لا حياة فيها باعتبار مآ له إلى الآدمية فالعبد الذي هو آدمي ملكف أولى ولا يجوز له التسري إلا بإذن سيده ولو ملكه سيده جارية لم يكن له وطؤها حتى يأذن له فيه لأن ملكه ناقص ولسيده نزعه منه متى شاء من غير فسخ قد فلم يكن له التصرف فيه إلا بإذن سيده فإن أذن له فقال تسراها أو أذنت لك في وطئها أو ما دل عليه أبيح له، وما ولد له من التسري فحكمه حكم ملكه لأن الجارية مملوكة له فكذلك ولدها وإن تسرى بغير إذن سيده فالولد ملك لسيده (فصل) وإذا أذن له السيد في أكثر من واحدة فله التسري بما شاء نص عليه أحمد لا زمن جاز له التسري جاز له بغير حصر كالحر وإن أذن له وأطلق فله التسري واحدة وكذلك إذا أذن له في في التزويج ولم يجز أن يتزوج أكثر من واحدة وبهذا قال أصحاب الرأي، وقال أبو ثور إذا أذن له في التزويج فعقد على اثنتين في عقد جاز ولنا أن الإذن الطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم يقيناً وما زاد مشكوك فيه فيبقى على الأصل(9/306)
كما لو أذن له في طلاق امرأته لم يكن له أن يطلق أكثر من طلقة ولأن الزائد عن الواحدة يحتمل أن يكون غير مراد فيبقى على أصل التحريم كما لو شك في أصل الإذن (فصل) نقل محمد بن ماهان عن أحمد لا بأس للعبد أن يتسرى إذا أذن له سيده فإن رجع السيد فليس له أن يرجع إذا أذن له مرة وتسرى وكذلك نقل عنه إبراهيم بن هانئ ويعقوب بن بختان ولم(9/307)
أو عنه خلاف هذا فظاهره أنه إذا تسرى بإذن السيد لم يملك السيد الرجوع لأنه يملك به البضع فلم يملك سيده فسخه قياساً على النكاح، وقال القاضي يحتمل أنه أراد بالتسري ههنا التزويج وسماه تسرياً(9/308)
مجازاً ويكون للسيد الرجوع فيما ملك عبده وظاهر كلام أحمد خلاف هذا وذلك لأنه ملكه بضعاً أبيح له وطؤه فلم يملك رجوعه فيه كما لو زوجه(9/309)
(فصل) وعليه إطعام بهائمه وسقيها والقيام بها والإنفاق عليها وما تحتاج إليه من علفها وسقيها لو(9/310)
إقامة من يرعاها لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض " متفق عليه(9/311)
(مسألة) (ولا يحملها ما لا تطيق) لأنها في معنى العبد وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم تكليف العبد ما لا يطيق، ولأن فيه تعذيب الحيوان الذي(9/312)
له حرمة في نفسه ولا يحلب من لبنها ما يضرب ولدها لأن كفايته واجبة على مالكه ولن أمه مخلوق(9/313)
له فأشبه ولد الأمة فإن امتنع عن الانفاق عليهما أجبر على ذلك فإن ابى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها إن كانت مما تذبح، وقال أبو حنيفة لا يجبره السلطان بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر(9/314)
لأن البهيمة لا يثبت لها حق من جهة الحكم ألا ترى أنه لا يصح منها الدعوى ولا ينصب عنها خصم فصارت كالزرع والشجر(9/315)
ولنا أنها نفقة حيوان واجبة عليه فكان للسلطان إجباره عليها كنفقة العبد فإن عجز عن الإنفاق(9/316)
وامتنع من البيع بيعت عليه كما يباع العبد إذا طلب البيع عند إعسار سيده بنفقة وكما يفسخ نكاحه(9/317)
إذا أعسر بنفقة امرأته فإن عطبت البهيمة فلم ينتفع بها فإن كانت مما لا يؤكل أجبر على الأنفاق عليها كالعبد الزمن وإن كانت مما يؤكل خير بين ذبحها والإنفاق عليها على ما ذكرناه (كتاب الجنايات) الجنايات كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبها وسرقة وخيانة وإتلافاً وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وقال (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) وقال (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) الآية وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله الا باحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه والمفارق للجماعة " متفق عليه وروى عثمان وعائشة(9/318)
عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله في آي وأخبار كثيرة ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمداً فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس لا تقبل توبته للآية التي ذكرناها وهي في آخر ما نزل ولم ينسخها شئ ولان لفظ لآية لفظ الخبر والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقاً ولنا قول الله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشترك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فجعله داخلاً في المشيئة وقال تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان رجلاً قتل مائة رجل ظلماً ثم سئل هل له من توبة؟ فدل على عالم فسأل فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن خرج من قرية لسوء إلى القرية الصالحة فا عبد الله فيها فخرج تائباً فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله عزوجل ملكاً فقال قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها " أخرجه مسلم ولأن
الثوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى والآية محمولة على من قتله مستحلاً ولم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه الله وله العفو إن شاء وقوله لا يدخلها النسخ قلنا يدخلها التخصيص والتأويل (مسألة) (والقتل على أربعة أضرب عمد وشبه وخطأ وما أجري مجرى الخطأ) أكثر أهل العلم يرون القتل منقسماً إلى عمد وشبه عمد وخطأ روى ذلك عن عمر وعلي وبه قال(9/319)
الشعبي والنخعي وقتادة وحماد وأهل العراق والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه العمد وقال ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعلم به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمر وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصى مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " رواه أبو داود وفي لفظ " قتيل خطأ العمد، وهذا نص يقدم على ما ذكره وقسمه شيخنا في هذا الكتاب أربعة أقسام فزاد ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكرناه وكذلك قسمه أبو الخطاب وهو أن ينقلب النائم على شخص فيقتله ومن يقتل بالسبب كحفر البئر ونحوه وكذلك قتل غير المكلف وهذه الصور عند الأكثرين من قسم الخطأ أعطوه حكمه (مسألة) (والعمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به عالماً بكونه آدمياً معصوماً وهو تسعة أقسام) (أحدهما) أن يجرحه بما له مور في البدن من حديد أو غيره مثل أن يجرحه بسكين أو يغزره بمسلة أو ما في معناه مما يحدد ويجرح من الحديد والنخاس والرصاص الذهب والفضة والزجاج والحجر والخشب والقصب والعظم فهذا كله إذا جرح به جرحاً كبيراً فمات فهو قتل عمد لا اختلاف فيه بين العلماء فيما علمنا فأما إن جرحه جرحا صغيراً كشرطة الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة أو جرحه جرحاً صغيراً بكبر في غير مقتل فمات في الحال ففي كونه عمداً وجهان (أحدهما) لا قصاص فيه قاله ابن حامد لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غلبا أشبه العصى والسوط(9/320)
(والثاني) فيه القصاص لان لمحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة
أذنه أو أنملته ولأنه لما لم تكن ادارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونه محدداً ولا يعتبر ظهور الحكمة في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد لآية والفعل بسرعة الافضاء وإبطائه ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية وصور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي من التفصيل نحو مما ذكرنا (مسألة) (فإن بقي من ذلك ضمناً حتى مات أو كان الغرز بها في مقتل كالفؤاد والخصيتين فهو عمد محض) أما إذا كان الجرح في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ أو أصل الأذن فمات فهو عمد محض يجب به القصاص وكذلك إن بالغ في إدخل الإبرة ونحوها في البدن لأنه يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير، وإن بقي من ذلك ضمناً حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات به قاله أصحابنا وقيل لا يجب به القصاص لان لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهراً كان شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة أن القتل لا يحصل به غالباً لما افترق بين موته في الحال وموته الحال وموته ومتراخيا كسائر ما لا يجب به قصاص (مسألة) (وان قطع سلعة من أجنبي بغير إذنه فمات فعليه القود لأنه جرحه بغير إذنه جرحاً لا يجوز له(9/321)
فكان عليه القود اذا تعمد كغيره وإن قطعها حاكم من صغير أو وليه فمات فلا قود لأن له فعل ذلك وقد فعله لمصلحته فأشبه ما لو ختنه (الثاني) أن يضربه بمثقل فوق عمود الفسطاط أو بما يغلب على الظن موته به كاللت والكوذين والسندان أو حجر كبير أو يلقي عليه حائطا أسقفا أو يلقيه من شاهق أو يكرر الضرب بصغير أو يضربه في مقتل أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو برد أو نحوه وجملة ذلك أنه إذا قتله بغير محدد يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهو عمد موجب للقصاص وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وجماد وعمرو بن دينار وابن أبي ليلى ومالك والشافعي واسحاق وأبو يوسف وأبو محمد وقال الحسن لا قود في ذلك وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب وعطاء وطاوس العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة لا قود إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد
روايتان، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قيتل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل " فسماه عمدا لخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه يمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالباً لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح ولنا قول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) وهذا مقتول ظلماً وقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص في القتلى) وروى أنس أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لما بحجر فقتله رسول(9/322)
الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متعق عليه، وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " متفق عليه ولأنه يقتل غالباً أشبه المحدد وأما الحديث فمحمول على المثل الصغير لأنه ذكر العصى والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد ما اشبههما وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فاما توجب القصاص بما يتقين حصول الغلبة به وإذا شككنا لم نوجبه مع الشك والجرح الصغير قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار، والمراد بعمود الفسطاط الذي ذكره ههنا العمد التي تتخذها العرب لببوتها وفيها دتة وانما حد الواجب للقصاص بفوق عمود الفسطاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها بعمود الفسطاط فقتلتها وجنينها قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها والغافلة لا تحمل العمد فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد، وإن كان أعظم منه بعمد الخيام فهو كبير يقتل غالباً فيجب فيه القصاص، ومن هذا النوع أن يلقي عليه جداراً أو صخرة أو خشبة عظيمة أو يلقيه من شاهق فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالباً، ومن ذلك أن يضربه بمقتل صغير أو حجر صغير أو يلكزه ببده في مقتل أو في حال ضعف المضروب لمرض أو صغر أو في حر مفرط أو برد شديد بحيث يقتله بتلك الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالباً فقتله ففيه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً أشبه المثقل(9/323)
الكبير وإن لم يكن كذلك ففيه الدية لأنه عمد الخطأ إلا أن يصغر جداً كالضربة بالقلم والأصبع في غير مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك إن مسه بالكبير ولم يضربه
به لأن الدية انما تجب بالقتل فليس هذا قتلاً (النوع الثالث) (ألقاه في زبية أسد أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية أو ألسعه عقرباً من القواتل ونحو ذلك فقتله فيجب به القصاص) إذا جمع بينه وبين أسد أو نحو في مكان ضيق كزبية أو نحوها فقتله فهو عمد فيه القصاص إذا فعل به السبع فعلاً يقتل مثله وان فعل وإن فعل به فعلاً لو فعله الآدمي لم يكن عمداً لم يجب القصاص به لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله فإن ألقاه مكتوفاً بين يدي الأسد أو النمر في فضاء فقتل فعليه القود وكذلك إن جمع بينه وبين حية في مكان ضبق فنهشته فقتلته فعليه القود، وقال القاضي لا ضمان عليه في الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية يهربان من الآدمي، ولأن هذا سبب غير ملجئ ولنا أن هذا يقتل غالباً فكان عمداً محضاً كسائر الصور، وقولهم أنهما يهربان لا يصح فإن الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي له ليأكله؟ والحية إنما تهرب في مكان واسع أما إذا ضاق المكان فالغالب أنها تدفع عن نفسها بالهش على ما هو العادة، وقد ذكر القاضي فيمن ألقي(9/324)
مكتوفاً في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته أن في وجوب القصاص روايتين وهذا تناقص شديد فإنه نفى الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب واوجب القصاص في صورة كان فيها أنذر، والصحيح أنه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به فعلاً متعمداً تلف به لأنه يقتل مثله غالباً وإن أنهشه حية أو سبعاً فقتله فعليه القود إذا كان ذلك مما يقتل غالباً فإن كان مما لا يقتل غالبا كثبعان الحجاز أو سبع صغير ففيه وجهان (أحدهما) فيه القود لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح ولأن الحية من جنس ما يقتل غالباً (والثاني) هو شبه عمد لأنه لا يقتل غالباً أشبه الضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير وإن ألسعه عقرباً من القواتل فقتلته فهو كما لو انهشته حية يوجب القصاص لأنه يقتل غالباً، فإن كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه عمد وقال أصحاب الشافعي هو خطأ محض ولنا أنه فعل به فعلاً لا يقتل مثله غالباً فأفضى إلى إهلاكه أشبه ما لو ضربه بعصاً فمات وكذلك إن
ألقاه مشدوداً في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه فان كان في موضع يعلم وصول زيادة الماء إليه في ذلك الوقت فمات به فهو عمد محض وإن كانت الزيادة غير معلومة إما لكونها تحتمل الوجود وعدمه أو لا تعهد أصلاً فهو شبه عمد (النوع الرابع) ألقاه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منها إما لكثرة الماء والنار وإما لعجزه(9/325)
عن التخلص لمرض أو ضعف أو صغر أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو ألقاه في بئر ذات نفس فمات عالماً بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالباً، وإن ألقاه في ماء يسير فقدر على الخروج منه فلبث فيه اختياراً حتى مات فلا شئ فيه لأن هذا الفعل لم يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، فإن تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالباً وهل يضمنه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه (والثاني) يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضي إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو فصده فترك شد فصاده مع إمكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه، وفارق الماء اليسير لأنه لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة وأما النار فيسيرها مهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حرارة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو اذهبت عقله بألمها وروعتها (الخامس) (خنفقه بحبل أو غيره أو سد فمه وأنفه أو عصر خصيتيه حتى مات) إذا منع خروج نفسه بأن يخنقه بحبل أو غيره وهو نوعان (أحدهما) أن يخنقه بأن يجعل في عنقه(9/326)
خراطة ثم يعلقه في خشبة أو شئ بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي زمناً لأن هذا أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله في اللصوص
واشباههم من المفسدين (الثاني) أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو حبل أو يغمه بوسادة أو شئ يضعه على فيه وأنفه أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا إن فعل به ذلك في مدة يموت في مثلها غالباً فمات فهو عمد فيه القصاص وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي والشافعي، وإن كان في مدة لا يموت في مثلها غالباً فهو عمد الخطأ ويلتحق بذلك ما لو عصر خصيته عصراً شديداً فقتله بعصر يقتل مثله غالباً، وإن لم يكن كذلك فهو شبه عمد إلا أن يكون ذلك يسيراً في الغاية بحيث لا يتوهم الموت منه فلا يوجب ضماناً لأنه بمنزلة لمسه، ومتى خنقه وتركه متألماً حتى مات ففيه القود لأنه مات من سراية جناية كسراية الجرح وإن تنفس وصح ثم مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فأشبه ما لو اندمل الجرح ثم مات (السادس) حبسه ومنعه الطعام أو الشرب حتى مات جوعاً وعطشاً في مدة يموت في مثلها غالباً فعليه القود لأن هذا يقتل غالباً، وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا عطشه في شدة الحرمات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل فيعتبر هذا فيه، فان كان في مدة يموت في مثلها غالباً ففيه القود إن كان في مدة لا يموت في مثلها غالباً فهو عمد الخطأ(9/327)
وإن شككنا فيها لم يجب القود لأنا شككنا في السبب ولا يثبت الحكم مع اشك في سببه سيما القصاص الذي يسقط بالشبهات (السابع) سقاه سماً لا يعلم به أو خلطه بطعام فأطعمه أو خلطه بطعامه فأكله وهو لا يعلمه فمات فعليه القود إذا كان مثله يقتل غالباً وقال الشافعي في أحد قوليه لا قود عليه لأنه أكله مختاراً فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً فطعن بها نفسه، ولأن أنس بن مالك روى أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بن البراء فلم يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم قال وهل تجب الدية؟ فيه قولان، قلنا حديث اليهودية حجة لنا فإن ابا سلمة قال فيه فمات بشر فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت أخرجه أبو داود ولأن هذا يقتل غالباً ويتخذ طريقاً إلى القتل كثيراً فأوجب القصاص كما لو اثرهه على شربه، فأما حديث أنس فلم يذكر فيه أن أحدا مات منعه ولا يجب القصاص إلا ان يقتل به ويجوز
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فاعترفت فقتلها فنقل أنس صدر القصة دون آخرها، ويتعين حمله عليه جميعاً بين الخبرين ويجوز أن يترك قتلها لكونها ما قصدت قتل بشر إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر، وفارق تقديم السكين فإنها لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليه لينتفع وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم(9/328)
إليه السم وهو عالم به فأما إن أكله وهو عالم به وهو بالغ عاقل فلا ضمان عليه كما لو قدم إليه سكيناً فوجأ بها نفسه (مسألة) (فإن خلط السم بطعام نفسه فدخل إنسان منزله فأكله فلا ضمان عليه) لأنه لم يفعله وإنما الداخل قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئراً فدخل رجل فوقع فيها وسواء قصد بذلك قتل الداخل مثل أن يعلم أن ظالماً يريد هجوم داره فترك السم في الطعام ليقتله فهو كما لو حفر بئراً في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ولو دخل رجل بإذنه فأكل الطعام المسموم بغير إذنه لم يضمنه لذلك (مسألة) (وإن ادعى القاتل بالسم أنني لم أعلم أنه سم قاتل لم يقبل قوله في أحد الوجهين) لأن السم من جنس ما يقتل غالباً فأشبه ما لو جرحه وقال لم أعلم أنه يموت منه (والثاني) لا قود عليه لأنه لا يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وهذا شبهة ليسقط به القود فيكون شبه عمد (فصل) فإن سقى إنساناً سماً أو خلطه بطعامه فأكل وهو لا يعلم به وهو مما لا يقتل مثله غالباً فهو شبه عمد فإن اختلف فيه هل يقتل غالبا اولا وثم بينة تشهد عمل بها وإن قالت تقتل النضو الضعيف دون القوي أو غير ذلك عمل على حسب ذلك فإن لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قولا الساقي لأن(9/329)
الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه أعلم بصفة ما يسقي فإن ثبت أنه قاتل فقال لم أعلم به ففيه الوجهان المذكوران (الثامن) أن يقتله بسحر يقتل غالباً فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه قتله بالسكين وإن
كان مما لا يقتل غالباً أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص لأنه عمد الخطأ فأشبه ضرب العصا (التاسع) أن يشهدا على رجل بقتل عمد أو زنا أو ردة فيقتل بذلك ثم يرجعا ويقولا عمدنا قتله أو يقول الحاكم علمت كذبهما وعمدت قتله أو يقول ذلك الولي فهذا فكله عمد محض موجب للقصاص إذا كلمت شروطه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص عليهما لانه بسبب غير ملجئ فلا وجب القصاص كحفر البئر ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعان عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما توصلا الى قتله بسبب يقتل غالباً فوجب عليهما القصاص كالمكره وكذلك الحاكم إذا حكم على على رجل بالقتل عالماً بذلك متعمداً فقتله واعترف بذلك وجب القصاص والكلام فيه كالكلام في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا نعلم(9/330)
فيه خلافا فان أقر الشاهدان والحاكم والولي جميعاً بذلك فعلى الولي القصاص لأنه باشر القتل عمداً وعدواناً وينبغي أن لا يجب على غيره شئ لأنهم متسببون والمباشرة تبطل حكم التسبب كالدافع مع الحافر ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة القتل في حقه ظلماً فكان وجوده كعدمه ويكون القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجمع متسببون وإن صار الأمر الى الدية فهي عليهم أثلاثاً ويحتمل أن يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن سببه أخص من سببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب فإن كان الولي المقر بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه فأقر الوكيل بالعلم وتعمد القتل ظلماً فهو القاتل وحده لأنه المباشر للقتل عمداً ظلماً من غير إكراه فتعلق الحكم به كما لو قتل في غيره هذه الصورة وإن لم يعترف بذلك فالحكم يتعلق بالولي كما لو باشره (فصل) قال رضي الله عنه وشبه العمد أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً فيقتل إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير أو يلكزه بيده أو يلقيه في ماء يسير أو يقتله بسحر لا يقتل غالباً وسائر ما لا يقتل غالباً أو يصيح بصبي أو معتوه وهما على
سطح فيسقطان أو يغتفل عاقلاً فيصيح به فيسقط فهو شبه عمد إذا قتل لأنه قصد الضرب دون القتل ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم وجعله مالك عمداً في بعض ما حكي عنه موجباً للقصاص(9/331)
لأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسماً ثالثاً زاد على النص ولانه قبله بفعل عمده فكان عمداً كما لو غرزه بإبرة وحكي عنه مثل قول الجماعة وقال أبو بكر عبد العزيز تجب الدية في مال القاتل وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر جنايات العمد ولنا ما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها يقضى النبي صلى الله عليه وسلم " إن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها " متفق عليه فأوجب ديتها على العاقلة، والعاقلة لا تحمل العمد وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتل خطأ العمد قتيل السوط والحجر والعصى مائة من الإبل " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عقل شبه العمد تغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه " رواه أبو داود وهذا نص وقوله هذا قسم ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبتا بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ (فصل) والخطأ على ضربين (أحدهما) أن يرمي الصيد ويفعل ماله فعله فيتول الى إتلاف إنسان معصوم فعليه الكفارة والدفع على العاقلة بغير خلاف قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئاً فيصيب غيره لا أعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن عبد العزيز وقتادة والنخعي والزهري وابن شبرمة والثوري ومالك والشافعي واصحاب الرأي والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله سبحانه وتعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة(9/332)
مؤمنة ودية مسلمة إلى اصله إلا أن يصدقوا) وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً له عهد لقول الله تعالى (فإن كان من قول بينكم وبينهم ميثق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) ولا قصاص في شئ من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا وقال النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه، ولأنه لم يوجب القصاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى (الضرب الثاني) أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربياً ويكون مسلماً أو يرمي إلى صف الكفار فيصيب مسلماً أو يتترس من الكفار بمسلم ويخاف على المسلمين إن لم يرمهم فيرميهم فيقتل المسلم فهذا تجب به الكفارة روى ذلك عن ابن عباس وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والاوزاعي وأبو حنيفة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان (إحداهما) تجب وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله أن يصدقوا) وقال عليه السلام " ألا إن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصى مائة من الإبل " ولأنه قتل مسلماً خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام (والثانية) لا تجب الدية لقول الله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يذكر دية وتركه ذكرها في هذا القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعد ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا قسماً مفرداً يدل على أنه لم يدخل في عموم في الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه وهذا ظاهر المذهب.(9/333)
(مسألة) (والذي أجري مجرى الخطأ كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو يقتل بالسبب مثل أن يحفر بئراً أو ينصب سكيناً أو حجرا فيئول الى إتلاف إنسان وعمد الصبي والمجنون) فهذا كله لا قصاص فيه والدية على العاقلة وعليه الكفارة في ما له لأنه خطأ فيكون هذا حكمه لما ذكرناه (فصل) قال رحمه الله (ويقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كل واحد منهم لو انفرد أوجب القصاص عليه، روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون وتجب الدية عليهم والمذهب الأول يروي ذلك عن ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي ذلك عن معاذ وابن الزبير والزهري أنه يقتل منهم واحد ويأخذ من
الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافئ له فلا يستوفى أبداً إلا ببدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولأن الله تعالى قال (الحر بالحر) (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ومقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد فالتفاوت في العدد أولى قال إبن المنذر لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بواحد ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من(9/334)
أهل صنعاء قتلوا رجلاً وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً وعن علي انه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعاً لأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط حكمه الردع والزجز.
(مسألة) (وان جرحه أحدهما جرحاً والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية) جملة ذلك أنه لا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه أحدهما جرحاً والآخر مائة أو أوضحه أحدهما وشجه الآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم، لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفى باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في إسقاط الحكم لأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولأن الجراح(9/335)
إذا صارت نفساً سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد ألا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات (فصل) إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه ثالث فمات
فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وان يعفوا عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث وان برأت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برأ جرحه بمثل جرحه ويقتل الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن يعفوا عن الذي برأ جرحه ويأخذ منه دية جرحه وإن ادعى الموضح أن جرحه برأ قبل موته وكذبه شريكاه نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة اليه فلا يملك قتله والا مطالبته بثلث الدية وله ان يقتص منه موضحة أو يأخذ منه أرشها ولم يقبل قوله في حق شريكيه، لأن الأصل عدم البرء فيها لكن إن اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في إنكار ذلك لأن له أن يقتلهما سواء برأت أو لم تبرأ وان اختار الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وإن كذبه الولي حلف وله الاقتصاص منه أو مطالبته بثلث الدية ولم يكن له مطالبة شريكه بأكثر من ثلثيها وإن شهد له شريكاء ببرئها لزمهما الدية كاملة لإقرارهما بوجوبها وللولي أخذها منهما إن صدقهما وإن لم يصدقهما وعفى إلى الدية لم يكن له أكثر من ثلثها لأنه يدعي(9/336)
أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما إن كانا قد تابا وعدلا لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعاً فيسقط القصاص ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة (مسألة) (وإن قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان) أما إذا ابرأت جراحة الأول قبل قطع الثاني فالقاتل الثاني وحده وعليه القود أو الدية كاملة إن عفا عن قتله فله قطع يد الأول أو نصف الدية، وإن لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس أو الدية ان عفا عنهما وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على الأول في النفس لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جناية فأشبه ما لو اندمل جرحه، وقال مالك إن قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جميعاً وإن عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب ومات عقيب قطع الثاني فالقاتل هو الثاني وحده وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما شاء ويقتلوه ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب
عليهما القصاص كما لو كانا في يدين ولأن القطع الثاني لا يمنع حياته بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما لو كانا في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما انضم اليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكان القتل بهما، ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى(9/337)
معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فافترقا، وإن ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه الولي سقط عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية وإن كذبه شريكه واختار الولي القصاص فلا فائدة له في تكذيبه لأن قتله واجب، وإن عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه أكثر من نصف الدية وإن كذب الولي الأول حلف وكان له قتله، لأن الأصل عدم ما ادعاه وإن ادعى الثاني اندمال جرحه فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك (مسألة) (وإن فعل أحدهما فعلاً لا تبقى معه الحياة كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الاول يعزر الثاني، وإن شق الأول بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثاني عنقه فالثاني هو القاتل وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص والدية) وجملة ذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل قطع حشوته وابنها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته وحياة والقود عليه خاصة ويعزر الثاني كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي الى الدية فهي على الأول وحده، وإن كان جرح الأول تبقى الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج بجرح الأول عن حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة إن عفا عنه ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجباً للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه(9/338)
والعفو على ديته أو العفو مطلقاً، وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا عليه القصاص لأن الثاني بفعله قطع سراية الأول فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفاً، ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة
وتبقى معه الحياة المستقرة مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه فوت حياة مستقرة وقتل من هو في حكم الحياة بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه لما كان حكم الحياة باقياً كان الثاني مفوتاً لها فكان هو القاتل كما لو قتل عليلاً لا يرجى برء علته (مسألة) (فإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقصاص على الثاني) لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حياة ييئس فيها من حياته فأشبه ما لو رماه إنسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع السهم به أو القى عليه صخرة فأطار آخر رأسه بالسيف قبل وقوعها عليه وبهذا قال الشافعي إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان (أحدهما) كقولنا (والثاني) الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للإتلاف ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح وكالصور التي ذكرناها وما ذكروه باطل بالأصول المذكورة (مسألة) (وإن ألقاه في لجة فالتقمه الحوت فالقود على الرامي في أحد الوجهين) إذا كانت اللجة لا يمكنه التخلص منها فالقود على الرامي لأنه ألقاه في مهلكة هلك بها من غير(9/339)
واسطة يمكن إحالة الحكم عليها أشبه ما لو مات بالغرق أو هلك بوقوعه على صخرة (والثاني) لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر، فأما إن ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالباً وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله (مسألة) (وإن أكره إنساناً على القتل فقتل فالقصاص عليهما) وقال أبو حنيفة يجب القصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور صار بالإكراه بمنزلة الآلة والقصاص إنما يجب على مستعمل الآلة لا على الآلة، وقال أبو يوسف لا يجب على واحد منهما لأن الآمر غير مباشر إنما هو متسبب والقصاص لا يجب على المتسبب مع المباشر دليله الدافع مع الحافر
والمأمور مسلوب الاختيار، وقال زفر يجب على المأمور ولا يجب على الآمر لأن المأمور مباشر فيجب عليه وحده كالدافع مع الحافر ولنا على أبي حنيفة أن المأمور قاتل فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر، والدليل على أنه قاتل أنه ضرب بالسيف ولأن القتل جرح أو فعل يتعقبه الزهوق وهذا كذلك ولأنه يأثم إثم القاتل قولهم إنه بمنزلة الآلة لا يصح فإنه يأثم والآلة لا تأثم قولهم إنه مسلوب الاختيار لا يصح فإنه قصد استبقاء نفسه بقتل هذا، وهذا يدل على قصده واختيار نفسه ولا خلاف في أنه يأثم ولو سلم الاختيار لم يأثم كالمجنون، والدليل على أن الآمر قاتل أنه تسبب الى قتله بما(9/340)
يفضي إليه غالباً فوجب عليه القصاص كما لو أنهشه حية أو أسداً أو رماه بسهم ولأنه ألجأه إلى الهلاك أشبه ما لو ألقاه عليه.
(مسألة) (وإن أمر من لا يميز أو مجنوناً أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم فالقصاص على الآمر) إذا امر عبده بقتل رجل وكان العبد ممن لا يعلم تحريم القتل كمن نشأ في غير بلاد الإسلام وجب القصاص على الآمر، فأما إن أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا يعذر في فعله، ومتى كان عالماً بذلك فالقصاص على العبد، ويؤدب سيده لامر بما أفضى إلى القتل بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإذا لم يكن عالماً أدب العبد، نقل أبو طالب عن أحمد قال: يقتل المولى ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه، كذا قال علي وابو هريرة قال علي رضي الله عنه يستودع السجن، وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال أن السيد يقتل علي وابو هريرة وقال قتادة يقتلان جميعاً وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ له اليه فلم يجب عليه القصاص كما لو علم العبد خطر القتل ولنا أن العبد إذا لم يكن عالماً بخطر القتل فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيداً فرماه فقتل إنساناً ولأن حكمة القصاص الزجر والردع ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة لا يمكن ايجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه(9/341)
حية فقتلته أو ألقاه في زبية أسد فأكله، ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فالقصاص على العبد لامكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر، ولو أمر صبياً لا يميز أو مجنوناً أو أعجمياً لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الأمر دون المباشر، فأما إن أمره بزنا أو سرقة ففعل لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص (مسألة) (وإن أمر كبيراً عاقلاً عالماً بتحريم القتل به فقتل فالقصاص على القاتل) لا نعلم فيه خلافاً لأنه قاتل ظلماً فوجب عليه القصاص كما لو لم يؤمر (مسألة) (وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك فالقصاص على القاتل وإن لم يعلم فعلى الآمر) إذا كان المأمور يعلم أن المأمور بقتله لا يستحق القتل فالقصاص عليه لأنه غير معذور في فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " من أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه " فلزم القصاص كما لو أمره غير السلطان وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، والظاهر أنه لا يأمر إلا بالحق وإن كان الآمر غير السلطان فالقصاص على القاتل بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لا يلزمه(9/342)
طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل في الردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للناس وهذا ليس اليه شئ من ذلك (فصل) إذا أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فالقصاص عليهما وقد ذكرناه وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذمياً أو حر قتل عبداً فقتله فقال القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه والمأمور يعتقد تحريمه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قبله لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله.
قال شيخنا
وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهداً فالحكم فيه على ما ذكره القاضي وإن كان مقلداً فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد عبده الذي لا يعتقد تحريم القتل به (مسألة) (وإن أمسك إنساناً لآخر فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين) أما وجوب القصاص على القاتل فلا خلاف فيه لأنه قتل من يكافئه عمداً بغير حق وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل بقتله فلا شئ لأنه متسبب والقاتل مباشر فيسقط حكم المتسبب، وإن أمسكه له ليقتله مثل أن أمسكه حتى ذبحه فاختلفت الرواية فيه عن احمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء وربيعة وروي ذلك عن(9/343)
علي وروى عن أحمد أنه يقتل أيضاً وهو قول مالك قال سليمان بن موسى الاجتماع فينا أن يقتلا لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه، وقال أبو حنيفة والشافعي وابو ثور وابن المنذر يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله " والممسك غير قاتل ولان لامساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك لأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإنا نفعل به ذلك حتى يموت.
(فصل) فإن اتبع رجلاً ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله فإن كان الأول حبسه بالقطع ليأتيه الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل، وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القاتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال، والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه، فإن قيل فلم أعتبرتم قصد لا مسك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الجارح قلنا إذا مات من الجرح فقد مات(9/344)
من سرايته وأثره فيعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي مسئلتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه.
(مسألة) (وإن كتفه وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك) ذكره القاضي وقد مضى الكلام فيه قال شيخنا والصحيح أنه لا قصاص فيه لأنه مما لا يقتل غالباً وتجب فيه الدية لأنه فعل به فعلاً متعمداً لا يقتل غالبا لتلف به فهو شبه عمد وهكذا ذكره في كتابه الكافي (فصل) وإن اشترك في القتل اثنان لا يجب القصاص على أحدهما كالأب والأجنبي في قتل الولد والحر والعبد في قتل العبد والخاطئ والعامد ففي وجوب القصاص على الشريك روايتان أظهرهما وجوبه على شريك الأب والعبد وسقوطه عن شريك الخاطئ ظاهر المذهب وجوب القصاص على شريك الأب وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا قصاص على واحد منهما وهو قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطئ والصبي والبالغ والمجنون والعاقل ولنا أنه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وقولهم إن فعل الأب غير موجب ممنوع فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمداً(9/345)
عدوانا والجناية أعظم اثماً وأكبر جرماً ولذلك خصه الله تعالى بالنهي فقال (ولا تقتلوا أولادكم) ثم قال (إن قتلهم كان خطأ كبيرا) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك ولأنه قطع للرحم التي أمر الله بوصلها ووضع الإساءة موضع الإحسان فهو أولى بإيجاب العقوبة والزجر عنه وإنما امتنع الوجوب في حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا يمنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه واما شريك الخاطئ ففيه روايتان (إحداهما) يجب القصاص فهو كمسئلتنا ومع التسليم فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فان فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمد الوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهرق الروح بخلاف مسئلتنا وكذلك
كل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه كالمسلم والذمي في قتل ذمي والحر والعبد في قتل العبد إذا كان القتل عدواناً فإن القصاص لا يجب على المسلم ولا على الحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب لان امتناع القصاص عن المسلم لاسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعل شريكه فلم يسقط القصاص عنه وقد روي عن أبي عبد الله أنه سئل عن حر وعبد قتلاً عبداً عمداً قال أما الحر فلا يقتل بالعبد والعبد إن شاء سيده أسلمه وإلا فداه(9/346)
بنصف قيمة العبد وظاهر هذا ان لا قصاص على العبد فيخرج مثل هذا في كل قتل شارك فيه من لا يجب عليه القصاص (فصل) فان اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ فالصحيح من المذهب أنه لا قصاص على البالغ وبهذا قال الحسن والاوزاعي واسحاق وأبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن القود يجب على البالغ العاقل حكاه ابن المنذر عن أحمد وحكي ذلك عن مالك وهو القول الثاني للشافعي وروي عن قتادة والزهري وحماد لأن القصاص عقوبة يجب عليه جزاء لفعله فمتى كان فعله عمداً وعدواناً وجب عليه القصاص ولا نظر إلى فعل شريكه بحال ولأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن الإنسان إنما يؤخذ بفعل نفسه لا بفعل غيره فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفرداً فمتى تمحض عمداً عدواناً وكان المقتول مكافئاً له وجب عليه القصاص وبنى الشافعي قوله على أن عمد الصبي والمجنون إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شريكهما كالأبوة ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ ولأن الصبي والمجنون ليس لهما قصد صحيح ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلها حكم الخطأ ولهذا تحمله العاقلة فيكون الأولى عدم وجوب القصاص(9/347)
(فصل) ولا يجب القصاص على شريك الخاطئ في قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أن عليه القصاص وحكي عن مالك لأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فأشبه شريك العامد ولأن مؤاخذته بفعله وفعله عمد عدوان ولنا أنه قتل لم يتمحض عمداً فلم يجب به القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمداً وخطأ ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عابدين فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا فعل الخاطئ مقام فعل العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ وهذا غير موجب والله أعلم (مسألة) (وفي شريك السبع وشريك نفسه وجهان) وصورة ذلك أن يجرحه أسد أو نمر أو جرحه إنسان ثم جرح هو نفسه متعمداً فهل يجب على شريكه؟ قصاص فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله بن حامد واختلف فيه عن الشافعي وقال أصحاب الرأي لا قصاص عليه لأنه شارك من لا قصاص عليه فلم يلزمه القصاص كشريك الخاطئ ولأنه قتل تركب من يوجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل الحاصل من عمد وخطأ ولأنه إذا لم يجب على شريك الخاطئ وفعله مضمون فلأن لا يجب على شريك من لا يضمن فعله أولى (والوجه الثاني) عليه القصاص وهو قول أبي بكر، وروى عن أحمد أنه قال إذا جرحه رجل ثم جرح الرجل نفسه فمات فعلى شريكه(9/348)
القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب فأما إن جرح الرجل نفسه خطأ منه كأن أراد ضرب غيره فأصاب نفسه فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين وفيه وجه آخر أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطئ (مسألة) (ولو جرحه إنسان عمداً فداوى جرحه بسم أو خاطه في اللحم أو فعل ذلك وليه أو الإمام فمات ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان) إذا جرحه إنسان فتداوى بسم وكان سم ساعة يقتل في الحال فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وينظر في الجرح فإن كان موجباً للقصاص فلوليه استيفاؤه وإن لم
يكن موجباً فلوليه الأرش وإن كان السم لا يقتل غالباً وقد يقتل ففعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم في شريكه كالحكم في شريك الخاطئ وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية وإذا كان السم يقتل غالباً بعد مدة احتمل أن يكون عمد الخطأ أيضاً لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي قبله واحتمل أن يكون في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في المسألة قبلها وإن جرح رجلاً فخاط جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سماً يجوز أن يقتل على ما مضى فيه، وإن خاطه غيره بغير إذنه كرهاً فهما قاتلان عليهما القود وإن خاطه وليه والإمام وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما، لأن فعلهما جائز إذ لهما مداوته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود؟ فيه وجهان(9/349)
باب شروط القصاص وهي أربعة (أحدهما) أن يكون الجاني مكلفاً فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما، لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه ونحوها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم قصد صحيح فهم كالعقل خطأ (فصل) فان اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني كنت صبياً حال الجناية، وقال ولي الجناية كنت بالغاً فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق، لأن الاصل الصغر وبراءة ذمته من القصاص وإن قال قتلته وأما مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله مع يمينه أيضاً لذلك، وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك إن عرف له حال جنون ثم عرف زواله قبل القتل وإن ثبت لأحدهما بما ادعاه بينة حكم له وإن أقاما بينتين تعارضتا فإن شهدت البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي كنت سكران وقال القاتل كنت مجنوناً فالقول قول القاتل مع يمينه لأنه أعرف بنفسه، ولأن الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه فأما إن قتله وهو عاقل ثم جن لم(9/350)
يسقط عنه سواء ثبت ذلك ببينة أو إقرار، لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت عليه الحد بإقراره ثم جن لم يقم عليه حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحاً رجع (مسألة) (وفي السكران وشبهه روايتان (أصحهما) وجوبه عليه) إذا قتل السكران وجب عليه القصاص، ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص عليه مبني على طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان (أحدهما) لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف فأشبه الصبي.
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب الحد بمظنته واذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى ولأنه حكم لو لم يوجب عليه القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصير عصيانه سبباً لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه ولا وجه لهذا وفارق الطلاق لأنه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل فإن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنوناً فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريباً ويعود من غير تداو فهو كالسكران على ما فصل فيه (فصل) (الثاني) أن يكون المقتول معصوماً فلا يجب القصاص بقتل حربي لا نعلم فيه خلافاً ولا(9/351)
يجب بقتله دية ولا كفارة لأنه مباح الدم على الإطلاق أشبه الخنزير، ولأن الله تعالى أمر بقتله فقال تعالى (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وسواء كان القاتل مسلماً أو ذمياً لما ذكرنا وكذلك المرتد لا يجب بقتله قصاص ولا دية ولا كفارة وإن قتله ذمي، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم يجب القصاص على الذمي بقتله والدية إذا عفي عنه لأنه لا ولاية له في قتله، وقال بعضهم يجب القصاص دون الدية لأنه لا قيمة له.
ولنا أنه مباح الدم أشبه الحربي ولأن من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي وليس على
قاتل الزاني المحض قصاص ولا دية ولا كفارة، وهذا ظاهر مذهب الشافعي وحكى بعضهم وجهاً أن على قاتله القود ان قتله إلى الأمام فيجب القتل على من قتله سواه كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه ولنا أنه مباح الدم قتله متحتم فلم يضمن كالحربي وببطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله غير متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد وكذلك الحكم في المحارب الذي تحتم قتله (مسألة) (وإن قطع مسلم أو ذمي يد مرتد أو حربي فأسلم ثم مات فلا شئ على القاطع لأنه لم يجن على معصوم وإن رمى حربياً فأسلم قبل، أن يقع السهم فلا شئ عليه لأنه رمى رميا مأمورا به(9/352)
وإن رمى مرتداً فأسلم قبل وقوع السهم به فلا قصاص لأنه رمى من ليس بمعصوم أشبه الحربي وفي وجوب الدية وجهان) (أحدهما) لا تجب قياساً على الحربي (والثاني) تجب لأن الذمي ههنا محرم لما فيه من الافتيات على الإمام.
(مسألة) (ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات فلا شئ على القاطع في أحد الوجهين) لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربياً ثم مات من جراحه وأما اليد فالصحيح أنه لا قصاص فيها، وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها، لأن القطع مستقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله وللشافعي في وجوب القصاص قولان.
ولنا أنه قطع صار قتلاً لم يجب به القتل فلم يجب به القطع كما لو قطع من غير مفصل، وفارق ما قاسوا عليه فإن القطع لم يصر قتلاً وهل تجب دية الطرف؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ضمان فيه لانه قتل لغير معصوم (والثاني) يجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانة كما لو قطع طرف رجل ثم قتله آخر، فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الأمرين من ديته أو دية النفس فيه وجهان(9/353)
(أحدهما) تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان، لأن الردة قطعت
حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل الآخر له (والثاني) يجب أقل الأمرين لأنه لو لم يرتد، لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى ولانه قطع صار قتلاً فلا يوجب أكثر من دية كما لو لم يرتد وفارق الوجه الأول فإنه لم يصر قتلاً، ولأن الاندمال والقتل منع وجود السراية والردة منعت ضمانها ولم يمنع جعلها قتلا وللشافعي من التفصيل نحو ما قلنا (مسألة) (وإن عاد إلى الإسلام ثم مات وجب القصاص على قاتله) نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وقال القاضي يتوجه عندي أن زمن الردة إن كان مما تسري فيه الجناية لم يجب القصاص في النفس: وهل يجب في الطرف الذي قطع في إسلامه؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الإسلام لم يجب القصاص كما لو جرحه أحدهما في الإسلام والآخر في الردة فمات منهما ولنا أنه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم احتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل أن يموت بمرض أو سبب آخر أو بالجرح مع شئ آخر يؤثر في الموت، فأما الدية فتجب كاملة ويحتمل وجوب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فيوجب نصف الدية كما لو جرحه إنسان(9/354)
وجرح نفسه فمات منهما، فأما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية والقصاص وقال الشافعي في أحد قوليه لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص ولنا أنهما متكافئان في حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد، وإن كان الجرح خطأ وجبت الكفارة بكل حال لأنه فوت نفساً معصومة (فصل) وإن جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحاً آخر ثم اسلم ومات منهما فلا قصاص فيه لأنه مات من جرحين مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك، وسواء تساوى الجرحان أو زاد أحدهما مثل ان قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح في الحالين كجرح رجلين، وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال إسلامه؟ يحتمل وجهين بناء على من قطع طرفه
وهو مسلم فارتد ومات في ردته، ولو قطع طرفه في ردته أولاً فأسلم ثم قطع طرفه الآخر ومات منهما فالحكم فيها كالتي قبلها (فصل) وإن قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وإن قلنا يقر عليه وجبت دية مجوسي وإن قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني، ويجئ على قول أبي بكر والقاضي أن تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن جنى على عبد ذمي فأسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمة بقيمة عبد ذمي اعتباراً بحال الجناية وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى(9/355)
(فصل) الثالث أن يكون عليه مكافئاً للجاني وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكراً كان أو أنثى لقول الله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) (مسألة) (ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم تساوت قيمتهما أو اختلفت) هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسالم والنخعي والشعبي والزهري وقتادة والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أن من شرط القصاص تساوي قيمتهم وإن اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص، وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فان كانت أقل فلا وهذا قول عطاء وقال ابن عباس ليس في العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال ولنا قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) وهذا نص الكتاب فلا يجوز خلافه ولأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية (فصل) ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس به قال عمر بن عبد العزيز وسالم والزهري وقتادة ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس وهو قول الشعبي والنخعي والثوري وأبي حنيفة لان الاطرف مال فلا يجري القصاص فيها كالبهائم ولأن التساوي في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل أنه لا يأخذ الصحيحة بالشلاء
ولا كاملة الأصابع بالناقصة وأطراف العبيد لا تتساوى(9/356)
ولنا قول الله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الآية ولأنه أحد أنواع القصاص فجرى بين العبيد كالقصاص في النفس (فصل) واذا وجب القصاص في طرف العبيد فللعبد استيفاؤه والعفو عنه دون السيد (فصل) ويقتل البعد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد ويقتل المدبر وأم الولد بكل واحد منهم لأن الكل عبيد فيدخلون في قوله تعالى (والعبد بالعبد) وقد دل على كون المكاتب عبداً قول النبي صلى الله عليه وسلم " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وسواء كان قد أدى من كتابته شيئاً أو لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك إلا إذا قلنا إنه إذا ملك ما يؤدي صار حراً فلا يقتل بالعبد لأن الحر لا يقتل بالعبد وإن أدى ثلاثة أرباع الكتابة لم يقتل أيضاً أذا قلنا إنه يصيرا حراً ومن لم يحكم بحريته إلا بأداء جميع الكتابة قال يقتل به، وقال أبو حنيفة اذا قتل العبد مكاتب له وفا ووارث سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص إلا لمن يثبت حقه في الطرفين ولنا قوله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (العبد بالعبد) ولأنه لو كان قتل لوجب بقاء القصاص فإذا كان مكاتباً كان أولى كما لو لم يخلف وارثاً وما ذكروه فشئ بنوه على أصولهم ولا نسلمه (فصل) إذا قتل الكافر الحر عبداً مسلماً لم يقتل لأن الحر لا يقتل بالعبد لعدم التكافؤ ولأنه(9/357)
لا يحد بقذفه فلا يقتل به كالأب مع الابن وعليه قيمته ويقتل لنقض العهد إن قلنا ينتقض عهده وفيه روايتان ذكرناهما في موضع ذلك وعلى الرواية الأخرى لا يقتل وعليه قيمته ويؤدب بما يراه الإمام أو نائبه (فصل) وان قتل عبد مسلم حراً كافراً لم يقتل به لأن المسلم لا يقتل بالكافر وان قتل من نصفه حر عبداً لم يقتل به لانا لا يقتل نصف الحر بعبد وإن قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل به الحر وان قتل من نصفه حر مثله قتل به لأن القصاص يقع بين الجمعتين من غير تفصيل وهما متساويان (مسألة) ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر)
هذا قول عامة أهل العلم أنهم النخعي والشعبي والزهري وعمر بن عبد العزيز ومالك وأهل المدينة والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وغيرهم وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية رواه سعيد وروي نحوه عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن وعطاء وحكي عنهما مثل قوله الجماعة ولعل من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي ولنا قول الله تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) مع عموم سائر النصوص وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً رض رأس جارية من الانصار وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن وأن الرجل يقتل بالمرأة وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شئ لأنه قصاص(9/358)
واجب فلم يجب معه شئ على المقنص كسائر القصاص واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني مؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينهما ويؤخذ العبد بالعبد مع اخلاف قيمتهما وقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو إما أن يكون رجلاً أو امرأة (مسألة) (وعن أحمد لا يقتل العبد بالعبد لا أن تستوي قيمتهما، ولا عمل عليه وقد ذكرناه) (مسألة) (ويقتل الكافر بالمسلم) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على ارضاح لها ولأنه إذا قتل بمثل فيمن هو فوفه أولى وكذلك يقتل العبد بالحره المرتد بالذمي وإن عاد إلى لاسلام نص عليه لذلك (فصل) ويقتل المرتد بالذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي وإن عفا عنه لي القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهو في ذمته وإن قتل بالردة أو مات تعلقت بماله وإن قطع طرفاً من مسلم أو ذمي فعليه القصاص فيه أيضاً وقال بعض أصحاب الشافعي لا يقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الاسلام في حقه باقية بدليل وجوب العبادات عليه ومطالبته بالإسلام(9/359)
ولنا أنه كافر فيقتل بالذمي الأصلي وقولهم أن أحكام باقية غير صحيح فإنه قد زالت عصمته وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرهما، وأما مطالبته بالإسلام فهو حجة عليهم لأنه يدل على تغليظ كفره وأنه لا يقر على ردته لسوء حاله فإذا قال بالذمي مثله فمن هو دونه أولى ولا يمنع إسلامه وجوب القصاص عليه لأنه بعد استقرار وجوب القصاص عليه والأصل في كل واجب بقاؤه فأشبه ما لو قتله وهو عاقل ثم جن (مسألة) (ولا يقتل مسلم بكافر أي كافر كان) هذا قول أكثر أهل العلم وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر، وقال النخعي والشعبي وأصحاب الراي يقتل المسلم بالذمي خاصة قال أحمد الشعبي والنخعي قالا: دية المجوسي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به سبحان الله هذا عجب يصير المجوسي مثل المسلم ما هذا القول؟ واستبشعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقتل مسلم بكافر " وهو يقول يقتل بكافر فاي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها لقول تعالى (النفس بالنفس) وقوله (الحر بالحر) وبما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي وقال " أنا أحق من وفى بذمته " ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم(9/360)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون متكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر " رواه أحمد وابو داود وفي لفظ " لا يقتل مسلم بكافر " رواه البخاري وأبو داود وعن علي أنه قال من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر رواه الإمام أحمد ولانه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصات بحديثنا وحديثهم ليس له إسناد قاله أحمد وقال الدارقطني: يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا ارسل؟ والمعنى في المسلم أنه مكافئ للمسلم بخلاف الذمي ووافق أبو حنيفة الجماعة في المستأمن أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف وعنه يقتل به لما سبق في الذمي
ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا من الأدلة في الأدلة التي قبلها (فصل) ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو اختلفت فيقتل النصراني باليهودي والمجوسي نص عليه أحمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا قتله قتل فكيف يقتل به وأديانهما مختلفة؟ قال أذهب الى أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل بامرأة يعني أنه قتله بها مع اختلاف دينهما ولأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيصه الكفر فجرى مجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (ولا يقتل حر بعبد) روي هذا عن ابي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن وعطاء وعمر بن عبد العزيز وعكرمة وعمر وبن دينار ومالك والشافعي اسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن الشعبي وروي عن سعيد بن(9/361)
المسيب والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل به لعموم الآيات والأخبار لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأنه آدمي معصوم أشبه الحر ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل حر بعبد " رواه الدارقطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصة بهذا فنقيس عليه (مسألة) (إلا أن يجرجه وهو مثله أو يقتله ثم يسلم القاتل أو الجارح أو يعتق فيموت المجروح فإنه يقتل به) وجملة ذلك أن الاعتبار في التكافؤ بحالة الوجوب كالحد فعلى هذا إذا قتل ذمي ذمياً أو جرحه ثم أسلم الجارح ومات المجروح أو قتل عبد عبداً أو جرحه ثم عتق القاتل أو الجارح ومات المجروح وجب القصاص لأنهما متكافئان حال الجناية ولأن القصاص قد وجب فلا يسقط بما طرأ كما لو جن (فصل) ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم وحكي عن النخعي وداود أنه يقتل به لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ومن جدعه
جدعناه " رواه سعيد والامام أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب مع العمومات والمعنى في التي قبلها(9/362)
ولنا ما ذكرناه في التي قبلها وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقاد الملوك من مولاه والوالد من ولده لأقدته منك " رواه النسائي وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه عاماً ومحي اسمه من المسلمين رواه سعيد والخلال قال أحمد ليس بشئ من قبل إسحاق بن أبي فروة وراه عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قالا " من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه مع المسلمين " فأما حديث سمرة فلم يثبت قال أحمد: الحسن لم يسمع من سمرة إنما هي صحيفة وقال غيره: إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة أحاديث ليس هذا منها ولأن الحسن أفتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد وقال إذا قتل السيد عبده يضرب ومخالفته له تدل على ضعفه (فصل) ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر وسيده لأنه إذا قتل بمثله هو أكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك ومتى وجب القصاص على العبد فعفا ولي الجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق برقبته كالقصاص فإن شاء سيده إن يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه ما تعلق حقه به وإن قال ولي الجناية معه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شئ وإنما يتعلق بالرقبة التي سلمها فبرئ منها وفيه وجه آخر أنه يلزمه ذلك كما لو يلزمه بيع الرهن، وإن امتنع من تسليمه(9/363)
واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية؟ على روايتين تذكران في غير هذا الموضع (مسألة) (وإن جرح مسلم كافراً فأسلم المجروح ثم مات مسلماً بسراية الجرح لم يقتل به قاتله لعدم التكافؤ حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحال استقرار الجناية وهذا قول ابن حامد بدليل ما لو قطع يدي رجل ورجليه فسرى إلى نفسه ففيه دية واحدة ولو اعتبر حال الجناية وجب ديتان ولو قطع حر يد عبد ثم عتق مات لم يجب القود لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر
اعتباراً بحال الاستقرار وهو قول ابن حامد كالمسألة قبلها ومذهب الشافعي وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته إن كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه فلا يكون له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها وإن كان الأقل الدية لم يستحق أكثر منها لأن نقص القيمة حصل بسبب من جهة السيد وهو العتق وذكر القاضي أن أحمد نص في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم عتق ومات أن على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على ان الاعتبار بحال الجناية وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب قال أبو الخطاب من قطع يد ذمي ثم اسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه سيده ومات فعلى الجاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دن حال السراية(9/364)
وكذلك الدية والأول أصح إن شاء الله تعالى قاله شيخنا لأن سراية الجرح مضمونة فإذا اتلفت حراً مسلماً وجب ضمانه بدية كاملة كما لو قتله بجرح ثان وقول أحمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره أحمد ولأن الواجب مقدر بما تقضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل أن من قطعت يداه ورجلاه فسرى القطع إلى نفسه لم يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع أصبعاً فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك إذا سرت إلى نفس حر مسلم تجب دية كاملة فأما إن قطع يد مرتد أو حربي فسرى ذلك الى نفسه لم يجب قصاص ولا دية ولا كفارة سوا أسلم قبل السراية أو لم يسلم لان الجراح غير مضمون فلم تضمن سرايته بخلاف التي قبلها (مسألة) (وإن رمى مسلم ذمياً عبداً فلم يقع السهم به حتى عتق وأسلم فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية) هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر يجب القصاص لأنه قتل مكافئاً له عمداً عدواناً فوجب القصاص كما لو كان حراً مسلما كذلك حال الرمي يحقفه ان الاعتبار بحال الإصابة بدليل ما لو رمى فلم يصبه حتى ارتد أو مات لم يلزمه شئ، ولو رمى عبداً كافراً فعتق أو أسلم
غرمه بدية حر مسلم.(9/365)
ولنا على درء القصاص أنه لم يقصد إلى نفس مكافئه فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى حربياً أو مرتداً فأسلم وقال أبو حنيفة يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة ناشئة عن إرسال السهم فكان الاعتبار بها كحالة الجرح ولنا أن الاصابة حصلت في حر فكان ضمانه ضمان الأحرار كما لو قصد هدفاً أو طائراً فأصاب حراً ثم يبطل، بما إذا رمى حياً فأصابه ميتاً أو عبداً صحيحاً فأصابه بعد قطع يديه لم تجب ديته لورثته وعنده تجب لمولاه ولو رمى كافراً فأصابه السهم بعد أن أسلم كانت ديته لورثته المسلمين وعند أبي حنيفة لورثته الكفار ولنا أنه مات مسلماً حراً فكانت ديته للمسلمين كما لو كان حال الرمي فوجوب المال معتبر بحال الإصابة لأنه يدل على المحل فيعتبر عن المحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس مسلم حر والقصاص جزء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معاً لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله (فصل) ولو قطع يد عبد ثم عتق ومات أو يد ذمي ثم اسلم ومات ففيه وجهان (أحدهما) الواجب دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جنايته اعتباراً بحال استقرار الجناية وقال القاضي وأبو بكر تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى السيد اعتباراً بحال الجناية لأنها الموجب للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمها على هذا أن يصرفاها إلى ورثته من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية(9/366)
لا تخلو من أن تكون مستحقة للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر أمواله وأملاكه كالذي كسبه بعد جرحه، وإن كانت تحدث على ملك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار (فصل) وإن قطع ألف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد، وإن اعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك سيده
وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول أبي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن اعتبار الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه (فصل) فإن قطع يد عبد فأعتق عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه العبد لسيده إذ فلما إن العبد يضمن بما نقصه ويجب القصاص في الرجل التي قطعها حال حريته أو نصف الدية إن عفا عن القصاص لورثته وإن اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل إلى نفسه ففي الولد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص في النفس أو الدية كاملة لورثته وان اندمل لرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها أو نصف الدية لورثته ولا قصاص في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها قل لامرين من أرش القطع أو دية الحر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده(9/367)
اعتباراً بحال جنايته وإن سرى الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين موجب وغير موجب فلم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين خطأ وعمداً ولكن يجب القصاص في الرجل لأنه قطعها من حر فإن قتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفي منه ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فإن زاد نصف الدية على نصف القيمة كان الزائد للورثة وإن عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضاً نصف الدية فإن كان قاطع الرجل غير قاطع اليد واندمل الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص فيها أو نصف الدية وإن سرى الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على الأول لأنه قطع يد عبد وعليه نصف دية حر لأن المجني عليه حر في حال استقرار الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كانا عمدا القطع لأنه شارك في القتل عمداً عدواناً فهو كشريك الأب ويتخرج أن لا قصاص عليه في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب وإن عفا
عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وإن قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف روايتان وإن قلنا لا يجب في النفس وجب في الرجل (فصل) وإن قطع عين عبد ثم عتق قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قوه على الاول سواه اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القصاص في الطرفين إن وقف قطعهما أو ديتهما(9/368)
إن عفا عنهما، وإن سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت أنفسا وفي ذلك وفي القصاص في الطرف اختلاف ذكرناه وإن عفا عنهما فعليمهما الدية أثلاثاً وفيما يستحقه السيد وجهان (أحدهما) أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية على قياس قول أبي بكر لأنه بالقطع استحق نصف القيمة فإذا صارت نفساً وجب فيها ثلث الدية فكان له أقل الأمرين (والثاني) له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفساً كان الاعتبار بما آلت إليه ألا ترى أنه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضاً لم يكن على الأول إلا ثلث القيمة ولا يزيد حقه بالعتق كما لو قلع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم مات فإنه يكون للأول ثلث القيمة وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول قطع أصبعه أو هشمه، أو الجانيان في الحرية قطعا يديه فالدية عليهم أثلاثاً للسيد منها أقل الأمرين من أرش الإصبع وهو عشر القيمة أو ثلث الدية، ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه والجانيان في الحرية قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثاً وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو ثلث الدية وعلى الوجه الآخر يكون له في الفرعين أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية (فصل) فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من ذلك من أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.
(فصل) فإن كان الجناة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين(9/369)
الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية، وان كان الثلاثة في الرق والواحد في الحرية كان للسيد أقل الأمرين من أرش الجنايات أو ثلاثة أرباع الدية في أحد الوجهين وفي الآخر الأقل من ثلاثة أرباع القيمة أو ثلاثة أرباع الدية، ولو كانوا عشرة واحد في الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم فللسيد فيها بحساب ما ذكرنا على اختلاف الوجهين (فصل) وإن قطع يده ثم عتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية فإن كان قبل الاندمال فعلى الجاني الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه، فإن اختار الورثة القصاص في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن الطرف داخل في النفس في الأرش، فإن اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش الطرف يدخل في النفس، وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة، وأما الثاني فعليه القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت، فإن عفا عنه فعليه نصف الدية وإن كان الثاني هو الذي قتله قبل الاندمال فعليه القصاص في النفس وهل يقطع طرفه؟ على روايتين فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه، وإن كان القاتل ثالثاً فقد استقر القطعان ويكون على الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث القصاص في النفس أو الدية (فصل) وإذا قطع رجل يد عبد ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه انما(9/370)
قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح، وإن مات بعد العتق بسراية الجرح فلا قصاص فيه لأن الجناية كانت على مملوكه، وفي وجوب الضمان وجهان (أحدهما) لا يجب شئ لأنه مات بسراية جرح غير مضمون أشبه ما لو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود، ولأننا تبينا أن القطع كان قتلاً فيكون قاتلاً لعبده فلا يلزمه ضمانة كما لو يعتقه، وهذا مقتضى قول أبي بكر (والثاني) يضمنه بما زاد على ارش القطع من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع
أجنبياً لكن يسقط أرش القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن وارث سواه وجب لبيت المال ولا يرث السيد شيئاً لأن القاتل لا يرث (مسألة) (ولو قتل من يعرفه ذمياً عبداً فبان أنه قد عتق وأسلم فعليه القصاص) لأنه قتل من يكافئه بغير حق أشبه ما لو علم حاله (مسألة) (وإن كان يعرفه مرتداً فكذلك عند أبي بكر) لما ذكرنا قال ويحتمل أن لا يلزمه إلا الدية لأنه لم يقصد قتل معصوم فلم يلزمه قصاص كما لو قتل في دار الحرب من يظنه حربياً فبان أنه بعد أن أسلم (فصل) (الرابع أن لا يكون اباً للمقتول فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل والأب والأم في ذلك سواء) وجملة ذلك أن الأب لا يقتل بولده ولا بولد ولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك ولد البنين(9/371)
وولد البنات، وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده ولده عمر بن الخطاب وبه قال ربيعة والثوري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب أن يقتل كما واحد منهما بصاحبه كالاجنببين، وقال ابن المنذر قد رووا في هذا الباب أخباراً وقال مالك إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أو قتله قتلاً لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به.
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وان عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتل والد بولده " أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الاسناد فيه حتى يكون الاسناد في مثله مع شهرته تكلفاً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنت ومالك لأبيك " وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية ثبتت الاضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات ولأنه سبب ايجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه وما ذكرناه يخص العمومات، ويفارق الاب سائر
الناس فإنهم لو قتلوا بالخذف بالسيف وجب عليهم القصاص والأب بخلافه.(9/372)
(فصل) والجد إن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الاب، وقال الحسن بن حي يقتل به ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق إذا تملكه، والجد من قبل الأم كالذي من قبل الأب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن ابني هذا سيد " (فصل) ويستوي في ذلك الأب والأم في الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب، وعن أحمد ما يدل على أنه لا يسقط عن الأم فإن مهنا نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمداً تقتل قال من يقتلها؟ قال ولدها وخرجها أبو بكر على روايتين (إحداهما) إن الأم تقتل بولدها لأنها لا ولاية لها عليه أشبه الأخ، والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقتل والد بولده ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الاب بقتل ولده الكبير الذي لا ولاية له عليه وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق، والجدة وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الأم لما ذكرنا في الجد (فصل) وسواء في ذلك اتفاقهما في الدين والحرية واختلافهما فيه لأن انتفاء القصاص لشرف(9/373)
الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر أو قتل العبد ولده الحر أو قتل الحر ولده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده وانتفاء المكافأة فيما إذا قتل والده (فصل) إذا تداعى نفسان نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل الحاقة بواحد منهما فلا قصاص عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وإن ألحقه القافة بأحدهما ثم قتلاه لم يقتل
أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل الابن، وإن رجعا جميعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن إقرارهما به كما لو أقرا له بحق سواه أو كما لو ادعاه واحد فألحق به ثم جحده، وإن رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن رجوعه لا يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب، وإن عفا عنه فعليه نصف الدية، ولو اشترك رجلان في وطئ امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل إلحاقه بأحدهما لم يجب القصاص، وإن نفيا نسبه لم ينتف بقوله لأنه لحق بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين (أحدهما) أن أحدهما إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق بذلك(9/374)
(والثاني) أن ثبوت نسبه ثم بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا ثبت بالاشتراك فلا ينتفي بالجحد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا سواء (مسألة) (ويقتل الولد بكل واحد منهما في أظهر الروايتين) هذا قول جماعة أهل العلم منهم مالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وحكى بعض اصحابنا عن أحمد أن الابن لا يقتل بأبيه لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه، والصحيح أنه يقتل به للآيات والأخبار وموافقة القياس ولأن الأب أعظم حرمة وحقاً من الأجنبي فإذا قتل بالأجنبي فبالأب أولى ولانه يجد بقذفه فيقتل به كالأجنبي، ولا يصح قياس الابن على الأب لأن حرمة الوالد على الولد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الولد مع الوالد، وقد ذكر أصحابنا حديثين متعارضين عن سراقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يقاد الأب من ابنه ولا الابن من أبيه " والثاني: أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد لابن من أبيه، وهذا الحديث لا نعرفه ولم تجده في كتاب السنن المشهورة ولا ظن له اصلاً فهما متعارضان ومتدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة الثابتة والإجماع الذي لا تجوز مخالفته (مسألة) (ومتى ورث ولده القصاص أو شيئاً منه أو ورث القاتل شيئاً من دمه سقط القصاص
فلو قتل أحد الزوجين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص)(9/375)
لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على أبيه لأنه إذا لم بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكرا أو انثى أو كان لعقول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه، فإن لم يكن للمقتول ولد منهما وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح أشيه الأمة ولنا عموم النصوص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل به كالاجنبين، قوله إنها ملكه غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة ولهذا تجب عليه ديتها ويرثها ورثتها ولا يرث منها إلا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو القصاص لورثتها بخلاف الأمة (مسألة) (ولو قتل رجل أخا زوجته فورثته ثم ماتت فورثها ولده سقط عنه القصاص وسواء كان لها ولد من غيره أو لا) لأن القصاص فيما ورثه ولده فيسقط جميعه لأن القصاص لا يتبعض فأشبه ما لو عفا أحد الشريكين وكذلك لو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليه ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره لما ذكرنا(9/376)
(فصل) ولو قتل رجل أخاه فورثه ابن القاتل أو أحد يرث ابنه منه شيئاً لم يجب القصاص لما ذكرنا (فصل) وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبداً له لم يجب القصاص لأن الوالد لا يقتل بولده ولا يثبت للولد على والد قصاص، وإن اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب القصاص لأن السيد لا يقتل بعبده
(مسألة) (ولو قتل أباه أو أخاه فورثه أخواه ثم قتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عن الأول لأنه ورث بعض دم نفسه) (مسألة) (وإن قتل أحد الابنين اباه والآخر أمه وهي زوجة الأب سقط القصاص عن الأول لذلك وله أن يقتص من أخيه ويرثه لأن القتل بحق لا يمنع الميراث) إذا قتل أحد الابنين اباه والآخر أمه ولزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على القاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزء من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله ورثه إن لم يكن له وارث سواه لأنه قتل بحق وإن عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو على أخيه(9/377)
(فصل) وإن لم تكن زوجة الأب فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاله، فإن بادر أحدهما فقتل أخاه فقد استوفى حقه وسقط عنه القصاص لأنه يرث اخاه لكونه فلا يحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه فان تشاحاني المبتدئ منهما بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل القاتل الأول لأنه أسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحقاق فصرنا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا إما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب إن لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوباً عن ميراثه كله فلو ارث القتيل قتل الآخر وان عفى أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضاً وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وإن تعافيا جميعاً على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الأم الفضل على قاتل الأب لأن عقلها نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما في استحقاقه كسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما معاً واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف لا يجوز فتعين السقوط وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه عن ميراث ابيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه وللان أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه وإن كان لكل واحد منهما بنت
فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال اخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه(9/378)
القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أخره ونصف مال أخته ونصف مال أبيه الذي قتله هو وورثت البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتيله (فصل) أربعة أخوة قتل الأول والثاني والثالث والرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع لم يرثه وورثه الأول وحده وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب الثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئاً فإن قتله ورثه في ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني فإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان لهما ورثه كل فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها (مسألة) (وان قتل من لا يعرفه وادعى كفره لم يقبل) لأنه محكوم بإسلامه بالدار ولهذا يحكم بإسلام اللقيط ويكون القول قول الولي وكذلك إن ادعى رقه لأن الأصل الحرية والرق طارئ وكذلك لو ضرب ملفوفاً فقده وادعى أنه كان ميتاً لم يقبل لأن الأصل الحياة وإن قطع طرف إنسان وادعى شلله لم يقبل لأن الأصل السلامة (مسألة) (وان قتل رجلاً في داره وادعى أنه دخل يكابره على أهله أو ماله فقتله دفعاً عن نفسه وأنكر وليه فالقول قول الولي)(9/379)
وجملة ذلك أنه إذا قتل رجلاً وادعى أنه وجده مع امرأته أو أنه قتله دفعاً عن نفسه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بقتله لم يقبل قولا إلا ببينة ولزمه القصاص إذا أنكر وليه روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي وابو ثور وابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفاً وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلاً فقتله فقال ان يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى فأما إن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه كان يوما يتغدى إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالو يا أمير المؤمنين أن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر ما يقولون؟ فقال يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر ما يقول؟ قالوا يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهذه ثم دفعه إليه وقال ان عادوا فعد رواه سعيد في سننه وروي عن الزبير أنه كان يوماً قد تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلا ن فقالا أعطنا شيئاً فأعطاهما طعاماً كان معه فقالا خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ولأن الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط حقه كما لو أقر بقتله قصاصاً أو في حد يوجب قتله وإن ثبت فكذلك(9/380)
(مسألة) (وان تخارج اثنان وادعى كل واحد منهما أنه جرح صاحبه دفعاً عن نفسه وانكر الآخر وجب القصاص والقول قول المنكر) لأن سبب القصاص قد وجد وهو الجرح والأصل عدم ما يدعيه الآخر وقال شيخنا يجب الضمان لذلك والقول قول كل واحد منهما مع يمينه في نفي القصاص لأن ما يدعيه محتمل فيندرئ به القصاص لأنه يندرئ بالشبهات هذا الذي ذكره في كتاب الكافي والأول أقيس لأنه لو كان دعوى ما يمنع القصاص إذا احتمل مانع منه لما وجب القصاص في المسائل المتقدمة والحكم بخلافه والله أعلم (فصل) أجمع أهل العلم على أن القود لا يجب إلا بالعمد ولا نعلم في وجوبه بقتل العمد إذا اجتمعت شروطه وانتفت الموانع خلافاً وقد دل عليه الآيات والأخبار بعمومها فقال تعالى ومن (قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه طعاما فلا يسرف في القتل) وقال تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقال تعالى (ولكم في القصاص حياة) يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع الإقدام على القتل خوفاً على نفسه من القتل فتبقى الحياة فيمن أريد قتله، وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي " متفق عليه وروى أبو شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصيب بدم فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه
أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية " رواه أبو داود (فصل) وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم الحواس(9/381)
والقاتل صحيح سوي الخلق أو كان بالعكس وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر ونحو ذلك لا يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات التي تلوناها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ولأن اعتبار التساوي في الصفات والفضائل يفضي الى اسقاط القصاص بالكلية وفوات حكمه الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول والقصر والسواد والبياض.
(فصل) ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والأخبار التي ذكرناها لا نعلم في هذا خلافاً وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملاً أنه قطع يده ظلماً لئن كنت صادقاً لأقدتك منه وثبت أن عمر كان يقيد من نفسه وروى أبو داود قال خطب عمر فقال إني لم أبعث عما لي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه فقال عمرو بن العاص لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال أي والذي نفسي بيده أقصه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم وهذان حران مسلمان ليس بينهما إيلاد فيجرى القصاص بينهما كسائر الرعية (فصل) ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الإسلام بل متى قتل في دار الحرب مسلماً عالماً بإسلامه عامداً فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة(9/382)
لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الإسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه بقصاص ولا دية عمداً قتله أو خطأ، وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين دخلا دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه ضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية كقوله ولو قتل رجل أسيراً مسلماً في دار الحرب لم يضمنه إلا بالدية ولم يجب القود عمداً قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والأخبار ولأنه قتل من يكافئه عمداً ظلماً فوجب عليه القود كما لو قتله في دار الإسلام ولأن كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وإن لم يكن إمام كدار الإسلام (فصل) وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابن المنذر، وقال مالك الأمر عندنا ان يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك إلى السلطان والغلية عنده أن يخدع الإنسان فيدخل بيتاً أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج بحديث عمر رضي الله عنه في الذي قتل غيلة لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب ولنا عموم قوله تعالى (فقد جعلنا لوليه سلطانا) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ولأنه قتيل في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى، وقول عمر لأقدتهم به أي أمكنت الولي من استيفاء القود منهم.
باب استيفاء القصاص ويشترط له ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون من يستحقه مكلفاً فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يجز استيفاؤه ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون إذا كان من يستحق القصاص واحداً غير مكلف صغيراً أو مجنوناً كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا لغيره استيفاؤه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس، وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين (أحدهما) كقولهما ولأن القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية(9/383)
ولنا أنه لا يملك ايقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب فافترقا ولأن الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح إلى مال أكثر منها أو أقل والدية بخلاف ذلك (فصل) وكل موضع يجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم
الغائب، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل فلم لا يخلى سبيله كالعسر بالدين قلنا لأن في تخليته تضييعاً للحق لأنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه (أحدهما) أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا واجب وإنما تعذر المستوفي (الثاني) أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس (الثالث) أنه قد استحق قتله وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه فان قبل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفاً رشيداً ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوباً لم يملك انتزاعه؟ قلنا لأن في القصاص حقاً للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا ينفذ وصاياه من الدية ويقضي ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة(9/384)
الميت في يد إنسان شيئاً غصباً والوارث غائب فإنه يأخذه، ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فان أقام القاتل كفيلاً بنفسه ليخلي سبيله له لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل، فإن تعذر إحضار المكفول به فلا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد ولأن فيه تغريراً بحق المولى عليه فإنه ربما خلى سبيله فهرب فضاع الحق (مسألة) (وإن كانا محتاجين إلى النفقة فهل لوليهما الفعو إلى الدية؟ يحتمل وجهين) إذا وجب القصاص لصغير أو مجنون فليس لوليه العفو عن القصاص إلى غير مال لأنه لا يملك اسقاط حقه وكذلك إن عفا إلى مال وكان الصبي في كفاية وقد ذكرناه، فإن كان فقيراً محتاجاً إلى النفقة جاز ذلك في أحد الوجهين، قال القاضي وهو الصحيح (والثاني) لا يجوز لأنه لا يملك اسقاط قصاصه ونفقته في بيت المال، والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل، وأما إذا كان مستحق القصاص مجنوناً فقيراً فلوليه العفو إلى المال لأنه ليست له حالة معتادة ينتظر فيها اباقته ورجوع عقله بخلاف الصبي (مسألة) (فإن قتلا قاتل أبيهما أو قطعا قاطعهما قهراً احتمل أن يسقط حقهما واحتمل أن تجب
دية أبيهما لهما في مال الجاني ويرجع ورثة الجاني على عاقلتهما) إذا وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله أو على القاطع فقطعه ففيه وجهان:(9/385)
(أحدهما) يصير مستوفياً لحقه لأنه عين حقه أتلفه فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل (والثاني) لا يصير مستوفياً لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء فتجب له دية أبيه في مال الجاني لأن عمد الصبي خطأ وعلى عاقلته دية القاتل كما لو اتلف أجنبياً بخلاف الوديعة فإنها لو تلفت من غير تعد برئ منها المودع ولو هلك من غير فعل لم يبرأ من الجناية (مسألة) (وإن اقتصا ممن لا تحمل ديته العاقلة كالعبد سقط حقهما وجهاً واحداً لأنه لا يمكن ايجاب ديته على العاقلة فلم يكن إلا سقوطه (فصل) الثاني اتفاق جميع الأولياء على استيفائه وليس لبعضهم الاستيفاء دون بعض) لأنه يكون مستوفياً لحق غيره بغير إذنه ولا ولاية عليه فأشبه الدين (مسألة) (فان فعل فلا قصاص عليه) وبه قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص بإتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد ولنا أنه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركاً في ملك الجارية ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة باستيفائه كالأصل، ويفارق إذا قتل الجماعة واحد فإنا لم نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلاً لجميعها وإن سلمنا وجوبه(9/386)
عليه لقتل بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ذلك ههنا (مسألة) (وعليه لشركائه حقهم من الدية ويسقط عن الجاني في أحد الوجهين وفي الآخر لهم ذلك في تركة الجاني ويرجع ورثة الجاني على قاتله) وجملة ذلك أنه يجب للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره
فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء، وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني؟ فيه وجهان وللشافعي قولان (أحدهما) يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه بعض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها (والثاني) يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص، وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبياً، ويفارق الوديعة فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه وانما عليه حق فأشبه ما لو أتلف غريمه، فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم إلا قدر حقه منها، فعلى هذا لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلاً له ابنان قتلها أحدهما بغير إذن الآخر فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل وعلى الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه إلا نصف(9/387)
المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشئ لأن أخاه الذي قتلها أتلف جميع الحق، وهذا يدل على ضعف هذا الوجه، ومن فوائده أيضاً صحة إبراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته وإن قلنا يرجع على ورثة الجاني صح ابراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وإن قلنا يرجع على شريكه ملك مطالبته وصح ابراؤهم ولم يكن لورثة الجاني مطالبته بشئ (ومنها) أننا إذا قلنا يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الاخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك أو لم يمكنهم وإن قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبته ورثة الجاني سواء كان شريكه موسراً أو معسراً (فصل) وان عفا سقط القصاص وإن كان العافي زوجاً أو زوجة، أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل لما نذكره.
والقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب الرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يكن لأحد عليه سبيل وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وروي معنى ذلك عن عمر وطاوس والشعبي وقال الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث
والاوزاعي ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع النار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "(9/388)
وأهله ذوو رحمة وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن مالك لأن حق غير العافي لم يرض باسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام " فأهله بين خيرتين " وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي وما علمت على أهلي إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي " يريد عائشة وقال له أسامة يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيراً وروى زيد بن وهب أن عمر اتى برجل قتل قتيلاً فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود، وفي رواية عن زيد قال دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلاً فقتلها فقال بعض إخوتها قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلاً فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود ما تقول؟ فقال إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه فقال كتيف ملئ علماً، والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة وإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه، وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لو يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة، ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط(9/389)
منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتقاق ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدور والإسقاط فإذا اسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق، والمرأة أحد المستحقين فسقط بإسقاطها كالرجل، ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقاً أو إلى الدية وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم لهم مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك
لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فيثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خبر عمر رضي الله عنه (مسألة) (وإن قتله الباقون عالمين بالعفو وسقوط القصاص به فعليهم القود وإلا فلا قود وعليهم ديته) وجملة ذلك أنه إذا قتله الشريك الذي لم يعف عالماً بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن فيه شبهة لوقوع الخلاف فيه.
ولنا أنه قتل معصوماً مكافئاً له عمداً يعلم أن لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلماً بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله، فأما إن قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه عليه القصاص(9/390)
لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله ولنا أنه معتقد ثبوت حق فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه، ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده، وقال الشافعي متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما، ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذوراً وإما للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصاً ويجب عليه الباقي، فإن كان الولي عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شئ عليه وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه إن حق العافي من الدية على القاتل ولا يصح لأن الحق لم يبق متعلقاً بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه (مسألة) (وسواء كان الجميع حاضرين أو بعضهم غائب لما ذكرناه) (فصل) فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقاً أو إلى مال وبهذا قال عكرمة
والثوري ومالك والشافعي وابن المنذر وروي عن الحسن تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز الحكم فيه إلى السلطان ولنا قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) قال ابن عباس وعطاء والحسن وقتادته في(9/391)
تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية " ولأنه قتل معصوماً مكافئاً فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل (فصل) وإذا عفا عن القاتل مطلقاً صح ولم يلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر وأبو ثور وقال مالك والليث والاوزاعي يضرب ويحبس سنة ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شئ آخر كما لو أسقط الدية عن القاتل خطأ (مسألة) (وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فليس للبالغ العاقل استيفاء حتى يصيرا مكلفين في المشهور وعنه له ذلك) وجملة ذلك أن ورثة القتيل إذا كانوا أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين فإن كان بعضهم غائباً انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فظاهر مذهب أحمد أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف واسحاق ويروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعن أحمد رواية أخرى للكبار والعقلاء استيفاؤه وبه قال حماد ومالك والاوزاعي والليث وابو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصاً(9/392)
وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولان ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالاً كما لو كان لحاضر وغائب ولأنه أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقاً اربعة أمور
(أحدهما) أنه لو كان منفرداً لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفرداً كولاية النكاح (الثاني) أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقاً عند الموت لم يكن مستحقاً بعده كالرقيق إذا أعتق بعد موت أبيه (الثالث) أنه لو صار الأمر الى المال لاستحق ولو لم يكن مستحقاً للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي (الرابع) أنه لو مات الصغير لاستحق ورثته ولو لم يكن حقاً له لم يرثه كسائر ما لا يستحقه وأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل علياً مستحلاً لدمه معتقداً كفره متقرباً إلى الله تعالى بذلك وقيل قتله لسعيه في الارض بالفساد وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا قتله وقتله متحتم وهو إلى الإمام والحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدرنا أنه قتله قصاصاً فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض؟ (مسألة) (وكل من ورث المال ورث القصاص على حسب ميراثه من المال حتى الزوجين وذوي الأرحام) لأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه فأشبه المال(9/393)
(مسألة) (ومن لا وارث له وليه الإمام إن شاء اقتص وإن شاء عفا فله أن يفعل من ذلك ما يرى فيه المصلحة للمسلمين فإن أحب القصاص فله ذلك وإن أحب العفو إلى مال فله ذلك وان أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا، وهذا قول أصحاب الرأي لأنهم لا يرون العفو إلى مال الا برضى الجاني (فصل) وإذا اشترك جماعة في قتل واحد فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وإن عفي عن بعضهم فعلى العفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فانه يجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف ولا يختلف باختلاف المتلف
ولذلك لو قتل عبد قيمته الفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية وأما القصاص فهو عقوبة على الفعل فيتعدد بعدده (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثالث) أن يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير القاتل فلو وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبن لا نعلم في ذلك خلافاً وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف أما في النفس فلقول الله تعالى (فلا يسرف في القتل) وقتل(9/394)
الحامل قتل لغير الحامل اسرافا وروى ابن ماجة باسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنا نساء ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قتلت المرأة عمداً لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها " وهذا نص ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية المقرة بالزنا " ارجعي حتى تضعن ما في بطنك - ثم قال لها - ارجعي حتى ترضيعه " ولأن هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم فيه اختلافا وأما لا قصاص في الطرف فلا لنا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني وإلى زيادة في حقه فلأن تمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولان في القصاص منها قتلاً لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لأن الولد يتضرر لتركه ضرراً كبيراً ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجئ أو ان فطامه لما ذكرنا من الخبرين ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه بعد وضعه أولى إلا أن يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرر الاستيفاء منها فيستوفى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز الاستيفاء منها لأنه يستغني عنها بلبن المرضعة وكذلك إن كانت مترددة أو نساء يتناوبنه يرضعنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة(9/395)
(مسألة) (وحكم الحد في ذلك حكم القصاص لما ذكرنا من الحديث ولأنه في معنى القصاص
(مسألة) وإن ادعت الحمل ففيه وجهان (أحدهما) تحبس حتى يبين حملها لأن للحمل امارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب أن يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولأنه امر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض (والثاني) أنها ترى أهل الخبرة ذكره القاضي فان شهدن بحملها أخرت وان شهدن ببراءتها لم تؤخر لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها فإن أشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك أخرت حتى يتبين لأننا إذا أسقطنا القصاص من خوف الزيادة فتأخيره أولى (مسألة) (وإن اقتص من حامل وجب ضمان جنبيها على قاتلها) وقال أبو الخطاب يجب على السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الإثم إن كانا عالمين أو كان منهما تفريط وإن علم أحدهما أو فرط فالإثم عليه فإن لم تلق الولد فلا ضمان فيه لأنا لا نعلم وجوده وحياته وإن انفصل ميتاً أو حياً لوقت لا يعيش فيه مثله ففيه غرة وإن انفصل حياً لوقت يعيش مثله فيه ثم مات من الجناية وجبت ديته وينظر فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالأمرين أو بأحدهما أو كان الولي عالماً بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه مباشر والحاكم الذي مكنه صاحب سبب فكان الضمان على المباشر دون المسيب كالحافر مع الدافع(9/396)
فإن علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المسبب كالسيد إذا امر عبده الأعجمي الذي لا يعرف تحريم القتل به وكشهود القصاص إذا ارجعوا عن الشهادة بعد الاستيفاء وقال القاضي إن كان أحدهما عالماً وحده فالضمان عليه وحده وإن كانا غير عالمين فالضمان على الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده وإن كانا جاهلين ففيه وجهان (أحدهما) الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين (والثاني) على الولي وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر والسبب غير ملجئ فكان الضمان عليه كالدافع مع الحافر وكما لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق وهو اختيار شيخنا
(فصل) قال الشيخ رحمه الله ولا يستوفي القصاص إلا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر وهو مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس لأن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده بنسعة فقال أن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب فاقتله " رواه مسلم بمعناه ولان اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب أن يحضر شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء (مسألة) (وعليه تفقد الآلة فإن كانت كالة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول) وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب الاحسان على كل شئ(9/397)
فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة ليحد أحدكم شفرته وليرح ذبحته " رواه مسلم ويمنعه من الاستيفاء بآلة مسمومة لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله فإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عزر لفعله ما لا يجوز (مسألة) (وبنظر السلطان في الولي فان كان يحسن الاستيفاء ويقدر عليه بالقوة والمعرفة مكنه منه) لقول الله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل) وقال عليه الصلاة والسلام " من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " ولأنه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق ولأن المقصود التشفي وتمكينه منه أبلغ في ذلك (مسألة) (وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل) لأنه عاجز عن استيفاء حقه فيوكل من يحسن فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فأمكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وإن أصاب غيره وأقر بتعمد ذلك عزر فإن قال أخطأت وكانت الضربة قريباً من العنق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمينه لأن هذا مما يجوز الخطأ في مثله وإن كان بعيداً كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود
ففيه وجهان (أحدهما) لا يمكن منه لأنه ظهر منه أنه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل إن يعود إلى مثل فعله (والثاني) يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانياً(9/398)
(مسألة) (فإن احتاج الوكيل إلى أجرة فمن مال الجاني فقد قيل يؤخذ العوض من بيت المال) قال بعض أصحابنا يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص لأن هذا من مصالح العامة فان لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها أجرة لايفاء الحق الذي عليه فكانت الأجرة عليه كأجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله كسائر الموضع والذي على الجاني لتمكين دون الفعل ولهذا لو أراد ان يقتص منه نفس لم يمكن منه ولأنه لو كانت عليه أجرة الوكيل الزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وإن قال الجاني أنا أقتص لك من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز له ذلك قال الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) ولأن معنى القصاص أن يفعل به كما فعل ولأن القصاص حق عليه لغيره فلم يكن هو المستوفي له كالبائع لا يستوفى من نفسه (مسألة) (والولي مخير بين الاستيفاء بنفسه إن كان يحسن وبين التوكيل) لأن الحق له فيتصرف فيه على حسب اختياره كسائر الحقوق وقيل ليس له أن يستوفي في الطرف بنفسه بحال لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن منه كالقصاص في النفس (مسألة) (وإن تشاح أولياء المقتول في الاستيفاء قدم أحدهم بالقرعة) إذا تشاح الأولياء في المتولي للاستيفاء أمروا بتوكيل واحد منهم أو من غيرهم ولم يجز أن يتولاه(9/399)
جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن لم يتفقوا على أحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء اقرع بينهم لأن الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة أمر الباقون بتوكيله ولا يجوز له الاستيفاء بغير أذنهم فإن لم يتفقوا على التوكيل منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا
(فصل) قال رحمه الله ولا يستوفي القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين والأخرى يفعل به كما فعل فلو قطع يديه ثم قتله فعل به كذلك وإن قتله بحجر أو غرقة أو غير ذلك فعل به مثل فعله وإن قطع يده من مفصل أو غيره أو أوضحه فمات فعل به كفعله فإن مات وإلا ضربت عنقه وقال القاضي يقتل ولا يزاد على ذلك رواية واحدة وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلاً ثم ضرب عنقه فالكلام في المسألة في حالين أحدهما أن يختار لمولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه لا يستوفى إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف ومحمد لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود إلا بالسيف " رواه ابن ماجه ولأن القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر الى الدية لم يجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فانه لا يقتل بمثله (والرواية الثانية) عن أحمد أنه قال إنه لا حل أن يفعل به كما فعل(9/400)
يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور لقول الله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله سبحانه (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من لا يصار بين حجرين ولأن الله تعالى قال (والعين بالعين) وهذا قد قلع عينه فيجب أن يقلع عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب ان يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث " لا قود لا بالسيف " فقال أحمد ليس اسناده بجيد (الحال الثاني) أن يصير الأمر الى الدية اما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحد وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع سراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولنا أنه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه
والقصاص في الأطراف لا يجب على إحدى الروايتين وإن وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته(9/401)
(فصل) وإذا قلنا للولي أن يستوفي مثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك وهو أفضل وإن قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله جاز لأنه تارك بعض حقه وان قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل به لم يجب به إلا دية واحدة فلا يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية، فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق منها شئ فلا شئ له وإن قلنا ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى بمثل ما فعل فقد أساء ولا شئ عليه سوى المأثم لأن فعل الجاني في الأطراف لم يوجب شيئاً يختص بها فكذلك فعل المستوفي وإن قطع طرفاً واحداً ثم عفا إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وإن قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أنه يلزمه ما زاد على الدية لأنه لا يستحق أكثر من الدية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه، واحتمل أن لا يلزمه شئ فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شئ ولأنه فعل بعض ما فعل موليه فلم يلزمه شئ لأنه لو قتله لم يلزمه شئ كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به (فصل) فإن قطع يديه أو رجليه أو جرحه جرحاً يوجب القصاص إذا انفرد فسرى الى النفس فله القصاص في النفس، وهل له أن يستوفي القطع قبل القتل؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على الروايتين المذكورتين في المسألة (أحدهما) ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة، لأن ذلك يفضي إلى الزيادة على جناية الأول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده(9/402)
من نصف الذراع (والثانية) يجب القصاص في الطرف فإن مات وإلا ضربت عنقه، وهذا مذهب الشافعي لما ذكرناه في أول المسألة، وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وأنه لا يصح تجرحه على الروايتين في المسألة لافضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة، قال شيخنا والصحيح تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو
قطعه ثم قتله، ولأن زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين.
(فصل) فإن جرحه جرحاً لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به كالجائفة أو قطع اليد من نصف الذراع أو الرجل من نصف الساق فمات منه أو قطع يداً ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل ما فعل ولا يقتص إلا بالسيف في العنق ذكره أبو بكر والقاضي، وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل فعله لأنه صار قتلاً فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأسه بحجر فقتله به، والصحيح الأول لأن هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يقطع يساره، وفارق ما إذا رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قطع وقتل والقطع لا يوجب قصاصاً فبقي مجرد القتل فإذا(9/403)
جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعاً لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراماً وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى الى النفس (فصل) فأما إن قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قطع العين ولا عين له فمات المجني عليه فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه لا أعلم فيه خلافاً، لأن القصاص إنما يكون في مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولأن القصاص فعل مثل ما فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفياً رجلاً ممن لم يقطع له مثلها وهذا غير جائز (فصل) وإن قتله بغير السيف مثل أن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفى القصاص بمثل ما فعله على روايتين (إحدهما) يستوفى وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وهو مذهب أبي حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات ووجه الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولأن هذا لا يؤمن معه الزيادة على ما فعله القاتل فلا يجب القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كالة أو مسمومة أو بالسيف فانه لا يستوفى بمثله ولأن هذا لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو السحر ولا تفريع على هذه
الرواية، فأما على الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف، وهذا أحد قولي الشافعي (والقول الثاني) أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله(9/404)
ولنا أنه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحاً أو قطع منه طرفاً فاستوفى منه الولي مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه (مسألة) (فان قتله بمحرم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه قتل بالسيف رواية واحدة) إذا قتله بما يحرم لعينه كتجريع الخمر واللواط أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقاً ويقتل بالسيف، وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجهاً أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن حرقه فقال بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يعذب بالنار إلا رب النار " وهذا داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق (إحداهما) يحرق وهو مذهب الشافعي لما روى البراء بن عازب قال من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه وحملوا الحديث الأول على غير القصاص (مسألة) (ولا يجوز الزيادة على ما أتى به رواية واحدة ولا قطع شئ من أطرافه فإن فعل فلا قصاص فيه وتجب فيه ديته سواء عفا عنه أو قتله) إذا زاد مستوفي القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها(9/405)
نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد لا ضمان عليه ولكن قد أساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لأنه قطع طرفاً من جملة استحق اتلافها فلم يضمنه كما لو قطع اصبعاً من يد استحق قطعها ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانة كما لو عفا عنه ثم قطعه أو كما
لو قطعه أجنبي، فأما إن قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضاً لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم يعف لأن العفو إحسان فلا يكون موجباً للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لأنه لو قطع متعدياً ثم قتل لم يضمن الطرف فلأن لا يضمنه إذا كان القتل مستحقاً أولى، فأما القصاص فلا يجب في الطرف بحال ولا نعلم فيه خلافا، لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققة لأنه مستحق لاتلاف هذا الطرف ضمناً لاستحقاقه اتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص ان لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافأة، فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وإن قطع طرفاً غير الذي قطعه الجاني كان الجاني قطع يده فقطع المستوفي رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لاستواء ديتهما واحتمل أن تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده.
(فصل) فأما إن كانت الزيادة في الاستيفاء من الطرف مثل أن يستحق قطع أصبع فقطع اثنتين(9/406)
فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عمداً من مفصل أو شجه يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحاً لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفى هاشمة فعليه أرش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شئ على المقتص لأنه حصل بفعل الجاني، قال اختلفا هل فعله عمداً أو خطأ؟ فالقول قول المختص مع يمينه لأن هذا مما لا يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بمقصده، وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه أو الى بعض أعضائه مثل ان قطع اصبعه فسرى الى جميع يده أو اقتص منه بآلة كالة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي على المقتص نصف الدية لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليها نصفين كما لو جرحه جرحاً في ردته وجرحاً بعد إسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي.
قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كالة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الأصبعين
(فصل) فأما إن قطع بعض أعضائه ثم قتله بعد أن برأت الجراح مثل من قطع يديه ورجليه فبرأت جراحته ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار إن شاء عفا وأخذ ثلاث ديات لنفسه ويديه ورجليه لكل واحد دية وإن شاء قتله قصاصاً بالقتل وأخذ ديتين لأطرافه.
وإن أحب قطع اطرافه(9/407)
الأربعة وأخذ دية لنفسه، وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه، وإن أحب قطع طرفاً واحداً وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم خلافاً في هذا (فصل) فان اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين، وإن اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم مضيها، وان كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك، فإن كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمناً حتى قتله حكم له ببينته، وإن كانت للولي ببرئه حكم له أيضاً فإن تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لأن الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها، وإن قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي إنه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب كالحكم فيما إذا قتله سواء، وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان (أحدهما) تقديم قول الجاني لأن الظاهر ابقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه (والثاني) القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما(9/408)
فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني بل اندملت جراحته قبل موته أو ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لأن الجرح سبب للموت وقد تحقق والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح
مما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل أو لا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل وهذا كله مذهب الشافعي (فصل) فإن قتل واحد جماعة فرضوا بقتله قتل لهم ولا شئ لهم سواه وجملة ذلك أنه إذا قتل واحد اثنين أو أكثر فاتفق أولياؤهم على قتله بهم قتل لهم لأن الحق لهم وقد رضوا به ولا شئ لهم سواه لأن الحق لا يتسع لأكثر من واحد فإن أراد أحدهم القود والآخرون الدية قتل لمن اختار القود وأعطي الباقون دية قتلاهم من مال القاتل سواء كان المختار للقود الأول أو الثاني أو من بعده وسواء قتلهم دفعة واحدة أو دفعتين أو دفعات فإن بادر أحدهم فقتله وجب للباقين دية قتلاهم في ماله أيهم كان وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة وليس لهم إلا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له وإن بادر أحدهم فقتله سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد وقال الشافعي لا يقتل إلا بواحد سواء(9/409)
اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم " فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقد " فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولا نهما جنايتان لا تتداخلان إذا كانتا خطأ أو إحداهما فلم تتداخل في العمد كالجناية على الأطراف وقد سلموها ولنا على الشافعي أنه محل تعلقت به حقوق لا يتسع لها مع رضى المستحقين به عنها فيكتفى به كما لو قتل عبد عبيدا خطأ فرضي سيدهم بأخذه عنهم ولأنهم رضوا بدون حقهم فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد والمسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن أرش الجناية يجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره أبو حنيفة ومالك فلا يصح لأن الجماعة إنما قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظاً للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسئلتنا
ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد ولا يزاد بقتل الثاني والثالث بادر إلى قتل من يريد قتله فيصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية (مسألة) (وإن تشاحوا فيمن يقتله منهم على الكمال اقيد للأول)(9/410)
لأن حقه أسبق ولأن المحل صار مستحقاً له بالقتل الاول فان عفى ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه، وإن بادر الثاني فقتله فقد أساء وسقط حق الأول إلى الدية فإن كان ولي الأول غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر، وإن عفى أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك فإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفي أقرع بينهم فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم فإن بادر غيره فقتله استوفى حقه وسقط حق الباقين إلى الدية فإن قتلهم متفرقاً وأشكل الأول وادعى ولي كل واحد أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم باقراره وإلا أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم.
(مسألة) (وان قتل وقطع طرفاً قطع طرفه أولاً ثم قتل لولي المقتول سواء تقدم القتل أو تأخر) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كان لواحد ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم تداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس لا يصح فإنه قد قال لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الإجماع منا ومنه على التفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه؟ ولكنه ينقلب دليلاً عليه فنقول قطع وقتل فيستوفي منه مثل ما فعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة ويثبت الحكم في محل(9/411)
النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الإثنين أولى ويبطل بهذا فانه ما فانه من المعنى (فصل) فأما إن قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحنا في المستوفي لقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه به أسبق فإن القتل بالذي قطعه
إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فان قلنا انه يستوفى منه مثل ما فعل فإنه يقطع له أولاً ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وإن قلنا لا يستوفى القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجود مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسرف (فصل) وإن قطع أصبعا من يمين لرجل ويميناً لآخر وكان قطع الإصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصاً وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الأصبع، ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثلياً لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر يتخير بين القصاص ولا شئ له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس، وإن كان قطع اليد سابقاً على قطع الإصبع قطعت يمينه قصاصاً ولصاحب الإصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلاً ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس(9/412)
بدليل أننا نأخذ كامل الأطراف بناقصها فإن ديتهما واحدة وبعض الإصبع يمنع التكافؤ في اليد بدليل أنا لا نأخذ الكاملة بالناقصة واختلاف ديتهما، وإن عفا صاحب اليد قطعت الاصبع لصاحبها إن اختار قطعها (مسألة) (وان قطع أيدي جماعة فحكمهم حكم القتل على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف) إلا أن أصحاب الراي قالوا إذا قطع يميني رجلين يقاد لهما جميعاً ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا نظير له يقاس عليه باب العفو عن القصاص أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى في سياق قوله (كتب عليكم القصاص في القتلى) (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقال تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الآية إلى قوله
(فمن تصدق به فهو كفارة له) قيل في تفسيره فهو كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه وقيل فهو كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة فان أنس بن مالك قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه من شئ فيه قصاص إلا أمر(9/413)
فيه بالعفو رواه أبو داود، وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص فعفا القوم (مسألة) (والواجب بقتل أحد شيئين القصاص أو الدية في ظاهر المذهب والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شئ والعفو أفضل لما ذكرنا) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في موجب العمد فروي عنه أن موجبه القصاص عيناً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من قتل عمداً فهو قود " ولقوله سبحانه (كتب عليكم القصاص) والمكتوب لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان معينا كسائر أبدال التلفات وبه قال النخعي ومالك وأبو حنيفة، قالوا ليس للأولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضي الجاني، والمشهور في المذهب أن الواجب أحد شيئين وأن الخيرة في ذلك الى الولي إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر كما لو قتل واحد رجلاً، ومتى اختار الأولياء أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا متى رضي الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وعطاء ومجاهد والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وهي رواية عن مالك لقول الله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء(9/414)
إليه بإحسان) قال ابن عباس كان في بني اسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فانزل الله تعالى هذه الآية (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية، (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) والعفو أن يقبل في العمد الدية فاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدى اليه المطلوب
بإحسان (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) مما كتب على من قبلكم رواه البخاري، وروي أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد " متفق عليه.
وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل " وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " رواه أبو داود وغيره ولأن القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير ابراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه، ولأن القاتل أمكنه إحياء نفسه ببذل الدية فلزمة وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فإنهم سلموا فيهما، وأما الخبر الذي ذكروه فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به وللشافعي قولان كالروايتين فإذا قلنا موجبه القصاص فله العفو إلى الدية والعفو مطلقاً فإذا عفا مطلقاً لم يجب شئ وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشئ لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه فمتى عفا عن القصاص مطلقاً إلى غير مال لم يجب شئ إذا قلنا الواجب القصاص عيناً، فإن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن(9/415)
القصاص مطلقاً أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين، فإذا ترك أحدهما تعين الآخر وان اختار الدية سقط القصاص ولم يملك طلبه لأن الواجب أحد شيئين فإذا تعين أحدهما سقط الآخر فان اختار القصاص تعين لذلك فإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدية فله ذلك ذكره القاضي لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال الى الأدنى ويكون بدلاً عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الأولى أن الواجب القصاص عيناً وله العفو إلى الدية ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها عنه أن الواجب القصاص عيناً وله العفو الى الدية وإن سخط الجاني لما ذكرنا (فصل) إذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدو له الى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن
مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع، ولذلك لو باعه شيئاً بحمل جذع غير معروف الصفة لم يصح فإن قدر الأرش بذهب أو فضة فباعه به صح (فصل) ومتى كان القصاص لمجنون أو لصغير لم يجز العفو إلى غير مال للولي لأنه لا يملك اسقاط حقه وقد ذكرناه.
(فصل) ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال، وإن أراد المفلس(9/416)
القصاص لم يكن.
لغرمائه إجباره على تركه، وإن أحب العفو عنه الى مال فله ذلك لأن فيه حظاً للغرماء وإن اراد العفو إلى غير مال انبنى على الروايتين إن قلنا إن الواجب القصاص عيناً فله ذلك لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملكه لأن المال يجب بقوله عفوت عن القصاص فقوله على غير مال إسقاط له بعد وجوبه وتعينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووارث المفلس، وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر أن أحمد نص على ذلك وقال في موضع يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى (مسألة) (وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته) لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وإن لم يخلف تركه سقط الحق لتعذر استيفائه (مسألة) (وان قطع أصبعا عمداً فعفا عنه ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على مال فله تمام الدية وإن عفا على غير مال فلا شئ له على ظاهر كلامه ويحتمل أن له تمام الدية وإن عفا مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد)(9/417)
وجملة ذلك أنه إذا جنى على إنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص كالأصبع فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية الى نفسه فمات لم يجب القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك أن
القصاص يجب لأن الجناية صارت نفساً ولم يعف عنها ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفا عنه فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم مات منها ثم ينظر فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفساً وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة، وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شئ لأن الجناية لا تختص القطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع ظاهر كلام أحمد ال لا يجب شئ وبه قال أبو يوسف ومحمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت دينها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والعفو عنه عشر الدية لأن الجناية أوجبته فإذا عفا سقط ما وجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية ما لم يعف عنه ولم يسقط أرش الجرح إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية(9/418)
(فصل) فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية، وان عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس الارش الجرح، ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع انه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يداً فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت الى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية، فإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر لا يسقط قصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جزر القصاص من الكوع اسقط القصاص في النفس كما لو كان القطع من الكوع، وقال المزني لا يصح العفو عن دية الجرح قبل اندماله فلو قطع يداً فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو
عنه بخلاف الدية ولا يصح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل برثه كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا يملك المطالبة به ويصح اسقاطه كذا ههنا (فصل) وان قطع اصبعاً فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت إلى الكف ثم اندمل لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولأن القصاص سقط في الاصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها(9/419)
الكاملة ثم إن كان العفو الى الدية وجبت دية اليد كاملة، وان كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا سرت الى النفس، فعلى هذا يجب ههنا دية الكف إلا دية الاصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شئ وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه أن يقول مثل ذلك ههنا (فصل) فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح ولم يكن له في سرايتها قصاص، ولا دية في كلام أحمد (مسألة) (وإن قال الجاني عفوت مطلقاً أو عفوت عنها وعن سرايتها قال بل عفوت الى مال أو عفوت عنها دون سرايتها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه) لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض باقراره فيكون القول في عدم سواء قوله (مسألة) (وإن قتل الجاني العافي عمداً فلوليه القصاص أو الدية كاملة وقال القاضي له القصاص أو تمام الدية) إذا قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتل العافي فلو ليه القصاص وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضهم لا قصاص لان العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع الى نفسه ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما وجب بالقتل كما لو كان القاطع غيره(9/420)
وان اختار الدية فقال القاضي إن كان العفو عن الطرف الى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر
مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من دية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص، ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الأمر الى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب له العفو الى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل ولأن القتل موجوب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو، وفارق السراية فإنها لم توجب قتلاً ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شئ منه ولا عن سببه وسواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها (مسألة) (وإذا وكل رجلا في القصاص ثم عفا ولم يعلم الوكيل حتى اقتص فلا شئ.
عليه وهل يضمن العافي؟ يحتمل وجهين ويتخرج أن يضمن الوكيل ويرجع به على الموكل في أحد الوجهين لأنه غره والآخر لا يرجع به ويكون الواجب حالاً في ماله، وقال أبو الخطاب يكون على عاقلته) إذا وكل من يستوفي القصاص صح نص عليه أحمد فإن وكله ثم غاب وعفا الموكل عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأنه حقه قد استوفي وإن كان قبله وقد علم الوكيل به فقد قتله ظلماً فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن كان قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر لا ضمان(9/421)
على الوكيل فإنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم تلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان؟ فيه قولان (أحدهما) لا ضمان عليه لأن عفوه لم يصح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل مستحقاً له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب والضمان (والثاني) عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب المباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمره عبده الأعجمي بقتل معصوم، وقال غير أبي بكر يخرج في صحة العفو وجهاز بناء على الروايتين وهل تعزل بعزل الموكل قبل علمه أو لا؟ وللشافعي قولان كالوجهين، فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر مستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل
قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فاذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتداً قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل وتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمه ويحتمل أن لا يرجع عليه، لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه بخلاف الغار بالحرية، فعلى هذا تكون الدية في مال الوكيل اختاره القاضي وتكون حالة لأنه متعمد للقتل لكونه قصده وإنما سقط عنه القصاص لمعنى آخر فهو كقتل الأب، وقال أبو الخطاب(9/422)
تكون على عاقلته لأنه أجري مجرى الخطا فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلماً يعتقده حربياً، وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس بعمد محض ولهذا لم يجب به القصاص فيكون عمدا لخطأ فتحمله العاقلة وهذا اختيار شيخنا وقد دل على ذلك خبر المرأة التي قتلت جارتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلتها، فعلى قول القاضي أن كان الموكل عفا الى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشئ، فإن قيل فلم قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه؟ قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه ههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا، وإن قلنا أن الوكيل يرجع على الموكل احتمل أن يسقط الديتان لأنه لا فائدة في أن يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل الى الوكيل فيكون تكليفاً لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك، لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما يتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد يكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلاً والآخر امرأة، فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل الى الوكيل قدر ما غرمه، وإن أحال ورثة الجاني على الوكيل صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن يكون امرأة قتلت رجلاً فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعاً(9/423)
ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلاً قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة، لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل.
(مسألة) (وإن عفا قاتله بعد الجرح صح وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية) لأن الحق له فصح العفو عنه كما له وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس والحسن وقتادة والاوزاعي فإن قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في كلام أحمد، وقال أصحاب الشافعي إذا قال عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان (أحدهما) أنه وصية فينبني على الوصية للقاتل وفيه قولان (أحدهما) لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح (والثاني) يصح فإن خرج من الثلث سقطت وإلا سقط منها بقدر الثلث ووجب الباقي (والقول الثاني) ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلم يصح ويلزمه دية النفس إلا دية الجرح ولنا أنه أسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع، إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لا يخرج لأن موجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال، وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها ويحدث منها اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو(9/424)
الابراء أو غير ذلك، فإن خرجت من الثلث صح عفوه عن الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك والثوري وأصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز والاوزاعي وإسحاق لأن الوصية ههنا بمال (مسألة) (وإن ابرأه من الدية أو وصي له بها فهي وصية لقاتل هل تصح لقاتل؟ على روايتين) (إحداهما) تصح لكونها له لأنها بدل عنه وتعتبر من الثلث كبقية أمواله هكذا ذكره في كتاب المقنع ولم يفرق بين العمد والخطأ والذي ذكره في كتاب المغني ما ذكر في التي قبل هذه المسألة (مسألة) (ولا يحتمل أن يصح عفوه عن المال ولا وصية، به لقاتل ولا غيره إذا قلنا انه
يحدث على ملك الورثة لأنه يكون مال غيره فلم يكن له التصرف فيه كسائر أموال الورثة) (مسألة) (وإن أبرأه القاتل من الدية الواجبة على عاقلته أو العبد من الجناية المتعلق أرشها برقبته لم يصح) لأنه أبرأه من حق على غيره أشبه ما لو أبرأ زيداً من دين على عمرو، وإن أبرأ العاقلة أو السيد صح لأنه أبرأهما من حق عليهما فصح كالدين الواجب عليهما (مسألة) (وان وجب لعبد قصاص في الطرف أو جرح أو تعزير قذف فله طلبه والعفو عنه) لأنه مختص به وليس ذلك لسيده لانه ليس يحق له إلا أن يموت العبد فإذا مات العبد انتقل عنه إلى السيد وصح عفوه عنه.(9/425)
باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس كل من أقيد بغيره في النفس أقيد به فيما دونها ومن لا فلا لأن النفس أعلى فإذا أقيد في الأعلى ففي الأدنى بطريق الاولى وعنه لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال وقد ذكرناه والمذهب الأول، ومن لا يجري القصاص بينهما في الطرف كالأب مع ابنه والحر مع العبد والمسلم مع الكافر فلا يقطع طرفه بطرفه لعدم المكافأة فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم وبهذا قال مالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص والا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا العبد بالعبد ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فلذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى ولنا أن من جرى القصاص بينهما في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن(9/426)
المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع
وأما اليسار واليمنى فيجريان مجرى النفسين لاختلاف محلبهما ولهذا يستوي بدلهما فعلم أنها ليست بناقصة عنها شرعاً ولا العلة فيهما ذلك (مسألة) (ولا يجب إلا بمثل الموجب في النفس وهو العمد المحض كما لا يجب في النفس إلا بذلك ووجوب القصاص فيما دون النفس والأطراف إذا أمكن ثابت بالنص والإجماع) أما النص فقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الآية.
وروى أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الإرش فأبوا إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله نكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا أنس كتاب الله القصاص " فإن فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " متفق عليه.
وأجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولأن ما دون النفس كالنفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه.
(فصل) فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعاً لأنه لا يوجب القصاص في النفس وهي الأصل ففيما(9/427)
دونها أولى ولا يجب في شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالباً مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية والصحيح الأول والآية مخصوصة بالخطأ فكذلك هذا ولأنه لا يجب به القصاص في النفس فكذلك الجراح (مسألة) (وهو نوعان) (أحدهما) الأطراف فتؤخذ العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد باليد والرجل بالرجل أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بالآية وبخبر الربيع الذي ذكرناه (مسألة) (ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط (أحدهما) أن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما أن الأنف وهو ما لان منه فإن قطع القصبة أو قطع من نصف الساعد أو الساق فلا
قصاص في أحد الوجهين وفي الآخر يقتص من حد المارن ومن الكوع والكعب وهل يجب له أرش الباقي؟ على وجهين أجمعوا على جريان القصاص في الأنف للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والاقنى بالأفطس وأنف الأشم بأنف الأخشم الذي لا شم له لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم فإن(9/428)
كان بأنفه جذام أخذ به الأنف الصحيح ما لم يسقط منه شئ لأن ذلك مرض فإن سقط منه شئ لم يؤخذ به الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيؤخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لان منه دون القصبة لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيما انتهى الى الكوع فإن قطع الأنف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة للقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي، وفيه وجه آخر انه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك لقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف: وذكر القاضي ههنا كقول ابي بكر وفي نظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي، وان قطع بعض الأنف قدر بالأجزاء وأخذ منه بقدر ذلك ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن والأيسر بمثله ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد (فصل) وتؤخذ العين بالعين للآية ولا يشترط التساوي في الصغر والكبر والصحة والمرض لأن اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية(9/429)
(فصل) وتؤخذ الأذن بالأذن، أجمع أهل العلم على أن الأذن تؤخذ بالأذن وقد دلت الآية على ذلك ولأنها تنتهي إلى حد فاصل فاشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بمثلها وبأذن الأصم وتؤخذ أذن الأصم بكل واحد منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه
محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن الثقب إذا انخرم صار نقصاً فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر النقص وبين أن يقتص فيما سوى المعيب ويتركه من أذن الجاني وقد وجوب الحكومة له في قدر النقص وجهان، وإن قطعت بعض اذنه فله أن يقتص من أذن الجاني بقدر ما قطع من أذنه ويقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف وعلى حسب ذلك، وقال بعض أصحاب الشافعي لا يجري القصاص في البعض لأنه لا ينتهي الى حد ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقض ما ذكروه (فصل) ونؤخذ الاذن المستخشفة بالصحيحة، وهل تؤخذ الصحيحة بها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الاعضاء(9/430)
(والثاني) تؤخذها بها لأن المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال، وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء (فصل) فإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي يجب القصاص وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت، وقال أبو بكر لا قصاص فيها وهو قول مالك لا نها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواماً فإن سقطت بعد ذلك قريباً أو بعيداً فله القصاص ويرد ما أخذ وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو قول أصحاب الرأي، وكذلك قول الأولين إذا اختار الدية وقال مالك لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه، وإن قطع أذن إنسان فاستوفى منه فألصق الجاني أذنه فالتصقت فطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت والقصاص قد استوفى فلم يبق قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الأذن إنما قطع بعضها فالتصق كان للمجني عليه قطع جميها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الأذن
(فصل) ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنة فهل تلزم إبانتها؟ فيه وجهان مبنيان على الروايتين فيما بإن من الآدمي هل هو نجس أو طاهر؟! إن قلنا هو نجس لزمته إزالتها ما لم يخف الضرر بذلك كما لو جبر ساقه بعظم نجس، وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها اختاره أبو بكر.
وهو قول عطاء بن(9/431)
أبي رباح وعطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهراً كحالة اتصاله فأما إن قطع بعض أذنه فالتصقت لم يلزمه إبانتها على الروايتين جميعاً لأنها لم تصر ميتة لعدم إبانتها ولا قصاص فيها قاله القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنه لا تمكن المماثلة في المقطوع منها (مسألة) (وتقطع العين بالعين) إجتمع أهل العلم على القصاص في العينين يروي ذلك عن مسروق والحسن وابن سيرين والشعبي والزهري والثوري ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وروي عن علي رضي الله عنه لقول الله تعالى (والعين بالعين) ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين الشيخ المريضة وعين الكبير بعين الصغير والأعمش ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه وتؤخذ القائمة بالصحيحة لأنها دون حقه كما تؤخذ الشلاء بالصحيحة ولا أرش له معها لأن التفاوت في الصفة (فصل) فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بأصبعه لأنه لا تمكن المماثلة فيه فإن لطمه فأذهب ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من إذهاب الضوء لم يجب فيها قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالجه بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه وسنذكر ذلك وذكر القاضي أنه يقتص منه بالطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه وإلا كان له أن يذهبه بما نذكره وهو مذهب الشافعي ولا يصح هذا فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة فلا يقتص منها(9/432)
إذا سرت إلى العين كالشجة دون الموضحة ولان الطمة إذا لم تكن في العين لا يقتص منها بمثلها مع الأمن من إفساد العضو ففي العين مع وجود ذلك أولى ولأنه قصاص فيما دون النفس فلم يجز بغير الآلة المعدة له كالموضحة، وقال القاضي لا يجب القصاص إلا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالباً فإن كانت
لا تذهب بالنظر غالباً فذهبت بها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالباً فلم يجب به القصاص بكل حال لعموم قوله تعالى (والعين بالعين) ولان الطمة إذا أسالت العين كانت بمنزلة الجرح ولا يعتبر فيه الإفضاء الى التلف غالباً (فصل) فإن لطم عينه فذهب بصرها أو ابيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن إلا ذهاب بعض ذلك مثل ذهاب البصر دون أن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرحه هاشمة فإنه يقتص موضحة ويأخذ ارش باقي جرحه، وعلى قول أبي بكر لا يستحق مع القصاص أرش قال القاضي إذا لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص من غير ذهاب الحدقة فعله فإن تعذر ذلك فلا شئ عليه كما لو اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شئ كذلك ههنا وبناء هذا على أن اللطمة حصل بها القصاص كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا(9/433)
(مسألة) (ويؤخذ السن بالسن) وهو إجتماع أهل العلم للآية وحديث الربيع ولأن القصاص فيها ممكن لأنها محدودة في نفسها وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة والمكسورة بالصحيحة لأنه يأخذ بعض حقه وهل له أرش الباقي؟ فيه وجهان ذكرناهما (فصل) ولا يقتص إلا من سن من اثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت يقال لمن سقطت رواضعه ثغر فهو مثغور فإذا نبتت قيل اثغر واتغر لغتان، وإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الراي لأنها تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعرة، فإن عاد بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شئ على الجاني كما لو قلع شعره ثم نبت، وإن عادت مائلة عن محلها او متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ناقص وإن عادت قصيرة ضمن ما نقص بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وعلى هذا الحساب، وإن عادت والدم يسيل ففيها حكومة لأنه نقص
حصل بفعله، وإن مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه مخير بين القصاص أو الدية، فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص لأن الاستحقاق له غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود والعود مشكوك فيه ويحتمل أنه إذا مات قبل مجئ وقت عودها أن لا يجب شئ لأن العادة عودها فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل(9/434)
نباته، فأما ان قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن الظاهر عدم عودها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال القاضي يسئل أهل الخبرة فإن قالوا لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر.
إذا ثبت هذا فإنها إن لم تعد فلا كلام وإن عادت لم يجب قصاص ولا دية وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يسقط الأرش لأن هذه السن لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان ولنا أنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها إذا وجدت فعلى هذا إن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصاً لأنه لم يقصد العدوان، وإن عادت سن الجاني دون من المجني عليه لم تقلع في أحد الوجهين لئلا يأخذ سنين بسن وإنما قال الله تعالى (السن بالسن) والثاني تقلع وإن عادت مرات اعدم سنه بالقلع فكان له اعدام سنة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) فإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شئ عليه لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنة فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني عليه فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان(9/435)
(مسألة) (ويؤخذ الجفن بالجفن) لقوله تعالى والجروح قصاص ولأنه يمكن الاقتصاص فيه لانتهائه إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي
ويؤخذ جفن البصير بمثله وبجفن الضرير ويؤخذ جفن الضرير بمثله وبجفن البصير لأنهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصير نقص في غيره لا يمنع أخذ أحدهما بالآخر كأذن الأصم (مسألة) (وتؤخذ الشفة بالشفة) وهي ما جاوز الذقن والخدين علواً وسفلاً لقول الله تعالى والجروح قصاص ولأن لها حداً تنتهي اليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين (فصل) ويؤخذ اللسان باللسان للآية ولأن له حدا ينتتهي اليه فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا خلافاً ولا يؤخذ لسان ناطق بأخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه دون حقه ويؤخذ بعض اللسان بالبعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالأجزاء ويؤخذ منه بالحساب (مسألة) (وتؤخذ اليد باليد) لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقد أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف للآية ولحديث الربيع ويشترط لذلك ثلاثة شروط(9/436)
(أحدها) (1) الأمن من الحيف وهو أن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف نعلمه لما روى نمر بن جابر عن أبيه أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فقال أني أريد القصاص فقال " خذ الدية بارك الله لك فيها " ولم يقض له بالقصاص رواه ابن ماجه.
وفي قطع اليد ثمان مسائل (أحدها) قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب فيها لأن لها مفاصل ويمكن القصاص فيها من غير حيف وان اختار الدية فله نصفها لأن في كل اصبع عشر الدية (الثانية) قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن الحيف فيه، وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك اختاره أبو بكر لأنه يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان
القطع، من الكوع، يحققه أن امتناع قطع الأصابع إذا قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضي أو وجود مانع وايهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من نصف الكف (والثاني) له قطع الأصابع ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة فاستوفى موضحة، ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه فلم يجز العدول الى غيره وهل له حكومة في نصف الكف؟ فيه وجهان(9/437)
(أحدهما) ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من الكوع (والثاني) له أرش نصف الكف لانه حق تعذر استيفاؤه فوجب ارشه كسائر ما هذا حاله، وان اختار الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى (الثالثة) قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير محل الجناية ولا يستوفى منه مع امكان الاستيفاء من محلها (الرابعة) قطع من نصف الذارع فليس له أن يقطع من ذلك الوضع ليس بمفصل وقد ذكرنا الخبر الوارد فيه وله نصف الدية وحكومة في المقطوع من الذراع وهل له القطع من الكوع؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف، ومن جوز القطع من الكوع فعنده في وجوب الحكومة لما قطع من الذراع وجهان، ويخرج أيضاً في جواز قطع الأصابع وجهان فإن قطع منها لم يكن له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصاً فلم يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع (الخامسة) قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز العدول الى غيره، وان عفا الى الدية فله دية اليد وحكومة للساعد (السادسة) قطعها من العضد فلا قصاص فيها في أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد(9/438)
وبعض العضد (والثاني) له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد؟ على وجهين، وهل له القطع من الكوع؟ يحتمل وجهين
(السابعة) قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل إذا لم يخف جائفة وان اختار الدية فله دية اليد وحكومة لما زاد (الثامنة) خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكتف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة فإن قالوا، يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفى وإلا صار الأمر إلى الدية وفي جواز الاستيفاء من المرفق أو إما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره، ومثل هذه المسائل في الرجل فالساق كالذراع، والفخذ كالعضد والورك كعظم الكتف، والقيام كالكف، فتقاس عليها للنص والمعنى (مسألة) (ويؤخذ كل واحد من الأصابع والكف والمرفق والذكر والانثيين بمثله) لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولما ذكرنا في اليد باليد ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ان القصاص يجري في الذكر ولأن له حداً ينتهي اليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف ويستوي في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر والكبير والصغير والصحيح والمريض لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر، ويؤخذ كل واحد من المجبوب والأغلف بصاحبه لأن الغلفة زيادة يستحق إزالهتا فهي كالمعدومة ويؤخذ كل واحد من الخصي(9/439)
والعنين بمثله التساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي، ويؤخذ بعضه ببعض ويعتبر بالأجزاء دون المساحة فيؤخذ النصف بالنصف وما زاد ونقص فحساب ذلك كالأنف والأذن على ما ذكرناه (مسألة) (ويجري القصاص في الانثيين لما ذكرنا من النص والمعنى) ولا نعلم فيه خلافا فإن قطع احداهما وقال اهل الخبرة أنه يمكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز وان قالوا لا يؤمن تلف الأخرى لم يقتص منها خشية الحيف ويجب فيها نصف الدية وإن أمن تلف الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى كاليدين (مسألة) (وهل يجري القصاص في الالية والشفر؟ على وجهين) يجب في القصاص الأليين النابتين بين الفخذ والظهر بجانبي الدبر في أحد الوجهين وهو ظاهر مذهب الشافعي والوجه الثاني لا يجب وهو قول المزني لأنهما لحم متصل بلحم.
أشبه لحم الفخذ، ووجه الأول
قوله تعالى (والجروح قصاص) ولأن لهما حداً ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر (مسألة) (وفي القصاص في شفري المرأة وجهان) (أحدهما) لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له ينتهي اليه فأشبه لحم الفخذين وهو قول القاضي (والثاني) فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العينين وهو قول أبي الخطاب ولا أصحاب الشافعي وجهان كهذين(9/440)
(فصل) فإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فطلب القصاص لم يجب إليه في الحال ونقف الأمر حتى تبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وان اختار الدية وكان يرجى انكشاف حاله أعطيناه اليقين وتكون له حكومة في المقطوع وإن كان قطع جميعها فله دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر والأنثيين ونصف دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله (مسألة) (وإذا وضح إنساناً فذهب ضوء عينه أو سمعه أو شمه فإنه يوضحه فإنه جرح يمكن الاقتصاص منه من غير حيف) لانه له حداً ينتهي اليه ثم إن ذهب ذلك والا استعمل فيه ما يذهبه من غير أن يجني على حدقته أو أذنه او أنفه لأنه يستوفي حقه من غير زيادة فيعالج بما يذهب بصره من غير أن يقلع عينه كما روى يحيى بن جعدة أن أعرابياً قدم بجلوبة له الى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان: هل لك أن اضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها حتى سال إنسان عينه، وإن وضع فيها كافوراً يذهب بضوئها من غير أن يجبني على الحدقة جاز، وكذلك السمع والشم، وإن لم يمكن الا بالجناية على هذه الأعضاء سقط القصاص لتعذر المماثلة ولأن توهم الزيادة يسقط القود فحقيقته أولى(9/441)
(فصل) وإن شجه دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف علمناه لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل لما ذكرنا فإن كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة فإن ذهب ضوء العين والا استعمل فيه ما يزيله من غير أن يجبني على الحدقة، واختلف أصحاب الشافعي في القصاص في البصر في هذه المواضع فقال بعضهم لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية عندهم كما لو قطع اصبعه فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها وقال بعضهم يجب القصاص ههنا قولاً واحداً لأن ضوء العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه بالسراية كالنفس فيقتص من البصر بما ذكرنا في مثل هذا (فصل) (الشرط الثاني في المماثلة في الموضع) فيؤخذ كل واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى من الشفتين والاجفان بمثلها لأن القصاص يعتمد المماثلة هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وحكى عن ابن سيرين وشريك أن احداهما تؤخذ بالأخرى لاستوائهما في الخلقة والمنفعة ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ احداهما بالأخرى كاليد مع الرجل، وكذلك كل ما انقسم الى يمين ويسار كاليدين والرجلين والاذنين والمنخرين والثديين والاليتين والانثيين لا تؤخذ احداهما بالأخرى، وكذلك كل ما انقسم الى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لذلك(9/442)
(مسألة) (وتؤخذ الأصبع والسن والأنملة بمثلها في الموضع والاسم ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا أن يتفقا في الموضع والاسم) ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى والوسطى والسفلى لا تؤخذان بغيرهما (مسألة) فلو قطع أنملة رجل العليا وقطع الوسطى من آخر ليس له عليا فصاحب الوسطى مخير بين أخذ عقل أنملة وبين أن يصبر حتى تقطع العليا ثم يقتص من الوسطى) لأنه يستوفي حقه بذلك (فصل) فإن قطع من ثالث السفلى فلاول أن يقتص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاءوا جميعاً أو واحداً بعد واحد، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا قصاص إلا في العليا لأنه لم يجب في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك
كما لو كان غير مكافئ حال الجناية صار مكافئاً بعده ولنا أن تعذر القصاص لاتصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كالحامل إذا جنث ثم وضعت ويفارق عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه ههنا تعذر لاتصال غيره به فأما إن جاء صاحب الوسطى أو السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يجب إليه لأن في استيفائه إتلاف أنمله لا يستحقها وقيل لهما إما أن تصبرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص، وإن عفا فلا قصاص لكما وإما أن ترضيا بالعقل فإن جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني حكم الثاني مع الأول فإن عفا فلكما العقل وإن قالا نحن نصبره وتنتظر بالقصاص ان تسقط العليا بمرض أو(9/443)
نحوه ثم نقتص لم يمنعا من ذلك فإن قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية لعليا تدفع إلى صاحب العليا، وإن قطع الاصبع كلها فعليه القصاص في الانملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وارش السفلى على الجاني لصاحبها، وإن عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه (فصل) فإن قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الاصبع فللأول قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا من الجاني فإن بادر الثاني فقطع الانملتين فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني، وإن كان قطع الأنملتين أولاً قدمنا صاحبهما في القصاص ووجب لصاحب العليا أرشها، وإن بادر صاحبها فقطعها فقد استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاضا وتساقطا لأن ديتهما واحدة، وإن اختار الجاني القصاص فله ذلك ويدفع ارش العليا ويجئ على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما واحدة واسم الانملة يشملهما فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلاً عن الأخرى (مسألة) (ولا تؤخذ أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لعدم التماثل وإن تراضيا عليه لم يجز) وجملة ذلك أن ما لا يجوز أخذه قصاصاً لا يجوز بتراضيهما لان الدماء لا تستباح بالإباحة(9/444)
والبذل ولذلك لو بذلها ابتداء لم يحل له أخذها ولا يحل لأحد قتل نفسه ولا قطع طرفه فلا يحل لغيره ببذله (مسألة) (فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلاً عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود) لان القود سقط في الأولى باسقاط صاحبها وفي الثانية بإذن صاحبها في قطعها وديتهما متساوية وهذا قول أبي بكر وكذلك لو قطعها تعدياً سقط القصاص لأنهما تساويا في الدية والألم والاسم فتقاصا وتساقطا ولأن ايجاب القصاص يفضي الى قطع يدي كل واحد منهما واذهاب منفعة الجنس والحاق الضرر العظيم بهما جميعاً ولا تفريع على هذا القول لوضوحه وكل واحد من القطعين مضمون سرايته لانه عدوان وقال ابن حامد إن كان أحدهما عدواناً فلكل واحد منهما القصاص على صاحبه وإن أخذها بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضى صاحبها ببذلها وإذنه في قطعها وفي وجوبه في الأولى وجهان (أحدهما) يسقط لما ذكرناه (والثاني) لا يسقط لأنه رضي بتركه بعوض لم يثبت له فكان له الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضه اياه فعلى هذا له القصاص بعد اندمال الأخرى وللجاني دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب الفضل لصاحبه (مسألة) (وإن قال له أخرج يمينك فاخرج يساره فقطعها أجزأت على قول أبي بكر سواء قطعها عالماً بها أو جاهلاً)(9/445)
وعلى قول ابن حامد، وإن أخرجها عمداً عالماً أنها يساره وأنها لا تجزئ فلا ضمان على قاطعها ولا قود لأنه بذلها باخراجه لها لا على سبيل العوض وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه لا فرق بين قوله خذ هذا فكله وبين استدعاء ذلك منه فيعطيه إياه ويفارق هذا ما إذا قطع يد انسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص فان فعل ذلك عالماً بالحال عزر لأنه ممنوع منه لحق الله تعالى وهل يسقط القصاص في اليمنى؟ على وجهين (أحدهما) يسقط لأن قاطع اليسار تعدى بقطعها فلم يملك قطع اليد الأخرى كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
(والوجه الثاني) لا يسقط وهو مذهب الشافعي وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من وجوه ثلاثة (أحدها) أن الحد مبني على الإسقاط بخلاف القصاص (الثاني) أن اليسار لا تقطع في السرقة وإن عدمت يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس بخلاف القصاص (الثالث) أن اليد لو سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل الى البدل ولكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي الى ذهاب نفسه فان قيل أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما الى اندمال الآخر؟ قلنا الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصاً فلهذا جمعنا بينهما وفي مسئلتنا أحدهما غير مستحق فلا نجمع بينهما فإذا اندملت اليسار قطعنا اليمين فإن سرى قطع اليسار الى نفسه كانت هدراً ويجب في تركته دية اليمنى لتعذر الاستيفاء فيها بموته(9/446)
(مسألة) (وإن أخرجها دهشة أو ظناً منه أنها تجزئ فعلى القاطع ديتها إن علم أنها يسار وأنها لا تجزئ ويعزر) وقال بعض الشافعية عليه القصاص لأنه قطعها مع العلم أنه ليس له قطعها ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلاً فلا تعزير عليه وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها له على وجه البذل فكانت مضمونة عليه لأنه كان عالماً بها كانت مضمونة عليه وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كإتلاف المال والقصاص باق له في اليمين ولا يقتص حتى تندمل اليسار فإن عفا وجب بدلها ويتقاصان وإن سرت اليسار الى نفسه كانت مضمونة بدية كاملة وقد تعذر قطع اليمنى ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى نصف الدية لورثة الجاني، فإن اختلفا في بذلها فقال الجاني إنما بذلها بدلاً عن اليمين، وقال المجني عليه بذلتها بغير عوض أو قال أخرجتها دهشة قال بل عالماً فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته، ولأن الظاهر أن الإنسان لا يبذل طرفه للقطع تبرعاً مع أن عليه قطعاً مستحقاً، وهذا مذهب الشافعي.
(مسألة) (وإن كان من عليه القصاص مجنوناً مثل من يجن بعد وجوب القصاص عليه(9/447)
فعلى قاطعها القود إن كان عالماً بها وأنها لا تجزئ لأنه قطعها تعدياً بغير حق وإن جهل أحدهما فعليه الدية لأن بذل المجنون ليس بشبهة) (مسألة) (وإن كان من له القصاص مجنوناً ومن عليه القصاص عاقلاً فأخرج إليه يساره أو يمينه فقطعها ذهبت هدراً) لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز البذل له ولا ضمان عليه لأنه اتلفها ببذل صاحبها لكن إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء القصاص فيها لتلفها فتكون المجنون ديتها (فصل) فإن وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى عاقلته ديتها وله القصاص في الأخرى وان قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين، لأن حقه متعين فيها فإذا اخذها قهراً سقط حقه كما لو أتلف وديعته (والثاني) لا يسقط حقه وله عقل يده وعقل يد الجاني على عاقلته لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها لأنها تلفت بغير تفريط وليس لها بدل إذا تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها وكذلك الحكم في الصغير فإن اقتصا مما لا تحمله العاقلة سقط حقهما وجهاً واحداً وقد ذكرناه (فصل) الثالث استواؤهما في الصحة والكمال لأن القصاص يعتمد المماثلة فلا تؤخذ صحيحة بشلاء(9/448)
ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا ذات أظفار بما لا أظفار لها ولا عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق بأخرس، لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب قطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل إلا ما حكي داود أنه أوجب ذلك لاشتراكهما في الاسم فأخذ به كالأذنين ولنا ان الشلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا تؤخذ بما فيه نفعة كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة وما ذكر له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم يوجب القصاص في العينين مع قوله تعالى (والعين بالعين) لأجل تفاوتهما في الصحة والعمى فلأن لا يوجب ذلك فيما لا نص فيه أولى (فصل) ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد من له أربع أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه، وهل له أن يقطع
من أصابع الجاني بعدد أصابعه؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف، وان قطع ذو اليد الكاملة يداً فيها اصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز أخذ الصحيحة بها لأنه أخذ كامل بناقص، وفي الاقتصاص مع الأصابع الصحاح وجهان؟ فإن قلنا له أن يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب به حكومة؟ فيه وجهان:(9/449)
(فصل) وإن قطع اليد الكاملة ذو يد فيها اصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره ابن حامد لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة فيها والجراح، واختار القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة، فعلى هذا إن كان للمجني عليه أيضاً أصبع زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وإن كانت في غير محلها ولم يكن للمجني عليه اصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني وهل يملك قطع الأصابع؟ ينظر فإن كانت الزائدة ملصقة بإحدى الأصابع فليس له قطع تلك الاصبع لأن في قطعها إضراراً بالزائدة وهل له قطع الأصابع الأربع؟ على وجهين وإن لم تكن ملصقة بواحدة منهن فهل له قطع الخمس؟ على وجهين، وإن كانت الزائدة نابتة في اصبع في انملتها العليا لم يجز قطعها وإن كانت نابتة في السفلى أو الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد الوجهين ويأخذ ارش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف(9/450)
(فصل) وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة وإن كانت المقطوعة ذات أظفار إلا أنها خضراء أو مستحشفة أخذت بها السليمة لأن ذلك علة ومرض والمرض لا يمنع القصاص بدليل أنا نأخذ الصحيح بالسقيم (مسألة) (ولا تؤخذ عين صحيحة بقائمة ولا لسان ناطق بأخرس ولا ذكر صحيح بأشل) لأنها ليست مماثلة لها ولأنه يأخذ أكثر من حقه فاشبهت اليد الصحيحة بالشلاء لا تؤخذ بها (مسألة) (ولا يؤخذ ذكر فحل بذكر خصي ولا عنين) ذكره الشريف وهو قول مالك لأنه لا منفعة فيهما فإن ذكر العنين لا يوجد منه وطئ ولا انزال
والخصي لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطئ ولا ينزل فهما كالأشل، ولأن كل واحد منهما ناقص فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة، ويحتمل أن يؤخذ بهما قال أبو الخطاب يؤخذ غيرهما بهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان به وينبسطان فيؤخذ بهما غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الإنزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع ذلك(9/451)
من القصاص بهما كأذن الأصم وأنف الأخشم، وقال القاضي لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي لتحقق نقصه والاياس من برئه وفي أخذ بذكر العنين وجهان (أحدهما) يؤخذ به الصحيح لأنه غير مأيوس من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخطأ، والصحيح الأول لأنه إذا ترددت الحال بين كونه مساوياً للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي لقيام الدليل على عنته وثبوت عنته، ويؤخذ كل واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما يؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي (مسألة) (إلا مارن الأشم الصحيح فإنه يؤخذ بأنف الأخشم الذي لا يشم) لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم لكون ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله وليس بنقص في الأذن، ويؤخذ الصحيح بالمحروم والمستحشف لأن كونه مستحشفاً مرض فلا يمنع من أخذه به لأنه يقوم مقام الصحيح (مسألة) (وتؤخذ أذن السميع بأذن الأصم لما ذكرنا) وتؤخذ الأذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ بها الصحيحة؟ كاليد الشلاء وسائر الأعضاء والثاني تؤخذ بها لأن المقصود جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء(9/452)
(مسألة) (ويؤخذ المعيب من ذلك كله بالصحيح وبمثله إذا أمن من قطع الشلاء التلف) إذا كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فإن شاء المجني عليه أخذ الدية فله أخذ دية لا نعلم فيه خلافا
لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، وان اختار القصاص سئل أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد العروق، ويدخل الهواء الى البدن فيفسده سقط القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وإن أمن هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان له ذلك كما لو رضي المسلم القصاص من الذمي والحر من العبد ولا يجب له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فلم يكن له أرش كالصورتين المذكورتين.
واختار أبو الخطاب أن له الأرش مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور إذا قلعت لأنه أخذ الناقص بالزائد والأول أصح، وهو اختيار الخرقي فإن الحاق هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من الحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس (فصل) تؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة، وقال أصحاب الشافعي لا تؤخذ بها في أحد الوجهين لأن الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة(9/453)
(مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساويا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع من يد المجني عليه) لأنهما تساوتا في الذات والصفة، فإن اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الابهام ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجب القصاص لأن فيه أخذ اصبع بغيرها وإن كانت إحداهما ناقصة أصبعاً والأخرى ناقصة تلك الاصبع وغيرها جاز أخذ الناقصة أصبعين بالناقصة اصبعاً وهل له أخذ اصبعه الزائد؟ فيه وجهان، ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة (مسألة) (وتؤخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة؟ على وجهين) (إحداهما) له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد (والثاني) ليس له مع القصاص أرش، وهو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد وقال القاضي قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن قطعت يده من نصف الذراع وليس هذا
كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو أخذ الشلاء بالصحيحة، ويفارق القاطع من نصف الذراع لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية هكذا حكاه الشريف عن أبي بكر(9/454)
(فصل) وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين وفي يد المجني عليه اصبع زائدة فعلى قول ابن حامد لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره له قطع يد الجاني وله حكومة في الزائدة؟ على وجهين، وإن قطع من له خمس أصابع اصلية كف من له أربع أصابع اصلية وأصبع زائدة أو قطع من له أربع أصابع اصلية وأصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في الصورة الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة لا عبرة بها، وقال غيره إن لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضاً لأن الأصبعين مختلفان، وإن كانت في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شئ له لنقص الزائدة، قال شيخنا وهذا فيه نظر لأنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن عدد الاصابع أو كانت في غير محل الأصابع وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية، فإن قالوا معنى كونها زائدة أنها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع، قلنا ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين وأما ميلها عن سمت الأصابع فإنها إن لم تكن نابتة من محل الاصبع المعدونة فسد قولهم أنها في محلها وإن كانت نابتة في موضعها وإنما مال راسها أو اعوجت فهو مرض لا يخرجها عن كونها أصلية (فصل) إذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص على ما نذكره في سراية الجناية وإن بادر صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري الى سائر جسده ثم اندمل(9/455)
جرحه فعليى الجاني القصاص في الأصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شئ عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه تلف بفعله، وإن لم تندمل ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل أن لا يجب بحال لأن فعل المجني عليه إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطئ لا قصاص عليه
ويكون عليه نصف الدية، وإن قطع المجني عليه موضع الأكلة نظرت فإن قطع لحماً ميتاً ثم سرت الجناية فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة وإن كان في لحم حي فمات فهو كما لو قطعها خوفاً من سرايتها وقد ذكرناه (فصل) إذا قطع أنملة لها طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات طرفين أيضاً أخذت بها وإن لم تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة وإن كانت المقطوعة ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد، وعلى قول غيره لا قصاص فيها وله دية أنملة وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء وإن قال أنا أصبر حتى يذهب الزائد ثم اقتص فله ذلك لأنه القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه (مسألة) (وإن اختلفا في شلل العضو وصحته فالقول قول المجني عليه في أحد الوجهين) لأن الظاهر من الناس سلامة الأعضاء وخلق الله تعالى لهم بصفة الكمال، والثاني القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته من دية عضو سالم ولأنه لو كان سالما يخف لأنه يظهر فيراه الناس(9/456)
(فصل) قال رحمه الله وان قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث والربع لقول الله تعالى (والجروح قصاص) وقال أبو الخطاب لا يؤخذ بعض اللسان بالبعض ذكره صاحب المحرر ولنا أنه يؤخذ جميعه بجميعه فأخذ بعضه ببعضه كالأنف ولا يؤخذ بالمساحة لأنه يفضي إلى أخذ لسان الجاني جميعه ببعض لسان المجني عليه (مسألة) (وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن قلعها) يجري القصاص في بعض السن لحديث الربيع حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص ويقدر بذلك بالأجزاء النصف بالنصف وكل جزء بمثله ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضيي الى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالمبرد لتؤمن الزيادة فإما لو أخذناها بالكسر لم نأمن أن ينصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص ولا يقتص حتى يقول أهل الخبرة انه
يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل فإن قيل فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها الى النفس فلم منعتم منها لتوهم السراية منه الى بعض العضو قلنا وهم السراية الى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في المنع افضى الى(9/457)
سقوط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره أما السراية الى بعض العضو فتارة نقول انما يمنع القصاص فيها إحتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي من بعض الذراع فإنه يحتمل أكثر مما فعل به وكذلك من كسر سناً ولم يصدعها فكسر المستوفي سنه وصدعها أو قطعها أو كسر أكثر مما كسر من سنه فقد زاد على المثل والقصاص يعتمد المماثلة وتارة نقول إن السراية في بعض العضو إنما تمنع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الاستيفاء بآلة كالة أو مسمومة وفي وقت افراط الحر والبرد تحرزاً من السراية (فصل) وإن قلع سناً زائدةً وهي التي تنبت فضلة في غير سمت الأسنان خارجة عنها الى داخل الفم أو الى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجني عليه القصاص أو حكومة في سنه وإن لم لم يكن له مثلها في محلها فليس له إلا الحكومة وان كانت احدى الزائدتين أكبر من الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها لأن الحكومة فيها أكثر فلا يقلع بها ما هو أقل قيمة منها (والثاني) تؤخذ بها لأنهما سنان متساويتان في الموضع فتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى كالاصلتين ولأن الله تعالى قال (والسن بالسن) وهو عام فيدخل فيه محل النزاع وإن قلنا يثبت القياس في الزائدتين بالاجتهاد فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص بدليل جريانه بين العبد وبين الذكر والأنثى في النفس والأطراف على أن كبر السن لا يوجب كبر قيمتها فإن السن الزائدة نقص(9/458)
وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولأن كبر السن الأصلية لا يزيد في قيمتها فالزائدة كذلك (مسألة) (ولا يقتص من السن حتى ييئس من عودها وهي سن من قد اثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت فإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال لأنها تعود بحكم العادة فلم يجب ضمانها كالشعر
(مسألة) (فإن عاد بدل السن على صفتها في موضعها فلا شئ على الجاني وإن مضى زمن عودها ولم تعد سئل أهل الخبرة فإن قالوا قد يئس من عودها خير المجي عليه بين القصاص وبين دية السن (مسألة) (وإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص) لأن الاستحقاق غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درء القصاص وتجب الدية لأن القطع موجود والعود مشكوك فيه (مسألة) (فإن قطع سن كبير فقال القاضي يسأل أهل الخبرة) فإن قالوا لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها الى وقت معلوم لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت فإن لم تعد وجب القصاص (مسألة) (وإن اقتص من سن فعادت غرم سن الجاني لأنه قد تبين أن القصاص لم يكن يجب ويضمنها بالدية دون القصاص لأنه لم يقصد التعدي وإن عادت سن الجاني رد ما أخذ إذا لم تعد سن المجني عليه (مسألة) (وإن عادت سن المجني عليه قصيرة أو معيبة فعلى الجاني أرش نقصها بالحساب)(9/459)
ففي نصفها نصف ديتها ونحو ذلك وإن عادت والدم يسيل منها أو مائلة عن محلها ففيها حكومة لأنه نقص حصل بفعله، وقد ذكرنا هذه المسائل في مسألة ويؤخذ السن بالسن (فصل) قال رحمه الله النوع الثاني الجراح فيجب القصاص في كل جرح ينتهي الى عظم كالموضحة وجرح العضد والفخذ الساق والقدم لقول الله تعالى (والجروح قصاص) فيجب في كل جرح ينتهي الى عظم يمكن استيفاؤه من غير زيادة كالموضحة في الرأس والوجه وذلك لأن الله تعالى نص على القصاص في الجروح فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل جرح ينتهي الى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والفخذ والساق يجب فيه القصاص في قول أكثر أهل العلم وهو منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه لا قصاص فيها لأنه لا مقدر فيها وهو غير صحيح لمخالفته قول تعالى (والجروح قصاص) ولأنه أمكن استيفاؤه بغير حيف ولا زيادة لكونه ينتهي الى عظم فأشبه الموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي للقصاص ولا عدمه
مانعاً وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها من شجاج الرأس والوجه ولا قصاص فيه.
(فصل) ولا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان الجرح بها أو بغيرها، لأن القتل إنما استوفي بالسيف لأنه آلته وليس ثم شئ يخشى التعدي اليه(9/460)
فيجب أن يستوفى فيما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة الى محل لا يجوز استيفاؤه ولأنا منعنا القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلأن نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى فإن كان الجرح موضحة أو ما أشبهها فبالموسى أو حديدة ماضية معدة لذلك ولا يستوفي إلا من له علم بذلك كالجرائحي ومن أشبهه، فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستنابة، وإن كان له علم فقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن كالقتل ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه إلا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهو مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي أن يحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه وربما أفضى إلى النزاع والاختلاف بأن يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي (مسألة) (ولا يجب القصاص فيما سوى ذلك من الشجاج والجروح كما دون الموضحة أو أعظم منها وممن روي عنه منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن وأبو عبيد وأصحاب الرأي ومنعه فيما فوقها عمر بن العزيز وعطاء والنخعي والزهري والحكم وإبن شبرمة والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحداً أوجب القصاص فيما فوق الموضحة إلا ما روي عن ابن(9/461)
الزبير أنه اقاد من المنقلة وليس بثابت عنه، قال إبن المنذر ولا أعلم أحداً خالف ذلك ولأنها جراحات لا تؤمن الزيادة فيها فأشبه الجائفة وأما دون الموضحة فقد روي عن مالك أن القصاص يجب في الدامية والباضعة والسمحاق وروي نحوه عن أصحاب الرأي ولنا أنها جراحة لا تنتهي الى عظم فلم يجب فيما قصاص كالجائفة ولأنه لا يؤمن فيما الزيادة
فأشبه كسر العظام وبيان ذلك أنه إن اقتص من غير تقدير أفضى إلى أن يأخذ أكثر من حقه وإن اعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقاً لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيراً بحيث يكون عمق باضعته كعمق موضحة الشاج أو سمحاقة ولأننا لم نعتبر في الموضحة قدر عمقا فكذلك في غيرها (فصل) ولا قصاص في المأمومة من شجاج الرأس ولا في الجائفة، والمأمومة هي التي تصل الى جلدة الدماغ والجائفة هي التي تصل الى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم نعلمه إلا ما روي عن ابن الزبير انه أقص من المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا ما سمعنا أحداً أقص منها قبل ابن الزبير، وروي عن علي رضي الله عنه لا قصاص في المأمومة وهو قول مكحول والزهري والشعبى وقال عطاء والنخعي لا قصاص في الجائفة، وروى ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب(9/462)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة " ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام " (مسألة) (إلا أن تكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة بغير خلاف بين أصحابنا) .
وهو مذهب الشافعي لأنه يقتصر على بعض حقه ويقتص من محل جنايته فإنه إنما وضع السكين في موضع وضعها الجاني، لأن سكين الجاني وصلت الى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه لم يضع سكينه في الكوع.
(مسألة) (ولا شئ له مع القصاص على قول أبي بكر) لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة وكما في الأنفس إذا قتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر، وقال ابن حامد له ما بين دية موضحة ودية تلك الشجة، وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل الى البدل كما لو قطع أصبعيه فلم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة وفارق الشلاء بالصحيحة فإن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست مميزة بخلاف مسئلتنا
فيأخذ في الهاشمة خمساً من الإبل وفي المنقلة عشراً (مسألة) (ويعتبر قدر الجرح بالمساحة فلو أوضح إنساناً في بعض رأسه، مقدار ذلك البعض جميع رأس الشاج وزيادة كان له أن يوضحه في جميع رأسه وفي الأرش للزائد وجهان)(9/463)
وجملة ذلك أنه أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر أزاله ويعمد إلى موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم طولها وعرضها بخشبة أو خيط ويضعها على راس الشاج ويعلم طرفيه بسواد أو غيره ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشجة ويجرها الى آخرها فيأخذها مثل الشجة طوعلا وعرضاً ولا يراعي العمق لأن حده العظم ولو روعي لتعذر الاستيفاء، لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفى الطرف بمثله وإن اختلفا في الصغر والكبر والرقة والغلظة فإن كان رأس الشاج والمشجوج سواء استوفى قدر الشجة وإن كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت وإن استوعبت رأس الشاج كله لأنه استوفاها بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل موضعها من رأس الجاني لأن الجميع رأس وإن كان قدر الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي الشجة في جميع رأس الشاج ولا يجوز أن تنزل إلى جبهته لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو المجني عليه ولا ينزل الى قفاه لما ذكرنا ولا يستوفي بقية الشجة في موضع آخر من رأسه لأنه يكون مستوفياً موضحتين واضعاً للحديدة في غير الموضع الذي وضعها فيه الجاني واختلف أصحابنا فيماذا يصنع؟ فذكر القاضي أن ظاهر كلام أبي بكر أنه لا أرش له فيما بقي كيلا يجمع بين قصاص ودية في جرح واحد، وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء في جميع رأس الشاج ولا أرش له وبين العفو الى دية موضحة، وقال ابن حامد وبعض أصحابنا(9/464)
له أرش ما بقي وهو مذهب الشافعي، لأن القصاص تعذر فيما جنى عليه فكان له أرش كما لو تعذر في الجميع، فعلى هذا تقدر شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت بقدر ثلثيها فله أرش ثلث موضحة وإن زادت على هذا أو نقصت فبالحساب من أرش الموضحة
ولا يجب له أرش موضحة كاملة لئلا يفضي إلى إيجاب القصاص ودية موضحة وإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يوضح منه بقدر مساحة موضحة من أي الطرفين شاء لأنه جنى عليه في ذلك الموضع كله وإن استوفى قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك فعليه القصاص في ذلك القدر، فإذا اندملت موضحته استوفى منه القصاص في موضع الاندمال لأنه موضع الجناية، وان ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة، فإن قيل فهذه الموضحة كلها لو كانت عدواناً لم يجب فيها إلا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية موضحة قلنا لأن المستوفى لم يكن جناية إنما الجناية الزائد، والزائد لو انفرد لكان موضحة فكذلك إذا كان معه ما ليس بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدواناً فإن الجميع جناية واحدة (فصل) إذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأراد أن يستوفي القصاص بعضه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخرة منع ذلك لأنه يأخذ موضحتين بواحدة وديتهما مختلفة، ويحتمل(9/465)
الجواز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها، فإن أهل الخبرة إن في ذلك زيادة ضرر أو شين لم يجز ولأصحاب الشافعي كهذين القولين، فإن كان رأس المجني عليه أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه ومؤخره موضحتين قدرهما جميع رأس الجاني فله الخيار بين أن يوضحه موضحة واحدة في جميع رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر موضحته ولا أرش لذلك وجها واحدة لأنه ترك استيفاء مع امكانه، وان عفا الى الأرش فله أرش موضحتين، وإن شاء اقتص من احداهما وأخذ أرش الأخرى (فصل) فإن كانت الجناية في غير الرأس والوجه وكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل الى الكف ولم يصعد الى العضد وإن كانت في الساق لم ينزل الى القدم ولم يصعد الى الفخذ لأنه عضو آخر فلا يقتص منه كما لم ينزل من الرأس الى الوجه ولم يصعد من الوجه الى الرأس (فصل) إذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضاً شجه لا يتسع لها مثل موضعها من رأس الشاج فأراد أن يستوفي من وسط الرأس فيما بين الاذنين لكونه يتسع لمثل تلك الشجة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجه فيه فلم يجز له الاستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء حقه من محل الشجة، واحتمل الجواز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من محل شجته(9/466)
جاز من غيره كما لو شجه في مقدم رأسه شجة قدرها جميع رأس الشاج جاز إتمام استيفائها من مؤخر رأس الجاني، وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من الساق والقدم والذراع والعضد، وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجز العدول عنه وجهاً واحداً (فصل) قال (وإذا اشترك جماعة في قطع طرف أو جرح موجب للقصاص وتساوت أفعالهم مثل أن يضعوا الحديدة على يده ويتحاملوا عليها جميعاً حتى تبين فعلى جميعهم القصاص في أشهر الروايتين وهي التي ذكرها الخرقي) وبذلك قال مالك وأبو ثور وقال الحسن والزهرى والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر لا يقطع يدان بيد واحدة وهي الرواية الأخرى لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، وهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يميناً بيسار ولا يساراً بيمين، ولا تساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا يعتبر التساوي في النفس فإنا نأخذ الصحيح بالمريض وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس(9/467)
القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب الآخر لم يجب القصاص بخلاف النفس ولأن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيراً فوجب القصاص زجراً عنه كي لا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل والاشتراك المختلف فيه ولا يقع إلا في غاية الندرة فلا حاجة الى الزجر عنه، ولأن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد وإيجابه على المشركين في الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن شئ من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف فإيجاب القصاص الزجر عنها يكون منعا لشئ لا يكاد يقع
لصعوبته وإطلاقاً في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في النفس، يحققه أن وجوب القصاص في الطرف والنفس على الجماعة بواحد على خلاف الأصل لكونه أخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه، وإنما خولف هذا الأصل زجراً عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالباً ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم ولأن النفس أشرف من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك ولنا ما روى أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا بآخر فقالا(9/468)
هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية يد الأول وقال لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة، ولأنه أحد نوعي القصاص فيؤخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس، وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس فإنا نعتبر التساوي فيها فلا نأخذ مسلماً بكافر ولا حراً بعبد، وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها فلأن الطرف ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يؤخذ تبعاً ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة، وأما اعتبار التساوي في الفعل فإنما اعتبر في اليد لأنه يمكن مباشرتهما بالقطع فإذا قطع كل واحد منهما من جانب فإن فعل كل واحد منهما متميزاً عن فعل الآخر فلا يجب على انسان قطع محل لم يقطع مثله، وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل وإنما أفعالهم في البدن فيفضي ألمه اليها فيزهق ولا تميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر فكانا كالقاطعين في محل واحد ولذلك لا يستوفى من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ولا يجوز تجاوزه في النفس لو قتله بجرح في جنبه أو بطنه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه.
إذا(9/469)
ثبت هذا فإن الجناية إنما تجب على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل الآخر إما بأن شهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعوا عن الشهادة أو يكرهوا انساناً على قطع طرف فيجب قطع المكرهين والمكره أو يلقوا صخرة على طرف انسان فيقطعه أو يقطعوا يداً
أو يقلعوا عيناً بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعاً أو يمدوها فتبين ونحو ذلك (مسألة) (وإن تفرقت أفعالهم أو قطع كل واحد من جانب فلا قصاص عليهم رواية واحدة) لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها وإن كان فعل كل واحد منهم يمكن الاقتصاص بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (وسراية الجناية مضمونة بالقصاص أو الدية) سراية الجناية مضمونة بغير خلاف لأنها أثر جناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم ان سرت الى النفس أو ما لا يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان هشمه في راسه فيذهب ضوء عينه وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك في النفس، وفي ضوء العين خلاف ذكرناه فيما مضى، وإن سرت الى ما يمكن مباشرته بالاتلاف مثل ان قطع اصبعاً فتأكلت أخرى وسقطت ففيه القصاص أيضا في قول امامنا(9/470)
وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال أكثر الفقهاء لا قصاص في الانية وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهماً الى شخص فمرق منه الى آخر ولنا أن ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس ولأنه أحد نوعي القصاص فأشبه ما ذكرنا، وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب آخر لم يجب القصاص ولو قصد قطع إبهامه فقطع سبابته وجب القصاص، ولو ضرب ابهامه فمرق الى سبابته وجب القصاص فيها فافترقا، ولأن الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص فيها كما لو رمى أحدهما فمرق الى الأخرى (مسألة) (وان شل ففيه ديته) وبهذا قال الشافعي قالوا يجب الأرش في الثانية التي شلت والقصاص في الأولى، وقال(9/471)
أبو حنيفة لا يجب القصاص فيها ويجب أرشهما جميعاً لأن الحكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو سرت الى النفس فاذا لم يجب القصاص في إحداها لم يجب في الأخرى.
ولنا أنها جناية موجبة
للقصاص لو لم تسرفا وجبته إذا سرت كالتي تسري الى سقوط أخرى وكما قطع يد حبلى فسرى الى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره، وارق الأصل لأن السراية مقتضية للقصاص كاقتضاء الفعل له فاستوى حكمهما وههنا بخلافه ولأن ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا سرى إلى النفس وجب القصاص في النفس وسقط في القطع فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط ما قاله.
إذا ثبت ذلك فإن الأرش يجب في ماله فلا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص فيه لعدم المماثلة في القطع فإذا قطع اصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص وجب له نصف الدية وإن اقتص من الأصبع فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل أرشه فيها ويبقى خمس الكف فيه وجهان (أحدهما) يتبعها في الارش فلا شئ له فيه (والثاني)(9/472)
فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع يتبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف لحكم الأرش فلم يتبعها (مسألة) (وسراية القود غير مضمونة فلو قطع اليد قصاصاً فسرى الى النفس فلا شئ على القاطع) وبهذا قال الحسن وإبن سيرين ومالك والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد وإبن المنذر وري ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وقال عطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحادث العكلي والشعبي والنخعي والزهري وأبو حنيفة: عليه الضمان قال أبو حنيفة عليه كمال الدية في ماله، وقال غيره هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق إلا طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه(9/473)
ولأنها سراية قطع مضمون فكانت مضمونة كسراية الجناية والدليل على أنه مضمون أنه مضمون بالقطع الأول لأنه في مقابلته ولنا أن عمر وعلياً رضي الله عنهما قال من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس ما فعله مستحقاً: إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته الى النفس بأن يموت منها أو ألى ما دونها مثل أن يقطع
أصبعاً فتسري الى كفه (مسألة) (ولا يقتص في الطرف إلا بعد برئه) في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء والحسن قال إبن المنذر كل من أحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ ويتخرج لنا أنه يجوز الاقتصاص قبل البرء وبناء على قولنا إنه إذا سرى إلى النفس يفعل به كما لو(9/474)
فعل وهذا قول الشافعي قال ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما روى جابر أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فقال يا رسول الله أقدني قال " حتى تبرأ " فأني وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فعييت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقيد منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لك شئ إنك عجلت " رواه سعيد مرسلاً ولأن القصاص في الطرف لا يسقط بالسراية فوجب أن يملكه في الحال كما لو برأ ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الحرج حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الجرح لا يدرى أقتل هو أو لا فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه فقد رواه وفي سياقه فقال يا رسول الله عرجت فقال " قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك " ثم نهى أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة(9/475)
عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفي نفس الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله " قد نهيتك فعصيتني " وما ذكروه ممنوع وهو مبنى الخلاف (مسألة) (فان فعل ذلك سقط حقه من سرايته فلو سرى إلى نفسه كان هدراً ولو سرى القصاص الى نفس الجاني كان هدراً أيضاً وقال الشافعي هي مضمونة لأنها سراية جناية فكانت مضمونة كما لو لم يقتص) ولنا الخبر المذكور ولأنه استعجل ما لم يكن له إستعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه.
وبهذا فارق من لم يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعاً فمات الجاني والمستوفي فهما هدر.
وقال أبو حنيفة يجب ضمان كل واحد
منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان وقال الشافعي إن مات المجني عليه أولا ثم مات الجاني كان قصاصاً به لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني عليه وإن مات الجاني فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدراً ولولي المجني عليه نصف الدية فلما إن(9/476)
سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه وعند أبي حنيفة يجب ضمان سرايته وعند الشافعي أن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم يجب ضمانه ومبنى ذلك على ما تقدم من الخلاف (فصل) وإن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقض فسرى فسرايته مضمونة وسراية الاستيفاء غير مضمونة لأنه إقتص بعد جواز القصاص فعلى هذا لو قطع يدي رجل فبرأ فاقتص ثم انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه الجاني لأنه مات من جنايته وقال ابن أبي موسى إذا جرحه فبرأ ثم انتقض فمات فلا قود فيه ولنا أن الجناية لو سرت إلى النفس قبل الاندمال وجب القصاص فكذلك بعده وان عفا الى الدية فلا شئ له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب ايضاً شئ لأن القصاص قد سقط بموته والدية لا يمكن ايجابها لما ذكرنا وإن كان المقطوع بالجناية يدا قوليه بالخيار(9/477)
بين القصاص في النفس وبين العفو الى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب نصف الدية في تركة الجاني أو ماله إن كان حياً (فصل) ولو قطع كتابي يد مسلم فبرأ واقتص ثم انتقض جرح المسلم ومات فلوليه قتل الكتابي والعفو الى أرش الجرح وفي قدره وجهان: (احدهما) نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها كما لو كان القاطع مسلماً (والثاني) له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى
ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها وإن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه الى مال انبنى على الوجهين وإن قلنا تعتبر قيمة يد اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم فلا شئ له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا الى(9/478)
الدية لم يكن له شئ وجهان واحداً لأن دية لك دية المسلم ولو كان الجاني امرأة فالحكم على ما ذكرنا سواء لأن ديتها نصف دية الرجل (فصل) إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فللولي قتل القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الآخر له قطع يد القاطع من الكوع فإن قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية، وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع قطعها من(9/479)
المرفق ثم عفا فله دية إلا قدر الحكومة في الذراع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز قطعها رواية واحدة لأنه يأخذ صحيحة بمقطوعة وإن قطع أيديهما وهما صحيحان أو قطع رجلان يديه فقطع أيديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليهما العفو إلى الدية لأنه قد استوفى ما قيمته دية وإن اختار قتلهما فله ذلك (كتاب الديات) الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) وأما السنة فروى أبو بكر بن محمد ابن عمر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه " وفي النفس مائة من الإبل " رواه النسائي في سننه ومالك وفي موطئه قال ابن عبد البر وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد(9/480)
لانه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله تعالى وأجمع أهل
العلم على وجوب الدية في الجملة (مسألة) (كل من أتلف إنساناً أو جزأ منه بمباشرة أو سبب فعليه ديته وسواء كان مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً أو مهادناً لما ذكرنا من الآية وفيها (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله) وعبر عن الذمة بالميثاق وحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حين كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى أهل اليمن ذكر فيه الديات وأجمع أهل العلم عن ذلك في الجملة (مسألة) (فإن كان القتل عمداً محضاً فهي في مال الجاني حالة) أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجني جان إلا على نفسه " وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ولده " ابنك هذا؟ - قال نعم قال - أما إنه لا لا يجني عليك ولا تجني عليه " ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه لغيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والاكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل الحر المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع(9/481)
وجوب الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفاً عنه ورفقاً به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ.
إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة تجب في ثلاث سنين لانها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد ولنا أن ما وجب بالعمد المحض كان حالاً كالقصاص وأرش اطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله العاقلة ولأن القصد التخفيف عن العاقلة الذين لم يصدر منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فلاق بحالهم التخفيف عنهم، وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء، وأما العمد فإنما يحمله الجاني في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقاً ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه أو قتل
اجنبياً وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك (مسألة) (وإن كان شبه عمد أو خطأ او ما جرى مجراه فعلى عاقلته) دية شبه العمد على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال ابن سيرين والزهري وإبن شبرمة وقتادة وأبو ثور: هي على القاتل في ماله واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلته كالعمد المحض ولأنها(9/482)
دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه، ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصاً فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف العمد لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته القتل، وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القصاص فاقتضى تغليظها من وجه وهو الانسان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها، ولا نعلم في أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وأبو هاشم وعبيد الله بن عمر ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل الينا ذلك عمن يعد خلافه خلافاً، وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم، وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعاً، وأما دية الخطأ فلا نعلم خلافاً في أنها على العاقلة، قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من تحفظ عنه من أهل العم، وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى(9/483)
بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد روينا من الحديث وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والحكمة في ذلك إن جنايات
الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة ايجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل وللاعانة تخفيفاً عنه إذا كان معذوراً في فعله (فصل) فأما الكفارة ففي مال القاتل لا يدخلها تحمل وقال أصحاب الشافعي تكون في بيت المال في أحد الوجهين لأنها تكثر فإيجابها عليه يجحف به ولنا أنه كفارة فاختصت بمن وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صوماً ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره وتفارق الدية فإنها إنما شرعت لجبر المحل وذلك يحصل بها كيفما كان ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن العاقلة، وما ذكروه لا أصل له، ولا يصح قياسه على الدية لوجوه (أحدها) أن الدية لم تجب في بيت المال انما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع مخالفاً لحكم الأصل (الثاني) أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل بجحف به والكفارة بخلافها (الثالث) أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فإيجابها على غيره قطع للمواساة ويوجب على الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز(9/484)
(فصل) ولا يلزم القاتل شئ من دية الخطأ وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه وهذا يقتضي أنه قضى عليهم جميعها ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل فقتله يعتقد أنه لحق فبان مظلوماً، ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه فلا حاجة الى إيجاب شئ من الدية عليه (مسألة) (وإن القى انسانا على أفعى أو ألقاها عليه فقتلته أو طلب انسانا بسيف مجرد فهرب فوقع في شئ تلف به بصيراً أو ضريراً، أو حفر بئراً في فنائه أو وضع حجراً أو صب ماء في طريقه أو بالت فيها دابته ويده عليها أو رمى فيها قشر بطيخ فتلف به إنسان وجبت عليه ديته)
يجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا القى انسانا على أفعى أو ألقاها عليه فقتلته فعليه ضمانه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو جنى عليه (مسألة) (فإن طلب إنساناً بالسيف مشهوراً فهرب منه فتلف في هربه ضمنه) سواء سقط من شاهق أو انخسف به سقف أو خر في بئرا ولقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو احترق بنار وسواء كان المطلوب صغيراً أو كبيراً أعمى أو بصيراً عاقلاً أو مجنوناً، وقال الشافعي لا يضمن البالغ العاقل(9/485)
البصير إلا أن ينخسف به سقف فإن فيه وفي الصغير والمجنون والأعمى قولين لأنه هلك بفعل نفسه فلم يضمنه الطالب كما لو لم يطلبه ولنا أنه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئراً أو نصب له سكيناً أو سم طعامه ووضعه وما ذكروه يبطل بهذه الأصول، وإن طلبه بشئ يخفيه به كالكلب ونحوه فهو كما لو طلبه بسيف مشهور لأنه في معناه.
(فصل) ولو شهر سيفاً في وجه انسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب عقله فعليه ديته، فإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله، أو تغفل عاقلاً فصاح به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها العاقلة فإن تعمد ذلك فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ ووافق الشافعي في الصبي وله في البالغ قولان، ولنا أنه تسبب إلى إتلافه فضمنه كالصبي (فصل) وإن قدم انساناً الى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقله الذمي قدمه، لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته وإن عمد الرامي رميه فالضمان عليه لأنه باشر وذلك متسبب فأشبه الممسك والقاتل، وان لم يقدمه أحد فالضمان على الرامي وتحمله عاقلته وإن كان خطأ لأنه قتله.(9/486)
(مسألة) (وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه أو في طريق لغير مصلحة المسلمين أو في ملك غيره بغير إذنه أو وضع في ذلك حجراً أو صب فيه ماء، أو رمى قشر بطيخ فهلك به إنسان ضمنه)
لأنه تلف بعدوانه وروي عن شريح أنه ضمن رجلاً حفر بئراً فوقع فيها رجل فمات، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق (مسألة) (وإن بالت فيها دابته فزلق به حيوان فمات به فقال أصحابنا على صاحب الدابة الضمان إذا كان راكباً أو قائداً أو سائقاً) لأنه تلف حصل من جهة دابته التي يده عليها فأشبه ما لو جنت بيدها او فمها، وقياس المذهب أنه لا يضمن ما تلف بذلك لأنه لا يدله على ذلك ولا يمكن التحرز منه فهو كما لو أتلفت برجلها، ويفارق ما إذا تلفت بيدها أو فمها لأنه يمكنه حفظهما.
(مسألة) (وإن حفر بئر أو وضع آخر مجرا أو نصب سكيناً فعثر بالحجر فوقع في البئر أو على على السكين فالضمان على واضع الحجر وناصب السكين دون الحافر، لأن الحجر كالدافع له وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده) وبهذا قال الشافعي ولو وضع رجل حجراً ثم حفر آخر عنده بئراً أو نصب سكيناً فعثر بالحجر فسقط عليهما فهلك احتمل أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل أن يضمن الحافر وناصب السكين لأن(9/487)
فعلهما متأخر عن فعله فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف فحل وكاء إنسان وأماله آخر فسال ما فيه كان الضمان على الآخر منهما، وإن وضع إنسان حجراً أو حديدة في ملكه وحفر فيه بئراً فدخل إنسان بغير إذنه فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل هلك بعد وإن نفسه وإن وضع حجراً في ملكه ونصب أجنبي فيه سكيناً أو حفر بئراً بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في البئر فالضمان على الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء عدوانه وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شئ فالضمان عليهم فلو وضع اثنان حجراً وواحد حجراً فعثر بهما انسان فهلك فالدية على عواقلهم أثلاثاً في قياس المذهب وهو قول أبي يوسف لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثاً فوجب الضمان عليهم سواء، وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان جرحين فمات بها، وقال زفر على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف لأن فعله مساو لفعلهما وإن
حفر انسان بئراً ونصب آخر فيها سكيناً فوقع انسان في البئر على السكين فمات فقال ابن حامد الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع:، وهذا قياس المسائل التي قبلها ونص أحمد على أن الضمان عليهما قال أبو بكر لأنهما في معنى الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين كالقاتل فيخرج من هذا أن يجب الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة (فصل) وان حفر بئراً في ملك نفسه أو في ملك غيره بإذنه فلا ضمان عليه لأنه غير متعد وكذلك(9/488)
ان حفرها في موات أو وضع حجراً أو نصب شركاً أو شبكة أو منجلاً ليصيد بها لأنه لم يتعد بذلك وإن فعل شيئاً من ذلك في طريق ضيق فعليه ضمان ما تلف به لأنه متعد وسواء أذن له الامام أو لم يأذن لأنه ليس للإمام أن يأذن فيما يضر بالمسلمين ولو فعل ذلك الإمام لضمن ما يتلف به فإن كان الطريق واسعاً فحفر في مكان منها يضر بالمسلمين ضمن وإن حفر في مكان لا يضر بالمسلمين وكان حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو بغير إذنه وقال أصحاب الشافعي إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ويقطعه لمن يبتاع فيه ولنا أنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير إذن أهله لغيره مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن الإمام ولا نسلم أن للإمام أن يأذن في هذا فإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم ويمكن إزالته في الحال فأشبه القعود في المسجد ولأن القعود جائز من غير إذن الإمام فكذلك الحفر (فصل) وإن حفر بئراً في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به جميعه وهذا قياس مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو كان شريكان ضمن ثلثي التالف لأنه تعدي في نصيب شريكه وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين كما لو جرحه أحدهما جرحاً وجرحه الآخر جرحين(9/489)
ولنا أنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في ملك غيره والشركة أوجب تعدية لجميع الحفر فكان موجب الجميع الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن له فيها حقاً
ومع ذلك يضمن الجميع والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع (فصل) وإن حفر إنسان في ملكه بئراً فوقع فيها انسان أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لأنه لا عدوان منه وان دخل بإذنه والبئر ظاهرة مكشوفة والداخل بصير يبصرها فلا ضمان أيضاً لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سكيناً فقتل بها نفسه فإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها فلم يعلم الداخل حتى وقع فيها ضمنه وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في الآخر لا يضمنه لأنه هلك بفعل نفسه ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاماً مسموماً فأكله وبهذا ينتقض ما ذكروه، وإن اختلفا فقال صاحب الدار ما أذنت لك في الدخول وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك لأنه منكر، وإن قال كانت مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع لأن الظاهر معه(9/490)
فإن الظاهر أنها كانت مكشوفة لم يسقط فيها ويحتمل أن القول قول المالك لأن الأصل براءة ذمته فلا تشتغل بالشك.
(مسألة) (وان غصب صغيرا فنهشة حية أو أصابته صاعقة ففيه الدية وإن مات بمرض فعلى وجهين) لأنه تلف في يده العادية (أحدهما) يضمنه كالعبد الصغير، (والثاني) لا يضمنه لأنه حر لا نثبت اليد عليه في الغصب أشبه الكبير (مسألة) (وان اصطدم نفسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر) روي هذا عن علي رضي الله ولا يجب القصاص سواء كان إصطدامها عمداً أو خطأ لأن الصدمة لا تقتل غالباً فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين البصيرين، والأعميين، والبصير والأعمى، فإن كان امرأتين حاملين فهما كالرجلين فإن أسقطت كل واحدة منهما جنبيا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لانهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق
ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتها في الجنينين، فإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة منهما عتق رقبتين، وإن اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين (مسألة) (وإن كانا راكبين فماتت الدابتان فعلى كل واحد منهما قيمة دابة الآخر)(9/491)
وجملة ذلك أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ما تلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرساً والآخر غيره مقبلين كانا أو مدبرين، وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه وإسحاق، وقال مالك والشافعي على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسماً عليهما كما لو جرح إنسان نفسه وجرحه غيره فمات منهما ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصتا وسقطتا وإن كانت إحداهما أكثر من الأخرى فلصاحبها الزيادة وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وإن نقصت فعليه نقصها فإن كل أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم (مسألة) (إلا أن يكون أحدهما يسير والآخر واقفاً فعلى السائر ضمان الواقف ودابته) نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه فإن مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما(9/492)
(مسألة) (إلا أن يكون في طريق ضيق قاعداً أو واقفاً فلا ضمان عليه فيه وعليه ضمان ما تلف به) إذا كان الواقف متعدياً بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لأن التلف
حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجراً في الطريق او جلس في طريق ضيق فعثر به إنسان (مسألة) (وإن أركب صبيين لا ولاية له عليهما فاصطدما فماتا فعلى عاقلته ديتهما) لأنه متعد بذلك وتلفهما بسبب جنايته (مسألة) (وإن رمى ثلاثة بمنجنيق فقتل الحجر إنساناً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث ديته) لا يخلو ذلك من حالين (أحدهما) أن يكون المقتول واحداً منهم (والثاني) أن يكون من غيرهم فإن كان من غيرهم فالدية على عواقلهم أثلاثاً لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد وسواء قصدوا رمي واحد بعينه أو قصدوا رمي جماعة أو لم يقصدوا ذلك لأنهم إن لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته دية الخطأ، وإن قصدوا رمي جماعة أو واحداً بعينه فهو شبه عمد لأن قصد الواحد بالمنجنيق لا يكاد يفضي إلى إتلافه فيكون شبه عمد تحمله العاقلة في ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة شبه العمد فلا تحمله ههنا.
(الحال الثاني) أن يصيب واحداً منهم فعلى كل واحد كفارة ولا تسقط عمن أصابه الحجر لأنه شارك في قتل نفس مؤمنة والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها بالمشاركة في قتل غيره، وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه(9/493)
(أحدهما) أن على عاقلة كل واحد منهم ثلث دية المقتول لورثته لأن كل واحد منهم مشارك في قتل نفس مؤمنة خطأ فلزمته ديتها كالأجانب وهذا ينبني على أن جناية المرء على نفسه وأهله خطأ تتحمل عقلها عاقلته (الوجه الثاني) أن ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف حقه فلم يضمن ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمته أو عبده، وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر غيره وهو مذهب الشافعي (الثالث) أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين.
قال أبو الخطاب هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين قال شيخنا والذي ذكره القاضي أحسن وأصح في النظر، وقد روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه في مسألة القارضة والقابضة والواقصة
قال الشعبي وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عتق أخرى وقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثاً على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذا شبيهة بمسئلتنا ولأن المقتول شارك في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحداً من غيرهم فإن رجع الحجر فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلتهم أثلاثاً وعلى كل واحد منهم كفارتان، وعلى الوجه الثاني يجب على عاقلة الحي منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد(9/494)
من الميتين ثلث دية صاحبه ويلغى فعل نفسه وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد منهم نصف الدية وتجب على عاقلة كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه (مسألة) (وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في اموالهم في الصحيح من الذهب إلا على الوجه الذي اختاره أبو الخطاب فإنهم إذا كانوا اربعة فقتل الحجر أحدهم فإنه يجب على عاقلة كل واحد من الثلاثة الباقين ثلث الدية لأنهم يحملونها كلها فأما إن كانوا أكثر من أربعة أو كان المقتول من غيرهم وهم أربعة فإن الدية حالة في اموالهم لأن المقتول يلغى فعله في نفسه ويكون هدراً لأنه لا يجب عليه لنفسه شئ ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالاً لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله النافية وهذا دون الثلث والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث، وذكر أبو بكر فيها رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على الثلث والصحيح الأول لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وحمل العاقلة إنما شرع لتخفيف على الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على ما تذكره والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث وقوله إنه لعل واحد قلنا بل هي أفعال فإن فعل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو حرمه كل واحد جرحاً فماتت النفس بجميعها إذا ثبت هذا فالضمان معلق بمن مد الحبال ورمى الحجر دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب اعتباراً بالمباشر كمن وضع سهماً في قوس إنسان ورماه صاحب القوس فالضمان على الرمي دون الواضع(9/495)
(مسألة) (وإن جنى إنسان على نفسه أو طرفه خطأ فلا شئ له وعنه على عاقلته ديته لورثته ودية طرفه لنفسه) أما إذا كانت الجناية عمداً فلا شئ له إجماعاً وإن كانت خطأ فكذلك في إحدى الروايتين قياساً على العمد ولما روي ان عامر بن الأكوع يوم خيبر رجع سيفه عليه فقتله ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو كانت واجية لبينها النبي صلى الله عليه وسلم ولنقل ظاهراً (والرواية الثانية) أن ديته على عاقلته لورثته ودية طرفه لنفسه وهو ظاهر كلام الخرقي ذكره فيما اذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل احدهم لما روي أن رجلاً ساق حماراً فضربه بعصاً كانت معه فطارت منها شظية فاصابت عينه ففقأتها فجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديته على عاقلته وقال هي يد من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد لم يعرف له مخالف ولأنه قتل خطأ فكانت ديته على عاقلته كما لو قتل غيره والأول أصح في القياس، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا من حديث عامر بن الأكوع حين رجع سيفه عليه يوم خيبر فمات ولأن وجوب الدية على العاقلة على خلاف الأصل مواساة للجاني وتخفيفاً عنه وليس ههنا على الجاني شئ يخفف عنه ولا يقتضي النظر أن تكون جنايته على نفسه على غيره ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لا * جحف به وجوب الدية لكثرتها وقال القاضي الرواية الثانية(9/496)
أظهر عنه فعلى هذه الرواية أن كانت العاقلة هي الوارثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للانسان شئ على نفسه فإن كان بعضهم وارثاً سقط عن الوارث ما يقابل ميراثه فإن كانت جنايته على نفسه شبه عمد فهو كالخطأ في أحد الوجهين وفي الآخر لا تحمله العاقلة بحال (مسألة) (وإن نزل رجل في بئر فخر عليه آخر فمات الاول من سقطه فعلى عاقلته ديته) وجملة ذلك أنه إذا نزل رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانة كما لو رمى عليه حجراً ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالباً فعليه القصاص، وإن كان مما لا يقتل غالباً
فهو شبه عمد، وإن وقع خطأ فالدية على عاقلته محققة، وإن مات الثاني بوقوعه على الأول فدمه هدر لأنه مات بفعله، وقد روى علي بن رباح اللخمي أن رجلاً كان يقود أعمى فوقعا في بئر خر البصير فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الاعمى بنشد في الموسم يا أيها الناس لقيت منكرا * هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا؟ * خرا معاً كلاهما تكسرا وهذا قول ابن الزبير وشريح والنخعي والشافعي وإسحاق قال شيخنا: ولو قال قاتل ليس على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده الى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه ولذلك لو فعله قصداً لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى إلا أن يكون مجمعاً عليه فلا يجوز مخالفة الاجماع، ويحتمل أنه إنما لم يجب الضمان على القائد لوجهين(9/497)
(أحدهما) أنه مأذون فيه من جهة الاعمى فلم يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئراً في داره بإذنه فتلف بها (الثاني) أنه فعل مندوب اليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئراً في سابلة ينتفع بها المسلمون فإنه لا يضمن ما تلف، بها وإن مات الثاني فدمه هدر لأنه لا صنع لغيره في هلاكه (مسألة) (وإن وقع عليهما ثالث فمات الثاني به فعلى عاقلة الثالث ديته) لأنه تلف من سقطته، وإن مات الأول من سقطتهما فديته على عاقلتهما لأنه مات بوقوعهما عليه ودية الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته، ودم الثالث هدر لأنه لا صنع لغيره في هلاكه هذا إذا كان الوقوع هو الذي قتله، فإن كان البئر عميقاً يموت الواقع بمجرد وقوعه لم يجب ضمان على أحد لأن كل واحد منهم مات بوقعته لا بفعل غيره، وإن احتمل الأمرين فكذلك لأن الأصل عدم الضمان.
(مسألة) (وإن كان الأول جذب الثاني وجذب الثاني الثالث فلا شئ على الثالث) لأنه لا فعل له ووجبت ديته على الثاني في أحد الوجهين لأنه هو جذبه وباشره بذلك والمباشرة تقطع حكم المتسبب كالحافر مع الدافع (والثاني) ديته على الأول والثاني نصفين لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركاً للثاني في إتلافه، ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك
بجذبته، وإن هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك بجذبة الاول وجذبة نفسه للثالث فسقط فعل نفسه(9/498)
كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول ذكره القاضي (والوجه الثاني) يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة فعل نفسه وهذا مذهب الشافعي، ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته على عاقلته لورثته كما قلنا فيما اذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر احدهم، وأما الأول إذا مات بوقوعهما عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول وعلى الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على الثاني وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته لورثته (فصل) وإن جذب الثالث رابعاً فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شئ على الرابع لأنه لم يفعل شيئاً في نفسه ولا غيره وفي ديته وجهان (أحدهما) إنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه (والثاني) على عاقلة الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت ديته على عواقلهم، وأما الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني والثالث نصفين (والثاني) يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه (والثالث) يجب ثلثها على عاقلته لورثته وأما الجاذب فقد مات بالأفعال الثلاثة وفيه هذه الأوجه الثلاثة المذكورة في الأول سواء، وأما الثالث ففيه مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران(9/499)
(أحدهما) أن ديته بكمالها على الثاني لأنه المباشر لجذبه فسقط فعل غيره بفعله (والثاني) أن على عاقلته نصفها ويسقط النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه (فصل) وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض مثل أن يكون البئر عميقاً يموت الواقع فيه بنفس الوقوع أو كان فيه ما يغرق الواقع فيقتله أو أسد يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تاثير فعل بعضهم في هلاك بعض، وإن شككنا في ذلك لم يضمن بعضهم بعضاً لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك، وإن كان موتهم بوقوع بعضهم على
بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية الثالث لأنه قتله بوقوعه عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية الأول على الثلاثة أثلاثاً (مسألة) (وإن خر رجل في زبية أسد فجذب آخر وجذب الثاني، ثالثاً وجذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد فالقياس أن دم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني وعلى عاقلة الثاني دية الثالث وعلى عاقلة الثالث دية الرابع، وفيه وجه آخر أن دية الثالث على عاقلة الأول والثاني نصفين ودية الرابع على عاقلة الثلاثة أثلاثا) الحكم في هذه المسألة أنه لا شئ على الرابع لأنه لم يفعل شيئاً وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثاً ودم الأول هدر وعلى عاقلته دية الثاني، وأما دية الثالث فعلى الثاني(9/500)
في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين هذه تسمى مسألة الزبية وقد روى حنش الصنعاني أن قوماً من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانياً وجذب الثاني ثالثاً ثم جذب الثالث رابعاً فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال للأول ربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوق اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال الدية وقال فإني أجعل الدية على من حضر راس البئر فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هو كما قال رواه سعيد بن منصور ثنا أبو عوانة وأبو الاحوص عن سماك بن حرب عن أنس بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب فذهب أحمد إلى ذلك توقيفا على خلاف القياس وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الحديث لا يثبته أهل النقل وأنه ضعيف والقياس ما قلناه فلا ينتقل عنه إلى ما لا يدري ثبوته ولا معناه (مسألة) (ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضروره فمنعه حتى مات ضمنه نص عليه) وجملة ذلك ان من أخذ طعام إنسان أو شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب فهلك بذلك او هلكت بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وكذلك إن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه المطلوب منه لما روي
عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر فصار أحق به ممن هو في يده وله أخذه قهراً فإذا(9/501)
منعه إياه تسبب الى هلاكه بمنعه ما يستحقه فلزمه ضمانة كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك وظاهر كلام أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالباً وقال القاضي يكون على عاقلته لأن هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه عمد وإن لم يطلبه منه لم يضمنه لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه، وخرج عليه أو الخصاب كل من أمكنه انجاء انسان من مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك أنه يجب عليه ضمانه قياساً على ما إذا طلب الطعام فمنعه إياه مع غناه عنه حتى هلك ولنا أن هذا لم يهلكه ولم يكن سبباً في هلاكه فلا يضمنه كما لو لم يعلم بحاله، وقياس هذا على المسألة التي ذكرها غير صحيح لأنه في الأولى منعه منعاً كان سبباً في هلاكه فيضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا لم يفعل شيئاً يكون سبباً (مسألة) (وإن افزع إنسانا فأحدث بغائط فعليه ثلث ديته وعنه لا شئ عليه) وجملة ذلك أنه إذا ضرب إنساناً حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه قضى فيه بثلث الدية قال أحمد لا اعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وعنه لا شئ عليه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن الدية انما تجب لإتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شئ من ذلك وهذا هو القياس وإنما ذهب من ذهب إلى إيجاب الثلث لقضية عثمان لأنه في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافهما فيكون إجماعاً ولأن قضاء الصحابي فيما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان الحديث ببول او غائط أو ريح قاله القاضي وكذلك الحكم فيما إذا افزعه حتى أحدث والأولى إن شاء الله التفريق بين الريح وغيرها إن كان قضاء عثمان في الغائط والبول لأن ذلك أفحش فلا يقاس عليه(9/502)
(فصل) إذا أكره رجلاً على قتل إنسان فقتله فصار الأمر الى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين ولو أكره رجل امرأة على الزنا فحملت وماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحمله العاقلة إلا أن لا يثبت ذلك إلا باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل اعترافا ولذلك إن شهد شاهدان
على رجل بقتل عمد فقتل ثم رجعا عن الشهادة لزمهما الضمان كالشريكين في الفعل ويكون الضمان في مالهما لا تحمله العاقلة لانها الاعتراف وهذا ثبت باعترافهما (فصل) إذا قتل رجلاً وادعى أنه كان عبداً أو القى عليه حائطاً وادعى أنه كان ميتاً وأنكر وليه فالقول قول الولي مع يمينه وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته وما ادعاه محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته فيجب الحكم ببقائه كما لو قتل مسلماً وادعى أنه ارتد قبل قتله وبهذا يبطل ما ذكره، وإن قطع عضو أو إدعى شلله أو قلع عيناً وادعى عماها وأنكر المجني عليه فالقول قوله لأن الأصل السلامة وهكذ لو قطع ساعداً وادعى أنه لم يكن عليه كف أو ساقاً وادعى أنه لم يكن لها قدم، وقال القاضي إن اتفقا على أنه كان بصيراً فالقول قول المجني عليه وإلا فالقول قول الجاني وهذا مذهب الشافعي لأن هذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى على اهله وجيرانه ومعامليه(9/503)
وصفة أداء الشهادة عليه أنه كان يتبع الشخص بسره يتوقى ما يتوقاه البصير ويتجنب البئر واشباهه في طريقه ويعدل في العطفات * خف من يطلبه ولنا أن الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيها كما لو اختلفا في إسلام المقتول في دار الإسلام وفي حياته، قولهم لا يتعذر إقامة البينة عليه قلنا وكذلك لا يتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني فإيجابها عليه أولى من إيجابها على من يشهد له الأصل، ثم البطل بسائر المواضع التي سلموها، فإن قالوا ههنا ما يثبت أن الأصل وجود البصر، قلنا الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعي حريته وإسلامه (فصل) ومن إدب ولده امرأته في النشوز أو المعلم صبيه أو السلطان رعيته ولم يسرف فأفضى الى تلفه لم يضمنه لأنه أدب مأذون فيه شرعاً فلم يضمن ما تلف به كالحد والتعزير (مسألة) (ويتخرج وجوب الضمان على ما قاله إذا أرسل السلطان الى امرأة ليحضرها فاجهضت جنينا أو ماتت فعلى عاقلته الدية) وجملة ذلك أن السلطان اذا بعث الى امرأة ليحضرها فأسقطت جنيناً فمات ضمنه لما روي أن
عمر رضي الله عنه بعث الى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضر بها الطلق فألقت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم ان ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال ما تقول يا أبا(9/504)
الحسن فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ان ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته فقال عمر أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك، ولو فزعت المرأة فماتت وجبت ديتها أيضاً ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال لا تضمن المرأة لأن ذلك ليس بسبب لهلاكه في العادة ولنا أنها نفس هلكت بإرساله اليها فضمنها كجنينها أو نفس هلكت بسببه فعزمها كما لو ضربها فماتت.
قوله إنه ليس بسبب عادة قلنا إذا كانت حاملاً فهو سبب للإسقاط والإسقاط سبب للهلاك ثم لا يعتبر في الضمان كونه سببا معتاد فإن الضربة والضربتين بالسوط ليست سبباً للهلاك في العادة ومتى أفضت أليه وجب الضمان وإن استعدى إنسان على المرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعاً فعلى عاقلة المستعدي الضمان إن كان ظالماً لها وإن كانت هي الظالمة فاحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها لأنها سبب إحضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ولكن يضمن جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها (مسألة) (وإن سلم ولده الى السابح ليعلمه فغرق لم يضمنه ويحتمل أن تضمنه العاقلة) أما إذا سلم ولده الصغير الى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان على عاقلته السابح لأنه سلمه اليه(9/505)
ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب الى التفريط في حفظه وقال القاضي قياس المذهب أنه لا يضمنه لأنه فعل ما جرت العادة به لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب العلم الصبي ضرباً معتاداً فتلف به فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شئ إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه لا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره
(مسألة) (وإن أمر إنساناً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه) لأنه لم يجن ولم يتعد فأشبه ما لو أذن له ولم يأمره إلا أن يكون الآمر السلطان فهل يضمنه؟ على وجهين (أحدهما) لا يضمنه كغيره (والثاني) يضمنه لأنه يخاف منه إذا خالفه وهو مأمور بطاعته إلا أن يكون المأمور صغير إلا يميز فيضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه (مسألة) (وإن وضع جرة على سطحه أو حائطه أو حجراً فرمته الريح على إنسان فقتله أو شئ أتلفه لم يضمنه) لأن ذلك بغير فعله ووضعه ذلك كان في ملكه، ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة لأنه تسبب إلى إلقائها وتعدى بوضعا فأشبه ما لو بنى حائطاً مائلاً (مسألة) (وإن أخرج جناحاً إلى الطريق أو ميزابا فسقط على إنسان فأتلفه ضمنه) لأن إخراج الجناح الى الطريق غير جائز لأنه تصرف في غير ملكه إذا كان الطريق نافذاً أو غير نافذ ولم يأذن فيه أصحابه إذا سقط على شئ فأتلفه ضمنه لأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق وكذلك الحكم في الميزاب وفي ذلك اختلاف وتفصيل ذكرناه في الغصب والله أعلم(9/506)
باب مقادير ديات النفس دية الحر المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألفا شاة ألف مثقال أو أثنا عشر ألف درهم فهذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية شيئاً منها لزم قبوله وجملة ذلك أنا إذا قلنا إن هذه الخمس أصول في الدية إذا أحضر من عليه الدية من القاتل أو العاقلة شيئاً منها لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها أصول في قضاء الواجب يجزئ واحد منها فكانت الخيرة الى من وجبت عليه كخصال الكفارة وشاتي الجيران في الزكاة مع الدراهم وكذلك الحكم في الحال إذا قلنا إنها أصل (فصل) ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن الإبل أصول في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله بن عمر وفي دية
خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
قال القاضي لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها، وهذا قول عمر وعطاء وطاوس والفقهاء السبعة، وبه قال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف، ومحمد بن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن " وإن في النفس(9/507)
المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف دينار " رواه النسائي وروى ابن عباس أن رجلا من بني عدي قبل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا، رواه أبو داود وابن ماجة وروى الشعبي أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار، وعن عمرو بن شيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيباً فقال: ألا أن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحال مائتي حلة رواه أبو داود (مسألة) (وفي الحلل روايتان) (إحداهما) ليست أصلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قيل عمد الخطأ قيل السوط والعصا مائة من الإبل.
(الثانية) أنها أصل لما ذكرنا من قول عمر حين قام خطيباً فجعل على أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود وهذا كان بمحضر من الصحابة فكان إجماعاً وكل حلة بردان (مسألة) (وعن أحمد رحمه الله أن الإبل هي الأصل خاصة) وهذا ظاهر كلام الخرقي وذكرها أبو الخطاب عن أحمد وهو قول طاوس والشافعي وابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط مائة من الإبل " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقاً لآدمي فكان متعيناً كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الورق بدلاً(9/508)
عن الإبل وإنما الخلاف في كونها أصلاً وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولاً بنفسها لم يكن إيجابها تقويماً للإبل،
ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى.
وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو ثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة آلاف وديته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف (فصل) إذا قلنا أن الأصول خمسة فإن قدرها ما ذكرنا في المسألة في أول الباب ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ولا من سائرها إلا الورق فإن الثوري وأبا حنيفة قالوا: قدرها من الورق عشرة آلاف، وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي أن عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف ولأن الدينار معدول في الشرع بعشرة دراهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً ونصاب الفضة مائتا درهم وبما ذكرناه قال الحسن وعروة مالك والشافعي في قول وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر ولأن الدينار معدول باثني عشر درهما بدليل أن عمر فرض الجزية على الغني أربعة دنانير أو ثمانية وأربعين درهماً وعلى المتوسط دينارين أو اربعه وعشرين درهما وعلى الفقير دينارين أو اثني عشر درهماً وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة لأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولاً بنصاب الآخر(9/509)
كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شئ منها معدولاً بنصاب غيره قال ابن عبد البر: ليس في جعل الدية عشرة آلاف عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرسل ولا مسند وحديث الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه جده عنه (مسألة) (وإذا قلنا إن الإبل هي الأصل خاصة فعلى من عليه الدية تسليمها إلى مستحقها سليمة من العيوب وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه) لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المتلفات المتلفة، وإن اعوزت الإبل أو لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل فله العدول ألى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي في القديم وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ولأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته عند تعذره كذوات الأمثال ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت
قيمتها فينبغي أن تجب، وإن كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا ينبغي أن يقول إذا غلت الإبل كلها فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لم يجدها لكونها في غير ولده فان عمر قوم الدية من الدراهم باثني عشر ألفاً ومن الذهب ألف دينار (مسألة) (فإن كان القتل عمدا أو شبه عمد وجبت أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس(9/510)
وعشرون لبون بنت وخمس وعشرون حقة وخمس جذعة وعنه أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها) اختلفت الرواية عن احمد في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنها أرباع وكذلك ذكره الخرقي وهو قول الزهري وربيعة ومالك وسليمان بن يسار وأبي حنيفة وروي ذلك عن ابو مسعود رضي الله عنه، وروى جماعة عن أحمد أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن والشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وابي موسى ولغيرة رضي الله عنهم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل مؤمنا متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فان شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة " وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " رواه الإمام أحمد وأبو داود وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فقتله فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في الموطأ.
ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمساً وعشرين حقة وخمساً وعشرين بنت لبون وعشرين مخاض(9/511)
ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية والخلفة الحامل وقول النبي صلى الله عليه وسلم " في بطونها أولادها " تأكيد وهل يعتبر في الخلفات كونها ثنايا؟ على وجهين (أحدهما) لا يعتبر لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الخلفات ولم يقيدها فأي فاقة حملت فهي خلفة تجزئ في الدية واعتبار السن تقييد لا يصار إليه إلا بدليل (والثاني) يشترط لأن في بعض ألفاظ الحديث " أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى بازل " ولأن سائر أنواع الإبل مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأول والثنية التي لها خمس سنين ودخلت السادسة وقلما تحمل الاثنية ولو أحضرها خلفة سقطت قبل قبضها فعليه بدلها (فصل) فإن اختلفا في حملها رجع الى أهل الخبرة كما يرجع الى حمل المرأة في القوابل وإن تسلمها الولي ثم قال لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها فقال الجاني بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها بقول أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وإن قبضها بغير قولهم فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل.
(مسألة) (وإن كان القتل خطأ وجبت أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جزعة) لا يختلف المذهب أن دية الخطأ أخماس كما ذكرنا وهذا قول ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري والليث وربيعة ومالك والشافعي(9/512)
هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، وهكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي عن ابن مسعود قال الخطابي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض، وروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق انها ارباع كدية العمد سواء وعن زيد انها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض، قال طاوس ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت مخاض وعشر بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر بني لبون ذكور، رواه أبو داود وابن ماجة، وقال أبو ثور الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا يختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه ان دية العمد مغلظة ودية شبه الخطأ والعمد اخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماساً كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بني مخاض وعشرون بنت لبون " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب ولأن موجبهما واحد فيصير كانه أوجب اربعين ابنة مخاض، ولأن ما قلناه الأقل والزيادة(9/513)
عليه لا نثبت إلا بتوقيف على من ادعاه الدليل، فأما قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا القتل إلا عمداً فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ، وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه (مسألة) (ويؤخذ في البقر النصف مسنات والنصف أتبعة وفي الغنم النصف ثنايا والنصف أجذعة إذا كانت الغنم ضأناً) لأن دية الإبل من الاسنان من المقدرة في الزكاة فكذلك للبقر والغنم (مسألة) (ولا تعتبر القيمة في شئ من ذلك إذا كان سليماً من العيوب وقال أبو الخطاب تعتبر أن تكون القيمة لكل بعير مائة وعشرين درهماً، وظاهر هذا أنه يعتبر في الأصول كلها أن تبلغ دية من الأثمان والأول أولى) الصحيح أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطية وجب أخذها وهو ظاهر كلام الخرقي وسواء قلت قيمتها أو كثرت وهو ظاهر مذهب الشافعي وذكر أصحابنا أن مذهب احمد ان تؤخذ مائة من الإبل قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهماً فإن لم يقدر على ذلك أدى اثني عشر ألف درهم أو الف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم فدل على أن ذلك قيمتها ولأن هذه أبدال محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة كالمثل والقيمة في بدل القرض المتلف في المثليات(9/514)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا مطلق فتقييده يخالف اطلاقه فلم يجب إلا بدليل ولأنها كانت تؤخذ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف، وقول عمر في حديثه
أن الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفاً دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك وقد كانت تؤخذ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافه عمر مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما وجمع بين ما فرق الشارع وإزالة التخفيف والتغليظ جميعاً بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن اعتبار ابنة مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جداً فيكون تغليظاً لدية الخطأ وتخفيفاً لدية العمد وهذا خلاف ما قصده الشارع وورد به، ولأن العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات فلو كانت تؤدى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيمة واحدة ويعتبر فيها ذلك النقل ولم يجز الإخلال به لأن ما ورد الشرع به مطلقاً إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وايضاحه لئلا يكون تلبيساً في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه وسلم بعث للبيان قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) فكيف يحمل قولهم على الإلباس والألغاز هذا لا يحل لو حمل الأمر على ذلك لكان ذكر الأسنان عبثاً غير مفيد فإن فائدة ذلك إنما هو لكون(9/515)
اختلاف أسنانها مظنة لا ختلاف القيم فأقيم مقامه ولأن الإبل الأصل في الدية فلا يعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق، ولانها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجيران، وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر وقيمتها أكثر من اثني عشر ألفا وقد قيل إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف، وقولهم انها أبدال محل واحد فلنا أن نمنع ونقول البدل انما هو الإبل وغير ها معتبر بها وإن سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق فإنه لا يعتبر تساويهما، وينتقض أيضاً بشاة الجيران مع الدراهم، وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة بدل عنه ولذلك لا تجب إلا عند المعجز عنه بخلاف مسئلتنا، فإن قيل فهذا حجة عليكم لقولكم أن الإبل هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويهما كالمثل والقيمة، قلنا إذا ثبت لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل ولا يتبع الأصل البدل على أنا نقول إنما صير الى التقدير بهذا
لأن عمر رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير اليه كيلا يؤدي إلى التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفياً للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا ان يرد الأصل الى التقويم فيفضي الى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجودها بعينها على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المقرض فاعتبر كل واحد من بدليه به والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا لا تعتبر صفاته، وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من(9/516)
كل صنف منها اثني ألفاً فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهماً وقيمة كل شاة ستة دراهم لتتساوى الأبدال كلها.
(مسألة) (ويؤخذ في الحلل المتعارف من ذلك باليمن) وهي مائتا حلة كل بردان فتكون اربعمائة بردة، فإن تنازعا جعلت قيمة كل حلة ستين درهماً ليبلغ قيمة الجميع اثني ألف درهم.
(فصل) ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله ولا إبل بلده.
وقال القاضي وأصحاب الشافعي الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس مالهم كالزكاة فإذا كان عند بعض العاقلة عراب وعند بعضهم نجاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان (أحدهما) يؤخذ من كل صنف بقسطه (والثاني) يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء فإن دفع من غير إبله خيراً من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيراً من الواجب، وان أدون لم يقبل إلا أن يرضي المستحق، وإن لم يكن له إبل فمن غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجبت من غالب إبل أقرب البلاد اليه فإن كانت إبله عجافاً أو مراضاً كلف تحصيل صحاح من صنف ما عنده لأنه بدل متلف فلا يؤخذ فيه معيب كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم(9/517)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في النفس المؤمنة مائة من الإبل أطلق الإبل فمن قيدها احتاج الى دليل ولأنها بدل متلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات، ولأنها حق ليس سببه المال فلم يعتبر فيه كونه من
جنس ما * له كالمسلم فيه والقرض ولأن المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص بجنس مال من وجب عليه، وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء لا غنياء فيما أنعم الله عليهم به فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم انها مواساة لا يصح وانما وجبت جبراً للفائت كبدل المال المتلف، وانما العاقلة تواسي القاتل فيما وجب بجناية ولهذا لا تجب من جنس أموالهم اذا لم يكونوا ذوي إبل والواجب بجنايته ابل مطلقة فتواسيه في تحملها ولأنها لو وجبت من جنس مالهم لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة (فصل) ودية المرأة نصف دية الرجل، إذا كانت المرأة حرة مسلمة فديتها نصف دية الحر المسلم أجمع على ذلك أهل العلم ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وحكى غيرهما عن ابن عليه والأصم أنهما قالا ديتها كدية الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم دية المرأة على النصف من دية الرجل وهو أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسراً لما ذكروه مخصصاً له (مسألة) (وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف)(9/518)
روي هذا عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة والزهري وقتادة وربيعة ومالك قال ابن عبد البر وهو قول فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم وقال الحسن يستويان الى النصف، وروي عن علي رضي الله عنه انها على النصف فيما قل أو أكثر، وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي في ظاهر مذهبه.
واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ولانهما جناية لها أرش فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد، وروي عن ابن مسعود أنه قال تعاقل المرأة الرجل الى نصف عشر الدية فإذا زاد على ذلك فهي على النصف كأنها تساويه في الموضحة، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " أخرجه النسائي وهو
نص يقدم على ما سواه قال ربيعة قلت لسعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة؟ قال عشر قلت ففي اصبعين قال عشرون قلت ففي ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون قلت ففي أربع قال عشرون قال فقلت لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه سعيد ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن علي ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ولأن ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه دية الذكر والأنثى، فأما الثلث(9/519)
نفسه ففيه روايتان (إحداهما) يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به (والثانية) يختلفان فيه وهو الصحيح لقوله عليه الصلاة والسلام " حتى يبلغ الثلث " وحتى للغاية ويجب أن تكون مخالفة لما قبلها لقول الله تعالى (حتى يعطوا الجزية) ولأن الثلث في حد الكثرة لقوله عليه الصلاة والسلام " والثلث كثير " ولأن العاقلة تحمله فدل على أنه مخالف لما دونه، فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا تساوي دياتهن ديات رجالهم الى الثلث لعموم قوله عليه الصلاة والسلام " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " ولأن الواجب دية امرأة فساوت دية الرجل من أهل ديتها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي ثبت له النصيف في الأصل وهو دية وهكذا أرش جراحة المسلمين (مسألة) (ودية الخنثى المشكل نصف دية ذكر ونصف دية أنثى وذلك ثلاثة أرباع دية الذكر لأنه يتحمل الذكورية والأنوثية) وهذا قول أصحاب الرأي وعند الشافعي الواجب دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب الزائد بالشك ولنا أنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالاً واحداً وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التوسط بينهما والعمل بكلا الاحتمالين(9/520)
(فصل) ويفاد به الذكر والأنثى لأنهما لا يختلفان في القود ويفاد هو بكل واحد منهما فأما جراحه فإن كانت دون الثلث استوى الذكر والأنثى لأن أدنى حاليه أن يكون امرأة وهي تساوي الذكر على
ما بينا وفيما زاد ثلاثة أرباع حر ذكر (فصل) ودية الكتابي نصف دية المسلم إذا كان حراً ونساؤهم على النصف من دياتهم هذا ظاهر المذهب وهو قول عمر بن عبد العزيز وعروة ومالك وعمرو بن شعيب عنه أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع عنها فروى عنه صالح أنه قال: كنت أقول دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف وأنا اليوم أذهب الى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن ابيه وهذا صريح في الرجوع عنه، وروي عن عمر وعثمان أن ديته أربعة آلاف درهم، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة وعمرو بن دينار والشافعي واسحاق وأبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف " وروي أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة درهم وقال علقمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: ديته كدية المسلم، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم، وقال ابن عبد البر هو قول سعيد بن المسيب والزهري(9/521)
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال " دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم " ولأن الله سبحانه ذكر في كتابه دية المسلم وقال (ودية مسلمة إلى أهله) قال في الذمي مثل ذلك ولم يفرق فدل لى أن ديتهما واحدة ولأنه حر ذكر معصوم فتكمل ديته كالمسلم ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " دية المعاهد نصف دية المسلم " وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين رواه الإمام أحمد وفي لفظ دية المعاهد نصف دية الحر قال الخطابي ليس في دية أهل الكتاب شئ أبين من هذا ولا بأس باسناده وقد قال به أحمد وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى.
فأما حديث عبادة فلم يذكره أصحاب السنن والظاهر أنه ليس بصحيح وحديث عمر إنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف فأوجب فيه نصفها أربعة آلاف ودليل ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يؤمئذ النصف
فهذا بيان وشرح يزيل الاشكال وفيه جمع للاحاديث فيكون دليلاً لنا ولو لم يكن كذلك لكان قول النبي صلى الله عليه وسلم مقدماً على قول عمر وغيره بغير إشكال فقد كان عمر رضي الله عنه إذا بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ لأحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من حديث عمرو بن شعيب ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما رووه، وأما ما رووه من قول الصحابة فقد روي عنهم خلافه فيحمل قولهم في إيجاب الدية(9/522)
كاملة على سبيل التغليظ.
قال أحمد إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمداً فلما ترك القود غلظ عليه وكذلك حديث معاوية، ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل مزني فقال عمر لحاطب: إني أراك تجمعهم لأغرمنك غرماً يشق عليك فغرمه مثلي قيمتها.
(مسألة) (وجراحاتهم على النصف من دياتهم كجراحات المسلمين من دياتهم قياساً عليهم) قال الأثرم قيل لأبي عبد الله جني على مجوسي في عينه وفي يده؟ قال يكون بحساب ديته كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل قطع يده؟ قال بالنصف من ديته (مسألة) (ونساؤهم على النصف من دياتهم) لا نعلم في هذا خلافاً قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب قياساً عليهم.
(مسألة) (ودية المجوسي والوثني ثمان مائة درهم) ذهب أكثر أهل العلم في دية المجوسي قال احمد ما أقل من اختلف في دية المجوسي وممن قال ذلك عمر وعثمان وابن مسعود وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن ومالك والشافعي وإسحاق ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "، وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي: ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم(9/523)
ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا وقوله " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا بالكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذمياً أو مستأمناً لأنه محقون الدم، ونساؤهم على النصف من دياتهم وجراح كل واحد معتبرة من ديته كالمسلم (مسألة) (فأما عبدة الأوثان وسائر من ليس له كتاب كالترك ومن عبد ما استحسن فلا ذمة لهم وإنما تحقن دماؤهم بالأمان) فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا ينقص عنها ولأنه كافر ذو عهد لا تحل منا كحته فأشبه المجوسي (مسألة) (ومن لم تبلغه الدعوة فلا ضمان فيه) من لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله حتى يدعى فإن قتل الدعوة من غير أن يعطى أماناً فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولا ايمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير وانما حرم قله لتبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب إن كان ذا دين فديته دية أهل دينه وهو مذهب الشافعي لأنه محقون الدم أشبه من له أمان والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب ومجانينهم(9/524)
ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان فأما إن كان له عهد ففيه دية أهل ديته فإن لم يعرف ديته ففيه دية المجوسي لأنه اليقين والزيادة مشكوك فيها (فصل) ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة وعنه لا يبلغ بها دية الحر أجمع أهل العلم على أن في العبد الذي لا تبلغ قيمة دية الحر قيمته فإن بلغت قيمته دية أو زادت عليهما فذهب أحمد رحمه الله في المشهور عنه الى ان فيه قيمته بالغة ما بلغت عمداً كان القتل او خطأ سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وأياس بن معاوية والزهري ومكحول ومالك والاوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي يوسف وقال النخعي والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد لا يبلغ به دية الحر وحكاها أبو الخطاب رواية عن أحمد وقال أبو حنيفة ينقص عن دية الحر ديناراً وعشرة دراهم القدر الذي
يقطع به السارق هذا إذا ضمن بالجناية وان ضمن باليد مثل ان يعصب عبداً فيموت في يده فإن قيمته تجب وإن زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك لأن الله تعالى لما اوجب في الحر دية لا نزيد وهو أشرف لخلوه عن نقص الرق كان تنبيها على أن العبد المنقوص لا يزاد عليها فتجعل مالية العبد معياراً للقدر الواجب فيه ما لم يزد على الدية فإن زاد علمنا خطأ ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضح يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فنرده اليها(9/525)
ولنا أنه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت كالفرس او مضمون بقيمته فكانت جميع القيمة مضمونة كما لو ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس مضموناً بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع فلم يتجاوزه ولأن ضمان الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته وهذا ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فاختلفا (فصل) ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جنايته والجناية عليه ألا إبراهيم النخعي فإنه قال في المكاتب يودى بقدر ما أدى من كتابة دية الحر وما بقي دية العبد وروي في ذلك شئ عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده حدثنا محمد بن عبد الله ثنا هشام بن أبي عبد الله قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكاتب يقتل أنه يودى ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد وقال الخطابي إذا صح الحديث وجب القول به إذا لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أولى منه (مسألة) (وفي جراحه إن لم يكن مقدرا ما في الحر ما نقصه بعد التئام الجرح كسائر الأموال وإن كان مقدراً في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته ففي يده نصف قيمته وفي موضحة نصف عشر قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو اكثر وعنه أنه يضمن بما نقص اختاره الخلال وجملة ذلك أن الجناية على العبد يجب ضمانها بما نقص من قيمته لأن الواجب إنما وجب جبراً لما فات بالجناية ولا تجبر إلا بايجاب ما نقص(9/526)
من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية على غيره من الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على ذلك لأن حق المجني عليه قد انجبر فلا تجب له زيادة على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا نعلم فيه خلافاً فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت بالجناية مؤقتاً في الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد روايتان (إحداهما) ان فيه أيضاً ما نقصه بالغا ما بلغ وذكر أبو الخطاب أنه اختيار الخلال وروى الميموني عن أحمد أنه قال انما يأخذ قيمة ما نقص منه على قول ابن عباس وروى هذا عن مالك فيما عدا موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته لأن ضمانه ضمان الامور فيجب فيه ما نقص كالبهائم ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن نقصه بما نقص كسائر الأموال ولأن مقتضى الدليل ضمان الفائت بما نقص خالفناه فيما وقت الحر كما خالفناه في ضمان نفسه بالدية المؤقتة ففي الوقت يبقى فيهما على مقتضى الدليل والرواية الأخرى أن ما كان موقتاً في الحر فهو موقت في العبد من قيمته ففي يده أو عينه أو شفته نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية في الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين والعينين والأذنين أوجب قيمة العبد مع العبد بقاء ملك السيد عليه وروى هذا عن علي رضي الله عنه وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز والشافعي والثوري قال أحمد هذا قول سعيد بن المسيب وقال آخرون ما اصيب به العبد فهو على ما نقص من قيمته والظاهر أن هذا لو كان قول علي لما احتج أحمد إلا به دون غيره إلا أن أبا حنيفة والثوري قالا ما أوجب الدية من الحر(9/527)
يتخير سيد العبد فيه بين أن يغرمه قيمته ويصير ملكاً للجاني وبين أن لا يضمنه شيئاً لئلا يؤدي الى اجتماع البدل والمبدل لرجل واحد وروي عن إياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمداً أو قلع عينه هو له وعليه ثمنه ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم يعرف له من الصحابة مخالف ولأنه آدمي يضمن بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر كالحر ولأن اطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر من العبد كالشجاج الأربع عند مالك وما وجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه كالحر وعلى أبي حنيفة قول علي وإن هذه الأعضاء فيها مقدر فوجب ذلك مع بقاء ملك السيد في العبد كاليد الواحدة وسائر الأعضاء وقولهم إنه اجتمع البدل والمبدل لواحد لا يصح لأن القيمة ههنا بدل العضو واحدة
والرواية الأولى أقيس وأولى إن شاء الله تعالى ولم يثبت ما روي عن علي وان ثبت فقد روي عن ابن عباس خلافه فلا يبقى حجة والقياس على الحر لا يصح لأنهم لم يسووا بينه وبين الحر فيما ليس فيه مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه وإن كان في عضو فيه مقدر شرعي فإنهم أوجبوا فيه ما نقصه وإن كان في عضو فيه مقدر كالجناية على الإصبع من غير قطع إذا نقصت قيمته العشر أو أكثر بخلاف الحر وقد ذكرنا دليل ذلك في صدر المسألة (فصل) والأمة مثل العبد فيما ذكرنا وفيه من الخلاف ما فيه إلا أنها تشبه بالحرة ولا تفريع على الرواية الأولى فأما على الثانية فإن بلغت قيمتها احتمل أن ترد الى النصف فيكون في ثلاثة أصابع ثلاثة(9/528)
أعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها كما أن المرأة تساوي الرجل في الجراح الى ثلث ديتها فإذا بلغت الثلث ردت الى النصف والأمة امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة، ويحتمل أن لا ترد الى النصف لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية وإن كل ما زاد نقصها وضررها زاد في ضمانها فإذا خولف في الحرة بقينا في الأمة على وفق الأصل (مسألة) (ومن نصفه حر ففيه نصف دية حر ونصف قيمته وكذلك في جراحه) وجملة ذلك أن من نصفه حرا إذا جنى عليه الحر فلا قود عليه لأنه ناقص بالرق فأشبه ما لو كان كله رقيقا وان كان قاتله عبداً أقيد منه لأنه أكمل من الجاني، وإن كان نصف القاتل حراً وجب القود لتساويهما وإن كانت الحرية في القاتل أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما، وفي ذلك كله إذا لم يكن القاتل عبداً فعليه نصف دية حر ونصف قيمته إذا كان عمداً وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته لأن العاقلة لا تحمل العبد والنصف على العاقلة لأنها دية حر في الخطأ، وهكذا الحكم في جراحه إذا كان قدر الدية من أرشها يبلغ ثلث الدية مثل أن يقطع أنفه أو يديه وإن قطع إحدى يديه فالجميع على الجاني لأن نصف دية اليد ربع ديته فلا تحملها العاقلة لنقصها عن الثلث (مسألة) (وإذا قطع خصيتي عبد أو أنفه أو اذنيه لزمته قيمته للسيد ولم يزل ملك السيد عنه وإن قطع ذكره ثم خصاه لزمته قيمته لقطع الذكر وقيمته مقطوع الذكر وملك سيده باق عليه)(9/529)
وفي ذلك اختلاف ذكرناه وعلى الرواية الأخرى يلزمه ما نقص من قيمته ودليلهما ما سبق (فصل) (ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتاً غرة عبداً أو أمة قيمتها خمس من الإبل مورثة عنه كأنه سقط حيا ذكرا أو انثى، وهو نصف عشر الدية) يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه قال مهلهل كل قتيل في كليب غره * حتى ينال القتل آل مره وجملة ذلك أن في جنين المسلمة غرة هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه وعطاء والشعبي والنخعي والزهري ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقد روي أن عمر استشار الناس في املاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة، وعن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه، والغرة عبد أو أمة سميا بذلك لانهن أنفس الاموال، والاصل في الغرة الخيار، فإن قيل فقد روي في هذا الخبر " أو فرس أو بغل " قلنا هذا لم يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه قاله أهل النقل والحديث الصحيح إنما فيه عبد أو أمة(9/530)
(فصل) وإنما تجب الغرة إذا سقط من الضربة، ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب أو تبقى منها متألمة الى أن يسقط، ولو قتل حاملاً ولم يسقط جنينها أو ضرب من في جوفها حركة او انتفاخ فسكن الحركة واذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك وقتادة والاوزاعي والشافعي وابن المنذر وحكي عن الزهري ان عليه غرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فوجبت الغرة كما لو أسقطت ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا يصح له وصية ولا ميراث ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت فلا يجب الضمان بالشك، وأما إذا القته ميتاً فقد تحقق والظاهر تلفه من الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة ان
القته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى اعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط حياً ضمنه فكذلك إذا سقط ميتاً كما لو أسقطته في حياتها، وما ذكروه غير صحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتاً ثم ماتت لم يضمنه كامضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمه كما لو خرج حياً، فإن ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقية ففيه الغرة وبه قال الشافعي، وقال مالك وابن المنذر لا تجب(9/531)
حتى تلقيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئاً فأشبه ما لم يظهر منه شئ.
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه، ويفارق ما لو لم يظهر منه شئ فانه لم يتيقن قتله ولا وجوده وكذلك إن ألقت يداً أو رجلاً أو رأساً أو جزءاً من أجزاء الآدمي تجب الغرة لانا تيقنا أنه من جنين، وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة ولذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شئ فيه لأنه لا يعلم أنه جنين، وأن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة، وإن شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان (أصحهما) لا شئ فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه شئ كالعلقة ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك (والثاني) فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالمضغة والعلقة (فصل) والغرة عبد أو أمة وهو قول أكثر أهل العلم وقال عروة وطاوس ومجاهد عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة أو أمة أو فرس أو بغل، وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه قال الشعبي لأنه روي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في ولدها مائة شاة رواه أبو داود، وروي عن عبد الملك(9/532)
ابن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين ديناراً فإذا كان مضغة فأربعين فإذا كان عظماً
فستين فإذا كان العظم قد كسي لحماً فثمانين فإن تم خلفه وكسي شعره فمائة دينار، وقال قتادة إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثي غرة ولنا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في املاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضية على ما خالفها، وذكر الفرس والبغل وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة وهو متروك في البغل بغير خلاف فكذلك في الفرس والحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قاله به أكثر أهل العلم فلا يلتفت الى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع من قولهما إذا ثبت هذا فإنه يلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع اليه جاز لأنه حق آدمي فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق لهما فلا يقبل بدلها إلا برضاهما (فصل) وقيمة الغرة خمس من الإبل وذلك نصف عشر الدية روى ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وبه قال النخعي والشعبي وربيعة ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش موضحة ودية السن فرددناه اليه، فإن قيل فقد وجب في(9/533)
الأنملة ثلاثة أبعرة وثلث ذلك دون ما ذكروه قلنا الذي نص عليه صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم أرش الموضحة وهو خمس من الإبل، وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة الغرة الواجبة في المسلم، وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهماً فاما تعذر وجود غرة بهذه الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها بأن تكون قيمتها خمساً من الإبل وخمسين ديناراً أو ستمائة درهم فلا كلام، وإن اختلفت قيمة الإبل ونصف عشر الدية من غيرها مثل إن كانت قيمة الإبل اربعين ديناراً أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل، وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو الورق فتجعل قيمتها خمسين ديناراً أو ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل الذهب به وعلى اهل الورق به، فإن كان من أهل الذهب والورق جميعاً قوما من هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة الى الجاني في دفع ما شاء من سائر الأصول
ويحتمل أن تقوم بأدعاهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل الى خمس من الإبل على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل الى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم (فصل) والغرة موروثة عنه كأنه سقط حياً لأنها دية له وبدله عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي، وقال الليث: لا تورث بل يكون بدله لأمه كعضو من أعضائها فأشبه يدها.
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حياً ثم مات وقوله إنه كعضو(9/534)
من اعضائها لا يصح لأنه لو كان عضو لدخل بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من أجله ولما وجبت الكفارة من أجله بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه، ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي، فعلى هذا إذا اسقطت جنينا ميتا ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من الغرة ثم يرثها ورثتها، وإن اسقطته حياً ثم مات قبلها ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها، وإن ماتت قبله ثم القته ميتاً لم يرث أحدهما صاحبه، وإن خرج حياً ثم ماتت قبله ثم مات، أو ماتت ثم خرج حياً ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته، وان اختلف ورائهما في أولهما موتاً فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه، ويجئ على قول الخرقي في المسألة التي ذكرها اذا ماتت امرأة وابنها ان يحلف ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه، وان ألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات ثم ألقت آخر حيا ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما الآخر يرثه ورثته ان مات، وإن كانت الأم قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن دية الاول ترث منها الأم والجنين الثاني ثم إذا ماتت الام ورثها الثاني ثم يصير ميراثه لورثته فإن ماتت الأم بعدهما ورثتهما جميعاً (فصل) إذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر قال لا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده كالديات(9/535)
وان القتهم احياء لوقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحد منهم دية كاملة، وإن كان بعضهم حياً فمات وبعضهم ميتاً ففي الحي دية وفي الميت غرة (فصل) ويستوي في ذلك الذكر والأنثى في أنه يجب في كل واحد غرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة وهو يطلق على الذكر والأنثى ولأن المرأة تساوي الذكر فيما دون الثلث (مسألة) (ولا يقبل في الغرة خنثى ولا معيب ولا من له دون سبع سنين) وجملة ذلك أن الغرة تجب سليمة من العيوب وإن قل العيب لأنه حيوان يجب بالشرع فم يقبل فيه المعيب كالشاة في الزكاة ولأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار، ولا يقبل فيها هرمة ولا معيبة ولا خنثى ولا خصي وان كثرت قيمته لأن ذلك عيب، ولا من له دون سبع سنين قاله القاضي وابو الخطاب وأصحاب الشافعي لأنه محتاج الى من يكفله ويحضنه وليس من الخيار، وظاهر كلام الخرقي ان سنها غير مقدر وهو قول أبي حنيفة وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب ان لا يقيل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفاية باصل بمن له فوق السبع ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه خيار ولم يشهد لما ذكروه نص ولا له أصل يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلاً وبنية وأقدر على التصرف وأنفع في الخدمة وأقضى للحاجة، وكونه لا يدخل على النساء إن أريد به النساء الأجنبيات فلا حاجة الى(9/536)
دخوله عليهن، وان أريد به سيدته فليس بصحيح فإن الله تعالى قال (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) الى قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض) ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من منعه أضعاف ما يحصل من دخوله وفوات شئ الى ما هو أنفع منه لا يعد فواتاً كمن اشترى بدرهم ما يساوي درهمين لا يعد فواتاً ولا خسراناً (فصل) ولا يعتبر لون الغرة، وذكر عن ابي عمرو بن العلاء ان الغرة لا تكون إلا بيضاء ولا يقبل عبد أسود ولا جارية سوداء ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعبد أو أمة وأطلق والسواد غالب على عبيدهم وإمائهم ولأنه حيوان
تجب ديته فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية (مسألة) (وإن كان الجنين مملوكاً ففيه عشر قيمة أمه ذكراً كان أو أنثى) وجملته أنه إذا كان جنين الأمة مملوكاً فسقط من الضربة ميتاً ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وبنحوه قال النخعي والزهري.
وقال زيد بن أسلم يجب فيه عشر قيمة غرة وهو خمسة دنانير، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكراً أو عشر قيمته إن كان أنثى لأن الغرة الواجبة في جنين الحرة هي نصف عشر دية الرجل(9/537)
وعشر دية الأنثى وهذا متلف فاعتباره بنفسه أولى من اعتباره بأمه ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة فكان فيه نصف الواجب إذا كان ذكراً كبيراً أو عشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة، وقال محمد بن الحسن: مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته اذا كان حيا ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه بالذكورية والأنوثية كجنين الحرة، ودليلهم نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمه كجنين الحرة، وما ذكروه من مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي الى تفضيل الأنثى على الذكر وهو خلاف الأصول ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة ومخالفتهم أشد من مخالفتنا لأننا اعتبرناه إذا كان ميتاً بأمه وإذا كان حياً بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على الحي مع اختلاف الجهتين كما جاز أن يزيد البعض على الكل في أن من قطع اطراف إنسان الأربعة كان الواجب عليه أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا فيما يضمن بالقيمة عشر قيمة أمه تارة ونصف عشر اخرى وهذا لا نظير له إذا ثبت هذا فإن قيمة أمه معتبرة يوم الجناية عليها وهذا منصوص الشافعي، وقال بعض أصحابه حين أسقطت لأن الاعتبار في ضمان الجناية بالاستقرار ويتخرج لنا وجه مثل ذلك ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير بدل النفس فكان الاعتبار بحال(9/538)
الجناية كما لو جرح عبداً ثم نقصت السوق لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية ولأن قيمتها تتغير بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها فمات من سرايتها أو قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها (فصل) وولد المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه حكم ولد الأمة لأنه مملوك فأما جنين المعتق بعضها فهو مثلها فيه من الحرية مثل ما فيها وإذا كان نصفها حراً فتصفه حر فيه نصف غرة لورثته وفي النصف الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده (فصل) وإن وطئ أمه بشبهة أو غر بأمه فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنيناً فهو حر وفيه غرة موروثة عنه لورثته وعلى الوطئ عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان هذا الجنين مملوكاً لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطئ فقد حال بين سيدها وبين هذا القدر فالزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو أقل (فصل) إذا أسقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما في الجنين الذمي فإن ألحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه وإن الحق بمسلم فعليه تمام الغرة وان ضرب بطن نصرانية فأسقطت فادعت أو ادعى ورثته أنه من مسلم حملت به من وطئ شبهة او زنا فاعترف الجاني فعليه غرة كاملة وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترفت ايضاً فالغرة عليها وان انكرت حلفت وعليها ما في جنين(9/539)
الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافاً وإن اعترفت العاقلة دون الجاني فالغرة عليها مع دية امه وان أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع أيمانهم أنا لا نعلم أن هذا الجنين من مسلم ولا يلزمهما اليمين مع البت لأنها يمين على النفي في فعل الغير فإذا اختلفوا وجبت دية ذمي لأن الأصل أن ولدها تابع لها ولأن الأصل براءة الذمة وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول قول الجاني وحده مع يمينه ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني ان الجنين من ذمي بوطئ شبهة او زنا فالقول قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم بإسلامه فإن الولد للفراش (فصل) إذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما فأسقطت فعليه كفارة لأنه
اتلف آدمياً ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وإن أعتقها الضارب بعد ضربها وكان معسراً ثم اسقطت عتق نصيبه منه ومن ولدها وعليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حراً يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث أمه منه بقدر ما فيها من الحرية والباقي لورثته هذا قول القاضي وقياس قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي وقياس قول أبي بكر وابي الخطاب لا يجب على الضارب ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن مضموناً عليه والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب ولهذا اعتبرنا قيمة الأم حال الضرب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن الإتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح(9/540)
حربياً فأسلم ثم مات بالسراية ولأن موته يحتمل أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته والأصل براءة ذمته وإن كان المعتق موسراً سرى العتق اليها والى جنينها وفي الضمان الوجهان فعلى قول القاضي في الجنين غرة.
موروثة عنه وعلى قياس قول ابي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين بنصف عشر قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه قد ضمنها باعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان المعتق الشريك الذي لم يضرب وكان معسراً فلا ضمان على الشريك في نصيبه لأن العتق لم يسر اليه وعليه في نصيب شريكه من الجنين نصف غرة يرثها ورثته على قول القاضي وعلى قياس قول ابي بكر يضمن نصيب شريكه بنصف عشر قمية أمه ويكون لسيده اعتباراً بحال الجناية وكذلك الحكم في ضمان الأم إذا ماتت من الضربة وإن كان المعتق موسراً سرى العتق اليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف الأم ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الأم كما يدخل في بيعها وعلى الضارب ضمان الجنين بغرة موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول ابي بكر يضمن نصيب الشريك بنصف عشر قيمة أمه وليس عليه ضمان نصيبه لأنه ملكه حال الجناية عليه وأما ضمان الأم ففي أحد الوجهين فيها دية حرة لسيدها منها أقل الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم من قطع يد عبد ثم عتق ومات (فصل) ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم اسقطت جنينا ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر لأن(9/541)
جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم تضمن سرايتها كما لو جرح مرتداً فاسلم ثم مات ولأن موت الجنين يحتمل أنه حصل بالضربة في مملوكه ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان وعلى قول ابن حامد عليه غرة لا يرث منها شيئاً لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها، ولو كانت الأمة لشريكين فضرباها ثم أعتقاها معاً فولدت جنيناً ميتاً فعلى قول أبي بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه لشريكه لأن كلا منهما جنى عليه الجنين ونصفه لشريكه فسقط عنه ضمانه ولزمه ضمان نصفه الذي لشريكه بنصف عشر قيمة أمه اعتباراً بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف الغرة للأم منها الثلث وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئاً (مسألة) (وإن ضرب بطن أمه فعتقت ثم أسقطت الجنين ففيه غرة) على قول ابن حامد والقاضي لأنه كان حراً اعتباراً بحال الاستقرار وعلى قول أبي بكر وابي الخطاب فيه عشر قيمة أمه اعتباراً بحال الجناية لأنها كانت في حال كونه عبداً ويمكن منع كونه صار حراً لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره فعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد يكون الواجب فيه أقل الأمرين من الغرة وعشر قيمة أمه لأن الغرة إن كانت اكثر لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة لزوال ملكه وإن كانت أقل لم يكن له أكثر منها لأن النقص حصل باعافه فلا يضمن له كما لو قلع يد عبد فأعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية كان له(9/542)
أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين فأما إن ضرب بطن الأمة فاعتق السيد جنينها وحده نظرت فإن أسقطته حياً لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه أحمد وإن كان لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر عليه عشر قيمة أمه وإن أسقطته ميتاً ففيه عشر قيمة أمه لأننا لا نعلم كونه حياً حال إعتاقه ويحتمل أن تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته ما لو أعتق أمه (فصل) إذا ضرب ابن المعتقة الذي ابوه عبد بطن امرأة ثم عتق ابوه ثم أسقطت جنيناً وماتت
احتمل ان تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره واحتمل أن تكون الدية على مولى الأم وعصباته في قياس قول ابي بكر اعتباراً بحال الجناية وعلى قياس ابن حامد على مولى الأب وأقاربه اعتباراً بحال ألإسقاط وإن ضرب ذمي بطن امرأته الذمية ثم أسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته وإن ماتت معه فكذلك لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة لا يعقلون عنه لأنه حين الإسقاط مسلم ويحتمل أن يكون عقله على عاقلته من أهل الذمة في قياس قول ابي بكر اعتباراً بحال الجناية ويكون في الجنين ما يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم بكفره وعلى قياس قول ابن حامد يجب فيه غرة كاملة ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته المسلمين اعتباراً بحال الاستقرار (مسألة) (وإن كان الجنين محكوماً بكفره ففيه عشر دية)(9/543)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي قال إبن المنذر لم أحفظ عن غيرهم خلافهم لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر دية أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون دية الكافرة كدية المسلمة فلا يتحقق عندهم بينهما اختلاف (مسألة) (وإن كان أحد أبويه كتابياً والآخر مجوسياً اعتبر أكثرهما دية فيجب عشر دية كتابية على كل حال) لأن ولد المسلم من الكافرة يعتبر بأكثرهما دية كذا ههنا ولأن الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب وفي الآخر ما يسقط غلب الإيجاب بدليل ما لو قتل المحرم صيداً متولداً من مأكول وغيره ولا فرق فيما ذكرنا بين الذكر والأنثى لأن السنة لم تفريق بينهما وبه يقول الشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم (فصل) لو ضرب بطن كتابية حامل من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته ففيه الغرة في قول ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن الضمان بحال استقرار الجناية والجنين محكوم بإسلامه عند استقرارها وفي قول أبي بكر وابي الخطاب فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال كفره (مسألة) (وان سقط الجنين حياً ثم مات ففيه دية حر إن كان لحرا أو قيمته أن كان مملوكاً)
إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله وهو ان تضعه لستة أشهر فصاعداً وإلا فحكمه حكم الميت هذا(9/544)
قول عامة أهل العلم قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حياً من الضرب دية كاملة منهم زيد بن ثابت وعروة والزهري والشعبي وقتادة ابن شبرمة ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في وقت يعيش لمثله فأشبه قتله بعد وضعه في هذه المسائل ثلاثة فصول (أحدهما) أنه انما يضمن بالدية إذا وضعته حياً فمن علمت حياته ثبت له هذا الحكم سواء ثبت باستهلاله أو ارتضاعه أو تنفسه او عطاسه أو غير ذلك مما تعلم به حياته هذا ظاهر قول الخرقي وهو مذهب الشافعي، وروى عن أحمد أنه لا يثبت له حكم الحياة إلا بأن يستهل وهذا قول الزهري وقتادة ومالك وإسحاق وروي معنى ذلك عن عمرو ابن عباس والحسن بن علي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استهل المولود ورث وورث " مفهومه أنه لا يرث إذا لم يستهل، والاستهلال الصياح قاله ابن عباس والقاسم والنخعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مولود يولد لا مسه الشيطان فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) فلا يجوز غير ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل في تسمية الصياح استهلال ان من عادة الناس إذا رأو الهلال صاحوا وأراه بعضهم بعضنا فسمي صياح المولود استهلالاً لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال وصياحه كصياح من يتراآه(9/545)
ولنا أنه قد علمت حياته فأشبه المستهل والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سائر الصور فإن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه وعطاسه ضرب منه فهو كصياحه، وأما الحركة والاختلاج المنفرد فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك بالاختلاج وبسبب آخر وهو خرجه من مضيق فإن اللحم يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم نثبت بذلك حياته (الفصل الثاني) أنه إنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك بسقوطه في الحال أو موته أو بقاؤه متألماً الى أن يموت أو بقاء أمه متألمة الى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو
ضرب رجلاً فمات عقيب ضربه أو بقي ضمناً حتى مات، وإن ألقته حياً فجاء آخر فقتله وكانت فيه حياة مستقرة فعلى الثاني القصاص إذا كان عمداً أو الدية كاملة وإن لم تكن فيه حياه مستقرة بل كانت حركته كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه الدية كاملة يؤدب الثاني وإن بقي الجنين حياً وبقي زمناً سالماً لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته (الفصل الثالث) إن الدية انما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعداً فإن كان لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط ميتاً وبهذا قال المزني، وقال الشافعي فيه دية كاملة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته ولنا أنه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتاً وكالمذبوح، وقولهم إنا علمنا حياته قلنا وإذا أسقط ميتاً وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضاً(9/546)
(مسألة) (وإن اختلفا في حياته ولا بينة لهما ففي أيهما يقدم قوله؟ وجهان) (أحدهما) يقدم قول الولي لأن الأصل حياته فإن الجنين إذا بلغ أربعة أشهر نفخ فيه الروح (والثاني) قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته من الدية الكاملة (فصل) إذا دعت المرأة على رجل أنه ضربها فأسقط جنينها فأنكر الضرب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الضرب، وإن أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فالقول قوله أيضاً مع يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت، ولا يلزمه اليمين على البت لأنها يمين على نفي فعل الغير والأصل عدمه، وإن ثبت الإسقاط والضرب ببينة أو إقرار فادعى أنها أسقطته من غير ضربه فإن كانت أسقطته عقيب ضربه فالقول قولها لأن الظاهر أنه منه لوجوده عقيب شئ يصلح أن يكون سبباً له، وإن ادعى أنها ضربت نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الإسقاط فأنكرته فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم ذلك، وإن أسقطت بعد الضرب بأيام وكانت متألمة الى حين الإسقاط فالقول قولها، وإن لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب إنساناً فلم يبق متألماً ولا ضمناً ومات بعد أيام، وإن اختلفا في وجود التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه، وإن كانت متألمة في بعض المدة فدعى أنها برأت وزال ألمها وأنكرت ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه، وإن ثبت إسقاطها من الضربة(9/547)
فادعت سقوطه حياً وأنكرها فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم لها بينة باستهلاله لأن الأصل عدم ذلك وإن ثبتت حياته فادعت أنه لوقت يعيش مثله فأنكرها فالقول قولها مع يمينها لأن ذلك لا يعلم إلا من جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقيل قولها فيه كانقضاء عدتها ووجود حيضها وطهرها، وإن أقامت بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بخلافها قدمت بينتها لأنها مثبتة فقدمت على النافية لان المثبتة معها زيادة اعلم، وإن ادعت أنه مات عقيب إسقاطه وادعى أنه عاش مدة فالقول قولها لأن الأصل عدم حياته، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الجاني لأن معها زيادة علم، وإن ثبت أنه عاش مدة فما دعت أنه بقي متألماً حتى مات أنكر فالقول قوله لأن الأصل عدم التألم، فإن أقاما بينتين قدمت بينتها الان معها زيادة علم، ويقبل في استهلال الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة قول امرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالباً لأن الغالب أنه لا يشهد الولادة الا النساء والاستهلال يتصل بها، وهن يشهدن حال المرأة وولادتها وحال الطفل ويعرفن علله وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال، وإن اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب فيه دية كاملة فالدية في مال الجاني لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل اعترافا، وإن كانت مما تحمل العاقلة فيه الغرة فهي على العاقلة وباقي الدية في مال القاتل (فصل) وإن انفصل منها جنينان ذكر وأنثى فاستهل أحدهما واتفقوا على ذلك واختلفوا في المستهل فقال الجاني هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه لأن اصل براءة(9/548)
ذمته من الزائد على دية الأنثى، فإن كان لأحدهما بينة قدم بها وإن كان لهما بينتان وجبت دية الذكر لأن البينة قد قامت باستهلاله والبينة المعارضة لها نافية له والإثبات مقدم على النفي، فإن قيل فينبغي أن تجب ديتهما، قلنا لا تجب دية الأنثى لأن المستحق لها لم يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها فإن ادعى الاستهلال منها ثبت ذلك بالبينتين، وإن لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة فالقول قولهم مع أيمانهم فإذا حلفوا كان عليهم دية الأنثى وغرة إن كانت تحمل الغرة، وعلى الضارب تمام دية الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافه، وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل
ولم يعرف بعينه لزم العاقلة دية أنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك فيه والأصل براءة الذمة منه فلم يجب بالشك وتجب الغرة في الذي لم يستهل (فصل) إذا ضربها فألقت يداً ثم ألقت جنيناً فإن كان القاؤهما متقارباً أو بقيت المرأة متألمة الى أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين لأن الظاهر أن الضرب قطع يده وسرى الى نفسه فأشبه ما لو قطع يد رجل فسرى القطع إلى نفسه، ثم إن كان الجنين سقط ميتاً أو حياً لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة، وان ألقته حياً لوقت يعيش لمثله ففيه دية كاملة، وان بقي حياً فلم يمت فعلى الضارب ضمان اليد بديتها بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت، وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي يسئل القوابل فإن قلن إنها يد من لم تخلق فيه الحياة ففيها نصف الغرة وإن قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية(9/549)
ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حياً قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران على ما دل عليه حديث الصادق الصدوق في أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقى بعد ذلك شهران لأنه لا يحي إذا وضعته لأقل من ستة أشهر، والكلام فيما إذا لم يتخلل بين الضربة والإسقاط مدة طويلة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حنيئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه، وأما إن ألقت اليد وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن اليد وحدها بمنزلة من قطع يداً فاندملت ثم مات صاحبها ثم ينظر فإن ألقته ميتاً أو لوقت لا يعيش لمثله ففي اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده نصف ديته، وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين القاء اليد وبين القائه مدة يحتمل أن تكون الحياة لم تخلق فيه قبلها أري القوابل ههنا، فإن قلن إنها يد من لم تخلق فيه الحياة وجب نصف غرة وإن قلن إنها يد من خلقت فيه الحياة ولم يمض له ستة أشهر وجب فيه نصف الغرة لأنها يد من لا يجب فيه أكثر من غرة فأشبهت يد من لم تنفخ فيه الروح، وإن اشكل الأمر عليهن وجب نصف الغرة لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك (فصل) وإذا شربت الحامل دواه فألقت جنيناً فعليها غرة لا ترث منها شيئاً لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث(9/550)
من الغرة شيئاً لأن القاتل لا يرث من دية المقتول ويرثها سائر ورثته، فإن كان الجاني المسقط للجنين أباه أو غيره فعليه غرة لا يرث منها شيئاً لما ذكرنا (فصل) وإن جني على بهيمة فألقت جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم، وحكي عن أبي بكر ان فيه عشر قيمة أمه لانها جناية على حيوان يملك بيعه اسقطت جنينه أشبه جنين الأمة وهذا لا يصح لأن الجناية على الأمة تقدر من قيمتها في ظاهر المذهب ففي يدها نصف قيمتها وفي موضحتها نصف عشر قيمتها وقد وافق أبو بكر على ذلك فقدر جنينها من قيمتها كبعض أعضائها.
والبهيمة انما يجب بالجناية عليها قدر نقصها فكذلك في جنينها ولأن الأمة آدمية ألحقت بالأحرار في تقدير أعضائها من قيمتها بخلاف البهيمة (فصل) ودية الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب والورق لم تختلف بعمد ولا خطأ، وإن كان من الإبل وجبت في العمد ارباعاً على إحدى الروايتين، وفي الأخرى يجب خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمساها خلفات وفي الخطأ تجب أخماساً فإن لم تمكن قيمته مثل ان يوضحه عمداً فإنه يجب أربعة ارباعاً والخامس من أحد الأجناس الاربعة قيمته ربع قيمة الأربع، وإن قلنا بالرواية الأخرى وجب خلفتان وحقة وجذعة ويعتبر قيمته نصف قيمة حقة ونصف قيمة جذعة، وإن كانت خطأ وجب الخمس من الأجناس الخمسة من كل جنس بعير، وإن كان(9/551)
الواجب دية أنملة وقلنا تجب من ثلاثة أجناس وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة وإن قلنا ارباعاً وجب ثلاثة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها، وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس وعند أصحابنا ان قيمة كل بعير مائة وعشرون درهماً أو عشرة دنانير فلا فائدة في تعيين أسنانها، وان اختلفت قيمة الدنانير والدراهم مثل ان كانت العشرة الدنانير تساوي مائة درهم فقياس قولهم إذا جاء بما قيمته عشرة دنانير لزم المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فلزمه قبول ما يساويها (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وذكر أصحابنا أن القتل تغلظ ديته بالحرم والإحرام والأشهر
الحرم الرحم المحرم فيزاد لكل واحد ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الأربع وجب ديتان وثلث) وجملة ذلك أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء: إذا قتل في الحرم والأشهر الحرم وإذا قتل محرماً، ونص أحمد على التغليظ فيما إذا قتل محرماً في الحرم وفي الشهر الحرام، فأما ان قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر تغلظ ديته، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ، وقال أصحاب الشافعي تغلظ بالحرم والأشهر الحرم وذي الرحم، وفي التغليظ بالإحرام وجهان، وممن روي عنه التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان وعطاء وطاوس ومجاهد وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وقتادة والاوزاعي ومالك والشافعي وإسحاق واختلف القائلون بالتغليظ في صفته فقال اصحابنا يغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الأربع وجبت ديتان وثلث(9/552)
قال أحمد في رواية ابن منصور فيمن قتل محرماً في الحرم في الشهر الحرام فعليه اربعة وعشرون الفاً وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ.
وقال أصحاب الشافعي صفة التغليظ ايجاب دية العمد في الخطأ ولا يتصور التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في العمد فإذا قتل ذا رحم محرم عمداً فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة واربعون خلفة وتغليظها في الذهب الفضة أن ينظركم قيمة اسنان الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة؟ ثم يحكم بزيادة ما بينهما كانت قيمتها مخففة ستمائة وفي العمد ثمانمائة وذلك ثلث الدية المخففة، وعند مالك تغلظ في الأب والأم والجد دون غيرهم واحتجا على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه انه اخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين جذعة واربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئاً وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعاً، ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين لأن ما أوجب التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا كالحرام والإحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام لأن الشرع لم يرد بتغليظه.
واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح ان امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان رضي الله عنه فيها آلاف وألفين تغليظاً للحرم وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم او ذا رحم او في الشهر الحرام فعليه دية وثلث(9/553)
وعن ابن عباس أن رجلاً في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال ديته اثنا عشر ألفاً وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر فثبت إجماعاً وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين والقائلين بالتغليظ واحتجوا على التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد مع عدم العذر أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف (مسألة) (وظاهر كلام الخرقي ان الدية لا تغلظ لشئ من ذلك وهو قول الحسن والشعبي والنخعي وأبي حنيفة وابن المنذر) وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " لم يزد على ذلك، وعلى أهل الذهب ألف مثقال.
وفي حديث ابن شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وهذا القتيل كان بمكة في حرم الله تعالى ولم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على الدية ولم يفرق بين الحرم وغيره.
وقال الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وهذا يقتضي أن تكون الدية واحدة في كل مكان وكل حال ولأن عمر أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه لم يزد على مائة(9/554)
وروى الجوزجاني بإسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما احيا من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم ان تاسا كانوا يقولون ان الدية تغلظ في الشهر الحرام اربعة آلاف فتكون ستة عشر ألفاً فألغى عمر ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثني عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهم.
قال إبن المنذر وليس بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح ففعل عمر في حديث قتادة أولى وهو مخالف لغيره فيقدم على قول من خالفه وهو أصح في الرواية مع موافقة الكتاب والسنة والقياس
(فصل) ولا تغلظ الدية بموضع غير حرم مكة وقال أصحاب الشافعي تغلظ الدية بالقتل في المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت حرم مكة ولا يصح القياس لأنها ليست محلاً للمناسك فأشبهت سائر البلدان.
ولا يصح قياسها على الحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أي بلد هذا؟ أليست البلدة - قال - فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " وهذا يدل على أنه أعظم البلاد حرمة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل في الجاهلية " وتحريم الصيد ليس هو العلة في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه صيداً ولا يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرحل والعارضة والقائمة وشبهه(9/555)
(مسألة) (وان قتل مسلم كافراً عمداً ضعفت الدية على قاتله لإزالة القود كما حكم عثمان رضي الله عنه) روى احمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلاً قتل رجلاً من أهل الذمة فرفع الى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه الف دينار فذهب اليه أحمد رحمه الله وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور إذا قلع عين صحيح مماثلة لعينه دية كاملة لما درأ عنه القصاص وأوجب على سارق التمر المعلق مثلي قيمته لما درأ عنه القطع.
وذهب جمهور العلماء الى إن دية الذمي في العمد والخطأ واحد لعموم الأخبار فيها وكما لو قتل حرا عبداً عمداً فإنه لا تضعف القيمة عليه ولأنه بدل متلف فلم يتضاعف بالعمد كسائر الأبدال (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن جنى العبد خطأ فسيده بالخيار بين فدائه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته أو تسليمه ليباع في الجناية) وجملة ذلك أن جناية إذا كانت موجبة للمال أو كانت موجبة للقصاص فعفا عنها الى المال تتعلق برقبته لأنه لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمة سيده او لا يجب شئ ولا يمكن إلغاؤها لانها جنايتها آدمي فوجب اعتبارها كجناية الحر، ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره
وعدم تكليفه فالعبد أولى ولا يمكن تعليقها بذمته لأنه يفضي إلى الغائها أو تأخير حق المجني عليه(9/556)
الى غير غاية ولا بذمة السيد لأنه لمم يجن فتعين تعليقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته فتعلق برقبتة كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته أو أقل أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن واسحاق، وروي ذلك عن الشعبي وعطاء ومجاهد وعروة والحسن والزهري وحماد لأنه ان دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه، وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها وإن طالب المجني عليه السيد بتسليمه اليه لم يجبر عليه السيد لما ذكرنا (مسألة) (وإن كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان) (إحداهما) هي كالتي قبلها يخير بين تسليمه أو أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت الجناية بقدر قيمته والرواية الثانية يلزمه تسليمه أو أن يفديه بأرش الجناية بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه إذا عرض للبيع ربما رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه وللشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه فكان الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات(9/557)
(مسألة) (وإن سلمه اليه السيد فأبى ولي الجناية الجناية قبوله وقال بعه أنت وادفع ثمنه الي فهل يلزم السيد ذلك؟ على روايتين) (إحداهما) لا يلزمه لأنه إذا سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به، ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة، وقد أدها.
(والثانية) يلزمه لأن الجناية تقتضي وجوب أرشها وأرشها هو قيمة العبد (مسألة) (وإن جنى عمدا فعفا الولي على القصاص على رقبته فهل يملكه بغير رضا السيد؟ على روايتين)
(إحداهما) لا يملكه لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلأن لا يملكه بالعفو أولى، ولأنه أحد من عليه قصاص فلا يملك بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص انتقل حقه الى المال فصار كالجاني جناية موجبة للمال (والثانية) أنه يملكه لأنه مملوك استحق اتلافه فاستحق ابقاء على ملكه كعبده الجاني عليه (فصل) قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله يقول إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى، وإن كان أكثر من ثمنه، وإن قطع يد حر فعليه يد الحر، وإن كان ثمنه أقل وإن أمره سيده أن يجرح رجلاً فما جنى فعليه قيمة جناية، وإن كان أكثر من ثمنه، وإن قطع يد حر لأنه بأمره وكان علي وابو هريرة يقولان إذا امر عبده ان يقتل فإنما هو سوطه يقتل الولي ويحبس العبد، وقال احمد بن بهز ثنا حماد بن سلمة ثنا قتادة عن حلاس ان عليا قال: إذا أمر الرجل عبده فقل إنما هو(9/558)
كسوطه أو كسيفه يقتل المولى، والعبد يستودع السجن ولأنه فوت شيئاً بأمره فكان على السيد ضماه كما لو استدان بأمره (مسألة) (وإن جنى على اثنين خطأ اشتركا فيه بالحصص وإن كان بعضها بعد بعض) وبهذا قال الحسن وحماد ربيعة وأصحاب الرأي والشافعي، وعن شريح أنه قال يقضى لآخرهم وبه قال الشعبي وقتادة لانها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها على المستحق قبله كجناية المملوك الذي لم يجز، وقال شريح في عبد شج رجلاً ثم آخر ثم آخر فقال شريح يدفع إلى الأول إلا أن يفديه مولاه ثم يدفع الى الثاني ثم يدفع الى الثالث ولنا أنهم تساووا في سبب تعلق الحق فتساووا في الاستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق (مسألة) (وإن عفا أحدهما أو مات المجني عليه فعفا بعض ورثته فهل يتعلق حق الباقين بجميع العبد أو بحصتهم منه؟ على وجهين) (أحدهما) يستحق جميع العبد لأن سبب استحقاقه موجود وإنما امتنع ذلك لمزاحمة الآخر له وقد زال المزاحم فثبت له الحق جميعه لوجود المقتضي وزوال المانع فهو كما لو جنى عليه إنسان ففداه سيده ثم جنى(9/559)
على آخر (والثاني) لا يستحق إلا حصته لأنه لم يثبت له قبل العفو إلا حصته فكذلك بعده لأن العفو عما يلزم السيد عفو عنه لا عن غيره (فصل) فإن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار إمساكه بعد الجناية لأنه منع من تسليمه بإعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه، ونقل ابن منصور عن أحمد أنه أعتقه عالماً بجنايته فعليه دية المقتول، وإن لم يكن عالماً بها فعليه قيمة العبد لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختاراً لفدائه بخلاف ما إذا لم يعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته (فصل) وإن باعه أو وهبه صح لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان المشتري عالماً بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه اليه كالسيد الأول وإن لم يعلم فله الخيار بين امساكه ورده كسائر المعيبات (مسألة) (وإن جرح العبد حراً فعفا عنه ثم مات من الجراحة ولا مال له وقيمة العبد عشر دية الحر واختار السيد فداءه وقلنا يفديه بقيمته صح العفو في ثلثه) لأنه ثلث ما مات عنه ويبقى الثلثان للورثة، وإن قلنا يفديه بديته صح العفو في خمسة أسداسه(9/560)
وللورثة سدسه لأن العفو صح في شئ من قيمته وله بزيادة الفداء تسعة أشياء بقي للورثة ألف إلا عشرة أشياء تعدل شيئين اجبر وقابل يصر ألف يعدل اثني عشر شيئا فالشئ إذاً يعدل نصف سدس الدية وللورثة شيئان فتعدل السدس والله أعلم.
(فصل في الجناية على العبد) إذا قتل عبد مثله عمداً فسيد المقتول مخير بين القصاص والعفو فإن عفا إلى مال تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداه بأقل الامرين من قيمته أو قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها
بدل عنه وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عبده وعنه رواية أخرى أن سيده إن اختار فداءه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ وقد ذكرناه (فصل) فإن قتل عشرة أعبد عبداً عمداً فعليهم القصاص فإن اختار السيد قتلهم فله ذلك وان عفا إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم عشرها يباع منه بقدرها أو يفديه سيده وإن اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض فله ذلك لأن له قتل الجميع والعفو عنهم، وان قتل عبد عبدين لرجل واحد فله قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين برقبته فإن كانا لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه اسبق فإن عفا عنه الأول قتل بالثاني وان(9/561)
قتلهما دفعة واحدة اقرع بين السيدين فمن وقعت له القرعة اقتص وسقط حق الآخر وان عفا عن القصاص أو عفا سيد القتيل الأول الى مال تعلق برقبة العبد وللثاني ان يقتص لأن تعلق المال بالرقبة لا يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون فإن قتله الآخر سقط حق الأول من القيمة لأنه لم يبق محل يتعلق به وان عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل الثاني برقبته أيضاً ويباع فيهما ويقسم ثمنه على قدر القيمتين ولم يقدم الأول بالقيمة كما قدمناه بالقصاص لأن القصاص لان يتبعض بينهما والقيمة يمكن تبعيضها، فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق كما لو اتلف اموالاً لجماعة واحداً بعد واحد (فصل) فإن قتل العبد عبداً بين شريكين كان لهما القصاص والعفو فإن عفا أحدهما سقط القصاص وينتقل حقهما الى القيمة لأن القصاص لا يتبعض فإن قتل عبدين لرجل واحد فله أن يقتص منه لأحدهما أيهما كان وسقط حقه من الآخر وله أن يعفو عنه الى مال وتتعلق قيمتهما جميعاً برقبته(9/562)
(باب ديات الأعضاء ومنافعها) وهي نوعان (أحدهما) الشجاج وهي ما كان في الرأس والوجه وسنذكرها في بابها (الثاني) ما كان في سائر البدن وينقسم قسمين (أحدهما) قطع عضو (والثاني) قطع لحم والمضمون في الآدمي ضربان (احدهما) ما ذكرنا (والثاني) تفويت منفعة كإذهاب السمع والبصر والشم والذوق والعقل ونحو ذلك
(من تلف ما في الإنسان منه شئ واحد ففيه الدية، وهو الذكر والأنف واللسان الناطق ولسان الصبي الذي يحركه بالبكاء) وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله سبحانه منه إلا واحداً كالأنف واللسان فيه دية كاملة لأن في اتلافه اذهاب منفعة الجنس واذهابها كالنفس (مسألة) (وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفهما كالعينين والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة وتندوتي الرجل واليدين والرجلين والخصيتين والاليتين) لأن في إتلافهما اذهاب منفعة الجنس فكان فيهما الدية وفي أحدهما نصفها وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً وقد روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له وكان في كتابه " وفي الأنف إذا أوعب جذعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل(9/563)
الواحدة نصف الدية " رواه النسائي ورواه ابن عبد البر وقال كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه متفق عليه إلا قليلاً، وعن أحمد في الشفة السفلى ثلثا الدية وفي العليا ثلثها يروى هذا عن زيد بن ثابت لأن النفع بالسفلى أعظم لأنها تدور لأنها تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام، والأولى أصح لقول أبي بكر الصديق وعلي رضي الله عنهما ولأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما كاليدين ولا عبرة بزيادة النفع كاليمنى مع اليسرى (مسألة) (وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز ثلثها وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة) وجملة ذلك أن ما في البدن منه ثلاثة ففيها الدية وفي كل واحد ثلثها وذلك المنخران والحاجز بينهما وبهذا قال إسحاق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من الأصابع والأجفان، وعنه المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة حكاها أبو الخطاب قال أحمد في كل زوجين من الانسان الدية وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين اذهب
الجمال كله والمنفعة فأشبه قطع اليدين، فعلى هذا الوجه في قطع أحد المنخرين نصف الدية وإن قطع معه الحاجز ففيه حكومة، وان قطع نصف الحاجز أو أقل أو أكثر لم يزد على حكومة، وعلى الأول في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع(9/564)
جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث الدية يقدر بالمساحة، وان اشق الحاجز ففيه حكومة وان بقي منفرجاً فالحكومة فيه أكثر والأول أظهر لأن ما كان فيه ثلاثة أشياء ينبغي أن يوزع على جميعها كما وزعت الدية ارباعاً على ما هو أربعة أشياء كأجفان العينين وانصافاً على ما هو اثنان كاليدين (مسألة) (وفي الأجفان الأربعة الدية وفي كل واحد ربعها) كما ذكرنا فيما فيه منه اثنان (مسألة) وفي اصابع اليدين الدية وكذلك أصابع الرجلين وفي كل اصبع عشرها) لانها عشر الدية على عددها كما قسمت على عدد الأجفان ولما روى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه وهذه سواء " يعني الإبهام والخنصر أخرجه البخاري (مسألة) (وفي كل أنملة ثلث عقلها) لأن في كل اصبع ثلاث أنامل فتقسم دية الأصبع عليها كما قسمت دية اليد على الأصابع بالسوية إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل نصف عقلها وهو خمس من الإبل (مسألة) (وفي الظفر خمس دية الأصبع وهكذا ذكره أبو الخطاب) يعني إذا قلعه ولم يعد والتقديرات يرجع فيها الى التوقيف فإن لم يكن فيها توقيف فالقياس أن فيه حكومة كسائر الجراح التي ليس فيها مقدر(9/565)
(مسألة) وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد أثغر يعني ألقى أسنانه ثم عادت والأضراس والأنياب كالأسنان ويحتمل أن يجب فيها دية واحدة)
لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن، وقد روى ذلك عن عمرو بن الخطاب وابن عباس ومعاوية وسعيد بن المسيب وعروة وعطاء وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن، وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم " في السن خمس من الإبل " رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن البني صلى الله عليه وسلم قال " في الأسنان خمس خمس " رواه أبو داود، فأما الأضراس فأكثر أهل العلم على أنها مثل الأسنان منهم عروة وطاوس وقتادة والزهري ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو حنيفة ومحمد ابن الحسن، وروي ذلك عن ابن عباس ومعاوية، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الاضراس ببعير بعير، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: لو كنت انا لجعلت في الاضراس بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء رواه مالك في موطئه وعن عطاء نحوه، وحكي عن أحمد أن فيها دية واحدة فيتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للإجماع على أن في كل سن خمساً من الإبل وورود الحديث به فيكون في الأسنان والأنياب ستون بعيراً لأن فيه أربع ثانيا واربع رباعيات واربعة انياب فيها خمس خمس وفيه عشرون ضرساً في كل جانب عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيراً(9/566)
في كل ضراس بعيران فتكمل الدية وحجة من قال هذا انه ذو عدد تجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية الإنسان كالأصابع والأجفان وسائر مال في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية كسائر منافع الجنس ولأن الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأصابع سواء الثنية والضرس سواء والأسنان سواء هذه وهذه سواء " وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة " في الأسنان خمس خمس " ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولأن كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان، وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال لا اعتبرها بالأصابع، فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه فمن ذهب الى قولنا خالف المعنى الذي ذكروه ومن ذهب الى قولهم خالف التسوية الثانية بقياس سائر الأعضاء من جنس واحد فكان ما
ذكرناه مع موافقة الأخبار وقول أكثر أهل العلم أولى، وأما على قول عمر إن في كل ضرس بعيراً فيخالف القياس والأخبار جميعاً فإنه لا يوجب الدية كاملة وإنما يوجب ثمانين بعيراً ويخالف بين الأعضاء المتجانسة والله أعلم (مسألة) قال (إذا قلعت ممن قد ثغر وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حداً إذا قلعت سنه لم يعد بدلها) يقال ثغر وأثغر إذا كان كذلك فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شئ(9/567)
هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفاً وذلك لأن العادة عود سنه فلم يجب فيها في الحال شئ كنتف شعره لكن ينظر عودها فإن مضت مدة يئس من عودها وجبت ديتها قال احمد يتوقف سنة لأنها الغالب في نباتها وقال القاضي إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية، وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن ان عادت قصيرة او مشوهة ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك بسبب الجناية عليها فإن أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها ديتها بقدر ما نقص وكذلك إن كانت فيها ثلمة أمكن تقديرها ففيه بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنه ذلك القدر، وإن نبتت أطول من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل لا شئ فيها لأن هذا زيادة والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها، وإن نبتت مائلة عن صف الأسنان حيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها، وإن كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل بها ونقص نفعها وإن نبتت صفراء أو حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها، وإن نبتت سوداء، أو خضراء ففيها روايتان حكاهما القاضي (إحداهما) فيها دية (والثانية) حكومة كما لو سودها من غير قلعها وإن مات الصبي قبل اليأس من عودها فعلى وجهين (أحدهما) لا شئ له لأن الظاهر أنه لو عاش عادت فلم يجب فيها شئ كما لو نتف شعره (والثاني) فيه الدية لأنه قلع سناً يئس من عودها فوجبت ديتها كما لو مضى زمن تعود في مثله فلم تعد، وإن قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر(9/568)
أنها لا تعود فإن عادت لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك
لا يرد شيئاً لأن العادة أنها لا تعود فمتى هبة من الله مجددة فلا يسقط بذلك ما وجب له بقلع سنه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا انه عادله في مكانها مثل التي قلعت فلم يجب له شئ كالذي لم يثغر وإن عادت ناقصة أو مشوهة فحكمها حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة يئس من عودها وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك فهي كسن الكبير إذا عادت (فصل) وإن قلع سناً مضطربة لكبر أو مرض فكانت منافعها باقية من المضع وحفظ الطعام والريق وجبت ديتها وكذلك إن ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض منافعها باق فكملت ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وإن ذهبت منافعها كلها فهي كاليد الشلاء على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن قلع سناً فيها داء آكلة فإن لم يذهب شئ من اجزائها ففيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة، وإن سقط من اجزائها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي وإن كانت أحد ثنيتيه قصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها (فصل) وإن جنى على سنه جان فاضطربت وطالت عن الأسنان وقيل أنها تعود الى مدة الى(9/569)
ما كانت عليه انتظرت اليها فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها، وإن عادت كما كانت فلا شئ فيها كما لو جنى على يد فمرضت ثم برأت، وإن بقي فيها اضطراب ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كاملة كما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا وعلى الأول حكومة لجنايته، وإن مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كما ذكرنا وإن قالوا يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت الحكومة فيها لئلا يفضي إلى إهدار الجناية وإن عادت سقطت الحكومة كما ذكرنا في غيرها (مسألة) (وتجب دية اليد والرجل في قطعهما من الكوع والكعب فإن قطعهما من فوق ذلك لم يزد على الدية وقال القاضي في الزائد حكومة أجمع أهل العلم على وجوب الدية في اليدين والرجلين ووجوب نصفها في إحداهما وقد روي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله علي وسلم قال " في اليدين الدية وفي الرجلين الدية " وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
ابن حزم " وفي اليد خمسون من الإبل " واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لأن اسم اليد عند الاطلاق ينصرف اليها لأن الله تعالى لما أمر بقطع يد السارق كان الواجب قطعها من الكوع فإن قطع يده من فوق الكوع فقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية واحدة نص عليه في رواية أبي طالب وهذا قول عطاء وقتادة وابن أبي ليلى ومالك وهو قول بعض اصحاب الشافعي وظاهر مذهبه عند اصحابه انه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها الى الكوع ولأن المنفعة المقصودة في اليد من(9/570)
البطش والأخذ والدفع بالكف وما زاد تابع للكف والدية تجب في قطعها من الكوع فيجب في الزائد حكومة قال أبو الخطاب وهو قول القاضي ولنا أن اليد اسم للجميع الى المنكب بدليل قوله تعالى (وأيديكم إلى المرفق) ولما نزلت آية التيمم مسح الصحابة الى المناكب وقال ثعلب اليد الى المنكب وفي عرف الناس ان جميع ذلك يسمى يداً فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلا يداً فلا يلزمه أكثر من ديتها فأما قطعها في السرقة فلأن المقصود يحصل به وقطع بعض الشئ يسمى قطعاً له كما يقال قطع ثوبه إذا قطع جانباً منه وقولهم إن الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا ولذلك تجب بقطع الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها من الكوع أكثر مما يجب بقطع الأصابع والذكر يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب في قطع حشفته وأما إذا قطع يده من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانياً حكومة لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع الأول فوجب بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو كما لو فعل ذلك اثنان (فصل) وإن كان له كفان في ذراع او يدان على عضد وإحداهما بطشة دون الأخرى أو احداهما أكثر بطشاً أو في سمت الذراع والأخرى منحرفة عنه او إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى هي الأصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمداً وفي الزائد حكومة سواء قطعها مفردة أو مع الأصلية وعلى قول ابن حامد لا شئ فيها لأنها عيب فهي كالسلعة في اليد وان استويا من(9/571)
كل الوجوده وكانتا غير باطشتين ففيهما ثلث دية اليد او حكومة ولا تجب دية اليد كاملة لأنهما لا نفع فيهما
فهما كاليد الشلاء وان كانتا باطشتين ففيهما جميعاً دية اليد وهل تجب حكومة مع ذلك؟ على وجهين بناء على أن الزائدة هل فيها حكومة أو لا؟ وإن قطع إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون هي الزائدة فلا تقطع الأصلية بها وفيها نصف ما فيهما لتساويهما وان قطع اصبعاً من إحداهما وجب ارش نصف اصبع وفي الحكومة وجهان وان قطع ذو اليد التي لها طرفان وجب القصاص فيهما على قول ابن حامد لأن هذا نقص لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره لا يجب لئلا يأخذ يدين بيد واحدة ولا نقطع احداهما لأننا لا نعرف الاصلية فنأخذها زائدة بأصلية (فصل) وفي الرجلين الدية خلاف وفي احداهما نصفها لما ذكرنا من الحديث والمعنى في اليدين وفي تفصيلها كما ذكرنا من التفصيل في اليدين ومفصل الكعبين ههنا مثل مفصل الكوعين في اليدين وفي قدم الأعرج ويد الأعسم الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم اعوجاج في الرسغ وليس ذلك عيباً في قدم ولا كف فلم يمنع كمال الدية فيهما وذكر أبو بكر أن في كل واحد منهما ثلث الدية كاليد الشلاء ولا يصح لأنهما لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما بخلاف اليد الشلاء فإن كان له قدمان في رجل واحدة فالحكم على ما ذكرنا في اليدين وان كانت احدى القدمين أطول من الأخرى وكان الطويل مساوياً للرجل الأخرى فهو الأصلي وان كان زائداً عنها والآخر مساو للرجل الأخرى فهو(9/572)
الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه المشي على الطويلتين مشياً مستقيما فيهما الأصليتان وإن لم يمكنه فقطع وأمكنه المشي على القصيرين فيهما الاصليان والآخران زائدين فإن أشل الطويلين ففيهما الدية لأن الظاهر انهما الاصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه المشي على القصيرين تبين انهما الأصليان وإن لم يمكنه فالطويلان هما الأصليان (مسألة) (وفي مارن الأنف وحشفة الذكر وحلمتي الثديين دية العضو كاملة) في الأنف الدية إذا قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن المنذر وابن عبد البر عمن يحفظه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية وفي رواية مالك في الموطأ اذا اوعى جدعاً يعني استوعب واستوصل ولأنه عضو فيه جمال
ومثفقة ليس في البدن منه الا شئ واحد فأشبه اللسان (فصل) وإنما الدية في مارنه وهو مالان منه هكذا قال الخليل وغيره ولأنه يروى عن طاوس أنه قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أوعب مارنه جدعاً الدية وفي بعضه اذا قطع بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك يروى هذا عن عمر بن عبد العزيز والشعبي والشافعي (مسألة) (ويحتمل أن يجب على من استوعب الأنف جدعاً دية وحكومة في القصبة) اذا قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في قياس المذهب ويحتمل أن يجب في المارن الدية وحكومة(9/573)
في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " في الأنف إذا أوعب جدعاً الدية " ولأنه عضو واحد فلم يجب فيه أكثر من دية واحدة كالذكر إذا قطع من أصله وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق اذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل دية أحدهما في الآخر أما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وفي الثدي كله ما في حلمته، فأما ان قلع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من الأنف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته (مسألة) (وفي الذكر الدية) أجمع أهل العلم على ذلك لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الذكر الدية " وذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء في الدية لعموم الحديث وسواء قدر على الجماع أو لم يقدر وفي حشفة الذكر الدية وهو قول جماعة من أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفاً لأن منفعته تكمل بالحشفة كما(9/574)
تكمل منافع اليد بالأصابع فكملت الدية بقطعها كالأصابع، وان قطع الذكر كله او الحشفة وبعض العصبة لم يجب أكثر من الدية كما لو قطع الأصابع وبعض الكف (مسألة) (وفي الثديين الدية) ولا نعلم خلافاً في أن في ثديي المرأة وفي الواحد منهما نصف الدية قال إبن المنذر أجمع كل
من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين الدية وممن حفظنا عنه ذلك الحسن والشعبي والزهري ومكحول وقتادة ومالك والثوري والشافعي واصحاب الرأي ولأن فيهما جمالا ونفعاً فأشبها اليدين والرجلين (مسألة) (وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما) نص عليه أحمد وروي نحو هذا عن الشعبي والنخعي والشافعي وقال مالك والثوري ان ذهب اللبن وجبت ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه.
ونحوه قال قتادة: اذا ذهب الرضاع بقطعهما ففيهما الدية ولنا أنه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة الذكر وبيان ذهاب المنفعة ان بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وان قطع الثديين كلهما فليس فيهما الا دية كما لو قطع الذكر كله وان حصل مع قطعهما جائفة وجب فيها ثلث الدية مع ديتهما(9/575)
وان ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو أشل يديه، وان جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا إن الجناية سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد وجوده وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه أرشه لأن الأصل براءة ذمته فلا يجب فيها شئ بالشك وان جنى عليهما فنقص لبنهما او جنى على ثديين ناهدين فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة لنقصه الذي نقصهما (مسألة) (وفي ثديي الرجل وهما التندوتان الدية) وبه قال إسحاق وحكي ذلك قولا للشافعي لأنه ذهب بالجمال من منفعة فلم يجب دية كما لو أتلف العين القائمة واليد الشلاء، وقال الزهري في حلمة الرجل خمس من الإبل، وعن زيد بن ثابت فيه ثمن الدية.
ولنا أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه الرجل كسائر الأعضاء ولأنهما عضوان في البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما.
من جنسهما فوجب فيهما الدية كاليدين ولأنه أذهب
الجمال على الكمال فوجبت فيهما الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني الأصم وأنف الأخشم عند الجميع ويفارق العين القائمة لانه ليس فيهما جمال كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية فلم تكمل ديته كاليدين إذا شلتا بخلاف مسئلتنا(9/576)
وما في اللثة منها يسمى سنخاً فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه، وإن قلعها الأول بسنخها لم يجب فيها أكثر من ديتها كما لو قطع اليد من كوعها، وان فعل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد فقلع السنخ ففيه ديتها وحكومة لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني حكومة كما لو فعله غيره وكذلك لو قطع الأصابع ثم قطع الكف، وإن كسر بعض الظاهر ففيه من دية السن بقدره إن كان ذهب النصف وجب نصف الأرش وإن كان الذاهب الثلث وجب الثلث، وإن جاء آخر فكسر بقيتها فعليه بقية الأرش، فإن قلع الثاني سنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضاً فليس على الثاني للسنخ شئ لأنه تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من أصابعه أنملة ثم قطع الثاني يده من الكوع، وإن كان الأول كسر نصف السن طولاً دون سنخه فجاء الثاني فقلع الباقي بالسنخ كله فعليه دية النصف الباقي وحكومة لنصف السنخ الذي بقي من كسر الأول كما لو قطع الأول اصبعين من يد ثم جاء الثاني فقطع الكف كله، فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول فالقول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة السن، وانكشفت اللثة عن بعض السن فالدية في قدر الظاهر عادة دون ما انكشف على خلاف العادة، وإن اختلفا في قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن(9/577)
لم يكن لها شئ تعتبر به ولم يكن أن يعرف ذلك من أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته ويحتمل أن يجب على من استوعب جدعاً دية وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي وقد ذكر كقطع اليد من نصف الساعد (مسألة) (وفي العينين الدية)
أجمع أهل العلم على ذلك وعلى أن في العين الواحدة نصفها لقول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي العين الواحدة خمسون من الإبل " رواه مالك في الموطأ ولأن العينين من أعظم الجوارح نفعاً فكانت فيهما الدية وفي احدهما نصفها كاليدين.
إذا ثبت هذا فيستوي في ذلك الصغيرتان والكبيرتان والمليحتان والقبيحتان والصحيحتان والمريضتان والحولاء والرمصاء فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم تنقص الدية وان نقص من البصر نقص من الدية بقدره (مسألة) (وفي الأذنين الدية) روى ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ومالك في إحدى الروايتين عنه، وقال في الأخرى فيها حكومة لأن الشرع لم يرد فيهما بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الأذنين الدية " ولأن عمر وعلياً قضيا فيهما بالدية، فإن قيل فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه قضى في الاذنين بخمسة عشر بعيراً قلنا لم يثبت(9/578)
ذلك قاله ابن المنذر ولأن ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية وفي احدهما نصف الدية بغير خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما (مسألة) (وفي اللحيين الدية) وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى لأن فيهما نفعاً وجمالاً وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، وفي أحدهما نصفها كإحدى اليدين والرجلين ونحوهما مما في البدن منه شيئان (مسألة) (وفي الأليتين الدية) قال إبن المنذر كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية وفي كل واحد منهما نصفها منهم عمرو بن شعيب والنخعي والشافعي وأصحاب الرأي ولأنهما عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين فوجبت فيهما الدية وفي احداهما نصفها كاليدين،
والأليتان هما ما علا وأشرف عن الظهر وعن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا اخذتا الى العظم الذي تحتهما، وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجب فيه الدية وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار وجبت حكومة لأنه نقص لم يعرف قدره(9/579)
(مسألة) (وفي الأنثيين الدية) لا نعلم في هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي البيضتين " الدية ولأن فيهما الجمال المنفعة فإن النسل يكون بهما فاشبهما اليدين، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة أن في الصلب الدية وفي الأنثيين الدية وفي احداهما نصف الدية في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعيد بن المسيب ان في اليسرى ثلثي الدية وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى اكثر لأن النسل يكون منها ولنا أن ما وجبت الدية في شيئين منه وجب في احدهما نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما ذوا عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما كالأصابع وما ذكروه ينتقض بالأصابع، وكذلك الأجفان تستوي ديتهما مع اختلاف نفعهما ثم يحتاج الى إثبات الذي ذكره وان رض أنثييه أو أشلهما كملت ديتهما كما لو أشل يديه أو ذكره وإن قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن ذلك نفعهما فلم تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين وان قطع احداهما فذهب النسل لم يجب أكثر من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق (مسألة) (وفي إسكتي المرأة الدية) والإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون الشفران(9/580)
حاشيتا الاسكتان كما ان أشفار العينين أهدابهما وفيهما دية المرأة إذا قطعا، وبهذا قال الشافعي وقاله الثوري إذا لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان اذا بلغا العظم وذلك لأن فيهما جمالاً ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، وفي احداهما
نصف الدية كما ذكرنا في غيرهما، وان جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو جنى على شفتيه فأشلهما ولا فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو طويلتين من بكر او ثيب او صغيرة او كبيرة أو محفوظة او غير محفوظة لأنهما عضوان فيهما الدية فاستوى فيه جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا فرق بين الرتقاء وغيرها لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ذلك من ديتهما كما أن الصمم لم ينقص دية الاذنين والحفظ هو الختان في حق المرأة (مسألة) (وفي ركب المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك عانة الرجل) لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شئ مع فرج المرأة وذكر الرجل ففيه الحكومة مع الدية كما لو أخذ مع الأنف أو الشفتين من اللحم الذي حولها (مسألة) (وفي اللسان الدية اذا كان ناطقا) أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق، وروي ذلك عن ابي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة واصحاب الرأي واهل الحديث وغيرهم(9/581)
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي اللسان الدية " ولان فيه جمالاً ومنفعة فأشبه الأنف فأما الجمال فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمال فقال " في اللسان " ويقال جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الإنسان لولا اللسان الا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة، وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقتضي الحاجات وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق البين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعاً وأتمها جمالاً فإيجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه.
وانما تجب الدية في اللسان الناطق وأما الأخرس فسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (فصل) فإن قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب لأنه لسان لا كلام فيه فأشبه الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وانما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير ويخالف الأخرس فإنه علم أن لسانه أشل الا ترى أن اعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية؟ فإن بلغ حداً يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه فلم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام فهو كلسان الأخرس وان كبر فنطق ببعض الحروف وجبت فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان ناطقاً وإن كان قد بلغ الى حد يتحرك بالكباء وغيره فلم يتحرك فقطعه فلا دية فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحاً لتحرك، وان لم يبلغ الى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر سلامته وان(9/582)
قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو بعد قطعه من الخلاف.
(فصل) وفي أجفان العينين الدية وفي أحدهما ربع الدية لأن كل عدد تجب في جميعه الدية يجب في الواحد منها بحصته كالأصابع وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن مالك أنه لا مقدر فيها بل يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم ولنا أنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتقيها وتحفظها من الحر والبرد ولولاها لقبح منظرها فوجبت فيها الدية كاليدين وعن الشعبي أنه يجب في الأعلى ثلثا الدية وفي الأسفل ثلثها لأنه أكثر نفعاً ولنا أن كل عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كالأصابع فإن قلع العينين بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفرداً فوجب بإتلافهما جملة ديتان كاليدين والرجلين، وتجب الدية في أشفار عين الأعمى وهي الأجفان لأن ذهاب بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيهما كذهاب الشم لا يمنع وجوب الدية في الأنف.
(مسألة) (وفي قطع بعض المارن والاذن والحلم واللسان والشفة والحشفة والأنملة وشق الحشفة طولاً بالحساب من ديته يقدر بالأجزاء كالثلث والربع ثم يؤخذ مثله من الدية)
لأن ما وجبت الدية في جميعه وجبت في بعضه فإن كان الذاهب النصف وجب نصف الدية وإن كان الثلث وجب ثلثها، وإن كان أقل أو أكثر وجب بحساب ذلك كما بقسط دية اليد على الأصابع.(9/583)
(مسألة) (وفي شلل العضو وإذهاب نفعه والجناية على الشفتين بحيث لا يطبقان على الأسنان الدية) لأنه عطل نفعهما فأشبه ما لو أشل يده وكذلك ان استرختا فصارتا لا ينفصلان عن الأسنان لأنه عطل جمالها.
(فصل) وإن جنى على يديه فأشلهما وجبت ديتهما لأنه فوت منفعتهما فهو كما لو أعمى عينيه أو أخرس لسانه وإن أشل الذكر ففيه ديته لأنه ذهب بنفعه أشبه ما لو أشل لسانه وكذلك إن أشل انثييه كما لو اشل يديه وكذلك إن جنى على الاسكتين فأشلهما ففيهما الدية كما لو جنى على الشفتين فأشلهما ففيهما الدية وكذلك الأصابع إذا أشلهما لما ذكرنا وسائر الأعضاء إلا الاذن والانف وسنذكرهما إن شاء الله تعالى (مسألة) (وفي تسويد السن والظفر بحيث لا يزول ديته وعنه في تسويد السن ثلث ديتها وقال أبو بكر فيها حكومة) إذا جنى على سنه فسودها فحكي عن أحمد في ذلك روايتان(9/584)
(إحداهما) تجب ديتهما كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي ويروى عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث والثوري وأصحاب الراي وهو أحد قولي الشافعي (والرواية الثانية) عن أحمد أنه إن اذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وان لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهذا قول القاضي والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند اصحابه وهو اقيس لأنه لم يذهبها بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت وهذا قول أبي بكر ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف من الصحابة فكان إجماعاً ولأنه أذهب الجمال على
الكمال فكلمت ديتها كما لو قطع اذن الأصم وأنف الأخشم والظفر كذلك قياساً على السن وعن أحمد (رواية ثالثة) ان في تسويد السن ثلث ديتها والتقدير لا يثبت إلا بالتوقيف (فصل) فأما إن اصفرت او احمرت لم تكمل ديتها لأنه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه ذهب بجمالها واحتمل أن لا يكون فيه إلا حكومة لأن ذهاب جمالها لتسويدها أكثر فلم يلحق به غيرها كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد تسويدها ففيها ثلث ديتها أو حكومة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وعلى قول من لم يوجب فيها إلا حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها(9/585)
(فصل) فإن جنى على سنه فذهبت حدتها وكلت ففي ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك دية كاملة لأنها سن صحيحة كاملة فكملت ديتها كالمضطربة وإن ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره وإن قلعها قالع نقص من ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزءاً (مسألة) (وفي العضو الأشل من اليد والرجل والذكر والثدي ولسان الأخرس والعين القائمة وشحمة الأذن وذكر الخصي والعينين والسن السوداء والثدي دون حلمته والذكر دون حشفته وقصبة الأنف واليد والأصبع الزائدتين حكومة وعنه ثلث ديته) أما اليد الشلاء وهي اليابسة التي ذهبت منها منفعة البطش وكذلك الرجل مثلها في الحكم قياساً عليها والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة الصحيحة والسن السوداء فعن أحمد رحمه الله فيهن حكومة لأنه لا يمكن دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب الحكومة كاليد الزائدة وعنه فيهن ثلث الدية كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها رواه النسائي واخرجه أبو داود في العين وحدها وهو قول عمر ورواه قتادة عن خلاس عن عبد الله بن جريدة عن يحيى بن يعمر عن أبيه عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قضى في العين القائمة اذا قلعت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء اذا كسرت بثلث دية كل واحد منهن
ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة وقولهم لا يمكن ايجاب مقدر ممنوع فإننا قد ذكرنا التقدير وبيناه(9/586)
(فصل) قال القاضي قول أحمد في السن السوداء ثلث ديتها محمول على سن ذهبت منفعتها بحيث لا يمكنه ان بعض بها شيئاً أو كانت تتفتت فأما إن كانت منفعتها باقية ولم يذهب منها إلا لونها ففيه كمال ديتها سواء قلت منفعتها بأن يعجز عن عض الاشيئاء الصلبة أو لم يعجز لأنها باقية المنفعة فكملت ديتها كسائر الأعضاء وليس على من سودها إلا حكومة وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا والصحيح من مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر الأخبار وقضاء عمر وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها بتسويدها فكملت ديتها على من سودها كتسويد الوجه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها كاليد الشلاء وكالسن البيضاء اذا انقلعت ونبتت مكانها سوداء لمرض فيها فإن القاضي وأصحاب الشافعي سلموا انها لا تكمل ديتها (فصل) فإن نبتت أسنان صبي سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس خلق على هذه الصورة اشبه من خلق اسود الجسم والوجه جميعاً وان نبتت اولاً بيضاء ثم ثغر ثم عادت سوداء سئل أهل الخبرة فإن قالوا ليس السوداء لعلة ولا مرض ففيها كمال ديتها وان قالوا ذلك لمرض فعلى قالعها ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب الشافعي الحكم في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما خالفوا فيه ويحتمل أن يكون الحكم فيما كانت سوداء من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في فيه من ابتداء خلقته فيثبت حكمه في نقص ديتها كما لو كان طارئاً(9/587)
(فصل) وفي لسان الأخرس روايتان أيضاً كاليد الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت منفعته وبقيت صورته كالرجل الشلاء والأصبع والذكر إذا شلا وذكر الخصي والعينين إذا قلنا لا تكمل ديتهما وأشباه هذا كله يتخرج على روايتين (إحداهما) فيه ثلث الدية والأخرى حكومة (فصل) فأما اليد والرجل والأصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه إلا حكومة وقال القاضي هو في معنى اليد الشلاء فيخرج على الروايتين والذي ذكره شيخنا اصح لأنه لا تقدير في
هذا ولا هو في معنى المقدر ولا يصح قياس هذا على العضو الذي ذهبت منفعته وبقي جماله لأن هذه الزوائد لا جمال فيها انما هي شين في الخلقة وعيب يرد به المبيع وتنقص بالقيمة فيكيف يصح قياسه على ما يحصل به الجمال؟ ثم لو حصل به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه اختلافاً كثيراً فوجبت فيه الحكومة ويحتمل أن لا يجب فيه شئ لما ذكرنا (فصل) قد ذكرنا أن في الأصبع الزائدة حكومة وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وعن زيد بن ثابت ان فيها ثلث دية الأصبع وذكر القاضي أنه قياس المذهب على رواية ايجاب ثلث دية اليد في اليد الشلاء والأول اصح على ما ذكرنا ولا يصح قياسها على اليد الشلاء لما ذكرنا من الفرق بينهما والله أعلم (فصل) واختلفت الرواية في قطع الذكر دون حشفته وعلى قياسيه الثدي دون حلمته وقطع الكف بعد اصابعه فروى أبو طالب عن أحمد فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن أحمد في ذلك كله(9/588)
حكومة وهذا هو الصحيح لعدم التقدير فيه وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته وهذا لم تبق صورته انما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فأما قطع الذراع بعد قطع الكف والساق بعد قطع القدم فينبغي أن تجب الحكومة فيه وجهاً واحداً لأن ايجاب ثلث دية اليد فيه يفضي إلى أن يكون الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم وذهابهما واحداً مع تفاوتهما وعدم النص فيهما (مسألة) (وعنه في ذكر الخصي والعنين كمال ديته) أما ذكر العنين فأكثر أهل العلم على وجوب الدية فيه لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الذكر الدية " ولأنه غير مأيوس من جماعة وهو عضو سليم في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ وذكر القاضي فيه عن أحمد روايتين (إحداهما) تجب فيه الدية لذلك (والثانية) لا تكمل ديته وهو قول قتادة لأن منفعته الإنزال والإحبال والجماع وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل وبهذا فارق ذكر الصبي والشيخ واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد ابن عبد العزيز والشافعي وابن المنذر للخبر ولأن منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه (والثانية) لا يجب فيه
وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وقتادة وإسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين ولأن المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم تكمل ديته كالأشل والجماع يذهب في الغالب بدليل أن البهائم يذهب جماعها بخصائها والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي ان الجماع في ذكر العنين ابعد منه في ذكر الخصي واليأس من الإنزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين(9/589)
(مسألة) (فإذا قلنا لا تكمل الدية في قطع ذكر الخصي ان قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتان وإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لزمته دية واحدة للأنثيين وفي الذكر حكومة أو ثلث الدية) قال القاضي ونص أحمد على هذا وان قطع نصف الذكر بالطول فقال اصحابنا فيه نصف الدية والأولى ان تجب الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع به فوجبت الدية كاملة كما لو أشله أو كسر صلبه فذهب جماعه وان قطع قطعة منه مما دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر القطعة من جميع الذكر من الدية وإن خرج البول من موضع القطع وجب الأكثر من حصة القطعة من الدية أو الحكومة وان ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك (مسألة) (وإن أشل الأنف أو الأذن أو عوجهما ففيه حكومة وفي قطع الأشل منهما كمال الدية) إذا ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة وان قطعه قاطع بعد ذلك ديته وكذلك الأذن اذا جنى عليها فاستحشفت واستحشافها كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر في ذلك ديتها وكذلك قوله في الأنف إذا أشله لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله كاليد والرجل ولنا ان نفع الأذن باق بعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام(9/590)
في صماخه وهذا باق بعد شللها فإن قطعها قاطع بعد شللها ففيها ديتها لأنه قطع أذناً فيها جمالها ونفعها فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمياء أو حولاء وكذلك الأنف نفعه جمع الرائحة ومنع وصول الهوام الى دماغه وهذا باق بعد الشلل بخلاف سائر الأعضاء فإن جنى على الأنف فعوجه
أو غير لونه ففيه حكومة في قولهم جميعاً وكذلك الأذن إذا عوجها او غير لونها ففيها حكومة كالأنف (فصل) فإن قطع الأنف إلا جلدة بقي معلقاً بها فلم يلتحم واحتيج الى قطع الجلدة ففيه ديته لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وبعضه بالسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه الى قطع جميعه وان رده فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر ليس فيه إلا حكومة كالتي قبلها وقال القاضي فيه ديته وهو مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته ديته كما لو لم يلتحم ولأن ما أبين قد نجس فيلزمه ان يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر منع نجاسته ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات جملته طاهرة فكذلك أجزاؤه (مسألة) (وتجب الدية في أنف الأخشم والمخزوم)(9/591)
لأن أنف الأخشم لا عيب فيه وانما العيب في غيره فوجبت ديته كأنف غير الأخشم وأما المخزوم فأنفه كامل غير أنه معيب فأشبه العضو المريض ولذلك تجب في أذن الأصم لأن الصمم نقص في غير الأذن فلم يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً (مسألة) (وان قطع أنفه فذهب شمه وجبت ديتان لأن الشم في غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما في الآخر وكذلك إذا قطع أذنه فذهب سمعه يجب ديتان لأن السمع في غير الأذن فهو كالبصر مع الأجفان والنطق مع الشفتين) (مسألة) (وسائر الأعضاء إذا أذهبها بمنفعتها لم يجب إلا دية واحدة كالعين إذا قلعت فذهب ضوؤها لم يجب إلا دية واحدة) لأن الضوء فيها ومثل ذلك سائر الأعضاء إذا أذهبها بنفعها لم يجب إلا دية واحدة لأن نفعها فيها فدخلت ديته في ديتها ولأن منافعها تابعة لها تذهب بذهابها فوجبت دية العضو دون المنفعة كما لو قتله لم يجب إلا ديته (فصل) في دية المنافع قال الشيخ رحمه الله في كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم والذوق لا خلاف في وجوب الدية بذهاب السمع قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن في السمع الدية روى ذلك عن عمر وبه قال مجاهد وقتادة والثوري والاوزاعي وأهل الشام وأهل العراق ومالك(9/592)
والشافعي وابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وفي السمع الدية " وروى ابو المهلب عن أبي قلابة ان رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع فكان فيها الدية كالبصر، وإن ذهب السمع من إحدى الأذنين وجب نصف الدية كما لو ذهب البصر من إحدى العينين (مسألة) (وفي البصر الدية) لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر إحداهما نصف الدية كما لو أشل يداً واحدة، وليس في اذهابهما بنفعهما اكثر من دية واحدة كاليدين، وإن جني على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وان لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه الدية ذهب بسبب فعله (مسألة) (وفي الشم الدية) لأنه حاسة يختص بمنفعة فكان في ذهابها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافاً قال القاضي في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " وفي المشام الدية " (فصل) وفي الذوق الدية وكذلك قال أبو الخطاب لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس المذهب(9/593)
أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في لسان الأخرس لا دية فيه، وقد نص أحمد على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق دية لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى، واختلف أصحابنا الشافعي فمنهم من قال قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال لا نص له فيه ومنهم من قال قد نص على أن في لسان الأخرس حكومة وإن ذهب الذوق بذهابه قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه اجماعا على أنه لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل في منفعته دونه كسائر الأعضاء ولا تفريع على هذا القول
(مسألة) (وكذلك تجب في الكلام والعقل والمشي والأكل والنكاح) إذا جنى عليه فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته كاليد (مسألة) (وفي ذهاب العقل الدية) ولا نعلم فيه خلافاً روى ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي العقل الدية " ولأنه أكبر المعاني قدر أو أعظم الحواس نفعاً فإنه يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف(9/594)
وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس فإن نقص عقله نقصاً معلوماً وجب بقدره (فصل) فإن ذهب عقله بجناية لا توجب أرشاً كاللطمة والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وإن أذهبه بجناية توجب أرشاً كالجراح أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال مالك والشافعي في الجديد، وقال أبو حنيفة والشافعي في القديم يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن كانت الدية أكثر من أرش الجرح وجبت وحدها وإن كان أرش الجرح أكثر كأن قطع يديه ورجليه فذهب عقله وجبت دية الجرح ودخلت دية العقل فيه لأن ذهاب العقل تخل معه منافع الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت ولنا أن هذه جناية أذهبت منفعة من غير محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو أوضحه فذهب بصره أو سمعه، ولأنه لو جنى على أذنه او أنفه فذهب شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف والأذن مع قربهما منهما فههنا أولى، وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش الجرح في دية العقل لم يجب أرشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء كلها مع القتل لا يجب أكثر من دية النفس فلا يصح قولهم إن منافع الأعضاء تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه بعد ذهاب عقله بما تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه، ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما لا تضمن منافع الميت وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز ضمانها مع الجناية عليه كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير محلها(9/595)
(فصل) فإن جنى عليه فأذهب عقله وشمه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح قال ابو قلابة رمى رجل رجلاً بحجر فذهب عقله وسمعه وبصره ولسانه فقضى عليه عمر بأربع ديات وهو حي، ولأنه أذهب منافع في كل واحد منهما دية فوجبت عليه دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن مات من الجناية لم يجب إلا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس كديات الأعضاء (مسألة) (وفي ذهاب المشي الدية) لأنها منفعة مقصودة فوجبت فيها الدية كالكلام (فصل) وفي كسر الصلب الدية إذا لم ينجبر لما روي في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الصلب الدية " وعن سعيد بن المسيب قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهري ومالك وقال القاضي وأصحاب الشافعي ليس في كسر الصلب دية إلا أن يذهب مشيه أو جماعة فتجب الدية لتلك المنفعة لأنه عضو لم تذهب منفعته فلم يجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال ومنفعة فوجبت فيه الدية بمفرده كالأنف، وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم كسر الصلب غالباً فأشبه ما لو قطع رجليه (مسألة) (وفي ذهاب الأكل الدية) لأنها منفعة مقصودة فوجبت فيه لدية كالشم والنكاح (مسألة) (فإن كسر صلبه فذهب نكاحه ففيه الدية) روى ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب المشي، وإن ذهب جماعه ومشيه(9/596)
وجبت ديتان في ظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر، وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه، وان جبر صلبه فعادت احدى المنفعتين دون الأخرى لم يجب إلا دية إلا أن تنقص الأخرى فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من
جهة أخرى فيكون فيه حكومة لنقصها لذلك، وان ادعى ذهاب جماعه فقال رجلان من أهل الخبرة ان مثل هذه الجناية تذهب الجماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه لا يتوصل الى معرفة ذلك إلا من جهته، وان كسر صلبه فشل ذكره اقتضى كلام أحمد وجوب ديتين لكسر الصلب واحدة وللذكر اخرى، وفي قول القاضي ومذهب الشافعي في الذكر دية وحكومة لكسر الصلب، وان اذهب ماءه دون جماعة احتمل وجوب الدية، ويروى هذا عن مجاهد قال بعض أصحاب الشافعي هو الذي يقتضيه مذهب الشافعي لأنه ذهب بمنفعة مقصودة فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعة أو كما لو قطع أنثييه أو رضهما واحتمل أن لا تجب الدية كاملة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها (مسألة) (ويجب في الحدب) تجب الدية في الحدب لأن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الصلب الدية " ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة وجمالاً أشبه ما لو أذهب مشيه(9/597)
(مسألة) (وفي الصعر الدية وهو ان يضربه فيصير الوجه إلى جانب) وأصل الصعر داء يأخذ البعير فيلتوي منه عنقه قال الله تعالى (ولا تصعر خدك للناس) أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبراً كإمالة وجه البعير الذي به الصعر، فمن جنى على إنسان جناية فعوج عنقه حتى صار وجهه في جانب فعليه دية كاملة روى ذلك عن زيد ثابت رضي الله عنه وقال الشافعي: ليس فيه إلا حكومة لأنه إذهاب جمال عن غير منفعة ولنا ماروى مكحول عن زيد بن ثابت انه قال: وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة مخالف فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كسائر المنافع، وقولهم لم تذهب منفعة لا يصح فإنه لا يقدر على النظر امامه وانقاء ما يحذره اذا مشى وإذا نابه أمر أو دهمه عدو لم يمكنه العلم به ولا اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه ليتعرف ما يريد نظره ويتعرف ما يضره مما ينفعه (فصل) فإن جنى عليه فصار الالتفات او ابتلاع الماء عليه شاقا فيه حكومة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها ولا يمكن تقديرها، وان صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يتقى وان بقي مع ذلك ففيه
الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن (مسألة) (وفي تسويد الوجه اذا لم يزل الدية وقال الشافعي فيه حكومة) لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لمقدر ولنا أنه فوت الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم او أنف الأخشم وقوله ليس(9/598)
بنظير لمقدر ممنوع فإنه نظير لقطع الأذنين في ذهاب الجمال بل هو أعظم في ذلك فيكون بإيجاب الدية أولى، فإن زال السواد رد ما أخذه لسواده لزوال سبب الضمان، فإما إن صفر وجهه أو حمره ففيه حكومة لأنه لم يذهب بالجمال على الكمال (مسألة) (واذا لم يستمسك الغائط والبول ففي كل واحد من ذلك دية كاملة) وجملة ذلك أنه إذا ضرب بطنه فلم يستمسك الغائط أو المثانة فلم يستمسك البول وجب فيه الدية وبهذا قال ابن جريح وأبو ثور وأبو حنيفة ولا نعلم فيه مخالفاً إلا أن ابن ابي موسى ذكر في المثانة رواية أخرى أن فيها ثلث الدية لأنها باطنة فهي كافضاء المرأة، والصحيح الاول كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة ليس في البدن مثله فوجب في تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء المذكورة فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما عظيم فكان في كل واحد منهما الدية كالسمع والبصر، وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجاني ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة (مسألة) (وفي نقص شئ من ذلك ان علم بقدره مثل نقص العقل بأن يجن يوماً ويفيق يوماً أو ذهاب بصر إحدى العينين أو سمع إحدى الأذنين) لأن ما وجب فيه الدية وجب بعضها في بعضه كالأصابع واليدين(9/599)
(فصل) وإن نقص الذوق نقصا يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس وهي الحلاوة والحموضة والمرارة والملوحة والعذوبة فإذا لم يدرك أحدها وأدرك الباقي ففيه خمس الدية وفي اثنين خمساها
وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك واحدة فعليه الدية إذا قلنا تجب الدية في ذهاب الذوق وإلا ففيه حكومة (مسألة) (وفي بعض الكلام بالحساب يقسم على ثمانية وعشرين حرفاً) يعتبر ذلك بحروف المعجم هي ثمانية وعشرون حرفاً سوى لا فإن مخرجها مخرج الام والألف فمهما نقص من الحروف نقص من الدية بقدره لأن الكلام تم، بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها، ولا فرق بين ما خف على اللسان من الحروف أو ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل ان تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفوية وهي الباء والميم والفاء والواو، ودون حروف الحلق السنة الهمز والحاء والخاء والعين والغين، فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا للسان تقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها، ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وإن جني على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته، وينبغي ان يجب بقدره من(9/600)
ثمانية وعشرين وجهاً واحداً وان ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير ارش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وان ذهب حرف فأبدل مكانه حرفاً آخر كان كأن يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما يبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضاً لأنه أصل وإن جنى عليه جان فأذهب بعض الحروف وجنى عليه آخر فأذهب بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان الثغ من غير جناية عليه فذهب انسان بكلامه كله فإن كان مأيؤسا من ذهاب لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية الكاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم (مسألة) (وإن لم يعلم قدره مثل أن صار مدهوشاً يفزع مما لا يفزع ويستوحش إذا خلا فهذا
لا يمكن تقديره) فيجب فيه ما تخرجه الحكومة لأنه لا تقدير فيه (مسألة) (فإن نقص سمعه أو بصره أو شمه أو حصل في كلامه تمتمة أو عجلة أو فأفأة ففيه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية) لأن المنفعة باقية فإن جنى عليه جان آخر فأذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليه آخر فأذهب بصرها فإن نقص ذوقه نقصاً غير مقدر بأن يحس المذاق كله إلا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره أو سمعه نقصاً لا يتقدر(9/601)
(مسألة) (وإن نقص مشيه أو انحنى قليلاً أو تقلست شفته بعض التقلس أو تحركت سنه أو ذهب اللبن من ثدي المرأة ونحو ذلك ففيه حكومة) لما ذكرنا (مسألة) (وإن قطع بعض اللسان فذهب بعض الكلام اعتبر أكثرهما فلو ذهب ربع اللسان ونصف الكلام أو ربع الكلام ونصف اللسان وجب نصف الدية) إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل ان يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قطع احدى عينيه فذهب بصرها وان ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه او قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفرداً فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شئ وجب نصف الدية؟ ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شئ وجب نصف الدية (مسألة) (وان قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام ثم الآخر بقيته فذهب بقية الكلام فعلى الأول نصف الدية وعلى الثاني نصفها ويحتمل أن يجب عليه نصف الدية وحكومة لربع اللسان) في هذه المسألة ثلاثة أوجه (أحدها على الثاني نصف الدية وهذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقية اشل بدليل ذهاب نصف الكلام (والثاني) عليه نصف(9/602)
الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان جميعه اشل لكانت فيه حكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضاً (والثالث) عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب نصف كلامه فوجب عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بضعه اشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفاً واليد إذا كان بطشها ضعيفاً (فصل) وان قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته وإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه ولنا أنه ذهب بثلاثة أرباع الكلام فلزمته ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان في الأول ولأنه لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمته ثلاثة أرباع الدية فلأن يجب بقطع نصف اللسان أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جنايته أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلامه مع بقاء لسانه (فصل) إذا قطع بعض لسانه عمداً فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه فذهب من كلام الجاني(9/603)
مثل ما ذهب من كلام المجني عليه أو أكثر فقد استوفى حقه ولا شئ في الزائد من سراية القود وهي غير مضمونة وأن ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله (فصل) إذا كان للسانه طرفان فقطع احدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده يوجب الدية وان ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب من الكلام وجب فإن كان أحدهما اكثر وجب الأكثر على ما مضى وان لم يذهب من الكلام شئ وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان احدهما منحرفا عن سمت اللسان فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وان قطع جميع اللسان وجبت الدية من غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين وقال القاضي إن كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان احدهما منحرفاً عن سمت اللسان وجبت الدية
وحكومة في الخلقة الزائدة ولنا أن هذه الزيادة عيب نقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب شئ كالسلعة في اليد وربما عاد القولان إلى شئ واحد لأن الحكومة لا يخرج بها شئ إذا كانت الزيادة عيباً (مسألة) (وان قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه لم يجب إلا دية وان ذهبا مع بقاء اللسان وجبت ديتان) إذا جنى على لسان ناطق فاذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وإن قطع لسانه فذهبا معاً يجب إلا(9/604)
دية واحد لأنهما يذهبان تبعاً لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل إنساناً لم يجب إلا دية واحدة ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية (فصل) فإن جنى على لسانه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو ذهب لم يعد وإن كان قد قبض الدية ردها وان قطع لسانه فعاد لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا بعوده يدل على أنها هبة مجددة ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وأن قطع إنسان نصف لسانه فذهب كلامه ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان قد ذهب ولم يعد الى اللسان وانما عاد في آخر بخلاف التي قبلها وان قطع لسانه فذهب كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وان عاد كلامه دون لسانه لم يردها أيضاً لذلك (مسألة) (وإن كسر صلبه فذهب مشيه ونكاحه ففيه ديتان لأجل ذهاب المشي والجماع) وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيهما أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب نطقه وذوقه(9/605)
(مسألة) (وإن اختلفا في نقص سمعه وبصر فالقول قول المجني عليه مع يمينه)
لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة (فصل) فإن ادعى أن إحدى عينيه نقص ضوء ما عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص وتباعد عنه فكلما قال قد رأيته ووصف لونه علم صدقه حتى ينتهي فإذا انتهت رؤيته علم موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته ثم يدار الشخص الى جانب آخر فيضع به مثل ذلك ثم يعلم عند المسافتين وتذرعان ويقابل بينهما فإن كانا سواء فقد صدق وينظركم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة؟ ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وان اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة المريضة لكثير الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال إبن المنذر أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلاً بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه الأخرى فعصبت وفتحت الصحيحة وأعطى رجلاً بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم خط عند ذلك ثم حول الى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر قال القاضي وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل اذا بعدت المسافة ويكثر اذا قربت وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم اذا قالوا ان الرجل إن كان يبصر الى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر(9/606)
الى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية الى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا ابصر بالصحيحة الى مائتين وأبصر بالعليلة الى مائة علمنا انه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلثا ديتها قال شيخنا وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه حكومة وإن جني على عينيه فندرتا أو أحولتا أو عمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فأعوجت والجناية على الصبي والمجنون كالجناية على البالغ والعاقل لكن يفترقان في أن البالغ العاقل خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا توجهت اليمين عليهما لم يلحفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا (فصل) فإن ادعى المجني عليه نقصاً في سمع أحد أذنيه سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة وأقمنا من
يصح يحدثه وهو متباعد إلى جنب يقول اني لا اسمع فإذا قال ذلك غير عليه الصوت والكلام فإن بان انه يسمع وإلا فقد كذب فإذا انتهى الى آخر سماعه قدرت المسافة وسدت الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه وهو يتباعد حتى يقول اني لا اسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وإن لم تتغير صفته حلف وقبل قوله وتمسح المسافتان وينظر ما تنقص العليلة فيجب بقدره فإن قال اني أسمع العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فيجب فيه حكومة (فصل) فإن قال أهل الخبرة أنه يرجى عود سمعه الى مدة النظر إليها وان يكن لذلك غاية لم ينظر(9/607)
(مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب بصره أري أهل الخبرة فيرجع في ذلك إلى قول مسلمين عدلين منهم لأن لهما طريقاً الى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر بخلاف السمع فإن لم يوجد أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشئ الى عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب ولا حكم له واذا علم ذهاب بصره وقال اهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت الدية وان قالوا يرجى عوده الى مدة عينوها انتظر اليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن لم يعد استقرت على الجاني الدية فإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن جاء اجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعدو على الثاني حكومة لأنه أذهب عيناً لا ضوء لها يرجى عود ضوئها وان قال الأول عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه وأن صدق المجني عليه الأول سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني فأما إن قال أهل الخبرة يرجى عوده لكن لا يعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك الى غير غاية يفضي الى اسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وان عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ منه لأننا تبينا أنه لم يكن واجباً (مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب سمعه فانه ينفعل ويصاح به وينتظر اضطرابه ويتأمل عند صوت(9/608)
الرعد والأصوات المزعجة فإن ظهر منه ازعاج أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول
قول الجاني مع يمينه) لأن ظهور الأمارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقاً وإن لم يوجد شئ منه ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأن الظاهر عدم السمع وحلف لجواز أن يكون احترز وتصبر وان ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا (مسألة) (وإن ادعى ذهاب شمه جربناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر للمنتن فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يبن منه ذلك فالقول قول المجني عليه) لقولنا في اختلافهم في السمع والبصر وان ادعى المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل الى معرفة ذلك إلا من جهته فقبل قوله فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالإقراء ويجب له من الدية ما تخرجه الحكومة، وان ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد أخذها ردها لأننا تبينا أنه لم يكن ذهب وان رجي عود شمه الى مدة انظر اليها وان ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه (مسألة) (وإن اختلفا في ذهاب ذوقه أطعم الأشياء المرة فإن عبس للطعم المر سقطت دعواه) لظهور ما يدل على خلاف ما ادعاه وإلا فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كالمسألة التي قبلها (فصل) ولا تجب دية الجرح حتى يندمل لأنه لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل فينبغي أن ينتظر حكمه وما الواجب فيه ولهذا لا يجوز الاستيفاء في العمد قبل الاندمال فكذلك لا يجوز أخذ الدية قبله فنقول أحد موجبي الجناية فلا يجوز قبل الاندمال كالآخر(9/609)
(مسألة) (ولا تجب دية سن ولا ظفر ولا منفعة حتى ييئس من عودها) لأن ذلك مما يعود فلا يجب شئ مع احتمال العود كالشعر وإنما يعرف ذلك بقول عدلين من أهل الخبرة أنها لا تعود أبداً (مسألة) (فلو قطع سن كبير أو ظفراً ثم نبت او رده فالتحم فلم تجب الدية)
نص أحمد في السن على ذلك في رواية جعفر بن محمد وهو قول أبي بكر والظفر في معناها وقال القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي وقد ذكرنا توجيههما فيما إذا قطع أنفه فرده فالتحم فعلى قول أبي بكر يجب عليه حكومة لنقصها إن نقصت وضعفها ان ضعفت، وإن قلعها قالع بعد ذلك وجبت ديتها لأنها ذات جمال ومنفعة فوجبت ديتها كما لو لم تنقلع، وعلى قول القاضي ينبني حكمها على وجوب قلعها فإن قلنا يجب فلا شئ على قالعها لأنه قد أحسن بقلع ما يجب قلعه وإن قلنا لا يجب قلعها احتمل أن تؤخذ ديتها لما ذكرنا واحتمل أن لا تؤخذ ديتها لأنه قد وجبت له ديتها مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة، فأما إن جعل مكانها سناً أخرى أو سن حيوان أو عظماً فثبتت وجبت ديتها وجهاً واحد لأن سنه ذهبت بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها شيئاً، وان قلعت هذه الثانية لم تجب ديتها لأنها ليست سناً له ولا هي من بدن ولكن يجب فيها حكومة لأنها جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه بخيط فالتحم فقامه إنسان فانفتح(9/610)
الجرح وزال التحامه، ويحتمل أن لا يجب شئ لأنه أزال ما ليس من بدنه فأشبه ما لو قلع انف الذهب الذي جعله المجدوع مكان انفه، والأول أولى لأن هذا كان قد التحم بخلاف أنف الذهب فإنه يمكن اعادته كما كان وهذا إذا أعاده قد لا يلتحم (مسألة) (وان ذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه أو عقله ثم عاد سقطت ديته) لزوال سببها وإن كان قد أخذها ردها لأنا تبينا أنه أخذها بغير حق (مسألة) (وإن عاد ناقصا أو عادت السن أو الظفر قصيراً أو متغير فله أرش نقصه) لأنه نقص حصل بجنايته أشبه ما لو نقصه مع بقائه (مسألة) (وان قلع سناً صغيراً ويئس من عودها وجبت ديتها) لأنه أذهبها بجنايته إذهاباً مستمراً فوجبت ديتها كالسن الكبير وقال القاضي فيها حكومة لأن العادة عودها فلم تكمل ديتها كالشعر، والصحيح الأول لأن الشعر لو لم يعد وجبت ديته مع أن العادة عوده (مسألة) (وعنه في الظفر إذا نبت على صفته خمسة دنانير وإن نبت متغيراً عشرة)
والتقديرات بابها التوقيف ولا نعلم فيه توقيفاً والقياس أنه لا شئ فيه إذا عاد على صفته وإن نبت متغيرا ففيه حكومة (مسألة) (وإن مات المجني عليه فادعى الجاني عود ما أذهبه فأنكر الولي فالقول قوله) لأن الأصل عدم العود، وإن جني على سنه اثنان فاختلفا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلف كل واحد منهما لأن ذلك لا يعرف إلا من جهته فأشبه ما لو ادعى نقص سمعه أو بصره(9/611)
(فصل) قال رضي الله عنه (وفي كل واحد من الشعور الاربعة الدية وهي شعر الراس واللحية والحاجبين وأهداب العينين) وبهذا قال أبو حنيفة والثوري وممن اوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب وشريح والحسن وقتادة وروي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما قالا في الشعر الدية وقال مالك والشافعي فيه حكومة واختاره ابن المنذر لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب الدية كاليد الشلاء والعين القائمة ولنا أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم وقولهم لا منفعة فيه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عين العين ويفرقه وهدب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها وما ذكروه ينتقض بالأصل الذي قسنا عليه واليد الشلاء ليس جمالها كاملاً (مسألة) (وفي كل حاجب نصفها وفي كل هدب ربعها) وجملة ذلك أن في إحدى الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية في احدهما نصفها كاليدين وفي كل هدب ربعها لأن الدية إذا وجبت في أربعة أشياء وجب في كل واحد ربعها كالأجفان (مسألة) (وفي بعض ذلك بقسطه من الدية يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الأنف ولا فرق في هذه الشعور بين كونها كثيفة أو خفيفة جملية أو قبيحة أو كونها من صغير أو كبير) لأن سائر ما فيه الدية من الأعضاء لا تفترق الحال فيه بذلك(9/612)
(مسألة) (وإنما تجب ديته إذا أزاله على وجه لا يعود)
مثل أن يقلب على رأسه ماء حاراً فيتلف منبت الشعر فينقطع بالكلية بحيث لا يعود وإن رجي عوده الى مدة انتظر اليها (مسألة) (فإن عاد سقطت الدية) إذا عاد قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في ذهاب السمع والبصر فيها يرجى عوده ما لا يرجى (مسألة) (وإن بقي من لحيته ما لا جمال فيه أو من غيره من الشعور ففيه وجهان) (أحدهما) يؤخذ بالقسط لأنه محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الأذن ومارن الأنف (والثاني) تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولأن جنايته ربما أحوجت الى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سبباً لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس الى ما أذهب ضوء عينه (مسألة) (ولا قصاص في شئ من هذه الشعور) لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار ولا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه (مسألة) (وإن قلع الجفن بهدبه لم يجب إلا دية الجفن) لأن الشعور تزول تبعاً لزوال الأجفان فلم يجب فيه شئ كالأصابع إذا قطع الكف وهي عليه(9/613)
(مسألة) (وإن قلع اللحنين بما عليهما من الأسنان وجبت ديتهما ودية الأسنان) ولم تدخل دية الأسنان في الجنين كما تدخل دية الأصابع في اليد لوجوه (أحدها) أن الأسنان ليست متصلة باللحيين وإنما هي مغرزة فيها بخلاف الأصابع (الثاني) أن أحدهما ينفرد باسمه عن الآخر بخلاف الأصابع مع الكف فإن اسم اليد بشملهما (الثالث ان اللحيين يوجدان منفردين عن الأسنان فإنهما يوجدان قبل وجود الأسنان ويبقيان بعد قلعهما بخلاف الكف مع الأصابع (مسألة) (وان قطع كفاً بأصابعه لم يجب إلا دية الأصابع) لدخول الجميع في مسمى اليد وكما لو قطع ذكراً بحشفته لم يجب إلا دية الحشفة لدخولها في مسمى الذكر (مسألة) (وان قطع كفاً عليه بعض الأصابع دخل ما حاذى الأصابع في ديتها وعليه أرش باقي الكف)
لأن الأصابع لو كانت سالمة كلها لدخل أرش الكف كله في دية الأصابع فكذلك ما حاذى الأصابع السالمة يدخل في ديتها وما حاذى المقطوعات ليس ما يدخل في ديته فوجب أرشه كما لو كانت الأصابع كلها مقطوعة (مسألة) (وان قطع أنملة بظفرها فليس عليه إلا ديتها) كما لو قطع كفا بأصابعها أو جفناً بهدبه (فصل) وفي عين الأعور دية كاملة نص عليه وبذلك قال الزهري ومالك والليث وقتادة وإسحاق وقال مسروق وعبد الله بن مغفل والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي فيها نصف الدية لقوله عليه(9/614)
الصلاة السلام " وفي العين خمسون من الإبل " وقوله عليه السلام " وفي العينين الدية " يقتضي أن لا يجب فيها أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو ثان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور فلو وجب عليه دية لوجب فيهما دية ونصف، ولأن ما يضمن بنصف الدية مع نظيره يضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله وفي العين الواحدة نصف الدية ولم يفرق ولنا أن عمر وعثمان وعلياً وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولا نعلم لهم في الصحابة مخالفاً فتكون إجماعاً ولأن قلع عين الأعور يتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين، ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطفية ويعمل اعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا ويجزي في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العين مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذي العينين: فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن لا يجب في ذهاب احدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص، قلنا لأنه لا يلزم من وجوب شئ من دية العينين نقص دية الباقي بدليل ما لو جنى عليهما فاحول * نا أو عمشا أو نقص ضوؤهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية، قلت ولولا ما روي عن الصحابة لكان القول الآخر أولى لظاهر النص والقياس على ذهاب سمع إحدى الأذنين وما ذكر من المعاني فهو موجود فيما إذا ذهب سمع أحد الأذنين ولم يوجبوا في الباقي دية كاملة(9/615)
(مسألة) (وإن قلع الأعور عين صحيح مماثلة لعينه الصحيحة عمداً فلا قصاص وعليه دية كاملة) إذا قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة خطأ فليس عليه إلا نصف الدية لا نعلم فيه خلافاً لأن ذلك هو الأصل، وأن قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فلا قصاص وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى عليه نصف الدية ولا قصاص، وقال المخالفون في المسألة الأولى له القصاص لقوله تعالى (والعين بالعين) وان اخبار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف الدية فلم يجب فيه إلا نصفها كالعين الأخرى ولنا عن عمر وعثمان رضي الله عنهما قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفاً في الصحابة فكان إجماعاً ولأننا منعناه من إتلاف ضوء يضمن بدية كاملة فوجبت عليه دية كاملة كما لو قلع عيني سليم ثم عمي الجاني ويتحمل أن يقلع عينه ويعطى نصف الدية لأن ذلك يروي فيه أثر وقد روي عن علي رضي الله عنه في الرجل إذا قتل امرأة يقتل بها ويعطى نصف الدية (مسألة) (وإن قلع عيني صحيح عمداً خير بين قلع عينه ولا شئ له غيرها وبين الدية) إذا قلع الأعور عيني صحيح عمداً فإن شاء قلع عينه ولا شئ له لأن عينه له فيها دية كاملة لما ذكرنا من قضاء الصحابة رضي الله عنهم فيها بالدية ولأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره(9/616)
وهو مبني على قضاء الصحابة وأن عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص ونصف الدية للعين الأخرى وهو مقتضى الدليل والله أعلم فأما إن قلعهما خطأ فليس له إلا الدية كاملة كما لو قلعها صحيح العينين وذكر القاضي فيما إذا قلعهما عمداً إن قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما في العين التي استحق بها قلع عين الأعور والأخرى في الأخرى لأنها عين الأعور ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " وفي العينين الدية " ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القالع صحيحاً ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنيه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية بقلع إحدى العينين
قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها فيما عدا موضع الإجماع يجب العمل بهما والبقاء عليهما (مسألة) (وفي يد الا * قطع نصف الدية وكذلك في رجله وعنه فيها دية كاملة وان اختار القصاص فله ذلك) لأنه عضو أمكن القصاص في مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع أذن من له أذن واحدة وعن أحمد رواية أخرى أن الأولى إن كانت قطعت ظلماً وأخذ ديتها أو قطعت قصاصاً ففيها نصف ديتها وإن قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه(9/617)
قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين الذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام العضوين فلم يجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصاً أو في غير سبيل الله ولا يصح القياس على عين الأعور لثلاثة وجوه (أحدها) أن عين الأعور حصل فيها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا اختلافاً يسيراً بخلاف أقطع اليد الرجل (والثاني) أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب الأولى وههنا اختلف (الثالث) أن هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار اليه بمجرد الرأي ولا توقيف فيه فيصار اليه ولا نظير له فيقاس عليه فالمصير إليه تحكم بغير دليل فيجب اطراحه فأما أن قطعت أذن من قطعت أذنه أو منخر من قطع منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية واحدة لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين(9/618)
(باب الشجاج وكسر العظام) الشجة اسم لجرح الرأس الوجه خاصة وهي عشر، خمس لا مقدر فيها (أولها) الحارصة وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه (ثم البازلة) وهي الدامية التي يخرج منها دم يسير (ثم الباضعة) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم (المتلاحمة) وهي التي تترك في اللحم ثم السمحاق التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة فهذه الخمس فيها حكومة في ظاهر المذهب
وجملة ذلك أن الشجاع عشر خمس لا توقيت فهيا، أولها الحارصة قاله الأصمعي وهي التي تشق الجلد قليلاً يعني تقشر شيئاً يسيراً من الجلد لا يظهر منه دم ومنه حرص الفصار الثوب إذا شقه قليلاً وقال بعضهم هي الحرصة ثم البازلة وهي التي ينزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية أيضاً والدامعة لقلة سيلان دمها تشبيهاً له بخروج الدمع من العين ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم يعني دخلت فيه دخولاً كثيراً تزيد على الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السمحاق وهي التي تصل الى قشرة رقيقة فوق العظم تسمى تلك القشرة سمحاقاً وسميت الجراح الواصلة اليها بها ويسميها أهل المدينة الملطا والملطاة وهي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه وهذه الشجاج الخمس لا توقيت فيها في ظاهر المذهب وهو قول أكثر الفقهاء يروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية أخرى أن في الدامية بعيراً وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة وفي المسحاق أربعة أبعرة لأن ذلك يروي عن زيد بن ثابت وروي عن علي رضي الله عنه في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فيها نصف أرش الموضحة والصحيح الأول فإنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن(9/619)
روي عن مكحول قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيها دونها ولأنه لم يثبت فيها مقدر له بتوقيف ولا قياس يصح فوجب الرجوع الى الحكومة كالحارصة وذكر القاضي أنه متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة الى جانبها قدرت هذه الجراحة منها فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى هذا إلا أن تزيد الحكومة على قدر ذلك فيوجب ما تخرجه الحكومة فإذا كانت الجراحة قدر نصف الموضحة وشينها ينقص قدر ثلثيها فيوجب ثلثي ارش الموضحة وان نقصت الحكومة أقل من النصف أوجب النصف فيوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه اجتمع سببان موجبان الشين وقدرها من الموضحة فوجب فيها والدليل على إيجاب هذا المقدار ان هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه بقدره من ديته كالمارن والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا: وهذا لا نعلمه
مذهباً لاحمد ولا يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة فلا يجب فيها مقدر كجراحات البدن ولا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب فيه الحكومة ولا نعلم لما ذكروه نظيراً وما لم يكن فيه من الجراح توقيف ولم يكن نظيراً لما وقتت ديته ففيه حكومة أما الذي فيه توقيت فهو الذي نص النبي صلى الله عليه وسلم عليه بين قدر ديته كقوله " في الأنف وفي اللسان الدية " وأما نظيره فهو ما كان في معناه ومقيسا عليه كالاليتين والثديين والحاجين وقد ذكرناه فما لم يكن من الموقت ولا مما يمكن قياسه(9/620)
كالشجاج التي دون الموضحة وجراح البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام فليس فيه إلا الحكومة (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وخمس فيها مقدر أولها الموضحة وهي التي توضح العظم أي تبرزه والوضح البياض) يعني أنها أبدت وضح العظم أي بياضه وأجمع أهل العلم على أن أرشها مقدر قاله ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي الموضحة خمس من الإبل " وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في المواضح خمس خمس " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وأنما يجب ذلك في موضحة الحر فأما موضحة العبد فقد ذكرنا الخلاف فيها وموضحة المرأة كموضحة الرجل فيما يجب فيها عند أحمد رحمه الله لأن المرأة تساوي جراحها جراح الرجل إلى ثلث الدية وعند الشافعي أن موضحة المرأة إنما يجب فيها نصف ما وجب في موضحة الرجل بناء على مذهبه في أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في القليل والكثير والحديث الذي ذكرناه حجة عليه وفيه كفاية وأكثر أهل العلم على أن الموضحة في الرأس والوجه سواء وهو ظاهر المذهب روى ذلك عن ابي بكر وعمر رضي الله عنهما، وبه قال شريح ومكحول والشعبي والنخعي والزهري وربيعة وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق، وعن أحمد أن في موضحة الوجه عشرة أبعرة روى ذلك عن سعيد بن المسيب لأن شينها أكثر وموضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك: إذا كانت في أنف أو في اللحي الأسفل ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ فأشبهت موضحة سائر البدن(9/621)
ولنا عموم الأحاديث وقول ابي بكر وعمر رضي الله عنهما: الموضحة في الرأس والوجه سواء
ولأنها موضحة فكان أرشها خمساً من الإبل كغيرها مما سلموه ولا عبرة بكثرة الشين بدليل التسوية بين الكبيرة والصغيرة وما ذكرناه مالك لا يصح فإن الموضحة في الصدر أكثر ضرراً وأقرب الى القلب ولا مقدر فيها ولأن ما قاله مخالف لظاهر النص، وقد روي عن أحمد أنه قال موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها وليس معنى هذا أنه يجب فيها أكثر إنما معناه والله أعلم أولى بإيجاب الدية فإنها إذا وجبت في موضحة الراس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء الرأس خمس من الإبل فلأن يجب ذلك في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن وعنوان الجمال أولى وحمل كلام أحمد على هذا أولى من من حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم بغير توقيف ولا قياس صحيح (فصل) ويجب أرش الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى الى العظم ولو بقدر ابرة ذكره ابن القاسم والقاضي (فصل) وليس في الموضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول أكثر أهل العلم منهم إمامنا ومالك والثوري والشافعي واسحاق وابن المنذر قال ابن عبد البر ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها مقدر، على ذلك جماعة العلماء إلا الليث بن سعد قال الموضحة تكون في الجسد ايضاً وقال الأوزاعي(9/622)
في جراحة الجسد: على النصف من جراحة الرأس، وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال في الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون ديناراً ولنا أن اسم الموضحة انما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس وقول الخليفتين الراشدين الموضحة في الرأس والوجه سواء يدل على أن باقي الجسد بخلافه ولأن الشين فيما في الراس والوجه اكثر واخطر مما في سائر البدن فلا يلحق به ثم ايجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة وثلث وية الموضحة خمس وأما قول الاوزاعي وعطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا يقتضيه القياس فيجب اطراحه (مسألة) (قال عمت الرأس ونزلت إلى الوجه فهل هي موضحة أو موضحتان؟ على وجهين) إذا أوضحه في رأسه ومدها الى وجهه فعلى وجهين (أحدهما) هي موضحة واحدة لأن الوجه
والرأس سواء في الموضحة فصارا كالعضو الواحد (والثاني) هما موضحتان لأنه أوضحه في عضوين فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو أوضحه في راسه ونزل الى القفا ذكر شيخنا في الكتاب المشروح قال: إذا عمت الرأس ولم يذكره في كتابيه المغني والكافي أطلق القول فيما إذا كان بعضها في الرأس وبعضها في الوجه وان لم تعم الرأس فيها الوجهان وهو الذي يقتضيه الدليل المذكور والله أعلم (مسألة) (وان أوضحه موضحتين بينهما حاجز فعليه عشرة من الإبل أرش موضحتين) لأنهما موضحتان فإن خرق ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا موضحة واحدة فيجب ارش موضحة(9/623)
فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز فإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح لأنه استقر عليه أرش الأولتين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة وان اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله او سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين (مسألة) (فإن خرقه أجنبي فعلى الأول أرش موضحتين وعلى الثاني أرش موضحة) لأن فعل احداهما لا يبني على فعل الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أزاله المجني عليه وجب على الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره (مسألة) (فإن اختلفنا فيمن خرقه فالقول قول المجني عليه) إذا قال الجاني أنا شققت ما بينهما وقال المجني عليه بل أنا أو أزالها آخر سواك كان القول قول المجني عليه لأن سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره فالقول قول المنكر لأن الأصل معه.
ومثله لو قطع ثلاث اصابع امرأة فعليه ثلاثون من الإبل فإن قطع الرابعة عاد الى عشرين فإن اختلفا في قاطعها فالقول قول المجني عليه لما ذكرنا وهذا على مذهبنا لأن عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث فإذا زادت صارت الى النصف (مسألة) (وإن خرق ما بينهما في الباطن بأن قطع اللحم الذي بينهما وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان) (أحدهما) يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر(9/624)
(والثاني) أرش موضحة لاتصالهما في الباطن، وإن جرحه جراحاً واحدة أوضحه في طرفها وباقيها دون الموضحة ففيه أرش موضحتين لأن ما بينهما ليس بموضحة (مسألة) (وإن شج جميع رأسه سمحاقاً إلا موضعاً منه أوضحه فعليه أرش موضحة) إذا شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من ذلك فلأن لا يلزمه في الإيضاح في البعض أكثر من ذلك أولى وهكذا لو شجه شجة بعضها هاشمة وباقيها دونها لم يلزمه أكثر من أرش هاشمة، وإن كانت منقلة وما دونها أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرنا (مسألة) (ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل) سميت هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير وأكثر من بلغنا قوله من أهل العلم على أن أرشها مقدرة بعشر من الإبل روى ذلك قبيصة بن ذويب عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة والشافعي والعنبري ونحوه قول الثوري وأصحاب الرأي إلا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك على قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت فيها شيئاً، وحكي عن مالك أنه قال لا أعرف الهاشمة لكن في الإيضاح خمس وفي الهشم حكومة قال إبن المنذر والنظر يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا إجماع ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة(9/625)
ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لا يعرف له مخالف في عصره ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة (فصل) والهاشمة في الوجه والرأس خاصة كما ذكرنا في الموضحة فإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا من التفصيل في الموضحة وتنوى الهاشمة الصغيرة والكبيرة كالموضحة وان شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب أرش الهاشمة لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها فلا ينتقص ذلك بما زاد من الأرش في غيرها
(مسألة) (فإن ضربه بمنقل فهشمه من غير أن يوضحه ففيه حكومة ولا تجب دية الهاشمة بغير خلاف) لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة معها موضحة وفي الواجب فيها وجهان (أحدهما) حكومة لأنه كسر عظم لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الأنف (والثاني) فيها خمس من الإبل لأنه لو أوضح وهشم لوجب عشر خمس في الإيضاح وخمس في الهشم فإذا وجد أحدهما وجب خمس كالإيضاح وحده (فصل) فإن أوضحه موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما(9/626)
هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعاً للإيضاح فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة فإنها ليست تبعاً لغيرها فافترقا (مسألة) (ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل) المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن مواضعها فيحتاج الى نقل العظم ليلتئم وفيها خمس عشرة من الإبل بإجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " وفي تفصيلها ما في تفصيل الموضحة والهاشمة على ما مضى (مسألة) (ثم المأمومة وهي التي تصل الى جلدة الدماغ وتسم أم الدماغ وتسمى المأمومة آمة) قال ابن عبد البر أهل العراق يقولون الآمة وأهل الحجاز المأمومة وهي الجراحة الواصلة الى أم الدماغ وهي جلدة فيها الدماغ تسمى أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة اليها سميت آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم إلا مكحولاً فإنه قال إن كانت عمداً ففيها ثلثا الدية وإن كانت خطأ ففيها ثلثها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي المأمومة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وروي نحوه عن علي ولأنها شجة فلم يختلف ارشها بالعمد والخطأ في المقدار كسائر(9/627)
الشجاج، ثم الدامغة وهي التي تجرح الجلد ففيها ما في المأمومة، قال القاضي لم يذكر أصحابنا الدامغة لمساواتها المأمومة في ارشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب (فصل) فإن أوضحه رجل ثم هشمه الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى الأول ارش موضحة وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة وعلى الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة (فصل) وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل الى باطن الجوف من بطن أو ظهر أو صدر او نحر وهذا قول عامة أهل العلم منهم أهل المدينة والكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي إلا مكحولاً قال فيها في العمد ثلثا الدية ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم " وفي الجائفة ثلث الدية " وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ولانهما جراحة فيها مقدر فلم يختلف قدر ارشها بالعمد والخطأ كالموضحة ولا نعلم في جراح البدن الحالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدراً غير الجائفة، وذكر ابن عبد البر ان مالكا وأبا حنيفة والشافعي والتى واصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلى في الجوف وقال ابن القاسم الجائفة ما أفضى الى الجوف ولو بمغرز إبرة(9/628)
(فصل) وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية وان خرق الجاني ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا جائفة واحدة فيها ثلث الدية لا غير، وإن خرق ما بينهما اجنبي او المجني عليه فعلى الأول ثلثا الدية وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعل المجني عليه، وإن احتاج الى خرق ما بينهما للمداواة فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو خرقها ولي المجني عليه لذلك أو الطبيب بأمره فلا شئ عليه في خرق الحاجز وعلى الأول ثلثا الدية (مسألة) (وإن خرقه من جانب فخرج من الجانب الآخر فهي جائفتان) هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء وقتادة ومجاهد ومالك والشافعي وأصحاب الرأي قال
ابن عبد البر لا أعلمهم يختلفون في ذلك وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال هي جائفة واحدة وحكي أيضاً عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن الى الجوف وهذه الثانية انما نفذت من الباطن الى الظاهر ولنا ما روى سعيد بن المسيب ان رجلاً رمى رجلاً بسهم فأنفذه فقضى ابو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون إجماعاً أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت الى الجوف بأرش جائفتين ولأنه أنفذه من موضعين فكان جائفتين كما لو أنفذه بضربتين، وما ذكروه لا يصح فإن الاعتبار بوصول الجرح الى(9/629)
الجوف لا بكيفية ايصاله إذ لا أثر لصورة لفعل مع التساوي في المعنى ولأن ما ذكروه من الكيفية ليس بمذكور في خبر وانما الغالب والعادة وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب حصولها بالحديد ولو حصلت بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو أدخل يده في جائفة انسان فخرق بطنه من موضع آخر فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف نعلمه ولذلك يخرج فيمن أوضح إنساناً في رأسه ثم أخرج رأس السكين من موضع آخر فهي موضحتان وإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهي هاشمتان وكذلك ما أشبهه (فصل) فإن أدخل اصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس بجوف (مسألة) (وان طعنه في خده فوصل إلى فيه ففيه حكومة) لأن باطن الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن ويحتمل أن تكون جائفة لان جرح وصل الى جوف مجوف فأشبه ما لو وصل إلى البطن (فصل) فإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل الى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا وقال الشافعي في أحد قوليه هو جائفة لأنه قد وصل الى جوف وقد ذكرنا أن باطن الفم في حكم الظاهر بخلاف الجوف، فعلى هذا يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة، وان جرحه في أنفه فأنفذه فهو كما لو جرح في وجنته فأنفذه الى فيه في الحكم والخلاف، وان جرحه في ذكره فوصل الى مجرى البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف من الوصول إليه بخلاف غيره
(مسألة) (وإن جرحه في وركه فوصل الجرح إلى جوفه او أوضحه فوصل الجرح إلى قفاه فعليه دية جائفة وموضحة وحكومة لجرح القفا والورك)(9/630)
إذا جرحه في فخذه ومد السكين حتى بلغ الورك فأجافه فيه أو جرح الكتف ومد السكين حتى بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش الجائفة وحكومة في الجرح لأن الجرح في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما لو لم يكن معها جائفة، وأن أوضحه فوصل الى قفاه فعليه دية موضحة لأنه أوضحه وعليه حكومة لجرح القفا كما لو انفرد (مسألة) (وان أجافه ووسع آخر الجرح فهما جائفتان وعلى كل واحد منهما أرش جائفة) لأن فعل كل واحد منهما لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه الى فعل غيره لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره، وإن وسعها الطبيب بإذنه أو إذن وليه فلا شئ عليه (مسألة) (وإن وسع ظاهره دون باطنه أو باطنه دون ظاهره فعليه حكومة) لأن جنايته لم تبلغ الجائفة (فصل) وإن أدخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر ولا شئ عليه وإن خاطها فجاء آخر فقطع الخيط وأدخل السكين فيها قبل أن تلتحم عزر أشد من التعزير الذي قبله وغرم ثمن الخيوط وأجر الخياط ولم يلزمه أرش جائفة لأنه لم يجفه (مسألة) (وإن التحمت الجائفة ففتحها آخر فهي جائفة أخرى عليه أرشها) لأنه عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح وان التحم بعضها دون بعض ففتق ما التحم فعليه أرش جائفة لما ذكرنا، وإن فتق غير ما التحم فليس عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل مثل فعله قبل(9/631)
أن يلتحم منها شئ، وان فتق بعض ما التحم في الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر فعليه حكومة كما لو وسع جرحه كذلك (فصل) ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية، ومعنى الفتق خرق ما بين مسلك البول والمني وقيل بل معناه خرق ما بين القبل والدبر إلا ان هذا بعيد لأنه يبعد أن يذهب بالوطئ
ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي.
والكلام في ذلك في أمرين (احدهما) في أصل وجوب الضمان (والثاني) في قدره أما الأول فإن الضمان إنما يجب بوطئ الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطئ دون الكبيرة التحملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي يجب الضمان في الجميع لأنه جناية فيجب الضمان به كما لو كان في أجنبية ولنا أنه وطئ مستحق فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك، وكقطع السارق واستيفاء القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا.
إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح مع أرش الجناية ويكون أرش الجناية في ماله إن كان عمداً محضاً وهو أن يعلم أنها لا تطيقه وإن وطأه يفضيها، فأما ان علم ذلك وكان مما يحتمل أن لا يفضي اليه فهو عمد الخطأ فيكون عاقلته إلا على قول من قال إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فيكون في ماله (الثاني) في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبه قال قتادة(9/632)
وأبو حنيفة وقال الشافعي تجب الدية كاملة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطئ فلزمته الدية كما لو قطع إسكتيها ولنا ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية ولم نعرف له في الصحابة مخالفاً ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ولا نسلم أنها تمنع الوطئ وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما نفع وجمال فأشبه الشفتين (فصل) فإن استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما كما لو فوت كلامه وذوقه ولنا أنه إتلاف عضو واحد لم يفت غير منافعه فلم يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين لأن استطلاق البول موجب لدية والإفضاء عنده موجب للدية منفرداً ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد مقتضيها فإنا لا نعلم أحدا أوجب في الإفضاء حكومة فإن اندمل الحاجز وانسد وزال الافضاء لم يحدث ثلث
الدية ووجبت حكومة لجبر ما حصل من النقص(9/633)
(فصل) وإن أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لانه حصل بوطئ غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما تلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يلزمه لأن أرش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر من مهر الثيب فالتفاوت بينهما هو أرش عوض البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجة (والثانية) يضمنه لأنه محل اتلفه بعدوانه فلزمه أرشه كما لو أتلفه بأصبعه فأما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها فلا ضمان عليه في فتقها وقال الشافعي يضمن لأن المأذون فيه الوطئ دون الفتق فأشبه كما لو قطع يدها ولنا أنه ضرر حصل من فعل مأذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر مثلها وكما لو أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من المأذون فيه ولا من ضرورته.
(فصل) وإن وطئ امرأة بشبهة فافضاها فعليه أرش إفضائها مع مهر مثلها لأن الفعل إنما أذن فيه اعتقاداً أن المستوفي له هو المستحق فإذا كان غيره ثبت في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو أذن في أخذ الدين لمن يعتقد أنه مستحقه فبان أنه غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجب لها أكثر الأمرين من مهر مثلها أو أرش إفضائها لأن الإرش لإتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته كما لو قلع عيناً(9/634)
ولنا أن هذه جناية تنفك عن الوطئ فلم يدخل بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكره غير صحيح فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع والأرش يجب لإتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه (فصل) وإن استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع افضائها فعليه ديتهما والمهر وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة لا يجمع بينهما ويجب أكثرهما وقد سبق الكلام معه في ذلك (فصل) وفي الضلع بعير وفي الترقوتين بعيران روى سعيد عن مطر عن قتادة عن سليمان بن عمر
وسفيان عن زيد بن أسلم عن أسلم عن عمر في الضلع جمل والترقوة جمل وقال الخرقي في الترقوة بعيران فظاهر قوله أن في كل ترقوة بعيرين فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت والترقوة العظم المستدير حول العنق من النحر الى الكتف ولكل واحد ترقوتان وقال القاضي المراد بقول الخرقي الترقوتان معاً وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق فيكون في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير وقتادة وإسحاق وهو قول للشافعي والمشهور من قوله عند أصحابه ان في كل واحد مما ذكرنا حكومة وهو قول مسروق وأبي حنيفة ومالك وابن المنذر لأنه عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء البدن ولأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن الشعبي أن في الترقوة أربعين ديناراً وقال عمرو بن(9/635)
شعيب في الترقوتين الدية وفي احداهما نصفها لأنهما عضوان ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملت فيها الدية كاليدين ولنا قول عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وما ذكروه ينتقض بالهاشمة فإنها كسر عظام باطنة وفيها مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها لا يوجد في غيرها ولا مشارك لها فيه وأما قول عمرو بن شعيب فمخالف للإجماع فإنا لا نعلم أحداً قبله ولا بعده وافقه فيه (مسألة) (وفي كل واحد من الذراع والزند والعضد والساق بعيران) قال القاضي في الزند أربعة أبعرة لأن فيها اربعة عظام ففي كل عظم بعير وهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي فيه حكومة لما تقدم ولنا ما روى سعيد ثنا هشيم أنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب الى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب اليه عمر ان فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ورواه أيضاً من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابه فكان إجماعاً (فصل) ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر قول الخرقي وهو قول أكثر أهل العلم وقال
القاضي في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة أبعرة وفي الفخذ بعيران وفي الفخذين أربعة أبعرة فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزندان والساقان والفخذان وما عداهما لا مقدر فيه(9/636)
وقال ابن عقيل وابو الخطاب وجماعة من أصحاب القاضي في كل واحد من الذراع والعضد بعيران وزاد ابو الخطاب عظم القدم لما روى سليمان بن يسار ان عمر قضى في الذراع والفخذ والساق والزند إذا كسر واحد منهما فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجاً بعير وإن كان فيها دحور فبحساب ذلك وهذا الخبر ان صح فهو مخالف لما ذهبوا اليه فلا يصلح دليلاً عليه قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه لا تقدير في غير الخمس الضلع والترقوتين والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله عنه ففي ما عداه يبقى على مقتضى الدليل (مسألة) (وما عدا ما ذكرنا من الجروح وكسر العظام مثل خرزة الصلب والعصعص ففيه الحكومة) ولا نعلم فيها مخالفاً، وان خالف فيها أحد فهو قول شاذ لا يستند الى دليل يعتمد عليه ولا يصار اليه وخرزة الصلب ان أريد بها كسر الصلب ففيه الدية وقال القاضي فيه حكومة وهو مذهب الشافعي وقد ذكرناه (مسألة) (والحكومة ان يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص فله مثله من الدية فإن كان قيمته وهو صحيح عشرون وقيمته وبه الجناية تسعة عشر ففيه نصف عشر ديته)(9/637)
وهذا الذي ذكره في تفسير الحكومة قول أهل العلم لا نعلم بينهم فيه خلافاً، وبه قال الشافعي والعنبري وأصحاب الرأي وغيرهم، قال إبن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال اذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجرح لو كان عبداً لم يجرح هذا الجرح؟ فإذا قيل مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر الدية وان قالوا تسعون فعشر الدية وان زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن البيع لما كان مضموناً على البائع بالثمن كان
أرش عيبه مقدراً من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه؟ فإذا قالوا عشرة فيقال كم قيمته وفيه العيب؟ فإذا قيل تسعة علم أنه نقص عشر قيمته فيجب ان يرد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبداً ليمكن تقويمه ويجعل العبد اصلاً للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت في المشهور من المذهب.
(مسألة) إلا أن يكون في شئ فيه مقدر فلا يبلغ به أرش المقدر فإن كانت في الشجاج التي دون الموضحة لم يبلغ بها أرش الموضحة فلو جرحه في وجهه سمحاقاً فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس)(9/638)
فههنا يعلم غلظ المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم يزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي، وحكي عن مالك انه يجب ما تخرجه الحكومة كائناً ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن ولنا أنها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض الشئ أكثر مما يجب فيه ولأن الضرر في الموضحة أكبر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيهاً على أن لا يزاد ما دونها عليها واما سائر البدن فما كان فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمساً من الإبل فإنه يرد الى دية الأنملة وإن كان في اصبع فبلغ ما زاد على العشر بالحكومة رد الى العشر وإن جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن قيل فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه قلنا إنما وجبت دية النفس دية عن الروح وليست الأطراف بعضها بخلاف مسئلتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي إن يختص امتناع الزيادة بالرأس والوجه لقوله إلا أن تكون الجناية في وجه أو رأس فلا يجاوز به أرش الموقت(9/639)
(فصل) إذا خرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش الموضحة وقال القاضي يجب أن ينقص عنها شيئاً على حسب ما يؤدي اليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي وهو الذي ذكره شيخنا في كتاب الكافي المقنع لئلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما اخرجته الحكومة وانما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل ولأن ما ثبت بالتنبيه يجوز ان يساوي المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم ان يزيد عليه كما انه لما نص على وجوب فدية الأدنى في حق العذور لم يلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمنع أن يجب في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل ما في جميعه فإن قيل هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم قلنا إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد ما يؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل على ترك العمل بها في الزائد لمعنى مقصود في المساوي فيجب العمل بها لعدم المعارض ثم وان صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص ادنى ما تزول به المساواة المحدودة ويجب الباقي عمد بالدليل الموجب له (فصل) ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن ارش الجرح المقدر أنما يستقر بعد برئه (مسألة) فإن كانت الجراحة مما لا تنقص شيئاً بعد الاندمال مثل ان قطع اصبعاً زائدة أو يداً او(9/640)
قطع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده حسناً فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كما لو قطع سلعة أو تؤلولا أو بط خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي نص أحمد على هذا لأن هذا جزء من مضمون فلم يعر عن ضمان كما لو اتلف مقدر الأرش فزاد به جمالاً أو لم ينقصه شيئاً، فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال الى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال اليه كولد المغرور لما تعذر تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه الى كونه في البطن (مسألة) (فإن لم ينقص في تلك الحال قوم حال جريان الدم) لانه لابد من نقص للخوف عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا وتقوم
لحية المرأة كأنها لحية رجل في حال تنقصه ذهاب لحية وان أتلف سناً زائدة قوم وليست له سن زائدة ولا خلفها اصلية ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت المرأة اذا قدرناها ابن عشرين نقصها ذهاب(9/641)
لحيتها يسيراً وإن قدرناها ابن اربعين نقصها كثيراً قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال الى حال المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإننا نقرمه في أقرب أحوال النقص الى حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله تعالى فإن هذا لا مقدر فيه ولم ينقص شيئاً فأشبه الضرب وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر وجه حالة اللطمة أو احمر ثم زال وتقدير المرأة رجلاً لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب في المرأة وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة يكره لا يجوز فإن الشئ يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن ايجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره (فصل) فإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة ولم يكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه(9/642)
(باب العاقلة وما تحلمه) (عاقلة الإنسان عصباته كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والولاء إلا عمودي نسبه آباؤه وأبناؤه وعنه أنهم من العاقلة أيضاً) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في العاقلة فروي عنه أنهم جميع العصبات من النسب والولاء يدخل فيهم الآباء والأبناء والإخوة وسائر العصبات من العمومة وأبنائهم اختاره أبو بكر والشريف أبو جعفر، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا سائر العصبات، يحققه ان العقل
موضوع على التناصر وهم من أهله ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب وأبناؤه وآباؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا أولى بتحمل عقله، وفيه رواية ثانية أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم متفق عليه وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها والعقل(9/643)
على العصبة وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها قال فقالت عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ميراثها لزوجها وولدها " رواه أبو داود.
إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لانه معناه ولأن مال ولده ووالده كما له ولهذا لم تقبل شهادتهم له ولا شهادته لهم ووجب على كل واحد منهم الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجاً والآخر موسراً فلا يجب في ماله دية كما لو تجب في مال القاتل وفيه رواية ثالثة أن الإخوة ليسوا من العاقلة كالوالد والولد وهي ظاهر كلام الخرقي، وغيره من اصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال ولا نعلم عن غيرهم خلافهم (فصل) فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الوالد والولد، مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في ظاهر كلام أحمد قاله القاضي وقال أصحاب الشافعي لا يعقل لأنه والد وولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك ولنا أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو لم يكن ولداً وذلك لأن هذه القرابة أو الولاء سبب يستقل بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه في القرابة الأخرى بدليل أنه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم.
(فصل) وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى وعصبته وبهذا قال عمر ابن عبد العزيز والنخعي وحماد ومالك والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث اقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب، ولا يعتبر ان يكونوا وارثين في الحال بل(9/644)
متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون
منها إلا ما فضل عن ورثتها ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا المناسبين.
(فصل) العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية سميت عاقلة لأنها تعقل لسان ولي المقتول وقيل إنما سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والمنع العقل ولهذا سمي بعض العلوم عقلاً لأنه يمنع من الإقدام من المضار، ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وان غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج وكل من عد العصبات ليسوا من العاقلة ولا يعقل المولى من أسفل وبه قال أبو حنيفة واصحاب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر عنه كالآخرين ولنا أنه ليس بعصبة له ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الانثى والصغير مع الكبير والعاقل مع المجنون (فصل) ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلاً يجعل له ولاءه ونصرته، ولا الحليف وهو الرجل يحالف آخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما او قصد أحدهما ولا العديد وهو الذي لا عشيرة له ينضم الى العشيرة فيعد نفسه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يعقل مولى الموالاة ويرث وقال مالك إذا كان الرجل في غير عشيرته فعقله على القوم الذين هو معهم(9/645)
ولنا أنه معنى يتعلق بالتعصيب فلا يستحق بذلك كولاية النكاح (فصل) ولا مدخل لأهل الديوان في العاقلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يتحملون جميع الدية فإن عدموا فالاقارب حنيئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على اهل الديوان في الأعطية الى ثلاث سنين.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عصبة القاتلة ولانه معنى لا يستحق به الميراث فلم يحمل به العقل كالجوار واتفاق المذاهب وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قضاء عمر على أنه صح ما ذكر عنه فيحتمل انهم كانوا عشيرة القاتل.
(مسألة) (وليس على فقير ولا صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا خنثى مشكل ولا رقيق ولا مخالف لدين الجاني حمل شئ من الدية وعنه أن الفقير يحمل من العقل)
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة واجمعوا على الفقير لا يلزمه شئ وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وحكى بعض اصحابنا عن مالك وأبي حنيفة أن للفقير مدخلاً في التحمل وعن أحمد مثل ذلك وحكاها ابو الخطاب لأنه من أهل النصرة فكان من العاقلة كالنثي، والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا تلزم الفقير(9/646)
كالزكاة ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفاً على العاقل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه وتكليف له ما لا يقدر عليه ولأننا اجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به وتحميل الفقير شيئاً منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه أو لا يكون له شئ اصلاً، واما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى التناصر وليس هم من أهل النصرة وكذلك المخالف في الدين ليس هو من أهل النصرة أيضاً (مسألة) (ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر) وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وانما هي من الحاضرين ولأن في قسمه على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين ولنا الخبر وانهم استووا في التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين ولأنه معنى يتعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب كالميراث والولاية (فصل) ويعقل المريض اذا لم يبلغ حد الزمانة، والشيخ اذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من اهل النصرة والمواساة، وفي الزمن والشيخ والفاني وجهان (أحدهما) لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد ولا يقنلان اذا كانا من أهل الحرب، وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى (والثاني) يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا منتقض بالصبي والمجنون ومذهب الشافعي كمذهبنا(9/647)
(مسألة) (وخطأ الإمام والحاكم في احكامه في بيت المال وعنه على عاقلته) لأن خطأه يكثر في احكامه فإيجاب ما يجب به على عاقلته يجحف بهم، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة واسحاق ولأن الإمام والحاكم نائب عن الله تعالى في احكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه وللشافعي قولان كالروايتين وفيه رواية أخرى أنه يجب على عاقلته لما روي أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر فأسقطت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم ان ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب فقال علي إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا رأيهم وإن كانوا في هواك فلم ينصحوا لك ان ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته فقال عمر أفسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك (مسألة) (وهل يتعاقل أهل الذمة؟ على روايتين) (إحداهما) يتعاقلون قياساً على المسلمين لأن قرابتهم تقتضي التوريث فاقتضت التعاقل كالمسلمين ولأن دياتهم ديات أحرار معصومين فأشبهت ديات المسلمين (والثانية) لا يتعاقلون لأن حمل العاقلة ثبت على خلاف الأصل لحرمة قرابة المسلمين فلا يقاس عليهم غيرهم لانهم لا يساوونهم في الحرمة (مسألة) (ولا يعقل حربي عن ذمي ولا ذمي عن حربي)(9/648)
لأنه لا يرث بعضهم من بعض فلا يعقل بعضهم عن بعض كغير العصبات وفي الميراث احتمال أنهما يتوارثان فيخرج في التعاقل مثل ذلك ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنه لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما فإن تهود نصراني أو تنصر يهودي وقلنا إنه يقر عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل اليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم؟ على وجهين وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة فتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة
(مسألة) (ومن لا عاقلة له أو لم يكن له عاقلة تحمل الجميع فالدية أو باقيها عليه ان كان ذمياً) لأن بيت المال لا يعقل عنه وإن كان مسلماً ففيه روايتان (إحداهما) يؤدى عنه من بيت المال وهو مذهب الزهري والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال وروي ان رجلاً قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله فقال علي لعمر يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرى مسلم فأدى ديته من بيت المال ولأن المسلمين يرثون من لا وارث(9/649)
له فيعقلون عنه عدم عاقلته كعصباته ومواليه (والثانية) لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق النساء والصبيان والمجانين والفقراء ومن لا عقل عليه فلا يجب صرفه فيما لا يجب عليهم ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو لعصبة هذا فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال وانما النبي صلى الله عليه وسلم تفضل بذلك عليهم وقولهم إنهم يرثونه قلنا ليس صرفه الى بيت المال ميراثاً بل هو فبئ ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة الى بيت المال ولا يرثه المسلمون ثم ان العقل لا يجب على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثاً فعلى الرواية الأولى إذا لم يكن له عاقلته أديت الدية كلها عنه من بيت المال وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع أخذ الباقي من بيت المال وهل يؤدى من بيت المال دفعة واحدة أو في ثلاث سنين؟ على وجهين (أحدهما) في ثلاث سنين كما يؤخذ من العاقلة (والثاني) يؤدى دفعة واحدة وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال كسائر ابدال المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفاً عنهم ولا حاجة الى ذلك في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع.
(فصل) فإن لم يكن الأخذ من بيت المال فليس على القاتل شئ وهذا أحد قولي الشافعي ولأن الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل أنها لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم ولا تجب على غير(9/650)
من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة
حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد قال شيخنا ويحتمل أن تجب في مال القاتل اذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني للشافعي لعموم قوله تعالى (ودية مسلمة) إلى أهله ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبراً للمحل الذي فوته وأنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل ولأن الأمر دائر بين ان يطل دم المقتول وبين ايجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له وايجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر وقد قالوا في المرتد تجب الدية في ماله لما لم يكن عاقلة والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهماً ثم أسلم أو كان مسلماً فارتد أو كان عليه الولاء لموالي امه فانجر الى موالي ابيه ثم اصاب سهمه انساناً فنقول قتيل في دار الإسلام معصوم تعذر حمل عاقلته عقله فوجب على قاتله كهذه الصور وهذا أولى من إهدار دماء الأحرار في غالب الأحوال فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدماء وتفوت حكمة ايجاب الدية قولهم إن الدية تجب على العاقلة عنه ابتداء ممنوع وانما تجب على القاتل ثم تحملها العاقلة وان سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم اما مع عدمهم فلا يمكن القول بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوض بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية على القاتل إن تعذر حمل جميعها أو باقيها إن حملت العاقلة بعضها(9/651)
(فصل) ولو رمى ذمي صيداً ثم أسلم ثم أصاب السهم آدمياً فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلماً حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتل مسلماً فتكون الدية في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم انساناً لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذمياً ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان ارش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة وما زاد على ارش الجرح لا يحمله احد ويكون في مال الجاني لما ذكرنا فإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجيمع الدية على الجاني وكذلك الحكم اذا جرح مسلم ثم ارتد ويحتمل ان تحمل العاقلة الدية كلها في المسئلتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحمل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى اذا قتله عمداً ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئاً لأن الأرش انما يستقر باندمال الجرح وسرايته.
(فصل) إذا تزوج عبد معتقه فاولدها أولاداً فولاؤهم لمولى أمهم فإن جنى أحدهم فالعقل على مولى أمه لأنه عصبته ووارثه فإن عتق ابوه ثم سرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى عتق ابوه لم يحمل عقله أحد لأن موالي الأم قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال جنايته فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح مما تحمله العاقلة منفرداً فيخرج فيه مثل ما قلناه في المسألة التي قبلها.
(مسألة) (ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافاً ولا ما دون ثلث الدية ويكون(9/652)
ذلك في مال الجاني حالاً إلا غرة الجنين إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية امه وإن ماتا منفردين لم تحملهما العاقلة لنقصهما عن الثلث) وجملة ذلك أن العاقلة لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه او لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما تجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بحال وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها فأشبهت جناية الخطأ ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا " وروي عن ابن عباس موقوفاً ولم نعرف له في الصحابة مخالفاً فيكون إجماعاً ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجبة للقصاص وجناية الأب على ابنه ولأن حمل العاقلة انما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفاً عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق المواساة ولا التخفيف فلم يوجد فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة (فصل) فإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى الى النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة لأنه فسرى الى النفس ففيه وجهان (أحدهما) تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض اشبه عمد الخطأ (والثانية) لا تحمله لأنه قتل بآلة يقتل مثلها غالباً فأشبه من له القصاص ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفى عنه فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب تحمله لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في(9/653)
دار الحرب مسلماً يظنه حربياً فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) ولا تحمل العاقلة العبد يعني اذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شئ على عاقلته خطأ كان أو عمداً وهذا قول ابن عباس والشعبي والثوري ومكحول والنخعي والبتي ومالك والليث وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور وقال عطاء والزهري والحكم وحماد وأبو حنيفة تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبو حنيفة في دية اطرافه ولنا حديث ابن عباس ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة دية أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس (فصل) ولا تحمل الصلح ومعناه ان يدعى عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد الى الدية والتفسير الأول أولى لأن هذا عمد يستغنى عنه بذكر العمد وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس والزهري والشعبي والثوري والليث والشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة أدى الى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقاً بقوله(9/654)
(فصل) ولا تحمل الاعتراف وهو ان يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه فلا تحمله العاقلة لا نعلم فيه خلافاً وبه قال ابن عباس والشعبي والحسن وعمر بن عبد العزيز والزهري والثوري ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب باقرار غيرهم ولا يقبل اقرار شخص على غيره ولأنه متهم في أن يواطئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه اياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في ماله في قول الأكثرين وقال أبو ثور وابن عبد الحكم لا يلزمه شئ ولا يصح إقراره
لأنه مقر على غيره لا على نفسه لأنه لم يثبت موجب اقراره فكان باطلاً كما لو أقر على غيره بالقتل ولنا قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح اقراره كما لو أقر باتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون فيضمن اذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد (فصل) ولا تحمل العاقلة ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء ومالك وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وقال الزهري لا تحمل الثلث ايضاً وقال الثوري وأبو حنيفة تحمل السن والموضحة وما فوقهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجنين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل(9/655)
ما دون ذلك ولأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل القليل والكثير لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد ولنا ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية ان لا يحمل منها شئ حتى تبلغ عقل المأمومة ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر الجنايات والمتلفات وإنما خولف في الثلث تخفيفاً عن الجاني لكونه كثيراً يجحف به قال النبي صلى الله عليه وسلم " الثلث كثير " ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث كثيراً فأما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وإن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية آدمي كاملة (فصل) وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في الفصل الذي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم لا تحمل ما دون الدية لأن ذلك يجري مجرى ضمان الأموال بدليل أنه لا يجب فيه كفارة ولنا قول عمر رضي الله عنه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة كدية النفس ولأنه كثير يجب ضمانا لحر اشبه ما ذكرنا وما ذكروه يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب
الدية أو زيادة عليها(9/656)
(فصل) وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما يبلغ ارشه ثلث دية الرجل كدية أنفها، فأما ما دون ذلك كدية يدها فلا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث (مسألة) (وتحمل غرة الجنين) إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه نص عليه لأن ديتهما وجبت في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتهما العاقلة كالدية الواحدة ولا تحملها إن مات منفرداً أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث (مسألة) (وتحمل جناية الخطأ عن الحر إذا بلغت الثلث) وحكي عن الشافعي لا تحمل ما دون الدية وقد ذكرناه وذكرنا دليله (مسألة) (قال أبو بكر ولا تحمل العاقلة شبه العمد ويكون في مال القاتل في ثلاث سنين) وهي رواية عن أحمد وبه قال ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور وهي على القاتل في ماله لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض، ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد (والثانية) تحملها العاقلة ذكرها الخرقي وهي ظاهر المذهب وبه قال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري واسحاق وأصحاب(9/657)
الرأي وابن المنذر لما روى أبو هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها متفق عليه، ولأنه نوع قتل لا يوجب القصاص فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ، ويخالف العمد المحض فإنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وارادته القتل، وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو الأسنان وهو قصده الفعل ويخف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى تغليظها من وجه وهو الأسنان وتخفيفها من وجه
وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنها تجب مؤجلة روى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وعبيد الله بن عمر ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل الينا ذلك عمن يعد خلافه خلافاً والدية تخالف سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا (مسألة) (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر لكن يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيحمل كل إنسان ما يسهل ولا يشق وجملة ذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم في إن العاقلة لا تكلف من العقل ما يجحف بها ويشق عليها(9/658)
لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويحجف به كالزكاة، ولأنه لو كان الاحجاف مشروعاً كان الجاني أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى، واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد يحملون على قد ما يطيقون فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدراً يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها الى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات، وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل ما يتقدر في الزكاة فكان معتبراً بها ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه بدليل قول عائشة رضي الله عنها لا يقطع في الشئ التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي وقال أبو حنيفة أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لا فله حد لأن ذلك يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر اقله كالنفقة قال ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك، والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير انما يصار إليه بتوقيف فيه وانما يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالبعد والقرب لذلك
(مسألة) (واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه فقال بعضهم يتكرر الواجب في الأحوال الثلاثة فيكون الواجب على الغني فيها دينارا ونصفا وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار)(9/659)
لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم لا يتكرر لأن في الإيجاب زيادة على النصف ايجاب الزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا، ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحول عنده كالزكاة، وإن اجتمع من العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل إنسان على حسب ما يراه وإن قل، وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغني ويعم بذلك جميعهم وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر يختص الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب ويصير إلى الشئ التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط فيشق جمعه ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا كالميراث وأما التعلق بمشقة الجمع فلا يصح لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل ثم هي معارضة بحقه الواجب على كل واحد منهم وسهولة الواجب عليهم، ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فإن خصه بالاجتهاد ففيه مشقة عليه وربما لا يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الإيجاب وإن خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يتخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين أن لا يوجب عليه ولا نظير له وربما ارتشى من بعضهم واتهم وربما امتنع من فرض عليه شئ من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه (مسألة) (ويبدأ بالأقرب فالأقرب فمتى اتسعت أموال الأقربين لها لم يتجاوزهم وإلا ننقل الى من يليهم)(9/660)
وجملة ذلك أنه يبدأ في قسمة الدية بين العاقلة الاقرب فالأقرب فيقسم على الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم ثم أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك أبداً حتى إذا انقرض الناسبون فعلى المولى المعتق ثم على
عصباته ثم على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وان قلنا الآباء والأبناء من العاقلة بدئ بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم للعقل لم يعدهم الى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح، وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب؟ على وجهين (أحدهما) يقدم كالميراث وكتقديم الأخ على ابنه (والثاني) يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب ولا اثر لقرابة الأم في التعصيب والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن قرابة الأم تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع القرابتين على وجه لا تنفرد كل واحدة بحكم وذلك لأن القرابتين تنقسم الى ما ينفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم اذا كان أخاً لأم فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثاً منفرداً يرث السدس بالاخوة ويرث بالتعصب ببنوة العم، وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هو اخ لأم على غيره، والى ما لا تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم من ابوين من ابن عم من اب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب ولذلك أثرث في التقديم في الميراث فكذلك في غيره، وبما ذكرنا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسوى بين القريب والبعيد ويقسم على جميهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب ان يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك(9/661)
(مسألة) (وإن تساوى جماعة في القرب وزع القدر الذي يلزمهم بينهم) لأنهم استووا في القرابة المقتضية للعقل عنه فتساووا في حكمه كسائر الأحكام وقد ذكرنا ذلك في مسألة وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر (فصل) ولا يحمل العقل من لا يعرف نسبه من القاتل إلا أن يعلم أنهم من قوم يدخلون كلهم في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشياً لم يلزم قريشاً كلهم التحمل فإن قريشاً وان كانوا كلهم يرجعون الى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون الى اب يتميزون به فيقل عنهم من يشاركهم في نسبتهم الى الأب الأدنى، الا ترى أن الناس
كلهم بنو آدم فهم راجعون الى أب واحد لكن إن كان من فخذ يعلم ان جميعهم يتحملون وجب ان يتحمل جميعهم سواء عرف احدهم أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وإن لم يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت المال فلذلك يعقلونه على هذا الوجه فإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال لذلك، فإن قيل فهذا ينتقض بالذمي الذي لا وارث له فإن ميراثه لبيت المال ولا يعقلون عنه، قلنا إنما لم يعقلون عنه لوجود المانع وهو اختلاف الدين ولذلك لا يعقله عصباته المسلمون(9/662)
(مسألة) (وما تحمله العاقلة يجب مؤجلاً في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه ان كان دية كاملة) لا خلاف بين أهل العلم في أن دية الخطأ على العاقلة حكاه ابن المنذر وأنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعلياً رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهم في الصحابة مخالفاً واتبعهم أهل العلم على ذلك لأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالاً كالزكاة ويجب في آخر كل حرل ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ابتداؤها من حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم (مسألة) (وإن كان الواجب ثلث الدية وجب في رأس الحول الأول وإن كان نصفها كدية اليد وجب في رأس الحول الأول الثلث وباقيه في رأس الحول الثاني وإن كان دية امرأة أو كتابي فكذلك ويحتمل أن يقسم في ثلاث سنين، وإن كان أكثر من دية كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره لم يزد في كل حول على الثلث) .
وجملة ذلك أن الواجب إذا كان دية كاملة فإنها تقسم في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها سواء كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الأنف والأذنين، وإن كان دون الدية فان نظرنا فإن كان الثلث كدية المأمومة وجب في آخر السنة الأولى ولم يجب منه شئ حال لأن العاقلة لا تحمل
حالاً وإن كان نصف الدية أو ثلثيها كدية المرأة دية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى(9/663)
والباقي في آخر السنة الثانية، وإن كان أكثر من دية مثل ان ذهب سمع إنسان وبصره ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على الثلث، وإن كان الواجب بالجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه، وإن كان الواجب دون ثلث الدية كدية الأصبع لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالاً لأنه متلف لا تحمله فكان حالاً كالجناية على المال (مسألة) (فإن كانت الدية ناقصة كدية المرأة والكتابي ففيها وجهان) (أحدهما) تنقسم في ثلاث سنين بدل النفس فأشبهت الدية كاملة (والثاني) يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تنقسم في ثلاث سنين كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة وللشافعي كالوجهين، فإن كانت الدية لا تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي وهي ثمانمائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل لم تحمله العاقلة لأنه ينقص عن الثلث فأشبه دية السن والموضحة إلا ان يقتل الجنين مع امه فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون دية الأم على الوجهين، فإن قلنا هي في عاملين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية الأم في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن يجب مع باقي دية الأم في العام الثاني وإن قلنا دية الأم في ثلاث سنين فهل تجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أو لا؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين وجبت في السنين التي وجبت فيها دية الأم لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتها وثلث ديته، ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفهما موجب جناية واحدة(9/664)
(مسألة) (وابتداء الحول في الجرح من حين الاندمال وفي القتل من حين الموت وقال القاضي إن لم يسر الجرح إلى شئ فحوله من حين القطع) وجملة ذلك أنه إذا كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت سواء كان قتلا موجباً او عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح اندمل من غير
سراية مثل ان قطع يده فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة الوجوب ولهذا لو قطع يده وهو ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي وأما إن كان الجرح سارياً مثل أن قطع أصبعه فسرى ذلك الى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت فما استقر الأرش إلا من حين الاندمال هكذا ذكره القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب تعتبر المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيها (مسألة) (ومن مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه وإن مات بعد الحول لم يسقط ما عليه) من مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحول لم يلزمه شئ لا نعلم في هذا خلافاً لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة وإن كان ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول ولنا أنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق ما قبل الحول لأنه لم يجب ولم يستمر الشرط الى حين الوجوب فأما إن كان فقيراً عند القتل فاستغنى عند الحول فقال القاضي يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله وبخرج على هذا من كان صبياً(9/665)
فبلغ أو مجنوناً فأفاق عند الحول وجب عليه لذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالاً ثم أسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه (مسألة) (وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة) لأنه لم يتحقق منه كمال القصد فتحلمه العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل العذر فأشبه الخطأ وعنه في الصبي العاقل أن عمده في ماله وهو أحد قولي الشافعي لأنه عمد يجوز تأديبه عليه فأشبه القتل من البالغ والأول أولى وما ذكروه ينتقض بشبه العمد والله سبحانه وتعالى أعلم (باب كفارة القتل) من قتل نفساً محرمة خطأ او ما أجري مجرى الخطأ أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات فعليه الكفارة
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الآية وأجمع أهل العلم على ان على القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكراً أو انثى ويجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل او تسبب الى قتله بسبب تضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لأنه ليس بقتل ولأنه ضمن بدله بغير مباشرة القتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة ولنا أنه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لإتلاف الآدمي يتعلق به ضمان فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكباً فأوطأ دابته إنساناً وقياسهم ينتقض بالأب إذا أكره إنساناً على قتل ابنه فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة وفارق العاقلة فإنها تحمل من غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب إليه وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لأنه وان قصد القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص(9/666)
(مسألة) (ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة) هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعكرمة والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد أن على المشتركين كفارة واحدة حكاها أبو الخطاب وهو قول أبي ثور وحكي عن الأوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وأنكره سائر أصحابه واحتج لمن أوجب كفارة واحدة بقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ومن تتناول الواحد والجماعة ولم يوجب إلا كفارة واحدة ودية، والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة وإنها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين إذا كان المقتول واحد ككفارة الصيد الحرمي ولنا أنها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فإنها تجب بدلاً ولهذا تجب في ابعاضه فكذلك الدية (مسألة) (ولو ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً أو حياً ثم مات فعليه الكفارة) تجب الكفارة بإلقاء الجنين الميت إذا كان من ضرب بطنها وبه قال الحسن وعطاء والزهري والنخعي
والحكم ومالك والشافعي واسحاق وقال أبو حنيفة لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين (مسألة) (مسلماً كان المقتول أو كافراً حرا أو عبدا) تجب الكفارة بقتل الكافر المضمون سواء كان ذمياً أو مستأمناً وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال الحسن ومالك لا كفارة فيه لقول الله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) فمفهومه انه لا كفارة في غير(9/667)
ولنا قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولأنه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم (مسألة) (وتجب الكفارة بقتل العبد) وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا تجب لأنه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فأشبه الحر ويفارق البهائم بذلك (مسألة) (وسواء كان القاتل كبيراً عاقلاً أو صبياً أو مجنوناً حرا أو عبدا) إذا كان القاتل صبياً أو مجنوناً وجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر تجب عليه الكفارة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا كفارة على واحد منهم لأنها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون والكافر كالصوم والصلاة وقياساً على كفارة اليمين ولنا أنه حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية ويفارق الصوم والصلاة فإنهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية أشبهت نفقة الأقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لأنها تتعلق بالقول ولا قول لهما وهذه تتعلق بالفعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل مالا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق باحبالهما دون اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة له كالحدود والحر والعبد سواء لدخولهما في عموم الآية (مسألة) (ويكفر العبد بالصيام لأنه) لا مال له وقد ذكرنا كفارة العبد فيما مضى (فصل) ومن قتل في دار الحرب مسلماً يعتقده كافراً أو رمى الى صف الكفار فأصاب فيهم مسلماً
فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة)(9/668)
(مسألة) (فأما القتل المباح كالقصاص والحد وقتل الباغي والصائل فلا كفارة فيه) وجملة ذلك أن كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني المحض والقتل قصاصاً وحداً لأنه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة لأنه كقتل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة فلذلك وجبت الكفارة فيها وقال قوم الخطأ محرم لا إثم فيه وقيل ليس بمحرم لأن المحرم ما إثم فاعله.
وقوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) هذا استثاء منقطع وإلا في موضع لكن والتقدير لكن قد يقتله خطأ وقيل إلا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي لعدم إمكان التحرز منه وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا لكانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه فأما قتل نساء أهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنهم ليس لهم أيمان ولا أمان وإنما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقاً ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشئ فاشبهوا من قتله مباح (فصل) ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب لأن ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة به كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم ووجه الأول عموم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره قال شيخنا وقول أبي حنيفة أقرب الى الصواب إن شاء الله تعالى فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ فلم بأمرالنبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة فأما قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ) فإنما(9/669)
أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله (ودية مسلمة إلى أهله) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع (مسألة) (وفي العمد وشبهه روايتان (إحداهما) لا كفارة فيه اختارها أبو بكر والقاضي والأخرى فيه الكفارة)
المشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال مالك والثوري ومالك وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفاة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الاسقع قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال " اعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار " ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لأنه أعظم جرماً وحاجته الى تكفير ذنبه أعظم ولنا مفهوم قوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ثم ذكر قتل العمد فلم يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي أن سويد بن الصامت قتل رجلاً فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بكفارة ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجباً أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعاً ولذلك أمر غير القاتل بالإعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ لتمحو إئمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك ايجابها في موضع عظم الإثم فيه بحيث لا يرتفع بها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد(9/670)
(فصل) فأما شبه العمد فقال شيخنا تجب فيه الكفارة ولم أعلم لأصحابنا فيه قولاً لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئاً من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة لحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شئ أصلاً ولم يرد الشرع بهذا وقد ذكر في الكتاب المشروح رواية أنه كالعمد لأن ديته مغلظة وهي اختيار أبي بكر لأن عنده أن الدية فيه يحملها القاتل فقد اشبه العمد في ذلك فكان حكمه حكمه (فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص القرآن سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً
النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة وعمرو بن أمية الضمري قتل رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فوداهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بكفارة ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجباً أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعاً ولذلك أمر غير القاتل بالإعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ لتمحو إئمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك ايجابها في موضع عظم الإثم فيه بحيث لا يرتفع بها.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لأن هذا من أنواع العمد(9/671)
(فصل) فأما شبه العمد فقال شيخنا تجب فيه الكفارة ولم أعلم لأصحابنا فيه قولاً لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل إنما لم يحمل شيئاً من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة لحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شئ أصلاً ولم يرد الشرع بهذا وقد ذكر في الكتاب المشروح رواية أنه كالعمد لأن ديته مغلظة وهي اختيار أبي بكر لأن عنده أن الدية فيه يحملها القاتل فقد اشبه العمد في ذلك فكان حكمه حكمه (فصل) وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص القرآن سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً فإن لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضاً فإن لم يستطع ففيه روايتان (إحداهما) يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شئ آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره (والثانية) يجب إطعام ستين مسكيناً عند العجز عن الصوم ككفارة الظهار والفطر في رمضان وإن لم يكن مذكوراً في نص القرآن فقد ذكر في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الإطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه وللشافعي في هذا قولان كالروايتين والله أعلم (تم بحمد الله وعونه الجزء التاسع..)(9/671)
بسم الله الرحمن الرحيم باب القسامة وهي الأيمان المكررة في دعوى القتل والقسامة مصدر أقسم قسامة ومعناه حلف حلفاً، والمراد بالقسامة ههنا الأيمان المكررة في دعوى القتل، وقال القاضي هي الأيمان اذا كثرت على وجه المبالغة، قال وأهل اللغة يذهبون الى أنها القوم الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل عدل ورضى، وأي الأمرين كان فهو من القسم الذي هو الحلف، والأصل في القسامة ماروي عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا الى خيبر فتفرقا في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وأبناء عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (كبر الكبر) أو قال(10/2)
(ليبدأ الأكبر) فتكلما في أمر صاحبهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فقالوا أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم) قالوا يا رسول الله قوم كفار ضلال قال فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله قال سهل فدخلت مربداً لهم
فركضتني ناقة من تلك الابل) متفق عليه (مسألة) (ولا يثبت إلا بشروط أربعة: أحدها دعوى القتل ذكراً كان المقتول أو أنثى حراً أو عبداً مسلماً أو ذمياً وأما الجراح فلا قسامة فيها) دعوى القتل شرط في القسامة ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول ادعي أن هذا قتل وليي فلان ابن فلان عمداً أو خطأ أو شبه عمد، ويصف القتل فان كان عمداً قال قصد اليه بسيف أو بما يقتل مثله غالباً.
فان كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل فإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار الأمر الى الأيمان، وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول قتله هذا وهذا تعمد قتله، ويصف العمد بصفته فيقال له عين واحداً فان القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد (الحال الثاني) أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئاً فهو يدعي قتلا غير.
موجب للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من مال الخاطئ (الحال الثالث) أن يقول عمد هذا ولا أدري أكان قتل الثاني عمداً أو خطأ فقيل لا تسوغ القسامة(10/3)
ههنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئاً فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامداً فلا يسوغ ههنا ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا، فان عاد فقال علمت أن الآخر كان عامدا فله أن يعين واجدا ويقسم عليه، وإن قال كان مخطئاً ثبتت القسامة حينئذ ويسئل الآخر فان أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت باقراره لا بالقسامة، وقال القاضي يكون على عاقلته والأول أصح لأن العاقلة لا تحمل اعترافا (الحال الرابع) أن يقول قتلاه خطأ أو شبه عمدا أو أحدهما خاطئا والآخر شبهه العمد فله أن يقسم عليهما، فإن ادعى أنه قتل وليه عمداً فسئل عن تفسيره العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره وأقسم على ما فسره به لأنه أخطأ في وصف القتل بالعمدية، ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة فلم تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال ولنا أن دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمداً وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به
ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبيين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة فكأنه أحلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فاذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم يحصل المقصود باليمين فلم يصح (فصل) قال القاضي يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل اذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا(10/4)
غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار (تحلفون وتستحقون دم صاحبكم) وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر، ولأن للانسان أن يحلف على غالب ظنه كما ان من اشترى من إنسان شيئاً فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه وكذلك اذا وجد شيئاً بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز أن يحلف، وكذلك إذا باع شيئاً لم يعلم فيه عيباً فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له أن يحلف أنه باعه بريئاً من العيب، ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة ظن يقارب اليقين، وينبغي للحاكم أن يقول لهم اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم ويحذرهم ويقرأ عليهم (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البرئ وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم ان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي (مسألة) (وسواء كان المقتول ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً مسلماً أو ذمياً) أما إذا كان المقتول مسلماً حراً فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلماً أو كافراً فان الأصل في القسامة قصة عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة وأما إن كان المقتول كافراً أو عبداً وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حالة أو دونه ففيه القسامة، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، وقال الزهري والثوري ومالك والاوزاعي لا قسامة في العبد لأنه مال فلم تجب القسامة فيه كالبهيمة(10/5)
ولنا أنه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر بخلاف البهيمة فانه لا قصاص فيها
ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه، وأم الود والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن الرق ثابت فيهم، فإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافراً والحر يقتل عبداً فلا قسامة فيه في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي فيها القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم، ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد والكافر كالبينة، ووجه قول الخرقي أنه قتل لا يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه بدليل أن العبد لو اتهم بقتل سيده وجبت القسامة إذا كان القتل موجباً للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجباً للقصاص لم تشرع القسامة (فصل) وان قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك العبد يملك التصرف فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه منه، ولو اشترى المأذون له في التجارة عبداً فقتل فالقسامة لسيده دونه لأن ما اشتراه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه، وإن عجز المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صاو المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات قبل أن يقسم، ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبداً فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد(10/6)
بالتمليك أولا يملك لأنه إن لم يملك فالملك لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز له التصرف بغير إذن سيده بخلاف المكاتب، وإن أوصى لأم ولده ببدل العبد صحت الوصية وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون مقام الموصي في إثبات حقوقه فإذا حلفوا ثبت لها البدل بالوصية فإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف كما اذا امتنع الورثة باليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه (فصل) والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه لأنه إذا أقر بمال أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم تلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال غير مقبول بالنسبة الى أخذ شئ من ماله في الحال على ما عرف في موضعه
(فصل) ولو جرح مسلم فارتد فمات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة ولا قسامة فيما دون النفس ولأن ماله يصير فيأ والفئ ليس له مستحق معين فتثبت القسامة له، وإن مات مسلماً فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر ليس له أن يقسم وإن أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه فلا يبقى مستحقاً للقسامة وهذا قول المزني ولأن المرتد قد أقدم على الكفر الذي لا ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل، وقال القاضي الأولى أن تعرض عليه القسامة فان أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال بالقسامة حق له فلا يبطل(10/7)
بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه لأن الكافر تصح يمينه ويعرض عليه في الدعاوى فإن حلف ثبت القصاص أو الدية، فإن عاد إلى الإسلام كان له وإن مات كان فيئاً والصحيح إن شاء الله ما قاله أبو بكر لأن مال المرتد إما أن يكون ملكه قد زال عنه واما موقوف وحقوق المال حكمها حكمه، فإن قلنا يزول ملكه فلا حق له وإن قلنا هو موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشئ مشكوك فيه كيف وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك؟ فأما إن ارتد قبل موت مورثه لم يكن وارثاً ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوارث فإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا، فإن عاد إلى الإسلام قبل قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث قسم له.
وقال القاضي لا تعود القاسمة اليه لأنها استحقت على غيره وإن ارتد رجل فقتل عبده أو قتل عبده ثم ارتد فهل له أن يقسم؟ عل وجهين بناء على الاختلاف المتقدم فإن عاد إلى الإسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد (مسألة) (فأما الجراح فلا قسامة فيها) لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجراح لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي لأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة(10/8)
ولأنها تثبت حيث كان المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق، والبينه على المدعي واليمين على المنكر يميناً واحدة لأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال (الثاني) اللوث وهو العداوة الظاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضاً بثأر في ظار المذهب، اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في اللوث فروي عنه أن العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما كان بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما بين البغاة وأهل العدل وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلاً في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغناً يؤخذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة الا أنه قد قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة التي القتيل من غيرها سواء كان القتال بالتحام أو مراماة بالسهام وان لم تبلغ السهام فاللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا فانه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضاً واشترط القاضي أن يوجد القتيل في موضع عدو(10/9)
لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن بها الا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل أن يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض قوله فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل فقال إن كان في القوم من بينه وبينه عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثاً مع وجود غير العدو ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها لأنها كانت أملاكاً للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار ليس لنا بخيبر عدو إلا اليهود يدل على أنها قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من
وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلأن لا يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فان اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه فلا ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيح إلى الأيمان ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لاحتمال أن القاتل غيره ولا على الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترك الجميع في قتله والرواية الثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ذلك من وجوه(10/10)
(أحدها) العداوة المذكورة (الثاني) أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثاً في حق كل واحد منهم فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع المجاعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة (الثالث) أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد بينهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فإنه قال فيمن مات من الزحام يوم الجمعة: فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر وعلي فان سعيداً روى في سننه عن ابراهيم قال قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله الى عمر فقال: بينتكم على من قتله فقال علي يا أمير المؤمنين لا تطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعط ديته من بيت المال وقال أحمد فيمن وجد مقتولاً في المسجد الحرام ينظر من كان بينه وبينه شئ في حياته يعني عداوة فلم يجعل الحضور لوثاً وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن والزهري فيمن مات في الزحام ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم، وقال مالك دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة فيه وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب اليه في رجل وجد قتيلا ولم يعرف قاتله فكتب اليهم إن من القضايا قضايا لا يحكم فيها الافي الدار الآخر ة وهذا منها (الرابع) أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن قتله مثل أن يرى رجلاً هارباً يحتمل أنه قاتل أو سبعاً يحتمل ذلك فيه(10/11)
(الخامس) أن تقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى.
ذكره القاضي فان كانوا بحيث لا يصل سهام بعضهم بعضاً فاللوث على طائفة القتيل وهذا قول الشافعي، وروى عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك.
وقال ابن أبي ليلى: عقله على الفريقين جميعاً لأنه يجتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم: فدية المقتولين على المجروحين يسقط منه دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شئ على وجهين ذكرهما ابن حامد (السادس) أن يشهد بالقتل عبيد ونساء ففيه عن أحمد روايتان (إحداهما) أنه لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه العداوة (والثانية) ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به كفار وإن شهد به فساق أو صبيان ففيه وجهان (أحدهما) ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الأطفال والمجانين (والثاني) يثبت بها اللوث لأنها شهادة فغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الأدب في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي.
ويعتبر أن يجئ الصبيان متفرقين لئلا يتطرق إليهم التواطؤ على الكذب.
فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث لأنها تغلب على الظن صدق المدعي أشبهت العداوة.
وروي أن هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام(10/12)
لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس عليها لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس على المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس بالمظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع والمقتضي ولا سبيل إلى تغير التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها.
فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
(فصل) وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن لوثاً عند أحد علمنا قوله وإن شهدا أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم تكمل الشهادة ولم يكن لوثاً.
هذا قول القاضي واختياره.
والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالاقرار بقتله أنه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته وقال الشافعي هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد.
ولنا انها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم تكن لوثاً كالصورة الأولى(10/13)
(فصل) وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك والشافعي.
وعن أحمد أنه شرط وهذا قول حماد وأبي حنيفة والثوري لأنه إذا لم يكن به أثر احتمل أنه مات حتف أنفه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أو لا؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر، وم به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه.
فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه لا يكون إلا لخنق أو أمر أصيب به، وإن خرج من أنفه فهل يكون لوثاً على وجهين (مسألة) (فأما قول القتيل فلان قتلني فليس بلوث) هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي.
وقال مالك والليث هو لوث لأن قتيل بني اسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة.
ويروى هذا القول عن عبد الملك بن مروان ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى، قوم دماء رجال وأموالهم) ولأنه يدعي حقاً لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت، ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثاً كالولي فأما قتيل بني اسرائيل فلا حجة فيه فإنه لا قسامة فيه فإن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث
أحياه الله تعالى بعد موته وانطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله تعالى لينطقه بالكذب بخلاف الحي ولا سبيل إلى مثل هذا اليوم، ثم ذاك في تبرئة المتهمين فلا يجوز تعديته الى تهمة البريئين(10/14)
(مسألة) (ومتى ادعى القتل مع عدم اللوث عمداً فقال الخرقي لا يحكم له بيمين ولاغيرها وعن أحمد أنه يحلف يميناً واحدة وهي الأولى.
وإن كان خطأ حلف يميناً واحدة) إذا ادعى القتل مع عدم اللوث لم يخل من حالين (أحدهما) إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة ولم يكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى إن كانت لهم بينة حكم لهم بها وإلا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: اذا ادعى اولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين فللولي أن يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون خمسين يميناً والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فإذا نقصوا عن الخمسين كررت الأيمان عليهم حتى تتم فاذا حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع فإن لم يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يميناً وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب الحيين فقالوا: والله ما وقت أيماننا أموالنا ولا أموالنا ايماننا.
فقال عمر حقنتم بأموالكم دماءكم ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولأن المدعى عليه الأصل براءة ذمته ولم يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر الدعاوى(10/15)
ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم كسائر الدعاوى وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من قول عمر وأحق بالاتباع.
ثم قضية عمر يحتمل أنهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فأحلفوا على العمد ثم أنهم لا يعلمون بخبر النبي صلى الله عليه وسلم المخالف للاصول وقد صاروا ههنا إلى ظاهر قول عمر المخالف للأصول وهو إيجاب الأيمان على غير المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم
وتغريمهم وحبسهم على الأيمان قال إبن المنذر: سن النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وسن القسامة في القتيل الذي وجد بخيبر، وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن (فصل) ولا تسمع الدعوى على غير معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة أو واحد غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي تسمع ويستحلف خمسون منهم لأن الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر ولم يعينوا القاتل فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواهم ولنا أنها دعوى في حق فلم تسمع على غير معين كسائر الدعاوى فأما الخبر فأن دعوى الأنصار التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها فان تلك من شرطها حضور المدعى عليه عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إن الدعوى لا تصح إلا على واحد بقوله (تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) وفي هذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين(10/16)
[فصل] فأما ادعى القتل من غير وجود قتل ولا عداوة فهي كسائر الدعاوى في اشتراط تعيين المدعى عليه وإن القول قوله لا نعلم فيه خلافاً (الحال الثاني) أنه إذا ادعى القتل ولم يكن عداوة ولا لوث فإنه لا يحكم على المدعى عليه بيمين ولا بشئ في إحدى الروايتين ويخلى سبيله هذا الذي ذكره الخرقي، سواء كانت الدعوى خطأ أو عمداً لأنها دعوى فيما لا يجوز بذله فلم يستحلف فيها كالحدود، ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول فلم يحلف فيها كالحدود (والثانية) يستحلف وبه قال الشافعي وهو الصحيح لعموم قوله عليه السلام (اليمين على المدعي عليه) وقوله عليه السلام (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم ظاهر في ايجاب اليمين ههنا لوجهين (أحدهما) عموم اللفظ فيه (والثاني) أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في صدر الخبر بقوله (لا دعى قوم دماء رجال واموالهم - ثم عقبه بقوله - ولكن اليمين على المدعى عليه) فيعود الى المدعى عليه المذكور في الحديث، ولايجوز اخراجه منه الا بدليل أقوى منه، ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف كدعوى
المال ولأنها دعوى لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها فيجب اليمين فيها كالأصل المذكور.
إذا ثبت هذا فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد أنه يشرع خمسون يميناً لأنها دعوى في القتل فيشرع فيها خمسون يميناً كما لو كان بينهم لوث وللشافعي فيها كالروايتين(10/17)
ولنا أن قوله عليه الصلاة والسلام (ولكن اليمين على المدعى عليه) ظاهر في أنها يمين واحدة لوجهين (أحدهما) أنه وحد اليمين فينصرف الى واحدة (الثاني) أنه لم يفرق في اليمين المشروعة في الدم والمال ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كسائر الأيمان، ولأنها يمين مشروعة في جنبة المنكر ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الأيمان وبهذا فارق ما ذكروه (فصل) فان نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب، وقال أصحاب الشافعي إن نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعي فحلف خمسين يميناً واستحق القصاص أو الدية ان كانت الدعوى عمداً موجباً للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الاقرار والقصاص يجب بكل واحد منهما ولنا أن القتل يثبت ببينة ولا اقرار ولم يعضده لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح الحاق الأيمان مع النكول ببينة ولا اقرار لأنها أضعف منها بدليل انها لاتشرع الاعند عدمهما فتكون بدلا عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالاقوى ثبوته بالاضعف ولا يلزم من وجوب الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له ويدرأ بالشبهات والدية بخلافه، فأما الدية فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو يرد اليمين على المدعي(10/18)
فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت الدعوى في مال وسواء كانت الدعوى عمداً أو خطأ فان العمد متى تعذر ايجاب القصاص فيه وجب به المال وتكون الدعوى ههنا كسائر الدعاوى والله علم (الثالث) اتفاق الأولياء في الدعوى فإن ادعى بعضهم وأنكر بعض لم تثبت القسامة) من شرط ثبوت القسامة اتفاق الأولياء على الدعوى فان كذب بعضهم بعضاً فقال أحدهم قتله
هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص عليه أحمد، وسواء كان المكذب عدلاً أو فاسقاً، وعن الشافعي أن القسامة لا تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعيا ديناً لهما وإنما لا يقبل قوله على غيره وأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها، فأما إن لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر قوله ههنا أن القسامة لا تثبت وهو ظاهر كلام الخرقي لاشتراط دعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك، وكذلك إن كان أحد الوليين غائباً فادعى الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الأيمان لم يثبت القتل في قياس قول الخرقي، ومقتضى قول أبي بكر والقاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيراً، فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يميناً ويستحق نصف الدية لأن الأيمان ههنا بمنزلة البينة لا يثبت(10/19)
شئ من الحق إلا بعد كمال البينة فأشبه ما لو أدعى أحدهما ديناً لأبيهما فانه لا يستحق نصيبه من الدين إلا أن يقيم بينة كاملة ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولأن الحق في محل الوفاق إنما ثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الأيمان كما في سائر الدعاوى فعلى هذا إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال قد عرفنه هو الذي عينه أخي أقسما حينئذ وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون إلاعلى واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه إنما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعاً على هذا الذي اتفقا عليه على حسب دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه، ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه، وإن قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لاأعرفه وقال الآخر قتله
عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون إلا على واحد ولأنهما ما اتفقا في الدعوى على أحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم يتفقا على الدعوى عليه والحق إنما يثبت في محل الوفاق بايمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بيامان البعض؟ وقال أبو بكر والقاضي تثبت القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فإنه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما(10/20)
هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يميناً ويستحق ربع الدية وان عاد كل واحد منهما فقال قد عرفت الذي جهلته وهو الذي عينه أخي حلف أيضاً على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع الدية، ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على أيمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء، وفيه وجه آخر يحلف خمسين لأن أخاه حلف خمسين يمينا، وللشافعي في هذا قولان كالوجهين، ويجئ في المسألة وجه آخر أن الأول لا يحلف أكثر من خمس وعشرين يميناً لأنه إنما يحلف على ما يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الأيمان كما لو حلف أخوه معه، وإن قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية، وإن كذب أحدهما اخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة المكذب دون الذي لم يكذب (فصل) إذا قال الولي بعد القسامة غلطت ما هذا الذي قتله، أو ظلمته بدعواي القتل عليه أو قال كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد ولا يمكنه أن يقتله إذا كان فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره، وإن قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك فإن قال أردت انني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضاً، فإن قال أردت أن الأيمان تكون في جنبة المدعي عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها تثبت باجتهاد الحاكم فيقدم على اجتهاده، وإن قال هذا مغصوب وأقر بمن غصبه منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من(10/21)
أخذ منه لأن الانسان لا يقبل إقراره على غيره وإن لم يقر به لأحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه
وإن اختلفا في مراده فالقول قوله لأنه أعرف بقصده (فصل) وإن أقام المدعي عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه اليه في يوم واحد بطلت الدعوى، وإن قالت البينة نشهد أن فلاناً لم يقتله لم تسمع هذه الشهادة لأنه نفي مجرد، فان قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات ضتمن النفي فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم القتل في بلد بعيد (فصل) فإن جاء انسان فقال ما قتله المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله القسامة ولا يلزمه رد الدية وإن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شئ لأنه أقر لمن يكذبه وان صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذ وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر؟ فيه وجهان (أحدهما) له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر حقوق (والثاني) ليس له مطالبته لأن دعواه على الاول انفراده بالقتل ابراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه والمنصوص عن أحمد أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فإنه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقاد منه فقام رجل فقال ما قتله هذا أنا قتلته فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني، ووجه ذلك ما روى أن رجلاً(10/22)
ذبح رجلاً في خربة وتركه وهرب وكان قصاب يذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه الى الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده عليها الدم فأخذ على تلك الحال وجئ به الى عمر فأمر بقتله، فقال القاتل في نفسه يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسبي آخر فقام فقال أنا قتلته لم يقتله هذا فقال عمر: إن كان قد قتل نفساً فقد أحيا نفساً، ودرأ عنه القصاص، ولأن الدعوى على الأول شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لا قراره بالقتل الموجب لها، وهذا القول أصح وأعدل مع شهادة الأثر بصحته (الرابع) أن يكون في المدعين رجال عقلاء ولا مدخل للنساء والصبيان والمجانين في القسامة عمداً كان القتل او خطأ أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من
الأولياء أو مدعى عليهم لأن الأيمان حجة على الحالف والصبي لا يثبت بقوله حجة، ولو أقر على نفسه لم يقبل فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى، والمجنون في معناه لأنه غير مكلف فلا حكم لقوله وأما النساء فاذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة والثوري والليث والاوزاعي، وقال مالك لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد.
قال ابن القاسم: ولا يقسم في العمد إلا اثنان فصاعداً كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين، وقال الشافعي يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان(10/23)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون رجلاً منكم ويستحقون دم صاحبكم) ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلم تسمع من النساء كالشهادة، ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمناً، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال، فأما إن كانت المرأة مدعى عليها القتل فان قلنا انه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضاً لأن ذلك مختص بالرجال، وإن قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقاً ولا قتلاً وانما هي كتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم النساء، وإن كان منهم صبيان ورجال بالغون أو كان منهم حاضرون وغائبون فان القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب ويبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت الا بالبينة الكاملة، والبينة أيمان الأولياء كلهم والأيمان لا تدخلها النيابة ولأن الحق إن كان قصاصاً فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر والبالغ، وإن كان غيره فلا يثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضاً، وقال القاضي إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئاً في الحال، وإن كان موجباً للمال كالخطأ وشبه العمد فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية وهذا قول(10/24)
أبي بكر ومذهب الشافعي، واختلفوا في كم يقسم الحاضر؟ فقال ابن حامد يقسم بقسطه من الأيمان وان كان الاولياء اثنين أقسم الحاضر خمسة وعشرين يمينا، وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يميناً، وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يميناً وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه فكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان وقال أبو بكر يحلف الأول خمسين يمينا وهو قول الشافعي لأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها، وكذلك لو أدعى أحدهما ديناً لابيهما لم يستحق نصيبه منه إلا بالبينة المثبتة لجميعه ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق، ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد يحلف يميناً كاملة فاذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحداً عند أبي بكر لأنه يبني على أيمان أخيه المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر يحلف خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو، وحكي ذلك عن ابي بكر والقاضي أيضاً فاذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يحلف سبع عشرة يميناً لأنه يبني على أيمان أخويه وكذلك على أحد قولي الشافعي وعلى الثاني يقسم خمسين يمينا وان قدم رابع فهل يحلف ثلاثة عشر يميناً أو خمسين؟ فيه قولان(10/25)
(فصل) والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن سبب القسامة وجد في حقه وهو الاستحقاق من الدية ولم يتحقق المانع من يمينه ويحتمل أن لا يقسم لأنه لا يحمل من العقل فلا يثبت القتل بيمينه كالمرأة (مسألة) (وذكر الخرقي من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمداً يوجب القصاص إذا ثبت القتل وأن تكون الدعوى على واحد) لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري ومالك وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة وقول أبي ثور نحو هذا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته) فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة
خولف بها الأصول في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه وبيان مخالفة الأصل بها أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها؟ ولأن الايمان ثبتت ابتداء في سائر الدعاوي في جانب المدعى عليه وهذه بخلافه وبيان ضعفها أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره فلأن يمنع من قبول قوله وحده في إثبات حق له أولى وأحرى وفارق البينة فانها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقاً ولا نفعاً(10/26)
فلا يدفعون عنها ضرراً ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات.
إذا ثبت هذا فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة لا تسوغ إلا في حق واحد، وعند غيره من أصحابنا أن القسامة تجري فيما لاقود فيه فيجوز أن يقسموا على جماعة وهذا قول مالك والشافعي فعلى هذا إذا ادعى على رجلين على أحدهما لوث دون الآخر حلف على من عليه اللوث خمسين يميناً واستحق الدية عليه وحلف على الآخر يمينا واحدة وبرئ، وإن نكل عن اليمين فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا أحدهم حلف على الحاضر منهم خمسين يميناً واستحق ثلث الدية فإذا حضر الثاني ففيه وجهان (أحدهما) يحلف عليه خمسين يميناً أيضاً ويستحق ثلث الدية لأن الحق لا يثبت على احد الرجلين الا بما يثبت على صاحبه كالبينة فانه يحتاج الى اقامة البينة الكاملة على الثاني كاقامتها على الأول (والثاني) يحلف عليه خمساً وعشرين يميناً لأنهما لو حضرا معاً لحلف عليهما خمسيناً حصة كل واحد منهما خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فان اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف على كل واحد منفرداً حصته من الأيمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الأيمان عليهم جميعهم وتتناولهم(10/27)
تناولاً واحداً ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة يميناً وإن قيل إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعاً وثلاثين يميناً، واذا قدم
الثالث ففيه وجهان (أصحهما) يحلف عليه خمسين يميناً ويستحق ثلث الدية (والآخر) يحلف سبع عشرة يميناً وإن حضروا جميعاً حلف عليهم خمسين يميناً واستحق الدية عليهم أثلاثاً وهذا التفريع يدل على اشتراط حضور المدعى عليه وقت الأيمان وذلك أنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت عليه كالبينة وكذلك إن ردت الأيمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى عليهم لأن الأيمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل وكيلاً فيقوم مقام الموكل (فصل) ويبدأ في القسامة بأيمان المدعين فيحلفون خمسين يميناً، الكلام في هذا الفصل في أمرين (أحدهما) أن الأيمان تشرع في حق المدعين أولاً فيحلفون خمسين يميناً على المدعى عليه أنه قتلهم ويثبت حقهم فان لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ وهذا قول يحيى بن(10/28)
سعيد وربيعة وأبي الزناد والليث ومالك والشافعي وقال الحسن يستحلف المدعى عليهم أولاً خمسين يمينا ويبرءون فان أبوا أن يحلفوا استحلف خمسين من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، وفي لفظ (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) رواه الشافعي في مسنده وروى أبو داود باسناده عن سليمان بن يسار عن رجال من الانصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود وبدأ بهم (يحلف منكم خمسون رجلا) فأبوا فقال للانصار (استحقوا) قالوا نحلف على الغيب يارسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود ابتداء ولأنه وجد بين أظهرهم ولأنها يمين في دعوى فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى، وقال الشعبي والنخعي والثوري وأصحاب الرأي يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وتكلموا في حديث سهل بما روى أبو داود عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد بن قنطى أحد بني حارثة قال ابن ابراهيم ويم الله ماكان سهل بأعلم منه ولكنه كان أسن منه قال والله ما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (احلفوا على ما لا علم لكم به) ولكنه كتب الى يهود حين كلمته الأنصار أنه وجد(10/29)
بين أبنائكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه، ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه (أحدها) انه نفي فلا يرد به قول المثبت (والثاني) أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد القصة وعرفها حتى انه قال: ركضتني ناقة من الابل والآخر يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة (والثالث) أن حديثنا مخرج في الصحيحين وحديثهم بخلافه (الرابع) أنهم لا يعلمون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه(10/30)
فيه؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الانصار لم يذكر لهم صحبة فهو أدنى حالا من حديث محمد ابن ابرايهم وقد خالف الحديثين جميعاً فكيف يجوز أن يعتمد عليه وحديث اليمين على المدعي عليه لم يرد به هذه القضية لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وههنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه فيجب تقديمه وهو حجة عليهم لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم وقد رواه ابن عبد البر بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة) وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة(10/31)
من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان.
إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم احدا خالف فيه
(الامر الثاني) أن الايمان تختص بالوارث دون غيرهم هذا ظاهر المذهب وظاهر قول الخرقي واختيار ابن حامد وهو قول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان فعلى هذه الرواية يقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر ارثهم إن كانوا جماعة وإن كان واحداً حلفها فإن انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول(10/32)
ابنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمساً وعشرين يمينا، وإن كان فيها كسر جبر عليهم مثل زوج وابن يحلف الزوج ثلاثة عشر يميناً والابن ثمانية وثلاثين يميناً لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم فان كانوا ثلاثة بنين أو جداً وأخوين جبر الكسر فحلف كل واحد سبع عشرة يميناً، وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع أيمان وعلى الأخ من الأب اثنان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر يحلف كل(10/33)
واحد من المدعين خمسين يميناً سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي وعن مالك أنه قال ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للانصاريين (تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم) وأكثر ماروي عنه في الأيمان خمسون ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص، ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين(10/34)