(فصل) وإذا أقاله رد الثمن إن كان باقيا وإلا رد مثله إن كان مثلياً أو قيمته إن لم يكن مثلياً ويشترط رده في المجلس كما يشترط في السلم {مسألة} (وإن انفسخ العقد بإقالة أو غيرها لم يجز أن يأخذ من الثمن عوضاً من غير جنسه) متى أراد أن يعطيه عوضاً عن الثمن فقال الشريف أبو جعفر لا يجوز له صرف ذلك الثمن في عقد آخر حتى يقبضه، وبه قال أبو حنيفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " ولأن هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز التصرف فيه قبل قبضه كما لو كان في يد المشتري ولأن هذا مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم يجز أخذ عوضه كالمسلم فيه، وقال القاضي أبو يعلى: يجوز أخذ العوض عنه وهو قول الشافعي لأنه عوض مستقر في الذمة فجاز أخذ العوض عنه كما لو كان
قرضاً ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع، والفرق بين المسلم فيه والثمن أن المسلم فيه مضمون بالعقد والثمن مضمون بعد فسخه والخبر أريد به المسلم فيه فإن قلنا بهذا فحكمه حكم ما لو كان في قرض أو ثمناً في بيوع الأعيان لا يجوز أن يجعل سلماً في شئ آخر لأنه بيع دين بدين، ويجوز فيه ما يجوز في القرض واثمان البياعات إذا فسخت ويأخذ أحد النقدين عن الآخر ويقبضه في مجلس الإقالة لانه صرف {مسألة} (وإذا كان لرجل سلم وعليه سلم من جنسه فقال لغريمه اقبض سلمي لنفسك لم يصح قبضه لنفسه) لان قبضه لنفسه حوالة به والحوالة بالسلم لا تجوز وهل يقطع قبضه للآمر؟ على روايتين (إحداهما)(4/344)
يصح لأنه أذن له في القبض فأشبه قبض وكيله وكما لو نوى المأمور القبض للآمر (والثانية) لا يصح لأنه لم يجعله نائباً في القبض فلم يقع بخلاف الوكيل فصار كالقابض بغير إذن فإذا قلنا لا يصح القبض بقي على ملك المسلم إليه، ولو قال الأول للثاني أحضر اكتيالي منه لاقبض لك ففعل لم يصح قبضه للثاني وهل يكون قابضاً لنفسه؟ على وجهين (أولاهما) أنه يكون قابضاً لنفسه لأن قبض المسلم فيه قد وجد من مستحقه كما لو نوى القبض لنفسه فعلى هذا إذا قبضه للآخر صح {مسألة) (وإن قال اقبضه لي ثم أقبضه لنفسك صح لأنه استنابه في قبضه له فصح كما لو لم يقل ثم أقبضه لنفسك وإذا وقع القبض للآمر ملكه وقبضه ثانية فجاز أن يقبضه لنفسه كما لو كان في يد غيره وكذلك إن قال الآمر احضرنا حتى اكتاله لنفسي ثم تكتاله أنت صح؟ {مسألة} وإن قال أنا أقبضه لنفسي وحده بالكيل الذي يشاهده جاز في إحدى(4/345)
الروايتين لانه علمه وشهد كيله والثانية لا يجوز، وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري ولم يوجد ذلك ولانه قبضه بغير كيل أشبه مالو قبضه جزافا {مسألة} وإن اكتاله وتركه في المكيال وسلمه إلى غريمه فقبضه صح القبض لهما لأن استدامة
الكيل بمنزلة ابتدائه فلا معنى لابتداء الكيل ههنا لأنه لا يحصل به زيادة علم، وقال الشافعي لا يصح للحديث الذي ذكرنا في المسألة قبلها وهذا يمكن القول بموجبة لأن قبض المشتري له جري لصاعه فيه (فصل) وإن دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي ففعل لم يصح لأن دراهم زيد لا تكون عوضاً لعمرو فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته فهو كتصرف الفضولي، وإن قال اشتر لي بها طعاماً ثم اقبضه لنفسك ففعل صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه على ما تقدم في مثل هذه الصورة وإن قال اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ففعل نص عليه، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأنه لا يجوز أن يكون قابضاً من نفسه لنفسه ولنا أنه يجوز أن يشتري من مال ولده ويبيعه ويقبض لنفسه من نفسه ولولده من نفسه وكذلك(4/346)
لو وهب ولده الصغير شيئاً جاز أن يقبل له من نفسه ويقبض منها فكذا ههنا {مسألة} (وإن قبض المسلم فيه جزافاً فالقول قوله في قدره) لا يقبض ما أسلم فيه كيلاً إلا بالكيل ولا وزناً إلا بالوزن ولا بغير ما قدر به وقت العقد لأن الكل والوزن يختلفان فإن قبضه بذلك فهو كقبضه جزافاً ومتى قبضه جزافاً فإنه يأخذ قدر حقه ويرد الباقي ويطالب بالنقص إن نقص وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل أن نعتبره على وجهين مضى ذكرهما في كتاب البيع وإن اختلفا في قدره فالقول قول القابض مع يمينه لأنه أعلم بكيله ولأنه منكر للزائد والقول قول المنكر {مسألة} (وإن قبضه كيلا أو وزنا ثم ادعى غلطا لم يقبل قوله في أحد الوجهين) لأن الأصل عدم الغلط والآخر يقبل لانه أعلم بكيل ما قبض يعني إذا كاله فوجده ناقصا.
{مسألة} (وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه؟ على روايتين)(4/347)
اختلفت الرواية في الرهن والضمين في السلم فروى المروذي وابن القاسم وأبو طالب منع ذلك وهو الذي ذكره الخرقي واختاره أبو بكر ورويت كراهته عن علي وابن عمر وابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والاوزاعي، وروي حنبل جوازه وهو قول عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والحكم
ومالك الشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى قوله مقبوضة) وقد روي عن ابن عباس وابن عمر إن المراد به السلم ولأن اللفظ عام فيدخل فيه السلم ولأنه أحد نوعي البيع فجاز أخذ الرهن بما في الذمة منه كبيوع الأعيان.
ووجه الأولى أن الرهن والضمين أن أخذ برأس مال السلم فقد أخذ بما ليس بواجب ولا ما مآله الى الوجوب لأن المسلم إليه قد ملكه وان أخذ بالمسلم فيه فالرهن إنما يجوز بشئ يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ولا من ذمة الضامن ولأنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفياً لحقه من غير المسلم فيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود ولأنه يقيم ما في ذمة الضامن مقام ما في ذمة المضمون عنه فيكون في حكم أخذ العوض والبدل عنه ولايجوز ذلك (فصل) فان أخذ رهناً أو ضميناً بالمسلم فيه ثم تقايلا السلم أو فسخ العقد لتعذر المسلم فيه بطل الرهن لزوال الدين الذي به الرهن وبرئ الضامن وعلى المسلم إليه رد رأس مال السلم في الحال ولا يشترط قبضه في المجلس لأنه ليس بعوض، ولو أقرضه ألفاً وأخذ به رهناً ثم صالحه عن الألف على طعام معلوم في ذمته صح وزال الرهن لزوال دينه من الذمة وبقي الطعام في الذمة ويشترط قبضه في المجلس(4/348)
كيلا يكون بيع دين بدين فإن تفرقا قبل القبض بطل الصلح ورجع الالف إلى ذمته برهنه لأنه يعود إلى ما كان عليه كالعصير إذا تخمر ثم عاد خلا.
وكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته فالحكم على ما بينا في هذه المسألة (فصل) وإذا حكمنا بصحة ضمان السلم فلصاحب الحق مطالبة من شاء منهما وأيهما قضاء برئت ذمتهما منه فإن سلم المسلم إليه المسلم فيه إلى الضامن ليدفعه إلى المسلم جاز وكان وكيلاً وإن قال خذه عن الذي ضمنت عني لم يصح وكان قبضاً فاسداً مضموناً عليه لأنه إنما إستحق الأخذ بعد الوفاء فإن أوصله إلى المسلم برئ بذلك لأنه سلم إليه ما سلطه المسلم إليه في التصرف فيه وإن تلف فعليه ضمانه لأنه قبضه على ذلك وإن صالح المسلم الضامن عن المسلم فيه بثمنه لم يصح لأنه إقالة فلا يصح من غير المسلم إليه
وإن صالحه المسلم إليه بثمنه صح وبرئت ذمته وذمة الضامن لأن هذا إقالة، وإن صالحه على غير ثمنه لم يصح لأنه بيع للمسلم فيه قبل القبض (فصل) والذي يصح أخذ الرهن به كل دين ثابت في الذمة يصح استيفاؤه من الرهن كأثمان البياعات والأجرة في الإجارات والمهر وعوض الخلع والقرض وأروش الجنايات وقيم المتلفات ولا يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب ولا ما مآله الى الوجوب كالدية على العاقلة قبل الحول لأنها لم تجب بعد ولم يعلم إفضاؤها إلى الوجوب لأنها قد تسقط بالجنون أو الفقر أو الموت فلم يصح أخذ الرهن بها ويحتمل جواز أخذ الرهن بها قبل الحول لأن الأصل بقاء الحياة واليسار والعقل.
فأما بعد الحول فيجوز أخذ الرهن بها لأنها قد استقرت.
ولايجوز أخذ الرهن بالجعل في الجعالة قبل العمل لأنه(4/349)
لم يجب ولا يعلم افضاؤه إلى الوجوب ويحتمل جواز أخذ الرهن به ذكره القاضي لأن مآله الى الوجوب واللزوم فأشبهت أثمان البياعات والأولى أولى لأن افضاءها محتمل فأشبهت الدية قبل الحول ويجوز أخذ الرهن به بعد العمل لأنه قد وجب ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة لأنه غير لازم فإن للعبد تعجيز نفسه ولا يمكن استيفاء دينه من الرهن لأنه لو عجز صار الرهن للسيد لأنه من جملة مال المكاتب وقال أبو حنيفة يجوز ولنا أنها وثيقة لا يمكن استيفاء الحق منها فلم يصح كضمان الخمر ولايجوز أخذ الرهن بعوض المسابقة لأنها جعالة لا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب لأن الوجوب إنما يثبت بسبق غير المخرج وهو غير معلوم ولا مظنون، وقال بعض أصحابنا فيها وجهان هل هي إجارة أو جعالة؟ فإن قلنا هي إجارة جاز أخذ الرهن بعوضها وقال القاضي إن لم يكن فيها محلل فهي جعالة وإن كان فيها محلل فعلى وجهين وهذا كله بعيد لأن الجعل ليس في مقابلة العمل بدليل أنه لا يستحقه إذا كان مسبوقاً وقد عمل العمل وإنما هو عوض عن السبق ولا تعلم القدرة عليه ولأنه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له، وإذا لم يكن إجارة مع عدم المحلل فمع وجوده أولى لأن مستحق الجعل هو السابق وهو غير معين فلا يجوز استئجار رجل غير معين ثم لو كانت إجارة لكان عوضها غير واجب في الحال ولا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب ولا يظن
فلم يجز أخذ الرهن به كالجعل في رد الآبق ولا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة كالثمن المعين والأجرة المعينة في الإجارة والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معينه كإجارة الدار والعبد العين والدابة المعينة مدة معلوم أو لحمل شئ معين إلى مكان معلوم لأن هذا حق تعلق بالعين لا بالذمة(4/350)
ولا يمكن استيفاؤه من الرهن لأن منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها وتبطل الإجارة بتلف العين فأما إن وقعت الإجارة على منفعة في الذمة كخياطة ثوب وبناء دار أخذ الرهن به لأنه ثابت في الذمة ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر من ثمنه من يعمل ذلك العلم فجاز أخذ الرهن به كالدين ومذهب الشافعي في هذا كله كما قلنا (فصل) فأما الأعيان المضمونة كالغصوب العواري والمقبوض على وجه السوم ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح الرهن بها وهو مذهب الشافعي لأن الحق غير ثابت في الذمة أشبه ما ذكرنا، ولأنه إن رهنه على قيمتها إذا تلفت فهو رهن على ما ليس بواجب ولا يعلم افضاؤه إلى الوجوب، وإن كان الرهن على عينها لم يصح لأنه لا يمكن استيفاء عينها من الرهن فأشبه أثمان البياعات المتعينة (والثاني) يصح أخذ الرهن بها وهو مذهب أبي حنيفة وقال كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها يريد ما يضمن بمثله أو قيمته كالمبيع يجوز أخذ الرهن به لأنه مضمون بفساد العقد، ولأن مقصود الرهن الوثيقة بالحق وهذا حاصل فإن الرهن بهذه الأعيان يحمل الراهن على ادائها، وإن تعذر أداؤها استوفى بدلها من ثمن الرهن فأشبهت الدين في الذمة (فصل) قال القاضي كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به وما لم يجز الرهن به لم يجز أخذ الضمين به إلا ثلاثة أشياء عهدة المبيع يصح ضمانها ولا يصح الرهن بها.
والكتابة لا يصح الرهن بدينها ويصح ضمانها في إحدى الروايتين.
وما لا يجب لا يصح الرهن به ويصح ضمانه والفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن الرهن بهذه الأشياء يبطل الارقاق فإنه إذا باع عبده بألف ودفع رهنا يساوي(4/351)
الفاً فكأنه ما قبض الثمن ولا ارتفق به والمكاتب إذا رفع ما يساوي كتابته فما ارتفق بالأجل لأنه كان
يمكنه بيع الرهن وإبقاء الكتابة ويستريح والضمان بخلاف هذا (والثاني) أن ضرر الرهن يعم لأنه يدوم بقاؤه عند المشتري فيمنع البائع التصرف فيه والضمان بخلافه (فصل) وإذا اختلف المسلم والمسلم إليه في حلول الأجل فالقول قول المسلم إليه لأنه منكر، وإن اختلفا في أداء المسلم فيه فالقول قول المسلم لذلك وإن اختلفا في قبض الثمن فالقول قول المسلم إليه لذلك وإن اتفقا عليه وقال أحدهما كان في المجلس قبل التفرق.
وقال الآخر بعده فالقول قول من يدعي القبض في المجلس لأن معه سلامة العقد.
وإن أقام كل واحد بينة بما ادعاه قدمت أيضاً بينته لأنها مثبته بخلاف الأخرى.
{باب القرض} وهو نوع من السلف وهو جائز بالسنة والإجماع، أما السنة فروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت على النبي صلى الله ليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال " أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء " رواه مسلم، وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر فقلت يا جبريل ما بال القرض أفضل(4/352)
من الصدقة؟ قال " لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة " رواهما ابن ماجة وأجمع المسلمون على جواز القرض {مسألة} (وهو من المرافق المندوب إليها في حق المقرض) لما روينا من الأحاديث ولما روي عن أبي الدرداء أنه قال: لأن أقرض دينارين ثم يردان ثم أقرضهما أحب إلي من أن أتصدق بهما.
ولأن فيه تفريجاً عن أخيه المسلم وقضاء لحاجته فكان مندوباً إليه كالصدقة وليس بواجب قال أحمد لا أثم على من سئل فلم يقرض وذلك لأنه من المعروف أشبه صدقة التطوع وهو مباح للمقترض وليس مكروهاً.
قال أحمد ليس القرض من المسألة يريد أنه لا يكره لأن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض وقد ذكرنا حديث أبي رافع ولو كان مكروهاً كان أبعد الناس منه، قال ابن أبي موسى لا أحب أن يتحمل بأمانته ما ليس عنده يريد ما لا يقدر على وفائه، ومن أراد أن يستقرض فليعلم المقرض بحاله ولا يغره من نفسه إلا الشئ اليسير الذي لا يتعذر مثله، وقال أحمد إذا اقترض لغيره ولم يعلمه بحاله لم يعجبني وقال ما أحب أن يقترض بجاهه لاخوانه، قال القاضي إذا كان من يقترض له غيره معروف بالوفاء لكونه تغريرا بمال المقرض واضراراً به، وأما إذا كان معروفاً بالوفاء لم يكره لكونه اعانة له وتفريجاً لكربته (فصل) ولا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع وحكمه في الإيجاب والقبول على ما مضى ويصح بلفظ السلم والقرض لورود الشرع بهما وبكل لفظ يؤدي معناهما نحو قوله ملكتك هذا على أن ترد(4/353)
علي بدله أو توجد قرينة دالة على إرادته وإن لم يذكر البدل ولم توجد قرينة فهو هبة.
فإن اختلفا فالقول قول الموهوب له لأن الظاهر معه لأن التمليك من غير عوض هبة ولا يثبت فيه خيار لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره والمقترض متى شاء رده وذلك يغنيه عن ثبوت الخيار {مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها إلا بني آدم والجواهر ونحوهما مما لا يصح السلم فيه في أحد الوجهين فيهما) يجوز قرض المكيل والموزون بغير خلاف، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن استقراض ماله مثل من المكيل الموزون والأطعمة جائز، ويجوز قرض كل ما يثبت في الذمة(4/354)
سلما غير بني آدم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز قرض المكيل والموزون لأنه لا مثل له أشبه الجواهر.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً وليس بمكيل ولا موزون، ولأن ما يثبت سلما يملك بالبيع ويضبط بالوصف فجاز قرضه كالمكيل والموزون، وقولهم لا مثل له خلاف أصلهم فإن عند أبي حنيفة لو أتلف ثوباً ثبت في ذمته مثله ويجوز الصلح عنه بأكثر من قيمته، فأما مالا يثبت في الذمة سلما كالجواهر وشبهها فقال القاضي يجوز قرضها ويرد المستقرض
القيمة لان مالا مثل له يضمن بالقيمة والجواهر كغيرها في القيم، وقال أبو الخطاب لا يجوز لأن القرض يقتضي رد المثل وليس لها مثل، ولأنه لم ينقل قرضها ولا هي في معنى ما نقل القرض فيه لكونها ليست من المرافق ولا تثبت في الذمة سلما فيجب ابقاؤها على المنع، ويمكن بناء هذا الخلاف على الوجهين في الواجب في بدل غير المكيل والموزون، فإذا قلنا يجب رد المثل لم يجز قرض الجواهر ولا مالا يثبت في الذمة سلما لتعذر رد مثلها وإن قلنا الواجب رد القيمة جاز قرضه لإمكان رد القيمة، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) فأما بنو آدم فقال أحمد أكره قرضهم فيحتمل كراهة التنزيه ويصح قرضهم وهو قول ابن جريج والمزني لأنه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل صحة قرض العبيد دون الإماء وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوي محارمهن لأن الملك بالقرض(4/355)
ضعيف فإنه لا يمنعها من ردها على المقرض فلا يستباح به الوطئ كالملك في مدة الخيار، وإذا لم يبح الوطئ لم يصح القرض لعدم القائل بالفرق ولأن الإبضاع مما يحتاط لها ولو أبحنا قرضهن أفضى إلى أن الرجل يستقرض أمة فيطؤها ثم يردها من يومه ومتى احتاج إلى وطئها استقرضها فوطئها ثم ردها كما يستعير المتاع فينتفع به ثم يرده ولنا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبد والامة كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك فإنه مطلق كسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار، وقولهم متى شاء المقترض ردها ممنوع فإننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لا يملك المقترض رد الأمة وإنما يرد قيمتها وإن سلمنا ذلك، لكن متى قصد المقترض هذا لم يحل له فعله ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها وإن وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع وكما لو أسلم جارية في أخرى موصوفة بصفاتها ثم ردها بعينها عند حلول الأجل، ولو ثبت أن القرض ضعيف لا يبيح الوطئ لم يمنع منه في الجواري كالبيع في مدة الخيار وعدم القائل بالفرق ليس بشئ على ما عرف في مواضعه وعدم نقله ليس بحجة فإن أكثر الحيوانات لم ينقل قرضها وهو جائز.
(فصل) ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن لم يجز لأن القرض فيها يوجب رد المثل فإذا لم يعرف القدر لم يمكن القضاء وكذلك لو اقترض مكيلا أو موزونا جزافا لم يجز كذلك ولو قدره بمكيال بعينه أو صنجة بعينها غير معروفين عند العامة لم يجز لأنه لا يأمن تلف ذلك فيتعذر رد المثل فأشبه السلم وقد قال أحمد في ماء بين قوم لهم نوب في أيام مسماة فاحتاج بعضهم إلى أن يستقي في غير نوبته(4/356)
فاستقرض من نوبة غيره ليرد عليه بدله في يوم نوبته فلا بأس وإن كان غير محدود كرهته فكرهه إذا لم يكن محدوداً لأنه لا يمكن رد مثله وإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً ويرد عدداً وإن استقرض وزناً رد وزناً، وهذا قول الحسن وابن سيرين والاوزاعي واستقرض أيوب من حماد بن زيد دراهم بمكة عددا وأعطاء بالبصرة عدداً ولأنه وفاه مثل ما اقترض فيما يتعامل به الناس فأشبه مالو كانوا يتعاملون بالوزن فاقترض وزناً ورد وزنا {مسألة} (ويثبت الملك فيه بالقبض) لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه كالهبة {مسألة} (ولا يملك المقرض استرجاعه) وجملة ذلك أن القرض عقد لازم من جهة المقرض جائز في حق المقترض فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك، وقال الشافعي له ذلك لأن كل ما يملك المطالبة بمثله يملك أخذه إذا كان موجوداً كالمغصوب والعارية، ولنا أنه زال ملكه عنه بعقد لازم من غير خيار فلم يكن له الرجوع فيه كالبيع ويفارق المغصوب والعارية فإنه لم يزل ملكه عنهما ولأنه لا يملك المطالبة بمثلهما مع وجودهما وفي مسئلتنا بخلافه {مسألة} (وله طلب بدله في الحال) لأنه سبب يوجب رد المثل في المثليات فأوجبه حالا كالإتلاف ولو أقرضه تفاريق ثم طالبه بها جملة فله ذلك لأن الجميع حال فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالة ثم طالبه بثمنها جملة وإن أجل القرض لم يتأجل وكل دين حل أجله لم يصر مؤجلاً بتأجيله، وبه قال الأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال مالك والليث يتأجل الجميع بالتأجيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولأن المتعاقدين يملكان التصرف في هذا العقد بالإقالة والإمضاء فملكا الزيادة فيه كخيار المجلس، وقال أبو حنيفة
في القرض وبدل المتلف كقولنا وفي ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخلع كقولهما لأن الأجل يقتضي جزءاً من المعوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقص في عوضه وبدل المتلف يجب فيه المثل من غير زيادة ولا نقص فلذلك لم يتأجل وبقية الأعواض يجوز الزيادة فيها فجاز تأجيلها، ولنا أن الحق يثبت حالا والتأجيل تبرع ووعد فلا يلزم الوفاء به كما لو اعاره شيئاً وهذا لا يقع عليه اسم الشرط ولو سمي فالخبر مخصوص بالعارية فيلحق به ما اختلفنا فيه لأنه مثله، ولنا على أبي حنيفة أنها زيادة بعد استقرار العقد فأشبه القرض، وأما الإقالة فهي فسخ وابتداء عقد آخر بخلاف مسئلتنا وأما خيار المجلس فهو بمنزلة ابتداء العقد بدليل أنه يجري القبض لما يشترط قبضه والتعيين لما في الذمة {مسألة} (فإن رده المقترض عليه لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها(4/357)
السطان فيكون له القيمة وقت القرض) يجوز للمقترض رد ما اقترضه على المقرض إذا كان على صفته لم ينقص ولم يحدث به عيب ويلزم المقرض قبوله لأنه على صفة حقه أشبه ما لو أعطاه غيره وقياساً على المسلم فيه وسواء تغير سعره أو لم يتغير ويحتمل أن لا يلزم المقرض قبول غير المثلي لأن القرض فيه يوجب رد القيمة على أحد الوجهين فإذا رده بعينه لم يرد الواجب عليه فلم يجب قبوله كالبيع (فصل) فإن تعيب أو تغير لم يجب قبوله لأن عليه في قبوله ضرراً لأنه دون حقه فأشبه مالو نقص وكذلك إن كان القرض فلو سا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها ويكون له قيمتها وقت القرض سواء كانت باقية أو استهلكها نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة فقال يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه؟ وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيراً وذكر أبو بكر في التنبيه أنه يكون له قيمتها وقت فسدت وتركت المعاملة بها لأنه كان يلزمه رد مثلها ما دامت نافعة فإذا فسدت انتقل إلى قيمتها حينئذ كما لو عدم المثل.
قال القاضي هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزمه أخذها، وقال مالك والليث والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه لأن ذلك ليس بعيب حدث فيها فجرى مجرى رخص سعرها
ولنا أن تحريم السلطان منع انفاقها وأبطل ما ليتها فأشبه كسرها أو تلف أجزائها وأما رخص السعر فلا يمنع سواء كان قليلاً أو كثيراً لأنه لم يحدث فيها شئ إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت وكذلك يخرج في المغشوشة إذا حرمها السلطان {مسألة} (ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها وفيما سوى ذلك وجهان) لا نعلم خلافاً في وجوب رد المثل في المكيل والموزون، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من أسلف سلفاً مما يجوز أن يسلف فرد عليه مثله أن ذلك جائز وإن للمسلف أخذ ذلك ولأن المكيل والموزون يضمن في الغصب والإتلاف بمثله فكذا ههنا فإن أعوز المثل لزمته قيمته يوم الاعواز لأنها حينئذ تثبت في الذمة ويرد القيمة في الجواهر ونحوها إذا قلنا بجواز قرضها لأنها من ذوات القيم ولا مثل لها لأنها لا تنضبط وفيما سوى ذلك وجهان (أحدهما) يرد القيمة لأن ما أوجب المثل في المثليات أوجب القيمة فيما لا مثل له كالإتلاف (والثاني) يجب رد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فرد مثله ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي ويخالف الإتلاف فإنه لا مسامحة فيه فوجبت القيمة لأنها أحصر والقرض أسهل ولهذا جازت النسيئة فيما فيه الربا ويعتبر مثل صفاته تقريباً فإن حقيقة المثل إنما توجد في المكيل والموزون فإن تعذر المثل فعليه قيمته يوم التعذر وإذا قلنا تجب القيمة وجبت حين القرض لأنها حينئذ تثبت في الذمة،(4/358)
{مسألة} (ويثبت العوض في الذمة حالا وإن أجله) لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع فلم يلزم الوفاء به وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى وينبغي أن يفي له بما وعده.
{مسألة} (ويجوز شرط الرهن والضمين به) لأن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه على شعير أخذه لأهله متفق عليه.
(فصل) ويجوز قرض الخبز ورخص فيه أبو قلابة ومالك ومنع منه أبو حنيفة، ولنا أنه موزون فجاز قرضه كسائر الموزونات وإذا أقرض بالوزن رد المقترض مثله بالوزن وإن استقرضه عدداً رده
عدداً وقال الشريف أبو جعفر فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز كسائر الموزونات (والثانية) يجوز وقال ابن أبي موسى إذا كان يتحرى أن يكون مثلا بمثل فلا يحتاج إلى وزن والوزن أحب إلي ووجه الجواز ما روت عائشة قالت قلت يا رسول الله إن الجيران يقترضون الخبز والخمير ويردون زيادة ونقصاناً فقال " لا باس أن ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل " رواه أبو بكر في الشافي بإسناده وروى أيضاً بإسناده عن معاذ بن جبل أنه سئل عن استقراض الخبز والخمير فقال " سبحان الله انما هذا من مكارم الأخلاق فخذ الكبير واعط الصغير وخذ الصغير واعط الكبير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
ولأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق اعتبار الوزن فيه وتدخله المسامحة فأشبه دخول الحمام والركوب في سفينة الملاح من غير تقدير أجرة فإن شرط أن يعطيه أكثر مما أقرضه أو أجود كان ذلك حراما وكذلك إن أقرضه صغيراً قصد أن يعطيه كبيراً لأن الأصل تحريم ذلك وإنما أبيح لمشقة إمكان التحرز منه فإذا قصد أو شرط أو أفردت الزيادة فقد أمكن التحرز منه فحرم بحكم الأصل كما لو فعل ذلك في غيره(4/359)
{مسألة} (ولايجوز شرط ما يجر نفعاً نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيراً منه أو في بلد آخر ويحتمل جواز هذا الشرط) كل قرض شرط فيه الزيادة فهو حرام بغير خلاف.
قال إبن المنذر اجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولأنه عقد ارفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة مثل أن يقرض مكسرة فيعطيه صحاحاً أو نقداً ليعطيه خيراً منه فإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر لم يجز أن كان لحمله مؤنة لأنه زيادة وإن لم يكن لحمله مؤنة فقد روي عن أحمد أنه لا يجوز أيضاً ورويت كراهته عن الحسن البصري وميمون بن أبي شبيب وعبدة بن أبي لبابة ومالك والاوزاعي والشافعي لأنه قد يكون في ذلك زيادة وقد نص أحمد أن من شرط أن يكتب له بها
سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر وروي عنه جواز ذلك حكاه عنه ابن المنذر لكونه مصلحة لهما.
وحكاه عن علي وابن عباس والحسن بن علي وابن الزبير وابن سيرين وعبد الرحمن بن الاسود وايوب السختياني والثوري واسحاق واختاره.
وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد ليوفيه في بلد آخر ليربح خطر الطريق قال شيخنا: والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير(4/360)
ضرر بواحد منهما والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فوجب ابقاؤه على الإباحة.
(فصل) وإن شرط أن يؤجره دراه أو يبيعه شيئاً أو أن يقرضه المقترض مرة أخرى لم يجز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يجز كما لو باعه داره.
وبشرط أن يبيعه الآخر دراه، وإن شرط أن يؤجره داره بأقل من أجرتها أو على أن يستأجر دار المقرض بأكثر من أجرتها أو على أن يهدي له أو يعمل له عملا كان أبلغ في التحريم (فصل) وإن شرط أن يوفيه أنقص مما أقرضه لم يجز إذا كان مما يجري فيه الربا لإفضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وإن كان في غيره فكذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن القرض يقتضي رد المثل وشرط النقصان يخالف مقتضاه فلم يجز كشرط الزيادة ولهم وجه آخر أنه يجوز لأن القرض جعل للرفق بالمستقرض وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة {مسألة} (وان فعل ذلك من غير شرط أو قضاء خيراً أو أهدى له هدية بعد الوفاء جاز) وكذلك إن كتب له سفتجة أو قضاه في بلد آخر خيراً منه جاز، ورخص في ذلك ابن عمر(4/361)
وسعيد بن المسيب والحسن والنخعي والشعبي والزهري وقتادة ومكحول ومالك والشافعي واسحاق، وقال أبو الخطاب أن قضاه خيراً منه أو زاده زيادة بعد الوفاء من غير شرط ولا مواطأة فعلى روايتين وروي عن أبي بن كعب وابن عباس أنه يأخذ مثل قرضه ولا يأخذ فضلا لئلا يكون قرضاً جر منفعة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد خيراً منه وقال " خيركم أحسنكم قضاء "
متفق عليه ولأنه لم يجعل تلك الزيادة عوضاً في القرض ولا وسيلة إليه ولا إلى استيفاء دينه أشبه ما لو لم يكن قرض، وقال ابن أبي موسى إذا زاده بعد الوفاء فعاد المستقرض بعد ذلك يلتمس منه قرضاً ثانياً ففعل لم يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه.
فإن أخذ زيادة أو أجود مما أعطاه حرم قولا واحداً وإذا كان الرجل معروفاً بحسن القضاء لم يكره إقراضه، وقال القاضي فيه وجه آخر أنه يكره لأنه يطمع في حسن عادته وهذا لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً بحسن القضاء فهل يسوغ لأحد أن يقول اقراضه مكروه؟ ولان المعروف بحسن القضاء خير الناس وأفضلهم وهو أولى الناس بقضاء حاجته وإجابة مسألته وتفريج كربته فلا يجوز أن يكون ذلك مكروهاً، وإنما يمنع من الزيادة المشروطة، ولو أقرضه مكسرة فجاءه مكانها بصحاح بغير شرط جاز، وإن جاءه بصحاح أقل منها فأخذها بجميع حقه لم يجز لأن ذلك معاوضة للنقد بأقل منه فكان ربا، وكذلك ما يشترط فيه المماثلة {مسألة} (وإن فعله قبل الوفاء لم يجز إلا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض إلا أن يكافئه أو يحسبه من دينه) وذلك لما روى الأثرم أن رجلا كان له على سماك عشرون درهما فجعل يهدي إليه السمك ويقومه حتى بلغ ثلاثة عشر درهما فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم، وعن ابن سيرين أن عمر أسلف أبي بن كعب عشرة آلاف درهم فأهدى إليه أبي بن كعب من ثمرة أرضه فردها عليه ولم يقبله فأتاه(4/362)
أبي فقال: لقد علم أهل المدينة أني من أطيبهم ثمرة وأنه لا حاجة لنا فبم منعت هديتنا؟ ثم أهدى إليه بعد ذلك فقبل.
وعن زرين حبيش قال: قلت لأبي بن كعب إني أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق فقال إنك تأتي أرضاً فاش فيها الربا، فإن أقرضت رجلا قرضاً فأتاك بقرضك ليؤدي إليك قرضك ومعه هدية فاقبض قرضك واردد عليه هديته.
رواهما الأثرم، وروي البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى قال قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام وذكر حديثاً وفيه، ثم قال لي إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل قرض فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا.
قال ابن أبي موسى: ولو أقرضه قرضاً ثم استعمله عملا لم يكن يستعمله
مثله قبل القرض كان قرضاً جر منفعة، ولو استضاف غريمه ولم تكن العادة جرت بذلك بينهما حسب له ما أكله لما روى ابن ماجة في سننه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك " وهذا كله في مدة القرض، فأما بعد الوفاء فهو كالزيادة من غير شرط وقد ذكرناه (فصل) ولو اقترض نصف دينار فدفع إليه المقترض ديناراً صحيحاً وقال نصفه وفاء ونصفه وديعة عندك أو سلم في شئ صح ولا يلزم المقرض قبوله لأن عليه في الشركة ضرراً، ولو اشترى بالنصف الباقي من الدينار سلعة جاز، فإن كان بشرط مثل أن يقول أقضيك صحيحا بشرط أن آخذ منك بنصفه الباقي قميصاً لم يجز لأنه لم يدفع إليه صحيحاً إلا ليعطيه بالنصف الباقي فضل ما بين الصحيح والمكسور من النصف المقتضي وإن اتفقا على كسره كسراه، وإن اختلفا لم يجبر أحدهما على ذلك لأنه ينقص قيمته (فصل) ولو أفلس غريمه فأقرضه ألفاً ليوفيه كل شهر شيئاً معلوماً جاز لأنه إنما انتفع باستيفاء ما هو مستحق له، ولو كان له عليه حنطة فأقرضه ما يشتري به حنطة يوفيه إياها جاز لذلك، ولو(4/363)
أراد رجل أن يبعث إلى عياله نفقة فأقرضها رجلا على أن يدفعها إلى عياله فلا بأس إذا لم يأخذ عليها شيئاً وإن أقرض أكاره ما يشتري به بقراً يعمل عليها في أرضه، أو بذراً يبذره فيها، فإن كان شرط ذلك في القرض لم يجز لأنه شرط ما ينتفع به أشبه الزيادة، وإن لم يكن شرطاً فقال ابن أبي موسى لا يجوز لأنه قرض جر منفعة.
قال ولو قال أقرضني ألفاً وادفع إلي أرضك أزرعها بالثلث كان خبيثاً.
قال شيخنا.
والأولى جواز ذلك إذا لم يكن مشروطاً لأن الحاجة داعية إليه والمستقرض إنما يقصد نفع نفسه، وإنما يحصل انتفاع المقرض ضمنا فأشبه أخذ السفتجة به وإيفاءه في بلد آخر من حيث إنه مصلحة لهما جميعاً (فصل) قال أحمد في رجل اقترض دراهم وابتاع بها منه شيئاً فخرجت زيوفاً فالبيع جائز ولا يرجع عليه بشئ.
يعني لا يرجع البائع على المشتري ببدل الثمن لأنها دراهمه بعينها فعيبها عليه وإنما له على المشتري بدل ما أقرضه إياه بصفته زيوفاً وهذا يحتمل أنه أراد فيما إذا باعه السلعة بها وهو
يعلم عينها، فأما إن باعه في ذمته بدراهم ثم قبض هذه بدلا عنها غير عالم بها فينبغي أن يجب له دراهم خالية من العيب ويرد هذه عليه وللمشتري ردها على البائع وفاء عن القرض ويبقى الثمن في ذمته، فإن حسبها على البائع وفاء عن القرض ووفاه الثمن جيداً جاز، قال ولو أقرض رجلاً دراهم وقال إذا مت فأنت في حل كانت وصية، وإن قال إن مت فأنت في حل لم يصح لأن هذا إبراء معلق على شرط ولا يصح ذلك والأول وصية لأنه علقه على موت نفسه وذلك جائز.
قال ولو أقرضه تسعين ديناراً وزناً بمائة عدداً وزنها تسعون وكانت لا تنفق في مكان إلا بالوزن جاز، وإن كانت تنفق برؤوسها فلا وذلك لأنها إذا كانت تنفق في مكان برؤوسها كان ذلك زيادة لأن تسعين من المائة تقوم(4/364)
مقام التسعين التي أقرضه إياها ويستفضل عشرة ولا يجوز اشتراط الزيادة، وإذا كانت لا تنفق إلا بالوزن فلا زيادة فيها وإن اختلف عددها، قال ولو قال اقترض لي من فلان مائة ولك عشرة فلا بأس، ولو قال اكفل عني ولك ألف لم يجز وذلك لأن قوله اقترض لي ولك عشرة جعالة على فعل مباح فجازت كما لو قال ابن لي هذا الحائط ولك عشرة، وأما الكفالة فلأن الكفيل يلزمه أداء الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض، فإذا أخذ عوضاً صار قرضاً جر منفعة فلم يجز {مسألة} (وإذا أقرضه أثمانا فطالبه بها ببلد آخر لزمته، وإن أقرضه غيرها فطالبه بها لم تلزمه فإن طالبه بالقيمة لزمه اداؤها) وجملة ذلك أنه إذا أقرضه ما لحمله مؤنة وطالبه بمثله ببلد آخر لم يلزمه لأنه لا يلزمه حمله إلى ذلك البلد، فإن تبرع المقترض بدفع المثل وأبى المقرض قبوله فله ذلك لأن عليه ضرراً في قبضه لأنه ربما احتاج إلى حمله الى المكان الذي أقرضه فيه، وله المطالبة بقيمة ذلك في البلد الذي أقرضه فيه لأنه المكان الذي يجب التسليم فيه، ولو أقرضه اثمانا أو مالا مؤنة لحمله وطالبه بها وهما ببلد آخر لزمه دفعه لأن تسليمه إليه في هذا البلد وغيره واحد(4/365)
(فصل) ولو أقرض ذمي ذميا خمراً ثم أسلما أو أحدهما بطل القرض ولم يجب على المقترض
شئ سواء كان هو المقترض أو المقرض لأنه إذا أسلم لم يجز أن يجب عليه خمر لعدم ماليتها ولا يجب بدلها لأنه لاقيمة لها ولذلك لا يضمنها إذا أتلفها، وإن كان المقرض لم يجب له شئ لما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم باب الرهن الرهن في اللغة الثبوت والدوام يقال ماء راهن أي راكد ونعمه راهنة أي دائمة، وقيل هو الحبس قال الله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) وقال الشاعر: وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلقا شبه لزوم قلبه لها واحتباسه عندها لوجده بها بالرهن الذي يلزمه المرتهن فيحبسه عنده ولا يفارقه وغلق الرهن استحقاق المرتهن إياه لعجز الراهن عن فكاكه {مسألة} (وهو وثيقة بالحق) الرهن في الشرع المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذر استيفاؤه من ذمة الغريم وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال الله سبحانه وتعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه(4/366)
متفق عليه، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة (فصل) ويجوز الرهن في الحضر كجوازه في السفر قال إبن المنذر لا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا مجاهداً قال ليس الرهن إلا في السفر لقوله تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه وكانا بالمدينة، ولأنها وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر كالضمان.
فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب لكون الكاتب يعدم في السفر غالباً ولهذا لم يشترط عدم الكاتب وهو مذكور في الآية (فصل) وهو غير واجب لا نعلم فيه مخالفا لأنه وثيقة بالدين فلم يجب كالضمان والكتابة
وقول الله تعالى (فرهان مقبوضة) إرشاد لنا لا إيجاب علينا بدليل قول الله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) ولأنه أمر به عند اعواز الكتابة وهي غير واجبة فكذلك بدلها {مسألة} (وهو لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن) لأن العقد لحقه وحده فكان له فسخه كالمضمون له وهو لازم من جهة الراهن لأن الحظ لغيره فلزم من جهته كالضمان في حق الضامن {مسألة} (يجوز عقده مع الحق وبعده ولا يجوز قبله إلا عند أبي الخطاب) وجملة ذلك أن الرهن لا يخلو من أحوال ثلاثة (أحدها) أن يقع مع الحق فيقول بعتك هذا بعشرة إلى شهر ترهنني بها كذا فيقول قبلت فيصح ذلك، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الحاجة داعية إلى ثبوته فإنه لو لم يعقده مع ثبوت الحق ويشترطه فيه لم يتمكن من إلزام المشتري عقده وكانت الخيرة إلى المشتري، والظاهر أنه لا يبذله فتفوت الوثيقة بالحق (الحال الثاني) أن يقع بعد الحق فيصح(4/367)
بالإجماع لأنه دين ثابت تدعو الحاجة إلى الوثيقة به فجاز أخذها به كالضمان ولأن الله تعالى قال (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) جعله بدلا عن الكتابة فيكون في محلها ومحلها بعد وجوب الحق، ولأن في الآية ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فجعله مذكوراً بعدها بفاء التعقيب (الحال الثالث) أن يرهنه قبل الحق فيقول رهنتك عبدي هذا بعشرة تقرضنيها فلا يصح في ظاهر المذهب واختاره أبو بكر والقاضي وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية ابن منصور وهو مذهب الشافعي، واختار أبو الخطاب أنه يصح، فإذا قال رهنتك ثوبي هذا بعشرة تقرضنيها غداً وسلمه إليه ثم أقرضه الدراهم لزمه الرهن وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه وثيقة بالحق فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان أو فجاز انعقادها على شئ يحدث في المستقبل كضمان الدرك.
ولنا أنه وثيقة بحق لا يلزم قبله فلم يصح قبله كالشهادة ولأن الرهن بالحق تابع للحق فلا يسبقه كالشهادة وأما الضمان فيحتمل أن يمنع صحته، وإن سلمناه فالفرق بينهما أن الضمان التزام مال تبرعاً بالقول فجاز من غير حق ثابت كالنذر {مسألة} (ويصح في كل عين يجوز بيعها)
لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين ليتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن إن تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن وهذا يتحقق في كل ما يجوز بيعه ولأن كل ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن ومحل الشئ محل حكمته إلا أن يمنع من ثبوته مانع أو يفوت بشرط فيبقى الحكم به(4/368)
{مسألة} (إلا المكاتب إذا قلنا استدامة القبض شرط لم يجز رهنه) إذا قلنا لا يجوز بيع المكاتب لم يجز رهنه لعدم حصول مقصود الرهن به وإن قلنا يجوز بيعه وقلنا استدامة القبض شرط في الرهن لم يصح، والصحيح أن استدامة القبض شرط فلا يصح رهنه وهذا مذهب الشافعي لأن استدامة القبض غير ممكنة في حق المكاتب لمنافاتها مقتضى الكتابة، وقال القاضي: قياس المذهب صحة رهنه وهو مذهب مالك لأنه يجوز بيعه وايفاء الدين من ثمنه، فعلى هذا يكون ما يؤديه من نجوم الكتابة رهناً معه وإن عجز ثبت الرهن فيه وفي اكتسابه وإن عتق كان ما أداه من نجومه بعد عقد الرهن رهناً بمنزلة مالو كسب العبد ثم مات(4/369)
(فصل) فأما المعلق عتقه بصفة فإن كانت توجد قبل حلول الدين لم يصح رهنه لكونه لا يمكن بيعه عند حلول الحق ولا استيفاء الدين من ثمنه وإن كان الدين يحل قبلها صح رهنه لا مكان بيعه واستيفاء الدين من ثمنه وإن كانت تحتمل الأمرين كقدوم زيد فقيام المذهب صحة رهنه لأنه في الحال محل للرهن ويمكن أن يبقى حتى يستوفى الدين من ثمنه فأشبه المريض والمدبر، وهو مذهب أبي حنيفة ويحتمل أن لا يصح لأن فيه غرراً إذ يحتمل أن يعتق قبل حلول الحق ولأصحاب الشافعي اختلاف كنحو هذا (فصل) ويجوز رهن الجارية دون ولدها وولدها دونها وان كان صغيرا لأن الرهن لا يزيل(4/370)
الملك فلا يحصل بذلك تفرقه ولأنه يمكن تسليم الولد مع أمة والأم مع ولدها فان دعت الحاجة إلى بيع أحدهما بيع معه الآخر لأن الجمع في العقد ممكن والتفريق حرام فإذا بيعا معاً تعلق حق المرتهن
من ذلك بقدر قيمة الرهن من الثمن فإذا كانت الجارية رهناً وكانت قيمتها مائة مع أنها ذات ولد وقيمة الولد خمسون فحصتها ثلثا الثمن فإن لم يعلم المرتهن بالولد ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك لأن الولد عيب فيها لكونه لا يمكن بيعها بدونه فإن أمسك فلا شئ له غيرها وإن ردها فله فسخ البيع إن كانت مشروطة فيه {مسألة} (ويجوز رهن ما يسرع اليه الفساد بدين مؤجل ويباع ويجعل ثمنه رهنا)(4/371)
يجوز رهن ما يسرع اليه الفساد دين حال ومؤجل لأنه يمكن ايفاء اليد من ثمنه أشبه الثوب وسواء كان مما يمكن تجفيفه كالعنب أو لا يمكن كالبطيخ فإن كان مما يجفف فعلى الراهن تجفيفه لأنه من مؤنة حفظه وتقيته فأشبه نفقة الحيوان وإن كان مما لا يجفف فإنه يباع ويقضي الدين من ثمنه إن كان حالا أو يحل قبل فساده وإن لم يحل قبل فساده فشرطا بيعه وجعل ثمنه رهناً فعلا ذلك وإن أطلق العقد فذكر القاضي فيه وجهين (أحدهما) لا يصح لأن بيع الرهن قبل حلول الحق لا يقتضيه عقد الرهن فلم يجب كما لو شرط أن لا يبيعه (والثاني) يصح وهو الصحيح لأن العرف يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف والهلاك فإذا تعين حفظه في بيعه حمل عليه مطلق العقد كالتجفيف(4/372)
في العنب والإنفاق على الحيوان.
وللشافعي قولان كالوجهين.
فأما إن شرطا ان لا يباع فلا يصح لأنه شرط ما يتضمن فساده وفوات المقصود فأشبه مالو شرط عدم النفقة على الحيوان.
إذا ثبت ذلك فإنه إن شرط للمرتهن بيعه أو أذن له فيه بعد العقد أو انفقا على أن الراهن يبيعه أو غيره باعه وإلا باعه الحاكم وجعل ثمنه رهناً ولا يقضي الدين من ثمنه لأنه لا يجوز له تعجيل وفاء الدين قبل حله وكذلك الحكم إن رهنه ثياباً فخاف تلفها أو حيوانا فخاف موته لما ذكرنا {مسألة} (ويجوز رهن المشاع) وبه قال ابن أبي ليلى والنخعي ومالك والاوزاعي والعنبري والشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب(4/373)
الرأي لا يصح إلا أن يرهنه لشريكه أو يرهنها الشريكان لرجل واحد أو يرهن رجل داره من رجلين فيقبضانها معاً لأنه عقد تخلف عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع.
بيانه أن مقصوده الحبس الدائم والمشاع لا يمكن المرتهن حبسه لأن شريكه ينزعه في نوبته ولأن استدامة القبض شرط، وهذا يستحق زوال العقد عنه لمعنى فارق العقد فلم يصح رهنه كالمغصوب ولنا أن المشاع يصح بيعه في محل الحق فصح رهنه كالمفرد قولهم مقصوده الحبس ممنوع إنما المقصود استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره والمشاع قابل لذلك ثم يبطل ما ذكروه برهن القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير إذنه فإنه يصح عندهم، إذا ثبت ذلك فرضي الشريك(4/374)
والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فإن اختلفا جعله الحاكم في يد أمين أمانة أو بأجرة لأن المالك لا يلزمه تسليم ما لم يرهنه والمرتهن لا يلزمه ترك الرهن عند المالك فقام الحاكم مقامهما في حفظه لهما (فصل) ويصح أن يرهن بعض نصيبه من المشاع كما يصح رهن جميعه سواء رهنه مشاعاً في نصيبه مثل أن يرهن بعض نصيبه أو رهن نصيبه من معين مثل أن يكون له نصف دار فيرهن نصيبه من بيت منها بعينه.
وقال القاضي يحتمل أن لا يصح رهن حصته من معين من شئ يمكن قسمته لاحتمال أن يقسم الشريكان فيحصل الرهن في حصة شريكه، ولنا أنه يصح بيعه فصح رهنه كغيره وما ذكروه لا يصح لأن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن بما يضر بالمرتهن فيمنع القسمة المضرة كما يمنع من بيعه.(4/375)
(فصل) ويصح رهن المرتد والقاتل في المحاربة والجاني سواء كانت جنايته عمداً أو خطأ على النقس وما دونها، وقال القاضي لا يصح رهن القاتل في المحاربة واختار أبو بكر أنه لا يصح رهن الجاني والاختلاف في ذلك مبني على الاختلاف في صحة بيعه وقد سبق.
فإن كان المرتهن عالماً بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة أشبه المشتري إذا علم العيب وإن لم يكن عالماً ثم علم بعد اسلام المرتد
وفداء الجاني فكذلك لأن العيب زال فهو كزوال عيب المبيع وإن علم قبل ذلك فله رده وفسخ البيع إن كان مشروطاً في العقد لأن العقد اقتضاه سليماً فإذا ظهر معيباً ملك الفسخ كالبيع وإن اختار امساكه فلا أرش له لأن الرهن بجملته لو تلف قبل قبضه لم يملك بدله فبعضه أولى وكذلك لو لم يعلم حتى قتل العبد بالردة أو القصاص أو أخذ في الجناية فلا أرش للمرتهن، وذكر القاضي أن قياس المذهب أن له الأرش في هذه المواضع قياساً على البيع، وليس الأمر كذلك فإن المبيع عوض عن الثمن فإذا فات بعضه رجع بما يقابله من الثمن ولو فات كله كتلف المبيع قبل قبضه رجع بالثمن كله والرهن ليس بعوض ولو تلف كله قبل القبض لما استحق الرجوع بشئ فكيف يستحق الرجوع ببدل عيبه أو فوات بعضه؟ وإن امتنع السيد من فداء الجاني لم يجبر ويباع في الجناية لأن حق المجني عليه مقدم على الرهن كما لو حدثت الجناية بعد الرهن فعلى هذا إن استغرق الأرش قيمته بيع وبطل الرهن وإن لم يستغرقها بيع منه بقدر الأرش والباقي رهن (فصل) ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب بناء على جواز بيعه ومنع منه أبو حنيفة والشافعي لأنه معلق عتقه بصفة أشبه مالو كانت توجد قبل حلول الحق(4/376)
ولنا أنه عقد يقصد منه استيفاء الحق من العين أشبه الإجارة ولأنه علق عتقه بصفة لا تمنع استيفاء الحق أشبه مالو علقه بصفة لا توجد قبل حلول الحق.
وما ذكروه ينتقض بهذا الأصل، ويفارق التدبير التعليق بصفة توجد قبل حلول الحق لأن الرهن لايمنع عتقه بالصفة فإذا عتق تعذرا استيفاء الدين منه فلا يحصل المقصود والدين في المدبر يمنع عتقه بالتدبير ويقدم عليه فلا يمنع حصول المقصود، والحكم فيما إذا علم وجود التدبير أو لم يعلم كالحكم في العبد الجاني على ما فصل فيه.
ومتى مات السيد قبل الوفاء فعتق المدبر بطل الرهن وإن عتق بعضه بقي الرهن فيما بقي وإن لم يكن للسيد مال يفضل عن وفاء الدين بيع المدبر في الدين وبطل التدبير ولا يبطل الرهن به وإن كان الدين لا يستغرقه بيع منه بقدر الدين وعتق ثلث الباقي وباقيه للورثة {مسألة} (ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه إلا على ثمنه في أحد الوجهين)
لأنه يصح بيعه فصح رهنه كما بعد القبض.
فأما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لوجوه ثلاثة (أحدهما) أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا والرهن يقتضي تسليم الثمن أولا (والثاني) أن البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع والرهن يقتضي إيفاء الثمن منه (والثالث) أن البيع يقتضي إمساك المبيع مضموناً والرهن يقتضي عدم الضمان وهذا يوجب تناقض الأحكام وإنما(4/377)
تتحقق هذه المعاني إذا شرط رهنه قبل قبضه فإن شرط أنه يقبضه ثم يسلمه رهناً فإنه يتحقق فيه بعض هذه المعاني، وقد روي عن أحمد أنه قال إذا حبس ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهناً إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع.
قال القاضي معناه شرط عليه رهناً غير المبيع فيكون له حبسه حتى يقبض الرهن فإن وفى له به وإلا فسخ (والوجه الثاني) يصح كما يصح لغير البائع فأما المكيل والموزون فذكر القاضي أنه يجوز رهنه قبل قبضه لأن قبضه مستحق فيمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه وإنما لم يجز بيعه لأنه يفضي إلى ربح ما لم يضمن وهو منهي عنه ويحتمل أنه لا يصح رهنه لأنه لا يصح بيعه بربح ولا برأس مال ولا يصح هبته فكذلك رهنه {مسألة} (وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع في أحد الوجهين) لا يصح رهن ما لا يجوز بيعه كأم الولد والوقف والعين المرهونة لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه وما لا يجوز بيعه لا يمكن ذلك فيه ولو رهن العين المرهونة عند المرتهن لم يجز فلو قال الراهن للمرتهن زدني مالا يكون الذي عندك رهناً به وبالدين الأول لم يجز، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وهو(4/378)
أحد قولي الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف والمزني وأبو ثور وابن المنذر يجوز ذلك لأنه لو زاده رهناً جاز فكذلك إذا زاد في دين الرهن ولأنه لو فدا المرتهن العبد الجاني بإذن الراهن ليكون رهناً بالمال الأول وبما فداه به جاز فكذلك ههنا ولانها وثيقة محضة فجازت الزيادة فيها كالضمان، ولنا أنها عين مرهونة فلم يجز رهنها بدين آخر كما لو رهنها عند غير المرتهن.
فأما الزيادة في الرهن فتجوز
لأنه زيادة استيثاق بخلاف مسئلتنا، فأما العبد الجاني قلنا فيه منع وإن سلمنا فإنما يصح فداؤه ليكون رهناً بالفداء والمال الأول لكون الرهن لايمنع تعلق الأرش بالجاني لكون الجناية أقوى ولأن لولي الجناية المطالبة ببيع الرهن وإخراجه من الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والرهن الجائز تجوز الزيادة فيه فكذلك إذا صار جائزاً بالجناية، ويفارق الرهن الضمان فإنه يجوز أن يضمن لغيره، إذا ثبت هذا فرهنه بحق بان كان رهناً بالأول خاصة فإن شهد بذلك شاهدان يعتقدان فساده لم يكن، لهما أن يشهدا به وإن اعتقدا صحته جاز أن يشهدا بكيفية الحال ولا يشهدان أنه رهنه بالحقين مطلقاً(4/379)
(فصل) ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع والزرع الأخضر في أحد الوجهين.
اختاره القاضي لأن الغرر يقل فيه فإن الثمرة متى تلفت عاد إلى حقه في ذمة الراهن، ولأنه يجوز بيعه فجاز رهنه، ومتى حل الحق بيع، وإن اختار المرتهن تأخير بيعه فله ذلك (والثاني) لا يصح وهو منصوص الشافعي لأنه لا يجوز بيعه فلا يصح رهنه كسائر ما لا يجوز بيعه (فصل) وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز فالرهن باطل لأنه مجهول حين حلول الحق ولا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه، وإن رهنها بدين حال أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها جاز لأنه لا غرر فيه، فإن لم يقطعها حتى اختلطت لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحاً، لكن ان سمح الراهن بيع الجميع أو اتفقا على قدر منه جاز، وإن اختلفا وتشاحا فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر (فصل) ولا يصح رهن المصحف في إحدى الروايتين نقل جماعة عنه لا أرخص في رهن المصحف وذلك لأن المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه ولا يحصل ذلك إلا ببيعه وبيعه غير جائز (والثانية) يصح فإنه قال إذا رهن مصحفاً لا يقرأ فيه إلا بإذنه فظاهر هذا صحة رهنه وهو قول مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي بناء على أنه يصح بيعه فيصح رهنه كغيره والخلاف في ذلك مبني على جواز بيعه وقد ذكرناه في كتاب البيع(4/380)
{مسألة} (ولا يصح رهن العبد المسلم لكافر) اختاره القاضي لأنه عقد يقتضي قبض المعقود عليه والتسليط على بيعه فلم يجز كالبيع، واختار(4/381)
أبو الخطاب صحته إذا شرطا كونه على يد مسلم ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه وهذا أولى لأن مقصود الرهن يحصل من غير ضرر(4/382)
(فصل) ولا يصح رهن المجهول لأنه لا يصح بيعه، فلو قال رهنتك هذا الجراب أو البيت أو الخريطة بما فيها لم يصح للجهالة وإن لم يقل بما فيها صح للعلم بها، ولو قال رهنتك أحد هذين العبدين لم يصح لعدم التعيين، وقال أبو حنيفة يصح لأنه يصح بيعه عنده بشرط الخيار له وقد ذكر في البيع وفي الجملة أنه يعتبر للعلم في الرهن ما يعتبر في البيع، وكذلك القدرة على التسليم فلا يصح رهن الآبق ولا الشارد ولا غير مملوك لأنه لا يصح بيعه (فصل) فأما سواد العراق والأرض الموقوفة على المسلمين فظاهر المذهب أنه لا يجوز رهنها لأنه لا يجوز بيعها وهذا منصوص الشافعي وحكم بنائها حكمها، فإن كان فيها من غير ترابها أو الشجر المتجدد فيها فإنه يصح إفراده بالبيع والرهن في إحدى الروايتين نص عليهما في البيع لأنه طلق (الثانية) لا يجوز لأنه تابع لما لا يجوز رهنه فهو كأساسات الحيطان، وإن رهنه مع الأرض بطل في الأرض، وهل يجوز في الأشجار والبناء إذا قلنا بجواز رهنها منفردة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه(4/383)
(فصل) ولو رهن عبداً أو باعه يعتقده مغصوباً فبان ملكه نحو أن يرهن عبد ابنه فيبين انه قد مات وصار العبد ملكه بالميراث، أو وكل إنساناً يشتري له عبداً فباعه الموكل، أو رهنه يعتقده لسيده الأول وكان تصرفه بعد شراء وكيله ونحو ذلك صح تصرفه لأنه صادف ملكاً فصح كما لو علم، ويحتمل أن لا يصح لأنه اعتقده باطلاً
(فصل) ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح إلا أن يرهنه المشتري والخيار له وحده فيصح ويبطل خياره وذكره أبو بكر وهو مذهب الشافعي، ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح لأنه رهن مالا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي وهبها لابنه قبل رجوعه فيها لما ذكرنا، وفيه وجه لأصحاب الشافعي أنه يصح لأن له استرجاع العين وتصرفه فيها يدل على الرجوع.
ولنا أنه رهن ما لا يمكله بغير إذن المالك ولا ولاية عليه فلم يصح كما لو رهن الزوج نصف الصداق قبل الدخول (فصل) ولو رهن ثمر شجر يحمل في السنة حملين لا يتميز أحداهما من الآخر فرهن الحمل الأول إلى محل يحدث الحمل الثاني على وجه لا يتميز لم يصح لأنه مجهول حين حلول الحق فلا يمكن استيفاء الدين منه فأشبه مالو كان مجهولاً حين العقد، وإن شرط قطع الحمل الأول إذا خيف اختلاطه بالثاني صح، وإن كان الحمل المرهون بحق حال أو كان الثاني يتميز عن الأول إذا حدث فالرهن صحيح، فإن وقع التواني في قطع الحمل الأول حتى اختلط بالثاني وتعذر التمييز لم يبطل الرهن لأنه وقع صحيحاً وقد اختلط بغيره على وجه لا يمكن فصله فعلى هذا إن سمح الراهن بكون الثمرة رهنا كلها أو اتفقا(4/384)
على قدر المرهون منهما فحسن، وإن اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الرهن لأنه منكر للقدر الزائد والقول قول المنكر (فصل) ولو رهنه منافع داره شهراً لم يصح لأن مقصود الرهن استيفاء الدين من ثمنه والمنافع تهلك إلى حلول الحق، وإن رهنه أجرة داره شهراً لم يصح لأنها مجهولة وغير مملوكة (فصل) ولو رهن المكاتب من يعتق عليه لم يصح لأنه لا يملك بيعه وأجازه أبو حنيفة لأنهم لا يدخلون معه في الكتابة، ولو رهن العبد المأذون من يعتق على السيد لم يصح لأن ما في يده لسيده فقد صار حراً بشرائه (فصل) ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح في أحد الوجهين.
وفيه وجه أنه لا يصح، وقال أصحاب الشافعي لا يصح إذا كان الدين يستغرق التركة لأنه تعلق به حق آدمي
فلم يصح رهنه كالمرهون.
ولنا أنه تصرف صادق ملكه ولم يعلق به حقاً فصح كما لو رهن المرتد وفارق المرهون فإن الحق تعلق باختياره وفي مسئلتنا تعلق بغير اختياره فلم يمنع تصرفه وهكذا كل حق يثبت من غير إثباته كالزكاة والجناية فانه لايمنع رهنه، فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره فالرهن بحاله، وإن لم يقض الحق فللغرماء انتزاعه لأن حقهم سابق والحكم فيه كالحكم في الجاني، وهكذا الحكم لو تصرف في التركة ثم رد عليه مبيع باعه الميت بعيب ظهر فيه أو حق تجدد تعلقه بالتركة مثل ان وقع انسان أو بهيمة في بئر حفرها في غير ملكه بعد موته فالحكم واحد وهو أن تصرفه صحيح غير نافذ، فإن قضى الحق من غيره نفذ وإلا فسخ البيع والرهن وعلى الوجه الآخر لا يصح تصرفه والله أعلم (فصل) ولا يصح الرهن والارتهان إلا من جائز الأمر وهو المكلف الرشيد غير المحجور عليه لصغر أو سفه أو فلس لأنه نوع تصرف في المال فلم يصح من غير إذن من المحجور عليه كالبيع ويعتبر ذلك في حال رهنه واقباضه لأن العقد والتسليم ليس بواجب وإنما هو إلى اختيار الراهن، فإذا لم(4/385)
يكن له اختيار صحيح لم يصح منه كالبيع، فإن جن أحد المتراهنين قبل القبض أو مات لم يبطل الرهن لأنه عقد يؤول إلى اللزوم فلم يبطل بجنون أحد المتعاقدين أو موته كالبيع في مدة الخيار.
ويقوم ولي المجنون مقامه فإن كان المجنون الراهن وكان الحظ في التقبيض مثل أن يكون شرطاً في بيع يستضر بفسخه ونحوه اقبضه.
وإن كان الحظ في قبضه لم يجز له تقبيضه، وإن كان المجنون المرتهن قبضه وليه فإذا مات قام وارثه مقامه في القبض فإن مات الراهن لم يلزم ورثته تقبيضه لأنهم يقومون مقام الراهن ولم يلزمه ذلك، فإن لم يكن على الميت دين سوى هذا الدين فللورثة تقبيض الرهن، وان كان عليه دين سواه فظاهر المذهب أنه ليس للوارث تخصيص المرتهن بالرهن نص عليه في رواية علي بن سعيد وهو مذهب الشافعي، وذكر القاضي فيه رواية أخرى أن لهم ذلك أخذا مما نقل ابن منصور وابو طالب عن أحمد أنه قال: إذا مات الراهن أو أفلس فالمرتهن أحق به من الغرماء ولم يعتبر وجود القبض بعد الموت أو قبله.
قال شيخنا: وهذا لا يعارض ما نقله علي بن سعيد لأنه خاص وهذا عام
والاستدلال به على هذه الصورة يضعف جداً لندرتها فكيف يعارض بها الخاص، لكن يجوز أن يكون هذا الحكم مبنياً على الرواية التي لا يعتبر فيها القبض في غير المكيل والموزون فيكون الرهن قد لزم قبل القبض ووجب تقبيضه على الراهن فكذلك على وارثه ويختص ذلك بغير المكيل والموزون وأما ما يلزم الرهن فيه فليس للورثة تقبيضه لأن الغرماء تعلقت ديونهم بالتركة قبل لزوم حقه في الرهن فلم يجز تخصيصه به بغير رضاهم كما لو أفلس الراهن إذا قلنا إن للورثة التصرف في التركة ووفاء الدين من أموالهم، فإن قيل فما الفائدة في القول بصحة الرهن إذا لم يختص المرتهن به؟ قلنا فائدته أنه يحتمل أن يرضى الغرماء بتسلميه إليه فيتم الرهن، وسواء فيما ذكرنا ما بعد الإذن في القبض وقبله لأن الأذن يبطل بالجنون والموت والإغماء والحجر (فصل) ولو حجر على الراهن لفلس قبل التسليم لم يكن له تسليمه لأن فيه تخصيصا للمرتهن به وليس له تخصيص بعض غرمائه، وإن حجر عليه لسفه فحكمه حكم ما لو زال عقله بجنون على(4/386)
ما أسلفنا، وإن أغمي عليه لم يكن للمرتهن قبض الرهن وليس لأحد تقبيضه لأن المغمى عليه لا تثبت عليه الولاية، وإذا أغمي على المرتهن لم يكن لأحد أن يقوم مقامه في قبض الرهن وانتظر إفاقته، وإن خرس وكانت له كتابة مفهومة أو إشارة معلومة فحكمه حكم المتكلمين، وإن لم تفهم إشارته ولا كتابته لم يجز القبض، وان كان أحد هؤلاء قد أذن في القبض فحكمه حكم من لم يأذن لأن إذنهم يبطل بما عرض لهم {مسألة} (ولا يلزم الرهن إلا بالقبض واستدامته شرط في اللزوم) لا يلزم الرهن إلا بالقبض ويكون قبل القبض رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وسواء في ذلك المكيل الموزون وغيره، وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أخرى أنه يلزم بمجرد العقد كالبيع وقد نص عليه أحمد في رواية الميموني، وقال مالك يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله كالبيع ووجه الاولى قوله تعالى (فرهان مقبوضة) وصفها بكونها مقبوضة، ولأنه عقد ارفاق يفتقر إلى القبول فافتقر إلى القبض كالقرض ولأنه
رهن لم يقبض فلا يلزم اقباضه كما لو مات الراهن، فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا بطل الرهن الأول سواء قبض الهبة والبيع والرهن الثاني أو لم يقبضه لأنه أخرجه عن امكان استيفاء الدين من ثمنه أو فعل ما يدل على قصده ذلك، وإن دبره أو أجره أو زوج الأمة لم يبطل الرهن لأن هذا التصرف لايمنع البيع فلا يمنع صحة الرهن ولأنه لايمنع ابتداء الرهن فلا يقطع استدامته كاستخدامه، وإن كاتب العبد الرهن انبنى على صحة رهن المكاتب، فإن قلنا يجوز رهنه لم يبطل الرهن كالتدبير، وإن قلنا لا يجوز بطل الرهن كما لو أعتقه (فصل) فان قلنا أن ابتداء القبض شرط في لزوم الرهن فاستدامة القبض شرط لأنها احدى حالتي الرهن فأشبهت الابتداء، وإن قلنا أن الابتداء ليس بشرط في اللزوم فكذلك الاستدامة {مسألة} (فإن اخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزوم الرهن)(4/387)
وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض سواء أخرجه بإجارة أو إعارة أو إيداع أو غير ذلك، فإذا عاد فرده إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق لأنه أقبضه باختياره فلزم به كالأول قال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها صاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهناً، وقال فيمن رهن جارية ثم سأل المرتهن أن يبعثها إليه لتخبز لهم فبعث بها فوطئها انتقلت من الرهن فإن لم يكن وطئها فلا شئ.
قال أبو بكر: لا تكون رهناً في تلك الحال، فإذا ردها رجعت إلى الرهن وممن أوجب استدامة القبض مالك وأبو حنيفة وهذا التفريغ على القول الصحيح، فأما على قول من قال ابتداء القبض ليس بشرط فأولى أن يقول الاستدامة غير مشروطة لأن كل شرط يعتبر في الاستدامة يعتبر في الابتداء وقد يعتبر في الابتداء ما لا يعتبر في الاستدامة، وقال الشافعي استدامة القبض ليست شرطاً لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه فلم تشترط استدامته كالهبة ولنا قول الله تعالى (فرهان مقبوضة) ولأنها إحدى حالتي الرهن فكان القبض فيه شرطاً كالابتداء ويفارق الهبة فإن القبض في ابتدائها يثبت الملك فإذا ثبت استغنى عن القبض ثانياً والرهن يراد للوثيقة ليتمكن من بيعه واستيفاء اليدين من ثمنه، فإذا لم يكن في يده لم يتمكن من بيعه وإن أزيلت يد المرتهن بغير حق
كالغصب والسرقة أو إباق العبد أو ضياع المتاع ونحو ذلك لم يزل لزوم الرهن لأن يده ثابتة حكماً فكأنها لم تزل {مسألة} (ولو رهنه عصيراً فتخمر زال لزومه، فإن تخلل عاد لزومه بحكم العقد السابق) يصح رهن العصير لأنه يصح بيعه وتعريضه للخروج عن المالية لا يمنع صحة رهنه كالمريض والجاني فإن صار إلى حال لا يخرج فيها عن المالية كالخل فهو رهن بحاله، وإن تخمر زال لزوم العقد ووجبت إراقته فإن أريق بطل العقد ولاخيار للمرتهن لأن التلف حصل في يده، فإن عاد خلاً عاد اللزوم بحكم العقد السابق كما لو زالت يد المرتهن عن الرهن ثم عادت إليه وإن استحال خمراً قبل قبض المرتهن له بطل الرهن ولم يعد بعوده خلاً لأنه عقد ضعيف لعدم القبض فأشبه إسلام أحد الزوجين قبل الدخول(4/388)
وذكر القاضي أن العصير إذا استحال خمراً بعد القبض بطل الرهن أيضاً، ثم إذا عاد خلاً عاد ملكاً لصاحبه مرهوناً بالعقد السابق لأنه يعود مملوكاً بحكم الملك الأول فيعود حكم الرهن لأنه زال بزوال الملك فيعود بعوده وهذا قول الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: هو رهن بحاله لأنه كانت له قيمة حال كونه عصيراً ويجوز أن تصير له قيمة فلا يزول الملك عنه كما لو ارتد الجاني، ولأن اليد لم تزل عنه حكماً بدليل أنه لو غصبه غاصب فتخلل في يده كان ملكاً للمغصوب منه، ولو زالت يده كان ملكاً للغاصب كما لو أراقه فجمعه إنسان فتخلل في يده كان له دون من أراقه، وهذا القول هو قولنا الأول في المعنى إلا أن يقولوا ببقاء اللزوم فيه حال كونه خمراً.
قال شيخنا: ولم تظهر لي فائدة الخلاف بعد اتفاقهم على عوده رهناً باستحالته خلاً وأرى القول ببقائه رهناً أقرب إلى الصحة لأن العقد لو بطل لما عاد صحيحاً من غير ابتداء عقد، فإن قالوا يمكن عوده صحيحاً لعود المعنى الذي بطل بزواله كما أن زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت من حكم العقد لاختلاف دينهما فإن أسلم الزوج في العدة عادت الزوجية بالعقد الأول لزوال الاختلاف في الدين، قلنا هناك ما زالت الزوجية ولا بطل العقد، ولو بطل بانقضاء العدة لما عاد إلا بعقد جديد وإنما العقد كان موقوفاً مراعى، فإذا أسلم في العدة تبينا أنه لم يبطل وإن لم يسلم تبينا أنه كان قد بطل وههنا قد جزمتم ببطلانه، وعنه أن القبض واستدامته في المتعين ليس بشرط ويلزم بمجرد العقد كالبيع، فعلى هذا إن امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالبيع، فإن
رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه أجبر الراهن على رده لأن الرهن صحيح والقبض واجب فيجبر عليه كبيعه (فصل) وإذا استعار شيئاً ليرهنه جاز، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ان الرجل اذا استعار من الرجل شيئاً يرهنه على دنانير معلومة عند رجل سماه الى وقت معلوم ففعل أن ذلك جائز وينبغي أن يذكر المرتهن والقدر الذي يرهنه به وجنسه ومدة الرهن لأن الضرر يختلف بذلك، فاحتيج إلى بيانه كأصل الرهن ومتى شرط شيئاً من ذلك فخالف ورهنه بغيره لم(4/389)
يصح الرهن لأنه لم يؤذن له فيه أشبه من لم يأذن في أصل الرهن وهذا إجماع حكاه ابن المنذر فإن أذن له في رهنه بقدر من المال فنقص عنه صح لأن من أذن في شئ فقد أذن في أقل منه وإن رهنه بأكثر احتمل أن يبطل في الكل لأنه خالف المنصوص عليه فبطل كما لو قال أرهنه بدنانير فرهنه بدراهم أو بحال فرهنه بمؤجل أو بالعكس فإنه لا يصح وهذا منصوص الشافعي، واحتمل أن يصح في القدر المأذون فيه ويبطل في الزائد عليه لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز فصح فيما يجوز دون غيره كتفريق الصفقة، ويفارق ما ذكرنا من الأصول فإن العقد لم يتناول مأذوناً فيه بحال وكل واحد من هذه الأمور يتعلق به غرض لا يوجد في الآخر فإن الراهن قد يقدر على فكاكه في الحال ولا يقدر على ذلك عند الأجل وبالعكس، وقد يقدر على فكاكه بأحد النقدين دون الآخر فيفوت الغرض بالمخالفة وفي مسئلتنا إذا صح في المائة المأذون فيها لم يختلف الغرض فإن أطلق الأذن في الرهن من غير تعيين فقال القاضي يصح وله رهنه بما شاء وهو قول أصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي، والآخر لا يجوز حتى يتبين قدر الذي يرهنه به وصفته وحلولة وتأجيله لأن هذا بمنزلة الضمان لأن منفعة العبد لسيده والعارية ما أفادت المنفعة إنما حصلت له نفعاً بكون الرهن وثيقة عنه فهو بمنزلة الضمان في ذمته وضمان المجهول لا يصح ولنا أنها عارية فلم يشترط لصحتها ذكر ذلك كالعارية لغير الرهن والدليل على أنه عارية أنه قبض ملك غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها من غير عوض فكان عارية كقبضه للخدمة، وقولهم أنه ضمان
غير صحيح لأن الضمان يثبت في الذمة وهذا يثبت في الرقبة، ولأن الضمان لازم في حق الضامن وهذا له الرجوع في العبد قبل الرهن والزام المستعير بفاكه بعده، وقولهم إن المنافع للسيد قلنا المنافع مختلفة فيجوز أن يستعيره لتحصيل منفعة واحدة وسائر المنافع للسيد كما لو استعاره لحفظ متاع وهو مع ذلك يخيط لسيده أو يعمل له شيئاً أو استعاره ليخيط له ويحفظ المتاع لسيده، فإن قيل لو كان عارية لما صح رهنه لأن العارية لا تلزم والرهن لازم، قلنا العارية غير لازمة من جهة المستعير فإن لصاحب العبد(4/390)
المطالبة بفكاكه قبل حلول الدين، ولأن العارية قد تكون لازمة فيما إذا أعاره حائطاً ليبني عليه أو أرضاً ليزرع فيها ما لا يحصد قصيلاً، ثم هو منقوض بما إذا استعاره ليرهنه بدين موصوف عند رجل معين إلى أجل معلوم.
إذا ثبت ذلك فإنه يصح رهنه بما شاء إلى أي وقت شاء لأن الأذن يتناول الكل بإطلاقه وللسيد مطالبة الراهن بفكاكه حالاً كان أو مؤجلاً في محل الحق وقبله لأن العارية لا تلزم ومتى حل الحق فلم يقبضه فللمرتهن بيع الرهن واستيفاء الدين من ثمنه ويرجع المعير على الراهن بالضمان وهو قيمة العين المستعارة أو مثلها إن كانت من ذوات الأمثال ولا يرجع بما بيعت سواء بيعت بأقل من القيمة أو أكثر في أحد الوجهين (والثاني) إنها إن بيعت بأقل من قيمتها رجع بالقيمة لأن العارية مضمونة فيضمن نقص ثمنها، وإن بيعت بأكثر رجع بما بيعت به لأن العبد ملك للمعير فيكون ثمنه كله له، وكذلك لو أسقط المرتهن حقه عن الراهن رجع الثمن كله إلى صاحبه، فإذا قضى به دين الراهن رجع به عليه، ولا يلزم من ضمان النقص أن لا تكون الزيادة لصاحب العبد كما لو كان باقياً بعينه فأما إن تلف الرهن فإن الراهن يضمنه بقيمته سواء اتلف بتفريط أو بغير تفريط نص عليه أحمد لأن العارية مضمونة (فصل) وإن فك المعير الرهن وأدى الدين الذي عليه بإذن الراهن رجع عليه، وإن قضاه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن قضاه بغير إذنه محتسباً بالرجوع فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه ويترجح الرجوع ههنا لأن له المطالبة فكاك عبده وأداء دينه فكاكه، وإن اختلفا في الاذن فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر، وإن شهد المرتهن للمعير قبلت شهادته
لأنه لا يجربها نفعاً ولا يدفع بها ضرراً، وإن قال أذنت لي في رهنه بعشرة، قال بخمسة فالقول قول المالك لأنه منكر للزيادة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وإن كان الدين مؤجلاً فقضاه حالاً بإذنه رجع به حالاً، وإن قضاه بغير إذنه فقال القاضي يرجع به حالا أيضاً لأن له المطالبة بفكاك عبده في الحال(4/391)
(فصل) ولو استعار من رجل عبداً ليرهنه بمائة فرهنه عند رجلين صح لأن تعيين ما يرهن به ليس شرطاً فكذلك من يرهن عنده، ولأن رهنه من اثنين أقل ضرراً لأنه ينفك منه بعضه بقضاء بعض الدين بخلاف ما إذا رهنه عند واحد، فإذا قضى أحدهما ما عليه من الدين خرج نصيبه من الرهن لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان في الحقيقة، ولو استعار عبداً من رجلين فرهنه عند واحد بمائة فقضاه نصفها عن أحد النصيبين لم ينفك من الرهن شئ في أحد الوجهين لأنه عقد واحد من راهن واحد مع مرتهن واحد أشبه ما لو كان العبد لواحد (والثاني) ينفك نصف العبد لأن كل واحد منهما إنما أذن في رهن نصيبه بخمسين فلا يكون رهناً بأكثر منهما كما لو قال له ارهن نصيبي بخمسين لا تزد عليها، فعلى هذا الوجه إن كان المرتهن عالماً بذلك فلا خيار له، وإن لم يكن عالماً والرهن مشروط في بيع احتمل أن له الخيار لأنه دخل على أن كل جزء من الرهن وثيقة بجميع الدين وقد فاته ذلك، واحتمل أن لا يكون له خيار لأن الرهن سلم له كله بالدين كله وهو قد دخل على ذلك، ولو كان رهن هذا العبد عند رجلين فقضى أحدهما انفك نصيب كل واحد من المعيرين من نصفه، وإن قضى نصف دين أحدهما انفك نصيب أحدهما على أحد الوجهين، وفي الآخر ينفك نصف نصيب كل واحد منهما (فصل) ولو كان لرجلين عبدان فأذن كل واحد منهما لشريكه في رهن نصيبه من أحد العبدين فرهناهما عند رجل مطلقاً صح، فإن شرط أحدهما أنني متى قضيت ما على من الدين انفك الرهن في العبد الذي رهنته وفي العبد الآخر أو في قدر نصيبي من العبد الآخر فهذا شرط فاسد لأنه شرط أن ينفك بقضاء الدين رهن على دين آخر ويفسد الرهن لأن في هذا الشرط نقصاً على المرتهن وكل
شرط فاسد ينقص حق المرتهن يفسد الرهن، فأما إن شرط أنه لا ينفك شئ من العبد حتى يقضي جميع الدين فهو فاسد أيضاً لأنه شرط أن يبقى الرهن محبوساً بغير الدين الذي هو رهن به، لكنه لا ينقص حق المرتهن فهل يفسد الرهن بذلك على وجهين وقد ذكرنا أن الرهن لا يلزم الا بالقبض في الصحيح(4/392)
(فصل) والقبض في الرهن كالقبض في البيع على ما ذكرناه، فلو رهنه داراً فخلى بينه وبينها وللراهن فيها قماش لم يمنع من صحة التسليم لأن اتصالها بملك الراهن لايمنع صحة التسليم كالثمرة في الشجرة، وكذلك الدابة التي عليها حمل للراهن ولو رهن الحمل وهو على الدابة وسلمها إليه بحملها صح القبض لأنه حصل فيهما جميعاً فيكون موجوداً في الرهن منهما (فصل) وإذا رهنه سهماً مشاعاً مما لا ينقل خلى بينه وبينه وإن لم يحضر الشريك، وإن كان منقولا كالجواهر فقبضها تناولها ولا يمكن تناولها الا برضى الشريك، فإن رضي الشريك تناولها المرتهن، وإن امتنع فرضي الراهن أو المرتهن بيد الشريك جاز وناب عن المرتهن في القبض، وإن تنازع الشريك والمرتهن أقام الحاكم عدلاً تكون في يده لهما، وإن سلمها الراهن إلى المرتهن بغير إذن الشريك فتناولها وقلنا استدامة القبض شرط لم يكف هذا التناول، وإن قلنا ليس بشرط فقد حصل القبض لأن الرهن حصل في يده والتعدي في غيره لا يمنع صحة القبض كما لو رهنه ثوباً فسلمه إليه مع ثوب غيره فتناولهما جميعاً، ولو رهنه ثوباً فاشتبه عليه بغيره فسلم إليه أحدهما لم يثبت القبض لأنه لا يعلم أنه أقبضه الرهن، فإن تبين أنه الرهن صح القبض، وإن سلم إليه الثوبين معاً حصل القبض لأنه قد تسلم الرهن يقيناً (فصل) ولو رهنه داراً فخلى بينه وبينها وهما فيها ثم خرج الراهن صح القبض، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها لانه ماكان في الدار فيده عليها فما حصلت التخلية.
ولنا أن التخلية تصح بقوله مع التمكين منها وعدم المانع أشبه مالو كانا خارجين عنها، ولا يصح ما ذكره لأن خروج المرتهن منها لا يزيل يده عنها ودخوله إلى دار غيره لا يثبت يده عليها،
ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله فلا معنى لاعادة التخلية (فصل) وإن رهنه مالاً في يد المرتهن عارية أو وديعة أو غصباً أو نحوه صح الرهن لأنه مالك(4/393)
له يمكن قبضه فصح رهنه كما لو كان في يده، وظاهر كلام أحمد لزوم الرهن ههنا بنفس العقد من غير احتياج إلى أمر زائد فإنه قال إذا حصلت الوديعة في يده بعد الرهن فهو رهن فلم يعتبر أمراً زائداً وذلك لأن اليد ثابتة والقبض حاصل وإنما يتغير الحكم لاغير.
ويمكن تغير الحكم مع استدامة القبض كما أنه لو طولب بالوديعة فجحدها لتغير الحكم وصارت مضمونة عليه من غير أمر زائد، ولو عاد الجاحد فأقربها وقال لصاحبها خذ وديعتك فقال دعها عندك وديعة كما كانت ولا ضمان عليك فيها لتغير الحكم من غير حدوث أمر زائد، وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يصير رهناً حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها، فإن كان منقولاً فبمضي مدة يمكن نقله فيها، وإن كان مكيلاً فبمضي مدة يمكن اكتياله فيها، وإن كان غير منقول فبمضي مدة التخلية، وإن كان غائباً عن المرتهن لم يصر مقبوضاً حتى يوفيه هو أو وكيله ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها لأن العقد يفتقر الى القبض، والقبض إنما يحصل بفعله أو بإمكانه فيكفي ذلك ولايحتاج إلى وجود حقيقة القبض لأنه مقبوض حقيقة، فإن تلف قبل مضي مدة يتأتى قبضه فيها فهو كتلف الرهن قبل قبضه ثم هل يفتقر إلى الاذن من الراهن في القبض؟ يحتمل وجهين (احدهما) يفتقر لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم فلم يحصل بغير إذن كما لو كان في يد الراهن.
وإقراره في يده لا يكفي كما لو أقر المغصوب في يد غاصبه مع إمكان أخذه منه (والثاني) لا يفتقر لأن إقراره في يده بمنزلة إذنه في القبض، فإن أذن له في القبض ثم رجع عنه قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها لم يلزم الرهن حتى يعود فيأذن ثم تمضي مدة يقبضه في مثلها (فصل) وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم أو في بيع فاسد صح وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم الرهن، والحكم الذي كان ثابتاً فيه يبقى بحاله لأنه لا تنافي بينهما بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضموناً وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه لأنه أحد حالتي الرهن(4/394)
ولنا أنه مأذون له في إمساكه رهنا لم يتجدد فيه منه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه إياه أو أبرأه من ضمانه، وقولهم لا تنافي بينهما ممنوع فإن الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها ويد المرتهن محققة جعلها الشرع له ويد المرتهن يد أمانة، ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنه وهذان متنافيان، ولأن السبب المقتضي للضمان زال فزال الضمان لزواله كما لو رده إلى مالكه وذلك لأن سبب الضمان الغصب أو العارية ونحوهما وهذا لم يبق غاصباً ولا مستعيراً، ولا يبقى الحكم مع زوال سببه وحدوث سبب يخالف حكمه حكمه، وأما إذا تعدى في الرهن فإنه يلزمه الضمان لعدوانه لا لكونه غاصباً ولا مستعيراً وههنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه فلم يثبت (فصل) وإذا رهنه عينين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ العقد فيها دون الباقية لأن العقد كان صحيحا فيهما، وإنما طرأ انفساخ العقد في إحداهما فلم يؤثر في الأخرى كما لو اشترى شيئين فرد أحدهما بعيب أو غيره والراهن مخير بين اقباض الباقية وبين منعها إذا قلنا إن الرهن لا يلزم الا بالقبض فإن كان التلف بعد قبض الأخرى لزم الرهن فيها، فإن كان الرهن مشروطاً في بيع ثبت للبائع الخيار لتعذر الرهن بكماله فإن رضي لم يكن له المطالبة ببدل التالفة لأن الرهن لم يلزم فيها وتكون المقبوضة رهناً بجميع الثمن، فإن تلفت إحدى العينين بعد القبض فلا خيار للبائع لأن الرهن لو تلف كله لم يثبت للبائع خيار فإذا تلف بعضه كان أولى، ثم إن كان تلفها بعد قبض العين الا خرى فقد لزم الرهن فيها، وإن كان قبل قبض الأخرى فالراهن مخير بين اقباضها وبين تركه، فإن امتنع من تقبيضها ثبت للبائع الخيار كما لو لم تتلف الأخرى (فصل) فإذا رهنه داراً فانهدمت قبل قبضها لم ينفسخ عقد الرهن لان ما ليتها لم تذهب بالكلية فإن عرصتها وانقاضها باقية ويثبت للمرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطاً في بيع لتعيبها ونقص قيمتها(4/395)
فإن قيل فلم لا ينفسخ عقد الرهن كعقد الإجارة؟ قلنا الإجارة؟ عقد على منفعة السكنى وقد تعذرت وعدمت فبطل العقد لعدم المعقود عليه والرهن عقد استيثاق يتعلق بالأعيان التي فيها المالية وهي باقية
فعلى هذا تكون العرصة والأنقاض من الخشب والأحجار ونحوها من الرهن لأن العقد وارد على جميع الأعيان والأنقاض منها وما دخل في العقد استقر بالقبض (فصل) ويجوز للمرتهن أن يوكل في قبض الرهن ويقوم قبض وكيله مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه، فإن وكل المرتهن الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح ولم يكن قبضاً لأن الرهن وثيقة يستوفى الحق منه عند تعذر استيفائه من الراهن، فإذا كان في يد الراهن لم يحصل معنى الوثيقة، وقد ذكرنا في البيع أن المشتري لو دفع إلى البائع وعاء وقال كل لي حقي فيه ففعل كان قبضاً فيخرج ههنا مثله (فصل) إذا أقر الراهن بتقبيض الرهن أو أقر المرتهن بقبضه كان مقبولا فيما يمكن صدقهما فيه فإن أقر الراهن بالتقبيض ثم أنكر وقال أقررت بذلك ولم أكن أقبضت شيئاً أو أقر المرتهن بالقبض ثم أنكره فالقول قول المقر له فإن طلب المنكر يمينه فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه يمين لأن الإقرار أقوى من البينة ولو قامت البينة بذلك وطلب المشهود عليه يمين خصمه لم يجب إليها فكذلك الإقرار (والثاني) يلزمه اليمين، وهو قول الشافعي وهو أولى لأن العادة جارية بأن الإنسان يشهد على نفسه بالقبض قبله فكذلك تسمع دعواه ويلزم خصمه اليمين لما ذكرنا من حكم العادة بخلاف البينة فإنها لا تشهد إلا بالحق قبل ولو فعلت ذلك لم تكن عادلة، وقال القاضي إن كان المقر غائباً فقال أقررت لأن وكيلي كتب إلي بذلك ثم بان لي خلافه سمعنا قوله وأحلفنا خصمه وإن أقر أنه باشر ذلك بنفسه(4/396)
ثم عاد فأكذب نفسه لم يحلف خصمه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
فأما إن اختلفا في القبض فقال المرتهن قبضته وأنكر الراهن فالقول قول صاحب اليد لأنه إن كان في يد الراهن فالأصل معه وهو عدم الاقباض ولم يوجد ما يدل على خلافه وإن كان في يد المرتهن فقد وجد القبض لكونه لا يحصل في يده إلا بعد قبضه وإن اختلفا في الاذن فقال الراهن: أخذته بغير إذني قال بل بإذنك وهو في يد المرتهن فالقول قوله لأن الظاهر معه فإن العقد قد وجد ويده تدل على أنه بحق ويحتمل أن يكون القول قول الراهن لأن الأصل عدم الأذن، وهذا مذهب الشافعي ذكر القاضي هذين الوجهين
{مسألة} (وتصرف الراهن في الرهن لا يصح إلا العتق فإنه يصح ويؤخذ منه قيمته فيجعل رهناً مكانه وعنه لا ينفذ عتق المعسر) إذا تصرف الراهن بغير رضى المرتهن بغير العتق كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه فتصرفه باطل لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن المرتهن كفسخ الرهن، وفي الوقف وجه آخر أنه يصح لأنه يلزم لحق الله تعالى أشبه العتق.
والصحيح الأول لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع فيه تفصيل نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى (فصل) وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا وطئ ولا سكنى ولا غير ذلك ولا يملك التصرف فيه بإجارة ولا إعارة ولا غيرهما بغير رضى المرتهن، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول(4/397)
الدين، وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم.
وإن كان الرهن عبداً فله استيفاء منافعه بغيره وهل له ذلك بنفسه؟ على الخلاف.
وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع وبنوه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن ولا يتعلق بها حقه وسيأتي الكلام فيه ولنا أنها عين محبوسة فلم يكن للمالك الا نتفاع بها كالمبيع المحبوس عند البائع على قبض ثمنه.
إذا ثبت هذا فإن المتراهنين إن لم يتفقا على الانتفاع بها لم يجز الانتفاع وكانت منافعة معطلة فإن كانت دار اأغلفت وإن كان عبداً أو غيره تعطلت منافعه حتى يفك الرهن فإن اتفقا على إجارة الرهن وإعارته جاز ذلك في ظاهر قول الخرقي لأنه جعل غلة الدار وخدمة العبد من الرهن ولو عطلت منافعهما لم تكن لهما غلة.
وقال ابن أبي موسى: أذن الراهن للمرتهن في إعارته أو إجارته صح والأجرة رهن وإن أجره الراهن بإذن المرتهن خرج من الرهن في أحد الوجهين ولا يخرج في الآخر كما لو أجرة المرتهن.
وقال أبو الخطاب في المشاع يؤجره الحاكم لهما وذكر أبو بكر في الخلاف أن منافع الرهن تعطل مطلقاً ولا يؤجراه، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وقالوا إذا أجر الراهن بإذن المرتهن كان اخراجاً من الرهن لأن الرهن
يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن(4/398)
ولنا أن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين واستيفاؤه من ثمنه عند تعذر استيفائه من ذمة الراهن وهذا لا ينافي الانتفاع به ولا إجارته ولا إعارته فجاز إجتماعهما كانتفاع المرتهن به ولأن تعطيل منفعته تضييع للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته، ولأنه عين تعلق بها حق الوثيقة فلم تمنع إجارتها كالعبد إذا ضمن بإذن سيده، ولا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس بل مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة وذلك غير مناف للانتفاع به.
ولو سلمنا بأن مقتضاه الحبس فلا يمنع كون المستأجر نائباً عنه في امساكه وحبسه ومتوفيا لمنفعته لنفسه (فصل) ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه ومداواته إن احتاج إليها، فإذا كان ماشية فاحتاجت إلى إطراق الفحل فللراهن ذلك لأن فيه مصلحة الرهن وزيادته وذلك زيادة في حق المرتهن من غير ضرر وإن كانت فحولاً لم يكن للراهن إطراقها بغير رضا المرتهن لأنه انتفاع لا مصلحة للرهن فيه فهو كالاستخدام إلا أن يكون يتضرر بترك الإطراق فيجوز لأنه كالمداواة له (فصل) وليس للراهن عتق الرهن لأنه يبطل حق المرتهن من الوثيقة وذلك إضرار به فإن فعل نفذ عتقه موسراً كان أو معسراً نص عليه أحمد وبه قال شريك والحسن بن صالح وأصحاب الرأي والشافعي في أحد أقواله إلا أن أبا حنيفة قال يستسعى العبد في قيمته إن كان المعتق موسراً.
وعن أحمد أنه لا ينفذ عتق(4/399)
المعسر وذكرها الشريف أبو جعفر وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي لأن عتقه يسقط حق المرتهن من الوثيقة من عين الرهن وبدلها فلم ينفذ لما فيه من الاضرار بالمرتهن ولأنه عتق يبطل حق غير المالك فنفذ من الموسر دون المعسر كعتق شرك له في عبد، وقال عطاء والبتي وأبو ثور: لا ينفذ عتق الراهن موسراً كان أو معسراً وهو القول الثالث للشافعي لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من الرهن أشبه البيع ولنا أنه إعتاق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كعتق المستأجر ولأن الرهن عين محبوسة لاستيفاء الحق فنفذ فيها عتق المالك كالمبيع في يد البائع والعتق يخالف البيع فإنه مبني على التغليب والسراية وينفذ
في ملك الغير ويجوز عتق المبيع قبل قبضه والآبق والمجهول وما لا يقدر على تسليمه ويجوز تعليقه على الشرط بخلاف البيع.
إذا ثبت هذا فإن كان موسراً أخذت منه قيمته فجعلت مكانه رهنا لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن فلزمته قيمته كما لو أبطلها أجنبي أو كما لو أتلفه وتكون القيمة رهناً لكونها نائبة عن العين وبدلاً منها وإن كان معسراً فهي في ذمته فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه فجعلت رهناً إلا أن يختار تعجيل الحق فيقضيه ولا يحتاج إلى رهن وان أيسر بعد حلول الحق طولب بالدين خاصة لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً والاعتبار بقيمة العبد حال العتق لأنه وقت الإتلاف وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة في المعسر يستسعى العبد في قيمته ثم يرجع على الراهن وفيه إيجاب الكسب على العبد ولا صنيع له ولا جناية منه فكان الزام الغرم للمتلف أولى كحال اليسار وكسائر الإتلاف (فصل) فإن أعتقه بإذن المرتهن فلا نعلم خلافاً في نفوذ عتقه على كل حال لأن المنع كان لحق المرتهن وقد أذن ويسقط حقه من الوثيقة موسراً كان المعتق أو معسراً لأنه أذن فيما ينافي حقه فإذا(4/400)
وجد زال حقه وقد رضي به لرضاه بما ينافيه واذن فيه فلم يكن له بدل فان رجع عن الإذن قبل العتق وعلم الراهن برجوعه بطل الإذن وإن لم يعلم برجوعه فأعتق ففيه وجهان بناء على عزل الوكيل بدون علمه، وإن رجع بعد العتق لم ينفعه الرجوع والقول قول المرتهن مع يمينه لأن الأصل عدم الإذن، وإن اختلف الراهن وورثة المرتهن فالقول قول الورثة أيضاً إلا أن أيمانهم على نفي العمل لأنها على فعل الغير، وإن اختلف المرتهن وورثة الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وإن لم يحلف قضى عليه بالنكول {مسألة} (وليس عليه تزويج الأمة المرهونة فإن فعل لم يصح) وهذا اختيار أبي الخطاب وقول مالك والشافعي.
وقال القاضي وجماعة من أصحابنا يصح وللمرتهن منع الزوج من وطئها لحق المرتهن حتى لا تخرج عن يده فيفوت القبض ومهرها رهن معها لأنه من نمائها وبسببها فكان رهناً معها كأجرتها وسائر نمائها، وهذا مذهب أبي حنيفة لأن محل النكاح غير محل عقد الرهن ولذلك صح رهن المزوجة ولأن الرهن لا يزيل الملك فلم يمنع التزويج كالإجارة، ولنا أنه تصرف في الرهن بما ينقص ثمنه ويستغل بعض منافعه فلم يملكه الراهن بغير رضى المرتهن كالإجارة
ولا يخفى تنقصيه لثمنها فإنه يعطل منافع بضعها ويمنع مشتريها من وطئها وحلها ويوجب عليها تمكين زوجها من الاستمتاع بها ويعرضها بوطئه للحمل الذي يخاف منه تلفها ويشغلها عن خدمته بتربية ولدها فتذهب الرغبة فيها وتنقص نقصاً كثيراً وربما منع بيعها بالكيلة.
وقولهم إن محل عقد النكاح غير محل الرهن غير صحيح فإن محل الرهن محل البيع والبيع يتناول جملتها، ولهذا يباح لمشتريها استمتاعها(4/401)
وإنما صح رهن المزوجة لبقاء معظم المنفعة فيها وبقائها محلاً للبيع كما يصح رهن المستأجرة.
ويفارق الرهن الإجارة فإن التزويج لا يؤثر في مقصود الإجارة ولا يمنع المستأجر من استيفاء المنافع المستحقة له ويؤثر في مقصود الرهن وهو استيفاء الدين من ثمنها لأن تزويجها يمنع بيعها أو ينقص ثمنها فيتعذر استيفاء الدين بكماله {مسألة} (وإن وطئ الجارية فأولدها خرجت من الرهن وأخذت منه قيمتها فجعلت رهناً) لا يجوز للراهن وطئ أمته المرهونة في قول أكثر أهل العلم، وقال بعض أصحاب الشافعي له وطئ الآيسة والصغيرة لكونه لا ضرر فيه فإن علة المنع خوف الحمل مخالفة أن تلد منه فتخرج من الرهن أو تتعرض للتلف، وهذا معدوم فيهما وسائر أهل العلم على خلاف هذا.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطئ أمته المرهونة ولأن سائر من يحرم وطؤها لا فرق فيه بين الآيسة والصغيرة وغيرهما كالمعتدة والمستبرأة والأجنبية ولأن الوقت الذي تحمل فيه يختلف ولا ينحزر فمنع من الوطئ جملة كما حرم الخمر للسكر وحرم منه اليسير الذي لا يسكر لكون السكر يختلف، فإن وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه وإنما حرمت عليه لعارض كالمحرمة والصائمة ولا مهر عليه لان المرتهن لاحق له في منفعتها ووطؤها لا ينقص قيمتها إذا كانت ثيبا فأشبه مالو استخدمها وإن تلف جزء منها أو نقصها مثل أن افتض البكر أو أفضاها فعليه قيمة ما أتلف فإن شاء جعله رهناً معها وإن شاء جعله قضاء من الحق إن لم يكن حل فإن كان الحق قد حل جعله قضاء لا غير فإنه لا فائدة في جلعه رهناً ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة فيما ذكرناه(4/402)
(فصل) فإن أولدها خرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها كما لو جرح العبد كانت عليه
قيمته يوم جرحه ولا فرق بين الموسر والمعسر إلا أن الموسر تؤخذ منه قيمتها والمعسر تكون قي ذمته قيمتها على حسب ما ذكرنا في العتق، وهذا قول أصحاب الرأي، وقول الشافعي ههنا كقوله في العتق إلا أنه إذا قال لا ينفذ الاحبال فإنما هو في حق المرتهن، فأما في حق الراهن فهو ثابت فلا يجوز له أن يهبها للمرتهن، ولو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها لأنها حامل بحر فإذا ولدت لم يجز بيعها حتى تسقي ولدها اللبأ ثم إن وجد من يرضعه بيعت وإلا تركت حتى ترضعه ثم يباع منها بقدر الدين ويثبت للباقي حكم الاستيلاد فإذا مات الراهن عتق.
وإن رجع المبيع إلى الراهن بيع أو غيره أو بيع جميعها ثم رجعت إليه ثبت لها حكم الاستيلاد، وقال مالك إن كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن وإن تسور عليها أخذ ولدها وبيعت.
ولنا أن هذه أم ولد فلم يثبت فيها حكم الرهن كما لو كان الوطئ سابقاً على الرهن أو نقول معنى ينافي الرهن في ابتدائه فنفاه في دوامه كالحرية (فصل) فإن كان الوطئ بإذن المرتهن خرجت من الرهن ولا شئ للمرتهن لأنه أذن في سبب ما ينافي حقه فكان إذناً فيه ولا نعلم في هذا خلافاً وإن لم تحبل فهي رهن بحالها، فإن قيل إنما أذن في الوطئ ولم يأذن في الاحبال قلنا الوطئ هو المفضي إلى الاحبال ولا؟؟ ذلك على اختياره فالإذن في سببه(4/403)
أذن فيه، فإن أذن ثم رجع فهو كمن لم يأذن، وإن اختلفا في الاذن فالقول قول من ينكره وإن أقر المرتهن بالإذن وأنكر كون الولد من الوطئ المأذون فيه أو قال هو من زوج أو زنا فالقول قول الراهن بأربع شروط (أحدها) أن يعترف المرتهن بالاذن (الثاني) أن يعترف بالوطئ (الثالث) أن يعترف بالولادة (الرابع) أن يعترف بمضي مدة بعد الوطئ يمكن أن تلد فيها فحينئذ لا يلتفت إلى إنكاره ويكون القول قول الراهن بغير يمين لأننا لم نلحقه به بدعواه: بل بالشرع، فإن أنكر شرطاً من هذه الشروط فقال لم آذن أو قال أذنت فما وطئت، أو قال لم تمض مدة تضع فيها الحمل منذ وطئت، أو قال ليس هذا ولدها إنما استعارته فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك كله وبقاء الوثيقة صحيحة حتى تقوم البينة وهذا مذهب الشافعي
(فصل) ولو أذن في ضربها فضربها فتلفت فلا ضمان عليه لأن ذلك تولد من المأذون فيه فهو كتولد الا حبال من الوطئ (فصل) وإذا أقر الراهن بالوطئ لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يقربه حال العقد أو قبل لزومه فحكم هذين واحد ولا يمنع ذلك صحة الرهن لأن الأصل عدم الحمل، فإن بانت حائلاً أو حاملاً بولد لا يلحق بالراهن فالرهن بحاله، وكذلك إن كان يلحق به لكن لا تصير به أم ولد مثل إن وطئها وهي زوجته ثم ملكها ورهنها، وإن بانت حاملاً بما تصير به أم ولد بطل الرهن ولاخيار للمرتهن وإن كان مشروطاً في بيع لأنه دخل مع العلم بانها قد لا تكون رهناً، فإذا خرجت من الرهن بذلك السبب الذي علمه لم يكن له خيار كالمريض إذا مات والجاني إذا اقتص منه وهذا قول أكثر الشافعية، وقال بعضهم له الخيار لان الوطئ نفسه لا يثبت الخيار فلم يكن رضاه به رضى بالحمل الذي يحدث منه بخلاف الجناية والمرض.
ولنا أن اذنه في الوطئ أذن فيما يؤول إليه كذلك رضاه به رضى بما يؤول إليه (الحال الثالث) أقر بالوطئ بعد لزوم الرهن فإنه يقبل في حقه ولا يقبل في حق المرتهن لأنه أقر بما يفسخ عقداً لازماً لغيره فلم يقبل كما لو أقر بذلك بعد بيعها، ويحتمل أن يقبل لأنه أقر في ملكه بما لاتهمة(4/404)
فيه لانه يستضرمن ذلك أكثر من نفعه بخروجها من الرهن والأول أصح لأن إقرار الإنسان على غيره لا يقبل {مسألة} (وإن أذن المرتهن في بيع أو هبة أو نحو ذلك صح وبطل الرهن إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهنا أو يعجل دينه من ثمنه) وجملة ذلك أنه متى أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن أو هبته أو وقفه ففعل صح لأن المنع كان لحقه فجاز بإذنه ويبطل الرهن لانه هذا تصرف ينافي الرهن فلا يجتمع مع ما ينافيه إلا البيع فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يأذن له في بيعه بعد حلول الحق فيصح ويتعلق حق المرتهن بثمنه ويجب قضاء الدين منه لأن مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الدين من ثمنه (الثاني) أنه يأذن له قبل حلوله مطلقاً فيبيعه فيبطل الرهن ولا يكون عليه عوضه لأنه أذن له فيما ينافي حقه فأشبه مالو اذن في عتقه وللمالك أخذ ثمنه وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومحمد يكون الثمن رهناً لأن الراهن باع الرهن بإذن المرتهن
فوجب أن يثبت حقه فيه كما لو حل الدين.
قال الطحاوي: حق المرتهن يتعلق بعين الرهن والثمن بدله فوجب أن يتعلق به كما لو أتلفه متلف ولنا أنه تصرف يبطل حق المرتهن من عين الرهن لا يملكه المرتهن، فإذا أذن فيه أسقط حقه كالعتق.
ويخالف ما بعد الحلول لأن المرتهن يستحق البيع.
ويخالف الا تلاف لأنه غير مأذون فيه من جهة المرتهن، فإن قال إنما أردت بإطلاق الإذن أن يكون ثمنه رهناً لم يقبل قوله لأن إطلاق الإذن يقتضي بيعا يفسخ الرهن، وبهذا قال الشافعي (الثالث) أن يأذن فيه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً مكانه أو يعجل له دينه من ثمنه فيجوز ويلزم ذلك لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق جاز فكذلك قبله وإن اختلفا في الاذن فالقول قول المرتهن لأنه منكر، وإن أقر بالإذن واختلفا في شرط جعل ثمنه رهناً أو تعجيل دينه منه فالقول قول الراهن لأن الأصل عدم الشرط، ويحتمل أن يقدم قول المرتهن لأن الأصل بقاء الوثيقة {مسألة} (ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه من الرهن)(4/405)
وجملة ذلك أن نماء الرهن جميعه وغلاته تكون رهناً في يد من الرهن في يده كالأصل وإذا احتيج إلى بيعه في وفاء الدين بيع مع الأصل، وسواء في ذلك المتصل كالسمن والتعلم والمنفصل كالكسب والأجرة والولد والثمر واللبن والصوف والشعر وبنحو هذا قال النخعي والشعبي.
وقال الثوري وأصحاب الرأي يتبع النماء ولا يتبع الكسب لأن الكسب لا يتبع في حكم الكتابة والاستيلاد والتدبير فلا يتبع في الرهن كإعتاق مال الراهن.
وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء لأن الولد يتبع الأصل في الحقوق الثابتة كولد أم الولد، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يدخل في الرهن شئ من النماء المنفصل ولا من الكسب لأنه حق تعلق بالأصل يستوفي من ثمنه فلا يسري إلى غيره كحق جنايته حتى قال الشافعي لو رهنه ماشية مخاضاً فنتجت فالنتاج لا يدخل في الرهن، وخالفه أبو ثور وابن المنذر واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " وإنما يكون رهناً كسائر ماله
ولنا أنه حكم يثبت في العين بعقد المال فيدخل فيه النماء والمنافع كالملك بالبيع وغيره، ولأن النماء حادث من غير الرهن فيدخل فيه كالمتصل، ولأنه حق مستقر في الام ثبت برضى المالك فسرى إلى الولد كالتدبير والاستيلاد.
ولنا على مالك إنه نماء حادث من غير الرهن فسرى إليه حكم الرهن كالولد، وعلى أبي حنيفة أنه عقد يستتبع النماء فاستتبع الكسب كالشراء، وأما الحديث فنقول به، وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن لكن يتعلق به حق الرهن كالأصل.
والفرق بينه وبين سائر مال الراهن أنه تبع فثبت له حكم أصله، وأما حق الجناية فإنه ثبت بغير رضى المال فلم يتعد ما ثبت فيه لأنه جزاء عدوان فاختص الجاني كالقصاص، ولأن السراية في الرهن لا تفضي إلى استيفاء أكثر من دينه فلا يكثر الضرر فيه.
وأما أرش الجناية على الرهن فيتعلق بها حق المرتهن لأنها بدل جزء منه فكانت من الرهن كقيمته إذا أتلفه إنسان وهذا قول الشافعي وغيره (فصل) وإذا ارتهن أرضاً أو داراً أو غيرهما تبعه في الرهن ما يتبع في البيع، فان كان في الأرض(4/406)
شجر فقال رهنتك هذه الأرض بحقوقها أو ذكر ما يدل على أن الشجر في الرهن دخل، وإن لم يذكر ذلك فهل يدخل في الرهن؟ على وجهين بناء على دخوله في البيع، وإن رهنه شجراً مثمراً وفيه ثمرة ظاهرة لم تدخل في الرهن كما لا تدخل في البيع.
وإن لم تكن ظاهرة دخلت، وقال الشافعي لا تدخل بحال، وقال أبو حنيفة تدخل بكل حال لأن الرهن عنده يصح على الأصل دون الثمرة وقد قصد إلى عقد صحيح فتدخل الثمرة ضرورة الصحة ولنا أن الثمرة المؤبرة لا تدخل في البيع مع قوته وإزالته لملك البائع فالرهن مع ضعفه أولى، وعلى الشافعي أنه عقد على الشجر فاستتبع الثمرة غير المؤبرة كالبيع.
ويدخل في الرهن الصوف واللبن الموجودان كما يدخل في البيع، وكذلك الحمل وسائر ما يتبع في البيع لأنه عقد وارد على العين فدخلت فيه هذه التوابع كالبيع، ولو كان الرهن داراً فخربت كانت أنقاضها رهناً معها لأنها من أجزائها وقد كانت مرهونة قبل خرابها، ولو رهنه أرضاً فنبت فيها شجر فهو من الرهن سواء نبت بفعل الراهن أو بغير فعله لأنه من نمائها
{مسألة} (ومؤنته على الراهن وكفنه إن مات وأجرة مخزنه إن كان مخزوناً) مؤنة الرهن من طعامه وكسوته ومسكنه وحافظه وحرزه ومخزنة وغير ذلك على الراهن، وبهذا قال مالك والشافعي والعنبري واسحاق، وقال أبو حنيفة أجرة المسكن والحافظ على المرتهن لأنه من مؤنة إمساكه وارتهانه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " رواه الدارقطني وقال إسناد جيد متصل، ولأنه نوع اتفاق فكان على الراهن كالطعام، ولأن الرهن ملك الراهن فكان عليه مسكنه وحافظه كغير الرهن، وإن ابق العبد فأجرة من يرده على الراهن، وقال أبو حنيفة يكون بقدر الأمانة على الراهن وبقدر الضمان على المرتهن.
وإن إحتيج إلى مداواته لمرض أو جرح فذلك على الراهن، وعند أبي حنيفة هو كأجرة من يرده من إباقه وبنى ذلك على أصله في أن يد المرتهن يد ضمان بقدر دينه فيه وما زاد فهو أمانة عنده ويأتي الكلام على ذلك فيما بعد، فإن مات العبد كانت مؤنة تجهيزه وتكفينه ودفنه على الراهن لأن ذلك تابع لمؤنته.
فإن كل من لزمته مؤنة شخص في حياته لافي مقابلة نفع كانت مؤنة تجهيزه ودفنه عليه كسائر العبيد والإماء والأقارب من الأحرار (فصل) وإن كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى سقي وتسوية وجذاذ فذلك على الراهن، وإن احتاجت إلى تجفيف والحق مؤجل فعليه التجفيف لأنه يحتاج إلى أن يستبقيها رهنا حتى يحل الحق،(4/407)
وإن كان حالا بيعت ولم يحتج إلى تجفيفها، فإن اتفقا على بيعها وجعل ثمنها رهنا بالحق المؤجل جاز وإن اختلفا قدم قول من يستبقيها بعينها لأن العقد يقتضي ذلك إلا أن يكون مما تقل قيمته بالتجفيف وقد جرت العادة ببيعه رطباً فيباع ويجعل ثمنه رهنا، وإن اتفقا على قطع الثمرة في وقت جاز سواء كان الحق حالا أو مؤجلاً، أو كان الأصلح القطع أو الترك لأن الحق لا يخرج عنهما، وإن اختلفا قدم قول من طلب الأصلح إن كان ذلك قبل حلول الحق، وإن كان الحق حالا قدم قول من طلب القطع لأنه إن كان المرتهن فهو طالب لاستيفاء حقه الحال فلزم إجابته، وإن كان الراهن فهو يطلب بتبرئة ذمته وتخليص عين ملكه من الرهن والقطع أحوط من جهة أن في تبقيته غرراً.
ذكر القاضي هذا في المفلس وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا في معناه، ويحتمل أن ينظر في الثمرة فإن كانت تنقص
بالقطع نقصاً كثيراً لم يجبر الممتنع من قطعها لأن ذلك إتلاف فلا يجبر عليه كما لا يجبر على نقض داره ليبيع أنقاضها، ولا على ذبح فرسه ليبيع لحمها، فإن كانت الثمرة مما لا ينتفع بها قبل كمالها لم يجز قطعها قبله ولم يجبر عليه بحال لما فيه من إضاعة المال والله أعلم (فصل) فإن كان الرهن ما شية تحتاج إلى إطراق الفحل لم يجبر الراهن عليه لأنه ليس عليه ما يتضمن زيادة في الرهن وليس ذلك مما يحتاج إليه لبقائها ولا يمنع من ذلك لكونه زيادة لهما لا ضرر على المرتهن فيه، وإن احتاجت إلى رعي فعلى الراهن أن يقيم لها راعياً لأن ذلك يجري مجرى علفها فإن أراد الراهن السفر بها ليرعاها في مكان آخر وكان لها في مكانها مرعى تتماسك به فللمرتهن منعه لأن في السفر بها إخراجها عن نظره ويده، وإن أجدب مكانها فلم تجد ما تتماسك به فللراهن السفر بها لأنها تهلك إذا لم يسافر بها إلا أنها تكون في يد عدل يرضيان به أو ينصبه الحاكم ولا ينفرد الراهن بها، فإن امتنع الراهن من السفر بها فللمرتهن نقلها لأن في بقائها هلاكها وضياع حقه من الرهن، وإن أراد جميعاً السفر بها واختلفا في مكانها قدمنا قول من يعين الأصلح فإن استويا قدم قول المرتهن، وعند الشافعي يقدم قول الراهن وإن كان الأصلح غيره لأنه أملك بها إلا أنه يكون مأواها إلى يد عدل.
ولنا أن اليد للمرتهن فكان أولى كما لو كانا في بلد واحد وأيهما أراد نقلها عن البلد مع خصبه لم يكن له سواء أراد نقلها إلى مثله أو أخصب منه إذ لا معنى للمسافرة بالرهن مع إمكان ترك السفر به وإن اتفقا على نقلها جاز سواء كان أنفع لها اولا لأن الحق لا يخرج عنهما(4/408)
(فصل) وإن كان عبداً يحتاج إلى ختان والدين حال أو أجله قبل برئه منع منه لأنه ينقص ثمنه وفيه ضرر، وإن كان يبرأ قبل محل الحق والزمان معتدل لا يخاف عليه فيه فله ذلك لأنه من الواجبات ويزيد في الثمن ولا يضر بالمرتهن ومؤنة ختانه على الراهن، وإن مرض فاحتاج إلى دواء لم يجبر الراهن عليه لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه وقد يبرأ بغير علاج بخلاف النفقة، وإن أراد الراهن مداواته بما لا ضرر فيه لم يمنع منه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، فإن كان الدواء مما يخاف غائلته كالسموم فللمرتهن منعه منه لأنه لا يأمن تلفه، وإن احتاج الى قصد أو احتاجت الدابة إلى
توديج ومعناه فتح الودجين ليسيل الدم وهما عرقان غليظان من جانبي ثغرة النحر أو تبزيغ وهو فتح الرهصة فللراهن فعل ذلك ما لم يخف منه ضرر، وإن إحتيج إلى قطع شئ من بدنه بدواء لا يخاف منه جاز، وإن خيف منه فأيهما امتنع منه لم يجبر، وإن كانت به آكلة كان له قطعها لأنه يخاف من تركها لامن قطعها، وإن كان به خبيثة فقال أهل الخبرة الأحوط قطعها وهو أنفع من بقائها فللراهن قطعها وإلا فلا، وإن تساوى الخوف عليه في الحالين لم يكن له قطعها لأنه يحدث جرحاً فيه لم يترجح إحداثه، وإن كانت به سلعة أو اصبع زائدة لم يملك الراهن قطعها لأن قطعها يخاف منه وتركها لا يخاف منه، وان كانت الماشية جربة فأراد الراهن دهنها بما يرجى نفعه ولا يخاف ضرره كالقطران والزيت اليسير لم يمنع، وإن خيف ضرره كالكثير فللمرتهن منعه.
وقال القاضي: له ذلك بغير إذن المرتهن لأن له معالجة ملكه، وإن امتنع من ذلك لم يجبر عليه، ولو أراد المرتهن مداواتها بما ينفعها ولا يخشى ضرره لم يمنع لأن فيه إصلاح حقه بما لا يضر بغيره، وإن خيف منه الضرر لم يمكن منه لأن فيه خطراً بحق غيره (فصل) فإن كان الرهن نخلا فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن وليس للمرتهن منعه منه لأن فيه مصلحة بغير مضرة وما يسقط من ليف أو سعف أو عراجين فهو من الرهن لأنه من أجزأئه أو من نمائه، وقال أصحاب الشافعي ليس من الرهن بناءا منهم على أن نماء الرهن ليس منه.
ولا يصح ذلك ههنا لأن السعف من جملة الأعيان التي ورد عليها عقد الرهن فكانت منه كالأصول وانقاض الدار وإن كان الرهن كرما فله زباره لانه لمصلحته ولا ضرر فيه والزرجون من الرهن، وإن كان الشجر(4/409)
مزدحماً وفي قطع بعضه صلاح لما يبقى فله ذلك، وان أراد تحويله كله لم يملك ذلك، وإن قيل هو الأولى لأنه قد لا يعلق فيفوت الرهن.
وإن امتنع الراهن من فعل هذا كله لم يجبر عليه لأنه لا يلزمه فعل ما فيه زيادة الرهن (فصل) وكل زيادة تلزم الراهن إذا امتنع منها أجبره الحاكم عليها فإن لم يفعل اكترى الحاكم من ماله فإن لم يكن له مال اكترى من الرهن، فإن بذلها المرتهن متطوعاً لم يرجع بشئ، وإن كان
بإذن الراهن محتسبا بالرجوع رجع، فإن أنفق بإذن الراهن ليكون الرهن رهناً بالنفقة والدين الأول لم يصح ولم يصر رهناً بالنفقة لما ذكرنا، وإن قال الراهن انفقت متبرعاً وقال المرتهن بل أنفقت محتسباً بالرجوع فالقول قول المرتهن لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها وعليه اليمين لأن ما قاله الراهن محتمل، وكل مؤنة لا تلزم الراهن كنفقة المداواة والتأبير وأشباههما لا يرجع بها المرتهن إذا أنفقها سواء أنفقها محتسباً أو متبرعا {مسألة} (وهو أمانة في يد المرتهن إن تلف بغير تعد منه فلاشئ عليه ولا يسقط بهلاكه شئ من دينه) وجملة ذلك أن الرهن إذا تلف في يد المرتهن فإن كان تلفه بتعد أو تفريط في حفظه ضمنه لا نعلم في ذلك خلافاً لأنه أمانة في يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهري والاوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وروي عن شريح والنخعي والحسن أن الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الرهن بما فيه " وقال مالك إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان الراهن، وإن ادعى تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله ويضمن، وقال الثوري وأبو حنيفة يضمنه المرتهن بأقل الا مرين من قيمته أو قدر الدين ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه لما روى عطاء أن رجلا رهن فرساً فنفق عند المرتهن فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال " ذهب حقك " ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها(4/410)
من قبضها لذلك، أو من قبضها نائبه كحقيقة المستوفي، ولأنه محبوس بدين فكان مضموناً كالمبيع إذا حبس لاستيفاء ثمنه.
ولنا ما روى ابن أبي ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه " رواه الأثرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذؤيب ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذؤيب ولفظه " الرهن من صاحبه الذي رهنه وباقيه
سواء " قال ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه من حديث ابن أبي أنيسة ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين، ولأنه مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة فكان جميعه أمانة كالوديعة، وعلى مالك أن مالا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة فأما حديث عطاء فهو مرسل وقوله يخالفه.
قال الدارقطني يرويه اسماعيل بن أمية وكان كذاباً وقيل يرويه مصعب بن ثابت وكان ضعيفاً، ويحتمل أنه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدين وقيمه الرهن، والحديث الآخر إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه، وأما المستوفى فإنه صار ملكاً للمستوفي وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والمبيع قبل القبض ممنوع إذا ثبت ذلك فإنه لا يسقط بهلاكه شئ من دينه وهو قول الشافعي لأن الدين كان ثابتاً في ذمة الراهن قبل التلف ولم يوجد ما يسقطه فبقي بحاله {مسألة} (وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين) لأن جميعه كان رهناً بجميع الدين، فإذا تلف البعض بقي البعض الآخر رهناً بجميع الدين لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ولأن الباقي بعض الجملة، وقد كان الجميع رهناً فيكون البعض رهناً لأنه من الجملة (فصل) وإذا قضاه حقه وابرأه من الدين بقي الرهن أمانة في يد المرتهن، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قضاه كان مضموناً وإذا أبرأه لم يكن مضموناً استحساناً وهذا مناقضه لأن القبض المضمون منه لم يزل ولم يبرئه منه، وعندنا انه كان أمانة وبقي على ما كان عليه وليس عليه رده لأنه أمسكه بإذن مالكه ولا يختص بنفعه فهو كالوديعة بخلاف العارية فإنه يختص بنفعها وبخلاف مالو أطارت الريح إلى دراه ثوباً فإنه يلزمه رده إلى مالكه لأن مالكه لم يأذن في إمساكه، فأما إن طلبه المالك في(4/411)
هذه الحال لزم من هو في يده من المرتهن أو العدل دفعه إليه إذا أمكنه، فإن امتنع صار ضامنا كالمودع إذا امتنع من رد الوديعة بعد طلبها فإن كان امتناعه لعذر مثل أن يكون بينهما طريق مخوف أو باب مغلق لا يمكنه فتحه أو خاف فوت جمعه أو جماعة أو فوت وقت صلاة أو كان به مرض أو جوع شديد
ونحوه فأخر التسليم لذلك لم يضمن لأنه لا تفريط منه أشبه المودع (فصل) وإذا قبض الرهن فوجده مستحقاً لزمه رده على مالكه والرهن باطل من أصله، فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن أمسكه مع علمه بالغصب حتى تلف في يده استقر الضمان عليه وللمالك تضمين أيهما شاء، فإن ضمن المرتهن لم يرجع على أحد لذلك، وإن ضمن الراهن رجع عليه، وإن لم يعلم بالغصب حتى تلف بتفريطه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يستقر الضمان عليه أيضاً لأن مال الغير تلف تحت يده العادية أشبه ما لو علم (والثاني) لا ضمان عليه لأنه قبضه على أنه أمانة من غير علمه فهو كالوديعة، فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب لا غير (الثالث) للمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الغاصب لأنه غره فرجع عليه كالمغرور بحرية أمة {مسألة} (ولا ينفك شئ من الرهن حتى يقضي جميع الدين) وجملة ذلك أن حق الوثيقة يتعلق بجميع الرهن فيصير محبوساً بكل الحق وبكل جزء منه لا ينفك منه شئ حتى يقضي جميع الدين سواء كان مما يمكن قسمته أولا.
قال إبن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعض المال وأراد إخراج بعض الرهن أن ذلك ليس له ولا يخرج شئ حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه من ذلك كذلك قال مالك والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الرهن وثيقة بحق فلا يزول إلا بزوال جميعه كالضمان والشهادة.
{مسألة} (وإن رهنه عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه) إذا رهن عيناً عند رجلين فنصفها رهن عند كل واحد منهما بدينه فمتى وفي أحدهما خرجت حصته من الرهن لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأنه رهن كل واحد منهما النصف منفرداً فإن أراد مقاسمه المرتهن وأخذ نصيب من وفاه، وكان الرهن مما لا تنقصه القسمة كالمكيل والموزون فله ذلك، وإن كان مما تنقصه القسمة لم تجب قسمته لأن على المرتهن ضرراً فيها ويقر(4/412)
في يد المرتهن بعضه رهن وبعضه وديعة، وقال أبو الخطاب فيمن رهن عبده عند رجلين فوفى أحدهما يبقى جميعه رهناً عند الآخر حتى يوفيه، وكلامه محمول على أنه ليس للراهن مقاسمه المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهناً إذ لا يجوز أن يقال أنه رهن نصف العبد عند رجل فصار جميعه رهنا {مسألة} (وإن رهنه رجلان شيئاً فوفاه أحدهما انفك في نصيبه) لما ذكرنا وقد قال أحمد في رواية مهنا في رجلين رهنا دارا لهما عند رجل على ألف فقضاه أحدهما ولم يقض الآخر فالدار رهن على ما بقي وهذا من كلام أحمد محمول أيضاً على أنه ليس للراهن مقاسمه المرتهن لما عليه من الضرر لا بمعنى أن العين كلها تكون رهناً عند الآخر لأنه إنما رهنه نصفها (فصل) ولو رهن اثنان عبداً لهما عند اثنين بألف فهذه أربعة عقود ويصير كل ربع من العبد رهناً بمائتين وخمسين فمتى قضاها من هي عليه انفك من الرهن ذلك القدر ذكره القاضي وهو الصحيح {مسألة} (وإذا حل الدين وامتنع من وفائه فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيع الرهن باعه ووفى الدين وإلا رفع الأمر إلى الحاكم فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن فان لم يفعل باعه الحاكم وقضى دينه) وجملة ذلك أنه إذا حل الدين لزم الإيفاء لأنه دين حال فلزم إيفاؤه كالذي لارهن به فان لم يوف وكان قد أذن للمرتهن أو للعدل في بيع الرهن باعه ووفى الحق من ثمنه لأن هذا هو المقصود من الرهن وقد باعه بإذن صاحبه في قضاء دينه يصح في غير الرهن وما فضل من ثمنه فهو للمالك وإن فضل من الدين شئ فعلى الراهن وإن لم يكن أذن لهما في بيعه أو كان قد أذن لهما ثم عزلهما طولب بالوفاء أو بيع الرهن فإن أبى فعلى الحاكم ما يرى من حبسه أو تعزيره ليبيعه أو يبيعه الحاكم بنفسه أو نائبه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يبيعه الحاكم لأن ولاية الحاكم على من عليه الحق لا على ماله فلم ينفذ بيعه بغير إذنه.
ولنا أنه حق تعين عليه فإذا امتنع من أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه كالايفاء من جنس الدين وإن وفى الدين من غير الرهن انفك الرهن (فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن شرط في الرهن جعله على يد عدل صح وقام قبضه
مقام قبض المرتهن)(4/413)
وجملة ذلك أن المتراهنين إذا شرطا كون الرهن على يدي رجل رضياه واتفقا عليه جاز وكان وكيلا للمرتهن نائباً عنه في القبض فمتى قبضه صح قبضه وقام مقام قبض المرتهن في قول أكثر الفقهاء منهم عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وابن أبي ليلى لا يكون مقبوضاً بذلك لأن القبض من تمام العقد فتعلق بالمتعاقدين كالإيجاب والقبول ولنا أنه قبض في عقد فجاز فيه التوكيل كسائر القبوض وفارق القبول لأن الإيجاب إذا كان لشخص كان القبول منه لأنه مخاطب به ولو وكل في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له صح أيضاً وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه.
إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يجعلا الرهن على يدي من يجوز توكيله وهو الجائز التصرف مسلما كان أو كافراً عدلاً أو فاسقاً ذكرا أو انثى ولايكون صبياً لأنه غير جائز التصرف مطلقاً فإن فعلا كان قبضه وعدم القبض واحداً ولا عبداً بغير إذن سيده لأن منافع العبد لسيده فلا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه فإن أذن له السيد جاز.
وأما المكاتب فيجوز بجعل لأن له الكسب وبذل منافعه بغير إذن السيد ولا يجوز بغير جعل لأنه ليس له التبرع بمنافعه.
{مسألة} (فإن شرط جعله في يد اثنين فليس لا حدهما الانفراد بحفظه) لأن المتراهنين لم يرضيا الا بحفضهما معاً فلم يجز لأحدهما الانفراد به كالوصين فإن سلمه أحدهما إلى الآخر فعليه ضمان النصف لأنه القدر الذي تعدى فيه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وفي الآخر إذا رضي أحدهما بإمساك الآخر جاز، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إن كان مما ينقسم اقتسماه وإلا فلكل واحد منهما إمساك جميعه لأن اجتماعهما على حفظه يشق عليهما فحمل الأمر على أن لكل واحد منهما الحفظ ولنا أن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً فلم يجز لأحدهما الانفراد بذلك كالوصيين ولا
يجوز لأحدهما الانفراد بالتصرف.
قولهم أن الاجتماع على الحفظ يشق ممنوع لإمكان جعله في مخزن عليه لكل واحد منهما قفل {مسألة} (وليس للراهن ولا للمرتهن إذا لم يتفقا ولا للحاكم نقله عن يد العدل إلا أن يتغير حالة)(4/414)
وجملة ذلك أن العدل مادام بحاله لم يتغير عن الأمانة ولا حدثت بينه وبين أحدهما عداوة فليس لأحدهما ولا للحاكم نقله عن يده لانهما رضيا به في الابتداء وإن اتفقا على نقله جاز لأن الحق لهما لم يعدهما وكذلك لو كان الرهن في يد المرتهن فلم يتغير حاله لم يكن للراهن ولا للحاكم نقله عن يده، فإن تغيرت حال العدل بفسق أو ضعف أو حدثت عداوة بينه وبينهما أو بينه وبين أحدهما فمن طلب نقله عن يده له ذلك ويضعانه في يد من اتفقا عليه.
فإن اختلفا وضعه الحاكم عند عدل وإن اختلفا في تغير حاله بحث الحاكم وعمل بما ظهر له، وهكذا لو كان في يد المرتهن فتغيرت حاله في الثقة والحفظ فللراهن رفعه عن يده إلى الحاكم ليضعه في يد عدل، وإذا ادعى الراهن تغير حال المرتهن فأنكر بحث الحاكم عن ذلك وعمل بما بان له.
فإن مات العدل أو المرتهن لم يكن لورثتهما إمساكه إلا برضاهما فإن اتفقا عليه جاز، وإن اتفقا على عدل يضعانه عنده فلهما ذلك لأن الحق لهما فيفوض أمره إليهما.
وإن اختلف الراهن والمرتهن عند موت العدل أو اختلف الراهن وورثة المرتهن رفعا الأمر إلى الحاكم ليضعه على يد عدل فإن كان الراهن في يد اثنين فمات أحدهما أو تغيرت حاله بفسخ أو ضعف عن الحفظ أو عداوة أقيم مقامه عدل يضم إلى العدل الآخر فيحفضان معاً {مسألة} (وله رده إليهما ولا يملك رده إلى أحدهما فإن فعل فعليه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق الآخر) وجملة ذلك أن العدل متى أراد رده عليهما فله ذلك وعليهما قبوله لأنه أمين متطوع بالحفظ فلم يلزمه المقام عليه فإن امتنع أجبرهما الحاكم فإن تغيبا نصب الحاكم أميناً يقبضه لهما لأن للحاكم ولاية على الممتنع من الحق الذي عليه فإن دفعه إلى أمين من غير امتناعهما ضمن الأمين وضمن الحاكم لأنه لا ولاية له على غير الممتنع وكذلك لو تركه العدل عند آخر مع وجودهما ضمن وضمن القابض فإن
امتنعا ولم يجد حاكماً فتركه عند عدل آخر لم يضمن.
وإن امتنع أحدهما لم يكن له دفعه إلى الآخر فإن فعل ضمن.
والفرق بينهما أن أحدهما يمسكه لنفسه والعدل يمسكه لهما هذا فيما إذا كانا حاضرين.
فإن كانا غائبين نظرت فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر أو نحوه دفعه إلى الحاكم فقبضه منه أو نصب له عدلاً يقبضه لهما.
فإن لم يجد حاكما أودعه عند ثقة وليس له أن يودعه عند ثقة مع وجود الحاكم فإن فعل ضمن.
فإن لم يكن له عذر وكانت الغيبة بعيدة قبضه الحاكم منه فان لم(4/415)
يجد حاكماً دفعة إلى عدل، وإن كانت الغيبة دون مسافة القصر فهو كما لو كانا حاضرين لأنهما في حكم الإقامة، وإن كانا أحدهما حاضراً وحده فحكمهما حكم الغائبين وليس له دفعه إلى الحاضر منهما وفي كل موضع قلنا لا يجوز له دفعه إلى أحدهما إذا دفعه إليه لزمه رده إلى يده فإن لم يفعل ضمن حق الآخر لأنه فرط في دفعه إليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " رواه أبو داود والترمذي والنسائي {مسألة} (فإن أذنا له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد فان كان فيه نقود باع بجنس الدين) وجملة ذلك إنهما إذا أذنا للعدل في البيع ولم يعينا نقدا لم يبع إلا بنقد البلد لأن الحظ فيه فإن كان فيه نقود باع بأغلبها لذلك.
فإن تساووا فقال القاضي يبيع بما يؤديه إليه اجتهاده وهو قول الشافعي لأنه الأحظ.
فأن تساووا بيع بجنس الدين.
والذي ذكره شيخنا أن النقود إذا تساوت قدم البيع بجنس الدين على البيع بما ير فيه الحظ لأنه يمكن القضاء منه.
فإن لم يكن فيها جنس الدين وتساوت النقود عنده في الحظ عين الحاكم له ما يبيعه به، وإن عينا له نقداً لم يجز أن يخالفهما لأن الحق لهما، وإن اختلفا لم يقبل قول واحد منهما لأن لكل واحد منهما فيه حقاً للراهن ملك الثمن وللمرتهن حق الوثيقة واستيفاء حقه فعلى هذا يرفع الأمر إلى الحاكم فيأمر ببيعه بنقد البلد سواء كان من جنس الحق أو لم يكن وافق قول أحدهما أو لم يوافق لأن الحظ في ذلك، قال شيخنا والأولى أنه يبيعه بما يرى الحظ فيه.
فان كان في البلد نقود فهو كما لو لم يعينا نقداً وحكمه في البيع حكم الوكيل في وجوب الاحتياط والمنع من البيع بدون ثمن المثل ومن البيع نساء، ومتى خالف لزمه ما يلزم الوكيل
المخالف، وذكر القاضي رواية في البيع نساء أنه يجوز بناء على الوكيل ولا يصح لأن البيع ههنا لإيفاء دين حال يجب تعجيله والبيع نساء يمنع من ذلك.
وكذا نقول في الوكيل متى وجدت في حقه قرينة دالة على منع البيع نساء لم يجز له وإنما الروايتان فيه عند انتفاء القرائن.
وكل موضع حكمنا ببطلان البيع وجب رد المبيع إن كان باقيا فإن تعذر فللمرتهن تضمين أيهما شاء من العدل أو المشتري بأقل الأمرين من قيمة الرهن أو قدر الدين لأنه يقبض قيمة الرهن مستوفياً لحقه لا رهناً فلذلك لم يكن له أن يقبض أكثر من دينه وما بقي من قيمة الرهن للراهن يرجع به على من شاء منهما.
وإن استوفى دينه من الراهن رجع الراهن بقيمته على من شاء منهما، ومتى ضمن المشتري لم يرجع على أحد لأن(4/416)
العين تلفت في يده، وإن ضمن العدل رجع على المشتري (فصل) ومتى قدر له ثمناً لم يجز بيعه بدونه وإن أطلق فله بيعه بثمن مثله أو زيادة عليه وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة له بيعه ولو بدرهم والكلام معه في الوكالة: فإن أطلقا فباع بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس به صح ولا ضمان عليه لأن ذلك لا يضبط غالبا وإن كان النقص أكثر من ذلك أو باع بأنقص مما قدر له لم يصح البيع لأنه بيع لم يؤذن فيه فلم يصح كما لو خالف في النقد اختاره شيخنا، وقال أصحابنا يصح ويضمن النقص كله {مسألة} (وإن قبض الثمن فتلف في يده فهو من ضمان الراهن) إذا باع العدل الرهن بإذنهما وقبض الثمن فتلف في يده من غير تفريط فلا ضمان عليه لأنه أمين فهو كالوكيل ولا نعلم في ذلك خلافا ويكون من ضمان الراهن وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: يكون من ضمان المرتهن لأن البيع لأجله، ولنا أنه وكيل الراهن في البيع والثمن ملكه وهو أمين له في قبضه فإذا تلف كان من ضمان موكله كسائر الأمناء.
وإن ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على ذلك فإن كلفناه البينة شق عليه وربما أدى إلى أن لايدخل الناس في الأمانات، فإن خالفاه في قبض الثمن فقالا ما قبضه من المشتري وادعى ذلك ففيه وجهان (أحدهما) يقبل قوله لأنه أمين (والآخر) لا يقبل لأن هذا ابراء للمشتري من الثمن
فلم يقبل قوله كما لو أبرأه من غير الثمن {مسألة} (وإن استحق المبيع رجع المشتري على الراهن) إذا خرج المبيع مستحقاً فالعهدة على الراهن دون العدل إذا أعلم المشتري أنه وكيل وهكذا كل وكيل باع مال غيره، وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة: العهدة على الوكيل والكلام معه يأتي في الوكالة.
فإن علم المشتري بعد تلف الثمن في يد العدل رجع على الراهن ولا شئ على العدل.
فإن قيل لم لا يرجع المشتري على العدل لأنه قبض الثمن بغير حق؟ قلنا لأنه سلمه اليه على أنه أمين في قبضه يسلمه إلى المرتهن فلذلك لم يجب الضمان عليه، وأما المرتهن فقد بان له أن عقد الرهن كان فاسداً فإن كان مشروطاً في بيع ثبت له الخيار فيه وإلا سقط حقه، فإن كان الراهن مفلساً حياً أو ميتاً كان المرتهن والمشترى أسوة الغرماء لأنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في الذمة فاستووا في قسم ماله بينهم، فأما(4/417)
إن خرج مستحقاً بعد دفع الثمن إلى المرتهن رجع المشتري على المرتهن وهو قول الشافعي: وقال أبو حنيفة يرجع على العدل ويرجع العدل على من شاء منهما من الراهن والمرتهن ولنا أن عين ماله صار إلى المرتهن بغير حق فكان رجوعه عليه كما لو قبضه منه، فإن كان المشتري رده بعيب لم يرجع على المرتهن لأنه قبض الثمن بحق ولا على العدل لأنه أمين ويرجع على الراهن، فأما إن كان العدل حين باعه لم يعلم المشتري أنه وكيل كان للمشتري الرجوع عليه ويرجع هو على الراهن إن أقر العدل بذلك أو قامت به بينة فإن أنكر ذلك فالقول قول العدل مع يمينه، فإن نكل عن اليمين فقضي عليه بالنكول أوردت اليمين على المشتري فحلف ورجع على العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقر أنه ظلمه.
وعلى قول الخرقي القول في حدوث العيب قول المشتري مع يمينه وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإذا حلف المشتري رجع على العدل ورجع العدل على الراهن، فإن تلف المبيع في يد المشتري ثم بان مستحقاً قبل وزن ثمنه فللمغصوب منه تضمين من شاء من الغاصب والعدل والمرتهن والمشتري ويستقر الضمان على المشتري لأن التلف في يده هذا إذا علم بالغصب.
وإن لم يكن عالماً فهل يستقر الضمان عليه أو على الغاصب؟ على روايتين
{مسألة} (وإن ادعى دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ولم يكن قضاه ببينة ضمن، وعنه لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل وهكذا الحكم في الوكيل) إذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن فأنكر ففيه وجهان (أحدهما) يقبل قوله في حق الراهن ولا يقبل في حق المرتهن ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن العدل وكيل الراهن في دفع الثمن إلى المرتهن وليس بوكيل للمرتهن في ذلك إنما هو وكيله في الحفظ فقط فلم يقبل قوله عليه فيما ليس بوكيل له فيه كما لو وكل رجلا في قضاء دين فادعى أنه سلمه إلى صاحب الدين (والثاني) يقبل قوله على المرتهن في إسقاط الضمان عن نفسه ولا يقبل في نفي الضمان من غيره ذكره الشريف أبو جعفر وهو مذهب أبي حنيفة لأنه أمين فقبل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه كالمودع يدعي رد الوديعة، فعلى هذا إذا حلف العدل سقط الضمان عنه ولم يثبت على المرتهن أنه قبضه.
وعلى القول الأول يحلف المرتهن ويرجع على من شاء منهما، فان رجع عن العدل لم يرجع العدل على الراهن لأنه يقول ظلمني وأخذ مني بغير حق فلم يرجع على الراهن كما لو غصبه مالاً آخر، وإن رجع على الراهن فهل يرجع(4/418)
الراهن على العدل؟ ينظر فإن كان دفعه إلى المرتهن بحضرة الراهن أو ببينة فماتت أو غابت لم يرجع عليه لأنه أمين ولم يفرط في القضاء، وإن دفعه في غيبة الراهن بغير بينة رجع عليه في إحدى الروايتين لأنه فرط في القضاء بغير بينة فلزمه الضمان كما لو تلف الرهن بتفريطه (والرواية الثانية) لا يرجع الراهن عليه سواء صدقه أو كذبه لأنه أمين في حقه إلا أنه إن كذبه فله عليه اليمين، فإن كان الراهن أمره بالإشهاد فلم يفعل لزمه الضمان لأنه مفرط وهكذا الحكم في الوكيل لأنه في معناه (فصل) إذا غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه زال عنه الضمان، ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدى فيه ثم ازال التعدي أو سافر به ثم رده لم يزل عنه الضمان لانه استئمانه زال بذلك فلم يعد بفعله مع بقائه في يده بخلاف التي قبلها فإنه رد إلى يد نائب مالكها أشبه مالو ردها إلى مالكها (فصل) إذا استقرض ذمي من مسلم مالاً فرهنه خمراً لم يصح سواء جعله في يد ذمي أو غيره فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها لزمه قبوله، فإن أبى قيل له إما أن تقبض وإما أن
تبرئ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحيح.
قال عمر رضي الله عنه في أهل الذمة معهم الخمر: ولو هم بيعها وخذوا من أثمانها، وإن جعلها على يد مسلم فباعها لم يجبر المرتهن على قبول الثمن لأنه بيع فاسد لا يقران عليه ولا حكم له {مسألة} وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح فإن عزلهما صح عزله) إذا كان الرهن على يدي عدل فشرط أن يبيعه العدل عند حلول الحق أو أن يبيعه المرتهن صح ويصح بيعه لأنه شرط فيه مصلحة للمرتهن لا ينافي مقتضى الرهن فصح كما لو شرط صفة فيه، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي فيما إذا شرط أن يبيعه العدل، فإن شرط أن يبيعه المرتهن ففيه اختلاف يذكر في الشروط في الرهن، فإن عزل الراهن العدل أو المرتهن عن البيع صح ولم يملك البيع، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا ينعزل لأن وكالته صارت من حقوق الرهن فلم يكن للراهن إسقاطه كسائر حقوقه.
وقال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع من كتبه وهذا يفتح باب الحيلة للراهن، فإنه شرط ذلك للمرتهن ليجيبه إليه ثم يعزله.
والمنصوص الأول لأن الوكالة عقد جائز فلم يلزم المقام عليها كسائر الولايات وكونه من حقوق الرهن لا يمنع جوازه كما لو شرطا الرهن نفي البيع فإنه لا يصير لازما، وكذلك إذا مات الراهن بعد الاذن(4/419)
تنفسخ الوكالة، وقياس المذهب أنه متى عزله عن البيع وكان الرهن مشروطاً في بيع فللمرتهن فسخ البيع الذي حصل الرهن عنه كما لو امتنع من تسليم الرهن المشروط في البيع، فأما إن عزله المرتهن لم ينعزل لأن العدل وكيل الراهن لأن الراهن ملكه، ولو انفرد بتوكيله صح فلم ينعزل بعزل غيره لكن لا يجوز بيعه بغير إذنه وهكذا لو لم يعزلاه فحل الحق لم يبعه حتى يستأذن المرتهن لأن البيع لحقه فلم يجز حتى يأذن فيه ولايحتاج إلى تجديد إذن من الراهن في ظاهر كلام أحمد لأن الأذن قد وجد فاكتفى به كما في الوكالة في سائر الحقوق، وذكر القاضي وجها أنه يحتاج إلى تجديد إذن لأنه قد يكون له غرض في قضاء الحق من غيره.
والأول أولى فإن الاذن كاف ما لم يغير والغرض لااعتبار به مع صريح الاذن بخلافه بدليل مالو جدد الأذن بخلاف المرتهن فإن البيع يفتقر إلى مطالبته
بالحق ومذهب الشافعي نحو هذا (فصل) ولو أتلف الرهن في يد العدل أجنبي فعلى الجاني قيمته تكون رهناً في يده وله المطالبة بها لأنها بدل الرهن وقائمة مقامه وله إمساك الرهن وحفظه، فإن كان المتراهنان أذنا له في بيع الرهن فقال القاضي قياس المذهب أن له بيع بدله لأن له بيع نماء الرهن تبعاً للأصل فالبدل أولى، وقال أصحاب الشافعي ليس له ذلك لأنه متصرف بالإذن فلا يملك بيع ما لم يؤذن له في بيعه والمأذون في بيعه قد تلف وبدله غيره، وللقاضي أن يقول أنه قد أذن له في بيع الرهن والبدل رهن ثبت له حكم الأصل من كونه يملك المطالبة به وإمساكه واستيفاء دينه من ثمنه فكذلك بيعه، فإن كان البدل من جنس الدين وقد أذن له في وفائه من ثمن الرهن مالك ايفاءه منه لأن بدل الرهن من جنس الدين فأشبه ثمن المبيع {مسألة} (فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول أو إن جاءه بحقه في محله وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وفي صحة الرهن روايتان) الشروط في الرهان قسمان: صحيح وفاسد فالصحيح مثل أن يشترط كونه على يدي عدل أو عدلين أو أكثر أو أن يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحته خلافاً فإن شرط أن يبيعه المرتهن صح، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي لا يصح لأنه وكيل فيما يتنافى فيه الغرضان فلم يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه، ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع والا حتياط في توفير(4/420)
الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وإنجاز المبيع.
ولنا ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه كبيع عين أخرى، ولأن من جاز أن يشترط له الإمساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض المرتهن مستحقاً له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وإنجاز البيع، وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من السماحة به كما لو وكل فاسقاً في بيع ماله وقبض ثمنه، ولا نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شئ من نفسه، ولئن سلمنا فلأن الشخص الواحد يكون بائعاً مشترياً وموجباً قابلاً وقابضاً من نفسه لنفسه بخلاف مسئلتنا
(فصل) إذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم أو كونها في يد المرتهن أو أجني على وجه لا يفضي إلى الخلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري، أو نساء من محارمهما معهما في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم، وإن لم يكن كذلك فسد الشرط لافضائه إلى الخلوة المحرمة فلا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم كما لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده، وإن كان الرهن عبداً فشرط موضعه جاز أيضاً كالأمة، ويحتمل أن لا يصح لأن للأمة عرفاً بخلاف العبد، والأول أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عنده كالعبد، وإذا كان مرتهن العبد امرأة لا زوج لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضاً فاستويا (القسم الثاني) الشروط الفاسدة وهو أن يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو ان لا يباع الرهن عند حلول الحق أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن بأي ثمن كان، أو أن لا يبيعه إلا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع الوفاء بهذه الشروط مفقود، وكذلك إن شرطا الخيار للراهن أو أن لا يكون العقد لازماً في حقه أو توقيت الرهن أو أن يكون رهناً يوماً ويوما لا، أو كون الرهن في يد الراهن أو أن ينتفع به المرتهن أو كونه مضموناً على المرتهن أو العدل فهذه كلها فاسدة لانها منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها ما لا يقتضيه العقد ولا هو من مصلحته، وعن أحمد إذا شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن أنه يجوز في البيع.
قال القاضي: معناه أن يقول بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهراً فيكون بيعاً واجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة الثمن، وقال مالك لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن(4/421)
إلى أجل في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض، فإن شرط شيئاً منها في عقد الرهن فقال القاضي يحتمل أن يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط، فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضى به بدونه، وقيل أن شرط الرهن مؤقتاً أو رهنه يوماً ويوما لا
فسد الرهن وهل يفسد بسائرها؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ونصر أبو الخطاب في رءوس المسائل صحته، وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن " وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده، وقيل ما ينقص حق المرتهن يبطله وجها واحدا ومالا فعلى وجهين وهو مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن (فصل) وإن شرط أنه متى حل الحق ولم توفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي عليك فهو شرط فاسد، وروي ذلك عن ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لما روى عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله، " لا يغلق الرهن "؟ قال لا يدفع رهناً إلى رجل ويقول إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، قال إبن المنذر هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك والثوري وأحمد وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل فقال الذي ارتهن: منزلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " ولأنه علق البيع على شرط فإنه جعله مبيعاً بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع المعلق بشرط لا يصح فإذا شرط هذا الشرط فسد الرهن.
وفيه رواية أخرى أنه لا يفسد لما ذكرنا في الشروط الفاسدة، وهذا ظاهر قول أبي الخطاب في رءوس مسائلة، واحتج بالحديث المذكور فبقي غلق الرهن على أصله فدل على صحته ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمنع بطلانه أولى أن يرضى به؟ ولنا أنه رهن بشرط فاسد فكان فاسداً كما لو شرط توقيته وليس في الخبر أنه يشرط ذلك في ابتداء العقد (فصل) وإذا قال الغريم رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل كان باطلاً لأن الأجل لا يثبت في الدين إلا أن يكون مشروطاً في عقد قد وجب به وإذا لم يثبت الأجل لم يصح الرهن لأنه جعله في مقابلته ولأن ذلك يضاهي ربا الجاهلة كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الأجل(4/422)
(فصل) إذا كان له على رجل ألف فقال اقرضني ألفاً بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين فنقل حنبل عن أحمد أن القرض باطل، وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهي الاستيثاق
بالألف الأول وإذا بطل القرض بطل الرهن فان قيل أليس لو شرط أن يعطيه رهنا بما يقترضه جاز؟ قلنا ليس هذا قرضاً جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما أقرضه وهو مثله والقرض يقتضي وجوب الوفاء وفي مسئلتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقاً لغير موجب القرض.
ونقل مهنا أن القرض صحيح ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط كيلا يفضي إلى جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده.
ولو كان مكان القرض بيع فقال بعني عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن الثمن مجهول لكونه جعله ألفاً ومنفعة هي وثيقة بالألف الأول وتلك المنفعة مجهولة ولانه شرط عقد الرهن بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو باعه داره بشرط أو يبيعه الآخر داره (فصل) إذا فسد الرهن وقبضه المرتهن فلا ضمان عليه لأنه قبضه بحكم أنه رهن وكل عقد كان صحيحاً مضموناً أو غير مضمون ففاسده كذلك فإن كان مؤقتاً أو شرط أن يصير المرتهن بعد انقضاء(4/423)
مدته صار بعد ذلك مضموناً لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد.
وحكم الفاسد من العقود حكم الصحيح في الضمان.
وإن كان أرضاً فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كغرس الغاصب لأنه غرس بغير إذن وإن غرس بعد الأجل وكان قد شرط أن الرهن يصير له فقد غرس بإذن لأن البيع قد تضمن الأذن وإن كان فاسداً فعلى هذا يكون مخيراً بين أن يقر غرسه له وبين أخذه بقيمته وبين أن يلزمه بقلعه ويضمن له ما نقص (فصل) إذا اشترى سلعة وشرط أن يرهنه بها شيئاً من ماله أو شرط ضميناً فالبيع والشرط صحيح لأنه من مصلحة العقد غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوماً.
ومعرفة الرهن تحصل بالمشاهدة وبالصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم ويتعين بالقبض.
والضمين يعلم بالإشارة إليه ويذكر اسمه ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل غني من غير تعيين لأن الصفة لا تأتي عليه، ولو قال بشرط رهن أو ضمين كان فاسداً لأن ذلك يختلف وليس له عرف ينصرف إليه بالإطلاق.
ولو قال بشرط رهن أحد هذين العبدين أو يضمنني أحد هذين الرجلين لم يصح لأن الغرض يختلف فلم يصح مع عدم التعيين كالبيع، وهذا مذهب الشافعي.
وحكي عن مالك وأبي ثور أنه يصح الرهن بالمجهول ويلزمه أن يدفع(4/424)
إليه رهناً بقدر الدين لأنه وثيقة فجاز شرطها مطلقاً كالشهادة.
وقال أبو حنيفة إذا قال على أن أرهنك أحد هذين العبدين جاز لأن بيعه جائز عنده ولنا أنه شرط رهنا مجهولاً فلم يصح كما لو شرط رهن ما في كمه ولأنه عقد يختلف فيه المعقود عليه فلم يصح مع الجهل كالبيع.
وفارق الشهادة فان لها عرفاً في الشرع فحملت عليه والكلام مع أبي حنيفة قد مضى في البيع فإن الخلاف فيه واحد، إذا ثبت هذا فإن المشتري إن وفى بالشرط فسلم الرهن أو ضمن عنه الضامن لزم البيع.
وإن أبى تسليم الرهن أو أبى الضامن أن يضمن فللبائع الخيار بين فسخ البيع وامضائه والرضا به بلا رهن ولا ضمين فإن رضي لزمه البيع، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يلزم المشتري تسليم الرهن، وقال مالك وأبو ثور يلزم الرهن إذا شرط في عقد البيع ويجبر عليه المشتري وإن وجده الحاكم دفعه إلى البائع لأن عقد البيع وقع عليه أشبه الخيار والأجل، وقال القاضي ما عدا المكيل والموزون يلزم فيه الرهن بمجرد العقد وقد مضى الكلام فيه ولنا أنه رهن فلم يلزم قبل القبض كما لو لم يكن مشروطاً في البيع أو كالمكيل والموزون وإنما لزم الخيار والأجل بالشرط لأنه من توابع البيع لا ينفرد بنفسه والرهن عقد منفرد بنفسه ليس من التوابع ولأن الخيار والأجل يثبت بالقول ولا يفتقر إلى تسليم فاكتفى في ثبوته مجرد القول بخلاف الرهن فأما الضمين فلا خلاف في أنه لا يلزمه الضمان إذ لا يلزمه شغل ذمته ووفاء دين غيره باشتراط غيره ولو وعده بأنه يضمن ثم لم يفعل لم يلزمه كما لو وعده أن يبيعه ثم امتنع ومتى لم يف للبائع بشرطه كان له الفسخ كما لو شرط له صفة في الثمن فلم يف بها(4/425)
(فصل) ولو شرط رهناً أو ضميناً معيناً فجاء بغيرهما لم يلزم البائع قبوله وإن كان ما أتى به خيراً من المشروط مثل أن يأتي بأكثر قيمة من المشروط أو بضمان أوثق من المعين لأنه عقد على معين فلم يلزمه قبول غيره كالبيع ولأن الغرض يختلف بالأعيان فمنها ما يسهل بيعه ومنها ما هو أقل مؤنة وأسهل حفظاً وبعض الذمم أملأ من بعض وأسهل فلا يلزمه قبول غير المعين كسائر العقود
(فصل) فإن تعيب الرهن أو استحال العصير خمراً قبل القبض فللبائع الخيار بين قبضه معيباً ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن.
وإن علم بالعيب بعد قبضه فكذلك وليس له مع امساكه أرش من أجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود والجزء الفائت لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلاً عنه بخلاف المبيع وإن تلف أو تعيب بعد القبض فلا خيار للبائع.
وإن اختلفا في زمن حدوث العيب فإن كان لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله من غير يمين لأن اليمين إنما يراد لرفع الاحتمال، وإن احتمل قوليهما معاً انبنى على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب وفيه روايتان فيكون ههنا وجهان (أحدهما) القول قول الراهن وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل صحة العقد ولزومه (والآخر) القول قول المرتهن وهو قياس قول الخرقي لأنهما اختلفا في قبض المرتهن للجزء الفائت فكان القول قوله كما لو اختلفا في قبض جزء منفصل منه، وإن اختلفا في زمن التلف فقال الراهن بعد القبض وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض.
وإن كان الرهن عصيراً فاستحال خمراً واختلفا في زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه أحمد.
وقال القاضي يخرج فيه رواية أخرى أن القول قول المرتهن كالاختلاف في البيع.
وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في زمن التلف(4/426)
ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا فيما يفسد به فكان القول قول من ينفيه كما لو اختلفا في شرط فاسد، وفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين (أحدهما) أنهما اتفقا على القبض ههنا وثم اختلفا في قبض الجزء الفائت (الثاني) أنهما اختلفا ههنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه.
(فصل) ولو وجد بالرهن عيباً بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف البيع وخرجه القاضي على روايتين بناء على البيع فعلى قوله لا يملك الرد لا يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه، وإن هلك الرهن في يد المرتهن ثم علم أنه كان معيباً لم يملك فسخ البيع لأنه قد تعذر عليه رده.
فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمنع رده بحدوث العيب فيه قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع على ملكه، وإنما وقع على الوثيقة فهو مضمون بالوثيقة،
أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئاً، فلو أوجبنا له بدله لأوجبنا على الراهن غير ما شرط على نفسه.
(فصل) ولو لم يشرطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن المشروط في البيع إلا انه إذا رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع (فصل) إذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح، قاله ابن حامد وهو قول الشافعي لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكاً له وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه وشرط رهنه قبل قبضه وقد روي عن أحمد أنه قال: إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولايكون رهناً إلا أن يكون شرطاً(4/427)
عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يصح بيعه فصح رهنه، وقال القاضي معنى هذه الرواية أنه شرط عليه في البيع رهنا غير المبيع فيكون له حبس المبيع حتى يقبض الرهن فإن لم يف به فسخ البيع، وأما شرط رهن المبيع نفسه على ثمنه فلا يصح لوجوه (أحدها) أنه غير مملوك له (والثاني) أن البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع (والثالث) أن البيع يقتضي أن يكون إمساك المبيع مضموناً والرهن يقتضي أن لا يكون مضموناً (الرابع) أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع يقتضي أن لا يسلمه حتى يقبض الثمن وهذا تناقض في الأحكام، وظاهر الرواية صحة رهنه، قولهم أنه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد ملكه، وقولهم البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع ممنوع إنما يقتضي إيفاء الثمن مطلقاً، ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع لا ستوفى من ثمنه، قولهم البيع يقتضي(4/428)
تسليم المبيع قبل تسليم الثمن ممنوع وإن سلم فلا يمنع أن يثبت بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز، وكذلك مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع والتمكين من التصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا الجواب عن باقي الوجوه، فأما إن لم يشرط ذلك في البيع لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه فيصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز
التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز التصرف فيه جاز رهنه ومالا فلا لأنه نوع تصرف أشبه البيع(4/429)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن اختلفا في قدر الدين أو رده أو قال أقبضتك عصيراً قال بل خمراً فالقول قول الراهن) إذا اختلفا في قدر الحق نحو أن يقول الراهن رهنتك عبدي بألف فقال المرتهن بل بألفين فالقول قول الراهن وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكي عن الحسن وقتادة أن القول قول المرتهن ما لم يجاوز ثمن الرهن أو قيمته ونحوه قول مالك لأن الظاهر ان الرهن يكون بقدر الحق.
ولنا أن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن والقول قول المنكر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو(4/430)
يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه " رواه مسلم ولأن الأصل براءة الذمة من هذه الألف فكان القول قول من ينفيها كما لو اختلفا في أصل الدين، وما ذكروه من الظاهر غير مسلم فإن العادة رهن الشئ بأقل من قيمته، إذا ثبت هذا فإن القول قول الراهن في قدر ما رهنه سواء اتفقا على أنه رهنه بجميع الدين أو اختلفا، فلو اتفقا على أن الدين الفان وقال الراهن إنما رهنتك بأحد الالفين وقال المرتهن إنما رهنتني بهما فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه ينكر تعلق حق المرتهن في أحد الالفين بعبده والقول قول المنكر، وإن اتفقا على أنه رهن بأحد الألفين، وقال الراهن رهنته بالمؤجل، وقال المرتهن بل بالحال فالقول قول الراهن مع يمينه لأنه منكر،(4/431)
ولأن القول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته هذا إن لم تكن بينة.
فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وجها واحدا وإن اختلفا في قدر الرهن فقال رهنتك هذا العبد فقال بل هو والعبد الآخر فالقول قول الراهن لأنه منكر ولا نعلم في هذا خلافاً، وإن قال رهنتك هذا العبد قال بل هذه الجارية خرج العبد من الرهن لاعتراف المرتهن بأنه لم يرهنه وحلف الراهن على أنه ما رهنه الجارية
وخرجت من الرهن أيضاً.
(فصل) وإن اختلفا في رد الرهن إلى الراهن فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه، وكذلك الحكم في المستأجر إذا ادعى رد العين المستأجرة، وقال أبو الخطاب يتخرج فيهما وجه آخر أن القول قول المرتهن والمستأجر في الرد بناء على المضارب والوكيل بجعل فإن فيهما وجهين، والفرق بينهما وبين المرتهن أن المرتهن قبض العين لينتفع بها، وكذلك المستأجر والوكيل قبض العين لينتفع بالجعل لا بالعين والمضارب قبضها لينتفع بربحها لا بها، وإن اختلفا في تلف العين فالقول قول المرتهن مع يمينه لأن يده يد أمانة ويتعذر عليه إقامة البينة على التلف فقبل قوله فيه كالمودع، فإن أتلفها المرتهن أو تلفت بتفريطه واختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه لأنه غارم لا نعلم في ذلك خلافا(4/432)
(فصل) وإن قال الراهن رهنتك عصيراً قال بل خمراً فالقول قول الراهن يريد إذا كان الرهن شرط في البيع فقال الراهن رهنتك عصيراً فليس لك فسخ البيع، وقال المرتهن بل رهنتني خمراً فلي فسخ البيع فالقول قول الراهن نص عليه أحمد لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد فكان القول قول من ينفيه وقد ذكرنا ذلك (فصل) وإذا قال بعتك هذا الثوب على أن ترهنني بثمنه عبديك هذين، قال بل علي رهن هذا وحده فحكى القاضي فيها روايتين (إحداهما) يتحالفان لأنهما اختلفا في البيع فهو كالاختلاف في الثمن (والثانية) القول قول الراهن لأنه منكر لشرط رهن العبد المختلف فيه والقول قول المنكر وهذا أصح (فصل) وإن قال أرسلت وكيلك فرهنني عبدك هذا على عشرين وقبضها قال ما أمرته إلا بعشرة ولا قبضت إلا عشرة سئل الرسول، فإن صدق الراهن فعليه اليمين أنه ما رهنه إلا بعشرة ولا قبض إلا عشرة ولا يمين على الراهن لأن الدعوى على غيره، فإذا حلف الوكيل برئا جميعاً، وإن نكل فعليه العشرة المختلف فيها ولا يرجع بها على أحد لأنه يصدق الراهن في أنه ما أخذها ولا أمره بأخذها وإنما المرتهن ظلمه، وإن صدق المرتهن وادعى أنه سلم العشرين إلى الراهن فالقول قول الراهن مع يمينه، فإن نكل قضي عليه بالعشرة وتدفع إلى المرتهن، وإن حلف برئ وعلى الوكيل غرامة العشرة(4/433)
للمرتهن لأنه يزعم أنها حق له وإنما الراهن ظلمه، فإن عدم الوكيل وتعذر احلافه فعلى الراهن اليمين أنه ما أذن في رهنه إلا بعشرة ولا قبض أكثر منها ويبقى الرهن بعشرة (فصل) إذا كان على رجل الفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى ألفاً وقال قضيت دين الرهن وقال المرتهن بل قضيت الدين الآخر فالقول قول الراهن مع يمينه سواء اختلفا في نية الراهن أو في لفظه لأنه أعلم بنيته وصفة دفعه، ولأنه يقول الدين الباقي بلا رهن والقول قوله في أصل الرهن فكذلك في صفته، وإن أطلق القضاء ولم ينو شيئاً فقال أبو بكر له صرفها إلى أيهما شاء كما لو كان له مال حاضر وغائب فأدى قدر زكاة أحدهما فإن له أن يعين عن أي المالين شاء وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يقع الدفع عن الدينين معاً عن كل واحد نصفه لأنهما تساويا في القضاء فتساويا في وقوعه عنهما، فأما إن أبرأه المرتهن من أحد الدينين واختلفا فالقول قول المرتهن على التفصيل الذي ذكرناه في الرهن.
ذكره أبو بكر (فصل) إذا اتفق المتراهنان على قبض العدل للرهن لزم الرهن في حقهما ولم يضر إنكاره لأن الحق لهما وإن قال أحدهما قبضه العدل فأنكر الآخر فالقول قول المنكر كما لو اختلفا في قبض المرتهن فإن أشهد العدل بالقبض لم تقبل شهادته لأنها شهادة الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه (فصل) إذا كان في يد رجل عبد فقال رهنتني عبدك هذا بألف فقال بل غصبته أو استعرته(4/434)
فالقول قول السيد سواء اعترف بالدين أو جحده لأن الأصل عدم الرهن.
وإن قال السيد بعتك عبدي هذا بألف قال بل رهنته عندي بها فالقول قول كل واحد منهما في العقد الذي ينكره ويأخذ السيد عبده.
وإن قال رهنتكه بألف أقرضتنيه قال بل بعتنيه بألف قبضته مني ثمناً فكذلك ويرد صاحب العبد الألف ويأخذ عبده.
(فصل) وإذا ادعى على رجلين فقال رهنتماني عبدكما بديني عليكما فأنكراه فالقول قولهما فإن شهد كل واحد منهما على صاحبه قبلت شهادته وللمرتهن أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير جميعه رهناً
أو يحلف مع أحدهما ويصير نصيب الآخر رهناً وإن أقر أحدهم اثبت في حقه وحده.
وإن شهد المقر على المنكر قبلت شهادته لأنه لا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها، وبهذا قال أصحاب الشافعي.
وقال بعضهم إذا أنكرا جميعاً ففي شهادتهما نظر لأن المشهود له يدعي أن كل واحد منهما ظالم له بجحوده حقه من الرهن ومتى طعن المشهود له في شهوده لم تقبل شهادتهم له.
قلنا هذا لا يصح فإن إنكار الدعوى لا يثبت به فسق المدعى عليه وإن كان الحق عليه لجواز أن ينسى أو يلحقه شبهة فيما يدعيه أو ينكره ولذلك لو تداعى رجلان شيئاً وتخاصما فيه ثم شهدا عند الحاكم بشئ لم يرد شهادتهما وإن كان أحدهما كاذباً ولو ثبت الفسق بذلك لم يجز قبول شهادتهما جميعاً مع تحقق الجرح في أحدهما (فصل) وإذا ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده وقال كل واحد منهما رهنه عندي دون(4/435)
صاحبي فأنكرهما فالقول قوله وإن أنكر أحدهما وصدق الآخر سلم إلى من صدقه وحلف للآخر.
وإن قال لا أعلم المرتهن منهما حلف على ذلك والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه وإن كان في أيديهما حلف كل واحد منهما على نصفه وصار رهناً عنده.
وإن كان في يد غيرهما اقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذه كما لو ادعيا ملكه وإن قال رهنته عند أحدهما ثم رهنته عند الآخر ولا أعلم السابق منهما فكذلك.
وإن قال هذا هو السابق بالعقد والقبض سلم إليه وحلف الآخر وإن نكل والعبد في يد الأول أو يد غيره فعليه قيمته للثاني كما لو قال هذا العبد لزيد وغصبته من عمرو فإنه يسلم إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو.
وإن نكل والعبد في يد الثاني أقر في يده وغرم قيمته للأول لأنه أقر له بعد ما فعل ما حال بينه وبين من أقر له به فلزمته قيمته كما قلنا، وقال القاضي إذا اعترف لغير من هو في يده فهل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ على وجهين.
ولو اعترف لأحدهما وهو في يديهما ثبتت يد المقر له في النصف وفي النصف الآخر وجهان {مسألة} (وإن أقر الراهن أنه أعتق العبد قبل رهنه فالحكم في ذلك كما لو أعتقه بعد رهنه) على ما ذكرنا من الخلاف لأن كل من صح منه إنشاء عقد صح منه الإقرار به ولا يقبل قوله في تقدم عتقه لأنه يسقط حق المرتهن من عوضه فعلى هذا تؤخذ منه قيمته فتجعل رهناً مكانه إن كان
موسراً لأنه فوته على الراهن بإقراره فهو كما لو أعتقه، وإن كان معسراً فالحكم فيه كما ذكرنا(4/436)
{مسألة} (وإن أقر أنه كان جنى أو أنه باعه أو غصبه قبل على نفسه ولم يقبل على المرتهن إلا أن يصدقه) وجملته أنه إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه فكذبه المرتهن وولي الجناية لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده قبل إقراره على نفسه دون المرتهن ويلزمه أرش الجناية لأنه حال بين المجني عليه وبين رقبة الجاني بفعله فأشبه مالو جنى عليه، وإن كان معسراً فمتى انفك الرهن كان المجني عليه أحق برقبته وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك فإن نكل قضي عليه.
وفيه وجه آخر أنه يقبل إقرار الراهن لأنه غير متهم لكونه تغريماً يخرج الرهن من ملكه وعليه اليمين لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه، فإن أقر أنه غصبه لم يقبل على المرتهن لأن اقرار غيره لا يقبل في حقه فعلى هذا لا يخرج من الرهن ولا يزول شئ من أحكام الرهن ويلزمه قيمته للمغصوب منه لأنه حال بينه وبينه برهنه، وكذلك لا يقبل إقراره على المرتهن ببيع ولا هبة لما ذكرنا، فإن صدقة المرتهن في ذلك بطل الرهن لاعترافه بما يبطله فإذا انفك أخذ الراهن باقراره {مسألة} قال الشيخ رضي الله عنه (وإذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك) وجملة ذلك أن الرهن ينقسم إلى قسمين: حيوان وغيره، والحيوان نوعان (أحدهما) أن يكون(4/437)
مركوباً أو محلوباً فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحرياً للعدل في ذلك نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم واحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء انفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبة أو امتناع أو مع القدرة على أخذ النفقة منه واستئذانه.
وعن أحمد رواية أخرى لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشئ وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " ولأنه ملك غيره لم
يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن ولنا ما روى البخاري بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، والدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " فجعل منفعته بنفقته وهذا محل النزاع، فإن قيل المراد به الرهن ينفق وينتفع قلنا لا يصح لو جهين (أحدهما) أنه قد روي في بعض الألفاظ إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولأن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع (الثاني) أن قوله بنفقته يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك في حق المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة(4/438)
لأحدهما بالآخر ولأن نفقة الحيوان واجبة وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمراد اخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في الإنفاق عليها.
والحديث نقول به والنماء للراهن ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته وهذا فيمن انفق محتسباً بالرجوع فإن انفق متبرعاً بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة (فصل) النوع الثاني الحيوان غير المركوب والمحلوب كالعبد والأمة فليس للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته في ظاهر المذهب ذكره القاضي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: سعمت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه فقال الرهن لا ينتفع منه بشئ إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف.
قلت له فان كان الركوب واللبن أكثر؟ قال لا إلا بقدر، ونقل حنبل عن أحمد أن له استخدام العبد أيضاً وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه وقال أبو بكر خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشئ إلا ما خصه الشرع فإن القياس أنه لا ينتفع بشئ منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر فيما عداه يبقى على مقتضى القياس (القسم الثاني) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع بغير إذن الراهن لا نعلم في ذلك خلافاً لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه، فإن أذن الراهن للمرتهن في
الانتفاع بغير عوض وكان دين الراهن من قرض لم يجز لأنه يصير قرضاً جر منفعة وذلك حرام، قال(4/439)
أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض.
يعني إذا كانت رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك، وقد روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق، فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره لكونه ما انتفع بالقرض إنما انتفع بالإجارة، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض يجوز في غير القرض، ومتى استأجرها واستعارها المرتهن فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهناً فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب قال أحمد إذا كان الرهن داراً فقال المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي تنتقل فتصير ديناً وتتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن وقال أحمد في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن، فإذا رجعت إليه صارت رهنا.
قال شيخنا: والأولى أنها لا تخرج من الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها لأن القبض مستدام ولا تنافي بين العقدين، وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضموناً عليه، وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية هل هي مضمونة أم لا؟ وسيأتي ذلك {مسألة} (وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه فهو متبرع) إذا أنفق على الحيوان متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كالصدقة على مسكين(4/440)
وإن نوى الرجوع على المالك وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه فكانت النفقة على المالك كما لو وكله في ذلك {مسألة} (وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم فعلى روايتين)
مفهوم كلامه ههنا أنه متى قدر على استئذان المالك فلم يستأذنه أن يكون متبرعاً لا يرجع بشئ، وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه مفرط في ترك استئذانه مع القدرة عليه فلم يرجع كما لو عمر داره بغير إذنه، وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم ففيه روايتان (إحداهما أنه متبرع لأنه لم يستأذن مالكه ولا من يقوم مقامه أشبه مالو كان المالك حاضراً فلم يستأذنه (والثانية) يرجع عليه لأنه أنفق عليه عند العجز عن استئذانه أشبه مالو عجز عن إستئذان الحاكم، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون.
وقال شيخنا فيمن أنفق بغير إذن الراهن بنية الرجوع مع إمكانه أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه وهذا أقيس في المذهب إذ لا يعتبر في قضاء الذين العجز عن استئذان الغريم {مسألة} (وكذلك الحكم في الوديعة وفي نفقة الجمال إذا هرب الجمال وتركها في يد المكتري) لأنها أمانة فأشبهت الرهن {مسألة} (وإن انهدمت الدار فعمرها المرتهن بغير إذن الراهن لم يرجع به رواية واحدة) وليس له الانتفاع بها بقدر عمارتها فان عمارتها غير واجبة على الراهن فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعاً كالأجنبي بخلاف نفقة الحيوان فإنها تجب على مالكه لحرمته في نفسه، وكذلك كفن العبد إذا مات يجب على سيده(4/441)
(فصل) قال الشيخ (إذا جنى الرهن جناية موجبة للمال تعلق أرشها برقبته وللسيد فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته أو بيعه في الجناية أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، وعنه إن اختار فداءه لزمه جميع الأرش) وجملة ذلك أن العبد المرهون إذا جنى على إنسان أو على ماله تعلقت الجناية برقبته وقدمت على حق المرتهن بغير خلاف علمناه لأنها مقدمة على حق المالك والملك أقوى من الرهن فأولى أن يقدم على الرهن، فإن قيل فحق المرتهن أيضاً يقدم على حق المالك.
قلنا حق المرتهن ثبت من جهة المالك بعقده وحق الجناية ثبت بغير اختياره مقدماً على حقه فيقدم على ما ثبت بعقده، ولأن حق الجناية مختص بالعين يسقط بفواتها وحق المرتهن لا يسقط بفوات العين ولا يختص بها فكان تعلقه بها أحق وأولى، فإن كانت جنايته موجبة للقصاص في النفس فلولي الجناية استيفاؤه، فإن اقتص
سقط الرهن كما لو تلف، وإن كانت في طرف اقتص منه وبقي الرهن في باقيه، وإن عفى على مال تعلق برقبة العبد وصار كالجناية الموجبة للمال فيقال للسيد أنت مخير بين فدائه وبين تسليمه للبيع، فإن اختار فداءه فداه بأقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية في أصح الروايتين لأنه إن كان الأرش أقل فالمجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وإن كانت القيمة أقل فلا يلزمه أكثر منها لأن ما يدفعه عوض عن العبد فلا يلزم أكثر من قيمته كما لو أتلفه (والثانية) يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ لأنه ربما يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته {مسألة} (فان فداه فهو رهن بحاله، وإن سلمه بطل الرهن) إذا فداه الراهن فهو رهن بحاله لأن حق المرتهن قائم لوجود سببه، وإنما قدم حق المجني عليه(4/442)
لقوته، فإذا زال ظهر حكم الرهن كحق من لارهن له مع حق المرتهن في تركة المفلس إذا أسقط المرتهن حقه ظهر حكم الآخر وهذا مذهب الشافعي، وإن سلمه بطل الرهن لفوات محله فهو كما لو تلف {مسألة} (فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره وباقيه رهن، وقيل يباع جميعه ويكون باقي ثمنه رهنا) إذا لم يستغرق أرش الجناية قيمة الرهن بيع منه بقدر الأرش وباقيه رهن لأن بيعه إنما جاز ضرورة ايفاء الحق، فإذا اندفعت الضرورة ببيع البعض لم يجز بيع ما بقي لعدم الضرورة فيه، فإن تعذر بيع بعضه بيع كله للضرورة المقتضية لبيعه ويكون باقي ثمنه رهنا لعدم تعلق الجناية به.
وقال أبو الخطاب: هل يباع منه بقدر الجناية أو يباع جميعه ويكون الفاضل من ثمنه عن أرش جنايته رهنا؟ على وجهين (أحدهما) يباع بعضه خاصة لما ذكرنا (والثاني) يباع جميعه لأن بيع البعض يستقبض له وهو عيب ينقص به الثمن وذلك يضر بالمالك والمرتهن، وقد قال عليه السلام " لاضرر ولا ضرار " {مسألة} (فإن اختار المرتهن فداءه ففداه بإذن الراهن رجع به، وإن فداه بغير إذنه فهل يرجع به؟ على روايتين إذا امتنع الراهن من فداء الجاني فالمرتهن مخير بين فدائه وتسليمه، فإن اختار فداءه فبكم يفديه؟
يخرج على روايتين فيما يفديه به الراهن، فإن فداه بإذن الراهن رجع به عليه كما لو قضى دينه بإذنه، وإن فداه متبرعا لم يرجع بشئ، وإن نوى الرجوع فهل يرجع ذلك؟ على وجهين بناء على مالو قضى دينه بغير إذنه.
فإن زاد على الفداء الواجب لم يرجع به وجهاً واحداً.
ومذهب الشافعي كما ذكرنا إلا أنه(4/443)
لا يرجع بما فداه بغير إذنه وجها واحدا، وان شرط له الراهن الرجوع رجع قولاً واحداً، وإن قضاه بإذنه من غير شرط الرجوع ففيه وجهان وهذا أصل يذكر فيما بعد، وإن فداه وشرط أن يكون رهنا بالفداء مع الدين الأول فقال القاضي يجوز ذلك لأن المجني عليه يملك بيع العبد وإبطال الرهن فصار بمنزلة الرهن الجائز قبل قبضه والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة، ولأن أرش الجناية متعلق به وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن.
وفيه وجه آخر أنه لا يجوز لأن العبد رهن بدين فلم يجر رهنه بدين سواه كما لو رهنه بدين غير هذا، وذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان جناية الرهن على المرتهن فإن فداه لم يرجع بالفداء، وإن فداه الراهن وبيع في الجناية سقط دين الرهن إن كان بقدر الفداء وبناء على أصله في أن الرهن من ضمان المرتهن وقد ذكرنا ذلك (فصل) فإن كانت الجناية على سيد العبد فلا يخلو من حالين (أحدهما) أن تكون غير موجبة للقود كجناية الخطأ وإتلاف مال فيكون هدراً لأن العبد مال سيده فلا يثبت له مال في ماله (الثاني) أن تكون موجبة للقود فلا يخلو ان تكون على النفس أو على ما دونها، فإن كانت على ما دون النفس فالحق للسيد، فإن عفا على مال سقط القصاص ولم يجب المال لما ذكرنا، وكذلك إن عفا على غير مال وان أراد أن يقتص فله ذلك لأن السيد لا يملك الجناية على عبده فيثبت له ذلك بجنايته عليه كالأجنبي ولأن القصاص يجب للزجر والحاجة داعية إلى زجره عن سيده، فإن اقتص فعليه قيمته تكون رهناً مكانه أو قضاء عن الدين لأنه أخرجه عن الرهن باختياره فكان عليه بدله كما لو أعتقه، ويحتمل أن لا يجب عليه شئ لأنه اقتص بإذنه فكأنه اقتص بإذن الشارع فلم يلزمه شئ كالأجنبي وكذلك إن كانت الجناية على النفس فاقتص الورثة فهل تجب عليهم القيمة؟ يخرج على ما ذكرنا، وليس للورثة العفو على مال لما ذكرنا في السيد لأنهم يقومون مقام الموروث، وذكر القاضي وجها آخر أن لهم ذلك لأن الجناية في(4/444)
ملك غيرهم فكان لهم العفو على مال كما لو جنى على أجنبي وللشافعي قولان كالوجهين، فان عفا بعض الورثة سقط القصاص وهل يثبت لغير العافي نصيبه من الدية؟ على الوجهين ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرناه (فصل) فإن جنى المرهون على عبد سيده لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا يكون مرهوناً فحكمه حكم الجناية على طرف سيده له القصاص إن كانت جنايته موجبة له فإن عفا على مال أو غيره أو كانت الجناية لا توجب القصاص ذهبت هدراً وسواء كان المجني عليه قنا أو مدبراً أو أم ولد (الحال الثاني) أن يكون رهناً فلا يخلو إما أن يكون رهنا عند مرتهن القاتل أو غيره فان كان عند مرتهن القاتل والجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه وعليه قيمة المقتص منه، ويحتمل أن لا يجب لأنه اقتص بإذن الشارع فإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال وكان رهناً بحق واحد فجنايته هدر لأن الحق يتعلق بكل واحد منهما فإذا قتل أحدهما بقي الحق متعلقاً بالآخر، وإن كان كل واحد منهما رهناً بحق منفرد ففيه أربع مسائل: (إحداها) أن يكون الحقان سواء وقيمتهما سواء فتكون الجناية هدراً سواء كان الحقان من جنسين مثل أن يكون أحدهما بمائة دينار والآخر بدراهم قيمتها مائة دينار أو من جنس واحد لأنه لا فائدة في اعتبار الجناية (المسألة الثانية) أن يختلف الحقان وتتفق القيمتان مثل أن يكون دين أحدهما مائة ودين الآخر مائتين وقيمة كل واحد منهما مائة فإن كان دين القاتل أكثر لم ينقل إلى دين المقتول لعدم الغرض(4/445)
فيه وإن كان دين المقتول أكثر نقل إلى القاتل لان للمرتهن غرضاً في ذلك وهل يباع القاتل وتجعل قيمته رهناً مكان المقتول أو ينقل بحاله؟ على وجهين (أحدهما) لا يباع لأنه لا فائدة فيه (والثاني) يباع لأنه ربما زاد فيه من يبلغه أكثر من ثمنه فإن عرض للبيع فلم يزد فيه لم يبع لعدم ذلك (المسألة الثالثة) أن يتفق الدينان وتختلف القيمتان بأن يكون دين كل واحد منهما مائة وقيمة أحدهما
مائة والآخر مائتين فإن كانت قيمة المقتول أكثر فلا غرض في النقل فيبقى بحاله وإن كانت قيمة الجاني أكثر بيع منه بقدر جنايته تكون رهنا بدين المجني عليه والباقي رهن بدينه وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه صار مرهوناً بهما فإن حل أحد الدينين بيع بكل حال لأنه إن كان دينه المعجل بيع ليستوفي من ثمنه وما بقي منه رهن بالدين الآخر وإن كان المعجل الآخر بيع ليستوفي منه بقدره والباقي رهن بدينه (المسألة الرابعة) أن يختلف الدينان والقيمتان مثل أن يكون أحد الدينين خمسين والآخر ثمانين وقيمة أحدهما مائة والآخر مائتين فإن كان دين المقتول أكثر نقل إليه والافلا (فصل) فإن كان المجني عليه رهناً عند غير مرتهن القاتل فللسيد القصاص لأنه مقدم على حق المرتهن بدليل أن الجناية الموجبة للمال مقدمة عليه فالقصاص أولى فإن اقتص بطل الرهن في المجني عليه لأن الجناية عليه لم توجب مالاً يجعل رهناً مكانه وعليه قيمة المقتص منه يكون رهناً لأنه أبطل حق الوثيقة فيه باختياره.
ويحتمل أن لا تجب لما ذكرنا وللسيد العفو على مال فتصير كالجناية الموجبة(4/446)
للمال فيثبت المال في رقبة العبد لأن السيد لو جنى على العبد لوجب أرش جنايته لحق المرتهن فبأن يثبت على عبده أولى.
فإن كان الأرش لا يستغرق قيمته بعنا منه بقدر أرش الجناية يكون رهنا عند مرتهن المجني عليه وباقيه رهن عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه بيع جميعه وقسمة ثمنه بينهما على حسب ذلك يكون رهنا، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته نقل الجاني فجعل رهناً عند الآخر، ويحتمل أن يباع لاحتمال أن يرغب في شرائه راغب بأكثر من قيمته فيفصل من قيمته شئ يكون رهنا عند مرتهنه وهذا كله قول الشافعي (فصل) فإن كانت الجناية على موروث سيده فيما دون النفس كأطرافه أو ماله فهي كالجناية على أجنبي وله القصاص إن كانت موجبة له والعفو على مال وغيره، وإن كانت موجبة للمال ابتداء ثبت فإن انتقل ذلك إلى السيد بموت المستحق فله ما لموروثة من القصاص والعفو على مال لأن الاستدامة أقوى من الابتداء فجاز أن يثبت بها مالا يثبت في الابتداء، وإن كانت الجناية على نفسه بالقتل ثبت
الحكم لسيده وله أن يقتص فيما يوجب القصاص.
وإن عفا على مال أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء فهل يثبت للسيد؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الجناية على غيره فأشبهت الجناية على ما دون النفس (والثاني) لا يثبت له مال في عبده ولا له العفو عليه وهو قول أبي ثور لأنه حق ثبت للسيد ابتداء فلم يكن له ذلك كما لو كانت الجناية عليه، وأصل الوجهين في وجوب الحق في ابتدائه هل يثبت للقتيل ثم ينتقل إلى وارثه أو يثبت للوارث ابتداء؟ على وجهين وكل موضع ثبت له المال في رقبة عبده فإنه يقدم على الرهن لأنه يثبت للموروث بهذه الصفة فينتقل إلى وارثه كذلك فإن اقتص في هذه الصورة لم يلزمه بدل الرهن لأنه إذا قدم المال على حق المرتهن(4/447)
فالقصاص أولى ولأن القصاص ثبت للموروث مقدماً على حق المرتهن فكذلك في حق وارثه فإن كانت الجناية على مكاتب السيد فهي كالجناية على ولده وتعجيزه كموت ولده فيما ذكرناه (فصل) فإن جنى العبد المرهون بإذن سيده وكان ممن يعلم تحريم الجناية وإنه لا يجب عليه قبول ذلك من سيده فهي كالجناية بغير إذنه، وإن كان صبياً أو أعجمياً لا يعلم ذلك فالجاني هو السيد.
يتعلق به موجب الجناية، ولا يباع العبد فيها موسراً كان أو معسراً كما لو باشر السيد الجناية، وقال القاضي فيه وجه أن العبد يباع مع اعسار السيد لأن العبد باشر الجناية، والصحيح الأول لأن العبد آلة فلو تعلقت الجناية به بيع مع اليسار، وحكم إقرار العبد بالجناية حكم إقرار غير المرهون على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى {مسألة} (وإن جنى عليه جناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص فإن اقتص فعليه قيمة أقلهما قيمة تجعل مكانه) إذا جنى على الرهن فالخصم في ذلك السيد لأنه المالك والأرش الواجب بالجناية ملكه وإنما للمرتهن فيه حق الوثيقة فصار كالعبد المستأجر والمودع وبهذا قال الشافعي وغيره، فإن ترك المطالبة أو أخرها أو كان غائباً أو له عذر يمنعه منها فللمرتهن المطالبة بها لأن حقه متعلق بموجبها فكان له المطالبة به كما لو كان الجاني سيده، ثم إن كانت الجناية موجبة للقصاص فللسيد القصاص لأنه حق له وإنما يثبت ليستوفي فإن اقتص أخذت منه
قيمة أقلهما قيمة فجعلت مكانه رهنا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وهو قول إسحاق، ويتخرج أن لا يجب عليه شئ وهو مذهب الشافعي لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن(4/448)
أن يسعى للمرتهن في اكتساب مال، ووجه الأول أنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال، وهكذا الحكم فيما إذا ثبت القصاص للسيد في عبده المرهون.
وانما أو جبنا أقل القيمتين لأن حق المرتهن إنما يتعلق بالمالية والواجب من المال هو أقل القيمتين لأن الرهن إن كان أقل لم يجب أكثر من قيمته، وإن كان الجاني أقل قيمة لم يجب أكثر من قيمته لأنها التي أتلفها بالقصاص وإن عفا على مال صح عفوه ووجب أقل القيمتين لما ذكرنا، هذا إذا كان القصاص قتلاً، وإن كان جرحاً أو قلع سن أو نحوه فالواجب بالعفو أقل الأمرين من ارش الجرح أو قيمة الجاني لما ذكرنا وإن عفا مطلقاً انبنى على موجب العمد ما هو؟ فإن قلنا موجبه أحد شيئين ثبت المال وإن قلنا موجبه القصاص عينا فحكمه كما لو اقتص، أو قلنا ثم تجب القيمة على الراهن وجب هنا وهو اختيار أبي الخطاب لأنه فوت بدل الرهن بعفوه أشبه مالو اقتص، وإن قلنا لا تجب على الراهن ثم لم تجب ههنا وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنه اكتساب مال فلا يجبر عليه وكذلك إن عفا على غير مال {مسألة} (وكذلك إن جنى على سيده فاقتص منه هو أو ورثته وقد ذكرنا ذلك) {مسألة} (وإن عفا السيد على مال أو كانت موجبة للمال فاقتص منه جعل مكانه) أما إذا كانت الجناية موجبة للمال أو ثبت المال بالعفو عن الجناية الموجبة للقصاص فإنه يتعلق به حق الراهن والمرتهن ويجب من غالب نقد البلد كقيم المتلفات، فلو أراد الراهن أن يصالح عنها ويأخذ عوضا عنها لم يجز إلا بإذن المرتهن، فإن أذن جاز لأن الحق لهما وما قبض من شئ فهو رهن بدلاً عن الأول وقائماً مقامه(4/449)
{مسألة} (وإن عفا السيد عن المال صح في حقه ولم يصح في حق المرتهن، فإذا انفك الرهن رد إلى الجاني، وقال أبو الخطاب يصح وعليه قيمته)
إذا عفا السيد عن المال فقال القاضي يسقط حق الراهن دون المرتهن فتؤخذ القيمة من الجاني تكون رهنا فإذا زال الرهن رجع الأرش إلى الجاني كما لو أقر أن الرهن مغصوب أو جان فإن استوفى الدين من الأرش احتمل ان يرجع الجاني على العافي لأن ماله ذهب في قضاء دينه فلزمته غرامته كما لو استعاره فرهنه، واحتمل أن لا يرجع عليه لأنه لم يوجد منه في حق الجاني ما يقتضي وجوب الضمان وإنما استوفى بسبب منه حال ملكه له فأشبه مالو جنى إنسان على عبده ثم وهبه لغيره فتلف بالجناية السابقة، وقال أبو الخطاب: يضمن العفو مطلقاً ويؤخذ من الراهن قيمته تكون رهناً لأنه أسقط دينه عن غريمه فصح كسائر ديونه، قال ولا يمكن كونه رهنا مع تقدم حق الراهن فيه ولزمته القيمة لتقوية حق المرتهن كما لو اتلف بدل الرهن، وقال الشافعي لا يصح العفو أصلاً لأن حق المرتهن متعلق به فلم يصح عفو الراهن عنه كالرهن نفسه، وكما لو وهب الرهن أو غصب فعفا عن غاصبه.
قال شيخنا: وهذا أصح في النظر، فإن قال المرتهن أسقطت حقي من ذلك سقط لأنه ينفع الراهن ولا يضره، وإن قال أسقطت الأرش أو ابرأت منه لم يسقط لأنه ملك للراهن فلا يسقط باسقاط غيره وهل يسقط حقه؟ فيه وجهان (أحدهما) يسقط وهو قول القاضي لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه وإذا لم يسقط حق غيره سقط حقه كما لو قال اسقطت حقي وحق الراهن (والثاني) لا يسقط لأن العفو ولابراء منه لا يصح فلم يصح ما يضمنه(4/450)
(فصل) وإن أقر رجل بالجناية على الرهن فكذباه فلاشئ لهما، وإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن فله الأرش ولا حق للمرتهن فيه وإن صدقه المرتهن وحده تعلق حقه بالأرش وله قبضه فإذا قضى الراهن الحق أو أبرأه المرتهن رجع الأرش إلى الجاني ولا شئ للراهن فيه، وإن استوفى حقه من الأرش لم يملك الجاني مطالبة الراهن بشئ لأنه مقر له باستحقاقه (فصل) ولو كان الرهن أمة حاملاً فضرب بطنها أجنبي فألقت جنيناً ميتاً ففيه عشر قيمة أمه وإن ألقته حيا ثم مات لوقت يعيش مثله ففيه قيمته ولا يجب ضمان نقص الولادة لأنه لا يتميز نقصها عما وجب ضمانه من ولدها، ويحتمل أن يضمن نقصها بالولادة لأنه حصل بفعله فلزم ضمانة كما لو غصبها ثم جنى عليها
ويحتمل أن يجب أكثر الأمرين من نقصها أو ضمان جنينها لأن سبب ضمانها وجد فإذا لم يجتمع ضمانهما وجب ضمان أكثرهما، وان ضرب بطن بهيمة فالقت ولدها ميتاً ففيه ما نقصتها الجناية لاغير وما وجب من ذلك كله فهو رهن مع الأمر، وقال الشافعي: ما وجب لنقص الأم أو لنقص البهيمة فهو رهن معها وكذلك ما وجب في ولدها وما وجب في جنين الأمة فليس برهن ولنا أنه ضمان وجد بسبب الجناية على الرهن فكان من الرهن كالواجب لنقص الولادة وولد البهيمة {مسألة} (وإن وطئ المرتهن الجارية بغير إذن الراهن فعليه الحد والمهر وولده رقيق) لا يحل للمرتهن وطئ الجارية المرهونة إجماعاً لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وليست هذه زوجته ولا مكله، فإن فعل بغير إذن الراهن عالماً بالتحريم فعليه الحد لأنه(4/451)
لاشبهة له فيه فإن الرهن وثيقة بالدين ولا مدخل لذلك في اباحة الوطئ، ولان وطئ المستأجرة يوجب الحد مع ملكه لنفعها فالرهن أولى، ويجب عليه المهر سواء اكرهها أو طاوعته، وقال الشافعي لا يجب المهر مع المطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، ولأن الحد إذا وجب على الموطوءة لم يجب المهر كالحرة.
ولنا أن المهر يجب للسيد فلا يسقط بمطاوعة الأمة وإذنها كما لو أذنت في قطع يدها، ولأنه استوفى هذه المنفعة المملوكة للسيد بغير إذنه فكان عليه عوضها كما لو أكرهها وكأرش بكارتها لو كانت بكراً والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة فقال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وقولهم لا يجب الحد والمهر قلنا لا يجب لها المهر لها وفي مسئلتنا لا يجب لها وإنما يجب لسيدها.
ويفارق الحرة فإن المهر لو وجب لوجب لها وقد أسقطت حقها بإذنها وههنا المستحق لم يأذن، ولأن الوجوب في حق الحرة تعلق بإكراهها وسقوطه بمطاوعتها فكذلك السيد ههنا لما تتعلق السقوط بإذنه ينبغي أن يثبت عند عدمه وسواء وطئها معتقداً للحل أو غير معتقد له، أو ادعى بشبهة أو لم يدعها لا يسقط المهر بشئ من ذلك لأنه حق آدمي فلا يسقط بالشبهات وولده رقيق للراهن لأنه من زنا ولأنه لاملك له فيها ولا شبهة ملك فأشبه الأجنبي(4/452)
{مسألة} (وإن وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله بجهل ذلك فلاحد عليه ولا مهر وولده حر لا تلزمه قيمته) وجملة ذلك أن المرتهن إذا وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة بالتحريم فإن احتمل صدقة لكونه ممن نشأ ببادية أو حديث عهد بالإسلام فلاحد عليه وولده حر لأنه وطئها معتقداً إباحة وطئها فهو كما لو وطئها يظنها أمته، وإن لم يحتمل صدقة كالناشئ ببلاد المسلمين مختلطاً بهم من أهل العلم لم تقبل دعواه لأنه لا يخلو ممن يسمع منه ما يعلم به تحريم ذلك فيكون كمن لم يدع الجهل فيكون ولده رقيقا للراهن لأنه من زنا، ومتى كان الوطئ بإذن الراهن لم يجب عليه قيمة الولد وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأن الإذن في الوطئ إذن فيما يحدث منه بدليل أنه لو أذن المرتهن للراهن في الوطئ فحملت سقط حقه من الرهن، وكما لو أذن في قطع أصبع لم يضمنها وكالحرة إذا أذنت في وطئها سقط عنه الضمان، وفيه قول أن قيمة الولد تجب؟ وإن أذن الراهن في الوطئ وهو منصوص الشافعي لأن وجوب الضمان يمنع اتخاذ الولد رقيقا ويشبه اعتقاد الحل وما حصل ذلك بإذنه بخلاف وطئ الراهن فإن خروجها من الرهن بالحمل الذي سببه الوطئ المأذون فيه ولا يجب المهر إذا كان الوطئ بإذن الراهن، وقال أبو حنيفة يجب وعن الشافعية كالمذهبين ولنا أنه أذن في سببه وهو حقه فلم يجب كما لو أذن في قتلها، ولأن المالك أذن في استيفاء المنفعة(4/453)
فلم يجب عوضها كالحرة المطاوعة، وولده حر للشبهة وقد ذكرناه، ولا تصير هذه الأمة أم ولد بحال سواء ملكها المرتهن بعد الوضع أو قبله، وسواء حكمنا برق الولد أو حريته وفيه وجه آخر أنه إذا ملكها حاملاً أنها تصير أم ولد وسنذكر ذلك في أمهات الأولاد (فصل) قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها ولا من رهن عنده قال: إذا ايست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها، فإن عرف بعد اربابها خيرهم بين الاجر أو يغرم لهم.
هذا الذي أذهب إليه، وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن يكون عنده السنين الكثيرة يأيس من صاحبه يبيعه ويتصدق بالفضل فظاهر هذا أنه يستوفي
حقه، ونقل أبو طالب لا يستوفي حقه من ثمنه ولكن إن جاء صاحبه بعد فطلبه اعطاه إياه وطلب منه حقه، وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه ووفاه حقه منه جاز ذلك(4/454)
(باب الحجر) الحجر في اللغة المنع والتضييق ومنه سمي الحرام حجراً قال الله تعالى (ويقولون حجرا محجورا) أي حراماً محرماً ويسمى العقل حجراً قال الله تعالى (هل في ذلك قسم لذي حجر؟) أي عقل سمي حجرالانه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح، وهو في الشرع منع الإنسان من التصرف في ماله {مسألة} (وهو على ضربين حجر على الإنسان لحظ نفسه وحجر لحق غيره) كالحجر على المريض في التبرع بما زاد على الثلث لحق الورثة، وعلى العبد والمكاتب لحق السيد والراهن يحجر عليه في الرهن لحق المرتهن ولهؤلاء أبواب يذكرون فيها، ومن ذلك الحجر على المفلس لحق الغرماء وهو المذكور ههنا، والمفلس هو الذي لامال له ولا ما يدفع به حاجته ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أتدرون من المفلس " قالوا يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال " ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ويأتي وقد ضرب هذا ولطم هذا وأكل مال هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار " أخرجه مسلم بمعناه فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك المفلس " تجوز لم يرد به نفي الحقيقة بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغني، ونحو هذا قوله عليه الصلاة والسلام " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يغلب نفسه عند الغضب " وقوله " ليس الغني عن كثرة العرض إنما الغني غني النفس " ومنه قول الشاعر ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء قيل إنما سمي هذا مفلسا لانه لامال له إلا الفلوس وهي أدنى أنواع المال، والمفلس في عرف(4/455)
الفقهاء من دينه أكثر من ماله، وسموه مفلساً وإن كان ذا مال لان ماله مستحق الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم وقد دل عليه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم مفلس الآخرة فإنه أخبر أن له حسنات أمثال الجبال لكنها لا تفي بما عليه فقسمت بين الغرماء وبقي لا شئ له ويجوز أن يكون سمي بذلك لما يؤول إليه من عدم ماله بعد وفاء دينه ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشئ التافه الذي لا يعيش إلا به كالفلوس {مسألة} ومن لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله لأنه لا يلزمه أداؤه ولم يحجر عليه من أجله لأنه لا يستحق المطالبة به فلم يجز منعه من التصرف في ماله بسببه فإن كان بعض دينه مؤجلاً وبعضه حالاً وكان ماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضاً، وقال بعض أصحاب الشافعي إن ظهرت أمارات الفلس لكون ماله بازاء دينه ولا نفقة له إلا من ماله حجر عليه في أحد الوجهين لأن الظاهر أنه ماله يعجز عن ديونه فهو كما لو كان ماله ناقصاً، ولنا أن ماله واف بما يلزمه أداؤه فلم يحجر عليه كما لو لم تظهر أمارات الفلس ولأن الغرماء لا يمكنهم طلب حقوقهم في الحال فلا حاجة الى الحجر {مسالة} (فإن أراد سفراً يحل الدين قبل مدته فلغريمه منعه إلا أن يوثقه برهن أو كفيل)(4/456)
وجملة ذلك أن المدين إذا أراد السفر وأراد غريمه منعه نظرنا فإن كان محل الدين قبل محل قدومه من السفر كمن يسافر إلى الحج لا يقدم الافي صفر ودينه يحل في المحرم فله منعه من السفر لأن عليه ضرراً في تأخير حقه عن محله فإن أقام ضميناً مليئاً أو دفع رهناً يفي بالدين عند المحل فله السفر لزوال الضرر بذلك.
{مسألة} (فإن كان لا يحل الدين قبله ففي منعه روايتان) أما إذا كان الدين لا يحل إلا بعد محل السفر مثل أن يكون محله في ربيع وقدومه في صفر فإن كان سفره إلى الجهاد فلغريمه منعه إلا بضمين أو رهن لأنه سفر يتعرض فيه لذهاب النفس فلا يأمن فوات الحق، وإن كان لغير الجهاد فليس له منعه في إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي لأن
هذا السفر ليس با مارة على منع الحق في محله فلم يملك منعه منه كالسفر القصير وكالسعي إلى الجمعة (والثانية) له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول، وقال الشافعي ليس له منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل إذا كان الدين مؤجلاً بحال سواء كان الدين يحل قبل محل(4/457)
سفره أولا إلى الجهاد أو إلى غيره لأنه لا يملك المطالبة بالدين فلم يملك منعه من السفر ولا المطالبة بكفيل كالسفر الآمن القصير، ولنا أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله فملك منعه منه إذا لم يوثقه برهن أو كفيل كالسفر بعد حلول الحق، ولأنه لا يملك تأخير الدين عن محله وفي السفر المختلف فيه تأخيره عن محله فلم يملك كحجره {مسألة} (وإذا كان حالاً وله ما يفي به لم يحجر عليه) لعدم الحاجة إلى ذلك ويأمره بوفائه فإن أبى حبسه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " رواه أحمد فعقوبته حبسه وعرضه أن يغلظ له فيقال له يا ظالم يا متعدي ونحو ذلك {مسألة} (فإن أصر باعه الحاكم وقضى دينه) وجملته أن الغريم إذا حبس فصبر على الحبس ولم يقض الدين قضى الحاكم دينه من ماله.
وإن احتاج الى بيع ماله في قضاء دينه باعه وقضى دينه وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم بيع ماله لكنه يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدونه، فإن امتنع لم يبعه الحاكم وإنما يحبسه ليبيع بنفسه إلا أن يكون عليه احد النقدين وماله من النقد الآخر فيدفع أحد النقدين عن الآخر لأنه رشيد لا ولاية عليه فلم يجز بيع ماله بغير إذنه كالذي لادين عليه ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه.
رواه الخلال باسناده، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال: ألا أن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بان يقال سبق الحاج فادان معرضاً فاصبح وقد رين به فمن كان له عليه مال فليحضر غداً(4/458)
فأنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه " ولأنه محجور عليه محتاج إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير
رضاه كالصغير والسفيه ولأنه نوع مال فجاز بيعه في قضاء دينه كالأثمان وقياسهم يبطل ببيع الدراهم بالدنانير {مسألة} (وإن ادعى الاعسار وكان دينه عن عوض كالبيع والقرض أو عرف له مال سابق حبس إلا أن يقيم البينة على نفاد ماله أو إعساره، وهل يحلف معها؟ على وجهين وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله) وجملة ذلك أن من وجب عليه دين حال فطولب به فلم يؤده فان كان في يده مال ظاهر أمره الحاكم بالقضاء، وإن لم يظهر له مال فادعى الاعسار فصدقه غريمه لم يحبس ووجب انظاره ولم يجز ملازمته لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه " خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك " ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه وعسرته ثابتة والقضاء متعذر فلا فائدة في الحبس فإن كذبه غريمه فلا يخلو إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف، فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة كالقرض والبيع أو عرف له أصل مال سوى هذا فالقول قول غريمه مع يمينه فإذا حلف أنه ذو مال حبس حتى تشهد البينة باعساره.
قال إبن المنذر أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن، وروي عن شريح والشعبي وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس، وبه قال عبد الله بن أبي جعفر والليث بن سعد.(4/459)
ولنا أن الظاهر قول الغريم فكان القول قوله كسائر الدعاوي فإن شهدت البينة بتلف ماله قبلت شهادتهم سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أولم تكن لان التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم، وإن طلب الغريم إحلافه على ذلك لم يجب إليه لأنه تكذيب للبينة، وإن شهدت مع ذلك بالاعسار اكتفى بشهادتهما وثبتت عسرته وإن لم تشهد إلا بالتلف وطلب الغريم يمينه على عسرته وأنه ليس له مال آخر استحلف على ذلك لأنه غير ما شهدت به البينة وإن لم تشهد بالتلف وإنما شهدت بالاعسار لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنة لأن هذا في الأمور الباطنة لا يطلع عليه في الغالب إلا أهل الخبرة
والمخالطة وهذا مذهب الشافعي.
وحكي عن مالك أنه قال لا تسمع البينة على الاعسار لأنها شهادة على النفي فلم تسمع كما لو شهدت أنه لادين عليه ولنا ما روى قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ويا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من أهل الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال - سداداً من عيش " رواه مسلم وأبو داود، وقولهم إن الشهادة على النفي لا تقبل قلنا لا ترد مطلقاً فإنه لو شهدت بينة أن هذا وارث هذا الميت لا وارث له سواه قبلت، ولأن هذه وإن كانت تتضمن النفي فهي تثبت حالة تظهر ويوقف عليها بالمشاهدة بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له فإن هذا مما لا يوقف عليه ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته بخلاف مسئلتنا وتسمع البينة في الحال، وبهذا قال الشافعي(4/460)
وقال أبو حنيفة لا تسمع في الحال وتحبس شهراً وقيل ثلاثة أشهر، وروي أربع حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره ولنا أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها في الحال كسائر البينات وما ذكروه لو كان صحيحاً لأغنى عن البينة، فإن قال الغريم أحلفوه لي مع بينته أن لا مال له لم يستحلف في ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق فقال الغريم استحلفوه لا يستحلف لأن ظاهر الحديث البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
قال القاضي سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالاعسار وهذا أحد قولي الشافعي لأنها بينة مقبولة فلم يستحلف معها كما لو شهدت بأن هذا عبده وفيه وجه آخر أنه يستحلف وهو القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن يكون له مال خفي عن البينة.
قال شيخنا: ويصح عندي الزامه اليمين على الاعسار إذا شهدت البينة بتلف المال وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالاعسار لأنها إذا شهدت بالتلف صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمة بتلف ذلك المال وادعى له مالا سواه أو أنه استحدث مالاً بعد تلفه، ولو لم تقم البينة وأقر له غريمه بتلف ماله وادعى أن له
مالاً سواه لزمته اليمين فكذلك إذا قامت به البينة فإنها لا تزيد على الاقرار، فإن كان الحق ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه كأرش الجناية وقيمة متلف ومهر أو ضمان أو كفالة أو عوض خلع إن كانت امرأة فإن لم يعرف له مال حلف أنه لامال له وخلي سبيله، وهذا قول الشافعي وابن المنذر، وإنما اكتفينا بيمينه لأن الأصل عدم المال، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحبة وسواء ابني خلد بن سواء " لا تيأسا من الرزق ما اهتزت رؤسكما فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه ثم يرزقه الله تعالى "(4/461)
قال إبن المنذر الحبس عقوبة ولا نعلم له ذنباً يعاقب به والأصل عدم ماله بخلاف من علم له مال فإن الأصل بقاء ماله فيحبس حتى يعلم ذهابه ومطلق كلام الخرقي يدل على أنه يحبس في الحالتين لكنه ينبغي أن يحمل كلامه على هذا لقيام الدليل على الفرق (فصل) ومتى ثبت اعساره عند الحاكم لم يجز مطالبته ولا ملازمته، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب، فإذا رجع إلى بيته فأذن لهم في الدخول معه والامنعوه من الدخول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لصاحب الحق اليد واللسان " ولنا أن من ليس لصاحب الحق مطالبته لم يكن له ملازمته كصاحب الدين المؤجل، وقول الله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) ومن وجب انظاره حرمت ملازمته كمن دينه مؤجل والحديث فيه مقال قاله ابن المنذر ثم نحمله على الموسر بدليل ما ذكرنا، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم والترمذي {مسألة} (وإن كان له ماله لا يفي به فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم) إذا اتفق الغرماء على طلب الحجر عليه في هذه الحال لزم الحاكم إجابتهم ولايجوز الحجر عليه بغير سؤال غرمائه لأنه لا ولاية له في ذلك إنما يفعله لحق الغرماء فاعتبر رضاهم، وكذلك إن سأله بعضهم، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة ليس للحاكم الحجر عليه فإذا أدى اجتهاده إلى الحجر عليه ثبت لأنه فصل مجتهد فيه.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله في دينه رواه الخلال باسناده(4/462)
(فصل) وتصرفه قبل حجر الحاكم في ماله نافذ من البيع والهبة والإقرار وقضاء بعض الغرماء وغير ذلك وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأنه رشيد غير محجور عليه فنفذ تصرفه كغيره، ولأن سبب المنع الحجر فلا يتقدم سببه، ولأنه من أهل التصرف، ولم يحجر عليه أشبه الملئ وإن أكرى جملاً بعينه أو داراً لم تنفسخ إجارته بالفلس وان المكتري أحق به حتى تنقضي مدته {مسألة} (ويستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه) لنتجنب معاملته لئلا يستضر الناس بضياع أموالهم، ويشهد عليه لينتشر ذلك وربما عزل الحاكم أو مات فيثبت الحجر عند الآخر فلا يحتاج إلى ابتداء حجر ثان (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام (أحدها) تعلق حق الغرماء بماله فلا يصح تصرفه فيه ولا يقبل إقراره عليه إلا العتق على إحدى الروايتين) متى حجر على المفلس لم ينفذ تصرفه في شئ من ماله فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو وقف أو إصداق امرأة مالا له أو نحو ذلك لم يصح، وبه قال مالك والشافعي في قول، وقال في آخر يقف تصرفه فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء وإلا بطل.
ولنا أن حقوق الغرماء تعلقت بأعيان ماله فلم يصح تصرفه فيها كالعين المرهونة ولأنه محجور عليه بحكم حاكم فأشبه السفيه، وإن أقر بدين لم يقبل في الحال ويتبع به بعد فك الحجر عنه نص عليه وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والثوري والشافعي في قول، وقال في الآخر يشاركهم اختاره ابن المنذر لأنه دين ثابت مضاف إلى ما قبل الحجر فشارك صاحبه الغرماء(4/463)
كما لو ثبت ببينة، ولنا أنه محجور عليه فلم يصح إقراره فيما حجر عليه فيه كالسفيه ولأنه إقرار يبطل ثبوته في غير حق غير المقر فلم يقبل أو إقرار على الغرماء فلم يقبل كإقرار الراهن ولأنه متهم في إقراره وفارق البينة فإنه لا تهمة في حقها، فإن كان المفلس صانعاً كالقصار والحائك في يده متاع فأقر به لأربابه لم يقبل والقول فيها كالتي قبلها وتباع العين التي في يده وتقسم بين الغرماء وتكون قيمتها واجبة على
المفلس إذا قدر عليها لأنها انصرفت في وفاء دينه بسبب من جهته فكانت قيمتها عليه كما لو أذن في ذلك، وإن توجهت على المفلس يمين فنكل عنها فقضي عليه فحكمه حكم إقراره يلزم في حقه دون الغرماء فإن أعتق بعض رقيقه صح في إحدى الروايتين ونفذ وهو قول أبي يوسف واسحاق لأنه عتق من مالك رشيد فنفذ كما قبل الحجر.
وفارق سائر التصرفات لأن للعتق تغليباً وسراية ولهذا يسري إلى ملك الغير بخلاف غيره، والأخرى لا ينفذ عتقه وبه قال مالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي واختاره أبو الخطاب في رءوس المسائل لأنه ممنوع من التبرع لحق الغرماء فلم ينفذ عتقه كالمريض الذي يستغرق دينه ماله، وأما سرايته إلى ملك الغير فمن شرطه أن يكون موسراً يؤخذ منه قيمة نصيب شريكه ولا يتضرر ولو كان معسراً لم ينفذ عتقه إلا في ملكه صيانة لحق الغير وحفظاً له عن الضياع كذا ههنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى {مسألة} (فإن تصرف في ذمته بشراء أو ضمان أو اقرار صح) ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه أهل للتصرف وإنما وجد في حقه الحجر والحجر متعلق بماله لا بذمته ولكن لا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء لأنهم رضوا بذلك إذا علموا بفلسه وعاملوه ومن لا يعلم فقد فرط في ذلك فإن هذا في مظنة الشهرة، فعلى هذا يتبع بها بعد فك الحجر عنه، وفي إقراره خلاف ذكرناه في المسألة التي قبلها، فأما إن ثبت عليه حق ببينة شارك صاحبه الغرماء لأنه دين ثابت قبل الحجر عليه أشبه مالو شهدت به قبل الحجر {مسألة} (وإن جنى شارك المجني عليه الغرماء وإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه) إذا جنى المفلس بعد الحجر جناية موجبة للمال شارك المجني عليه الغرماء لأن حق المجني عليه ثبت بغير اختياره، ولو كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا صاحبها عنها الى مال أو صالحه المفلس على مال(4/464)
شارك الغرماء لأن سببه ثبت بغير اختيار صاحبه فأشبه ما أوجب المال، فإن قيل ألا قدمتم حقه على الغرماء كما قدمتم حق من جنى عليه بعض عبيد المفلس؟ قلنا لأن الحق في العبد الجاني تعلق بعينه فقدم لذلك وحق هذا تعلق بالذمة كغيره من الديون فاستويا، فإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه لأن
الحق تعلق بالعين فقدم على من تعلق حقه بالذمة كما يقدم حق المرتهن بثمن الرهن على الغرماء ولأن حق المجني عليه يقدم على حق المرتهن فأولى أن يقدم على حق الغرماء {فصل} قال رحمه الله (الثاني إن من وجد عنده عينا باعها إياه فهو أحق بها بشرط أن يكون المفلس حيا ولم ينقد من ثمنها شيئاً والسلعة بحالها لم يتلف بعضها ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها كنسج الغزل وخبز الدقيق) وجملته أن المفلس إذا حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التي باعه إياها بعينها فله فسخ البيع والرجوع في عين ماله بالشروط التي نذكرها روى ذلك عن عثمان وعلي وأبي هريرة وبه قال عروة ومالك والشافعي والاوزاعي والعنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الحسن والنخعي وابن شبرمة وأبو حنيفة هو اسوة الغرماء لأن البائع كان له حق الإمساك لقبض الثمن فلما سلمه أسقط حق الإمساك فلم يكن له أن يرجع في ذلك بالإفلاس كالمرتهن إذا سلم الرهن إلى الراهن ولأنه ساوى الغرماء في سبب الاستحقاق فيساويهم في الاستحقاق كسائرهم ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " متفق عليه قال أحمد.
لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث جاز له نقض حكمه ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر الغرض كالمسلم فيه إذا تعذر ولأنه لو شرط في البيع رهنا فعجز عن تسليمه استحق الفسخ وهو(4/465)
وثيقة بالثمن فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى ويفارق البيع الرهن فإن إمساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل والثمن ههنا بدل عن العين فإذا تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل وقولهم تساووا في سبب الاستحاق قلنا لكن اختلفوا في الشرط فإن بقاء العين شرط لملك الفسخ وهي موجودة في حق من وجد متاعه دون من لم يجده، إذا ثبت هذا فإن البائع بالخيار إن شاء رجع في السلعة وان شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر لأن الاعسار سبب يثبت جواز الفسخ فلا يوجبه كالعيب والخيار، ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم لأنه فسخ ثبت
بالنص فلم يحتج إلى حكم حاكم كفسخ النكاح لعتق أمة (فصل) وهل خيار الفسخ على الفور أو التراخي فيه وجهان (أحدهما) أنه على التراخي لأنه حق رجوع يسقط إلى عوض فكان على التراخي كالرجوع في الهبة (والثاني) على الفور لان جواز تأخيره يفضي إلى الضرر بالغرماء لا فضائه إلى تأخير حقوقهم فأشبه خيار الأخذ بالشفعة وهذان الوجهان مبنيان على الروايتين في خيار الرد بالعيب، ونصر القاضي الوجه الثاني ولأصحاب الشافعي الوجهان (فصل) فإن بذل الغرماء لصاحب السلعة الثمن ليتركها لم يلزمه قبوله نص عليه أحمد وبه قال الشافعي، وقال مالك ليس له الرجوع إنما جاز لدفع ما يلحقه من النقص في الثمن فإذا بذل له بكماله لم يكن له الرجوع كما لو زال العيب من المعيب ولنا الخبر الذي رويناه ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه فلم يجبر صاحب الحق على قبضه كما لو أعسر الزوج النفقة فبذلها غيره أو أعسر المكاتب فبذل غيره ما عليه لسيده وبهذا(4/466)
ينتقض ما ذكروه وسواء بذلوه من أموالهم أو خصوه بثمنه من مال المفلس، وفي هذا القسم ضرر آخر لأنه لا يأمن أن يظهر له غريم لم يحضر فيرجع عليه، وإن دفعوا إلى المفلس الثمن فبذله للبائع لم يكن له الفسخ لأنه زال العجز عن تسليم الثمن فزال ملك الفسخ كما لو أسقط سائر الغرماء حقوقهم عنه فملك أداء الثمن، ولو أسقط الغرماء حقوقهم عنه فتمكن من الأداء أو وهب له مال فأمكنه الأداء منه أو غلت أعيان ماله فصارت قيمتها وافية بحقوق الغرماء بحيث يمكنه أداء الثمن كله لم يملك الفسخ لزوال سببه ولأنه مكنه الوصول إلى ثمن سلعته من المشتري فلم يكن له الفسخ كما لو لم يفلس (فصل) فإن اشترى المفلس من إنسان سلعة بعد الحجر في ذمته وتعذر الاستيفاء لم يكن له الفسخ سواء علم أو لم يعلم لأنه لا يستحق المطالبة بثمنها فلا يستحق الفسخ لتعذره كما لو كان ثمنها مؤجلاً ولأن العالم بالفلس دخل على بصيرة بخراب الذمة أشبه من اشترى معيباً يعلم عيبه، وفيه وجه آخر له الخيار لعموم الخبر ولأنه عقد عليه وقت الفسخ فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت امرأة فقيراً معسراً بنفقتها، وفيه وجه ثالث إن كان عالماً بفلسه فلا فسخ له، وإن لم يعلم فله الفسخ كمشتري
المعيب ويفارق المعسر بالنفقة لكون النفقة يتجدد وجوبها كل يوم فالرضا بالمعسر بها رضا بعيب ما لم يجب(4/467)
بخلاف مسئلتنا، وإنما يشبه هذا إذا تزوجت معسراً بالصداق وسلمت نفسها إليه ثم أرادت الفسخ (فصل) وإن استأجر أرضاً للزرع فأفلس قبل مضي شئ من المدة فللمؤجر فسخ الإجارة لأنه وجد عين ماله وإن كان بعد انقضاء المدة فهو غريم بالأجرة، وإن كان بعد مضي بعضها لم يملك الفسخ في قياس قولنا في المبيع إذا تلف بعضه قال المدة ههنا كالمبيع ومضي بعضها كتلف بعضه لكن يعتبر مضي مدة لمثلها أجر لأنه لا يمكن التحرز عن مضي جزء منها بحال، وقال القاضي في موضع آخر من اكترى أرضاً فزرعها ثم أفلس ففسخ صاحب الأرض فعليه تبقية زرع المفلس إلى حين الحصاد بأجر مثله لأن المعقود عليه المنفعة فإذا فسخ العقد فسخه فيما ملك عليه بالعقد وقد تعذر ردها عليه فكان عليه عوضها كما لو فسخ البيع بعد تلف المبيع فله قيمته، ويضرب بذلك مع الغرماء كذاههنا، ويضرب مع الغرماء بأجر المثل دون المسمى وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يقتضيه مذهبنا ولا يشهد بصحته الخبر ولا يصح في النظر.
أما الخبر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا ما أدرك متاعه بعينه ولا هو أحق به بالإجماع فإنهم وافقوا على وجوب تبقيتها وعدم الرجوع في عينها ولأن معنى قوله من أدرك متاعه بعينه أي على وجه يمكنه أخذه ويتعلق حقه بعينه وليس هذا كذلك، وأما النظر فإن البائع إنما كان أحق بعين ماله لتعلق حقه بالعين وإمكان رد ماله إليه بعينه فيرجع على من تعلق حقه بمجرد الذمة وهذا لم يتعلق حقه بالعين(4/468)
ولا أمكن ردها إليه وإنما صار فائدة الرجوع الضرب بالقيمة دون المسمى وليس هذا هو المقتضي في محل النص ولا هو في معناه فإثبات الحكم به تحكم بغير دليل، ولو اكترى من يحمل له متاعاً إلى بلد ثم أفلس المكتري قبل حمل شئ فللمكتري الفسخ.
وإن حمل البعض أو بعض المسافة لم يكن له الفسخ في قياس المذهب وقياس قول القاضي له ذلك وإذا فسخ سقط عنه حمل ما بقي وضرب مع الغرماء بقسط ما حمل من الأجر المسمى وعلى قياس قول القاضي ينفسخ العقد في الجميع ويضرب بقسط ما
حمل من أجر المثل لما ذكرنا من قوله في المسألة التي حكينا قوله فيها (فصل) وإن أقرض رجلاً مالاً ثم أفلس المقترض وعين المال قائمة فله الرجوع فيها لقوله عليه السلام " من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأنه غريم وجد عين ماله فكان له أخذها كالبائع فإن أصدق امرأة عينا ثم أنفسخ نكاحها بسبب من جهتها يسقط صداقها أو طلقها قبل الدخول بها فاستحق الرجوع في نصفه وقد أفلست ووجد عين ماله فهو أحق بها لما ذكرنا (فصل) وانما يستحق الرجوع في السلعة بشروط خمسة (أحدها) أن يكون المفلس حيا فإن مات(4/469)
فالبائع أسوة الغرماء سواء علم بفلسه قبل الموت فحجر عليه ثم مات أو مات فتبين فلسه وبهذا قال مالك، وإسحاق، وقال الشافعي له الفسخ واسترجاع العين لما روى ابن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فقال أبو هريرة هذا الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " رواه أبو داود وابن ماجة ولأن هذا العقد يلحقه الفسخ بالإقالة فجاز فسخه لتعذر العوض كما لو تعذر المسلم فيه، ولأن الفلس سبب لاستحقاق الفسخ فجاز الفسخ به بعد الموت كالعيب ولنا ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المفلس " فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء " رواه أبوداد وروى أبو اليمان عن الزبيدي عن الزهري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما امرئ مات وعنده مال امرى بعينه اقتضى(4/470)
من ثمنه شيئاً أولم يقتض فهو أسوة الغرماء " رواه ابن ماجه ولأنه تعلق به حق غير المفلس والغرماء وهم الورثة فأشبه الموهوب وحديثهم مجهول الإسناد قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر يرويه أبو المعتمر عن الزرقي وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم، ثم هو غير معمول به إجماعاً فإنه جعل المتاع لصاحبه بمجرد موت المشتري من غير شرط فلسه ولا تعذر وفائه ولا عدم قبض ثمنه، والأمر بخلاف ذلك عند جميع العلماء إلا ما حكي عن الاصطخري من أصحاب الشافعي أنه قال لصاحب السلعة أن يرجع فيها إذا
مات المشتري، وإن خلف وفاء وهذا شذوذ عن اقوال أهل العلم وخلاف للسنة لا يعرج على مثله ويفارق حال الحياة حالة الموت لا مرين (أحدهما) أن الملك في الحياة للمفلس وههنا لغيره (الثاني) أن ذمة المفلس خربت ههنا خراباً لا يعود واختصاص هذا بالعين يضر بالغرماء كثيراً بخلاف حال الحياة (الشرط الثاني) أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً فإن كان قد قبض بعض ثمنها سقط حق الرجوع(4/471)
وبهذا قال إسحاق والشافعي في القديم.
وقال في الجديد له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن لأنه سبب ترجع به العين كلها إلى العاقد فجاز أن يرجع في بعضها كالفرقة قبل الدخول في النكاح، وقال مالك هو مخير إن شاء رد ما قبضه ورجع في جميع العين وإن شاء حاص الغرماء ولم يرجع ولنا ماروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئاً فهو له " رواه الإمام أحمد ورواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً فهي له وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء " رواه أبو داود وابن ماجة ولأن في الرجوع في قسط ما بقي تبعيضا للصفقة على المشتري واضراراً به وليس ذلك للبائع، فإن قيل لا ضرر عليه في ذلك لأن ماله يباع ولا يبقى له فيزول عنه الضرر قلنا لا يندفع الضرر بالبيع فإن قيمة الشقص تنقص ولا يرغب فيها مشقصاً فيتضرر المفلس والغرماء بنقص القيمة ولأنه سبب يفسد به البيع فلم يجز تشقيصه كالرد بالعيب والخيار وقياس البيع على البيع أولى من قياسه على النكاح، ولا فرق بين كون المبيع عيناً واحدة أو عينين لما ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن قيل حديثكم يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولا حجة في المراسيل قلنا قد رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة كذلك ذكره ابن عبد البر واخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني في سننهم متصلاً فلا يضر إرسال من أرسله على أن حديثنا الأول يكفي في الدلالة وهو متصل رواه الإمام أحمد.
(فصل) الشرط الثالث أن تكون السلعة باقية بعينها لم يتلف بعضها فإن تلف جزء منها كبعض أطراف
العبد أو ذهبت عينه أو تلف بعض الثوب أو انهدم بعض الدار أو اشترى شجراً مثمراً لم تظهر ثمرته فتلفت(4/472)
الثمرة أو نحو هذا لم يكن للبائع الرجوع وكان أسوة الغرماء وبهذا قال إسحاق، وقال مالك والاوزاعي والشافعي والعنبري له الرجوع في الباقي ويضرب مع الغرماء بحصة التالف لأنها عين يملك الرجوع في جميعها فملك الرجوع في بعضها كالذي له الخيار وكالأب فيما وهب لولده ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " بشرط أن يجده بعينه وهذا لم يجده بعينه، ولأنه إذا أدركه بعينه حصل له بالرجوع فصل الخصومة وانقطاع ما بينهما من المعاملة بخلاف ما إذا وجد بعضه، ولا فرق بين أن يرضى بالموجود بجميع الثمن أو يأخذ بقسطه منه لأنه فات شرط الرجوع، وإن كان المبيع عينين كعبدين أو ثوبين تلف أحدهما أو نقص ففي جواز الرجوع في الباقي منهما روايتان (إحداهما) لا يرجع نقلها منه أبو طالب قال لا يرجع ببقية العين ويكون أسوة الغرماء لأنه لم يجد المبيع بعينه فأشبه مالو كان عينا واحدة، ولأن بعض المبيع تالف فلم يملك الرجوع فيه كما لو قطعت يد العبد، ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد أن كان ثوباً واحداً فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزماً فتلف بعضها فإنه يأخذ بقيتها إذا كان بعينه لأن السالم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرجوع فيه كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع أو وهبه أو وقفه فهو بمنزلة تلفه لأن البائع ما أدرك ماله بعينه (فصل) فإن تغيرت صفتها بما يزيل اسمها فطحن الحنطة أو زرعها أو خبز الدقيق أو عمل الزيت صابوناً أو قطع الثوب قميصاً، أو نسج الغزل ثوباً أو نجر الخشبة أبواباً، أو عمل الشريط إبراً أو شيئاً فصل به ما أزال سقط حق الرجوع، وقال الشافعي فيه قولان (أحدهما) به أقول يأخذ عين ماله(4/473)
ويعطي قيمة عمل المفلس فيها لأن عين ماله موجودة، وإنما تغير اسمها فأشبه مالو كان المبيع حملاً فصار كبشاً أو ودياً فصار نخلاً.
ولنا أنه لم يجد متاعه بعينه فلم يكن له الرجوع كما لو تلف والأصل الذي
قاسوا عليه ممنوع وإن سلم فإنه لم يتغير اسمه بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن كان حباً فصار زرعاً أو بالعكس أو نوى فنبت شجراً أو بيضاً فصار فرخاً سقط الرجوع، وقال القاظي لا يسقط وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي المنصوص عليهما لأن الزرع نفس الحب والفرخ نفس البيضة.
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يرجع كما لو أتلفه متلف فأخذ قيمته، ولأن الحب أعيان ابتدأها الله تعالى لم تكن موجودة عند البيع، وكذلك أعيان الزرع والفرخ، ولو استأجر أرضاً واشترى بذراً وماء فزرع وسقى واستحصد وأفلس فالمؤجر وبائع البذر والماء غرماء لاحق لهم في الرجوع لأنهم لم يجدوا أعيان امواله، وعلى قول من قال له الرجوع في الزرع تكون عليه غرامة الأجرة وثمن الماء أو قيمة ذلك {مسألة} (ولم يتعلق بها حق من شفعة أو جناية أو رهن) وهذا هو الشرط الرابع وهو أن لا يتعلق بها حق الغير فان رهنها المفلس أو وهبها لم يملك البائع الرجوع كما لو باعها أو أعتقها لأن الرجوع إضرار بالمرتهن ولان يزال الضرر بالضرر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " وهذا لم يجده عند المفلس ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن كان دين المرتهن دون قيمة الرهن بيع كله فقضي منه دين المرتهن والباقي يرد على مال المفلس يشترك فيه الغرماء، والبيع بعضه فباقيه لهم يباع أيضاً ولا يرجع به البائع، وقال القاضي له الرجوع وهو مذهب الشافعي لأنه عين ماله وهذا مثل تلف بعض المبيع وقد ذكرناه وما ذكره القاضي لا يخرج على المذهب لأن تلف بعض المبيع يمنع الرجوع فكذلك ذهاب(4/474)
بعضه بالبيع، ولو رهن بعض العبد لم يكن للبائع الرجوع في باقيه لما ذكرنا، فإن كان المبيع عينين فرهن إحداهما فهل يملك البائع الرجوع في الاخرى؟ على وجهين بناء على الروايتين فيما إذا تلفت إحدى العينين، فإن فك الرهن قبل فلس المشتري أو أبرأه من دينه فللبائع الرجوع لأنه أدرك عين ماله عند المشتري، وإن أفلس وهو رهن فأبرأ المرتهن المشتري من دينه أو قضى الدين عن غيره فللبائع الرجوع أيضاً لذلك
(فصل) فإن كان المبيع شقصاً مشفوعاً ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) البائع أحق به هذا قول ابن حامد للخبر ولأنه إذا رجع فيه عاد الشقص إليه فيزول الضرر عن الشفيع لأنه عاد كما كان قبل البيع (والثاني) أن الشفيع أحق وهو الذي ذكره شيخنا ههنا وحكاه أبو الخطاب لأن حقه أسبق فكان أولى لأن حق البائع ثبت بالحجر وحق الشفيع ثبت بالبيع، ولأن حقه آحد لأنه يستحق إنتزاع الشقص من المشتري وممن نقله إليه، وحق البائع إنما يتعلق بالعين مادامت في يد المشتري ولا يزول الضرر عنه برده إلى البائع بدليل مالو باعه المشتري من بائعه أو وهبه إياه أو أقاله فإنه لا يسقط حق الشفيع (والوجه الثالث) أن الشفيع إن كان طالب بالشفعة فهو أحق لتأكد حقه بالمطالبة وإن لم يكن طالب فالبائع أولى.
ولأصحاب الشافعي وجهان كالاولين، وهم وجه ثالث أن الثمن يؤخذ من الشفيع فيخص به البائع جمعاً بين الحقين فإن غرض الشفيع في عين الشقص المشفوع وغرض البائع في ثمنه فيحصل ذلك بما ذكرنا، وليس هذا جيداً لأن حق البائع انما يثبت في العين، فإذا صار الأمر الى وجوب الثمن تعلق بذمته فساوى الغرماء فيه (فصل) فإن كان المبيع عبداً فأفلس المشتري بعد تعلق أرش الجناية برقبته ففيه وجهان (أحدهما) ليس للبائع الرجوع لأن تعلق الرهن به يمنع الرجوع وأرش الجناية يقدم على حق المرتهن فأولى أن(4/475)
يمنع وهذا ذكره أبو الخطاب (والثاني) لايمنع الرجوع لأنه حق لايمنع تصرف المشتري فيه بخلاف الرهن، فإن قلنا لا يرجع فحكمه حكم الرهن، وإن قلنا له الرجوع فهو مخير إن شاء رجع فيه ناقصاً بأرش الجناية، وإن شاء ضرب بثمنه مع الغرماء، وإن أبرأ الغرماء من الجناية فللبائع الرجوع لأنه وجد متاعه بعينه خالياً من تعلق حق غيره به (فصل) فإن أفلس بعد خروج المبيع من ملكه ببيع أو عتق أو وقف أو غير ذلك لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلس سواء كان المشتري يمكنه استرجاع المبيع بخيار له أو عيب في ثمنه أو رجوعه في هبة ولده أو غير ذلك لما ذكرنا، فإن أفلس بعد رجوع ذلك إلى ملكه ففيه أوجه ثلاثة (أحدها) له الرجوع للخبر، ولأنه أدرك عين ماله خالياً عن حق غيره أشبه مالو
لم يبعه (الثاني) لا يرجع لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه ذكر أصحابنا الوجهين، ولأصحاب الشافعي مثل ذلك (والثالث) أنه إن عاد إليه بسبب جديد كبيع أو هبة أو إرث أو وصيه لم يكن للبائع الرجوع لأنه لم يصل إليه من جهته، وإن عاد إليه بفسخ كالإقالة والرد بعيب أو خيار ونحوه فللبائع الرجوع لأن هذا الملك استند إلى السبب الأول فإن فسخ العقد الثاني لا يقتضي ثبوت الملك وإنما زال السبب المزيل لملك البائع فثبت الملك بالسبب الأول فملك استرجاع ما ثبت الملك فيه ببيعه {مسألة} (ولم تزد زيادة متصلة كالسمن وتعلم صنعة) وهذا هو الشرط الخامس وهو أن لا يكون المبيع زاد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم الكتابة أو القرآن ونحو ذلك فيمنع الرجوع وهذا اختيار الخرقي، وروى الميموني عن أحمد انها لا تمنع وهو مذهب مالك والشافعي لأن مالكاً يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجوا بالخبر وبأنه فسخ لا تمنع منه الزيادة المنفصلة فلم تمنع المتصلة كالرد بالعيب وفارق الطلاق فإنه ليس(4/476)
بفسخ، ولأن الزوج يمكنه الرجوع في قيمة العين فيصل إلى حقه تاماً وههنا لا يمكنه الرجوع في الثمن ولنا أنه فسخ بسبب حادث فلم يملك به الرجوع في عين المال الزائدة زيادة متصلة كفسخ النكاح بالإعسار أو الرضاع، ولأنها زيادة في ملك المفلس فلم يستحق البائع أخذها كالمنفصلة وكالحاصل بفعله، ولأن النماء لم يصل إليه من البائع فلم يستحق أخذه منه كغيره من أمواله وفارق الرد بالعيب لوجهين (أحدهما) أن الفسخ فيه من المشتري فهو راض بإسقاط حقه من الزيادة وتركها للبائع بخلاف مسئلتنا (الثاني) أن الفسخ لمعنى قارن العقد وهو العيب القديم والفسخ ههنا حادث فهو أشبه بفسخ النكاح الذي لا يستحق به استرجاع العين الزائدة، وقولهم أن الزوج إنما لم يرجع في العين لكونه يندفع عنه الضرر بالقيمة لا يصح فإن اندفاع الضرر عنه بطريق آخر لا يمنعه من أخذ حقه من العين ولأنه لو كان مستحقاً للزيادة لم يسقط حقه منها بالقدرة على أخذ القيمة كمشتري المعيب، ثم كان ينبغي أن يأخذ قيمة العين زائدة لكون الزيادة مستحقة له فلما لم يكن كذلك علم أن المانع من الرجوع كون الزيادة للمرأة، ولأنه لا يمكن فصلها فكذلك ههنا بل أولى فإن الزيادة ههنا يتعلق بها
حق المفلس والغرماء فمنع البائع من أخذ زيادة ليست له أولى من تفويتها على الغرماء الذين لم يصلوا إلى تمام حقوقهم والمفلس المحتاج إلى تبرئة ذمته عند اشتداد حاجته، وأما الخبر فمحمول على من وجد متاعه على صفته ليس بزائد ولم يتعلق به حق آخر وههنا قد تعلق به حقوق الغرماء لما فيه من الزيادة لما ذكرنا من الدليل.
يحققه أنه إذا كان تلف بعض المبيع مانعاً له من الرجوع من غير ضرر يلحق بالمفلس ولا الغرماء فلأن تمنع الزيادة فيه مع تفويتها بالرجوع عليهم أولى، ولأنه إذا رجع في الناقص فما رجع الافيما باعه وخرج منه، فإذا رجع في الزائد أخذ ما لم يبعه واسترجع ما لم يخرج عنه فكان بالمنع أحق(4/477)
{مسألة} (فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال أو نسيان صنعة فلا يمنع الرجوع والزيادة للمفلس وعنه للبائع) وجملة ذلك أن الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا وهو قول مالك والشافعي وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس وهذا ظاهر كلام الخرقي لانه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى وهو قول ابن حامد والقاضي وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، وقال أبو بكر الزيادة للبائع وهو مذهب مالك، ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة هو للبائع لأنها زيادة فكانت للبائع كالمتصلة.
ولنا أنها زيادة في ملك المشتري فكانت له كما لو رده بعيب، ولأنه فسخ استحق به استرجاع العين فلم يستحق الزيادة المنفصلة كفسخ البيع بالعيب أو الخيار والإقالة وفسخ النكاح بسبب من أسباب الفسخ، ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " يدل على أن النماء والغلة للمشتري لكون الضمان عليه وقياسهم على الزيادة المتصلة الأصل فيه ممنوع، ثم لو سلم ثم فالفرق ظاهر فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب بخلاف المنفصلة.
قال شيخنا: ولا ينبغي أن يقع في هذا خلاف لظهوره، وكلام أحمد في رواية حنبل يحمل على أنه باعهما في حال حملهما فيكونان بسببين، ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
(فصل) فإن نقصت مالية المبيع لذهاب صفة مع بقاء عينه كعبد هزل أو نسي صناعة أو كتابة أو كبر أو تغير عقله أو كان ثوباً فخلق لم يمنع الرجوع لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين ماله لكنه يخير بين أخذه ناقصاً بجميع حقه وبين أن يضرب مع الغرماء بكمال ثمنه لأن الثمن لا يتقسط على صفة السلعة من سمن أو هزال أو علم أو نحوه فيصير كنقصه لتغير الاسعار، ولو كان المبيع أمة(4/478)
ثيباً فوطئها المشتري ولم تحمل فله الرجوع فيها لما ذكرنا فإنها لم تنقص في ذات ولا صفات، وإن كانت بكراً فقال القاضي له الرجوع لأن فقد صفة فإنه لم يذهب منها جزء وإنما هو كالجراح، وقال أبو بكر ليس له الرجوع لأنه أذهب منها جزأ فأشبه مالو فقأ عينها، وإن وجد الوطئ من غير المفلس فهو كوطئ المفلس فيما ذكرنا (فصل) وإن جرح العبد أو شج فعلى قول أبي بكر لا يرجع لأنه ذهب جزء ينقص به الثمن أشبه مالو فقئت عين العبد، ولأنه ذهب من العين جزء له بدل فمنع الرجوع كما لو قطعت يد العبد، ولأنه لو كان نقص صفة مجردة لم يكن مع الرجوع فيها شئ سواه كما ذكرنا في هزال العبد ونسيان الصنعة وههنا بخلافه، ولأن الرجوع في المحل المنصوص عليه يقطع النزاع ويزيل المعاملة بينهما فلا يثبت في محل لا يثبت به هذا المقصود، وقال القاضي قياس المذهب أن له الرجوع لأنه فقد صفة فأشبه نسيان الصنعة واستخلاق الثوب، فإذا رجع نظرنا في الجرح فإن كان مما لا أرش كله كالحاصل بفعل الله تعالى أو فعل بهيمة أو جناية عبده أو جناية العبد على نفسه فليس له مع الرجوع أرش، وإن كان الجرح موجباً لأرش كجناية الأجنبي فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من الثمن فينظر كم نقص من قيمته فيرجع بقسط ذلك من الثمن لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن، فإن قيل فهلا جعلتم له الأرش الذي وجب على الأجنبي لأنه لو لم يجب به أرش لم يرجع بشئ فلا يجوز أن يرجع بأكثر من الأرش؟ قلنا لما أتلفه الأجنبي صار مضموناً بإتلافه للمفلس فكان الأرش له وهو مضمون على المفلس للبائع بالثمن فلا يجوز أن يضمنه بالأرش، وإذا لم يتلفه أجنبي لم يكن مضموناً فلا يجب بفواته شئ، فإن قيل فهلا فكان هذا الأرش للمشتري ككسبه لا يضمنه للبائع؟ قلنا
الكسب بدل منافعه ومنافعه مملوكة للمشتري بغير عوض وهذا بدل جزء من العين والعين جميعها(4/479)
مضمونة بالعوض فلهذا ضمن ذلك للمشتري (فصل فإن اشترى زيتاً فخلطه بزيت آخر أو قمحاً فخلطه بما لا يمكن تمييزه منه سقط حق الرجوع، وقال مالك يأخذ أرشه، وقال الشافعي إن خلطه بمثله أو دونه لم يسقط الرجوع وله أن يأخذ متاعه بالكيل والوزن، وإن خلطه بأجود منه ففيه قولان (أحدهما) يسقط حقه، قال الشافعي وبه أقول واحتجوا بأن عين ماله موجودة من طريق الحكم فكان له الرجوع كما لو كانت منفردة ولأنه ليس له أكثر من اختلاط ماله بغيره فلم يمنع الرجوع كما لو اشترى ثوباً فصبغه أو سويقاً فلته.
ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلفت، ولأن ما يأخذه عوضاً عن ماله فلم يختص به دون الغرماء كما لو تلف ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه " أي من قدر عليه وتمكن من أخذه من المفلس بدليل ما لو وجده بعد زوال ملك المفلس عنه، أو كان مسامير قد سمر بها باباً أو حجراً قد بنى عليه.
أو خشباً في سقفه أو أمة استولدها وهذا إذا اخذ مثله أو قيمته إنما يأخذ عوض ماله فهو كالثمن والقيمة وفارق المصبوغ فإن عينه يمكنه أخذها والسويق كذلك فاختلفا {مسألة} (وإن صبغ الثوب أو قصره لم يمنع الرجوع والزيادة للمفلس) إذا صبغ المفلس الثوب أو لت السويق بزيت فقال أصحابنا لبائع الثوب والسويق الرجوع في أعيان أموالهما وهو مذهب الشافعي لأن عين مالهما قائمة مشاهدة ما تغير اسمها ويكون المفلس شريكا لصاحب الثوب والسويق بما زاد عن قيمتهما فإن حصل زيادة فهي له، وإن حصل نقص فعليه، وإن نقصت قيمة الثوب أو السويق، فإن شاء البائع أخذهما ناقصين ولا شئ له، وإن شاء تركهما وله أسوة الغرماء لأن هذا نقص صفة فهو كالهزال.
قال شيخنا: ويحتمل أن لا يكون له الرجوع إذا(4/480)
زادت القيمة لأنه اتصل بالمبيع زيادة للمفلس فمنعت الرجوع كسمن العبد.
ولأن الرجوع لا يتخلص به البائع من المفلس ولا يحصل به المقصود من قطع المنازعة وإزالة المعاملة.
بل يحصل له ضرر الشركة
فلم يكن في معنى المنصوص عليه فلا يمكن إلحاقه به (فصل) فإن قصر الثوب لم يخل من حالين (أحدهما) أن لا تزيد قيمته بذلك فللبائع الرجوع فيه لأن عين ماله قائمة لم يزل اسمها ولم يتلف بعضها ولا اتصلت بغيرها فكان له الرجوع كما لو علم العبد صناعة لم تزد بها قيمته، وسواء نقصت قيمته بذلك أو لم تنقص لأن ذلك النقص نقص صفة فلا فلا يمنع الرجوع كنسيان صناعة وهزال العبد ولا شئ له مع الرجوع (الثاني) أن تزيد قيمته بذلك فليس للبائع الرجوع في قياس قول الخرقي لأنه زاد زيادة لا تتميز زيادتها فلم يملك البائع الرجوع فيه كسمن العبد ولأنه لم يجد عين ماله متميزة عن غيرها فلم يملك الرجوع كبائع الصبغ إذا صبغ به، وقال القاضي وأصحابه له الرجوع فيها لأنه أدرك متاعه بعينه ولأنه وجد عين ماله لم يتغير اسمها ولا ذهبت عينها فملك الرجوع فيها كما لو صبغها فعلي قولهم إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها فهما شريكان في الثوب فإذا كانت قيمة الثوب خمسة فصار يساوي ستة فللمفلس سدسه وللبائع خمسة أسداسه فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس لزمه قبولها لأنه يتخلص بذلك من ضرر الشركة من غير مضرة تلحقه فأشبه مالو دفع الشفيع قيمة البناء إلى المشتري، وإن لم يختر بيع الثوب وأخذ كل واحد بقدر حقه، وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره فله حبس الثوب على استيفاء أجره فإن كانت الزيادة بقدر الاجر دفعت إليه، وإن كانت أقل فله حبس الثوب على قدر الزيادة ويضرب مع الغرماء بما يبقى، وإن كانت أكثر مثل ان تكون الزيادة درهمين والأجر درهم فله قدر أجره وما فضل للغرماء(4/481)
(فصل) وإن اشترى صبغاً فصبغ به ثوباً أو زيتاً فلت به سويقاً فبائعهما أسوة الغرماء، وقال أصحاب الشافعي له الرجوع لأنه وجد عين ماله.
قالوا ولو اشترى ثوبا وصبغا فصبغ الثوب بالصبغ رجع بائع كل شئ في عين ماله وكان بائع الثوب، وإن حصل نقص فهو من صاحب الصبغ لأنه الذي يتفرق وينقص والثوب بحاله فإذا كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت قيمتهما اثنا عشر كان لصاحب الثوب خمسة أسداس الثوب وللآخر سدسه ويضرب مع
الغرماء بما نقص وذلك ثلاثة دراهم وذكر القاضي في موضع مثل هذا ولنا أنه لم يجد عين ماله فلم يكن له الرجوع كما لو تلف ولأن المشتري شغله بغيره على وجه البيع فلم يملك بائعه الرجوع فيه كما لو كان حجراً فبنى عليه أو مسامير سمر بها بابا، ولو اشترى ثوباً وصبغاً من واحد فصبغه به فقال أصحابنا هو كما لو كان الصبغ من غير بائع الثوب، فعلى قولهم يرجع في الثوب وحده ويكون المفلس شريكا له بزيادة الصبغ ويضرب مع الغرماء بثمن الصبغ، ويحتمل أن يرجع فيهما ههنا لأنه وجد عين ماله متميزاً عن غيره فكان له الرجوع فيه للخبر ولأن المعنى في المحل الذي ثبت فيه الرجوع موجود ههنا فملك الرجوع به كما يملكه ثم، ولو اشترى دفوفاً ومسامير من بائع واحد فسمرها به رجع بائعهما فيهما لذلك وكذلك ما أشبهه (فصل) ولو اشترى أمة حاملا ثم أفلس وهي حامل فله الرجوع فيها إلا أن يكون الحمل قد زاد بكبره وكثرت قيمتها بسببه فيكون من قبيل الزيادة المتصلة على ما مضى، وإن أفلس بعد وضعها فقال القاضي له الرجوع فيهما بكل حال من غير تفصيل.
قال شيخنا والصحيح أننا إن قلنا إن الحمل لاحكم له فالولد زيادة منفصلة لا يمنع الرجوع فيها على قول أبي بكر لأن الزيادة المنفصلة عنده للبائع وهذه زيادة منفصلة، وعلى قول غيره يكون الولد للمفلس فيحتمل أن يمتنع الرجوع في الأم لئلا يفضي(4/482)
إلى التفريق بين الأم وولدها، ويحتمل أن يرجع في الأم ويدفع قيمة الولد ليكونا جميعاً له وإن لم يفعل بيعت الأم وولدها جميعاً وقسم الثمن على قدر قيمتهما فما خص الأم فهو للبائع وما خص الولد للمفلس وإن قلنا أن للولد حكما وهو الصحيح لما ذكرناه فيما تقدم كانت الأم والولد قد زادا بالوضع فحكمه حكم المبيع الزائد زيادة متصلة، وإن لم يزيدا جاز الرجوع فيهما، وإن زاد أحدهما دون الآخر خرج على الروايتين فيما اذا كان المبيع عينين فتلف بعض إحداهما هل يمنع ذلك الرجوع في الاخرى؟ كذلك يخرج ههنا وجهان (أحدهما) أن له الرجوع فيما لم يزد دون ما زاد فيكون حكمه حكم الرجوع في الأم دون الولد على ما فصلناه (والثاني) ليس له الرجوع في شئ منهما لأنه لم يجد المبيع إلا زائداً فأشبه العين الواحدة، فإن كان المبيع حيواناً غير الامة فحكمه حكمها إلا في التفريق بينهما
فإنه جائز بخلاف الأمة (فصل) فإن اشترى حائلا فحملت ثم أفلس وهي حامل فزادت قيمتها به فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع على قول الخرقي ولا تمنعه على رواية الميموني، وإن أفلس بعد وضعها فهي زيادة منفصلة فتكون للمفلس على الصحيح وتمنع الرجوع في الأم دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهذا أحد قولي الشافعي، ويحتمل أن يرجع في الأم على ما ذكرنا في التي قبلها، وعلى قول أبي بكر الزيادة للبائع فيكون له الرجوع فيهما، وقال القاضي إذا وجدها حاملا انبنى على أن الحمل هل له حكم أولا؟ فإن قلنا لا حكم له جرى مجرى الزيادة المتصلة، وإن قلنا له حكم فالولد في حكم المنفصل تتربص به حتى تضع ويكون الحكم فيه كما لو وجده بعد وضعه، وإن كان الحمل في غير الآدمية جاز التفريق بينهما كما تقدم (فصل) فإن كان المبيع نخلا أو شجراً فأفلس المشتري لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن(4/483)
يفلس وهي بحالها لم تزد ولم تثمر ولم يتلف بعضها فله الرجوع فيها (الثاني) أن يكون فيها ثمر ظاهر أو طلع مؤبر فيشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه أو يذهب بجائحة ثم يفلس فهذا في حكم مالو اشترى عينين فتلفت إحداهما ثم أفلس فهل للبائع الرجوع في الأصول ويضرب مع الغرماء بحصة التالف من الثمر؟ على روايتين وإن تلف بعضها فهو كتلف جميعها، وإن زادت أو بدا صلاحها فهذه زيادة متصلة في إحدى العينين وقد ذكرنا بيان حكمها (الحال الثالث) أن يبيعه نخلا قد أطلعت ولم تؤبر أو شجراً فيه ثمرة لم تظهر فهذه تدخل في مطلق البيع فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو بعضها أو الزيادة فيها أو بدو صلاح فحكم ذلك حكم تلف بعض المبيع وزيادته المتصلة لأن المبيع كان بمنزلة العين الواحدة ولهذا دخل الثمر في مطلق البيع بخلاف التي قبلها (الحال الرابع) باعه نخلا حائلاً فأطلعت أو شجراً فأثمر فذلك على أربعة أضرب (أحدها) أن يفلس قبل تأبيرها فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع وهو اختيار الخرقي كالسمن ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع لأنه يمكن فصله ويصح افراده بالبيع فهو كالمؤبر بخلاف السمن وهذا قول ابن حامد، وعلى رواية الميموني لا يمنع بل يرجع ويكون الطلع للبائع كما لو
فسخ العيب وهو أحد قولي الشافعي، والقول الثاني يرجع في الأصل دون الطلع وكذلك عندهم الرد بالعيب والأخذ بالشفعة (الضرب الثاني) أفلس بعد التأبير وظهور الثمرة فلا يمنع الرجوع والطلع للمشتري إلا على قول أبي بكر والصحيح الأول لأن الثمرة لاتتبع في البيع الذي يثبت بتراضيهما ففي الفسخ الحاصل بغير رضا المشتري أولى، ولو باعه أرضا فارغه فزرعها المشتري ثم أفلس فإنه يرجع في الأرض دون الزرع وجهاً واحداً لأن ذلك من مال المشتري (الضرب الثالث) أفلس والطلع غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يكن له الرجوع فيه كما لو أفلس بعد التأبير لأن العين لا تنتقل إلا باختياره وهذا لم يخترها(4/484)
إلا بعد تأبيرها.
فان ادعى البائع الرجوع قبل التأبير وأنكر المفلس فالقول قول المفلس مع يمينه لأن الأصل بقاء ملكه، وإن قال البائع بعت بعد التأبير وقال المفلس بل قبله فالقول قول البائع لهذه العلة فإن شهد الغرماء للمفلس لم تقبل شهادتهم لانهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً، وإن شهدوا للبائع وهم عدول قبلت شهادتهم لعدم التهمة في حقهم (الضرب الرابع) أفلس بعد أخذ الثمن أو ذهابها بجائحة أو غيرها فله الرجوع في الأصل والثمرة للمشتري إلا على قول أبي بكر، وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع البائع فيه فليس له مطالبة المفلس بقطع الثمرة قبل أوان الجزاز، وكذلك إذا رجع في الأرض وفيها زرع للمفلس فليس له المطالبة بأخذه قبل أوان الحصاد لأن المشتري زرع في أرضه بحق فطلعه على الشجر بحق فلم يلزمه أخذه قبل كماله كما لو باع الأصل وعليه الثمرة أو الأرض وفيها زرع وليس على صاحب الزرع أجر لأنه زرع في أرضه زرعا يحب تبقيته فكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان ذلك، إذا ثبت هذا فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية أو القطع فلهم ذلك، وإن اختلفوا فطلب بعضهم القطع وبعضهم التبقية وكان مما لا قيمة له مقطوعاً أو قيمته يسيرة لم يقطع لأن قطعة سفه وإضاعة مال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإن كانت قيمته كثيرة قدم قول من طلب القطع في أحد الوجهين لأن في تبقيته غرراً ولأن طالب القطع إن كان المفلس فهو يقصد تبرئة ذمته وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم وذلك حق لهم وهذا قول القاضي وأكثر الشافعية (الثاني) ينظر ما فيه الحظ فيعمل به لأن ذلك أنفع للجميع والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع
للمولى عليه، وفيه وجه آخر إن كان الطالب القطع الغرماء وجب اجابتهم لأن حقوقهم حالة فلا يلزمهم تأخيرها مع إمكان ايفائها، وإن كان الطالب المفلس دونهم وكان التأخير أحظ لم يقع لأنهم رضوا(4/485)
بتأخير حقوقهم لحظ يحصل لهم وللمفلس، والمفلس يطلب ما فيه ضرر بنفسه ومنع الغرماء من استيفاء القدر الذي يحصل من الزيادة بالتأخير فلا يلزم الغرماء أجابته إلى ذلك (فصل) فان أقر الغرماء بالطلع أو الزرع للبائع ولم يشهدوا به أو شهدوا به وليسوا عدولاً أو لم يحكم بشهادتهم حلف المفلس وثبت الطلع له ينفرد به دونهم لأنهم يقرون أنه لا حق لهم فيه، فإن أراد دفعة إلى أحدهم أو تخصيصه بثمنه فله ذلك لإقرار باقيهم أنه لا حق لهم فيه فإن امتنع ذلك الغريم من قبوله أجبر عليه أو على الإبراء من قدره من دينه وهذا مذهب الشافعي لأنه محكوم به للمفلس فكان له أن يقضي دينه منه كما لو أدى المكاتب نجوم كتابته إلى سيده فقال سيده هي حرام وأنكر المكاتب، ان أراد قسمة على الغرماء لزمهم قبوله أو الا براء لما ذكرنا، فإن قبضوا الثمرة بعينها لزمهم ردها إلى البائع لأنهم مقرون له بها فلزمهم دفعها إليه كما لو أقروا بعتق عبد ثم اشتروه، فإن باع الثمرة وقسم ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم لم يلزمه رد ما أخذ من ثمنها لأنهم اعترفوا بالعين لا بثمنها وإن شهد بعضهم دون بعض، أو أقر بعضهم دون بعض لزم الشاهد أو المقر الحكم الذي ذكرناه دون غيره، وإن عرض عليهم المفلس الثمرة بعينها فأبوا أخذها لم يلزمهم ذلك لأنهم إنما يلزمهم الاستيفاء من جنس ديونهم إلا أن يكون فيهم من له من جنس الثمر أو الزرع كالمقرض والمسلم فيلزمه أخذ ما عرض عليه إذا كان بصفة حقه، ولو أقر الغرماء، بأن المفلس أعتق عبداً له قبل فلسه فأنكر ذلك لم يقبل قولهم إلا أن يشهد منهم عدلان بإعتاقه ويكون حكمهم في قبض العبد وأخذ ثمنه إن عرضه عليهم حكم مالو أقروا بالثمرة للبائع، وكذلك إن أقروا بعين ما في يديه أنها غصب أو عارية أو نحو ذلك فالحكم كما ذكرنا سواء، وإن أقروا بأنه أعتق عبده بعد فلسه انبنى ذلك على صحة عتق المفلس، فإن(4/486)
قلنا لا يصح عتقه فلا أثر لإقرارهم، وإن قلنا بصحته فهو كإقرارهم بعتقه قبل فلسه فان حكم الحاكم
بصحته أو بفساده نفذ حكمه لأنه فصل مجتهد فيه فلزم ما حكم به الحاكم ولا يجوز نقضه ولا تغييره (فصل) فإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير وكذبه الغرماء لم يقبل إقراره لأن حقوقهم تعلقت بالثمرة ظاهراً فلم يقبل إقراره كما لو أقر بالنخيل وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون أن البائع رجع قبل التأبير لأن هذه اليمين لا ينوبون فيها عن المفلس بل هي ثابتة في حقهم ابتداء بخلاف مالو ادعى حقاً وأقام شاهداً فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا مع الشاهد لأن اليمين على المفلس فلو حلفوا حلفوا ليثبتوا حقاً لغيرهم ولا يحلف الإنسان ليثبت لغيره حقاً ولا يجوز أن يكون نائباً فيها لأن الإيمان لا تدخلها النيابة وفي مسئلتنا الأصل أن هذا الطلع قد تعلقت حقوقهم به لكونه في يد غريمهم ومتصل بنخله، والبائع يدعي ما يزيل حقوقهم عنه فأشبه سائر أعيان ماله ويحلفون على نفي العلم لأنه يمين على فعل غيرهم فكانت على نفي العلم كيمين الوارث على نفي الدين على الميت، ولو أقر المفلس بعين من أعيان ماله لأجنبي أو لبعض الغرماء فأنكر الباقون فالقول قولهم وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون ذلك ومثله لو أقر بغريم آخر يستحق مشاركتهم فأنكروه حلفوا أيضاً على نفي العلم لذلك وإن أقر بعتق عبده انبنى على صحة عتق المفلس فإن قلنا بصحة عتقه صح إقراره وعتق لأن من ملك شيئاً ملك الإقرار به وإن قلنا لا يصح عتقه لم يقبل إقراره وعلى الغرماء اليمين أنهم لا يعلمون ذلك، وكل موضع قلنا على الغرماء اليمين فهي على جميعهم فإن حلفوا وإلا قضي للمدعي إلا أن نقول برد اليمين على المدعى فيحلف ويستحق، وإن حلف بعضهم دون بعض أخذ الحالف نصيبه وحكم الناكل على ما ذكرنا (فصل) وإن أقر المفلس أنه أعتق عبده منذ سنة وكان العبد قد اكتسب بعد ذلك مالاً وأنكر(4/487)
الغرماء فإن قلنا لا يقبل إقراره حلفوا واستحقوا العبد وكسبه، فإن قلنا يقبل إقراره لم يقبل في كسبه كان للغرماء أن يحلفوا أنهم لا يعلمون أنه أعتقه قبل الكسب ويأخذون كسبه لأن إقراره إنما قبل في العتق دون غيره لصحته منه لكونه ينبني على التغليب والسراية فلا يقبل في المال لعدم ذلك فيه ولا ننا نزلنا إقراره منزلة اعتاقه في الحال فلم نثبت به الحرية فيما مضى فيكون كسبه محكوماً به لسيده كما لو اقر بعتقه ثم أقر له بعين في يده
{مسألة} (وإن غرس الأرض أو بنى فيها فله الرجوع ودفع قيمة الغراس والبناء فيملكه إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص) إذا كان المبيع أرضاً فبناها المشتري أو غرسها ثم أفلس فأراد البائع الرجوع في الأرض نظرت فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك لأن الحق لهم لا يخرج عنهم فإذا قلعوه فللبائع الرجوع في أرضه لأنه وجد عين ماله، فإن أراد الرجوع قبل القلع فله ذلك وهو مذهب الشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه وفيه مال المشتري على وجه البيع فلم يمنعه الرجوع كما لو صبغ الثوب ويحتمل أن لا يستحقه إلا بعد القلع لأنه قبل القلع لم يدرك متاعه إلا مشغولا بملك المشتري فأشبه مالو كان مسامير في باب المشتري، فإن قلنا له الرجوع قبل القلع فقلعوه لزمهم تسوية الأرض وأرش نقص الأرض الحاصل به لأن ذلك نقص حصل لتخليص ملك المفلس فكان عليه كما لو دخل فصيل دار انسان فكبر فأراد صاحبه إخراجه فلم يمكن إلا بهدم بابها فإن الباب يهدم ليخرج ويضمن صاحبه ما نقص بخلاف ما إذا وجد البائع عين ماله ناقصة فرجع فيها فإنه لا يرجع في النقص فإن النقص كان(4/488)
في ملك المفلس وههنا حدث بعد رجوعه في العين فلهذا ضمنوه، ويضرب بالنقص مع الغرماء، وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش القص لأنهم فعلوا ذلك في أرض المفلس قبل رجوع البائع فيها فلم يضمنوا النقص كما لو قلعه المفلس قبل فلسه فإن امتنع المفلس والغرماء من القلع لم يجبروا عليه لأنه غرس بحق، ومفهوم قوله عليه السلام " ليس لعرق ظالم حق " أنه إن لم يكن ظالماً فله حق فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليملكه أو قال أنا أقلع وأضمن النقص فله ذلك إن قلنا له الرجوع قبل القلع لأن البناء والغراس حصل في ملكه لغيره بحق فكان له أخذه بقيمته أو قلعه وضمان نقصه كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس أو بناء للمشتري والمعير إذا رجع في أرضه بعد غرس المستعير، وإن قلنا ليس له الرجوع قبل القلع لم يكن له ذلك لأنه بناء المفلس وغرسه فلم يجبر على بيعه لهذا البائع ولا على قلعه كما لو لم يرجع في الارض {مسألة} (فإن أبوا القلع وأبى دفع القيمة سقط الرجوع)
وهذا قول ابن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال القاضي يحتمل إن له الرجوع وهو قول للشافعي لأنه أدرك متاعه بعينه متصلا بملك المشتري على وجه التبع فلم يمنع الرجوع كالثوب إذا صبغه المشتري(4/489)
ولنا أنه لم يدرك متاعه على وجه يمكنه أخذه منفرداً عن غيره فلم يكن له أخذه كالحجر في البناء والمسامير في الباب ولأن في ذلك ضرراً على المشتري والغرماء، ولا يزال الضرر بالضرر ولأنه لا يحصل بالرجوع ههنا انقطاع النزاع والخصومة بخلاف ما إذا وجدها غير مشغولة بشئ، وأما الثوب إذا صبغه فلا نسلم إن له الرجوع، وإن سلمنا فالفرق بينهما من وجهين (أحدهما) أن الصبغ تفرق في الثوب فصار كالصفة بخلاف البناء والغراس فإنهما أعيان متميزة وأصل في نفسه (الثاني) أن الثوب لايراد للبقاء بخلاف الأرض والبناء فإذا قلنا لا يرجع فلا كلام، وإن قلنا يرجع فرجع واتفق الجميع على بيعهما بيعاً لهما كذا ههنا، ويحتمل أن لا يجبر لأنه يمكن طالب البيع أن يبيع ملكه منفرداً بخلاف الثوب المصوغ فإن بيعا لهما قسم الثمن على قدر القيمتين فتقوم الارض لاشجر فيها ولا بناء ثم تقوم وهما فيها فما كان قيمة الأرض بغير غراس ولا بناء فللبائع قسطه من الثمن والزائد للمفلس والغرماء، وإن قلنا لا يجبر على البيع أو لم يطلب أحدهما البيع فإن اتفقا على كيفية كونهما بينهما جاز ما اتفقا عليه، وإن اختلفا كانت الأرض للبائع والغراس والبناء للمفلس والغرماء ولهم دخول الأرض لسقي الشجر وأخذ الثمرة وليس لهم دخولها للتفرج أو لغير حاجة، وللبائع دخولها للزرع ولما شاء لأن الأرض ملكه، فإن باعوا الشجر والبناء لإنسان فحكمه في ذلك حكمهم، فإن بذل المفلس والغرماء أو المشتري(4/490)
للبائع قيمة الأرض ليدعها لهم لم يلزمه ذلك لأن الأرض أصل فلا يجبر على بيعها بخلاف الغراس والبناء (فصل) فإن اشترى غراساً فغرسه في أرضه ثم أفلس ولم يزد الغراس فله الرجوع فيه لأنه أدرك متاعه بعينه، فإذا أخذه فعليه تسوية الأرض وأرش نقصها الحاصل بقلعه لأنه نقص حصل لتخليص ملكه من ملك غيره، وإن بذل المفلس والغرماء قيمته له ليملكوه لم يجبر على قبولها لأنه إذا اختار
أخذ ماله وتفريغ ملكهم وإزالة ضرره عنهم لم يكن لهم منعه كالمشتري إذا غرس في الأرض المشفوعة وإن امتنع من القلع فبذلوا له القيمة ليملكه المفلس أو أرادوا قلعه وضمان النقص فلهم ذلك، وكذلك لو أرادوا قلعه من غير ضمان النقص لأن المفلس إنما ابتاعه مقلوعاً فلم يجب عليه إبقاؤه في أرضه، وقيل ليس لهم قلعه من غير ضمان النقص لأنه غرس بحق فأشبه غرس المفلس في الأرض التي ابتاعها إذا رجع بائعها فيها، والفرق بينهما ظاهر فإن إبقاء الغراس في هذه الصورة حق عليه فلم يجب عليه بفعله، وفي التي قبلها إبقاؤه حق له فوجب له بغراسه في ملكه، فإن اختار بعضهم القلع وبعضهم التبقية قدم قول من طلب القلع سواء كان المفلس أو الغرماء أو بعض الغرماء لأن الإبقاء ضرر غير واجب فلم يلزم الممتنع من الإجابة إليه، وإن زاد الغراس في الأرض فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع إلا على رواية الميموني(4/491)
(فصل) وإن اشترى أرضاً من رجل وغراسا من آخر فغرسه فيها ثم أفلس ولم يزد الشجر فلكل واحد منهما الرجوع في عين ماله، ولصاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان النقص بالقلع كما ذكرنا لأن البائع إنما باعه مقلوعاً فلا يستحقه إلا كذلك، وإن أراد بائعه قلعه من الأرض فقلعه فعليه تسوية الأرض وضمان نقصها الحاصل به لما تقدم، فإن بذل صاحب الغراس قيمة الأرض لصاحبها ليملكها لم يجبر على ذلك لأن الأرض أصل لا يجبر على بيعها تبعاً، وإن بذل صاحب الأرض قيمة الغراس لصاحبها ليملكه إذا امتنع من القلع فله ذلك لأن غرسه حصل في ملك غيره بحق فأشبه غرس المفلس في أرض البائع، ويحتمل أن لا يملك ذلك لأنه لا يجبر على ابقائه إذا امتنع مع دفع قيمته أو أرش نقصه فلا يكون له أن يتملكه بالقيمة بخلاف التي قبلها والأول أولى وهذا منتقض بغرس الغاصب (فصل) فإن كان المبيع صيداً فأفلس المشتري والبائع محرم لم يرجع فيه لأنه تملك للصيد فلم يجز في الإحرام كشرائه، وإن كان البائع حلالا في الحرم والصيد في الحل فأفلس المشتري فللبائع الرجوع فيه لأن الحرم إنما يحرم الصيد الذي فيه وهذا ليس من صيده فلا يحرمه، ولو أفلس المحرم وفي ملكه صيد بائعه حلال فله أخذه لأن المانع غير موجود فيه (فصل) إذا أفلس وفي يده عين دين بائعها مؤجل وقلنا لا يحل الدين بالفلس فقال أحمد في رواية
الحسن بن ثواب يكون موقوفاً إلى أن يحل دينه فيختار البائع الفسخ أو الترك وهو قول بعض أصحاب الشافعي، والمنصوص عن الشافعي انه يباع في الديون الحالة ويتخرج لنا مثل ذلك لأنها حقوق حالة فقدمت على الدين المؤجل كدين من لم يجد عين ماله والقول الأول أولى للخبر، ولأن حق هذا البائع تعلق بالعين فقدم على غيره، وإن كان مؤجلاً كالمرتهن والمجني عليه(4/492)
(فصل) قال أحمد في رجل ابتاع طعاما نسيئة ونظر إليه وقلبه وقال أقبضه غداً فمات البائع وعليه دين فالطعام للمشتري ويتبعه الغرماء بالثمن وإن كان رخيصاً، وكذلك قال الثوري واسحاق لأن الملك ثبت للمشتري فيه بالشراء وزال ملك البائع عنه فلم يشاركه غرماء البائع فيه كما لو قبضه (فصل) ورجوع البائع فسخ للبيع لا يحتاج إلى معرفة المبيع ولا القدرة على تسليمه، فلو رجع في المبيع الغائب بعد مضي مدة يتغير فيها ثم وجده على حاله لم يتلف شئ منه صح رجوعه، وإن رجع في العبد بعد إباقه أو الجمل بعد شروده صح وصار ذلك له فإن قدر عليه أخذه، وإن ذهب كان من ماله، وإن تبين أنه كان تالفاً حال استرجاعه بطل الاسترجاع وله أن يضرب مع الغرماء في الموجود من ماله، وإن رجع في المبيع واشتبه بغيره واختلفوا في عينه فالقول قول المفلس لأنه منكر لاستحقاق ما ادعاه البائع والأصل معه {فصل} قال رحمه الله تعالى (الحكم الثالث بيع الحاكم ماله وقسم ثمنه وينبغي أن يحضره ويحضر الغرماء ويبيع كل شئ في سوقه) إذا حجر على المفلس باع الحاكم ماله لما ذكرنا من حديث معاذ، ولأنه مقصود الحجر ويستحب إحضار المفلس لمعان أربعة (أحدها) إحصاء ثمنه وضبطه (الثاني) أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه فإذا حضر تكلم عليه وعرف الغبن من غيره (الثالث) أن الرغبة تكثر فيه فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشترين (الرابع) أنه أطيب لقلبه، ويستحب إحضار، الغرماء لأمور أربعة (أحدها) أن يباع لهم (الثاني) أنهم ربما رغبوا في شئ فزادوا في ثمنه فيكون أصلح لهم وللمفلس (الثالث)(4/493)
أنه أطيب لقلوبهم وأبعد عن التهمة (الرابع) لعل فيهم من يجد عين ماله فيأخذها، فإن باعه من غير حضورهم كلهم جاز لأن ذلك مفوض إليه وموكول إلى اجتهاده فربما أداه اجتهاده إلى خلاف ذلك والمبادرة إلى البيع قبل احضارهم ويأمرهم أن يقيموا منادياً ينادي على المتاع، فإن تراضوا بثقة أمضاه الحاكم وإن لم يكن ثقة رده، فإن قيل لم يرده وقد اتفق عليه أصحاب الحق فأشبه مالو اتفق المرتهن والراهن على أن يبيع الرهن غير ثقة لم يكن للحاكم الاعتراض؟ قلنا الحاكم ههنا له نظر واجتهاد لأنه قد يظهر غريم آخر فيتعلق حقه به بخلاف الرهن فإنه لا نظر للحاكم فيه، فإن اختار المفلس رجلاً واختار الغرماء آخر أقر الحاكم الثقة منهما فإن كانا ثقتين قدم المتطوع منهما لأنه أوفر، فإن كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانا بجعل قدم أو ثقهما وأعرفهما، فإن تساويا قدم من يرى منهما فإن وجد متطوعاً بالنداء وإلا دفعت الاحرة من مال المفلس لأن البيع حق عليه لكونه طريق وفاء دينه، وقيل يدفع من بيت المال لأنه من المصالح، وكذلك الحكم في أجر من يحفظ المتاع والثمن وأجر الحمالين ونحوهم، ويستحب بيع كل شئ في سوقه لأنه أحوط وأكثر لطلابه ومعرفة قيمته، فإن باع في غير سوقه بثمن المثل جاز لأن الغرض تحصيل الثمن وربما أدى الاجتهاد إلى انه أصلح، ولهذا لو قال بع ثوبي بثمن كذا في سوق عينه فباعه بذلك في غيره جاز ويبيع بنقد البلد لأنه اصلح، فان كان في البلد نقود باع بغالبها فإن تساوت باع بجنس الدين، فإن زاد في السلعة أحد في مدة الخيار لزم الأمين الفسخ لأنه أمكنه بيعه بثمن فلم يبيعه بدونه كما لو زيد فيه قبل العقد، وإن زاد بعد لزوم العقد استحب للأمين سؤال المشتري الإقالة واستحب للمشتري الإجابة لتعلقه بمصلحة المفلس وقضاء دينه(4/494)
{مسألة} (ويترك له من ماله ما تدعو إليه حاجته من مسكن وخادم) لاتباع دار المفلس التي لا غنى له عن سكناها، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق والخادم في معنى الدار إذا كان محتاجاً إليه، وقال شريح ومالك والشافعي تباع ويكتري له بدلها.
اختاره ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال لغرمائه " خذوا ما وجدتم " وهذا مما وجدوه، ولأنه عين مال المفلس فوجب صرفه في دينه كسائر ماله.
ولنا أن هذا مما لاغني للمفلس
عنه فلم يصرف في دينه كثيابه وقوته والحديث قضية في عين يحتمل أنه لم يكن له عقار ولا خادم، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خذوا ما وجدتم " مما تصدق به عليه والظاهر أنه لم يتصدق عليه بدرا وهو يحتاج إلى سكناها ولا خادم وهو محتاج إلى خدمته، ولأن الحديث مخصوص بثياب المفلس وقوته فنقيس عليه محل النزاع وقياسهم منتقض بذلك بأجر المسكن وسائر ماله يستغنى عنه بخلاف مسئلتنا، فإن كان له داران يستغني بإحداهما بيعت الاخرى لان به غني عن سكناها، وإن كان مسكنه واسعاً يفضل عن سكنى مثله بيع واشتري له مسكن مثله ورد الفضل على الغرماء، وكذلك الثياب التي له إذا كانت رفيعة لا يلبس مثله مثلها (فصل) فإن كان المسكن والخادم الذي لا يستغني عنهما عين مال بعض الغرماء أو كان جميع ماله أعيان أموال أفلس بأثمانها ووجدها أصحابها فلهم أخذها بالشرائط المذكورة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به " ولأن حقه تعلق بالعين فكان أقوى سبباً من المفلس ولأن الإعسار بالثمن سبب يستحق به الفسخ فلم يمنع منه تعلق حاجة المشتري(4/495)
كما قبل القبض وكالعيب والخيار، ولأن منعهم من أخذ أموالهم يفتح باب الحيل بأن يشتري من لامال له في ذمته ثياباً يلبسها وداراً يسكنها، أو خادماً يخدمه وفرساً يركبها وطعاماً له ولعائلته ويمتنع على أربابها أخذها لتعلق حاجته بها فتضيع أموالهم ويستغني هو بها، فعلى هذا يؤخذ ذلك ولا يترك له منه شئ لأنه أعيان أموال الناس فكانوا أحق بها منه كما لو كانت في أيديهم أو أخذها منهم غصبا {مسألة} (وينفق عليه بالمعروف إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه) وجملة ذلك أنه إذا حجر على المفلس، فإن كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه مؤنته فهي في كسبه فإنه لا حاجة إلى إخراج ماله مع غناه بكسبه فلم يجز كالزيادة على النفقة، وإن كان كسبه دون نفقته كملت من ماله، وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله مدة الحجر وإن طال لأن ملكه باق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ومعلوم إن فيمن يعوله من تجب عليه نفقته ويكون ديناً عليه وهي زوجته، فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء، ولأن تجهيز
الميت يقدم على دينه بالاتفاق والحي آكد حرمة من الميت لأنه مضمون بالإتلاف، ويقدم أيضاً نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالد والولد وغيرهم ممن تجب نفقته لأنهم يجرون مجرى نفسه في كون ذوي رحمه منهم يعتقون إذا ملكهم كما يعتق إذا ملك نفسه فكانت نفقتهم كنفقته، وكذلك نفقة زوجته لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب، وممن أوجب الإنفاق على المفلس وزوجته وأولاده أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً، وتجب كسوتهم لأن ذلك مما لابد منه، والواجب من النفقة والكسوة أدنى ما ينفق على مثله بالمعروف وأدنى ما يكتسي مثله، وكذلك كسوته من جنس ما يكتسبه(4/496)
مثله، وكسوة امرأته ونفقتها مثل ما يفرض على مثله، وأقل ما يكفيه من اللباس قميص وسراويل وشئ يلبسه على رأسه قلنسوة أو عمامة أو غيرهما مما جرت عادته ولرجله حذاء إن كان يعتاده، وجبه أو فروة في الشتاء لدفع البرد، فإن كانت له ثياب لا يلبس مثله مثلها بيعت واشترى له كسوة مثله ورد الفضل على الغرماء، فإن كانت إذا بيعت واشترى له كسوة مثله لا يفضل منها شئ تركت لعدم الفائدة في بيعها (فصل) وإن مات المفلس كفن من ماله لأن نفقته كانت واجبة من ماله في حال حياته فوجب تجهيزه منه بعد الموت كغيره، وكذلك يجب كفن من يمونه لأنهم بمنزلته ولا يلزم كفن زوجته لأن نفقتها تجب في مقابلة الاستمتاع وقد فات بموتها فسقطت بخلاف الأقارب فإن قرابتهم باقية، ويلزمه تكفين من مات من عبيده وتجهيزه لأن نفقته ليست في مقابلة الانتفاع به بدليل وجوب نفقة الصغير والمبيع قبل التسليم، ويكفن في ثلاث أثواب كما كان يلبس في حياته، ويحتمل أن يكفن في ثوب يستره لانه يكفيه فلا حاجة الى الزيادة، وفارق حال الحياة لانه لابد من تغطيه رأسه وكشفه يؤذيه بخلاف الميت، ويمتد الإنفاق المذكور إلى حين فراغه من القسمة بين الغرماء لأنه لا يزول ملكه إلا بذلك ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل (فصل) فإن كان المفلس ذا صنعة يكسب ما يمونه ويمون من تلزمه مؤنته أو كان يقدر على أن يكسب ذلك من المباحات ما يكفيه أو يؤجر نفسه أو يتوكل بجعل يكفيه لم يترك له شئ من ماله
للنفقة، وإن لم يقدر على شئ ما ذكرناه ترك له من ماله قدر ما يكفيه.
قال أحمد رحمه الله في رواية(4/497)
أبي داود: يترك له قوت يتقوته، وإن كان له عيال ترك له قوام، وقال في رواية الميموني يترك له قدر ما يقوم به معاشه ويباع الباقي وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيآت الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم، وينبغي أن يجعل مما لا يتعلق به حق بعضهم بعينه لأن من تعلق حقه بالعين أقوى سبباً من غيره كما ذكرنا في الدار والخادم (فصل) وإذا تلف شئ من ماله تحت يد الأمين أو بيع شئ من ماله وأودع ثمنه فتلف عند المودع فهو من ضمان المفلس وبهذا قال الشافعي.
وقال مالك العروض من ماله والدراهم والدنانير من مال الغرماء، وقال المغيرة الدنانير من مال أصحاب الدنانير والدراهم من مال أصحاب الدراهم ولنا أنه من مال المفلس ونمائه فكان تلفه ماله كالعروض من {مسألة} (ويبدأ ببيع ما يسرع اليه الفساد من الطعام الرطب) لان بقائه يتلفه بيقين، ثم ببيع الحيوان لأنه معرض للإتلاف ويحتاج إلى مؤنة في بقائه ثم ببيع الاناث لانه يخاف عليه وتناله اليد، ثم ببيع العقار آخراً لأنه لا يخاف تلفه بقاؤه أشهر له وأكثر لطلابه {مسألة} (ويعطي المنادي أجرته من المال) لأن البيع حق على المفلس لكونه طريق وفاء دينه، وقيل هو من بيت المال لأنه من المصالح {مسألة} (ويبدأ بالمجني عليه فيدفع إليه الأقل من الأرش أو ثمن الجاني) وقد ذكرنا ذلك في الرهن هذا إذا كان عبده الجاني، فعلى هذا يبدأ ببيعه وما فضل من ثمنه صرف إلى الغرماء، وإن كان المفلس هو الجاني فالمجني عليه أسوة الغرماء لأن حقه يتعلق بالذمة بخلاف جناية العبد وقد ذكرناه(4/498)
{مسألة} (ثم بمن له رهن فيخص بثمنه) يباع الرهن ويختص المرتهن بثمنه إذا كان ثمنه بقدر دينه أو أقل منه سواء كان المفلس حياً أو
ميتاً لأن حقه متعلق بعين الرهن وذمة الراهن معاً وسائرهم يتعلق حقه بالذمة دون العين فكان حقه أقوى.
لا نعلم في هذا خلافا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، فإن كان ثمن الرهن فضل عن دين المرتهن أعطي قدر دينه ورد الباقي على الغرماء، وإن فضل شئ من دينه ضرب بالفاضل مع الغرماء (فصل) ولو باع شيئاً أو باعه وكيله وقبض الثمن فتلف وتعذر رده وخرجت السلعة مستحقه ساوى المشتري الغرماء لأن حقه لم يتعلق بعين المال فهو بمنزلة أرش جناية المفلس، وذكر القاضي احتمالا أنه يقدم على الغرماء لأنه لم يرض بمجرد الذمة فكان أولى كالمرتهن ولأنه لو لم يقدم على الغرماء لامتنع الناس من شراء مال المفلس خوفاً من ضياع أموالهم فتقل الرغبات فيه ويقل ثمنه فكان تقديم المشتري بذلك على الغرماء أنفع لهم وهذا وجه لأصحاب الشافعي ولنا أن هذا حق لم يتعلق بعين المال فلم يقدم كالذي جنى عليه المفلس وفارق المرتهن فإن حقه تعلق بالعين وما ذكروه من المعنى الأول منتقض بأرش جناية المفلس (والثاني) مصلحة لاأصل لها فلا يثبت الحكم بها، فإن كان الثمن موجوداً يمكن رده وجب رده وينفرد به صاحبه لأنه عين ماله لم يتعلق به حق أحد من الناس وكذلك صاحب السلعة المستحقة يأخذها، ومتى باع وكيل المفلس أو العدل أو باع الرهن وخرجت السلعة مستحقة فالعهدة على المفلس ولا شئ على العدل لأنه أمين (فصل) ومن استأجر داراً أو بعيرا بعينه أو شيئاً غيرهما بعينه ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أحق(4/499)
بالعين التي استأجرها من الغرماء حتى يستوفي حقه لأن حقه متعلق بعين المال والمنفعة مملوكة له في هذه المدة فكان أحق بها كما لو اشترى منه شيئاً فإن هلك البعير أو انهدمت الدار قبل انقضاء المدة انفسخت الإجارة ويضرب مع الغرماء ببقية الإجرة، وإن استأجر جملاً في الذمة ثم أفلس المؤجر فالمستأجر أسوة الغرماء لأن حقه لم يتعلق بالعين وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وإن أجر داراً ثم أفلس فاتفق الغرماء والمفلس على البيع قبل انقضاء مدة الإجارة فلهم ذلك ويبيعونها مستأجرة فإن اختلفوا قدم قول من طلب البيع في الحال لأنه أحوط من التأخير.
فإذا استوفى المستأجر سلم المشتري فإن اتفقوا على تأخير البيع حتى تنقضي مدة الإجارة فلهم ذلك لأن الحق لا يخرج عنهم
(فصل) ولو باع سلعة ثم أفلس قبل تقبيضها فالمشتري أحق بها من الغرماء سواء كانت من المكيل والموزون أو لم تكن لأن المشتري قد ملكها وثبت ملكه فيها فكان أحق بها كما لو قبضها، ولا فرق بين ما قبل قبض الثمن وبعده وإن كان عليه سلم فوجد المسلم الثمن قائماً فهو أحق به لأنه وجد عين ماله وإن لم يجده فهو أسوة الغرماء لأنه لم يتعلق حقه بعين ماله ولا يثبت ملكه فيه ويضرب مع الغرماء بالمسلم فيه لأنه الذي يستحقه دون الثمن.
فان كان في المال جنس حقه أخذ منه بقدر ما يستحقه، وإن لم يكن فيه جنس حقه عزل له قدر حقه فيشتري به المسلم فيه فيأخذه وليس له أن يأخذ المعزول بعينه لئلا يكون بدلاً عما في الذمة من المسلم فيه وذلك لا يجوز لقول النبي عليه السلام " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " فإن أمكن أن يشترى بالمعزول أكثر مما قدر له لرخص المسلم فيه اشترى له بقدر حقه ورد الباقي على الغرماء مثاله رجل أفلس وله دينار وعليه لرجل دينار ولآخر قفيز حنطة من سلم قيمته دينار فإنه يقسم(4/500)
دينار المفلس نصفين لصاحب السلم نصفه فإن رخصت الحنطة فصار قيمة القفيز نصف دينار تبينا أن حقه مثل نصف حق صاحب الدينار فلا يستحق من دينار المفلس إلا ثلثه يشتري له به ثلثا قفيز فيأخذه ويرد سدس الدينار على الغريم الآخر، وإن غلا المسلم فيه فصار قيمة القفيز دينارين تبينا أنه يستحق مثلي ما يستحقه صاحب الدينار فيكون له من دينار المفلس ثلثاه فيشتري له بالنصف المعزول ويرجع على الغريم بسدس دينار يشتري له به أيضاً لأن المعزول ملك للمفلس وإنما للغريم قدر حقه فإن زاد فللمفلس وإن نقص فعليه {مسألة} (ثم بمن له عين مال يأخذها بالشروط المذكورة) وقد ذكرنا ذلك ثم يقسم الباقي بين باقي الغرماء على قدر ديونهم لتساويهم في الاستحقاق فإن كانت ديونهم من جنس الأثمان أخذوها، وإن كان فيهم من دينه من غير جنس الأثمان كالقرض لغير الأثمان فرضي أن يأخذ عوض حقه من الأثمان جاز وإن امتنع وطلب جنس حقه اشترى له بحصته من الثمن من جنس دينه، ولو أراد الغريم الأخذ من المال المجموع، وقال المفلس لا أقضيك إلا
من جنس دينك قدم قول المفلس لأن هذه معاوضة فلا تجوز إلا بتراضيهما {مسألة} (فإن كان فيهم من له دين مؤجل لم يحل وعنه أنه يحل فيشاركهم) لا يحل الدين المؤجل بفلس من هو عليه ذكره القاضي رواية واحدة، وحكى أبو الخطاب فيه رواية أخرى انه يحل وهو قول مالك، وعن الشافعي كالمذهبين، واحتجوا بأن الإفلاس يتعلق به الدين بالمال فأسقط الأجل كالموت.
ولا أن الأجل حق للمفلس فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ولأنه(4/501)
لا يوجب حلول ماله فلا يوجب حلول ما عليه كالجنون والاغماء ولأنه دين مؤجل على حي فلم يحل قبل أجله كغير المفلس، والأصل المقيس عليه ممنوع وإن سلم فالفرق بينهما أن ذمته خربت بخلاف المفلس إذا ثبت هذا فإنه إذا حجر على المفلس، فقال أصحابنا لا يشارك أصحاب الديون المؤجلة أصحاب الديون الحالة ويبقى المؤجل في الذمة إلى وقت حلوله فإن لم يقسم الغرماء حتى حل الدين شارك الغرماء كما لو تجدد على المفلس دين بجنايته فإن أدرك بعض المال بل قسمته شاركهم فيه بجميع دينه، ويضرب مع باقي الغرماء ببقية ديونهم، وإن قلنا يحل الدين فهو كأصحاب الديون الحالة سواء {مسألة} (من مات وعليه دين مؤجل لم يحل إذا وثق الورثة وعنه أنه يحل) اختلفت الرواية في حلول الدين بالموت على من هو عليه فروي أنه لا يحل اختاره الخرقي بشرط أن يوثق الورثة وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد، والرواية الأخرى أنه يحل بالموت وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي لأنه لا يخلو إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة أو يتعلق بالمال، ولايجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها ولا ذمة الورثة لأنهم لم يلتزموها ولارضي صاحب الدين بذممهم وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه.
أما الميت فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه " وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد(4/502)
تتلف العين فيسقط حقه، وأما الورثة فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها، وإن حصلت لهم منفعة
فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم.
ولنا ما ذكرنا في المفلس ولأن الموت ما جعل مبطلاً للحقوق وإنما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقاً أو مالا فلورثته " وما ذكروه إثبات حكم بالمصلحة المرسلة لم يشهد لها شاهد الشرع باعتبار، فعلى هذا يبقى الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه فإن أحب الورثة التزام أداء الدين ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضى الغريم أو يوثقوا الحق بضمين ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم فيؤدي إلى فوات الحق، وذكر القاضي أن الحق ينتقل إلى ذمم الورثة بموت موروثهم من غير أن يشترط التزامهم له فلا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لا يلتزمه ولم يتعاط سببه ولو لزمهم ذلك بموت موروثهم للزمهم وإن لم يخلف وفاء، فإن قلنا الدين يحل بالموت فأحب الورثة القضاء من غير التركة فلهم ذلك، وإن اختاروا القضاء منها فلهم ذلك وإن امتنعوا من القضاء باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين، وإن مات مفلس وله غرماء بعض ديونهم مؤجلة، قلنا يحل المؤجل بالموت اقتسموا التركة على قدر ديونهم، وإن قلنا لا يحل فأوثق الورثة لصاحب المؤجل اختص أصحاب الحال بالتركة، وإن امتنع الورثة من التوثيق حل دينه وشارك أصحاب الحال لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكلية (فصل) وذكر بعض أصحابنا فيمن مات وعليه دين هل يمنع اليد نقل التركة إلى الورثة؟(4/503)
روايتين (إحداهما) لا يمنعه للخبر المذكور ولأن تعلق الدين بالمال لا يزيل الملك في العبد الجاني والرهن والمفلس فلم يمنع نقله فعلى هذا إن تصرف الورثة في التركة ببيع أو غيره صح تصرفهم ولزمهم أداء الدين فإن تعذر وفاؤه فسخ تصرفهم كما لو باع السيد عبده الجاني (والثانية) يمنع نقل التركة إليهم لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) فجعل التركة للوارث بعد الدين والوصية فلا يثبت لهم الملك قبلهما، فعلى هذا لا يصح تصرف الورثة لأنهم تصرفوا في غير ملكهم إلا أن يأذن لهم الغرماء وإن تصرف الغرماء لم يصح إلا بإذن الورثة
{مسألة} (وإن ظهر له غريم بعد قسم ماله رجع على الغرماء بقسطه) وبهذا قال الشافعي وحكي عن مالك وحكي عنه لا يحاصهم لأنه نقض لحكم الحاكم ولنا أنه غريم يقاسمهم لو كان حاضراً، فإذا ظهر بعد ذلك قاسمهم كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله وليس قسم الحاكم ماله حكماً إنما هو قسمه بان الخطأ فيها فأشبه مالو قسم أرضاً بين شركاء ثم ظهر شريك آخر وقسم الميراث ثم ظهر وارث سواه (فصل) ولو أفلس وله دار مستأجرة فانهدمت بعد قبض المفلس الأجرة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة وسقط من الأجرة بقدر ذلك ثم إن وجد عين ماله أخذ منه بقدر ذلك، وإن لم يجده ضرب مع الغرماء بقدره وإن كان ذلك بعد قسم ماله رجع على الغرماء بحصته لأن سبب وجوبه قبل الحجر ولذلك يشاركهم إذا وجب قبل القسمة، ولو باع سلعة وقبض ثمنها ثم أفلس فوجد بها المشتري عيباً فردها به أو ردها بخيار أو اختلاف في الثمن ونحوه ووجد عين ماله أخذها لأن(4/504)
البيع لما انفسخ زال ملك المفلس عن الثمن كزوال ملك المشتري عن المبيع، وإن كان بعد تصرفه فيه شارك المشتري الغرماء.
{مسألة} (وإن بقيت على المفلس بقية وله صنعة فهل يجبر على إيجار نفسه لقضائها على روايتين) (إحداهما) لا يجبر وهو قول مالك والشافعي لقول الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولما روى أبو سعيد أن رجلا أصيب في ثمرة ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تصدقوا عليه " فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم ولأنه تكسب للمال فلم يجبر عليه كقبول الهبة والصدقة، وكما لا تجبر المرأة على التزويج لتأخذ المهر.
(والثانية) يجبر على الكسب وهو قول عمر بن عبد العزيز وسوار والعنبري واسحاق لما روي(4/505)
أن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقاً في دينه وكان سرق دخل المدينة وذكر أن وراءه مالاً فداينه الناس
فركبته ديون ولم يكن وراءه مال فسماه سرقاً وباعه بخمسة أبعرة.
رواه الدرا قطني بمعناه من رواية خلد بن مسلم الربحي إلا أن فيه كلاماً والحر لا يباع ثبت أنه باع منافعه، ولان المنافع، ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في صحة العقد عليها وتحريم أخذ الزكاة وثبوت الغني بها فكذلك في وفاء الدين منها، ولأن الإجارة عقد معاوضة فجاز إجباره عليه كبيع ماله، ولأنها إجارة لما يملك إجارته فيجبر عليها لوفاء دينه كإجارة أم ولده.
فإن قيل حديث سرق منسوخ لأن الحر لا يباع والبيع وقع على رقبته بدليل أن في الحديث إن الغرماء قالوا لمشتريه ما تصنع به؟ قال اعتقه، قالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه قلنا هذا اثبات فسخ بالاحتمال ولا يجوز، ولم يثبت أن بيع الحر كان جائزاً في شريعتنا وحمل بيعه على بيع منافعه أسهل من حمله على بيع رقبته المحرم، فإن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه كثير في القرآن(4/506)
وفي كلام العرب كقوله تعالى (وأشربوا في قلوبهم العجل واسأل القرية) وغير ذلك، وكذلك قوله أعتقه أي من حقي عليه يدل على ذلك قوله فأعتقوه يعني الغرماء وهم لا يملكون إلا الدين الذي عليه، وأما قوله تعالى (فنظرة إلى ميسرة) فيمكن منع دخوله تحت عمومها لما ذكرنا من أنه في حكم الأغنياء في حرمان الزكاة وسقوط نفقته عن قريبه ووجوب نفقة قريبه عليه، وحديثهم قضية عين لا يثبت حكمها إلا في مثلها ولم يثبت أن لذلك الغريم كسا يفضل عن قدر نفقته.
أما قبول الهدية والصدقة فمضرة تأباها قلوب ذوي المروءات لما فيها من المنة.
فعلى هذا لا يجبر على الكسب إلا من كسبه يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لما تقدم.
(فصل) ولا يجبر على قبول صدقة، ولا هدية، ولا وصية، ولا قرض، ولا المرأة على التزويج ليأخذ مهرها لأن في ذلك ضرراً للحوق المنة في الهدية والصدقة والوصية والعوض في القرض وتملك الزوج للمرأة في النكاح وجوب حقوقه عليها، ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فالخيار بحاله ولا يجبر على ما فيه الحظ من الرد والإمضاء لأن الفلس يمنعه من إحداث عقد أما من امضائه وتنفيذ عقود فلا (فصل) وإن جنى على المفلس جناية توجب المال ثبت وتعلقت حقوق الغرماء به ولا يصح عفوه فإن كانت موجبة للقصاص فهو مخير بين القصاص والعفو ولا يجبر على العفو على مال لأن ذلك يفوت
القصاص الذي يجب لمصلحة الزحر، فإن اقتص لم يجب للغرماء شئ، وإن عفا على مال ثبت وتعلق به حقوق الغرماء، وإن عفا مطلقاً انبنى على الروايتين في موجب العمد إن قلنا القصاص خاصة لم يثبت شئ، وإن قلنا أحد أمرين ثبتت الدية أو تعلقت بها حقوق الغرماء، وإن عفا على غير مال وقلنا القصاص هو الواجب عيناً لم يثبت شئ، وإن قلنا أحد الامرين يثبت الدية ولم يصح إسقاطه لأن عفوه عن القصاص يثبت له الدية ولا يصح إسقاطها، وإن وهب هبة بشرط الثواب ثم أفلس فبذل له الثواب لزمه قبوله ولم يكن له إسقاطه لأنه أخذه على سبيل العوض عن الموهوب كالثمن في المبيع وليس له إسقاط شئ من ثمن مبيع أو أجرة إجارة ولاقبض ردئ، ولاقبض المسلم فيه دون صفاته إلا بإذن غرمائه ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا(4/507)
{مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكم حاكم) لأنه ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه كالمحجور عليه لسفه، وفيه وجه آخر أنه يزول بقسمة ماله لأنه حجر عليه لأجله فإذا زال ملكه عنه زال سبب الحجر فزال الحجر كزوال حجر المجنون لزوال جنونه والأول أولى وفارق الجنون فإنه يثبت بنفسه فزال بزواله بخلاف هذا ولأن فراغ ماله يحتاج إلى معرفة وبحث فوقف ذلك على الحاكم بخلاف الجنون (فصل) وإذا فك الحجر عنه فليس لأحد مطالبته وملازمته حتى يملك مالاً، فإن جاء الغرماء عقيب فك الحجر عنه فادعوا أن له مالاً لم يقبل الا ببينة، فإن جاءوا بعد مدة فادعوا أن في يده مالا أو ادعوا ذلك عقيب فك الحجر عنه وبينوا سببه أحضره الحاكم وسأله، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه لأنه ما فك الحجر عنه حتى لم يبق له شئ، وإن أقر وقال هو لفلان وأنا وكيله أو مضاربة وكان المقر له حاضراً سأله الحاكم فإن صدقه فهو له ويستحلفه الحاكم لجواز أن يكونا تواطآ على ذلك ليدفع المطالبة عن المفلس.
وإن لم يصدقه عرفنا كذب المفلس فيصير كأنه أقر أن المال له فيعاد الحجر عليه إن طلب الغرماء ذلك، فإن أقر لغائب أقر في يديه حتى يحضر الغائب ثم يسأل كما حكمنا في الحاضر
{مسألة} (ومتى فك عنه الحجر فلزمته ديون وظهر له مال فحجر عليه شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني) إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم والآخرين يضربون بجميعها، وبهذا قال الشافعي وقال مالك: لايدخل غرماء الحجر الأول على هؤلاء الذين تجددت حقوقهم حتى يستوفوا إلا أن يكون له فائدة من ميراث أو يجني عليه جناية فيتحاص الغرماء فيه.
ولنا أنهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمته فتساووا في الاستحقاق كالذين ثبتت حقوقهم في حجر واحد وكتساويهم في الميراث وأرش الجناية، ولأن كسبه مال له فتساووا فيه كالميراث {مسألة} (وإن كان للمفلس حق له به شاهد فأبى أن يحلف معه لم يكن لغرمائه أن يحلفوا) المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقه له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء وإن امتنع لم يجبر لأنا لا نعلم صدق الشاهد، ولو ثبت الحق بشهادته لم يحتج إلى يمين معه(4/508)
فلا نجبره على مالا نعلم صدقه كغيره فان قال الغرماء نحن نحلف مع الشاهد لم يكن لهم ذلك وبهذا قال الشافعي في الجديد، وقال في القديم يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم، ولنا أنهم يثبتون ملكاً لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز لهم ذلك كالمرأة تحلف لإثبات ملك زوجها لتتعلق نفقتها به وكالورثة قبل موت موروثهم وفارق ما بعد الموت فإن المال انتقل إليهم فهم يثبتون بأيمانهم ملكا لا نفسهم.
{فصل} قال رحمه الله (الحكم الرابع انقطاع المطالبة عن المفلس فمن أقرضه شيئاً أو باعه إياه لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه) إذا تصرف المحجور عليه في ذمته بشراء أو افتراض صح لأنه أهل للتصرف والحجر إنما تعلق بماله وقد ذكرناه وليس للبائع ولا للمقرض مطالبته في حال الحج لأن حق الغرماء تعلق بعين ماله الموجود حال الحجر وبما يحدث له من المال فقدموا على غيرهم ممن لم يتعلق حقه بعين المال كتقديم حق المرتهن بثمن الرهن، وتقديم حق المجني عليه بثمن العبد الجاني فلا يشارك أصحاب
هذه الديون الغرماء لما ذكرنا، ولأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك ومن لم يعلم فهو مفرط ويتبعونه بعد فك الحجر عنه كما لو أقر لإنسان بمال بعد الحجر عليه وفي إقراره خلاف ذكرناه فيما مضى فإن وجد البائع والمقرض أعيان أموالهما فهل لهم الرجوع فيها؟ على وجهين (أحدهما) لهما ذلك للخبر (والثاني) لافسخ لهما لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة فأشبه من اشترى معيباً يعلم عيبه وقد ذكرنا ذلك {فصل} قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثاني المحجور عليه لحظه وهو الصبي والمجنون والسفيه) الحجر على هؤلاء الثلاثة حجر عام لأنهم يمنعون التصرف في أموالهم وذممهم والأصل في الحجر عليهم قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (وابتلوا اليتامى) الآية قال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم عندك لا تؤته إياه وانفق عليه وإنما أضاف الأموال إلى الأولياء وهي لغيرهم لأنهم قوامها، ومدبروها، وقوله (وابتلوا اليتامى) اختبروهم في حفظهم لاموالهم {مسألة} (فلا يصح تصرفهم قبل الإذن) لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم وفيه ضرر عليهم {مسألة} (ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقياً) لأنه عين ماله وتصرفهم فاسد فإن أتلفه واحد منهم فهو من ضمان مالكه، وكذلك إن تلف(4/509)
في يده لأنه سلطه عليه برضاه وسواء علم بالحجر على السفيه أو لم يعلم لأنه إن علم فقد فرط وإن لم يعلم فهو مفرط أيضاً إذ كان في مظنة الشهرة هذا إذا كان صاحبه قد سلطه عليه، فأما إن حصل في يده باختيار صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية فاختار القاضي أنه يلزمه الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه إن كان سفيها لأنه أتلفه بغير اختيار صاحبه فأشبه مالو كان القبض بغير اختياره، ويحتمل أن لا يضمن لأنه عرضها لا تلافه وسلطه عليها فأشبه المبيع أما ما أخذه بغير اختيار المالك كالغصب والجناية فعليه ضمانه لأنه لا تفريط من المالك وكذلك الحكم في الصبي والمجنون فإن أودع عند الصبي والمجنون أو أعارهما فلا ضمان عليهما فيما تلف بتفريطهما لأنهما ليسا من أهل الحفظ، وإن أتلفاه ففيه وجهان نذكرهما في الوديعة {مسألة} (ومتى عقل المجنون وبلغ الصبي ورشدا انفك الحجر عنهما بغير حكم حاكم ودفع
إليهما ما لهما ولا ينفك قبل ذلك بحال) إذا عقل المجنون ورشد انفك الحجر عنه ولايحتاج إلى حكم حاكم بغير خلاف وكذلك الصبي إذا بلغ ورشد وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لا يزول إلا بحكم حاكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه موضع اجتهاد ونظر فإنه يحتاج في معرفة البلوغ والرشد إلى اجتهاد فيوقف ذلك على حكم حاكم كزوال الحجر عن السفيه.
ولنا قوله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) أمر بدفع أموالهم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد فاشتراط حكم الحاكم زيادة تمنع الدفع عند وجود ذلك حتى يحكم الحاكم وهذا مخالف لظاهر النص، ولأنه حجر ثبت بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه كالحجر على المجنون ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لماله عليه فمتى بلغ ورشد زال الحجر لزوال سببه، السفيه لنا فيه منع، فعلى هذا الحجر منقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حكم الحاكم وهو الحجر للجنون، وقسم لا يزول إلا بحكم حاكم وهو الحجر للسفه، وقسم فيه الخلاف وهو الحجر على الصبي(4/510)
(فصل) ومتى انفك الحجر عنهما دفع إليهما مالهما لقول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فقال ابن المنذر اتفقوا على ذلك ولأن منعه من التصرف إنما كان لعجزه عن التصرف حفظاً لماله فإذا صار أهلاً للتصرف زال الحجر لزوال سببه (فصل) ولا ينفك عنه الحجر ولا يدفع إليه ماله قبل البلوغ والرشد، ولو صار شيخاً وهو قول الأكثرين قال إبن المنذر أكثر علماء الأمصار من أهل العراق والحجاز والشام ومصر يرون الحجر على كل مضيع لماله صغيرا كان أو كبيراً وبه قال القاسم بن محمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وروى الجوزجاني في كتابه قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوز له أمر في ماله دونه لضعف عقله قال ابن إسحاق رأيته شيخاً يخضب وقد جاء إلى القاسم بن محمد فقال يا أبا محمد ادفع إلي مالي فإنه لا يولي على مثلي فقال.
إنك فاسد فقال امرأته طالق البتة وكل مملوك له حر إن لم تدفع إلي مالي، فقال القاسم بن محمد وما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه فبعث إلى امرأته وقال: هي حرة مسلمة وما كنت لأحبسها عليك وقد فهت بطلاقها فأرسل إليها
فأخبرها ذلك وقال أما رقيقك فلا عتق لك ولا كرامة فحبس رقيقه.
وقال ابن إسحاق ما كان يعاب على الرجل إلا سفهه وقال أبو حنيفة لا يدفع ماله إليه قبل خمس وعشرين سنة، وإن تصرف نفذ تصرفه فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فك الحجر عنه ودفع إليه ماله لقول الله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) وهذا قد بلغ أشده ويصلح أن يكون جداً ولأنه حر بالغ عاقل مكلف فلا يحجر عليه كالرشيد ولنا قول الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) أي أموالهم وقوله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) علق الدفع على شرطين والحكم المعلق على شرطين لا يثبت بدونهما وقال تعالى (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه ولأنه مبذر فلم يجز دفع ماله إليه كمن له دون ذلك، وأما الآية التي احتجوا بها فإنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به ثم هي مخصصة فيما قبل(4/511)
خمس وعشرين بالإجماع لعلة السفه وهو موجود بعد خمس وعشرين فيجب أن يخص به أيضاً كما أنها لما خصصت في حق المجنون لجنونه فيما قبل خمس وعشرين خصصت بعدها، وما ذكرنا من المنطوق أولى مما يستدل به من المفهوم المخصص وقوله أنه صار يصلح جداً لا معنى تحته يقتضي الحكم ولا له أصل يشهد له في الشرع فهو اثباب للحكم بالتحكم ثم هو متصور ممن هو دون هذا السن فإن المرأة تكون جدة لاحدى وعشرين سنة وقياسهم منتقض بمن له دون خمس وعشرين سنة فما أوجب الحجر قبلها يوجبه بعدها، إذا ثبت هذا فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره، وقال أبو حنيفة يصح بيعه وإقراره لأن البالغ عنده لا يحجر عليه وإنما لم يسلم إليه للآية ولنا أنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلم يصح تصرفه وإقراره كالصبي والمجنون ولأنه إذا نفذ تصرفه وإقراره تلف ماله ولم يفد منعه من ماله شيئاً ولأن تصرفه لو كان نافذا لسلم إليه ماله كالرشيد فإنه إنما منع ماله حفظاً له فإذا لم يحفظ بالمنع وجب تسليمه إليه بحكم الاصل {مسألة} (والبلوغ يحصل بالاحتلام وبلوغ خمس عشرة سنة ونبات الشعر الخشن حول القبل،
وتزيد الجارية بالحيض والحمل) يثبت البلوغ في حق الجارية والغلام بأحد الأشياء الثلاثة المذكورة وهي: خروج المني من القبل وهو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد كيفما خرج في يقظة أو منام بجماع أو احتلام أو غير ذلك يحصل به البلوغ لا نعلم فيه خلافاً لقول الله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) وقوله (والذين لم يبلغو الحلم منكم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حيت يحتلم " رواه أبو داود، وقال ابن المنذر اجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل، وعلى المرأة بظهور الحيض منها (الثاني) السن وهو بلوغ خمس عشرة سنة في حق الغلام والجارية وبهذا قال الأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وقال داود لأحد للبلوغ من السن لقوله عليه السلام " رفع القلم عن(4/512)
ثلاث عن الصبي حتى يحتلم " واثبات البلوغ لغيره يخالف الخبر وهذا قول مالك، وقال أصحابه سبع عشرة أو ثماني عشرة، وعن أبي حنيفة في الغلام روايتان (إحداهما) سبع عشرة (والثاني) ثماني عشرة والجارية سبع عشرة بكل حال لأن الحد لا يثبت إلا بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف فيما دون هذا ولا اتفاق.
ولنا أن ابن عمر قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني متفق عليه، وفي لفظ عرضت عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني فأخبر بهذا عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عماله أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة رواه الشافعي في مسنده والترمذي وقال حديث حسن صحيح، ولأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الجارية والغلام فاستويا فيه كالإنزال وما احتج به مالك وداود لايمنع اثبات البلوغ بغير الاحتلام إذا ثبت بالدليل ولهذا كان انبات الشعر علماً عليه (الثالث) نبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل وفرج المرأة، فأما الزغب الضعيف فلا اعتبار به فإنه يثبت في حق الصغير وبهذا قال مالك والشافعي في قول وقال في الآخر هو بلوغ في حق المشركين وهل هو بلوغ في حق المسلمين؟ فيه قولان، وقال أبو حنيفة لااعتبار به لأنه نبات شعر أشبه سائر شعر البدن
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة حكم بأن يقتل مقاتلتهم ويسبى ذراريهم فأمر بأن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت الحقوه بالذرية.
قال عطية القرظي عرضت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر النبي صلى الله عليه وسلم إن ينظر إلي هل أنبت بعد؟(4/513)
فنظروا إلي فلم يجدوني أنبت بعد فالحقني بالذرية.
متفق على معناه، وكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي، وروى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاماً من الأنصار شبب بامرأة في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال.
لو أنبت لحددتك، ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام، ولأن الخارج ضربان متصل ومنفصل، فلما كان من المنفصل ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل وما كان بلوغاً في حق المشرك كان بلوغاً في حق المسلم كالاحتلام والسن {فصل} والحيض علم على البلوغ في حق الجارية لا نعلم فيه خلافاً، وقد دل ذلك عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " رواه الترمذي وقال حديث حسن، وكذلك الحمل يحصل به البلوغ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولد إنما يخلق من ماء الرجل وماء المرأة، قال الله تعالى (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث، فعلى هذا يحكم ببلوغها في الوقت الذي حملت فيه (فصل) إذا وجد خروج المني من الخنثى المشكل فهو علم على بلوغه وكونه رجلا، وإن خرج من فرجه أو حاض كان علما على بلوغه وكونه امرأة.
وقال القاضي: ليس واحد منهما علما على البلوغ فإن اجتمعا فقد بلغ وهو مذهب الشافعي لجواز أن يكون الفرج الذي خرج ذلك منه خلقة زائدة.
ولنا أن خروج البول من أحد الفرجين دليل على ذكوريته أو أنوثيته فخروج المني والحيض أولى(4/514)
وإذا ثبت كونه رجلاً خرج المني من ذكره، أو امرأة خرج الحيض من فرجها لزم وجود البلوغ، ولأن خروج مني الرجل من المرأة أو الحيض من الرجل مستحيل فكان دليلا على التعيين، وإذا ثبت
التعيين لزم كونه دليلاً على البلوغ كما لو تعين قبل خروجه، ولأنهم سلموا أن خروجهما معاً دليل عليه فخروج أحدهما منفرداً أولى لأن خروجهما معاً يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما إذ لا يتصور أن يجتمع حيض صحيح ومني رجل فلزم أن يكون أحدهما فضلة خارجه من غير محلها، وليس أحدهما أولى بذلك من الآخر فتبطل دلالتهما كالبينتين إذا تعارضتا وكالبول إذا خرج من المخرجين جميعاً بخلاف ما إذا وجد أحدهما منفرداً فإن الله تعالى أجرى العادة بأن الحيض يخرج من فرج المرأة عند بلوغها ومني الرجل يخرج من ذكره عند بلوغه، فإذا وجد ذلك من غير معارض وجب أن يثبت حكمه ويقضي بثبوت دلالته كالحكم بكونه رجلا بخروج البول من ذكره وبكونه أنثى بخروجه من فرجها والحكم للغلام بالبلوغ بخروج المني من ذكره وللجارية بخروج الحيض من فرجها، فعلى هذا إذا خرجا جميعاً لم يثبت كونه رجلا ولا امرأة، وهل يثبت البلوغ بذلك؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت وهو اختيار القاضي ومذهب الشافعي لأنه إن كان رجلا فقد خرج المني من ذكره، وإن كان أنثى فقد حاضت (والثاني) لا يثبت لأن هذا يجوز أن لا يكون حيضاً ولا منياً فلا يكون فيه دلالة وقد دل على ذلك تعارضهما فانتفت دلالتهما على البلوغ كانتفاء دلالتهما على الذكورية والأنوثية {مسألة} (والرشد الصلاح في المال) وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة، وقال الحسن والشافعي وابن المنذر.
الرشد الصلاح في الدين والمال لأن الفاسق غير رشيد، ولأن افساد دينه يمنع الثقة به في حفظ(4/515)
ماله كما يمنع قبول قوله وثبوت الولاية على غيره وإن لم يعرف منه كذب ولا تبذير.
ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال ابن عباس: يعني صلاحا في أموالهم، وقال مجاهد إذا كان عاقلا، ولأن هذا اثبات في نكره ومن كان مصلحا لما له فقد وجد منه رشد، ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، ولأن هذا مصلح لما له فأشبه العدل يحققه أن الحجر عليه إنما كان لحفظ ماله عليه والمؤثر فيه ما أثر في تضييع المال أو حفظه قولهم ان الفاسق غير رشيد قلنا هو غير رشيد في دينه، أما في ماله وحفظه فهو رشيد ثم هو منتقض
بالكافر فإنه غير رشيد في دينه ولا يحجر عليه لذلك، ولا يلزم من منع قبول القول منه دفع ماله إليه، فإن من عرف بكثرة الغلط والنسيان أو من يأكل في السوق ويمد رجليه في مجمع الناس لا تقبل شهادتهم وتدفع أموالهم إليهم {مسألة} (ولا يدفع ماله إليه حتى يختبر) لأنه إنما يعرف رشده باختياره لقول الله تعالى (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه، فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحة فإن صرفها في مصارفها ومواقعها واستوفى على وكيله فيما وكله واستقصى عليه دل على رشده، والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات وتوكيلها في شراء الكتان وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيدة(4/516)
{مسألة} (وأن يحفظ ما في يده عن صرفه فيما لا فائدة فيه) كالغناء والقمار وشراء المحرمات، وشراء آلات اللهو والخمر وأن يتوصل به إلى الفساد فهذا غير رشيد لأنه تبذير لماله وتضييعه فيما لا فائدة فيه، فإن كان فسقه بالكذب والتهاون بالصلاة مع حفظه لماله لم يمنع ذلك من دفع ماله إليه لما ذكرنا {مسألة} (وعنه لا يدفع إلى الجارية مالها بعد رشدها حتى تتزوج وتلد أو تقيم في بيت الزوج سنة) المشهور في المذهب أن الجارية إذا بلغت ورشدت دفع إليها مالها كالغلام وزال الحجر عنها وإن لم تتزوج وهذا قول عطاء والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، ونقل أبو طالب عن أحمد أن الجارية لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج وتلد أو تقيم سنة في بيت الزوج، روى ذلك عن عمر وبه قال شريح والشبعي واسحاق لما روي عن شريح أنه قال.
عهد إلى عمر بن الخطاب أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد.
رواه سعيد في سننه ولا يعرف له مخالف فصار إجماعاً، وقال مالك لا يدفع إليها مالها حتى تتزوج ويدخل عليها زوجها لأن كل حالة جاز للأب
تزويجها من غير إذنها لم ينفك عنها الحجر كالصغيرة ولنا عموم قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ولأنها يتيم بلغ وأنس منه الرشد فيدفع إليه ماله كالرجل، ولأنها بالغة رشيدة فجاز لها التصرف في مالها كالتي دخل بها الزوج، وحديث عمر إن صح فلم نعلم انتشاره في الصحابة فلا يترك به الكتاب والقياس، وعلى أن حديث عمر مختص بمنع العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات ومالك لم يعلم به وإنما اعتمد على إجبار الأب لها على النكاح ولنا أن نمنعه وإن سلمناه فإنما أجبرها على النكاح لأن اختبارها للنكاح ومصالحة لا يعلم إلا بمباشرته(4/517)
والبيع والشراء والمعاملات ممكنة قبل النكاح، وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوج أصلا احتمل أن يدوم الحجر عليها عملا بعموم حديث عمر ولأنه لم يوجد شرط دفع مالها إليها فلم يجز دفعه إليها كما لو لم ترشد وقال القاضي عندي أنه يدفع إليها مالها إذا عنست وبرزت للرجال يعني كبرت {مسألة} (وقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين) وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الله تعالى قال (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منها رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فظاهر الآية أن ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين (أحدهما) أنه سماهم يتامى وإنما يكونون يتامى قبل البلوغ (الثاني) أنه مد اختبارهم إلى البلوغ بلفظة حتى فيدل على أن الاختبار قبله، ولأن تأخير الاختبار إلى البلوغ مؤد إلى الحجر على البالغ الرشيد لأن الحجر يمتد إلى أن يختبر ويعلم رشده واختباره قبل البلوغ يمنع ذلك فكان أولى، لكن لا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء والمصلحة من المفسدة، وإذا أذن له وليه فتصرفه على ما نذكره، وعنه ان اختباره بعد البلوغ أومأ إليه أحمد لأن تصرفه قبل ذلك تصرف ممن لم يوجد فيه مظنة العقل ولأصحاب الشافعي نحو هذا الوجه {فصل} قال رضي الله عنه (ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب) لأنها ولاية على الصغير فقدم فيها الأب كولاية النكاح ثم وصيته بعده لأنه نائبه أشبه وكيله في الحياة ثم للحاكم لأن الولاية
انقطعت من جهة القرابة فتثبت للحاكم كولاية النكاح ومذهب أبي حنيفة والشافعي أن الجد يقوم مقام الأب في الولاية لأنه أب ولنا أن الجد لا يدلي بنفسه وإنما يدلي بالأب الأدنى فلم يل مال الصغير كالأخ ولأن الأب يسقط الاخوة بخلاف الجد وترث الأم معه ثلث الباقي في زوج وأم وأب وزوجة وأم أب بخلاف الجد فلا(4/518)
يصح قياسه عليه فأما من سواهم فلا يثبت لهم ولاية لأن المال محل الجناية ومن سواهم قاصر النفقة غير مأمون على المال فلم يله كالأجنبي، ومن شرط ثبوت الولاية على المال العدالة بغير خلاف لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعاً للمال فلم يجز كتفويضها إلى السفية، وكذلك الحكم في السفيه إذا حجر عليه صغيراً واستدام الحجر عليه بعد البلوغ {مسألة} (وليس لوليهما التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما وما لاحظ فيه ليس له التصرف به كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة) لقول الله سبحانه وتعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) وقوله عليه الصلاة والسلام " لاضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد وهذا فيه اضرار فإن فعل شيئاً من ذلك أو زاد على النفقة عليهما أو على من تلزمهما مؤنته بالمعروف ضمن لانه مفرط فضمن كتصرفه في مال غيرهما {مسألة} (ولايجوز أن يشتري من مالهما شيئاً لنفسه ولا يبيعهما إلا الأب لأنه غير متهم عليه لكمال شفقته) وبه قال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي والشافعي وزادوا الجد وقال زفر لا يجوز لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد ولايجوز أن يتعلق به حكمان متضادان، ولنا أن هذا يلي بنفسه فجاز أن يتولى طرفي العقد كالسيد يزوج عبده أمته ولا نسلم ما ذكره من تعلق حقوق العقد بالعاقد، فأما الجد فلا ولاية له على ما ذكرناه فهو كالأجنبي ولأن التهمة بين الأب وولده منتفية إذ من طبعه الشفقة عليه والميل إليه وترك حظ نفسه لحظه، وبهذا فارق الوصي والحكم وأمينه، فأما الحاكم والوصي فلا يجوز لهما ذلك لأنهما متهمان في طلب الحظ لانفسهما فلم يجز ذلك لهما بخلاف الأب
{مسألة} (ولوليهما مكاتبة رقيقهما وعتقه على مال)(4/519)
إذا كان الحظ فيه مثل أن تكون قيمته ألفاً فكاتبه بألفين أو يعتقه بهما فإن لم يكن فيها حظ لم يصح، وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز إعتاقه لأن الإعتاق بمال تعليق له على شرط فلم يملكه ولي اليتيم كالتعليق على دخول الدار، وقال الشافعي لا يجوز كتابته ولا إعتاقه لأن المقصود منهما العتق دون المعاوضة فلم يجز كالإعتاق بغير عوض ولنا أنها معاوضة لليتيم فيها حظ فملكها وليه كبيعة ولا عبرة بنفع العبد ولا يضره كونه تعليقاً فإنه إذا حصل لليتيم حظ لم يضره نفع غيره ولا كون العتق حصل بالتعليق وفارق ما قاسوا عليه فإنه لا نفع فيه لعدم الحظ وانتفاء المقتضي لا لما ذكروه ولو قدر أن يكون في العتق بغير مال نفع كان نادراً وإن كان العتق على مال بقدر قيمته أو أقل لم يجز لعدم الحظ فيه، وقال أبو بكر يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ فيه مثل أن تكون له جارية وابنتها يساويان مائة مجتمعتين ولو أفردت إحداهما ساوت مائتين ولا يمكن إفرادها بالبيع فيعتق الأخرى لتكثر قيمة الباقية فتصير ضعف قيمتيهما {مسألة} (وله تزويج إمائهما) إذا وجب تزويجهن بأن يطلبن ذلك أو يرى المصلحة فيه لأنه ولي عليهن وقائم مقام ما لكهن فكان له تزوجيهن كالمالك.
{مسألة} (وله السفر بمالهما للتجارة فيه والمضاربة بمال اليتيم والمجنون وله أن يدفعه مضاربة بجزء من الربح) أبا كان أو وصيا أو حاكماً أو أمين حاكم وهو أولى من تركه، وممن رأى ذلك ابن عمر والنخعي والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأبو ثور ويروى إباحة التجارة به عن عمر وعائشة والضحاك ولا نعلم احدا كرهه الا الحسن ولعله أراد اجتناب المخاطرة به ورأى خزنه أحفظ له وهو قول الجمهور لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ولي يتيماً له مال(4/520)
فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " وروي موقوفاً على عمر وهو أصح من المرفوع ولأن
ذلك أحفظ للمولي عليه لتكون نفقته من فاضله وربحه كما يفعله البالغون في أموالهم إلا أنه لا يتجر إلا في المواضع الآمنة ولا يدفعه إلا إلى الأمناء ولا يغرر به، وقد روي عن عائشة أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر في البحر فيحتمل أنه كان في موضع مأمون قريب من الساحل، ويحتمل أنها جعلت ضمانه عليها ان هلك {مسألة} (والربح كله لليتيم) يعني إذا اتجر بنفسه وأجاز الحسن بن صالح واسحاق أن يأخذ الوصي مضاربة لنفسه لأنه جاز له أن يدفعه بذلك فجاز أن يأخذه بذلك له، ويتخرج لنا مثل ذلك كما قلنا في الشريك إذا فعل بنفسه ما يجوز له الإجارة عليه فإنه يستحق الأجرة في أحد الوجهين كذلك هذا وبه قال أبو حنيفة، والصحيح ما قلناه لأن الربح نماء مال اليتيم فلا يستحقه غيره إلا بعقد ولا يجوز أن يعقد الولي المضاربة لنفسه {مسألة} (فأما إن دفعه إلى غيره فللمضارب ما جعل له الولي) ووافقه عليه في قولهم جميعاً لأن الوصي نائب عن اليتيم فيما فيه مصلحته، وهذا فيه مصلحته فأشبه تصرف المالك في ماله.
(فصل) وله ابضاع ماله وهو دفعه إلى من يتجر به والربح كله لليتيم لأنه إذا جاز دفعه بجزء من ربحه فدفعه إلى من يوفر الربح أولى {مسألة} (ويجوز له بيعه نساء إذا كان له الحظ في ذلك) فإنه قد يكون أكثر ثمناً وأنفع لكن يحتاط على الثمن بأن يأخذ به رهناً أو كفيلاً موثوقاً يتحفظ الثمن به {مسألة} (وله قرضه برهن)(4/521)
إذا لم يكن في قرض مال اليتيم حظ له لم يجز، وإن كان في قرضه حظ لليتيم جاز.
قال أحمد لا تقرض مال اليتيم لأحد تريد مكافأته ومودته.
ويقرض على النظر والشفقة كما صنع ابن عمر وقيل لأحمد ابن عمر اقترض مال اليتيم قال: انما استقرض نظراً لليتيم واحتياطاً إن أصابه شئ غرمه.
قال القاضي
ومعنى الحظ أن يكون للصبي مال في بلد فيريد نقله الى بلد آخر فيقرضه من رجل في ذلك البلد ليقضيه بدله في بلده يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق أو غيرهما أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو حديثه خير من قديمه كالحنطة ونحوها فيقرضه خوفاً من السوس أو تنقص قيمته، وأشباه هذا فيجوز القرض لأن لليتيم فيه حظاً فجاز كالتجارة به، وإن لم يكن فيه حظ لم يجز لأنه تبرع بمال اليتيم فلم يجز كهبته، وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله، فإن أراد أن يودع مال اليتيم فقرضه لثقة أولى من ذلك لأن الوديعة لا تضمن فان لم يجد ثقة يستقرضه فله إيداعه لأنه موضع حاجة، وإن أودعه مع إمكان قرضه جاز ولا ضمان عليه لانه ربما رأى الإيداع أولى من القرض فلا يكون مفرطاً وكل موضع قلنا له قرضه فلا يجوز إلا لملئ أمين ليأمن جحوده وتعذر الإيفاء وينبغي أن يأخذ رهناً إن أمكنه فإن تعذر عليه أخذ الرهن جاز تركه في ظاهر كلام أحمد لأن الظاهر أن من يستقرضه لحظ اليتيم لا يبذل رهناً فاشتراط الرهن يفوت هذا الحظ، وظاهر كلام شيخنا في هذا الكتاب المشروح أنه لا يجوز وكذلك ذكره أبو الخطاب لأن فيه احتياطاً للمال، فإن تركه احتمل أن يضمن إن ضاع المال لتفريطه واحتمل أن لا يضمن لأن الظاهر سلامته وهذا ظاهر كلام أحمد لكونه لم يذكر الرهن (فصل) قال أبو بكر هل يجوز للوصي أن يستنيب فيما يتولى مثله بنفسه؟ على روايتين بناء على الوكيل، وقال القاضي يجوز ذلك للوصي، وفي الوكيل روايتان وفرق بينهما بأن الوكيل يمكنه الاستئذان والوصي بخلافه.(4/522)
{مسألة} (وله شراء العقار لهما وبناؤه بما جرت عادة أهل بلده به) إذا رأى المصلحة في ذلك كله لأنه مصلحة له فإنه يحصل له الفضل ويبقى الأصل والغرر فيه أقل من التجارة لأن أصله محفوظ (فصل) ويجوز أن يبني لهما عقاراً لأنه في معنى الشراء أحظ وهو ممكن فيتعين تقديمه وإذا أراد بناء هـ بناه بما يرى الحظ فيه مما جرت عادة أهل البلد به وقال أصحابنا يبنيه بالآجر والطين لايبني
باللبن لأنه إذا هدم لا مرجوع له ولا بجص لأنه يلتصق بالآجر فلا يخلص منه فإذا انهدم فسد الآجر لأن تخليصه منه يفضي إلى كسره وهذا مذهب الشافعي والذي قلناه أولى إن شاء الله فإنه إذا كان الحظ له في البناء بغيره فتركه ضيع حظه وماله ولايجوز تضييع الحظ العاجل وتحمل الضرر الناجز المتيقن لتوهم مصلحة بقاء الآجر عند هدم البناء ولعل ذلك لا يكون في حياته ولا يحتاج إليه مع أن كثيراً من البلدان لا يوجد فيها الآجر وكثير منها لم تجر عادتهم بالبناء به فلو كلفوا البناء به لاحتاجوا إلى غرامه كثيرة لا يحصل منها طائل، فعلى هذا يحمل قول أصحابنا على من عادتهم البناء بالآجر كالعراق ونحوها ولا يصح حمله في حق غيرهم وإنما يفعل ما ذكرنا من الشراء والبناء إذا رأى المصلحة فيه والحظ لهما {مسألة} (وله شراء الأضحية لليتيم الموسر) نص عليه إذا كان له مال كثير لا يتضرر بشرائها فيكون ذلك على وجه التوسعة في النفقة في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرج وفيه جبر قلبه وإلحاقه بمن له أب فينزل منزلة الثياب الحسنة وشراء اللحم سيما مع استحباب التوسعة في هذا اليوم وجري العادة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنها أيام أكل وشرب وذكر الله عزوجل " رواه مسلم وهذا قول أبي حنيفة ومالك قال مالك إذا كان له ثلاثون ديناراً يضحي عنه بالشاة بنصف دينار.
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى لا يجوز وهو مذهب الشافعي(4/523)
لانه اخراج شئ من ماله بغير عوض فلم يجز كالهدية.
قال شيخنا: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان الطفل لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا ينكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر بتركها لحصول الفائدة فيها، وعلى كل حال من ضحى عن اليتيم لم يتصدق بشئ منها ويوفرها لنفسه لأنه لا تحل الصدقة بشئ من مال اليتيم تطوعاً (فصل) ومتى كان خلط مال اليتيم أرفق به وألين في الجبر وأمكن في حصول الأدم فهو أولى، وإن كان الأفراد أرفق به أفرده لقول الله تعالى (ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم) أي ضيق عليكم وشدد، من
قولهم أعنت فلان فلاناً إذا ضيق عليه وشدد {مسألة} (ويجوز تركه في المكتب وأداء الأجرة عنه بغير إذن الحاكم) وحكي لأحمد قول سفيان: لا يسلم الوصي الصبي إلا بإذن الحاكم فأنكر ذلك، وذلك لان المكتب من مصالحه فجرى مجرى نفقته لمأكوله وملبوسه، وكذلك يجوز أن يسلمه في صناعة إذا كانت مصلحته في ذلك لما ذكرناه {مسألة} (ولا يبيع عقارهم إلا لضرورة أو غبطة وهو أن يزاد في ثمنه الثلث فصاعداً) وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع عقاره لغير حاجة لأننا نأمره بالشراء لما فيه من الحظ فبيعه إذا تفويت للحظ فإن احتيج إلى بيعه جاز قال أحمد يجوز للوصي بيع الدور على الصغار إذا كان أحظ لهم وبه قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي واسحاق قالوا يبيع إذا رأى الصلاح، قال القاضي لا يجوز بيعه(4/524)
الا في موضعين (أحدهما) أن يكون فيه ضرورة إلى كسوة أو نفقة أو قضاء دين أو ما لابد منه وليس له ما تندفع به حاجته (الثاني) أن يكون في بيعه غبطة وهو أن يبذل فيه زيادة كثيرة على ثمن مثله، قال أبو الخطاب كالثلث فما زاد أو يخاف عليه الهلاك بغرق أو خراب أو نحوه وهذا الذي ذكره شيخنا في المقنع وهو قول في مذهب الشافعي وكلام أحمد يقتضي إباحة البيع في كل موضع يكون نظراً لهم ولا يختص بما ذكروه فإن الولي قد يرى الحظ في غير هذا مثل أن يكون في مكان لا ينتفع به أو نفعه قليل فيبيعه ويشتري له في مكان يكثر نفعه أو يرى شيئاً في شرائه غبطه لا يمكنه شراؤه إلا ببيع عقاره وقد تكون داره بمكان يتضرر الغلام بالمقام فيها لسوء الجوار أو غيره فيبيعها ويشتري له بثمنها داراً يصلح له المقام بها وأشباه هذا مما لا ينحصر وقد لا يكون له حظ في بيع عقاره وإن دفع مثلاً ثمنه إما لحاجته إليه وأما لأنه لا يمكن صرف ثمنه في مثله فيضيغ الثمن ولا يبارك فيه فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " من باع داراً أو عقاراً ولم يصرف ثمنه في مثله لم يبارك له فيه " فلا يجوز بيعه إذا فلا معنى لتقييده بما ذكروه في الجواز ولا في المنع بل متى كان الحظ في بيعه جاز ومالا فلا، وهذا اختيار شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى
{مسألة} (وإن وصى لاحدهما بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته لا عسار الموصى له أو غير ذلك وجب على الولي قبول الوصية) لانه مصلحة ليس فيها ضرر، وإن كانت تلزمه نفقته لم يجز له قبولها لما فيه من الضرر بتفويت ماله بالنفقة عليه (فصل) قال رحمه الله (ومن فك عنه الحجر فعاوده السفه أعيد الحجر عليه) وجملة ذلك أن المحجور عليه إذا فك عنه الحجر لرشده وبلوغه ودفع إليه ماله ثم عاد إلى السفه أعيد عليه الحجر وبه(4/525)
قال القاسم بن محمد ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يبتدأ الحجر على بالغ عاقل وتصرفه نافذ، روى ذلك عن ابن سيرين والنخعي لأنه مكلف فلم يحجر عليه كالرشيد.
ولنا ماروى عروة بن الزبير أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فقال علي لآتين عثمان ليحجر عليك فأتى عبد الله بن جعفر الزبير فقال قدابتعت بيعاً وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي فقال الزبير أنا شريكك في البيع، فأتى على عثمان فقال إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه فقال الزبير أنا شريكه في البيع فقال عثمان كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ قال أحمد لم أسمع هذا الا من أبي يوسف القاضي وهذه قضية يشتهر مثلها ولم يخالفها أحد في عصرهم فتكون إجماعاً ولأنه سفيه فحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه إذا بلغ سفيها سفهه وهو موجود ولأن السفه لو قارن البلوغ منع دفع ماله إليه فإذا حدث وجب انتزاع المال كالجنون وفارق الرشيد فإن رشده لو قارن البلوغ لم يمنع دفع ماله إليه، إذا ثبت ذلك فلا يحجر عليه الا الحاكم وبهذا قال الشافعي وقال محمد يصير مجحورا عليه بمجرد تبذيره لأن ذلك سبب الحجر(4/526)
فأشبه الجنون، ولنا أن التبذير يختلف ويختلف فيه ويحتاج إلى الاجتهاد فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم حاكم كالحجر على المفلس وفارق الجنون فإنه لا يفتقر الى الاجهتاد ولا خلاف فيه {مسألة} (ولا ينظر في ماله إلا الحاكم) لأن الحجر عليه يفتقر إلى الحاكم فكذلك النظر في ماله {مسألة} (ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكمه)
يعني إذا رشد احتاج فك الحجر إلى حكم الحاكم وبه قال الشافعي وقيل ينفك بمجرد رشده، قاله أبو الخطاب لأن سبب الحجر زال فيزول بزواله كما في حق الصبي والمجنون، ولنا أنه حجر ثبت بحكم الحاكم فلا يزول إلا بحكمه كالمفلس ولأن الرشد يحتاج إلى تأمل واجتهاد في معرفته وزوال تبذيره فكان كابتداء الحجر عليه وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم الحاكم فيزول بغير حكمه ولا ننا لو وقفنا صحة تصرف الناس على الحاكم كان أكثر الناس محجوراً عليهم، قال أحمد: والشيخ الكبير ينكر عقله يحجر عليه يعني إذا كبر واختل عقله حجر عليه بمنزلة المجنون لأنه يعجز بذلك عن التصرف في ماله على وجه المصلحة وحفظه فأشبه الصبي والمجنون {مسألة} (ويستحب إظهار الحجر عليه وأن يشهد عليه الحاكم ليظهر أمره فيجتنب(4/527)
معاملته وإن رأى أن يأمر منادياً ينادي بذلك ليعرفه الناس فعل ولا يشترط الإشهاد لأنه قد ينتشر أمره لشهرته {مسألة} (ويصح تزويجه بإذن وليه) وبغير إذنه وهو قول أبي حنيفة واختاره القاضي، وقال أبو الخطاب لا يصح بغير إذن وليه وهو قول الشافعي وأبي ثور لأنه تصرف يجب به مال فلم يصح بغير إذن وليه كالشراء، ووجه الأول أنه عقد غير مالي فصح منه كخلعة وطلاقه ان لزم منه المال فحصوله بطريق الضمن فلم يمنع صحة التصرف (فصل) وإن خالع صح خلعة لأنه إذا صح الطلاق ولا يحصل منه شئ فالخلع الذي يحصل به المال أولى إلا أن العوض لا يدفع إليه وإن دفع إليه لم يصح قبضه، وقال القاضي يصح وسنذكر ذلك في باب الخلع فإن قلنا: لا يصح القبض فأتلفه بعد قبضه فلا ضمان عليه ولا تبرأ المرأة بدفعه إليه وهو من ضمانها إن أتلفه أو تلف في يده لأنها سلطته عليه.
{مسألة} وهل يصح عتقه؟ على روايتين (إحداهما) لا يصح وهو قول القاسم بن محمد والشافعي (والثانية) يصح لأنه عتق من مكلف مالك تام الملك فصح كعتق الراهن والمفلس ولنا أنه تصرف في ماله فلم يصح كسائر تصرفاته ولأنه تبرع فأشبه هبته ووقفه ولأنه محجور عليه لحفظ ماله عليه فلم يصح كعتق الصبي والمجنون وفارق المفلس والراهن فإن الحجر عليهما لحق غيرهما وفي
عتقهما خلاف أيضاً قد ذكرناه (فصل) ويصح تدبيره ووصيته لأن ذلك محض مصلحة لأنه تقرب إلى الله تعالى بماله بعد غناه عنه ويصح استيلاده وتعتق الأمة المستولدة بموته لأنه إذا صح ذلك من المجنون فمن السفيه أولى وله المطالبة بالقصاص لانه موضع للتشفي والانتقام وهو من أهله وله العفو على مال لأنه تحصيل للمال لا تضييع له، وإن عفا على غير مال وقلنا الواجب القصاص عيناً صح عفوه لأنه لم يتضمن تضييع المال، وإن قلنا أحد شيئين لم يصح عفوه عن المال ووجب المال كما لو سقط القصاص بعفو أحد الشريكين(4/528)
وإن أحرم بالحج صح لأنه مكلف أشبه غيره ولأنه عبادة فصحت منه كسائر العبادات فإن كان أحرم بفرض دفع إليه النفقة من ماله ليسقط الفرض عن نفسه وإن كان تطوعاً وكانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر دفعت لأنه لاضرر في إحرامه فإن زادت نفقة السفر فقال: أنا أكسب تمام نفقتي دفعت إليه أيضاً لأنه لا يضر بماله وإن لم يكن له كسب فلو ليه تحليله لما في مضيه فيه من تضييع ما له ويتحلل بالصيام كالمعسر لأنه ممنوع من التصرف في ماله، ويحتمل أن لا يملك وليه تحليله بناء على العبد إذا أحرم بغير إذن سيده وإن لزمه كفارة يمين أو ظهار أو قتل أو وطئ في نهار رمضان كفر بالصيام لما ذكرنا وإن أعتق أو أطعم لم يجزه لأنه ممنوع من ماله أشبه المفلس، وبهذا قال الشافعي، ويتخرج أن يجزئه العتق بناء على قولنا بصحة عتقه وإن نذر عبادة بدنية لزمه فعلها لأنه غير محجور عليه في بدنه وإن نذر الصدقة بمال لم يصح منه وكفر بالصيام فإن فك الحجر عنه قبل تكفيره في هذه المواضع لزمه العتق إن قدر عليه ومقتضى قول أصحابنا أنه يلزمه الوفاء بنذره بناء على قولهم فيمن أقر قبل فك الحجر عنه ثم فك الحجر عنه أنه يلزمه أداؤه وإن فك بعد تكفيره لم يلزمه شئ كما لو كفر عن يمينه بالصيام ثم فك الحجر عنه {مسألة} (وإن أقر بحد أو قصاص أو نسب أو طلق زوجته أخذ به) وجملة ذلك أن المحجور عليه لسفه أو فلس إذا أقر بما يوجب حداً أو قصاصاً كالزنا والسرقة
والقذف والقتل والشرب أو قطع اليد وما أشبههما فإنه يصح إقراره ويلزمه حكم ذلك في الحال بغير خلاف علمناه، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل وإن الحدود تقام عليه.
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه غير متهم في حق نفسه والحجر إنما تعلق بماله فقبل إقراره على نفسه بمال يتعلق بالمال وإن طلق زوجته نفذ طلاقه في قول الأكثرين، وقال ابن أبي ليلى لا يقع لأن البضع يجري مجرى المال بدليل أنه يملكه بمال ويصح أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التصرف فيه كالمال(4/529)
ولنا أن الطلاق ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه كالإقرار منه بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجري مجرى المال أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال ولأنه مكلف طلق امرأته مختاراً فوقع طلاقه كالعبد والمكاتب (فصل) وإن أقر بما يوجب القصاص فعفا المقر له على مال احتمل أن يجب المال لأنه عفو عن قصاص ثابت فصح كما لو ثبت بالبينة واحتمل أن لا يصح لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الإقرار بالمال بأن يتواطأ المحجور عليه والمقر له على الإقرار بالقصاص والعفو عنه الى مال ولأنه وجوب مال مستنده إقراره فلم يثبت كالإقرار به ابتداء فعلى هذا القول يسقط القصاص ولا يجب المال في الحال (فصل) وإن أقر بنسب ولد قبل منه لأنه ليس بإقرار بمال ولا تصرف فيه فقبل كإقراره بالحد والطلاق وإذا ثبت النسب لزمته أحكامه من النفقة وغيرها لأن ذلك حصل ضمناً لما صح منه فأشبه نفقة الزوجة.
{مسألة} (قال وإن أقر بمال لم يلزمه.
في حال حجره ويحتمل أن لا يلزمه مطلقاً) إذا أقر السفيه بمال كالدين أو ما يوجبه كجناية الخطأ وشبه العمد وإتلاف المال وغصبه وسرقته لم يقبل إقراره به لأنه محجور عليه لحظه فأشبه الصبي والمجنون ولأنا لو قبلنا اقراره في ماله لزال فائدة الحجر لأنه يتصرف في ماله ثم يقربه فيأخذه المقر له ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه
فلم ينفذ كإقرار الراهن على الرهن والمفلس على المال، وظاهر قول الأصحاب أنه يلزمه ما أقربه بعد فك الحجر عنه، وهو قول أبي ثور واختيار الخرقي لأنه مكلف أقر بما يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بالدين وكإقرار الراهن على الرهن وكإقرار المفلس، ويحتمل أن لا يصح إقراره ولا يؤخذ به في الحكم بحال، وهذا مذهب الشافعي لأنه محجور عليه لعدم رشده فلم يلزمه حكم إقراره بعد فك الحجر عنه كالصبي والمجنون ولا المنع من نفوذ إقراره في الحال إنما ثبت لحفظ ماله عليه ودفع الضرر عنه فلو نفذ بعد فك الحجر عنه لم يفد إلا تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه(4/530)
وفارق المحجور عليه لحق غيره فإن المانع تعلق حق الغرماء بماله فيزول المانع بزوال الحق عن ماله فيثبت مقتضى إقراره وفي مسئلتنا انتفى الحكم لخلل في الإقرار فلم يثبت كونه سبباً وبزوال الحجر لم يكمل السبب فلا يثبت الحكم مع اختلال السبب كما لا يثبت بعد فك الحجر ولأن الحجر لحق الغير فلم يمنع تصرفهم في ذممهم فأمكن تصحيح إقرارهم في ذممهم على وجه لا يضر بغيرهم والحجر ههنا لحظ نفسه من أجل ضعف قلبه وسوء تصرفه ولا يندفع الضرر إلا بإبطال إقراره بالكلية كالصبي والمجنون.
فأما صحته فيما بينه وبين الله تعالى فإن علم صحة ما أقر به كدين لزمه من جناية أو دين لزمه قبل الحجر عليه فعليه أداؤه لانه علم أن عليه حقاً فلزمه أداؤه كما لو لم يقر به، وإن علم فساد إقراره مثل إن علم أنه أقر بدين ولا دين عليه أو بجناية لم توجد منه أو أقر بما لا يلزمه مثل أن أتلف مال من دفعه إليه بقرض أو بيع لم يلزمه أداؤه لأنه يعلم إنه لا دين عليه فلم يلزمه كما لو لم يقر به {مسألة} (وحكم تصرف وليه حكم تصرف ولي الصبي والمجنون على ما ذكرنا من قبل) لأنه محجور عليه لحظه فهو كالصبي والمجنون {مسألة} قال الشيخ رحمه الله (وللولي أن يأكل من مال المولى عليه بقدر عمله إذا احتاج إليه) وإن كان غنياً لم يجز له ذلك إذا لم يكن أبا لقول الله تعالى (فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) وإذا كان فقيراً فله أقل الأمرين أجرته أو قدر كفايته لأنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعاً فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه وقال ابن عقيل يأكل وإن كان غنياً قياساً على العمل في الزكاة والآية
محمولة على الاستحباب والأول أولى لظاهر الآية {مسألة} (وهل يلزمه عوض ذلك إذا أيسر؟ على روايتين) أما إذا كان أبا فلا يلزمه رواية واحدة لأن للأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء مع الحاجة وعدمها وإن كان غير الأب لم يلزمه عوض ذلك في إحدى الروايتين وهذا قول الحسن والنخعي وأحد قولي الشافعي لأن الله تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عوض فأشبه سائر ما أمر بأكله، ولأنه عوض عن عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب (والثانية) يلزمه عوضه وهو قول عبيدة السلماني وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية لأنه استباحة بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره، والأول أصح لأنه لو وجب عليه إذا أيسر لكان واجباً في الذمة قبل اليسار فإن اليسار ليس سبباً للوجوب فاذا لم يجب بالسبب الذي هو الأكل لم يجب بعده وفارق المضطر فإن العوض واجب عليه في ذمته، ولأنه لم يأكله عوضاً عن شئ وهذا بخلافه {مسألة} (وكذلك يخرج في الناظر في الوقف) قياساً عليه {مسألة} (ومتى زال الحجر عنه فادعى على الولي تعدياً أو ما يوجب ضماناً فالقول قول الولي) إذا ادعى الولي الإنفاق على الصبي والمجنون أو على ماله أو عقاره بالمعروف من ماله أو أدعى(4/531)
أنه باع عقاراً لحظه أو بناه لمصلحته أو أنه تلف قبل قوله، وقال أصحاب الشافعي: لا يمضي الحاكم بين الأمين والوصي حتى يثبت عنده الحظ ببينة ولا يقبل قولهما في ذلك ويقبل قول الأب والجد.
ولنا أن من جاز له بيع العقار وشراؤه لليتيم يجب أن يقبل قوله في الحظ كالأب والجد، ولانه يقبل قوله في عدم التفريط فيما تصرف فيه من غير العقار فيقبل قوله في العقار كالأب، وإذا بلغ الصبي فادعى أنه لاحظ له في البيع لم يقبل إلا ببينة، فإن لم تكن بينة فالقول قول الولي مع يمينه، وإن قال الولي أنفقت عليك منذ ثلاث سنين وقال الغلام إنما مات أبي منذ سنتين فقال القاضي القول قول الغلام لأن الأصل حياة والدة واختلافهما في أمر ليس الوصي أميناً فيه فقدم قول من يوافق قوله الاصل {مسألة} (وكذلك القول قوله في دفع المال إليه بعد رشده)
لأنه أمين فأشبه المودع، ويحتمل أن القول قول الصبي لأن أصله معه ولأن الله سبحانه قال (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) فمن ترك الإشهاد فقد فرط فلزمه الضمان والاول المذهب وكذلك الحكم في المجنون والسفيه {مسألة} (وهل للزوج أن يحجر على امرأته في التبرع بما زاد على الثلث من مالها؟ على روايتين) (إحداهما) ليس له الحجر عليها وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي (والثانية) ليس لها أن تتصرف في مالها بزيادة على الثلث بغير عوض إلا بإذن زوجها، وبه قال مالك وحكي عنه في امرأة حلفت بعتق جارية ليس لها غيرها فحنثت ولها زوج فرد ذلك عليها زوجها، قال له أن يرد عليها وليس لها عتق لما روي أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم بحلي لها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " لا يجوز للمرأة عطية حتى يأذن زوجها فهل استأذنت كعباً " فقالت نعم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب فقال " هل أذنت لها ان تتصرف بحليها؟ " فقال نعم فقبله.
رواه ابن ماجه، وروي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة خطبها " لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها إذ هو مالك عصمتها " رواه أبو داود ولفظه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " ولأن حق الزوج متعلق بما لها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تنكح المرأة لما لها ودينها " والعادة أن الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ويتبسط فيه وينتفع به، وإذا أعسر بالنفقة أنظرته فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلقة بمال المريض ولنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا أموالهم) وهو ظاهر في فك الحجر عنهم واطلاقهم في التصرف، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن " وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن ولم يسأل ولا استفصل، أتته زينب امرأة عبد الله وامرأة أخرى اسمها زينب فسألته عن الصدقة هل يجزئهن أن يتصدقن على أزواجهن وايتام لهن، فقال " نعم " ولم يذكر لهن هذا الشرط ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده جاز له التصرف فيه من غير إذن كالغلام، ولأن المرأة من أهل التصرف ولا حق لزوجها في مالها فلم يملك الحجر عليها في(4/532)
التصرف بجميعه كاختها وحديثهم ضعيف وشعيب لم يذكر عبد الله بن عمرو فهو مرسل ويمكن حمله على أنه لا يجوز عطيتها من ماله بغير إذنه بدليل أنه يجوز عطيتها ما دون الثلث من مالها وليس معهم حديث يدل على تحديد المنع بالثلث والتحديد بذلك تحكم ليس فيه توقيف ولا عليه دليل، ولا يصح قياسهم على المريض لوجوه (أحدها) أن المرض سبب يفضي إلى وصول المال إليهم بالميراث والزوجية إنما تجعله من اهل الميراث فهي أحد وصفي العلة فلا يثبت الحكم بمجردها كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الوراث بدون المرض (الثاني) إن تبرع المريض موقوف فإن برئ من مرضه صح تبرعه وههنا أبطلوه على كل حال والفرع لا يزيد على أصله (الثالث) إن ما ذكروه منتقض بالمرأة فإنها تنتفع بمال زوجها وتتبسط فيه عادة ولها النفقة منه وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه بمالها وليس لها الحجر عليه على أن هذا المعنى ليس بموجود في الأصل ومن شرط صحة القياس وجود المعنى المثبت للحكم في الأصل والفرع جميعاً {فصل} في الأذن.
قال الشيخ رحمه الله {يجوز لولي الصبي المميز أن يأذن له في التجارة في إحدى الروايتين} ويصح تصرفه بالإذن وهذا قول أبي حنيفة (والثانية) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف أشبه غير المميز.
ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به للتصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطاً وهو البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة ولنا قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ومعناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق اختبارهم بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء ليعلم هل يغبن أم لا، ولأنه عاقل مميز محجور عليه فصح تصرفه بإذن وليه كالعبد وفارق غير المميز فإنه لا تحصل المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة الى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه، قلنا يعلم ذلك بآثاره وجريان تصرفاته على وفق
المصلحة كما يعلم في حق البالغ فإن معرفة رشده شرط دفع ماله إليه وصحة تصرفه، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة ومبنى ذلك على ما إذا تصرف في مال غيره بغير إذنه وقد ذكرناه فيما مضى {مسألة} (ويجوز ذلك لسيد العبد) بغير خلاف نعلمه لأن الحجر عليه إنما كان لحق السيد فجاز له التصرف بإذنه لزوال المانع {مسألة} (ولا ينفك عنهما الحجر إلا فيما أذن لهما فيه وفي النوع الذي أمرا به لأن تصرفه إنما جاز بإذن وليه وسيده فزال الحجر في قدر ما أذنا فيه دون غيره كالتوكيل،(4/533)
فإن دفع السيد إلى عبده مالا يتجر فيه كان له أن يبيع ويشتري ويتجر به وإن أذن له أن يشتري في ذمته جاز، وإن عين له نوعاً من المال يتجر فيه لم يكن له أن يتجر في غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز أن يتجر في غيره وينفك عنه الحجر مطلقاً لأن إذنه إطلاق من الحجر وفك له والإطلاق لا يبعض كبلوغ الصبي ولنا أنه متصرف بالاذن من جهة الآدمي فوجب أن يختص ما أذن له فيه كالوكيل والمضارب وما قاله ينتقض بما إذا أذن له في شراء ثوب ليلبسه أو طعام ليأكله ويخالف البلوغ فإنه يزول به المعنى الموجب للحجر فإن البلوغ مظنة كمال العقل الذي يتمكن به من التصرف على وجه المصلحة وههنا الرق سبب الحجر وهو موجود فنظير البلوغ في الصبي العتق للعبد وإنما يتصرف العبد بالإذن الا ترى أن الصبي يستفيد بالبلوغ قبول النكاح بخلاف العبد {مسألة} (وإن أذن له في جميع أنواع التجارة لم يجز أن يؤجر نفسه ولا يتوكل لغيره) وبه قال الشافعي وجوزهما أبو حنيفة لأنه يتصرف لنفسه فملك ذلك كالمكاتب، ولنا أنه عقد على نفسه فلا يملكه بالإذن في التجارة كبيع نفسه وتزويجه وقولهم يتصرف لنفسه ممنوع إنما يتصرف لسيده وبهذا فارق المكاتب فإن المكاتب يتصرف لنفسه ولهذا كان له أن يبتاع من سيده {مسألة} (وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه على روايتين)
(إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف بالإذن فاختص بما أذن فيه ولم يؤذن له في التوكيل (والثانية) يجوز لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم فملكوه بنائبهم كالمالك الرشيد ولأنه أقامه مقام نفسه {مسألة} (وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه لم يصر مأذونا) وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في العبد يصير مأذوناً له لأنه سكت عن حقه فكان مسقطاً له كالشفيع إذا سكت عن طلب الشفعة ولنا أنه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يقم السكوت مقام الإذن كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت أو باعه المرتهن والراهن ساكت وكتصرفات الأجانب ويخالف الشفعة فإنها تسقط بمضي الزمان إذا علم لأنها على الفور {مسألة} (وما استدان العبد فهو في رقبته يفديه سيده أو يسلمه وعنه يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا المأذون له هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين) يقال أدان واستدان وتداين بمعنى واحد والعبد قسمان: محجور عليه فما لزمه من الدين بغير رضا سيده مثل أن يقترض ويشتري شيئاً في ذمته ففيه روايتان (إحداهما) يتعلق برقبته اختارها الخرقي وأبو بكر لأنه دين لزمه بغير إذن سيده فتعلق برقبته كالإتلاف (والثانية) يتعلق بذمته يتبعه الغريم به إذا عتق وأيسر وهو مذهب الشافعي لأنه متصرف في ذمته بغير اذن سيده فتعلق بذمته كعوض الخلع من الأمة وكالحر (والقسم الثاني) المأذون له في التصرف أو في الاستدانة فما يلزمه من الدين هل(4/534)
يتعلق برقبته أو ذمة سيده، على روايتين (إحداهما) يتعلق برقتبه وهو ظاهر قول أبي حنيفة لأنه قال يباع إذا طالب الغرماء ببيعه وهذا معناه أنه يتعلق برقبته لأنه دين ثبت برضا من له العين فيباع فيه كما لو رهنه (والثانية) يتعلق بذمة السيد وهو الذي ذكره الخرقي فعلى هذه الرواية يلزم مولاه جميع ما أدان، وقال مالك والشافعي إن كان في يده مال قضيت ديونه منه، وإن لم يكن في يده شئ تعلق بذمته يتبع به إذا عتق وأيسر لأنه دين ثبت برضا من له الدين أشبه غير المأذون أو فوجب أن لا يتعلق برقبته كما لو اقترض بغير إذن سيده ووجه قول الخرقي أنه إذا أذن له
في التجارة فقد أغرى الناس بمعاملته وأذن فيها فصار ضامناً كما لو قال لهم داينوه أو إذن في استدانة تزيد على قيمته، ولا فرق بين الدين الذي لزمه في التجارة المأذون فيها أو فيما لم يؤذن له فيه مثل إن أذن له في التجارة في البر فاتجر في غيره فإنه لا ينفك عن التغرير إذ يظن الناس أنه مأذون له في ذلك أيضاً (فصل) فأما أروش جناياته وقيم متلفاته فهي متعلقة برقبة العبد سواء كان مأذوناً له اولا رواية واحدة وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وكل ما تعلق برقبة العبد خير السيد بين تسليمه للمبيع وبين فدائه فإذا بيع وكان ثمنه أقل مما عليه فليس لرب الدين إلا ذلك لأن العبد هو الجاني فلم يجب على غيره شئ وإن كان ثمنه أكثر فالفضل للسيد، وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن السيد لا يرجع بالفضل ولعله يذهب إلى أنه دفعه إليه عوضاً عن الجناية فلم يبق لسيده فيه شئ كما لو ملكه إياه عوضاً عن الجناية وليس هذا صحيحاً فإن المجني عليه لا يستحق أكثر من قدر ارش الجناية عليه فهو كما لو جنى عليه حر والجاني لا يجب عليه أكثر من أرش جنايته ولأن الحق تعلق بعينه فكان الفضل من ثمنه لسيده كالرهن ولا يصح قولهم أنه دفعه عوضاً لأنه لو كان عوضاً لملكه المجني عليه ولم يبع في الجناية وإنما دفعه ليباع فيؤخذ منه عوض الجناية ويرد إليه الباقي وكذلك لو أتلف درهماً لم يبطل حق سيده منه منه بذلك وإن عجز عن أداء الدراهم من غيره ثمنه فإن اختار السيد فداءه لزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته لأن أرش الجناية إن كان أكثر فلا يتعلق بغير العبد الجاني لعدم الجناية من غيره وإنما تجب قيمته وإن كان أقل فلم يجب بالجناية الا هو وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه أرض الجناية كله لأنه يجوز أنه يرغب فيه راغب فيشتريه بأرش الجناية فإذا منع منه لزمه جميع الأرش لتفويته ذلك وللشافعي قولان كالروايتين (فصل) فإن تصرف العبد غير المأذون ببيع أو شراء بعين المال لم يصح لأنه تصرف من المحجور عليه فيما حجر عليه فيه أشبه المفلس وقياساً على تصرف الا جني، ويتخرج أن يصح ويقف على إجازة السيد كتصرف الفضولي، فأما شراؤه بثمن في ذمته واقتراضه فيحتمل أن لا يصح لأنه محجور عليه أشبه السفيه، ويحتمل أن يصح لأن الحجر لحق غيره أشبه المفلس والمريض، ويتفرع عن هذين الوجهين أن التصرف إن كان فاسداً فللبائع والمقرض أخذ ماله إن كان باقيا سواء كان في يد العبد
أو السيد، وإن كان تالفاً فله قيمته أو مثله إن كان مثلياً، فإن تلف في يد السيد رجع عليه بذلك(4/535)
لأن عين ماله تلف في يده وإن شاء كان ذلك متعلقاً برقبة العبد لأنه الذي أخذه منه، وإن تلف في يد العبد فالرجوع عليه وهل يتعلق برقبته أو ذمته؟ على روايتين، وإن قلنا التصرف صححيح والمبيع في يد العبد فللبائع فسخ البيع وللمقرض الرجوع فيما أقرض لأنه قد تحقق اعسار المشتري والمقترض فهو أسوأ حالاً من الحر المعسر، وإن كان السيد قد انتزعه من يد العبد ملكه بذلك لأنه أخذ من عبده مالا في يده بحق فهو كالصيد، فإذا ملكه السيد كان كهلاكه في يد العبد ولا يملك البائع والمقرض انتزاعه من السيد بحال فإن كان قد تلف استقر ثمنه في رقبة العبد أو في ذمته سواء تلف في يد العبد أو السيد {مسألة} (وإذا باع السيد عبده المأذون شيئاً لم يصح في أحد الوجهين) لأنه مملوكه فلا يثبت له دين في ذمته كغير المأذون له أو كمن لا دين عليه ويصح في الآخر إذا كان عليه دين بقدر قيمته لانا إذا قلنا إن الدين يتعلق برقبته فكأنه صار مستحقاً لأصحاب الديون فيصير كعبد غيره.
{مسألة} (ويصح إقرار المأذون له في قدر ما أذن له فيه دون ما زاد عليه) لأنه لم يؤذن له فيه فهو كغير المأذون له ولأن الذي أذن له فيه يصح تصرفه فيه فصح إقراره به كالحر {مسألة} (وإن حجر عليه وفي يده مال ثم أذن له فيه فأقر به صح) لأن المانع من صحة إقراره الحجر عليه وقد زال ولأنه يصح تصرفه فيه فصح إقراره به كما لو لم يحجر عليه وقياساً على غيره من الاحرار {مسألة} (ولا يبطل الاذن بالإباق) وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يبطل لأنه يزيل ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه فأشبه مالو باعه.
ولنا أن الإباق لا يمنع ابتداء الأذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصب غاصب أو حبس بدين عليه ولا يصح ما ذكروه فإن سبب الولاية باق
وهو الرق ويجوز بيعه وإجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب {مسألة} (ولا يصح تبرع المأذون له بهبة الدراهم وكسوة الثياب) لأن ذلك ليس من التجارة ولا يحتاج إليه فيها فأشبه غير المأذون له {مسألة} (وتجوز هديته للمأكول وإعارة دابته) واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافاً وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يجوز ذلك بغير إذن سيده لأنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة الدراهم، ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك فروى أبو سعيد مولى بني أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وابوذر فامهم وهو يومئذ عبد رواه صالح في مسائله بإسناده ولأنه مما جرت به عادة التجارة فيما بينهم فيدخل في عموم الأذن(4/536)
{مسألة} (وهل لغير المأذون له الصدقة من قوته بالرغيف ونحوه إذا لم يضربه؟ على روايتين) (إحداهما) ليس له ذلك لأن المال لسيده وإنما أذن له في الأكل فلم يملك الصدقة به كالضيف ولا يتصدق بما أذن له في أكله (والثانية) يجوز لأنه مما جرت العادة بالمسامحة فيه والإذن عرفا فجاز كصدقة المرأة من بيت زوجها {مسألة} (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين) (إحداهما) يجوز لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من اجورهم شئ " ولم يذكر إذنا، وعن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ليس لي شئ إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي.
قال: " ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك " متفق عليهما.
وروي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إنا كل على أزواجنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الأذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الا كلة قام مقام صريح الإذن في أكله
كصدقة المرأة من بيت زوجها {مسألة} (وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين) (إحداهما) يجوز لأن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما كسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من اجورهم شئ " ولم يذكر إذنا، وعن أسماء أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: ليس لي شئ إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي.
قال: " ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك " متفق عليهما.
وروي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إنا كل على أزواجنا وأبنائنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال " الرطب تأكلينه وتهدينه " ولأن العادة السماح بذلك وطيب النفس به فجرى مجرى صريح الأذن كما أن تقديم الطعام بين يدي الا كلة قام مقام صريح الإذن في أكله (والثانية) لا يجوز لما روى أبو أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها " قيل يا رسول الله ولا الطعام قال " ذاك أفضل أموالنا " رواه سعيد في سننه وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " وقال " إن الله حرم بينكم دماءمكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " ولأنه تبرع بمال غيره بغير إذنه فلم يجز كغير الزوجة، والصحيح الأول لأن الأحاديث فيه خاصة صحيحة والخاص يقدم على العام ويثبته ويعرف أن المراد بالعام الصورة المخصوصة والحديث الخاص للرواية الثانية ضعيف ولا يصح قياس امرأة على غيرها لأنها بحكم العادة تتصرف في مال زوجها وتتبسط فيه وتتصدق منه لحضورها وغيبته والإذن العرفي يقوم مقام الأذن الحقيقي فصار كأنه قال لها افعلي هذا.
فأما إن منعها ذلك وقال لاتتصدقي بشئ ولا تتبرعي من مالي بقليل ولا كثير لم يجز لها ذلك لأن المنع الصريح نفي الإذن العرفي وكذلك لو كانت امرأته ممنوعة من التصرف في بيت زوجها كالذي يطعمها بالفرض ولا يمكنها من طعامه فهو كما لو منعها بالقول فان كان في بيت الرجل من يقوم مقام امرأته كجاريته وأخته وغلامه المتصرف في بيت سيده وطعامه فهو كالزوجة فيما ذكرنا لوجود المعنى فيه والله أعلم (تم طبع الجزء الرابع بعون الله ويليه الجزء الخامس بمشيئته وأوله (كتاب الصلح)(4/537)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (باب الصلح) الصلح معاقدة يتوصل بها إلى إصلاح بين المختلفين ويتنوع أنواعاً: صلح بين المسلمين وأهل الحرب وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما.
قال الله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) وقال تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حرما) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وروي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى بمثل ذلك وأجمع العلماء على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرنا ولكل واحد منها باب يفرد له وتذكر فيه أحكامه وهذا الباب للصلح بين المختلفين في الأموال (مسألة) (والصلح في الأموال قسمان أحدهما صلح على الإقرار وهو نوعان (أحدهما) صلح على جنس الحق مثل أن يقر له بدين فيضع عنه بعضه أو بعين فيهب له بعضها ويأخذ الباقي فيصح إن لم يكن بشرط مثل أن يقول على أن تعطيني الباقي أو يمنعه حقه بدونه)
وجملة ذلك أن من اعترف بدين أو عين في يده فأبرأه الغريم من بعض الدين أو وهبه بعض العين وطلب منه الباقي صح إذا كانت البراءة مطلقة من غير شرط.
قال أحمد إذا كان للرجل على الرجل الدين ليس عنده وفاء فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي كان ذلك جائزاً لهما ولو فعل ذلك قاض(5/2)
شافعي لم يكن عليه في ذلك أثم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كلم غرماء جابر ليضعوا عنه وفي الذي أصيب في حديقته فمر به النبي صلى الله وسلم وهو ملزوم فأشار إلى غرمائه بالنصف فأخذوه منه، فان فعل ذلك قاض اليوم جاز إذا كان على وجه الصلح والنظر لهما، وقد روى عبد الله بن كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ثم نادى (يا كعب) قال لبيك يارسول الله.
فأشار إليه أن ضع الشطر من دينك.
قال قد فعلت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قم فأعطه) متفق عليه فأما إن منعه المقر حقه حتى يضع عنه بعضه فالصلح باطل لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه وسواء كان بلفظ الصلح أو بلفظ الأبراء أو الهبة المقرون بشرط مثل أن يقول أبرأتك من خمسمائة أو وهبتك بشرط أن تعطيني ما بقي، قال ابن أبي موسى الصلح على الإقرار هضم للحق فمتى ألزم المقر له ترك بعض حقه فتركه من غير طيب نفسه لم يطب لأحد، وإن تطوع المقر له بإسقاط بعض حقه جاز غير أن ذلك ليس بصلح ولا من باب الصلح بسبيل فلم يجعله صلحاً، ولم يسم الخرقي الصلح إلا في حال الإنكار، فأما مع الاعتراف فإن قضاه من جنس حقه فهو وفاء وإن قضاء من غير جنسه فهو معاوضة وإن ابرأه من بعضه فهو إبراء وإن وهبه بعض العين فهو هبة فلا يسمى صلحاً وسماه القاضي وأصحابه صلحاً وهو قول الشافعي.
والخلاف في التسمية أما المعنى فمتفق عليه، وهو ينقسم إلى إبراء وهبة ومعاوضة وقد ذكرنا الإبراء، فأما الهبة فهو أن يكون له في يده عين فيقول قد وهبتك نصفها واعطني بقيتها فيصح ويعتبر له شروط الهبة، وإن أخرجه مخرج الشرط لم يصح وهذا مذهب الشافعي، لأنه إذا شرط في الهبة الوفاء جعل الهبة عوضاً عن الوفاء فكأنه عاوض بعض حقه ببعض، فإن أبرأه من بعض الدين أو وهب له بعض العين بلفظ الصلح مثل أن يقول صالحني بنصف دينك علي أو بنصف دارك هذه،
فيقول صالحتك بذلك لم يصح: ذكره القاضي وابن عقيل وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وقال أكثرهم يجوز الصلح لأنه إذا لم يجر بلفظه خرج عن أن يكون صلحاً ولا يبقى له تعلق به أما إذا كان بلفظه سمي صلحاً لوجود اللفظ وإن تخلف المعنى كالهبة بشرط الثواب، وإنما يقتضي لفظ الصلح المعاوضة إذا كان ثم عوض أما مع عدمه فلا، وإنما معنى الصلح الاتفاق والرضى وقد يحصل هذا من غير عوض كالتمليك إذا كان بعوض سمي بيعاً وإن خلا عن العوض سمي هبة ولنا أن لفظ الصلح يقتضي المعاوضة لأنه إذا قال صالحني بهبة كذا أو على هبة كذا أو على نصف هذه العين ونحو هذا فقد أضاف إليه بالمقابلة فصار كقوله بعني بألف وإن أضاف إليه على جرى مجرى الشرط كقوله (على أن تأجرني ثماني حجج) وقوله (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) وكلاهما لا يجوز بدليل مالو صرح بلفظ الشرط أو بلفظ المعاوضة، وقولهم إنه يسمى صلحاً(5/3)
ممنوع وإن سمي صلحاً فمجاز لتضمنه قطع التنازع وإزالة الخصومة وقولهم أن الصلح لا يقتضي المعاوضة ممنوع وإن سلمنا لكن المعاوضة حصلت من اقتران حرف الباء أو على أو نحوهما به فإن لفظ الصلح يحتاج إلى حرف يتعدى به وذلك يقتضي المعاوضة على ما بينا (مسألة) (ولا يصح ذلك ممن لا يملك التبرع كالمكاتب والمأذون له وولي اليتيم إلا في حال الإنكار وعدم البينة) لأنه تبرع وليس لهم التبرع فأما إذا لم يكن بالدين أو كان على الإنكار صح لان استيفاء هم البعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه (مسألة) (وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح) كره ذلك زيد بن ثابت وابن عمر وقال نهى عمر أن تباع العين بالدين وكره ذلك سعيد بن المسيب والقاسم وسالم والحسن ومالك والشافعي والثوري وابن عيينه وابو حنيفة واسحاق وروي عن ابن عباس وابن سيرين والنخعي أنه لا بأس به، وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأساً بالعروض أن يأخذها من حقه قبل محله لأنهما تبايعا العروض بما في الذمة فصح كما لو اشتراها بثمن مثلها ولعل ابن سيرين يحتج بأن التعجيل جائز والإسقاط وحده جائز فجاز الجمع بينهما كما لو فعلا
ذلك من غير مواطأة عليه ولنا أنه يبذل القدر الذي يحطه عوضا من تعجيل ما في ذمته وبيع الحلول والتأجيل لا يجوز كما لا بجوز أن يعطيه عشرة حالة بعشرين موجلة ولأنه يبيعه عشرة بعشرين فلم يجز كما لو كانت معينة وفارق ما إذا كان من غير مواطأة ولا عقد لأن كل واحد منهما متبرع ببذل حقه من غير عوض ولا يلزم من جواز ذلك جوازه في العقد أو مع الشرط كبيع درهم بدرهمين ويقارق ما إذا اشترى العروض بثمن مثلها لأنه لم يأخذ عن الحلول عوضاً (مسألة) (وإن وضع بعض الحال وأجل باقيه صح الإسقاط دون التأجيل) إذا صالحه عن ألف حال بنصها مؤجلاً اختياراً منه وتبرعاً صح الإسقاط ولم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل على ما ذكرنا والإسقاط صحيح وإن فعله لمنعه من حقه بدونه أو شرط ذلك في الوفاء لم يسقط على ما ذكرنا في أول الباب وذكر أبو الخطاب في هذا روايتين أصحهما لا يصح وما ذكرنا من التفصيل أولى (مسألة) (وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه مثل أن يصالح عن دية الخطأ أو قيمة متلف بأكثرمنها من جنسها لم يصح) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يجوز لأنه يأخذ عوضاً عن المتلف فجاز أن بأخذ أكثر من قيمته كما لو باعه بذلك(5/4)
ولنا أن الدية والقيمة تثبت في الذمة مقدرة فلم يجزان يصالح عنها بأكثر منها من جنسها كالثابتة عن قرض أو ثمن مبيع ولأنه إذا أخذ أكثر منها فقد أخذ حقه وزيادة لا مقابل لها فيكون أكل مال بالباطل (مسألة) (وإن صالحه بعرض قيمته أكثر منها جاز) لأنه بيع (فصل) ولو صالح عن المائة الثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة لم تصر مؤجلة وهذا قول الشافعي وعن أحمد أنها تصير مؤجلة وهو قول أبي حنيفة لأنه عاوض عن المتلف بمائة مؤجلة فجاز كما لو باعه إياه ولنا أنه إنما استحق عليه قيمة المتلف وهو مائة حالة والحال لا يتأجل بالتأجيل وإن جعلناه بيعاً فهو بيع دين بدين وهو غير جائز (مسألة) (وإن صالحه عن بيت على أن يسكنه سنة أو يبني له فوقه غرفة لم يصح)
إذا ادعى على رجل بيتاً فصالحه على بعضه أو على أن يبني له ثم على أن يسكنه سنة لم يصح لأنه يصالحه عن ملكه على ملكه أو منفعته وإن أسكنه كان تبرعاً منه متى شاء أخرجه منها وإن أعطاه بعض داره بناء على هذا فمتى شاء انتزعه منه لأنه أعطاه إياه عوضاً عما لا يصلح عوضاً عنه وان فعل ذلك على سبيل المصالحة معتقداً أن ذلك وجب عليه بالصلح رجع عليه بأجر ما سكن وأجر ما كان في يده من الدار لأنه أخذه بعقد فاسد فأشبه المبيع الموجود بعقد فاسد وسكنى الدار بإجارة فاسدة، وان بنى وفوق البيت غرفة أجبر على نقضها وإذا أجر السطح مدة مقامه في يده وله أخذ آلته، وان انفقا على أن يصالحه صاحب البيت عن بنائه بعوض جاز وإن بنى الغرفة بتراب من أرض صاحب البيت وآلاته فليس له أخذ بنائه لأنه ملك صاحب البيت وإن أراد نقض البناء لم يكن له ذلك إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ويتخرج أن يملك نقضه كقولنا في الغاصب (مسألة) (ولو قال أقر لي بديني وأعطيك منه مائة ففعل صع الإقرار ولم يصح الصلح) لأنه يجب عليه الإقرار بما عليه من الحق فلم يحل له أخذ العوض عما يجب عليه.
فعلى هذا يردما أخذ لأنه تبين كذبه بإقراره وأن عليه الدين فلزمه أداؤه بغير عوض (مسألة) (وإن صالح انسانا ليقرله بالعبودية أو امرأة لتقرله بالزوجية لم يصح) لا يجوز الصلح على ما لا يجوز أخذ العوض عنه مثل أن يدعي على رجل أنه عبده فينكره فيصالحه على مال ليقرله بالعبودية فلا يجوز ذلك لأنه يحل حراماً فإن أرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا غيره وكذلك أن صالح امرأة لتقرله بالزوجية لأنه صلح يحل حراماً ولأنها لو أرادت بذل نفسها بعوض لم يجز فإن دفعت إليه عوضاً عن هذه الدعوى ليكف نفسه عنها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأن الصلح في الإنكار إنما يكون في حق المنكر لافتداء اليمين وهذه لا يمين عليها وفي حق المدعي يأخذ العوض في مقابلة حقه الذي يدعيه وخروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له وإنما(5/5)
أجيز الخلع للحاجة إلى افتداء نفسها (والثاني) يصح ذكره أبو الخطاب وابن عقيل لأن المدعي يأخذ عوضاً عن حقه من النكاح فجاز كعوض الخلع والمرأة تبذله لقطع خصومته وإزالة شره وربما توجهت
اليمين عليها لكون الحاكم يرى ذلك ولأنها مشروعة في حقها في إحدى الروايتين، ومتى صالحته عن ذلك ثم يثبت الزوجية بإقرارها أو ببينة فإن قلنا الصلح باطل فانكاح باق بحاله لأنه لم يوجد من الزوج طلاق ولا خلع وإن قلنا هو صحيح احتمل ذلك أيضاً لما ذكرنا، واحتمل أن تبين منه بأحد العوضين لأنه أخذ العوض عما يستحقه من نكاحها فكان خلعاً كما لو أقرت له بالزوجية فخالعها ولو ادعت أن زوجها طلقها ثلاثاً فصالحها على مال لتنزل عن دعواها لم يجز لأنه لا يجوز لها بذل نفسها لمطلقها بعوض ولا بغيره، وإن دفعت إليه مالاً ليقر بطلاقها لم يجز في أحد الوجهين وفي الآخر يجوز كما لو بذلت له عوضاً ليطلقها ثلاثا (مسألة) وإن دفع المدعي عليه العبودية إلى المدعي مالاً صلحاً عن دعواه صح) لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال وليشرع للدافع لدفع اليمين الواجبة عليه والخصومة المتوجهة إليه.
(النوع الثاني) أن يصالحه عن الحق بغير جنسه فهو معاوضة وذلك مثل أن يعترف له بعين في يده أو دين في ذمته ثم يعوضه عن ذلك بما يجوز تعويضه به وهو ثلاثة أقسام (أحدها) أن يقر له بنقد فيصالحه على نقد آخر مثل أن يقر له بمائة درهم فيصالحه عنها بعشرة دنانير أو بالعكس فهذا صرف يشترط له شروط الصرف من التقابض في المجلس ونحوه (القسم الثاني) أن يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بالعكس فهذا بيع تثبت فيه أحكام البيع (الثالث) أن يصالحه على سكنى دار أو خذمة عبده أو على أن يعمل له عملاً معلوماً فتكون إجارة لها حكم سائر الإجارات فإن تلفت الدار أو العبد قبل استيفاء شئ من المنفعة انفسخت الإجارة ورجع بما صالح عنه، وإن تلفت بعد استيفاء بعض المنفعة انفسخت فيما بقي من المدة ورجع بقسط ما بقي، ولو صالحه على أن يزوجه أمته وكان ممن يجوز له نكاح الأماء صح وكان المصالح عنه صداقها فإن انفسخ النكاح قبل الدخول بأمر يسقط الصداق رجع الزوج بما صالح عنه وإن طلقها قبل الدخول رجع بنصفه (مسألة) (وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح فإن كان الصلح عن عيب في مبيعها فتبين أنه ليس بعيب رجعت بأرشه لا بمهر مثلها)
إذا اعترفت امرأة لرجل بدين أو عين فصالحته على أن تزوجه نفسها صح ويكون صداقاً لها فإن كان المعترف به عيباً في مبيعها فبان أنه ليس بعيب كبياض في عين العبد ظنته عمى رجعت بأرشه لأن ذلك صداقها فرجعت به لا يمهر مثلها فإن لم يزل العيب ولكن انفسخ نكاحها بما يسقط صداقها رجع عليها بأرشه(5/6)
(مسألة) (وإن صالح عما في الذمة بشئ في الذمة لم يجز التفرق قبل القبض لأنه بيع دين بدين) وقد نهى الشارع عنه (فصل) وإن صالحه بخدمة عبده سنة صح وكانت إجارة على ما ذكرنا فإن باع العبد في السنة صح البيع ويكون المشتري مسلوب المنفعة بقية السنة وللمصالح استياء منفعته إلى انقضاء السنة كما لو زوج أمته ثم باعها وأن يعلم المشتري بذلك فله الفسخ لأنه عيب وإن أعتق العبد في أثناء المدة صح عتقه لأنه مملوك يصح بيعه فصح عتقه كغيره، وللمصالح أن يستوفي نفعه في المدة لأنه أعتقه بعد أن ملك نفعه لغيره فأشبه مالو اعتق الامة المزوجة لحر ولا يرجع العبد على سيده بشئ لأنه ما أزال ملكه بالعتق إلا عن الرقبة والمنافع حينئذ مملوكة لغيره فلم تتلف منافعه بالعتق فلا يرجع بشئ ولأنه أعتقه مسلوب المنفعة فلم يرجع بشئ كما لو اعتق زمناً أو مقطوع اليدين أو أمة مزوجة وذكر القاضي وابن عقيل وجهاً إنه يرجع على سيده بأجر مثله وهو قول الشافعي لأن العتق اقتضى إزالة ملكه عن الرقبة والمنفعة جميعاً فلما لم تحصل المنفعة للعبد ههنا فكأنه حال بينه وبين منفعته ولنا أن إعتاقه لم يصادف للمعتق سوى ملك الرقبة فلم يؤثر الافيه كما لو وصى لرجل برقبة عبد ولآخر بمنفعته فأعتق صاحب الرقبة وكما لو أعتق أمه مزوجة قولهم إنه اقتضى زوال الملك عن المنفعة قلنا إنما يقتضي ذلك إذا كانت مملوكة له أما إذا كانت مملوكة لغيره فلا يقتضي إعتاقه إزالة ما ليس بموجود وإن تبين أن العبد مستحق تبين بطلان الصلح لفساد العوض ورجع المدعي فيما أقر له به وإن وجد العبد معيباً عيباً تنقص به المنفعة فله رده وفسخ الصلح وإن صالح على العبد عينه صح والحكم فيما إذا خرج مستحقاً أو معيباً كما ذكرنا (فصل) وإذا ادعى زرعاً في يد رجل فأقر له به ثم صالحه على دراهم جاز على الوجه الذي يجوز
بيع الزرع وقد ذكرناه في البيع، فإن كان الزرع في يد رجلين فأقر له أحدهما بنفصه ثم صالحه عليه قبل اشتداد حبة لم يجز لأنه إن كان الصلح مطلقاً أو بشرط التبقية لم يجز لأنه لا يجوز بيعه وإن شرط القطع لم يجز أيضاً لكونه لا يمكنه قطعه إلا بقطع زرع الآخر، ولو كان الزرع لواحد فاقر للمدعي بنصفه ثم صالحه عنه بنصف الأرض ليصير الزرع كله للمقر والارض بينهما نصفين فإن شرط القطع جاز لأن الزرع كله للمقر فجاز شرط قطعه ويحتمل أن لا يجوز لأن في الزرع ما ليس بمبيع وهو النصف الذي لم يقر به وهو في النصف الباقي له فلا يصح شرط قطعه كما لو شرط قطع زرع آخر في أرض أخرى، وإن صالحه منه بجميع الأرض بشرط القطع ليسلم الأرض إليه فارغة صح لأن قطع جميع الزرع مستحق نصفه بحكم الصلح والباقي لتفريغ الأرض فأمكن القطع وإن كان إقراره بجميع الزرع فصالحه من نصفه على نصف الأرض لتكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرطا القطع في(5/7)
الجميع احتمل الجواز لأنهما قد شرطا قطع كل الزرع وتسليم الأرض فارغة واحتمل المنع لأن باقي الزرع ليس بمبيع فلا يصح بشرط قطعه في العقد (مسألة) (ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان مما لا يمكن معرفته للحاجة) يصح الصلح عن المجهول سواء كان عيناً أو ديناً إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته قال أحمد في الرجل يصالح عن الشئ فان علم أنه أكثر منه لم يجز إلا أن يوقفه عليه إلا أن يكون مجهولاً لا يدري ما هو، ونقل عنه عبد الله إذا اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير وطحنا فإن عرف قيمة دقيق الحنطة ودقيق الشعير بيع هذا وأعطي كل واحد منهما قيمة ماله إلا أن يصطلحا على شئ ويتحالا وقال ابن أبي موسى الصلح الجائز وصلح الزوجة من صداقها الذي لا بينة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه وكذلك الرجلان تكون بينهما المعاملة والحساب الذي قد مضى عليه الزمن الطويل لاعلم لكل واحد منهما بما عليه لصاحبه فيجوز الصلح بينهما، وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره جاز أن يصالح عليه وسواء كان الحق يعلم حقه ولا بينة له ويقول القابض إن كان لي عليك حق فأنت منه في حل ويقول الدافع إن كنت أخذت أكثر من حقك فأنت منه في حل وقال الشافعي
لا يصح الصلح على مجهول لأنه فرع البيع والبيع لا يصح على مجهول ولنا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجلين اختصما في مواريث درست (استهما وتوخيا وليحلل أحدكما صاحبه) رواه أحمد بمعناه وهذا صلح على المجهول ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول كالعتاق ولأنه إذا صح الصلح مع العلم وإمكان أداء الحق بعينه فلأن يصح مع الجهل أولى وذلك لأنه إذا كان معلوماً فلهما طريق إلى التخلص وبراءة أحدهما من صاحبه بدونه ومع الجهل لا يمكن ذلك فلو لم يجز الصلح أفضى إلى ضياع المال على تقدير أن يكون بينهما مال لا يعرف كل واحد منهما قدر حقه منه ولا نسلم كونه فرع بيع وإنما هو إبراء وإن سلمنا كونه فرع بيع فإن البيع يصح في المجهول عند الحاجة كبيع أساسات الحيطان وطي الآبار وما مأ كوله في جوفه ولو اتلف رجل صبرة طعام لا يعلم قدرها فقال صاحب الطعام المتلفه بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذا الدرهم أو بهذا الثوب صح.
إذا ثبت هذا فمتى كان العوض في الصلح مما لا يحتاج إلى تسليمه ولا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة وحقوق سالفة أو في أرض أو عين من المال لا يعلم كل واحد قدر حقه صح الصلح مع الجهالة من الجانبين لما ذكرنا من الخبر والمعنى، وإن كان يحتاج إلى تسليمه لم يجز مع الجهالة ولا بد من العلم به لأن تسليمه واجب والجهالة تمنعه وتفضي إلى التنازع فلا يحصل مقصود الصلح (فصل) فأما ما يمكنهما معرفته كتركة موجودة أو يعمله الذي هو عليه ويجهله صاحبه فلا يصح(5/8)
الصلح عليه مع الجهل أحمد أن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح أيما امرأة صولحت من ثمنها فلم يبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة كلها، قال وإن ورث قوم مالاً أودورأ وغير ذلك فقالوا لبعضهم نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك، ولا يشتري منها شيئاً وهي لا نعلم لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير ولا يشترى حتى نعرفه وتعلم ما هو، إنما يصالح الرجل الرجل على الشئ لا يعرفه ولا يدري ما هو؟ حساب بينهما فيصالحه، أو يكون رجل يعلم ماله عند رجل والآخر لا يعلمه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ويذهب به وذلك لأن الصلح إنما جاز مع الجهالة للحاجة إليه لإبراء الذمم وإزالة الخصام فمع إمكان العلم لا حاجة إلى الصلح مع الجهالة فلم يصح كالبيع
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (القسم الثاني) أن يدعي عليه عينا أو ديناً فينكره ثم يصالحه على مال فيصح ويكون بيعاً في حق المدعى حتى أن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح) الصلح على الإنكار صحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه عاوض عما لم ثبت له فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ولأنه عقد معاوضة خلاعن العوض في أحد جانبيه فبطل كالصلح على حد القذف ولنا عموم قول عليه السلام (الصلح بين المسلمين جائز) فيدخل هذا في عمومه فإن قالوا فقد قال (إلا صلحاً أحل حراماً) وهذا داخل فيه لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المد عى عليه فحل بالصلح قلنا(5/9)
قلنا لا نسلم دخوله فيه ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين (أحدهما) أن هذا يؤخذ في الصلح بمعنى البيع فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله وكذلك الصلح بمعنى الهبة فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه الثاني أنه لو حل به المحرم لكان الصلح صحيحاً فإن الصلح الفاسد يحل الحرام وإنما منعناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه كما لو صالحه على استرقاق حر أو إحلال بضع محرم أو صالحه بخمر أو خنزير وليس ما نحن فيه كذلك وعلى أنهم لا يقولون بهذا فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقفره أو دونه فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه فلان يحل برضاه وبذله أو لى وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم فلان يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أول ولأن المدعي ههنا يأخذ عوض حقه الثابت له والمدعى عليه يدفعه لدفع الشرعنه ويقطع الخصومة ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ولأنه صلح يصح مع الأجنبي فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار، يحققه إنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى، وقولهم إنه معاوضة قلنا في حقهما أو في حق أحدهما؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده فهو معاوضة في حقه(5/10)
والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه وتخلصه من شر المدعى فهوأبرأفى حقه
وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المعاقدين دون الآخر كما لو اشترى عبداً شهد بحريته فإنه يصح ويكون معاوضة في حق البائع واستقاذا له من الرق في حق المشتري كذاههنا.
إذا ثبت هذا فلا يصح هذا الصلح إلا أن يكون المدعي شيئا معقتدا أن ما ادعاه حق والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه فيدفع إلى المدعي شيئاً افتداء ليمينه وقطعاً للخصومة وصيانة لنفسه عن التذل وحضور مجلس الحاكم فإن ذوي الأنفس الشريفة يصعب عليهم ذلك ويرون دفع ضررها عنهم من اعظم المصالح والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ودفع الشر عنم ببذل أموالهم، والمدعي يأخذ ذلك عوضاً عن حقه الذي يعتقد ثبوته فلا يمنعه الشرع من ذلك، سواء كان المأخوذ من جنس حقه بقدر حقه أو دونه فإن أخذ من جنس حقه بقدره فقد استوفى حقه وإن اخذ دونه فقد استوفى بعضه وترك بعضه وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر منه لأن الزائد لا مقابل له فيكون ظالماً بأخذه وإن أخذ من غير جنسه جاز ويكون بيعاً في حق المدعى لا عتقاده أخذه عوضاً فيلزمه حكم إقراره فإن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح كما لو اشترى شيئاً فوجده معيباً (مسألة) (وإن كان شقصاً مشفوعاً ثبتت فيه الشفعة ويكون إبراء في حق الآخر فلا يرد ما صولح عنه بعيب ولا يؤخذ بشفعة) إذا كان الذي أخذه المدعي شقصاً في دار أو عقار وجبت فيه الشفعة لأنه يقر ان الذي أخذه عوضاً فهو كما لو اشتراه ويكون أبرأ في حق المنكر لأنه دفع المال التداء ليمينه ودفعاً للضرر عنه لا عوضاً عن حق يعتقده فيلزمه أيضاً حكم اقراره، فان وجدبا لمصالح عنه عيباً لم يرجع به على المدعي لا عتقاده أنه ما أخذه عوضاً وإن كان شقصاً لم تثبت فيه الشفعة لأنه يعتقده على ملكه لم يزل وما(5/11)
ملكه بالصلح ولو دفع المدعي عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه وأخذ عين ماله مسترجعاً لها ممن هي عنده فلم يمن بيعاً كاسترجاع العين المغصوبة (مسألة) (فإن كان أحدهما عالماً بكذك نفسه فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه)
متى علم أحدهما كذب نفسه كمن ادعى شيئاً يعلم أنه ليس له أو أنكر حقاً يعلم أنه عليه فالصلح باطل في الباطن لأن المدعي إذا كان كاذباً فما يأخذه أكل للمال بالباطل أخذه بشره وظللمه لا عوضا من حق فيكون حراماً عليه كمن خوف رجلاً بالقتل حتى أخذ ماله، وإن كان المدعي عليه يعلم صدق المدعي وجحده لينتقص حقه أو يرضيه عنه شئ فهو هضم للحق وأكل مال بالباطل فيكون ذلك حراماً والصلح باطل لا يحل له مال المدعي بذلك هذا حكم الباطن وأما الظاهر لنا فهو الصحة لأنا لا نعلم باطن الحال إنما نبني الأمر على الظاهر والظاهر من حال المسلمين الصحة، ولو ادعى على رجل وديعة أو قرضاً أو تفريطاً في وديعة أو مضاربة فأنكر واصطلحا صح لما ذكرناه (مسألة) (فإن صالح عن النمكر أجنبي بغير إذنه صح ولم يرجع عليه في أصح الوجهين) إذا صالح عن النمكر أجنبي صح سواء اعترف للمدعي بصحة دعواه أولم يعترف وسواء كان بإذنه أو بغير إذنه وقال أصحاب الشافعي إنما يصح إذا اعترف المدعي بصدقه وهذا مبني على صلح المنكر وقد ذكرناه.
ثم لا يخلوا الصلح أن يكون عن دين أو عين فإن كان عن دين صح سواء كان باذن المنكر أو بغير إذنه فإن علياً وأبا قتادة قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان الصلح عن(5/12)
عين باذن النمكر فهو كالصلح منه لأن الوكيل يقوم مقام الموكل وإن كان بغير إذنه فهو افتداء للمنكر من الخصومة وإبراء له من الدعوى وذلك جائز وفي الموضعين إذا صالح عنه بغير إذنه لم يرجع عليه بشئ لأنه أدى عنه مالا يلزمه أداؤه، وخرجه القاضي وابو الخطاب على الروايتين فيما إذا قضى دينه الثابت بغير أذنه وهذا التخريج لا يصح لأن هذا لم يثبت وجوبه على المنكر ولا يلزمه أداؤه إلى المدعي فكيف يلزمه أداؤه إلى غيره؟ ولانه أدى عنه مالا يجب عليه فكان متبرعاً كما لو تصدق عنه ومن قال برجوعه فإنه يجعله كالمدعي في الدعوى على المنكر أما أنه يجب له الرجوع بما ادعاه حتما فلاوجه له أصلاً لأن أكثر ما يجب لمن قضى دين غيره أن يقوم مقام صاحب الدين وصاحب الدين ههنا لم يجب له حق ولالزم الإداء إليه ولم يثبت له أكثر من جواز الدعوى فكذلك هذا ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى شئ لا يعلم ثبوته
(مسألة) (وإن صالح الأجنبي لنفسه لتكون المطالبة له غير معترف بصحة الدعوى أو معترفاً بها عالماً بعجزه عن استنقاذها لم يصح وإن ظن القدرة عليه صح فإن عجز عنه فهو مخير بين فسخ الصلح وإمضائه) إذا صالح الأجنبي المدعي لنفسه لتكون المطالبة له فلا يخلو إما أن يعترف للمدعي بصحة دعواه(5/13)
أولاً فإن لم يعترف له فالصح باطل لأنه يشتري منه ما لم يثت له ولم يتوجه إليه خصومة يفتدي منها اشبه مالو اشترى منه ملك غيره، وإن اعترف له بصحة دعواه: كان المدعي ديناً لم يصح لأنه اشترى مالا يقدر البائع على تسليمه ولأنه بيع للدين من غير من هو في ذمته، وقال بعض أصحابنا يصح وليس بجيد لأن بيع الدين المقر به من غير من هو في ذمته لا يصح فيع دين في ذمة منكر معجوز عن قبضه أولى، وإن كان المدعي عيناً فقال الأجنبي للمدعي أنا أعلم أنك صادق فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها من المنكر فقال أصحابنا يصح الصلح وهو مذهب الشافعي لأنه اشترى منه ملكه الذي يقدر على قبضه ثم إن قدر على أخذه استقر الصلح وإن عجز كان له الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فكان له الرجوع إلى بدله يحتمل أنه إن تبين أنه لا يقدر على تسليمه تبين أن الصلح كان قاسدا لأن الشرط الذي هو القدرة على قبضه معدوم حال العقد كان فاسداً كما لو اشترى عبده فتبين أنه آبق أو ميت ولو اعترف له بصحة دعواه ولا يمكنه استنقاذه لم يصح الصلح لانه اشترى مالا يمكنه قبضه فأشبه شراء العبد الآبق فإن اشتراه وهو يظن أنه عاجز عن قبضه فتبين أن قبضه ممكن صح البيع لأن البيع تناول ما يمكن قبضه فصح كما لو علما ذلك ويحتمل أن لا يصح لأنه ظن عدم الشرط فأشبه ما لو باع عبداً يظن أنه حر أو عبد غيره فتبين أنه ومحتمل أن يفرق بين من يعلم أن البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع وبين من لا يعلم ذلك لأن من يعلم ذلك معتقد فساد البيع والشراء فكان بيعه فاسداً(5/14)
لكونه متلاعباً بقوله معتقداً فساده ومن لا يعلم يعتقده صحيحا وشروطه فصح كما لو علمه مقدوراً على تسلميه.
(فصل) فإن قال الأجنبي للمدعي أنا وكيل المدعى عليه في مصالحتك عن هذه العين وهو مقر لك
بها وإنما جحدها في الظاهر فظاهر كلام الخرقي إن الصلح لا يصح لأنه يجحدها في الظاهر لينتقص الدمعي بعض حقه أو يشتريه بأقل من ثمنه فهو هاضم للحق متوصل إلى أخذ المصالح عنه بالظلم والعدوان فهو بمنزلة مالو شافهه بذلك فقال أنا أعلم صحة دعواك وأن هذا لك لكن لا أسلمه إليك ولا أقر لك به عند الحاكم حتى تصالحني منه على بعضه أو عوض عنه، وقال القاضي يصح وهو مذهب الشافعي قالوا ثم ينظر الى المدعى عليه فإن صدقه على ذلك ملك العين ورجع الأجنبي عليه بما أدى عنه، وإن كان أذن في الدفع، وإن أنكر الأذن في الدفع فالقول قوله مع يمينه ويكون حكمه حكم من قضى دينه بغير إذنه وإن أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه وليس للأجنبي الرجوع عليه ولا يحكم له بملكها في الظاهر، فأما حكم ملكها في الباطن فإن كان وكل الأجنبي في الشراء فقد ملكها لأنه اشترها بإذنه(5/15)
فلا يقدح إنكاره في ملكها لأن ملكه ثبت قبل إنكاره، وإنما هو ظالم بالإنكار للأجنبي وإن كان لم يوكله لم يملكها لأنه اشترى له عيناً بغير إذنه ويحتمل أن يقف على إجازته كما قلنا فيمن اشترى لغيره شيئاً بغير إذنه بثمن في ذمته فإن أجازه ملكه وإلا لزم من اشتراه، وإن قال الأجنبي للمدعي قد عرف المدعى عليه صحة دعواك وهو يسألك أن تصالحه عنه وقد وكلني في المصالحة عنه صح وكان الحكم كما ذكروه لأنه ههنا لم يمتنع من أدائه بل اعترف به وصالح عليه مع بدله فأشبه مالو لم يجحده (فصل) قال الشيخ رحمه الله (يصح عن القصاص بديات وبكل ما يثبت مهراً) وجملة ذلك أن الصلح يجوز عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز فيصح عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز وقد روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة اين خشرم سبع ديات فأبى أن يقبلها ولأن المال غير متعين فلا يقع العوض في مقابلته وإن صالح عن(5/16)
القصاص بعبد فخرج مستحقا رجع بقيته في قول الجميع وإن خرج حراً فكذلك وبه قال أبو يوسف ومحمد وقا أبو حنيفة يرجع بالدية لأن الصلح فاسد فيرجع ببدل ما صالح عنه وهو الدية
ولنا أنه تعذر تسليم ما جعله عوضاً فرجع في قيمته كما لو خرج مستحقاً، فإن صالحه عن القصاص يحر يعلمان حريته أو عبد يعلمان أنه مستحق أو تصالحا بذلك عن غير القصاص رجع بالدية وبما صالح عنه لأن الصلح باطل يعلمان بطلانه فكان وجوده كعدمه (فصل) وإن صالح عن دار أو عبد بعوض فخرج العوض مستحقاً أو حراً رجع في الدار وما صالح عنه أو بقيمته إن كا بالغا لان الصل ههنا مع في الحقيقة فإذا تبين أن العوض كان متسحقا أو حراً كان البيع فاسداً فرجع فيما كان له بخلاف الصلح عن القصاص فإنه ليس ببيع وإنما يأخذ عوضاً عن إسقاط القصاص ولو اشترى شيئاً فوجده معيباً فصالحه عن عبيه بعبد فبان مستحقاً أو حراً رجع بأرش العيب.
(مسألة) (ولو صالح سارقاً ليطلعه أو شاهداً ليكتم شهادته أو شفيعاً عن شفعته أو مقذوفاً عن حده لم يصح الصلح وتسقط الشفعة وفي الحد وجهان)(5/17)
إذا صالح السارق والزاني والشارب على أن لا يرقفعه إلى السلطان لم يصح ولا يجوز أخذا العوض عنه لأن ذلك ليس بحق فلا يجوز أخذ العوض عنه كسائر ما لا حق فيه، وإن صالح شاهداً ليكتم شهادته لم يصح لأنه لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بحق تلزمه الشهادة به كدين الآدمي أو حق لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة ونحوها غفلا يجوز كما نه ولا يجوز أخذ العوض عن ذلك كما لا يجوز أخذ العوضن عن شرب الخمر.
(الثاني) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بالزور فهذا يجب عليه ترك ذلك ويحرم عليه فعله لم يجز أخذ العوض عنه كما لا يجوزان يصالحه على أن لا يقتله ولا يغصب ماله (الثالث) أن يصالحه على أن لا يشهد عليه بما يوجب حد الزنا والسرقة فلا يجوز أخذ العوض عنه لأنه ليس بحق له وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق من غير بدل ولم يجز العوضع نه لأنه ليس بمال فهو كحد القذف وإن صالحه عن حد الفذ ف لم يصح الصلح لأنه إن كان حد الله تعالى لم يكن له أن(5/18)
يأخذ عوضه لكونه ليس بحق له فأشبه حد الزنا والسرقة ان كان حقاً له لم يجز الاعتياض عنه لكونه حقاً ليس بمال ولهذا لا يسقط إلى بدل بخلاف القصاص ولأنه شرع لتنزيه العرض فلا يجوز أن يعتاض عن عرضه بمال، وهل يسقط بالصلح فيه؟ بنبني على الخلاف في كون حدالقذف حقالله تعالى أو لآدمي فإن كان حقاً لله تعالى لم يسقط بصلح الآدمي بالاإسقاطه كحد الزنا وإن كان حقاً لآدمي سقط بصلحه وإسقاطه كالقصاص.
(مسألة) (وإن اصالحه أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح) إذا صالح رجل على موضع قناة من أرضه يجري فبها ماه وبينا موضعها وعرضها وطولها جاز لأن ذلك بيع لموضع من أرضه فلا حاجة الى بيان عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه فله أن بترك فيه ما شاء، وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الأرض مع بقاء ملكه عليها فهو إجارة للأرض يشترط له تفدير المدة فإن كانت الأرض في يد رجل بإجارة جاز له أن يصالح رجلاً على إجراء(5/19)
الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة الإجارة وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز أحداث ساقية في أرض في يده بإجارة، فإن كانت الأرض في يده وقفاً عليه فقال القاضي هو كالمستأجر يجوز له أن يصالح على إجراء الماء في ساقية لأنه لا يملكها إنما يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة وهذا كله مذهب الشافعي قال شيخنا والأولى أنه يجوز له حفر الساقية لأن الأرض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك فيها إلى غيره بخلاف المستأجر فإنه إنما يتصرف فيها بما أذن له فيه فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر، فإن مات الموقوف عليه في أثناء المدة فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقي من المدة؟ على وجهين بناء على ما إذا أجره مدة فمات في أثناء المدة فإن قلنا له فسخ الصلح ففسخه رجع المصالح على ورثة الذي صالحه بقسط ما بقي من المدة وإن قلنا ليس له الفسخ رجع من انتقل إليه الوقف على الورثة (فصل) وإن صالح رجلاً على إجراء ماء سطحه من المطر على سطحه أو في أرضه عن أرضه جاز
إذا كمان ما يجري ماؤه معلوماً إما بالمشاهدة وإما بمعرفة المساحة لأن الماء يختلف بصغر السطح وكبره(5/20)
ولا يمكن ضبطه بغير.
ويشترط معرفة الموضع الذي يخرج منه لماء إلى السطح لأن ذلك يختلف ولا يفتقر إلى ذكر مدة لأن الحاجة تدعوإلى ذلك، ويجوز العقد على المنفعة في موضع الحاجة غير مقدر بمدة كما في النكاح، ولا يملك صاحب الماء مجراه لأن هذا لا يستوفي به منافع المجرى دائما ولا في أكثر المدة بخلاف الساقية، ويختلفان أيضاً في أن الماء الذي في الساقية لا يحتاج إلى ما يقدر به لأن تقدير ذلك حصل بتقدير الساقية فإنه لا يملك أن يجري فيها أكثر من مثلها والماء الذي على السطح يفتقر إلى معرفة قدر السطح لأنه يجري منه القليل والكثير، فإن كان السطح الذي يجري عليه الماء مستأجراً أو عارية لم يجز أن يصالح على إجراء الماء عليه لأنه يتضرر بذلك ولم يوذن له فيه فلم يكن له أن يتصرف به بخلاف الماء في الساقية المحفورة فإن الأرض لا قتضرر به، وإن كان ماء السطح يجري على الأرض احتمل أن لا يجوز له الصلح على ذلك لأنه إن احتاج إلى حفر لم يجز له أن يحفر في أرض غيره ولأنه يجعل لغير صاحب الأرض رسماً فربما ادعى استحقاق ذلك على صاحبها، واحتمل الجواز إذا لم يحتج إلى حفر ولم يكن فيه مضرة لأنه بمنزلة إجراء الماء في ساقية محفورة ولا يجوز إلا مدة لا تزيد على مدة الإجارة كما قلنا في إجراء الماء في الساقية(5/21)
(فصل) وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة لم يجز إلا بإذنه وإن كان لضرورة مثل أن يكون له أرض للزراعة لها ماء لا طريق له الاارض جاره فهل له ذلك؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز لأنه تصرف في أرض غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو لم تدع إليه ضرورة ولان مثل هذه الحاجة لا تبيح مال غيره بدليل أنه لا يباح له الزرع في أرض غيره ولا البناء فبها ولا الانتفاع بشئ من منافعها المحرمة عليه بمثل الحاجة (والأخرى) يجوز لما روي أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى فقال له الضحاك لم يمعني وهو منفعة لك تشربه أو لا وآخر أو لا يضرك فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر فدعا عمر محمد بن مسلمة وأمره أن يخلي سبيله فقال محمد لا والله فقال عمر لم تمنع أخاك
ما بنفعه وهو لك افع؟ تشربه أو لا وآخرا فقال محمد لا والله فقال عمر والله لميرن به ولو على بطلنك فأمره عمر أن يمر به ففعل.
رواه مالك في الموطأ وسعيد في سننه والأول أقيس وقول عمر بخالفه قول محمد بن مسلمة وهو موافق للاصول فكان أولى (فصل) وإن صالح رجلاً على أن يسقي أرضه من نهر الرجل يوماً أو يومين أو من عينه وقدرة بشئ يعلم به لم يجز ذكره القاضي لأن الماء ليس بمملوك ولا يجوز بيعه فلا يجوز الصلح عليه ولأنه(5/22)
مجهول قال وإن صالحه على سهم من العين أو النهر كالثلث والربع جاز وكان بيعاً للقرار والماء تابع له ويحتمال أن يجوز الصلح على السقي من نهره وقناته لأن الحاجة تدعو إلى ذلك والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة بدليل مالو أخذه في قربته والصلح يجوز على مالا يجوز بيعه بدليل الصلح عن دم العمد والصلح على المجهول (مسألة) (ويجوز أن يشتري ممرأفي دار وموضعاً في حائطه يفتحه باباً، وبقعة بحفرها بئراً) لأن، هذه الاما كن يجوز بيعها وإجارتها فجازا لاعتياض عنها كالدور (مسألة) (وإن يشتري علو بيت بيني عليه بنياناً موصوفاً) إذا كان البيت مبينا لما ذكرناه (فإن كان البيت غير مبنيي لم يجز في أحد الوجهين) ذكر الفااضي وأصحاب الشافعي لأنه مبيع للهواء دون القرار والثاني بجوز لأنه ملك للمصالح فجاز له أخذ عوضه كالقرار وإنما يجوز بشرط أن يصف العلوو السفل بما يعلم به لأن من شرط صحة البيع العلم بالمبيع (مسألة) (وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره فطالبه بالزالتها فله ذلك فإن ابى فله فطعها) وجملة ذلك أنه إذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره أو هوا جدار له فيه شركة لزم(5/23)
مالك الشجرة إزالة تلك الأغصان إما بردها إلى ناحية أخرى وإما بالقطع لأن الهواء ملك لصا حب القرار فوجب إزالة ما يشغله من ملك غيره كالقرار فإن امتنع المالك من إزالته لم يجبر لأنه من غير فعله فلم يجبر على إزالته كما لو لم يكن ملكه وإن تلف بها شئ لم يضمنه لذلك ويحتمل أن يجبر على
إزالته ويضمن ما تلف به إذا امر بالزالته فلم يفعل بناء على ما إذا مال حائطه إلى ملك غيره عليما نذكره إن شاء الله تعالى، وعلى كلى الوجهين إذا امتنع من إزالته كان لصاحب الهواء إزالته بأحد الأمرين لأنه بمنزلة البهيمة التي تدخل داره له إخراجها كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي، فان امكنه إرالته بلا إتلاف ولا يقطع من غير مشقة تلزمه ولا غرامة لم يجز له إتلافها كما أنه إذا أمكنه إخراج الهبيمة من غير إتلاف لم يجز له إتلافها فإن أتلفها في هذه الحال غرمها، وإن لم يمكله إزالتها إلا بالإتلاف فله ذلك ولا شئ عليه فإنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه (مسألة) (فإن صالحه عن ذلك بعوض لم يجز) اختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو الخطاب لا تصح المصالحة عن ذلك بحال رطبا كان الغصن أو يابساً لأن الرطب يزيد ويتغير واليابس ينقص وربما ذهب كله، وقال ابن حامد وابن عقيل يجوز ذلك رطبا كان اغصن أو يابساً لأن الجهالة في المصالح عنه(5/24)
لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فإنه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لكون ذلك يكثر في الأملاك المتجاورة وفي القطع إتلاف وضرر والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب والمستأجر للغرفة يتجدد له أولاد والغراس المستأجر له الأرض يعظم ويجفو وقال القاضي إن كان يابساً معتمداً على نفس الجدار صحت المصالحة عنه ولأن الزيادة مأمونة فيه ولا يصح الصلح على غير ذلك لأن الرطب يزيد في كل وقت وما لا يعتمد على الجدار لا يصح الصلح عليه لأنه تبع الهواء وهذا مذهب الشافعي قال شيخنا واللائق بمذهب أحمد صحته لأن الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة إذا لم يكن إلى العلم به سبيل وذلك لدعاء الحاجة إليه وكونه لا يحتاج إلى تسليم وهذا كذلك والهواء كالقرار في كونه ملكاً لصاحبه فجاز الصلح على ما فيه كالذي في القرار (مسألة) (وإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما جاز ولم يلزم) وجملة ذلك أنه إذا صالحه عن ذلك بجزء من الثمرة أو بالثمرة كلها فقد نقل المروذي واسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال لا أدري فيحتمل أن يصح، ونحوه قال مكحول فإنه نقل عنه(5/25)
أنه قال أيما شجرة ظللت على قوم فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها، ويحتمل أن لا يصح وهو قول الأكثر وبه قال الشافعي لأن العوض مجهول فإن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول ومن شرط الصلح العلم بالعوص ولأن المصالح عليه أيضاً مجهول لأنه يزيد ويتغير على ما أسلفناه، ووجه الأول أن هذا مم يكثر في الأملاك وتدعوا الحاجة إليه وفي القطع إتلاف فجاز مع الجهالة كالصلح على مجرى مياه الأمطار وعلى المواريث الدارسة والحقوق المجهولة التي لا سبيل إلى علمها قال شيخنا ويقوى عندي أن الصلح هنا يصح بمعنى أن كل واحد منهما ييح صاحبه ما بذل له فصاحب الهواء يبيح صاحب الشجرة إبقاءها ويمتنع من قطعها وإزالتها وصاحب الشجرة يبيحه ما بذل له من ثمرتها ولا يكون هذا بمعنى البيع لأن البيع لا يصح بمعدوم ولا مجهول والثمرة في حال الصلح معدومة مجهولة ولا هو لازم بل لكل واحد منهما الرجوع عا بذله والعود فيما قاله لأنه مجرد إباحة من كل واحد منهما لصحابه فجرى مجرى قول كل واحد منهما لصاحبه أسكن داري وأسكن دارك من غير تقدير مدة ولا ذكر شروط الإجارة أو قوله أيحتك الأكل من ثمرة بستاني فابخمي الأكل من ثمرة بستانك وكذك قوله دعني(5/26)
أجري في أرضك ماء ولك أن تسقى به ما شئت وتشرب منه ونحو ذلك فهذا مثله بل أولى فإن هذا مما تدعو الحاجة إليه كثيراً وفي إلزام القطع ضرر كثيرو إتلاف أموال كثيرة وفي الترك من غير نفع يصل صاحب الهواء ضرر عليه، وفيما ذكرناه جمع بين الأمرين ونظر للفريقين وهو على وفق الأصول فكان أولى.
(فصل) وكذلك الحكم فيما امتد من عروق شجر إنسان إلى أرض جاره سواء أثرت ضرراً مثل تأثيرها في المصانع وطي الآبار وأساس الحيطان أو منعها من نبات شجر لصاحب الأرض أو زرع أو لم توثر فإن الحكم في قطعه والصلح عنه كالحكم في الفروع إلا أن العروق لا ثمرلها فإن اتفقا على أن ما ينبت من عروقها لصاحب الأرض أو جزء معلوم منه فهو كالصلح على الثمرة فيما ذكرنا، فعلى قولنا إذا اصطلحا على ذلك فمضت مدة ثم أبى صاحب الشجرة دفع نباتها إلى صاحب الأرض فعليه
أجر المثل لأنه إنما تركه في أرضه لهذا فلما لم يسلم له رجع بأجر المثل كما لو بذلها بعوض لم يسلم له وكذلك فيمن مال حائطه إلى هواء ملك غيره أوزلف من أخشابه إلى ملك غيره فالحكم فيه على ما ذكرنا(5/27)
(مسألة) (ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً ولا ساباطاً ولا دكانا) الجناح والروشن يكون على أطراف خشبة مدفونة في الحائط وأطرافها خارجة إلى الطريق الأولى وهو المستوفي لهواء الطريق كله عليه جدارين سواء كان الجداران ملكه أولم يكونا اذان الإمام في ذلك أولم يأذن، وقال ابن عقيل إن لم يكن فيه ضرر جاز بإذن الإمام فجرى إذنه مجرى إذن المشتركين في الدوب الذي ليس بنافذ، وقال أبو حنيفة يجوز من ذلك مالا ضرر فيه وإن عارضه رجل من المسلمين وجب ققعله، وقال مالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد يجوز إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه لانه ارتفق بما لم يعتعين ملك أحد فيه من غير مضرة فأشبه المشي في الطريق والجلوس فيها واختلفوا في الذي لا يضر ما هو فقال بعضهم إن كان في شارع تمر فيه الجبوش فيكون يحيث إذا سار فيه الفارص ورمحه منصوب لا يبلغه وقال أكثرهم لا يقدر بذلك بل يكون بحيث لا يضر بالعماريات والمحامل.
ولنا أنه بنى في ملك غيره بغير إذنه فلم يجز كبناء الدكة أو بناء ذلك في درب غير نافذ بغير إذن أهله، ويفارق المرور في الطريق فاناها جعلت لذلك ولا مضرة فيه والجلوس لا يدوم ولا يمكن التحرز(5/28)
منه ولا نسلم أنه لا مضره فيه فإنه يظلم الطريق وربما سقط على المارة أو سقط منه شئ وقد تعلوا الأرض يمرور الزمان فيصدم رءوس الناس ويمنع مرور الدواب بالأحمال ويقطع الطريق الاعلى الماشي وقد رأينا مثل هذا كثيراً، وما يفضي إلى الضرر في ثاني الحال يجب المنع منه في ابتدائه كما لو أراد بناء حائط مائل إلى الطريق يخشى وقوعه على من يمر فيها ولنا على أبي حنيفة أنه بنى في حق مشترك لو منع منه بعض أهله لم يجز فلم يجز فلم يجز بغير إذنهم كما لو أخرجه إلى هواء دار مشتركة وذلك لأن حق الآدمي لا يجوز لغيره التصرف فيه بغير إذنه وإن كان ساكناً كما لا يجوز إذا منع فإما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق بغير خلاف علمناه سواء كان الطريق
وواسعا أو لا وسواء أذن فيه الإمام أولم يأذن لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه ولأنه يؤذي المارة يضيق عليهم ويعثر به العائر أشبه مالو كان الطريق ضيقاً.
(فصل) ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم ولا إلى درب غير نافذ إلا بإذن أهله وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم لأن عمر اجتاز على دار العباس(5/29)
وقد نصب ميزاباً إلى الطريق فقلعه فقال العباس تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال والله لا نصبته إلا على ظهري وانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلغيره فعله ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا يمكنه رد مائه إلى الدار ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير ولنا أن هذا تصرف في هواء مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه فلم يجز كما لو كان الطريق غير نافذ ولأنه يضر بالطريق وأهلها فلم يجز كبناء دكة فيها أو جناح يضر بأهلها ولا يخفي ما فيه من الضرر فإن ماءه يقع على المارة وربما جرى فيه البول أو ماء نجس فبنجسهم ويزلق الطريق ويجعل فيها الطين والحديث قضية في عين فيحتمل أنه كان في درب غير نافذ أو تجددت الطريق بعد نصبه ويحتمل أن يجوز ذلك لأن الحاجة داعية إليه والعادة جارية به مع ما فيه من الخبر المذكور (مسألة) (ولا يجوز أن يفعل ذلك في ملك إنسان أو درب غير نافذ إلا بإذن أهله) أما في ملك الإنسان فلا يجوز بغير إذنه لأنه تصرف في ملك الغير فلم يجز بغير إذنه فلا يجوز ذلك في الدرب وبه قال الشافعي في الجناح والساباط إذا لم يكن له في الدرب باب، وإن كان له في الدرب باب فقد اختلف أصحابه فمنهم من منعه أيضاً ومنهم من أجاز له إخراج الجناح والساباط لأن له في الدرب استطراقا فملك ذلك كما يملكه في الدرب النافذ(5/30)
ولنا أنه بناء في هواء ملك قوم معينين أشبه إذا لم يكن له فيه باب ولا نسلم الأصل اذي قاسوا عليه فإن أذن أهل الدرب فيه جاز لأن الحق لهم فجاز بإذنهم كما لو كان لمالك واحد
(مسألة) (وإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين) وقال القاضي وأصحاب الشافعي لا يجوز في الجناح والساباط لأنه بيع للهواء.
دون القرار ولنا أنه يبني فيه بإذنهم فجاز كما لو أذنوا له بغير عوض ولأنه ملك لهم فجاز لهم أخذ عوض كالقرار إذا ثبت هذا فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدر في الخروج والعلو وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين يجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار (فصل) ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ماء ينتفع به ولا غير ذلك لما ذكرنا من قبل، وإن اراد حفرها للمسليمن ونفعهم أو لنفع الطريق مثل أن يحفرها ليسقي الناس من مائها ويشرب منه المارة أو لينزل فيها ماء المطر عن الطريق نظرنا(5/31)
فإن كان الطريق ضيقاً أو كانت في ممر الناس بحيث يخاف سقوط إنسان فيها أو دابة أو يضيق عليهم ممرهم لم يجز لأن ضررها أكثر من نفعها، وإن حفرها في زاوية من طريق واسع وجعل عليها ما يمنع الوقوع فيها جاز لأن ذلك يقع بلا ضرر فجاز كتمهيدها وبناء رصيف فيها فأما ما فعله في درب غير فافذ فلا يجوز بغير إذن أهله لأن هذا ملك لقوم معينين فلم يجز فعل ذلك بغير إذنهم كما لو فعله في بستان إنسان، ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز سواء حفرها لنفسه ليزل فيها ماء المطر عن داره أو ليستقي منها ماء لنفسه أو حفرها للسبيل ونفع الطريق وكذلك إن فعل ذلك في ملك إنسان معين (مسألة) (وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ ففتح فيه باباً لغير الاستطراق جاز) لأن له رفع جميع حائطه فبعضه أولى.
قال ابن عقيل ويحتمل أن لا يجوز لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الاستطراقن فيضرباهل الدرب بخلاف رفع الحائط فإنه لا يدل على شئ (مسألة) (وإن فتحه للإستطراق لم يجز بغير إذنهم) لأنه ليس لهم حق في الدرب الذي هو ملك غيره وفيه وجه آخر أنه يجوز لأن له رفع جميع والأول أولى لأن الدرب لاحق له فيه فلم يجز أن يجعل له فيه حق استطراق فإن صالحهم جاز لأن الحق لهم فأشبه دورهم إذا صالحهم على شئ منها(5/32)
(فصل) وإن كان ظهر داره إلى زقاق نافذ ففتح في حائطه باب اليه جاز لأنه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه فإن قيل هذا فيه إضرار بأهل الدرب لأنه يحعله نافذاً يستطرق إليه من الشارع قلنا لا يصير الدرب نافذاً وإنما تصير داره نافذة وليس لأحد استطراق داره (مسألة) (ولو كان بابه في آخر الدرب ملك نقله إلى أوله ولم يملك نقله إلى داخل منه في أحد الوجهين) كان له لأن حقه لم يسقط، فاما ان أراد نقل بابه إلى تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه، وفيه وجه آخر أنه يجوز لأنه كان له أن يجعل بابه في أول البناء في أي موضع شاء فتركه في موضع لا يسقط حقه كما أن تحويله بعد فتحه لا يسقطه ولأن له أن يرفع حائطه كله فلم يمنع من رفع بعضه والأول أولى لأنه لا يلزم من جواز رفع الحائط جواز الاستطراق كالمسألة التي قبلها (فصل) وإن كان في الدرب بابان لرجلين أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله فأراد صاحب الداخل أن يحول بابه فله تحويله حيث شاء لأنه لا منازع له فيما يجاوز الباب الأول إذا قلنا(5/33)
أن صاحب القريب ليس له أن يقذمه إلى داخل الدرب وإن قلنا له تقديمه جاز لكل واحد منهما فان كان في داخل الدرب باب لثالث فحكم الأوسط حكم الأول فيما ذكرناه (فصل) إذا كان لرجل داران متلاصقتان ظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى وباب كل واحدة منهما إلى درب غير نافذ فرفع الحاجز بينهما وجعلهما دار واحدة جاز لأنه تصرف في ملكه المختص وإن فتح من كل واحدة منهما بابا إلى الأخرى ليتمكن إلى التطرق من كل واحدة منهما إلى كلى الدربين فقال القاضي لا يجوز لأن ذلك يثبت الاستطراق في الدرب الذي لا ينفذ من دار لم يكن لها فيه طريق ولأنه ربما أدى الى إثبات الشفعة في قول من يثبتها بالطريق لكل واحدة من الدارين في زقاق الأخرى، ويحتمل جواز ذلك لأن له رفع الحاجز جميعه فبعضه أولى قال شيخنا وهذا أشبه وما ذكرناه للمنع ينتقض بما إذا رفع الحائط جميعه، وفي كل موضع قلنا ليس له فعله إذا صالحه أهل الدرب
جاز وكذلك إن أذنوا له بغير عوض(5/34)
(فصل) إذا تنازع صاحبا البابين في الدرب ولم يكن فيه باب لغيرهما ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يحكم بالدرب من أوله الى الباب الذي يليه بينهما لأن لهما الاستطراق فيه جميعاً وما بعده إلى صدر الدرب للأخر لأن الاستطراق في ذلك له وحده فله اليد والتصرف (والثاني) أن من أوله الى أقصى حائط الأول بينهما لأن ما يقابل ذلك فلهما التصرف فيه بناء على أن للأول أن يفتح بابه فيما شاء من حائطه والباقي للثاني لأنه ليس بفناء للأول ولا له فيه استطراق والثالث يكون بينهما لأن لهم يداً وتصرفاً، وهكذا الحكم فيما إذا كان لرجل علو خان ولآخر سفله ولصاحب العلو درجة في أثناء صحن الخان فاختلفا في الصحن فالذي من الدرجة إلى باب الخان بينهما وما زاد على ذلك إلى صدر الخان على الوجهين، فإن كانت الدرجة في صدر الصحن فالصحن بينهما لوجود اليد والتصرف منهما جميعاً فعلى الوجه الذي يقول أن صدر الدرب مختص بصاحب الباب الصدراني له أن يستبد له أن يستبد بما يختص به منه بان(5/35)
يجعله دهليز النفسه أو يدخله في داره على وجه لا يضر بجاره ولا يضع على حائطه شيئاً لأن ذلك ملك له ينفرد به (مسألة) (وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة ولا طاقاً بغير إذن صاحبه) لأن ذلك انتفاع بملك غيره وتصرف فيه بما يضره وكذلك لا يجوز أن يغرز فيه وتداً ولا يحدث عليه حائطاً ولا سترة ولا يتصرف فيه بنوع تصرف لأنه يضر بحائط غيره فهو كنقصه وإن صالحه على ذلك بعوض جاز فأما الاستناد إليه واسناد شئ لا يضره فلا بأس به لكونه لا مضره فيه ولا يمكن التحرز منه أشبه الاستظلال به (مسألة) (وليس له وضع خشبة عليه الاعند الضرورة بأن لا يمكنه التسقيف إلا به) أما وضع خشبة عليه فلا يجوز إذا كان يضر بالحائط لا نعمل فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وإن كان لا يضر به إلا أن به عنه غنى لامكان وضعه على غيره فقال أكثر أصحابنا لا يجوز أيضاً وهو قول الشافعي وأني ثور لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة فلم يجز كبناء(5/36)
حائط عليه واختار ابن عقيل جوازه لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره) متفق عليه ولأن ما أبيح للحاجة العامة لم يعتبر فيه حقيقة الحاجة كالشفعة والفسخ بالخيار أو بالعيب واتخاذ الكلب للصيد وإباحة السلم ورخص السفر وغير ذلك، فأما ان دعت الحاجة إلى وضعه على جدار جاره أو الحائط المشترك بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به فإنه يجوز وضعه بغير إذن الشريك وهو قومل الشافعي في القديم وقال في الجديد ليس له وضعه وهو قول أبي حنيفة ومالك لأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز كزراعته ولنا الخبر وانه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضر به أشبه الاستناد إليه والاستظلال به ويفارق الزرع فإنه يضر ولم تدع إليه حاجة.
إذا ثبت هذا فاشترط القاضي وابو الخطاب للجواز أن يكون له حائط واحد ولجاره ثلاثة حوائط، وليس هذا في كلام أحمد إنما قال في رواية أبي داود لا يمنعه إذا لم(5/37)
يكن فيه ضرور كان الحائط يبقى ولأنه قد يمتنع التسقيف على حائطين إذا كانا غير متقابلين أو كان البيت واسعاً يحتاج إلى أن يجعل إليه جسراً ثم يضع الخشب على ذلك الجسر، قال شيخنا والأولى اعتباره بما ذكرنا من امتناع التسقيف بدونه، ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والعاقل والمجنون لما ذكرنا (مسألة) (وعنه ليس له وضع خشبة على جدار المسجد وهذا تنبيه على أنه لا يضعه على جدار جاره) اختلفت الرواية عن أحمد في وضع خشبة على جدار المسجد مع وجود الشرطين فعنه الجواز لانه ادا جار وضعه في ملك الجار مع أن حق مبني على الشح والضيق ففي حقوق الله تعالى المبنية على المسامحة أولى وعنه لا يجوز نقلها عنه أبو طالب لأن القياس يقتضي المنع في حق الكل ترك في حق الجار للخبر الوارد فيه فوجب البقاء في غيره على مقتضى القياس اختاره أبو بكر، وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية وجهاً للمنع من وضع الخشب في ملك الجار لأنه إذا منع من وضع الخشب في الجدار المشترك بين المسلمين وللواضع فيه حق فلأن يمنع من الملك المختص بغيره أولى ولانه إذا منع في حق(5/38)
الله تعالى مع انه مبني على المسامحة لغنى الله تعالى وكرمه فلان يمنع في حق الآدمي مع شحه وضيقه أولى والمذهب الأول، فإن قيل فلم لا تجيزون فتح الطاق والباب في الحائط قياساً على وضع الخشب؟ قلنا الخشب يمسك الحائط وينفعه بخلاف الطاق والباب فإنه يضعف الحائط لانه يبقى مفتوحاً والذي يفتحه للخشبة يسده بها ولأن وضع الخشب تدعو إليه الحاجة دون غيره (فصل) ومن ملك وضع خشبة على حائط فزال لسقوطه أو فعله أو سقوط الحائط ثم أعيد فله إعادة خشبه لأن السبب المجوز لوضعه مستمر فاستمر الاستحقاق وإن زال السبب مثل أن خشي على الحائط من وضعه عليه أو استغنى عن وضعه لم تجز إعادته لزوال السبب المبيح فإن خيف سقوط الحائط بعد وضعه عليه لزم إزالته لأنه يضر بالمالك وإن لم يخف عليه لكن استغنى عن إبقائه عليه لم تلزم إزالته لأن في إزالته ضرراً بصاحبه ولا ضرر على صاحب الحائط في إبقائه بخلاف مالو خشي سقوطه (فصل) وإذا كان له وضع خشبة على جدار غيره لم يملك إجارته ولا إعارته لأنه إنما ملك ذلك لحاجته الماسة إلى وضع خشبه ولا حاجة الى وضع خشب غيره فلم يملكه وكذلك لا يملك بيع حقه من وضع خشبه ولا المصالحة عنه للمالك ولا لغيره لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته فلم يجز له ذلك فيه كطعام غيره(5/39)
إذا أبيح له في حال الضرورة، ولو أراد صاحب الحائط إعارة الحائط أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبه لم يملك ذلك لأنه وسيلة إلى منع ذي الحق من حقه فلم يملكه كمنعه، ولو أراد هدم الحائط لغير حاجة لم يملك ذلك لما فيه من تفويت الحق وإن احتاج الى ذلك للخوف من انهدامه أو لتحويله مكان آخر أو لغرض صحيح ملك ذلك لأن صاحب الخشب إنما يثبت حقه للإرفاق به مشروطاً بعدم الضرر بصاحب الحائط فمتى أفضى إلى الضرر زال الاستحقاق لزوال شرطه (فصل) فإن أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه أو وضع سترة عليه أو وضع خشبه عليه في الوضع الذي لا يستحق وضعه جاز لأن الحق له فجاز بإذنه فإذا فعل ما أذن فيه صارت العارية لازمة تذكر في باب العارية (فصل) وإن أذن له في وضع خشبه أو البناء على جدار هـ بعوض جداره بعوض جاز سواء كان إجارة في مدة(5/40)
معلومة أو صلحاً على وضعه على التأبيد ومتى زال فله إعادته سواء زال لسقوطه أو سقوط الحائط أو غير ذلك لأنه استحق إبقاءه بعوض ويحتاج أن يكون البناء معلوم العرض والطول والسمك والآلات من الطين واللبن والآجر وما أشبه ذلك لأن هذا يختلف فيحتاج إلى معرفته، وإذا سقط الحائط الذي عليه البناء أو الخشب في أثناء مدة الإجارة سقوطاً لا يعود انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة ورجع من الأجرة بقسط ما بقي من المدة، وإن أعيد رجع من الأجرة بقدر المدة التي سقط البناء والخشب عنه، وان صالحه مالك الحائط على رفع خشبه أو بنائه بشئ معلوم جاز كما يجوز الصلح على وضعه سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له وكذلك لو كان له مسيل في أرض غيره أو ميزاب أو غيره فصالح صاحب الأرض مستحق ذلك بعوض لبزيله عنه جاز، وإن كان الخشب أو الحائط قد سقط فصالحه بشئ على أن لا يعيده جاز لانه لما جاز أن يبيع ذلك منه جاز أن يصالح عنه لأن الصلح بيع(5/41)
(فصل) واذا وجد بناءه أو خشبه على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه فمتى زال فله إعادته لأن الظاهر أن هذا الوضع بحق من صلح أو غيره فلا يزول هذا الظاهر حتى يعلم خلافه وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره وما أشبه هذا فهو له لأن الظاهر أنه له بحق فجرى مجرى اليد الثابتة، ومتى اختلفا في ذلك هل هو بحق أو بعد وان فاقول قول صاحب الخشب والبناء والمسيل مع يمينه لأن الظاهر معه (فصل) إذا ادعى رجل داراً في يد أخوين فأنكره أحدهما وأقر له له الآخر ثم صالحه على ما اقر له بعوض صح الصلح ولأخيه الأخذ بالشفعة ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كان الإنكار مطلقاً وبين ما إذا قال هذه لنا ورثناها جميعاً عن أبينا أو أخينا فيقال إذا كان الإنكار مطلقاً كان له الأخذ بالشفعة وإن قال ورثناها فلا شفعة له لأن المنكر يزعم إن الملك لا خيه المقر لم يزل وإن الصلح باطل(5/42)
فيؤاخذ بذلك فلا يستحق به شفعة، ووجه الأول أن الملك ثبت للمدعي حكماً وقد رجع إلى المقر بالبيع وهو معترف بأنه بيع صحيح فتثبت فيه الشفعة كما لو كان الإنكار مطلقاً ويجوز أن يكون نصيب المقر انتقل إلى المدعي ببيع أو هبة أو سبب من الأسباب فلا ينافي انكار النمكر واقرار المقر كجالة إطلاق الإنكار وهذا أصح (مسألة) (وإن كان بينهما حائط فانهدم فطالب أحدهما صاحبه ببنائه أجبر عليه وعنه لا يجبر) إذا كان بين الشريكين حائط فانهدم فطلب أحدهما إعادته وأبى الآخر فذكر القاضي فيه روايتين (إحداهما) يجبر نقلها ابن القاسم وحرب وسندي قال القاضي هي أصح قال ابن عقيل وعلى ذلك أصحابنا وهو إحدى الروايتين عن مالك وقول الشافعي القديم واختاره بعض أصحابه لأن في ترك بنائه أضراراً فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى نقض الحائط عند خوف سقوطه(5/43)
عليهما ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) وهذا وشريكه يتضرران في ترك بنائه (والرواية الثانية) لا يجبر نقل عن أحمد ما يدل على ذلك وهو أقوى في النظر ومذهب أبي حنيفة لأنه ملك لاحرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به ولانه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء ولأنه لا يخلو إما أن يجبر على بنائه لحق نفسه أو لحق جاره أو لهما جميعاً لا يجوز أن يجبر لحق نفسه بدليل مالو انفرد به ولا لحق غيره كما لو انفرد به جاره وإذا لم يكن واحد منهما موجباً فعليه فكذلك إذا اجتمعا وفارق القسمة فإنها دفع للضرر عنهما بما لا ضرر فيه والبناء فيه ضرر لما فيه من الغرامة وانفلق ماله ولا يلزم من إجباره على إزالة الضرر بما لا ضرر فيه إجباره على إزالته بما فيه ضرر بدليل قسمة ما في قمسته ضرر ويفارق هدم الحائط إذا خيف سقوطه لأنه يخاف سقوطه على ما يتلفه فيجبر على ما يزيل ذلك ولذلك يجبر عليه وإن انفرد الحائط بخلاف مسئلتنا ولا نسلم أن في تركه أضراراً فإن الضرر إنما حصل بانهدامه وإنما ترك النباء ترك لما يحصل النفع(5/44)
به وهذا لا يمنع الإنسان منه بدليل حالة الإبتداء وإن سلمنا أنه أضرار لكن في الإجبار أضرار ولا
يزال الضرر بالضرر ولأنه قد يكون الممتنع لانفع له في الحائط أو يكون الضرر عليه أكثر من النفع أو يكون معسراً ليس معه شي فيكلف الغرامة مع عجزه عنها (مسألة) (وليس له منعه من بنائه) على الرواية التي تقول لا يجبر الممتنع إذا أراد شريكه البناء فليس له منعه لأن له حقاً في الحمل ورسماً فلا يجوز منعه منه (مسألة) (فإن بناه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده فهو له وليس للآخر الانتفاع به وإن طلب الانتفاع به خير الثاني بين أخذ نصف قيمته وبين أخذ آلته) وجملة ذلك أن للشريك بناء الحائط بأنقاضه وله بناؤ بآلة من عنده، فان بناء بآلته وأنقاضه فهو على الشركة كما كان لأن المنفق إنما أنفق على التالف وذلك أثر لاعين يملكها، وإن بناه بآلة من عنده فالحائط ملكه خاصة، وله مع شريكه من الانتفاع ومن وضع خشبة ورسومه عليه لأن الحائط له فإن أراد نقضه وكان بناه بآلته فليس له نقضه لأنه ملكهما فلم يكن له التصرف فيه بما فيه مضرة(5/45)
عليهما وإن كان بناه بآلة من عنده فله نقضه لأنه يختص بملكه فإن قال شريكه أنا أدفع إليك نصف قيمة البناء ولا تتقضه لم يجبر لأنه لما لم يجبر على البناء لم يجبر على الإبقاء وإن أراد غير الباني نقضه وإجبار بانيه على نقضه لم يكن له ذلك على كلتا الروايتين لأنه إذا لم يملك منعه من بنائه فلأن لا يملك إجباره على نقضه أولى، فإن كان له على الحائط رسم انتفاع أو وضع خشب قال له اما أن تأخذ مني نصف قيمته وتمكنني من انتفاعي وإما أن تقلع حائطك لنعيد البناء من بيننا فيلزم الآخر إجابته لأنه لا يملك إبطال رسومه وانتفاعه ببنائه، وإن لم يرد الانتفاع به فطالبه الثاني بالغرامة أو القيمة لم يلزمه ذلك لأنه إذا لم يجبر على البناء فأولى أن لا يجبر على الغرامة إلا أن يكون قد أذن في البناء والإنفاق فيلزمه ما أذن فيه فأما على الرواية الأولى فمتى امتنع أجبره الحاكم على ذلك فإن لم يفعل أخذ الحكام من ماله وأنفق عليه وإن لم يكن له مال فانفق عليه الشريك بإذن الحاكم أو أذن الشريك رجع عليه متى قدر، وإذا أراد بناء لم يملك الشريك منعه، وما أنفق أن تبرع به لم يكن له الرجوع به وإن نوى الرجوع به فهل له الرجوع بذلك؟ يحتمل وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، وإن بناه لنفسه بآلته فهو بينهما وإن بناه بآلة من عنده فهو له خاصة فإن أراد نقضه فله ذلك إلا أن يدفع اليه شريكه نصف
قيمته فلا يكون له نقضه لأنه إذا أجبر على بنائه فأولى أن يجبر على إبقائه(5/46)
(فصل) فإن لم يكن بين ملكيهما حائط فطلب أحد هما من الآخر أن بينيا حائطاً يحجز بين ملكيهما لم يجبرا الآخر عليه رواية واحدة فإن أراد البناء وحده فليس له إلا في ملكه لأنه لا يملك التصرف في ملك جاره المختص به ولا في الملك المشترك بغير ماله فيه رسم وهذا لا رسم له فيه (فصل) فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السقف الذي بينهما فطلب أحد هما المباناة من الآخر فامتنع فهل يجبر؟ على روايتين كالحائط بين البيتين وللشافعي فيه قولان، فإن انهدمت حيطان السفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها ففيه روايتان (إحداهما) يجبر وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشافعي فعلى هذه الرواية يجبر على البناء وحده لأنه ملكه خاصة (والثانية) لا يجبر وهو قول أبي حنيفة فإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الروايتين جميعاً، فإن بناه بآلته فهو على ما كان وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد لا ينتفع به صاحب السفل يعني حتى يؤدي القيمة فيحتمل أنه لا يسكن وهو قول أبي حنيفة لان البيت إنما يبني للسكنى فلم يملكه كغيره ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطاق وتكون له السكنى من غير تصرف في ملك غيره وهو مذهب الشافعي لأن السكنى إنما هي إقامته في فناء الحيطان من غير تصرف فيها أشبه الاستظلال(5/47)
بها من خارج فأما إن طالب صاحب السفل بالبناء وأبى صاحب العلوففيه روايتان: (إحداهما) لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشافعي لأن الحائط ملك صاحب السفل فلم يجبر غيره على بنائه ولا المساعدة فيه كما لو لم يكن عليه علو (والثانية) يجبر على مساعدته والبناء معه، وهو قول أبي الدرداء لأنه حائط بشتركان في الإنتفاع به أشبه الحائط بين الدارين.
(فصل) فإن كان بين البيتين حائط لأحدهما فانهدم فطلب أحدهما من الآخر بناءه أو المساعدة في بنائه لم يجبر لأنه إن كان الممتنع مالكه لم يجبر على بناء ملكه المختص به كحائط الآخر وإن كان
الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه ولا يلزم على هذا حائط السفل حيث يجبر صاحبه على بنائه مع اختصاصه بملكه لأن الظاهر أن صاحب العلو ملكه مستحقا لا بقائه على حيطان السفل دائماً فلزم صاحب السفل تمكينه مما يتسحقه وطريقة البناء فلذلك وجب بخلاف مسئلتنا وإن أراد(5/48)
صاحب الحائط بناءه أو نقضه بعد بنائه لم يكن لجاره منعه لأنه ملكه خاصة وإن أراد جاره بناءه أو نقضه أو التصرف فيه لم يملك ذلك لأنه لاحق له فيه (فصل) ومتى هدم أحد الشريكين الحائط المشترك أو السقف الذي بينهما نظرت فإن خيف سقوطه ووجب هدمه فلا شيء على هادمه ويكون كما لو النهدم بنفسه لأنه فعل الواجب وأزال الضرر الحاصل بسقوطه، وإن هدمه لغير ذلك فعليه إعادته سواء كان هدمه لحاجة أو غيرها وسواء التزم إعادته أو لم يلتزم لأن الضرر حصل بفعله فلزمته إزالته (فصل) فإن اتفقا على بناء الحائط المشترك بينهما نصفين وملكه بينهما الثلث والثلثان لم يصح لأنه يصالح عن بعض ملكه ببعض فلم يصح كما لو أقر له بدار فصالحه على سكناها ولو اتفقا على أن يحمله كل واحد منهما ما شاء لم يجز لجهالة الحمل فإنه يحمله من الاثقال ما لا طاقة له بحمله وإن اتفقا على أن يكون بينهما نصفين جاز.
(مسألة) (وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب أو ناعورة أو قناة فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع وجهان) بناء على الحائط المشترك إذا انهدم وحكي عن أبي حنيفة أنه يجبر ههنا على الإنفاق لأنه لا يتمكن شريكه من مقاسمته فيتضرر بخلاف الحائط فإنه يمكنهما قسمة العرصة قال شيخنا: والأولى التسوية لأن في قسمة العرصة أضراراً بهما والإنفاق أرفق بهما فكانا سواء(5/49)
(مسألة) (وليس لأحدهما منع صاحبه من عمارته) فإن عمره فالماء بينهما على الشركة أما الدولاب والناعورة فالحكم فيه كالحكم في الحائط على
ما ذكرناه وأما النهر والبئر فلكل واحد منهما الإنفاق عليه وإذا أنفق عليه لم يكن له منع الآخر من نصيبه من الماء لأنه ينبع من ملكهما وإنما أثر أحدهما في نقل الطين منه وليس له فيه عين مال فأشبه الحائط إذا بناه بآلته والحكم في الرجوع بالنفقة حكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى (فصل) وليس للرجل التصرف في ملكه بما يضر بجاره نحو أن يبني حما ما بين الدور او يفتح(5/50)
خبازاً بين العطارين أو يجعله دكان قصارة بهز الحيطان ويخربها أو يحفر بئراً إلى جانب بئر جاره يجتذب ماءها وبهذا قال بعض الحنفية وعن أحمد رواية أخرى لايمنع وبه قال الشافعي وبعض الحنفية لأنه تصرف في ملكه المختص به ولم يتعلق به حق غيره فلم يمنع منه كما لو طبخ في داره أو خبز فيها وسلموا انه يمنع من الدق الذي يهدم الحيطان وينزها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) ولأن هذا إضرار بجير انه فمنع منه كالذي سلموء وكسقي(5/51)
الأرض الذي يتعدى إلى هدم حائط جاره أو إشعال نار يتعدى إلى إحراقها، قالوا ههنا تعدت النار التي أضرمها والماء الذي أرسله فكان مرسلاً لذلك في ملك غيره أشبه مالو أرسله إليها قصداً، قلنا والدخان الذي هو اجزا الحريق الذي أحرقه فكان مرسلاً له في ملك جاره فهو كالنار والماء وأما دخان الخبز والطبيخ فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه وتدخله المسامحة (فصل) فإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر فليس لصاحب الأعلى الصعود على سطحه(5/52)
على وجه يشرف على سطح جاره إلا أن يبني سترة تستره وقال الشافعي لا يلزمه ستره لأن هذا حاجز بين ملكيهما فلم يجبر أحدهما عليه كالأسفل ولنا أنه أضر بجاره فمنع منه كدق يهز الحيطان وذلك أنه يكشف جاره ويطلع على حرمه فأشبه ما لو اطلع عليه من صئر بابه أو خصاصه وقد دل على المنع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أن رجلا اطلع إليك فحذمته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) ويفارق الأسفل فإن تصرفه لا يضر
بالأعلى ولا يكشف داره.(5/53)
باب الحوالة الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع) متفق عليه وفي لفظ من (أحيل بحقه على ملئ فليحتل) وأجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة، واشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، وقد قيل إنها بيع فإن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه وجاز تأخير القبض رخصة لأنه موضوع على الرفق فيدخلها خيار المجلس لذلك والصحيح أنها عقد ارفاق منفد بنفسه ليس بمحمول على غيره لأنها لو كانت بيعاً لما جازت لأنه بيع دين بدين ولما جاز التفرق قبل القبض لأنه بيع مال الربا بجنسه ولجازت بلفظ البيع ولجازت بين جنسين كالبيع ولأن لفظها يشعر بالتحول لا بالبيع فعلى هذا لا يدخلها خيار وتلزم بمجرد العقد وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله، ولابدء فيها من محيل ومحتال ومحال عليه (مسألة) (والحوالة تنقل احق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه فلا يملك المحتال الرجوع عليه بحال(5/54)
إذا صحت الحوالة برئت ذمة المحيل وانتقل الحق إلى ذمة المحال عليه في قول عامة أهل العلم وروى عن الحسن أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يبرئه وعن زفر أنه قال لا تنقل الحق وأجراها مجرى الضمان ولنا أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق بخلاف الضمان فإنه مشتق من ضم ذمة إلى ذمة فعلق على كل واحد مقتضاه وما دل عليه لفظه.
إذا ثبت ذلك فمتى رضي بها المحتال ولم يشترط اليسار لم يعد الحق إلى المحيل أبداً سواء أمكن استيفاء الحق أو تعذر لمطل أو فلس أو موت أو غيره وبه قال الليث والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي، وقال شريح والشعبي والنخعي متى أفلس أو مات رجع على صاحبه وقال أبو حنيفة يرجع عليه في حالين إذا مات المحال عليه مفلساً وإذا جحده وحلف عليه عند الحاكم وقال أبو يوسف ومحمد يرجع عليه في هاتين الحالتين وإذا
حجر عليه لفلس لأنه روي عن عثمان أنه سئل عن رجل أحيل بحقه فمات المحال عليه مفلساً فقال يرجع بحقه لأنه لا توى على مال امرئ مسلم ولأنه عقد معاوضة لم يسلم العوض فيه لأحد المتعاوضين فكان له الفسخ كما لو اعتاض بثوب فلم يسلم إليه ولنا أن حزنا حد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين فأحاله به فمات المحال(5/55)
عليه فأخبره فقال اخترت علينا أبعدك الله فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره إن له الرجوع ولأنها براءة من دين ليس فيها قبض ممن هي عليه ولا ممن يدفع عنه فلم يكن فيها رجوع كما لو أبرأه من الدين وحديث عثمان لم يصح يرويه خلد بن جعفر عن معاوية بن قرة عن عثمان ولم يصح سماعه وقد روي أنه قال في حوالة أو كفالة وهذا يوجب التوقف ولو صح كان قول علي مخالفاً له، وقولهم هو معاوضة لا يصح لأنه يفضي إلى بيع الدين بالدين وهو منهي عنه ويقارق المعاوضة بالثوب لأن في ذلك قبضاً يقف استقرار العقد عليه وههنا الحوالة بمنزلة القبض والاكان بيع دين بدين (مسألة) (ولا تصح إلا بشروط ثلاثة (أحدها) أن يحيل على دين مستقر فإن أحال على مال الكتابة أو السلم قبل قبضه أو الصداق قبل الدخول لم يصح وإن أحال المكاتب سيده أو الزوج امرأته صح) لا تصح الحوالة على دين غير مستقر لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقاً ولا يثبت ذلك فيما هو بعرض السقوط ولا يعتبر ان يحيل بدين مستقر إلا أن السلم لا تصح الحوالة به ولا عليه لأن دين السلم ليس بمستقر لكونه متعرضاً للفسخ بانقطاع المسلم فيه ولا تصح الحوالة به لأنها لا تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه ولا يجوز ذلك في السلم لقوله عليه الصلاة والسلام (من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى(5/56)
غيره فلا تصح الحوالة على المكاتب بمال الكتابة لأنه غير مستقر لأن له أن يمتنع من أدائه ويسقط بعجزه وتصح الحوالة عليه بدين غير دين الكتابة لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات، وإن أحال المكاتب سيده بنجم قد حل عليه صح وبرئت ذمة المكاتب بالحوالة ويكون ذلك بمنزلة القبض وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لأنه غير مستقر يحتمل أن يسقط بانفساخ
النكاح بسبب من جهتها، وإن أحالها الزوج به صح لأن له تسليمه إليها وحوالته به تقوم مقام تسليمه وإن أحالت به بعد الدخول صح لأنه مستقر، وإن أحال البائع بالثمن على المشتري في مدة الخيار لم يصح في قياس ما ذكرنا وإن أحاله المشتري به صح لأنه بمنزلة الوفاء قبل الاستقرار، وإن أحال البائع بالثمن على المشتري ثم ظهر على عيب لم يتبين أن الحوالة كانت باطلة لأن الثمن كان ثابتاً مستقراً والبيع كان لازماً وانما ثبت الجاز بعد العلم بالعيب بالنسبة إلى المشتري، ويحتمل أن تبطل الحوالة لأن سبب الجواز عيب المبيع وقد كان موجوداً وقت الحوالة.
وكل موضع أحال من عليه دين غير مستقر به ثم سقط الدين كالزوجة ينفسخ نكاحها بسبب من جهتها أو المشتري يفسخ البيع ويرد المبيع فإن كان ذلك قبل القبض من المحال عليه ففيه وجهان (أحدهما) تبطل الحوالة لعدم الفائدة في بقائها ويرجع(5/57)
المحيل بدينه على المحال عليه والثاني لا تبطل لأن الحق انتقل عن المحيل فلم يعد إليه وثبت للمحتال فلم يزل عنه ولأن الحوالة بمنزلة القبض فكأن المحيل أقبض المحتال فيرجع عليه به ويأخذ المحتال من المحال عليه وسواء تعذر القبض من المحال عليه أو لم يتعذر وإن كان بعد القبض لم تبطل وجها واحداً ويرجع المحيل على المحتال به (فصل) وإن أحال من لادين عليه على من له عليه دين فهي وكالة يثبت فيها أحكامها وليست بحوالة لأن الحوالة مأخوذة من تحويل الحق وانتقاله ولا حق ههنا ينتقل ويتحول وإنما جازت الوكالة بلفظ الحوالة لاشتراكهما في استحقاق الوكيل مطالبة من عليه الدين كاستحقاق المحتال مطالبة المحال عليه وتحول ذلك إلى الوكيل كتحوله إلى المحتال، وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة نص عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الأداء ولا المحتال القبول لأن الحوالة معاوضة ولا معاوضة ههنا وإنما هو اقتراض فإن قبض المحتال منه الدين رجع على المحيل لأنه قرض وإن أبرأه لم تصح البراءة لأنها براءة لمن لادين عليه وإن وهبه إياه بعد أن قبضه منه رجع المحال عليه على على المحيل به لأنه قد غرم عنه وإنما عاد إليه المال بعقد مستأنف ويحتمل أن لا يرجع إليه لكونه ما(5/58)
غرم عنه شيئاً، وإن أحال من لادين عليه على من لادين عليه فهي وكالة في اقتراض وليست حوالة لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين (الشرط الثاني) اتفاقن الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل لأنها تحويل للحق ونقل له فينتقل على صفته ويعتبر تماثلهما في الأمور المذكورة (أحدها) الجنس فيحيل من عليه ذهب بذهب ومن عليه فضة بفضة ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو بالعكس لم يصح (الثاني) الصفة فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح (الثالث) الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً أو كان أحدهما إلى شهر والآخر إلى شهرين لم تصح الحوالة، ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يؤخر حقه أو بعضه إلى أجل لم تصح الحوالة لأن الحال لا يتأجل ولأنه شرط ما لو كان ثابتاً في نفس الأمر لم تصح الحوالة فكذلك إذا اشترطه.
فإذا اجتمعت هذه الأمور وصحت الحوالة فتراضيا بأن يدفع المحال عليه إلى المحتال خيراً من حقه أو رضي المحتال بدون الصفة أو رضي من عليه المؤجل بتعجيله أو من له الحال بالظاره جاز لأن ذلك يجوز في القرض ففي الحوالة أولى فإن مات المحيل أو المحتال فالأجل بحال وإن مات المحال عليه انبنى على حول الدين بالموت وفيه روايتان (الشرط الثالث) ان يحيل برضاه لان الحق(5/59)
عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه ولا خلاف في هذا (فصل) ويعتبر لصحة الحوالة أن تكون بمال معلوم لأنها إن كانت بيعاً فلا يصح في مجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم، والجهالة تمنع منه، فتصح بكل ما يثبت في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان، ولا تصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة، ومن شرط الحوالة تساوي الدينين فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمعدود والمذروع ففي صحة الحوالة به وجهان (أحدهما) لا يصح لأن المثل فيه لا يتحرر ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف وهذا ظاهر مذهب الشافعي (والثاني) يصح ذكره القاضي لأنه حق ثابت في الذمة فاشبه ماله مثل ويحتمل أن يخرج هذان الوجهان على الخلاف فيما يقضي به قرض هذه الأموال فإن كان عليه إبل من الدية وله على آخر مثلها في السن فقال القاضي يصح لأنها تختص بأقل ما يقع عليه الاسم في السن والقيمة وسائر القصات، وقال أبو الخطاب
لا تصح في أحد الوجهين لأنها مجهولة ولأن الإبل ليست من المثليات التي تضمن بمثلها في الإتلاف فلا تثبت في الذمة سلماً في رواية، وإن كان عليه إبل في دية وله على آخر مثلها قرضاً فأحاله عليه فان قلنا يرد القرض قيمتها لم تصح الحوالة لاختلاف الجنس وإن قلنا يرد مثلها اقتضى قول القاضي صحة الحوالة(5/60)
لأنه أمكن استيفاء الحق على صفته من المحال عليه ولأن الخيرة في التسليم إلى من عليه الدية وقد رضي بتسليم ماله في ذمة المقترض فإن كانت بالعكس فاحتال المقرض بابل الدية لم يصح لأننا إن قلنا تجب القيمة في القرض فقد اختلف الجنس وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك (مسألة) (ولا يعتبر رضى المحال عليه ولارضى المحتال إن كان المحال عليه مليئا) أما المحال عليه فلا يعتبر رضاه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله وقد افام المحتال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الدفع اليه كالوكيل وإنما تعتبر الملاءة في رضى المحتال بقرض الملئ غير المعدوم قال الشاعر: تطيلين لياني وأنت مليئة وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا يعني قادرة على وفائي قال أحمد في تفسير الملئ أن يكون مليئاً بماله وقوله وبدنه فمتى أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال عليه القبول ولم يعتبر رضاهما، وقال أبو حنيفة يعتبر رضاهما لأنه معاوضة فيعتبر الرضا من المتعاقدين، وقال مالك والشافعي يعتبر رضى المحتال لأن حقه في ذمة المحيل فلا يجوز نقله إلى غيرها بغير رضاه كما لا يجوز أن يجبره على أن يأخذ بالدين عوضاً، فأما المحال عليه فقال مالك لا يعتبر رضاؤه إلا أن يكون المحتال عدوه وللشافعي في اعتبار رضاه قولان:(5/61)
(أحدهما) يعتبر وهو يحكي عن الزهري لأنه أحد من تتم به الحوالة فأشبه المحيل (والثاني) لا يعتبر لأنه أقامه في القبض مقام نفسه فلم يفتقر إلى رضى من عليه الحق كالتوكيل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع، ولأن للمحيل أن يوفي الحق
الذي عليه بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض قلزم المحتال القبول كما لو وكل رجلاً في إيفائه، وفارق ما إذا أراد أن يعطيه عما في ذمته عرضا لأنه يعطيه غير ما وجب له فلم يلزمه قبوله وإن لم يكن المحال عليه مليئاً لم يلزمه أن يحتال لمفهوم الحديث ولأن عليه ضرراً في ذلك فلم يلزمه كما لو بذل له دون حقه في الصفة (ففصل) فإن شرط المحتال ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع على المحيل وبه قال بعض الشافعية وقال بعضهم لا يرجع لأن الحوالة لا ترد بالإعسار إذا لم يشترط الملاءة فلا ترد به وإن شرط كما لو شرط كونه مسلماً ويفارق البيع فإن الفسخ يثبت بالإعسار فيه من غير شرط بخلاف الحوالة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولأنه شرط ما فيه مصلحة العقد في عقد معاوضة فيثبت الفسخ بفواته كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط مالا يثبت بإطلاق العقد بدليل إشتراط صفة في المبيع.
(مسألة) (وإن ظنه مليئاً فبان مفلساً ولم يكن رضي بالحوالة رجع عليه وإلا فلا ويحتمل أن يرجع)(5/62)
أما إذا لم يرض المحتال بالحوالة ثم بأن المحال عليه مفلساً أو ميتاً رجع على المحيل بغير خلاف، ولا يلزمه الإحتيال على غير الملئ لما عليه فيه من الضرر وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبول الحوالة على الملئ، وإن كان رضي بالحوالة لم يرجع لأنه رضي بدون حقه ويحتمل أن يرجع لان الفلس عيب في الذمة فاشبه مالو اشترى شيئاً يظنه سليما فبان معيبا.
(مسألة) (وإذا أحال المشتري البائع بالثمن أو أحال البائع عليه به فبان البيع باطلاً فالحوالة باطلة) مثل أن يشتري عبداً فيحيل المشتري البائع بالثمن ثم يظهر العبد حرا وأو مستحقاً فالبيع باطل والحوالة باطلة لأنا تبينا أن لاثمن على المشتري وكذلك إن أحال البائع على المشتري أجنبياً بالثمن متى بطل البيع بطلت الحوالة لذلك والحرية إنما ثبتت ببينة أو اتفاقهم فإن اتفق المحيل والمحال عليه على حريته وكذبهما المحتال ولابينة بذلك لم يقبل قولهما عليه لأنهما يبطلان حقه فأشبه ما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حراً لم يقبل قولهما على المشتري الثاني وإن أقاما بينه لم تسمع لأنهما
كذباها بدخولهما في التبايع، وإن أقام العبد بينة بحريته قبلت وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال وادعى ان الحوالة بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة وهما يدعيان بطلانها فكان جنبته أقوى فإن أقام البينة أن الحوالة كانت بالثمن قبلت لأنهما لم يكذباها، وإن اتفق المحيل والمحتال على حرية العبد وكذبهما المحال عليه لم يقبل قولهما عليه في حرية العبد لأنه اقرار على غيرهما وتبطل(5/63)
الحوالة لاتفاق المرجوع عليه بالدين والراجع به على استحقاق الرجوع والمحال عليه يعترف للمحتال بدين لا يصدقه فيه فلا يأخذ منه شيئاً، وإن اعترف المحتال والمحال عليه بحرية العبد عتق لإقرار من هو في يده بحريته وبطلت الحوالة بالنسبة إليهما ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لأن دخوله معه في الحوالة اعتراف ببراءته فلم يكن له الرجوع عليه (مسألة) (فإن العقد بعيب أو إقالة لم تبطل الحوالة) يعني إذا فسخ العقد بعيب أو إقالة بعدا لقبض فيما إذا أحال المشتري البائع بالثمن فقد برئ المحال عليه لأنه قبض منه بإذنه ويرجع المشتري على البائع فإن كان ذلك قبل القبض فقال القاضي تبطل الحوالة ويعود المشتري إلى ذمة المحال عليه ويبرأ البائع فلا يبقى له دين ولا عليه لأن الحوالة بالثمن وقد سقط بالفسخ، ويجب أن تبطل الحوالة لذهاب حقه من المال المحال به، وقال أبو الخطاب لا تبطل في أحد الوجهين لأن المشتري عوض البائع عما في ذمته ماله في ذمة المحال عليه ونقل حقه اليه نقلا صحيحا وبرئ من الثمن ويرئ المحال عليه من دين المشتري فلم يبطل ذلك بفسخ العقد الأول كما لو أعطاه بالثمن ثوباً وسلمة اليه ثم فسخ العقد لم يرجع بالثوب كذا ههنا، فإن قلنا ببطلان الحوالة رجع المحيل على المحال عليه بدينه ولم يبق بينهما وبين البائع معاملة وإن قلنا لا تبطل رجع المشتري على البائع بالثمن ويأخذه البائع من المحال عليه وإن كانت المسألة بحالها لكن أحال البائع أجنبياً بالثمن على المشتري ثم رد البعد المبيع ففي الحوالة وجهان:(5/64)
(أحدهما) لا تبطل لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من حق البائع وصار الحق عليه للمحتال
فأشبه مالو دفعه المشتري الى المحيل فعلى هذا يرجع المشتري على البائع بالثمن ويسلم للمحتال ما أحاله به (والثاني) تبطل الحوالة إن كان الرد قبل القبض لسقوط الثمن الذي كانت الحوالة به ولا فائدة في بقاء الحوالة فيعود البائع بدينه ويبرأ المشتري منهما كالمسألة قبلها (مسألة) (وللبائع أن يحيل المشتري على من أحاله المشتري عليه في الصورة الأولى وللمشتري أن يحيل المتحال عليه على البائع في الثانية) إذا قلنا إن الحوالة لا تبطل وبحتمل أن تبطل إذا لم يكن قبضها وقد ذكرناه (فصل) إذا أحال رجلاً على زيد بألف فأحاله زيد بها على عمرو فالحوالة صحيحة لأن حق الثاني ثابت مستقر في الذمة فصح ان يحيل به كالا ول وهكذا لو أحال الرجل عمراً على زيد بما يثبت له في ذمته صح أيضاً لما ذكرنا وتكرر المحتال والمحيل لا يضر (مسألة) (وإذا قال أحلتك قال بل وكلتني أو قال وكلتك قال بل احلتني فالقول قول مدعي الوكالة) إذا كان لرجل دين على آخر فأذن لرجل في قبضه ثم اختلفا فقال احلتك بدينك قال بل وكلتني وديني باق في ذمتك أو قال وكلتك في قبض ديني بلفظ التوكيل قال بل احلتني(5/65)
بلفظ الحوالة فالقول قول مدعي الوكالة مع يمينه لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله والأصل معه فإن كان لأحدهما بينة حكم بها لأن اختلافهما في اللفظ وهو مما يمكن إقامة البينة عليه (مسألة) (وإذا اتفقا على أنه قال أحلتك بالمال الذي قبل زيد ثم اختلفا فقال المحيل إنما وكلتك في القبض لي وقال الآخر بل أحلتني بديني عليك فالقول قول مدعي الحوالة في أحد الوجهين) لأن الظاهر معه فإن اللفظ حقيقة في الحوالة دون الوكالة فيجب حمل اللفظ على ظاهره كما لو اختلفا في دار في يد أحدهما (والثاني) القول قول المحيل لأن الأصل بقاء حق المحيل على المحال عليه والمحتال يدعي نقله والمحيل ينكره والقول قول المنكر.
فعلى الوجه الأول يحلف المحتال ويثبت حقه في ذمة المحال عليه ويستحق مطالبته ويسقط عن المحيل، وعلى الوجه الثاني يحلف المحيل
ويبقى حقه في ذمة المحال عليه، وعلى كلا الوجهين إن كان المحتال قد قبض من المحال عليه وتلف في يده فقد برئ كل واحد منهما من صاحبه ولا ضمان عليه سواء تلف بتفريط أو غيره لأنه إن تلف بتفريط وكان المحتال محقاً فقد أتلف ماله وإن كان مبطلاً ثبت لكل واحد منهما في ذمة الآخر ما في ذمته له فيتقاصان ويسقطان وإن تلف بغير تفريط فالمحتال يقول قد قبضت حقي وتلف في يدي وبرئ منه المحيل بالحوالة والمحال عليه بتسليمه والمحيل يقول قد تلف المال في يد وكيلي بغير تفريط فلا ضمان عليه وإن لم يتلف احتمل أن لا يملك المحيل طلبه لأنه معترف أن له عليه من الدين مثل ماله في يده وهو مستحق لقبضه فلا فائدة في أن يقبضه منه ثم يسلمه اليه ويحتمل أن يملك أخذه منه ويملك المحتال مطلبته بدينه وقيل يملك المحيل أخذه منه ولا يملك المحتال(5/66)
المطالبة بدينه لا عترافه ببراءة المحيل منه بالحوالة وليس بصحيح لأن المحتل إن اعترف بذلك فهو يدعي أنه قبض هذا المال منه بغير حق وإنه لا يستحق المطالبة به فعلى كلا الحالين هو مستحق للمطالبة بمثل هذا المال المقبوض منه في قولهما جميعاً فلا وجه لا سقاطه ولا موضع للبينة في هذه المسألة لأنهما لا يختلفان في لفظ يسمع ولا فعل يرى وإنما يدعي المحيل نيته وهذا لا تشهد به البينة نفياً ولا إثباتاً.
(فصل) فإن قال احلتك بدينك قال بل وكلتني ففيهما وجهان أيضاً لما قدمنا فإن قلنا القول قول المحيل فحلف برئ من حق المحتال وللمحتال قبض المال من المحال عليه لنفسه لأنه يجوز ذلك بقولهما معاً فإذا قفبضه كان له بحقه، وإن قلنا القول قول المححتال فحلف كان له مطالبة المحيل بحقه ومطالبة المحتال عليه لأنه إما وكيل أو محتال، فإن قبض منه قبل أخذه من المحيل فله أخذ ما قبض لنفسه لأنه يجوز ذلك لأن المحيل يقول هو لك والمحتال يقول هو أمانة في يدي ولي مثله على صاحبه وقد أذن له في أخذه ضمناً فإذا أخذه لنفسه حصل غرضه ولم يأخذ من المحيل شيئاً، وإن استوفى من المحيل، دون المحال عليه رجع المحيل على المحال عليه في أحد الوجهين لأن الوكالة قد ثبتت بيمين المحتال وبقي في ذمة المحال عليه للمحيل (والثاني) لا يرجع عليه لأنه يعترف أنه قد برئ من حقه وإنما
المحيل ظلمه بأخذ ما كان عليه، قال القاضي والأول أصح وإن كان قد أخذ الحوالة فتلفت في يده بتفريط أو أتلفها سقط حقه وجهاً واحداً لأنه إن كان محقاً فقد أتلف حقه وإن كان مبطلاً فقد أبطل مثل دينه فيثبت في ذمته فيتقاصان وإن تلف بغير تقريطه فعلى الوجه الأول يسقط حقه أيضاً لأن ماله تلف تحت يده وعلى الثاني له أن يرجع على المحيل بحقه وليس للمحيل الرجوع على المحال عليه لأنه يقر ببرأته(5/67)
(مسألة) (وإن قال احتلك بدينك فالقول قول مدعي الحوالة وجهاً واحداً) إذا اتفقا على أنه قال احتلك بدينك ثم اختلفا فالقول قول مدعي الحوالة وجهاً واحداً لأن الحوالة بدينه لا تحتمل الوكالة فلم يقبل قول مدعيها وسواء اعترف المحيل بدين المحتال أو قال لادين لك علي لأن قوله أحتلك بدينك اعتراف بدينه فلا يقبل جحده بعد ذلك فأما إن لم يقل بدينك بل قال أحلتك ثم قال ليس لك علي دين وإنما أردت التوكيل بلفظ الحوالة أو قال أردت أن أقول وكلتك فسبق لساني فقلت أحلتك وادعى المحتال أنه حوالة بدينه وإن دينه كان ثابتاً على المحيل فهل هو اعتراف بالدين أولاء فيه وجهان سبق توجيهما (فصل) وإن كان لرجل دين على آخر فطالبه به فقال قد أحلت به علي فلاناً الغائب وأنكر صاحب الدين فالقول قوله مع يمينه فإن كان لمن عليه الدين بينة بدعواه سمعت بينته لإسقاط حق المحيل عليه، وإن ادعى رجل ان فلانا الغائب أحالني عليك فأنكر المدعي عليه فالقول قوله فإن اقام المدعي بينه ثبتت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضي بها على الغائب ولزم الدفع الى المحتال، وإن لم يكن له بينة فأنكر الندعى عليه فهل يلزمه اليمين؟ فيه وجهان بناء على مالو اعترف له هل يلزمه الدفع على وجهين (أحدهما) يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الاحتياط لنفسه كما لو ادعى أني وكيل فلان في قبض دينه منك فصدقه وقال لا أدفعه اليك فإذا قلنا يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإذا حلف برئ ولم يكن للمحتال الرجوع على المحيل لإعترافه ببراءته وكذلك إن قلنا لا يلزمه اليمين فليس للمحتال الرجوع على المخيل، ثم ينظر في المحيل فإن
صدق المدعي في أنه أحاله ثبتت الحوالة لأن رضا المحال عليه لا يعتبر وإن أنكر الحوالة حلف وسقط حكم الحوالة فإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضي عليك بالنكول واستوفى الحق منه ثم إن المحيل صدق المدعي فلا كلام وإن أنكر الحوالة فالقول قوله وله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالحق ويدعي أن المحتال ظلمه وببقى دين المحتال على المحيل فإن أنكر المحيل أن له عليه دينا فالعقول قوله بغير يمين لأن المحتال يقر ببراءته منه لا يستيفائه من المحال عليه وإن كان المحيل(5/68)
يعترف به لم يكن للمحتال المطالبة به لأنه يقر أنه قد برئ منه بالحوالة والمحيل يصدق المحال عليه في كون المحتال قد ظلمه واستوفى منه بغير حق والمحتال يزعم ان المحيل قذ أخذ منه ايضاً بغير حق وإنه يجب عليه أن يرد ما أخذ منه إليه فينبغي أن يقبضها المحتال ويسلمها الى المحال عليه أو يأذن للمحيل في ذفعها الى المحال عليه وإن صدق المحال عليه المحتال في الحوالة ودفع اليه فأنكر المحيل الحوالة حلف ورجع على المحال عليه، والحكم في الرجوع بما على المحيل من الدين على ما ذكرنا في التي قبلها (فصل) فإن كان عليه ألف ضمنه رجل فأحال الضامن صاحب الدين به برئت ذمته وذمة المضمون عنه لأن الحوالة كالتسليم ويكون الحكم ههنا كالحكم فيما لو قضى عنه الدين على ما ذكرنا فإن كان الألف على رجلين على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحد كفيل عن الآخر بذلك فأحاله أحدهما بالألف برئت ذمتهما معا كما لو قضاها وإن أحال ضاحب الألف رجلاً على أحدهما بعينه صحت الحوالة لأن الدين على كل واحد منهما مستقر، وإن أحال عليهما جميعاً ليستوفي منهما أو من أيهما شاء صحت الحوالة أيضاً عند القاضي لأنه لا فضل ههنا في نوع ولا أجل ولا عدد وإنما هو زيادة استيثاق فلم فلم يمنع ذلك صحة الحوالة كحوالة المعسر على الملئ، وقال بعض الشافعية لا تصح الحوالة لأن الفضل قد دخلها فإن المحتال ارتفق بالتخيير الاستيفاء من أيهما شاء فأشبه مالو أحاله على رجلين له على كل واحد منهما ألف ليستوفي من أيهما شاء والأول أصح، والفرق وبين هذه المسألة وبين ما إذا(5/69)
أحاله بألفين أنه لا فضل بينهما في العدد ههنا وثم تفاضلا ولأن الحوالة ههنا بألف معين وثم الحوالة بأحدهما من غير تعيين وإنه إذا قضاه أحدهما الألف فقد قضاه جميع الدين وثم إذا قضى أحدهما بقي ما على الآخر ولو لم يكن كل واحد من الرجلين ضامناً عن صاحبه فأحال عليهما حصت الحوالة بغير إشكال لأنه لما كان له أن يستوفي الألف من واحد كان له أن يستوفي من اثنين كالوكلين باب الضمان وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فيثبت في ذمتهما جميعاً ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، واستقاقه من الضم وقيل من التضمين لأن ذمة الضامن تتضمن الحق، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
اما اكتاب فقوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم والزعيم الكفيل قاله بان عباس.
وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الزعيم غارم) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن، وأجمع المسلمون على الضمان في الجملة واختلفوا في فروع تذكر إن شاء الله تعالى، يقال ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير بمعنى واحد ولا بد في الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له.
(مسألة) (ولصاحب لحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت) وجملة ذلك أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض بل يثبت(5/70)
الحق في ذمة الضامن مع بقائه في ذمة المضمون عنه فعلى هذا لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت، وبهذا قال الئوري والشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه ولأنه وثيقة فلا يستوفي الحق منها إلا مع تعذر استيفائه من الأصل كالرهن ولنا قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصل ولأن الحق ثابت في ذمتهما فملك مطالبة من شاء منهما كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه ولا يشبه الرهن لأنه مال من عليه الحق وليس بدين ذمة يطالب إنما يطالب من عليه الدين ليقضي منه
أو من غيره، وقال أبو ثور الكفالة والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود، وعن أحمد رواية أن الميت يبرأ بمجرد الضمان نص عليه في رواية يوسف بن موسى واحتجوا بما روي أبو سعيد الخدري قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال (هل علي صاحبكما من دين؟) قالوا نعم درهمان فقال (صلوا على صاحبكم) فقال علي هما علي يا رسول الله وأنا لهما ضامن فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال (جزاك الله عن الإسلام خيراً أو فك رها نك كما فككت رهان أخيك) فقيل يا رسول(5/71)
الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة؟ فقال (بل الناس عامة) رواه الدارقطني فدل على أن المضمون عنه برئ بالضامن ولذلك صلى الله عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى الإمام أحمد في المسند عن جابر قال توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فخطا خطوة ثم قال (أعليه دين؟) قلنا ديناران فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال الديناران علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وجب حق الغريم وبرئ الميت منهما؟) قال نعم فصلى عليه ثم قال بعد ذلك (ما فعل الديناران؟) قال إنما مات أمس قال فعاد إليه من الفد فقال قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الآن بردت جلدته) وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله (وبرئ الميت منهما؟) ولأنه دين واحد فإذا صار في ذمة نائبه برئت الاولى منه كالمحال به لأن الدين الواحد لا يحل في محلين ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وقوله في خبر أبي قتادة (الآن بردت جلدته) حين أخره أنه قضى دينه ولأنها وثيقة فلا تنقل الحق كالشهادة، فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المضمون عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء، وأما قوله لعلي (فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك) فإنه كان بحال لا يصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما ضمنه فكه من ذلك أو ما في معناه، وقوله (برئ الميت منهما؟) أي صرت أنت المطالب بهما وهذا على وجه التأكيد لثبوت الحق في ذمته ووجوب الأداء عنه بدليل قوله حين أخبره بالقضاء (الآن بردت عليه جلده) وفارق الضمان الحوالة(5/72)
فإن الضمان مشتق من الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما والحوالة من التحول فيقتضي تحول الحق عن محله إلى ذمة المحال عليه وقولهم ان الدين الواحد لا يحل محلين قلنا يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن كذلك هذا (مسألة) (فإن برئت ذمة المضمون عنه برئ الضامن) متى برئت ذمة المضمون بقضاء أو إبراء برئت ذمة الضامن لا نعلم فيه خلافا لأنه بيع ولأنه وثيقة فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن (مسألة) (وإن برى الضامن أو أقر ببراءته لم يبرأ المضمون عنه لأنه أصل فلا يبرأ بإبراء التبع ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الأصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء وأيهما قضى الحق برئا جميعاً من المضمون له لأنه حق واحد فإذا استوفي مرة زال تعلقه بهما كما لو استوفى الحق الذي به رهن، وإن أحال أحدهما الغريم برئا جميعاً لأن الحوالة كالقضاء (فصل) ويجوز أن يضمن الحق عن الرجل الواحد اثنان أو أكثر سواء ضمن كل واحد جميعه أو جزأ منه فإن ضمن كل واحد منهم جميعه برئ كل واحد منهم بأداء أحدهم وإن أبرأ المضمون عنه برئ الجميع لأنهم فروع له وإن ابرأ أحد الضامنين برئ واحده لأنهم غير فروع له فلم يبرؤا ببراءته كالمضمون عنه وان ضمن أحد هم صاحب لم يجز لأن الحق ثبت في ذمته بضمانه الأصلي فلا يجوز أن يثبت ثانياً ولأنه أصل فيه بالضمان فلا يجوز أن يصير فيه فرعاً، ولو تكفل بالرجل الواحد اثنان جازو يجوز أن يكفل كل واحد(5/73)
من الكفيلين صاحبه صاحبه لأن الكفالة ببدنه لا بما في ذمته وأي الكفيلين أخضر المكفول به برئ وبرئ صاحبه من الكفالة لأنه فرعه ولم يبرأ من إحضار المكفول به لأنه أصل في ذك وإن كفل المكفول به الكفيل لم يجز لأنه أصل له في الكفالة فلم يجز أن يصير فرعاً فيما كفل به وإن كفل به في غيره جاز.
(مسألة) (ولو ضمن ذمي لذمي عن ذمي خمراً فأسلم المضمون له أو المضمون عنه برئ هو والضامن معاً)
لانه برئ من الخمر الذي ضمن عنه إذ لا يجوز وجوب خمر على مسلم وإذا برئ المضمون عنه برئ الضامن لأنه فرعه، وإن أسلم المضمون له برئ أيضاً لأنه ليس للمسلم المطالبة بثمن الخمر لكونه لاقيمة له في الاسلام فإن أسلم وحده برئ ولم يبرأ المضمون عنه لأنه أصل فلم يبرأ ببراءة فرعه كما لو أبرأه المضمون له (مسألة) (ولا يصح الامن جائز التصرف) لا يصح لا لضمان الاممن يصح تصرفه في ماله رجلا كان أو امرأة لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع.
(مسألة) (ولا يصح من صبي ولا مجنون ولاسفيه ولامن عبد بغير إذن سيده وعنه يصح ويتبع به بعد العتق وإن ضمن بإذن سيده صح وهل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على روايتين)(5/74)
لا يصح الضمان من مجنون ولا مبرسم ولا صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال فلم يصح منهم كالنذر والإقرار، ولا يصح من السفيه المحجور عليه وهو قول الشافعي وقال القاضي يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به بعد فلك الحجر عنه كذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه كالبيع والشراء وأما الاقرار فلنا فيه منع وإن سلم فالفرق بينهما أن الإقرار إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه وهو قول الشافعي وخرج أصحابنا صحته على الروايتين في صحة إقراره وتصرفه بإذن وليه، ولا يصح هذا الجمع لان هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح كالتبرع والنذر بخلاف البيع، وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي قبل بلوغي وقال المضمون له بعد البلوغ فقال القاضي قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد فأشبه ما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه، وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف والظاهر إنهما لا يتصرفان إلا تصرفاً صحيحاً فكان قول مدعي الصحة وههنا في أهلية التصرف وليس مع من يدعي اهلية ظاهر يستند
إليه فلم ترجح دعواه، والحكم فيمن عرف له حال جنون كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال(5/75)
جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه، وأما المحجور عليه لفلس فيصح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف والحجر عليه في ماله لا في ذمته فهو كتصرف الراهن فيما عدا الرهن، فأما العبد فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده سواء كان مأذوناً له في التجارة أولا، وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وابو حنيفة، ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر فيه على السيد كالإقرار بالإتلاف ولنا أنه عقد تضمن إيجاب فلم يصح بغير إذن السيد كالنكاح وقال أبو ثور إن كان من جهة التجارة جاز وإلا لم يجز فإن ضمن بإذن سيده صح لأن سيده لو أذن في التصرف صح قال القاضي وقياس المذهب تعلق المال برقبته لأنه دين لزمه بفعله فتعلق برقبته كارش جنايته وقال ابن عقيل ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد.
وقد ذكر شيخنا هنا روايتين وكذلك ذكره أبو الخطاب كاستدانته بإذن سيده ونسذكر ذلك إن شاء الله تعالى، فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من(5/76)
المال الذي في يده صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي ى في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني كما لو قال الحر لك هذا الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح (فصل) ولا يصح ضمان المكاتب بغير إذن سيده كالقن لأنه تبرع بالتزام مال أشبه نذر الصدقة بمال معين ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه ففيه وجهان (أحدهما لا يصح أيضاً لأنه ربما أدى الى تفويت الحرية (والثاني) يصح لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو لم يتصل به الموت فهو كالصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضاً أشبه الهبة، وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لا نه يصح بيعه وإقراره وتبرعه أشبه الباطن، ولا يثبت الضمان بكتابته(5/77)
منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثاً أو تجربة قلم فلم يثبت الضمان به مع الإحتمال ومن لاتفهم إشارته لا يصح مانه لأنه لا يدرى بضمانه وكذلك سائر تصرفاته (مسألة) (ولا يصح إلا برضى الضامن ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه ولا معرفة الضامن لها) لا يصح الضمان إلا برضى الضامن فإن أكره عليه لم يصح لأنه التزام مال فلم يصح بغير رضا الملتزم كالنذر ولا يعتبر رضا المضمون له وقال أبو حنيفة ومحمد يعتبر لأنه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضا من ينو ب عنه كالبيع والشراء وعن أصحاب الشافعي كالمذهبين ولنا أن أبا قتادة ضمن من غير رضا المضمون له ولا المضمون عنه فأجاره النبئ صلى الله عليه وسلم(5/78)
ولأنها وثيقة لا يعتبر فيها قبض فأشبهت الشهادة ولأنه ضمان دين فأشبه ضمان بعض الورثة دين الميت للغائب وقد سلموه، ولا يعبر رضى المضمون حديث أبي قتادة، ولا يعتبر ان يعرفهما الضامن وقال القاضي يعتبر معرفتهما لعيلم هل المضمون عنه أهل لا صطناع المعروف اليه أولاً وليعرف المضمون له فيؤدي اليه وذكر وجهاً آخر أنه يعتبر معرفة المضمون له لذلك ولا تعتبر معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه ولا صحاب الشافعي ثلاثة أوجه نحو هذا ولنا حديث علي وأبي قتادة فإنهما ضمنا لمن لم يعرفا وعن لم يعرفا ولأنه تبرع بالتزام مال فلم تعتبر معرفة من يتبرع له به كالنذر(5/79)
(مسألة) (ولا يعتبر كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله الى الوجوب فلو قال ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينه به صح) يصح ضمان المجهول فمتى قال أنا ضامن لك ما على فلان أو ما تقوم به البينة أو ما يقر به لك أو ما يخرج في روز ما نجك صح الضمان، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر لا يصح لأنه التزام مال فلم يصح مجهولا كالثمن.
ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وحمل البعير غير معلوم لأن حمل البعير مختلف باختلافه وعموم قوله عليه السلام (الزعيم غارم) ولأنه التزام حق في الذمة من غير معاوضة فصح في المجهول كالنذر والإقرار ولأنه يصح تعليقه بغرر وخطر وهو ضمان العهدة، وإذا قال ألق متاعك(5/80)
في البحر وعلي ضمانه أو قال إدفع ثيابك الى هذا الرقاء وعلي ضمانها فصح في المجهول كالعتق والطلاق (فصل) ويصح ضمان ما لم يجبفلو قال ما أعطيت فلاناً فهو علي صح، والخلاف في هذه المسألة كالتي قبلها ودليل القولين ما ذكرنا، قد قال في هذه المسألة الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الدين فإذا لم يكن على المضمون عنه شئ لم يوجد ضم ولا يكون ضامناً قلنا: قد ضم ذمته الى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه وإن ما يثبت مضمونة يثبت في ذمته وهذا كاف وقد سلموا ضمان ما يلقيه في البحر قبل وجوبه بقوله إلق مناعك في البحر وعلي ضمانه وسلم أصحاب الشافعي في أحد الوجهين ضمان الجعل في الجعالة قبل العمل وما وجب شئ بعد (مسألة) (ويصح ضمان دين الضامن) نحو أن يضمن الضامن ضامن آخر لأنه دين لازم في ذمته فصح ضمانه كسائر الديون ويثبت(5/81)
الحق في ذمم الثلاثة أيهم برئت ذممهم كلها لأنه حق واحد فإذا قضي مرة سقط فلم يجب مرة أخرى، وإن أبرأ الغريم المضمون عنه الضامنان لانهما فرغ وان أبرئ الضامن الاول برئ الضامنان لذلك ولم يبرأ المضمون عنه لما تقدم وإن ابرئ الضامن الثاني برئ وحده، ومتى حصلت براءة الذمة بالإبراء فلا رجوع فيها لأن الرجوع مع الغرء وليس في الإبراء غرم والكفالة كالضمان في هذا المعنى.
(فصل) وإن ضمن المضمون عنه الضامن أو تكلفل المكفول عنه الكفيل لم يصح لأن الضامن يقتضي الزامه الحق في ذمته والحق لازم له فلا يتصور الزامه ثابيا ولأنه أصل في الدين فلا يجوز أن يصير فرعاً فيه فإن ضمن عنه ديناً آخر أو تكفل به في حق آخر جاز لعدم ما ذكرنا
(مسألة) (ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره ولا تبرأ ذمته قبل القضاء في أصح الروايتين)(5/82)
يصح الضمان عن كل غريم وجب عليه حق حياً كان أو ميتاً مليئاً أو مفلساً وبه قال أكثر العلماء وقال أبو حنيفة لا يصح ضمان دين الميت إلا أن يخلف وفاء فإن خلف بعض الوفاء صح ضمانه بقدر ما خلف لأنه دين صاقط فلم يصح ضمانه كما لو سقط بالإبراء ولأن ذمته قد خربت خراباً لا يعمر بعده فلم يبق فيه دين والضمان ضم ذمة إلى ذمة.
ولنا حديث أبي قتادة فإنهما ضمنا دين ميت لم يخلف وفاء وقد حضهم النبي صلى الله عليه وسلم على ضمانه في حديث أبي قتادة بقوله (الاقام أحدكم فضمنه) وهذا صريح في المسألة ولأنه دين ثابت فصح ضمانة كما لو خلف وفاء.
ودليل ثبوته أنه لو تبرع رجل بقضاء دينه جاز لصاحب الحق اقتضاؤه ولو ضمنه حياثم مات لم يبرأ منه الضامن ولو برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن وفي هذا انفصال عما ذكروه.
وإذا ثبت صحة ضمان دين الميت فإن ذمته لا تبرأ من الدين قبل القضاء في إحدى(5/83)
الروايتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبا قتادة عن الدينارين الذين ضمنهما فقال قد قضيتهما فقال (الآن بردت جلدته) رواه الإمام أحمد ولأنه وثيقة بدين فلم يسقط قبل القضاء كالرهن وكالشهادة والثانية يبرأ بمرجد الضمان نص عليه أحمد في رواية يوسف بن موسى لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة (وبرئ الميت منهما) قال نعم وقد ذكر نا ذلك (فصل) ويصح الضمان في جميع الحقوق المالية الواجبة والتي تؤول إلى الوجوب كثمن المبيع في مدة الخيار وبعده والأجرة والمهر قبل الدخول وبعده ولأن هذه الحقوق لازمة وجواز سقوطها لا يمنع صحة ضمانها كالثمن في المبيع بعد انقضاء الخيار يجوز أن يسقط بالرد بالعيب وبالمقايلة وهذا مذهب الشافعي (مسألة) (ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع) فضمانه على المشتري هوان يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن
وضمانه عن البائع للمشتري هو أن يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع متسحقا أو رد بعيب أو أرش العيب، فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر، والعهدة الكتاب الذي تكتب فيه وثيقة البيع ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه، وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة ومالك والشافعي ومنع منه بعض أصحابه لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول وضمان عين وقد ثبت جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعوا إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاثة الشهادة والرهن والضمان، فأما الشهادة فلا يستوفى منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبداً مرهوناً فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجباً حال العقد ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة فإذا خرج بعضه مستحقاً لزمه بعض ما ضمنه، إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن(5/84)
وبعده.
وقال الشافعي إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقاً لم يجب على البائع شئ وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضياً الى الوجوب كالجعالة وسنذكرها، وألفاظ ضمان عهدة المبيع قوله ضمنت عهدته أو تمثه أو دركه أو يقول للمشتري ضمنت خلاصك منه أو متى خرج المبيع مستحقاً فقد ضمنت لك الثمن وحكي عن أبي يوسف أنه إذا قال ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة لم يصح لأن العهدة الصك بالابتياع كذا فسره أهل اللغة فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والمطلق يحمل على الأسماء العرفية كالرواية تحمل عند إطلاقها على المزادة لأعلى المحل وإن كان الموضوع لغة.
فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر هو باطل لأنه إذا خرج حراً أو مستحقاً لم يستطع تخليصه ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبداً أو أمة ومضن له الخلاص فقال كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حراً فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص، وتنبني صحته في العهدة على تفريق الصفقة.
إذا ثبت صحة ضمان العهدة فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول استحقاق رجوع المشتري بالثمن إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المكيل والموزون في يد البائع أو بغصب من يده أو يتقايلان
فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا لم يكن موجوداً حال العقد وإنما ضمن الاستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه، وأما إن كان بسبب مقارن نظر نا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه لم يجب على الضامن بطريق الأولى.
فأما إن كان زوال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع باستحقاق أو حرية أورد بعيب قديم فله الرجوع لعى الضامن وهذا ضمان العهدة، وإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضامن أيضاً لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه وسواء ظهر(5/85)
كل المبيع متسحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقاً بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الإستحقاق، وعلى الرواية الأخرى يبطل في البعض المستحق وله رد الجميع فإن ردها فهو كما لو استحقت كلها وإن أمسك بعضها فله المطالبة بالأرش كما لو وجدها الكفالة لأنه لا يلزم البائع فلا يلزم الكفيل مالا يلزم الأصل، وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح سواء ضمنه البائع أو أجنبيي فإذا بنى أو غرس فاستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يصح لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب وقد بيناه جوازه (مسألة) (ولا يصح ضمان دين الكتابة في أصح الروايتين) وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى يصح لأنه دين على المكاتب فصح ضمانه كسائر ديونه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم لأن للمكاتب تعجيز نفسه والامتناع من الأداء فإذا لم يلزم الأصل فالضامن أولى (مسألة) (ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها إلا أن يضمن التعدي فيها) أما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين المدفوعة الى الخياط والقصار فإن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح لأنها غير مضمونة على صاحب اليد فكذلك على ضامنه وإن ضمن
التعدي فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى صحة ضمانها فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب فقال له رجل ادفع اليه ثيابك وأنا ضامن فقال هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله، فعلى هذا إن تلف بغير فعله ولا تفريط منه فلا شئ على الضامن وإن تلف بفعله أو تفريط لزمه ضامنه أيضاً لأنها مضمونة على من هي في يده فهي كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد ذكرناه(5/86)
(مسألة) (فأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجه السوم فيصح ضمانها) وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة فإنما يضمن ما يثبت في الذمة ووصفنا لما بالضمان إنما معناه أنه يلزم قيمتها عند التلف والقيمة مجهولة ولنا أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة، وقولهم أن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإنه يصح وهي في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو استحق.
(فصل) ويصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي لا يصح ضمانه في أحد الوجهين لأنه لا يؤول إلى اللزوم أشبه مال الكتابة ولنا قول الله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يللزم بوجوده والضمان للمال دون العمل، ويصح ضمان أرش الجناية سواء كان نقوداً كقيم المتلفات أو حيوانا كاليات وقال أصحاب الشافعي لا يصح ضمان الحيوان الواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ولأن الإبل الواجبة في الدية معلومة الاسنان والعدد وجهالة اللون وغيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون وصفة فيحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان ولأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بإتلاف فلم يمنع وجوبه بالإلتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة والمستقبلة مآلها
الى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب، وقال القاضي: إذا ضمن نفقة المستقبل لميلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالإعسار، وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه يصح ضمانها.
ولنا أنه يصح ضمان الجعالة والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار.
فأما النفقة في الماضي(5/87)
فإن كانت واجبة بحكم حاكم أو قلنا بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها وإلا فلا وفي صحة ضمان السلم اختلاف نذكره في بابه.
(مسألة) (وإن قضى الضامن الدين متبرعا لم يرجع بشئ لأنه تطوع بذلك أشبه الصدقة وسواء ضمن بإذنه أو بغير إذنه (مسألة) (وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين وإن أذن له في أحدهما فله الرجوع باقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين) وجملة ذلك أن الضامن متى أدى الدين بينة الرجوع لم يخل من أربعة اقسام (أحدها) أن يضمن بإذن المضمون عنه ويؤدي بأمره فإنه يرجع عليه سواء قال أضمن عني وأد عني أو أطلق، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وقال ابو حنيفة ومحمد إن قال أضمن عني وانقد عني رجع عليه وإن قال أنقد هذا لم يرجع عليه إلا أن يكون مخالطاً له يستقرض منه ويودع عنده لأن قوله أضمن عني وانقد عني اقراره منه بالحق وإذا أطلق صار كأنه قال هب لهذا أو تطوع وإذا كان مخالطاله رجع استحسانا لانه قدر يأمر مخالطه بالنقد عنه ولنا أنه ضمن ودفع بأمره فأشبه مالو كان مخالطاً له أو قال أضمن عني وما ذكراه ليس بصحيح لأنه إذا أمره بالضمان لا يكون إلا لما هو عليه وأمره بالنقد بعد ذلك ينصرف الى ما ضمنه بدليل المخالطة له فيجب عليه أداء ما ادى عنه كما لو صحربه (الثاني) ضمن بأمره وقضى بغير أمره فله الرجوع أيضاً وبه قال مالك والشافعي في أحد الوحوه عنه، والوجه الثاني لا يرجع لأنه دفع بغير أمره أشبه مالو تبرع، الوجه الثالث أنه إن تعذر الرجوع
على المضمون عنه فدفع ما عليه رجع وإلا فلا لأنه تبرع بالدفع(5/88)
ولنا أنه إذا أذن في الضمان تضمن ذلك إذنه في الإداء لأن الضمان يوجب عليه الإداء فرجع عليه كما لو أذن في الأداء صريحاً (الثالث) ضمن بغير أمره وقضى بأمره فله الرجوع أيضاً وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرجع لأن امره بالقضاء انصرف الى ما وجب بضمانه ولنا أنه أدى دينه بامرمه فرجع عليه كما لو لم يكن ضامناً أو كما لو ضمن بأمره، قولهم إن إذنه في القضاء انصرف الى ما وجب بضمانه قلنا والواجب بضمانه إنما هو إداء دينه وليس هو شيئاً آخر فمتى أداه عنه بإذنه لزمه إعطاؤه بدله (الرابع) ضمن بغير أمره وقضى بغير أمره ففيه روايتان (إحداهما) يرجع وهو قول مالك وعبيد الله بن الحسن واسحاق (والثانية) لا يرجع بشئ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وابن المنذر بدليل حديث علي وأبي قتادة فانهما لو كان يستحقان الرجوع على الميت صار الدين لهما فكانت ذمة الميت مشغولة بدينهما كاشتغالها بدين المضمون له ولم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه تبرع بذلك أشبه مالو علف دوابه وأطعم عبيده بغير أمره.
ووجه الأولى أنه قضاء مبرئ من دين واجب فكان من ضمان من هو عليه كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه، فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا بالقضاء والضمان فإنهما قضيا دينه قصداً لتبرئة ذمته ليصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهما أنه لم يترك وفاءه والمتبرع لا يرجع بشئ وإنما الخلاف في المحتسب بالرجوع (فصل) ويرع الضامن على المضمون عنه باقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن كان الأقل الدين فالزائد لم يكن واجباً فهو متبرع به وإن كان المقضي أقل فإنما يرجع بما غرم ولهذا لو أبرأه غريمه لم يرجع بشئ فإن دفع عن الدين عرضاً رجع بأقل الأمرين من قمته أو قدر الدين لما ذكرنا (فصل) ولو كان على رجلين مائة على كل واحد منهما نصفها وكل واحد ضامن عن صاحب ما عليه فضمن آخر عن أحدهما المائة بأمره وقضاها سقط الحق عن الجميع وله الرجوع على الذي ضمن عنه ولم ين له أن يرجع على الآخر بشئ في إحدى الروايتين لأنه لم يفضي عنه ولا أذن له في القضاء(5/89)
فإذا رجع على الذي ضمن رجع على الآخر بنضفها إن كان ضمن عنه بإذنه لأنه ضمنها عنه بإذنه وقضاها ضامنه، والرواية الثانية له الرجوع على الآخر بالمائة لأنها وجبت له على من أداها عنه فملك الرجوع بها كالاصل (فصل) وإذا ضمن عن رجل بأمره فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه لأنه لزمه الآداء عنه بأمره فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته وإن لم يطالب الضامن لم يملك مطالبة المضمون عنه لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته لم تكن له المطالبة قبل طلبه منه وفيه وجه آخر أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها كما لو استعار عبداً فرهنه كان لسيده مطالبته بفكاكه وتفريغه من الرهن والأولى أولى.
ويفارق الضمان العارية لأن السيد يتضرر بتعويق منافع عبده المستعار فملك المطالبة بما يزيل الضرر عنه والضامن لا يبطل بالضمان شئ من منافعه فأما إن ضمن عنه بغير إذنه لم يملك مطالبة المضمون عنه قبل الآداء بحال لأنه لاحق له يطالب به ولا شغل ذمته بامره فأشبه الأجنبي، وقيل أن ينبني على الروايتين في رجوعه على المضمون عنه بما أدى عنه فإن قلنا لا يرجع فلا مطالبة له بحال وإن قلنا يرجع فحكمه حكم من ضمن عنه بأمره على ما مضى تفصيله (فصل) وإن ضمن الضامن آخر فقضى أحدهما الدين برئ الجميع فإن قضاه المضمون عنه لم يرجع على أحد وإن قضاه الضامن الأول رجع على المضمون عنه دون الضامن الثاني وإن قضاه الثاني رجع على الأول ثم رجع الأول على المضمون عنه إذا كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه فإن لم يكن إذن له ففي الرجوع روايتان، وإن أذن الأول للثاني ولم يأذن المضمون عنه أو إذن المضمون عنه لضامنه ولم يأذن الضامن لضامنه رجع المأذون له على من أذن له ولم يرجع على الآخر على إحدى الروايتين فإن أذن المضمون عنه للضامن الثاني في الضمان ولم يأذن له الضامن الأول رجع على المضمون عنه ولم يرجع على الضامن لأنه إنما يرجع على من أذن له دون غيره(5/90)
(فصل) إذا كان له.
ألف على رجلين على كل واحد مهما نصفه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فابرأ الغريم أحدهما من الالف برئ منه ويرئ صاحبه من ضمانه وبقي عليه خمسمائة وإن قضاه أحدهما
خمسمائة أو أبرأه الغريم منها وعين القضاء بلفظه أو ببينة عن الأصل أو الضمان انصرف إليه وإن أطلق احتمل أن له صرفها الى ما شاء منهما كمن أخرج زكاة نصاب وله نصابان غائب وحاضر كان له صرفها الى ما شاء منهما واحتمال أن يكون نصفها عن الأصل ونصفها عن الضمان لأن إطلاق القضاء والإبراء ينصرف الى جملة ما في ذمته فيكون بينهما، والمعتبر في القضاء لفظ القاضي ونيته وفي الابراء لفظ المبرئ ونيته ومتى اختلفوا في ذلك فالقول قول من اعتبر لفظه ونيته (فصل) ولو ادعى ألفا على حاضر وغائب وإن كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فاعترف الحاضر بذلك فله أخذ الألف منه فإن قدم الغائب فاعترف رجع عليه صاحبه بنصفه وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه وإن كان الحاضر أنكر فالقول قوله مع يمينه، فإن قامت عليه بينة فاستوفى الألف منه لم يرجع على الغائب بشئ لأنه بإنكاره معترف أنه لا حق له عليه وإنما المدعي ظلمه وإن اعترف الغائب وعاد الحاضر عن إنكاره فله الإستيفاء منه لأنه يدعي عليه حقاً يعترف له به فجاز له أخذه، وإن لم يقم على الحاضر بينة حلف وبرئ فإذا قدم الغائب فإن أنكر وحلف برئ فإن اعترف لزمه دفع الألف وقال بعض أصحاب الشافعي لا يلزمه إلا خمس المائة الاصيلة دون المضمونة لأنها سقطت عن المضمون عنه بيمينه فتسقط عن ضامنه ولنا أنه مقربها وغريمه يدعيها واليمين انما أسقطت المطالبة عنه في الظاهر ولم تسقط عنه الحق الذي في ذمته بدليل أنه لو قامت عليه بينة بعد يمينه لزمه ولزم الضامن (مسألة) (وإن أنكر المضمون له القضاء وحلف لم يرجع الضامن على المضمون عنه سواء صدقه أو كذبه)(5/91)
إذا ادعى الضامن انه قضى الدين فأنكر المضمون له ولابينة له فالقول قول المضمون له لأنه ادعى تسليم المال إلى من لم يأمنه فكان القول قول المنكر، وله مطالبة الضامن والأصيل فإن رجع على المضمون عنه فهل يرجع الضامن بما قضاه عنه؟ ينظر فإن لم يعترف له بالقضاء لم يرجع عليه وإن اعترف له بالقضاء وكان قد قضى بغير بينة في غيبة المضمون عنه لم يرجع بشئ سواء صدقه المضمون عنه أو كذبه لأنه أذن في قضاء مبرئ ولم يوجد، وإن قضاه ببينة ثبت بها الحق لكن إن
كانت غائبة أو ميتة فللضامن الرجوع على المضمون عنه لأنه معترف أنه ما قصر وما فرط وإن قضاه ببينة مردودة بأمر ظاهر كالكفر والفسق الظاهر لم يرجع الضامن لتفريطه لأن هذه البينة كعدمها، وان ردت بأمر خفي كالسفق بالباطن أو كانت الشهادة مختلفا فيها مثل أن أشهد عبدين أو شاهداً واحداً فردت لذلك أو كان ميتاً أو غائباً احتمل أن يرجع لأنه قضى بينة شرعية والجرح والتعديل ليس له واحتمل أن لا يرجع لأنه أشهد من لا يثبت الحق بشهادته، وإن قضى بغير بينة بحضرة المضمون عنه ففيه وجهان أحدهما يرجع وهو مذهب الشافعي لأنه إذا كان حاضراً كان الإحتياط اليه فإذا ترك التحفظ كان التفريط منه دون الضامن والثاني لا يرجع لأنه قضى قضاء غير مبرئ فأشبه مالو قضى في غيبته (فصل) فإن رجع المضمون له على الضامن فاستوفى منه مرة ثابنة رجع على المضمون عنه بما قضاه ثانياً لأنه أبرأ به ذمته ظاهراً قال القاضي ويحتمل إن له الرجوع بالقضاء الأول دون الثاني لأن البراءة(5/92)
حصلت به في الباطن، ولا صاحب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أنه لا يرجع بشئ بحال لأن الأول ما أبرأه ظاهراً والثاني ما أبرأه باطناً ولنا أن الضامن أدى عن المضمون عنه بإذنه إذا أبرأه ظاهراً وباطناً فرجع به كما لو قامت به بينة والوجه الاول أرحج لان القضاء المبرئ في الباطن ما أوجب الرجوع فيجب أن يجب بالباقي المبرئ في الظاهر.
(مسألة) (وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه لم يسمع انكاره) لأن ما في ذمته حق للمضمون له فإذا اعترف بالقبض من الضامن فقد اعترف بأن الحق الذي له صار للضامن فيجب ان يقبل اقراره لكونه اقرارا في حق نفسه وفيه وجه آخر أنه لا يقبل لأن الضامن مدع لما يستحق به الرجوع على المضمون عنه وقول المضمون له شهادة على فعل نفسه فلا تقبل والأول أصح وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحه كشهادة المرضعة بالرضاع، وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث.
(مسألة) (وإن قضى المؤجل قبل أجله لم يرجع حتى يحل)
لأنه لا يجب له أكثر مما كان للغريم ولأنه تبرع بالتعجيل، وإن أحاله كانت الحوالة بمنزلة تقبيضه ورجع بالأقل مما أحال به أو قدر الدين سواء قبض الغريم من المحال عليه أو أبرأه أو تعذر عليه الإستيفاء لفلس أو مطل لأن الحوالة كالإقباض(5/93)
(مسألة) (وإن مات الضامن أو المضمون عنه فهل يحل الدين؟ على روايتين وأيهما حل عليه لم يحل على الآخر) وجملة ذلك أنه إذا ضمن ديناً مؤجلاً فمات أحدهما.
أما الضامن أو المضمون عنه فهل يحل الدين على الميت منهما؟ على روايتين يأتي ذكرهما.
فإن قلنا يحل على الميت لم يحل على الآخر لأن الدين لا يحل على شخص بموت غيره.
فان كان الميت المضمون عنه لم يستحق مطالبة الضامن قبل الأجل فإن قضاه قبل الأجل كان متبرعاً بتعجيل القضاء وهل له مطالبة المضمون عنه قبل الأجل؟ يخرج على الروايتين فيمن قضى الدين بغير إذن من هو عليه.
وإن كان الميت الضامن فاستوفى الغريم من تركته لم يكن لورثته مطالبة المضمون عنه حتى يحل الحق لأنه مؤجل عليه فلا يستحق مطالبته قبل أجله وهذا مذهب الشافعي وحكي زفران لهم مطالبته لأنه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته ولنا أنه دين مؤجل فلا يجوز مطالبته به قبل الأجل كما لو لم يمت، وقولهم أدخله فيه قلنا إنما أدخله في المؤجل وحلوله بسبب من جهته فهو كما لو قضى قبل الأجل (مسألة) (ويصح ضمان الحال مؤجلا وإن ضمن المؤجل حالا لم يلزمه قبل أجله في أصح الوجهين)(5/94)
إذا ضمن الدين الحال مؤجلاً صح ويكون حالا على المضمون عنه مؤجلاً على الضامن يملك مطالبة المضمون عنه دون الضامن، وبه قال الشافعي قال أحمد في رجل ضمن ما على فلان أنه يؤديه في ثلاث سنين فهو عليه ويؤديه كما ضمن، ووجه ذلك ماروى ابن عباس أن رجلاً لزم غريما له بعشرة دنانير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي شئ أعطيكه فقال والله لا أفارقك حتى تعطيني أو تأتيني بحميل فجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كم تستنظره؟) فقال شهراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(فأنا أحمل؟ فجاءه به في الوقت الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (من ابن أصبت هذا؟) قال من معدن قال (لا خير فيها) وقضاها عنه رواه ابن ماجه ولأنه ضمن مالاً بعقد مؤجل فكان مؤجلاً كالبيع، فإن قيل فعندكم الدين الحال لا يتأجل فكبف تأجل على الضامن؟ أم كيف يثبت في ذمة الضامن على غير الوصف الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟ قلنا الحق يتأجل في ابتداء ثبوته بعقد وهذا ابتداء ثبوته في حق الضامن فإنه لم يكن ثابتاً عليه حالا ويجوز أن يخالف ما في ذمة الضامن الذي في ذمة المضمون عنه بدليل ما لو مات المضمون عنه والدين مؤجل.
إذا ثبت هذا فكان الدين حالا فضمنه الى شهرين لم يكن له مطالبة الضامن الى شهر فإن قضاه قبل الأجل فله الرجوع به في الحال على الرواية(5/95)
التي تقول أنه إذا قضى دينه بغير إذنه رجع به لأن ما فيه ههنا أنه قضى بغير إذن وعلى الرواية الأخرى لا يرجع به قبل الأجل لأنه لم يأذن له في القضاء قبل ذلك (فصل) فإن كان الدين مؤجلاً فضمنه حالا لم يصر حالا ولم يلزمه أداؤه قبل أجله لأن الضامن فرع للمضمون عنه فلا يلزمه مالا يلزمه ولأن المضمون عنه لو ألزم نفسه تعجيل هذا الدين لم يلزمه تعجيله فبأن لا يلزم الضامن أولى ولأن الضمان التزام دين في الذمة فلا يجوز أن يلتزم ما يلزم المضمون عنه، فعلى هذا إن قضاه حالا لم يرجع به قبل أجله لأن ضمانه لم يغيره عن تأجيله، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها ان الدين الحال ثابت في الذمة مستحق القضاء في جميع الزمان فإذا ضمنه مؤجلاً فقد التزم بعض ما يجب على المضمون عنه فصح كما لو كان الدين عشرة فضمن خمسة، وأما الدين المؤجل فلا يستحق قضاءه الاعند أجله فإذا ضمنه حالا التزم ما لم يجب على المضمون عنه أشبه مالو كان الدين عشرة فضمن عشرين، وفيه وجه آخر أنه يصح ضمان المؤجل حالا كما يضح ضمان الحال مؤجلا قياساً عليه وقد ذكرنا الفرق بينهما بما يمنع القياس إن شاء الله تعالى (فصل) ولا يدخل الضمان والكفالة خيار لأن الخيار جعل ليعرف ما فيه الحظ والضمين والكفيل(5/96)
دخلاً على أنه لا حظ لهمما ولأنه عقد لا يفتقر إلى القبول فلم يدخله خيار كالنذر وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً، فإن شرط الخيار فيها فقال القاضي عندي أن الكفالة تبطل وهو مذهب الشافعي لأنه شرط ينافي مقتضاها ففسدت كمما لو شرط أن لا يؤدي عن الكفول به وذلك لأن مقتضى الضمان والكفالة لزوم ما ضمنه أو كفل به والخيار ينافي ذلك ويحتمل أن يبطل الشرط وحده كما قلنا في الشروط الفاسدة في البيع وولو أقرانه كفل بشرط الخيار لزمته الكفالة وبطل الشرط لأنه وصل بإقراره ما يبطله فأشبه استثناء الكل (فصل) وإذا ضمن رجلان عن رجل الفاضمان اشتراك فقالا ضمنا لك الألف الذي على زيد فكل واحد منهما ضامن لنصفه وإن كانوا ثلاثة فكل واحد ضامن ثلثه، فإن قال واحد منهم أنا وهذان ضامنون لكل الألف فسكت الآخران فعليه ثلث الألف ولا شئ عليهما وإن قال كل واحد منهم كل واحد منا ضامن لك الألف فهذا ضمان اشتراك وانفراد وله مطالبة كل وحد منهم بالألف إن شاء وإن أدى أحدهم الألف كله أو حصته منه لم يرجع الاعلى المضمون عنه لأن كل واحد منهم ضامن أصلي وليس بضامن عن الضامن الآخر(5/97)
(فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (الكفالة التزام إحضار المكفول به) وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم منهم شريح ومالك والثوري والليث وأبو حنيفة، وقال الشافعي في بعض أقواله الكفالة بالبدن ضعيفة، واختلف أصحابه فمنهم من قال هي صحيحة قولاً واحداً وإنما أراد أنها ضعيفة في القياس وإن كانت ثابتة بالإجماع والأثر ومنهم من قال فيها قولان (أحدهما) أنها غير صحيحة لأنها كفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالوجه وبدن الشاهدين ولنا قوله تعالى (قال لن أرسله معكم حتى تؤنون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بحكم) ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال (مسألة) (وتصح ببدن من عليه دين وبالأعيان المضمونة) تصح الكفالة ببدن كل من يلزه الضحور في مجلس الحكم بدين لازم سواء كان معلوماً أو كان مجهولاً، وقال بعض الشافعية لا يصح ممن عليه دين مجهول لأنه قد يتعذر إحضار المكفول فيلزمه
الدين ولا يمكنه طلبه منه لجهله ولنا أن الكفالة بالبدن لا بالدين والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة لا حتمال عارض ولأنا قد(5/98)
ببنا أن الضمان المجهول يصح وهو التزام المال ابتداء فالكفالة التي لا تتعلق بالمال ابتداء أولى، وتصح الكفالة بالصبي والمجنون لأنه قد يجب إحضارهما مجلس الحاكم للشهادة عليهما بالاتلاف واذن وليعما يقوم مقام إذنهما ويصح ببدن المحبوس والغائب وقال أبو حنيفة لا يصح ولنا أن كل وثيقة صحت مع الحضور صحت مع الغيبة والحبس كالرهن والضمان ولأن الحبس لا يمنع من التسليم لكون المحبوس يمكن تسليمه بأمر الحاكم وأمر من حبسه ثم يعيده الى الحبس بالحقين جميعاً والغائب يمضي اليه فيحضره إن كانت الغيبة غير منقطعة وهو أن يعلم خبره وإن لم يعلم خبره لزمه عليه قاله القاضي وقال في موضع آخر لا يلزمه عليه حتى تمضي مدة يمكنه الرد فيها ولا يفعل وتصح بالأعيان المضمونة كالغصوب والعواري لأنه يصح ضمانها وقد ذكرنا صحة ضمانها (مسألة) (ولا يصح ببدن من عليه حد ولا قصاص سواء كان حقاً لله تعالى كحد الزنا والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص) وهو قول العلماء منهم شريح والحسن واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي والشافعي في حدود الله تعالى واختلف قوله في حدود الآدمي فقال في موضع لا كفالة في حد ولا لعان وقال(5/99)
في موضع تجوز الكفالة بمن عليه حق أوحد لأنه حق لآدمي فصحت الكفالة به كسائر حقوق الآدميين ولنا ما روى عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا كفالة في حد) ولأنه حد فلم تصح الكفالة فيه كحدود الله تعالى، ولأن الكفالة استيثاق والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات فلا يدخل فيها الاستيثاق ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلا تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا (فصل) ولا تجوز الكفالة بالمكاتب من أجل دين الكتابة لأن الحضور لا يلزمه فلا تجوز
الكفالة به كدين الكتابة.
(مسألة) (ولا يصح بغير معين كأحد هذين) لأنه غير معلوم في الحال ولا في المآل فلا يمكن تسليمه (مسألة) (وإن كفل بجزء شائع من إنسان أو عضو أو كفل بإنسان على أنه ان جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه صح في أحد الوجهين) أما إذا قال أنا كفيل بفلان أو بنفسه أو ببدنه أو بوجهه كان كفيلاً به فإن كفل برأسه أو كبده أو جزء لا تبقى الحياة بدونه أو بجزء شائع منه كثلثه أو ربعه صحت الكفالة لأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا بإحضاره كله، وقال القاضي تصح الكفالة ببعض البدن لان مالا يسري إذا حضر به عضو لم يصح كالبيع والإجارة، وإن تكفل بعضو تبقى الحياة بعد زواله كاليد والرجل ففيه وجهان: (أحدهما) تصح الكفالة اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوحهين لا صحاب الشافعي لأنه لا يمكنه إحضار هذه الأعضاء على صفتها إلا بإحضار البدن كله أشبه الكفالة بوجهه ورأسه ولأنه حكم يتعلق بالجملة(5/100)
فيثبت حكمه إذا أضيف الى البعض كالطلاق والعتاق (والثاني) لا يصح لأن تسليمه بدون تسليم الجملة ممكن مع بقائها.
(فصل) إذا تكفل بإنسان على أنه ان جاء به وإلا فهو كفيل بآخر أو ضامن ما عليه لم يصح عند القاضي فيهما لأن الأول مؤقت والثاني معلق على شرط، وقال أبو الخطاب: يصح فيهما لأنه ضمان أو كفالة فيصح تعليقه على شرط كضمان العهدة، فإن قال إن جئت به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان أو فأنا ضامن لك المال الذي على فلان أو قال إذا جاء زيد فأنا ضامن لك ما عليه أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل بفلان أو قال أنا كفيل بفلان شهراً فقال القاضي لا تصح الكفالة، وهو مذهب الشافعي ومحمد ابن الحسن لأن ذلك خطر فلم يجز تعليق الضمان والكفالة به كمجئ المطر ولأنه إثبات حق لآدمي معين فلم يجز تعليقه على شرط ولا توقيته كالهبة.
وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يصح، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه أضاف الضمان الى سبب الوجوب فيحب أن يصح كضمان الدرك والأول أقيس.
(فصل) وإن قال كفلت ببدن فلا على أن يبرأ فلان الكفيل أو على أن تبرئه من الكفالة لم يصح لأنه شرط شرطا لا يلزم الوفاء به فيكون فاسدا وتفسد به الكفالة ويحتمل أن يصح لأنه شرط تحويل الوثيقة التي على الكفيل إليه.
فعلى هذا لا تلزمه الكفالة إلا ان يبرئ المكفول له الكفيل الأول لأنه إنما كفل بهذا الشرط فلا تثبت كفالته بدون شرطه، وإن قال كفلت لك بهذا الغريم على أن تبرئني من الكفالة بفلان أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر أو على أن تبرئني من الكفالة بفلان خرج فيه الوجهان أصحهما البطلان لأنه شرط فسخ عقد في عقد فلم يصح كالبيع بشرط فسخ سيع آخر وكذلك لو شرط في الكفالة(5/101)
أو الضمان أن يتكفل المكفول به بآخر أو يضمن ديناً عليه أو يبيعه شيئاً عينه أو يؤجره داره صح لما ذكرنا.
(مسألة) (إلا برضا الكفيل وفي رضا المكفول به وجهان) يعتبر رضى الكفيل في صحة الكفالة لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه، ولا يعتبر رضا المكفول له لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه كالشهادة ولأنها التزام حق له من غير عوض فلم يعتبر رضاه فيها كالنذر فأما رضا المكفول به ففيه وجهان (أحدهما) لا يعتبر كالضمان (الثاني) يعتبر وهو مذهب الشافعي لان مقصود ها إحضاره فإذا تكفل بغير ادنه لم يلزمه الحضور معه ولأنه يجعل لنفسه حقاً عليه وهو الحضور معه من غير رضاه فلم يجزكما لو ألزمه الدين وفارق الضمان فإن الضامن يقضي الحق ولايحتاج الى المضمون عنه (مسألة) ومتى أحصره وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر) وجملة ذالك أن الكفالة تصح حالة وموجلة كالضمان فإن اطلق انصرف الى الحلول لأن كل عقد يدخله الحلول إذا أطلق اقتضى تكفل حالا كان له مطالبته بإحضاره فإن أحضره وهناك يد حائله ظالمة لم يبرأ منه ولم يلزم المكفول له تسلمه لأنه لا يحصل له غرضه، وإن لم تكن يد حائلة لزمه قبوله فإن قبله برئ من الكفالة، وقال ابن أبي موسى لا يبرأ حتى يقول قد برئت اليك منه أو قد سلمته اليك أو قد أخرجت نفسي من كفالته، والصحيح الأول لأنه عقد على عمل فبرئ منه بالعمل المعقود عليه كالإجارة
فإن امتنع من تسلمه برئ لأنه أحضره ما يجب تسليمه عند غريمه وطلب منه تسلمه على وجه لا ضرر في قبضه فبرئ منه كالمسلم فيه وقال بعض أصحابنا إذا امتنع من تسلمه أشهد على امتناعه رجلين وبرئ لأنه(5/102)
فعل ما وقع العقد على فعله فبرئ منه، وقال القاضي يرفعه الى الحاكم فيسلمه إليه فان لم يجد حاكما أشهد شاهدين على إحضاره، وامتناع المكفول له من قبوله والأول أصح فإن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى نائبه كحاكم أو غيره، وإن كانت الكفالة مؤجلة لم يلزم إحضاره قبل الأجل كالدين المؤجل فإذا حل الأجل فأحضره وسلمه برئ فإن أحضر قبل الأجل ولا ضرر في تسلمه لزمه، وإن كان فيه ضرر مثل أن تكون حجة الغريم غائبة أو لم يكن يوم مجلس الحاكم والدين مؤجل عليه لا يمكن اتقضاؤه منه أو قد وعده بالأنظار في تلك المدة لم يلزمه قبوله كمن سلم المسلم فيه قبل محله أو في غير مكانه.
(فصل) وإذا عين في الكفالة تسليمه في مكان فأحضره في غيره لم يبرأ من الكفالة، وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال القاضي إن أحضره بمكان آخر من البلد وسلمه برئ من الكفالة وقال بعض أصحابنا متى أحضره في أي مكان كان وفي ذلك الموضع سلطان برئ من الكفالة لكونه لا يمكنه الامتناع من مجلس الحاكم ويمكن إثبات الحجة فيه وقيل إن كان عليه ضرر في إحضاره بمكان آخر لم يبرأ الكفيل إذا أحضره فيه وإلا برئ كقولنا فيما إذا أحضره قبل الأجل ولأصحاب الشافعي اختلاف على نحو ما ذكرنا ولنا أنه سلم ما شرط تسليمه في مكان في غيره فلم يبرأ كما لو أحضر المسلم فيه في غير الموضع الذي شرطه ولأنه قد يسلم في موضع لا يقدر على إثبات الحجة فيه لغيبة شهوده أو غير ذلك وقد يهرب منه ولا يقدر على إمساكه ويفارق ما إذا سلمه قبل الأجل فإنه عجل الحق قبل أجله فزاده خيراً فمتى لم(5/103)
يكن ضرر وجب قبوله فإن وقعت الكفالة مطلقة وجب تسليمه في مكان العقد كالسلم فإن سلمه في غيره فهو كتسليمه في غير المكان الذي عينه وإن كان المكفول به محبوساً لأن ذلك الحبس يمنعه استيفاء
حقه وإن كان محبوسا عندا الحاكم فسلمه اليه محبوسا لزمه تسليمه لأن حبس الحاكم لا يمنعه استيفاء حقه وإذا طالب الحاكم بإحضاره أحضره وحكم بينهما ثم يرده إلى الحبس فإن توجه عليه حق للمكفول له حبسه بالحق الأول وحق المكفول له (مسألة) (وإن مات المكفول به أو تلفت العين بفعل الله تعالى أو سلم نفسه برئ الكفيل) إذا مات المكفول به برئ الكفيل وسقطت الكفالة، وبه قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والشافعي ويحتمل أن لا يسقط ويطالب بما عليه وهو قول الحكم ومالك والليث وحكي عن ابن شريح لأن الكفيل وثيقة بحق فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفي من الوثيقة كالرهن ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل كما لو برئ من الدين ولأن ما التزمه من أجله سقط عن الاصل فبرئ الفرع كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ ممن، وفارق ما إذا غاب فإن الحضور لم يسقط عنه وفارق الرهن فإنه غلق به المال فاستوفى منه وكذلك الحكم إن تلفت المكفول بها بفعل الله تعالى وإن سلم المكفول به نفسه برئ الكفيل لأنه أتى بما يلزم الكفيل لأجله وهو إحضار نفسه فبرئت ذمته كما لو قضى الدين (فصل) وإذا قال الكفيل قد برئ المكفول به من الدين وسقطت الكفالة أو قال لم يكن(5/104)
عليه دين حين كفلته فأنكر المكفول له فالقول قوله لأن الأصل صحة الكفالة وبقاء الدين وعليه اليمين فإن نكل قضي عليه، ويحتمل أن لا يستحلف فيما إذا ادعى الكفيل أنه تكفل بمن لا دين عليه لأن الكفيل مكذب لنفسه فيما ادعاه فإن من كفل بشخص معترف بدينه في الظاهر والأول أولى لأن ما ادعاه محتمل (فصل) وإذا قال المكفول له للكفيل أبرأتك من الكفالة برئ لأنه حقه فسقط بإسقاطه كالدين، وإن قال قد برئت إلي منه أو قد رددته إلي برئ أيضاً لأنه معترف بوفاء الحق فهو كما لو اعترف بذلك في الضمان وكذلك إذا قال له برئت من الدين الذي كفلت به، ويبرأ الكفيل في هذه المواضع دون المكفول به ولا يكون افرارا بقبض الحق فيما إذا قال برئت من الدين الذي كفلت به والأول أصح لأنه
يمكن براءته بدون قبض الحق بإبراء المستحق أو موت المكفول به فأما إن قال للمكفول به أبر أتك عمالي قبلك من الحق أو برئت من الدين الذي قبلك فانه يبرأ من الحق وتزول الكفالة لانه لفظ يقتضي العموم في كل ما قبله وإن قال برئت من الدين الذي كفل به فلان برئ وبرئ كفيله (مسألة) (وإن تعذر إحضاره مع بقائه لزم الكفيل الدين أو عوض العين) متى تعذر إحضار المكفرل به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه وقال أكثرهم لا غرم عليه ولنا عموم قوله عليه الصلاة والسلام (الزعيم غارم) ولأنه أحد نوعي الكفالة فوجب بهما الغرم كالكفالة بالمال (مسألة) (وإن غاب أمهل الكفيل بقدر ما يمضي فيحضره فإن تعذر إحضاره ضمن ما عليه) إذا غاب المكفول به او ارتد ولحق بدار الحرب لم يؤخذ الكفيل بالحق حتى يمضي زمن يمكن المضي فيه وإعادته وقال ابن شبرمة يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه.
ولنا أن الحق يعتبر في وجوب(5/105)
أدائه إمكان التسليم وإن كان حالا كالدين فإذا مضت مدة يمكن إحضاره فيها ولم يحضره أو كانت الغيبة منقطعة لا يعلم خبره أو امتنع من إحضاره مع إمكانه أخذ بما عليه وقال أصحاب الشافعي إن كانت الغيبة منقطعة لا يعلم مكانه لم يطالب الكفيل بإحضاره ولم يلزمه شئ وإن امتنع من إحضاره مع إمكانه حبس وقد دللنا على وجوب الغرم في المسألة التي قبلها (فصل) وإن (.
كفل ألى أجل مجهول لم تصح الكفالة وهذا قول الشافعي لأنه ليس له وقت يستحق مطالبته فيه وهكذا الضمان وإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والعطاء خرج على الوجهين كالأجل في البيع والأولى صحته ههنا لأنه تبرع من غير عوض جعل له أجلا لا يمنع من حصول المقصود منه فصح كالنذر وهكذا كل مجهول لا يمنع مقصود الكفالة، وقد روى منها عن أحمد في رجل كفل رجلا وقال إن جئت به في وقت كذا وإلا فما عليه علي فقال لا أدري ولكن إن قال ساعة كذا لزمه، فنص على تعيين الساعة وتوقف عن تعيين الوقت ولعله أراد وقتا متسعاً أو وقت شئ يحدث مثل وقت الحصاد ونحوه، فأما إن قال وقت طلوع الشمس أو نحو ذلك صح وإن قال إلى الغد أو الى شهر
كذا تعلق بأوله على ما ذكرنا في السلم.
فإن تكفل برجل الى أجل إن جاء به فيه والا لزمه ما عليه صح وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، وقال محمد بن الحسن والشافعي لا تصح الكفالة ولا يلزمه ما عليه لأن هذا تعليق الضمان بخطر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد ولنا أن هذا موجب الكفالة ومقتضاها فصح اشتراطه كما لو قال إن جئت به في وقت كذا والا فلك حبسي، وميبنى هذا الخلاف ههنا على اخلاف في أن هذا مقتضى الكفالة وقد دللنا عليه (مسألة) (وإذا طالب الكفيل المكفول به بالحضور معه لزمه ذلك إن كانت الكفالة بإذنه أو طالبه صاحب الحق بإحضاره وإلا فلا إذا كفل رجلا بإذنه إحضاره ليسلمه الى المكفول له لزمه الحضور معه لأنه شغل ذمته من(5/106)
أجله اذنه فلزمه تخليصها كما لو استعار عبده فرهنه بإذنه فإن عليه تخليصه إذا طلبه سيده، وإن كانت بغير إذنه فإن طلبه المكفول له لزمه الحضور لأن حضوره حق للمكفول له وقد استناب الكفيل في ذلك وإن لم يطلبه المكفول له لم يلزمه الحضور لأنه لم يشغل ذمته وإنما الكفيل شغلها باختيار نفسه فلم يجز أن يثبت له بذلك حق على غيره، وإن قال له المكفول له احضر كفيلك كان توكيلاً في إحضاره ولزمه أن يحضر معه كما لو وكل غيره وإن قال أخرج من كفالتك احتمل أن يكون توكيلاً في إحضاره كاللفظ الأول واحتمل أن يكون مطالبة بالدين الذي عليه فلا يكون توكيلاً ولا يلزمه الحضور معه (فصل) وإذا قال رجل لآخر أضمن عن فلان أو أكفل بفلان ففعل كان الضمان والكفالة لازمين للمباشر دون الآمر لأنه كفل باختيار نفسه وإنما الأمر إرشاد وحث على فعل خير فلا يلزمه به شئ (فصل) ولو قال أعط فلانا ألفاً ففعل لم يرجع على ألآمر ولم يكن ذلك كفالة ولا ضمانا إلا أن يقول أعط عني وقال أبو حنيفة يرجع عليه إذا كان خليطاً له ولنا أنه لم يقل أعطه عني فلم يلزمه الضمان كما لو لم يكن خليطا ولا يلزم إذا كان له عليه مال فقال أعط فلانا حيث يلزمه لأنه لم يلزمه لا جل هذا القول بل لأن عليه حقا يلزمه أداؤه (فصل) ولو تكفل اثنان بواحد صح وأيهم قضى الدين برئ الآخر لما ذكرنا في الضمان وإن
سلم المكفول به نفسه برئ كفيلاه وإن أحضره أحد الكفيلين لم يبرأ الآخر لأن إحدى الوثيقتين انحلت من غير استيفاء فلم ننحل الأخرى كما لو أبرأ أحدهما أو انفك أحد الرهنين من غير قضاء الحق بخلاف ما إذا سلم المكفول به نفسه لأنه أصل لهما فإذا برئ الأصل مما تكفل به عنه برئ كفيلاه لأنهما فرعاه وكل واحد من الكفيلين ليس بفرع للآخر فلم يبرأ يبراءته وكذلك لو أبرأ المكفول به برئ كفيلاه ولو أبرئ أحد الكفيلين وحده لم يبرأ الآخر(5/107)
(مسألة) (ولو تكفل واحد غريمالا ثنين فأبرأه أحدهما أو أحضره عند أحدهما لم يبرأ من الآخر) لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة عقدين فقد التزم إحضاره عن كل واحد منهما فإذا أحضره عند أحدهما برئ منه كما لو كان في عقدين وكما لو ضمن دينا لرجلين فوفا أحدهما حقه (فصل) وإذا كانت السفينة في البحر وفيها متاع فخيف غرقها فألقى بعض من فيها متاعه في البحر لتخف لم يرجع به على أحد سواء ألقاه محتسباً بالرجوع أو متبرعاً لأنه أتلف مال نفسه باختياره من غير ضمان، وإن قال له بعضهم ألق متاعك فألقاه فكذلك لأنه لم يكرهه ولا ضمن له فإن قال ألقه وعلي ضمانه فألقاه فعلى القائل الضمان ذكره أبو بكر لأن ضمان ما لم يجب صحيح، وإن قال ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له ففعل فقال أبو بكر يضمنه القائل وحده إلا أن يتطوع بقيتهم، وقال القاضي إن كان ضمان إشتراك فليس عليه إلا ضمان حصته ولانه لم يضمن الجميع إنما ضمن حصته وأخير عن سائر ركبان السفينة بضمان سائره فلزمه حصته ولم يقبل قوله في حق الباقين وإن كان ضمان إشتراك انفرادبان يقول كل واحد منا ضامن لك متاعك أو قيمته لزم القائل ضمان الجميع وسواء قال هذا والباقون يسمعون فسكتوا أو قالوا لا نفعل أولم يسمعوا لأن سكوتهم لا يلزمهم به حق (فصل) قال منها سألت أحمد عن رجل له على رجل الف درهم فأقام بها كفيلين كل واحد منهما كفيل ضامن فأيهما شاء أخذه بحقه فأحال رب المال عليه رجلاً بحقه فقال يبرأ الكفيلان قال فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئاً؟ قال لا شئ له ويذهب الألف(5/108)
باب الشركة الشركة هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله (سبحانه وتعالى فهم شركاء في الثلث) وقال تعالى (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) الآية والخلطاء هم الشركاء، ومن السنة ما روي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله عزوجل انا ثالثا الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما) رواه أبو داود وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا) وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة وإنما اختلفوا في أنوع منها نبينهما إن شاء الله تعالى، والشركة نوعان شركة أملاك وشركة عقود وهذا الباب لشركة العقود (مسألة) (وهي على خمسة أضرب أحدها شركة العنان والثاني شركة المضاربة وشركة الوجوه وشركة الأبدان وشركة المفاوضة، ولا يصح شئ منها إلا من جائز التصرف لأنه عقد على التصرف فم يصح من غير جائز التصرف في المال كالبيع (فصل) قال أحمد يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه ويكون(5/109)
هو الذي يليه لأنه يعمل بالربا وبهذا قال الحسن والثوري، وكره الشافعي مشاركتهم مطلقاً لأنه روي عن عبد الله بن عباس أنه قال أكره أن يشارك المسلم اليهودي ولا يعرف له مخالف في الصحابة ولأن مال اليهودي والنصراني ليس بطيب فإنهم يبيعون الخمر ويتعاملون بالربا فكرهت معاملتهم ولنا ما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم ولأن العلة في كراهة ما خلوا به معاملتهم بالربا وبيع الخمر والخنزير وهذا منتف فيما حضره المسلم أو وليه وقول ابن عباس محمول على هذا فإنه علل بكونهم يربون كذلك رواه الأثرم عن أبي حمزة عن ابن عباس أنه قال لا تشاركن يهودياً ولا نصرانياً ولا
مجوسياً لأنهم يربون وإن الربا لا يحل وهو قول واحد من الصحابة لم ينتشر بينهم وهم لا يحتجون به وقولهم أن أموالهم غير طيبة لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عامهم ورهن درعه عند يهودي على شعير أخذه لأهله وأرسل ألى آخر يطلب منه ثوبين الى الميسرة وأضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة ولا يأكل النبي صلى الله عليه وسلم ألا الطيب وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لا عتقادهم حله ولهذا قال عمر رضي الله عنه ولو هم بيعها وخذوا أثمانها فاما ما يشتربه أو يبيعه من الخمر بمال الشركة أو المضاربة فإنه يقع فاسداً وعليه الضمان لأن عقد الوكيل يقع للموكل والمسلم لا يثبت ملكه على الخمر والخنزير فأشبه شراء الميتة والمعاملة بالربا واما خفي أمره ولم يعلم فهو مباح(5/110)
الأصل فأما المجوسي فإن أحمد كره مشاركته ومعاملته لأنه يستحل مالا يستحل هذا قال حنبل قال عمي لا يشاركه ولا يضاربه وهذا والله أعلم على سبيل الا ستحباب لترك معاملته والكراهة لمشاركته فإن فعل صح لأن تصرفه صحيح (فصل) وشركة العنان أن يشترك إثنان بماليهما ليعملا فيه بدنيهما وربحه لهما فينفذ تصرف كل واحد منهما فيهما بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه، وهي جائزة بالإجماع ذكره ابن المنذر وإنما اختلف في بعض شروطها واختلف في علة تسميتها بهذا الإسم فقيل سمتيت بذلك لانهما يتساويان في المال واتصرف كالفارسين إذا سويا بين فريسهما وتساويا في السير فانعنا نيهما يكونان سواء وقال الفراء هي مشتقة من عن الشئ إذا عرض يقال عنت إلي حاجبها إذا عرضت فسميت الشركة بذلك لأن كل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه وقيل هي مشتقة من المعاننة وهي المعارضة يقال عاننت فلانا إذا عارضته بمثل ماله وأفعاله فكل واحد من الشريكين معارض لصاحبه بماله وأفعال وهذا يرجع إلى قول الفراء (مسألة) (ولا تصح إلا بشرطين أحدهما أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير) ولا خلاف في أنه يجوز أن يجعل رأس المال دراهم أو دنانير إذا كانت غير مغشوشة لأنهما قيم الأموال وأثمان البياعات والناس يشتركون فيها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم الى زمننا هذا من غير نكير (فصل) ولا تصح بالعروض في ظاهر المذهب نص عليه أحمد في رواية أبي طالب وحرب(5/111)
وحكاه عنه ابن المنذر وكره ذلك يحيى بن أبي كثير وابن سيرين والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن الشركة إما أن تقع على أعيان العروض أو قيمتها أو أثمانها: لا يجوز وقوعها على أعيانها لأن الشركة تقتضي الرجوع عند المفاضلة برأس المال أو بمثله وهذه لامثل لها فيرجع عليه وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال وقد تنقص قيمتها فيؤدي إلى أن يشاركه في ثمن ملكه الذي ليس بربح، ولا على قيمتها لأن القيمة غير متحققة القدر فيفضي الى النتازع وقد يقوم الشئ بأكثر من قيمته ولأن القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الآخر في العين المملوكة له، ولا يجز وقوعها على أثمانها لأنها معدومة حال العقد ولا يملكانها لأنه إن أراد ثمنها الذي اشتراها به فقد خرج عن ملكه وصار للبائع وإن أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها تصير شركة معلقة على شرط وهو بيع الأعيان وهذا لا يجوز، وفيه رواية أخرى أن الشركة والمضاربة تجوز بالعروض ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد قال أحمد إذا اشتركا في العروض يقسم الربح على ما اشترطا وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضاربة بالمتاع فقال جائز فظاهر هذا صحة الشركة بها اختاره أبو بكر وأبو الخطاب وهو قول مالك وابن أبي ليلى وبه قال في المضاربة طاوس والا وزاعي وحماد بن أبي سليمان لأن مقصود الشركة جواز تصرفهما في المالين جميعاً وكون ريح المالين بينهما وهو حاصل في العروض كحصوله في الأثمان فيجب أن تصح الشركة والمضاربة بها كالأثمان ويرجع(5/112)
كل واحد منهما عند المفاضلة بقيمة ماله عند العقد كما إننا جعلنا نصاب زكاتها قيمتها، وقال الشافعي إن كانت العروض من ذوات الأمثال أشبهت النقود ويرجع عند المفاضلة بمثلها وإن لم تكن من ذوات الأمثال لم يجز وجهاً واحداً لأنه لا يمكن الرجوع بمثلها، ووجه الأول أنه نوع شركة فاستوى فيها ماله مثل من العروض ومالا مثل له كالمضاربة فإنه سلم ان المضاربة لا تجوز بشئ من العروض ولأنها ليست بنقد فلم تصح الشركة بها كالذي لا مثل له (مسألة) (وهل تصح بالمغشوش والفلوس؟ على وجهين)
اختلف أصحابنا في الشركة بالمغشوش من الأثمان هل تصح؟ على وجهين (أحدهما) لا تصح سواء قل الغش أو كثر وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إن كان الغش أقل من النصف جازو ان كثر لم يجز لأن الاعتبار بالغالب في كثير من الأصول ولنا أنها مشغوشة اشبه مالو كان الغش أكثر ولأن قيمتها تزيد وتنقص أشبهت العروض وقولهم الإعتبار بالغالب لا يصح فإن الفضة إذا كانت أقل لم يسقط حكمها في الزكاة وكذلك الذهب اللهم إلا أن يكون الغش قليلاً لمصلحة النقد كيسير الفضة في الدينار كالحبة ونحوها فلا اعتبار به لأنه لا يمكن التحرز منه ولا يؤثر في ربا ولا غيره (والثاني) أن الشركة تصح بناء على صحة الشركة في العروض وقد ذكرنا ذلك، وحكم النقرة في الشركة بها كالحكم في العروض لأن قيمتها تزيد وتنقص أشبهت(5/113)
العروض، ولا تصح الشركة بالفولس وبه قال أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم صاحب مالك، ويتخرج الجواز إذا كانت نافقة فإن أحمد قال لاارى السلم في الفلوس لأنه يشبه الصرف وهذا قول محمد بن الحسن وابي ثور لأنها ثمن فأشبهت الدراهم والدنانير، وفيه وجه آخر أن الشركة تجوز بها على كل حال وإن لم تكن نافقة بناء على جواز الشركة بالعروض، ووجه الأول أنها تنفق مرة وتكسد أخرى فأشبهت العروض فإذا قلنا بصحة الشركة بها فانها ان كانت نافقة كان رأس المال مثلها وإن كانت كاسدة كانت قيمتها كالعروض (فصل) ولا يجوز أن يكون رأس مال الشركة مجهولا ولا جزافاً لأنه لا بد من الرجوع به عند المفاضلة ولا يمكن مع الجهل به ولا يجوز بمال غائب ولا دين لأنه لا يمكن التصرف فيه في الحال وهو مقصود الشركة.
(مسألة) (الشرط الثاني أن يشرطا لكل واحد منهما جزاء من الربح مشاعاً معلوماً كالنصف والثلث والربع) لأنها أحد أنواع الشركة فاشترط علم نصيب كل واحد منهما من الربح كالمضاربة ويكون الربح بينهما على ما شرطاه سواء شرطا لكل واحد منهما على قدر ماله من الربح أو أقل أو أكثر لأن
العمل يستحق به الربح بدليل المضاربة وقد يتفاضلان فيه لقوة أحدهما وحذقه فجاز أن يجعل له حظاً(5/114)
من الربح كالمضارب وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك والشافعي من شرط صحتها كون الربح والخسران على قدر المالين لأن الربح في هذه الشركة بيع للمال فلا يجوز تغييره بالشرط كالوضيعة ولنا أن العمل مما يستحق به الربح فجاز أن يتفاضلا في الربح مع وجود العمل منهما كالمضاربين لرجل واحد، وذلك أن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر وأقوى على العمل فجاز أن يشرط له زيادة في الربح في مقابلة عمل المضارب، وفارق الوضيعة فإنها لا تتعلق إلا بالمال بدليل المضاربة (مسألة) (وإن قالا الربح بيننا فهو بينهما نصفين) لأن إضافته اليهما إضافة واحدة من غير ترجيح فاقتضى التسوية كقوله هذه الدار بيني وبينك وكذلك في المضاربة إذا قالا الربح بيننا (مسألة) (فإن يذكر الربح لم يصح كالمضاربة) لأنه المقصود من الشركة فلا يجوز الإخلال به فعلى هذا يكون الربح بينهما على قدر المالين (مسألة) (وإن شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً لم يصح) لأن الجهالة تمنع تسليم الواجب ولا الربح هو المقصود في الشركة فلم يصح مع الجهالة كالثمن والاجرة في الإجارة، وإن قال لك مثل ما شرط لفلان وهما يعلمانه صح وإن جهلاه أو أحدهما لم يصح كالثمن في البيع(5/115)
(مسألة) وإن شرطا لأحدهما في الشركة والمضاربة دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين لم يصح وجملته أنه متى جعل نصيب أحد الشركاء دراهم معلومة أو جعل مع نصيبه دراهم مثل أن يجعل لنفسه جزءاً وعشرة دراهم بطلت الشركة.
قال إبن المنذر أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض إذا جعل أحدهما لنفسه دراهم معلومة، وبه قال مالك وأبو ثور والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، والجواب فيما إذا قال لك نصف الربح إلا عشرة دراهم أو نصف الربح وعشرة دراهم كالجواب فيما إذا شرط دراهم مفردة، وإنما لم يصح لأمرين (أحدهما) أنه إذا شرط دراهم
معلومة احتمل أن لا يربح غيرها فيحصل غيرها على جميع الربح واحتمل أن لا يربحها فيأخذ من رأس المال وقد يربح كثيراً فيستضر من شرطت له الدراهم (الثاني) أن حصة العامل ينبغي أن تكون معلومة بالأجزاء لما تعذر كونها معلومة بالقدر فإذا جهلت الأجزاء فسدت كما لو جهل القدر فيما أن يكون معلوماً به ولأن العامل في المضاربة متى شرط لنفسه دراهم معلومة ربما في طلب الربح لعدم فائدته منه وحصول نفعه لغيره بخلاف ما إذا شرط له جزء من الربح.
(فصل) وكذلك الحكم إذا شرط لأحدهما ربح أحد الثوبين أو ربح إحدى السفرتين أو ربح تجارته في شهر أوعام بعينه لأنه قد يربح في ذلك المعين دون غيره فيختص أحدحما بالربح وهو مخالف لموضوع الشركة ولا نعلم في هذا خلافاً وإن دفع إليه ألفا مضاربة وقال لك ربح نصفه لم يجز وبهذا قال الشافعي(5/116)
وقال أبو حنيفة وأبو ثور يجوز كما لو قال لك نصف ربحه ولأن ربح هو نصف ربحه، ووجه الأول أنه شرط لأحدهما ربح بعض المال دون بعض فلم يجز كما لو قال لك ربح هذه الخمسمائة ولأنه يمكن أن يفرد نصف المال فيربح فيه دون النصف الآخر بخلاف نصف الربح فإنه لا يؤدي إلى انفراده بربح شئ من المال (مسألة) (وكذلك في المساقاة والمزارعة) قياساً على الشركة (مسألة) (ولا يشترط أن يخطا المالين ولا أن يكونا من جنس واحد) لا يشترط اختلاط المالين في شركة العنان إذا عيناهما أو أحضراهما وبه قال أبو حنيفة ومالك إلا أن مالكا شرط أن تكون أيدهما عليه بأن يجعلاه في حانوت لهما أفي يدو كيلهما وقال الشافعي لا يصح حتى يخلطا المالين لأنهما إذا لم يخلطا هما فمال كل واحد منهما يتلف منه دون صاحبه ويزيد له دون صاحبه فلم تنعقد الشركة كما لو كان من المكيل ولنا أنه عقد يقصد به الربح فلم يشترط فيه خلط المال كالمضاربة ولأنه عقد على التصرف فلم يشترط فيه خلط المال كالوكالة ولنا على مالك فلم يكن من شزطه أن تكون أيديهما عليه كالوكالة وقولهم إنه يتلف من مال صاحبه أو يزيد على ملك صاحبه بل يتلف من مال لهما وزيادته لهما لأن الشركة
اقتضت ثبوت الملك لكل واحد منهكا في نصف مال صاحبه فيكون تلفه منهما وزيادته لهما، وقال أبو حنيفة متى تلف أحد المالين فهو من ضمان صاحبه(5/117)
ولنا أن الوضيعة والضمان احد موجببي الشركة فتعلق بالشريكين كالربح وكما لو اختلطا (فصل) ولا يشترط لصحتها اتفاق المالين في الجنس بل يجوز أن يخرج أحدهما دراهم والآخر دنانير نص عليه أحمد وبه قال الحسن وابن سيرين، وقال الشافعي لا تصح الشركة إلا أن يتفقا في مال واحد بناء على أن خلط المالين شرط ولا يمكن إلا في المل الواحد ونحن لا تشترط ذلك ولنا أنهما من جنس الأثمان فصحت الشركة فيهما كالجنس الواحد، فعلى هذا متى تفاضلا رجع هذا بدنانيره وهذا بدراهمه ثم اقتسما الفضل نص عليه أحمد وقال كذا يقول محمد والحسن، وقال القاضي متى أراد المفاضلة قوما المبتاع بنقد البلد وقوما مال الآخر به ويكون التقويم حين صرفا الثمن فيه ولنا أن هذه شركة صحيحة رأس المال فيما الأثمان فيكون الرجوع بجنس رأس المال كما لو كان الجنس واحدا.
(فصل) ولا يشترط تساوي المالين في القدر وهو قول الحسن والشعبي والنخعي والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وقال بعض أصحاب الشافعي يشترط ذلك لأن صاحب المال القليل إن أخذ نصف الربح أخذ مالا يملكه وإن أخذ بقدر ماله أخذ شريكه بعض الربح الحاصل بعمله لاستوائهما في العمل ولنا أنهما مالان من جنس الأثمان فجاز عقد الشركة عليهما كمما لو تساويا (مسألة) (وما يشتريه كل واحد منهما بعد عقد الشركة فهو بينهما)(5/118)
شركة العنان مبنية علنى الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما بدفع المال إلى صاحبه أمنه وبإذنه له في التصرف وكله ومن شرط صحتها أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف فعلى هذا ما يشتريه كل واحد منهما بعد عقد الشركة فهو بينهما لأن العقد وقع على ذلك فإما ما يشتريه لنفسه فهو له والقول قوله في ذلك لأنه أعلم بنيته
(مسألة) (وإن تلف أحد المالين فهو من ضمانهما إذا خلطا المال وإن لم يخلط فكذلك) لأن العقد اقتضى أن يكون المالان كالمال الواحد فكذك في الضمان كحال الخلطة وقال أبو حنيفة متى تلف أحد المالين فهو من ضمان صاحبه وقد ذكرنا ما يدل على خلافه (مسألة) (والوضيعة على قدر المال) الوضعية هي الخسران في الشركة على كل واحد منهما بقدر ماله فإن كان متساوياً في القدر فالخسران بينهما نصفين وإن كان أثلاثاً، فالوضيعة أثلاثاً قال شيخنا لا نعلم في ذلك خلافاً وبه يقول أبو حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي شركة الوجوه تكون الوضيعة على قدر ملكيهما في الشمترى سواء كان الربح بينهما كذلك أو لم يكن وسواء كانت الوضيعة لتلف أو نقصان في الثمن عما اشتريا به أو غير ذلك، والوضيعة في المضاربة على المال خاصة لا شئ على العامل منها لأن الوضيعة عبارة عن نقصان رأس المال وهو(5/119)
مختص بملك ربه لا شئ فيه للعامل فيكون نقصه من ماله دون غيره وانما يشتركان فيما يحصل من النماء فأشبه المساقاة والمزارعة فإن رب الأرض والشجر يشارك العامل فيما يحدث من الزرع والثمر وإن تلف الشجر أو هلك شئ من الأرض بغرق أو غيره لم يكن على العامل شئ (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (يجوز لكل واحد منما أن يبيع ويشتري ويقبض ويقبض ويطالب بالدين ويخاصم فيه ويحيل ويحتال ويرد بالعيب ويقر به ويفعل كل ما هو من مصلحة تجارتهما) يجوز لكل واحد من الشريكين أن يبيع ويشتري مساومة ومرابحة وتولية ومواضعة كيف رأى المصلحة لأن هذه عادة التجار، وله أن يقبض المبيع والثمن ويقبضهما ويخاصم في الدين ويطالب به ويحيل ويحتال ويرد بالعيب فيما وليه أو وليه صاحبه، وله أن يقر به كما يقبل إقرار الوكيل بالعيب على موكله نص عليه أحمد وكذلك ان بالثمن أو بعضه أو أجرة المنادي أو الحمال لأن هذا من توابع التجارة فهو كتسليم المبيع وأداء ثمنه، ويفعل كل ما هو من صملحة التجارة بمطلق الشركة لأن مبناها على الوكالة والأمانة على ما ذكرنا، فيتصرف كل واحد منهما في المالين بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه، في الإقالة وجهان أصحهما أنه لا يملكها لأنها إن كانت بيعاً فقد أذن له فيه وإن كانت فسخاً
ففسخ البيع المضر من مصلحة التجارة فملكه كالرد بالعيب والآخر لا يملكها لأنها فسخ فلا يدخل في الإذن في التجارة وله أن يستأجر من مال الشركة ويؤجر لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان فصار كالشراء والبيع وله المطالبة بالأجر لهما وعليهما لأن حقوق العقد لا تختص العاقد(5/120)
(فصل) فإن ردت السلعة عليه بعيب فله أن يقبلها وأن يعطي أرش العيب أو يحط من ثمنه أو يؤخر ثمنه لا جل العيب لأن ذلك قد يكون أحظ من الرد (مسألة) (وليس له أن يكانب الرقيق ولا يزوجه ولا يعتقه على مال ولا غيره لأن الشركة انعقدت على التجارة وليست هذه الأشياء تجارة سيما تزويج العبد فإنه محض ضرر ولا يهب ولا يقرض ولا يحابى لأن ذلك ليس بتجارة (مسألة) (ولا يضارب بالمال ولا يأخذ به سفتجة ولا يعطيها إلا بإذن شريكه) ليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربة لأن ذلك يثبت في المال حقوقاً ويستحق ربحه لغيره وليس له أن يخلط مال الشركة بماله ولا مال غيره لأنه يتضمن إيجاب حقوق في المال وليس هو من التجارة المأذون فيها، وليس له أن يأخذ بالمال سفتجة ولا يعطيها لأن فيه خطراً فإن أذن شريكه في ذلك جاز لأنه يصير من التجارة المأذون فيها، ومعنى قوله يأخذ به سفتجة أنه يدفع إلى إنسان شيئاً من مال الشركة ويأخذ منه كتاباً الى بلد آخر ليستوفي منه ذلك المال، ومعنى قوله يعطيها أنه يأخذ من إنسان بضاعة ويعطيه بثمن ذلك كتاباً الى بلد آخر ليستوفي ذلك منه فلا يجوز لأن فيه خطراً على المال (مسألة) (وهل له أن يودع أو يبيع نساء او يبضع أو يوكل فيما يتولى مثله بنفسه أو يرهن أو يرتهن؟ على وجهين)(5/121)
اختلفت الرواية في الإيداع والإبضاع على روايتين (إحداهما) له ذلك لأنه عادة التجارو قد تدعوا الحاجة إلى الإيداع (والثانية) لا يجوز لأنه ليس من الشركة وفيه غرر، والصحيح أن الإيداع يجوز عند الحاجة إليه لأنه من ضرورة الشركة أشبه دفع المتاع الى الحمال، وهل له أن يبيع نساء؟ يخرج
على الروايتين في الوكيل والمضارب (إحداهما) له ذلك لأنه عادة النجار والربح فيه أكثر (والأخرى) لا يجوز لأن فيه تغريراً بالمال، فإن اشترى شيئاً بنقد عنده مثله أو نقدمن غير جنسه أو اشترى شيئاً من ذوات الأمثال وعنده مثله جاز لأنه إذا اشترى بجنس ما اشترى به أو كان عنده عرض فاستدان عرض فالشراء له خاصة وربحه له وضمانه عليه لأنه استدانه على مال الشركة وليس له ذلك لما نذكره، قال شييخنا والأولى أنه متى كان عنده من مال الشركة ما يمكنه أداء الثمن منه ببيعه أنه يجوز لأنه أمكنه إداء الثمن من مال الشركة أشبه ما لو كان عنده نقد ولأن هذا عادة التجار ولا يكمن التحرز عنه وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه؟ على وجهين بناء على الوكيل وقيل يجوز للشريك التوكيل بخلاف الوكيل لأنه لو جاز للوكيل التوكيل لاستفاد بحكم العقد مثل العقد والشريك يستفيد بعقد الشركة ما هو أخص منه ودونه لا التوكيل أخص من عقد الشركة فإن وكل أحدهما ملك الآخر عزله لأن لكل واحد منهما التصرف في حق صاحبه التوكيل فكذلك بالعزل، وهل لأحدهما أن يرهن أو يرتهن بالدين الذي لهم؟ على وجهين أصحهما أن له ذلك عند الحاجة لأن الرهن يراد للإيفاء والإرتهان يراد(5/122)
للإستيفاء وهو يملك الإيفاء والإستيفاء فملك ما يراد لهما، والثاني ليس له ذلك لأن فيه خطراً ولا فرق بين أن يكون ممن ولي العقد أو من غيره لكون القبض من حقوق العقد وحقوق العقد لا تختص العاقد فكذلك ما يراد له وهل له السفر؟ فيه وجهان نذكرهما في المضاربة (فصل) فإن قال له اعمل برأيك جاز له أن يعمل كل ما نفع في التجارة من الابضاع والمضاربة بالمال والمشاركة به وخلطه بماله والسفر به والإيداع والبيع نساء والرهن والإرتهان والإقالة ونحو ذلك لأنه فوض اليه الرأي في التصرف الذي تقتضيه الشركة فجاز له كل ما هو من التجارة، فأما التمليك بغير عوض كالبهة والحطيطة لغير فائدة والقر والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجهم ونحوه فليس له فعله لأنه إنما فوض اليه العمل برأيه في التجارة وليس هذا منها (مسألة) (وليس له أن يستدين على مال الشركة فإن فعل فهو عليه وربحه له، إلا أن بأذن شريكه) إذا استدان على مال الشركة لم يجز له ذلك فإن فعل فهو له له ربحه وعليه وضيعته، قال أحمد
في رواية صالح من استدان في المال بوجهه ألفاً فهو له ربحه له والوضيعة عليه، وقال القاضي إذا استقرض شيئاً لزمهما وربحه لهما لأنه تمليك مال بمال أشبه الصرف ومنصوص أحمد يخالف هذا لأنه أدخل في الشركة أكثر مما رضي الشريك بالمشاركة فيه فلم يجز كما لو ضم اليها ألفاً من ماله، ويفارق الصرف فإنه بيع وإبدال عين بعين فهو كبيع الثياب بالدراهم فإن أذن شريكه في ذلك جاز كيقية أفعال التجارة المأذون فيها(5/123)
(مسألة) (وإن أخر حقه من الدين جاز) إذا كان لهما دين حال فأخر أحدهما حصته من الدين جاز وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز ولنا أنه اسقط حقه من المطالبة فصح أن ينفرد أحدهما به كالإبراء (مسألة) (وإن تقاسما الدين في الذمة لم يصح) نص عليه في رواية حنبل لأن الذمة لا تتكافأ ولا تتعاد ل والقسمة تقتضي التعد يل فأما القسمة بغير تعديل فهي بمنزلة البيع ولايجوز بيع الدين بالدين، فعلى بالدين، فعلى هذا لو تقاسما ثم توى بعض المال رجع الذي توى ماله على الذي لم يتوو به قال ابن سيرين والنخعي ونقل حرب جواز ذلك لأن الاختلاف لا يمنع القسمة كاختلاف الأعيان وبه قال الحسن واسحاق، فعلى هذا لا يرجع من توى ماله على من لم يتو إذا أبرأ كل واحد منهما صاحبه وهذا إذا كان في ذمم فاما في ذمة واحدة فلا تمكن القسمة لأن القسمة إفراز حق ولا يتصور ذلك في ذمة وحده (مسألة) (وإن أبرأ من الدين لزم في حقه دون صاحبه) لأنه تبرع فلزم في حقه دون صاحبه كالصدقة (مسألة) (وكذلك إن أقر بمال سواء أقر بعين أو دين) لأن شريكه إنما أذن في التجارة وليس الإقرار داخلا فيها، وقال القاضي يقبل إقراره على مال الشركة لأن للشريك أن يشتري من غير أن يسلم الثمن في المجلس فلو لم يقبل إقراره بالثمن لضاعت أموال الناس وامتنعوا من معاملته ولأن ذلك مما يحتاج إليه في البيع اشبه الإقرار بالعيب(5/124)
(مسألة) (وعلى كل واحد منهما أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه من نشر الثوب وطيه وختم الكيس وإحرازه) لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف، والعرف إن هذه الإمور يتولاها بنفسه
(فن استأجر من يفعل ذلك فالإجرة عليه) في ماله لأنه بذلها عوضاً عما يلزمه (وما جرت العادة أن يستنيب فيه) كحمل المتاع ووزن ما ينقل والنداء (فله أن يستأجر من يفعله) من مال القراض لأنه العرف (مسألة) (فإن فعله ليأخذ أحرته فهل له ذلك؟ على وجهين) أحدهما لا يستحقها نص عليه لأنه تبرع بما لم يلزمه فلم يكن له أجر كالمرأة التي تستحق على زوجها خادماً إذا خدمت نفسها وفيه وجه آخر أن له الإجرة لأنه فعل ما يستحق الإجرة فيه فاستحقها كالأجنبي (فصل) قال المصنف رضي الله عنه (والشروط في الشركة ضربان صحيح مثل أن يشترط أن لا يتجر الافي نوع من المتاع أو بلد بعينه أو لا يبيع إلا بنقد معلوم أو لا يسافر بامال أو لا يبيع إلا من فلان أو لا يشتري إلا من فلان) فهذا كله صحيح سواء كان النوع مما يعم وجوده أو لا يعم أو الرجل مما يكثر عنده المتاع أو يقل وبهذا قال أبو حنيفة، وقال مالك والشافعي إذا شرط أن لا يشتري إلا من رجل بعينه أو سلعة بعينها أو مالا يعم وجوده كالياقوت الأحمر والخيل البلق لم يصح لأنه يفوت مقصود الشركة والمضاربة وهو التقلب وطلب الربح فلم يصح كما لو شرط أن لا يبيع ويشتري إلا من فلان أو أن لا يبيع إلا بمثل ما اشترى به(5/125)
ولنا أنها شركة خاصة لا تمنع الربح بالكلية نصحت كما لو شرط أن لا يتجر الافي نوع يعم وجوده ولانه عقد ثصح تخصيصه بنوع فصح تخصيصه في رجل بعينه وسلعة بعينها كالوكالة، قولهم إنه يمنع المقصود ممنوع وإنما يقلله وتقليله لا يمنع الصحة كتخصيصه بالنوع، ويفارق ما إذا شرط أن لا يبيع إلا برأس المال فإنه يمنع الربح بالكلية وكذلك إذا قال لا تبع إلا من فلان ولا تشتر إلا منه فإنه يمنع الربح أيضاً فإنه لا يشتري ما باعه إلا بدون ثمنه الذي باعه به ولهذا لو قال لا تبع إلا من اشتريت منه لم يصح لذلك (مسألة) (وفساد مثل أن يشترط ما يعود بجهالة الربح أو ضمان المال أو أن عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله أو أن يوليه ما يختار من السلع ويرتفق بها أو أن لا يفسخ الشركة مدة بعبنها، فما يعود بجهالة الربح يفسد به العقد وبخرج في سائرها روايتان)
الشروط الفاسدة في الشركة والمضاربة تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها ما ينافي مقتضى العقد مثل أن يشترط لزوم المضاربة أو أن لا يعز له مدة بيعنها أو أن لا يبيع إلا برأس المال أو أقل أو لا يبيع إلا ممن اشترى منه أو شرط أن لا يتشري أو لا يبيع أو أن يوليه(5/126)
ما يختار من السلع أو نحو ذلك فهذه شروط فاسدة لأنها تفوت المقصود من المضاربة وهو الربح أو تمنع الفسخ الجائز بحكم الأصل.
(القسم الثاني) ما يعود بجهالة الربح مثل ان شرط للمضارب جزءاً من الربح مجهولاً او ربح أخد الكيسين أو أحد الألفين أو أحد العبدين أو أحد السفرتين أو ما يريج في هذا الشهر أو إن حق أحدهما في عبد يشتريه أو يشرط لأحدهما دراهم معلومة بجميع حقه أو ببعضه فهذه شروط فاسدة لأنها تفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح أو إلى فواته بالكلية ومن شرط المضاربة والشركة كون الربح معلوماً.
(القسم الثالث) اشتراط ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه مثل أن يشترط على المضارب المضاربة له في مال آخر أو يأخذه بضاعة أو قرضنا أو أن يخدمه في شئ بعينه أو يرتفق ببعض السلع مثل أن يلبس الثوب او يستخدم العبد أو يشرط على المضارب ضمان المال أو سهما من الوضيعة أو أنه متى باع السلعة فهو أحق بها بالثمن أو شرط المضارب على رب المال شيئاً من ذلك، فهذه كلها شروط فاسدة وقد ذكرنا بعضها في غير هذا الموضع معللا، ومتى اشترط شرطاً فاسداً يعود بجهالة الربح فسدت المضاربة والشركة لأن الفساد لمعنى في العوض المعقود عليه فأسد العقد كما لو جعل رأس المال خمراً أو خنزيراً ولان لجهالة تمنع من التسليم فيفضي إلى التنازع والاختلاف ولا يعلم ما يدفعه إلى المضارب، وما عدا هذا من الشروط الفاسدة فالمنصوص عن أحمد في أظهر الروايتين عته أن العقد صحيح ذكره عنه الأثرم وغيره ولأنه(5/127)
عقد يصح على مجهول فل تبطله الشروط الفاسدة كالنكاح والعتاق، وفيه رواية أخرى أن العقد يبطل ذكرها القاضي وابو الخطاب لأنه شرط فاسد فأبطل العقد كالمزارعة إذا شرط البذر من العامل وكالشروط
الفاسدة في البيع، ودليل فساد هذه الشروط أنها ليست من مصلحة العقد ولا يقتضيها العقد فإن مقصوده الربح فكيف يقتضي الضمان ولا يقتضي مدة معينة؟ لأنه جائز (مسألة) (وإذا فسد العقد قسم الربح على قدر المالين) لأن التصرف صحيح لكونه بإذن رب المال والوضيعة عليه لأن كل عقد لا ضمان في صحيحه لا ضمان في فاسدة ويقسم الربح على قدر المالين لأنه نماء المال ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله يسقط منها أجرة عمله في ماله ويرجع على الآخر بقدر ما بقي له فإن تساويا مالاهما وعملهما فقاص الدينان واقتسما الربح نصفين وإن فضل أحدهما صاحبه يقاص دين القليل بمثله ويرجع على الآخر بالفضل والوجه الثاني ذكر الشريف أبو جعفر انهما يقتسان الربح على ما شرطاه لأنه عقد يجوز أن يكون عوضه مجهولا فوجب المسمى في فاسده كالنكاح (فصل) والشركة من العقود الجائزة تبطل بموت أحد الشريكين وجنونه والحجر عليه للسفه بالفسخ من أحدهما لأنه عقد جائز فبطل بذلك كالوكالة وإن عزل أحدهما صاحبه انعزل المعزول فلم يكن له أن يتصرف إلا في قدر نصيبه، وللعازل التصرف في الجميع لأن المعزول لم يرجع عن إذنه(5/128)
هذا إذا نض المال وان كان عرضاً فذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد انه لا ينعزل بالعزل وله التصردف حتى ينض المال كالمضارب إذا عزله رب المال، وينبغي أن يكون له التصرف بالبيع دون المعاوضة بسلعة أخرى أو التصرف بغير ما ينض به المال، وذكر أبو الخطاب أنه ينعزل مطلقاً وهو مذهب الشافعي قياساً على الوكالة، فعلى هذا إن اتفقا على البيع او القسمة فعلا وإن طلب أحدهما القسمة والآخر البيع قسم ولم يبع، فان قيل أليس إذا فسخ رب المال المضاربة فطلب العامل البيع أجيب إليه؟ فالجواب أن حق العامل في الربح ولا يظهر إلا بالبيع فاستحقه العامل لو قوف حصول حقه عليه، وفي مسئلتنا ما يحصل من الربح يستدركه كل واحد منهما في نصيبه من المتاع فلم يجبر عى البيع، قال شيخنا وهذا إنما يصح إذا كان الربح على قدر المالين أما إذا زاد ربح أحدهما عن ماله فإنه لا يستدرك ربحه بالقسمة فيتعين البيع كالمضاربة.
(فصل) إذا مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويأذن له الشريك في التصرف لأن هذا إتمام للشركة وليس بابتدائها فلا يتعتبر شروطها، وله المطالبة بالقسمة فإن كان مولياً عليه قام وليه مقامه في ذلك إلا أنه لا يفعل إلا ما فيه المصلحة للمولي عليه، فإن كان الميت قد وصى بمال الشركة أو ببعضه لمعين فالموصى له كالوارث فيما ذكرنا وإن وصى به لغير معين كالفقراء لم يجز للوصي الإذن في التصرف لأنه قد وجب دفعه اليهم فيعزل نصيبه ويفرقه عليهم فإن كان على الميت دين تعلق بتركته فليس للوارث امضاء الشركة حتى يقضي دينه فإن قضاه من غير مال الشركة فله الإتمام وإن قضاه منه بطلت الشركة في قدر ما قضى.(5/129)
(فصل) قال رضي الله عنه (الثاني المضاربة وهي أن يدفع ماله إلى آخر يتجر فيه والربح بينهما) فأهل العراق يسمونه مضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض وهو السفر فيها للتجارة قال الله تعالى (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) ويحتمل أن يكون من ضرب كل واحد منهما بسهم في الربح ويسميه أهل الحجاز القراض، قيل هو مشتق من الفطع يفال قرض الفأر الثوب إذا قطعه فكأن صاحب المال اقتطع من ماله قطعه وسلمها الى العامل وإقتطع له قطعة من الربح، وقيل اشتقاقه من الساواة والموازنة يقال تقارض الشاعران إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره وههنا من العامل العمل ومن الآخر المال فتوازنا، وينعقد بلفظ المضاربة والقراض وبكل ما يؤدي معناهما لأن القصد المعني فجاز بكل ما دل عليه كالوكالة وهي مجمع على جوازها في الجملة.
وذكره ابن المنذر روي وعن حميد بن عبد الله عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق، وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أببه أن عبد الله وعبيد الله ابي عمر بن الخطاب خرجا في حيش الى العراق فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعاً وقد ما به الى المدينة فباعاه وربحا فيه فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا لو تلف كان ضامنه علينا فلم يكون ربحه لنا؟ فقال رجل يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً؟ قال قد جعلته وأخذ منهما نصف الربح، وهذا يدل على جواز القراض وعن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أن عثمان قارضه وعن قتادة(5/130)
عن الحسن ان عليا قال إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطا وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما قارضا ولم يعرف لهم في الصحابة مخالف فكان أجماعاً ولأن بالناس حاجة إلى المضاربة فإن الدراهم الدنانير لا تنمي إلا بالتقليب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن التجارة ولا كل من يحسن التجارة له مال فاحتيج اليها من الجانبين فشرعت لدفع الحاجتين (فصل) ومن شرط صحتها تقدير نصيب العامل لأنه يستحقه بالشرط فلم يقدر إلا به، فلو قال خذ هذا المال مضاربة ولم يذكر سهم العامل فالربح كله لرب المال والوضيعة عليه وللعامل أجر مثله نص عليه أحمد وهو قول الثوري والشافعي واسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي، وقال الحسن وابن سيرين والاوزاعي الربح بينهما نصفين كما لو قال والربح بيننا فإنه يكون بينهما نصفين كذا هذا، ولنا أن المضارب إنما يستحق بالشرط ولم يوجد وقوله مضاربة اقتضى أن له جزءاً من الرب مجهولاً فلم تصح المضاربة كما لو قال ولك جزء من الربح، فأما إذا قال الربح بيننا فإن المضاربة تصح وتكون بينهما نصفين لأنه أضافه اليهما إضافة واحدة فلم يترجح أحدهما على الآخر فاقتضى التسوية كما لو قال هذه الدار بيني وبينك (مسألة) (فإن قال خذه فاتجر به والربح كله لي فهو إبضاع) لأنه قرن به حكم الإبضاع فانصرف إليه (مسألة) (وإن قال والربح كله لك فهو قرض) لاقراض لأن قوله خذه فاتجر به يصلح لهما(5/131)
وقد قرن به حكم القرض فانصرف إليه وإن قال مع ذلك فلا ضمان عليك فهو قرض شرط فيه نفي الضمان فلا ينتفي شرطه كما لو صرح به فقال خذ هذا قرضاً ولا ضمان عليك (مسألة) (وإن قال خذه مضاربة والربح كله لك أولي لم يصح) وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال والربح كله لي كان إبضاعاً صحيحاً لأنه أثبت له حكم الإبضاع فانصرف إليه كما لو قال اتجر به الربح كله لي، وقال مالك يكون مضاربة صحيحة في الصورتين لأنهما دخلا في القراض فإذا شرطه لا حدهما فكأنه وهب الآخر نصيبه فلم يمنع صحة العقد ولنا أن المضاربة تقتضي كون الربح بينهما فإذا شرط اختصاص أحدهما الربح فقد شرط ما ينافي
مقتضى العقد ففسد كما لو شرط الربح كله في شركة العنان لأحدهما، ويفارق ما إذا لم يقل مضاربة لأن اللفظ يصلح لما أثبت حكمه من الإبضاع والقرض بخلاف ما إذا صرح بالمضاربة وما ذكره مالك لا يصح لأن الهبة لا تصح قبل وجود الموهوب (مسألة) (ولو قال لك ثلث الربح صح والباقي لرب المال) إذا قدر نصيب العامل فقال لك ثلث الربح أو ربعه أو جزء معلوم صح والباقي لرب المال لأنه يستحق الربح بماله لكونه نماؤه وفرعه والعامل يأخذ بالشرط فما له استحقه وما بقي فلرب المال بحكم الأصل (مسألة) (وإن قال ولي ثلث الربح ولم يذكر نصيب العامل ففيه وجهان)(5/132)
أحدهما لا يصح لأن العامل إنما يستحق بالشرط ولم يشرط له شئ فتكون المضاربة (فاسدة) والثاني يصح ويكون الباقي للعامل وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأن الربح لا يستحقه غيرهما فإذا قدر نصيب أحدهما منه فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ كما علم ذلك من قوله تعالى (وورثه أبواه فلأمه الثلث) ولم يذكر نصيب الأب فعلم أن الباقي له لأنه لو قال أوصيت بهذه المائة لزيد وعمرو ونصيب زيد منها ثلاثون كان الباقي لعمر وكذا ههنا وهي أصح (فصل) فإن قال لي النصف ولك الثلث وسكت عن الباقي صح وكان لرب المال لأنه لو سكت عن جميع الباقي بعد جزء العامل كان لرب المال فكذا إذا ذكر البعض وترك البعض، وإن قال خذه مضاربة عليالثلث أو قال بالثلث صح وكان تقدير النصيب للعامل لأن الشرط يراد لأجله لأن رب المال يستحق بماله لا بالشرط والعامل يستحق بالعمل وهو يقل ويكثر وإنما تتقدر حصته بالشرط فكان الشرط له وهو مذهب الشافعي (مسألة) (وإن اختلفا في الجزء المشروط فهو للعامل قليلاً كان أو كثيراً) لما ذكرنا واليمين على مدعيه لأنه يحتمل خلاف ما قاله فيجب اليمين لنفي الإحتمال كما يجب على النمكر لنفي ما يدعيه المدعي (فصل) وإن قال خذه مضاربة ولك ثلث الربح وثلث ما بقي صح وله خمسة أسباع الربح لأن(5/133)
هذا معناه وإن قال لك ثلث الربح وربع وما بقي فله النصف وإن قال لك ربع الربح وربع ما بقي فله ثلاثة أثمان ونصف ثمن، وسواء عرفا الحساب أو جهلاه لان ذلك أجزاء معلومة مقدرة أشبه مالو شرط الخمسين ومذهب الشافعي في هذا الفعل كمذهبنا (فصل) ويجوز أن يدفع مالا إلى إثنين مضاربة في عقد واحد فإن شرط لهما جزءاً من الربح بينهما نصفين صح وإن قال لك كذا وكذا من الربح ولم يبين كيف هو بينهما فهو بينهما نصفان لأن إطلاق قوله لكما يقتضي التسوية كما لو قال لعامله الربح بيننا، وإن شرط لأحدهما ثلث الربح وللآخر ربعه والباقي له جاز وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا يجوز لأنهما في العمل بأبدانهما فلم يجز تفاضلهما في الربح كشريكي الإبدان ولنا أن عقد الواحد مع الاثنين عقدان فجاز أن يشترط في أحدهما أكثر من الآخر كما لو انفردا ولأنهما يستحقان بالعمل وهما يتفاضلان فجاز تفاضلهما في العوض كالأجيرين، وشركة الا بدان كمسئلتنا لا يجب التساوي فيها ثم الفرق بينهما أن ذاك عقد واحد وهذا عقدان (فصل) وإن قارض إثنان واحداً بألف لهما جاز فإن شرطا له ربحاً متساوياً منها جازوكذلك ان بشرط أحدهما له النصف والآخر الثلث ويكون باقي ربح مال كل واحد منهما له، وإن شرطا كون الباقي من الربح بينهما نصفين لم يجز وهذا مذهب الشافعي وكلام القاضي يقتضي جوازه وحكي عن أبي حنيفة وأبى ثور(5/134)
ولنا أن أحدهما يحصل له من ربح ماله النصف والآخر الثلثان فإذا شرط التساوي فقد شرط أحدهما للآخر جزءاً من ربح ماله بغير عمل فلم يجز كما لو شرط ربح ماله المنفرد (فصل) إذا شرطا جزءاً من الربح لغير العامل نظرت فإن شرطاه لعبد أحدهما أو لعبد يهما صح وكان مشروطاً لسيده فإذا جعالا الربح بينهما وبين عبد أحدهما إثلاثاً كان لصاحب العبد الثالثان وللآخر الثلث وإن شرطاه لاجبني أو لولد أحدهما أو امرأنه أو قريبه وشرطا عليه عملا مع العامل صح وكانا عاملين وإن لم يشرطا عليه عملاً لم تصح المضاربة وبه قال الشافعي، وحكي عن
أصحاب الرأي أنه يصح، والجزء المشروط له لرب المال سواء شرط لقريب العامل أو قريب رب المال أو لأجنبي لأن العامل لا يستحق إلا ما يشترط له ورب المال يستحق الربح بحكم الأصل والأجنبي لا يستحق شيئاً لأن الربح إنما يستحق بمال أو عمل وليس له واحد منهما وما شرط لا يستحقه فرجع الى رب المال كما لو ترك ذكره ولنا أنه شرط فاسد يعود إلى الربح فسد به العقد كما لو شرط دارهم معلومة وإن قال لك الثلثان على أن تعطي امرأتك نصفه فكذلك لأنه شرط في الربح شرطاً لا يلزم فكان فاسدا والحكم في الشركة كالحكم في المضاربة فيما ذكرنا(5/135)
(فصل) وحكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يعله وفيما يلزمه فعله وفي الشروط كلما جاز للشريك عمله جاز للمضارب وما منع منه المضارب وما اختلف فيه ثم فههنا مثله، وما جاز أن يكون رأس مال الشركة جاز أن يكون رأس مال المضاربة مالا يجوز ثم لا يجوز ههنا على ما فصلناه لأنها في معناها (مسألة) (وإذا فسدت فالربح لرب المال وللعامل الإجرة وعنه له الأقل من الإجرة أو ما شرط له من الربح) الكلام في المضاربة الفاسدة في فصول ثلاثة (أحدها) أنه إذا تصرف العامل نفذ تصرفه لانه إذ فيه رب المال فإذا بطل عقد المضاربة بقي الإذن فملك به التصرف كالوكيل، فإن قيل فلو اشترى الرجل شراء فاسداً ثم تصرف فيه لم ينفذ مع أن البائع قد أذن له في التصرف؟ قلنا لأن المشتري يتصرف من جهة الملك لا بالإذن فإن أذن البائع كان على أنه ملك المأذون له فإذا لم يملك لم يصح وههنا أذن له رب المال في التصرف في ملك نفسه وما شرط من الشرط الفاسد فليس بمشروط في مقابلة الإذن لأنه أذن له في تصرف ما يقع له (الفصل الثاني) إن الربح جميعه لرب المال لأنه نماء ماله وإنما يستحق العامل بالشرط فإذا فسدت المضاربة فسد الشرط فلم يستحق به شيئاً ولكن له أجر مثله نص عليه وهو مذهب الشافعي واختار الشريف أبو جعفر أن الربح بينهما على ما شرط له واحتج بما روي عن أحمد أنه قال إذا اشتركا قي العروض قسم الربح على ما شرطا قال وهذه شركة فاسدة واحتج بأنه عقد يصح مع الجهالة(5/136)
فيثبت المسمى في فاسدة كالنكاح قال والاجرله وجعل أحكامها كأحكام الصحيحة وقد ذكرنا ذلك قال القاضي أبو يعلى والمذهب ما حكينا وكلام أحمد محمول على أنه صحح الشركة بالعروض، وحكي عن مالك أنه يرجع إلى قراض المثل وحكي عنه ان لم يربح فلا أجر له، ومقتضى هذا أنه إن ربح فله الأقل مما شرط له أو اجر مثله وعن أحمد مثل ذلك لأن الأجرة إن كانت اكثر فقد رضي بإسقاط الزائد منها عن المسمى لرضائه به وإن كانت أقل لم يستحق أكثر منها لفساد التسمية بفساد العقد لأنه لو استحق أجر المثل لتوسل الى فساد العقد وأدى إلى الخسران والمشهور الاول لان تسمية الربح من توابع المضاربة أو ركن من أركانها فإذا فسدت فسدت أركانها وتوابعها كالصلاة، ونمنع وجوب المسمى في النكاح الفاسد وإذا لم يجب له المسمى وجب أجر المثل لأنه إنما عمل ليأخذ المسمى فإذا لم يحصل له وجب رد عمله اليه وهو متعذر فتجب قبمته وهي أجر مثله كمما لو تبايعا فاسدا وتقابضا وتلف أحد العوضين في يد قابضه وجب رد بدله، فعلى هذا له أجر المثل سواء ظهر في المال ربح أو لم يظر فإن رضي المضارب بالعمل بغير عوض مثل أن يقول قارضتك والربح كله لي فالصحيح أنه لا شئ للمضارب ههنا لأنه تبعر بعمله أشبه مالو أعانه في شئ أو توكل له بغير جعل أو أخذ له بضاعة (الفصل الثالث) إن لا يضمن ما تلف بغير تعديه وتفريطه لأن ما كان المقبوض في صحيحه(5/137)
مضموناً كان مضموناً في فاسده وما لم يضمن في صحيحه لم يضمن في فاسده، وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يضمن ولنا أنه عقد لا يضمن ما قبضه في صحيحه فلا يضمن في فاسده كالو كالة ولأنها إذا فسدت صارت إجارة ولا يضمن الأجير ما تلف بغير فعله ولا تعديه كذلك ههنا (مسألة) (وإن شرطا تأقيت المضاربة فهل تفسدء على روايتين) وتأقيتها أن يقول ضاربتك على هذه الدراهم سنة فإذا مضت السنة فلا تبع ولا تشتر (إحداهما) يصح قال منها سألت أحمد عن رجل أعطى رجلاً ألفاً مضاربة شهراً فإذا مضى شهر تكون قرضاً قال لا بأس به قلت فإذا جاء الشهر وهي متاع قال إذا باع المتاع يكون قرضاً وهذا قول أبي حنيفة (والثانية)
لا يصح وهو قول الشافعي ومالك واختيار أبي حفص العكبري لأمور ثلاثة (أحدها) أنه عقد يقع مطلقاً فإذا شرط قطعه لم يصح كالنكاح (الثاني) أنه ليس من مقتضى العقد ولا فيه له مصلحة أشبه إذا شرط أن لا يبيع، وبيان أنه ليس من مقتضى العقد أنه يقتضي أن يكون رأس المال ناضاً فإذا منعه البيع لم ينض (الثالث) أن هذا يؤدي الى ضرر بالعامل لأنه قد يكون الربح والخط في تبقية المتاع وبيعه بعد السنة فيمنتع ذلك بمضيها ولنا أنه تصرف يتوقت بنوع والمتاع فجاز توقيته في الزمان كالوكالة والمعنى الأول الذي ذكره(5/138)
يبطل بالوكالة والوديعة والناني والثالث يبطل.
بتخصيصه بنوع من المتاع ولأن لرب المال منعه من التصرف في كل وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضاً فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد فصح كما لو قال إذا انقضت النسة فلا تشتر شيئاً وقد سلموا صحة ذلك (مسألة) (وإن قال بع هذا العرض وضارب بثمنه أو اقبض وديعتي وضارب بها أو إذا قدم الحاج فضارب بهذا صح في قولهم جميعاً ويكون وكيلاً في بيع العرض وقبض الوديعة مأذوناً له في التصرف مؤتمناً عليه فجاز جعله مضاربة كمما لو قال اقبض المال من غلامي فضارب به، وأما اذا قال إذا قدم الحاج فضارب بهذا صح) لأنه أذن في التصرف فجاز تعليقه على شرط مستقبل كالوكالة (فصل) فإن كان في يد إنسان وديعة فقاله له رب الوديعة ضارب بها صح وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال الحسن لا يجوز حتى يقبضها منه ققياسا على الدين ولنا أن الوديعة ملك رب المال فجاز أن يضاربه عليها كما لو كانت حاضرة فقال قارضتك على هذه الألف فارق الدين فإنه لا يصير ملكاً للغريم إلا بقبضه، فأما إن كانت الوديعة قد تلفت بتفر بطله وصارت في الذمة لم يجز أن يضارب عليها لما نذكره(5/139)
(فصل) ولو كان له في يد غيره مال مغصوب فضارب الغاصب به صح لأنه مال لرب المال يصح بيعه لغاصبه ولمن يقدر على أخذه منه فأشبه الوديعة فإذا ضارب به سقط ضمان الغصب لعقد المضاربة
وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي لا يزول ضمان الغصب إلا بدفعه ثمناً وهو مذهب الشافعي لان القراض لاينا في الضمان بدليل مالو تعدى فيه ولنا أنه ممسك للمال بإذن مالك لا يختص بنفعه ولم يتعد فيه فأشبه مالو قبضه وقبضه إياه (مسألة) (وإن قال ضارب بالدين الذي عليك لم يصح) نص عليه أحمد وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا يجوز أن يجعل الرجل ديناً له على رجل مضاربة وممن حفظنا ذلك عنه عطاء والحكم وحماد ومالك والثوري واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي پوبه قال الشافعي، وقال بعض أصحابنا يحتمل أن يصح لأنه إذا اشترى شيئاً للمضاربة فقد اشتراه بإذن رب المال ودفع الثمن إلى من أذن له في دفع ثمنه اليه فتبرأ ذمته منه ويصير كما لو دفع إليه عرضاً وقال به وضارب بثمنه وجعل أصحاب الشافعي مكان هذا الاحتمال أن الشراء لرب المال وللمضارب أجر مثله(5/140)
لأنه علقه على شرط، ولا يصح عندهم تعليق القراض بشرط والمذهب الأول لأن المال الذي في يدي من عليه الذين له وإنما يصير لغريمه بقبضه ولم يوجد القبض ههنا، فإن قال له إعزل المال الذي لي عليك وقد قارضتك عليه ففعل واشترى بعين ذلك المال شيئاً للمضاربة وقع الشراء له لانه اشترى لغيره بمال نفسه فحصل الشراء له وإن اشترى في ذمته فكذلك لأنه عقد القراض على مالا يملكه وعلقه على شرط لا يملك به المال (فصل) ومن شرط صحة المضاربة كون رأس المال معلوم المقدار فإن كان مجهولا أو جزافاً لم تصح وإن شاهدا وبهدا قال الشافعي وقال أبو ثور وأصحاب الرأي تصح إذا شاهداه والقول قول العامل مع يمينه في قدره لأنه أمين رب المال والقول قوله فيما في يده فقام ذلك مقام المعرفة به ولنا أنه مجهول فلم تصح المضاربة به كما لو لم يشاهداه ولأنه لا يدرى بكم يرجع عند المفاضلة ويقضي الى المنازعة والإختلاف في مقداره فلم تصح كما لو كان في الكيس وما ذكروه بيطل بالسلم وبما إذا لم يشاهده (فصل) ولو أحضر كيسين في كل واحد منهما مال معلوم المقدار وقال قارضتك على أحدهما
لم يصح سواء تساوى ما فيهما أو اختلف لأنه عقد تمنع صحته الجهالة فلم يجز على غير معين كالبيع (مسألة) (وإن أخرج مالا ليعمل فيه هو وآخر والربح بينهما صح) ذكره الخرقي ونص عليه أحمد في رواية أبي الحارث وتكون مضاربة لأن غير صاحب المال يستحق المشروط له من الربح(5/141)
بعمله في مال غيره وهذا حقيقة المضاربة، وقال أبو عبد الله بن حامد والقاضي وأبو الخطاب إذا شرط إن يعمل معه رب المال لم يصح وهذا مذهب مالك والشافعي والاوزاعي وأصحاب الرأي وأبي ثور وابن المنذر قال: ولا تصح المضاربة حتى يسلم المال الى العامل ويخلي بينه وبينه لأن المضاربة تقتضي تسليم المال الى المضارب فإذا شرط عليه العمل فيه فلم يسلمه فيخالف موضوعها وتأول القاضي كلام أحمد والخرقي على أن رب المال عمل فيه من غير اشتراط والأول أظهر لأن العمل أحد ركني المضاربة فجاز أن ينفرد به أحدهما مع وجود الأمرين من الآخر كالمال وقولهم أن المضاربة تقتضي تسليم المال الى العامل ممنوع إنما تقتضي إطلاق التصرف في مال غيره بجزء مشاع من ربحه وهذا حاصل مع اشتراكهما في العمل ولهذا لو دفع ماله إلى إثنين مضاربة صح ولم يصحل تسليمه إلى أحدهما (فصل) وإن شرط أن يعمل معه غلام رب المال صح وهذا ظاهر كلام الشافعي وقول أكثر اصحابه ومنعه وبعضهم وهو قول القاضي لأن يد الغلام كيد سيده وقال أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما الجواز لأن عمل الغلام مال ليسده فصح ضمه اليه كما يصح أن يضم اليه بهيمته يحمل عليها والثاني لا يجوز لأن يد العبد كيد سيده (فصل) وإن اشترك مالان ببدن صاحب أحدهما فهذا يجمع شركة ومضاربة وهو صحيح، فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لأحدهما ألف وللآخر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف(5/142)
أن يتصرف فيه على أن يكون الربح يبنهما نصفين صح ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق ماله والقاي وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الألفين ثلاثة أربعاعها وللعامل ربعه وذلك لأنه جعل له نصف الربح فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل حصة ماله سهمان وسهم يستحقه بعمله في مال
شريكه، وحصة مال شريكه أربعة أسهم للعامل سهم وهو الربع، فإن قيل فكيف تجوز المضاربة ورأس المال مشاع قلنا إنما تنمنع الإشاعة الجواز إذا كانت مع غير العامل لانها تنمعه من التصرف بخلاف ما إذا كانت مع العامل فإنها لا تمنعه من التصرف فلا تمنع صحة المضاربة وإن شرط للعامل ثلث الربح فقط فمال صاحبه بضاعة في يده وليست مضاربة لأن المضاربة إنما تحصل إذا كان الربح بينهما فأما إذا قال ربح مالك لك وربح مالي لي فقبل الآخر كان إبضاعاً لا غير وبهذا كله قال الشافعي وقال مالك لا يجوز أن يضم الى القراض شركة كما لا يجوز أن يضم اليه عقد إجاوة.
ولنا أنهما لم يجعلا أحد العقد ين شرطاً للآخر فلم يمنع من جمعهما كما لو كان المال متميزاً (فصل) إذا دفع إليه ألفا مضاربة وقال أضف إليه الفامن عندك واتجر بهما والربح بيننا لك ثلثاه ولي ثلثه جاز وكان شركة وقراضاً وقال أصحاب الشافعي لا يجوز لأن الشركة إذا وقعت على المال كان الربح تابعاً له دون العمل ولنا أنهما تساويا في المال وانفرد أحدهما بالعمل فجاز أن ينفرد بزيادة الربح كما لو لم يكن له(5/143)
مال قولهم ان الربح تابع للمال وحده ممنوع بل تابع لهما كما أنه حاصل بهما فإن شرط غير العامل لنفسه ثلثي الربح لم يجز، وقال القاضي يجوز بناء على جواز تفاضلهما في شركة العنان ولنا أنه شرط لنفسه جزء من الربح لا مقابل له فلم يصح كما لو شرط ربح مال العامل المنفرد، وفارق شركة العنان لأن فيها عملاً منهما فجاز أن يتفاضلا في الربح لتفاضلهما في العمل بخلاف مسئلتنا وإن جعلا الربح بينهما نصفين ولم يقولا مضاربة جاز وكان إبضاعاً كما تقدم وإن قالا مضاربة فسد العقد لما ذكرنا (فصل) وقد ذكرنا أن حكم المضاربة حكم الشركة فيما للعامل أن يفعله أو لا يفعله والذي اختلف فيه في حق الشريك فكذلك في حق عامل المضاربة وهل له أن يبيع نساء إذا لم ينه عنه؟ فيه روايتان إحداهما) ليس له ذلك وبه قال مالك وابن أبي ليلى والشافعي لأنه نائب في البيع فلم يجز له ذلك بغير إذن كالوكيل، يحقق ذلك إن النائب لا يجوز له التصرف إلا على وجه الحظ والإحتياط وفي النسيئة تغرير
بالمال والثانية يجوز له ذلك وهو قول أبي حنيفة واختيار ابن عقيل لأن إذنه في التجارة والمضاربة ينصرف إلى التجاره والمتعادة وهذا عادة التجار ولأنه يقصد به الربح والربح في النساء أكثر والحكم في الوكالة ممنوع، ثم الفرق بين الوكالة المطلقة والمضاربة أن الوكالة المقصود منها تصحيل الثمن فحسب ولا تختص بقصد الربح فإذا أمكن تحصيله من غير خطر كان أولى ولأن الوكالة المطلقة في البيع(5/144)
تدل على أن حاجة الموكل الى الثمن ناجزة فلم يجز تأخيره بخلاف المضاربة، فإن قال له اعمل برأيك أو تصرف كيف شئت فله البيع نساء وقال الشافعي ليس له ذلك لأن فيه تغريراً أشبه مالو لم يقل له ذلك ولنا أنه داخل في عموم لفظه وقرينة حاله تدل على رضاه برأيه في صفات البيع وفي أنواع التجارة وهذا منها فإذا قلنا له البيع نساء فالبيع صحيح ومنهما فات من الثمن لا يضمنه إلا أن يفرط ببيع من لا يوثق به أو من لا يعرفه فيضمن الثمن المنكسر على المشتري وإن قلنا ليس له البيع نساء فالبيع باطل لأنه فعل ما لم يؤذن له فيه فهو كالبيع من الأجنبي إلا على الرواية التي تقول يقف بيع الاجنبي على الاجارة فههنا مثله، ويحتمل كلام الخرقي صحة البيع فإنه قال إذا باع المضارب نساء بغير إذن ضمن ولم يذكر فساد البيع وعلى كل حال يلزم العامل الضمان لأن ذهاب الثمن حصل بتفريطه وإن قلنا بفساد البيع ضمن المبيع بقيمته إذا تعذر عليه استرجاعه بتلف المبيع أو امتناع المشتري من رده إليه وإن قلنا بصحته احتمل أن يضمنه بقيمته أيضاً لأنه لم يفت بالبيع أكثر منها ولا ينحفظ بتركه سواها وزيادة الثمن حصلت بتفريطه فلا يضمنها واحتمل أن يضمن الثمن لانه وجب البيع وفات بتفريط البائع، فعلى هذا إن نقص عن القيمة فقد انتقل الوجوب اليه بدليل أنه لو حصل الثمن لم يضمن شيئاً(5/145)
(فصل) وهل له السفر بالمال؟ فيه وجهان (أحدهما) ليس له ذلك وهو مذهب الشافعي لأن في السفر تغريراً بالمال وخطراً ولهذا يروى: أن المسافر وما معه على قلت ألا ما وقى الله.
أي هلاك ولا يجوز له التعزير بالمال بغير إذن مالكه (والثاني) له السفر إذا لم يكن مخوفاً قال القاضي قياس المذهب
جوازه بناء على السفر بالوديعة وهو قول مالك وحكي عن أبي حنيفة لأن الإذن المطلق ينصرف الى ما جرت به العادة والعادة جارية بالتجارة سفراً أو حضراً ولأن المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض فملك ذلك بمطلقها وهذان الوجهان في المطلق، فأما إن أذن فيه أو نهى عنه أو وجدت قرينة دالة على أحد الأمرين تعين ذلك وجاز مع الإذن وحرم مع النبي، وليس له السفر في موضع مخوف على كلا الوجهين وكذلك لو أذن له في السفر مطلقاً لم يكن له السفر في طريق مخوف ولا إلى بلد مخوف فإن فعل فهو ضامن لما يتلف لأنه تعدى بفعل ما ليس له فعله (فصل) وليس للمضارب البيع بدون ثمن المثل ولا أن يشتري بأكثر منه مما لا يتغابن الناس بمثله فان فعل فقد روي عن أحمد أن البيع يصح ويضمن النقص كالو كيل ولأن الضرر ينجبر بضمان النقص، قال شيخنا والقياس بطلان البيع وهو مذهب الشافعي لأنه بيع لم يؤذن فيه أشبه بيع الأجنبي، فعلى هذا إن تعذر رد المبيع ضمن النقص أيضاً وإن أمكن رده وجب إن كان باقيا أو(5/146)
قيمته إن تلف ولرب المال مطالبة من شاء من العامل والمشتري فإن أخذ من المشتري قيمته رجع المشتري على العامل بالثمن وإن رجع على العامل بقيمته رجع العامل على المشتري بها ورد عليه الثمن لان التف حصل في يده أما ما يتغابن الناس بمثله فلا يمنع منه لأنه لا يمكن التحر ز منه وأما إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل بعين المال فهو كالبيع وإن إشترى في الذمة لزم العامل دون رب المال إلا أن يجبزه فيكون له هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي إن أطلق اشراء ولم يذكر رب المال فكذلك وإن صرح للبائع إني اشتريه لفلان فالبيع باطل ايضاً (فصل) وهل له أن يبيع ويشتري بغير نفد البلد؟ على روايتين أصحهما جوازه اذار أي المصلحة فيه والربح حاصل به كما يجوز أن يبيع عرضاً بعرض ويشتريه به فإن قلنا لا يملك ذلك ففعل فحكمه حكم ما لو اشترى أو باع بغير ثمن المثل، وإن قال اعمل برأيك فله ذلك وهل له المزارعة يحتمل أن لا يملكها لأن المضاربة لا يفهم من الاقها المزارعة وقد روي عن أحمد رحمه الله فيمن دفع إلى رجل الفاو قال إتجر فيها بما شئت فزرع زرعاً فربح فيه فالمضاربة جائزة والربح بينهما قال
القاضي ظاهر هذا إن قوله أتجر بما شئت دخلت فيه المزارعة لأنها من الوجوه التي بيتغى بها النماء فعلى هذا لو توى المال في المزارعة لم يلزمه ضمانه(5/147)
(فصل) وله أن يشتري المعيب إذا رأى المصلحة فيه لأن المقصود الربح وقد يكون الربح في المعيب فإن اشتراه يظنه سليمان فبان معيباً فله فعل ما يرى فيه المصلحة من رده أو إمساكه وأخذ الأرش فإن اختف العامل ورب المال في الرد فطلبه أحدهما وأباه الآخر فعل ما فيه النظر والخط لأن المقصود تحصيله فيحمل الأمر على ما فيه الحظ، وأما الشريكان إذا اختلفا في رد المعيب فلطالب الرد رد نصيبه وللآخر إمساك نصيبه إلا أن لا يعلم البائع ان التسراء لهما فلا يلزمه قبول رد بعضه لأن ظاهر الحال أن العقد لمن وليه فلم يجز إدخال الضرر على البائع بتبعيض الصفقة عليه، ولو أراد الذي ولي العقد رد بعض المبيع وإمساك البعض فإن حمه حكم مالو أراد شريكه ذلك على ما فصلناه (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (وليس للعامل شراء من يعتق على رب المال) لأن فيه ضرراً ولأنه لا حظ للتجارة فيه فإن اشتراه بإذن رب المال صح لانه صح شراؤه بنفسه فإذا أذن لغيره فيه جازو يعتق عليه وتنفسخ المضاربة في قدر ثمنه، وإن كان في المال ربح رجع العامل بحصته منه فإن كان بغير إذن رب المال احتمل أن لا يصح الشراء إذا كان الثمن عيناً لأن العامل اشترى ما ليس له أن يشتريه فهو كما لو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه ولأن الإذن في المضاربة إنما ينصرف الى ما يمكن بيعه والربح فيه وليس هذا كذلك، وإن كان اشتراه في الذمة وقع الشراء للعاقد وليس له دفع الثمن مال المضاربة فإن فعل ضمن وهذا قول الشافعي وأكثر الفقهاء، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد صحة الشراء(5/148)
لأنه مال متقوم قابل للعقود فصح شراؤه كما لو شاترى من نذرب المال عتقه ويعتق على رب المال ونتفسخ المضاربة فيه ويلزم العامل الضمان على ظاهر كلام أحمد علم بذلك أو جهل لأن مال المضاربة تلف بسببه، ولا فرق في الإتلاف الموجب للضمان بين العلم والجهل ويضمن قيمته في أحد الوجهين لأن الملك ثبت فيه ثم تلف أشبه مالو أتلفه بفعله والثاني يضمن الثمن الذي اشتراه به لأن التفر يط منه حصل
بالشراء وبذل الثمن فيما يتلف بالشراء فكان عليه ضمان ما فرط فيه ومتى ظهر في المال ربح فللعامل حصته منه وقال أبو بكر إن لم يعلم العامل أنه يعتق على رب المال لم يضمن لأن التلف حصل لمعنى في المبيع لم يعلم به فلم يضمن كما لو اشترى معيبا لم يعلم عبيه فتلف به قال ويتوجه أن لا يضمن وإن علم (مسألة) (وإن اشترى امرأته صح وانفسخ نكاحهما) لأنه ملكها فإن كان قبل الدخول فهل يلزم الزوج نصف الصداق؟ فيه وجهان يذكران فيما بعد إن شاء الله تعالى، فإن قلنا يلزمه رجع به على العامل لأنه سبب تقريره عليه فرجع عليه كما لو أفسدت إمرأة نكاحه بالرضاع، وإن اشترى زوج ربة المال صح وانفسخ النكاح لأنها ملكت زوجها.
وهذا قول أبي حنيفة وقال الشافعي لا يصح الشراء إلا أن يكون بإذنها لأن الإذن إنما يتناول شراء مالها فيه حظ وهذا الشراء يضربها لأنه يفسخ نكاحها وتسقط حصتها من النفقة والكسوة فلم يصح كشراء أبيها ولنا إنه اشترى ما يمكن طلب الربح فيه فجاز كما لو اشترى أجنبياً ولا ضمان على العامل فيما(5/149)
يفوت من المهر ويسقط من النفقة لأن ذلك لا يعود الى المضاربة وإنما هو بسبب آخر ولا فرق بين شرائه في الذمة أو بعين المال.
(فصل) وإن اشترى المأذون له من يعتق على رب المال بإذنه صح وعتق فإن كان على المأذون له دين يستغرق قيمته وما في يديه وقلنا يتعلق الدين برقبته فعليه دفع قيمة العبد الذي عتق الى الغرماء لأنه الذي أتلف عليهم بالعتق وإن نهاه عن الشراء فالشراء باطل لأنه يملكه بالإذن وقد زال بالنهي وإن أطلق الاذن فقال أبو الخطاب يصح شراؤه لأن من يصح أن يشتريه السيد صح شراء المأذون له كالأجنبي وهذا قول أبي حنيفة إذا أذن له في التجارة ولم يدفع إليه مالا وقال القاضي لا يصح لأن فيه إتلافاً على السيد فإن إذنه يتناول ما فيه حظ فلا يدخل فيه الإتلاف، وفارق عامل المضاربة لأنه يضمن القيمة فيزول الضرر وللشافعي قولان كالوجهين، وإن اشترى إمراة رب المال أو زوج ربة المال فهل يصح؟ على وجهين أيضاً كشراء من يعتق بالشراء (مسألة) (وإن اشترى المضارب من يعتق عليه صح الشراء)
فإن لم يظهر في المال ربح لم يعتق منه شئ وإن ظهر فيه ربح ففيه وجهان مبنيان على العامل متى يملك الربح؟ فإن قلنا يملكه بالقسيمة لم يعتق منه شئ لأنه مالكه وإن قلنا يملكه بالظهور ففيه وجهان: (أحدهما) لا يعتق وهو قول أبي بكر لأنه لم يتم ملكه عليه لكون الربح وقاية لرأس المال فلم يعتق(5/150)
لذلك (والثاني) يعتق بقدر حصته من الربح إن كان معسراً ويقوم عليه باقيه إن كان موسراً لأنه ملكه بفعله فعتق عليه كما لو اشتراه بماله وهذا قول الفاضي ومذهب أصحاب أبي حنيفة لكن عندهم يستسعى في بقيته إن كان معسراً ولنا رواية كقولهم وإن اشتراه ولم يظهر ربح ثم ظهر بعد ذلك والعبد باق في التجارة فهو كما لو كان الربح ظاهراً وقت الشراء وقال الشافعي إن اشتراه بعد ظهور الربح لم يصح في أحد الوجهين لأنه يودي إلى أن ينجر العامل حقه قبل رب المال ولنا أنهما شريكان فصح شراء كل واحد منهما من يعتق عليه كشريكي العنان (فصل) وليس للمضارب أن يشتري بأكثر من رأس المال لأن الإذن ما تناول أكثر منه فإذا كان رأس المال ألفاً فاشترى عبداً بألف ثم اشترى عبداً آخر بعين الألف فالشراء فاسد لأنه اشترى بمال يستحق تسليمه في البيع الأول، وإن اشتراه في ذمته صح الشراء والعبد له لأنه إشترى في ذمته لغيره بغير إذنه في شرائه فوقع له وهل يقف على إجازة رب المال؟ على روايتين ومذهب الشافعي كنحو ما ذكرنا (فصل) وليس للمضارب وطئ أمة المضاربة سواء ظهر ربح أو لا فإن فعل فعليه المهر والتعزير وإن علقت منه ولم يظهر في المال ربح فولده رقيق لأنها علقت منه في غير ملك ولا شبهة ملك ولا تصير أم ولد له لذلك وإن ظهر في المال ربح فالولد حر وتصير أم ولد له وعليه قيمتها ونحو ذلك قال سفيان واسحاق وقال القاضي إن لم يظهر ريح فعليه الحد لأنه وطئ في غير ملك ولا شبهة ملك والمنصوص(5/151)
عن أحمد أن عليه التعزير فقط لأن ظهور الربح ينبني على التقويم وهو غير متحقق لاحتمال أن السلع تساوي أكثر مما قزمت به فيكون ذلك شبهة في درء الحد فإنه يدرأ بالشبهات (فصل) وليس لرب المال وطئ الأمة أيضاً لأنه ينقصها إن كانت بكراً ويعرضها للخروج من
المضاربة والتلف فإن فعل فلا حد عليه لأنها ملكه فإن أحبلها صارت أم ولد له وولده حر لذلك وتخرج من المضاربة وتحسب قيمتها ويضاف إليها بقية المال فإن كان فيه ربح فللعامل حصته منه وليس لواحد منهما تزويج الأمة لأنه ينقصها ولا مكاتبة العبد لذلك وإن اتفقا عليه جاز لأن الحق لهما (فصل) وليس للمضارب دفع المال مضاربة بغير إذن نص عليه أحمد في رواية الأثرم وحرب وعبد الله، وخرج القاضي وجهين في جواز ذلك بناء على توكيل الوكيل ولا يصح هذا التخريج والقياس لأنه إنما دفع اليه المال ههنا ليضارب به ودفعه الى غيره مضاربة يخرجه عن كونه مضارباً له بخلاف الوكيل ولأن هذا يوجب في المال حقاً لغيره ولا يجوز إيجاب حق في مال إنسان بغير إذنه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ولا يعلم عن غير هم خلافهم فإن فعل فلم يتلف المال ولا ظهر فيه ربح رده الى مالكه ولا شئ له ولا عليه وإن تلف أو ربح فيه فقال الشريف أبو جعفر هو في الضمان والتصرف كالغاصب ولرب المال مطالبة ومن شاء منهما برد المال إن كان باقياً وبزد بدله إن تلف أو تعذر رده فإن طالب الأول وضمنه قيمة التلف ولم يكن الثاني علم الحال لم يرجع عليه بشئ لأنه دفعه إليه على(5/152)
وجه الأمانة وإن علم رجع عليه لأنه قبض مال غيره على سبيل العدوان وقد تلف تحت يده فاستقر عليه ضمانه وإن ضمن الثاني مع علمه بالحال لم يرجع على الأول وإن لم يعلم فكذلك في أحد الوجهين لأن التلف حصل بيده فاستقر الضمان عليه، والثاني يرجع عليه لأنه غره أشبه المغرور بحرية أمة وان ربح فالربح للمالك ولا شئ للمضارب الأول لأنه لم يوجد منه مال ولا عمل وهل للثاني أجرة مثله؟ على روايتين (إحداهما) له ذلك لأنه عمل في مال غيره بعوض لم يسلم له فكان له أجر مثله كالمضاربة الفاسدة (والثانية) لا شئ له لأنه عمل في مال غيره بغير إذن أشبه الغاصب، وفارق المضاربة لأنه عمل في ماله بإذنه وسواء اشترى بعين المال أو في الذمة ويحتمل أنه إن اشترى في الذمة يكون الربح له لأنه ربح فيما اشتراه في ذمته مما لم يقع الشراء فيه لغيره فأشبه مالو ينقد الثمن من مال المضاربة، قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم يعني قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ويحثمل أنه إن كان عالماً بالحال فلا شئ للعامل كالغاصب وإن جهل الحال فله أجر مثله يرجع به على العاصب الأول لأنه غره واستعمله بعوض لم يسلم له فكان
أجره عليه كما لو استعمله في مال نفسه وقال القاضي إن اشترى بعين المال فالشراء باطل وإن إشترى في الذمة ثم نقد المال وكان قد شرط رب المال للمضارب النصف فدفعه المضارب الى آخر على أن لرب المال النصف والنصف الآخر بينهما فهو على ما اتفقوا عليه لأن رب المال رضي بنصف الربح فلا يدفع(5/153)
اليه أكثر منه والعاملان على ما اتفقا عليه وهذا قول الشافعي القديم وليس هذا موافقاً لا صول المذاهب ولا لنص أحمد فإن أحمد قال لا يطيب الربح لمضارب ولأن المضارب الأول ليس له عمل ولا مال ولا يستحق الربح في المضاربة إلا بواحد منهما والثاني عمل في مال غيره بغير إذنه ولا شرطه فلم يستحق ما شرطه له غيره كما لو دفع إليه الغاصب مضاربة ولأنه لم يستحق ما شرطه له رب المال في المضاربة الفاسدة فما شرطه له غيره بغير إذنه أولى.
(فصل) فان إذن رب المال في ذلك جاز نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافاً ويكون المضارب الأول وكيل رب المال في ذلك فإن دفعه إلى آخر ولم يشرط لنفسه شيئاً من الربح كان صحيحاً وإن شرط لنفسه شيئاً منه لم يصح لأنه ليس من جهته مال ولا عمل والربح إنما يستحق لواحد منهما فإن قال إعمل برأيك أو بما أراك الله جاز له دفعه مضاربة نص عليه لأنه قد يرى ان يدفعه الى أبصر منه ويحتمل أن لا يجوز له ذلك لأن قوله إعمل برأيك يعني في كيفية المضاربة والبيع والشراء وأنواع التجارة ولهذا يخرج به عن المضاربة فلا يتناوله إذنه (فصل) وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله فإن فعل ولم يتميز ضمنه لأنه أمانة فهو كالوديعة فإن قال له اعمل برأيك جاز ذلك وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وقال الشافعي ليس له ذلك وعليه الضمان إن فعله لأن ذلك ليس من التجارة ولنا أنه قد يرى الخلط أصلح له فيدخل في قوله أعمل برأيك وهكذا القول في المشاركة به ليس له فعلها إلا أن يقول له اعمل برأيك فيملكها(5/154)
(فصل) وليس له شراء خمر ولا خنزير سواء كانا مسلمين أو كان أحدهما مسلماً فإن فعل فعليه الضمان وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان العامل ذمياً صح شراؤه للخمر وبيعه إياها لأن الملك عنده
ينتقل إلى الوكيل وحقوق العقد تتعلق به وقال أبو يوسف ومحمد يصح شراؤه إياها ولا يصح بيعه لأنه يبيع ما ليس بملك له ولا لموكله ولنا أنه إن كان العامل مسلماً فقد اشترى خمراً ولا يصح إن يشتري خمراً ولا يبيعه وإن كان ذمياً فقد اشترى للمسلم مالا يصح أن يملكه ابتداء فلا يصح كما لو اشترى الخنزير ولأن الخمر محرمة فلم بصح شراؤها له كالخنزير والميتة ولان مالا يجوز بيعه لا يجوز شراؤه كالميتة والدم وكلما جاز في الشركة جاز في المضاربة وما جاز في المضاربة جاز في الشركة وما منع في إحداهما منع منه في الأخرى لأن المضاربة شركة ومبنى كل واحد منهما على الوكالة والأمانة (مسألة) (وليس للمضارب أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول فإن فعل رد نصيبه من الربح في شركة الأول) وجملة ذلك أنه إذا أخذ من إنسان مضاربة ثم اراد أخذ مضاربة من آخر بإذن الأول جاز وكذلك إن لم يأذن ولم يكن عليه ضرر بغير خلاف علمناه فان كان فيه ضرر على الاول ولم بأذن مثل أن يكون المال الثاني كثيراً يستوعب زمانه فيشغله عن التجارة في الأول أو يكون المال الأول كثيراً(5/155)
متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته لم يجز ذلك وقال أكثر الفقهاء يجوز لأنه عقد لا يملك به منافعه كلها فلم يمنع من المضاربة كما لو لم يكن فيه ضرر وكالأجير المشترك ولنا أن المضاربة على الحظ والنماء فإذا فعل ما يمنعه لم يجز له كما لو أراد التصرف بالغبن وفارق مالا ضرر فيه فعلى هذا إن فعل وربح رد الربح في شركة الأول وليقسمانه فينظر ما ربح في المضاربة الثانية فيدفع الى رب المال منه نصيبه ويأخذ المضارب نصيبه من الربح فيضمه الى ربح المضاربة الأولى ويقاسمه لرب المضاربة الأولى لانه استجق حصته من الربح بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول فكان بينهما كربح المال الاول فأما حصة رب المال الثاني من الربح فيدفع اليه لأن العدوان عن المضارب لا يسقط حق رب المال الثاني ولأنا لو رددنا ربح الثاني كله في الشركة الأولى لاختص الضرر برب المال الثاني ولم يلحق المضارب شئ من الضرر والعدوان منه بل ربما انتفع إذا كان قد
شرط الأول النصف أو الثاني الثلث ولأنه لا يخلو إما أن يحكم بفساد المضاربة الثانية أو بصحتها فإن كانت فاسدة فالربح كله لرب المال وللمضارب أجر مثله وإن حكمنا بصحتها وجب صرف حصة رب المال إليه بمتقضى العقد وموجب الشرط قال شيخنا: والنظر يقتضي أن لا يستحق رب المضاربة الاولى من ريح الثانية شيئا لأنه إنما يستحق بمال أو عمل ولم يوجد واحد منهما وتعدي المضارب إنما هو بترك العمل واشتغاله عن المال الأول وذلك لا يوجب عوضاً كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه أو أجر نفسه أو ترك(5/156)
التجارة للعب او اشتغال بعلم أو غير ذلك ولأنه لو أوجب عوضاً لأوجب شيئاً مقدراً لا يختلف ولا يتقدر بربحه في الثاني والله أعلم (فصل) فإن دفع اليه مضاربة واشترط النفقة لم يجز أن يأخذ لغيره بضاعة ولا مضاربه وإن لم يكن على الأول ضرر لقول أحمد إذا اشترط النفقة صار أجبراله فلا يأخذ من أحد بضاعة فإنها تشغله عن المال الذي يضارب به، قيل له وإن كانت لا تشغله قال ما يعجبني أن يكون إلا بإذن صاحب المضاربة فإنه لا بد من شغل قال شيخنا هذا والله العم على سبيل الا ستحباب وإن فعل فلا شئ عليه لأنه لا ضرر على رب المضاربة فيه، وإن أخذ من رجل مضاربة ثم أخذ من آخر بضاعة أو عمل في مال نفسه واتجر فيه فربحه في مال البضاعة لصاحبها وفي مال نفسه له (فصل) إذا أخذ من رجل مائة قراضاً ثم أخذ من آخر مثلها فاشترى بكل مائة عبداً فاختلط العبدان ولم يتميزا اصطلحا عليهما كما لو كانت لرجل حنطة فالثالت عليها أخرى، وذكر القاضي في ذلك وجهين أحدهما يكونا شريكين فيهما كما لو اشتركا في عقد البيع فيا عان ويقسم بينهما فإن كان فيهما ربح دفع الى العامل حصته والباقي بينهما نصفين والثاني يكونان للعامل وعليه آداء رأس المال والربح له والخسران عليه وللشافعي قولان كالوجهين والأول أولى لأن ملك كل واحد منهما ثابت في أحد العبدين فلا يزول بالاشتباه عن جميعه ولا عن بعضه بغير رضاه كما لو لم يكونا في يد المضارب(5/157)
ولا تنالوا جعلناهما للمضارب أدى الى أن يكون تفريطه سببا لا نفراده بالربح وحرمان المعدى
عليه وعكس ذلك أولى وان جعلنا هما شريكين أدى الى أن يأخذ أحدهما ربح مال الآخر بغير رضاه وليس له مال ولا عمل (فصل) إذا تعدى المضارب بفعل ما ليس له فعله فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن أبي هريرة وحكم بن حزام وأبي قلابة ونافع واياس والشعبي والنخعي وحماد ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وعن علي رضي الله عنه لا ضمان على من شورك في الربح وروي معنى ذلك عن الحسن والزهري ولنا أنه متصرف في مال غيره بغير إذنه فلزمه الضمان كالغاصب ولا نقول بمشاركته في الربح فلا يتناوله قول علي رضي الله عنه، ومتى اشترى ما لم يؤذن فيه فربح فيه فالربح لرب المال نص عليه أحمد وبه قال أبو قلابة ونافع، وعن أحمد أنهما يتصدقان بالربح وبه قال الشعبي والنخعي والحكم وحماد قال القاضي قول أحمد يتصدقان بالربح على سبيل الورع وهو لرب المال في القضاء وهذا قول الأوزاعي، وقال إياس بن معاوية ومالك الربح على ما شرطاه كما لو ليس الثوب وركب دابة ليس له ركوبها وقال القاضي إن اشترى في الذمة ثم نقد المال فالربح لرب المال وإن اشترى بعين المال فالشراء باطل في إحدى الروايتين والأخرى هو موقوف على إجازة المالك فإن أجازه صح وإلا بطل والمذهب الأول نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقال أبو بكر لم بروانه يتصدق بالربح إلا حنبل(5/158)
واحتج أحمد بحديث عروة البارقي وهو ما روى أبو الوليد عن عروة بن الجعد قال عرض النبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً فقال (عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة) فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسو قهما أو أقودهما فلقيني رجل بالطريق فساومتي فبعت منه شاة بدينار فجئت بالدينار وبالشاة فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال (وكيف صنعت؟) فحدثته الحديث فقال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) رواه الأثرم ولأنه نماء مال غيره بغير إذن مالكه فكان لمالكه كما لو غصب حنطة فزرعها، فأما المضارب ففيه روايتان (إحداهما) لا شئ له لأنه عقد عقداً لم يؤذن له فيه فلم يكن له شئ كالغاصب وهذا اختيار أبي بكر (والثانية) له أجر لأن رب المال رضي بالبيع وأخذ الربح فاستحق العامل عوضاً كما لو عقده بإذنه، وفي قدر الأجر روايتان (إحداهما) أجر مثله ما لم يحط
بالربح لأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسلم له المسمى فكان له أجر مثله كالمضاربة الفاسدة (والثانية) له الأقل من المسمى أو أجر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فقد رضي به فلم يستحق أكثر منه وإن كان أجر المثل أقل فلم يستحق أكثر مه لأنه لم يعمل ما أمر به، فإن قصد الشراء لنفسه فلا أجر له رواية واحدة وقال القاضي وابو الخطاب إن إشترى في ذمته ونقد المال فلا أجر له رواية واحدة وان اشترى بعين المال فعلى روايتين (فصل) وعلى العامل أن يتولى بنفسه كل ما جرت العادة أن يتولاه المضارب من نشر الثوب وطيه(5/159)
وعرضه على المشتري ومساومته وعقد البيع وأخذ الثمن وانتقاه وشد الكيس وخمه وإحرازه ونحو ذلك ولا أجر له عليه لأنه استحق الربح في مقابلته وإن استأجر من يفعل ذلك فالأجر عليه خاصة لأن العمل عليه فأما مالا يليه في العادة كالنداء على المتاع ونقله الى الخان فليس على العامل علمه وله أن يكتري من يعمله نص عليه أحمد لأن العمل في المضاربة غير مشروط لمشقة اشتراطه فرجع فيه إلى العرف فإن فعل العامل مالا يلزمه متبرعا فلا أجر له وإن فعله ليأخذ عليه أجراً فنص أحمد على أنه لا شئ له، وخرج أصحابنا وجهاً أن له الأجر بناء على الشريك إذا انفرد بعمل لا يلزمه هل له أجر لذلك؟ على روايتين وهذا مثله، قال شيخنا والصحيح أنه لا أجر له في الموضعين لأنه عمل في مال غيره عملا لم يجعل له في مقابلته شئ فلم يستحق شيئاً كالأجنبي (فصل) وإذا غصب مال المضاربة أو سرق فهل للمضارب المطالبة به؟ على وجهين (أحدهما) ليس له ذلك لان الضماربه عقد على التجارة فلا يدخل فيه الحصومة (والثاني) له ذلك لأنه يقتضي حفظ المال ولا يتم ذلك إلا بالخصومة والمطالبة سيما إذا كان غائباً عن رب المال فإنه حينئذ لا يكون مطالباً به إلا المضارب فإن تركه ضاع، عفلى هذا إن ترك الخصومة وانطلب به في هذه الحال ضمن لأنه ضيعه وفرط فيه فأما إن كان رب المال حاضراً وعلم الحال فإنه لا يلزم العامل طلبه ولا يضمنه إذا تركه لأن رب المال أولى بذلك من وكيله(5/160)
(فصل) وإذا اشترى المضارب عبداً فقتله عبد لغيره ولم يكن ظهر في المال ربح فالأمر لرب المال إن شاء اقتص وإن شاء عفا على غير مال وتبطل المضاربة فيه لذ هاب رأس المال وإن شاء عفا على مال فإن عفا على مثل رأس المال أو أقل أو أكثر فالمضاربة بحالها والربح بينهما على ما شرطاه لأنه وجد بدل عن رأس المال فهو كما لو وجد بدله بالبيع وإن كان في العبد ربح فالقصاص اليهما والمصالحة كذلك لكونهما شريكين فيه والحكم في انفساخ المضاربة وبقائها على ما تقدم (مسألة) (وليس لرب المال أن يشتري من مال المضاربة شيئاً لنفسه وعنه يجوز) إذا اشترى رب المال من مال المضاربة شيئاً لنفسه لم يصح في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي ويصح في الأخرى وبه قال مالك والاوزاعي وأبو حنيفة لأنه قد تعلق به حق المضارب فجاز شراؤء كما لو اشترى من مكاتبه.
ولنا أنه ملكه فلم يصح شراؤه له كشرائه من وكيله، وفارق المكاتب فإن السيد لا يملك ما في يده ولا تجب زكاته عليه وله أخذ ما فيه شفعة منه (مسألة) وكذلك شراء السيد من عبده المأذون) لما ذكر ناويحتمل ان يصح اذن استغر قته الديون لأن الغرماء يأخذون ما في يده ولأن الدين إذا تعلق برقبته(5/161)
صار مستحقاً للغرماء فصح شراء السيد منه كبقية الغرماء والأول أولى لأن ملك السيد لم يزل عنه وإن تعلق حق الغرماء به كالعبد الجاني (فصل) فإن اشترى المضارب من مال المضاربة لنفسه ولم يظهر ربح صح نص عليه أحمد وبه قال مالك والثوري والاوزاعي واسحاق وحكي ذلك عن أبي حنيقة وقال أبو ثور البيع باطل لأنه شريك ولنا أنه ملك لغيره فصح شراؤء له كشراء الوكيل من موكله وإنما يكون شريكا إذا ظهر الربح لأنه إنما شارك في الربح دون أصل المال فإن ظهر ربح فشراؤه كشراء أحد الشريكين من شريكه (مسألة) (وإن اشترى أحد الشريكين نصيب شريكه صح) لأنه يشتري ملك غيره وقال أحمد في الشريكين في الطعام يريد أحدهما بيع حصته من صاحبه إن لم
يكونا يعلمان كيله فلا بأس وإن علما كيله فلا بد من كيله يعني أن من علم مبلغ شئ لم يبعه صبرة وإن باعه إياه بالكيل والوزن جاز (مسألة) (وإن اشترى الجميع بطل في نصيبه لأنه ملكه)(5/162)
وهل يصح في حصة شريكه؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة ويتخرج أن يصح في الجميع بناء على صحة شراء رب المال من مال المضاربة (فصل) ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه داراً ليحرز فيها مال الشركة أو غرائر جاز نص عليه أحمد في رواية صالح وإن استأجره لنقل الطعام أو غلامه أو دابته جاز لأن ما جاز أن يستأجر له غير الحيوان جاز أن يستأجر له الحيوان كمال الأجنبي، وفيه رواية أخرى لا يجوز لأن هذا لا تجب الأجرة فيه إلا بالعمل ولا يمكن إيفاء العمل في المشترك لأن نصيب المستأجر غير متميز من نصيب المؤجر فإذا لا تجب الأجرة، والدار والغرائر لا يعتبر فيها إيقاع العمل إنما يجب بوضع العين في الدار فيمكن تسليم المعقود عليه (مسألة) (وليس للمضارب نفقة إلا بشرط سواء كانت تجارته في الحضر أو السفر)(5/163)
وبهذا قال ابن سيرين وحماد بن أبي سليمان وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال الحسن والنخعي والاوزاعي ومالك واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ينفق من المال المعروف إذا شخص به عن البلد لان سفره لا جل المال فكانت نفقته فيه كأجر الحمال ولنا أن نفقته تخصه فكانت عليه كنفقة الحضر وأجر الطبيب وثمن الطيب لأنه دخل على أنه لا يستحق من الربح إلا الجزء المسمى فلا يكون له غيره ولأنه لو استحق النفقة أفضى إلى أن يختص بالربح إذا لم يربح سوى النفقة، فأما إن شرط له النفقة صح وله ذلك لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤمنون على شروطهم) فإن قدر له ذلك فحسن لأن فيه قطع المنازعة وزوال الاختلاف قال أحمد في رواية الأثرم أحب إلي أن يشترط نفقة محدودة وله ما قدر له من مأكول وملبوس ومركوب وغيره وإن أطلق صح
نص عليه، وله نفقته من المأكول خاصة ولا كسوة له قال أحمد إذا قال له نفقته فإنه ينفق قيل له فيكتسي؟ قال لا إنما له النفقة، فإن كان سفره طويلاً يحتاج إلى تجديد كسوة فظاهر كلام أحمد جوازها لا نه قيل(5/164)
له فلم يشترط الكسوة إلا أنه في بلد بعيد وله مقام طويل يحتاج فيه إلى الكسوة؟ فقال إذا أذن له في النفقة فعل ما لم يحمل على مال الرجل ولم يكن ذلك قصده هذا معناه.
وقال القاضي وابو الخطاب إذا شرط له النفقة فله جميع نفقته من مأكول وملبوس بالمعروف وقال أحمد ينفق على معنى ما كان ينفق على نفسه غير متعد بالنفقة ولا مضر بالمال ولم يذهب أحمد الى تقدير النفقة لأن الأسعار تختلف وقد تقل وقد تكثر (مسألة) (فإن اختلفا في قدر النفقة فقال أبو الخطاب يرجع في القوت إلى الإطعام في الكفارة وفي الكسوة إلى أقل ملبوس مثله لأنه العادة فينصرف الإطلاق اليه كما انصرف اليه في الإطعام في الكفارة، فإن كان معه مال لنفسه أو مضاربه أخرى أو بضاعة لآخر فالنفقة على قدر المالين لأنها لأجل السفر والسفر للمالين فيجب أن تكون النفقة مقسومة على قدرهما إلا أن يكون رب المال قد شرط له النفقة من ماله مع علمه بذلك، ولو أذن له في السفر إلى موضع معين أو غير معين ثم لقيه رب المال في السفر في ذلك الموضع أو في غيره وقد نص المال فأخذ ماله فطالبه العامل بنفقة الرجوع الى بلده لم يكن له ذلك لأنه إنما إستحق النفقة ماداما في القراض وقد زال فزالت النفقة ولذلك لو مات لم يجب تكفينه وقيل له ذلك لأنه كان شرط له نفقة ذهابه ورجوعه وغره بتسفيره إلى الموضع الذي أذن له فيه معتقداً أنه مستحق للنفقة ذاهباً وراجعاً فإذا قطع عنه النفقة تضرر بذلك (مسألة) (فأذن له في التسري فاشتري جارية ملكها وصار ثمنها قرضاً نص عليه أحمد لأن البضع لا يباح إلا بملك أو نكاح لقوله سبحانه (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)(5/165)
ولم يوجد النكاح فتعين الملك ويخرج ثمنها من المضاربة ويكون قرضاً في ذمته لما ذكرنا (مسألة) (وليس للمضارب ربح حتى يستوفى رأس المال يعني أنه لا يستحق أخذ شئ من الربح
حتى يسلم رأس المال الى ربه، ومتى كان في المال خسارن وربح جبرت الوضيعة من الربح سواء كان الربح والخسران في مرة واحدة أو الخسران في صفقة والربح في الأخرى أو أحد هما في سفرة والآخر في أخرى لأن الربح هو الفاضل عن رأس المال وما لم يفضل فليس بربح ولام نعلم في هذا خلافا (فصل) وفي ملك العامل نصيبه من الربح قبل القسمة روايتان (إحداهما) يملكه ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة (والأخرى) لا يملكه ذكرها أبو الخطاب وهو قول مالك وللشافعي قولان كالروايتين واحتج من لم يملكه أنه لو ملكه لاختص بربحه ولو جب أن يكون شريكا لرب المال كشريكي العنان، ووجه الأول أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه وهو أن يكون له جزء من الربح فإذا وجد وجب أن يملكه بحكم الشرط كما يملك المساقي حصته من الثمرة بظهورها وقياساً على كل شرط صحيح في عقد ولأنه مملوك ولا بد له من مالك ورب المال لا يملكه اتفاقا ولا تثبت أحكام الملك في حقه فلزم أن يكون للمضارب ولأنه يملك المطالبة بالقسمة فكان مالكا كأحد شريكي العنان ولا يمتنع أن يملكه ويكون وقاية لرأس المال كنصيب رب المال من الربح وبهذا امتنع اختصاصه بربحه ولأنه لو اختص بربحه لا ستحق من الربح أكثر مما شرط له ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه، قال أحمد في المضارب يطأ جارية من المضاربة فإن لم يكن ظهر في المال ربح لم تكن أم ولده وإن ظهر فيه ربح فهي أم ولده وفيه دليل على أنه يملك الربح بالظهور وهذا ظاهر المذهب (فصل) إذا دفع إلى رجل مائة مضاربة فخسر عشرة ثم أخذ رب المال منها عشرة لم ينقص رأس(5/166)
المال بالخسران لأنه قد يربح فيجبر الخسران لكنه ينتقص بما أخذه رب المال وهي العشرة وقسطها من الخسران وهو درهم وتسع ويبقى رأس المال ثمانية وثمانين وثمانية اتساع درهم فإن كان أخذ نصف التسعين الباقية بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ نصف المال فسقط نصف الخسران وإن كان أخذ خمسين بقي أربعة وأربعون وأربعة أتساع ولذلك إذا ربح المال ثم أخذ رب المال بعضه كان ما أخذه من الربح ورأس المال فلو كان رأس المال مائة فربح عشرين فأخذها رب المال بعضه كان المال ثلاثة وثمانين وثلثا لأنه أخذ سدس المال فنقص رأس المال سدسه وهو ستة عشروثلثان وحقها
من الربح ثلاثة وثلث، ولو كان أخذ ستين بقي رأس المال خمسين لأنه أخذ نصف المال فبقي نصفه وإن كان أخذ خمسين بقي ثمانية وخسمون وثلث لأنه أخذ ربح المال وسدسه بقي ثلثه وربعه وهو ما ذكرنا فإن أخذ ستين ثم خسر في الباقي فصار أربعين فردها كان له على رب المال خمسه لأن ما أخذه منه الرب المال انفسخت فيه المضاربة فلا يجبر بربحه خسران ما بقي في يده لمفارقته إياه وقد أخذ منه الربح عشرة لأن سدس ما أخذه ربح فكانت العشرة بينهما وإن لم يرد الأربعين كلها بل رد منها الى رب المال عشرين بقي رأس المال خمسة وعشرين (مسألة) (فإن اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى أو تلفت جبرت الوضعية من الربح) إذا دفع إلى المضارب الفين فاشترى بكل ألف عبداً فربح في أحدهما وخسر في الآخر أو تلف وجب جبر الخسران من الربح ولا يستحق المضارب شيئاً إلا بعد كمال الألفين وبه قال الشافعي الافيما(5/167)
إذا تلف أحد العبدين فإن أصحابه ذكر وافيه وجهاً ثانياً أن التالف من رأس المال لأنه بدل أحد الألفين ولو تلف أحد الألفين كان من رأس المال فكذلك بدله ولنا إن تلفه بعد أن دار في القراض وتصرف في المال بالتجارة فكان تلفه من الربح كما لو كان رأس المال ديناراً فاشترى به سلعتين ولأنهما سلعتان تجبر خسارة إحداهما بربح الأخرى فجبر تلفها به كما لو كان رأس المال ديناراً واحداً ولأنه رأس مال واحد فلا يستحق المضارب فيه ربحاً حتى يكمل رأس المال كالذي ذكرنا (مسألة) (ان تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه انفسخت فيه المضاربة) وكان رأس المال الباقي خاصة وقال بعض أصحاب الشافعي مذهب الشافعي أن التالف من الربح لأن المال إنما يصير قراضاً بالقبض فلا فرق بين هلاكه قبل التصرف أو بعده ولنا أنه مال هلك على جهته قبل التصرف فيه فكان رأس المال الباقي كما لو تلف قبل القبض وفارق ما بعد التصرف لانهه دار في التجارة وشرع فيما قصد بالعقد من التصرفات المؤدية إلى الربح
(فصل) إذا دفع إليه ألفا مضاربة ثم دفع إليه ألفا آخرو أذن له في ضم أحدهما إلى الآخر قبل التصرف في الأول جاز وصار مضاربة واحدة كما لو دفعهما اليه جميعاً، وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع لم يجزلان حكم الأول استقر وكان ربحه وخسرانه مختصاً فضم الثاني اليه يوجب جبر خسران أحدهما بربح الآخر فإذا شرط ذلك في الثاني فسد فان نض الأول جاز ضم الثاني اليه لزوال هذا المعنى وإن لم يأذن في ضم الثاني الى الأول لم يجز نص عليه أحمد وقال إسحاق له ذلك قبل أن يتصرف في الأول ولنا إنه أفرد كل واحد بعقد فكان عقدين لكل عقد حكم نفسه فلا يجبر وضيعة أحدهما ربح الآخر كما لو نهاه عن ذلك(5/168)
(مسألة) (وإن تلف المال ثم اشترى سلعة للمضاربة به فهي له وثمنها عليه سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك إلا أن يجبزه رب المال) وذلك لأنه اشتراها في ذمته وليست من مال المضاربة فاختصت به لأنه لو صح شراؤه للمضاربة لكان مستديناً على غيره والإستدانة على الإنسان بغير إذنه لا تجوز، فإن إجازة رب المال جاز في إحدى الروايتين والثمن عليه لأن من اشترى شيئاً لغيره بغير إذنه وقف على إجازته فإن أجازه فهو له وإلا فهو للمشتري وهذا كذلك، والثانية هو للعامل على كل حال لأن هذا زيادة في مال المضاربة فلا تجوز (مسألة) (فإن تلف بعد الشراء فالمضاربة بحالها والثمن على رب المال) لانه دار في التجارة ويصير رأس المال هذا الثمن دون التالف لأن الأول تلف قبل التصرف فيه وهذا قول بعض الشافعية ومنهم من قال رأس المال هو التالف حكي عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ولنا أن التالف تلف قبل التصرف فيه فلم يكن من رأس المال كما لو تلف قبل الشراء فلو اشترى عبدين بمائة فتلف أحدهما وباع الآخر بخمسين فأخذ منها رب المال خمسه وعشرين بقي رأس المال خمسين لأن رب المال أخذ نصف المال الموجود فسقط نصف الجبران، ولو لم يتلف العبد وباعهما بمائة وعشرين فأخذ رب المال ستين ثم خسر العامل فيما معه عشرين فله من الربح خمسة لأن سدس ما أخذه رب المال ربح للعامل نصفه وقد انفسخت المضاربة فيه فلا يجبر به خسران الباقي ويبقى رأس المال
خمسين فإن اقتسما الربح خاصة ثم خسر عشرين فعلى العامل رد ما أخذه وبقي رأس المال تسعين لأن العشرة الباقية مع رب المال تحسب من رأس المال(5/169)
(فصل) ومهما بقي العقد على رأس المال وجب جبر خسرانه من ربحه وإن اقتسما الربح قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن المضارب يربح ويضع مراراً فقال يرد الوديعة على الربح إلا أن يقبض المال صاحبه ثم يرده إليه فيقول أعمل به ثانية فما ربح بعد ذلك لا يجبر به وضيعة الأول فهذا ليس في نفسي منه شئ وأمامالم يدفع فحتى يحتسبا حساباً كالقبض كما قال ابن سيربن، قيل وكيف يكون حساباً كالقبض؟ قال يظهر المال يعني ينض ويجئ فيحتسبان عليه فإن شاء صاحب المال قبضه، قيل له فيحتسبان على المتاع؟ فقال لا يحتسبان إلا على الناض لأن المتاع قد ينحط سعره ويرتفع.
قال أبو طالب قيل لاحمد رجل دفع الى رجل عشرة آلاف درهم مضاربة فوضع فبقيت ألف فحاسبه صاحبها ثم قال له أذهب فاعمل بها فربح؟ قال يقاسمه ما فوق الألف يعني إذا كانت الألف ناضة حاضرة إن شاء صاحبها قبضها فهذا الحساب الذي كالقبض فيكون أمره بالمضاربة بها في هذه الحال ابتداء مضاربة ثانية كما لو قبضها منه ثم ردها اليه فأما قبل ذلك فلا شئ للمضارب حتى يكمل عشرة آلاف ولو أن رب المال والمضارب اقتسما الربح وأخذ أحدهما شيئاً بإذن الآخر والمضاربة بحالها ثم خسر المضارب رد ما أخذ من الربح لا ننا تبينا أنه ليس بربح ما لم تنجبر الخسارة والله أعلم (مسألة) (وإذا ظهر الربح لم يكن للعامل أخذ شئ إلا بإذن رب المال) لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافاً لثلاثة أمور، أحدها أن الربح وقاية لرأس المال فلا يؤمن الخسران الذي يكون هذا الربح جابراله فيخرج بذلك عن كونه ربحا، الثاني أن رب المال شريكه فلم يكن له مقاسمة نفسه الثالث، أن ملكه غير مستقر عليه لأنه بعرض أن يخرج عن يديه لجبران خسارة المال فإن أذن رب المال في ذلك جاز لأن الحق لا يخرج عنهما (مسألة) (وإذا طلب العامل البيع فأبى رب المال أجبر إن كان فيه ربح وإلا فلا)(5/170)
وجملة ذلك أن المضاربة من العقود الجائزة تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان وبموته والحجر عليه لسفه كالوكالة، ويستوي في ذلك ما قبل التصرف وبعده فإن انفسخت والمال ناض لا ربح فيه أخذه وبه فان كان فيه ربح قسماه على ما شرطا فإن انفسخت والمال عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز لأن الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه وإن طلب العامل البيع فأبى رب المال وقد ظهر في المال ربح أجبر رب المال على البيع وهذا قول الثوري واسحاق لأن حق العامل في الربح ولا يظهر إلا بالبيع وإن لم يظهر ربع لم يجبر لأنه لاحق له فيه وقد رضيه مالكه كذلك فلم يبجر على بيعه وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وقال بعضهم فيه وجه آخر أنه يجبر لأنه ربما زاد فيه راغب فزاد على ثمن الثمل فيكون للعامل في البيع حظ ولنا أن المضارب إنما استحق الربح إلى حين الفسخ وذلك لا يعلم إلا بالتقويم الا ترى أن المستعير إذا غرس أو بنى أو المشتري كان للمعير والشفيع أن يدفعا قيمة ذلك الى مستحق الأرض؟ فههنا أولى وما ذكروه من احتمال الزيادة بزيادة راغب على القيمة فإنما حدث ذلك بعد فسخ العقد فلا يستحقها العامل (مسألة) (وإن انفسخ القراض والمال عرض فرضي رب المال أن يأخذ بماله عرضاً أو طلب البيع فله ذلك) أما إذا رضي رب المال أن يأخذ بماله عرضاً فله ذلك لأنه أسقط البيع عن المضارب وأخذ العروض بثمنها الذي يحصل من غيره، وأما إذا طلب البيع وأبى العامل ففيه وجهان (أحدهما) يجبر العامل عليه وهو قول الشافعي لان عليه رد المال ناضاً كما أخذه (والثاني) لا يجبر إذا لم يكن في المال ربح وأسقط العامل حقه من الربح لأنه بالفسخ زال تصرفه وصار أجنبياً من المال فأشبه الوكيل إذا اشترى ما يستحق رده فزالت وكالته قبل رده، ولو كان رأس المال دنانير فصار دراهم أو بالعكس فهو كما لو كان عرضاً على ما شرح وإذا نض رأس المال جميعه لم يلزم العامل أن ينض له الباقي لأنه شركة بينهما ولا يلزم الشريك أن ينض مال شريكه ولأنه إنما لزمه أن ينض راس المال ليرد إليه المال على صفته ولا يوجد هذا المعنى في الربح.(5/171)
(مسألة) (وإن كان ديناً لزم العامل تقاضيه) سواء ظهر في المال ربح أولم يظهر وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن يظهر ربح لأنه لا غرض له في العمل فهو كالوكيل ولنا أن المضاربة تقتضي رد المال على صفته والديون لا تجري مجرى الناض فلزمه أن ينضه كما لو ظهر
ربح وكما لو كان رأس المال عرضاً، ويفارق الوكيل فإنه لا يلزمه رد المال كما قبضه ولهذا لا يلزمه بيع العروض ولا فرق بين كون الفسخ من العامل أو رب المال فأن اقتضى منه قدر رأس المال أو كان الدين قدر الربح أو دونه لزم العامل تقاضيه أيضاً لأنه إنما يستحق نصيبه من الربح عند وصوله إليهما على وجه يمكن قسمته ووصول كل واحد منهما إلى حقه لا يحصل ذلك إلا بعد تقاضيه (فصل) إذا مات أحد المتقارضين أو جن انفسخ القراض وقد ذكرناه فإن كان برب المال فأراد الوارث أو وليه إتمامه والمال ناض جازو يكون رأس المال وحصته من الربح رأس المال وحصة العامل من الربح شركة له مشاع وهذه الإشاعة لا تمنع لأن الشريك هو العامل وذلك لا يمنع التصرف: وإن كان المال عرضاً وأرادوا إتمامه فظاهر كلام أحمد جوازه لأنه قال في رواية علي بن سعيد إذا مات رب المال لم يجز للعامل أن يبيع ويشتري إلا بإذن الورثة، فظاهر هذا إبقاء العامل على قراضه وهو منصوص الشافعي لأن هذا إنمام للقراض لا ابتداء له ولأن القراض إنما منع منه في العروض لأنه يحتاج عند المفاصلة الى رد مثلها أو قيمتها ويختلف ذلك باخلاف الأوقات وهذا غير موجود ههنا لأن رأس المال غير العروض وحكمه باق الا ترى أن للعامل أن يبيعه ليسلم رأس المال ويقسم الباقي؟ وذكر القاضي وجهاً آخر أنه لا يجوز لأن القراض قد بطل بالموت وهذا اتبداء قراض على عروض، قال شيخنا وهذا الوجه أقيس لأن المال لو كان ناضاً كان ابتداء قرض وكانت حصة العامل من الربح شركة يختص بها دون رب المال(5/172)
وإن كان المال ناقصاً بخسارة أو تلف كان راس المال الموجود منه حال ابتداء القراض فلو جوزنا ابتداء القراض ههنا وبناء هما على القراض لصارت حصة المضاربة من الربح غير مختصة به وحصتها من الربح مشتركة بينهما وحسبت عليه العروض بأكثر من قيمتها فيما إذا كان المال ناقصاً، وهذا لا يجوز في القراض بلا خلاف وكلام أحمد محمول على أنه يبيع ويشتري بإذن الورثة كبيعه وشرائه بعد انفساخ القراض، فأما إن مات العامل أو جن وأراد رب المال ابتداء القراض مع وارثه أو وليه والمال ناض جاز كما قلنا فيما إذا مات رب المال، وإن كان عرضاً لم يجز ابتداء القراض على العروض بأن تقوم العروض ويجعل رأس المال قيمتها يوم العقد لأن الذي كان منه العمل قد جن أو مات وذهب عمله ولم يخلف أصلايني عليه
وارثه بخلاف ما إذا مات رب المال فأن مال القراض موجود ومنافعه موجودة فأمكن استدامة العقد وبناء الوارث عليه، وإن كان المال ناضاً جاز ابتداء القراض فيه فإن لم يبتدئاه لم يكن للوارث شراء ولا يبع لأن رب المال إنما رضي باجتهاد وارثه فإذا لم يرض ببيعه رفعه إلى الحاكم ليبيعه فإن كان الميت رب المال فليس للعامل الشراء لأن القراض انفسخ وأما البيع فالحكم فيه وفي التقويم واقتضاء الدين على ما ذكرناه إذا انفسخت المضاربة ورب االمال حي (مسألة) (وإن قارض في المرض فالربح من رأس المال وإن زاد على أجر المثل) إذا قارض في مرضه صح لأنه عقد يبتغي فيه الفضل أشبه البيع والشراء وللعامل ما شرط له وإن زاد على أجر مثله ولا يحتسب به من ثلثه لأن ذلك غير مستحق من رب المال وإنما حصل بعمل المضارب فما يوجد من الربح المشروط يحدث على ملك العامل ولا يزاحم به أصحاب الوصايا لأنه لو أقرض المال كان الربح كله للمقترض فبعضه أولى وهذا بخلاف ما لو حابى الأجير في الأجرة فإنه يحتسب بما حاباه من ثلثه لأن الأجر يؤخذ من ماله، ولو شرط في المساقاة والمزارعة أكثر من أجر المثل احتمل أن لا(5/173)
يحتسب به من ثلثه لأن الثمرة تخرج على ملكيهما كالربح في المضاربة واحتمل أن يكون من ثلثه لأن الثمرة زيادة في ملكه خارجة من عينه والربح لا يخرج من عين المال إنما يحتل بالتقليب (مسألة) (ويقدم به على سائر الغرماء إذا مات رب المال) لأنه يملك الربح بالظهور فكان شريكا فيه ولأن حقه متعلق بعين المال دون الذمة فكان متقدماً على المتعلق بالذمة كحق الجناية أو كالمرتهن (مسألة) (وإن مات المضارب ولم يعرف مال المضاربة فهو دين في تركته) وكذلك الوديعة ولصاحبه أسوة الغرماء وقال الشافعي ليس على المضارب شئ لأنه لم يكن في ذمته وهو حي ولم يعلم حدوث ذلك بالموت فإنه يحتمل أن يكون المال قد هلك ولنا أن الأصل بقاء المال في يده واختلاطه بجملة التركة ولا سبيل إلى معرفة عينه فكان ديناً كالوديعة إذا لم يعرف عينها وكما إذا خلطها بماله على وجه لا يتميز منه ولأنه لا سبيل إلى إسقاط حق رب المال لأن الأصل بقاؤه ولم يوجد ما يعارض ذلك ويخالفه ولا سبيل إلى إعطائه عيناً من التركة لأنه
يحتمل أن تكون غير مال المضاربة فلم يبق إلا تعلقه بالذمة (فصل) قال رضي الله عنه (والعامل أمين والقول قوله فيما يدعيه من هلاك وخسران) لأنه متصرف في مال غيره بإذنه لا يختص بنفعه أشبه الوكيل بخلاف المستعير فإن قبضه المنفته خاصة والقول قوله فيما يدعيه من تلف المال أو بعضه أو خسارة فيه ولا ضمان عليه في ذلك كالوكيل والقول قوله فيما يدعى عليه من خيانة أو تفريط وفيما يدعي أنه اشتراه لنفسه أو للقراض لأن الإختلاف ههنا في نيته وهو أعلم بها لا يطلع عليها غيره فكان القول قوله فيما نواه كما لو اختلف الزوجان في نية الزوج بكناية الطلاق ولأنه أمين في الشراء فكان القول قوله كالوكيل، ولو اشترى عبداً فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه فأنكر العامل فالقول قوله لأن الأصل عدم النهي ولا نعلم في هذا كله خلافاً وكذلك القول قوله في(5/174)
قدر راس المال كذلك قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي حكاه عنهم ابن المنذر وقال أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وبه نقول لأنه يدعي عليه قبض شئ وهو ينكره والقول قول المنكر (مسألة) (والقول قول رب المال في رده إليه مع يمينه) نص عليه أحمد ولا صحاب الشافعي وجهان أحدهما كقولنا والآخر يقبل قول العامل لأنه أمين ولأن معظم النفع لرب المال فالعامل كالمودع وينبغي أن يخرج لنا مثل ذلك بناء على دعوى الوكيل الرد إذا كان بجعل، ووحه الأول أنه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير ولأن رب المال منكر والقول قول المنكر والمودع لا نفع له في الوديعة وقولهم أن معظم النفع لرب المال ممنوع وإن سلم إلا أن المضارب لم يقبضه إلا لنفع نفسه لم يأخذه لنفع رب المال.
(مسألة) (وفي الجزء المشروط للعامل) إذا اختلفا فيما شرط للعامل ففيه روايتان (إحداهما) القول قول رب المال نص عليه في رواية ابن منصور وسندي وبه قال الثوري واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل والقول قول المنكر (والثانية) أن العامل أن ادعى أجر المثل أو ما يتغابن الناس به فالقول قوله لأن الظاهر صدقه وإن ادعى أكثر فالقول قول رب المال فيما زاد على أجر الثمل كالزوجين إذا اختلفا في الصداق وقال الشافعي يتحالفان لأنهما
اختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتبايعين(5/175)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) ولأنه اختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر ما قدمنا اختلافهما فيه والمتبايعان يرجعان على رءوس امولهما بخلاف ما نحن فيه (مسألة) (وإن قال أذنت لي في البيع نساء وفي الشراء بخسمة فأنكره رب المال وقال إنما أذنت لك في البيع نقدا وفي الشراء بأربعة فالقول قول العامل) نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقيل القول قول رب المال وهو قول الشافعي لأن الاصل عدم الأذن ولأن القول قول رب المال في أصل الإذن فكذلك في صته.
ولنا أنهما اتفقا على الإذن واختلفا في صفته فكان القول قول العامل كمما لو قال نهيتك عن شراء عبد فأنكر النهي.
(مسألة) (وإن قال ربحت الفاثم خسرتها أو تلفت قبل قوله) لأنه أمين يقبل قوله فقبل في الخسارة كالو كيل: (مسألة) (وإن قال غلطت أو نسيت لم يقبل قوله) لأنه مقر بحق لآدمي فلم يقبل قوله في الرجوع عنه كما لو أقربان رأس المال الف ثم رجع ولو أن العامل خسر فقال لرجل أقرضني ما أتمم به رأس المال لأعرضه على ربه فإني أخشى أن ينزعه مني أن علم بالخسارة فأقرضه فعرضه على رب المال فقال هذا راس مالك فأخذه فله ذلك، وذلك ولا يقبل رجوع العامل عن إقراره إن رجع ولا شهادة المقرض له لأنه يجر إلى نفسه نفعاً وليس له مطالبة رب المال لأن العامل ملكه بالقرض ثم سلمه الى رب المال وأقر أنه له ولكن يرجع المقرض على العامل لا غير(5/176)
(فصل) وإذا دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا على النصف فنض المال وهو ثلاثة آلاف فقال رب المال رأس المال ألفان فصدقه أحدهما وقال الآخر بل هو ألف فالقول قول المنكر مع يمينه فإذا حلف أنه ألف فالربح ألفان ونصيبه منهما خمسمائة يبقى ألفان وخمسمائة يأخذ رب المال ألفين لأن الآخر يصدقه يبقى خمسمائة ربحا بين رب المال والعامل الأخر يقتسمانه أثلاثاً لرب المال ثلثا ها
وللعامل ثلثها وذلك لأن نصيب رب المال نصف الربح ونصيب العامل ربعه فيقسم بينهما باقي الربح على ثلاثة وما أخذه الحالف فيما زاد على قدر نصيبه كالتالف منهما والتالف يحسب في المضاربة من الربح وهذا قول الشافعي (فصل) إذا دفع إلى رجل ألفا يتجر فيه فربح فقال العامل كان قرضاً لي ربحه كله وقال رب المال كان قراضاً ربحه بيننا فالقول قول رب المال لأنه ملكه فكان القول قوله في صفة خروجه عن يده فإذا حلف قسم الربح بينهما، ويحتمل أن يتحالفا ويكون للعامل أكثر الأمرين مما شرط له من الربح أو أجر مثله لأنه إن كان الأكثر نصيبه من الربح فرب المال معترف له وبه وهو يدعي الربح كله وإن كان أجر مثله أكثر فالقول قوله في عمله كما أن القول قول رب المال في ما له فإذا حلف قبل قوله في أنه ما عمل بهذا الشرط إنما عمل لغرض لم يسلم له فيكون له أجر المثل، فإن أقام كل واحد منهما بينة(5/177)
بدعواه فنص أحمد في رواية منها أنهما يتعارضان ويقسم المال بينهما نصفين، وإن قال رب المال كان بضاعة وقال العامل كان قراضاً احتمل أن يكون القول قول العامل لأن عمله له فيكون القول قوله فيه ويحتمل أن يتحالفا ويكون للعامل أقل الأمرين من نصيبه من الربح أو أجر مثله لأنه يدعي أكثر من نصيبه من الربح فلم يستحق زيادة وإن كان الأقل أجر مثله فلم يثبت كونه قراضاً فيكون له أجر عمله، وإن قال رب المال كان بضاعة وقال العامل كان قرضاً حلف كل واحد منهما على إنكار ما ادعاه خصمه وكان للعامل أجر عمله لا غير وإن خسر المال أو تلف فقال رب المال كان قرضاً وقال العامل كان قراضاً أو بضاعة فالقول قول رب المال (فصل) وإذا شرط المضارب النفقة ثم ادعى أنه أنفق من ماله وأراد الرجوع فله ذلك سواء كان المال باقياً في يديه أو قد رجع إلى مالكه وبه قال أبو حنيفة إذا كان المال في يديه وليس له ذلك بعد رده.
ولنا أنه أمين فكان القول قوله في ذلك كما لو كان باقياً في يديه وكالوصي إذا ادعى النفقة على اليتيم (فصل) إذا كان عبد بين رجلين فباعه أحدهما بأمر الآخر بألف وقال له اقبض ثمنه وادعى
المشتري أنه قضه وصدقه الذي لم يبع برئ المشتري من نصف ثمنه لاعتراف شريك البائع بقبض وكيله حقه فبرئ المشتري منه كما لو أقر بقبضه بنفسه وتبقى الخصومة بين البائع وشريكه والمشتري(5/178)
فإن خاصمه شريكه وادعى عليه أنك قبضته نصيبي من الثمن فأنكر فالقول قوله مع يمينه فإن كان للمدعي بينة حكم بها ولا تقبل شهادة المشتري له لانه يجبر بها إلى نفسه نفعاً وإن خاصم البائع المشتري فالقول قول البائع مع يمينه في عدم القبض لأنه منكر فإذا حلف أخذ من المشتري نصف الثمن ولا يشاركه فيه شريكه لأنه يقر أنه يأخذه ظلماً فلا يستحق مشاركته فيه وإن كانت للمشتري بينة حكم بها ولا تقبل شهادة شريكه عليه شريكه عليه لأنه يجربها إلى نفسه نفعاً ومن شهد شهادة يجر بها إلى نفسه نفعاً بطلت شهادته في الكل، ولا فرق بين مخاصمة الشريك قبل مخاصمة المشتري أو بعدها وإن ادعى المشتري أن شريك البائع قبض الثمن منه فصدقه البائع نظرت فإن كان البائع أذن لشريكه في القبض فهي كالتي قبلها وإن لم يأذن له فيه لم تبرأ ذمة المشتري من شئ من الثمن لأن البائع لم يوكله في القبض فقبضه لا يلزمه ولا يبرأ المشتري منه كما لو دفعه إلى أجنبي، ولا يقبل قول المشتري على شريك البائع لأنه ينكره وللبائع بقدر نصيبه لا غير لأنه مقر أن شريكه قبض حقه ويلزم المشتري دفع نصيبه إليه من غير يمين لأن المشتري مقر ببقاء حقه وإن دفعه إلى شريكه لم تبرأ ذمته فإذا قبض حقه فلشريكه مشاركته فيما قبض لأن الدين لهما ثابت بسبب واحد فما قبض منه يكون بينهما كما لو كان ميراثاً وله أن لا يشاركه ويطالب المشتري بحقه كله ويحتمل أن لا يملك الشريك مشاركته فيما قبض لأن كل واحد منهما يستحق ثمن نصيبه الذي ينفرد به فلم يكن لشريكه مشاركته فيما قبض من ثمنه كما لو باع كل واحد نصيبه في(5/179)
صففة، ويخالف الميراث لأن سبب استحقاق الورثة لا يتبعض فلم يكن للورثة تبعيضه وههنا يتبعض لأنه إذا كان البائع اثنين كان بمنزلة عقدين ولأن الوارث نائب عن الموروث فكان ما يقضه هو للموروث يشترك فيه جميع الورثة بخلاف مسئلتنا فإن ما يقبضه لنفسه، فإن قلنا له مشاركته فيما قبض فعليه اليمين أنه لم يستوف حقه من المشتري ويأخذ من القابض نصف ما قبضه ويطالب المشتري ببقية حقه إذا
حلف له أيضاً أنه ما قبض منه شيئاً وليس للمقبوض منه أن يرجع على المشتري بعوض ما أخذ منه لأنه مقر أن المشتري قد برئت ذمته من حق شريكه وإنما أخذ منه ظلماً فلا يرجع بما ظلمه هذا على غيره، وإن خاصم المشتري شريك البائع وادعى عليه أنه قبض الثمن منه وكانت له بينة حكم بها وتقبل شهادة البائع له إذا كان عدلاً لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً لأنه إذا ثبت أن شريكه قبض الثمن لم يملك مطالبته بشئ لأنه ليس بوكيل له في القبض فلا يقع قبضه له هكذا ذكر بعض أصحابنا، قال شيخنا وعندي لاتقبل شهادته له لأنه يدفع عن نفسه ضرر مشاركة شريكه له فيما يقضه من المشتري فإذا لم يكن بينه فحلف أخذ من المشتري نصف الثمن وإن نكل أخذ المشتري منه نصفه (فصل) وإذا كان العبد بين اثنين فغصب رجل نصيب أحدهما بأن يستولي على العبد ويمنع أحدهما(5/180)
الانتفاع دون الآخر ثم أن مالك نصفه والغاصب باعا العبد صفقة واحدة صح في نصيب المالك وبطل في نصيب الغاصب، وإن وكل الشريك الغاصب أو وكل الغاصب الشريك في البيع فباع العبد كله صفقة واحدة بطل في نصيب الغاصب في الصحيح وهل يصح في نصيب الشريك؟ على روايتين بناء على تفريق الصفقة وقد بطل البيع في بعضها فييطل في سائرها بخلاف ما إذا باع المالك والغاصب فإنهما عقدان لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان ولو أن الغاصب ذكر للمشتري أنه وكيل في نصفه لصح في نصيب الآذن لكونه كالعقد المنفرد.
(فصل) إذا كان لرجلين دين بسبب واحد إما عقد أو ميراث أو استهلاك أو غير ذلك فقبض أحدهما منه شيئاً فللآخر مشاركته فيه في ظاهر المذهب وعن أحمد ما يدل على أن لأحدهما أخذ حقه دون صاحبه ولا يشاركه الآخر فيما أخذ وهو قول أبي العالية وأبي قلابة وابن سيرين وأبي عبيد، قيل لاحمد بعت أنا وصاحبي متاعاً بيني وبينه فأعطاني حقي وقال هذا حقك خامة وأنا أعطي شريكك بعد؟ قال لا يجوز قيل له فإن أخره أو أبرأه من حقه دون صاحبه؟ قال يجوز، قيل فقد قال أبو عبيد يجوز أن يأخذ دون صاحبه إذا كان له أن يؤخر ويبرئه دون صاحبه ففكر فيها ثم قال هذا يشبه الميراث إذا أخذ منه
بعض الورثة دون بعض وقد قال ابن سيرين وأبو قلابة وأبو العالية من أخذ شيئاً فهو نصيبه قال فرأيته قد احتج له وأجازه قال أبو بكر العمل عندي على ما رواه حنبل وحرب أنه لا يجوز أن يكون نصيب(5/181)
القابض له فيما أخذه لما في ذلك من قسمة الدين في الذمة من غير رضا الشريك فيكون المأخوذ ولا باقي جميعاً مشتركاً، ولغير القابض الرجوع على القابض بحصته من الدين سواء كان المال باقياً في يده أو أخرجه عنها برهن أو قضاء دين أو غيره، وله أن يرجع على الغريم لأن الحق يثبت في ذمته لهما على وجه سواء فليس له تسليم حق أحدهما إلى الآخر فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشئ لأن حقه ثبت في أحد المحلين فإذا اختار أحدما سقط حقه من الآخر، وليس للقابض منعه من الرجوع على الغريم بأن يقول أنا أعطيك نصف ما قبضت بل الخيرة إليه من أيهما شاء قبض فإن قبض من شريكه شيئاً رجع الشريك على الغريم بمثله فإن هلك المقبوض في يد القابض تعين حقه فيه ولم يضمنه للشريك لأنه قدر حقه فما تعدى بالقبض وإنما كان لشريكه مشاركته لثبوته في الأصل مشتركاً وإن أبرأ أحد الشريكين من حقه برئ منه لأنه بمنزلة تلفه ولا يرجع على غريمه بشئ وإن أبرأ أحدهما من عشر الدين ثم قبضا من الدين شيئاً اقتسماه على قدر حقهما في الباقي للمبرئ اربعة اتساعه ولشريكه خمسة أتساعه فإن قبضا نصف الدين ثم أبرأ أحدهما من عشر الدين كله نفذت في خمس الباقي وما بقي بينهما على ثمانية لمبرئ ثلاثة أثمانه وللآخر خمسة أثمانه فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا، وإن اشترى أحدهما بنصيبه ثوباً أو غيره فللا خر إبطال الشراء فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل لم يلزمه ذلك وإن(5/182)
أجاز البيع ليملك نصف الثوب انبنى على بيع الفضولي هل يقف على الإجازة أو لا؟ وإن أخر أحدهما حقه من الدين جاز لأنه لو اسقط حقه جاز فتأخيره أولى فإن قبض الشريك بعد ذلك شيئاً لم يكن لشريكه الرجوع عليه بشئ ذكره القاضي، والأولى إن له الرجوع لأن الدين الحال لا يتأجل بالتأجيل فوجود التأجيل كعدمه، وأما إذا قلنا بالرواية الأخرى وإن ما يقبضه أحدهما له دون صاحبه فوجهها أن ما في الذمة لا ينتقل الى العين إلا تسليمه الى غريمه أو وكيله وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض
ولا لو كيله فلا يثبت له فيه حق ويكون لقابضه لثبوت يده عليه بحق فأشبه ما لو كان الدين بسببين وليس هذا قسمة الدين في الذمة وإنما تعين حقه بقبضه فأشبه تعينه بالإبراء ولأنه لو كان لغير لقابض حق في المقبوض لم يسقط بتلفه كسائر الحقوق ولأن هذا القبض إن كان بحق لم يشاركه غيره فيه كما لو كان الدين بسببين وإن كان بغير حق لم يكن له مطالبته لأن حقه في الذمة لا في العين فأشبه مالوا خذ غاصب منه مالا، فعلى هذا ما قبضه القابض يختص به وليس لشريكه الرجوع عليه، وإن اشترى بنصيبه شيئاً صح ولم يكن لشريكه إبطال الشراء، وإن قبض أكثر من حقه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم مما زاد على حقه (فصل) الثالث شركة الوجوه وقد اختلف في تفسيرها قال الخرقي وهو أن يشترك اثنان بمال غيرهما وقال القاضي معناها أن يدفع واحد ماله الى اثنين مضاربة فكيون المضاربان شريكين في(5/183)
الربح بمال غير هما لأنهما إذا أخذا المال بجاههما لم يونا مشتركين بملك غيرهما وهذا محتمل، وقال غيره معناها انعما اشتركا فيما يأخذان من مال غيرهما وحملوا كلام الخرقي على ذلك ليكون كلامه جامعاً لأنواع الشركة، وعلى تفسير القاضي تكون الشركة بين ثلاثة ويكون الخرقي قد أخل بذكر نوع من أنواع الشركة، وهي شركة الوجوه على تفسير القاضي فأما شركة الوجوه على ما ذكره شيخنا في الكتاب المشروح فهي أن يشترك اثنان فيما يشتريان بجاههما وثقة التجاربهما من غيران يكون لهما رأس مال على أن ما يشتريانه فهو بينهما نصفين أو أثلاثاً أو نحو ذلك ويبيعان ذلك فما قسم الله من الربح فهو بينهما فهي جائزة سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه أو قدره أو ذكر صنف المال أو لم يعين شيئاً من ذلك بل قال ما اشتريت من شئ فهو بيننا، قال أحمد في رواية ابن منصور في رجلين اشتركا بغير رءوس أموالهما على أن ما يشتريه كل واحد منهما بينهما فهو جائز وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال أو صنفاً من الثياب، وقال مالك والشافعي يشترط ذكر شرائط الوكالة لأن شرائط الوكالة معتبرة في ذلك من تعيين الجنس وغيره من شروط الوكالة لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه ولنا أنهما اشتركا في الابتياع وأذن كل واحد منهما للآخر فيه فصح وكان يتبايعانه بينهما كما لو ذكرا شرائط الوكالة وقولهم أن الوكالة لا تصح حتى يقدر الثمن والنوع ممنوع وإن سلم فإنما يعتبر في الوكالة المفردة أما الوكالة
الداخلة في ضمن الشركة فلا يعتبر فيها ذلك بدليل المضاربة وشركة العنان فإن في ضمنها توكيلاً ولا يعتبر فيها شئ من هذا كذا ههنا، فعلى هذا إن قال لرجل ما اشتريت اليوم من شئ فهو بيني وبينك نصفان أو أطلق الوقت فقال نعم أو قال ما اشتريت أنا من شئ فهو بيني وبينك نصفان جازو كانت شركة صحيحة لأنه أذن له في التجارة على أن يكون المبيع بينهما وهذا معنى الشركة ويكون توكيلاً له في شراء نصف المتاع بنصف الثمن فيستحق الربح في مقابلة ملكه الحاصل في المبيع سواء خص ذلك بنوع من المتاع أو أطلق وكذلك لو قالا ما اشتريناه(5/184)
أو ما اشتراه أحدنا من تجارة فهو بيننا فكل واحد وكيل صاحبه كفيل عنه بالثمن لأن مبناها على الوكالة والكفالة لأن كل واحد منهما وكيل الآخر فيما يشتريه ويبيعه كفيل عنه بذلك (مسألة) (والملك بينهما على ما شرطاه) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنون على شروطهم، والوضيعة على قدر ملكيهما قياساً على شريكي العنان لأنها في معناها، والربح بينهما على ما شرطاه لذلك، ويحتمل أن يكون على قدر ملكيهما قاله القاضي لأن الربح يستحق بالضمان إذ الشركة وقعت عليه خاصة إذ لا مال لهما فيشتركان على العمل فيه والضمان لا تفاضل فيه فلا يجوز التفاضل في الربح ولانها شريكان في العمل والمال فجاز تفاضلهما في الربح مع تساو يهما في المال كشريكي العنان (مسألة) (وهما في التصرفات كشريكي العنان) يعني فيما يجب لهما وعليهما وفي إقراهما وخصومتهما وغير ذلك على ما ذكرناه وأيهما عزل صاحبه عن التصرف انعزل لأنه وكيله، وسميت شركة الوجوه لأنهما اشتركا فيما يشتريان بجاهما والجاه والوجه واحد يقال فلان وجيه إذا كان ذا جاه قال الله تعالى في موسى عليه السلام (وكان عند الله وجيها) (فصل) الرابع شركة الأبدان وهي أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما فهي شركة صحيحة فهي أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه من المباح كالحطب والحشيش والثمار المأخوذة من الحبال والاصطياد والمعادن والتلصص على دار الحرب فهذا جائز نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال(5/185)
لا بأس ان يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والحمالين والنخالين قد أشرك انبي
صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن معسود فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشئ، وفسر أحمد صفة الشركة في الغنيمة فقال يشتركان فيما يصيبان من سلب المقتول لأن القاتل يختص به دون الفانمين وبه قال مالك وقال أبو حنيفة يصح في الصناعة ولا يصح في اكتساب المباح كالاحتشاش والاغتنام لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء لأن من أخذها ملكها، وقال الشافعي شركة الأبدان كلها فاسدة لأنها شركة على غير مال فلم تصح كما لو اختلفت الصناعات ولنا ما ورى أبو داود والاثرم بإسنادهما عن عبد الله قال اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجئ انا عمار بشئ وجاء سعد بأسيرين.
ومثل هذا لا يخفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم وقد قال أحمد أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل فالمغانم مشتركة بين الغانمين بحكم الله تعالى فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها؟ وقال بعض الشافعية غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له أن يدفعها إلى من يشاء فيحتمل أن يكون فعل ذلك لهذا قلنا أما الأول فالجواب عنه أن غنائم بدر كانت لمن أخذها قبل أن يشرك الله تعالى بينهم ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أخذ شيئاً فهو له) فكان ذلك من قبل المباحات من سبق إلى شيئ فهو له ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبون من الاسلاب والنقل إلا أن الأول أصح لقوله جاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعما بشئ(5/186)
وأما الثاني فإن الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم فانزل الله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) والشركة كانت قبل ذلك ويدل على صحة هذا أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أن يكون قد أباحهم أخذها فصارت كالمباحات أولم يبحها لهم فكيف يشتركون في شئ لغيرهم؟ وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة أيضاً لأنهم اشتركوا في مباح وفيما ليس بضاعة وهو يمنع ذلك ولأن العمل أحد جهتي المضاربة فصحت الشركة عليه كالمال وعلى أبي حنيفة أيضاً أنهما اشتركا في مكسب مباح فصح كما لو اشتركا في الخياطة والقصارة ولا نسلم أن الوكالة لا تصح في المباحات فإنه يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة فكذلك يصح بغير عوض إذا تبرع آخذها بذلك كالتوكيل في بيع ماله ومبناهما على الوكالة لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه وما
يتقبله كل واحد منهما من الأعمال فهو من ضمانهما يطالب به كل واحد منهما (مسألة) (وتصح مع اتفاق الصنائع رواية واحدة فأما مع اختلافهما ففيه وجهان (أحدهما) لا تصح اختاره أبو الخطاب وهو قول مالك لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمها ويطالب به كل واحد منهما فإذا تقبل أحدهما شيئاً مع اختلاف صنائعهما لم يمكن الآخر إن يقوم به فكيف يلزمه عمله؟ أم كيف يطالب بما لا قدرة له عليه؟ (والثاني) تصح اختاره القاضي لأنهما اشتركا في مكسب مباح فصح كما لو اتفقت الصنائع ولأن الصنائع المتفقة قد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الآخر فربما يتقبل احدهما مالا يمكن الآخر عمله ولم يمنع ذلك صحتها فكذلك إذا اختلفت الصنائع(5/187)
وقولهم يلزم كل واحد منهما ما يتقبله صاحبه قال القاضي يحتمل أن لا يلزمه ذلك كالوكيلين بدليل صحتها في المباح ولا ضمان فيها وإن قلنا يلزمه أمكنه تحصيل ذلك بالأجرة أو بمن يتبرع له بعمله ويدل على صحة هذا أنه لو قال أحدهما أنا أتقبل وأنت تعمل صحت الشركة وعمل كل واحد منهما غير عمل صاحبه.
وقال زفر لا تصح الشركة إذا قال أحدهما أنا أتقبل وأنت تعمل ولا يستحق العامل المسمى وإنما له أجر المثل.
ولنا أن الضمان يستحق به الربح بدليل شركة الابدان وتقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل ويستحق به الربح فصار كتقبله المال في المضاربة والعمل يستحق به العامل الربح كعمل المضارب فينزل منزلة المضاربة (فصل) والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل لأن العمل يستحق به الربح وقد يتفاضلان في المعل فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به ولكل واحد منهما المطالبة بالأجرة وللمستأجر دفعها إلى كل واحد منهما وأيهما دفعها إليه برئ منها، وإن تلفت في يد أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانهما لأنهما كالوكيلين في المطالبة، وما يتفبله كل واحد منهما من الأعمال فهو من ضمانهما يطالب به كل واحد منهما ويلزمه عمله لأن هذه الشركة لا تنعقد إلا على المضان ولا شئ فيها تنعقد عليه الشركة حال الضمان فكأن الشركة تضمنت ضمان كل واحد منهما عن الآخر ما يلزمه(5/188)
وقال القاضي يحتمل أن لا يلزم أحدهما ما لزم الآخر كما ذكرنا من قبل وما يتلف بتعدي أحدهما أو تفريطه أو تحت يده على وجه يوجب الضمان عليه فهو عليه وحده وإن أقر أحدهما بما في يده قبل عليه وعلى شريكه لان اليد له فيقبل إقراره بما فيها ولا يقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدين عليه لان لا يدله على ذلك (مسألة) (وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما فإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه ذلك) وجملة ذلك أنه إذا عمل أحدهما دون الآخر فالكسب بينهما قال ابن عقيل نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن هانئ وقد سئل عن الرجلين يشتركان في عمل الأبدان فيأتي أحدهما بشئ ولا يأتي الآخر بشئ؟ فقال نعم هذا بمنزلة حديث سعد وعمار وابن مسعود يعني حيث اشتركوا فجاء سعد بأسيرين وأخفق الآخران ولا ن العمل مضمون عليهما معاً وبضمانهما له وجبت الأجرة فتكون لهما كما كان الضمان عليهما ويكون العامل عونا لصاحبه في حصته ولا يمنع ذلك استحقاقه كم استأجر رجلاً ليقصر له ثوباً فاستعان القاصر بإنسان فقصر معه كانت الأجرة للقصار المستأجر كذاههنا وسواء ترك العمل لمرض أو غيره فإن طالب أحدهما الآخران يعمل معه أو يقيم مقامه من يعمل فله ذلك فإن امتنع فللآخر الفسخ ويحتمل أنه إذا ترك العمل لغير عذر أن لا يشارك صاحبه في أجرة ما عمله(5/189)
دونه لأنه إنما شاركه ليعملا جميعاً فإذا ترك أحدهما العمل فما وفى بما شرط على نفسه فلم يستحق ما جعل له في مقابلته وإنما احتمل ذلك فيما إذا تركه لعذر لأنه لا يمكن التحرز منه (مسألة) (وإن اشتركا ليحملا على دابتيهما والأجرة بينهما صح) لأنه نوع من الاكتساب والدابتان آلتان فأشبها الأداة (مسألة) (فإذا تقبلا حمل شئ فحملاه عليهما أو على غير الدابتين صحت الشركة) والأجرة بينهما على ما شرطاه لأن تقبلهما الحمل أثبت الضمان في ذمتهما ولهما أن يحملا بأي ظهر كان والشركة تنعقد على الضمان كشركة الوجوه فأشبه مالو تقب قصارة فقصراها بغير أداتهما (مسألة) (وإن أجراهما بأعيانهما فلكل واحد منهما أجرة دابته)
أما إذا أجرا الدابتين بأعيانهما على حمل شئ بأجرة معلومة واشتركا على ذلك لم تصح الشركة ولكل واحد منهما أجرة دابته لأنه لم يجب ضمان الحمل في ذممهما وإنما استحق المكتري منفعة البهيمة التي استأجرها ولهذا تنفسخ الإجارة بموت الدابة المستأجرة ولأن الشركة إما أن تنعقد على الضمان في ذممهما او على عملهما وليس هذا بواحد منهما فانه لم يثبت في ذممهما ضمان ولا عملا بأبدانهما ما تجب الأجرة في مقابلته ولأن الشركة تنضمن الوكالة والوكالة على هذا الوجه لا تصح ولهذا قال اجر(5/190)
عبدك وتكون اجرته بيني وبينك لم يصح كما لو قال بع عبدك وثمنه بيننا لم يصح قال شيخنا ويحتمل أن تصح الشركة كما لو اشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما من المباح فإن أعان أحدهما صاحبه في التحميل والنقل كان له أجر مثله لأنها منافع وفاها بشبهة عقد (فصل) فإن كان لأحدهما أداة قصارة ولآخر بيت فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما جاز والأجرة على ما شرطاه لأن الشركة وقعت على عملهما والعمل يستحق به الربح في الشركة والآلة والبيت لا يستحق بهما شئ لأنهما يستعملان في العمل المشترك فصارا كالدابتين اللتين أجرهما لحمل الشئ الذي تقبلا حمله، وإن فسدت الشركة قسم الحاصل لهما على قدر أجر عملهما وأجر الدار والأداة، وإن كانت لأحدهما آلة وليس للآخر شئ أو لأحدهما بيت وليس للآخر شئ فاتفقا على أن يعملا بالآلة أو في البيت والأجرة بينهما جاز لما ذكرنا (فصل) وإن دفع رجل دابته الى آخر ليعملا عليها وما رزق الله بنيهما نصفين أو أثلاثاً أو ما شرطاه صح نص عليه أحمد في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وامد بن سعيد ونقل عن الاوزاعي ما يدل عليه هذا وكره ذلك الحسن والنخعي، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي لا يصح والربح كله لرب الدابة لأن الحمل الذي يستحق به العوض منها وللعامل أجر مثله لأن هذا ليس من أقسام الشركة إلا أن تكون المضاربة ولا تصح المضاربة بالعروض ولأن المضاربة تكون(5/191)
بالتجارة في الأعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها وقال القفاضي يتخرج أن لا
يصح بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح فعلى، هذا إن كان أجر الدابة بعينها فالاجرة لما لكها وإن تقبل حمل شئ فحمله عليها أو حمل عليها شيئاً مباحاً فباعه فالأجرة والثمن له وعليه أجر مثلها لما لكها ولنا أنها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد ببعض نمائها كالدارهم والدنانير وكالشجر في المساقاة والأرض في المزارعة قولهم ليس من أقسام الشركة ولا هو مضاربة قلنا نعم لكنه يشبه المساقاة المزارعة فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها وبهذا يتبين أن تخرجها على المضاربة بالعروض فاسد فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال وهذا بخلافه وذكر القاضي في موضع آخر أن من استأجر دابة بنصف ما يرزق الله تعالى أو ثلثه جاز قال شيخنا ولا أرى لهذا وجهاً فإن الاجارة يشترط لصحاها العلم بالعوض وتقدير المدة أو العمل ولم يوجد ولأن هذا عقد غير منصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص فهو كسائر العقود الفاسدة إلا أن يريد بالإجارة المعاملة على الوجه الذي تقدم وقد اشاره أحمد إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة فقال لا باس(5/192)
بالثوب يدفع بالثلث والربع لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر وهذا يدل على أنه صار في هذا ومثله الى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة والإجارة (فصل) نقل أبو داود عن أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجوان لا يكون به بأس قال اسحاق بن إبراهيم قال أبو عبد الله إذا كان على النصف والربح فهو جائز وبه قال الأوزاعي ونقل احمد بن سعيد عن أحمد فيمن دع عبده الى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة وإن دفع ثوبه الى خياط ليفصله فمصا ويبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز نص عليه في رواية حرب وكذلك إن دفع غزلاً الى رجل يسنجه بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه، وقال مالك وابو حنيفة والشافعي لا يجوز شئ من ذلك لأنه عوض مجهول وعمل مجهول وقد ذكرنا وجه جوازه فإن جعل له مع ذلك دراهم لم يجز نص عليه وعنه يجوز والصحيح الأول قال أبو بكر هذا قول قذيم وما روي غير هذا فعليه المتمد قال الاثرم سمت أبا عبد الله يقول لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع وسئل عن الرجل يعطي الثوب بلا ثلث ودراهم أو
درهمين قال أكرهه لأن هذا شئ لا يعرف والثلث إذا لم يكن معه شئ نراه جازا لحديث جابران(5/193)
النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر ققيل لأبي عبد الله فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث درهماً؟ قال فليجعل له ثلثاً وعشراً ثلثاً ونصف عشر وما أشبهه وروى الأثرم عن ابن سيرين والنخعي والزهري وايوب ويعلى بن حكيم أنهم أجازوا ذلك وقال ابن المنذ ركره هذا كله الحسن وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: هذا كله فاسد واختاره ابن المنذر وابن عقيل وقالوا لو دفع شبكته الى الصياد ليصيدبها السمك بينهما نصفان فالصيد كله للصائد ولصاحب الشبكة أجر مثلها وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة وما رزق الله بينهما على ما شرطاه لأنها عين تنمى بالعمل فيها فصح دفعها ببعض نمائها كالأرض (فصل) وقد ذكر ابن عقيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قفيز الطحان وهو ان يعطي الطان أقفزة معلومة يطحنها يقفيز دقيق منها وعلة المنع أنه جعل له بعض معموله أجراً لعمله فيصير الطحن مستحقاً له وعليه وهذا الحديث لا نعرفه ولم تثبت صحته ولا ذكره أصحاب السنن وقياس قول أحمد جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل (فصل) فإن كان لرجل دابة ولآخر إكاف وجو القات فاشتركا على ان يؤجراهما والأجرة(5/194)
بينهما نصفان فهو فاسد لأن هذه أعيان لا يصح الإشتراك فيها كذلك في منافعها إذا تقديره أجر دابتك لتكون أجرتها بيننا وأؤجر جوالقاتي لتكون أجرتها بيننا وتكون كلها لصاحب البهيمة لأنه مالك الأصل وللآخر أجر مثله على صاحب البهيمة لأنه استوفى منافع ملكه بعقد فاسد، هذا إذا أجر الدابة بما عليها من الإكاف والجوالقات في عقد واحد فأما إن أجر كل واحد منهما ملكه مفردا فلكل واحد أجر ملكه وهكذا لو قال رجل لصاحبه أجر عبدي والأجر بيننا كان الأجر لصاحبه وللآخر أجر مثله وكذلك في جميع الأعيان (فصل) فان اشترك ثلاثة من أحدهم دابة ومن آخر رواية ومن آخر العمل على أن ما رزق الله تعالى فهو بينهم صح في قياس قول أحمد فإنه نص في الدابة يدفعها الى آخر يعمل عليها على أن لهما
الأجرة على الصحة وهذا لأنه دفع دابته الى آخر يعمل عليها والرواية عين تنمى بالعمل عليها فهي كالبهيمة فعلى هذا يكون ما رزق الله بينهم على ما اتفقوا عليه وهذا قول الشافعي ولأنهما وكلا العامل في كسب مباح بآلة دفعا ها إليه فأشبه مالو دفع إليه أرضه ليزرعها، وهكذا لو اشترك اربعة من أحدهم دكان ومن(5/195)
أخر رحى ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا بذلك فما رزق الله تعالى فهو بينهم صح وكان بينهم على ما شرطوه وقال القاضي العقد فاسد في السمئلتين جميعاً وهو ظاهر قول الشافعي، لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة لكونه لا يجوز أن يكون رأس مالهما العروض ولأن من شرطهما عود رأس المال سليما بمعنى أنه لا يستحق شئ من الربح حتى يستوفى رأس المال بكماله والرواية هنا تخلق وتنقص، ولا إجارة لأنها تفتقر إلى مدة معلومة وأجر معلوم فتكون فاسدة، فعلى هذا يكون الأجر كله في المسألة الأولى للسقاء لأنه لما غرف الماء في الإناء ملكه فإذا باعه فثمنه له لأنه عوض ملكه وعليه لصاحبه أجر المثل لأنه استعمل ملكهما بعوض يسلم لهما فكان لهما أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة وأما في المسألة الثانية فإنهم إذا طحنوا الرجل طعاما بأجرة نظرت في عقد الإجارة فإن كان من واحد منهم ولم يذكر أصحابه ولا نواهم فالأجر كله له وعليه لأصحابه أجر المثل، وإن نوى أصحابه أو ذكرهم كان كما لو عقد مع كل واحد منهم منفرداً أو استأجر من جميعهم فقال استأجر تكم لتطحنو إلي هذا الطعام(5/196)
بكذا فالأجر بينهم أرباعاً لأن كل واحد منهم قد لزمه طحن ربعه ويرجع كل واحد منهم على اصحابه بريع أجر مثله وإن قال استأجرت هذا الدكان والبغل والرجا وهذا الرجل بكذا وكذا من الطعام صح والأجر بينهم على قدر أجر مثلهم لكل واحد من المسمى بقدر حصته في أحد الوجهين وفي الآخر يكون بينهم أرباعاً بناء على ما إذا تزوج أربعاً بمهر واحد أو كاتب أربعة أعبد بعوض واحد هل يكون العوض أرباعاً أو على قدر قيمتهم؟ على وجهين(5/197)
(مسألة) (وإن جمعا بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة صح) لأن كل واحد منهما
يصح منفرداً فصح مع غيره كحالة الإنفراد (فصل) الخامس شركة المفاوضة وهو أن يدخلا في الشركة الأكساب النادرة كوجدان لقطة أو ركاز أو ما يحصل لهما من ميراث وما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو أرش جناية أو نحو ذلك(5/198)
فهذه شركة فاسدة، وبهذا قال الشافعي واجازه الثوري والاوزاعي وأبو حنيفة وحكي عن مالك وشرط أبو حنيفة لها شروطاً وهي أن يكونا حرين مسلمين وإن يكون مالهما في الشركة سواء وإن يخرجا جميعاً ما يملكانه من جنس الشركة وهو الدراهم والدنانير، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة ولأنها نوع شركة تختص باسم فكان منها صحيح كشركة العنان ولنا أنه عقد لا يصح بين كافرين ولابين كافر ومسلم فلم يصح بين المسلمين كسائر العقود الفاسدة ولأنه(5/199)
عقد لم يرد الشرع بمثله فلا يصح كما ذكرنا ولأن فيه غرراً فلم يصح كبيع الغرر، بيان غرر أنه يلزم كل واحد ما لزم الآخر وقد يلزمه شئ لا يقدر على القيام به وقد أدخلا فيه الأكساب النادرة فأما الخبز فلا نعرفه ولا رواه أصحاب المنن وليس فيه ما يدل على أنه أراد هذا العقد فيحتمل أنه أراد المفاوضة في الحديث ولهذا روي فيه (ولا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان) وأما القياس فلا يصح فإن اختصاصها باسم لا يقتضي الصحة كبيع المنابذة والملامسة وسائر البيوع الفاسدة وشركة العنان تصح بين الكفارين والكافر والمسلم بخلاف هذا(5/200)
باب الوكالة وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) فجوز العمل عليها وذلك بحكم النيابة عن المستحقين وأيضاً قوله تعالى (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه) وهذه وكالة، وأما السنة فروى أبو داود والاثرم وابن ماجه بانسادهم عن عروة بن الجعد قال عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً
فقال (يا عروة أئت الجلب فاشتر لنا شاة) قال فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما وأقودهما فلقبني رجل بالطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة فقلت يا رسو الله هذا دينار كم وهذه شاتكم قال (وصنعت كيف؟) قال فحدثته الحديث فقال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) هذا لفظ رواية الأثرم وروى أبو داود باسناده عن جابر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وقلت إني أردت الخروج إلى خيير فقال (أئت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه وكل عمر وبن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة وأبا رافع في قبول نكاح ميمونة(5/201)
وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فإنه لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه بنفسه.
(مسألة) (تصح الوكالة بكل قول بدل الإذن وكل قول أو فعل بدل القبول) لا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الإيجاب والقبول كالبيع، والإيجاب هو كل لفظ دل على الاذن نحو قوله أفعل كذا أو أذنت لك في فعله فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عروة بن الجعد في شراء شاة بلفظ الشراء وكذلك قوله تعالى حكاية عن أهل الكهف (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة إلى قوله فليأتكم برزق منه) ولأنه لفظ دل على الإذن فهو كقوله وكلتك ويكفي في القبول قوله قبلت وكل لفظ دل عليه ويجوز بكل فعل دل عليه أيضاً نحو أن يفعل لان ما أمره بفعله لأن الذين وكلهم النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره ولأنه أذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفصل كأكل الطعام (مسألة) (يجوز القبول على الفور والتراخي نحوان يوكله في بيع شئ فيبيعه بعد سنة أوبيلغه أنه وكله منذ شهر فيقول قبلت) لأن قبول وكلاء النبي صلى الله عليه كان بفعلهم وكان متراخياً عن توكيله إياهم ولأنه أذن في التصرف والإذن قائم ما لم يرجع عنه أشبه الإباحة وهذا كله مذهب الشافعي
(فصل) ويجوز تعليقها على شرط نحو قوله إذا قدم الحاج فافعل كذا او إذا جاء الشتاء فاشتر لنا(5/202)
كذا او إذا جاء الأضحى فاشتر لنا أضحية أو إذا طلب منك أهلي شيئاً فادفعه إليهم أو إذا دخل رمضان فقد وكلتك في كذا أو فأنت وكيلي وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي لا تصح لكن إن تصرف صح تصرفه لوجود الإذن وإن كان وكيلا بجعل فسد المسمى وله أجر المثل لأنه عقد يملك التصرف به في الحياة أشبه البيع ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أمير كم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة) وهذا في معناه ولا نه عقد اعتبر في حق الوكيل حكمة وهو إباحة التصرف وصحته فكان صحيحاً كما لو قال أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاج ولأنه لو قال وكلتك في شراء كذا في وقت كذا صح بلا خلاف ومحل النزاع في معناه ولأنه أذن في التصرف أشبه الوصية والتأمير ولأنه عقد يصح بغير جعل ولا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح بالجعل كالتوكيل الناجز (مسألة) (ولا يصح التوكيل والتوكل في شئ الاممن يصح تصرفه فيه) لأن من يصح تصرفه بنفسه فبنائبه أولى وكل من صح تصرفه في شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة صح أن يوكل فيه رجلا كان أو امرأة حرا أو عبدا مسلماً أو كافراً فأما من يتصرف بالإذن كالعبد المأذون له والوكيل والمضارب فلا يدخلون في هذا، لكن يصح من العبد التوكيل فيما يملكه دون سيده كالطلاق والخلع، وكذلك الحكم في المحجور عليه لسفه لا يوكل الافيما له فعله كالطلاق(5/203)
والخلع وطلب القصاص، وكل ما صح أن يستوفيه بنفسه وتدخله النيابة صح أن يتوكل لغيره فيه إلا الفاسق فإنه يصح أن يقبل النكاح لنفسه، وذكر القاضي أنه لا يجوز أن يقبله لغيره وظاهر كلام شيخنا في الكتاب المشروح أنه يصح وهو قول أبي الخطاب وهو القياس ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين فأما توكيله في الإيجاب فلا يجوز إلا على الرواية التي تثبت الولاية له وذكر أصحاب الشافعي في في ذلك الوجهين (أحدهما) يجوز لأنه ليس بولي (والثاني) لا يجوز لا نه موجب للنكاح أشبه الولي
ولأنه لا يجوز أن يتولى ذلك بنفسه فلم يجز أن يتوكل فيه كالمرأة ويصح توكيل المرأة في طلاق نفسها وغيرها ويصح توكيل العبد في قبول النكاح لأنه ممن يجوز أن يقبله لنفسه وإنما يقف ذلك على إذن سيده ليرضى بتعلق الحقوق به، ومن لا يملك التصرف في شئ لنفسه لا يصح أن يتوكل فيه كالمرأة في عقد انكاح وقبوله والكافر في تزويج مسلمة والطفل والمجنون في الحقوق كلها، وللمكاتب أن يوكل فيما يتصرف فيه بنفسه وله أن يتوكل بجعل لأنه من اكتساب المال ولا يمنع من الإكتساب، وليس له أن يتوكل بغير جعل إلا بإذن سيده لأن منافعه كأعيان ماله وليس له بذلك عين ماله بغير عوض وتصح وكالة الصبي المميز بإذن الولي بناء على صحة تصرفه بإذنه (مسألة) (ويجوز التوكيل في كل حق آدمي من العقود والفسوخ والعتق والطلاق والرجعة وتملك المباحات من الصيد والحشيش ونحوه الا الظاهر واللعان والإيمان)(5/204)
وجملة ذلك أن التوكيل يجوز في الشراء والبيع ومطالبة الحقوق والعتق والطلاق حاضراً كان الموكل أو غائباً وقد ذكرنا الدليل على ذلك من الآية والخبر والحاجة تدعو إليه لأنه قد يكون ممن لا يحسن البيع والشراء أو لا يمكنه الخروج الى السوق وقد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ وقد لا تليق به التجارة لكونه امرأة أو ممن يتعير بها ويحط ذلك من منزلته فأباحها الشرع دفعاً للحاجة وتحصيلاً لمصلحة الآدمي المخلوق لعبادة الله سبحانه، وكذلك يجوز التوكيل في الحوالة والرهن والضمان والكفالة والشركة والوديعة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والصلح والهبة والصدقة والوصية والفسخ والإبراء لأنها في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها فيثبت فيها حكمه ولا نعلم فيه خلافا، ويجوز التوكيل في الخلع والرجعة لأن الحاجة تدعو إليه كدعائها الى التوكيل في البيع ويجوز التوكيل في تحصيل المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد والإحتشاش لأنها تملك مال بسبب لا يتعين عليه فجاز التوكيل فيه كالا بتياع والإيهاب (فصل) ولا تصح في الإيمان والنذور لأنها تتعلق بعين الحالف والناذر فأشبهت العبادات البدنية والحدود ولا تصح في الإيلاء والقسامة واللعان لأنها إيمان ولا في الظهار لأنه قول منكر وزور فلا
يجوز فعله ولا الإستنابة فيه ولا تجوز في القسم بين الزوجات لأنها تتعلق ببدن الزوج لأمر يختص به(5/205)
ولا في الرضاع لأنه يختص بالمرضعة والمرتضع لأمر يختص بإنبات لحم المرتضع وإنشاز عظمه من لبنها، ولا تصح في الغصب ولا في الجنايات لأن ذلك محرم وكذلك كل محرم لأنه لا يحل له فعله بنفسه قلم تجز النيابة فيه (مسألة) (ويجوز أن يوكل من يقبل له النكاح ومن يزوج موليته إذا كان الوكيل ممن يصح له ذلك لنفسه وموليته لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية الضمري وأبا رافع في قبول النكاح له ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزويج من مكان بعيد لا يمكنه السفر إليه كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة وهي بأرض الحبشة ويجوز أن يوكل من يزوج موليته لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه البيع إذا كان الوكيل ممن يصح منه ذلك لموليته، وهل يجز أن يكون فاسقاً؟ ينبني على اشتراط ذلك في ولاية النكاح وسيذكر في بابه إن شاء الله (فصل) ولا يصح التوكيل في الشهادة لأنها تتعلق بعين الشاهد لكونها خبراً عما رآه أو سمعه ولا يتحقق هذا المعنى في نائبه فإن استناب فيها كان النائب شاهداً على شهادة لكونه يؤدي ما سمعه من شاهد الأصل وليس بوكيل، ولا يصح في الاغتنام لانه متى حضر النائب تعين عليه الجهاد فكان السهم له ولا في الالتقاط لأنه بأخذه يصير لملتقطه (فصل) ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها حاضراً كان الموكل أو غائباً صحيحاً أو مريضاً وبه قال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة للخصم(5/206)
أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضراً لأن حضوره مجلس الحاكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضاء خصمه كالدين عليه ولنا أنه حق تجوز النيابة فيه فكان لصاحبه الاستنابة بغير رضاء خصمه كحالة غيبته ومرضه وكدفع المال الذي عليه ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن عليا وكل عقيلاً عند أبي بكر رضي الله عنه وقال ما قضى له فلي وما قضي عليه فعلي ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال أن للخصومة قحما
وإن الشيطان يحضرها وأني لأكره أن أحضرها قال أبو زياد القحم المهالك وهذه قصص اشتهرت لأنها في مظنة الشهرة فلم ينقل إنكارها ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه قد يكون له حق أو يدعي عليه ولا يحسن الخصومة أو لا يحب أن يتولاها بنفسه ويجوز التوكيل في الإقرار ولأصحاب الشافعي وجهان (أحدهما) لا يجوز التوكيل فيه لأنه إخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة ولنا أنه إثبات حق في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع وفارق الشهادة فإنها لا تثبت الحق وإنما هو إخبار بثبوته على غيره، ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف واستيفائهما لانهما من من حقوق الآدميين وتدعو الحاجة إلى التوكيل فيهما لأن من له الحق قد لا يحسن الاستيفاء أو لا يحب أن يتولاهما (مسألة) (ويجوز في كل حق لله تعالى تدخله النيابة من العبادات والحدود في إثباتها واستيفائها كحد الزنا والسرقة) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اغديا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) فغدا عليها أنيس فاعترفت فأمر بها فرجت متفق عليه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ما عز فرجموه ووكل عثمان عليا في إقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة رواه مسلم ولأن الحاجة تدعو إليه لأن الامام لا يمكنه(5/207)
تولي ذلك بنفسه، ويجوز التوكيل في إثباتها وقال أبو الخطاب لا يجوز وهو قول الشافعي لأنها تسقط بالشبهات وقد أمرنا بدرئها بها والتوكيل توصل إلى الإيجاب ولنا حديث أنيس الذي ذكرناه فإن النبي صلى الله عليه وسلم وكله في إثباته واستيفائه جميعاً يقوله (فان اعترفت فارجمها) وهذا يدل على أنه لم يكن ثبت وقد وكله في إثباته ولأن الحاكم إذا استناب دخل في ذلك الحدود فإذا دخلت في التوكيل بطريق العموم فبالتخصيص يكون دخولها أولى والوكيل يقوم مقام الموكل في درئها بالشبهات (فصل) فأما العبادات فما تعلق منها بالمال كالصدقات والزكاة والمنذورات والكفارات جاز التوكيل في قبضها وتفريقها ويجوز للمخرج التوكيل في إخراجها ودفعها الى مستحقها ويجوز أن يقول
لغيره أخرج زكاة مالي من مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمين أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) متفق عليه ويجوز التوكيل في الحج إذا أيس المحجوج عنه من الحج بنفسه وكذلك العمرة ويجوز أن يستناب من يحج عنه بعد الموت، وفاما العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصيام والطهارة من الحدت فلا يجوز التوكيل فيها فإنها تتعلق ببدن من هي عليه فلا يقوم غيره مقامه إلا أن الصيام المنذور يفعل عن الميت وليس ذلك بتوكيل لأنه لم يوكل في ذلك ولا وكل فيه غيره، ولا يجوز في الصلاة إلا في ركعتي الطواف تبعاً للحج ولا تجوز الإستنابة في الطهارة إلا في صب الماء وإيصاله إلى الأعضاء وفي تطهير النجاسة عن البدن والثوب وغيرهما (مسألة) (ويجوز الاستيفاء في حضرة الموكل وغيبته نص عليه أحمد وهو قول مالك إلا القصاص، وحد القذف عند بعض أصحابنا لا يجوز في غيبته)(5/208)
وقد أومأ إليه أحمد وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية لأنه يحتمل أن يعفو الموكل في حال غيبته فيسقط وهذا الاحتمال شبهة تمنع الاستيفاء ولأن العفو مندوب إليه فإذا حضر احتمل أن يرحمه فيعفو والأول ظاهر المذهب لأن ما جاز استيفاؤه في حضرة الموكل جاز في غيبته كالحدود وسائر الحقوق واحتمال العفو بعيد والظاهر أنه لو عفا لبعث وأعلم وكيله وبعفوه والأصل عدمه فلا يؤثر الا ترى أن قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحكمون في البلاد ويقيمون الحدود التي تدرأ بالشبهات مع احتمال النسخ وكذلك لا يختلط في استيفاء الحدود بإحضار الشهود مع احتمال رجوعهم عن الشهادة أو بغير اجتهاد الحاكم.
(مسألة) (ولايجوز للوكيل أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه إلا بإذن الموكل وعنه يجوز وكذلك الوصي والحاكم وله التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه أو يعجز عنه لكثرته) وجملة ذلك أن التوكيل لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف لأن مانهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجزله كما لو لم يوكله (الثاني) أن يأذن له في التوكيل فيجوز له لأنه عقد أذن فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه ولا نعلم في هذا خلافاً
فإن قال وكلتك فاصنع ما شئت فله أن يوكل، وقال أصحاب الشافعي ليس له التوكيل في أحد الوجهين لأن التوكيل يقتضي تصرفاً يتولاه بنفسه فقوله اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه ولنا أن لفظة عام فيما شاء فيدخل في عمومه التوكيل (الثالث) اطلق له الوكالة فلا يخلو من أقسام ثلاثة (أحدها) أن يكون العمل مما يترفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه فإنه لا يجوز له التوكيل فيه لأنه إذا كان مما لا يعمله الوكيل عادة انصرف الإذن إلى ما جرت به العادة من الاستنابة فيه (القسم الثاني) أن يكون مما يعمله بنفسه إلا أنه يعجز عن عمله لكثرته وانتشاره فيجوز له التوكيل في عمله ايضاً لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل في فعل جميعه كما لو أذن فيه بلفظه، وقال القاضي عندي(5/209)
أنه إنما له التوكيل فيما زاد على ما يتمكن من عمله بنفسه لأن التوكيل إنما جاز للحاجة فاختص ما دعت إليه الحاجة بخلاف وجود إذنه فإنه مطلق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (القسم الثالث) ما عدا هذين القسمين وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه فهل يجوز له التوكيل فيه؟ على روايتين (إحداهما) لا يجوز نقلها ابن منصور وهو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي لأنه لم يأذن له بالتوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه ولأنه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه من لم يأمنه عليه كالوديعة (والثانية) يجوز نقلها أحمد وبه قال ابن أبي ليلى إذا مرض أو غاب لأن الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه بنائبه كالمالك والأولى أولى ولا يشبه الوكيل المالك فان المالك يتصرف في ملكه كيف شاء بخلاف الوكيل (فصل) وكل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيفيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر كما أن الإذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل إلا أن يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله وإن لم يكن أميناً لأنه قطع نظره بتعيينه فإن وكل أميناً فصار خائناً فعليه عزله لأن تركه يتصرف مع الخياتة تضييع وتفريط والوكالة تقتضي استئمان أمين وهذا ليس بأمين فوجب عزله
(فصل) والحكم في الوصي يوكل فيما أوصى به إليه وفي الحاكم يولى القضاء في ناحية يستنيب غيره حكم الوكيل فيما ذكرنا من التفصيل إلا أن المنصوص عن أحمد في رواية منها جواز ذلك وهو قول الشافعي في الوصي لأن الوصي يتصرف بولائه بدليل أنه لم يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه قال شيخنا والجمع بينهما أولى لأنه متصرف في مال غيره بالإذن فأشبه الوكيل وإنما يتصرف فيما اقتضته الوصية كالوكيل إنما يتصرف فيما اقتضته الوكالة(5/210)
(فصل) فأما الولي في النكاح فله التوكيل في تزويج موليته بغير إذنها أبا كان أو غيره وقال القاضي فيمن لا يجوز له الإجبار هل هو كالوكيل؟ يخرج على الروايتين المنصوص عليهما في الوكيل ولا صحاب الشافعي فيه وجهان (أحدهما) لا يملك التوكيل إلا بإذنها لأنه لا يملك التزويج إلا بإذنها أشبه الوكيل ولنا أن ولايته من غير جهتها فلم يعتبر إذنها في توكيله فيها كالأب بخلاف الوكيل فإن الولي متصرف بحكم الولاية الشرعية أشبه الحاكم ولأن الحاكم يملك تفويض عقود الأنكحة الى غيره بعير إذن النساء فكذلك الولي وما ذكروه يبطل بالحاكم والذي يعتبر إذنها فيه هو غير ما يوكل فيه بدليل أن الوكيل لا يستغني عن إذنها في التزويج فهو كالموكل في ذلك (فصل) إذا أذن الموكل في التوكيل فوكل كان الوكيل الثاني وكيلا للموكل لا ينعزل بموت الوكيل الأول ولا عزله ولا يملك الأول عزل الثاني لأنه ليس بوكيله وإن أذن له أن يوكل لنفسه جاز وكان وكيلاً للوكيل ينعزل بموته وعزله، وإن مات الموكل أو عزل الأول انعزلا جميعاً لأنهما فرعان له لكن أحدهما فرع الآخر فذهب حكمهما بذهاب اصلهما وأن وكل من غير أن يؤذن له في التوكيل نطلقا بل وجد عرفا أو على الرواية التي أجزنا له التوكيل من غير إذن فالثاني وكيل الوكيل الأول حكمه حكم ما لو أذن له أن يوكل لنفسه (مسألة) (ويجوز توكيل عبد غيره بإذن سيده) لأن المنع لحق السيد فجاز بإذنه ولا يجوز بغير إذنه لأنه لا يجوز له التصرف بغير إذن سيده لكونه محجوراً عليه فإذا أذن في ذلك صح كما تصح تصرفاته بإذنه
(مسألة) (فإن وكله بإذنه في شراء نفسه من سيده فعلى روايتين) (إحداهما) يصح وبه قال أبو حنيفة وبعض الشافعية (والثانية) لا يجوز وهو قول بعض(5/211)
الشافعية لأن يد العبد كيد سيده فأشبه مالو وكله في الشراء من نفسه ولهذا يحكم للإنسان بما في يد عبده، ولنا أنه يجوز أن يشتري عبدامن غير مولاه فجازان يشتريه من مولاه كالاجنبي وإذا جاز أن يشتري غيره جاز إن يشتري نفسه كما أن المرأة لما جاز توكيلها في طلاق غيرها جاز في طلاق نفسها، والوجه الذي ذكروه لا يصح لأن أكثر ما يقدر ههنا جعل توكيل العبد كتوكيل سيده وسنذكر صحة توكيل السيد في البيع والشراء من نفسه فههنا أولى، فعلى هذا إذا قال العبد اشتريت نفسي لزيد وصدقاه صح ولزم زيدا الثمن، وإن قال السيد ما اشتريت نفسك إلا لنفسك عتق العبد لإقرار السيد على نفسه بما يعتق به ويلزم العبد الثمن في ذمته لسيده لأن زيداً لا يلزمه الثمن لعدم حصول العبد له وكون سيده لا يدعيه عليه فلزم العبد لأن الظاهر ممن باشر العقد إنه له، وإن صدقه السيد وكذبه زيد نظرت في تكذيبه فان كذبه في الوكالة خلف وبرئ وللسيد فسخ البيع واسترجاع عبده لتعذر ثمنه وإن صدقه في الوكالة وقال ما اشتريت نفسك لي فالقول قول العبد لأن الوكيل يقبل قوله في التصرف المأذون فيه (فصل) وإذا وكل عبده في إعتاق نفسه أو امرأته في طلاق نفسها صح، وإن وكل العبد في اعتاق عبيده أو المرأة في طلاق نسائه لم يملك إعتاق نفسه ولا المرأة طلاق نفسها لأنه ينصرف بإطلاقه إلى التصرف في غيره ويحتمل أن لهما ذلك لشمولهما عموم اللفظ كما يجوز للوكيل في البيع إن يبيع من نفسه في إحدى الروايتين، وإن وكل غريمه في إبراء نفسه صح لأنه وكله في اسقاط حق من نفسه فهو كتوكيل البعد في إعتاق نفسه، وإن وكله في إبراء غرمائه لم يكن له أن يبرئ نفسه كما لو وكله في حبس غرمائه لم يملك حبس نفسه، وإن وكله في خصومتهم لم يكن وكيلاً في خصومة نفسه ويحتمل أن يملك إبراء نفسه لما ذكرنا من قبل، وإن وكل المضمون في إبراء الضامن فأبرأ صح ولم يبرأ المضمون عنه وإن وكل الضمان في إبراء المضمون عنه أو الكفيل في إبراء المكفول عنه صح وبرئ الوكيل ببراءته لأنه فرع عليه فإذا برئ الاصل برئ الفرع(5/212)
(مسألة) (والوكالة عقد جائز من الطرفين) لكل واحد منهما فسخها متى شاء لأنه أذن في التصرف فكان لكل واحد منهما إبطاله كالإذن في أكل طعامه فإن وكل المرتهن في بيع الرهن ففيه اختلاف ذكرناه (مسألة) (وتبطل بالموت والجنون والحجر للسفه وكذلك كل عقد جائز كالشركة والمضارية) تبطل الوكالة بموت الموكل والوكيل وجنون المطلق بغير خلاف علمناه إذا علم الحال وكذلك يبطل بخروجه عن أهلية التصرف كالحجر عليه لسفه لأنه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته كالجنون والموت وكذلك كل عقد جائز كالشركة والمضاربة قياساً على الوكالة قال أحمد في الشركة إذا وسوس أحدهما فهو مثل العزل (فصل) فإن حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها لأنه لم يخرج عن أهلية التصرف وإن حجر على الموكل وكانت الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه وإن كانت في الخصومة او الشراء في الذمة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص لم تبطل لأن الموكل أهل لذلك، وإن فسق الوكيل لم ينعزل لأنه من أهل التصرف إلا أن تكون الوكالة فيما ينافيه الفسق كالإيجاب في عقد الكاح فإنه ينعزل بفسق أحدهما لخروجه عن أهلية التصرف وإن كان وكيلا في القبول لم ينعزل بفسق موكله لأنه لا ينافي جواز قبوله، وهل يننعزل بفسق نفسه؟ على وجهين أولاهما أنه لا ينعزل لأنه يجوز أن يقبل النكاح لنفسه فجاز أن يقبله لغيره كالعدل، وإن كان وكيلاً فيما يشترط فيه الا مانة كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه وفسق موكله لخروجهما بذلك عن أهلية التصرف وإن كان وكيلا لوكيل ومن يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه لأن الوكيل ليس له توكيل فاسق ولا ينعزل بفسق موكله لان موكيله وكيل لرب المال ولا ينافيه الفسق (فصل) ولا تبطل الوكالة بالثوم والسكر والإغماء لأن ذلك لا يخرجه عن أهلية التصرف ولا تثبت عليه الولاية إلا أن يحصل الفسق بالسكر فقد ذكرناه مفصلاً(5/213)
ولا تبطل بالتعدي فيما وكل فيه مثل لبس الثوب وركوب الدابة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والثاني تبطل بذلك لأنها عقد أمانة فبطلت بالتعدي كالوديعة ولنا أنه تصرف باذن موكمله فصح كما لو لم يتعد ويفارق الوديعة من حيث أنها أمانة مجردة فنافاها التعدي والخيانة، والوكالة أذن في التصرف تضمنت الأمانة فإذا انتفت الأمانة بالتعدي بقي الإذن بحاله، فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا فإذا باعه صح بيعه وبرئ من ضمانه لدخوله في ملك المشتري وضمانه فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير مضمون عليه لأنه قبضه بإذن الموكل ولم يتعد فيه ولو دفع إليه مالا ووكله أن يشتري به شيئاً فتعدي في الثمن صار ضامنا وإذا اشترى به وسلمه زال الضمان وقبضه للمبيع قبض أمانة، وإن ظهر بالمبيع عيب فرد عليه أو وجد هو بما اشتراه عيباً فرده وقبض الثمن كان مضموناً عليه لأن العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال به (مسألة) (وهل تبطل بالردة وحرية عبده؟ على وجهين) يصح توكيل المسلم كافراً فيما يصح تصرفه فيه سواء كان ذمياً أو مستأمناً أو حربياً أو مرتداً لأن العدالة لا تشترط في صحة الوكالة فكذلك الدين كالبيع، فإن وكل مسلماً فارتد لم تبطل وكالته(5/214)
في أحد الوجهين سواء لحق بدار الحرب أو أقام، وقال أبو حنيفة تبطل إذا لحق بدار الحرب لأنه صار منهم ولنا أنه يصح تصرفه لنفسه فلم تبطل وكالته كما لو لم يلحق بدار الحرب ولأن الردة لا تمنع ابتداء الوكالة فلا تمنع استدامتها كسائر الكفر، وفيه وجه آخر أنها تبطل بالردة إذا قلنا إن المرتد تزول أملاكه وتبطل تصرفاته والوكالة تصرف وإن أرتد الموكل لم تبطل الوكالة فيما له التصرف فيه فأما الوكيل في ماله فينبني على تصرفه نفسه فإن قلنا يصح تصرفه لم يبطل توكيله وإن قلنا هو موقوف فوكالته موقوفة وإن قلنا يبطل تصرفه بطل توكيله وإن وكل في حال ردته ففيه الوجوه الثلاثة: (فصل) وإن وكل عبده ثم أعتقه أو باعه لم ينعزل لأن زوال ملكه لا يمنع ابتداء الوكالة فلا يقطع استدامتها وفيه وجه آخر أنها تبطل لأن توكيل عبده ليس بتوكيل في الحقيقة إنما هو استخدام بحق الملك فيبطل بزوال الملك وهكذا الوجهان فيما إذا وكل عبد غيره ثم باعه السيد، والصحيح الأول
لأن سيد العبد أذن له في بيع ماله والعتق لا يبطل الإذن فكذلك البيع إلا أن المشتري إن رضى ببقائه على الوكالة وإلا بطلت وإن وكل عبد غيره فأعتقه فقال شيخنا لا تبطل الوكالة وجهاً واحداً لأن هذا توكيل حقيقة والعتق غير مناف له وإن اشتراه الموكل منه لم يبطل لأن ملكه إياه لا ينافي إذنه له في البيع والشراء وإن وكل امرأته ثم طلقها لم تبطل الوكالة لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة فلم يمنع استدامتها(5/215)
(فصل) وإن تلفت العين التي وكل في التصرف فيها بطلت الوكالة لأن محلها ذهب فذهبت الوكالة كما لو وكله في بيع عبد فمات، وكذا لو دفع إليه ديناراً ووكله في الشراء بعينه أو مطلقاً لأنه إن وكله في الشراء بعينه فقد استحال الشراء به بعد تلفه فبطلت الوكالة وإن وكله في الشراء مطلقاً ونقد الدينار بطلت أيضاً لأنه إنما وكله في الشراء به، ومعناه أن ينقده ثمن ذلك المبيع أما قبل الشراء او بعده وقد تعذر ذلك بتلفه ولأنه لو صح شراؤه للزم الموكل ثمن لم يلتزمه ولا رضي بلزومه، وإن استقرضه الوكيل وعزل ديناراً عوضه واشترى به فهو كالشراء له من غير إذن لأن الوكالة بطلت والدينار الذي عزله عوضاً لا يصير للموكل حتى يقبضه فإذا اشترى للموكل به شيئاً وقف على إجازة الموكل فإن أجازه صح ولزمه الثمن والالزم الوكيل وعنه يلزم الوكيل بكل حال.
وقال القاضي متى اشترى بعين ماله شيئاً لغيره بغير إذنه فالشراء باطل لأنه لا يصح أن يشتري بعين ماله ما يملكه غيره، وقال أصحاب الشافعي متى اشترى بعين ماله شيئاً لغيره صح الشراء للوكيل لأنه اشترى ما لم يؤذن له فيه أشبه مالو اشتراه في الذمة.
(فصل) نقل الأثرم عن أحمد في رجل كان له على آخر دراهم فقال له إذا أمكنك قضاؤها فادفعها إلى فلان وغاب صاحب الحق ولم يوص إلى هذا الذي أذن له في القبض لكن جعله وكيلاً وتمكن من عليه الدين من القضاء فخاف إن دفعها إلى الوكيل أن يكون الموكل قد مات ويخاف التبعة من(5/216)
الورثة فقال لا يعجبني أن يدفع إليه لعله قد مات لكن يجمع بين الوكيل والورثة ويبرأ اليهما من
ذلك هذا ذكره أحمد على طريق النظر للغريم خوفاً من التبعة من الورثة أن كان موروثهم قد مات فانعزل وكيله وصار الحق لهم فيرجعون على الدافع الى الوكيل فأما من طريق الحكم فللوكيل المطالبة وللآخر الدفع إليه فإن أحمد قد نص في رواية حرب إذا وكله وغاب استوفاه الوكيل وهو أبلغ من هذا لكونه يدرأ بالشبهات لكن هذا احتياط حسن وتبرئة للغريم ظاهراً وباطناً وإزالة التبعة عنه، وفي هذه الرواية دليل على أن الوكيل انعزل بموت الموكل وإن لم يعلم بموته لأنه اختار أن لا يدفع إلى الوكيل خوفاً من أن يكون الموكل قد مات فانتقل إلى الورثة ويجوز أن يكون اختار هذا لئلا يكون القاضي ممن يرى أن الوكيل ينعزل بالموت فيحكم عليه بالغرامة، وفيها دليل على جواز تراخى القبول عن الإيجاب لأنه وكله في قبض الحق ولم يعلمه ولم يكن حاضراً فيقبل، وفيها دليل على صحة التوكيل بغير لفظ التوكيل، وقد نقل جعفر بن محمد في رجل قال لرجل بع ثوبي ليس بشئ حتى يقول قد وكلتك وهذا سهو من الناقل، وقد تقدم ذكر الدليل على جواز التوكيل بغير لفظه وهو الذي نقله الجماعة.
(مسألة) (وهل ينعزل الوكيل بالموت والعزل قبل علمه؟ على روايتين) وجملة ذلك أن الوكالة عقد جائز من الطرفين وقد ذكرنا ذلك فللموكل عزل وكيله متى شاء وللوكيل(5/217)
عزل نفسه وتبطل بموت أحدهما أو جنونه فلمطبق ولا خلاف نعلمه في ذلك مع العلم بالحال فمتى تصرف بعد فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك، وإن لم يعلم بالعزل ولا يموت الموكل ففيه روايتان وللشافعي فيه قولان (أحدهما) ينعزل وهو ظاهر كلام الخرقي، فعلى هذا متى تصرف فبان أن تصرفه بعد عزله أو موت موكله فتصرفه باطل لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه فصح بغير عمله كالطلاق والعتاق (والثانية) لا ينعزل قبل علمه نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد لما في ذلك من الضرر لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة وربما باع الجارية فيطؤها المشتري أو الطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه فيتضرر المشتري والوكيل لأنه يتصرف بأمر الموكل فلا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه كالفسخ، فعلى هذه الرواية متى تصرف قبل العلم صح
تصرفه وهذا قول أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة إن الوكيل إن عزل نفسه لم ينعزل إلا بحضرة الموكل لأنه متصرف بأمر الموكل فلا يصح رد أمره بغيره حضرته كالمودع في رد الوديعة، ووجه الأول ما ذكرناه فأما الفسخ ففيه وجهان كالروايتين، ويمكن الفرق بينهما بأن أمر الشارع يتضمن المعصبة بتركه ولا يكون عاصبا مع عدم العلم وهذا يتضمن العزل عنه إبطال التصرف فلا يمنع منه عدم العلم (فصل) وإذا وقعت الوكالة مطلقة ملك التصرف أبداً ما لم يفسخ الوكالة وتحصل بقوله فسخت الوكالة(5/218)
أو أبطلتها أو نقضتها أو أزلتك أو صرفتك أو عزلتك عنها أو ينهاه عن فعل ما أمره به وما أشبه ذلك من الألفاظ المقتضية عزله والمؤدية معناه أو يعزل الوكيل نفسه أو يوجد ما يقتضي فسخها حكما على ما ذكرنا أو يوجد ما يدل على الرجوع عن الوكالة فإذا وكله في طلاق امرأته ثم وطئها انفسخت الوكالة لأن ذلك يدل على رغبته فيها واختيار إمساكها وكذلك لو وطئ الرجعية كان ارتجاعا لها فإذا اقتضى رجعتها بعد طلاقها فلان يقتضي استيقاءها على نكاحها ومنع طلاقها وإن باشرها دون الفرج أو فعل ما يحرم على غير الزوج فهل تنفسخ الوكالة في الطلاق؟ يحتمل وجهين بناء على الخلاف في حصول الرجعة به، وإن وكله في بيع عبد ثم كاتبه أو دبرها نفسخت الوكالة لأنه على إحدى الروايتين لا يبقى محلا للبيع وعلى الرواية الأخرى تصرفه فيه بذلك يدل على أنه قصد الرجوع عن بيعه وإن باعه بيعاً فاسداً لم تبطل الوكالة لأن ملكه في العبد لم يزل ذكره ابن المنذر (مسألة) (وإذا وكل اثنين لم يكن لأحدهما الانفراد بالتصرف إلا أن يجعل ذلك إليه) وجملة ذلك أنه إذا وكل وكيلين وجعل لكل واحد الإنفراد بالتصرف فله ذلك لأنه مأذون فيه وإن(5/219)
لم يجعل له ذلك فليس لأحدهما الانفراد به لأنه لم يأذن في ذلك وإنما يجوز له فعل ما أذن فيه موكله وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معاً في حرز لهما لان فوله افعلا كذا يقتضي اجتماعهما على فعله وهو مما يمكن تعلق بهما، وفارق هذا قوله بعتكما حيث كان منقسما ببنهما لأنه لا يمكن أن يكون الملك على الإجتماع فانقسم بينهما فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن
يتصرف ولا للحاكم ضم أمين إليه ليتصرفا لأن الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه فلا يقيم الحاكم له بغير إذنه، وفارق مالو مات أحد الوصيين حيث يضيف الحاكم الى الوصي أميناً ليتصرفا لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم ولهذا لو لم يوص الى أحد أقام الحاكم أميناً في النظر لليتيم، وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين والآخر غائب فادعى الوكالة لهما وأقام بينة سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما ولم يملك الحاضر التصرف وحده فإذا حضر الآخر تصرفا معاً ولا يحتاج إلى إعادة البينة لأن الحاكم سمعها لهما مرة، فإن قيل هذا حكم الغائب قلنا يجوز تبعاً لحق الحاضر كما يجوز أن بحكم بالوقف الذي يثبت لمن لم يحلف لأجل من يستحقه في الحال كذا ههنا وإن جحد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخران يتصرف وبما ذكرناه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه مخالفا(5/220)
وجميع التصرفات في هذا سواء وقال أبو حنيفة إذا وكلهما في خصومة فلكل واحد منهما الانفراد بها ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما أشبه البيع والشراء (مسألة) (ولا يجوز للوكيل في البيع إن يبيع لنفسه، وعنه يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النداء أو وكل من يبيع وكان هو أحد المشترين، ولا في الشراء ان يتشري من نفسه) وجملة ذلك أن من وكل في بيع شئ لم يجز أن يبيعه لنفسه ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه في إحدى الروايتين نقلها منها وهو مذهب الشافعي واصحاب الرأي، وكذلك الوصي لا يجوز أن يشتري من مال اليتيم شيئاً لنفسه في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي وحكي عن مالك والاوزاعي جواز ذلك فيهما (والرواية الثانية) عن أحمد يجوز لهما أن يشتريا بشرطين أحدهما أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء والثاني أن يتولى النداء غيره قال القاضي يحتمل أن يكون اشتراط تولي غيره للنداء واجباً ويحتمل أن يكون مستحباً والاول أشبه بطاهر كلامه وقال أبو الخطاب الشرط الثاني أن يولي من يبيع ويكون هو أحد المشترين، فإن قيل فكيف يجوز له دفعها إلى غيره ليبيعها وهذا توكيل وليس للوكيل التوكيل؟ قلنا يجوز التوكيل فيما لا يتولى مثله بنفسه والنداء مما لم تجربه العادة أن يتولاه أكثر(5/221)
الناس بنفوسهم فإن وكل إنساناً يشتري له وباع جاز على هذه الرواية لأنه امتثل أمر موكله في البيع وحصل غرضه من الثمن فجاز كما لو اشتراها أجنيي وقال أبو حنيفة يجوز للوصي الشراء دون الوكيل لأن الله تعالى قال (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) وإذا اشترى مال اليتيم بأكثر من ثمنه فقد قربه بالتي هي أحسن، ولأنه نائب عن الأب وذلك جائز للأب فكذلك نائبه، ووجه الرواية الأولى أن العرف في البيع بيع الرجل من غيره فحملت الوكالة عليه كما لو صرح به ولأنه تلحقه التهمة ويتنافى الغرضان في بيعه لنفسه فلم يجز كما لونهاه والوصي كالوكيل لأنه يلي بيع مال غيره بتوليه فأشبه الوكيل أو متهم فأشبه الوكيل بل التهمة في الوصي آكد لأن الوكيل متهم في ترك الاستقصاء في الثمن لا غير والوصي يتهم في ذلك وفي أنه يشتري من مال اليتيم مالا حظ لليتيم في بيعه فكان أولى بالمنع وعند ذلك لا يكون أخذه لماله قرباناً بالتي هي احسن وقد روى ابن مسعود أنه قال في رجل أوصى إلى رجل بتركته وقد ترك قريباً فقال الوصي اشتريه قال لا (فصل) وحكم الحاكم أمينه كحكم الوكيل والحكم في بيع أحد هؤلاء لوكيله أو لولده الصغير أو طفل يلي عليه أو لوكيله أو عبد المأذون له كالحكم في بيعه لنفسه كل ذلك يخرج على روايتين بناء على(5/222)
بيعه لنفسه، فأما ببعه لولده الكبير أو والده أو مكاتبه فذكر هم أصحابنا أيضاً في جملة ما يخرج على روايتين ولا صحاب الشافعي فيهم وجهان وقال أبو حنيفة يجوز بيعه لولده الكبير لأنه امتثل أمر موكله ووافق العرف في بيع غيره كما لو باعه لأخيه، وفارق البيع لوكيله لأن الشراء إنما يقع لنفسه وكذلك بيع عبد المأذون وبيع طفل يلي عليه بيع لنفسه لأن الشراء يقع لنفسه، ووجه الجمع بينهم أنه يتهم في حقهم وبميل الى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن كتهمته في حق نفسه وكذلك لا تقبل شهادته لهم، والحكم فيما إذا أراد أن يشتري لموكله كالحاكم في بيعه لماله لأنهما سواء في المعنى (فصل) وإن وكل رجلا يتزوج له امرأة فهل له أن يزوجه ابنته؟ يخرج على ما ذكرنا في الوكيل في البيع هل يبيع لولده الكبير وقال أبو يوسف ومحمد يجوز ووجه القولين ما تقدم فيما قبلهما وإن أذنت له موليته في تزويجها خرج في تزويجها لنفسه أو ولده أو والده وجهان بناء عنى
ما ذكر في البيع وكذلك لو وكله رجل في تزويج ابنته خرج فيه مثل ذلك (مسألة) (وهل يجوز أن يبيع لولده أو والده أو مكاتبه؟ على وجهين) وقد ذكر افي المسألة قبلها (فصل) فإن وكله في بيع عبده ووكله آخر في شراء عبد فقياس المذهب جواز شرائه من(5/223)
نفسه لأنه أذن له في طرفي العقد فجاز أن يليهما إذا انتفت التهمة كالأب يشتري من مال ولده لنفسه، ولو وكله المنداعيان في الدعوى عنهما فالقياس جوازه لأنه يمكنه الدعوى عن أحدهما والجواب عن الآخر وإقامة حجة كل واحد منهما ولأصحاب الشافعي في المسئلتين وجهان (فصل) فإن أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز ذلك وقال أصحاب الشافعي لا يجوز في أحد الوجهين لأنه يجتمع له في عقد غرضان الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل وهما متضادان فتما نعا ولنا أنه وكله في التصرف لنفسه فجاز كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع من المشتري لنفسه في محل الإتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضا الموكل بهذا التصرف وإخراج هذا التصرف عن عموم لفظه وإرادته وقد صرح ههنا بالإذن فيها فلا ينفي دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافها، وقولهم إنه يتضاد مقصوده في البيع والشراء قلنا أن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود الاستقصاء فإنه لا يراد أكثر مما حصل وإن لم يعين له الثمن يعيد البيع بثمن المثل كما لو باع الأجنبي وقد ذكر أصحابنا فيما إذا وكل عبداً يشتري له نفسه من سيده وجهاً أنه لا يجوز ويخرج ههنا مثله والصحيح ما قلناه إن شاء الله تعالى(5/224)
(مسألة) (ولايجوز أن يبيع نساء ولا بغير نقد البلد ويحتمل أن يجوز كالمضارب) وجملة ذلك أن الموكل إذا عين للوكيل الشراء أو البيع بنقد معين أو حالا لم تجز مخالفته لأنه إنما يتصرف بإذنه ولم يأذن في غير ذلك وإن أذن له في الشراء أو البيع بنسيئة جاز وإن أطلق لم بيع إلا حالا بنقد البلد لأن الأصل في البيع الحلول وإطلاق النقد ينصرف الى نقد البلد كما لو باع ماله فان كان في البلد نقدان باع بأغلبهما فإن تساويا باع بما شاء منهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو
حنيفة وصاحباه له البيع نساء لأنه معتاد فأشبه الحال ويتخرج لنا مثل ذلك بناء على الرواية في المضارب والأول أولى لأنه لو أطلق البيع حمل على الحلول فكذلك إذا أطلق الوكالة ولا نسلم تساوي العادة فيهما فإن بيع الحال أكثر، ويفارق المضارية لوجهين (أحدهما) أن المقصود من المضاربة الربح لادفع الحاجة بالثمن في الحال وقد يكون المقصود في الوكالة دفع حاجة بأجرة تفوت بتأخير الثمن (الثاني) إن استيفاء الثمن في المضاربة على المضارب فيعود ضرر التأخير في التقاضي عليه وههنا بخلافه وفلا يرضى به الموكل ولأن الضرر في توي الثمن على المضارب لأنه يحسب من الربح لكون الربح وقاية لرأس المال وههنا يعود على الموكل فانقطع الإلحاق(5/225)
(مسألة) (وإن باع بدون ثمن مما قدره له صح وضمن النقص) وجملة ذلك أن الوكيل ليس له أن يبيع بدون ثمن المثل أو دون ما قدره له وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد قال أبو حنيفة إذا أطلق الوكالة في البيع فله البيع بأي ثمن كان لأن لفظه في الإذن مطلق فيجب حمله على إطلاقه ولنا أنه وكيل مطلق في عقد معاوضة فاقتضى ثمن المثل كالشراء فإنه قد وافق عليه وبه ينتقض دليله فإن باع بأقل من ثمن المثل مما لا يتغابن الناس بمثله أو بدون ما قدره له فحكمه حكم من لم يأذن له في البيع وعن أحمد البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص لأن من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه كالمريض، فعلى هذه الرواية يكون على الوكيل ضمان النقص وفي قدره وجهان (أحدهما) ما بين ثمن المال وما باع به (والثاني) ما بين ما يتغابن الناس بمثله وما لا يتغابنون لأن ما يتغابن الناس به يصح بيعه به ولا ضمان عليه والأول أقيس لأنه بيع غير مأذون فيه اشبه بيع الأجنبي وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفاً لموكله فحكمه فيه حكم تصرف الأجنبي على ما ذكرنا في موضعه فأما ما يتغابن الناس به عادة وهو درهم في عشرة فمعفو عنه إذا لم يكن الموكل قدر الثمن لأن ما يتغابن الناس به بعد ثمن المثل ولا يمكن التحرز منه.
(فصل) ولو حضر من يزيد على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأن عليه الإحتياط وطلب
الخط لمولكه فإن باع بثمن المثل فحضر من يزيد في مدة الخيار لم يلزمه فسخ العقد لأن الزيادة منهي(5/226)
عنها فلا يلزم الرجوع إليها ولأن الزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا يلزم الفسخ بالشك ويحتمل أن يلزمه ذلك لأنها زيادة أمكن تحصيلها أشبه ما قبل البيع والنهي يتوجه الى الذي زاد لا إلى الوكيل فأشبه ما إذا زاد قبل البيع بعد الإتفاق عليه (مسألة) (وإن باع بأكثر من ثمن المثل صح سواء كانت الزيادة من جنس الثمن الذي أمر به أولم تكن هي) إذا وكله في بيع شئ معين فباعه بأكثر منه صح قلت الزيادة أو كثرت وكذلك إن أطلق فباعه بأكثر من ثمن المثل لأنه باع بالمأذون فيه وزاد زيادة تنفعه ولا تضره وسواء كانت لزيادة من جنس الثمن المأمور به أو من غير جنسه كمن أذن في البيع بمائة درهم فباعه بمائة درهم ودينار أو ثوب وقال أصحاب الشافعي لا يصح بيعه بمائة وثوب في أحد الوجهين لأنه من غير جنس الأثمان ولنا أنها زيادة تنفعه ولا تضره أشبه مالو باعه بمائة ودينار ولأن الإذن في بيعه بمائة اذن في بيعه بزيادة عليها عرفاً لأن من رضي بمائة لا يكره أن يزاد عليها ما ينفعه ولا يضره ويصير كما لو وكله في الشراء فاشترى بدون ثمن المثل أو بدون ما قدر له (مسألة) (وإن قال بعه بدرهم فباعه بدينار صح في أحد الوجهين) لأنه مأذون فيه عرفا فإن من رضي بدرهم رضي مكانه ديناراً فجرى مجرى بيعه بمائة درهم ودينار على ما ذكرنا في المسألة قبلها وقال القاضي لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه خالف موكله في الجنس(5/227)
أشبه مالو باعه بثوب يساوي ديناراً فأما إن قال بعه بمائة درهم فباعه بمائة ثوب قيمتها أكثر من الدراهم أو بثمانين درهماً وعشرين ثوباً لم يصح وهو مذهب الشافعي لأنها من غير الاثمان ولأنه لم يؤذن فيه لفظاً ولا عرفاً بخلاف بيعه بدينار.
(فصل) فإن وكله في بيع عبد بمائة فباع بعضه بها أو وكله مطلقا فباع بعضه بثمن الكل جاز لأنه مأذون فيه عرفا فإن من رضي بمائة ثمنا للكل رضي بها ثمنا للبعض ولأنه حصل له المائة وأبقى له
زيادة تنفصه ولا تضره وله بيع النصف الآخر لأنه مأذون فيه فأشبه مالو باع العبد كله بزيادة على ثمنه، ويحتمل أن لا يجوز لأنه قد حصل للموكل غرضه من الثمن ببيع البعض فربما لا يختار بيع باقيه للغني عن بيعه يما حصل له من ثمن البعض وهكذا لو وكله في بيع عبدين بمائة فباع أحدهما بها يصح لما ذكرنا وهل له بيع الآخر على وجهين فأما إن وكله في بيع عبده بمائة فباع بعضه بأقل منها أو وكله مطلقا فباع بعضه بدون ثمن الكل لم يصح وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يجوز فيما إذا أطلق الوكالة بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء ولنا أن على الموكل ضرراً في تبعضه ولم يوجد الإذن فيه نطقاً ولا عرفا فلم يجوز كما لو وكله في في شراء عبد فاشترى بعضه (مسألة) (فإن قال بعه بألف نساء فباعه بألف حالة صح إن كان لا يستضر بحفظ الثمن في الحال)(5/228)
إذا وكله في بيع سلعة نسيئة فباعها نقداً بدون ثمنها نسسيئة أو بدون ما عينه له لم ينفذ بيعه لأنه خالف موكله لكونه إنما رضي بثمن النسيئة دون النقد وإن باعها نقداً بمثل ثمنها نسيئة أو بما عينه من الثمن فقال القاضي يصح لأنه زاده خيراً فهو كما لو وكله في بيعها بعشرة فباعها بأكثر من ثمنها والأولى أن ينظر له فيه فإن لم يكن له غرض في النسيئة صح لما ذكرنا وإن كان له فيها غرض مثل أن يستضر بحفظ الثمن في الحال أو يخاف عليه من التلف أو المتغلبين أو يتغير عن حاله إلى وقت الحلول أو نحو ذلك فهو كمن لم يؤذن له لأن حكم الإذن لا يتناول المسكوت عنه إلا إذا علم أنه في المصلحة كالمنطوق أو أكثر فيكون الحكم فيه ثابتاً بطريق التنبيه أو المماثلة ومتى كان في المنطوق به غرض صحيح لم يجز تفويته ولا ثبوت الحكم في غيره (مسألة) (وإن وكله في الشراء فاشترى بأكثر من ثمن المثل أو بأكثر مما قدره له (1) أما إذا وكله في الشراء فاشترى بأكثر من ثمن المثل مما لا يتغابن الناس بمثله (فصل) فإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم ملك العقد عليهم جملة واحدة وواحداً واحداً لأن الإذن يتناول العقد عليهم جملة والعرف في بيعهم وشرائهم العقد على واحد واحد ولاضرر في جمعهم
ولا افرادهم بخلاف مالو وكله في شراء عبد فاشترى بعضه فإنه لا يصح لأنه يفضي الى التشقيص وفيه إضرار بالموكل، فإن قال اشتر لي عبيداً صفقة واحدة أو واحد واحداً أو بعهم لي لم يجز مخالفته لأن (1)
__________
هذه المسألة ذكرت في الاصل بهذا الوضع وهي كما ترى جملها ناقصة فلتراجع في مظنتها في المغني(5/229)
تنصيصه على ذلك يدل على عغرضه فيه فلم يتناول إذنه سواه، وإن قال اشتر لي عبدين صفقة فاشترى عبدين لا ثنين شركة بينهما من وكيليهما أو من أحدهما بإذن الآخر جاز وإن كان لكل واحد عبد منفرد فاشترى من الماليكن بأن أوجبا له البيع فيهما وقبل ذلك منهما بلفظ واحد فقال القاضي لا يلزم الموكل وهو مذهب الشافعي لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان ويحتمل أن يلزمه لأن القبول هو الشراء وهو متحد والغرض لا يختلف، وإن اشتراهما من وكيليهما وعين ثمن كل واحد منهما مثل أن يقول بعتك هذين العبدين هذا بمائة وهذا بثمانين فقال قبلت احتمل أيضاً وجهين وإن لم يعين الثمن لكل واحد لم يصح البيع لجهالة الثمن وفيه وجه أنه يصح ويقسط الثمن على قدر قيمتهما، وقد ذكر ذلك في تفريق الصفقة.
(مسألة) (وإن وكل في شراء شئ نقداً بثمن معين فاشتراه به مؤجلاً صح) ذكره القاضي لأنه زاده خيراً فأشبه مالو وكله في الشراء بمائة فاشترى بدونها، ويحتمل أن ينظر في ذلك فان كان فيه ضرر نحو أن يستضر ببقاء الثمن معه ونحو ذلك لم يجز ولأصحاب الشافعي في صحة الشراء وجهان: (مسألة) (وإن قال اشتر لي شاة بدينار فاشترى له شاتين تساوي إحداهما دينارا أو اشترى له شاة تساوي ديناراً بأقل منه صح والالم يصح)(5/230)
وجملة ذلك أنه إذا وكله في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي كل واحدة منهما أقل من دينار لم يقع للموكل وإن كانت كل واحدة منهما تساوي ديناراً أو إحداهما تساوي ديناراً والأخرى اقل منه صح ولزم الوكل وهذا المشهور من مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يقع للموكل إحدى الشاتين
بنصف دينار واخرى للوكيل لأنه لم يرض بالزامه عهدة شاة واحدة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة بن الجعد البارقي ديناراً فقال (اشتر لنا به شاة) قال فأتيت الجلب فاشتريت شاتين بدينار فجئت أسوقهما أو أقودهما فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالد ينار وبالشاة فقلت يا رسول الله هذا دينار كم وهذه شاتكم فقال (وضعت كيف؟) فحدثته الحديث فقال (اللهم بارك له في صفقة يمينه) ولانه حصل المأذون فيه وزيادة من جنسه تنفع ولا تضر فوقع ذلك له كما لو قال بعه بدينار فباعه بدينارين وما ذكروه يبطل بالبيع فإن باع الوكيل إحدى الشاتين بغير أمر الموكل ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لأنه باع مال موكله بغير إذنه فلم يجز كبيع الشاتين (والثاني) إن كانت الباقية تساوي ديناراً جاز لحديث عروة ولأنه حصل له المأذون وزيادة من جنسه تنفع ولا تضر فوقع ذلك له كما لو قال له بعه بدينار فباعه بدينار وما ذكره يبطل بالبيع، فإن باع الوكيل إحدى الشاتين بغير أمر الموكل ففيه وجهان (أحدهما) البيع باطل لأنه باع مال موكله بغير أمره فلم يجز كبيع الشاتين (والثاني) إن كانت الباقية تساوي ديناراً جاز لحديث عروة البارقي ولأنه حصل له المقصود والزيادة لو كانت غير الشاة جاز(5/231)
فجاز له إبدالها بغيرها وهذا ظاهر كلام أحمد لأنه اخذ بحديث عروة وذهب اليه، وإذا قلنا لا يجوز له بيع الشاة فباعها فهل يبطل البيع أو يصح ويقف على إجازة الموكل؟ على روايتين وهذا أصل لكل تصرف في ملك الغير بغير إذنه ووكيل خالف موكله فيه الروايتان وللشافعي في صحة البيع ههنا وجهان (فصل) واذا وكله في شراء عبد معين بمائة فاشتراه بما دونها صح ولزم الموكل لأنه مأذون فيه عرفا وإن قال لا تشتره بدون المائة فخالفه لم يجز لأنه خالف نصه وصريح قوله مقدم على دلالة العرف وإن قال اتشره بمائة ولا تشتره بخمسين جاز له شراؤه بما فوق الخمسين لأن إذنه في الشراء بمائة يدل عرفا على الشراء بما دونها خرج منه الخمسون بصريح النهي بقي فيما فوقها على مقتضى الإذن فإن اشتراه بما دون الخمسين جاز في إحدى الوجهين لذلك ولأنه لم يخالف صريح نهيه أشبه ما زاد عليها (والثاني) لا يجوز لأنه نهاه عن الخمسين استقلالا لها فكان تنبيها على النهي عما دونها كما أن الإذن في الشراء بمائة إذن فيما دونها فجرى مجرى صريح نهيه فإن تنبيه الكلام كنصه، فإن قال إشتره بمائة
دينار فاشتراه بمائة درهم فالحكم فيه كما لو قال بعه بدرهم فباعه بدينار على ما مضى وإن قال اشتر لي نصفه بمائة فاشتراه كله أو أكثر من نصفه بمائة جاز لأنه مأذون فيه عرفاوان قال اشتر لي نصفه بمائة ولا تشتره جميعه فاشترى أكثر من النصف وأقل من الكل بمائة صح في قياس المسألة التي قبلها لكون دلالة العرف قاضية بالإذن في شراء كل ما زاد على النصف خرج الجميع بصربح نهيه ففيما عداه يبقى على مقتضى الإذن (فصل) وإن كله في شراء عبد موصوف بمائة فاشتراه على الصفة بدونها جاز لأنه مأذون فيه عرفا وإن خالف في الصفة أو اشتراه بأكثر منها لم يلزم الموكل وإن قال اشتر لي عبدا بمائة فاشترى(5/232)
عبداً يساوي مائة بدونها جاز لأنه لو اشتراه بمائة جاز فإذا اشتراه بدونها فقد زاده خيراً فيجوز وإن كان لا يساوي مائة لم يجز وإن ساوى أكثر مما اشتراء به لأنه خالف أمره ولم يحصل غرضه (مسألة) (وليس له شراء معيب فإن وجد بما اشتراه عيباً فله رده) إذا وكله في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشتري بها إلا سليمة العيوب لأن إطلاق البيع يقتضي السلامة ولذلك جاز له الرد بالعيب فإن اشترى معيباً يعلم عيبه لم يلزم الموكل لأنه اشترى له ما لم يأذن فيه وإن لم يعلم صح البيع لأنه إنما يلزمه شراء صحيح في الظاهر لعجزه عن التحرز عن شراء معيب لا يعلم عيبه فإذا علم عيبه ملك رده لأنه قائم مقام الموكل وللموكل رده أيضاً لأنه ملكه، فإن حضر قبل رد الوكيل ورضي بالعيب لم يكن للوكيل رده لأن الحق له بخلاف المضارب فإن له الرد وإن رضي رب المال فأن له حقاً فلا يسقط برضاء غيره وإن لم يحضر فأراد الوكيل الرد فقال له البائع توقف حتى يحضر الموكل فربما رضي بالعيب لم يلزمه ذلك لأنه لا يأمن فوات الرد بهرب البائع وفوات الثمن بتلفه فإن أخره بناء على هذا القول فلم يرض به الموكل فله الرد وإن قلنا الرد على الفور لأنه أخره بإذن البائع فيه وإن رضي الموكل سقط الرد (مسألة) (وإن قال البائع موكلك قد رضي بالعيب فالقول قول الوكيل بيمينه أنه لا يعلم ذلك)(5/233)
لأن الأصل عدم الرضى فلا يقبل قوله إلا ببينة فإن لم يقم بينة لم يستحلف الوكيل إلا أن يدعي
علمه فيحلف على نفي العلم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة في رواية لا يستحلف لأنه لو حلف كان نائباً في اليمين وليس بصحيح فإنه لا نيابة ههنا فإنه إنما يحلف على نفي علمه وهذا لا ينوب فيه عن أحد ولو اشترى المضارب معيباً صح لأن المقصود منها الربح وهو يحصل مع العيب بخلاف الوكيل فإنه قد يكون غرض الموكل القنية والانتفاع والعيب يمنع بعض ذلك (مسألة) (فإن رده فصدق الموكل البائع في الرضى بالعيب فهل يصح الرد؟ على وجهين) (أحدهما) لا يصح وللموكل إسترجاعه وللبائع رده عليه لأن رضاءه به عزل للوكيل عن الرد بدليل أنه لو علمه لم يكن له الرد (الثاني) يصح الرد بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل العلم بالعزل فإن رضي الوكيل المعيب أو أمسكه إمساكاً ينقطع به الرد فحضر الموكل فأراد الرد فله ذلك على الوجه الأول إن صدق البائع الموكل أن الشراء له أو قامت به بينة وإن كذبه ولم يكن بينة فحلف البائع أنه لا يعلم أن الشراء له فليس له رده لأن الظاهر أن منن اشترى شيئاً فهو له ويلزم الوكيل وعليه غرامة الثمن وهذا كله مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة للوكيل شراء المعيب لأن التوكيل في البيع مطلقاً يدخل الميعب في إطلاقه ولأنه أمين في الشراء فجاز له ذلك كالمضارب ولنا أن البيع بإطلاقه يقتضي الصحيح دون المعيب فكذلك الوكالة فيه ويفارق المضاربة من حيث(5/234)
إن المقصود فيها الربح وهو يحصل من المعيب كحصوله من الصحيح بخلاف الوكالة فإنه قد يكون المقصود بها القنية أو يدفع بها حاجة يكون المعيب مانعا منها فلا يحصل المقصود وقد ناقض أبو حنيفة قوله فإنه قال في قوله تعالى (فتحرير رقبة) لا يجوز العمياء ولا معيبة عيباً يضر بالعمل وقال ههنا يجوز للوكيل شراء الأعمى والمقعد ومقطوع اليدين والرجلين (مسألة) (وإن وكله في شراء معين فاشتراه ووجده معيباً فهل له رده قبل إعلام الموكل؟ على وجهين) (أحدهما) له الرد لأن الأمر يقتضي السلامة اشبه مالو وكله في شراء موصوفه (والثاني) لا يملكه لأن الموكل قطع نظره بالتعيين فربما رضيه على جميع صفاته فإن قلنا له الرد فحكمه حكم غير المعين وإن علم عيبه قبل شرائه فهل له شراؤه؟ يحتمل وجهين مبنيين على رده إذا علم عيبه بعد شراؤه
إن قلنا له رده فليس له شراؤه لأن العيب إذا جاز الرد به بعد العقد فلأن يمنع من الشراء أولى وإن قلنا لا يملك الرد ثم فله الشراء ههنا لأن تعيين الموكل قطع نظره واجتهاده في جواز الرد فكذلك في الشراء (مسألة) (فإن قال اشتر لي بعين هذا الثمن فاشترى له في ذمته لم يلزم الموكل) وجملة ذلك أنه إذا دفع إليه دراهم وقال اشتر لي بهذه عبدا كا له أن يشتري بعينها وفي الذمة لأن الشراء يقع على هذين الوجهين فإذا أطلق كان له فعل ما شاء منهما فإن قال اشتر بعينها فاشتراه في ذمته ثم نقدها لم يلزم الموكل لأنه إذا تعين الثمن انفسخ العقد بتلفه أو كونه مغصوباً ولم يلزمه(5/235)
ثمن في ذمته وهذا غرض صحيح للموكل فلم يجز مخالفته ويقع الشراء للوكيل وهل يقف على إجازة الموكل؟ على روايتين (مسألة) (فإن قال اشتر لي في ذمتك وانقد الثمن فاشترى بعينه صح) ولزم الموكل ذكره أصحابنا لأنه أذن له في عقد يلزمه به الثمن مع بقاء الدراهم وتلفها فكان إذنا في عقد لا يلزمه الثمن إلا مع بقائها، ويحتمل أن لا يصح لأنه قد يكون له غرض في الشراء بغير عينها لشبهة فيها لا يجب أن تشتري بها أو يختار وقوع عقد لا ينفسخ بتلفها ولا يبطل بتحريهما وهذا غرض صحيح فلا يجوز تفويته عليه كما لم يجز تفويت غرضه في الصورة الأولى ومذهب الشافعي في هذا كله على نحو ما ذكرنا (مسالة) (وإن أمره ببيعه في سوق بثمن فباعه في آخر صح وإن قال بعه من زيد فباعه من غيره لم يصح) وجملة ذلك أن الوكيل لا يملك من التصرف الاما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو العرف لأن تصرفه بالإذن فاختص بما أذن فيه والإذن يعرف بالنطق تارة وبالعرف أخرى، ولو وكل رجلا في التصرف في زمن مقيد لم يملك التصرف قبله ولا بعده لأنه لم يتناوله إذنه نطقا ولاعرفا فإنه قد يختار التصرف في زمن الحاجة إليه دون غيره ولهذا لما عين الله تعالى لعبادته وقتاً لم يجز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه فلو قال له بع ثوبي غدا لم يجز قبله ولا بعده، فإن عين له المكان وكان يتعلق به غرض مثل أن يأمره
ببيع ثوبه في سوق وكان السوق معروفاً بجوده النقد أو كثرة الثمن أوحله أو بصلاح أهله أو بمودة بين الوكيل وبينهم تقيد الإذن به لأنه نص على أمر له فيه غرض فلم يجز تفويته وإن كان هو وغيره(5/236)
سواء في الغرض لم يتقيد الإذن به وجاز له البيع في غيره لمساواته المنصوص عليه في الغرض فكان تنصيصه على أحدهما إذنا في الآخر كما لو استأجر أو استعار أرضا لزراعة شئ كان إذناً في زراعة مثله وما دونه ولو اكترى عقارا كان له أن يسكنه مثله ولو نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد جاز له ذلك في غيره وسواء قدر له الثمن أو لم يقدره، فأما إن عين له المشتري فقال بعه فلانا لم يملك بيعه لغيره بغير خلاف علمناه سواء قدر له الثمن أو لا لأنه قد يكون له غرض في تمليكه إياه دون غيره إلا أن يعلم بقرينة أو صريح أنه لا غرض له في عين المشتري (فصل) إذا اشترى الوكيل لموكله شيئاً انتقل الملك من البائع إلى الموكل ولم يدخل في ملك الوكيل وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يدخل في ملك الوكيل ثم ينتقل إلى الموكل لأن حقوق العقد تتعلق بالوكيل بدليل أنه لو اشتراه بأكثر من ثمنه دخل في ملكه ولم ينتقل إلى الموكل ولنا أنه قبل عقدا لغيره صح له فوجب أن ينتقل الملك إليه كالأب والوصي وكما لو تزوج له وقولهم إن حقوق العقد تتعلق به غير مسلم، ويتفرع من هذا أن المسلم لو وكل ذمياً في شراء دم أو حنزير فاشتراه له لم يصح الشراء وقال أبو حنيفة يصح ويقع للذمي لأن الخمر مال لهم لأنهم يتمولونها ويتبايعونها فصح توكيلهم فيها كسائر أموالهم ولنا أن كل مالا يجوز للمسلم العقد عليه لا يجوز أن يوكل فيه كتزويج المجوسية وبهذا خالف سائر(5/237)
أموالهم وإذا باع الوكيل بثمن معين ثبت الملك للموكل في الثمن لأنه بمنزلة المبيع وإن كان الثمن في الذمة فللوكيل والموكل المطالبة به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ليس للموكل المطالبة لأن حقوق العقد تتعلق بالوكيل دونه ولهذا يتعلق مجلس الصرف والخيار به دون موكله وكذلك القبض ولنا أن هذا دين للموكل يصح قبضه له فملك المطالبة به كسائر ديونه التي وكل فيها وفارق مجلس
العقد لأن ذلك من شرط العقد تعلق بالعاقد كالإيجاب والقبول وأما الثمن فهو حق للموكل ومال من ماله فكانت له المطالبة به ولانسلم أن حقوق العقد تتعلق به وإنما تتعلق بالموكل وهي تسليم الثمن وقبض المبيع والرد بالعيب وضمان الدرك فأما ثمن ما اشتراه إذا كان في الذمة فإنه يثبت في ذمة الموكل أصلاً وفي ذمة الوكيل تبعاً كالضامن وللبائع مطالبة من شاء منهما فإن أبرأ الوكيل لم يبرأ الموكل وإن أبرأ الموكل برئ الوكيل كالضامن والمضمون عنه سواء وإن دفع الثمن إلى البائع فوجد به عيبا فرده على الوكيل كان أمانة في يده إن تلف فهو من ضمان الموكل، ولو وكل رجلاً يستسلف له العامي كر حنطة ففعل ملك ثمنها والوكيل ضامن عن موكله كما تقدم قال أحمد في رواية منها إذا دفع إلى رجل ثوبا ليببعه ففعل فوهب له المشتري مند يلا فالمنديل لصاحب الثوب إنما قال ذلك لأن هبة المنديل سببها المبيع فكان المنديل زيادة في الثمن وزيادة في مجلس العقد تلحق به(5/238)
(مسألة) (وإن وكله في بيع شئ ملك تسليمه ولم يملك قبض ثمنه إلا بقرينة فإن تعذر قبضه لم يلزم الوكيل) لأن إطلاق التوكيل في البيع يقتضي التسليم لكونه من تمامه ولم يملك الإبراء من الثمن وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يمكله ولنا أن الإبراء ليس من المبيع ولا من ثمنه فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالإبراء من غير ثمنه فأما قبض الثمن فقال القاضي وابو الخطاب لا يملكه وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه قد يوكل في البيع من لا يأتمنه على قبض الثمن، فعلى هذا إن تعذر قبض الثمن من المشتري لم يلزم الوكيل شئ ويحتمل أن يملك قبض الثمن لأنه من موجب البيع فملكه كتسليم المبيع فعلى هذا ليس له تسليم المبيع إلا بقبض الثمن أو حضوره فإن سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه، قال شيخنا والأولى أن ينظر فيه فإن دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل كان إذنا في قبضه فمتى ترك قبضه ضمنه لأن ظاهر حال الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتصحيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه ولهذا يعد من فعل ذلك مفرطاً وإن لم تدل القرينة على ذلك لم يكن له قبضه
(فصل) وإن وكله في شراء شئ ملك تسليم ثمنه لأنه من ثمنه وحقوقه فهو كتسليم المبيع في(5/239)
البيع والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في البيع على ما ذكرنا، فان اتشرى عبداً فنقد ثمنه فخرج العبد مستحقاً فهل يملك أن يخاصم البائع في الثمن؟ على وجهين، فإن اشترى شيئاً وقبضه وأخر تسليم الثمن لغير عذر فهلك في يده ضمنه وإن كان له عذر مثل ان ذهب ينقده أو نحو ذلك فلا ضمان عليه نص أحمد على هذا لأنه مفرط في إمساكه في الصورة الأولى فلزمه الضمان بخلاف مااذا لم يفرط (مسألة) (وإن وكله في بيع فاسد لم يصح ولم يملكه) لأن الله تعالى لم يأذن فيه ولان الموكل لا يملكه فالوكيل أولى ولا يملك الصحيح لأن الموكل لم يأذن فيه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يملك الصحيح لأنه إذا أذن في الفاسد فالصحيح أولى ولنا أنه أذن له في محرم فلم يملك الحلال بالإذن في الفاسد كما لو أذن في شراء خمر وخنزير لم يملك شراء الخيل والغنم (مسألة) (وإن وكله في كل قليل وكثير لم يصح) لأنه يدخل فيه كل شئ فيعظم الغرر ولأنه لا يصح التوكيل إلا في تصرف معلوم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال ابن أبي ليلى يصح ويملك به كل ما تناوله لفظه لأن لفظه عام فصح فيما تناوله كما لو قال بع مالي كله(5/240)
ولنا أن في هذا غرراً عظيماً وخطراً كبيراً لأنه يدخل فيه هبة ماله وطلاق نسائه وإعتاق رقيقة وتزوج نساء كثير وتلزمه المهور الكثيرة والإيمان العظيمة فيعظم الضرر (مسألة) (وإن وكله في بيع ماله كله صح) لأنه يعرف ماله فيعرف أقصى ما يبيع فيقل الغرر وكذلك لو وكله في بيع ما شاء من ماله أو قبض ديونه أو الإبراء منها أو ما شاء منها صح لأنه يعرف دينه فيعرف ما يقبض فيقل الغرر (مسألة) (وإن قال إشتر لي ما شئت أو عبداً بما شئت لم يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن وعنه ما يدل على أنه يصح)
إذا قال اشتر لي ما شئت بما شئت لم يصح ذكره أبو الخطاب لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر فيه الغرر وإن قدر له أكثر الثمن وأقله صح لانه يقبل الغرر وقال القاضي إذا ذكر النوع لم يحتج إلى ذكر الثمن لأنه أذن في أعلاه وعنه ما يدل على أنه يصح فإنه قد روي عن فيمن قال ما اشتريت من شئ فهو بيننا أن هذا جائز وأعجبه وهذا توكيل في شراء كل شئ ولأنه أذن في التصرف فجاز من غير تعيين كالإذن في التجارة(5/241)
(فصل) وقد ذكرنا أنه إذا قال بع ما شئت من مالي أنه يصح وقال أصحاب الشافعي إذا قال بع ما شئت من مالي لم يجز وإن قال بع ما شئت من عبيدي جاز لأنه محصور بالجنس ولنا أن ما جاز التوكيل في جميعه جاز التوكيل في بعضه وإن قال اشتر لي عبداً تركياً أو ثوباً صروياً صح وكذلك إن قال إشتر لي عبداً أو ثوباً ولم يذكر جنسه صح أيضاً وقال أبو الخطاب لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه مجهول ولنا أنه ذكر نوعاً فقد أذن في أعلاه ثمناً فيقل الغرر ولأن تقدير الثمن يضربه فإنه قد لا يجد بقدر الثمن ومن اعتبر ذكر الثمن جوز أن يذكر له أكثر الثمن وأقله وقد ذكرناه (مسألة) (وإن وكله في الخصومة لم يكن وكيلاً في القبض) وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة يملك قبضه لأن المقصود من التثبت قبضه أو تحصيله(5/242)
ولنا أن القبض لم يتناوله الإذن نطقا ولا عرفا لأنه قد يرضى للخصومة من لا يرضاه للقبض (فصل) إذا وكله في الخصومة لم يقبل إقراره على الموكل بقبض الحق ولا غيره وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة ومحمد يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص وقال أبو يوسف يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره لأن الإقرار أحد جوابي المدعي فملكه كالإنكار ولنا أن الإقرار يقطع الخصومة وينافيها فلم يملك الوكيل الإقرار فيها كالإبراء وفارق الإنكار فإنه لا يقطع الخصومة ويملكه في الحدود والقصاص وفي غير مجلس الحاكم ولأن الوكيل لا يملك
الإنكار على وجه يمنع الموكل من الإقرار فلو ملك الاقرار لا متنع على الموكل الإنكار فافترقا ولا يملك المصالحة على الحق ولا الإبراء منه بغير خلاف نعلمه إلا أن الإذن في الخصومة لا يقتضي شيئاً من ذلك (مسألة) (وإن وكله في القبض كان وكيلا في الخصومة في أحد الوجهين) وقال أبو حنيفة والآخر ليس له ذلك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنهما معنيان مختلفان فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلاً في الآخر لأنه لم يتناوله اللفظ(5/243)
ووجه الأول أنه لا يتوصل الى القبض إلا بالتثبيت فكان إذنا فيه عرفا ولأن القبض لا يتم إلا به فملكه كما لو وكل في شراء شئ ملك تسليم ثمنه أو في بيع شئ ملك تسليمه ويحتمل أنه إن كان الموكل عالماً بجحد من عليه الحق أو مطله كان توكيلاً في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه ولا فرق بين كون الحق عينا أو ديناً وقال بعض أصحاب أبي حنيفة أن وكل في بيع عين لم يملك تثبيتها لأنه وكيل في نقلها أشبه الوكيل في نقل الزوجة.
ولنا أنه وكيل في قبض حق أشبه الوكيل في قبض الدين وبه يبطل ما ذكروه فإنه توكيل في قبضه ونقله إليه (مسألة) (وإن وكل في قبض الحق من انسان لم يكن له القبض من وارثه وإن قال أقبض حقي الذي قبله فله القبض من وارثه) إذا وكله في قبض دين من رجل فمات نظرت في لفظه فإن قال اقبض حقي من فلان لم يكن له قبضه من وارثه لأنه لم يؤمر بذلك ولا يقتضيه العرف لأنه قد يرى بقاء الحق عندهم دونه وإن قال أقبض حقي الذي قبله أو عليه فله مطالبة وارثه والقبض منه لأن قبضه من الوارث قبض الحق الذي(5/244)
على مورثه، فإن قيل فلو قال أقبض حقي من زيد فوكل زيد إنساناً في الدفع إليه كان له القبض والوارث نائب الموروث فهو كالوكيل، قلنا الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه لأنه أقامه مقام نفسه وليس كذلك ههنا فإن الحق انتقل إلى الورثة واستحقت المطالبة عليه لا بطريق النيابة عن المورث ولهذا لو حلف
لا يفعل شيئاً حنث بفعل وكيله دون وارثه (مسألة) (وإن وكله في قبضه اليوم لم يكن له قبضه غداً لأنه قد يختص غرضه به في زمن حاجته إليه (مسألة) وإن وكله في الإيداع فأودع ولم يشهد لم يضمن إذا أنكر المودع) كذلك ذكره أصحابنا وعموم كلام الخرقي يقتضي أن لا يقبل قوله على الآخر وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوديعة لا تثبت إلا ببينة فهو كما لو وكله في قضاء الدين وقال أصحابنا لا يصح القياس لأن قول المودع يقبل في الرد والهلاك فلا فائدة في استيثاق بخلاف قضاء الدين، فإن قال الوكيل دفعت المال إلى المودع فقال لم تدفعه فالقول قول الوكيل لأنهما اختلفا في تصرفه فيما وكل فيه فكان القول قوله فيه(5/245)
(مسألة) (وإن وكله في قضاء الدين فقضاه ولم يشهد وأنكر الغريم ضمن إلا أن يقضيه بحضرة الموكل) إذا وكل رجلا في قبضاء دينه ودفع إليه مالاً ليدفعه إليه فادعى الوكيل قضاء الدين ودفع المال إلى الغريم لم يقبل قوله على الغريم إلا ببينة لأنه ليس بامينه فلم يقبل قوله عليه في ذلك كما لو ادعاه الموكل فإذا حلف الغريم فله مطالبة الموكل لأن ذمته لا تبرأ بدفع المال إلى وكيله وهل للموكل الرجوع على وكيله؟ ينظر فإن كان قضاه بغير بينة فللموكل الرجوع عليه إذا قضاه في غيبته قال القاضي سواء صدقه أو كذبه وهذا قولا الشافعي لأنه أذن في القضاء يبرأ به ولم يوجد وعن أحمد لا يرجع عليه بشئ إلا أن يكون أمره بالإشهاد فلم يفعل، فعلى هذه الرواية إن صدقه الموكل في الدفع لم يرجع عليه بشئ وإن كذبه فالقول قول الوكيل مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة ووجه لأصحاب الشافعي لأنه ادعى فعل ما أمره به موكله فكان القول قوله كما لو أمره ببيع ثوبه فادعى بيعه ووجه الأول أنه مفرط بترك الاشهاد فضمن كمما لو فرط في البيع بدون ثمن المثل، فإن قيل فلم يأمره بالإشهاد؟ قلنا إطلاق الأمر بالقضاء يقتضي ذلك لأنه لا يثبت إلا به فيصير كأمره بالبيع والشراء يقتضي ذلك العرف لا العموم كذاههنا وقياس القول الآخر يمكن القول بموجبة وإن قوله مقبول في القضاء وإنما لزمه الضمان لتفريطه لالرد قوله وعلى هذا لو كان القضاء بحضرة الموكل(5/246)
لم يضمن الوكيل لأن تركه الاحتياط والإشهاد رضا منه بما فعل وكيله وكذلك لو أذن له في القضاء بغير
إشهاد فلا ضمان عليه لأن صريح قوله يقدم على ما تقتضيه دلالة الحال وكذلك إن أشهد على القصاء عد ولا فماتوا أو غابوا فلا ضمان عليه لعدم تفريطه، وإن أشهد من يختلف في ثبوت الحق بشهادته كشاهد واحد أو رجلاً وامرأتين فهل يبرأ من الضمان يخرج على روايتين فإن اختلف الوكيل والموكل فقال قضيت الدين بحضرتك فأنكر الموكل ذلك أو قال أذنت لي في قضائه بغير بينة فأنكر الموكل أو قال أشهدت على القضاء شهودا فما توا فأنكر الموكل فالقول قوله لأن الأصل معه (فصل) قال المصنف رحمه الله (والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط) سواء كان بجعل أولا لانه أمين أشبه المودع ومتى اختلفا في تعدي الوكيل أو تفريطه في الحفظ أو مخالفته أمر موكله مثل أن يدعي أنك حملت على الدابة فوق طاقتها أو حملت عليها شيئاً لنفسك أو فرطت في حفظها أو لبست الثوب أو أمرتك برد المال فلم تفعل ونحو ذلك فالقول قول الوكيل مع يمنيه لأنه أمين وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه فلا يكلف ذلك كالمودع ولأنه منكر لما يدعى عليه والقول قول المنكر، وكذلك إن ادعى الوكيل التلف فأنكر الموكل فالقول قول الوكيل مع يمينه لما ذكرنا وهكذا حكم من كان في يده شئ لغيره على سبيل الأمانة كالأب والوصي وأمين الحاكم والشريك والضمارب والمرتهن والمستأجر لأنه لو كلف ذلك مع تعذره لا متنع الناس من الدخول في الأمانات مع دعوى الحاجة إليها وذلك ضرر وقال(5/247)
القاضي إلا أن يدعي تلفها بأمر ظاهر كالحريق والنهب فعليه إقامة البينة على وجود هذا الأمر في تلك الناحية ثم يكون القول قوله في تلفها به وهذا قول الشافعي لأن وجود الأمر الظاهر مما لا يخفى فلا يتعذر إقامة البينة عليه ومتى ثبت التلف في يده من غير تعديه إما لقبول قوله أو بإقرار موكله أو تبينه فلاضمان عليه سواء تلف المتاع الذي أمر ببيعه أو باعه وقبض ثمنه فتلف الثمن سواء كان بجعل أو غيره لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك وجرى مجرى المودع والمضارب وشبههما فإن تعدى أو فرط ضمن وكذلك سائر الأمناء ولو باع الوكيل سلعة وقبض ثمنها فتلف في يده من غير تعد واستحق المبيع رجع المشتري بالثمن على الموكل دون الوكيل لأن المبيع له فالرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه
(مسألة) (وإن قال بعت الثوب وقبضت الثمن فتلف فالقول قوله) إذا اختلف الوكيل والموكل في التصرف فيقول الوكيل بعت الثوب وقبضت الثمن فينكر الموكل ذلك أو يقول بعت ولم تقبض شيئاً فالقول قول الوكيل ذكره ابن حامد وهو قول أصحاب الرأي لأنه يملك البيع والقبض فقبل قوله فيهما كما يقبل قول ولي المرأة المجبرة على النكاح في تزويجها ويحتمل أن لا يقبل قوله وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي لأنه يقر بحق لغيره على موكله فلم يقبل كما لو أقر بدين عليه فإن وكله في شراء عبد فاشتراه واختلفا في قدر ما اشتراه به فقال اشتريته بألف قال بل بخمسمائة فالقول قول الوكيل لما ذكرناه(5/248)
وقال القاضي القول قول الموكل إلا أن يكون عين له الشراء بما ادعاه فقال اشتر لي عبداً بألف فادعى الوكيل أنه اشتراه بها فالقول قول الوكيل إذاً وإلا فالقول قول الموكل لأن من كان القول قوله في أصل شئ كان القول قوله في صفته وللشافعي قولان كهذين الوجهين، وقال أبو حنيفة إن كان الشراء في الذمة فالقول قول الموكل لأنه غارم لكونه مطالباً بالثمن وإن اشترى بعين المال فالقول قول الوكيل لكونه الغارم فإنه مطالبه برد ما زاد على خمسمائة.
ولنا أنهما اختلفا في تصرف الوكيل فكان القول قوله كما لو اختلفا في البيع ولأنه وكيل في الشراء فكان القول قوله في قدر ثمن المشتري كالمضارب وكما لو قال له اشتر بألف عند القاضي (مسألة) (وإن اختلفا في رده إلى الموكل فالقول قوله إن كان متطوعاً وإن كان بجعل فعلى وجهين) إذا اختلفا في الرد فادعاه الوكيل وأنكره الموكل فإن كان بغير جعل فالقول قول الوكيل لأنه قبض المال لنفع مالكه فكان القول قوله كالمودع وإن كان بجعل ففيه وجهان (أحدهما) أن القول قوله كالأول (والثاني) لا يقبل قوله لأنه قبض المال لنفع نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها.(5/249)
(مسألة) (وكذلك يخرج في الأجير والمرتهن) وجملة ذلك أن الأمناء على ضربين (أحدهما) من قبض المال لنفع مالكه لا غير كالمودع والوكيل
بغير جعل فيقبل قولهم في الرد لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس من قبول هذه الأمانة فيلحق الناس الضرر (الثاني) ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل والمضارب والأجير المشترك والمستأحر والمرتهن ففيهم وجهان ذكرهما أبو الخطاب (أحدهما) لا يقبل قول المرتهن والمضارب في الرد لأن أحمد نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور ولأن من قبض المال لنفع نفسه لا يقبل قوله في الرد كالمستعير ولو أنكر الوكيل قبض المال ثم ثبت ذلك ببينة أو اعتراف فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لأن جنايته قد ثبتت بجحده، فإن أقام بينة بما ادعاه من الرد أو التلف لم تقبل بينته في أحد الوجهين لأنه كذبها بجحده فإن قوله قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئاً (والثاني) يقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته فإن كان جحوده إنك لا تستحق علي شيئاً أو مالك عندي شئ سمع قوله مع يمينه لأن جوابه لا يكذب ذلك فإنه إذا كان قد تلف أو رد فليس له عنده شئ فلا تنافي بين القولين إلا أن يدعي أنه رده أو تلف بعد قوله مالك عندي شئ فلا يسمع قوله لثبوت كذبه وخيانته (مسألة) (فإن قال أذنت لي في البيع نسيئة وفي الشراء بخمسة فأنكره فعلى وجهين) وجملة ذلك أنهما متى اختلفا في صفة الوكالة فقال وكلتك في بيع هذا العبد قال بل في بيع هذه الجارية أو قال(5/250)
في بيعه نقداقال بل نسيئة أو قال وكلتك في شراء عبد قال بل في شراء أمة أو قال بل وكلتك في الشراء بعشرة قال بل بخمسة فقال القاضي في المجرد القول قول الموكل وهو قول أصحاب الرأي والشافعي وابن المنذر، وقال أبو الحطاب إذا قال أذنت لك في البيع نقدا وفي الشراء بخمسة قال بل أذنت لي في البيع نساء وفي الشراء بعشرة فالقول قول الوكيل نص عليه أحمد واختاره القاضي والتعليق الكبير في المضاربة لأنه أمين في التصرف فكان القول قوله في صفته كالخياط إذا قال أذنت لي في تفصيله قباء قال بل قميصاً وحكي عن مالك إن أدركت السلعة فالقول قول الموكل وإن فاتت فالقول قول الوكيل لأنها إذا فاتت لزم الوكيل الضمان والأصل عدمه بخلاف ما إذا كانت موجودة، والقول الأول أصح لوجهين (أحدهما) أنهما اختلفا في التوكيل الذي يدعيه الموكل فكان القول قول من ينفيه كما لو لم يقر الموكل بتوكيله في غيره (والثاني) أنهما اختلفا في صفة قول الموكل فكان القول قوله في صفة كلامه كما لو اختلف الزوجان
في صفة الطلاق، فعلى هذا إذا قال اشتريت لك هذه الجارية بإذنك فقال ما أذنت إلا في شراء غيرها أو قال اشتريتها لك بألفين فقال ما أذنت لك في شرائها إلا بألف فالقول قول الموكل وعليه اليمين فإذا خلف برئ من الشراء، ثم لا يخلو إمان يكون الشراء بعين المال أو في الذمة فإن كان بعين المال فالبيع باطل ويرد الجارية على البائع إن اعترف بذلك وإن كذبه في أن الشراء لغيره أو بمال غيره بغير إذنه فالقول قول البائع لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان له فإن ادعى الوكيل علمه بذلك حلف أنه(5/251)
لا يعلم أنه اشتراه بمال موكله لأنه يحلف على نفي فعل غيره فإذا حلف مضى البيع وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله ودفع الثمن إلى البائع وتبقى الجارية في يده لا تحل له لأنه إن كان صادقاً فهي للموكل وإن كان كاذباً فهي للبائع، فإن أراد استحلالها اشتراها ممن هي له في الباطن امتنع من بيعه إياها رفع الأمر إلى الحاكم ليرفق به ليبيعه إياها ليثبت الملك له ظاهراً وباطناً ويصير ما ثبت له في ذمته ثمنا قصاصاً بالثمن الذي أخذ منه الآخر ظلماً فإن امتنع الآخر من البيع لم يجبر عليه لأنه عقد مراضاة، فإن قال له أن كانت الجارية لي فقد بعتكها أو قال الموكل إن كنت أذنت لك في شرائها بألفين فقد بعتكها ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح وهو قول القاضي وبعض الشافعية لأنه بيع معلق على شرط (والثاني) يصح لأن هذا أمر واقع يعلمان وجوده فلا يصح جعله شرطاً كما لو قال إن كانت هذه الجارية جارية فقد بعتكها وكذلك كل شرط علما وجوده فإنه لا يوجب وقوف البيع ولا شكافيه، وإن كان الوكيل اشترى في الذمة ثم نقد الثمن صح الشراء ولزم الوكيل في الظاهر فأما في الباطن فإن كان كاذباً في دعواه فالجارية لموكله فإذا أراد إحلالها توصل إلى شرائها منه كما ذكرنا وكل موضع كانت للموكل في الباطن وامتنع من بيعها للوكيل فقد حصلت في يد الوكيل وهي للموكل وفي ذمته ثمنها في الوكيل فأقرب الوجوه ان يأذن للحاكم في بيعها وتوفيه حقه من ثمنها فإن كانت للوكيل فقد بيعت بإذنه وإن كانت للموكل فقد باعها الحاكم في إيفاء دين امتنع المدين من وفائه وقد قيل غير ما ذكرنا وهذا أقرب إن شاء الله تعالى(5/252)
وإن اشتراها الوكيل من الحاكم بماله على الموكل جاز لأنه قائم مقام الموكل في ذلك أشبه ما لو اشترى منه
(فصل) ولو وكله في بيع عبد فباعه نسيئة فقال الموكل ما أذنت في بيعه إلا نقداً فصدقه الوكيل والمشتري فسد البيع وله مطالبة من شاء منهما بالعبد إن كان باقيا وبقيمته إن تلف فإن أخذ القيمة من الوكيل رجع على المشتري بها لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه وإن أخذها من المشتري لم يرجع بالضمان على أحد، وإن كذباه وادعيا أنه أذن في البيع نسيئة فعلى قول القاضي يحلف الموكل ويرجع في العين إن كانت قائمة وإن كانت تالفة رجع المشتري على الوكيل بالثمن الذي أخذه منه لأنه لم يسلم له المنع وإن ضمن الوكيل لم يرجع على المشتري في الحال لأنه يقر بصحة البيع وتأجيل الثمن وإن البائع ظلمه بالرجوع عليه وأنه إنما يستحق المطالبة بالثمن بعد الأجل فإذا حل الأجل رجع الوكيل على المشتري بأقل الأمرين من القيمة أو الثمن المسمى لأن القيمة إن كانت أقل فما غرم أكثر منها فلم يرجع بأكثر مما غرم وإن كان الثمن أقل فالوكيل معترف للمشتري أنه لا يستحق عليه أكثر منه وان الموكل ظلمه بأخذ الزائد على الثمن فلا يرجع على المشتري بما ظلم به الموكل وإن كذبه أحدهما دون الآخر فله الرجوع على المصدق بغير يمين ويحلف على المكذب ويرجع على حسب ما ذكرناه هذا إن اعترف المشتري بالوكالة وإن أنكر ذلك وقال إنما بعتني ملكك فالقول قوله مع يمينه أنه لا يعلم كونه وكيلاً ولا يرجع عليه بشئ.(5/253)
(فصل) إذا قبض الوكيل ثمن المبيع فهو أمانة في يده لا يلزمه تسليمه قبل طلبه ولا يضمنه بتأخيره لأنه رضي بكونه في يده فإن طلبه فأخر رده مع إمكانه فتلف ضمنه وإن وعده رده ثم ادعى إني كنت رددته قبل طلبه أو انه كان تلف لم يقبل قوله لأنه مكذب لنفسه بوعده رده فإن صدقه الموكل برئ فإن كذبه فالقول قول الموكل فإن أقام ببنة بذلك قبلت في أحد الوجهين لأنه يبرأ بتصديق الموكل فكذلك إذا قامت له بينة لأن البينة إحدى الحجتين فبرئ بها كالإقرار والثاني لا يقبل لانه كذبها بوعده بالدفع بخلاف ما إذا صدق لأنه أقر ببراءته فلم يبق له منازع، وإن لم بعده برده لكن منعه أو مطله مع إمكانه ثم ادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله إلا بينة لأنه صار بالمنع خارجاً عن حال الأمانة وتسمع بينته لأنه لم يكذبها
(مسألة) (وإن قال أذنت لي أن تزوج لك فلانة ففعلت وصدقته المرأة فأنكر فالقول قول المنكر بغير يمين وهل يلزم الوكيل نصف الصداقء على وجهين) وجملة ذلك أن الوكيل والموكل إذا ختلفا في أصل الوكالة فقال وكلتني فأنكر الموكل فالقول قوله لأن الأصل عدم الوكالة ولم يثبت أنه أمينه فيقبل قوله عليه ولو قال وكلتك ودفعت إليك مالاً فأنكر الوكيل ذلك كله أو اعترف بالتوكيل وأنكر دفع المال إليه فالقول قوله لذلك ولو قال رجل(5/254)
لآخر وكلتني أن أتزوج لك فلانة ففعلت وادعت المرأه ذلك فأنكر الموكل فالقول قوله نص عليه أحمد فقال إن أقام البينة وإلا فلا يلزم الآخر عقد النكاح قال أحمد ولا يستحلف قال القاضي لأن الوكيل يدعي حقاً لغيره، وفأما إن ادعته المرأة فينبعي أن يستحلف لأنها تدعي الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه الصداق ولم يلزم الوكيل منه شئ لأن دعوى المرأة على الموكل وحقوق العقد لا تتعلق بالوكيل ونقل احساق بن إبراهيم عن أحمد أن الوكيل يلزمه نصف الصداق لأن الوكيل في الشراء ضامن للثمن وللبائع مطالبته كذا ههنا ولأنه فرط حيث لم يشهد على الزوج بالعقد والصداق والأول أولى لما ذكرناه، ويفارق الشراء لأن الثمن مقصود البائع والعادة تعجيله وأخذه من المتولي للشراء والنكاح يخالفه في هذا كله، فإن كان الوكيل ضمن المهر فلها الرجوع عليه بنصفه لأنه ضمنه الموكل وهو مقر بأنه في ذمته وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وقال محمد بن الحسن يلزم الوكيل جميع الصداق لأن الفرقة لم تقع بانكاره فيكون ثابتا في الباطن فيجب جميعه ولنا أنه يملك الطلاق فإذا أنكر فقد أقر بتحريمها عليه فصار بمنزلة إيقاعه لما تحرم به قال أحمد ولا يتزوج المرأة حتى يطلق لعله يكون كاذباً في إنكاره، وظاهر هذا تحريم نكاحها قبل طلاقها لابها(5/255)
معترفة أنها زوجة له فيؤخذ باقرارها، وانكاره ليس بطلاق، وهل يلزم الموكل طلاقها؟ فيه احتمالان (أحدهما) لا يلزم لأنه لم يثبت في حقه نكاح ولو ثبت لم يكلف الطلاق ويحتمل أن يلزمه لازالة الاحتمال والزالة الضرر عنها بما لا ضرر عليه فيه فأشبه النكاح الفاسد، ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر
لأنه لم يثبت صداقها فترث وهو ينكر أنها زوجته فلا يرثها ولو ادعى أن فلانا الغائب وكيله في تزوج امرأة فتزوجها له ثم مات الغائب لم ترثه المرأة إلا بتصديق الورثة أو يثبت بينة، وإن أقر الموكل بالتوكيل في التزويج وأنكر أن يكون تزوج له فإن القول قول الوكيل فيه فيثبت التزويج ههنا وقال القاضي لا يثبت وهو قول أبي حنيفة لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه لكونه لا ينعقد إلا بها وذكر أن أحمد نص عليه وأشار إلى نصه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة من أصلها ولنا أنهما اختلفا في فعل الوكيل ما أمره به فكان القول قوله كما لو وكله في بيع ثوب فادعى بيعه أو في شراء عبد بألف فادعى أنه أشتراه به وما ذكره القاضي من نص أحمد عليه فيما إذا أنكر الموكل الوكالة فيس بنص ههنا لاختلاف أحكام الصورتين وتباينهما فلا يكون النص في إحداهما نصاً في الآخر وما ذكره من المعنى لا أصل له فلا يعول عليه(5/256)
(فصل) ولو غاب رجل فجاء رجل إلى امرأته فذكر أن زوجها طلقها وأبانها ووكله في تجديد نكاحها بألف فأذنت في نكاحها فعقد عليها وضمن الوكيل الألف ثم جاء زوجها وأنكر هذا كله فاقول قوله والنكاح الأول بحاله وقياس ما ذكرناه أن المرأة إن صدقت الوكيل لزمه الألف إلا أن يبينها زوجها قبل دخوله بها وحكي ذلك عن مالك وزفر وحكي عن أبي حنيفة والشافعي أنه لا يلزم الضامن شئ لأنه فرع على المضمون عنه والمضمون عنه لا يلزمه شئ فكذلك فرعه ولنا أن الوكيل مقر بأن الحق في ذمة المضمون عنه وأنه ضامن عنه فلزمه ما اقربه كما لو ادعى على رجل أنه ضمن ألفا على أجنبي فأقر الضامن بالضمان وصحته وثبوت الحق في ذمة المضمون عنه وكما لو ادعى شفعة على إنسان في شقص اشتراه فأقر البائع وأنكر المشتري فإن الشفيع يستحق الشفعة في أصح الوجهين فإن لم تدع المرأة صحة ما ذكره الوكيل فلا شئ عليه، ويحتمل أن من أسقط عنه الضمان أسقطه في هذه الصورة ومن أوجبه أوجبه في الصورة الأخرى فلا يكون بينهما اختلاف والله أعلم (مسألة) (ويجوز التوكيل بجعل وبغيره) لأنه تصرف لغيره لا يلزمه فجاز أخذ الجعل عليه كرد الآبق(5/257)
ويجوز بغير خلاف فإذا وكله بجعل فباع استحق الجعل قبل قبض الثمن لتحقق البيع قبل قبضه فإن قال في التوكيل فإذا أسلمت إلي الثمن فلك كذا وقف استحقاقه على التسليم إليه لا شتراطه إياه ولو قال بع ثوبي بعشرة فما زاد فلك صح نص عليه، وروي ذلك عن ابن عباس وهو قول ابن سيرين واسحاق وكرهه النخعي وحماد وأبو حنيفة والثوري والشافعي وابن المنذر لأنه أجر مجهول يحتمل الوجود ولنا إن عطاء روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل الرجل الثوب أو غيره فيقول بعه بكذا فما ازددت فهو لك ولا يعرف له في عصره مخالف فكان إجماعا لأنها عين تنمى بالعمل عليها أشبه دفع ماله مضاربة.
إذا ثبت ذلك فإذا باعه بزيادة فهي له لأنه جعلها له وإن باعه بما عينه فلا شئ له لأنه جعل له الزيادة ولا زيادة فهو كالمضارب إذا لم يربح، وإن باعه بنقص فعنه لا يصح لمخالفته فإن تعذر ضمن النقص وعنه يصح ويضمن النقص وقد ذكرنا ذلك وإن باعه نسيئة لم يصح ولا يستحق الوكيل وإن باعه بزيادة نص عليه أحمد في رواية الأثرم (فصل) إذا وكله في شراء شئ فاشترى غيره مثل أن يوكله في شراء عبد فاشترى جارية فإن كان الشراء بعين مال الموكل فالشراء باطل في أصح الروايتين وهو مذهب الشافعي وعن أحمد أنه يصح ويقف على إجازة المالك فإن أجازه صح وإلا بطل وهو قول مالك وإسحاق وقد ذكرناه في كتاب البيع فإن كان اشتراه في ذمته ثم نقد الثمن فالشراء صحيح لأنه إنما اشترى بثمن في ذمته وليس ذلك ملكا لغيره وقال أصحاب الشافعي لا يصح في أحد الوجهين لأنه عقد على أنه للموكل ولم يأذن فيه فلم يصح كما لو اشترى بعين ماله(5/258)
ولنا أنه لم يتصرف في ملك غيره فصح كما لو لم ينوه إذا ثبت ذلك فروي عن أحمد روايتان (احداهما) الشراء لازم للمشتري وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه إشترى في ذمته بغير إذنه فكان الشراء له كما لو لم ينو غيره (والثانية) يقف على إجازة الموكل إن أجازه لزمه وإن لم يجزه لزم الوكيل لأنه لا يجوز أن يلزم الموكل لكونه لم يأذن في شرائه ولزم الوكيل لأن الشراء صدر منه ولم يثبت لغيره فثبت في حقه كما لو اشتراه لنفسه وهكذا ذكر الخرقي وهذا حكم كل من اشترى شيئاً
في ذمته لغيره بغير إذنه سواء كان وكيلاً للذي قصد الشراء له أو لم يكن (فصل) وإن وكله في أن يتزوج له امرأة فتزوج له غيرها أو تزوج له بغير إذنه فالعقد فاسد بكل حال في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن من شرط صحة عقد النكاح ذكرا لزوج فإذا كان بغير إذنه لم يقع له ولا للوكيل لأن المقصود أعيان الزوجين بخلاف البيع فإنه يجوز أن يشتري له من غير تسمية المشتري له والثانية يصح النكاح ويقف على إجازة المتزوج فإن أجازه صح والابطل وهو مذهب أبي حنيفة والقول فيه كالقول في البيع على ما تقدم (فصل) قال القاضي إذا قال لرجل اشتر لي بديني عليك طعاماً لم يصح ولو قال أسلف لي ألفاً من ملك في كر طعام ففعل لم يصح أيضاً لأنه لا يجوز أن يتشري الإنسان بماله ما يملكه غيره وإن قال اشتر لي في ذمتك أو قال أسلف لي الفافي كر طعام واقض الثمن عني من مالك أو من الدين الذي عليك صح لأنه إذا اشترى في الذمة حصل الشراء للموكل والثمن عليه فإذا قضاه من الدين الذي عليه فقد دفع الدين إلى من أمره صاحب الدين بدفعه إليه وإن قضاه من ماله عن دين السلف الذي عليه صار قرضاً عليه(5/259)
(فصل) قال أحمد في رواية أبي الحارث في رجل له على آخر دراهم فبعث إليه رسولاً يقبضها فبعث إليه مع الرسول ديناراً فضاع مع الرسول فهو من مال الباعث لأنه لم يأمره بمصارفته إنما كان من ضمان الباعث لأنه دفع إلى الرسول غير ما أمره به المرسل لأن المرسل إنما أمره بقبض الدراهم ولم يدفعها إنما دفع ديناراً عوضاً عنه وهذا صرف يفتقر إلى إذن صاحب الدين ومصارفته به فإذا تلف في يد وكيله كان من ضمانه اللهم إلا أن يخبر الرسول الغريم أن رب الدين أذن له في قبض الدينار عن الدراهم فيكون من ضمان الرسول لأنه غره وأخذ الدينار على أنه وكيل للمرسل، وإن قبض الدراهم التي أمر بقبضها فضاعت من الرسول بغير تفريط فهي من ضمان صاحب الدين، وقال أحمد في رواية منها في رجل له عند آخر دنانير وثياب فبعث إليه رسولاً وقال خذ ديناراً أو ثوباً فأخذ دينارين وثوبين فضاعت فالضمان على الباعث يعني الذي أعطاه الدينار ين والثور بين ويرجع به على الرسول يعني عليه ضمان الدينار والثوب الزائداين إنما جعل عليه
الضمان لأنه إلى من لم يؤمر بدفعهما إليه ورجع بهما على الرسول لأنه غره وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه وللموكل تضمين الوكيل لأنه تعدى بقبض ما لم يؤمر بقبضه فإذا ضمنه لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه، وقال أحمد في رجل وكل وكيلاً في اقتضاء دينه وغاب فأخذ الوكيل به رهناً فتلف الرهن في يد الوكيل فقال أساء الوكيل في أخذ الرهن ولا ضمان عليه إنما لم يضمنه لأنه رهن فاسد والقبض في العقد الفاسد كالقبض في العقد الصحيح فما كان القبض في صحيحه مضموناً كان مضموناً في فاسده وما كان غير مضمون في صحيحه كان غير مضمون في فاسده، ونقل البغوي عن أحمد في رجل أعطى آخر دراهم ليشتري له بها شاة فخلطها مع دراهمه فضاعا فلا شئ عليه وإن(5/260)
ضاع أحدهما أيهما ضاع غرمه قال القاضي هذا محمول على أنه خلطها بما تتميز منه ويحتمل أنه أذن له في خلطها أما إن خلطها بما لا تتميز منه بغير إذنه ضمنها كالوديعة وإنما لزمه الضمان إذا ضاع أحدهما لأنه لا يعلم أن الضائع دراهم الموكل والأصل بقاؤها، ومعنى الضمان ههنا أنه يحسب الضائع من دراهم نفسه فأما على المحمل الآخر وهو إذا خلطها بما تتميز منه فإذا ضاعت دراهم الموكل وحدها فلاضمان عليه لأنها ضاعت من غير تعد منه (فصل) قال الشيخ رحمه الله (فإن كان عليه حق لإنسان فادعى آخر أنه وكيل صاحبه في قبضه فصدقه لم يلزمه الدفع إليه إلا أن تقوم به بينة وإن لم تقم به بينة لم يلزمه الدفع إليه وإن صدقه) وبه قال الشافعي وسواء كان الحق في ذمته أو وديعة عنده وقال أبو حنيفة يلزمه وفاء الدين إن صدقه وفي الوديعة روايتان أشهر هما لا يجب تسليمها لأنه أقر له بحق الاستيفاء فلزمه إيفاؤه كما لو أقر أنه وارثه ولنا أنه تسليم لا يبرئه فلا يجب عليه كما لو كان الحق عيناً وكما لو أقر بأن هذا وصي الصغير وفارق الاقرار بكونه وارثه لأنه يتضمن براءته فإنه أقر بأنه لا حق لسواه (مسألة) (وإن كذبه لم يستحلف) وقال أبو حنيفة يستحلف وهذا مبني على الخلاف في وجوب الدفع مع التصديق فمن أوجب عليه ثم أوجب عله اليمين مع التكذيب كسائر الحقوق ومن لم يوجب عليه الدفع مع التصديق لم يلزمه اليمين مع التكذيب لعدم فائدتها
(مسألة) (فإن دفعه إليه فأنكر صاحب الحق الوكالة وحلف رجع على الدافع وحده)(5/261)
وجملة ذلك أن من عليه الحق إذا دفعه إلى الوكيل مع التصديق أو عدمه فحضر الموكل وصدق الوكيل برئ الدافع وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأنه منكر فإذا حلف وكان الحق ديناً لم يرجع إلا على الدافع وحده لأن حقه في ذمته ولم يبرأ منه بتسليمه إلى غيرو كيل صاحب الحق والذي أخذه الوكيل عين مال الدافع في زعم صاحب الحق والوكيل والدافع يزعمان أنه صار ملكاً لصاحب الحق وأنه ظالم للدافع بالأخذ منه فيرجع الدافع فيما أخذ منه الوكيل ويكون قصاصاً مما أخذ منه صاحب الحق وإن كان قد تلف في يد الوكيل لم يرجع عليه بشئ لأنه مقر بأنه أمين لا ضمان عليه إلا أن يتلف بتعديه وتفريطه فيرجع عليه (مسألة) (وإن كان المدفوع وديعة فوجدها أخذها وإن تلف فله تضمين أيهما شاء ولا يرجع من ضمنه على الآخر بشئ) إذا كان المدفوع عيناً فوجدها صاحبها أخذها وله مطالبة من شاء بردها لأن الدافع دفعها إلى غير مستحقها والوكيل عين ماله في يده فإن طالب الدافع فللدافع مطالبة الوكيل بها وأخذها من يده ليسلمها إلى صاحبها فإن تلفت العين أو تعذر ردها فلصاحبها الرجوع ببدلها على من شاء منهما لأن الدافع ضمنها بالدفع والقابض قبض مالا يستحق قبضه وأيهما ضمنه لم يرجع على الآخر لأن كل واحد منهما يدعي أن ما يأخذ ظلم ويقر بأنه لم يؤخذ من صاحبه بتعد فلا يرجع على صاحبه بظلم غيره إلا أن يكون الدافع دفعها إلى الوكيل من غير تصديق فيرجع على الوكيل لكونه لم يقر بوكالته ولم يثبت ببينة وإن ضمن الوكيل لم يرجع على الدافع وإن صدقه لكن إن كان الوكيل تعدى فيها أو(5/262)
فرط استقر الضمان عليه فإن ضمن لم يرجع على أحد وإن ضمن الدافع رجع عليه لأنه وإن كان يقر بأنه قبضه قبضاً شرعياً لكن إنما لزمه الضمان لتفريطه وتعديه فالدافع يقول ظلمني المالك بالرجوع علي وله على الوكيل حق يعتردف به الوكيل فيرجع عليه به
(مسألة) (فإن كان ادعى أن صاحب الحق أحاله ففي وجوب الدفع إليه مع التصديق واليمين مع الإنكار وجهان.
(أحدهما) لا يلزمه الدفع إليه لان الدفع اليه غرى مبرئ لاحتمال أن ينكر المحيل الحوالة ويضمنه فأشبه المدعي للوكالة (والثاني) يلزمه الدفع إليه لأنه معترف أن الحق انتقل إليه أشبه الوارث والأول أشبه لأن العلة في جواز منع الوكيل كون الدافع لا يبرئ وهي موجودة ههنا والعلة في وجوب الدفع إلى الوارث كونه مستحقاً والدفع إليه يبرئ وهو متخلف ههنا فإلحاقه بالوكيل أولى وإن قلنا يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار وإن قلنا لا يلزمه الدفع مع التصديق لم تلزمه اليمين مع الإنكار لعدم الفائدة فيها ومثل هذا مذهب الشافعي (مسألة) (وإن ادعى أنه مات وأنا وارثه فصدقه أنه وارث الحق لا وراث له سواه لزمه الدفع إليه) بغير خلاف نعلمه لأنه مقر له بالحق وأنه يبرأ بهذا الدفع فلزمه كما لو جاء صاحب الحق وإن أنكر لزمته اليمين أنه لا يعلم صحة ما قال لأن اليمين ههنا على نفي فعل الغير فكانت على نفي العلم وإنما لزمته اليمين ههنا لأن من لزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار كسائر الحقوق المالية (فصل) ومن طلب منه حق فامتنع من دفعه حتى يشهد القابض على نفسه بالقبض وكان الحق(5/263)
عليه بغير بينة لم يلزم القابض الإشهاد لأنه لا ضرر في ذلك فإنه متى ادعى الحق على الدافع بعد ذلك قال لا تستحق علي شيئاً والقول قوله مع يمينه وإن كان الحق ثبت ببينة وكان من عليه الحق بقبل قوله في الرد كالمودع والوكيل بلا جعل فكذلك لأنه متى ادعى عليه حق أو قامت به بينة فالقول في الرد قوله، وإن كان ممن لا يقبل قوله في الرد أو يختلف في قبول قوله كالغاصب والمستعير والمرتهن لم يلزمه تسليم ما قبله إلا بالإشهاد لئلا ينكر القابض القبض ولا يقبل قول الدافع في الرد وإن أنكر قامت عليه البينة ومتى أشهد القابض على نفسه بالقبض لم يلزمه تسليم الوثيقة بالحق إلى من عليه الحق لأن بينة القبض تسقط البينة الأولى والكتاب ملكه فلا يلزمه تسليمه إلى غيره (فصل) في الشهادة على الوكالة إذا شهد بالوكالة رجل وامرأتان أو شاهد وحلف معه فقال
أصحابنا فيها روايتان (إحداهما) تثبت بذلك إذا كانت الوكالة في المال قال أحمد في الرجل يوكل وكيلاً ويشهد على نفسه رجلاً وامرأتين إذا كانت المطالبة بدين فأما غير ذلك فلا (والثانية) لا تثبت إلا بشاهدين عدلين نقلها الخرقي في قوله ولا تقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين وهذا قول الشافعي لأن الوكالة إثبات للتصرف ويحتمل أن يكون قول الخرقي كالرواية الأولى لأن الوكالة في المال يقصد بها المال فقبل شهادة النساء مع الرجال كالبيع والقرض.
وإن شهدا بوكالة ثم قال أحدهما قد عزله لم تثبت وكالته بذلك، وإن كان الشاهد بالعزل أجنبياً لم يثبت العزل بشهادته وجده لأن العزل لا يثبت إلا بما يثبت به التوكيل، ومتى عاد أحد الشاهدين بالتوكيل فقال(5/264)
قد عزله لم بحكم بشهادتهما لأنه رجوع عن الشهادة قبل الحكم بها فلا يجوز للحاكم الحكم بما رجع عنه الشاهد وإن كان حكم الحاكم بشهادتهما ثم قال أحدهما قد عزله بعد ما وكله لم يلتفت إلى قوله لأن الحكم قد نفذ بالشهادة ولم يثبت العزل فإن قالا جميعاً كان قد عزله ثبت العزل لأن الشهادة قد تمت في العزل كتمامها في التوكيل (فصل) فإن شهد أحدهما أنه وكله يوم الجمعة وشهد آخر انه وكله يوم السبت لم تتم الشهادة لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد، وإن شهد أحدهما أنه أقر بتوكيله يوم الجمعة وشهد آخر انه أقر به يوم السبت تمت الشهادة لأن الإقرارين أخبار عن عقد واحد ويشق جمع الشهود ليقر عندهم حالة واحدة فجوز له الإقرار عند كل واحد وحده وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالوكالة بالعجمية وشهد آخر انه أقربها بالعريبة ثبتت، ولو شهد أحدهما أنه قال وكله بالعربية وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن التوكيل بالعربية غير التوكيل بالعجمية فلم تكمل الشهادة على فعل واحد، وكذلك لو شهد أحدهما أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه قال أذنت في التصرف أو أنه قال جعلتك وكيلاً أو شهد أنه قال جعلتك جرياً لم تتم الشهادة لأن اللفظ مختلف والجري الوكيل، ولو قال أحدهما أشهد أنه وكله وقال الآخر أشهد أنه أذن له في التصرف تمت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل وإنما عبرا عنه بلفظهما واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، ولو قال أحدهما أشهد أنه أقر عندي أنه وكيله وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه
جريه أو أنه أوصى إليه بالتصرف في حياته ثبتت الوكالة بذلك، ولو شهد احد بأنه وكل في بيع عبده وشهد الآخر أنه وكله وزيداً أو شهد أنه وكله في بيعة وقال لاتبعه حتى تستأمرني أو تستأمر فلاناً لم تتم(5/265)
الشهادة لأن الأول أثبت استقلالاً بالبيع من غير شرط والثاني ينفي ذلك فكانا مختلفين، وإن شهد أحدهما أنه وكله في بيع عبده وشهد الآخر أنه وكله في بيع عبده وجاريته حكم بالوكالة في العبد لاتفاقهما عليه وزيادة الثاني لا تقدح في تصرفه في الأول فلا تضرو هكذا لو شهد أحدهما أنه وكله في بيعه لزيد وشهد الآخر أنه وكله في بيعه لزيد وإن شاء لعمرو (فصل) ولا تثبت الوكالة والعزل بخبر الواحد وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة تثبت بخبر الواحد وإن لم يكن ثقة ويجوز التصرف للخبر بذلك اذا غلب على ظنه صدق المخبر بشرط الضمان إن أنكر الموكل ويثبت العزل بخبر الواحد إذا كان رسولاً لأن اعتبار شاهدين عدلين في هذا يشق فسقط اعتباره ولأنه أذن في التصرف ومنع منه فلم تعتبر فيه شروط الشهادة كاستخدام غلامه ولنا أنه عقد مالي فلا يثبت بخبر الواحد كالبيع وفارق الاستخدام فإنه ليس بعقد ولو شهد اثنان ان فلانا الغائب وكل فلاناً الحاضر فقال الوكيل ما علمت هذا وأنا أتصرف عنه ثبتت الوكالة لأن معنى ذلك أني لم أعلم إلى الآن وقبول الوكالة بجوز متراخيا وليس من شرط التوكيل حضور الوكيل ولا عمله فلا يضر جهله به وإن قال ما أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته لقدحه في شهادتهما وإن قال ما علمت وسكت قيل له فسر فإن فسر بالأول ثبتت وكالته وإن فسر بالثاني لم تثبت (فصل) ويصح سماع البينة بالوكالة على الغائب وهو أن يدعي أن فلاناً الغائب وكلني في كذا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح بناء على أن الحكم على الغائب لا يصح(5/266)
ولنا أنه لا يعتبر رضاه في سماع البينة فلا يعتبر حضوره كغيره وإذا قال له من عليه الحق أحلف أنك تستحق مطالبتي لم يسمع لأن ذلك طعن في الشهادة وإن قال قد عزلك الموكل فاحلف أنه ما عزلك لم يستحلف لأن الدعوى على الموكل واليمين لا تدخلها النيابة، وإن قال أنت تعلم إن موكلك
قد عزلك سمعت دعواه وطلب اليمين من الوكيل حلف على نفي العلم لأن الدعوى عليه وإن أقام الخصم بينة بالعزل سمعت وانعزل الوكيل (فصل) وتقبل شهادة الوكيل على موكله لعدم التهمة لأنه لا يجربها نفعاً ولا يدفع بها ضرراً(5/267)
وتقبل شهادته له فيما لم يوكله فيه لكونه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا تقبل شهادته له فيما هو وكيل له فيه لأنه يثبت لنفسه حقا بدليل أنه إذا كان وكله في قبض حق فشهد به ثبت له استحقاق قبضه ولأنه خصم فيه بدليل أنه يملك المخاصمة فيه فإن شهد بما كان وكيلاً فيه بعد عزله لم تقبل أيضاً سواء كان خاصم فيه بالوكالة أو لم يخاصم وبهذا قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ان كان لم يخاصم فيه قبلت شهادته لأنه لاحق له فيه وإن لم يخاصم فيه فأشبه مالو لم يكن وكيلاً فيه وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا أنه بعقد الوكالة صار خصماً فيه فلم تقبل شهادته فيه كما لو خاصم فيه وفارق ما لم يكن وكيلاً فيه فإنه لم يكن خصماً فيه (فصل) إذا كانت الأمة بين نفسين فشهدا أن زوجها وكل في طلاقها لم تقبل شهادتهما لأنهما يجران لأنفسهما نفعاً وهو زوال حق الزوج من البضع الذي هو ملكهما، وإن شهدا بعزل الوكيل في الطلاق لم تقبل لأنهما يجران إلى أنفسهما نفعاً وهو إبقاء النفقة على الزوج، ولا تقبل شهادة إبني الرجل له بالوكالة ولا أبويه لأنهما يثبتان له حق التصرف ولا يثبت للإنسان حق بشهادة إبنه ولا أبيه ولا تقبل شهادة إبني الموكل ولا أبويه بالوكالة وقال بعض الشافعية تقبل لأن هذا حق على الموكل يستحق به الوكيل المطالبة فقبلت فيه شهادة قرابة الموكل كالإقرار ولنا أن هذه شهادة ثبت بها حق لأبيه أو ابنه فلم تقبل كشهادة ابني الوكيل وأبويه ولأنهما(5/268)
يثبتان لابيهما نائبا متصرفا، وفارق الشهادة عليه بالإقرار فإنها شهادة عليه متمحضة ولو ادعى الوكيل الوكالة فأنكرها الموكل فشهد عليه ابناه أو أبواه ثبتت الوكالة وأمضي تصرفه لأن ذلك شهادة عليه ولو ادعى الموكل أنه تصرف بوكالته وأنكر الوكيل فشهد عليه أبواه أو ابناه قبل أيضاً كذلك
وإن ادعى وكيل الموكل الغائب حقاً وطالب به فادعى الخصم أن الموكل عزله وشهد له بذلك ابنا الموكل قبلت شهادتهما ثبت العزل بها لأنهما يشهدان على أبيهما وإن لم يدع الخصم عزله لم تسمع شهادتهما لأنهما يشهدان لمن لا يدعيها فإن قبض الوكيل فحضر الموكل وادعى أنه كان قد عزل الوكيل وأن حقه باق في ذمة الغريم وشه له ابناه لم تقبل شهادتهما لأنهما يثبتان حقا لا بيهما ولو ادعى مكاتب الوكالة فشهد له سيده أو ابنا سيده أو أبواه لم تقبل لأن السيد يشهد لعبده وابناه يشهدان لعبد أبيهما والأبوان يشهدان لعبد ابنهما، وإن عتق فأعاد الشهادة فهل تقبل يحتمل وجهين (فصل) إذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكيله ثم غاب الموكل وحضر الوكيل فقدم حضما لموكله وقال أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيلاً فإن قلنا لا يحكم الحاكم بعلمه لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته وإن قلنا يحكم بعلمه وكان الحكم يعرف الموكل بعينه واسمه ونسبه صدقه ومكنه من التصرف لأن معرفته كالبينة وإن عرفه بعينه دون اسمه ونسبه لم يقبل قوله حتى تقوم البينة عنده بالوكالة لأنه يريد تثبيت نسبه عنده بقوله فلم يقبل(5/269)
(فصل ولو حضر عند الحاكم رجل فادعى أنه وكيل فلان الغائب في شئ عينه أحضر بينة تشهد له بالوكالة سمعها الحاكم، ولو ادعى حقاً لموكله قبل ثبوت وكالته لم يسمع الحاكم دعواه وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يسمعها إلا أن يقدم خصما من خصماء الموكل فيدعي عليه حقاً فإذا أجاب المدعي عليه حينئذ يسمع الحاكم البينة، فحصل الخلاف بيننا في حكمين (أحدهما) أن الحاكم يسمع البينة على الوكالة من غير حضور خصم وعنده لا يسمع (والثاني) أنه لا يسمع دعواه لموكله قبل ثبوت وكالته وعنده يسمع وبنى ابو حنيفة على أصله في أن القضاء على الغائب لا يجز وسماع البينة بالوكالة من غير خصم بها قضاء على الغائب وإن الوكالة لا تلزم الخصم ما لم يجب الوكيل عن دعوى الخصم إنك لست بوكيل ولنا أنه إثبات للوكالة فلم يفتقر إلى حضور الموكل عليه كما لو كان عليه جماعة فأحضر واحداً منهم فان الباقين لا يفتقر إلى حضور هم كذلك ههنا والدليل على ان الدعوى لا تسمع قبل ثبوت الوكالة أنها لا تسمع إلا من خصم يخاصم عن نفسه أو عن موكله وهذا لا يخاصم عن نفسه ولم يثبت أنه وكل
لمن يدعي له فلا تسمع دعواه كما لو ادعى لمن لم يدع وكالته وفي هذا الأصل جواب عما ذكره (فصل) ولو حضر رجل وادعى على غائب مالاً في وجه وكيله فأنكره فأقام بينة بما ادعاه حلفه الحاكم وحكم له بالمال فإذا حضر الموكل وجحد الوكالة وادعى أنه كان قد عزله لم يؤثر ذلك في الحكم لأن القضاء على الغائب لا يفتقر إلى حضور وكيله(5/270)
كتاب الإقرار الإقرار الاعتراف والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله قال أأقر رتم وأخذتم على ذلك إصري؟ قالوا أقررنا) وقال تعالى (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) وقال تعالى (ألست بربكم قالوا بلى) في أي كثيرة مثل هذا، وأما السنة فما روي أن ما عزا أقر بالزنا فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الغامدية وقال (وأغديا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت فارجمها)) وأما الإجماع فإن الأمة أجمعت على صحة الإقرار ولأن الإقرار إخبار على وجه تنتفي عنه التهمة والريبة فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضربها ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة وإنما ستمع إذا أنكر ولو كذب المدعي بينته لم تسمع وإن كذب المقر ثم صدقه سمع.
(مسألة) (ويصح الإقرار من كل مكلف مختار غير محجور عليه.
أما الطفل المجنون فلا يصح إقرارهما وكذلك المبرسم والنائم والمغمى عليه) لا نعلم في هذا خلافا وقد قال عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ) فنص عن الثلاثة والمبرسم والمغمى عليه في معنى المجنون(5/271)
والنائم ولأنه قول من غائب العقل فلم يثبت له حكم كالبيع والطلاق، فأما الصبي المميز فإن كان محجوراً عليه لم يصح إقراره للنص وإن كان مأذوناً له في البيع والشراء فبيعه وشراؤه جائز، وإن أقر أنه اقتضى شيئاً من ماله جاز بقدر ما أذن له وليه فيه وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو بكر وابن أبي موسى إنما يصح
إقراره فيما أذن له في التجارة فيه في الشئ اليسير وقال الشافعي لا يصح إقراره بحال لعموم الخبر ولأنه غير بالغ أشبه الطفل ولأنه لا تقبل شهادته ولا روايته أشبه الطفل ولنا أنه عامل مختار يصح تصرفه فصح إقراره كالبالغ وقد دللنا على صحة تصرفه فيما مضى والخبر محمول على رفع التكليف والإثم.
(مسألة) (وكذلك العبد المأذون له في التجارة) لما ذكرنا في الصبي بل صحة إقرار العبد أولى لأنه ملكف (مسألة) (فإن أقر مراهق غير مأذون له ثم اختلف هو المقر له في بلوغه فالقول قول المقر) إلا أن تقوم بينة ببلوغه لأن الاصل الصغر ولا يحلف لاننا حمنا بعدم بلوغه إلا أن يختلفا بعد ثبوت بلوغه فعليه اليمين أنه حين أقر لم يكن بالغاً (مسألة) (ولا يصح إقرار السكران وتتخرج صحته بناء على طلاقه) أما من زال عقله بسبب مباح أو معذور فيه فهو كالمجنون لا يصح اقراره ببغير خلاف وإن كان(5/272)
خلاف وإن كان بمعصية كالسكران ومن شرب ما يزيل عقله عامداً لغير حاجة لم يصح إقراره ويتخرج أن يصح كطلاقه وهو منصوص الشافعي لأن أفعاله تجري مجرى الصاحي ولنا أنه غير عاقل فلم يصح إقراره كالمجنون الذي سبب جنونه فعل محرم ولأن السكران لا يوثق بصحة ما يقول ولا تنتفي عنه التهمة فيما يخبر به فلم يوجد معنى الإقرار الموجب لقبول قوله.
* (مسألة) * (ولا يصح إقرار المكره إلا أن يقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار لإنسان فيقر لغيره أو على الإقرار بطلاق امرأة فيقر بطلاق غيرها أو على الإقرار بدنانير فيقر بدراهم فيصح) لا يصح إقرار المكره بما أكره على الاقرار به، وهذا مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع فأما إن أقر بغير ما أكره عليه مثل أن يكره على الإقرار لرجل فيقر لغيره أو بنوع من المال فيقر بغيره أو على الإقرار بطلاق امرأة فيقر بطلاق أخرى أو أقر بعتق عبد صح لأنه أقر بما لم يكره عليه فصح كما لو اقر به ابتداء
* (مسألة) * (وإن أكره على وزن ثمن فباع داره في ذلك صح بيعه) نص عليه أحمد لأنه لم يكره على البيع، ومن أقر بحق ثم ادعى أنه كان مكرهاً لم يقبل قوله إلا(5/273)
ببينة سواء أقر عنه سلطان أو عند غيره لأن الأصل عدم الإكراه، إلا أن يكون هناك دلالة على الإقرار كالقيد والحبس والتوكل به فيكون القول قوله مع يمينه لأن الحال تدل على الإكراه، ولو ادعى أنه كان زائل العقل حال إقراره لم يقبل قوله إلا بينة لأن الأصل السلامة حتى يعلم غيرها، ولو شهد الشهود بإقراره لم تفتقر صحة الشهادة إلى أن يقولوا طوعاً في صحة عقله لأن الظاهر السلامة وصحة الشهادة وقد ذكرنا إقرار السفيه والمفلس فيما مضى * (مسألة) * (وأما المريض مرض الموت المخوف فيصح إقراره بغير المال) لأنه لا تهمة عليه في ذلك وانما تلحقه التهمة في المال (مسألة) (وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح في أصح الروايتين) لأنه غير متهم في حقه وهو قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المريض في مرضه لغير الوارث جائز، وحكى أصحابنا رواية أنه لا يقبل لأنه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار للوارث وفيه رواية أخرى أنه لا يصح بزيادة على الثلث ذكرها أبو الخطاب لأنه ممنوع من عطية الوارث فلم يصح إقراره بما لا يملك عطيته بخلاف الثلث فما دون ولنا أنه إقرار غير متهم فيه فقبل كالإقرار في الصحة يحققه أن حالة المرض أقرب إلى الاحتياط لنفسه وأبرأ لذمته وتحري الصدق فكان أولى بالقبول وفارق الإقرار للوارث فإنه متهم فيه(5/274)
(مسألة) (ولا يحاص المقر له غرماء الصحة) وقال أبو الحسن التميمي والقاضي يحاصهم إذا ثبت عليه دين في الصحة ثم أقر لأجنبي بدين في مرض موته واتسع ماله لهما تساويا وإن ضاق عنهما فقيل بينهما سواء، والمذهب أن يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض قاله أبو الخطاب قال القاضي وهو قياس المذهب، نص أحمد في المفلس
على أنه إذا أقر وعليه دين ببينة يبدأ بالدين الذي بالبينة، وبهذا قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي لأنه أقر بعد تعلق الحق بتركته فوجب أن لا يشارك المقر له من ثبت دينه ببينة كغريم المفلس الذي أقر له بعد الحجر عليه، والدليل على تعلق الحق بماله منعه من التبرع والإقرار لوارث ولأنه محجور عليه ولهذا لا تنفذ هباته فلم يشارك من أقر له قبل الحجر ومن ثبت دينه ببينة كالذي أقر له المفلس وظاهر كلام الخرقي إنهما يتحاصان وهو قول أبي الحسن التميمي وبه قال مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وذكر أبو عبيد أنه قول أكثر أهل المدينة فإن أقر لهما في المرض جميعاً تساويا (مسألة) (وإن أقر لوارث لم يقبل إلا ببينة) وبهذا قال شريح وأبو هاشم وابن أذينة والنخعي ويحيى الانصاري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم وسالم وقال عطاء والحسن واسحاق وأبو ثور يقبل لأن من صح الإقرار له في الصحة صح في المرض كالاجنبي وللشافعي قولان كالمذهبين وقال مالك يصح إذا لم يتهم ويبطل إذا اتهم كمن له بنت وابن(5/275)
عم فأقر لابنته لم يقبل وإن أقر لابن عمه قبل لانه لايتهم في انه يزوي ابنته ويوصل المال إلى ابن عمه وعلة منع الإقرار التهمة فاختص المنع بموضعها ولنا أنه إيصال لماله إلى وارثه بقوله في مرض موته فلم يصح بغير رضا بقية ورثته كهبته ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح الإقرار له كالصبي في حق جميع الناس، وفارق الأجنبي فإن هبته تصح وما ذكره مالك لا يصح فإن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها فأجيز اعتبارها بمظنتها وهو الإرث ولذلك اعتبر في الوصية والتبرع وغيرهما (مسألة) (إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دونه فيصح) في قول الجميع لا نعلم فيه مخالفاً إلا أن الشعبي قال لا يجوز اقراره لها لأنه إقرار لوارث ولنا أنه إقرار با تحقق سببه وعلم وجوده ولم تعلم البراءة منه فأشبه مالو كان عليه دين ببينة فأقر بأنه لم يوفه وكذلك إن اشترى من وارثه شيئاً فأقر له بثمن مثله لأن القول قول المقر له في أنه لم يقبض ثمنه وإن أقر لامرأته بدين سوى الصداق لم يقبل
(فصل) فإن أقر لها ثم أبانها ثم تزوجها ومات من مرضه لم يقبل إقراره لها وقال محمد ابن الحسن يقبل لأنها صارت إلى حال لايتهم فيها فأشبه مالو أقر لمريض ثم برئ، ولنا أنه أقر لوارث في مرض الموت(5/276)
(مسألة) (وإن أقر الوارث وأجنبي بطل في حق الوارث وصح في حق الأجنبي) وفيه وجه آخر أنه لا يصح كما لو شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل كما لو شهد لابنه وأجنبي وقال أبو حنيفة إن أقر لهما بدين من الشركة فاعترف الأجنبي بالشركة صح الإقرار لهما وإن جحدها صح له دون الوارث.
ولنا أنه أقر لوارث وأجنبي فيصح للأجنبي دون الوارث كما لو أقر بلفظين أو كما لو جحد الأجنبي الشركة ويفارق الإقرار الشهادة لقوة الإقرار ولذلك لا تعتبر فيه العدالة، ولو أقر بشئ له فيه نفع كالإقرار بنسب وارث موسر قبل، ولو أقر بشئ يتضمن دعوى على غيره قبل فيما عليه دون ماله كما لو قال لامرأته خلعتك على ألف بانت بإقراره والقول قولها في نفي العوض وكذلك إن قال لعبده اشتريت نفسك مني بألف (مسألة) (وإن أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح وإن أقر لغير وارث صح وإن صار وارثاً نص عليه وقال ان الاعتبار بحال الموت فيصح في الأولى ولا يصح في الثانية كالوصية) وجملة ذلك أنه إذا أقر لوارث فصار غير وارث أقر لأخيه ولا ولد له ثم ولد له ابن لم يصح إقراره له، وإن أقر لغير وارث ثم صار وارثاً صح إقراره له نص عليه أحمد في رواية ابن منصور إذا أقر لامرأة بدين في المرض ثم تزوجها جاز إقراره لأنه غير متهم وحكي له قول سفيان في رجل(5/277)
له ابنان فأقر لأحدهما بدين في مرضه ثم مات الابن وترك ابناً والأب حي ثم مات بعد ذلك جاز قراره فقال أحمد لا يجوز وبهذا قال عثمان البتي، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى في الصورتين مخالفة لما قلنا وهو قول سفيان الثوري والشافعي لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فكان الاعتبار فيه
بحالة الموت كالوصية ولنا أنه قول يعتبر فيه التهمة فاعتبرت حال وجوده دون غيره كالشهادة ولأنه إذا أقر لغير وارث ثبت الإقرار وصح لوجوده من أهله خالياً عن تهمة فثبت الحق به ولم يوجد مسقط له فلا يسقط وإذا أقر لوارث وقع باطلا لاقتران التهمة به فلا يصح بعد ذكل ولأنه إذا أقر لوارث فلا يصح كما لو استمر الميراث وإن أقر لغير وارث صح واستمر كما لو استمر عدم الإرث اما الوضية فإنها عطية بعد الموت فاعتبرت فيها حالة الموت يخالف مسئلتنا (مسألة) (وإن أقر لامرأته بدين ثم أبانها ثم تزوجها لم يصح إقراره لها) إذا مات من مرضه لأنه إقرار لوارث في مرض الموت أشبه مالو لم يبنها (مسألة) (وإن أقر المريض بوارث صحيح صح وعنه لا يصح) يصح إقرار المريض بوارث في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه أقر لوارث فأشبه الإقرار له بمال والأول أصح لأنه عند الإقرار غير وارث فصح كما لو لم يصر وارثاً ويمكن بناء هذه المسألة على ما إذا أقر لغير وارث فصار وارثاً فمن صحح الإقرار ثم صححه هاهنا ومن أبطله أبطله(5/278)
(مسألة) (وإن أقر بطلاق امرأته في صحته لم يسقط ميراثها) إذا كان الإقرار في مرضه لأنه متهم بقصد حرمانها الميراث فلم يبطل كما لو طلقها في مرضه (فصل) ويصح إقرار المريض بإحبال الأمة لأنه ملك ذلك فملك الإقرار به وكذلك كل ما ملكه ملك الإقرار به فإذا أقر بذلك ثم مات فإن بين أنه استولدها في ملكه فولده حر الأصل وأمه أم ولد تعتق من رأس المال وإن قال من نكاح أو وطئ شبهة عتق الولد ولم تصر الأمة أم ولد فإن كان من نكاح فعليه الولاء لأنه مسه رق وإن كان من وطئ شبهة لم تصر الأمة أم ولد وإن لم يتبين السبب فالأمة مملوكة لأن الأصل الرق ولم يثبت سبب الحرية ويحتمل أن تصير أم ولد لأن الظاهر استيلادها في ملكه من قبل أنها مملوكته والولادة موجودة ولا ولاء على الولد لأن الأصل عدمه فلا يثبت إلا بدليل.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإن أقر العبد بحد أو قصاص أو طلاق صح وأخذ به إلا أن يقر بقصاص في النفس فنص أحمد أنه يتبع به عبد العتق وقال أبو الخطاب يؤخذ به في الحال) وجملة ذلك أن العبد يصح إقراره بالحد والقصاص فيما دون النفس لأن الحق له دون مولاه ولا يصح إقرار المولى عليه بما يوجب القصاص ويجب المال دون القصاص لأن المال يتعلق برقبته وهي مال السيد فصح إقراره بجناية الخطأ وهو الذي ذكره شيخنا في كتاب الكافي وأما إقراره بما يوجب(5/279)
القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد أنه لا يقبل ويتبع به بعد العتق وبه قال زفر والمزني وداود وابن جرير الطبري لأنه يسقط حق سيده باقراره فأشبه الإقرار بقتل الخطأ ولأنه يتهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه ويستحق أخده فيتخلص بذلك من سيده، واختار أبو الخطاب أنه يصح إقراره وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولأنه أحد نوعي القصاص فصح اقرره به كما دون النفس، وبهذا الأصل ينتقض دليل الأول وينبغي على هذا القول أن لا يصح عفو ولي الجناية على مال إلا باختيار سيده لئلا يفضي إلى إيجاب المال على سيده بإقرار غيره ولا يقبل اقرار العبد بجناية الخطأ ولا شبه العمدولا بجناية عمد موجبها المال كالجائفة والمأمومة لأنه إيجاب حق في رقبته وذلك بتعلق بالمولى (مسألة) (وإن أقر العبد غير المأذون له بمال لم يقبل في الحال ويتبغ به بعد العتق) لأنه تصرف فيما هو حق للسيد فعلى هذا يتبع به بعد العتق عملا بإقراره على نفسه وعنه يتعلق برقبته كجنايته (مسألة) (وإن أقر السيد عليه بمال أو ما يوجبه كجناية الخطأ قبل) لأنه إيجاب حق في ماله (مسألة) (وإن أقر العبد بسرقة مال في يده وكذبه السيد قبل إقراره في القطع دون المال) وجملة ذلك أن العبد إذا أقر بسرقة موجبها القطع والمال فأقر بها العبد وجب قطعه ولم يجب المال سواء كان ما أقر بسرقته باقياً أو تالفاً في يد السيد أو يد العبد قال أحمد(5/280)
في عبد أقر بسرقة دراهم في يده أنه سرقها من رجل والرجل يدعي ذلك والسيد يكذبه فالدراهم لسيده ويقطع العبد ويتبع بذلك بعد العتق وللشافعي في وجوب المال في هذه الصورة وجهان، ويحتمل أن
لا يجب القطع لأن ذلك شبهة فيدرأبها القطع لكونه حداً يدرأ بالشبهات وهذا قول أبي حنيفة وذلك لأن العين التي أقر بسرقتها لم يثبت حكم السرقة فيها فلا يثبت حكم القطع بها (فصل) وإن أقر العبد برقه لغير من هو في يده لم يقبل إقراره لأن إقراره بالرق إقرار بالملك والعبد لا يقبل إقراره بمال لا نا لو قبلنا إقراره أضر بالسيد ولأنه إذا شاء أقر لغير سيده فأبطل ملكه فإن أقر السيد لرجل وأقر هو لآخر فهو للذي أقر له السيد لأنه في يد السيد لا في يد نفسصه ولأنه لو قبل إقرار العبد لما قبل إقرار السيد كالحد وجناية العمد (فصل) ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق فإذا أقر لعبد بنكاح أو قصاص أو تعزير القذف صح الإقرار له صدقه المولى أو كذبه لأن الحق له دون سيده وله المطالبة بذلك والعفو عنه وليس لسيده مطالبته به ولا عفو وإن كذبه العبد لم يقبل اقراره، وإن أقر له بمال صح ويكون لسيده لأن يد العبد كيد سيده، وقال أصحاب الشافعي إن قلنا يملك المال صح الإقرار له وإن قلنا لا يملك كان الإقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده (مسألة) (وإن أقر السد لعبده بمال لم يصح) لأن العبد لسيده فلا يصح إقراره لنفسه وإن أقر(5/281)
العبد لسيده لم يصح لأنه أقر له بماله فلم يفده الإقرار شيئاً (مسألة) (وإن أقر إنه باع عبده من نفسه بألف وأقر العبد به ثبت ويكون كالكتابة وإن أنكر عتق ولم يلزمه الألف) لان أقر لعبده بسبب العتق فتعق وتبقى دعواه عليه لا تلزمه كما لم تلزم غيره (مسألة) (وإن أقر لعبد غيره بمال صح وكان لمالكه) لأن مال العبد لسيده (مسألة) (وإن أقر لبهيمة لم يصح) لأنها لا تملك ولا لها أهلية الملك، وإن قال على بسبب هذه البهيمة لم يكن إقراراً لأحد لأنه لم يذكر لمن هي ومن شرط صحة الإقرار ذكر المقر له فإن قال لمالكها ولزيد علي بسببها ألف صح الاقرار، وإن قال بسبب حمل هذه البهيمة لم يصح إذ لا يمكن ايجاب شئ بسبب الحمل وقيل يصح ويكون لما لكها كالإقرار للعبد (مسألة) (وإن تزوج مجهولة النسب فأقرت بالرق لم يقبل اقزارها)
لأنها تقر على حق الزوج وعنه تقبل في نفسها لأنها عاقلة مكلفة فيقبل إقرارها على نفسها كما لو أقرت بمال، ولا يقبل إقرارها بفسخ النكاح ورق الأولاد لأن ذلك حق الزوج وإن أولدها بعد الإقرار ولداً كان رقيقاً لأنه حدث بعد ثبوت رقها وإن أقر بولد أمته أنه ابنه ثم مات ولم يتبين هل أتت به في ملكه أو غيره؟ فهل تصير أم ولد؟ على وجهين (أحدهما) لا تصير أم ولد لاحتمال أنها أتت به في ملك غيره (والثاني) تصير أم ولد له لأنه أقر بولدها وهي في ملكه فالظاهر أنه استولدها في ملكه(5/282)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإذا أقر الرجل نسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه به) وجملة ذلك أن للإقرار بالنسب شروطاً وهو على ضربين: (أحدهما) أن يقر على نفسه خاصة (والثاني) أن يقر عليه وعلى غيره فإن أقر على نفسه خاصة مثل أن يقر بنسب ولد فيعتبر في ثبوت نسبه أربعة شروط (أحدها) أن يكون المقر به مجهول النسب، فإن كان معروف النسب لم يصح لأنه يقطع نسبه الثابت من غيره وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (الثاني) أن لا ينازعه فيه منازع لأنه إذا نازعه فيه غيره تعارضا فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر (الثالث) أن يمكن صدقه بأن يكون المقر به يحتمل أن يولد لمثل المقر (الرابع) أن يكون ممن لا قول له كالصغير والمجنون أو يصدق المقر إن كان ذا قول وهو المكلف لانه ملكف أقر بحق ليس فيه نفع فلزم كما لو اقر بمال فإن كان غير المكلف لم يعتبر تصديقه فإن كبر وعقل فأنكر لم يسمع إنكاره لأن نسبه ثابت وجرى ذلك مجرى من ادعى ملك عبد صغير في يده وثبت بذلك ملكه فلما كبر جحد ذلك ولو طلب إحلافه على ذلك لم يستحلف لأن الأب لو عاد بجحد النسب لم يقبل منه ويحتمل أن يبطل نسب المكلف باتفاقهما على الرجوع عنه لأنه يثبت باتفاقهما فزال برجوعهما كالمال والأول أصح لأنه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصغير والمجنون، وفارق المال لأن النسب يحتاط(5/283)
لإثباته وإن اعترف إنسان أن هذا أبوه فهو كاعترافه بأنه ابنه (الضرب الثاني) أن يقر عليه وعلى غيره
كإقراره بأخ فسنذكره إن شاء الله تعالى * (مسألة) * (فإن كان الصغير المقر بنسبه ميتاً ورثه لأنه ثبت نسبه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يثبت نسبه دون ميراثه لأنه متهم في قصد أخذ ميراثه، وقال أبو حنيفة لا يثبت نسبه ولا إرثه لذلك ولنا أن علة ثبوت نسبه في حياته الإقرار به وهو موجود بعد الموت فيثبت كحالة الحياة وما ذكروه يبطل بما إذا كان المقر به حياً موسراً والمقر فقيراً فإنه يثبت نسبه ويملك المقر التصرف في ماله وإنفاقه على نفسه، وإن كان المقر به كبيراً عاقلاً فكذلك في قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي أنه لا قول له أشبه الصغير وفيه وجه آخر لا يثبت نسبه لان نسب المكلف لا يبت إلا بتصديقه ولم يوجد ويجاب عن هذا بأنه غير مكلف فإن ادعى نسب المكلف في حياته فلم يصدقه حتى مات المقر ثم صدقه ثبت نسبه لأنه وجد الإقرار والتصديق (فصل) فإن أقرت امرأة بولد ولم تكن ذات زوج ولانسب قبل إقرارها وإن كانت ذات زوج فهل يقبل إقرارها؟ على روايتين (إحداهما) لا يقبل لأن فيه حملا لنسب الولد على زوجها ولم يقر به أو إلحاقاً للعار به بولادة امرأته من غيره (والثاني) يقبل لأنها شخص أقر بولد يحتمل أن يكون منه فقبل كالرجل وقال أحمد في رواية ابن منصور في امرأة ادعت ولداً فان كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بدان يثبت أنه ابنها وإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه وهذا لأنها إذا كانت ذات أهل(5/284)
فالظاهر أنه لا يخفى عليهمو ولادتها فمتى ادعت ولداً لا يعرفونه فالظاهر كذبها، ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقاً لأن النسب يحتاط له فأشبهت الرجل وقد ذكرنا نحو ذلك في اللقيط (فصل) وإن قدمت امرأة من بلد الروم معها طفل فأقر به رجل لحقه لوجود الإمكان وعدم المنازع لأنه يحتمل أن يكون دخل أرضهم أو دخلت هي دار الإسلام فوطئها والنسب يحتاط لا ثباته ولهذا لو ولدت امرأة رجل وهو غائب عنها بعد عشر سنين أو أكثر من غيبته لحقه وإن لم يعرف له قدوم إليها ولا عرف لها خروج من بلدها (مسألة) (ومن ثبت نسبه فجاءت أمه بعد موت المقر فادعت الزوجية لم يثبت بذلك)
لأنها مجرد دعوى فلم تثبت بها زوجية كما لو كان حياً ولأنه يحتمل أن يكون من وطئ شبهة أو نكاح فاسد.
(فصل) وإن أقر رجل بنسب صغير لم يكن مقرا بزوجية أمة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كانت مشهورة بالحرية كان مقراً بزوجيتها لأن أنساب المسلمين وأحوالهم يجب حملها على الصحة وهو أن يكون ولدته منه في نكاح صحيح ولنا أن الزوجة ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه فلم يكن مقراً بها كما لو لم تكن معروفة بالحرية وما ذكروه لا يصح فإن النسب محمول على الصحة وقد يلحق بالوطئ والنكاح الفاسد والشهبة فلا يلزم بحكم إقراره ما لم يوجبه لفظ ولا يتضمنه(5/285)
(فصل) إذا كان له أمة لها ثلاثة اولاد ولازوج لها ولا أقر بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدي فإقراره صحيح ويطالب بالبيان فإن عين أحدهم ثبت نسبه وحريته، ثم يسئل عن كيفية الاستيلاد فإن قال بنكاح فعلى الولد الولاء والأم والآخران من أولادها رقيق، فإن قال استولدتها في ملكي فالمقر به حر الاصل لاولاء عليه والأمة أم ولد ثم إن كان المقر به الأكبر فأخواه ابنا أم ولد حكمهما حكمها في العتق بموت سيدها وإن كان الاوسط فالاكبرقن والاصفر له حكم أمه وإن عين الأصغر فأخواه رقيق قن لأنها ولدتهما قبل الحكم بكونها أم ولد، وإن قال هي من وطئ شبهة فالولد حر الأصل وأخواه مملوكان وإن مات قبل أن يبين أخذ ورثته بالبيان ويقوم بيانهم مقام بيانه فإن بينوا النسب ولم يبينوا الاستيلاد ثبت النسب وحرية الولد ولم يثبت للام ولا لو لديها حكم الاسيتلاد لأنه يحتمل أن يكون من نكاح أو وطئ شبهة، وإن لم يبينوا النسب وقالوا لا نعرف ذلك ولا الاستيلاد فإنا نريه القافة فإن ألحقوا به واحداً منهم ألحقناه ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره فإن لم يكن قافة أقرع بينهم فمن وقعت له القرعة عتق وورث وبهذا قال الشافعي لأنه لا يورثه بالقرعة.
ولنا أنه حر استندت حريته إلى إقرار أبيه فورث كما لو عينه في إقراره (فصل) إذا كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد فقال أحد هذين ولدي من أمتي نظرت فإن كان لكل
واحدة منهما زوج يمكن إلحاق الولد به لم يصح إقراره ولحق الولدان بالزوجين وإن كان لإحداهما زوج دون الأخرى انصرف الإقرار إلى ولد الأخرى لأنه الذي يمكن إلحاقه به وإن لم يكن لكل واحدة منهما زوج(5/286)
ولكن أقر السيد بوطئهما صارنا فرشاو لحق ولداهمابه إذا أمكن أن يولد ابعد وطئه وإن أمكن في إحداهما دون الأخرى انصرف الإقرار إلى من أمكن لأنه ولده حكماً، وإن لم يكن اقر بوطئ واحدة منها صح إقراره وثبتت حرية المقر به لأنه أقر بنسب صغير مجهول النسب مع الإمكان لا منازع له فيه فلحقه نسبه ثم يكلف البيان كما لو طلق إحدى نسائه فإذا بين قبل بيانه لأن المرجع في ذلك إليه ثم يطالب ببيان كيفية الولادة فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حرا لاصل لا ولاء عليه وأمه أم ولد وإن قال في نكاح فعلى الولد الولاء لأنه مسه رق والأمة قن لأنها علقت بمملوك، وان قال بوطئ شبهة فالولد حر الأصل والأمة قن لأنها علقت به في غير ملك، وإن ادعت الأخرى إنها التي استولدها فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الاستيلاد فأشبه ما لو ادعت ذلك منغير إقرار بشئ فإذا حلف رقت له ورق ولدها فإذا مات ورثه ولده المقر به وإن كانت أمة قد صارت أم ولد عتقت، وإن لم تصر أم ولد عتقت على ولدها إن كان هو الوارث وحده وإن كان معه غيره عتق منها بقدر ماملك وإن عادت قبل ان يببن قام وارثه مقامه في البيان لأنه يقوم مقامه في إلحاق النسب وغيره فإذا بين كان كما لو بين الموروث، وان يعلم الوارث كيفية الاستيلاد ففي الأمة وجهان (أحدهما) يكون رقيقاً لأن الرق الأصل فلا يزول بالاحتمال (والثاني) يعتق لأن الظاهر أنها ولدته في ملكه لأنه أقر لولدها وهي في ملكه وهذا منصوص الشافعي، فإن لم يكن وارث أو كان وارث لم يعين عرض على القافة فإن ألحقته بأحدهما ثبت نسبه وكان حكمه(5/287)
كما لو عين الوارث فإن لم تكن قافة أو كانت فلم تعرف أقرع بين الولدين فيعتق أحدهما بالقرعة لأن للقرعة مدخلا في إثبات الحرية وقياس المذهب ثبوت نسبه وميراثه على ما ذكرنا في التي قبلها وقال الشافعي لا يثبت نسبب ولا ميراث، واختلفوا في الميراث فقال المزني يوقف نصيب الابن لأنا تيقنا ابناً وارثاً ولهم وجه آخر لا يوقف شئ لأنه لا يرجى انكشافه وقال أبو حنيفة يعتق من كل
واحد نصفه ويستسعى في باقيه ولا يرثان، وقال ابن أبي ليلى مثل ذلك إلا أن يجعل الميراث بينهما نصفين ويدفعانه في سعايتهما والكلام في قسمة الحرية والسعاية ذكره في باب العتق (مسألة) (وإن أقر بنسب أخ أو عم في حياة أبيه وحده لم يقبل وإن كان بعد موتهما وهو الوارث وحده قبل إقراره وثبت النسب وإن كان معه غيره لم يثبت النسب وللمقر له من الميراث ما فضل في يد المقر) إنما لم يقبل إقراره في حياتهما لأنه على غيره فلا يقبل فأما إن كان بعد الموت وهو الوارث وحده قبل إقراره وتثبت النسب سواء كان المقر واحداً أو جماعة ذكرا أو انثى وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة لأن الوارث يقوم مقام المورث في ديونه والديون التي عليه وفي دعاويه كذلك في النسب إلا أن يكون الميت قد نفاه فلا يثبت لأنه يحمل على غيره نسباً حكم بنفيه فإن كان وارثاً ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب لأنه لا يثبت في حق شريكه فوجب أن لا يثبت في حقه(5/288)
وقد دل على ثبوت النسب بإقرار الواحد إذا كان وارثاً حديث عائشة رضي الله عنها أن سعد بن أبي وقاص اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت أن أنظر إلى ابن أمة زمعة واقبضه فإنه ابنه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبدبن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر) فقضى به لعبد بن زمعة وقال (احتجبي منه يا سودة) والمشهور عن أبي حنيفة أنه لا يثبت إلا بإقرار رجلين أو رجل وامرأتين وقال مالك لا يثبت إلا بإقرار اثنين لأنه يحمل النسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشهادة ولنا أنه حق ثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا يعتبر فيه العدالة فلم يعتبر فيه العدد كإقرار الموروث واعتباره بالشهادة لا يصح لأنه لا يعتبر فيه اللفظ ولا العدالة ويبطل بالإقرار بالدين وللمقر له من الميراث ما فضل في يد المقر وقد ذكرنا ذلك فيما مضى (مسألة) (وإن أقر من عليه الولاء بنسب وارث لم يقبل إقراره إلا أن يصدقه مولاه لأن الحق لمولاه فلا يقبل إقراره بما يسقطه ويتخرج أن يقبل بدونه ذكره في المحرر
(مسألة) (وإن أقرت امرأة بنكاح على نفسها فهل يقبل؟ على روايتين) (إحداهما) يقبل لأنه حق عليها فيقبل كما لو أقرت بمال (والأخرى) لا يقبل لأنها تدعي النفقة والكسوة والسكنى فلا يقبل(5/289)
(مسألة) (فإن أقر المولى عليها به قبل إن كانت مجبرة) لأن المرأة لا قول لها في حال الإجبار وكذلك إن كانت مقرة بالإذن نص عليه وقيل لا يقبل إلا على المجبرة من المحرر وإن لم تكن مجيرة لم يقبل لأنه اقرار على الغير فلم يلزمها كما لو أقر عليها بمال (مسألة) (وإن أقر أن فلانة امرأته أو أقرت أن فلانا زوجها فلم يصدق المقر له المقر إلا بعد موت المقر صح) وورثه كما لو صدقه في حياته وقد ذكرنا فيما إذا أقر بنسب كبير عاقل بعد موته هل يرثه؟ على وجهين بناء على ثبوت نسبه فيخرج ههنا مثله وإن كان قد كذبه في حياته ففيه وجهان (مسألة) (وإن أقر الورثة على موروثهم بدين لزمهم قضاؤه من التركة فإن أقر بعضهم لزمه بقدر ميراثه فإن لم تكن تركة لم يلزمهم شئ) إذا أقر الوارث بدين على موروثه قبل إقراره بغير خلاف نعلمه ويتعلق ذلك بتركة الميت كما لو اقربه الميت في حياته فإن لم يخلف تركه لم يلزم الوارث شئ لأنه لا يلزمه أداء دينه اذا كان حيا مفلساً فكذلك إذا كان ميتاً، وإن خلف تركة تعلق الدين بها وإن أحب الوارث تسليمها في الدين فله ذلك وان أحب استخلاصها ووفا الدين من ماله فله ذلك ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها أو قدر الدين(5/290)
بمنزلة الجاني فإن كان الوارث واحداً فحكمه ما ذكرنا وان كانا اثنين أو أكثر وثبت الدين بإقرار الميت أو ببينة أو إقرار جميع الورثة فكذلك وإذا اختار الورثة أخذ التركة وقضاء الدين من أموالهم فعلى كل واحد منهم من الدين بقدر ميراثه وإن أقر أحدهم لزمه من الدين بقدر ميراثه والخيرة إليه في
تسليم نصيبه في الدين أو استخلاصه، وإذا قدره من الدين فإن كانا اثنين لزمه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وبهذا قال النخعي والحكم والحسن واسحاق وأبو عبيد وابو ثور والشافعي في أحد قوليه وقال أصحاب الرأي يلزمه جميع الدين أو جميع ميراثه وهو أحد قولي الشافعي رجع إليه بعد قوله كقولنا لأن الدين يتعلق بتركته فلا يستحق الوارث منها إلا ما فضل من الدين لقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) ولأنه يقول ما أخذه المنكر أخذه بغير استحقاق فكان غاصباً فيتعلق الدين بما بقي من التركة كما لو غصبه أجنبي ولنا أنه لا يستحق أكثر من نصف الميراث فلا يلزمه أكثر من نصف الدين كما لو أقر أخوه ولانه اقرر يتعلق بحصته أو حصة أخيه فلا يجب عليه إلا ما يخصه كالإقرار بالوصية وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ولأنه حق لوثبت ببينة أو قول الميت أو إقرار الوارثين لم يلزمه إلا نصفه فلم يلزمه بإقراره أكثر من نصفه كالوصية ولأن شهادته بالدين مع غيره تقبل، ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجربها إلى نفسه نفعاً فإن كان عليه دين بينة أو إقرار الميت قدم على ما أقر به الورثة من المحرر(5/291)
(فصل) قال رضي الله عنه (وإن أقر بحمل امرأة صح فإن ألقته ميتاً أو لم يكن حملاً بطل وإن ولدت حياً وميتاً فهو للحي وإن ولدتهما حيين فهو بينهما سواء الذكر والاثنى ذكره ابن حامد) إذا أقر لحمل امرأة بمال وعزاه إلى إرث أو وصية صح وكان للحمل وإن أطلق فقال أبو عبد الله بن حامد يصح وهو أصح قولي الشافعي لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح فصح له الإقرار المطلق كالطفل، فعلى هذا إن ولدت ذكر أو أنثى كان بينهما نصفين وإن عزاه إلى إرث أو وصية كان بينهما على حسب استحقاقها لذلك وإن ولدت حياً وميتاً فالكل للحي لأنه لا يخلو إما أن يكون الإقرار له عن إرث أو وصية وكلاهما لا يصح للميت، وقال أبو الحسن التميمي لا يصح الإقرار إلا أن يعزوه إلى إرث أو وصية وهو قول أبي ثور والقول الثاني للشافعي لأنه لا يملك بغيرهما، فإن وضعت الولد ميتاً كان قد عزا الإقرار إلى إرث أو وصية عادت إلى ورثة الموصي وموروث الطفل وإن أطلق الإقرار كلف ذكر السبب فيعمل بقوله
فإن تعذر التفسير بموته أو غيره بطل إقراره كمن أقر لرجل لا يعرف من أراد بإقراره، وإن عزا الإقرار إلى جهة غير صحيحة فقال لهذا الحمل على ألف أقرضتها أو وديعة أخذتها منه فعلى قول التميمي الإقرار باطل وعلى قول ابن حامد ينبغي أن يصح اقراره لأنه وصل بإقراره ما يسقطه فيسقط ما وصله به كما لو قال له ألف لا يلزمني، وإن قال له على ألف جعلتها له أو نحو ذلك فهي عدة لا يؤخذ بها، ولا يصح الإقرار لحمل إلا إذا تيقن أنه كان موجوداً حال الإقرار على ما بين في الوصية له، وإن أقر لمسجد(5/292)
أو مصنع أو طريق وعزاه إلى السبب صحيح مثل أن يقول من غلة وقفه صح وإن أطلق خرج على الوجهين وإن لم يكن ثم حمل بطل الإقرار لأنه أقر لغير شئ (مسألة) (وإن أقر لكبير عاقل فلم يصدقه بطل إقراره في أحد الوجهين) لأنه إقرار بحق أشبه النسب فعلى هذا يقر المال في يد المقر لأنه كان في يده فإذا بطل إقراره بقي كأنه لم يقر به والوجه الثاني يؤخذ المال الى بيت المال فيحفظه حتى ظهر مالكه لأنه بإقراره خرج عن ملكه ولم يدخل في ملك المقر له وكل واحد منهما ينكر ملكه فهو كالمال الضائع يترك في بيت المال قال صاحب المحرر فعلى هذا الوجه أيهما غير قوله لم يقبل منه وعلى الأول إن عاد المقر فادعاه لنفسه أو لثالث قبل منه ولم يقبل بعدها عود المقر له أولاً إلى دعواه، ولو كان عدوه إلى دعواه قبل ذلك ففيه وجهان ولو كان المقر به عبداً أو نفس المقر بأن أقر برقها للغير فهو كغيره من الأموال على الأول وعلى الثاني يحكم بحريتهما.
باب ما يحصل به الإقرار إذا ادعى عليه ألفاً فقال نعم أو أجل أو صدقت أو أنا مقر بها أو بدعواك كان مقراً ومثله أنا مقر بما ادعيت لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق قال الله تعالى (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا نعم) وإن(5/293)
قال أليس لي عندك ألف؟ قال بلى كان إقراراً صحيحاً لأن بلى جواب للسؤال بحرف النفي قال الله تعالى (ألست بربكم؟ قالوا بلى)
(مسألة) (وإن قال أنا اقر أولا أنكر أو يجوز أن يكون محقاً وعسى أو لعل أو أحسب أو أظن أو أقدر أوخذ أو اتزن أو افتح كمك لم يكن مقرا إذا قال أنا مقر لم يكن إقراراً لأنه وعد بالإقرار في المستقبل وكذلك إن قال لا أنكر لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار فإن بينهما قسماً آخر وهو السكوت عنهما، وإن قال يجوز أن يكون محقاً لم يكن إقراراً كذلك وإن قال لعل أو عسى لم يكن مقرا لأنهما للترجي، وإن قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن مقرا لأن هذه الألفاظ تستعمل للشك، وكذلك إن قال خذ أو اتزن أو افتح كمك لأنه يحتمل خذ الجواب أو اتزن أو افتح كمك لشئ آخر (مسألة) (وإن قال أنا مقر أو خذها أو اتزنها أو اقبضها أو احرزها أو هي صاح فهل يكون مقراً؟ يحتمل وجهين) إذا قال أنا مقر ولم يزد احتمل أن يكون مقراً لأن ذلك عقيب الدعوى فينصرف إليها وكذلك إن قال أقررت قال الله تعالى (قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالو أقررنا) ولم يقولوا أقررنا بذلك ولا زادوا عليه فكان منهم إقراراً ويحتمل أن لا يكون مقراً لأنه يحتمل أن يريد غير ذلك مثل(5/294)
أن يريد أنا مقر بالشهادة أو بطلان دعواك، وإن قال خذها أو اتزنها أو اقبضها أو احرزها لي أو هي صحاح فهل يكون مقراً؟ يحتمل وجهين ففيه وجهان (أحدهما) ليس بإقرار لأن الصفة ترجع إلى المدعي ولم يقر بوجوبه ولا يجوز أن يعطيه ما يدعيه من غير أن يكون واجباً عليه فأمره بأخذها أولى أن لا يلزم منه الوجوب (والثاني) يكون إقراراً لأن الضمير يعود إلى ما تقدم (مسألة) (وإن قال له على ألف إن شاء الله أو في علمي أو فيما أعلم أو قال اقضني ديني عليك ألفاً أو سلم إلي ثوبي هذا أو فرسي هذه فقال نعم فقد اقربها) إذا قال لك على ألف إن شاء الله كان مقراً نص عليه أحمد وقال أصحاب الشافعي ليس بإقرار لأنه علق إقراره على شرط فلم يصح كما لو علقه على مشيئة زيد ولأن ما علق على مشيئة الله لا سبيل إلى معرفته ولنا أنه وصل إقراره بما يرفعه كله ولا يصرفه إلى غير الإقرار فلزمه ما أقر به وبطل
ما وصله به كما لو قال له على ألف إلا ألفاً ولأنه عقب الإقرار بما لا يفيد حكماً آخر ولا يقتضي رفع الحكم أشبه مالو قال له على ألف ان شئت وان شاء في مشيئة الله وإن قال له على ألف إلا أن يشاء الله صح الإقرار لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لا يعلم فلم يرتفع، وإن قال له على ألف ان شئت وان شاء زيد لم يصح الإقرار وقال القاضي يصح لأنه عقبه ما يرفعه فصح الإقرار دون ما يرفعه كاستثناء الكل وكما لو قال إن شاء الله(5/295)
ولنا أنه علقه علي شرط يمكن علمه فلم يصح كما لو قال له على ألف إن شهد به فلان وذلك لأن الإقرار إخبار بحق سابق فلا يتعلق على شرط مستقبل، ويفارق التعليق على مشيئة الله تعالى فإن مشيئة الله تذكر في الكلام تبركاً وصلة وتفويضاً إلى الله تعالى كقول الله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) وقد علم الله سبحانه أنهم سيد خلونه بغير شك ويقول الناس صلينا إن شاء الله مع يقين صلاتهم بخلاف مشيئة الآدمي والثاني أن مشيئة الله تعالى لاتعلم إلا بوقوع الاومر فلا يمكن وقوف الأمر على وجودها ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطا بتوقف الأمر على وجودها والماضي لا يمكن وقفه فتعين حمل الأمر ههنا على المستقبل فيكون لا إقراراً وعداً (فصل) ولو قال بعتك إن شاء الله أو زوجتك إن شاء الله فقال أبو إسحاق بن شاقلا لا أعلم خلافاً عنه في أنه إذا قيل له قبلت هذا النكاح فقال نعم إن شاء الله إن النكاح واقع وبه قال أبو حنيفة ولو قال بعتك ألف إن شئت فقال قد شئت وقبل صح لأن هذا الشرط من موجب العقد ومقتضاه فإن الإيجاب إذا وجد من البائع كان القبول إلى مشيئة المشتري واختياره (مسألة) (وإن قال له على ألف في علمي أو فيما أعلم كان مقراً به) لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب ولو قال أقضيتني إلا ألف الذي لي عليك؟ قال نعم كان مقراً به لأنه تصديق لما ادعاه وإن قال سلم الي ثوبي وهذا أو فرسي هذه فقال نعم فقد أقر بها لما ذكرنا وإن قال اشتر عبدي هذا أو قال أعطني عبدي هذا فقال نعم كان إقراراً لما ذكرنا(5/296)
(مسألة) (وإن قال إن قدم فلان فله على ألف درهم لم يكن مقراً) لأنه ليس بمقر في الحال وما لا يلزمه في الحال لا يصير واجباً عند وجود الشرط، وإن قال له على ألف إن قدم فلان فعلى وجهين (أحدهما) لا يكون إقراراً كالمسألة قبلها (والثاني) يكون مقراً لأنه قدم الإقرار فثبت حكمه وبطل الشرط لأنه لا يصلح أن يكون أجلاً (مسألة) (وإن قال له على ألف إذا جاء رأس الشهر كان إقراراً وإن قال إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف فعلى وجهين) قال أصحابنا في المسألة الأولى هو إقرار وفي الثانية ليس بإقرار وهو منصوص الشافعي لأنه في الأول بدأ بالإقرار ثم عقبه بمالا يقتضي رفعه لأن قوله إذا جاء رأس الشهر يحتمل أنه أراد المحل فلا يبطل الإقرار بأمر محتمل وفي الثانية بدأ بالشرط فعلق عليه لفظاً يصح للاقرار ويصلح للواعد فلا يكون اقرار امع الاحتمال ويحتمل أنه لا فرق بينهما لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء فيكون فيهما جميعاً وجهان (مسألة) (وإن قال له على ألف إن شهد به فلان أو إن شهد به فلان صدقته لم يكن مقراً) لأنه يجوز أن يصدق الكاذب (مسألة) (وإن قال إن شهد به فلان فهو صادق احتمل وجهين) (أحدهما) لا يكون إقراراً لأنه(5/297)
علقه على شرط فهي كالتي قبلها (والثاني) يكون إقرارا في الحال لأنه لا يتصور صدقه إلا أن يكون ثابتاً في الحال وقد أقر بصدقه (مسألة) (وإن أقر العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية وقال لم أرد ما قلت فالقول قوله مع يمينه لأنه يحتمل أن يكون صادقاً فلا يكون مقراً (باب الحكم فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره) إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول له على ألف لا يلزمني أو قد قبضه أو استوفاه أو ألف من ثمن خمر أو تكلفت به على أني بالخيار لزمته الألف ولا يقبل قوله ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وذكر القاضي إذا قال له علي ألف زيوف وفسره برصاص
أو نحاص لم يقبل لأنه رفع كل ما اعترف به وقال في سائر الصور التي ذكرناها يقبل قوله لأنه عزا إقراره إلى سببه فقبل كما لو عزاه إلى سبب صحيح إلا في قوله علي ألف لا يلزمني ولنا أن هذا يناقض ما أقر به فلم يقبل كالصورة التي قبلها وكما لو قال له علي ألف لا تلزمني أو نقول رفع جميع ما أقربه فلم يقبل كاستثناء الكل وتناقض كلامه غير خاف فإن ثبوت ألف عليه في هذه المواضع لا يتصور وإقراره إخبار بثبوته فتنافيا وإن سلم ثبوت الألف عليه فهو ما قلنا(5/298)
(مسألة) (وإن قال له على ألف إلا ألفاً لم يصح) لأنه استثنى الكل ولا يصح بغير خلاف لأنه رجوع عن الاقرار وإن قال الاسمائة لم يصح وسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) ولا يقبل رجوع المقر عن إقراره إلا ماكان حداً لله تعالى يدرأ بالشبهات ويحتاط لا سقاطه فأما حقوق الآدميين وحقوق الله تعالى التي لا تدرأ بالشبهات كالزكاة والكفارات فلا يقبل رجوعه عنها ولا نعلم في هذا خلافاً (مسألة) (وإن قال كان له عندي ألف وقضيته أو قضيت منه خمسمائة درهم فقال الخرقي ليس بإقرار والقول قوله مع يمينه) وحكى ابن أبي موسى في هذه المسألة روايتين (أحدهما) أن هذا ليس بإقرار اختاره القاضي وقال لم أجد عن أحمد رواية بغير هذا (والثانية) أنه مقر بالحق مدع لقضائه فعليه البينة بالقضاء والاحلف غريمه وأخذه اختاره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر بالدين وادعى القضاء بكلام منفصل ولأنه رفع جميع ما أثبته فلم يقبل كاستثناء الكل وللشافعي قولان كالمذهبين، ووجه قول الخرقي أنه قول متصل تمكن صحته ولا تناقض فيه فوجب أن لا يقبل كاستثناء البعض، وفارق المنفصل لأن حكم الأول قد استقر بسكوته عنه فلا يمكن رفعه بعد استقراره ولذلك لا يرفع بعضه باستثناء ولا غيره فما يأتي بعده من دعوى القضاء يكون دعوى مجردة لا تقبل إلا بينة(5/299)
وأما استئناء الكل فمتناقض لأنه لا يمكن أن يكون عليه ألف وليس عليه شئ (فصل) فإن قال كان له على ألف وقضيته منه خمسمائة فالكلام فيه كالكلام فيما إذا قال
وقضيته وإن قال له إنسان عليك مائة لي فقال قد قضيتك منها خمسين فقال القاضي لا يكون مقرا بشئ لأن الخمسين التي ذكر أنه قضاها في كلامه ما يمنع بقاءها وهو دعوى القضاء وباقي المائة لم يذكرها وقوله منها يحتمل أنه يريد بها مما يدعيه ويحتمل مما علي فلا يثبت عليه شئ بكلام محتمل ويجئ على قول من قال بالرواية الأخرى إنه يلزمه الخمسون التي ادعى قضاءها لأن في ضمن دعوى القضاء إقراراً بأنها كانت عليه فلا تقبل دعوى القضاء بغير بينة (فصل) فإن قال كان له على ألف وسكت لزمه الألف في ظاهر قول أصحابنا وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يلزمه شئ وليس هذا باقرار لأنه لم يذكر عليه شيئاً في الحال إنما أخبر بذلك في زمن ماض فلا يثبت في الحال ولذلك لو شهدت البينة لم يثبت ولنا أنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه فبقي على ما كان عليه، ولهذا لو تنازعا داراً فأقر أحدهما للآخرانها كانت ملكه حكم بها له إلا أنه ههنا إن عاد فادعى القضاء أو الإبراء سمعت دعواه لأنه لا تنافي بين الإقرار وبين ما يدعيه وهذا على إحدى الروايتين (فصل) وإن قال له على ألف قضيه إياه لزمه الألف ولم تقبل دعوى القضاء وقال القاضي تقبل(5/300)
لأنه رفع ما أثبته بدعوى القضاء متصلا فأشبه مالو قال كان له على وقضيته له وقال ابن أبي موسى إن قال قضيت جميعه لم يقبل إلا ببينة ولزمه الألف الذي اقربه وله اليمين على المقر له وأما لو قال قضيت بعضه قبل منه في إحدى الروايتين لأنه رفع بعض ما اقربه بكلام متصل فأشبه مالو استثناه بخلاف ما إذا قال قضيت جميعه لكونه رفع جميع ما هو ثابت فأشبه استثناء الكل ولنا أن هذا قول متناقض إذا لا يمكن أن يكون عليه ألف قد قضاه فإن كونه عليه يقتضي بقاءه في ذمته واستحقاق مطالبته به وقضاءه بمقتضى براءة ذمته منه وتحريم مطالبته به وهذا ضدان لا يتصور اجتماعهما في زمن واحد بخلاف ما إذا قال له كان علي وقضيته فإنه أخبر بهما في زمانين ويمكن أن يرفع ما كان ثابتاً ويقضي ما كان ديناً وإذا لم يصح هذا في الجميع لم يصح في البعض لا ستحالة بقاء ألف عليه قد قضى بعضه، ويفارق الاستثناء فإن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عن الباقي من المستثنى
منه فقول الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) عبارة عن تسعمائة وخمسين عاماً أما القضاء فإنما يرفع جزءاً كان ثابتاً فإذا ارتفع بالقضاء لا يجوز التعبير عنه بما يدل على القضاء (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ويصح استثناء ما دون النصف ولا يصح فيما زاد عليه وفي النصف وجهان) الاستثناء من الجنس - وهو ما دخل في المستثنى منه - جائز بغير خلاف علمناه فإن ذلك كلام العرب وقد جاء في الكتاب والسنة قال الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) وقال النبي(5/301)
صلى الله عليه وسلم (يكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين) وذلك في كلام العرب كثير فإذا اقر بشئ واستثنى منه كان مقراً بالباقي بعد الاستثناء فإذا قال له على مائة إلا عشرة كان مقراً بتسعين لأن الاستثناء يمنع أن يدخل في اللفظ ما لولاه لدخل فإنه لو دخل ما أمكن إخراجه ولو أقر بالعشرة المستثناة لما قبل منه إنكارها وقول الله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) أخبار بتسعمائة وخمسين فالاستثنا.
بين أن الخمسين المستثناة غير مرادة كما أن التخصيص يبين أن المخصوص غير مراد باللفظ العام إذا ثبت ذلك فلا نعلم خلافاً في جواز استثناء ما دون النصف وقد دل عليه ما ذكرنا من الكتاب والسنة (فصل) فأما استثناء ما زاد على النصف فلا يختلف المذهب أنه لا يصح وهو كاستثناء الكل يؤخذ بالجميع ويحكى ذلك عن ابن درستويه النحوي وقال أبو حنيفة ومالك وأصحابهم يصح استثناء ما دون الكل فلو قال له على مائة إلا تسعة وتسعين لم يلزمه إلا واحد بدليل قول الله تعالى (قال فبعزتك لاغويهم أجميعن إلا عبادك منهم المخلصين) وقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) وأيهما كان الأكثر فقد دل على استثناء الأكثر وأنشدوا أدوا التي نقصت تعسين من مائة ثم ابعثوا حكماً بالحق قواما فاستثنى تسعين من مائة ولأنه في معنى الاستثناء ومشبه به ولأنه استثنى البعض فجاز كاستثناء الأقل(5/302)
ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز كالتخصيص والبدل.
ولنا أنه لم يرد في لسان العرب الاستثناء إلا في الأقل وقد أنكروا استثناء الأكثر فقال أبو
إسحاق الزجاج لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال قائل مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية وكان عياً من الكلام ولكنة، وقال القتيبي يقال صمت الشهر إلا يوماً ولا يقال صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوماً ويقال لقيت القوم جميعهم إلا واحداً أو اثنين ولا يجوزان يقال لقيت القوم إلا أكثرهم وإن لم يكن صحيحاً في الكلام لم يرتفع به ما أقر به كاستثناء الكل وكما لو قال له علي عشرة بل خسمة، وأما ما احتجوا به من التزيل فإنه في الآية الأولى استثنى المخلصين من بني آدم وهم الافل كما قال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصلحات وقليل ماهم) وفي الآية الأخرى استثنى الغاوين من العباد وهم الأقل فإن الملائكة من العباد وهم غير غاوين قال الله تعالى (بل عباد مكرمون) وقيل الاستثناء في هذه الآية منقطع بمعنى الاستدراك فيكون قوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) يبقى على عمومه لم يستثن منه شئ فيكون قوله (إلا من اتبعك من الغاوين) أي لكن من ابتعك من الغاوين فإنهم غووا باتباعك، وقد دل على صحة هذا قوله في الآية الأخرى لاتباعه (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) وعلى هذا لا يكون لهم فيها حجة وأما البيت فقال ابن فضال النحوي هو بيت مصنوع لم يثبت عن العرب على أن هذا ليس باستثناء فإن الاستثناء له كلمات مخصوصة(5/303)
ليس هذا منها والقياس لا يجوز في اللغة ثم نعارضه بأنه استثنى أكثر من النصف فلم يجز كاستثناء الكل والفرق بين استثناء الأكثر والأقل أن العرب استحسنته في الأقل واستعملته ونفته في الأكثر وقبحته فلم يجز قياس ما قبحوه على ما حسنوه (فصل) وفي استثناء النصف وجهان (أحدهما) يجوز وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ليس بالأكثر فجاز كالأقل (والثاني) لا يجوز ذكره أبو بكر لأنه لم يرد في كلامهم إلا في القليل من الكثير والنصف ليس بقليل وهو أولى (مسألة) (فإذا قال له على هولاء العبيد العشرة إلا واحداً لزمه تسليم تسعة) فإن عينه فقال إلا هذا صح وكان مقراً بمن سواه وإن قال إلا واحداً ولم يعينه صح لأن الإقرار يصح مجهولاً فكذلك الاستثناء منه ويرجع في تعيين المسمى إليه لأن الحكم يتعلق بقوله وهو أعلم بمراده به وإن عين من
عدا المستثنى صح وكان الباقي له.
(مسألة) (فإن ماتوا إلا وحدا فقال هو المستثنى فهل يقبل؟ على وجهين) (أحدهما) يقبل ذكره القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي (والوجه الثاني) لا يقبل ذكره أبو الخطاب وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه يرفع به الإقرار كله، والصحيح الأول لأنه يقبل تفسيره به في حياتهم لمعنى هو موجود بعد موتهم فقبل كحالة حياتهم وليس هذا رفعاً للإقرار وإنما تعذر تسليم المقر(5/304)
به لتلفه لا لمعنى يرجع إلى التفسير فأشبه مالو عينه في حياته فتلف بعد تعيبنه فإن قتل الجميع إلا واحداً قبل تفسيره بالباقي وجهاً واحداً لأنه غير متهم لأن المقر له يحصل له قيمة المقتولين بخلاف الموت فإنه لا يحصل للمقر له شئ، وإن قتلوا كلهم فله قيمة أحدهم ويرجع في التفسير إليه، وإن قال غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحداً قبل تفسيره به وجهاً واحداً لأن المقر له يستحق قيمة الهالكين فلا يفضي التفسير بالباقي إلى سقوط الإقرار بخلاف ما إذا ما توا (فصل) وحكم الاستثناء بسائر أدواته حكم الاستثناء بالافاذا قال له على عشرة سوى درهم أو ليس درهما أو خلا درهما أو عدا درهما أولا يكون درهما أو غير درهم بفتح الراء كان مقراً بدرهم وإن قال غير درهم بضم الراء وهو من أهل العربية كان مفسراً بعشرة لأنها تكون صفة للعشرة المقر بها ولا تكون استثناء فإنها لو كانت استثناء كانت منصوبة وإن لم يكن من أهل العربية لزمه تسعة لان الظهر أنه يريد الاستثناء وإنما ضمها جهلا منه بالعربية لا قصداً للصفة (فصل) ولا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلاً بالكلام فإن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه أو فصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام أجنبي لم يصح لأنه إذا سكت وعدل عن إقراره إلى شئ آخر استقر حكم ما أقر به فلم يرفع بخلاف ما إذا كان في كلامه فإنه لا يثبت حكمه أو ينظر ما يتم به كلامه ويتعلق به حكم الاستثناء والشرط والبدل ونحوه(5/305)
(مسألة) (وإن قال له هذه الدار إلا هذا البيت لي قبل منه لأن الأول استثناء فلا يدخل البيت
في إقراره والثاني في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما يتناوله اللفظ بكلام متصل وسواء كان البيت اكثر من نصف الدار أو أقل (مسألة) (وإن قال له علي درهمان وثلاثة الادرهمين فهل يصح على وجهين؟) (أحدهما) يصح لأن الاستثناء يعود إلى الجملتين وهو أقل من النصف (والثاني) لا يصح لأنه يعود إلى أقرب المذكورين فيكون استثناء أكثر من النصف (مسألة) (وإن قال له على درهم ودرهم الادرهما أو ثلاثة ودرهمان إلا درهمين أو ثلاثة ونصف إلا نصفا أو إلا درهماً أو خمسة وتسعون إلا خمسة لم يصح الاستثناء.
ولزمه جميع ما أقر به قبل الاستثناء وهذا قول الشافعي وهو الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الواو العاطفة تجمع بين العددين وتجعل الجملتين كالجملة الواحدة وعندنا أن الاستثناء إذا تعقب جملا معطوفاً بعضها على بعض بالواو عاد إلى جميعها كقولنا في قوله تعالى (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) إن الاستثناء عاد إلى الجملتين فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته(5/306)
إلا بإذنه) قال شيخنا والأول أولى لأن الواو لم تخرج الكلام من أن يكون جملتين والاستثناء برفع إحداهما جميعها ولا نظير لهذا في كلامهم ولأن صحة الاستثناء تجعل إحدى الجملتين مع الاستثناء لغواً لأنه أثبت شيئاً بلفظ مفرد ثم رفعه كله فلا يصح كما لو استثنى منها وهى غير معطوفة على غيرها فأما الآية والخبر فإن الاستثناء لم يرفع إحدى الجملتين إنما أخرج من الجملتين معاً من اتصف بصفة فنظيره قوله للبواب من جاء يستأذن فائذن له وأعطه درهما إلا فلاناً ونظير مسئلتنا ما لو قال اكرم زيدا وعمراً إلا عمراً (مسألة) وإن قال له على خمسة إلا درهمين ودرهما لزمته الخمسة في أحد الوجهين) لأنه استثنى أكثر من النصف وفي الآخر يلزمه ثلاثة ويبطل الاستثناء الثاني (مسألة) (ويصح الاستثناء من الاستثناء)
فإذا استثنى استثناء بعد استثناء وعطف الثاني على الأول كان مضافاً إليه فإذا قال له على عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين كان مستثنيا الخمسة مقراً بخمسة فإن كان الثاني غير معطوف على الأول كان استثناء من الاستثناء وهو جائز في اللغة قال الله تعالى (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين) فإذا كان صدر الكلام إثباتاً كان الاستثناء الأول نفياً والثاني إثباتاً فإن استثنى استثناء ثالثاً كان نفياً يعود كل استثناء الى ما يليه من الكلام فإذا(5/307)
قال له سبعة الا ثلاثة الادرهما لزمته خمسة لأنه أثبت سبعة ثم نفى منها ثلاثة ثم أثبت درهماً وبقي من الثلاثة المنفية درهمان مستثنيان من السبعة فيكون مقراً بخمسة (مسألة) (وإن قال له علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة الادرهمين الادرهما لزمه عشرة) على قول أبي بكر لأنه منع استثناء النصف وفي الوجه الآخر يلزمه ستة لأن الاستثناء إذا رفع الكل أو الا كثر سقط إن وقف عليه وإن وصله باستثناء آخر استعملناه فاستعملنا الاستثناء الأول لوصله بالثاني لأن الاستثناء مع المستثنى عبارة عما بقي فان عشرة الادرهما عبارة عن تسعة فإذا قال له على عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة صح استثناء الخمسة لأنه وصلها باستثناء آخر وكذلك صح استثناء الثلاثة والدرهمين لأنه وصل ذلك باستثناء آخر والاستثناء من الاثبات نفي ومن النفي اثبات فصح استثناء الخمسة وهو نفي فنفي خسمة وصح استثناء الثلاثة وهي إثبات فعادت ثمانية وصح استثناء الدرهمين وهي نفي فبقيت ستة ولم يصح استثناء الدرهم لأنه مسكوت عليه ويحتمل أن يكون وجه الستة أن يصح استثناء النصف ويبطل الزائد فيصح استثناء الخمسة والدرهم ولا يصح استثناء ثلاثة والاثنين (والوجه الثالث) يلزمه سبعة إذا صححنا الاستثناءات كلها فإذا قال عشرة إلا خمسة بقي خمسة فإذا قال إلا ثلاثة عادت ثمانية لأنها إثبات فإذا قال إلا درهمين كانت نفياً فبقي ستة فإذا استثنى درهما كان مثبتاً فصارت سبعة (والوجه الرابع) يلزمه ثمانية لأنه يلغي الاستثناء الأول لكونه النصف فإذا قال إلا ثلاثة كانت مثبتة وهي مستثناة(5/308)
من الخمسة وقد بطلت فتبطل الثلاثة أيضاً لبطلان الخمسة ويبقى الاثنان لأنهما نفي والنفي يكون من
إثبات، وقد بطل الإثبات الذي قبلها فتكون منفية من العشرة تبقى ثمانية ولا يصح استثناء الواحد من الاثنين لأنه نصف (فصل) فإن قال له علي ثلاثة إلا ثلاثة إلا درهمين بطل الاستثناء كله لأن الاستثناء لدرهمين من الثلاثة استثناء الأكثر وهو موقوف عليه فبطل فإذا بطل الثاني بطل الأول لأنه استثنى الكل ولأصحاب الشافعي في هذا ثلاثة أوجه (أحدها) يبطل الاستثناء لأن الأول بطل لكونه استثناء الكل فبطل الثاني من الإقرار لأنه فرعه (الثاني) يصح ويلزمه درهم لأن الاستثناء الأول لما بطل جعلنا الاستثناء الثاني من الإقرار لأنه وليه لبطلان ما بينهما ويصح (الثالث) ويكون مقراً بدرهمين لأنه استثناء لأكثر واستثناء الأكثر عندهم يصح ووافقهم القاضي في هذا الوجه، وإن قال ثلاثة الا إلا ثلاثة إلا درهماً بطل الاستثناء كله، ويجئ على قول أصحاب الشافعي فيه مثل ما قلنا في التي قبلها (مسألة) (ولا يصح الاستثناء من غير الجنس نص عليه) وبهذا قال زفر ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إن استثنى مكيلا أو موزونا جاز وإن استثنى عبداً أو ثوباً من غير مكيل أو موزون لم يجز، وقال مالك والشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقاً لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب قال الله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا(5/309)
إبليس كان من الجن) وقال سبحانه (لا يسمعون فيها لغوا الاسلاما) وقال الشاعر: وبلدة.
ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر: أعيت جواباً وما بالربع من أحد إلا أواري لأياما أينها ولنا أن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاسثنا عما كان يقتضيه لولاه وقيل أخرج بعض ما تناوله المستثنى منه مشتق من قواه ثنيت فلاناً عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه وثبت عنان دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها، وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون استثناء وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة استدارك والاههنا بمعنى لكن هكذا قال أهل العربية منهم ابن قيبة وحكاه
عن سيبويه والاستدراك لا يأتي الابعد الجحد ولذلك لم يأت الاستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتي بعد الإثبات إلا أن يوجد بعد جملة.
إذا تقرر هذا فلا مدخل للاستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر الاستدراك بعده كان باطلاً وإن ذكر بعده جملة كأنه قال له عندي مائة درهم إلا ثوباً لي عليه فيكون مقراً لشئ مدعيا لشئ سواه فيقبل إقراره وتبطل دعواه(5/310)
كما لو صرح بذلك بغير لفظ الاستثناء، وأما قوله تعالى (فسجدوا إلا إبليس) فإن إبليس كان من الملائه بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأموراً بالسجود ولا عاصياً بتركه ولا قال الله تعالى في حقه (ففسق عن أمر ربه) ولا قال (ما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك) وإذا لم يكن مأموراً فلم أبلسه الله وأهبطه ودحره ولا يأمر الله بالسجود إلا الملائكة، قان قالوا بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا فقد سقط استدلالكم فإنه متى كان إبليس داخلا في المستثنى منه مأموراً بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهو ظاهر لمن أنصف إن شاء الله تعالى.
فعلى هذا متى قال له على مائة درهم إلا ثوباً لزمته المائة لأن الاستثناء باطل على ما بينا (مسألة) (إلا أن يستثني عيناً من ورق أو ورقاً من عين فيصح) ذكره الخرقي وقال أبو بكر لا يصح (فإذا قال له على مائة درهم إلا ديناراً فهل يصح؟ على وجهين) اختلف أصحابنا في صحة استثناء أحد النقدين من الآخر فذهب أبو بكر إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى فيه روايتان واختار الخرقي صحته لأن قدر أحدهما معلوم الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم ديناراً وآخرون يسمون ثمانية ديناراً فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر فإذا قال له على دينار إلا ثلاثة دراهم في موضع يعبر فيه بالدينار عن تسعة كان معناه له علي تسعة دراهم إلا ثلاثة ومتى أمكن حمل الكلام(5/311)
على وجه صحيح لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا الطريق فرجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما فيلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا الفرق
ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفى ذلك والله أعلم (فصل) ولو ذكر نوعاً من جنس واستثنى نوعاً آخر من غير ذلك الجنس مثل أن يقول له علي عشرة آصح تمراً برنياً إلا ثلاثة تمرا معقيا لم يجز لما ذكرنا في الفصل الأول ويخالف العين والورق لأن قيمة أحد النوعين غير معلومة من الآخر ولا يعبر بأحدهما عن الآخر ويحتمل على قول الخرقي جوازه لتقارب المقاصد من النوعين فهما كالعين والورق والأول أصح لأن العلة الصحيحة في العين والورق غير ذلك (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (إذا قال له على ألف درهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفاً او صغاراً أو إلى شهر لزمه ألف جياد وافية حالة) وجملة ذلك أن من أقر بدارهم وأطلق اقتضى إقراره الدراهم الوافية وهي دراهم الإسلام كل عشرة منها سبعة مثاقيل واقتضى أن تكون جياداً حاله كما لو باعه بعشرة دراهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه أو أخذ في كلام آخر غير ما كان فيه استقرت عليه كذلك(5/312)
فان عاد فقال زيوفا أو صغار أو هي الدراهم الناقصة وهي دراهم طبرية كان كل درهم منها أربعة دوانيق وذلك ثلثا درهم، أو الى شهر يعني مؤجلة لم يقبل منه لأنه رجوع عن بعض ما أقربه ويرفعه بكلام منفصل فلم يقبل كالاستثناء المفنصل وهذا مذهب الشافعي، ولا فرق بين الإقرار بها ديناً أو وديعة أو غصباً، وقال أبو حنيفة يقبل قوله في الغصب والوديعة لأنه إقرار بفعل في عين وذلك لا يقتضي سلامتها فأشبه مالو أقر بغصب عبد ثم جاء به معيباً ولنا أن إطلاق الاسم يقتضي الوازنة الجياد فلم يقبل تفسيره بما يخالف ذلك كالدين ويفارق العبد فإن العيب لايمنع إطلاق اسم العبد عليه (مسألة) (إلا أن يكون في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة فهل يلزمه من دراهم البلد أو من غيرها؟ على وجهين (أولهما) أنه يلزمه من دراهم البلد لأن مطلق كلامهم يحمل على عرف بلدهم كما
في البيع والصداق وغير ذلك (والثاني) يلزمه الوازنة الخالصة من الغش لأن إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إليها بدليل أن بها تقدر نصب الزكواث ومقادير الديات فكذلك إطلاق الشخص، وفارق البيع فإنه إيجاب في الحال فاختص بدراهم الموضع الذي هما فيه والإقرار إخبار عن حق سابق فانصرف إلى درهم الإسلام(5/313)
(فصل) فإن أقر بدراهم وأطلق ثم فسرها بسكة البلد الذي أقر بها فيه قبل لانه إطلاقه ينصرف إليه وإن فسر بسكة غير سكة البلد أجود منها قبل لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وكذلك إن كانت مثلها لأنه لا يتهم في ذلك وإن كانت أدنى من سكة البلد لكنها مساوية في الوزن احتمل أن لا يقبل لأن إطلاقها يقتضي دراهم البلد ونقده فلا يقبل منه دونها كما لا يقبل في البيع ولأنها ناقصة القيمة أشبهت الناقصة في الوزن ويحتمل أن يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل ما فسره به وفارق النقصة فإن في الشرع الدراهم لا تناولها بخلاف هذه ولهذا يتعلق بهذا مقدار النصاب في الزكاة وغيره وفارق الثمن فإنه إيجاب في الحال وهذا إخبار عن حق سابق (مسألة) (وإن قال له على ألف إلى شهر لزمه مؤجلاً ويحتمل أن يلزمه حالاً) إذا أقربها مؤجلة بكلام متصل قبل منه وكذلك إن سكت للتنفس أو اعترضه سلعة ونحو ذلك ويحتمل أن تلزمه حالة ذكرها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال فلم يقبل كما لو قال له علي دراهم قبضته إياها (مسألة) (وإن قال له على ألف زيوف وفسره بمالا فضة فيه لم يقبل وإن فسره بمغشوشة قبل وكذلك ان فسرها بمعيية عيباً ينقصها قبل لأنه صادق وإن فسرها برصاص أو نحاس أو مالا(5/314)
قيمة له لم يقبل لأن تلك ليست دراهم على الحقيقة فيكون تفسيره بها رجوعاً عما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل (مسألة) (وإن قال له علي دراهم ناقصة لزمته ناقصة) وقال أصحاب الشافعي لا يقبل تفسيره
بالناقصة وقال القاضي إذا قال له علي دراهم ناقصة قبل قوله وإن قال صغار وللناس دراهم صغار قبل قوله وإن لم يكن لهم دراهم صغار لزمه وازنة كما لو قال دربهم فإنه يلزمه درهم وازن وهذا قول ابن القاص من أصحاب الشافعي ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله بكلام متصل فقبل منه كاستثناء البعض وذلك لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة والزيوف والجيدة وكونها عليه يحتمل الحلول والتأجيل فإذا وصفها بذلك تقيدت به كما لو وصف الثمن به فقال بعتك بعشرة دراهم مؤجلة أو ناقصة وثبوتها على غير هذه الصفة حالة الإطلاق لا يمنع من صحة تقييدها به كالثمن وقولهم إن التأجيل يمنع استيفاءها لا يصح وانما يؤخره فأشبه الثمن المؤجل، يحققه إن الدراهم ثبتت في الذمة على هذه الصفات فإذا كانت ثابتة بهذه الصفة لم تقتض الشريعة المطهرة سد باب الإقرار بها على صفتها وعلى ما ذكروه لا سبيل إلى الإقرار بها إلا على وجه يؤاخذ بغير ما هو الواجب عليه فينسد باب الإقرار وقول من قال إن قوله صغار ينصرف إلى(5/315)
مقدارها لا يصح لأن مساحة الدرهم لا تعتبر في الشرع ولا يثبت في الذمة بمساحة مقدرة وإنما يعتبر الصغر والكبر في الوزن فيرجع إلى تفسير المقر (فصل) وإن قال له علي درهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال له على درهم فهو كما لو قال درهم لأن الصغير قد يكون لصغره في ذاته أو لقلة قدره عنده وتحقيره وقد يكون لمحبته كما قال الشاعر بذيالك الوادي أهيم ولم أقل بذيالك الوادي وذياك من زهد ولكن إذا ماحب شئ تولعت به أحرف التصغير من شدة الوجد وإن قال له على عشرة دراهم عدداً لزمته عشرة معدودة وازنة لأن إطلاق الدرهم يقتضي الوازن وذكر العدد لا ينافيها فوجب الجمع بينهما فإن كان في بلد أو زانهم ناقصة أو دراهمم مغشوشة فهو على ما فصل فيه.
(مسألة) (وإن قال له عندي رهن وقال المالك بل وديعة فالقول قول المالك) لأن العين ثبتت
بالإقرار له وإن ادعى المقر ديناً لا يعترف به المقر له فالقول قول المنكر ولأنه أقر بمال لغيره وادعى أن له به تعلقاً فلم يقبل كما لو ادعاه بكلام منفصل ولذلك ولو أقر له بدار وقال استأجرتها أو أقر له(5/316)
بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجر يلزم المقر له لم يقبل لأنه مدع على غيره حقاً فلا يقبل قوله إلا ببينة ومن ذلك ما لو قال هذه الدار له ولي سكناها ببينة (مسألة) (وإن قال له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه وقال المقر له بل هو دين في ذمتك فعلى وجهين) (أحدهما) القول قول المقر لأنه اعترف له بالألف وادعى عليه مبيعاً فأشبه المسألة التي قبلها أو كما لو قال له على ألف ثم سكت ثم قال مؤجل (مسألة) (ولو قال له عندي ألف وفسره بدين أو وديعة قبل منه) لا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً سواء فسره بكلام متصل أو منفصل لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال له علي دراهم وفسرها بدين عليه فعند ذلك تثبت فيه أحكام الوديعة بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل قوله وإن فسره بدين عليه قبل أيضاً لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال له عندي وديعة ورددتها إليه أو تلفت لزمه ضمانها ولم يقبل قوله، وبهذا قال الشافعي لما فيه من مناقضة الإقرار والرجوع عما اقربه فإن الألف المردود والتالف ليساعنده أصلاً ولا هي وديعة وكل كلام يناقض الإقرار ويحيله يجب أن يكون مردوداً، وقال القاضي يقبل قوله إلا أن أحمد قال في رواية ابن منصور إذا قال لك عندي وديعة دفعتها إليك صدق لأنه ادعى تلف الوديعة أو ردها(5/317)
فقبل كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل فإن قال كانت عندي وظننت أنها باقية ثم عرفت أنها كانت قد هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها (مسألة) (وإن قال له على ألف وفسره بوديعة لم يقبل قوله وإن ادعى بعد هذا تلفه لم يقبل قوله) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقيل عن الشافعي يقبل قوله إنها وديعة وإذا ادعى بعد هذا تلفها قبل منه وقال القاضي ما يدل على هذا أيضاً لأن الوديعة عليه حفظها وردها فإذا قال له على ألف
وفسرها بذلك احتمل صدقه فقبل منه كما لو وصله بكلامه فقال له على ألف وديعة لأن حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً فيجوز أن تستعمل علي بمعنى عندي كما قال تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام أنه قال (ولهم علي ذنب) أي عندي ولنا أن على للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته ولذلك لو قال ما على فلان علي كان ضامناً له والوديعة ليست في ذمته ولاهي عليه إنما هي عنده وما ذكروه مجاز طريقه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو إقامة حرف مقام حرف والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو قال له على دراهم لزمته ثلاثة وإن جاز التعبير عن اثنين وعن واحد بلفظ الجمع كقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) ومواضع كثيرة في القرآن ولو قال له على درهم وقال أردت نصف درهم فأقمت المضاف إليه مقامه لم يقبل منه ولو قال لك من مالي ألف قال صدقت ثم قال أردت أن عليك من مالي ألفاً أقمت اللام مقام على كقوله تعالى (وإن أسأتم فلها) لم يقبل منه ولو قبل في الإقرار مطلق الاحتمال لسقط ولقبل تفسير الدراهم(5/318)
بالنقاصة والزائفة وللمؤجلة، وأما اذا قال لك علي ألف ثم قال كانت وديعة فتلف لم يقبل قوله فإنه متناقض وقد سبق نحو هذا (فصل) فإن قال لك على مائة درهم ثم أحضرها وقال هذه التي أقررت بها وهي وديعة كانت لك عندي فقال المقر له هذه وديعة والتي أقررت بها غيرها وهي دين عليك فالقول قول المقر له على مقتضى قول الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي القول قول المقر مع يمينه وللشافعي قولان كالوجهين وتعليلهما ما تقدم، فإن كان قال في إقراره لك على مائة في ذمتي فقد وافق القاضي ههنا في أنه لا يقبل قول المقر لأن الوديعة عين لا تكون في الذمة قال وقد قيل يقبل لأنه يحتمل في ذمتي أداؤها ولأنه يجوز أن تكون عنده وديعة تعدى فيها فكان ضمانها عليه في ذمته ولا صحاب الشافعي في هذه وجهان فأما إن وصل ذلك بكلامه فقال لك علي مائة وديعة قبل لأنه فسر كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال له ودراهم ناقصة وإن قال له على مائة وديعة ديناً أو مضاربة ديناً صح ولزمه ضمانها لأنه قد يتعدى فيها فيكون ديناً وإن قال أردت أنه شرط علي ضمانها لم يلزمه ضمانها لأن الوديعة لا تصير بالشرط مضمونة
وإن قال على أو عندي مائة درهم عارية لزمته وكانت مضمونة عليه سواء حكمنا بصحة العارية في الدراهم أو بفسادها لأن ما ضمن في العقد الصحيح ضمن في الفاسد وإن قال أودعني مائة فلم(5/319)
أقبضها أو أقرضني مائة فلم آخذها قبل قوله متصلا ولم يقبل منفصلاً وهكذا إذا قال نقدني مائة فلم أقبضها وهذا قول الشافعي (فصل) وإن قال له في هذا العبد ألف اوله من هذا العبد ألف طولب بالبيان فإن قال نقد عني ألفاً في ثمنه كان قرضاً وإن قال نقد في ثمنه ألفاً قلنا بين كم ثمن العبد وكيف كان الشراء فإن قال بإيجاب واحد وزن ألفاً ووزنت ألفاً كان مقراً بنصف العبد وإن قال وزنت أنا ألفين كان مقراً بثلثه والقول قوله مع يمينه سواء كانت القيمة قدر ما ذكره أو أقل لأنه قد يغبن وقد يغبن وإن قال اشتريناه بإيجابين قيل له فكم اشترى منه؟ فإن قال نصفاً أو ثلثاً أو أقل أو أكثر قبل منه مع يمينه وافق القيمة أو خالفها وإن قال وصي له بألف من ثمنه بيع وصرف إليه من ثمنه ألف فإن أراد أن يعطيه ألفاً من ماله من غير ثمن العبد لم يلزمه قبوله لأن الموصى له يتعين حقه في ثمنه وإن فسر ذلك بجناية جناها العبد فتعلقت برقبته قبل ذلك وله بيع العبد ودفع الألف من ثمنه، وإن قال أردت أنه رهن عنده بألف فعلى وجهين (أحدهما) لا يقبل لأن حق المرتهن في الذمة (والثاني) يقبل لأن الدين يتعلق بالرهن فصح تفسيره به كالجناية ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما ذكرنا (مسالة) (وإن قال له في هذا المال ألف لزمه تسليمه إليه) لأنه أقر له بالملك(5/320)
(مسألة) (وإن قال له من مالي أو في مالي أو في ميراثي من أبي ألف أو نصف داري هذه وفسره بالهبة وقال بدالي من تقبيضه قبل) إذا قال له في مالي أو من مالي ألف وفسره بدين أو وديعة أو وصية قبل وقال بعضن أصحاب الشافعي لا يقبل إقراره وليس هو لغيره.
ولنا أنه أقر بألف فقبل كما لو قال له في مالي ويجوز أن يضيف إليه مال بعضه لغيره ويجوز أن
يضيف مال غيره إليه لاختصاص له به بأن يكون عليه يد أو ولاية قال الله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي يجعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم) وقال سبحانه في النساء (ولا تخرجوهن من بيوتهن) وقال لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقرن في بيوتكن) فلا يبطل إقراره مع احتمال صحته فإن قال أردت هبة قبل منه لأنه محتمل، وإن امتنع من تقبيضها لم يجبر عليه لأن الهبة فيها لا تلزم قبل القبض وكذلك يخرج إذا قال له نصف داري هذه أوله من داري نصفها، وقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين قال في رواية منها فيمن قال نصف عبدي هذا لفلان لم يجز إلا أن يقول وهبته وإن قال نصف مالي هذا لفلان لا أعرف هذا، ونقل ابن منصور إذا قال فرسي هذه لفلان فإقراره جائز فظاهر هذا صحة الإقرار فإن قال له في هذا المال نصفه فإقراره جائز وإن قال له في هذا المال نصفه أو له(5/321)
نصف هذه الدار فهو إقرار صحيح وإن قال له في هذا المال ألف صح، وإن قال في ميراثي من أبي ألف وقال أردت هبة قبل منه لأنه إذا أضاف الميراث إلى أبيه فمقتضاه ما خلفه فيتقضي وجوب المقربه فيه وإذا أضاف الميراث إلى نفسه فمعناه ما ورثته وانتقل إلي فلا تحمل إلا على الوجوب وإذا أضاف إليه جزءاً فالظاهر أنه جعل له جزءاً في ماله (مسألة) (وإن قال له في ميراث أبي ألف فهو دين على التركة) لأن لفظه يقتضي ذلك (مسألة) (وإن قال نصف هذه الدار فهو مقر بنصفها) لما ذكرنا (مسألة) (وإن قال له هذه ادار عارية ثبت لها حكم العارية) لا قراره بذلك (مسألة) (وإن أقر أنه وهب أو رهن أو قبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال ما قبضت ولا أقبضت وسأل اخلاف خصمه فهل تلزمه اليمين؟ على وجهين) وذكر شيخنا في كتاب المغني روايتين (إحداهما) لا يستحلف وهو قول أبي حنيفة ومحمد لأن دعواه تكذيب لا قراره فلا تسمع كما لو أقر المضارب أنه ربح الفاثم قال غلطت ولأن الإقرار أقوى من البينة، ولو شهدت البينة ثم قال أحلفوه لي مع بينة لم يستحلف كذاههنا (والثانية) يستحلف وهو قول الشافعي وأبي يوسف لأن العادة جارية في الإقرار بالقبض قبله فيحتمل صحة ما قاله فينبغي أن يستحلف
خصمه لنفي الاحتمال ويفارق الإقرار البينة من وجهين(5/322)
(أحدهما) إن العادة جارية بالإقرار بالقبض قبله ولم تجر العادة بالشهادة على القبض قبلها لأنها تكون شهادة زور (والثاني) إنكاره مع الشهادة طعن في البينة وتكذيب لها وفي الإقرار بخلافه ولم يذكر القاضي في المجرد غير هذا الوجه، وكذلك إن أقر أنه اقترض منه ألفاً وقبضها أو قال له على ألف ثم قال ما كنت قبضتها وانها أقررت لأقبضها فالحكم كذلك ولأنه يمكن أن يكون قد أقر بذلك بناء على قول وكيله وظنه والهشادة لا تجوز إلا على اليقين (مسألة) (وإن باع شيئاً ثم أقر أن المبيع لغيره لم يقبل قوله على المشتري) لأنه يقر على غيره ولا ينفسخ البيع لذلك وتلزمه غرامته للمقر له لانه ق فوته عليه بالبيع وكذلك إن وهبه أو أعتقه ثم أقر به.
(مسألة) (وإن قال لم يكن ملكي ثم ملكته بعد لم يقبل قوله) لأن الأصل أن الإنسان إنما يتصرف فيما له التصرف فيه الا إن يقيم بينة فيقبل ذلك فإن كان قد أقر أنه ملكه أو قال قبضت ثمن ملكي أو نحوه لم تسمع بينته أيضاً لأنها تشهد بخلاف ما أقربه (فصل) إذا قال له هذه الدارهبة أو سكنى أو عارية كان إقراراً بما أبدل به كلامه ولم يكن إقراراً بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله فصح كما لو اقر بجملة واستثنى بعضها وذكر القاضي في هذا وجهاً أنه لا يصح لأنه استثناء من غير الجنس وليس هذا استثناء إنما هو بدل الاشتمال وهو أن يبدل من الشئ(5/323)
بعض ما يشتمل عليه ذلك الشئ كقوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) فإنه أبدل القتال من الشهر المشتمل عليه، وقال تعالى إخباراً من فتى موسى عليه السلام أنه قال (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) أي أنساني ذكره وإن قال له هذه الدار ثلثها أو ربعها صح ويكون مقراً بالجزء الذي أبدله وهذا بدل البعض وليس ذلك استثناء ومنه قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ولكنه في معنى الاستثناء في كونه يخرج من الكلام بعض ما دخل فيه لولاه
ويفارقه في أنه يجوز أن يخرج أكثر من النصف وأنه يجوز ابدال الشئ من غيره إذا كان مشتملا عليه الا ترى أن الله تعالى أبدل المستطيع للحج من الناس وهو أقل من نصفهم وأبدل القتال من الشهر الحرام وهو غيره؟ ومتى قال له هذه الدار سكنى أو عارية ثبت فيها حكم ذلك وله أن يسكنه إياها وأن يعود فيما أعاره والله أعلم (فصل) إذا قال بعتك جاريتي هذه قال بل زوجتنيها فلا يخلو إما أن يكون اختلافهما قبل نقده الثمن أو بعده وقبل الاستيلاد أو بعده فإن كان بعد اعتراف البائع بقبض الثمن فهو مقربها لمدعي الزوجية لأنه يدعي عليه شيئاً والزوج ينكرانها ملكه ويدعي حلها بالزوجية فيثبت الحل لاتفاقهما عليه ولا ترد إلى البائع لاتفاقهما أنه لا يستحق أخذها وإن كان قبل قبض الثمن وبعد الاستيلاد فالبائع يقرأنها صارت ام ولدولدها حروانه لا مهر لها ويدعي الثمن والمشتري ينكر ذلك كله فيحكم بحرية الولد لإقرار من ينسب(5/324)
إليه ملكه بحريته ولا ولاء عليه لاعترافه بأنه حر الأصل، ولا ترد الأمة إلى البائع لاعترافه بأنها أم ولد لا يجوز نقل الملك فيها ويحلف المشتري إنه ما اشتراها ويسقط عنه الثمن الاقدر المهر فإنه يجب لاتفاقهما على وجوبه وإن اختلف في سببه، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم يتحالفان ولا يجب مهر ولا ثمن وهو قول القاضي إلا أنه لا يجعل على البائع يميناً لأنه لا يرى اليمين في إنكار النكاح، ونفقة الولد على أبيه لأنه حر ونفقة الأمة على زوجها لأنه اما زوج واما سيد وكلاهما سبب لوجوب النفقة وقال القاضي نفقتها في كسبها فان كان فيه فضل فهي موقوفة لأننا أزلنا عنها ملك السيد وأثبتنا لها حكم الاستيلاد فإن ماتت وتركت مالاً فللبائع قدر ثمنها لأنه إما أن يكون صادقاً فهو يستحق على المشتري ثمنها وتركتها للمشتري والمشتري مقر للبائع بها فيأخذ منها قدر ما يدعيه وإن كان كاذباً فهي ملكه وتركتها كلها له فيأخذ منها قدر ما يدعيه وبقيته موقوفة، وإن ماتت بعد الوطئ فقد ماتت حرة وميراثها لولدها وورثتها فإن لم يكن لها وارث فميراثها موقوف لان أحدالا يدعيه وليس للسيد أن يأخذ منه قدر الثمن لأنه يدعي الثمن على الواطئ وميراثها ليس له لأنه قد مات قبلها وإن كان اختلافهما قبل الاستيلاد فقال شيخنا عندي أنها تقبر في يد الزوج لاتفاقهما على حلها له واستحقاقه إمساكها وإنما
اختلفا في السبب ولا ترد إلى السيد لاتفاقهما على تحريهما عليه وللبائع أقل الأمرين من الثمن أو المهر لاتفاقهما على استحقاقه لذلك والأمر في الباطن على ذلك فإن السيد إن كان صادقاً فالأمة حلال(5/325)
لزوجها بالبيع وإن كان كاذباً فهي حلال له بالزوجية والقدر الذي اتفقا عليه إن كان السيد صادقاً فهو يستحقه ثمنا وإن كان كاذباً فهو يستحقه مهراً وقال القاضي يحلف الزوج أنه ما اشتراها لأنه منكر ويسقط عنه الثمن ولا يحتاج السيد إلى اليمين على نفي الزوجية لأنه لا يستحلف فيه وعند الشافعي يتحالفان معاً ويسقط الثمن عن الزوج لأن البيع ما ثبت ولا يجب المهر لأن السيد لا يدعيه وترد الجارية إلى سيدها وفي كيفية رجوعها وجهان (أحدهما) ترجع إليه فيملكها ظاهراً وباطناً كما يرجع البائع في السلعة عند فلس المشتري بالثمن لأن الثمن ههنا قد تعذر فيحتاج السيد أن يقول فسخت البيع وتعود إليه ملكاً (والثاني) يرجع إليه في الظاهر دون الباطن لأن المشتري امتنع من أداء الثمن مع إمكانه فعلى هذا يبيعها الحاكم ويوفيه ثمنها فإن كان وفق حقه أو دونه أخذه وإن زاد فالزيادة لا يديعها أحد، ولان المشتري يقر بها للبائع والبائع لا يدعي أكثر من الثمن الأول فهل تقر في يد المشتري أو ترجع الى بيت المال؟ يحتمل وجهين، وإن رجع البائع فقال صدق خصمي ما بعته إياها بل زوجته لم يقبل في إسقاط حرية الولد ولا في استرجاعها أن صارت أم ولد وقبل في إسقاط الثمن واستحقاق ميراثها وميراث ولدها وإن رجع الزوج ثبتت الحرية ووجب عليه الثمن (فصل) ولو أقر رجل بحرية عبد ثم اشتراه أو شهد رجلان بحرية عبد لغيرهما ثم اشتراه أحدهما من سيده عتق في الحال لاعترافه بأن الذي اشتراه حر ويكون البيع صحيحاً بالنسبة إلى البائع لأنه(5/326)
محكوم له برقه وفي حق المشتري استفاذا فإذا صار في يديه حكم بحريته لاقراره السابق ويصير كما لو شهد رجلان على رجل أنه طلق زوجته ثلاثاً فرد الحاكم شهادتهما فدفعا إلى الزوج عوضاً ليخلعها صح وكان في حقه خلعاً صحيحاً وفي حقهما استخلاصاً، ويكون ولاؤه موقوفاً لأن أحداً لا يدعيه فإن البائع يقول ما أعتقته والمشتري يقول ما أعتقه إلا البائع وأنا استخلصته فإن مات وخلف مالا فرجع
أحدهما عن قوله فالمال له لأن أحداً لا يدعيه سواه لأن الراجع إن كان البائع فقال فقال المشتري كنت أعتقته فالولاء له ويلزمه رد الثمن إلى المشتري لإقراره ببطلان البيع وإن كان الراجع المشتري قبل في المال لأن أحداً لا يدعيه سواه ولا يقبل قوله في نفي الحرية لأنها حق لغيره وإن رجعا معاً فيحتمل أن يوقف حتى يصطلحا عليه لأنه لأحدهما ولا نعرف عينه ويحتمل أن من هو في يده يأخذه ويحلف لأنه منكر وإن لم يرجع واحد منهما ففيه وجهان (أحدهما) يقر في يد من هو في يده فإن لم يكن في يد أحدهما فهو لبيت المال لأن أحداً لا يدعيه ويحتمل أن يكون لبيت المال على كل حال (فصل) ولو أقر لرجل بعبد أو غيره ثم جاء به وقال هذا الذي أقررت لك به قال بل هو غيره لم يلزمه تسلميه إلى المقر له لأنه لا يدعيه ويحلف المقر أنه ليس له عنده عبد سواه فإن رجع المقر له فادعاه لزمه دفعه إليه لأنه لا منازع له فيه وان قال المقر له صدقت والذي أقررت به آخر لي عندك لزمه تسليم هذا ويحلف على نفي الآخر(5/327)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (وإذا قال غصبت هذا العبد من زيد لابل من عمرو أو غصبته من زيد وملكه لعمرو لزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو إذا قال غصبت هذا العبد من زيد لابل من عمر وحكم به لزيد ولزمه تسليمه إليه ويغرم لعمرو وبهذا قال أبو حنيفة وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال في الآخر لا يضمن لعمرو شيئاً ولنا أنه أقر بالغصب الموجب للضمان والرد إلى المغصوب منه ثم لم يرد ما أقر بعضه فلزمه ضمانة كما لو تلف بفعل الله تعالى قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل قال لرجل استودعتك هذا الثوب قال صدقت ثم قال استودعنيه رجل آخر فالثوب للأول ويغرم قيمته للآخر ولا فرق بين أن يكون إقراره بكلام متصل أو منفصل.
(مسألة) (وإن قال ملكه لعمرو وغصبته من زيد فهي كالمسألة التي قبلها) ولا فرق بين التقديم والتأخير والمتصل والمنفصل وقيل يلزمه دفعه إلى عمرو يغرمه لزيد لأنه لما أقربه لعمرو أولا لم يقبل إقراره باليد لزيد قال شيخنا وهذا وجه حسن ولأصحاب الشافعي
وجهان كهذين، ولو قال هذا الألف دفعه إلي زيد وهي لعمرو أو قال هو لعمرو ودفعه الي زيد فكذلك على ما مضى من القول فيه (مسألة) (وإن قال غصبته من أحدهما أو هو لأحدهما صح الإقرار)(5/328)
لأنه يصح بالمجهول فصح للمجهول ثم يطبالب بالبيان فإن عين أحدهما دفع إليه ويحلف للآخران ادعاه ولا يغرم له شيئاً لأنه لم يقر له بشئ، وإن قال لا أعرف عينه فصدقاه نزع من يده وكانا خصمين فيه وإن كذباه فعليه اليمين أنه لا يعلم وينزع من يده فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم تكن بينة أقرعنا بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه، وإن بين الغاصب بعد ذلك مالكها قبل منه كما لو بينه ابتداء ويحتمل أنه إذا إدعى كل واحد أنه المغصوب منه توجهت عليه اليمين لكل واحد منهما إنه لم يغصبه فإن حلف لأحدهما لزمه دفعها إلى الآخر لأن ذلك يجري مجرى تعيينه وإن نكل عن اليمين لهما جميعاً فسلمت إلى أحدهما بقرعة أو غيرها لزمه غرمها للآخر لأنه نكل عن يمين توجهت عليه فقضى عليه كما لو إدعاها وحده (فصل) وإن كان في يده عبدان فقال أحد هذين لزيد طولب بالبيان فاذاعين أحدهما فصدقه زيد أخذه وإن قال هذا لي والعبد الآخر فعليه اليمين في الذي ينكره وإن قال زيد إنما لي العبد الآخر فالقول قول المقر مع يمينه في العبد الذي ينكره ولا يدفع إلى زيد العبد الذي يقر به له ولكن يقر في يد المقر لأنه لم يصح إقراره به في أحد الوجهين، وفي الآخر ينزع من يده لاعترافه إنه لا تملكه ويكون في بيت المال لانه لامالك له معروف فأشبه ميراث من لا يعلم وارثه، فإن أبى التعيين فعينه المقر له وقال هذا عبدي طولب بالجواب وإن أنكر حلف وكان بمنزلة تعيينه للآخر وإن نكل عن اليمين(5/329)
قضي عليه وإن أقر له فهو كتعيينه (فصل) إذا قال هذه الدار لزيد لابل لعمرو أو ادعى زيد على ميت شيئاً معيناً من تركته فصدقه ابنه ثم ادعاه عمرو فصدقه حكم به لزيد ووجب عليه غرامته لعمرو، وسنذكر ذلك
فيما بعد إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن أقر بألف في وقتين لزمه ألف واحد) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يلزمه ألفان كما لو قال له على ألف والف لا فربق بين أن يكون في وقت واحد أو أوقات أو مجلس واحد أو مجالس ولنا أنه يجوز أن يكون قد كرر الخبر عن الأول كما كرر الله الخبر عن إرساله نوحاً وهوداً وصالحاً وشعيباً وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ولم يكن المذكور في قصة غير المذكور في الأخرى كذا ههنا لأنه يجوز أن يكون المطلق هو الموصف أطلقه في حال ووصفه في حال وإن وصفه بصفة واحدة في المرتين كان تأكيداً لما ذكرنا (مسألة) (وإن أقر بألف من ثمن عبد ثم أقر بألف من ثمن فرس أو قرض لزمه ألفان) وكذلك إن قال ألف درهم سود وألف درهم بيض لأن الصفة اختلفت فهما متغايران (مسألة) (وإن ادعى رجلان دار في يد غيرهما شركة بينهما بالسوية فأقر لاحدهما بنفصها فالمقر به بينهما نصفان.(5/330)
وجملة ذلك إنهما إذا إدعيا أنهما ملكاها بسبب يوجب الاشتراك مثل أن يقولا ورثناها وابتعناها معاً فأقر المدعى عليه بنفصها فذلك لهما جميعاً لأنهما اعترفا أن الدار لهما مشاعة فإذا غصب غاصب نصفها كان منهما والباقي بينهما وإن لم يكونا ادعيا شيئاً يقتضي الاشتراك بل ادعى كل وحد منهما فأقر لأحدهما بما ادعاه لم يشاركه الآخر وكان على خصومته لأنهما لم يعترفا بالاشتراك، فإن أقر لأحدهما بالكل وكان المقر له يعترف للآخر بالنصف سلمه إليه وكذلك إن كان قد تقدم إقراره بالنصف وجب تسليمه إليه لأن الذي هي في يده قد اعترف له بها فصار بمنزلته فثبتت لمن يقر له وإن لم يكن اعترف للآخر وادعى جميعها أو ادعى أكثر من النصف فهو له، فإن قيل فكيف يملك جميعها ولم يدع إلا نصفها؟ قلنا ليس من شرط صحة الإقرار تقدم الدعوى بل متى اقر بشئ لإنسان فصدقة المقر له ثبت وقد وجد التصديق ههنا في النصف الذي لم يسبق دعواه، ويجوز أن يكون اقتصر
على دعوى النصف لأن له حجة به ولا النصف الآخر قد اعترف له به فادعى النصف الذي لم يعترف له به.
فان لم يصدقه في إقراره بالنصف الذي لم يدعه ولم يعترف به الآخر ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يبطل الإقرار لأنه أقر لمن لا يدعيه (الثاني) ينزعه الحاكم حتى يثبت لمدعيه ويؤجره ويحفظ أجرته لما لكه (والثالث) يدفع إلى مدعيه لعدم التنازع فيه ومذهب الشافعي في هذا الفصل على نحو ما ذكرنا(5/331)
(مسألة) (وإن قال في مرض موته هذا الألف لقطة فتصدقوا به لزم الورثة الصدقة بثلثه) قال أبو الخطاب إذا لم يكن له مال غيره لأنه جميع ماله والأمر بالصدقة وصية بجميع المال فلا يلزم منه إلا الثلث وحكي عن القاضي أنه يلزمهم الصدقة بجميعه لأن أمره بالصدقة به يدل على تعديه فيه على وجه يلزمهم الصدقة بجميعه فيكون ذلك إقراراً منه لغير وارث فيجب امتثاله (فصل) قال الشيخ رحمه الله (إذا مات رجل وخلف مائة فادعاها رجل فادعاها رجل فأقر ابنه له بها ثم ادعاها آخر فأقر له فهي للأول ويغرمها للثاني) وجملة ذلك أنه إذا ادعى زيد على ميت شيئاً معيناً من تركته فصدقه ابنه ثم ادعاه عمرو فصدقه أو قال هذه الدار لزيد لابل لعمرو حكم بها لزيد وعليه غرامتها لعمرو وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يغرم لعمرو شيئاً وهو قول أبي حنيفة لأنه أقر له بما وجب عليه الإقرار به وإنما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضمان ولنا أنه حال بين عمرو وبين ملكه الذي أقر له به بإقراره لغيره فلزمه غرمه كما لو شهد رجلان على آخر بإعتاق عبده ثم رجعا عن الشهادة أو كما لو رمى به في البحر ثم أقربه (مسألة) (وان أقربها لهما معاً فهي بينهما) لتساويهما في الدعوى والإقرار لهما(5/332)
(مسألة) (وإن أقر لأحدهما وحده فهي له ويحلف للآخر أنه لا يعلم أنها له وإن نكل فقضي عليه بالنكول) لأن النكول كالإقرار ولو أقر لزمه الغرم فكذلك إذا نكل عن اليمين
(مسألة) (وإن ادعى رجل على الميت مائة دينا فأقر له ثم ادعى آخر مثل ذلك فأقر له فان كان في مجلس واحد فهي بينهما وإن كان في مجلسين فهي للأول ولا شئ للثاني) وجملة ذلك أن الميت إذا خلف وارثاً وتركة فأقر الوارث لرجل بدين على الميت يستغرق الميراث فقد أقر بتعلق دينه بجميع التركة واستحقاقه لها فإذا اقر بعد ذلك لآخر وكان في المجلس صح الإقرار واشتركا في التركة لأن التركة حالة المجلس كحالة واحدة بدليل صحة القبض بها فيما يعتبر القبض فيه وإمكان الفسخ فيه ولحقوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار، وإن كان في مجلس آخر لم يقبل إقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة الأول في التركة وينقص حقه منها ولا يقبل اقرار الإنسان على غيره وقال الشافعي يقبل إقراره ويشتركان فيها لأن الوارث يقوم مقام الموروث ولو أقر الموروث لهما لقبل فكذلك الوارث ولأن منعه من الإقرار يفضي الى اسقاط حق الغرماء لأنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد فيبطل حقه بتعيينه ولأن من قبل اقراره اولا قبل إقراره ثانياً إذا لم تتغير حاله كالموروث.(5/333)
ولنا أنه إقرار بما يتعلق بمحل تعلق به حق غيره تعلقا يمنع تصرفه فيه على وجه يضربه فلم يقبل كإقرار الراهن بجناية على الرهن أو الجاني، وأما الموروث فإن أقرفي صحته صح لأن الدين لا يتعلق بماله وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك، وإن أقر في مرضه لغيرم يستغرق تركته دينه ثم أقر لآخر في مجلس آخر فاقرق بينهما أن إقراره الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يعلق به ديناً آخر بأن يستدين ديناً آخر فلم يمنع ذلك تعليق الدين بتركته بالإقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك أن يتعلق بالتركة ديناً آخر بفعله فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في التركة ما لم يلتزم قضاء الدين (مسألة) (وإن خلف ابنين ومائتين فادعى رجل مائة ديناً على الميت فصدقه أحد الابنين وأنكر الآخر لزم المقر نصفها) لأنه مقر على أبيه بدين ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه ولأنه يقر على نفسه وأخيه فلا يقبل إقراره على أخيه ويقبل على نفسه وفي ذلك اختلاف ذكرناه في أواخر كتاب الإقرار
(مسألة) (إلا أن يكون عدلا فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة وتكون المائة الباقية بين الابنين) وإنما لزم المقر نصف المائة لأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين لانه يقدر ميراثه ولو لزمه جميع الدين لم تقبل شهادته على أحد لكونه يدفع عن نفسه ضرراً ولأنه يرث نصف التركة فلزمه نصف الدين كما لو ثبت ببينة أو بإقرار الميت(5/334)
(مسألة) (وإن خلف ابنين وعبدين متساوي القيمة لا يملك غيرهما فقال أحد الابنين أبي أعتق هذا وقال الآخر بل أعتق هذا عتق من كل واحد ثلثه وصار لكل ابن سدس العبد الذي أقر بعتقه ونصف الآخر، وإن قال أحدهما أبي أعتق هذا وقال الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من هو منهما أقرع بينهما فإن وقعت على من اعترف الابن بعتقه عتق ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كاملا وإن وقعت على الآخر كان حكمه كما لو عين العتق في العبد سواء) .
هذه المسألة محمولة على أن العتق كان في مرض الموت الخوف أو بالوصية لأنه لو اعتقه في صحته عتق كله ولم يقف على إجازة الورثة، فإذا اعترفا أنه عتق أحدهما في مرضه لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يعينا العتق في أحدهما فيعتق منه ثلثاه لأن ذلك ثلث جميع ماله إلا أن يجيزا عتق جميعه فيعتق (الثاني) أن يعين كل منهما العتق في واحد غير الذي عينه أخوه فيعتق من كل واحد ثلثه لأن كل واحد منهما حقه نصف العبدين فيقبل قوله في عتق حقه من الذي عينه وهو ثلثا النصف الذي له وذلك الثلث ولا نه يعترف بحرية ثلثيه فيقبل قوله في حقه منهما وهو الثلث ويبقى الرق في ثلثه فله النصف وهو السدس ونصف العبد الذي ينكر عتقه (الثالث) أن يقول أحدهما أبي أعتق هذا ويقول الآخر أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما فتقوم القرعة مقام تعيين الذي لم يعين فإن وقعت على الذي عينه أخوه عتق ثلثاه كما لو عيناه بقولهما وإن(5/335)
وقعت على الآخر كما لو عين كل واحد منهما عبداً يكون لكل واحد منهما سدس العبد الذي عينه ونصف العبد الذي ينكر عتقه ويصير ثلث كل واحد من العبدين حراً (الرابع) أن يقولا أعتق
أحدهما ولا ندري من منهما فإنه يقرع بين العبدين فمن وقت له القرعة عتق ثلثاه إن لم يجيزا عتق جميعه وكان الآخر رقيقاً (فصل) فإن رجع الابن الذي جهل عين العتق فقال قد عرفته قبل القرعة فهو كما لو عينه ابتداء من غير جهل وإذا كان بعد القرعة فوافقها تعيينه لم يتغير الحكم وإن خالفها عتق من الذي عينه ثلثه بتعيينه فإن عين الذي عينه أخوه عتق ثلثاه وإن عين الآخر عتق منه ثلثه وهل يبطل العتق في الذي عتق بالقرعة على وجهين (باب الإقرار بالمجمل) (إذا قال له علي شئ أو كذا قيل له فسر فإن أبى حبس حتى يفسر فإن مات أخذ وارثه بمثل ذلك إن خلف الميت شيئاً يقضي منه وإلا فلا) وجملة ذلك أنه إذا قال لفلان علي شئ أو كذا صح إقراره ولزمه تفسيره بغير خلاف، ويفارق(5/336)
الدعوى حيث لا تصح بالمجهول لكون الدعوى له والإقرار عليه فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله ولأن المدعي اذا لم يصحح دعواه فله داع إلى تحريرها والمقر لا داعي له إلى التحرير ولا يمكن رجوعه عن إقراره فيضيع حق المقر له فألزمناه إياه مع الجهالة فإن امتنع من تفسيره حبس حتى يفسر وقال القاضي يجعل ناكلا يؤمر المقر له بالبيان فإن بين شيئاً فصدقه المقر ثبت وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له إن بينت وإلا جعلناك ناكلا وقضينا عليك وهذا قول الشافعي إلا أنهم قالوا إن بنت وإلا أحلفنا المقر له على ما يدعيه وأو جبناه عليك فإن فعل وإلا أحلفنا المقر له وأوجبناه على المقر، ووجه الأول أنه ممتنع من حق عليه فحبس به كما لوعينه وامتنع من أدائه، ومع ذلك فمتى عينه المدعي وادعاه فنكل المقر فهو على ما ذكروه فإن مات من عليه الحق أخذ وارثه بمثل ذلك لأن الحق ثبت على موروثهم فتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة فلزمهم ما لزم موروثهم كما لو كان الحق معينا، وإن لم يخلف الميت تركة.
فلا شئ لى الورثة لأنهم ليس عليهم وفاء دين الميت إذا لم يخلف تركه كما لا يلزمهم في حياته، وذكر صاحب المحرر رواية أن الوارث إن صدق موروثه في إقراره أخذ به وإلا فلا والصحيح الأول قال
وعندي إن أبي الوارث أن يفسر وقال لاعلم لي بذلك حلف ولزمه من التركة ما يقع عليه الاسم فيما إذا وصى لفلان بشئ ويحتمل أن يكون حكم المقر كذلك إذا حلف أن لا يعلم كالوارث (مسألة) (وإن فسره بحق شفعة أو مال قبل وإن قل وإن فسره بمال كقشر جوزة أو ميتة أو(5/337)
خمر لم يقبل وإن فسره بكلب أو حد قذف فعلى وجهين) متى فسر المقر إقراره بما يتمول عادة قبل تفسيره ويثبت إلا أن يكذبه المقر له ويدعي جنسا آخر أولا يدعي شيئاً فيبطل إقراره، وإن فسره بمالا يتمول عادة كقشر جوزة أو قشر باذنجانة لم يقبل تفسيره لأن إقراره اعترف بحق عليه ثابت في ذمته وهذا لا يثبت في الذمة وكذلك أن فسره بما ليس بمال في الشرع كالخمر والميتة، وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه فكذلك، وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة غير مدبوغ ففيه وجهان (أحدهما) يقبل لأنه شئ يجب رده وتسليمه إليه فالإيجاب يتناوله (والثاني) لا يقبل لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه، وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها لم يقبل لأنه هذا لا يتمول عادة على انفراده، وإن فسره بحد قذف قبل لأنه حق يجب عليه وفيه وجه آخر أنه لا يقبل لأنه لا يؤول إلى مال والأول أصح لأن ما يثبت في الذمة يصح أن يقال هو علي ويصح تفسيره بحق شفعة لأنه حق واجب ويؤول إلى المال وإن فسره برد السلام أو تشميت العاطس ونحوه لم يقبل لأنه يسقط بفواته ولا يثبت في الذمة وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة ويحتمل أن يقبل تفسيره إذا أراد حقاً علي رد سلامه إذا سلم وتشميته إذا عطس لما روي في الخبر (للمسلم على المسلم ثلاثون حقاً يرد سلامه ويشمت عطسته ويجب دعوته) (مسألة) (وإن قال غصبت منه شيئاً ثم فسره بنفسه أو ولده لم يقبل) لأن الغصب لا يثبت عليه(5/338)
وإن أراد اني حبستك وسجنتك قبل ذكره في المحرر وإن فسره بما ليس بمال مما ينتفع به قبل لأن الغصب يشتمل عليه كالكلب وجلد الميتة لأنه قد يقهره عليه، وإن فسره بمالا نفع فيه أو مالا يباح الانتفاع به لم يقبل لأن أخذ ذلك ليس بغصب وهذا الذي ذكرناه في هذا الباب أكثره مذهب
الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزن لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه.
ولنا أنه مملوك يدخل تحت العقد فجازأن يفسر به الشئ في الإقرار كالمكيل والموزون ولأنه يثبت في الذمة في الجملة فصح التفسير به كالمكيل ولا عبرة بسبب ثبوته في الإخبار به والإخبار عنه (فصل) تقبل الشهادة على الإقرار بالمجهول لأن الإقرار به صحيح وما كان صحيحاً في نفسه صحت الشهادة به كالمعلوم (مسألة) (وإن قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل قبل تفسيره بالكثير والقليل) كما لو قال له على مال ولم يصفه وهذا قول الشافعي وحكي عن أبي حنيفة لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة لأن يقطع به السارق ويكون صداقاً عنده وعنه لا يقبل أقل من مائتي درهم وبه قال صاحباه لأنه الذي تجب فيه الزكاة وقال بعض أصحاب مالك كقولهم في المال ومنهم من قال يزيد على ذلك أقل زيادة منهم من قال قدر الدية وقال الليث بن سعد اثنان وسبعون لأن الله سبحانه وتعالى قال(5/339)
(لقد نصر كم الله في مواطن كثيرة) وكانت غزواته وسراياه اثنتين وسبعين قالوا ولأن الحبة لا تسمى مالا عظيما ولا كثيراً ولنا أن العظيم والكثير لاحد له في الشرع ولا اللغة ولا العرف ويختلف الناس فيه فمنهم من يستعظم القليل ومنهم من يستعظم الكثير ومنهم من يحتقر الكثير فلم يلبث في ذلك حد يرجع في تفسيره إليه ولأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه ويحتمل أنه أراد عظيماً لفقر نفسه ودناءتها وأما ما ذكروه فليس فيه تحديد الكثير وكون ما ذكروه كثيرا لايمنع الكثرة فيما دونه وقد قال الله تعالى (واذكروا الله كثيرا) فلم ينصرف إلى ذلك وقال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة فلم يحمل على ذلك والحكم فيما إذا قال عظيم جداً أو عظيم كما لو لم يقله لما قررناه (فصل) وإن أقر بمال قبل تفسيره بالقليل والكثير كالمسألة قبل هذا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بغير المال الزكوي لقول الله سبحانه (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
وتزكيهم بها) وقوله (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) وحكى بعض أصحاب مالك عنه ثلاثة أوجه الأول كقولنا والثاني لا يقبل الافي أول نصاب من نصب الزكاة من نوع أموالهم والثالث ما يقطع به السارق ويصح مهراً لقول الله تعالى (لن تبتغوا بأموالكم)(5/340)
ولنا أن غير ما ذكروه يقع عليه اسم المال حقيقة وعرفاً ويتمول عادة فيقبل تفسيره به كالذي وافقوا عليه وأما آية الزكاة فقد دخلها التخصيص وقوله تعالى (في أموالهم حق) لم يرد بها الزكاة لأنها نزلت بمكة قبل قرض الزكاة فلا حجة لهم فيها ثم يرد قوله تعالى (أن تبتغوا بأموالكم) والترويج جائز بأي نوع كان من المال وبما دون النصاب (مسألة) (وإن قال له علي دراهم كثيرة قبل تفسيره بثلاثة فصاعداً) أما إذا قال له علي دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع، وإن قال له دراهم كثيرة أو وافرة أو عظيمة لزمته ثلاثة أيضاً وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يقبل تفسيره بأقل من عشرة لأنها أقل جمع الكثرة وقال أبو يوسف لا يقبل أقل من مائتين لأن بها يحصل الغنى وتجب الزكاة ولنا أن الكثرة والعظمة لا حد لها شرعاً ولا لغة ولاعرفا وتختلف بالأوصاف وأحوال الناس فالثلاثة أكثر مما دونها وأقل مما فوقها ومن الناس من يستعظم اليسير ومنهم من لا يستعظم الكثير ويحتمل أن المقر أراد كثيرة بالنسبة إلى ما دونها أو كبيرة في نفسه فلا تجب الزدياة بالاحتمال (مسألة) (وإن قال له علي كذا درهم أو كذا وكذا درهم أو كذا كذا درهم بالرفع لزمه درهم) لأن تقديره شئ هو درهم وإن قال بالخفض لزمه بعض درهم لأن كذا يحتمل أن يكون جزءاً(5/341)
مضافاً إلى درهم ويرجع في تفسيره إليه إذا فسره بذلك لأنه محتمل (مسألة) (وإن قال كذا درهما بالنصب لزمه درهم) ويكون منصوباً على التمييز (مسألة) (وإن قال كذا وكذا درهما بالنصب فقال ابن حامد والقاضي يلزمه درهم) لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين كل واحد بعض درهم (وقال أبو الحسن التميمي يلزمه درهمان) لأنه
ذكر جملتين فسرهما بدرهم فيعود التفسير إلى كل واحدة منهما (كقوله عشرون درهماً) إذا قال كذا ففيه ثلاث مسائل (أحدها) أن يقول كذا بغير تكرير ولا عطف (الثانية) أن يكرر بغير عطف (الثالثة) أن يعطف فيقول كذا وكذا: فأما الأولى فإذا قال له على كذا درهم لم يخل من أربعة أحوال (أحدها) أن يقول له علي كذا درهم بالرفع فيلزمه درهم وتقديره شئ هو درهم فجعل الدرهم بدلامن كذا (الثاني) أن يقول درهم بالجر فيلزمه جزء درهم يرجع في تفسيره إليه والتقدير جزء درهم أو يعض درهم ويكون كذا كناية عنه (الثالث) أن يقول درهما بالنصف فيلزمه درهم ويكون منصوباً على التفسير وهو التمييز وقال بعض النحويين هو منصوب علي القطع كأنه قطع ما ابتدأ به وأقر بدرهم وهذا على قول الكوفيين (الرابع) أن يذكره بالوقف فيقبل تفسيره بجزء درهم أيضاً لأنه يجوز أن يكون أسقط حركة(5/342)
الجر للوقف وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي يلزمه درهم في الحالات كلها وهو قول بعض أصحاب الشافعي.
ولنا أن كذا اسم مبهم فصح تفسيره بجزء درهم في حال الجر والوقف (المسألة الثانية) (إذا قال كذا كذا بغير عطف فالحكم فيها كالحكم في كذا بغير تكرير سواء) لا يتغير ولا يقتضي تكريره الزيادة كأنه قال شئ مشئ ولأنه إذا قاله بالجر احتمل أن يكون قد أضاف جزءاً إلى جزء ثم أضاف الجزء الأخير إلى الدرهم فقال نصف سبع درهم وهكذا لو قال كذا كذا لأنه يحتمل أن يرد ثلث خمس تسع درهم ونحوه (المسألة الثالثة) (إذا عطف فقال كذاوكذا درهم بالرفع لزمه درهم واحد) لأنه ذكر شيئين ثم أبدل منهما درهماً فصار كأنه قال هما درهم، وإن قال درهماً بالنصب ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه درهم واحد وهو قول أبي عبد الله بن حامد والقاضي لأن كذا يحتمل أقل من درهم فإذا عطف عليه مثله ثم فسرهما بدرهم واحد جاز وكان كلاماً صحيحاً وهذا يحكي قولاً للشافعي (الثاني) يلزمه درهمان وهو اختيار أبي الحسن التميمي لأنه ذكر جملتين فإذا فسر ذلك بدرهم عاد التفسير إلى كل واحد كقوله عشرون درهماً يعود النفسير إلى العشرين كذا ههنا وهذا يحكي قولا ثابنا للشافعي (الثالث) يلزمه أكثر من درهم ولعله
ذهب إلى أن الدرهم تفسير للجملة التي تليه فيلزمه بها درهم والأولى باقية على إبهامها فيرجع في تفسيرها إليه وهذا يشبه قول التميمي، وقال محمد بن الحسن إذا قال كذا درهماً لزمه عشرون درهماً لأنه أقل(5/343)
عدداً يفسر بالواحد المنصوب، وإن قال كذا كذا درهماً لزمه أحد عشر درهماً لأنه أقل عدد مركب يفسر بالواحد المنصوب، وإن قال كذا وكذا رهما لزمه أحد وعشرون درهماً لأنه أقل عدد عطف بعضه على بعض يفسر بذلك وإن قال كذا درهم بالجر لزمه مائة لأنه أقل عدد يضاف إلى الواحد وحكي عن أبي يوسف أنه قال كذا كذا أو كذا وكذا يلزمه بهما أحد عشر درهماً ولنا أنه يحتمل ما قلنا ويحتمل ما قالوا فوجب المصير إلى ما قلنا لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك كما لو قال علي دراهم لم يلزمه إلا أقل الجمع ولا يلزم كثرة الاستعمال فإن اللفظ إذا كان حقيقة في الأمرين جاز التفسير بكل واحد منهما، وعلى ما ذكره محمد يكون اللفظ المفرد يوجب أكثر من المكرر فإنه يجب بالمفرد عشرون وبالمركب أحد عشر ولا نعرف لفظاً مفرداً متناولاً لعدد صحيح يلزم به أكثر مما يلزم بمكرره (مسألة) (وإن قال له على ألف رجع في تفسيره إليه فإن فسره بأجناس قبل منه) لأنه يحتمل ذلك (مسألة) (وإن قال له على ألف ودرهم أو ألف ودينار أو ألف وثوب أو فرس أو درهم وألف أو دينار وألف فقال ابن حامد والقاضي الألف من جنس ما عطف عليه) وبه قال أبو ثور وقال التميمي وأبو الخطاب يرجع في تفسير الألف إليه لأن الشئ يعطف على غير جنسه قال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) ولأن الألف مبهم فيرجع(5/344)
في تفسيره إلى المقر كما لو لم يعطف عليه، وقال أبو حنيفة إن عطف على المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيراً له، وإن عطف مذروعاً أو معدوداً لم يكن تفسيراً لأن علي للإيجاب في الذمة فإذا عطف عليه ما يثبت في ذمته بنفسه كان تفسيراً له كقوله مائة وخمسون درهماً ولنا أن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى قال الله تعالى (ولبثوا في كهفهم
ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا) وقال تعالى (عن اليمين وعن الشمال قعيد) ولأنه ذكر مبهماً مع تفسير لم يقم الدليل على أنه من غير جنسه فكان المبهم من جنس المفسر كما لو قال مائة وخمسون درهماً أو ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، يحققه أن المبهم يحتاج إلى التفسير وذكر التفسير في الجملة المقارنة له يصلح أن يفسره يوجب حمل الأمر على ذلك، وأما قوله أربعة أشهر وعشرا فإنه امتنع أن تكون العشر أشهر الوجهين (أحدهما) أن العشر بغير هاء عدد للمؤنث والأشهر مذكرة فلا يجوز أن تعد بغير هاء (والثاني) أنها لو كانت أشهراً لقال أربعة عشر شهراً بالتركيب لا بالعطف كما قال (عليها تسعة عشر) وقولهم إن الألف مبهم قلنا قرن به ما يدل على تفسيره فأشبه مالو قال مائة وخمسون درهماً أو مائة ودرهم عند أبي حنيفة فإن قيل إذا قال مائة وخمسون درهماً فالدرهم ذكر للتفسير ولهذا لا يراد به العدد فصلح تفسير الجميع ما قبله بخلاف قوله مائة ودرهم فإنه ذكر الدرهم للإيجاب لا للتفسير بدليل أنه زاد به العدد قلنا هو صالح للإيجاب والتفسير معاً والحاجة داعية إلى التفسير فوجب حمل الأمر على ذلك صيانة لكلام المقر عن الإلباس والإبهام وصرفاً له إلى البيان والإفهام، وقول أبي حنيفة أن علي للإيجاب قلنا فمتى عطف ما يجب بها على ما لا يجب وكان أحدهما مبهماً والآخر مفسراً وأمكن تفسيره به وجب أن يكون المبهم من جنس المفسر، فأما إن لم يكن من جنس المفسر مثل أن يعطف عدد المذكر(5/345)
على المؤنث أو بالعكس ونحو ذلك فلا يكون أحدهما من جنس الآخر ويبقى المبهم على إبهامه كما لو قال له أربعة دراهم وعشر (مسألة) (وإن قال له على ألف وخمسون درهماً أو خمسون وألف درهم فالجميع دراهم) ويحتمل على قول التميمي أن يرجع في تفسير الألف إليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وكذلك إن قال ألف وثلاثة دراهم أو مائة وألف درهم والصحيح الأول فإن الدرهم المفسر يكون تفسيراً لجميع ما قبله من الجمل المبهمة وجنس العدد قال الله تعالى مخبراً عن أحد الخصمين أنه قال (إن هذا أخي له تسع وتسعون تعجة) وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة وقال عنترة:
فيهان إثنتان وأربعون حلوبة * سودا كخافية العراب الأسحم ولأن الدرهم ذكر تفسيراً ولهذا لا يجب به زيادة على العدد المذكور فكان تفسيراً لجميع ما قبله ولأنها تحتاج إلى تفسير وهو صالح لتفسيرها فوجب جمله على ذلك وهذا المعنى موجود في قوله ألف وثلاثة دراهم وسائر الصور المذكورة، فعلى قول من لا يجعل المجمل من جنس المفسر لو قال بعتك هذا بمائة وخمسين درهماً أو بخمسة وعشرين درهماً لا يصح وهو قول شاذ ضعيف لا يعول عليه وإن قال له على ألف درهم إلا خمسين فالمستثنى دراهم لأن العرب لا تستثني في الإثبات إلا من الجنس (مسألة) (وهذا اختيار ابن حامد والقاضي وقال أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب يكون الألف مبهماً يرجع في تفسيره إليه وهو قول مالك والشافعي) لأن الاستثناء عندهما يصح من غير الجنس ولأن لفظه في الألف مبهم والدرهم لم يذكر تفسيراً له فبقي على إبهامه.(5/346)
ولنا أنه لم يرد عن العرب الاستثناء في الإثبات إلا من الجنس فمتى علم أحد الطرفين علم أن الآخر من جنسه كما لو علم المستثنى منه وقد سلموه علته تلازم المستثنى والمستثنى منه في الجنس فما ثبت في أحدهما ثبت في الآخر فعلى قول ابي الحسن التميمي وأبي الخطاب يسئل عن المستثنى فان فسره بغير الجنس بطل الإستثناء وعلى قول غيرهما ينظر في المستثنى إن كان مثل المستثنى منه أو أكثر يبطل في الأصح (فصل) وإن قال له تسعة وتسعون درهماً فالجميع دراهم ولا أعلم فيه خلافاً وكذلك إن قال مائة وخمسون درهماً وخرج بعض أصحابنا وجهاً أنه لا يكون تفسيراً إلا لما يليه وهو قول بعض أصحاب الشافعي (مسألة) (وإن قال له في هذا العبد شركة أو هو شريكي فيه أو هو شركة بينهما رجع إلى تفسير نصيب الشريك إليه) وقال أبو يوسف يكون مقراً بنصفه لقول الله تعالى (فهم شركاء في الثلث) فاقتضى ذلك التسوية بينهم كذا ههنا.
ولنا أن أي جزء كان له منه فله فيه شركة فكان له تفسيره بما شاء كالنصف وليس إطلاق لفظ الشركة على ما دون النصف مجازاً ولا مخالفاً للظاهر والآية ثبتت التسوية فيها بدليل آخر، وكذلك الحكم اذا قال هذا العبد شركة بيننا وإن قال له فيه سهم فكذلك وقال القاضي يحمل على السدس كالوصية (مسألة) (وإن قال له على أكثر من مال فلان قيل له فسرفان فسره بأكثر منه قدر اقبل وإن قال أردت أكثر بقاء نفعا لأن الحلال أنفع من الحرام قبل قوله مع يمينه) سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أولم يذكره أما إذا فسره بأكثر منه قدراً فإنه يقبل تفسيره ويلزمه أكثر منه وتفسر الزيادة بما يريد من قليل أو كثير ولو حبة حنطه، ولو قال ما علمت لفلان أكثر من كذا وقامت البينة بأكثر منه لم يلزمه(5/347)
أكثر مما اعترف به لأن مبلغ المال حقيقة لا تعرف في الأكثر وقد يكون ظاهراً وباطنا يملك ما يعرفه المقر فكان المرجع إلى ما اعتقده المقر مع يمينه إذا ادعى عليه أكثر منه وان فسره بأقل من ماله مع علمه بماله لم يقبل، وقال أصحابنا يقبل تفسيره بالكثير والقليل وهو مذهب الشافعي سواء علم مال فلان أو جهله أو ذكر قدره أولم يذكره أو قاله عقيب الشهادة بقدره أولاً لأنه لا يحتمل أنه أكثر منه بقاء أو منفعة أو بركة لكونه من الحلال أو لأنه في الذمة، قال القاضي ولو قال لي عليك ألف دينار فقال لك على أكثر من ذلك لم يلزمه أكثر منها لأن لفظة أكثر مبهمة لإحتمالها ما ذكرنا ويحتمل أنه أراد أكثر منه فلوساً أو حبة حنطة أو شعير أو دخن فيرجع في تفسيرها إليه وهذا بعيد فإن لفظة أكثر إنما تستعمل حقيقة في العدد أو في القدر وينصرف إلى جنس ما أضيف أكثر إليه لا يفهم في الإطلاق غير ذلك قال الله تعالى (كانوا أكثر منهم) وأخبر عن الذي قال (أنا أكثر منك مالا وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا) والإقرار يؤخذ فيه بالظاهر دون مطلق الاحتمال، ولهذا لو أقر بدراهم لزمه أقل الجمع جيادا صحاحاً وازنة حاله ولو قال له على دراهم لم يقبل تفسيرها بالوديعة ولو رجع إلى مطل الإحتمال سقط الإقرار وإحتمال ما ذكروه أبعد من هذه الإحتمالات التي لم يقبلوا تفسيره بها فلا يعول على هذا (مسألة) (ولو ادعى عليه ينا فقال لفلان علي اكثر ممالك، وقال أردت التهزئ لهما لزمه ويرجع
في تفسيره إليه في أحد الوجهين) وفي الآخر لا يلزمه شئ لأنه أقر لفلان بحق موصوف بالزيادة على مال المدعي فيجب عليه ما أقربه لفلان ويجب للمدعي حق لأن لفظه يقتضي أن يكون له شئ، وفي الآخر لا يلزمه شئ لأنه يجوز أن يكون أراد حقك على أكثر من حقه والحق لا يختص بالمال(5/348)
(فصل) إذا قال له على ألف إلا شيئاً قبل تفسيره بأكثر من خمسمائة لأن الشئ يحتمل الكثير والقليل لكن لا يجوز استثناء الأكثر فيتعين حمله على ما دون النصف، وكذلك إن قال إلا قليلاً لأنه مبهم فأشبه قوله إلا شيئاً وإن قال له على معظم ألف أو جل ألف أو قريب من ألف لزمه اكثر من نصف الألف ويحلف على الزيادة إن ادعيت عليه (فصل) وإن قال له على ما بين درهم وعشرة لزمته ثمانية لأن ذلك ما بينهما وان قال من درهم إلى عشرة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه تسعة وهذا يحكى عن أبي حنيفة لأن من لابتداء الغاية وأول الغاية منها وإلى لانتهاء الغاية فلا تدخل فيها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (والثاني) تلزمه ثمانية لان الاول والعاشر حدان فلا يدخلان في الاقرار ويلزمه ما بينهما كالتي قبلها.
(والثالث) تلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيها كالأول وكما لو قال قرأت القرآن من أوله الى آخره، وإن قال أردت بقولي من واحد إلى عشرة مجموع الأعداد كلها أي الواحد والإثنان كذلك إلى العشرة لزمه خمسة وخمسون درهماً وإختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو واحد على العشرة فيصير أحد عشر ثم اضربها في نصف العشرة فما بلغ فهو الجواب (مسألة) (وإن قال له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم أو فوقه أو تحته أو قبله أو بعده أو معه درهم أو درهم ودرهم أو درههم بل درهمان أو درهمان بل درهم لزمه درهمان) إذا قال له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم أو معه درهم أو مع درهم فقال القاضي يلزمه درهم وهو أحد قولي الشافعي لأنه يحتمل فوق درهم في الجودة أو فوق درهم لي وكذلك تحت درهم، وقوله معه درهم يحتمل معه درهم لي وكذلك مع درهم فلم يجب الزائد بالإحتمال، وقال أبو الخطاب يلزمه درهمان وهو القول الثاني للشافعي
لأن هذا اللفظ يجري مجرى العطف لكونه يقتضي ضم درهم آخر لايه وقد ذكر ذلك في سياق الإقرار(5/349)
فالظاهر أنه إقرار، ولأن قوله علي يقتضي في ذمتي وليس للمقر في ذمة نفسه درهم مع درهم المقر له ولا فوقه ولا تحته فإنه لا يثبت للإنسان في ذمة نفسه شئ، وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قال فوق درهم لزمه درهمان لأن فوق يقتضي في الظاهر الزيادة وإن قال تحت درهم لزمه درهم لأن تحت يقتضي النقص.
ولنا إن حمل كلامه على معنى العطف فلا فرق بينهما وإن حمل على الصفة للدرهم المقر به وجب أن يكون المقر به درهماً واحداً سواء ذكره بما يقتضي زيادة أو نقصاً، وإن قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان فإن قال قبله درهم وبعده درهم لزمه ثلاثة لأن قبل وبعد تستعمل للتقديم والتأخير (مسألة) (وإن قال له علي درهم ودرهم أو درهم فدرهم أو درهم ثم درهم لزمه درهمان) وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه، وذكر القاضي وجها فيما إذا قال درهم فدرهم وقال أردت درهم فدرهم لازم لي أنه يقبل منه وهو قول الشافعي لأنه يحتمل الصفة ولنا أن الفاء أحد حروف العطف الثلاثة فأشبهت الواو وثم ولأنه عطف شيئاً على شئ بالفاء فاقتضى ثبوتهما كما لو قال أنت طالق فطالق وقد سلمه الشافعي، وما ذكروه من إحتمال الصفة بعيد لا يفهم حالة الإطلاق فلا يقبل تفسيره به كما لو فسر الدراهم المطلقة بأنها زيوف أو صغار أو مؤجلة، وإن قال له على درهم ودرهم ودرهم لزمته ثلاثة وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه إذا قال أردت بالثالث تأكيد الثاني وبيانه أنه يقبل وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الثالث في لفظ الثاني وظاهر مذهبه أنه تلزمه الثلاثة لأن الواو للعطف وهو يقتضي المغايرة فوجب أن يكون الثالث غير الثاني كما كان الثاني غير الأول والإقرار لا يقتضي تأكيداً فوجب حمله على العدد، وكذلك الحكم(5/350)
إذا قال علي درهم فدرهم اودرهم ثم درهم ثم درهم فإن قال له على درهم ودرهم ثم درهم أو درهم
فدرهم ثم درهم أو درهم ثم درهم فدرهم لزمته الثلاثة وجهاً واحداً لأن الثالث مغاير للثاني لاختلاف حرفي العطف الداخلين فلم يحتمل التأكيد (مسألة) (فإن قال له علي درهم بل درهمان أو درهم لكن درهمان لزمه درهمان وبه قال الشافعي وقال زفر وداود تلزمه ثلاثة لأن بل للإضراب فلما أقر بدرهم وأضرب عنه لزمه لأنه لا يقبل رجوعه عما أقر به ولزمه الدرهمان اللذان اقربهما ولنا أنه إنما نفى الإقتصار على واحد وأثبت الزيادة عليه فأشبه مالو قال له على درهم بل أكثر فإنه لا يلزم أكثر من اثنين.
(مسألة) (وإن قال له علي درهمان بل درهم أو درهم لكن درهم فهل يلزمه درهم أو درهمان؟ على وجهين) ذكرهما أبو بكر (أحدهما) يلزمه درهم واحد لأن أحمد قال فيمن قال لامرأته أنت طالق بل أنت طالق أنها لا تطلق إلا واحدة وهذا مذهب الشافعي لأنه أقر بدرهم مرتين فلم يلزمه أكثر من درهم كما لو أقر بدرهم ثم أنكره ثم قال بل علي درهم، ولكن للاستدراك فهي في معنى بل إلا أن الصحيح إنها لا تستعمل إلا بعد الجحد إلا أن يذكر بعدها الجة (والوجه الثاني) يلزمه درهمان ذكره ابن أبي موسى وأبو بكر عبد العزيز ويقتضيه قول زفر وداود لأن ما بعد الإضراب يغاير ما قبله فيجب ان يكون الدرهم الذي أضرب عنه غير الدرهم الذي اقربه بعده فيجب الإثبات كما لو قال له علي درهم بل دينار ولأن بل من حروف العطف والمعطوف غير المعطوف عليه فوجبا جميعاً كما لو قال له علي درهم ودرهم ولأنا لو لم نوجب عليه الادرهما جعلنا كلامه لغواً وإضرابه غير مفيد والأصل في كلام العاقل أن يكون مفيداً.(5/351)
(مسألة) (ولو قال له على هذا الدرهم بل هذان الدرهمان لزمته الثلاثة) لا نعلم في ذلك خلافاً لأنه متى كان الذي أضرب عنه لا يمكن أن يكون المذكور بعده ولا بعضه مثل أن يقول له علي درهم بل دينار أو قفيز حنطة بل قفيز شعير لزمه الجميع لأن الأول لا يمكن أن يكون الثاني ولا بعضه فكان مقراً بهما ولا يقبل رجوعه معن شئ منهما وكذلك كل جملتين أقر بإحداهما ثم رجع إلى الاخرى لزماه
(مسألة) (وإن قال درهم في دينار لزمه درهم وإن قال له على درهم في عشرة لزمه درهم إلا أن يريد الحساب فيلزمه عشرة، أما إذا قال له عندي درهم في دينار فإنه يسئل عن مراده فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزمه الدرهم والدينار وإن قال أسلمته في دينار فصدقة المقر له بطل إقراره لأن سلم أحد النقدين في الآخر لا يصح وإن كذبه فالقول قول المقر له لأن المقر وصل إقراره بما يسقطه فلزمه درهم وبطل قوله في دينار وكذلك إن قال له درهم في ثوب وفسره بالسلم أو قال في ثوب إشتريته منه إلى سنة فصدقه بطل إقراره لأنه إن كان بعد التفرق بطل السلم وسقط الثمن وإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار بين الفسخ والإمضاء وإن كذبه المقر له فالقول قوله مع يمينه وله الدرهم وأما اذا قال درهم في عشرة وقال أردت في عشرة لي لزمه درهم لأنه يحتمل ما يقول وإن قال أردت الحساب لزمه عشرة وإن قال أردت مع عشرة لزمه أحد عشر لأن كثيراً من العوام يريدون بهذا اللفظ هذا المعنى فإن كان من أهل الحساب احتمل أن لا يقبل لأن الظاهر من الحساب إستعمال ألفاظه في معاينها في إصطلاحهم ويحتمل أن يقبل فإنه لا يمتنع أن يستعمل إصطلاح العامة (مسألة) (وإن قال هل عندي تمر في جراب أو سكين في قراب أو ثوب في منديل أو عبد عليه عمامة أو دابة عليها سرج فهل يكون مقراً بالمظروف دون الظرف؟ وجهان) (أحدهما) يكون مقراً بالمظروف دون الظرف وهذا اختيار ابن حامد ومذهب مالك والشافعي لأن إقراره يتناول الظرف فيحتمل أن يكون في ظرف للمقر فلم يلزمه (والثاني) يلزمه الجميع لأنه ذكر ذلك في سياق الإقرار فلزمه كما لو قال له علي خاتم فيه فص وكذلك إن قال غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتاً في زق، وإختار شيخنا فيما إذا قال عبد عليه عمامة أن يكون مقراً بهما وهو قول أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة في الغصب يلزمه ولا يلزمه في بقية الصور لأن المنديل يكون ظرفاً للثوب فالظاهر أنه ظرف له في حال الغصب فصار كأنه قال غصبت ثوباً ومنديلا(5/352)
ولنا أنه يحتمل أن يكون المنديل للغاصب وهو ظرف للثوب فيقول غصبت ثوبا في منديل ولو قال هذا لم يكن مقرا بغصبه فإذا أطلق كان محتملاً له فلم يكن مقراً بغصبه كما لو قال غصبت دابة في إصطبلها
(مسألة) (وإن قال له عندي خاتم فيه فص فهو مقر بهما) لأن الفص جزء من الخاتم فأشبه مالو قال له على ثوب فيه علم ويحتمل أن يخرج على الوجهين فيكون مقراً بالخاتم وحده، وإن قال فص في بالخاتم احتمل وجهين، فإن قال له عندي خاتم وأطلق لزمه الخاتم بفصة لأن إسم الخاتم بفصة لأن إسم الخاتم يجمعهما وكذلك إن قال له علي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه لما ذكرنا.
(فصل) وإن قال له عندي دار مفروشة أو دابة مسرجة أو عبد عليه عمامة ففيه أيضاً وجهان ذكرناهما وقال أصحاب الشافعي تلزمه عمامة العبد دون السرج لأن العبد يده على عمامته ويده كيد سيده ولا يد للدابة والدار.
ولنا أن الظاهر أن سرج الدابة لصاحبها وكذلك لو تنازع رجلان سرجاً على دابة أحدهما كان لصاحبها فهو كعمامة العبد فأما إن قال له عندي دابة بسرجها أو دار بفرشها أو سفينة بطعامها كمان مقرابهما بغير خلاف لأن الباء تعلق الثاني بالأول (مسألة) (وإن قال له علي درهم أو دينار لزمه أحدهما يرجع في تفسيره إليه) لأن أو وإما في الخبر الشك وتقتضي أحد المذكورين لاهما فإن قال له على إما درهم وإما درهمان كان مقرا بدرهم والثاني مشكوك فيه فلا يلزم بالشك(5/353)
كتاب العارية وهي مشتقة من عار الشئ إذا ذهب وجاء ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته، والعرب تقول أعاره وعاره مثل أطاعه وطاعه، وهي إباحة الإنتفاع بعين من أعيان المال، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى ويمنعون الماعون روي عن ابن عباسن وابن مسعود قالا العوراي وفسرها ابن مسعود قال القدر والميزان والدلو.
وأما السنة فروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته في حجة الوداع (العارية مؤداة والمنحة مزدودة والدين مقتضي والزعيم غارم) قال الترمذي حديث حسن غريب وروى صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعاً يوم حنين فقال أغصباً يا محمد؟ قال (بل عارية مضمونة) رواه أبو داود
وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها ولأنه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ولذلك صحت الوصية بالاعيان والمنافع جميعا، وهي مندوب إليها غير واجبة في قول أكثر أهل العلم وقيل هي واجبة للآية ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مامن صاحب ابل لايؤدي حقها) الحديث قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال (إعارة دلوها وإطراق فحلها ومنحة لبنها يوم ورودها) فذم الله تعالى(5/354)
مانع العارية وتوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكره في خبره ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) رواه ابن المنذر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس في المال حق سوى الزكاة) وفي حديث الإعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فرض الله علي من الصدقة؟ أو قال الزكاة، قال هل علي غيرها؟ قال (لا، إلا أن تتطوع شيئاً) أو كما قال والآية فسرها ابن عمر والحسن بالزكاة وكذلك زيد بن أسلم وقال عكرمة إذا جمع ثلاثتها فله الويل إذا سها من الصلاة وراءى ومنع الماعون.
(فصل) ولا تجوز إلا من جائز التصرف لأنه تصرف في المال أشبه البيع وتنعقد بكل لفظ أو فعل يدل عليها كقوله أعرتك هذا، أو يدفع اليه شيئاً ويقول أبحتك الانتفاع به أو خذ هذا فانتفع به أو يقول أعرني هذا أو أعطنيه أركبه أو أحمل عليه فيسلمه إليه وأشباه هذا لأنه إباحة للتصرف فصح بالقول والفعل الدال عليه كإباحة الطعام بقوله وتقديمه إلى الضيف.
(مسألة) (وهي هبة منفعه تجوز في كل المنافع إلا منافع البضع) تجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام كالدور والعيبد والجواري والدواب والثياب والحلي للبس والفحل للضراب والكلب للصيد وغير ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار ادراعا وذكر إعارة دلوها وفلها وذكر ابن مسعود عارية القدر والميزان فثبت الحكم في هذه الأشياء(5/355)
وما عداها يقاس عليها إذا كان في معناها ولأن ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع ملك إباحته إذا لم يمنع منه مانع كالثياب ويجوز إستعارة الدراهم والدنانير للوزن فإن استعارها لينفقها فهو قرض
وهذا قول أصحاب الرأي، وقيل لا يجوز ذلك ولا تكون العارية في الدنانير وليس له أن يشتري بها شيئاً ولنا أن هذا معنى القرض فانعقد القرض به كما لو صرح به فأما منافع البضع فلا تستباح بالبذل ولا بالإباحة إجماعاً وإنما يباح بأحد شيئين الزوجية وملك اليمين قال الله سبحانه (والذين هم لفروجهم حافظهون * الاعلى أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) ولأن منافع البضع لو ابيجت بالبذل والعارية لم يحرم الزنا لأن الزانية تبذل نفعها له والزاني مثلها (مسألة) (ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر) لأنه لا يجوز تمكينه من استخدامه فلم تجز عاريته لذلك ولا تجوز إعارة الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه (مسألة) (ويكره إعارة الأمة الشابة لرجل غير محرمها) إن كان يخلو بها وينظر إليها لأنه لا يؤمن عليها فإن كانت شوهاء أو كبيرة فلا بأس لأنها لا يشتهى مثلها وتجوز إعارتها لامرأة ولذي محرمها لعدم ذلك، ولا تجوز إعارة العين لنفع محرم كاعارة الدر لمن يشرب فيها الخمر أو يبيعه أو يعصي الله تعالى فيها أو لااعارة عبد للزمر أو لسقيه الخمر أو يحملها إليه أو يعصرها ونحو ذلك لأنه إعانة على المحرم (مسألة) (واستعارة والديه للخدمة) لأنه يكره استخدامهما فكر استعارتهما لذلك(5/356)
(مسألة) (وللمعير الرجوع فيها متى شاء ما لم يأذن في شغلها بشئ يستضر المستعير برجوعه) تجوز العارية مطلقة ومؤقتة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وللمعير الرجوع فيها متى شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك إن كانت مؤقتة فليس له الرجوع قبل الوقت وإن لم يوقت له مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها لأن المعير قد ملكه المنفعة مدة وصارت العين في يده بعقد مباح فلم يملك الرجوع فيها بغير رضى المالك كالعبد الموصى بخدمته والمستأجر ولنا أن المافع المستقبلة لم تحصل في يده فلم يملكها بالإعارة كما لو لم تحصل العين في يده ولأن المنافع إنما تستوفى شيئاً فشيئاً فكلما استوفى منفعة فقد قبضها والذي لم يستوفه لم يقبضه فجاز الرجوع فيه كالهبة قبل القبض، وأما العبد الموصى بخدمته فلموصي الرجوع ولم يلمك الورثة الرجوع لأن التبرع من غيرهم وأما المستأجر فهو مملوك بعقد معاوضة فيلزم بخلاف مسئلتنا، ويجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه لأنه إباحة فكان لمن أبيح له تركه كالباحة الطعام
(مسألة) (فإن أذن له في شغله بشئ يستضر المستعير برجوعه فيه لم يجز له الرجوع) لما فيه من اضرار بالمستعير مثل أن يعيره سفينة لحمل متاعه أو لوحا يرقع به سفينة فرقعها به ولحج في البحر لم يجز الرجوع ما دامت في لجة البحر لذلك وله الرجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه لعدم الضرر (مسألة) (وإن أعاره أرضا للدفن لم يرجع حتى يبلى الميت)(5/357)
وله الرجوع فيها قبل الدفن وليس له الرجوع بعد الدفن حتى يصير الميت رميا قاله ابن البنا (مسألة) (وإن أعاره حائط ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع مادام عليه) إذا أعاره حائطاً ليضع عليه أطراف خشبه جاز كما تجوز إعارة الأرض للغراس والبناء وله الرجوع قل الوضع وبعده ما لم بين عليه لانه لاضرر عليه فيه فإن بنى عليه لم يجز الرجوع لما في ذلك من هدم البناء وإن قال أنا أدفع إليك ما ينقص بالقطع لم يلزم المستعير ذلك لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه ولا يجب على المستعير قلع شئ من ملكه بضمان القيمة (مسألة) (وإن سقط عنه لهدم أو غيره لم يملك رده) سواء بنى الحائط بآلة أو بغيرها لأن العارية لا تلزم وإنما امتنع الرجوع قبل انهدامه لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة المأذون في وضعه وقد زال ذلك بإنهدامه وسواء زال الخشب عنه بذلك أو أزاله المستعير باختياره وكذلك لو زال الخشب والحائط بحاله (مسألة) (وإن أعاره أرضاً للزرع لم يرجع إلى الحصاد إلا أن يكون مما يحصد قصلا فيحصده) إذا أعاره أرضاً للزرع فله الرجوع ما لم يزرع فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها الى أن ينتهي الزرع فإن بذل المعير له قيمة الزرع ليمكله فلم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأن له وقتاً ينتهي إليه فإن كان مما يحصد قصيلا فله الرجوع في وقت إمكان حصاده لعدم الضرر فيه(5/358)
(مسألة) (وإن أعارها للغراس والبناء شرط عليه القطع في وقت أو عند رجوعه ثم رجع لزمه القلع) لقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون على شروطهم) حديث صحيح ولأن العارية مقيدة غير مطلقة فلم تتناول ما عدا المقيد لأن المستعير دخل في العارية راضيا با لتزام الضرر الداخل عليه بالقطع وليس على صاحب الأرض
ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافاً فأما تسوية الحفر فإن كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا وإلا لم يلزمه لأنه رضي بضرر القطع من الحفر ونحوه بشرط القلع (مسألة) (وإن لم يشترط لم يلزمه إلا أن يضمن له المعير النقص) فإذا لم يشترط المعير القلع لم يلزم المستعير القلع لما فيه من الضرر عليه فإن ضمن له النقص لزمه لأنه رجوع في العارية من غير إضرار فإن قلع فعليه تسوية الأرض وكذلك إن اختار أخذ بنائه وغراسه فإنه يملكه فملك نقله لأن القلع باختياره لو امتنع منه لم يجبر عليه قلعه لاستخلاص ملكه من ملك غيره فلزمته التسوية كالشفيع إذا أخذ غرسه وقال القاضي لا يلزمه ذلك لأن المعير رضي بذلك حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه الذي لا يمكن إلا بالحفر (مسألة) (فإن أبى القلع في الحال التي لا يجبر عليه فيها فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه أجبر المستعير عليه) كالشفيع مع المشتري والمؤجر مع المستأجر فإن قال المستعير أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يلزم المعير لأن الغراس والبناء تابع والأرض أصل ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ولا تتبعهما وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع(5/359)
قبل انقضائها لأن المعير لم يغره فكان عليه القطع كما لو شرط عليه ولنا أنه بنى وغرس بإذن المعير من غير شرط القطع فلم يلزمه القلع من غير ضمان كما لو طالبه قبل انقضاء الوقت وقولهم لم يغره ممنوع فإن الغراس والبناء يراد للتبقية وتقدير المدة ينصرف إلى ابتدائه كأنه قال لا تغرس بعد هذه المدة (مسألة) (فإن امتنع المعير من دفع القيمة وارش النقص وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر لم يقلع) لأن العارية تقتضي الإنتفاع بغير ضمان والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضى بالإبقاء ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) مفهومه أن العرق الذي ليس بظالم له حق فبعد ذلك ان اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها وبنائها ودفع مالى كل واحد منهما قدر حقه فيقال كم قيمة الأرض بلا غراس ولابناء فإذا قيل عشرة قلنا وكم تساوي مغروسة مبنية فإن قالوا خمسة عشر فيكون للمعير ثلثا
الثمن وللمستعير ثلثه (مسألة) (وإن أبيا البيع ترك بحاله) وقلنا لهما انصرفا فلا حكم لكما عندنا (مسألة) (وللمعير النصرف في أرضه على وجه لا يضر بالشجر) وجملته أن للمعير التصرف في أرضه (مسألة) ودخولها والإنتفاع بها كيف شاء بما لا يضر بالغراس والبناء ولا ينتفع بهما، وللمتسعير الدخول للسقي والإصلاح وأخذ الثمرة وليس.
له الدخول لغير حاجة من التفرج ونحوه لأنه قد رجع في الإذن له(5/360)
ولأن الإذن في الغرس إذن فيما يعود بصلاحه ولكل واحد منهما بيع ما يختص به مع الملك ومنفرداً فيقوم المشتري مقام البائع، وقال بعض الشافعية ليس للمستعير البيع لأن ملكه في الشجر والبناء غير مستقر لأن للمير أخذه منه متى شاء بقيمته قلنا عدم استقراره لا يمنع بيعه بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول (مسألة) (ولم يذكر أصحابنا أجرة من حين الرجوع في هذه المسائل) إلا فيما إذا استعار أرضاً فزرعها ورجع المعير فيها قبل كمال الزرع فعليه أجر مثلها من حين الرجوع لأن الأصل جواز الرجوع وإنما منع القلع لما فيه من الضرر ففي دفع الأجر جمع بين الحقين فيخرج في سائر السمائل مثل هذا، وفيه وجه آخر انه لا يجب الأجر في شئ من المواضع لأن حكم العارية باق فيه لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها والإعارة تقتضي الإنتفاع (مسألة) (وإن غرس أو بنى بعد الرجوع أو بعد الوقت فهو غاصب يأتي حكمه) العارية تنقسم قسمين مطلقة ومؤقتة تبيح الإنتفاع ما لم ينقضي الوقت لأنه استباح ذلك بالإذن ففيها عدا محل الإذن يببقى على أصل المنع فإن كان المعار أرضاً لم يكن له أن يغرس ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت أو الرجوع فإن فعل شيئاً من ذلك فهو غاصب يأتي حكمه في باب لغصب(5/361)
(فصل) يجوز أن يستعير دابة ليركبها إلى موضع معلوم لأن إجارتها جائزة والإعارة أوسع لجوازها فيما لا تجوز إجارته كالكلب للصيد، فإن استعارها إلى موضع فجاوزه فقد تعدى وعليه أجر المثل
للزائد خاصة وان اختلفا فقالا لمالك أعرتكها إلى فرسخ وقال المستعير إلى فرسخين فالقول قول المالك وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله وعليه الضمان.
ولنا أن المالك مدعى عليه فكان القول قوله لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ولكن اليمين على المدعى عليه) (مسألة) (وإن حمل السيل بذراً إلى أرض فنبت فيها فهو لصاحبه) ولا يجبر على قعله وقال أصحاب الشافعي يجبر عليه في أحد الوجهين إذا طالبه رب الأرض لأن ملكه حصل في ملك غيره بغير إذنه فأشبه مالو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك غيره ولنا أن قلعه إتلاف للمال عنى مالكه ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك كما لو حصلت دابته في دار غيره على وجه لا يمكن خروجها إلا بقلع الباب أو قتلها فانهلا يجبر على قتلها، ويفارق أغصان الشجرة فنه يدوم ضرره ولا يعرف قدر ما يشغل في الهواء فيؤدي أجره إذا ثبت هذا فإنه يقر في الأرض إلى حين حصاده بأجر مثله وقال القاضي لا أجر عليه لأنه حصل في أرض غيره بغير تفريطه أشبه ما إذا باتت دابته في أرض إنسان بغير تفريطه والأول أولى لأن إلزامه(5/362)
تبقية زرع ما أذن فيه في أرضه بغير أجر ولا انتفاع إضرار به وشغل لملكه بغير اختياره فلم يجز كما لو أراد إبقاء البهيمة في دار غيره عاماً، ويفارق مبيتها لأن ذلك لا يجبر المالك عليه ولا يمنع من إخراجها فإذا تركها اختياراً منه كان راضياً به بخلاف مسئلتنا ويكون الزرع لمالك البذر لأنه عين ماله ويحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته كزرع الغاصب على ما نذكره والأول أولى لأنه بغير عدوان وقد أمكن جبر حق مالك الأرض بدفع الأجر إليه، وإن احب مالكه قعله فله ذلك وعليه تسوية الحفر وما نقصت لأنه أدخل النقص على ملك غيره لا ستصلاح ملكه (مسألة) (وإن حمل السيل نوى غرس رجل فنبت في أرض غيره كالزيتون ونحوه فهو لمالك النوى) لأنه من نماء ملكه فهو كالزرع ويجبر على قلعه ههنا لأن ضرره يدوم فهو كأغصان الشجرة المنتشرة في هواء ملك غيره، وهل يكون كغرس الشفع أو كغرس الغاصب؟ على وجهين (أحدهما)
يكون كغرس الغاصب لأنه حصل في ملك غيره بغير إذنه (الثاني) كغرس الشفيع لأنه حصل في ملك غيره بغير تفريط منه ولا عدوان.
(فصل) وإن حمل السيل ارضا بشجرها فنبتت في أرض آخركما كانت فهي لمالكها يجبر على إزالتها كما ذكرنا وفي كل ذلك إذا ترك صاحب الأرض المنتقلة أو الشجر أو الزرع ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها لم يلزمه نقله ولا أجره ولا غيره لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه وكانت الخيرة(5/363)
إلى صاحب الأرض المشغولة به إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه.
(فصل) قال رضي الله عنه (وحكم المستعير في استيفاء المنفعة حكم المستأجر) لأنه ملك التصرف بقول المالك وإذنه فأشبه المستأجر لأنه ملكه بإذنه فوجب أن يملك ما يقتضيه الاذن كالمتسأجر، فعلى هذا إن أعاره للغراس والبناء فله أن يزرع ما شاء وإن استعارها للزرع لم يغرس ولم بين وإن استعارها للغرس أو البناء ملك المأذن له فيه منها دون الآخر لأن ضررهما مختلف، وكذلك إن استعارها لزرع الحنطة فله زرع الشعير وقد ذكرنا ذلك مفصلا في الإجارة وكذلك إن أذن له في زرع مرة لم يكن له أن يزرع أكثر منها وإن أذن له في غرس شجرة فانقلعت لم يملك غرس أخرى لأن الاذن اختص بشئ لم يجاوزه.
(فصل) ومن استعار شيئاً فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله لأن وكيله نائب عنه ويده كيده، وليس له أن يؤجره إلا أن يأذن فيه لأنه لم يملك المنافع فلم يكن له أن يملكها ولا نعلم في هذا خلافاً ولا خلاف بينهم أن المستعير لا يملك العين وأجمعوا على ان للمستعير استعمال المعار فيما أذن له فيه (فصل) وليس له أن يرهنه بغير إذن مالكه، وله ذلك باذنه بشروط ذكرناها في باب الرهن ولا يصير المعير ضامناً للدين وقال الشافعي يصير ضامناً في رقبة عبده في أحد قوليه لأن العارية ما يستحق به منعفة العين والمنفعة ههنا للمالك فدل على أنه ضمان(5/364)
ولنا إنه أعاره ليقضي منه حاجته فلم يكن ضامناً كسائر العواري وإنما يستحق بالعارية النفع المأذون
فيه وما عداه من النفع فهو لمالك العين.
(مسألة) (والعارية مضمونة بقيمتها يوم التلف وإن شرط نفي ضمانها سواء تعدى المستعير فيها أولم يتعد) روى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وهو قول الشافعي واسحاق، وقال الحسن والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة ومالك والاوزاعي وابن شبرمة: هي أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المستعير غير المغل ضمان) ولأنه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة، قالوا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مؤداة) يدل على أنه أمانة لقول الله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) .
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بل عارية مضمونة، وروى الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفعه منفرداً بنفعه من غير استحقاق ولا إذن في الإتلاف فكان مضموناً كالمغصوب والمأخوذ على وجه السوم وحديثهم يرويه عمر بن عبد الجبار عن عبيد بن حسان عن عمرو بن شعيب وعمر وعيبد ضعيفان قاله الدار قطعي ويحتمل أنه أراد ضمان المنافع والأجر وقياسهم منقوض بالمقبوض على وجه السوم.(5/365)
(فصل) وإن شرط نفي الضمان لم يسقط وبه قال الشافعي وقال أبو حفص العكبري يسقط قال أبو الخطاب أو ما إليه أحمد وبه قال قتادة والعنبري لأنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها وقيل بل مذهب قتادة والعنبري أنها لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها فيجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان (بل عارية مضمونة) ولنا أن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد وما اقتضى الأمانة فكذلك كالوديعة والشركة والمضاربة والذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم إخبار بصفة العارية وحكمها، وفارق ما إذا إذن في الإتلاف فإن الإتلاف فعل يصح فيه الإذن ويسقط حكمه إذ لا ينعقد موجباً للضمان
مع الإذن فيه وإسقاط الضمان ههنا نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك للمالك ولا يملك الإذن فيه (فصل) وتضمن بقيمتها يوم التلف إلا على الوجه الذي يجب فيه ضمان الأجزاء التالفة بالإنتفاع المأذون فيه فإنه يضمنها بقيمتها قبل تلف أجزائها إن كانت قيمتها حينئذ أكثر وإن كانت أقل ضمنها بقيمتها يوم تلفها على الوجهين جميعاً ويضمنها بمثلها إن كانت مثلية (مسألة) (وكل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه لأن مقتضى العقد كونه أمانة فإذا شرط ضمانه فقد التزم ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه كما لو اشترط ضمان الوديعة أو ضمان مال في يد(5/366)
مالكه وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه لأن مقتضى العقد الضمان فإذا شرط نفي ضمانه لا ينتفي مع وجود سببه كما لو اشترط نفي ضمان ما يتعدى فيه وعن أحمد أنه ذكر له ذلك فقال المؤمنون على شروطهم وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه والأول ظاهر المذهب لما ذكرناه (مسألة) (وإن تلفت أجزاؤها بالإستعمال كخمل المنشفة فعلى وجهين) وجملة ذلك أن المستعير إذا انتفع بالعارية ثم ردها على صفتها فلا شئ عليه لأن المنافع مأذون في إتلافها فلا يجب عوضها وان تلف شئ من أجزائها التي لا تذهب بالإستعمال ضمنه لأن ما تضمن جملته تضمن أجزاؤه كالمغصوب فأما أجزاؤها التي تذهب بالإستعمال كخمل المنشفة والقطيفة ففيه وجهان (أحدهما) يجب ضمانه لأنه أجزاء عين مضمونة فوجب ضمانها كالمغصوب ولأنها أجزاء يجب ضمانها لو تلفت العين قبل استعمالها فتضمن إذا تلفت وحدها كالأجزاء التي لا تتلف بالاستعمال (والثاني) لا يضمنها وبه قال الشافعي لأن الاذن في الاستعمال تضمنه فلا يجب ضمانه كالمنافع وكمالو أذن في إتلافها صريحا وفارق ما إذا تلفت العين قبل استعمالها لأنه لا يمكن تمييزها من العين ولأنه إنما أذن في إتلافها على وجه الانتفاع فإذا تلفت قبل ذلك فقد فاتت على غير الوجه الذي أذن فيه فضمنها كما لو أجر العين المستعارة فإنه يضمن منافعها فإن قلنا لا يضمن الأجزاء فتلفت العين بعد ذهابها بالإستعمال قومت حال التلف لأن الأجزاء التالفة تلفت غير مضمونة لكونها مأذوناً في إتلافها فلا يجز تقويمها عليه وإن قلنا تضمن الأجزاء قومت العين قبل(5/367)
تلف أجزائها فإن تلفت الأجزاء باستعمال غير مأذون فيه كمن استعار ثوبا ليلبسه فحمل فيه تراباً فإنه يضمن نقصه ومنافعه لأنه تلف بتعديه وإن تلفت بغير تعد منه ولا استعمال كتلفها بمرور الزمان الطويل عليها ووقوع نار فيها ضمن ما تلف بالنار ونحوها لأنه تلف لم يتضمنه الاستعمال المأذون فيه فهو كتلفها بفعل لم يأذن فيه وما تلف بطول الزمان كالذي تلف بالاستعمال لأنه تلف بالإمساك المأذون فيه فأشبه تلفه بالفعل المأذون فيه (فصل) ولا يجب ضمان ولد العارية في أحد الوجهين لأنه لم يدخل في الإعارة فلم يدخل في الضمان ولا فائدة للمستعير فيه أشبه الوديعة ويضمن في الآخر لأنه ولد عين مضمونة أشبه ولد المغصوبة والأول أصح فإن ولد المغصوبة لا يضمن إذا لم يكن مغصوباً وكذلك العارية إذا لم يؤخذ مع أمه (مسألة) (وليس للمستعير أن يعير) وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وفي الآخر له ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنه يملكه على حسب ما ملكه فجاز كإجارة المستأجر ويحتمل أن يكون مذهب لاحمد في العارية المؤقتة بناء على كونه إذا أعاره أرضه سنة ليبني فيها لم يحل الرجوع قبل السنة لأنه قد ملك المنفعة فجازت له إعارتها كالمتسأجر بعقد لازم وحكاه صاحب المجرد قولا لاحمد، وقال أصحاب الرأي إذا استعار ثوباً ليلبسه فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن وإن لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه وقال مالك إذا لم يعمل بها إلا الذي أعيرها فلا ضمان عليه ولنا أن العارية إباحة المنفعة فلا يجوز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام وفارق الإجارة فإنه ملك(5/368)
الانتفاع على كل وجه فملك أن يملكها وفي العارية لم يملكها إنما ملك استيفاءها على وجه ما أذن فيه فأشبه من أبيح له أكل الطعام.
فعلى هذا إن أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل وله أن يطالب من شاء منهما لأن الأول سلط غيره على أخذ مال غيره بغير إذنه والثاني استوفاه بغير إذنه فإن ضمن الأول رجع على الثاني لأن الإستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عله وإن ضمن الثاني لم يرجع على الأول إلا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل أن يستقر الضمان على الأول لأنه غر الثاني ودفع إليه العين على أنه يستوفي منافعها بغير عوض
(مسألة) (وإن تلفت عند الثاني فللمالك تضمين أيهما شاء) لما ذكرنا ويستقر الضمان على الثاني بكل حال لأنه قبضها على أنها مضمونة عليه فإن ضمن الأول رجع الأول على الثاني ولا يرجع الثاني إن ضمنه على أحد (مسألة) (وعلى المستعير مؤنة رد العارية) لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مؤداة) وقوله (على اليد ما أخذت حتى ترده) قال الترمذي هذا حديث حسن، ويجب ردها إلى المعير أو الوكيل في قبضها ويبرأ بذلك من ضمانها وإن ردها الى المكان الذي أخذها منه أو الى ملك صاحبها لم يبرأ من ضمانها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يبرأ لأنها صارت كالمقبوضة فإن رد العواري في العادة يكون إلى أملاك أربابها فيكون مأذوناً فيه عادة(5/369)
ولنا أنه لم يردها إلى مالكها ولا نائبه فيها فلم يبرأ منها كما لو دفعها إلى أجنبي وما ذكره يبطل بالسارق إذا رد المسروق إلى الحرز ولا نسلم أن العادة ما ذكر (مسألة) (وإن رد الدابة إلى إصطبل المالك أو غلامه لم يبرأ إلا بردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده كالسائس ونحوه) قد ذكرنا في المسألة قبلها الاردها الى المكان الذي أخذها منه، وإن ردها إلى زوجته المتصرفة في ماله أو رد الدابة إلى سائسها فقال القاضي يبرأ في قياس المذهب لأن أحمد قال في الوديعة اذا سلمها إلى امرأته لم يضمها لأنه مأذون في ذلك أشبه مالو أذن فيه نطقاً (فصل) ومن استعار شيئا فانتع به ثم ظهر مستخقا فلما لكنه أجر مثله يطالب به من شاء منهما فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم لأنه غره بذلك وغرمه لأنه دخل عن أنه لا أجرة عليه وإن ضمن المعير لم يرجع على أحد لأن الضمان استقر عليه قال أحمد في قصار دفع ثوباً إلى غير صاحبه فلبسه فالضمان على القصار دون اللابس وسنذكره في الغصب إن شاء الله تعالى.
(فصل) وإن اختلفا فقال أجرتك قال بل أعرتي عقيب العقد والبهيمة قائمة فالقول قول الراكب إذا اختلف رب الدابة والراكب فقال الراكب هي عارية وقال المالك أكريتكها(5/370)
وكانت الدابة باقية لم تنقص وكان الإختلاف عقيب العقد فالقول قول الراكب مع يمينه لأن الأصل براءة ذمته منها لأن الأصل عدم عقد الإجارة ويرد الدابة إلى مالكها وكذلك إذا ادعى المالك أنها عارية وقال الراكب قد اكريتنيها فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرنا (مسألة) (وإن كان بعد مضي مدة لها أجرة فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها) حكي ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي القول قول الراكب وهو منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضاً لها والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه.
ولنا أنهما اختللفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب فكان القول قول المالك كما لو اختلفا في عين ققال المالك بعتكها وقال الآخر وهبتنيها ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا ههنا وما ذكروه يبطل بهذه المسألة ولأنهما اتفقا على أن المنافع لا تنتقل الى الراكب إلا بنقل المالك لها فيكون القول قول في كيفية الإنتقال كالأعيان فيحلف المالك ويستحق الأجر (مسألة) (وهل يستحق أجر المثل أو المدعي إذا زاد عليها؟ على وجهين) (أحدهما) أجر المثل لأنهما لو اتفقا على وجوبه واختفافي قدره وجب أجر المثل فمع الإختلاف في أصله أولى (والثاني) المسمى لأنه وجب بقول المالك ويمينه فوجب ما حلف عليه كالأصل والأول أصح لأن الإجارة لا تثبت بدعوى المالك بغير بينة وإنما يستحق بدل النفعة وهو أجر المثل وقيل يلزمه أقل الأمرين لأنه إن كان المسمى أقل ققد رضي به وإن كان أكثر فليس له إلا أجر المثل لأن الإجارة لم تثبت وإنما يكون القول قول المالك إذا اختلفا في أثناء المدة فيها مصى منها وأما فيما قي فالقول قول المستعير لأن ما بقي بمنزلة ما لو اختلفا(5/371)
عقيب العقد وإن ادعى المالك في هذه الصورة أنها عارية وادعى الآخر بأجرة فهو يدعي استحقاق المنافع ويعترف بالأجر للمالك والمالك ينكر ذلك كله فالقول قوله مع يمينه فيحلف ويأخذ بهيمته (مسألة) (وإن اختلفا بعد تلف الدابة فقال المالك أعرتك وقال الراكب بل أجرتني فالقول قول المالك إذا كان قبل مضي مدة لها أجرة) سواء ادعى الإجارة أو العارية لأنه إن ادعى الإجارة
فهو معترف للراكب ببراءة ذمته من ضمانها فيقبل إقراره على نفسه، وإن ادعى الإعارة فهو يدعي قيمتها والقول قوله لأنهما اختلفا في صفة القبض والأصل فيما يقبضه الانساب من مال غيره الضمان لقول النبي صلى الله وسلم (على اليد ما أخذت حتى ترده) حديث حسن وإذا حلف المالك إستحق القيمة والقول في قدرها قول الراكب مع يمينه لأنه منكر للزيادة المختلف فيها والأصل عدما، وإن اختلفا في ذلك بعد مضي مدة لها أجرة والبهمية تالفة وكان الأجر بقدر قيمتها أو كان ما يدعيه المالك أقل مما يعترف به الراكب فالقول قول المالك بغير يمين سواء ادعى الإجارة أو الاعارة إذا لا فائدة في اليمين على شئ يعرف له به خصمه ويحتمل أن لا يأخذه إلا بيمين لأنه يدعي شيئاً لا يصدق فيه ويعترف له خصمه بما لا يدعيه فيحلف على ما يدعيه وإن كان ما يدعيه المالك أكثر بأن تكون قيمة الدابة(5/372)
أكثر من أجرها فادعى المالك أنها عارية لتجب له القيمة وأنكر استحقاق الاخر ادعى الراكب إنها مكتراة أو كان الكراء أكثر من قيمتها فادعى المالك أنه أجرها ليجب له الكراء وادعى الراكب أنها عارية فالقمول قول المالك في الصورتين لما قدمنا فإذا حلف إستحق ما حلف عليه ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا (مسألة) (وإن قال أجرتني أو أعرتني قال بل غصبتني فالقول قول المالك وقبل قول الغاصب) إذا كان الاختلاف عقيب العقد والدابة قائمة لم تنقص فلا معنى للإختلاف ويأخذ المالك دابته وكذلك إن كانت الدابة تالفة وادعى الراكب العارية لأن القيمة تجب على المستعير كوجوبها على الغاصب، وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة فالاختلاف في وجوبه والقول قول المالك وهذا ظاهر قول الشافعي ونقل المزني عنه أن القول قول الراكب وذكره بعض أصحابنا لأن المالك يدعي عليه عوضا الأصل براءة ذمته منه ولأن الظاهر من اليد أنها لحق فكان القول قول صاحبها ولنا ما قدمنا في المسألة التي قبلها بل هذا أولى لانهما ثم اتفقا على أن المنافع ملك الراكب وههنا لم يتفقا على ذلك فإن المالك ينكر إنتقال الملك فيها إلى الراكب والراكب يدعيه والقول قول المنكر لأن الأصل عدم الإنتقال فيحلف ويستحق الأجر، فإن قال المالك غصبتها وقال الراكب أجرتنيها
فالاختلاف ههنا في وجوب القيمة لأن الأجر يجب في الموضعين إلا أن يختلف المسمى وأجر المثل فالقول قول المالك مع يمينه في وجوب القيمة فإن كانت الدابة تالفة عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها وإن كانت قد بقيت مدة لمثلها أجر والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لا تفاقهما على استحقاقه وكذلك إن كان أجر المثل دون المسمى وفي اليمين وجهان وان كان زائداً عن المسمى لم يستحقه إلا باليمين وجهاً واحداً والله أعلم(5/373)
كتاب الغصب وهو الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلو افريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) وأما السنة فروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر (ان دماء كم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) رواه مسلم وغيره، وعن سعيد ابن زيد قال مسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من أخذ شبراً من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وورى أبو حرة الرقاشي عن عمه وعمرو بن يثربي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) رواه الجوزجاني، وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة وإنما اختلفوا في فروع منه نذكرها إن شاء الله تعالى (مسألة) (وتضمن أم الولد والعقار بالغصب) وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يضمن لأن أم الولد لا تجري مجرى المال بدليل أنه لا يتعلق بها حق الغير فأشبهت الحر ولنا أنها تضمن بالقيمة فضمنت بالغصب كالقن ولأنها مملوكة أشبهت المدبرة وفارقت الحرة فإنها ليست مملوكة ولا تضمن بالقيمة(5/374)
(مسألة) (ويضمن العقار بالغصب ويتصور غصب الأراضي والدور ويجب ضمانه على عاصبه)
هذا ظاهر مذهب أحمد وهو المنصوص عند أصحابه وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وروى ابن منصور عن أحمد فيمن غصب أرضاً فزرعها ثم أصابها غرق من الغاصب غرم قيمة الأرض وإن كان شيئاً من السماء لم يكن عليه شئ فظاهر هذا أنها لا تضمن بالغصب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يتصور غصبها ولا تضمن بالغصب فإن أتلفها ضمنها بالإتلاف لأنه لم يوجد فيها النقول والتحويل فلم تزيضمنها كما لو حال بينه وبين متاعه فتلف المتاع ولأن الغصب إثبات اليد على المال عدواناً على وجه ول به يد المالك ولا يمكن ذلك في العقار ولنا قوله عليه السلام (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيمة من سبع أرضين) متفق على معناه وفي لفظ (من غصب شبراً من الأرض) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغصب ويظلم فيه ولأن ما ضمن في البيع وجب ضمانه في الغصب كالمنقول ولأنه يمكن الاستيلاء عليه على وجه يحول بينه وبين مالكه مثل أن يسكن الدار ويمنع مالكها من دخولها فأشبه مالو أخذ الدابة والمتاع، وأما إذا حال بينه وبين متاعه واستولى على ماله فنظيره ههنا أن يحبس المالك ولا يستولي على داره، وأما ما تلف من الأرض بفعله أو بسبب فعله كهدم حيطانها وتغريقها أو كشط ترابها وإلقاء الحجارة فيها أو نقص يحصل بغراسه أو بنائه فيضمنه بغير خلاف بين العلماء لأن هذا إتلاف والعقار يضمن بالإتلاف من غير خلاف.
(فصل) ولا يحصل الغصب من غير استيلاء فلو دخل أرض إنسان أو داره لم يضمنها بدخوله سواء دخلها بإذنه أو غير إذنه وسواء كان صاحبها فيها أولم يكن وقال أصحاب الشافعي إن دخلها بغير(5/375)
اذنه ولم صاحبها فيها ضمنها سواء قصد ذلك أو ظن أنها داره أو دار أذن له في دخولها لأن يد الداخل تثبت عليها بذلك فيصير غاصباً فإن الغصب إثبات اليد العادية وهذا قد تثبت يده بدليل أنهما لو تنازعا في الدار ولا بينة حكم بها لمن هو فيها دون الخارج منها ولنا أنه غير مستول عليها فلم يضنمها كما لو دخلها بإذنه أو دخل صحراة له ولأنه إنما يضمن بالغصبب ما يضمنه في العارية وهذا لا تثبت به العارية ولا يجب به الضمان فيها فكذلك لا يثبت به
الغصب إذا كان بغير إذن.
(مسألة) (وإن غصب كلباً فيه نفع أو خمر ذمي لزمه ردهما) إذا غصب كلباً يجوز اقتناؤه وجب رده لأنه يجوز الإنتفاع به وإقتناؤه فأشبه المال، وإن أتلفه لم يغرمه وفيه اختلاف ذكر في البيع وهو مبني على جواز بيعه، وإن حبسه مدة لم يلزمه أجر لأنه لا يجوز وإن غصب خمر ذمي لزمه ردها لأنه يقر على شربها فإن أتلفها لم يلزمه قيمتها سواء أتلفه مسلم أو ذمي وسواء كان المسلم أو ذمي نص عليه أحمد في رواية أبي الحارث في الرجل يهريق مسكراً لمسلم أو لذمي فلا ضمان عليه وكذلك الخنزير وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يجب ضمان الخمر والخنزير إذا أتلفهما على ذمي قال أبو حنيفة إن كان مسلماً بالقيمة وإن كان ذمياً بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينا قومها كنفس الذمي وقد عصم خمر الذمي بديل أن المسلم يمنع من إتلافها فيجب أن يقومها ولأنها مال لهم يتمولونها لما روي عن عمر رضي الله عنه إن عامله كتب إليه: إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب اليه عمر ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر ثمنها فإذا كانت مالاً لهم وجب ضمانها كسائر أموالهم(5/376)
ولنا ماروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه وما حرم بيعه لالحرمته لم تجب قيمته كاليمتة ولأن ما لم يكن مضموناً في حق المسلم لا يكون مضموناً في حق الذمي كالمرتد، ولأنها غير متقومة فلا تضمن كالميتة، ودليل أنها غير متقومة أنهغا غير متقومة في حق المسلم فكذلك في حق الذمي فان تحريهما ثبت في حقهما وخطاب النواهي يتوجه إليها فما ثبت في حق أحدهما ثبت في حق الآخر ولا نسلم أنها معصومة بل متى أظهرت حلت إراقتها ثم لو عصمها ما لزم تقومها فإن نساء أهل الحرب وصبيانهم معصومون غير متقومين وقولهم إنها مال عندهم ينتقض بالعبد المرتد فإنه مال عندهم، فأما حديث عمر فمحمول على أنه أراد ترك التعرض لهم وإنما أمر بأخذ عشر أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا حكمنا بالمالك ولم نتقضه وتسميتها أثماناً مجاز كما سمى الله تعالى ثمن يوسف ثمناً فقال (وشروه بثمن جنس) (فصل) فإن غصب من مسلم خمراً حرم ردها ووجبت إراقتها لأن أبا طلحة سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً فأمره بأراقتها، وإن أتلفها أو تلفت عنده لم يجب ضمانها لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) ولأن ما حرم الانتفاع به لم يجب ضمانه كالميتة والدم، فإن أمسكها حتى صارت خلا لزمه ردها لأنها صارت خلاعلى حكم ملكه فلزمه ردها فإن تلفت ضمنها له لأنها مال المغصوب منه تلف في يد الغاصب، فإن أراقها(5/377)
فجمعها اسنان فتخلت عنده رد الخل لأنه أخذها بعد إتلافها وزوال اليد عنها (مسألة) (وإن غصب جلد ميتة فهل يجب رده؟ على وجهين) بناء على طهارته بالدباغ فمن قال بطهارته أوجب رده لأنه يمكن إصلاحه فهو كالثوب النجس ومن قال لا يطهر لم يجب رده لأنه لا سبيل إلى إصلاحه وإن أتلفه أو أتلف ميتة بجلدها لم يضمن لأنه لا قيمة له بدليل أنه لا يحل بيعه (مسألة) (وإن دبغه وقلنا بطهارته يلزمه رده كالخمر إذا تخللت ويحتمل أن لا يجب رده) لأنه صار مالاً بفعله بخلاف الخمر وإن قلنا لا يظهر لم يجب رده لأنه لا يباح الإنتفاع به ويحتمل أن يجب رده إذا قلنا يباح الانتفاح به في اليابسات لأنه نجس يباح الإنتفاع به أشبه الكلب وكذلك قبل الدباغ (مسألة) (وإن استولى على حرلم يضمنه بذلك) لا يثبت الغصب فيما ليس بمال كالحر فإنه لا يضمن بالغصب إنما يضمن بالإتلاف فإن حبس حرافمات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال إلا أن يكون صغيراً ففيه وجهان (أحدهما) لا يضمنه لأنه حر أشبه الكبير وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يضمنه لأنه يمكن الإستيلاء عليه من غير ممانعة منه أشبه العبد الصغير، فإن قلنا لا يضمنه فهل يضمن ثيابه وحليه؟ على وجهين (أحدهما) لا يضمنه لأنه تبع له وهو تحت يده أشبه ثياب الكبير (والثاني) يضمنه لأنه استولى عليه أشبه مالو كان منفرداً (مسألة) (وإن استعمل الحر كرما فعليه أجرته (لأنه استوفى منافعه وهي متقومة فلزمه ضمانها(5/378)
كمنافع العبد، وإن حبسه مدة لمثلها أجرة ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه أجرتك المدة لأنه فوت منفعتبه وهي مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت بالغصب كمنافع العبد (والثاني) لا يلزمه أجرتك المدة لأنها تابعة
لما لا يصح غصبه فأشبهت ثيابه إذا بليت عليه وأطرافه ولأنها تلفت تحت يديه فلم يجب ضمانها كنما ذكرنا لو منعه العمل من غير حبس لم يضمن منافعه وجها واحدا لأنه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحر أولى ولو حبس الحر وعليه ثباب لم يلزمه ضمانها لأنها تابعة لما لم تثبت اليد عليه في الغصب وهذا كله مذهب الشافعي (فصل) ويلزمه رد المغصوب إن قدر على رده وإن غرم عليه أضعاف قيمته إذا كان باقياً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (على ايد ما أخذت حتى ترده) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن وروى عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود يعني أنه يقصد المزح مع صاحبه بأخذ متاعه وهو جاد في إدخال الغم والغيظ عليه ولأنه أزال يد المالك عن ملكه بغير حق فلزمته إعادتها، وأجمع العلماء على وجوب رد المغصوب إذا كان بحاله لم يتغير ولم يشتغل بغيره (فصل) فإن غصب شيئاً فبعد لزم رده وإن عرم عليه أضعاف قيمته لأنه جنى بتبعيده فكان ضرر ذلك عليه فإن قال الغاصب خذ مني أجر رده وتسلمه مني ههنا أو بذل له أكثر من قيمته ولا يسترده لم يلزم المالك قبول ذلك لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كالبيع، وإن قال المالك دعه لي في مكانه الذي نقلته(5/379)
إليه لم يملك الغاصب رده لأنه أسقط عنه حقاً فسقط وإن لم يقبله كما لو أبرأه من دينه وإن قال رده لي إلى بعض الطريق لزمه لأنه يلزمه جميع المسافة فلزمه بعضها المطلوب وسقط عنه ما أسقطه كما لو أسقط عنه بعض دينه وإن طلب منه حمله الى مكان آخر في غير طريق الرد لم يلزم الغاصب ذلك سواء كان أقرب الى المكان الذي يلزم رده إليه أولاً لأنه معاوضة، وإن قال دعه في مكانه وأعطني أجر رده لم يلزمه ذلك ومهما اتفقا عليه من ذلك جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما (مسألة) (وإن خلطه بما يتميز منه لزمه تخليصه ورده) مثل أن يخلط حنطة بشعير أو سمسم أو صغار الحب بكباره أو زبيباً أسود بأحمر لما ذكرنا وأجر المميز عليه كأجر رده إذا بعده وإن أمكن تمييز بعضه وجب تمييز ما أمكن منه وإن لم يمكن تميز شئ منه فسنذكره إن شاء الله تعالى (مسألة) (وإن بنى عليه لزمه رده إلا أن يكون قد بلي) إذا غصب شيئاً فشغله بملكه كحجر نبي
عليه أو خيط خاط به ثوبه أو نحوه فإن بلي الخيط أو انكسر الحجر أو كان مكانه خشبة فتلفت لم يجب رده ووجبت قيمته لانه صارها لكا فوجبت قيمته كما لو تلف، وإن كان باقياً بحاله لزمه رده وإن انتقض البناء وتفصل الثوب وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب أداء الخشبة والحجر لأنه صار تابعاً لملكه يستضر بقلعه فلم يجب رده كما لو غصب خيطاً فخاط به جرح عبده ولنا أنه مغصوب أمكن رده ويجوز له فيجوز كما لو بعد العين ولا يشبه الخيط الذي يخاف على العبد من قلعه لأنه لا يجوز له رده لما في ضمنه من تلف الآدمي ولأن حاجته إلى ذلك تبيح أخذه ابتداء بخلاف البناء(5/380)
(مسألة) (وإن سمر بالمسامير بابالزمه قلعها وردها) لما ذكرنا من الحديث (فصل) وإن غصب فصيلاً فأدخله داره فكبر ولم يخرج من الباب أو خشبة وأدخلها دار ثم بنى الباب ضيقاً لا يخرج منه إلا بنقضه وجب نقضه ورد الفصيل والخشبة كما ينقض البناء لرد الساجة فإن كان حصوله في الدار بغير تفريط من صاحب الدار نقص الباب وضمانه على صاحب الفصيل لأنه لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الدار، وأما الخشبة فإن كان كسرها أكثر ضرراً من نقض الباب فهي كالفصيل وإن كان أقل كسرت ويحتمل في الفصيل مثل هذا متى كان ذبحه أقل ضرراً ذبح وأخرج لحماً لأنه في معنى الخشبة، وإن كان حصوله في الدار بعدوان من صاحبه كرجل غصب داراً وأدخلها فصيلاً أو خشبة أو تعدى على إنسان فأدخل داره فرسا ونحوها كسرت الخشبة وذبح الحيوان وإن زاد ضرره على نقض البناء لان سبب هذا الضرر عدوانه فيكون عينه، ولو باع داراً فيها خوابي لا تخرج إلا بنقض الباب أو خزائن أو حيوان وكان نقض الباب أقل ضرراً من بقاء ذلك في الدار أو تفصيله أو ذبح الحيوان نقض وكان إصلاحه على البائع لأنه لتخليص ماله، وإن كان أكثر ضرراً لم ينقض لأنه لا فائدة فيه ويصطلحان على ذلك أما بأن يشتريه مشتري الدار أو غير ذلك (فصل) وإن غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا حكمها حكم الخيط الذي خاط به جرحها على ما نذكره، قال شيخنا ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر قيمة من الحيوان ذبح وردت إلى مالكها وضمان الحيوان على الغاصب إلا أن يكون الحيوان آدمياً ويفارق الخيط فإنه في الغالب أقل قيمة من(5/381)
الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح اليحوان رعاية حق المالك برد عين إليه ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه، وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يكن إخراجها إلا بذبح الشاة ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل وضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه لتخليص ماله فإن كان التفريط من صاحب الشاة بكون يده عليها فلا شئ على صاحب الجوهرة لأن التفريط من غيره فكان الضرر على المفرط.
(فصل) وإن أدخلت رأسها في قمقم ولم يمكن إخراجه إلا بذبحها أو كسر القمقم وكان ضرر ذبحها أقل ذبحت وإن كان كسر القمقم أقل كسر، فإن كان التفريط من صاحب الشاة فالضمان عليه وإن كان من صاحب القمقم بأن وضعه في الطريق فالضمان عليه وإن لم يكن منهما تفريط فالضمان على صاحب الشاة، وإن كسر القمقم لأنه كسر لتخليص شاته وإذا ذبحت الشاة فالضمان على صاحب القمقم لأنه لتخليص ماله فإن قال من عليه الضمان منهما أنا أتلف مالي ولا أغرم شيئاً للآخر فله ذلك لأن إتلاف مال الآخر إنما كان لحقه وسلامة ماله وتخليصه فإذا رضي بتلفه لم يجز إتلاف غيره، وإن قال لا أتلف مالي ولا أغرم شيئاً لم نمكنه من إتلاف مال صاحبه لكن صاحب القمقم لا يجبر على شئ لانه لاحرمة له فلا يجبر صاحبه على تخليصه، وأما صاحب الشاة فلا يحل له تركها لما فيه من تعذيب الحيوان فيقال له اما ان تذبح الشاة لتريحهما من العذاب وأما أن تعرم القمقم لصاحبه إذا كان كسره أقل ضرراً لأن ذلك من ضرورة إبقائها أو تخليصها من العذاب فلزم كعلفها، فإن كان الحيوان غير مأكول احتمل أن(5/382)
يكون حمه حكم المأكول فيما ذكرنا، واحتمل ان يكسر القمقم وهو قول أصحابنا لأنه لانفع في ذبحه ولا هو مشروع وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، ويحتمل أن يكون كالمأكول في أنه متى كان قتله أقل ضرراً أو كانت الجناية من صاحبه قتل لأن حرمته معارضة بحرمة مال الآدمي الذي يتلف والنهي عن ذبحه معارض بالنهي عن إضاعة المال، وفي كسر القمقم مع كثرة قيمته إضاعة المال.
(فصل) وإن غصب ديناراً فوقع في محبرته أو أخذ دينار غيره فسهى فوقع في محبرته كسرت ورد الدينار كا ينقض البناء لرد الخشبة وكذلك إن كان درهما أو أقل وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان عليه لتخيص ماله، وإن غصب ديناراً فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو بغير فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها وإن كان كسرها أكثر ضرراً من تبقيته الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم يكسر، وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدواناً فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لأن صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى الغصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها ويحتمل أن يجبر على كسرها لردعين مال الغاصب ويضمن الغاصب قيمتها كما لو غرص في أرض غيره ملك حفر الأرض بغير إذن المالك لاخذ غرسه يضمن نقصها بالحفر يضمن نقصها بالحفر وعلى الوجهين لو كسرها الغاصب قهراً لم يلزمه أكثر من قيمتها (مسألة) (وإن زرع الأرض وردها بعد أخذ الزرع فعليه أجرنها)(5/383)
إذا غصب أرضاً فزرعها وردها بعد حصاد الزرع فهو للغاصب لا نعلم فيه خلافاً لأنه نماء ماله وعليه أجر المثل إلى وقت التسليم وضمان النقص ولو لم يزرعها فنقصت لترك الزراعة كأراضي البصرة أو نقصت لغير ذلك ضمن نقصها لما نذكره فيما إذا غرسها أو بنى فيها (مسألة) (وإن أدركها ربها وازرع قائم خير بين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله وبين أخذه بعوضه وهل ذلك قيمته أو نفقته؟ على وجهين) قوله أدركها والزرع قائم يعني استرجعها من الغاصب وقدر على أخذها منه متى أدركها ربها والزرع قائم لم يملك إجبار الغاصب على قلع الزرع وخير المالك بين أن يقر الزرع في الأرض إلى الحصاد ويأخذ من الغاصب أجرة الأرض وأرش نقصها وبين أن يدفع إليه نفقته ويكون له الزرع وهذا قول أبي عبيد وقال أكثر الفقهاء يملك إجبار الغاصب على قلعه لقوله عليه الصلاة والسلام ((ليس لعرق ظالم حق) لأنه زرع في أرض غيره ظلماً أشبه الغرس ولنا ما روى رافع بن خدبج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من زرع في أرض قوم
بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وعليه نفقته) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح فيه دليل على أن الغاصب لا يجبر على القلع لأنه ملك للمغصوب منه ولأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه من غير إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان فلم يجز إتلافه كما لو غصب سفينة فحمل فيها ماله وأدخلها البحر أو غصب لوحا فرقع به سفينة فإنه لا يجبر على رد المغصوب في اللجة ينتظر حتى ترمي صيانة للمال عن(5/384)
التلف كذا هذا، وفارق الشجر لأن مدته تتطاول ولا يعلم متى ينقطع من الأرض فانتظاره يؤدي إلى ترك رد الأصل بالكلية، وحديثهم ورد في الغرس وحديثنا في الرزع فيجمع بين الحديثين ويعمل بكل واحد منهما في موضعه وهو أولى من إبطال أحدهما.
إذا ثبت هذا فمتى رضي المالك بترك الزرع للغاصب ويأخذ منه أجر الأرض فله ذلك لأنه شغل المغصوب بماله فملك صاحبه أخذ أجره كما لو ترك في الدار طعاماً يحتاج في نقله إلى مدة وإن أحب أخذ الزرع فله ذلك كما يستحق الشفيع أخذ شجر المشتري بقيمته، وفيما يرد على الغاصب روايتان: إحداهما) قيمة الزرع لأنه بدل عن الزرع فيقدر بقيمته كما لو أتلفه ولأن الزرع للغاصب إلى حين نتزاعه منه بدليل أنه لو أخذه قبل انتزاع المالك كان ملكاً له يأخذه فيكون أخذ المالك له تملكاً له إلا أن يعوضه فيجب ان يكون بقيمته كما لو أخذ الشقص المشفوع، فعلى هذا يجب على الغاصب أجر الأرض إلى حين تسليم الزرع لأن الرزع كان محكوماً له به وقد شغل به أرض غيره (والرواية الثانية) يرد على الغاصب ما أنفق من البذر ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره وهذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي وظاهر الحديث لقوله (عليه نفقته) وقيمة الشئ لا تسمى نفقة له والحديث مبني على هذه المسألة فإن أحمد إنما ذهب إلى هذا الحكم استحساناً على خلاف القياس فإن القياس إن الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله فأشبه ما لو غصب دجاجة فحضنت بيضاً له كان الماء له وقد صرح به أحمد فقال هذا شئ لا يوافق القياس استحسن أن يدفع إليه نفقته للأثر ولذلك جعلناه للغاصب إذا أخذت منه الأرض بعد أخذه الزرع وإذا كان العمل بالحديث فيجب أن يتبع مدلوله ويحتمل أن يكون الزرع للغاصب وعليه الاجرة كما إذا رجع المستعير(5/385)
(فصل) فإن كان مما تبقى أصوله في الأرض ويجز مرة بعد أخرى كالرطبة احتمل أن يكون حكمه ما ذكرنا لدخوله في عموم الزرع لأنه ليس له فرع قوي أشبه الحنطة والشعير واحتمل أن حكمه حكم الغرس لبقاء أصله وتكرر أخذه ولأن القياس يقتضي أن يثبت لكل زرع مثل حكم الغرس وإنما ترك فيما تقل مدته للأثر ففيما عداه يبقى على قضية القياس (فصل) فإن غصب أرضاً فغرسها فأثمرت فأدركها ربها بعد أخذ الغاصب ثمرتها في له فإن أدركها والثمرة فيها فكذلك لأنها ثمرة شجرة فكانت له كما لو كانت في أرضه ولأنها نماء أصل محكوم به للغاصب فكان له كأغصانها وورقها ولبن الشاة ونسلها، وقال القاضي هي لمالك الأرض إن أدركها قى الغراس لأن أحمد قال في رواية عي بن سعيد إذا غصب أرضاً فغرسها فالنماء لمالك الأرض قال القاضي وعليه من انفقة ما أنفقه الغارس من مؤنة الثمرة لأن الثمرة في معنى الزرع فكان لصاحب الأرض إذا أدركه قائماً فيها كالزرع قال شيخنا والأول أصح لأن أحمد قد صرح بأن أخذ رب الارض الزرع شئ لا يوافق القياس وإنما صار إليه للأثر فيختص الحكم به ولا يتعدى إلى غيره، ولأن الثمرة تفارق الزرع من وجهين (أحدهما) إن الزرع نماء الأرض فكان لصاحبها والثمرة نماء الشجر فكانت لصاحبه الثاني أنه يرد عوض الزرع إذا أخذه مثل البذر الذي نبت منه الزرع مع ما أنفق عليه ولا يمكنه مثل ذلك في الثمرة.
(فصل) وإن غصب شجراً فأثمر فالثمر لصاحب الشجر بغير خلاف نعلمه لأنه نماء ملكه ولأن الشجر عين ملكه نمى وزاد فأشبه مالو طالت أغصانه، ويرد الثمر إن كان باقيا وبدله إن تلف وإن كان رطباً فصار تمراً أو عنبا فصا رزبيبا فعليه رده وإرش نقصه إن نقص ولا شئ له بعلمه فيه ولا(5/386)
أجرة عليه للشجر لأن أجرتها لا تجوز في العقود فكذلك في الغصب ولأن نفع الشجر تربية الثمر وإخراجه وقد عادت هذه المنافع إلى المالك، ولو كانت ماشية فعليه ضمان ولدها إن ولدت عنده وضمان لبنها مثله لأنه من ذوات الأمثال ويضمن اربارها وأشعارها بمثله كالقطن، وفي ضمان زوائد الغصب
المنفصلة اختلاف نذكره فيما يأتي (مسألة) (وإن غرس أو بنى أخذ بقلع غرسه وبنائه وتسوية الأرض وأرش نقصها وأجرتها) متى غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها وطلب صاحب الأرض قلع غراسه وبنائه لزم الغاصب ذلك ولا نعلم فيه خلافا لما روى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس لعرق ظالم حق) رواه الترمذي وقال حديث حسن رووى أبو داود وابو عبيد في الحديث أنه قال فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلاً غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه وقضى للآخر أن ينزع نخله قال فلقد رأيثها يضرب في أصولها بالفؤس وإنها لنخل عم ولأنه شغل ملك غيره بملكه الذي لاحرمة له في نفسه بغير إذنه فلزمه تفريغه كما لو جعل فيه قماشاً، وإذا قلعها لزمه تسوية الحفر ورد الأرض الى ما كانت عليه لأنه ضرر حصل في ملك غيره بفعله فلزمته إزالته(5/387)
(فصل) فإن أراد صاحب الأرض أخذ الشجرة والبناء بغير عوض لم يكن له ذلك لأنه عين مال الغاصب فلم يملك صاحب الأرض أخذه كما لو وضع فيها أثاثاً أو حيواناً، وإن طلب أخذه بقيمته وأبى مالكه إلا القلع فله ذلك لأنها ملكه فملك نقله ولا يجبر على أخذ القيمة لأنه معاوضة فلم يجبر عليها وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز لانه الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه، وإن وهب الغاصب الغراس والبناء لمالك الأرض ليتخلص من قلعه فقبله المالك جاز وإن أبى قبوله وكان في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قبوله وإن لم يكن فيه غرض صحيح احتمل أن يجبر على قبوله لأن فيه رفع الخصومة من غير غرض يفوت ويحتمل أن لا يجبر لأن فيه إجباراً على عقد يعتبر الرضى فيه، وإن غصب أرضاً وغراساً من رجل واحد فغرسه فيها فالكل لمالك الأرض فإن طالبه المالك بقعله وله في فعله غرض أجبر على قلعه لأنه فوت عليه غرضاً مقصوداً بالأرض فأخذ بإعادتها الى ما كانت وعليه تسوية الأرض ونقصها ونقص الغراس لأنه نقص حصل في يد الغصب اشبه مالو غصب طعاماً فتلف بعضه وإن لم يكن في قلعه غرض صحيح لم يجبر على قلعه لأنه سفه فلا يجبر عليه وقيل يجبر لأن المالك محكم في ملكه والغاصب غير
محكم فإن أراد الغاصب قلعه ومنعه المالك لم يملك قلعه لأن الجميع ملك للمغصوب منه فلم يملك غيره التصرف فيه بغير إذنه.(5/388)
(فصل) والحكم فيما إذا بنى في الأرض كالحكم فيما إذا غرس فيها في هذا التفصيل جميعه الا انه يتخرج أنه إذا بذل مالك الأرض القيمة لصاحب البناء أجبر على قبولها إذا لم يكن في النقض غرض صحيح لأن النقض سفه والأول أصح لما روى الخلال بإسناده عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض) ولأن ذلك معاوضة فلا يجبر عليها وإذا كانت الآلة من تراب الأرض وأحجارها فليس للغاصب النقض على ما ذكرنا في الغرس (فصل) وإن غصب أرضاً فكشط ترابها لزمه رده وفرشه على ما كان إن طالبه المالك وكان فيه غرض وإن لم يكن فيه غرض فهل يجبر على فرشه يحتمل وجهين وإن منعه المالك فرشه أورده وطلب الغاصب ذلك وكان في رده غرض من إزالة ضرر أو ضمان فله فرشه ورده وعليه أجر مثلها مدة شغلها وأجر نقصها، وإن أخذ تراب أرض فضربه لبنا رده ولا شئ له إلا أن يجعل فيه تبناله فله أن يحله ويأخذ تبنه، فإن كان لا يحصل منه شئ ففيه وجهان بناء على كشط التزويق إذا لم يكن له قيمة وسنذكره، وإن طالبه المالك بحله لزمه ذلك إذا كان فيه غرض فإن لم يكن فيه غرض فعلى وجهين فإن جعله آجراً أو فخاراً لزمه رده ولا أجر له لعمله وليس له كسره ولا للمالك إجباره عليه لأنه سفه وإتلاف للمال وإضاعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال(5/389)
(فصل) وعليه ضمان نقص الأرض إن نقصت بالغرس والبناء وهكذا كل عين مغصوبة على الغاصب ضمان نقصها إذا كان نقصاً مستقراً كإناء تكسر وطعام سوس وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا شق لرجل ثوبا شقا قليلاً أخذ أرشه وإن كثر فصاحبه بالخيار بين تسليمه وأخذ قيمته وبين إمساكه مع الارش وروى عن أحمد كلام يحتمل هذا فإنه قال في رواية موسى بن سعيد إن شاء شق الثوب وإن
شاء مثله يعني والله أعلم أن شاء أخذ أرش الشق ووجهه أن الجناية أتلفت معظم نفعه فكانت له المطالبة بقيمته كما لو قتل شاة له، وحكى أصحاب مالك عنه إذا جنى على عين فأتلف غرض صاحبها فيها كان المجني عليه بالخياران شاء رجع بما نقصت وإن شاء سلمها وأخذ قيمتها، ولعل ما يحكى عنه من قطع ذنب حمار القاضي ينبني على ذلك لأنه أتلف غرضه به فإنه لا يركبه في العادة وحجتهم أنه أتلف المنفعة المقصودة من السلعة فلزمته قيمتها كما لو أتلفها ولنا أنها جناية على مال أرشها دون قيمته فلم يملك المطالبة بجميع قيمته كما لو ان الشق يسيراً ولأنها جناية نقص بها القيمة أشبه مالو لم يتلف غرض صاحبها وفي الشاة أتلف جميعها لأن الإعتبار بالمجني عليه لا بغرض صاحبه لأنه إن لم يصلح لصاحبه صلح لغيره.
وعليه أجر الأرض منذ غصبها إلى وقت تسليمه وهكذا كل ماله أجر فعلى الغاصب أجر مثله سواء استوفى المنافع أو تلفت تحت يده لأنها(5/390)
تلفت في يده العادية فكان عليه عوضها كالأعيان، وفيه اختلاف نذكره فيما يأتي إن شاء الله تعالى وإن غصب أرضاً فبناها داراً فإن كانت آلات بنائها من مال الغاصب فعليه أجر الأرض دون بنائها لأنه إنما غصب الأرض والبناء له فلم يلزمه أجز ماله وإن بناها بتراب منها وآلات المغضوب منه فعليه أجرها مبنية لان الداركلها ملك للمغصوب منه وإنما للغاصب فيها أثر الفعل فلا يكون في مقابلته أجر لأنه وقع عدواناً.
(فصل) وإن غصب درار فنقضها ولم يبنها فعليه أجر دار إلى حين نقضها وأجرها مهدومة من حين نقضها إلى حين ردها لأن البناء انهدم وتلف فلم يجب أجره مع تلفه، وإن نقضها ثم بناها بآلة من عنده فالحكم كذلك، وإن بناها بآلتها أو آلة من ترابها أو ملك المغصوب منه فعليه أجرها عرصة منذ نقضها إلى أن بناها وأجرها داراً فيما قبل ذلك وبعده لأن البناء للمالك، وحكمها في نقض بنائها الذي بناه الغاصب حكم مالو غصبها عرصة فبناها، وإن كان الغاصب باعها فبناها المشتري أو نقضها ثم بناها لم يختلف الحكم وللمالك مطالبة من شاء منهما والرجوع عليه فإن رجع عليه الغاصب رجع الغاصب على المشتري بقيمة ما اتلف من الأعيان لأن المشتري دخل على أنه مضمون عليه بالعوض
فاستقر الضمان عليه، وإن رجع المالك على المشتري رجع المشتري على الغاصب في نقص التالف ولم يرجع بقيمة ما تلف وهل يرجع كل واحد منها على صاحبه بالأجر؟ على روايتين وليس له مطالبة(5/391)
المشتري من الأجر إلا بأجرة مدة مقامها في يديه لأن يده إنما تثبت حينئذ (مسألة) (وإن غصب لوحا فرقع به سفينة لم يقلع حتى ترسي إذا كانت السفينة بخاف غرقها بقلع اللوح لم يقطع حتى تخرج إلى الساحل، وإن كان في أعلاها لا تغرق بقلعه لزمه قلعه ولصاحب اللوح طلب قيمته فإذا أمكن رد اللوح استرجعه ورد القيمة كما لو غصب عبداً فأبق وقال أبو الخطاب إن كان فيها حيوان له حرمة أو مال لغير الغاصب لم يقلع كالخيط وإن كان فيها مال للغاصب أولا مال فيها فكذلك أحد الوجهين والثاني يقلع في الحال لأنه أمكن رد المغصوب فلزمه وإن أفضى الى تلف مال الغاصب كرد الساجة المبني عليها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ولنا أنه أمكن رد المغصوب من غير إتلاف فلم يجز مع الإتلاف كما لو كان فيها مال غيره وفارق الساجة في البناء لأنه لا يمكن ردها من غير إتلاف (مسألة) (وان غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان وخيف عليه من قلعه فعليه قيمته إلا أن يكون الحيوان مأكولا للغاصب فهل يلزمه رده ويذبح الحيوان؟ على وجهين) هذه المسألة لا تخلو من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يخيط به جرح حيوان لا حرمة له كالمرتد والخنزير والكلب والعقور فيجب رده لأنه يتضمن تفويت ذي حرمة أشبه مالو خاط به ثوبا (الثاني) أن يخيط به جرح حيوان محترم لا يحل أكله كالآدمي فان خيف من نزعه الهلاك أو أبطأ برؤه فلا يجب لأن الحيوان آكد حرمة(5/392)
من غير المال ولهذا جاز له أخذ مال غيره لحفظ حيانه وإتلاف المال لتبقيته وهو ما يأكله وكذلك الدواب التي لا يؤكل لحمها كالبغل والحمار الأهلي (الثالث) أن يخيط به جرح حيوان مأكول فإن كان ملكاً لغير الغاصب وخيف تلفه بقلعه لم يقطع لأن فيه إضراراً بصاحبه ولا يزال الضرر بالضرر ولا يجب إتلاف مال من لم يجن صيانة لمال آخر وإن كان للغاصب فقال القاضي يجب رده لأنه يمكن
ذبح الحيوان والإنتفاع بلحمه وذلك جائز وإن حصل فيه نقص على الغاصب فليس ذلك بمانع من وجوب رد المغصوب كنقض البناء وقال أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما هذا (والثاني) لا يجب قعله لان لليحوان حرمة في نفسه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين قال شيخنا ويحتمل أن يفرق بين ما يعد للأكل من الحيوان كبهيمة الأنعام والدجاج وبين مالا يعدله كالخيل وما يقصد صوته ومن الطير فيجب ذبح الأول إذا توقف رد الخيط عليه ولا يجب ذبح الثاني لأنه إتلاف له فجرى مجرى مالا يؤكل لحمه ومتى أمكن رد الخيط من غير تلف الحيوان أو بعض أعضائه أو ضرر كثير وجب رده (مسألة) (فإن مات الحيوان لزمه رده إلا أن يكون آدمياً معصوما لأن غير الآدمي لا حرمة له بعد الموت وحرمة الآدمي باقية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كسر عظم الميت ككسره وهو حي) فعلى هذا يرد قيمته.(5/393)
(مسألة) (وان غصب جارحاً فصاد أو شبكة أو شركاً فامسك شيئا غاو فرساً فصاد عليه أو أو غنم فهو لمالكه) كما لو غصب عبداً فصاد فان الصيد لسيد العبد ويحتمل أنه للغاصب لأن الصائد والجارحة آلة ولهذا اكتفى بتسميته عند إرسال الجارح وفيما إذا غصب فرساً أو سهماً أو شبكة فصاد به وجه آخر أنه للغاصب لأن الصيد حصل بفعله وهذه آلات فأشبه مالو ذبح بسكين غيره فان قلنا هو للغاصب فعليه أجرة ذلك كله مدة مقامه في يده إن كان له أجر وإن قلنا هو للمالك لم يكن له أجر في مدة اصطياده في أحد الوجهين لأن منافعه في هذه المدة عادة إلى المالك فلم يستحق عوضها على غيره كما لو زرع أرض إنسان فأخذ المالك الزرع بنفقته والثاني عليه أجر المثل لأنه استوفى منافعه أشبه مالو لم يصد، ولو غصب عبداً فصاد أو كسب فالكسب للسيد وفي وجوب أجرة العبد على الغاصب في مدة كسبه وصيده الوجهان وإن غصب منجلاً فقطع به خشباً أو حشيشاً فهو للغاصب لأن هذه آلة فهو كالحبل يربط به.
(مسألة) (وإن غصب ثوباً فقصره أو غزلاً فنسجه أو فضة أو حديداً فضربه أو خشباً فنجره أو
شاة فذبحها وشواها رد ذلك بزيادته وأرش نقصه) ولا شئ له هذا ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة في هذه المسائل ينقطع حق صاحبها عنها إلا أن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة إلا أن يدفع قيمته فيملكها ويتصرف(5/394)
فيها كيف شاء وروى محمد بن الحكم عن أحمد ما يدل على أن الغاصب يملكها بالقيمة إلا أنه قول قديم رجع عنه فإن محمداً مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوماً من الأنصار في دارهم فقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال (إن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق) قالو نعم يا رسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاة لبعض جيراننا ونحن نرضيهم من ثمنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أطعموها الأسرى) رواه أبو داود بنحو من هذا وهذا يدل على أن حق أصحابها انقطع عنها لولا ذلك لامر يردها عليهم ولنا أن عين مال المغصوب منه قائمة فلزم ردها إليه كما لو ذبح الشاة ولم يشوها ولأنه لو فعله بملكه لم يزل عنه فكذلك إذا فعله يملك غيره كذبح الشاة وضرب النقرة دراهم ولأنه لا يزيل الملك إذا كان بغير فعل آدمي فلم يزله إذا فعله آدمي كالذي ذكرناه وأما الخبر فليس بمعروف كما رووه في رواية أبي داود ونحن نرضيهم عنها.
إذا ثبت هذا فإنه لا شئ للغاصب بعمله سواء زادت العين أولم تزدوهذا مذهب الشافعي وعنه يكون شريكا بالزيادة ذكرها أبو الخطاب لأنها حصلت بمنافعه والمنافع أجريت مجرى الأعيان أشبه مالو غصب ثوباً فصبغه والمذهب الأول ذكره أبو بكر والقاضي لأن الغاصب عمل(5/395)
في ملك غيره بغير إذنه فلم يستحق لذلك عوضاً كما لو أغلى زيتاً فزادت قيمته أو بنى حائطاً لغيره أو زرع حنطة إنسان في أرضه فأما صبغ الثوب فإن الصبغ عين مال لا يزول ملك صاحبه عنه بجعله مع ملك غيره وهذا حجة عليه لأنه إذا لم يزل ملكه عن صبغه بجعله في ملك غيره وجعله كالصفة فلأن لا يزول ملك غيره بعلمه فيه أولى فإن احتج بأن من زرع في أرض غيره ترد عليه نفقته قلنا الزرع ملك للغاصب
لأنه عين ماله ونفقته عليه تز داد به قيمته فإذا أخذه مالك الأرض احتسب بما أنفق على ملكه وفي مسئلتنا عمله في ملك المغصوب منه بغير إذنه فكان لاغياً على أننا نقول إنما تجب قيمة الزرع على إحدى الروايتين وقال أبو بكر يملكه وعليه قيمته لما روى محمد بن الحكم ووجهه كما ذكرنا والصحيح الأول (فصل) فإن نقصت العين دون القيمة رد الموجود وقيمة النقص وان نقصت اليعن القيمة ضمنهما معا كالزيت إذا أغلاه وهكذا القول في كل ما تصرف فيه كنقرة ضربها دراهم أو حلياً أو طيناً جعله لبناً أو عزلا نسجه أو ثوبا قصره لأنه نقص بفعل غير مأذون فيه أشبه مالو أتلف بعضه وإن جعل فيه شيئاً من عين ماله مثل أن سمر الدفوف بمساميره فله قلعها ويضمن ما نقصت الدفوف، وإن كانت المسامير من الخشبة المغصوبة أو مال المغصوب منه فلا شئ للغاصب وليس له قلعها إلا أن يأمره(5/396)
المالك فيلزمه، وإن كانت المسامير للغاصب فوهبها للمالك لم يجبر على قبلوها في أقوى الوجهين وان استأجر الغاصب على عمل شئ من هذا الذي ذكرناه فالأجر عليه والحكم في زيادته ونقصه كما لو فعل ذلك بنفسه وللمالك تضمين النقص من شاء منهما فإن غرم الغاصب لم يرجع على أحد إذا لم يعلم الأجير الحال وإن ضمن الأجير رجع على الغاصب لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه عالماً بالحال، وإن ضمن الغاصب رجع على الأجير لأن النقص حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن استعان بمن فعل ذلك فهو كالأجير.
(مسألة) (وان غصب أرضاً فحفر فيها بئراً ووضع ترابها في أرض مالكها لم يملك طمها إذا أبرأه المالك من ضمان ما يتلف بها في أحد الوجهين) إذا طمه المالك بطمها لزمه لأنه يضر بالأرض ولأن التراب ملكه نقله من موضعه فلزمه رده كتراب الأرض وكذلك لو حفر فيها نهراً أو حفر بئراً في ملك رجل بغير إذنه، وإن أراد الغاصب طمها فمنعه المالك نظرنا فإن كان له غرض في طمها بأن يسقط عنه ضمان ما يقع فيها أو يكون قد نقل ترابها إلى ملكه أو ملك غيره أو طريق يحتاج إلى تفريغه فله ذلك لما فيه من الغرض وبه قال الشافعي وإن لم يكن له غرض مثل أن يكون قد وضع التراب في ملك المغصوب وأبرأه من ضمان ما يتلف بها لم يكن له
طمها في أحد الوجهين لأنه إتلاف لا نفع فيه فلم يكن له فعله كما لو غصب نقرة فطبعها دراهم ثم(5/397)
أراد ردها نقرة وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وبعض الشافعية وقال بعضهم له طمها وهو الوجه الثاني لنا لأنه لا يبرأ من الضمان بإبراء المالك لكونه أبرأ مما لم يجب بعد وهو أيضاً إبراء من حق غيره وهو الواقع فيها ولنا أن الضمان إنما يلزمه لوجود التعدي فإذا رضي صاحب الأرض زال التعدي فزال الضمان وليس هذا إبراء مما يجب إنما هو إسقاط التعدي برضاه به وهكذا ينبغي أن يكون الحكم إذا لم يتلفظ بالإبراء لكن منعه من طمها لأنه يتضمن رضاه بذلك (مسألة) (وإن غصب حبا فزرعه أو نوى فصار غرساً أو بيضاً فصار فراخاً رده ولا شئ للغاصب لأنه عين مال المغصوب منه ويتخرج أن يملكه الغاصب كما إذا قصر الثوب أو ضرب الفضة لكونه غيره بفعله فالتغيير في البيضة أعظم فإنه استحال بزوال اسمه، فعلى هذا يتخرج أيضاً أن يكون شريكا بالزيادة كالمسألة الأولى (فصل) وإن غصب دجاجة فباضت عنده ثم حضنت بيضها فصار فراخا فهما لما لكها ولا شئ للغاصب في علفها.
قال أحمد في طيرة جاءت إلى دراه قوم فأفرخت عندهم يردها وفراخها إلى أصحاب الطيرة ولا شئ للغاصب فيما عمل وإن غصب شاة فأنزا عليها فحله فالولد لصاحب الشاة لأنه من نمائها وإن غصب فحلا فانراه عل شاته فالولد لصاحب الشاة لانه يتبع الامام ولا أجرة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل، وإن نقصه الضراب ضمنه وإن نقص المغصوب لزمه ضمان نقصه بقيمته رقيقاً(5/398)
كان أو غيره وبه قال الشافعي وعن أحمد في العبد رواية أخرى أنه يضمن بما يضمن به في الإتلاف فيجب في يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه ضمان لأبعاض العبد فكان مقدراً من قيمته كأرش الجناية ولنا أنه ضمان مال من غير جناية فكان الواجب ما نقص كالبهيمة وكنقص الثوب يحققه أن القصد بالضمان جبر حق المالك بإيجاب قدر المفوت عليه وقدر النقص هو الجابر ولأنه لو فات الجميع لو جبت قيمته فإذا
فات منه شئ وجب قدره من القيمة كغير الحيوان وضمان الجناية على أطراف العبد معدول به عن القياس للإلحاق بالجناية على الحر والواجب ههنا ضمان اليد وهي لا تثبت على الحر فوجب البقاء فيه على موجب الأصل وإلحاقه بسائر الأموال المغصوبة على أن في الجناية على العبد رواية أنه يضمن بما نقص فتنفض الروايتان والتفريع على الأول، ويتخرج أن يضمنه بأكثر الامريين منهما لأن سبب كل واحد منهما قد وجد، فأما إن كان النقص في الرقيق مما لا مقدر فيه كنقصه لكبر أو مرض أو شجه دون الموضحة فعليه ما نقص مع الرد لا غير لا نعلم فيه خلافاً فإن كان العبد أمرد فنبتت ليحته فنقصت قيمته وجب ضمان نقصه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه لأن الفائت لا يقصد قصداً صحيحاً أشبه الصناعة المحرمة، ولنا أنه نقص في القبمة بتغير صفة فيضمنه كبقية الصور(5/399)
(مسألة) (وان غصبه وجني عليه ضمنه بأكثر الأمرين) وجملة ذلك أنه إذا غصب عبداً وجني عليه جناية مقدرة الدية فعلى قولنا ضمان الغصب ضمان الجناية يكون الواجب أرش الجناية كما لو جنى عليه من غير غصب ونقصته الجناية أقل من ذلك أو اكثر وإن قلنا ضمان الغصب غير ضمان الجناية وهو الصحيح فعليه أكثر الأمرين من أرش النقنص أو دية ذلك العضو لأن سبب كل واحد منهما وجد فوجب أكثرهما ودخل الآخر فيه فإن الجناية واليد وجدا جميعاً فلو غصب وقيمته ألف فزادت قيمته إلى ألفين ثم قطع يده فنقص ألفا لزمه ألف ورد العبد لأن زيادة السوق إذا تلفت العين مضمونة ويد العبد كنصفه فكان يقطع يده فوت نصفه وإن نقص ألفاً وخمسمائة وقلنا الواجب ما نقص فعليه ألف وخمسمائة ويرد العبد وإن قلنا ضمان الجناية فعليه ألف ويرد العبد حسب وإن نقص خمسمائة فعليه رد العبد وهل يلزمه ألف أو خمسمائة؟ على وجهين.
(مسألة) (وإن جنى عليه غير الغاصب فله تضمين الغاصب أكثر الأمرين ويرجع الغاصب على الجاني بأرش الجناية وله تضمين الجاني أرش الجناية وتضمين الغاصب ما بقي من النقص) إذا غصب عبداً فقطع آخر يده فللمالك تضمين من شاء منهما لأن الجاني قطع يده والغاصب حصل النقص(5/400)
في يده فإن ضمن الجاني ضمنه نصف الفيمة لا غير ولم يرجع على أحد لأنه لم يضمنه أكثر مما وجب عليه ويضمن الغاصب ما زاد على نصف القيمة إن نقص أكثر من النصف ولا يرجع على أحد وإن قلنا ضمان الغصب ضمان الجناية أو لم ينقص اكثر من نصف قيمته لم يضمن الغاصب ههنا شيئاً وإن اختار تضمين الغاصب وقلنا إن ضمان الغصب كضمان الجناية ضمنه نصف القيمة ورجع بها الغاصب على الجاني لأن التلف حصل بفعله فاستقر الضمان عليه، وإن قلنا أن ضمان الغصب بما نقص فلرب العبد تضمينه بأكثر الأمرين لأن ما وجد في يده فهو في حكمه الموجود منه ثم يرجع الغاصب على الجاني بنصف القيمة لأنها أرش جنايته فلا يجب عليه أكثر منها (مسألة) (وإن غصب عبداً فخصاه لزمه رده ورد قيمته) إذا غصب عبداً فقطع خصييه أو يديه أو ذكره أو لسانه أو ما تجب فيه الدية من الحر لزمه رده ورد قيمته كلها نص عليه وبه قال مالك والشافعي، وقال الثوري وأبو حنيفة يخير المالك بين أن يصبر ولا شئ له وبين أخذ قيمته ويملكه الجاني لأنه ضمان مال فلا يبقى ملك صاحبه عليه مع ضمانه كسائر الأموال ولنا أن المتلف البعض فلا يقف ضمانه على زوال الملك كقطع ذكر المدبر ولأن المضمون التالف فلا يزول الملك عن غيره بضمانه كما لو قطع تسع أصابع، وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الضمان في مقابلة(5/401)
التالف لا في مقابلة الجملة، فإن ذهبت هذه الأعضاء بغير جناية فهل يضمنها ضمان الإتلاف أو ما نقص؟ على روايتين مضى ذكرهما، وعن أحمد رواية أخرى أن عين الدابة تضمن بربع قيمتها من الخيل والبغال والحمير فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل فقأ عين دابة عليه ربع قيمتها قيل له فقأ العينين؟ قال إذا كانت واحدة فقال عمر ربع القيمة وأما العينان فما سمعت فيهما شيئاً قيل له فإن كان بعيراً أو بقرة أو شاة؟ فقال هذا غير الدابة هذا ينتفع بلحمه ينظر ما نقصها، وهذا يدل على أن أحمد إنما أو جب مقدراً في العين الواحدة من الدابة وهي الغرس والبغل والحمار خاصة للأثر الوارد فيه وما عدا هذا يرجع إلى القياس.
واحتج أصحابنا لهذه الرواية بما روى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى في عين الدابة بربع قيمتها وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى شربح لما كتب إليه يسأله عن عين الدابة: إنا كنا نزلها منزلة الآدمي إلا أنه أجمع رأينا أن قيمتها ربع الثمن.
وهذا إجماع يقدم على القياس ذكر هذين أبو الخطاب في رءوس المسائل، وقال أبو حنيفة إذا قلع عيني بهيمة ينتفع بها من وجهين كالدابة والبعير والبقرة وجب نصف قيمتها وفي إحداهما ربع قيمتها لقول عمر أجمع رأينا على أن قيمتها ربع الثمن، والمذهب إن قدر الأرش ما نقص من القيمة كسائر الأعيان فأما حديث زيد بن ثابت فلا أصل له ولو كان صحيحاً لما احتج أحمد وغيره بحديث عمر وتركوه وأما قول عمر فمحمول على أن ذلك كان قدر نقصها كما روي عنه أنه قضى في العين الفائمة بخمسين ديناراً(5/402)
(مسألة) (وإن نقصت قيمة العين لتغير الأسعار لم يضمن نص عليه) وهو قول جمهور العلماء وحكي عن أبي ثور أنه يضمنه لأنه يضمنه إذا تلفت العين فلزمه إذا ردها كالسمن وذكره ابن أبي موسى رواية عن احمد ولنا أنه رد العين بحالها لم تنقص منها عين ولا صفة فلم يلزمه شئ كما لو لم تنقص ولانسلم أنه يضمنها مع تلف العين وإن سلمنا فلأنه وجبت قيمة العين أكثر ما كانت قيمتها فدخلت في التقويم بخلاف ما إذا ردها فإن القيمة لا تجب ويخالف السمن فإنه من عين المغصوب والعلم بالصناعة صفة فيها وههنا لم تذهب عين ولا صفة ولأنه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين وإنما حقه في العين وهي باقية كما كانت ولأن الغاصب يضمن ما غصبه والقيمة لا تدخل في الغصب بخلاف زيادة العين فإنها مغصوبة وقد ذهبت (مسألة) وإن نقصت القيمة لمرض أو غيره ثم عادت ببرئه لم يلزمه شئ الارده) إذا مرض المغصوب ثم برئ أو ابيضت عينه ثم زال بياضها أو غصب جارية حسناء فسمنت سمناً نقصها ثم خف سمنها فعاد حسنها وقيمتها ردها ولا شئ عليه لأنه لم يذهب ماله قيمة والعيب الذي أوجب الضمان زال في يديه، وكذلك لو حملت فنقصت ثم وضعت فزال نقصها لم يضمن شيا فإن رد المغصوب ناقصاً بمرض أو عيب أو سمن مفرط أو حمل فعليه أرش نفصه فإن زال عيبه في يد مالكه لم يلزمه رد ما أخذ لأنه استقر ضمانه برد المغصوب وكذلك إن أخذ المغصوب دون أرشه ثم زال العيب قبل أخذ أرشه لم يسقط ضمانه لذلك (مسألة) وإن زادت القيمة لسمن أو غيره ثم نقصت ضمن الزيادة) إذا زادت قيمة المغصوب في يد(5/403)
الغاصب لسمن أو تعلم صنعة مثل ما إذا غصب عبداً أو أمة وقيمته مائة فزاد بتعليمه أو في بدنه حتى صارت قيمته مائتين ثم نقص بنقصان بدنه أو نيسان ما علم حتى صارت قيمته مائة لزمه رده ويأخذ من الغاصب مائة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب عليه عوض الزيادة إلا أن يطالب بردها زائدة فلا يردها لأنه رد العين كما أخذها فلم يضمن نقص قيمتها كنقص سعرها، وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد رواية أن المغصوب إذا زادت قيمته بسمن أو تعلم صنعة ثم نقصت بزوال ذلك فلا ضمان عليه إذا رده بعينه ولنا أنها زيادة في نفس المغصوب فلزم الغاصب ضمانها كما لو طالبه بردها فلم يفعل ولأنها زادت على ملك المغصوب منه فلزمه ضمانها كما لو كانت موجودة حال الغصب، وفارق زيادة السعر لأنها لو كانت موجودة حال الغصب لم يضمنها والصناعة وإن لم تكن من عين المغصوب فهي صفة فيه ولذلك يضمنها إذا طولب برد العين وهي موجودة فلم يردها، اجريناها هي والتعليم مجرى السمن الذي هو عين لأنها صفة تتبع العين، واجر ينا الزيادة الحادثة في يد الغاصب مجرى الزيادة الموجودة حال الغصب لأنها زيادة في العين المملوكة للمغصوب منه فتكون مملوكة له لأنها تابعة للعين، فأما إن غصب العين سمينة أو ذات صناعة فهزلت أو نسيت فنقصت قيمتها فعليه ضمان نقصها لا نعلم فيه خلافا لانها نقصت عن حال غصبها نقصاً أثر في قيمتها فوجب ضمانها كما لو ذهب بعض أعضائها (فصل) إذا غصبها وقيمتها مائة فسمنت فبلغت قيمتها الفاثم تعلمت صناعة فبلغت ألفين ثم هزلت ونسيت(5/404)
فعادت إلى مائة ردها ورد ألفا وثمانمائة لأنها نقصت بالهزال تسعمائة وبالنسيان تسعمائة وإن سمنت فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم تعلمت فعادت إلى ألف ردها وتسعمائة لأن زوال الزيادة الأولى أو جب الضمان ثم حدثت زيادة أخرى من وجه آخر على ملك المغصوب منه فلا ينجبر ملك الإنسان بملكه (مسألة) (فإن عاد مثل الزيادة الأولى من جنسها مثل ان كانت قيمتها مائة فسمنت فبلغت الفاثم هزلت فعادت إلى مائة صم سمنت فعادت إلى ألف ففيه وجهان) (أحدهما) يردها زائدة ويضمن نقص الزيادة الاولى كما لو كانا من جنسين لأن الزيادة الثانية غير الأولى، فعلى هذا إن هزلت مرة
ثانية فعادت إلى مائة ضمن النقصين بألف وثمانمائة (والثاني) إذا ردها سمينة فلا شيء عليه لأن ما ذهب عاد فهي كما لو مرضت فنقصت ثم برئت فعادت القيمة أو نسيت صناعة ثم تعلمتها أو أبق عبد ثم عاد وفارق ما إذا زادت من جهة أخرى لأنه لم يعد ما ذهب وهذا الوجه أقيس لما ذكرنا من الشواهد فعلى هنا لو سمنت بعد الهزال ولم تبلغ قيتهما إلى ما بلغت بالسمن الأول أو زادت عليه ضمن أكثر الزيادتين وتدخل فيها الأخرى وعلى الوجه الأول يضمنهما جميعاً، فأما إن زادت بالتعليم أو الصناعة ثم نسبت ثم تعلمت ما نسيته فعادت القيمة الأولى لم يضمن النقص الأول لأن العلم الثاني هو الأول فقد(5/405)
عاد ما ذهب، وإن تعلمت علماً آخر أو صناعة أخرى فهو كعود السمن فيه وجهان ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، وقال أبو الخطاب متى زادت ثم نقصت ثم زادت مثل الزيادة الأولى ففي ذلك وجهان سواء كانا من جنس كالسمن مرتين أو من جنسين كالسمن والتعلم والأول أولى (مسألة) (وإن كانت من غير جنس الأولى لم يسقط ضمانها) قد ذكرناه في المسألة قبلها (مسألة) (وإن غصب عبداً مفرطاً في السمن فهزل فزادت قيمته أو لم ينقص رده ولا شئ عليه) لأن الشرع إنما أوجب في هذا ما نقص من القيمة ولم يقدر بدله ولم تنقص القيمة فلم يجب شئ (فصل) فإن نقصت عين المغصوب دون قيمته لم يخل من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون الذاهب مقدر البدل كعبد خصاه وزيت أغلاه ونقرة ضربها دراهم فنقصت عينها دون قيمتها فإنه يجب ضمان النقص فيضمن العبد بقيمته ونقص الزيت والنقرة بمثلها مع رد الباقي منهما لأن الناقص من العين له بدل مقدر فلزم ما يقدر به كما لو اذهب الكل (الثاني) أن لا يكون مقدراً كهزال العبد إذا لم تنقص قيمته وقد ذكرناه (الثالث) أن يكون النقص مقدر البدل لكن الذاهب منه أجزاء غير مقصودة كعصير أغلاه فذهبت مائيته وانعقدت اجزاؤه فقصت عينه دون قيمته فلا شئ فيه في أحد الوجهين سوى رده لأن النار إنما أذهبت مائيته التي يقصد إذهابها ولهذا تزداد حلاوته وتكثر قيمته فهو كسمن العبد الذي لا تنقص به قيمته إذا ذهب (والثاني) يجب ضمانه لأنه مقدر البدل فأشبه الزيت إذا أغلاه، ان نقصت العين والقيمة جميعاً وجب في الزيت وشبهه ضمان النقصين جميعاً لأن كل واحد منهما مضموناً منفرداً فكذلك إذا اجتمعا(5/406)
وذلك مثل رطل زيت قيمته درهم فأغلاه فنقص ثلثه وصار قيمة الباقي درهم فعليه ثلث رطل وسدس درهم وإن كان قيمة الباقي ثلثي درهم فليس عليه أكثر من ثلث رطل لأن قيمة الباقي لم تنقص وإن خصى العبد فنقصت قيمته فليس عليه أكثر من ضمان خصييه لأن ذلك بمنزلة مالو فقأ عينه (مسألة) (وإن نقص المغصوب نقصاً غير مستقر كخطة ابتلت وعفنت وخشي فسادها فعليه ضمان نقصه) وقال القاضي عليه بدله لان لا يعلم قدر نقصه وهذا منصوص الشافعي وله قول آخر انه يضمن نقصه وكلما نقص شئ ضمنه لأنه يستند إلى السبب الموجود في يد الغاصب فكان كالموجود في يده وقال أبو الخطاب يتخير صاحبه بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه وهو الذي ذكره شيخنا في الكتاب المشروح، وقال أبو حنيفة يتخير بين أخذه ولا شئ له أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ قيمته لأنه لو ضمن النقص مع أخذه لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا لا يجوز كما لو باع قفيزاً جيداً بقفيز ردئ ولنا أن عين ماله باقية وإنما حدث فيه نقص فوجب فيه ما نقص كما لو كان عبداً فمرض، وقد وافق بعض أصحاب الشافعي على هذا في العفن وقال بضمن ما نقص قولا واحداً ولا يضمن ما تولد فيه لأنه ليس من فعله وهذا الفرق لا يصح لأن البلل قد يكون من غير فعله أيضاً وقد يكون العفن بسبب منه ثم إن ما وجد في يد العاصب فهو مضمون عليه لوجوده في يده فلا فرق، وقول أبي حنيفة لا يصح(5/407)
لأن الطعام عين ماله وليس ببدل عنه وقال شيخنا: وقول أبي الخطاب لا بأس به والله أعلم (مسألة) (وإن جنى المغصوب فعليه أرش جنايته سواء جنى على سيده أو غيره) إذا جنى العبد المغصوب فجنايته مضمونة على الغاصب لأنه نقص في العبد الجاني لكون الجناية تتعلق برقبته فكان مضموناً على الغاصب كسائر نقصه وسواء في ذلك ما يوجب القصاص أو المال ولا يلزمه أكثر من النقص الذي لحق العبد وكذلك إن جنى على سيده لأنها من جملة جناياته فكان مضموناً كالجناية على الا جني
(فصل) ويضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته كما يفديه سيده، وإن جني على ما دون النفس مثل ان قطع يداً فقطعت يده قصاصاً فعلى الغاصب ما نقص العبد بذلك دون أرش اليد لأن اليد ذهبت بسبب غيره مضمون فأشبه مالو سقطت، وإن عفي عنه على مال تعلق أرش اليد برقبته وعلى الغاصب أقل الأمرين من قيمته أو أرش اليد، فإن زادت جناية العبد على قيمته ثم مات فعلى الغاصب يدفعها إلى سيده فإذا أخذها تعلق أرش الجناية بها لأنها كانت متعلقة بالعبد فتعلقت ببدله كما أن الرهن إذا أتلفه متلف وجبت قيمته وتعلق الرهن بها، فإذا أخذ ولي الجناية القيمة من المالك رجع المالك على الغاصب بقيمته مرة أخرى لأن القيمة التي أخذها استحقت بسبب كان في يد الغاصب فكان من ضمانه، ولو كان العبد وديعة فجنبي جناية استغرقت قيمته ثم أن المودع قتله بعدها(5/408)
فعليه قيمته وتعلق بها أرش الجناية فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع على المودع لأنه جنبى وهو غير مضمون عليه ولو جنى العبد في يد سيده جناية تستغرق قيمته بيع في الجنايتين وقسم ثمنه بينهما ورجع صاحب العبد على الغاصب بما أخذه الثاني منهما لأن الجناية كانت في يده وكان للمجني عليه أولاً أن يأخذه دون الثاني لأن الذي يأخذه المالك من الغاصب هو عوض ما أخذه المجني عليه ثانياً فلا يتعلق به حقه ويتعلق به حق الأول لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه، وإن مات هذا العبد في يد الغاصب فعليه قيمته تقسيم بينهما ويرجع المالك على الغاصب بنصف القيمة لأنه ضامن للجناية الثانية ويكون للمجني عليه أولاً أن يأخذه لما ذكرنا (مسألة) (وجنايته على الغاصب وعلى ماله هدر) لأنه إذا جنى على أجنبي وجب أرشه على الغاصب فلو وجب له شئ لوجب على نفسه فكان هدراً (مسألة) (ويضمن زوائد الغصب كالولد والثمرة إذا تلفت أو نقصت كالأصل سواء كان منفرداً أو مع أصله مثل ثمرة الشجرو ولد الحيوان) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب ضمان زوائد الغصب إلا أن يطالب بها فيمنع من أدائها لأنها غير مغصوبة فلا يجب ضمانها كالوديعة ودليل عدم الغصب أنه فعل محرم، بثبوت
يده على هذه الزوائد وإثبات يده على الأم محظور لا يصح لأنه بإمساك الأم تسبب إلى إثبات يده(5/409)
(مسألة) (فان خلط المغصوب بماله على وجه لا يتميز منه مثل أن خلط حنطة أو زيتا بمثله لزمه مثله منه في أحد الوجهين وفي الآخر يلزمه مثله من حيث شاء) إذا خلط المغصوب بماله بحيث لا يتميز منه كزيت بزيت أو دقيق بمثله أو دراهم أو دنانير بمثلها فقال ابن حامد يلزمه مثل المغصوب منه وهو ظاهر كلام أحمد لأنه لا نص على أن يكون شريكاً له إذا خلطه بغير جنسه فيكون تنبيها على ما إذا خلطه بجنسه وهو قول بعض الشافعية إلا في الدقيق فإنه تجب قيمته لأنه عندهم ليس بمثلي وقال القاضي قياس المذهب أنه يلزمه مثله من حيث شاء الغاصب لأنه تعذر عليه رد عين ماله بالخلط أشبه مالو تلف لأنه لا يتميز له شئ من ماله ولنا أنه قدر على دفع بعض ماله إليه مع رد المثل في الباقي فلم يتنقل إلى المثل في الجميع كما لو غصب صاعاً فتلف بعضه وذلك لأنه إذا دفع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي فكان أولى من دفعه من غيره (مسألة) (وإن خلطه بدونه أو خير منه أو بغير جنسه فله مثله في قياس التي قبلها) وظاهر كلام أحمد أنهما شريكان بقدر ملكيهما فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل له رطل زيت وآخر له رطل شيرج اختلطا يباع الدهن كله ويعطي كل واحد منهما قدر حصته وذلك أننا إذا فعلنا ذلك أو صلنا إلى كل واحد منهما يدل عين ماله، وإن نقص المغصوب عن قيمته منفرداً فعلى الغاصب(5/410)
ضمان النقص لأنه حصل بفعله، وقال القاضي قياس المذهب أن يلزم الغاصب مثله لأنه صار بالخلط مستهلكاً ولذلك لو اشترى زيتاً فخلطه بزيته ثم أفلس صار البائع كبعض الغرماء لأنه تعذر عليه الوصول إلى عين ماله فكان له بدله كما لو كان تالفاً ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ما إذا اختلطا من غير غصب.
أما المغصوب فقد وجد من الغاصب ما منع المالك أخذ حقه من المثليات متميزاً فلزمه مله كما لو أتلفه.
(فصل) إلا أنه إذا خلطه يخير منه وبذل لصاحبه مثل حقه منه لزمه قبوله لأنه أوصل إليه بعض حقه بعينه وتبرع بالزيادة في مثل الباقي، وإن خلطه بأدنى منه فرضي المالك بأخذ قدر حقه منه لزم الغاصب بذله لأنه أمكنه رد بعض المغصوب ورد مثل الباقي من غير ضرر وقيل لا يلزم الغاصب ذلك لأن حقه انتقل إلى الذمة فلم يجبر على عين ماله، وإن بذله للمغصوب منه فأباه لم يجبر على قبوله لأنه إن كان دون حقه من الردئ أو دون حقه من الجيد لم يجز لأنه رباً لكونه يأخذ الزيادة في القدر عوضاً عن الجودة وإن كان بالعكس فرضي بأخذ دون حقه من الردئ أو سمح الغاصب بدفع أكثر من حقه من الجيد جاز لأنه لا مقابل للزيادة وإنما هي تبرع مجرد، وإن خلطه بغير جنسه فتراضيا على أن يأخذا كثر من قدر حقه أو أقل جاز لانه بماله من غير جنس فلاتحرم الزيادة بينهما (فصل) وان خاله بما لا قيمة له كزيت خلطه بماء أو لبن شابه بماء فإن أمكن تخليصه خاصه ورده(5/411)
ورد نقصه وإن لم يكن تخليصه أو كان ذلك يفسده لزمه مثله لأنه صار كالهالك وإن كان يفسده رده ورد نقصه وان احتج في تخليصه إلى غرامة لزم الغصب ذلك لأنه سببه ولأصحاب الشافعي في هذه الفصول نحو ما ذكرنا.
(مسألة) (وان غصب ثوباً فصبغه أو سويقاً فلته بزيت وكان الصبغ والزيت من مال الغاصب فإن نقصت قيمتهما أو قيمة أحدهما ضمن لغاصب النقص) لأنه بتعديه إلا أن ينقص لتغير الأسعار فلا يضمن لما ذكرنا من قبل (مسألة) (وإن لم تنقص ولم تزد مثل إن كانت قيمة كل منهما خمسة فصارت قيمتهما عشرة فهما شريكان) لأن الصبغ والزيت عين مال له قيمة فإن تراضيا بتركه لهما جاز وإن باعه فثمنه بينهما نصفين (مسألة) (وإن زادت قيمتهما مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما خمسة فصارت قيمتهما عشرين فإن كان ذلك لزيادة الثياب في السوق كانت الزيادة لصاحب الثوب وإن كانت لزيادة الصبغ فهي لصاحب الصبغ وإن كانت لزيادتهما معاً فهي بينهما على قدر زيادة كل واحد منهما) فإن تساويا في الزيادة في السوق
تساوا صاحباها فيها وإن زاد أحدهما ثمانية والآخر اثنين فهي بينهما كذلك، وإن زاد ابا لعمل فالزيادة بينهما لأن عمل الغاصب زاد به في الثوب والصبغ وما علمه في المغصوب للمغصوب منه إذا كان أثراً وزيادة مال الغاصب له(5/412)
(مسألة) (وإن أراد أحدهما قلع الصبغ لم يجبر الآخر عليه ويحتمل أن يجبر إذا ضمن له الغاصب النقص) إذا أراد الغاصب قطع الصبغ فقال أصحابنا له ذلك سواء أضر بالثوب أو لم يضر ويضمن نقص الثوب إن نقص وبهذا قال الشافعي لأنه عين ماله فملك أخذه كما لو غرس في أرض غيره، ولم يفرق أصحابنا بين ما يهلك صبغه بالقلع وبين مالا يهلك قال شيخنا وينبغي أن ما يهلك بالقلع لا يملك قلعه لأنه سفه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يملك قلعه إذا تضرر به الثوب لأنه قال في المشتري إذا بنى أو غرس في الأرض المشفوعة فله أخذه إذا لم يكن في أخذه ضرر، وقال أبو حنيفة ليس له أخذه لأن فيه إضراراً بالثوب المغصوب فلم يمكن منه كقطع خرقة منه، وفارق قلع الغرس لأن الضرر قليل ويحصل به نفع قلع العروق من الأرض وإن اختار المغصوب منه قلع الصبغ ففيه وجهان (أحدهما) يملك إجبار الغاصب عليه كما يملك إجباره على قلع شجرة من أرضه وذلك لأنه شغل ملكه بملكه على وجه أمكن تخليصه فلزمه تخليصه وإن استضر الغاصب كقلع الشجر وعلى الغاصب ضمان نقص الثوب وأجر بالاستخراج وقد أمكن وصول الحق إلى مستحقه بدونه بالبيع فلم يجبر على قلع كقلع الزرع من الأرض، وفارق الشجر فإنه لا يتلف بالقلع قفال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد ولعله أخذ ذلك من قول(5/413)
أحمد في الزرع وهذا مخالف للزرع لأن له غاية ينتهي إليها ولصاحب الأرض أخذه بنفقته فلا يمتنع عليه اتسرجاع أرضه في الحال بخلاف الصبغ فإنه لا نهاية له إلا تلف الثوب فهو أشبه بالشجة في الأرض ولا يختص وجوب القلع في الشجر بما لا يتلف فإنه يجبر على قلع ما يتلف وما لا يتلف ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين.
(فصل) وإن بذل رب الثوب قيمة الصبغ للغاصب ليملكه لم يجبر على قبوله لأنه إجبار على بيع ماله فلم يجبر عليه كما لو بذل له قيمة الغراس ويحتمل أن يجبر على ذلك إذا لم يقلعه قياساً على الشجر
والبناء في الأرض المشفوعة والعارية وفي الأرض المغصوبة إذا لم يقله الغاصب ولأنه أمر يرتفع به النزاع ويتخلص به أحدهما من صاحبه من غير ضرر فأجبر عليه كما ذكرنا، وإن بذل الغصب قيمة الثوب لصاحبه ليملكه لم يجبر على ذلك كما لو بذل صاحب الغرس قيمة الأرض لما لكها في هذه المواضع (مسألة) (وإن وهب الغاصب الصبغ للمالك أو وهبه تزويق الدار ونحوها فهل يلزه قبوله؟ على وجهين) (أحدهما) يلزمه لأن الصبغ صار من صفات العين فهو كزيادة الصفة في المسلم فيه وهذا ظاهر كلام الخرقي لأنه قال في الصداق إذا كان ثوباً فصبغته فبذلت له نصفه مضبوغا لزمه قبوله (والثاني) لا يجبر لأنها أعيان متميزة فأشبهت الغراس، وإن أراد المالك بيع الثوب وأبي الغاصب فله بيعه لأنه ملكه فلا يملك الغاصب منعه من بيع ملكه بعدوانه وإن أراد الغاصب بيعه لم يجبر المالك(5/414)
على بيعه لأنه منه فلم يستحق إزالة ملك صاحب الثوب عنه بعدوانه ويحتمل أن يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه.
(مسألة) (وان غصب صبغاً فصبغ به ثوباً أو زيتاً فلت به سويقاً احتمل أن يكون كذلك كما إذا غصب ثوباً فصبغه حكمه كحكمه إذا كان الثوب والسويق للغاصب لأنه خلط المغصوب بماله ويحتمل أن يلزمه قيمته أو مثه إن كان مثلياً لأن المغصوب الصبغ وقد تفرق في الثوب وتلف يخلاف المسألة المتقدمة.
(مسألة) (وان غصب ثوباً وصبغاً فصبغه به رده وإرش نقصه ولا شئ في زيادته) إذا غصب ثوباً وصبغاً من واحد فصبغه به فلم تزد قيمتهما ولم تنقص أو زادت القيمة ردهما ولا شئ عليه وليس للغاصب شئ في الزيادة لأنه إنما له في الصبغ أثر لا عين وإن نقص لزمه ضمان النقص لأنه بتعديه إلا أن ينقص لتغير الأسعار (فصل) وإن غصب ثوب رجل وضبغ آخر فصبغه به فإن كانت القيمتان بحالهما فهما شريكان بقدر ماليهما وإن زادت فالزيادة لهما وإن نقصت بالصبغ فالضمان على الغاصب ويكون النقص من صاحب الصبغ لأنه تبدد في الثوب ويرجع بها على الغاصب، وإن نقص لنقص سعر الثياب أو الصبغ أو لنقص
سعرهما لم يضمنه الغاصب وكان نقص كل واحد منهما من صاحبه، وإن أراد صاحب الصبغ قلمه أو أراد(5/415)
ذلك صاحب الثوب فالحكم فيه كما لو صبغه الغاصب بصبغ من عنده على ما مر بيانه والحكم فيما إذا غصب سويقاً فلته بزيت أو عسلاً ونشأ فعقده حلواء حكم مالو غصب ثوباً فصبغه على ما ذكر فيه (فصل) (وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وأرش البكارة) إذا غصب جارية فوطئها فهو زان لأنها ليست زوجته ولا مك يمين وعليه حد الزنا إن كان عالماً بالتحريم وعليه مهر مثلها مكرهة كانت أو مطاوعة وقال الشافعي لامهر للمطاوعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي: ولنا أن المهر حق للسيد فلم يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها ولأنه حق للسيد يجب مع الإكراه فيجب مع المطاوعة كأجر منافعها والخبر محمول على الحرة، ويجب أرش بكارتها لأنها بدل جزء منها ويحتمل أن لا يجب لأنه يدخل في مهر الكبر ولهذا يزيد على مهر الثيب عادة لأجل ما يتضمنه من تفويت البكارة ووجه الأول أن كل واحد منهما يضمن منفرداً بدليل أنه لو وطئها ثيباً وجب مهرها وإذا أفضاها بإصبعه وجب أرش بكارتها فكذلك وجب أن يضمنهما إذا اجتمعا وعنه لا يلزمه مهر الثيب لأنه لم ينقصها ولم يؤلهما أشبه مالو قبلها والأول أولى (مسألة) (وإن ولدت فالولد رقيق للسيد لأنه من نمائها وأجزائها ولا يلحق نسبه بالواطئ لأنه من زنا وإن وضعته حيا وجب رده معها كزاوئد الغصب وإن أسقطته ميتاً لم يضمن لأنا لا نعلم(5/416)
حياته قبل هذا هذا، قول القاضي وهو ظاهر مذهب الشافعي عند أصحابه وقال القاضي أبو الحسين يجب ضمانه يقيمته لو كان حياً نص عليه الشافعي لأنه يضمنه لو سقط بضربة وما يضمن بالإتلاف يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كأجرة الأرض، قال شيخنا والأولى إن شاء الله أنه يضمنه بعشر قيمة أمه لأنه الذي يضمنه به في الجناية وان وضعته حياثم مات ضمنه بقيمته (مسألة) (ويضمن نقص الولادة ولا ينجبر بزادتها بالولد) وهذا مذهب الشافعي وقال أبو
حنيفة ينجبر نقصها بولدها.
ولنا أن ولدها ملك للمصغوب منه فلا ينجبر به نقص حصل بجناية الغاصب كالنقص الحاصل بغير الولادة وان ضرب العاصب بطنها فألقت الجنين ميتاً فعليه عشر قيمة أمه وإن فعله أجنبي ففيه مثل ذلك وللمالك تضمين أيهما شاء ويستقر الضمان على الضارب لأن الإتلاف وجد منه، وإن ماتت الجارية فعليه قيمتها أكثر ما كانت ويدخل في ذلك أرش بكارتها ونقص ولادتها ولا يدخل فيه ضمان ولدها ولامهر مثلها، ولا فرق في هذه الأحوال بين المكرهة والمطاوعة لأنها حقوق لسيدها ولا تسقط بمطاوعتها وقد ذكرنا الخلاف في مهر المطاوعة، فاما حقوقا لله تعالى من الحد والتعزير فإن كانت مطاوعة عالمة بالتحريم فعليها الحد إذا كانت من أهله والافلا (فصل) فإن كان الغاصب جاهلاً بتحريم ذلك لقرب عهده بالإسلام أو ناشئاً بيادية بعيدة يخفى(5/417)
عليه مثل هذا أو اعتقدها أمته فأخذها ثم بان أنها غيرها فلا حد عليه لأن الحدود تدرأ بالشبهات وعليه المهر وأرش البكارة وإن حملت فالولد حر لاعتقاده أنها ملكة ويحلقه النسب لمكان الشبهة وإن وضعته ميتاً لم يضمنه لأنه لم يعلم حياته ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما وجب تقويمه لا جل الحيلولة وإن وضعته حيا فعليه قيمته يوم انفصاله لأنه فوت عليه رقه باعتقاده ولا يمكن تقويمه حملاً فقوم عليه عند انفصاله لانه أول حال إمكان تقويمه ولأنه وقت الحيلولة بينه وبين سيده، وإن ضرب الغاصب بطنها فألقت جنبنا ميتاً فعليه غرة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه لا يرث الضارب منها شيئاً لأنه أتلف جنبنا حراً وعليه للسيد عشر قيمة أمه لأن الإسقاط لما يعقب الضرب ينسب إليه لأن الظاهر حصوله به وضمانه للسيد ضمان المماليك ولهذا لو وضعته حياً قومناه مملوكا، وان ضربه أجبني فعليه غرة دية الجنين الحر لأنه محكوم بحريته وتكون مورثة عنه وعلى الغاصب عشر قيمة أمه لأنه يضمنه ضمان المماليك وقد فوت رقه على السيد وحصل التلف في يديه، والحكم في المهر والأرش والأجر ونقص الولادة وقيمتها إن تلفت على ما ذكرنا إن كانا عاليمن لأن هذه حقوق الآدميين فلا تسقط بالجهل والخطأ كالدية (مسألة) (وإن باعها أو وهبها لعالم بالغصب فوطئها فللمالك تضمين أيهما شاء نقصها ومهرها وأجرتها
وقيمة ولدها إن تلف فإن ضمن الغاصب رجع على الآخر ولا يرجع الآخر عليه)(5/418)
تصرف الغاصب في العين المضمونة فاسد لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى، فإذا باع الجارية المغصوبة أو وهبها لعالم بالنصب فوطئها فللمالك تضمين الغاصب لأنه السبب في إيصالها إلى المشتري وله تضمين المشتري والمتهب لأنه المتلف ويستقر الضمان على المشتري لأن كل واحد منهما غاصب لأن الغصب الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق وقد وجد منهما ولأن كل واحد منهما يلزم ردها إذا كانت في يده لأن يده عليها بغير حق وقد قال عليه الصلاة والسلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) ويلزم المشتري كل ما يلزم الغاصب من النقص والمهر وغيره لأنه غاصب وقد ذكرنا دليله في المسألة قبلها إلا أن المالك إن ضمن الغاصب رجع على المشتري والمتهب ولا يرجع الآخر على الغاصب بما ضمنه لأنه المتلف فاستقر الضمان عليه (مسألة) (وإن لم يعلما بالغصب فضمنهما رجعا على الغاصب) إذا باع الغاصب الجارية فبيعه فاسد لما ذكرنا وفيه رواية أخرى أنه يصح ويقف على إجازة المالك وفيه رواية ثالثة أن البيع يصح لما نذكره والتفريع على الرواية الأولى، والحكم في وطئ المشتري كالحكم في وطئ الغاصب إلا أن المشتري إذا ادعى الجهالة قبل منه بخلاف الغاصب فإنه لا يقبل منه إلا بالشرط الذي ذكرناه ويجب رد الجارية إلى سيدها وللمالك مطالبة أيهما شاء بردها لأن الغاصب أخذها بغير حق والمشتري أخذ مال غيره بغير حق(5/419)
أيضاً فيدخل في عموم قوله عليه السلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) وهذا لا خلاف فيه بحمدالله ويلزم المشتري المهر لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح وعليه أرش البكارة ونقص الولادة كالغاصب ويلزم ذلك مع الجهل لأن الإتلاف لا يعذر فيه بالجهل والنسيان (مسألة) (وإن ولدت منه فالولد حر) لأنه اعتقد أنه يطأ مملوكته فمنع ذلك انخلاق الولد رقيقاً ويلحقه النسب وعليه فداؤهم لأنه فوت رقهم على السيد باعتقاده حل الوطئ هذا الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب، وقد نقل ابن منصور عن أحمد أن المشتري لا يلزمه فداء أولاده وليس للسيد بدلهم لأنهم
كانوا في حال العلوق أحراراً ولم تكن لهم قيمة حينئذ قال الخلال أحسبه قولاً لأبي عبد الله أول والذي أذهب إليه أنه يفديهم وقد نقله ابن منصور أيضاً وجعفر به محمد وهو قول أبي حنيفة والشافعي ويفديهم ببدلهم يوم الوضع وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب يوم المطالبة لأن ولد المغصوب لا يضمنه عنده إلا بالمنع وقيل المطالبة لم يحصل منع فلم تجب وقد ذكرنا فيما مضى أنه يحدث مضمونا عليه وقوم يوم وضعه لأنه أول حال أمكن تقويمه (مسألة) (ويفديه بمثله في صفاته تقريباً) هذا ظاهر قول الخرقي لأنهم أحرار والحر لا يضمن بقيمته وقال أبو بكر يفديهم بثهلهم في القيمة وعن أحمد رواية ثالثة أنه يفديهم بقيمتهم حكاها أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة والشافعي وهي أصح إن شاء الله تعالى لأن الحيوان ليس بمثلي فيضمن بقيمته كسائر(5/420)
المتقومات ولأنه لو أتلفه ضمنه بقيمته كذلك هذا (مسألة) (ويرجع بذلك على الغاصب) يعني بالمهر وما فدى به الأولاد لأن المشتري دخل على أن يسلم له الأولاد وأن يتمكن من الوطئ بغير عوض فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره البائع فيرجع به عليه وإن كانت الجارية باقية ردها إلى سيدها ولا يرجع بيدلها لأنها ملك المغصوب منه رجعت عليه لكنه يرجع على الغاصب بالثمن الذي أخذه منه لقوله عليه السلام (على اليد ما أخذت حتى تؤدي) (مسألة) (وإن تلفت فعليه قيمتها لمالكها كما يلزمه نقصها ولا يرجع بها على الغاصب إن كان مشترياً) لأن المشتري دخل مع الغاصب على أن يكون ضامناً لذلك بالثمن فإذا ضمنه القيمة لم يرجع بها لكنه يرجع بالثمن لأن البيع باطل فلم يدخل الثمن في ملك الغاصب كما لو وجد العين باقية فأخذها المالك فإنه يرجع بالثمن، فأما المتهب فيرجع بالقيمة على الغاصب لأنه دخل مع الغاصب على أن يسلم له العين فينبغي أن يرجع بما غرم من قيمتها على الغاصب كقيمة الاولاد (مسألة) (وعنه أن ما حصلت له منفعة كالأجرة والمهر وأرش البكارة لا يرجع به) وجملة ذلك أن المالك إذا رجع على المشتري فأراد المشتري الرجوع على الغاصب فهو على ثلاثة أضرب: ضرب لا يرجع به وهو قيمتها إن تلفت في يده وأرش بكارتها، وفيه رواية أخرى أنه يرجع به كالمهر وبدل جزء من
أجزائها لأنه دخل مع الغاصب على أن يكون ضامناً لذلك بالثمن فإذا ضمنه لم يرجع به، وضرب يرجع(5/421)
به وهو بدل الولد إذا ولدت منه لأنه دخل معه في العقد على أن لا يكون الولد مضموناً ولم يحصل من جهته إتلاف وإنما الشرع أتلفه بحكم بيع الغاصب منه وكذلك نقص الولادة، وضرب اختلف فيه وهو مهر مثلها وأجر نفعها وفيه روايتان (إحداهما) يرجع به وهو قول الخرقي لأنه دخل العقد على أن يتلفه بغير عوض فإذا غرمه رجع به كبدل الولد ونقص الولادة (والثانية) لا يرجع به وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه غرم ما استوفى بدله فلا يرجع كقيمة الجارية وبدل أجزائها وللشافعي قولان كالروايتين (مسألة) (فإن ضمن الغاصب رجع على المشتري بما لا يرجع به عليه كما لو رجع به على المشتري لا يرجع به المشتري على الغاصب) إذا رجع به المالك على الغاصب رجع الغاصب به على المشتري وكل مالو رجع به على المشتري رجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه الغاصب لم يرجع به على المشتري لأنه الضمان استقر على الغاصب فإن ردها حاملاً فماتت من الوضع فهي مضمونة على الواطئ لأن التلف بسبب من جهته (مسألة) (فإن ولدت من زوج فمات الولد ضمنه بقيمته) إذا اشترى الجارية المغصوبة من لا يعلم بذلك فزوجها لغير عالم بالغصب فولدت من الزوج فهو مملوك لأنه من زوائدها ونمائها فيكون مضموناً على من هو في يده بقيمته إذا تلف لأنه مال وليس بمثلي، وهل يرجع يها على الغاصب؟ على روايتين على ما ذكرنا فيما إذا ضمن المشتري ما حصل به نفع ووجه الروايتين ما سبق (فصل) إذا وهب المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان عليه ولا يرجع به على أحد لأنه غاصب(5/422)
ولم يغره أحد وإن لم يعلم فلصاحبه تضمين أيهما شاء ويرجع المتهب على الواهب بقيمة العين والأجر لأنه غيره وقال أبو حنيفة أيهما ضمن لم يرجع على الآخر ولنا أن المتهب دخل على أن يسلم له العين فيجب أن يرجع بما غرم من قيمتها كقيمة الأولاد فإنه وافقنا على الرجوع بها فأما الأجر والمهر وأرش البكارة ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في المشتري (مسألة) (وإن أعارها فتلفت عند المستعير استقر ضمان قيمتها عليه وضمان الأجر على الغاصب)
فإن ضمن المستعير مع علمه بالغصب لم يرجع على أحد وإن ضمن الغاصب رجع على المستعير وإن لم يكن علم بالغصب فضمنه لم يرجع بقيمة العين لأنه قبضها على أنها مضمونة عليه، وفي الرجوع بالأجر وجهان (أحدهما) يرجع لأنه دخل على أن المنافع غير مضمونة عليه (والثاني) لا يرجع به لأنه انتفع بها فقد استوفى بدل ما غرم وكذلك الحكم فيما تلف من الأجزاء بالاستعمال إذا كانت العين وقت القبض أكثر قيمة من يوم التلف فضمن الأكثر فينبغي أن يرجع بما بين القيمتين لأنه دخل على أنه لم يضمنه ولم يستوف بدله فإن ردها المستعير على الغاصب لم يسقط عنه الضمان لانه فوت الملك على مالكه بتسليمه إلى غير مستحقه ويستقر الضمان على الغاصب إن حصل التلف في يده وكذلك الحكم في المودع (مسألة) (وإن اشترى أرضاً فغرسها أو بنى فيها فخرجت مستحقة وقلع غرسه وبناءه رجع المشتري على البائع بما غرمه) ذكره القاضي في القسمة لأنه ببيعه إياها غره وأوهمه أنها ملكه وكان ذلك سبيا(5/423)
في بنائه وغرسه فرجع عليه بما غرمه عليها كرجوعه بما أعطاه من ثمنها (مسألة) (وإن أطعم المغصوب لعالم بالغصب استقر الضمان عليه) لكونه أتلف مال غيره بغير إذنه عالماً من غير تعرير وللمالك تضمين الغاصب لأنه حال بينه وبين ماله والآكل لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه وقبضه من يد ضامنه بغير إذن مالكه فإن ضمن الغاصب رجع على الآكل وإن ضمن الآكل لم يرجع على أحد (مسألة) (وإن لم يعلم وقال له الغاصب كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب) لاعتراف، بأن الضمان باق عليه وإن لم يلزم الآكل شئ ولأنه غر الآكل (مسألة) (وإن لم يقل ففي أيهما يستقر عليه الضمان؟ وجهان) أحدهما يستقر الضمان على الآكل وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد لأنه ضمن فلم يرجع به على أحد والثاني يستقر على الغاصب لأنه غر الآكل وأطعمه على أنه لا يضمنه وهذا ظاهر كلام الخرقي وأيهما استقر عليه الضمان فغرم لم يرجع على أحد وإن غرم صاحبه رجع عليه (مسألة) (إن أطعمه لمالكه ولم يعلم لم يبرأ نص عليه) إذا أطعم المغصوب لمالكه فأكله عالماً أنه
طعامه برئ الغاصب وإن لم يعلم وقال له كله فإنه طعامي استقر الضمان على الغاصب لما ذكرنا وإن كانت له بينة بأنه طعام المغصوب منه، وإن لم يقبل ذلك بل قدمه إليه وقال كله فظاهر كلام أحمد أنه لا يبرأ(5/424)
لأنه قال في رواية الأثرم في رجل له قبل رجل تبعه فأوصلها إليه على سبيل صدقة أو هدية فلم يعلم فقال كيف هذا؟ هذا يرى أنه هدية يقول له هذا لك عندي، وهذا يدل على أنه لا يبرأ ههنا فيأكل المالك طعامه بطريق الأولى لأنه ثم رد إليه يده وسلطانه وههنا بالتقديم إليه لم يعد إليه اليد والسلطان فإنه لا يتمكن من التصرف فيه بكل ما يريد من أخذه وبيعه والصدقة به فلم يبرأ به الغاصب كما لو علفه لدوابه ويتخرج أن يبرأ بناء على ما إذا أطعمه لأجنبي فإنه يستقر الضمان على الآكل في إحدى الروايتين فكذلك ههنا وهذا مذب أبي حنيفة (فصل) وإن وهب المغصوب لمالكه أو أهداء إليه برئ في الصحيح لأنه سلمه اليه تسليماً تاماً وزالت يد الغاصب وكلام أحمد في رواية الأثرم محمول على ما إذا أعطاه عوض حقه على سبيل الهبة فأخذه المالك على هذا الوجه لا على سبيل العوض فلم تثبت المعاوضة ومسئلتنا فيما إذا رد عليه عين ماله وأعاد يده التي أزالها وإن باعه إياه وسلمه إليه برئ من الضمان لأنه قبضه بالإبتياع وهو موجب للضمان وكذلك إن أقرضه إياه لما ذكرنا (مسألة) (وإن رهنه عند مالكه أو أودعه إياه أو أجره أو استأجره على قصارته أو خياطته ولم يعلم لم يبرأ من الضمان) لأنه لم يعد إليه سلطانه إنما قبضه على أنه أمانة، وقال بعض أصححابنا يبرأ رده إلى يده(5/425)
وسلطانه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والأول أولى فإنه لو أباحه أكله فأكله لم يبرأ فههنا أولى.
(مسألة) (وإن أعاره إياه برئ علم أو لم يعلم) لأن العارية توجب الضمان على المستعير فلو وجب الضمان على الغاصب رجع به على المستعير ولا فائدة
في وجوب شئ عليه يرجع به على من وجب له (مسألة) (وإن اشترى عبداً فأعتقه فادعى رجل أن البائع غصبه فصدقه أحدهما لم يقبل على الآخر وإن صدقاه مع العبد لم يبطل العتق ويستقر الضمان على المشتري ويحتمل أن يبطل العتق إذا صدقوه كلهم) إذا اقام المدعي بينة بما ادعاه بطل البيع والعتق ويرجع المشتري على البائع بالثمن وإن صدقه البائع أو المشتري لم يقبل قول أحدهما على الآخر لأنه لا يقبل إقراره في حق غيره وإن صدقاه جميعاً لم يبطل العتق وكان العبد حراً لأنه قد تعلق به حق لغيرهما فإن وافقهما العبد فقال القاضي لا يقبل أيضاً لأن الحرية حق يتعلق بها حق لله تعالى ولهذا لو شهد شاهدان بالعتق مع اتفاق السيد والعبد علياالرق قبلت شهادتهما، ولو قال رجل أنا حرثم أقر بالرق لم يقبل إقراره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يبطل العتق إذا اتفق عليه كلهم ويعود العبد إلى المدعي لأنه مجهول النسب أقر بالرق لمن(5/426)
يدعيه فصح كما لو لم يعتقه المشتري، ومتى حكمنا بالحرية فللمالك تضمين أيهما شاء قيمته يوم عتقه فإن ضمن البائع رجع على المشتري لأنه أتلفه وإن ضمن المشتري لم يرجع على البائع إلا بالثمن لأن التلف حصل منه فاستقر الضمان عليه وإن مات العبد فخالف مالا فهو للمدعي لإتفاقهم على أنه له وإنما لم يرد العبد إليه لتعلق حق الحرية به إلا أن يخلف وارثاً فيأخذه وليس عليه ولاء لأن أحداً لا يدعيه وإن صدق المشتري البائع وحده رجع عليه بقيمته ولم يرجع المشتري بالثمن وبقية الأقسام على ما نذكر في الفصل بعده (فصل) وإن كان المشتري لم يعتقه وأقام المدعي بينة بما ادعاه انتقض البيع ورجع المشتري على البائع بالثمن وكذلك إذا أقرا بذلك وإن أقر أحدهما لم يقبل على الآخر فإن كان المقر البائع لزمته القيمة للمدعي لأنه حال بينه وبين ملكه ويقر العبد في يد المشتري لأنه ملكه في الظاهر وللبائع إحلافه إن كان البائع لم يقبض الثمن فليس له مطالبة المشتري لأنه لا يدعيه ويحتمل أن يملك مطالبته بأقل الأمرين من الثمن أو قيمة العبد لأنه يدعي القيمة على المشتري والمشتري يقر له بالثمن فقد اتفقا على
استحقاق أقل الأمرين فوجب ولا يضر اختلافهما في السبب بعد اتفاقهما على حكمه كما لو قال لي عليك ألف من ثمن مبيع فقال بل ألف من قرض وإن كان قد قبض الثمن فليس للمشتري استرجاعه لأنه لا يدعيه ومتى عاد العبد إلى البائع بفسخ أو غيره لزمه رده إلى مدعيه وله استرجاع ما أخذ منه(5/427)
وإن كان إقرار البائع في مدة الخيار انفسخ البيع لانه يملك فسخه فقبل إقراره بما يفسخه وإن كان المقر المشتري وحده لزمه رد العيب ولم يقبل إقراره على البائع ولا يملك الرجوع عليه بالثمن إن كان قبضه وعليه دفعه إليه إن لم يكن قبضه فإن أقام المشتري بينه بما أقر به قبلت وله الرجوع بالثمن وإن كان البائع المقر فأقام بينة فان كان في حال البيع قال بعتك عبدي هذا أو ملكي لم تقبل بينته لأنه تكذبها وإن لم يكن قال ذلك قبلت لأنه يبيع ملكه وغيره، وإن أقام المدعى البينة سمعت ولا تقبل شهادة البائع له لأنه يجربها إلى نفسه نفعاً وإن أنكراه جميعاً فله إحلافهما قال أحمد في رجل يجد سرقته عند إنسان بعينها قال هو ملكه يأخذه أذهب إلى حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به ويتبع المتباع من باعه) رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن الحسن عن سمرة وموسى بن السائب ثقة (فصل) قال رضي الله عنه (وإن أتلف المغصوب ضمنه بمثله إن كان مكيلا أو موزونا) متى تلف المغصوب في يد الغاصب لزمه رد بدله لقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ولأنه لما تعذر رد العين لزمه رد ما يقوم مقامها فإن كان المتلف مثلياً كالمكيل والموزون مكيلا أو موزونا وجب المثل قال ابن عبد البركل مطعوم من مأكول أو مشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته ولأن المثل أقرب إليه من القيمة فهو ممائل له من طريق الصورة والمشاهدة(5/428)
كالنص والمعنى والقيمة مماثلة من طريق الظن والإجتهاد فقدم ما طريقه المشاهدة كالنص لما كان طريقه الإدراك بالسماع كان أولى من القياس لأن طريقه الظن والاجتهاد (مسألة) (وإن أعوز المثل فعليه قيمة مثله يوم إعوازه)
وقال القاضي تجب قيمته يوم قبض البدل لانه الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل أنه لو وجد المثل بعد إعوازه لكان الواجب هو دون القيمة، وقال أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحاب الشافعي تجب قيمته يوم المحاكمة لأن القيمة لم تنتقل إلى ذمته الاحين حكم بها الحاكم ولنا أن القيمة وجبت في الذمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حنيئذ لتلف المتقوم ودليل وجوبها حينئذ أنه يستحق طلبها واستيفاء ها ويجب على الغاصب أداؤها ولا ينفي وجوب المثل لأنه معجوز عنه والتكليف يستدعي الوسع ولأنه لا يستحق طلب المثل ولا استيفاء ولا يجب على الآخر أداؤه فلم يكن واجباً كحالة المحاكمة، وأما إذا قدر على المثل بعد فقده فإنه يعود وجوبه لأنه الأصل قدر عليه قبل أداء البدل فأشبه القدرة على الماء بعد التيمم ولهذا لو قدر عليه بعد المحاكمة وقبل الإستيفاء استحق المالك طلبه وأخذه وعنه تلزمه قيمته يوم تلفه لأن القيمة نما ثبتت في الذمة حين التلف لأنه قبل التلف يجب رده فإذا تلف وجبت قيمته يوم تلفه كغير المثلي (مسألة) (وإن لم يكن مثليا ضمنه قول باقي الجماعة)(5/429)
وحكي عن العنبري أنه يجب في كل شئ مثله لما روت جسرة بنت دجاجة عز عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت صانعاً مثل حفصة صنعت طعاماً فبعثت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذني الافكل فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت فقال (إنا مثل الإناء وطعام مثل الطعام) رواه أبو داود وعن أنس أن احد نساء النبي صلى الله عليه وسلم كسرت قصعة الأخرى فدفع النبي صلى الله عليه وسلم قصعة الكاسرة إلى رسول صاحبة المكسورة وحبس المكسورة في بيته رواه الترمذي بنحوه وقال حسن صحيح ولنا ما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعتق شركاله في عبد قوم عليه قيمة العدل) متفق عليه فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل والحديث محمول على أنه جوز ذلك بالتراضي وعلم أنها ترضى به ولأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتخلف صفلتها فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها فكانت أولى ويكون ذلك يوم تلفه لما ذكرنا ويكون في بلده من نقده لأنه موضع الضمان يعني يضمنه في البلد الذي غصبه فيه من نقده، ويتخرج أن يضمنه بقيمته يوم غصبه وهو
قول أبي حنيفة ومالك وروى عن أحمد لانه قوته عليه بغصبه فكان عليه قيمة ما فوت عليه حين فوته وقد روي عن أحمد في رجل أخذ من رجل أرطالاً من كذا وكذا أعطاه على السعريوم أخذه لا يوم محاسبته ولذلك روي عنه في حوائج البقال عليه القيمة يوم الأخذ وهذا يدل على أن القيمة تعتبر يوم الغصب والأولى أولى.
قال شيخنا ويمكن التفريق بين هذا وبين الغصب من قبل أن ما أخذه ههنا بإذن مالكه(5/430)
ملكه وحل له التصرف فيه فثبتت قيمته يوم ملكه ولم يعتبر ما ثبت في ذمته بتغير قيمة ما أخذه لأنه ملكه والمغصوب ملك المغصوب منه والواجب رده لا قيمته، وإنما تثبت قيمته في الذمة يوم تلفه أو انقطاع مثله فاعتبرت القيمة حينئذ وتغيرت بتغيره قبل ذلك، فأما إن كان المغصوب باقياً وتعذر رده فأوجبنا رد قيمته فإنه يطالبه بها يوم قبضها لأن القيمة لم تثبت في الذمة قبل ذلك ولهذا يتخير بين أخذها والمطالبة بها وبين الصبر إلى وقت إمكان الرد ومطالبة الغاصب بالسعي في رده وإنما يأخذ القيمة لأجل الحيلولة بينه وبينه فيعتبر ما يقوم مقامه لأن ملكه لم يزل عنه بخلاف غيره (فصل) وقد قال الخرقي فيمن غصب جارية حاملاً فولدت في يديه ثم مات الولد أخذها سيدها وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته، فحمل القاضي قول الخرقي على ما إذا اختلفت القيمة لتغير الأسعار وهو مذهب الشافعي، فعلى هذا إذا تلف المغصوب لزم الغاصب قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف لأن أكثر القيمتين فيه للمغصوب منه فإذا تعذر ردها ضمنه كقيمته يوم التلف، إنما سقطت القيمة مع رد العين، والمذهب أن زيادة القيمة بتغير الأسعار غير مضمونة على الغاصب وقد ذكرنا ذلك، وعلى هذا فكلام الخرقي محمول على ما إذا اختلف القيمة لمعنى في المغصوب من كبر وصغر وسمن وهزال ونسيان ونحو ذلك فالواجب القيمة أكثر ما كانت لانهما مغصوبة في الحال التي زادت فيها والزيادة لما لكها مضمونة على الغاصب على ما قدرناه بدليل أنه لورد العين ناقصة لزمه أرش نقصها(5/431)
وهو بدل الزيادة فإذا ضمن الزيادة مع بقائها ضمنها عند تلفها بخلاف زيادة القيمة لتغير الأسعار فإنها لا تضمن مع ردها فكذلك مع تلفها، وقولهم انها انما سقطت مع رد العين لا يصح لأنها لو وجبت ما سقطت
بالرد كزيادة السمن قال القاضي ولم أجد عن أحمد رواية بأنها تضمن بأكثر القيمتين لتغير الأسعار فعلى هذا تضمن بقيمتها يوم التلف وقد روي عن أحمد أنها تضمن بقيمتها يوم الغصب إلا أن الخلال قال جبن أحمد عنه كأنه رجع إلى القول الأول وقد ذكرناه (مسألة) (فإن كان مصوغاً أو تبراً تخالف قيمته وزنه قومه بغير جنسه) متى كان المصاغ تزيد قيمته على وزنه أو تنقص والصناعة مباحة كحلي السناء وجب ضمانه بقيمته لكن يقومه بغير جنسه فيقوم الذهب بالفضة والفضة بالذهب لئلا يفضي ذلك إلى الربا، وقال القاضي يجوز تقويمه بجنسه لأن ذلك قيمته والصنعة لها قيمة بدليل أنه لو استأجره لعملها جاز، ولو كسر الحلي وجب عليه أرش ذلك ويخالف البيع لأن الصنعة لا يقابلها العوض في العقود ويقابلها في الإتلاف ألا ترى أنها لا تنفرد بالعقد وتنفرد بضمانها في الإتلاف؟ قال بعض أصحاب الشافعي هذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم مثل القول الأول وهو الذي ذكره أبو الخطاب لأن القيمة مأخوذة على سبيل العوض فالزيادة ربا كالبيع وكالنقص، وقد قال أحمد في روااية ابن منصور إذا كسر الحلي يصلحه أحب إلي قال القاضي هذا محمول على أنهما تراضيا بذلك لا على طريق الوجوب، فإن كانت الصناعة محرمة كالأواني وحلي الرجال المحرم(5/432)
لم يجز ضمانه بأكثر من وزنه وجهاد واحداً لأن الصناعة لا قيمة لها شرعا (مسألة) (فإن كان محلى بالنقدين معاقومه بما شاء منهما) للحاجة وأعطاه بقيمته عوضاً لئلا يفضي إلى الربا ولا يمكن تقويمه إلا بأحدهما لأنهما قيم الأموال فدعت الحاجة إلى تقويمهما بأحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فكانت الخيرة إليه في تقويمه بما شاه منهما، والدليل على أنه لا يمكن تقويمه إلا بأحد النقدين أنه لا يمكن تقويمه بكل واحد منهما منفرداً لعدم معرفة ما فيه منه ولأن قيمة الحلية قد تنقص بالتحلية بها وقد تزيد ولا يمكن إفرادها بالبيع ولا بغيره من التصرفات وإنما يقوم المحلى كالسيف بأن يقال كم قيمة هذا؟ ولو بيع ماكان الثمن إلا عوضاً له لأن الحلية صارت فصة له وزينة فيه فكانت القيمة فيه موصوفا بهذا الصفة كقيمته في بيعه والله أعلم.
(فصل) وقد ذكرنا أن ما تتماثل أجزاؤه وتنقارب كالأثمان والحبوب والأدهان يضمن بمثله وهذا لا خلاف فيه، فأما سائر المكيل والموزون فظاهر كلام أحمد أنه يضمنه بمثله أيضاً فإنه قال في رواية حرب ما كان من الدراهم والدنانير وما يكال ويوزن فظاهرة وجوب المثل في كل مكيل وموزون إلا أن يكون مما فيه صناعة مباحة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص والصوف والشعر العزول فإنه يضمن بقيمته لأن الصناعة تؤثر في قيمته وهي مختلفة فالقيمة فيه أحصر فأشبه غير المكيل والموزون(5/433)
وذكر القاضي أن النقرة والسبيكة من الأثمان والعنب والرطب والكمثري إنما يضمن بقيمته، وظاهر كلام أحمد يدل على ما قلنا وإنما خرج منه ما فيه الصناعة لما ذكرنا ويحتمل أن تضمن النقرة بقيمتها لتعذر وجود مثله إلا بكسر النقود المضروبة وسبكها وفيه إتلاف (مسألة) (وإن تلف بعض المغصوب فنقصت قيمة باقيه كزوجي خف تلف أحدهما فعليه رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص وقيل لا يلزم أرش النقص) إذا غصب شيئين ينقصهما التفريق كزوجي خف أو مصراعي باب فتلف أحدهما رد الباقي وقيمة التلف وأرش نقصهما فإذا كانت قيمتهما ستة دراهم، فصارت قيمة الباقي بعد التلف درهمين رده وأربعة دراهم وفيه وجه آخر أنه لا يلزمه إلا قيمة التالف مع رد الباقي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه لم يتلف غيره ولأن نقص الباقي نقص قيمة فلا يضمنه كالنقص لتغير الأسعار.
ولنا أنه نقص حصل بجنايته فلزمه ضمانة كما لو غصب ثوباً فشقه ثم تلف أحد الشقين فإنه يلزمه رد الباقي وقيمة التالف وأرش النقص إن نقص بخلاف نقص السعر فإنه لم يذهب من المغصوب عين ولا معنى وههنا فوت معنى وهو إمكان الانتفاع به وهذا هو الموجب لنقص قيمته وهو حاصل من جهة الغاصب فينبغي أن يضمنه كما لو فوت بصره أو سمعه أو علقه أو فك تركيب باب ونحوه(5/434)
(فصل) وإن غصب ثوباً فلبسه فأبلاه فنقص نصف قيمته ثم غلت الثياب فعادت قيمته كما كانت مثل إن غصب ثوباً قيمته عشرة فنقصه لبسه حتى صارت قيمته خمسة ثم زادت قيمته فصارت عشرة رده
وإرش نقصه لأن ما تلف قبل غلاء الثوب ثبتت قيمته، في الذمة فلا يتغير ذلك بغلاء الثوب ولا رخصه وكذلك لو رخصت الثياب فارت قيمته ثلاثة لم يلزم الغاصب إلا خمسة مع رد الثوب ولو تلف الثوب كله وقيمته عشرة ثم غلت الثياب فصارت قيمته عشرين لم يضمن إلا عشرة لأنها تثبت في الذمة عشرة فلا تزاد بغلاء الثياب ولا تنقص برخصها (فصل) فإن غصب ثوباً أو زلياً فذهب بعض أجزائه كخمل المنشفة فعليه أرش نقصه، وإن أقام عنده مدة لمثلها أجرة لزمته أجرته سواء استمعله أو تركه، ولو اجتمعا مثل إن أقام عنده مدة وذهب بعض أجزائه فعليه ضمانهما معاً الأجرة وأرش النقص سواء كان ذهاب الأجزاء بالإستعمال كثوب ينقصه النسر نقص بنشره وبقي عنده مدة ضمن الأجر والنقص، وإن كان النقص بالاستمال كثوب لبسه فأبلاه فكذلك يضمنهما معاً في أحد الوجهين والثاني يجب أكثر الأمرين من الأجر أو أرش النقص لأن ما نقص من الاجزاء في مقابلة الأجر ولذلك لا يضمن المستأجر تلك الأجزاء ويتخرج لنا مثل ذلك.
ولنا أن كل واحد منهما ينفرد بالإيجاب عن صاحبه فاذا إجتمعا وجباً كما لو أقام في يده مدة ثم(5/435)
تف والأجرة تجب في مقابلة من المنافع لا في مقابلة الأجزاء ولذلك يجب الأجر وإن لم تفقت الأجزاء، وإن لم يكن للمغصوب أجرة كثوب غير مخيط فليس على الغاصب الاضمان نقصه (فصل) وإن نقص المغصوب عندا لغاصب ثم باعه فتلف عند المشتري فله تضمين من شاء منهما إذا لم يكن النقص لتغير الأسعار وقد ذكرناه، فإن ضمن الغاصب ضمنه فيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف لأنه في ضمانه من حين غصبه إلى يوم تلفه وإن ضمن المشتري ضمنه قيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى يوم تلفه لأن ما قبل القبض لم يدخل في ضمانه، وإن كانت له أجرة فله الرجوع على الغاصب بجمعيها وعلى المشتري بأجر مقامه في يده وبالباقي على الغاصب وقد مر الكلام في رجوع كل واحد منهما على صاحبه (مسألة) (وان غصب عبداً فأبق أو فرساً فشرد أو شيئاً تعذر رده مع بقائه ضمن قيمته فإن قدر
عليه بعد رده وأخذ القيمة) وجملته أن من غصب شيئاً فعجز عن رده مع بقائه كعبد آبق فللمغصوب منه المطالبة ببدله فإذا أخذه ملكه ولم يلمك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليه لزمه رده ويسترد بدلها الذي أداه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يتخير المالك بين الصبر إلى إمكان ردها فيستردها وبين تضمينه إياها فيزول ملكه عنها وتصير ملكاً للغاصب لا يلزمه ردها إلا أن يكون دفع دون قيمتها فهو له مع(5/436)
يمينه لأن المالك ملك البدل فلا يبقى ملكه على المبدل كالبيع ولأنه تضمين فيما ينقل الملك فيه ففقله كما لو خلط زيته بزيته.
ولنا أن المغصوب لا يصح ملكه بالبيع ههنا فلا يصح بالتضمين كالتالف ولأنه ضمن ما تعذر عليه رده بخر وجه عن يده فلا يملكه بذلك كما لو كان المغصوب مدبراً وليس هذا جميعا بين البدل والمبدل لأنه ملك القيمة لأجل الحيلولة لا على سبيل العوض ولهذا إذا رد المغصوب إليه رد القيمة عليه ولا يثبه الزيت لأنه يجوز بيعه ولأن حق صاحبه إنقطع عنه لتعذر رده.
إذا ثبت ذلك فإنه إذا قدر على المغصوب رده ونماءه المنفصل والمتصل وأجر مثله إلى حين دفع بدله، ويجب على المالك ردما أخذه بدلاً عنه إلى الغاصب لأنه أخذه بالحيلولة وقد زالت فيجب رد ما أخذ من أجلها إن كان باقيا بعينه ورد زيادته المتصلة لأنها تتبع في الفسوخ وهذا فسخ ولا يلزم منه رد زيادته المنفصلة لأنها وجدت في ملكه ولا تتبع في الفسوخ فأشبهت زيادة المبيع المردود بعيب، وإن كان البدل تالفاً فعليه مثله أو قيمته إن لم يكن من ذوات الأمثال.
(مسألة) (وان غصب عصيراً فتخمر فعليه مثله) لأنه تلف في يده فإن صار خلا وجب رده وما نقص من قيمة العصير ويسترجع ما أداه من بدله وقال بعض أصحاب الشافعي يرد الخل ولا يسترجع البدل لان العصير تلف بتخمره فوجب ضمانه فإن(5/437)
عاد خلا كان كما لو هزلت الجارية السمينة ثم عاد سنمها فإنه يردها وأرش نقصها
ولنا أن الخل عن العصير تغير صفته وقد رده فكان له استرجاع ما أداه بدلاً عنه كما لو غصبه فغصبه منه غاصب ثم رده عليه وكما لو غصب حملاً فصار كبشاً، وأما السمن الأول فلنا فيه منع وإن سلمنا فالثاني غير الأول بخلاف مسئلتنا (فصل) إذا غصب أثماناً فطالبه مالكها بها في بلد آخر وجب ردها إليه لأن الأثمان قيم الأموال فلا يضر إختلاف قيمتها، وإن كان المغصوب من المتقومات لزم دفع قيمته في بلد الغصب وإن كان من المثليات وقيمته في البلدين واحدة أو هي أقل في البلد الذي لقيه فيه فله مطالبته بمثله لأنه لا ضرر على الغاصب فيه، وإن كانت أكثر فليس له المثل لأنا لا نكلفه النقل إلى غير البلد الذي غصب فيه وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب، وفي جميع ذلك متى قدر على المغصوب أو المثل في بلد الغصب رده وأخذ القيمة كما لو غصب عبداً فأبق.
(فصل) قال رضي الله عنه (فإن كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده سواء استوفى المنافع أو تركها تذهب) هذا المعروف في المذهب نص عليه أحمد في رواية الأثرم وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يضمن المنافع وهو الذي نصره أصحاب مالك وقد روى محمد بن الحكم عن أحمد فيمن غصب داراً فسكنها عشرين سنة لا أجترئ أن أقول عليه سكنى ما سكن وهذا يدل على(5/438)
توقفه عن إيجاب الأجر إلا أن أبا بكر قال هذا قول قديم لأن محمد بن الحكم مات قبل أبي عبد الله بعشرين سنة.
واحتج من لم يوجب الأجر بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وضمانها على الغاصب ولأنه استوفى منفعته بغير عقد ولا شبهة ملك أشبه مالو زنا بامرأة مطاوعة ولنا أن كل ما ضمنه بالإتلاف في العقد الفاسد جاز أن يضمنه بمجرد الإتلاف كالأعيان ولأنه أتلف متقوماً فوجب ضمانه كالأعيان أو نقول مال متقوم مغصوب فوجب ضمانه كالعين وأما الخبر فوارد في البيع ولا يدخل فيه الغاصب لأنه لا يجوز له الانتفاع بالمغصوب بالإجماع ولا يشبه الزنا لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير عوض ولا عقد يقتضي العوض فكان بمنزلة من أعاره داراً، ولو أكرهها عليه لزمه مهرها، والخلاف فيما له منافع تستباح بعقد الإجارة كالعقار والثياب والدواب ونحوها فأما الغنم والشجر
والطير ونوحها فلا شئ فيها لأنها لا منافع لها يستحق بها عوض، ولو غصب جارية ولم يطأها ومضى عليها زمن يمكن الوطئ فيه لم يضمن مهرها لأن منافع البضع لا تتلف إلا بالإستيفاء بخلاف غيرها ولأنها لا تقدر بزمن فيتلفها مضي الزمن بخلاف المنفعة، ولو أطرق الفحل لم يضمن منفعته لانه لاعوض له لكن عليه ضمان نقصه (مسألة) (وإن تلف المغصوب فعليه أجرته إلى وقت تلفه) لأنه بعد التلف لم تبقن له منفعة لم يجب ضمانها كما لو أتلفه من غير غصب(5/439)
(مسألة) (وان غصب شيئاً فعجز عن رده فأدى قيمته فعليه أجرته إلى وقت أداء القيمة) لأن منافعه إلى وقت أداء القيمة ممولكة لصاحبه فلزمه ضمانها وهل يلزم أجرة من حين دفع بدله إلى رده؟ فيه وجهان أصحهما لا يلزمه لأن إستحق الإنتفاع ببدله انلذي أقيم مقامه فلم يستحق الإنتفاع به وبما قام مقامه والثاني له الأجر لأن العين باقيه على ملكه والمنفعة له (فصل) وتصرفات الغاصب الحكمية كالحج وسائر العبادات والعقود كالبيع والنكاح ونحوها باطلة في إحدى الروايتين والأخرى صحيحة) تصرفات الغاصب كتصرف الفضولي وفيه روايتان أظهرهما بطلانها والثانية صحتها ووقوفها على إجازة المالك وذكر شيخنا في الكتاب المشروح رواية أنها تقع صحيحة وذكره أبو الخطاب وسواء في ذلك العبادات كالطهارة والصلاة والزكاة والحج والعقود كالبيع والإجارة والنكاح وهذا ينبغي أن يتقيد في العقود بما لم يبطله المال، فأما ما إختار المالك إبطاله وأخذ المعقود عليه فلا نعلم فيه خلافاً وأما ما لم يدركه المالك فوجه التصحيح فيه أن الغاصب تطول مدته وتكثر تصرفاته ففي القضاء ببطلانها ضرر كثير وربما عاد الضرر على المالك فإن الحكم بصحتها يقتضي كون الربح للمالك والعوض نمائه وزيادته له الحكم ببطلانها يمنع ذلك (مسألة) (وإن اتجر بالدراهم فالربح لمالكها) إذا غصب أثماناً فاتجر بها أو عروضاً فباعها وأتجر بثمنها فقال أصحابنا الربح للمالك والسلع(5/440)
المشتراة له وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب إن كان الشراء بعين المال فالربح للمالك لأنه نماء ملكه قال الشريف وعن أحمد أنه يتصدق وبه لو قوع الخلاف فيه (مسألة) (وإن إشترى في ذمته ثم تقدها احتمل أن يكون الربح للغاصب) وكذلك ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأنه اشترى لنفسه في ذمته فكان الشراء له والربح له، وعليه بدل المغصوب وهذا قياس قول الخرقي وذكر ذلك عن أحمد واحتمل أن يكون للمالك لأنه نماء ملكه أشبه مالو اشترى بعين المال وهذا المشهور في المذهب وقال صاحب المحرر إذا اشترى في ذمته بنية نقدها لئلا بتخذ ذلك طريقاً إلى غصب مال الغير والتجارة به وإن خسر فهو على الغاصب لأنه نقص حصل في المغصوب، وادفع المال إلى من يضارب به فالحكم في الربح على ما ذكرنا وليس على المالك من أجر العامل شئ لأنه لم يأذن له في العمل في ماله وإن كان المضارب عالماً بالغاصب فلا أجر له لأنه متعد بالعمل ولم يغره أحد وإن لم يعلم فعلى الغاصب أجر مثله لأنه استعمله عملا بعوض لم يحصل له فلزمه أجره كالعقد الفاسد (فصل) وإن أجر الغاصب المغصوب فالإجارة باطلة في إحدى الروايات كالبيع وللمالك تضمين أيهما شاء أجر المثل فإن ضمن المستأجر لم يرجع بذلك لأنه دخل في العقد على أنه يضمن المنفعة(5/441)
ويسقط عنه في العقد وإن كان دفعه إلى الغاصب رجع به وإن تلفت العين في يد المستأجر فلمالكها تضمين من شاء منهما قيمتها فإن ضمن المستأجر رجع بذلك على الغارم لأنه دخل معه على أنه لا يضمن العين ولم يحصل بدل في مقابلة ما غرم، وإن كان عالماً بالغصب لم يرجع على الغاصب لأنه دخل على بصيرة وحصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه فإن ضمن الغاصب الأجر والقيمة رجع بالاجر على المستأجر علم أو لم يعلم ويرجع بالقيمة إن كان المستأجر علم بالغصب وهذا قول الشافعي ومحمد بن الحسن في هذا الفصل وحكي عن أبي حنيفة أن الأجر اللغاصب دون صاحب الدار وهو فاسد لأن الأجر عوض المنافع المملوكة لرب الدار فلم يملكها الغاصب كعوض الاجزاء (مسألة) (وإن اختلفا في قيمة المغصوب أو قدره أو صناعة فيه فالقول قول الغاصب)
إذا اختلف المالك والغاصب في قيمة المغصوب ولا بينة فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته فلا يلزمه ما لم يقم عليه حجة كما لو ادعى عليه دينا فأقر ببعضه وكذلك إن اختلفا في قدره فقال غصبتني مائة قال بل خمسين لما ذكرنا وكذلك إن قال المالك كان كاتباً أو له صناعة فأنكر الغاصب فالقول قوله لذلك فإن شهدت البينة بالصفة ثبتت (مسألة) (وإن اختلفا في رده أو عيب فيه فالقول قول المالك) لأن الأصل عدم الرد وبقاؤه في يد الغاصب وإن قال الغاصب كانت فيه سلعة أو أصبغ زائدة أو عيب(5/442)
وأنكر المالك فالقول قوله لأن الأصل عدم ذلك، وإن إختلفا بعد زيادة قيمة المغصوب في وقت الزيادة فقال المالك زادت قبل تلفه وقال الغاصب بعد تلفه فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته وإن شاهدنا العبد معيباً فقال الغاصب كان معيبا قبل غصبه وقال المالك تعيب عندك فالقول قول الغاصب لأنه غارم ولأن الظاهر أن صفة العبد لم تتغير، ويتخرج أن القول قول المالك كما إذا إختلف البائع والمشتري في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري؟ فإن فيه رواية أن القول قول البائع كذلك هذا، وإن غصبه خمراً فقال المالك تخلل عندك وأنكر الغاصب فالقول قوله لأن الأصل عدم تغيره وبراءة ذمة الغاصب، وإن اختلفا في تلفه فالقول قول الغاصب إذا ادعى التلف لأنه أعلم بذلك ويتعذر إقامة البينة عليه فإذا حلف فللمالك المطالبة ببدله لأنه تعذر رد العين فلزم بدلها كما لو غصب عبداً فأبق وقيل ليس له المطالبة بالبدل لأنه لا يدعيه، وإن قال غصبت مني حديثاً قال بل عتيقاً فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم وجوب الحديث وللمالك المطالبة بالعتيق لأنه دون حقه، وإن اختلفا في الثياب التي على العبد فهي للغاصب لأنها في يده فكان القول قوله فيها ولم يثبت أنها كانت لمالك العبد (مسألة) (وان بقيت في يده غصوب لا يعلم أربابها تصدق بها عنهم بشرط الضمان كاللقطة) لأنه عاجز عن ردها على أصحابها فإذا تصدق بها عنهم كان ثوباها لا ربابها فيسقط ذلك إثم غصبها ولأن قضاء الحقوق في الآخرة بالحسنات وحمل السيئات فإذا طلب منه عوض الغصب أحالهم بثواب الصدقة(5/443)
وعنه في اللقطة لا تجوز الصدقة بها فيخرج هنا له دفعه فلى هذا له دفعه إلى نائب الإمام كالضوال (فصل) قال رضي الله عنه (ومن أتلف مالاً محترماً لغيره ضمنه إذا كان بغير إذنه لا نعلم في ذلك خلافاً) لأنه فوته عليه فوجب عليه ضمانة كما لو غصبه فتلف عنده (مسالة) (وإن فتح قفصا عطائر فطار أو حل قيد عبده أو رباط فرسه فذهبت ضمنه) وبه قال ملك وقال أبو حنيفة والشافعي لا ضمان عليه إلا أن يكون أهاجهما حتى ذهبا وقال أصحاب الشافعي ان وقفا عبد الحل والفتح ثم ذهبا لم يضمنهما وان ذهبا عقيب ذلك ففيه قولان واحتجابان لهما اختبارا وقد وجدت منهما المباشرة ومن الفاتح سبب غير ملجئ فإذا اجتمعا لم يتعلق الضمان بالسبب كما لو حفر بئراً فجاء عبد لإنسان فرمى نفسه فيها ولنا أنه ذهب بسبب فعله فلزمه الضمان كما لو نفره أو ذهب عقيب فتحه وحله والمباشرة إنما حصلت ممن لا يمكن إحالة الحكم عليه فيسقط كما لو نفر الطائر وأهاج الدابة وأشلى كلباً على صبي فقتله أو أطلق ناراً في متاع إنسان فإن للنار فعلاً لكن لما لم يكن إحالة الحكم عليها كان وجوده كعدمه ولأن الطائر وسائر الصيد من طبعه النفور وإنما يبقى بالمانع فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه فكان ضمانه على من أزال المانع كمن قطع علاقة قنديل فوقع فانكسر وهكذا لو حل قيد عبد فذهب أو أسير فأفلس لأنه تلف بسبب فلعه فأما إن فتح القفص وحل الفرس فبقيا واقفين فجاء إنسان فنفرهما فذهبا(5/444)
فالضمان على منفرهما لأن سببه أخص فاختص الضمان به كالدافع مع الحافر، وإن وقع طائر انسان على جدارفنفره إنسان فطار لم يضمنه لأن تنفيره لم يكن سبب فواته فإنه كان ممتنعاً قبل ذلك، وإن رماه فقلته ضمنه وإن كان في داره لأنه كان يمكنه تنفيره بغيره قتله وكذلك لو مر طائر في هواء داره فرماه فقتله مضنه لأنه لا يملك منع الطائر من هواء الدار فهو كما لو رماه في هواء دار غيره (مسألة) (وإن حل وكاء زق مائع أو جامد فأذابته الشمس أو بقي بعد حله فألقته الربح فاندفق ضمنه) إذا حل وكاء زق مائع فاندفق أو كان جامداً فذاب بشمس أو سقط بريح أو زلزلة ضمنه سواء خرج في الحال أو قليلة أو خرج منه شئ بل أسلفه فسقط أو ثقل أحد جانبيه فلم يزل يميل قليلاً
قليلاً حتى سقط لأنه تلف بسبب فعله وقال القاضي لا يضمن إذا سقط بريح أو زلزلة ويضمن فيها سوى ذلك وبه قال أصحاب الشافعي، ولهم فيما إذا ذاب بالتسس وجهان قالوا لأن فعله غير ملجئ والمعنى الحادث مباشرة فلم يتعلق الضمان بفعله كما لو دفعه إنسان ولنا أن فعله سبب تلفه ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فوجب عليه الضمان كما لو خرج عقيب فعله أو مال قليلاً قليلاً وكما لو جرح إنساناً فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن وأما إذا دفعه إنسان فإن المتخلل بينهما مباشرة من يمكن الإحالة عليه بخلاف مسئلتنا (مسألة) (وإن ربط دابة في طريق فأتلفت أو اقتنى كلبا عقوررا فعقر أو خرق ثوباً ضمن) إذا أوقف الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم لأنه متعد بوففها فيه وإن كان الطريق واسعاً ضمن في إحدى الروايتين وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة ولذلك لو ترك في الطريق طينا فرلق به إنسان ضمنه والثانية لا يضمن لأنه غير متعد بوقفها في الطريق(5/445)
الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات وفارق الطين فإنه متعد بتركه في الطريق وأما الكلب فيلزمه ضمان ما أتلف لأنه تعدى بذلك فلزمه الضمان كما لو بنى في الطريق دكانا (مسألة) (إلا أن يكون دخل منزله بغير إذنه لأنه متعد بالدخول فقد تسبب الى إتلاف نفسه بجنايته، وإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه لأنه تسبب إلى إتلافه فإن أتلف الكلب بغير العقر مثل إن ولغ في إناء إنسان أو بال لم يضمنه لأن هذا لا يختص الكلب العقور قال القاضي وإن اقتنى سنوراً يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه كالكلب العقور، ولافرق بين الليل والنهار فإن لم تكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته كالكلب الذي ليس بعقورولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند إنسان من غير اقتنائه ولا اختياره فأفسد لم يضمنه لأنه لم يحصل الإتلاف بتسببه فإن اقتنى حماماً أو غيره من الطير فأرسله نهاراً فلقط حباً لم يضمنه لأن العادة ارساله (مسألة) (وقيل في الكلب روايتان في الجملة (إحداهما) يضمن سواء كان في منزل صاحبه أو خارجاً وسواء دخل بإذن صاحب المنزل أو بغير إذنه لأن اقتناءه الكلب العقور سبب للعقر وأذى
الناس فضمن صاحبه كمن ربط دابة في طريق ضيق (والثانية) لا يضمن لقوله عليه الصلاة والسلام (جرح العجماء جبار) ولأنه اتلف من غير أن تكون يد صاحبه عليه أشبه سائر البهائم (مسألة) (وإن أجج ناراً في ملكه أو سقى أرضه فتعدى إلى ملك غيره فأتلفه ضمن إذا كان قد أسرف فيه أو فرط وإلا فلا) وجملته أنه إذا فعل ذلك لم يضمن إذا كان ما جرت به العادة من غير تفريط لان غير متعد ولأنها سراية فعل مباح فلا يضمن كسراية القود، وفارق من حل وكاء زق فاندفق لأنه متعد بحله ولأن الغالب خروج المائع من الزق المفتوح بخلاف هذا، فإن كان بتفريط منه أو إسراف بأن أجج ناراً تسري(5/446)
في العادة لكثرتها أو في ريح شديدة تحملها أو فتح ماء كثيراً يتعدى أو فتح الماء في أرض غيره أو أوقد في دار غيره ضمن ما تلف به وإن سرى إلى غير الدار التي أوقد فيها والأرض التي فتح الماء فيها لأنها سراية عدوان أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به ولذلك إن يبست النار أغصان شجرة غيره يضمن لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان في هوائه فلا يضمن لأن دخولها إليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها ومذهب الشافعي كما ذكرنا في هذا الفصل.
(فصل) وإن ألقت الريح إلى داره ثوب غيره لزمه حفظه لأنه أمانة حصلت تحت يده أشبهت اللقطة فإن لم يعرف صاحبه فهو لقطه يثبت فيها أحكامها وإن عرف صاحبه لزمه إعلامه فان لم يفعل ضمنه لأنه أمسك مال غيره بغير إذنه من غيرت عريف فهو كالغاصب، وإن سقط طائر في داره لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه لأنه محفوظ بنفسه إلا أن يكون غير ممتنع فهو كالثوب وإن دخل برجه فأغلق عليه الباب ناوياً إمساكه لنفسه ضمنه لأنه أمسك مال غيره لنفسه فهو كالغاصب وإلا فلا ضمان عليه لأنه يتصرف في برجه كيف شاء فلا يضمن مال غيره بتلفه ضمناً لتصرفه الذي لم يتعد فيه (مسألة) (وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه ضمن ما تلف به، والفناما كان خارج الدار قريباً منها) إذا حفر في الطريق بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو بغير إذنه وسواء
كان فيها ضرر أولا وقال أصحاب الشافعي إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في العقود فيه ويقطعه لمن يبيع فيه ولنا أنه تلف بحفر حفرة في مكان مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن فيه الإمام ولا نسلم أن للإمام الإذن في هذا وإنما جاز الإذن في العقود لأنه لا يدوم ويمكن إزالته في الحال اشبه العقود في المسجد ولأن العقود حائز من غير إذن الإمام بخلاف الحفر(5/447)
(مسألة) (وإن حفرها في سابلة لنفع المسلمين لم يضمن في أصح الروايتين) مثل أن يحفرها لينزل فيها ماء المطر أو ليشرب منه المارة ونحو هذا فلا يضمن لأنه محسن بفعله غير متعد أشبه باسط الحصير في المسجد، وقال بعض أصحابنا لا يضمن إذا كان بإذن الامام وإن كان بغير إذنه لم يضمن في إحدى الروايتين فإن أحمد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم إذا أحدث بئراً لماء المطر فيه نفع للمسلمين أرجو أن لا يضمن والثانية يضمن أومأ إليه أحمد لأنه اقتات على الإمام ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية، والصحيح الأول لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق استئذان الإمام فيه وتعم البلوى به ففي وجوب الإستئذان فيه تفويت لهذه المصلحة العامة لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة الإستئذان والحفر معاً فتضيع هذه المصلحة فوجب سقوط الإستئذان كما في سائر المصالح العامة من بسط حصير في المسجد أو وضع سراج أو رم شعث وأشباه ذلك وحكم البناء في الطريق حكم الحفر فيها على ما ذكرنا من التفصبل والخلاف وهو أنه متى بنى بناء يضر لكونه في طريق ضيق أو واسع الا أنه يضر بالمارة أو بناه لنفسه ضمن ما تلف به وساء في ذلك كله إذن الإمام وعدم الإذن قال شيخنا ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام في البناء لنفع المسلمين دون الحفر لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها وإزالة الطين والماء منها بخلاف البناء فجرى حفرها مجرى تبقيتها وحفر هدفة منها وقلع حجر يضر بالمارة ووضع الحصى في حفرة فيها ليسهلها، ويملكها بإزالة الطين ونحوه منها تسقيف ساقية فيها ووضع حجر في طين فيها ليطأ الناس عليها فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به لا نعلم فيه خلافاً وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام فيها لأن مصلحته لاتعم
بخلاف غيره قال بعض أصحابنا في حفر البئر ينبغي أن يتقيد سقوط الضمان إذا حفرها في مكان مائل عن القارعة وجعل عليه حاجزاء يعلم به ليتوقى (فصل) وان حفر العبد بسرا في ملك إنسان بغير إذنه أو في طريق يتضرر به ثم أعتق ثم تلف بها شئ ضمنه العبد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة الضمان على السيد لأن الجناية بالحفر(5/448)
في حال رقه فكان ضمان جنايته حيئنذ على سيده ولا يزال ذلك بعتقه كما لو جرح في حال رقه ثم سرى جرحه بعد عتقه ولنا أن التلف الموجب للضمان وجد بعد العتق فكان الضمان عليه كما لو اشترى سيفاً في حال رقه ثم قتل به بعد عتقه وفارق ما قاسوا عليه لأن الإتلاف الموجب للضمان وجد حال رقه وههنا حصل بعد عتقه وكذلك القول في نصيب حجر أو غيره من الأسباب التي يجب بها الضمان (مسألة) (وإن بسط في مسجد حصيراً أو علق فيه قنديلاً أو سقفه أو نصب عليه باباً أو جعل فيه رقا لينتفع به الناس فتلف به شئ فلا ضمان عليه) وقال أصحاب الشافعي إن فعل شيئاً من ذلك بغير إذن الإمام ضمن في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة يضمن اذالم يأذن فيه الجيران ولنا أن هذا فعل أحسن به ولم يتعد فيه فلم يضمن ما تلف به كما لو أذن فيه الإمام والجيران ولأنه فعل ما يتنفع به المسلمون غالباً فلم يضمن كمن مهد الطريق ولأن هذا مأذون فيه عرفاً لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يضمن فاعله كالمأذون فيه نطلقا (مسألة) (وإن جلس في مسجد أو طريق واسع فعثر به حيوان فتلف لم يضمن في أحد الوجهين) لأنه جلس في مكان له الجلوس فيه من غير تعد على أحد، وفي الآخر يضمن لأن الطريق إنما جعلت للمرور فيها لا الجلوس، والمسجد للصلاة وذكر الله تعالى والأول أولى لأنه فعل فلا مباحاً، وقولهم أن الطريق إنما جعلت للمرور ممنوع فإن الطريق الواسع يجلس فيه عادة وكذلك المسجد جعل للصلاة وإنتظارها والإعتكاف فيه في جميع الأوقات وبعضها لا تباح الصلاة فيه ولأن انتظار الصلاة والإعتكاف قربة فلم يتعلق به الضمان كالصلاة والله أعلم
(مسألة) (وإن أخرج جناحاً أو ميزاباً إلى الطريق فسقط على شئ فأتلفه ضمن) وجملة ذلك أنه إذا أخرج إلى الطريق النافذ جناحاً أو ساباطاً فسقط أو شئ منه على شئ فأتلفه ضمنه المخرج وقال(5/449)
أصحاب الشافعي إن وقعت خشبة ليست مركبة على حائط وجب نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره فيقسم الضمان عليهما.
ولنا أنه تلف بما أخرجه إلى هوا الطريق فكما لو بني حائطه مائلاً إلى الطريق أو كما لو لم تكن الخشبة الساقطة موضوعة على الحائط ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل كالذي ذكرنا ولأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق والدليل على عدوانه وجوب ضمان البعض لأنه لو كان مباحاً لم يضمن به كسائر المباحات، ولأن هذه خشبة لو سقط الخارج مها حسب فأتلف شيئاً ضمنه فيجب أن يضمن ما أتلف جميعها كسائر المواضع التي يجب الضمان فيها ولا ننا لم نعلم موضعاً يجب الضمان كله ببعض الخشبة ونصفه بجميعها، وإن كان إخراج الجناح الى درب غير نافذ بغير إذن أهله ضمن ما تلف به وإن كان بإذنهم فلا ضمان عليه لأنه غير متعد فيه (فصل) وإن أخرج ميزاباً إلى الطريق النافذ فسقط على إنسان أو شئ فأتلفه ضمن وبهذا قال أبو حنيفة وحكي عن مالك انه لا يضمن ما اتلفه لأنه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به كما لو أخرجه إلى ملكه وقال الشافعي إن سقط كله فلعيه نصف الضمان لأنه تلف بماوضعه على ملكه وملك غيره وان انقصف الميزاب فسقط منه الخارج حسب ضمن الجميع لأنه كله في غير ملكه ولنا ما سبق في الجناح ولا نسلم أن إخراجه مباح بل هو محرم لأنه أخرج إلى هواء ملك غيره شيئاً يضربه أشبه ما أخرجه إلى ملك آدمي معين بغير إذنه، فأما إن أخرجه إلى ملك آدمي معين بغير إذنه فهو متعد ويضمن ما تلف به لا نعلم في ذلك خلافاً (مسألة) (وإن مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمنه نص عليه وأومأ في موضع أنه إن تقدم إليه لنقضه وأشهد عليه فلم يفعل ضمن) إذا كان في ملكه حائط متسو أو مائل إلى ملكه أو بناء كذلك فسقط من غير إستهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بابقائه وإن مال قبل وقوعه إلى
ملكه ولم يتجاوزه فلا ضمان عليه أيضا لانه بمنزلة بناءئه مائلاً في ملكه وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق أو إلى ملك إنسان أو ملك مشترك بينه وبين غيره وكان بحيث لا يمكنه نقضه فلا ضمان عليه لأنه لم يتعد ببنائه ولا فرط في ترك نقضه لعجزه عنه أشبه مالو سقط من غير ميل، فإن أمكنه نقضه ولم(5/450)
ينقضه ولم يطالب بذلك لم يضمن في المنصوص عن أحمد وهو الظاهر عن الشافعي ونحوه قول الحسن والنخعي والثوري وأصحاب الررأي لأنه بناه في ملكه والميل حادث بغير فعله أشبه مالو وقع ميله، وذكر بعض أصحابنا فيه وجهاً آخر أن عليه الضمان وهو قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وإسحاق لأنه متعد بتركه مائلاً فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلاً إلى ذلك إبتداء ولانه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف به ولو لم يكن موجباً للضمان لم يضمن بالمطالبة كما لو لم يكن مائلا أو كان مائلاً إلى ملكه، وأما إن طولب بنقضه فلم يفعل فقد توقف أحمد عن الجواب فيها وقال أصحابنا يضمن وقد أومأ إليه أحمد وهو مذهب مالك ونحو قال الحسن والنخعي والثوري، وقال أبو حنيفة الإستحسان أن يضمن لأن حق الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم ذلك فكان لهم المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو وضع شيئاً على حائط نفسه فسقط في ملك غيره فطولب برفعه فلم يفعل حتى عثر به إنسان، وفيه وجه آخر لا ضمان عليه قال أبو حنيفة وهو القياس لأنه بناه في ملكه ولم يسقط بفعله فأشبه مالو لم يطالب بنقضه أو سقط قبل ميله أولم يمكنه نقضه، ولأنه لو وجب الضمان به لم تشترط المطالبة به كما لو بناه مائلاً إلى غير ملكه فإن قلنا عليه الضمان إذا طولب فإن المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب المضان إذا كان ميله إلى الطريق لأن لكل واحد منهم حق المرور فكانت له المطالبة كما لو مال الحائط إلى ملك جماعة فإن لكل واحد منهم المطالبة وإذا طالب واحد فاستأجله صاحب الحائط أو أجله الإمام لم يسقط عنه الضمان لأن الحق لجميع المسلمين فلا يملك الواحد منهم إسقاطه وإن كانت المطالبة لمستأجر الدار ومرتهنيها ومستعيرها ومستودعها فلا ضمان عليهم لأنهم لا يملكون القبض وليس الحائط ملكها لهم وإن طولب المالك في هذه الحال فلم يمكنه استرجاع الدار ونقض الحائط فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أمكنه استرجاعها كالمعير والمودع والراهن إذا أمكنه فكاك الرهن فم يفعل ضمن لأنه أمكنه النقض، وإن كان(5/451)
المالك محجوراً عليه لسفه أو صغر أو جنون فطولب هو لم يلزمه الضمان لأنه ليس أهلاً للمطالبة وإن طولب وليه أو وصيه فلم ينقضه فالضمان على المالك لأن سبب الضمان ماله فكان الضمان عليه دون التصرف كالوكيل مع الموكل وإن كان الملك مشتركاً بين جماعة فولب أحدهم بنقضه احتمل وجهين أحدهما لا يلزمه شئ لأنه لا يمكنه نقضه بدون إذنهم فهو كالعاجز والثاني يلزمه بحصته لأنه يتمكن من النقض بمطالبته شركاءه وإلزامهم النقض فصار بذلك مفرطاً فإن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين أما واحد أو جماعة فالحكم على ما ذكرنا إلا أن المطالبة تكون للمالك أو ساكن الملك الذي مال إليه دون غيره، وإن كان لجماعة فأيهم طالب وجب النقض بمطالبته كما لو طالب واحد بنقض المائل إلى الطريق إلا أنه متى طولب إلا أنه متى طولب ثم أجله صاحب الملك أو إبرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها جاز لأن الحق له وهو يملك إسقاطه، وإن مال إلى درب غير نافذ فالحق لأهل الدرب والمطالبة لهم لأن الملك لهم يلزم النقض بمطالبة أحدهم ولا يبرأ بإبرائه وتأجيله إلا أن يرضي بذلك جميعهم لأن الحق للجميع.
(فصل) وإن لم يمل الحائط لكن تشقق فإن لم يخش سقوطه لكون سقوطه بالطول لم يجب نقضه وحكمه حكم الصحيح قياساً عليه وإن خيف وقوعه لكونه مشقوقاً بالعرض فحكمه حكم المائل لأنه يخاف منه التلف أشبه المائل (فصل) ولو بنى في ملكه حائط مائلاً إلى الطريق أو إلى ملك غيره فتلف به شئ أو سقط على شئ أتلفه ضمن لتعديه فإنه ليس له النباء في هواء ملك غيره أو هواء مشترك ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه أشبه مالو نصب فيه منجلاً يصيد به وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً (فصل) إذا تقدم إلى صاحب الحائط المائل بنقضه فباعه مائلاً فسقط على شئ فتلف به فلا(5/452)
ضمان على بائعه لأنه ليس بملكه ولا على المشتري لأنه لم يطالب بنقضه وكذلك إن وهبه واقبضه وإن قلنا بلزوم الهبة زال الضمان عنه بمجرد العقد، وإذا وجب الضمان عنه وكان التلف به آدمياً فالدية على عاقلته
فإن أنكرت العاقلة كون الحائط لصاحبهم لم يلزمهم إلا أن يثبت ذلك ببينة لأن الأصل عدم الوجوب عليهم فلا يجب بالشك وإن إعترف صاحب الحائط فالضمان عليه دونهم لأن العاقلة لاتحمل الإعتراف وكذلك إن أنكروا مطالبته بنقضه فالحكم على ما ذكرنا وإن كان الحائط في يد صاحبهم وهو ساكن في الدارلم يثبت بذلك الوجوب عليهم لأن دلالة ذلك على الملك من جهة الظاهر والظاهر لا تثبت به الحقوق وإنما ترجح به الدعوى (مسألة) (وما أتلفت البهية فلا ضمان على صاحبها إلا أن تكون في يد إنسان كالراكب والسائق والقائد قد يضمن ما جنت يدها أو فمها دون ما جنت رجلها) إذا أتلف البهيمة شيئاً فلا ضمان على صاحبها إذا لم تكن يد أحد عليه القول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) يعني هدرا فأما إن كانت يد صاحبها عليها كالراكب والسائق القائد فانه يضمن وهذا قول شريح وأبي حنيفة والشافعي وقال مالك لا ضمان عليه لما ذكرنا من الحديث ولأنه جناية بهبمة فلم يضمنها كما لو لم تكن ييده عليها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (والرجل جبار) رواه سعيد بإسناده عن الهزبل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الرجل بكونه جباراً دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها ولأنه يمكنه حفظها من الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يدله عليه وحديثه محمول على من لا يدله عليها (فصل) ولا يضمن ما جنت برجلها وبه قال أبو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح والشافعي لأنه من جناية بهيمة يده عليها فضمنه كجناية يدها(5/453)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الرجل جبار) ولأنه لا يملك حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم يكن يده، عليها فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك فإنه يضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان عليه ضمانها ولو كان السبب غيره مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها وسائقها وقائدها لأنه السبب في جنايتها (فصل) فإن كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على
كفها إلا أن يكون الأول منهما صغيراً أو مريضاً ونحوهما ويكون الثاني هو المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه فإن كان مع الدابة قائد وسائق فالضمان عليهما لأن كل واحد منهما لو انفرد ضمن فإذا اجتمعا ضمنا، وإن كان معهما أو مع أحدهما راكب فالضمان عليهم جميعاً في أحد الوجهين لذلك والثاني الضمان على الراكب لأنه أقوى يداً وتصرفاً، ويحتمل أن يكون على القائد لانه لاحكم للراكب معه (فصل) والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا يضمن جنايته إلا أن يكون له سائق لأن الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية، ولو كان مع الدابة ولدها لم يضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد أنه يضمن قال لأنه يمكنه ضبطه بالشد (مسألة) (ويضمن ما افسدت من الزرع والشجر ليلاً ولا يضمن ما افسدت من ذلك نهاراً) يعني إذا لم تكن يد أحد عليها وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا ونهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته كالعبد إذا جنبى، وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال لقول النبي صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) يعني هدراو لانها أفسدت وليست يده عليها فلم يضمن كالنهار أو كما لو أتلفت غير الزرع ولنا ما روى مالك عن الزهري عن حزام بن سعيد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم.
قال ابن عبد البر إن كان هذا مرسلاً فهو مشهور حدث به الائمة الثقاة وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلاً وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون الليل فإذا ذهبت ليلاً كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ(5/454)
وإن تلفت نهاراً كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل إنسان بالحفظ في وقت عادته فصل) قال بعض أصحابنا انما يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً إذا فرط بإرسالها ليلاً أنهارا اولم
يضمها بالليل أو ضمها بحيث يمكنها الخروج أما إذا ضمها فأخرجها غيره بغير إذنه أو فتح عليها بابها فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها لأنه المتلف قال القاضي هذه المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي أما القرى العامرة التي لامرعى على فيها الابين قراحين (1) كساقية وطريق وطرف زرع فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
(فصل) فإن أتلفت البهيمة غير الزرع والشجر لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً كان أو نهاراً ما لم تكن يده عليها، وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً بالضمان على صاحبها وقرأ (إذ نفشت فيه غنم القوم) قال والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهاراً لنفريطه بإرسالها.
ولنا قول النبي صلى الله عليه (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر وأما الآية فالنفش هو الرعي بالليل وكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم بالرعي طبعاً وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غير عليه (فصل) إذا استعار بهيمة فأتلفت شيئاً وهي في يد المستعير فضمانه عليه سواء كان المتلف لمالكها أو لغيره لأن ضمانه يجب باليد واليد للمستعير، وإن كانت البهيمة في يد الراعي فأتلفت زرعاً أو شجراً فالضمان على الراعي دون المالك لأن إتلاف ذلك في النهار لا يضمن إلا بثبوت اليد عليها واليد للراعي دون المالك فضمن كالمستعير، وإن كان الزرع للمالك وكان ليلاً ضمن أيضاً لأن ضمان اليد أقوى بدليل أنه يضمن في الليل والنهار جميعا (مسألة) (ومن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً عن نفسه لم يضمنه لأنه قتله بالدفع الجائز فلم يجب ضمانه فإن كان الصائل بهيمة فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعاً ولا يضمنها إذا كانت لغيره وهذا قول مالك والشافعي واسحاق وقال أبو حنيفة يضمنها لأنه أتلف مال غيره لا حياء نفسه فضمنه كالمضطر إذا أكل طعام غيره وكذلك الخلاف في غير المكلف من الآدمين كالصبي والمجنون يجوز قتله ويضمنه لأنه لا يملك إباحة نفسه ولذلك لو ارتد لم يقتل ولنا أنه قتله بالدفع الجائز فلم يضمنه كالعبد ولأنه حيوان جاز إتلافه فلم يضمنه كالآدمي المكلف ولانه
__________
(1) كذا في الاصل(5/455)
قتله لدفع شره فاشبه وذلك أنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه فأشبه مالو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها وفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ولم يصدر منه ما يزيل عصمته ولهذا لو قتله لصياله لم يضمنه ولو قتله ليأكله في المخمصة وجب عليه الضمان وغير المكلف كالمكلف في هذا وقولهم لا يملك إباحة نفسه قلنا: والمكلف لا يملك إباحة نفسه ولو قال أبحت دمي لم يبح مع أنه إذا صال فقد أبيح دمه بفعله فلم يضمنه كالمكلف (مسألة) (وإن اصطدمت سفينتان فغرقتا ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها) إذا اصطدمت سفينتان متساويتان كاللتين في بحر أو ماء واقف فإن كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كالفارسين إذا تصادما وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما، وقال الشافعي: يضمن في أحد الوجهين لأنهما في أيديهما فضمنا كما لو إصطدما فارسان لغلبة الفرسين لهما ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الإحتراز من ذلك فأشبه الصاعقة إذا نزلت فاحرقت سفينة ويخالف الفرسين فإنه يمكن ضبطهما والإحتراز من طردهما وإن كان أحدهما مفرطاً وحده ضمن وحده، وإن اختلفا في تفريط القيم ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدمه وهو أمين أشبه المودع وعند الشافعي أنهما إذا كانا مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه وقال مثل ذلك في الفارسين وسنذكره إن شاء الله تعالى والتفريط أن يكون قادراً على ضبطها أوردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعد لها إلى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الرجال والحبال وغيرهما (مسألة) (وإن كانت إحداهما منحدرة فعلى صاحبها ضمان المصعدة إلا أن يكون عليه ريح فلم يقدر على ضبطها) متى كان قيم المنحدرة مفرطاً فعليه ضمان المصعدة لانها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سبباً لغرقها فتزل المنحدرة بمنزلة السائر والمصعدة منزلة الواقف إذا اصطدما، وإن غرقتا جميعاً فلا شئ على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعدة أو أرش ما تقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من
المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد، وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لايدخل في وسعه (ولا يكلف الله لفسا إلا وسعها) فإن كانت إحدى السفينتين واقفة(5/456)
والاخرى سائرة فلا شئ على الواقفة وعلى السائرة ضمان الوافقة إن كان القيم مفرطاً، فلا ضمان عليه إذا لم يفرط على ما ذكرنا.
(فصل) فإن خيف على السفينة الغرق فألقى بعض الركبان متاعه لتخف وتسلم من الغرق لم يضمنه أحد لأنه أتلف متاع نفسه بأختياره لصلاحه وصلاح غيره، وإن ألقى متاع غيره بغير إذنه ضمنه وحده وإن قال لغيره إلق متاعك فقبل منه لم يضمنه لأنه لم يلتزم ضمانه، وإن قال إلقه وأنا ضامن له أو علي قيمته لزم ضمانه لأنه أتلف ماله بعوض لمصحلة فوجب له العوض على من التزمه كما لو قال أعتق عبدك وعلي ثمنه.
وإن قال إلقه وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه فألقاه ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه ضمانه وحده ذكره أبو بكر وهو نص الشافعي لأنه التزم ضمان جميعه فلزمه ما إلتزمه، وقال القاضي إن كان ضمان إشتراك مثل أن يقول نحن نضمن لك أوقال على كل واحد منا ضمان قسطه أو ربع متاعك لم يلزمه إلا ما يخصه من الضمان وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه لم يضمن إلا حصته وإنما أخبر عن الباقين بالضمان فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان، وإن الترم ضمان الجميع وأخبر عن كل واحد منهم بمثل ذلك لزمه ضمان الكل لأنه ضمن الكل، وإن قال إلقه على أن أضمنه لكل أنا وركبان السفينة فقد أذنوا لي في ذلك فأنكروا الإذن فهو ضامن للجميع وإن قال إلقي متاعي وتضمنه؟ فقال نعم ضمنه له وان قال ألق متاعك وعلي ضمان نصفه وعلى أخي ضمان ما بقي فألقاه فعليه ضمان النصف وحده ولا شئ على الآخر لأنه لم يضمن والله أعلم.
(فصل) إذا خرق سفينة فغرقت بما فيها وكان عمداً وهو مما يغرقها غالباً ويهلك من فيها لكونهم في اللجة أو لعدم معرفتهم بالسياحة فعليه القصاص إن قتل من يجب القصاص بقتله وعليه ضمان السفينة بما قفيها من مال ونفس وإن كان خطأ فعليه ضمان العبيد ودية الأحرار على عاقلته وإن كان عمد خطأ
مثل إن أخذ السفينة ليصلح موضعاً فقلع لوحا أو يصلح مسماراً فنقب موضعاً فهو عمدا لخطأ ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي، والصحيح أن هذا خطأ محض لأنه قصد فعلا مباحاً فأفضى إلى التلف لما لم يرده فأشبه مالو رمى صيداً فأصاب آدميا فقتله ولكن إن قصد قلع اللوح في موضع الغالب أنه لا يتلفها فأتلفها فهو عمد الخطأ فيه ما فيه (مسألة) (وإن كسر مزماراً أو طنبوراً أو صليباً لم يضمنه) وقال الشافعي إن كان ذلك إذا فصل يصلح لنفع مباح وإذا كسر لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلاً ومكسوراً لأنه أتلف بالكسر ماله قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يضمن، وقال أبو حنيفة يضمن.(5/457)
ولنا أنه لا يحل بيعه فلم يضمنه كالميتة والدليل على أنه لا يحل بيعه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) متفق عليه، وقال عليه الصلاة والسلام (بعثت بمحق القينات والمعازف) (مسألة) (وان كسر آنية ذهب أو فضة لم يضمنها) وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فان منها نقل عنه فيمن هشم على غيره ابريق فضة عليه قيمته يصوغه كما كان، فقيل له أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها فسكت، والصحيح أنه لا يضمن نص عليه في رواية المروذي فيمن كسر إبريق فضة لا ضمان عليه لأنه أتلف ما ليس بمباح فلم يضمنه كالميتة، ورواية منها تدل على أنه رجع عن قوله ذلك لكونه سكت حين ذكرا لسائل النهي عن وليس في رواية منها أنه قال يصوغه ولا تحل صناعته فكيف تجب؟ (مسألة) (وان كسر إناء خمر لم يضمنه في أصح الروايتين) لما روي عن ابن عمر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن آنية بمدية وهي الشفرة فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال (إغد علي بها) ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زفاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته كلها وأمر أصحابه الذين
كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر الاشققته رواه أحمد، وروى عن أنس قال كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا عبيدة شراباً من فضيخ فأنانا آت فقال أن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الدنان فاكسرها وهذا يدل على سقوط حرمتها وإباحة إتلافها فلا يضمنها كسائر المباحات (والثانية) يضمنها إذا كان ينتفع بها في غيره لأنها مال يمكن الانتفاع به ويحل بيعه فيضمنها كما لو لم يكن فيها خمرولان جعل الخمر فيها لا يفتضي سقوط ضمانها كالبيت الذي جعل مخزمنا للخمر (فصل) إذا غصب أرضاً فحكمها في جواز دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب فإن كانت محوطة كالدار والبستان المحوط عليه لم يجز دخولها لغير مالكها إلا بإذنه لأن ملك مالكها لم يزل عنها فلم يجز دخولها بغير إذنه كما لو كانت في يده.
قال أحمد: في الضيعة تصير غيضة فيها سمك لا يصيد فيها أحد إلا بإذنهم، وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعي حشيشها.
قال أحمد: لا بأس برعي الكلأ في الأرض المغصوبة وذلك لأن الكلأ لا يملك بملك الأرض ويتخرج في كل واحدة من الصورتين مثل حكم الأخرى قياساً لها عليها ونقل عنه المرذوي في دار طوابيقها غصب لا يدخل على والدية لأن دخوله عليهما تصرف في الطوابيق المغصوبة ونقل عنه الفضل بن عبد الصمد(5/458)
في رجل له إخوة في أرض غصب يزورهم ويراودهم على الخروج فإن أجابوه وإلا لم يقم معهم ولا يدع زيارتهم يعني يزورهم يأتي باب دارهم ويتعرف أخبارهم ويسلم عليهم ويكلمهم ولا يدخل إليهم ونقل المرذوي عنه أكره المشي على العبارة التي بجري فيها الماء وذلك لأن العبارة وضعت لعبور الماء لا للمشي عليها، قال أحمد لا يدفن في الأرض المغصوبة لما في ذلك من التصرف في أرضهم بغير إذنهم وقال أحمد فيمن إبتاع طعاماً من موضع غصب ثم علم رجع إلى الموضع الذي أخذه منه فرده وروي عنه أنه قال يطرحه يعني على من إبتاعه منه وذلك لأن قعوده فيه حرام منهي عنه فكان البيع فيه محرما ولان الشراء ممن يقعد في الموضع المحرم يحملهم على العقود والبيع فيه وترك الشراء منهم يمنعهم القعود فقال لا يبتاع من الخانات التي في الطرق إلا أن لا يجد غيره كان بمنزلة المضطر، وقال في السلطان إذا بنى
داراً وجمع الناس إليها أكره الشراء منها.
قال شيخنا وهذا على سيبل الورع إن شاء الله تعالى لما فيه من الإعانة على فعل المحرم والظاهر صحة البيع لأنه إذا صحت الصلاة في الدار المغصوبة في رواية وهي عبادة فما ليس بعبادة أولى وقال فيمن غصب ضيعه وغصبت من الغاصب وأراد الثاني ردها جمع بينهما يعني بين مالكها والغاصب الأول وإن مات بعضهم جمع ورثته إنما قال هذا احتياطاً خوف التبعة من الغاصب الأول لأنه ربما طالب ربها فادعاها ملسكا باليد وإلا فالواجب ردها على مالكها وقد صرح بهذا في رواية عبد الله في رجل استودع رجلاً ألفاً فجاء رجل إلى المستودع فقال إن فلاناً غصبني الألف الذي استودعكه وصح ذلك عند المستودع فإن لم يخف التبعة وهو أن يرجعوا به عليه دفعه إليه باب الشفعة وهي استحقاق الإنسان إنتزاع حصة شريكه من يد مشتريها وهي ثابتة بالسنة والإجماع أما السنة فما روى جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة متفق عليه ولمسلم قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به وللبخاري: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، وأما الإجماع(5/459)
فقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه وتمكن من بيعه لشريكه وتخليصه مما كان بصدده من توقع الخلاص والإستخلاص فالذي يقتضيه حسن العشرة أن يبيعه منه ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه وتخليص شريكه من الضرر فإذا لم يفعل ذلك وباعه لأجنبي سلط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه.
قال شيخنا ولا نعلم احدا خالف هذا إلا الأصم فإنه قال لا تثبت الشفعة فإن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك فإن المشتري إذا علم أنه يؤخذ منه إذا اشتراه لم يبتعه ويتقاعد الشريك عن الشراء فيستضر المالك وهذا الذي ذكره ليس بشئ لمخالفته الأحاديث الصحيحة والإجماع المنعقد قبله، والجواب عما ذكره من وجهين (أحدهما) أنا نشاهد الشركاء يبيعون ولا يعدم من يشتري منهم غير شركائهم ولم يمنعهم
إستحقاق الشفعة من الشراء (الثاني) أنه يمكنه إذا لحقته بذلك مشقة أن يقاسم فتسقط الشفعة، وإشتقاقها من الشفع وهو الزوج فإن الشفيع كان نصيبه منفرداً في ملكه فبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به وقيل إشتقاقها من الزيادة لأن الشفيع يزيد المبيع في ملكه (مسألة) ولا يحل الإحتيال على إسقاطها فإن فعل لم يسقط نص عليه أحمد في رواية اسماعيل بن سعيد وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة فقال لا يجوز شئ من الحيل في ذلك ولا في إبطال حق مسلم(5/460)
وبهذا قال أبو أيوب وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني، وقال عبد الله بن عمر من يخدع الله يخدعه، ومعنى الحيلة أن يظهرو افي البيع شيئاً لا يؤخذ بالشفعة معه ويتواطئون في الباطن على خلافه مثل أن يشتري شيئاً يساوي عشرة دنانير بألف درهم ثم يقضيه عنها عشرة دنانير أو يشتريه بمائة دينار ويقضيه عنها مائة درهم أو يشتري البائع من المشتري عبداً قيمته مائة بألف في ذمته ثم يبيعه الشقص بالألف أو يشتري شقصاً بألف ثم يبرئه البائع من تسعمائة أو يشتري جزءاً من الشقص بمائة ثم يهب له البائع باقيه أو يهب الشقص للمشتري ويهب المشتري له الثمن أو يعقد البيع بثمن مجهول المقدار كحفنة قراضة أو جوهرة معينه أو سلعة غير موصوفة أو بمائة درهم ولؤلؤة وأشباء هذا فإن وقع ذلك من غير تحيل سقطت الشفعة، وإن تحيلا به على إسقاط الشفعة لم تسقط ويأخذ الشفيع الشقص في الصورة الأولى بعشرة دنانير أو قيمتها من الدراهم وفي الثانية بمائة درهم أو قيمتها ذهباً وفي الثالثة بقيمة العبد المبيع وفي الرابعة بالباقي بعد الإبراء وفي الخامسة يأخذ الجزء المبيع من الشقص بقسطه من الثمن ويحتمل أن يأخذ الشقص كله بجميع الثمن لأنه إنما وهبه بقية الشقص عوضاً عن الثمن الذي اشترى به جزءاً من الشقص وفي السادسة يأخذ بالثمن الموهوب وفي سائر الصور المجهول ثمنها يأخذه بمثل الثمن أو قيمته إن لم يكن مثلياً إذا كان الثمن موجوداً فإن لم يوجد دفع إليه قيمة الشقص لأن الأغلب وقوع العقد على الأشياء بقيمتها وقال أصحاب الرأي والشافعي يجوز ذلك كله وتسقط به الشفعة لأنه لم يأخذ بما وقع البيع به فلم يجز كما لو يكن حيلة(5/461)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدخل فرساً بين فرسين ولا يأمن أن يسبق فليس بقماروان أمن أن يسبق فهو قمار) رواه أبو داود وغيره فجعل إدخال الفرس المحل قماراً في الموضع الذي يقصد به إباحة إخراج كل واحد من المتسابقين جعلا مع عدم معنى المحال فيه وهو كونه بحال يحتمل أن يأخذ سبقهما وهذا يل على إبطال كل حيلة لم يقصد بها الااباحة المحرم مع عدم المعنى فيها فاستدل أصحابنا بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ترتكبوا ما إرتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه) متفق عليه ولأن الله تعالى ذم المخادعين له بقوله (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) والحيل مخادعة وقد مسخ الله تعالى الذين إعتدوا في السبت قردة بحيلهم فإنه روي عنهم أنهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ومنهم من يحفر جباباً ويرسل الماء إليها يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعت في الشباك والجباب فيدعوها إلى ليلة الاحد فيأخذونها ويقولون ما إصطدنا يوم السبت شيئاً فمسخهم الله تعالى بحيلتهم وقال تعالى (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) قيل يعني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم أي ليتعظ بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيجتنبوا مثل فعل المعتدين ولان الحية خديعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الخديعة لمسلم ولان الشفعة وجعت لدفع للضرر فلو سقطت بالتحيل للحق الضرر فلم تسقط كما لو أسقطها المشتري عنه بالوقف(5/462)
والبيع، وفارق ما لم يقصد به التحيل لأنه لا خداع فيه ولا قصد به إبطال حق والأعمال بالنيات، فإن اختلفا هل وقع شئ من هذا حيلة أو لا فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه أعلم بنيته وحاله، إذا ثبت هذا فإن الغرر في الصورتين الأوليين على المشتري لشرائه ما يساوي عشرة بمائة وما يساوي مائة درهم بمائة دينار وأشهد على نفسه أن عليه ألفاً فربما طالبه بها فلزمه في ظاهر الحكم، وفي الثالثة الغرر على البائع لأنه اشترى عبداً يساوي مائة بألف، وفي الرابعة الغرر على المشتري لأنه اشترى شقصاً قيمته مائة بألف وكذلك في الخامسة لأنه اشترى بعض الشقص بثمن جميعه، وفي السادسة على البادئ منهما بالهبة لأنه قد لا يهب له الآخر شيئاً فإن خالف أحدهما ما تواطآ عليه فطالب صاحبه بما أظهره لزمه
في ظاهر الحكم لأنه عقد البيع مع صاحبه بذلك مختاراً فأما ما بينه وبين الله تعالى فلا يحل لمن غرصاحبه الأخذ بخلاف ما تواطأ عليه لأن صاحبه إنما رضي بالعقد للتواطؤ فمع فواته لا يتحقق الرضى به (مسألة) (ولا تثبت إلا بشروط خمسة أحدها أن يكون مبيعاً فلا شفعة فيما انتقل بغير عوض بحال) كالهبة بغير ثواب والصدقة والوصية والأرث فلا شفعة فيه في قول الأكثرين منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحاب الرأي إلا أنه حكي عن مالك رواية أخرى أن الشفعة تجب في المنتقل بهبة أو صدقة ويأخذه الشفيع بقيمته وحكي عن ابن أبي ليلى لأن الشفعة تثبت لازالة ضرر الشركة وهو موجود في الشركة كيفما كان ولأن الضرر اللاحق بالمتهب دون ضرر المشتري لان إقدام المشتري على(5/463)
شراء الشقص وبذل ماله دليل حاجته إليه فانتزاعه منه أعظم ضرراً من أخذه ممن لم يوجد منه دليل الحاجة إليه ولنا أنه انتقل بغير عوض أشبه الميراث ولأن محل الوفاق هو البيع والخبر ورد فيه وليس غيره في معناه لأن الشفيع يأخذه ومن المشتري بمثل السبب الذي انتقل اليه به ولا يمكن هذا في غيره ولأن الشفيع يأخذ الشقص بثمنه لا يقيمته وفي غيره يأخذه بقيمته فافترقا (مسألة) (ولا تجب فيما عوضه غير المال كالصداق وعوض الخلع والصلح عن دم العمد في أحد الوجهين) والمستقل بعوض على ضربين أحدهما ما عوضه المال كالبيع ففيه الشفعة بغير خلاف وكذلك كل ما جرى مجراه كالصلح بمعنى البيع والصلح عن الجناية الموجبة للمال والهبة والمشروط فيها ثواب معلوم لأن ذلك بيع يثبت فيه أحكام البيع وهذا منها وبه يقول مالك والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا لا تثبت الشفعة في الهبة المشروط فيها ثواب حتى يتقابضا لأن الهبة لا تثبت إلا بالقبض فأشبهت البيع بشرط الخيار.
ولنا أنه تملكها بعوض هو مال فلم يفتقر إلى القبض في إستحقاق الشفعة كالبيع ولا يصح ما قالوه من إعتبار لفظ الهبة لأن العوض صرف اللفظ عن مقتضاه وجعله عبارة عن البيع خاصة عندهم فإنه ينعقد بها النكاح الذي لا تصح الهبة فيه بالإتفاق (الضرب الثاني) ما إنتقل بعوض غير المال نحو أن(5/464)
يجعل الشقص مهراً أو عوضاً في الخلع أوفي الصلح عن دم العمد فلا شقعة فيه في ظاهر كلام الخرقي لأنه لم يتعرض في جميع مسائله لغير البيع اختاره أبو بكر وبه قال الحسن الشعبي وأبو ثور وأصحاب الرأي حكاه عنهم ابن المنذر واختاره، ووقال ابن حامد تجب فيه الشفعة وبه قال ابن شبرمة والحارث العكلي ومالك وابن أبي ليلى والشافعي لأنه عقار مملوك بعقد معاوضة أشبه البيع.
ووجه الأول أنه مملوك بغير مال أشبه الموهوب والموروث ولأنه يمتنع أخذه بمهر المثل لاننا لو أوجبنا مهر المثل لقومنا البضع على الأجانب وأضررنا بالشفيع لأن مهر المثل يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة ويمتنع أخذه بالقيمة لأنها ليست عوض الشقص فلا يجوز الاخذ بها كالموروث فيتعذر أخذه، وفارق البيع فإنه أمكن الأخذ بعوضه، فإن قلنا يؤخذ بالشفعة فطلق الزوج قبل الدخول بعد عفو الشفيع رجع بنصف ما أصدقها لأنه موجود في يدها يصفته وإن طلق بعد أخذ الشفيع رجع بنصف قيمته لأن ملكها زال عنه فهو كما لو باعته وإن طلق عقبل علم الشفيع ثم علم ففيه وجهان (أحدهما) يقدم حق الشفيع لأنه ثبت بالنكاح السابق علي الطلاق فهو أسبق (والثاني) حق الزوج مقدم لأنه ثبت بالنص والإجماع والشفعة ههنا لانص فيها ولا إجماع.
فأما إن عفا الشفيع ثم طلق الزوج فرجع في نصف الشقص لم يستحق الشفيع الأخذ منه لأنه عاد إلى المالك لزوال العقد فلم يستحق به الشفيع كالرد بالعيب وكذلك كل فسخ يرجع به الشقص إلى العاقد كرده بعيب أو مقايلة أو اختلاف المتبايعين أورده لغبن(5/465)
وقد ذكرنا في الإقالة رواية أخرى أنها بيع فثبت فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة، فعلى هذا لو لم يعلم الشفيع حتى تقايلا فله أن يأخذ من أيهما شاء، وان عفا عن الشفعة في البيع ثقايلا فله الأخذ بها (فصل) فإذا جنى جنايتين عمداً وخطأ فصالحه منهما على شقص فالشفعة في نصف الشقص دون باقيه وبه قال أبو يوسف ومحمد وهذا على الرواية التي نقول فيها إن موجب العمد القصاص عينا وإن قلنا موجبه أحد شيئين وجبت الشفعة في الجميع، وقال أبو حنيفة لا شفعة في الجميع لأن الأخذ بها تبعيض للصفقة على المشتري
ولنا أن ما قابل الخطأ عوض عن مال فوجبت فيه الشفعة كما لو انفرد ولأن الصفقة جمعت ما يجب فيه وما لا يجب فوجبت فيما يجب دون الآخر كما لو اشترى شقصا وسفيا، وبهذا الأصل يبطل ما ذكره قال شيخنا وقول أبي حنيفة أقيس لأن في الشفعة تبعيض الشقص على المشتري وربما لا يبقى منه إلا مالا نفع فيه فأشبه مالو أراد أخذ بعضه مع عفو صاحبه بخلاف مسألة الشقص والسيف وأما إذا قلنا إن الواجب أحد شيئين فباختياره الصلح سقط القصاص وتعينت الدية فكان الجميع عوضاً عن مال.
(مسألة) (الثاني أن يكون شقصاً مشاعاً من عقار فيقسم فأما المقسوم المحدود فلا شفعة لمجاوره فيه)(5/466)
وبه قال وعمر بن عبد العزيز وابن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ويحيى الانصاري وأبو الزناد وربيعة ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى واصحاب الرأي الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجواز، قال أبو حنيفة يقدم الشريك فإن لم يكن وكان الطريق مشتركاً كالدرب لا ينفذ تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب فإن لم يأخذوا ثبتت للملاصق من درب آخر خاصة وقال العنبري وسوار تثبت بالشركة في الملك وبالشركة في الطريق واحتجوا بما روي أبو رافع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجار أحق بصقبه) رواه البخاري وأبو داود وروى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (جاز الدار أحق بالدار) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروى الترمذي في حديث جابر (الجار أحق بشفعته بداره ينتظر به إذا كان غائباً إذا كان طريقهما واحدا) وقال حديث حسن ولأنه إيصال ملك يدوم ويتأبد فثبتت الشفعة به كالشركة.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وتعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري وروي ابن جريج عن الزهري عن سعيد بن المسيب أو عن أبي سلعة أو أو عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا قسمت الأرض وحدت فلا شفعة فيها) رواه
أبو داود ولأن الشفعة تبتت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في محل النزاع(5/467)
فلا تثبت فيه، وبيان إنتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجة إلى مقاسمته أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم، فأما حديث أبي رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب يقال بالسين والصاد قال الشاعر * كوفيه نازح محلتها لا أمم دارها ولا صقب * فيحتمل أنه أراد بإحسان جاره وصلته وعيادته ونحو ذلك، وخبرنا صحيح صريح فيقدم وبقية الأحاديث في أسانيدها مقال فحديث سمرة يرويه عن الحسن ولم يسمع منه إلا حديث العقيقة قاله أصحاب الحديث قال إبن المنذر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جابر الذي رويناه وما عداه من الأحاديث فيها مقال، على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإنه جار أيضاً وتسمى الضرتان جارتين لا شتراكهما في الزوج، قال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لي فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فقتلها وجنينها، وهذا يمكن في تأويل حديث أبي رافع أيضاً.
إذا ثبت هذا فلا فرق بين كون الطريق مفردة أو مشتركة، قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجل له أرض تشرب هي وأرض غيره من نهر واحد فلا شفعة له من أجل الشرب إذا وقعت الحدود فلا شفعة.
وقال في رواية أبي طالب وعبد الله ومثنى قيمن لا يرى الشفعة بالجوار وقدم إلى الحاكم فأنكر لم يحلف إنما هو اختيار وقد اختلف الناس فيه،(5/468)
قال القاضي إنما قال هذا لأن يمين المنكر ههنا على اقطع والبت ومسائل الإجتهاد مظنونة فلا يقطع ببطلان مذهب المخالف ويمكن أن يحمل كلام أحمد ههنا على الورع لاعلى التحريم لأنه لم يحكم ببطلان مذهب المخالف ويجور المشترى الإمتناع به من تسليم المبيع فيما بينه وبنى الله تعالى (فصل) ولا تثبت الشفعة فيما لا تجب قسمته كالحمام الصغير والبئر والطرق الضيقة والرحى الصغيرة والعضادة والعراص الضيقة في إحدى الروايتين عن أحمد وبه قال يحيى الانصاري وسعيد وربيعة
والشافعي.
والثانية فيها الشفعة وهو قول أبي حنيفة والثوري وابن شريح، وعن مالك كالروايتين لقوله صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم) وسائر النصوص العامة ولأن الشفعة تثبت لإزالة ضرر المشاركة، والضرر في هذا النوع أكثر لأنه يتأبد ضرره والأول ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة) والمقنبة الطريق الضيق، رواه أبو الخطاب في رءوس المسائل وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل، ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع فيتضرر البائع وقد يمتنع البيع فتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى نفيها ويمكن أن يقال أن الشفعة إنما تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج إليه من إحداث المرافق الخاصة ولا يوجد هذا فيما لا ينقسم، قولهم أن الضرر ههنا أكثر لتأبده قلنا إلا أن الضرر في محل الوفاق من(5/469)
غير جنس هذا الضررو هو ضرر الحاجة إلى إحداث المرافق الخاصة فلا يمكن التعدية وفي الشفعة ههنا ضرر غير موجود في محل الوفاق وهو ما ذكرناه فتعذر الإلحاق، فأما ما أمكن قسمته مما ذكرنا كالحمام الكبير الواسع بحيث إذا قسم لا يستضر بالقسمة وأمكن الإنتفاع به حماماً فإن الشفعة تجب فيه وكذلك البئر والدور والعضائد متى أمكن أن يحصل من ذلك شيئان كالبئر يقسم بئرين يرتقى الماء منهما وجبت الشفعة أيضاً لأنه يمكن القسمة وهكذا الحرى إن كان لها حصن يمكن قسمته بحيث يحصل الحجران في أحد القسمين أو كان فيها أربعة أحجار دائرة يمكن أن يفرد كل واحد منهما بحجرين وجبت الشفعة وإن لم يكن إلا أن يحصل لكل واحد منهما مالا يتمكن به من إبقائها رحى لم تجب الشفعة فأما الطريق فإن الدار إذا بيعت ولها طريق في شارع أو درب نافذ فلا شفعة في الدار ولا الطريق لأنه لا شركة لأحد في ذلك وإن كان الطريق في درب غير نافذ ولا طريق، للدارسوى ذلك الطريق فلا شعفة أيضاً لأن إثبات ذلك يضر بالمشتري لأن الدار تبقى بلا طريق، وإن كان للدرب باب آخر يستطرق منه أو كان لها موضع يفتح منه باب لها إلى الطريق النافذ نظرنا في الطريق المبيع مع الدار فإن كان ممرا لاتمكن قسمته فلا شفعة فيه وإن كان يمكن قسمته وجبت الشفعة فيه لأنه
أرض مشتركة تحتمل القسمة فوجبت فيما الشفعة كغير الطريق ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال(5/470)
لأن الضرر يلحق المشتري بتحويل الطريق الى مكان آخر مع ما في الأخذ بالشفعة من تفريق صفقته وأخذ بعض المبيع من العقار دون بعض فلم يجزكما لو كان الشريك في الطريق شريكاً في الدار فأراد أخذ الطريق وحدها، والقول في دهليز الدار وصحنه كالقول في الطريق المملوك، وإن كان نصيب المشتري من الطريق أكثر من حاجته فذكر القاضي أن الشفعة تجب في الزائد بكل حال لوجود المقتضي وعدم المانع، والصحيح أنه لا شفعة فيه لأن في ثبوتها تبعيض صفقة المشتري ولا يخلو من الضرر (مسألة) (ولا تجب فيما ليس بعقار كالشجر والحيوان والبناء المفرد في إحدى الروايتين إلا أن الغراس والبناء يؤخذ تبعاً للأرض ولا يؤخذ الزرع والثمرة تبعاً في أحد الوجهين) وجملة ذلك أن من شروط وجوب الشفعة أن يكون المبيع أرضاً لأنها التي تبقى على الدوام ويدوم ضررها وغيرها ينقسم قسمين (أحدهما) تثبت فيه الشفعة تبعاً للأرض وهو البناء والغراس يباع مع الأرض فإنه يؤخذ بالشفعة تبعاً بغير خلاف في المذهب ولا نعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلافاً، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم وقضاؤه بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط وهذا يدخل فيه البناء والأشجار (القسم الثاني) مالا تثبت فيه الشفعة تبعاً ولا مفرداً وهو الزرع والثمرة الظاهرة ويباع مع الأرض فلا يؤخذ بالشفعة مع الأصل وهو قول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك يؤخذ بالشفعة مع أصوله، وقد ذكر أصحابنا وجهاً مثل قولهما لأنه متصل بما فيه الشفعة فثبتت فيه الشفعة تبعاً كالبناء والغراس(5/471)
ولنا أنه لا يدخل في البيع تبعاً فلا يؤخذ بالشفعة كقماش الدار وعكسه البتاء والغراس، يحقق ذلك أن الشفعة بيع في الحقيقة لكن الشارع جعل له سلطان الأخذ بغير رضى المشتري، فإن بيع الشجر وفيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع غير المؤبر دخل في الشفعة لأنها تبع في البيع فأشبهت الغراس في الأرض فإن بيع ذلك مفرداً فلا شفعة فيه سواء كان ممن ينقل كالحيوان والثياب والسفن والحجارة والزرع
والثمار أولاً ينقل كالبناء والغراس إذا بيع مفرداً وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن الحسن والثوري والاوزاعي والعنبري وقتادة وربيعة واسحاق لا شفعة في المنقولات، واختلف فيه عن عطاء ومالك فقالا مرة كذلك ومرة قالا الشفعة في كل شئ حتى في الثوب، قال ابن أبي موسى وقد روي عن أبي عبد الله رواية أخرى أن الشفعة واجبة فيما لا ينقسم كالحجر والسيف والحيوان وما في معنى ذلك قال أبو الخطاب وعن أحمد أن الشفعة تجب في البناء والغراس وإن بيع منفرداً وهو قول مالك لعموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما لم يقسم) ولأن الشفعة وجبت لدفع الضرر والضرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم وقد روى ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الشفعة في كل شئ) ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) لا يتناول إلا ما ذكرناه وانما أراد مالا ينقسم من الأرض لقوله (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق)(5/472)
ولأن هذا مما لا ينافى ضرره على الدوام فلم تجب فيه الشفعة كصبرة الطعام وحديث ابن أبي مليكة مرسل ولم يرو في الكتب الموثوق بها والحكم في الغراف والدولاب والناعورة كالحكم في البناء، فأما إن بيعت الشجرة مع قرارها من الأرض مفردة عما يتخلها من الأرض فحكمها حكم مالا ينقسم من العقار فيه من الخلاف ما ذكرناه لأنه مما لا ينقسم ويحتمل أن لا تجب الشفعة فيها بحال لأن القرار تابع لها فإذا لم تجب الشفعة فيها مفردة لم تجب في تبعها وإن بيعت حصة من علودار مشترك وكان السقف الذي تحته لصاحب السفل فلا شفعة في العلو لأنه بناء مفردوان كان لصاحب العلو فكذلك لأنه بناء مفرد لانه لا ارض له فهو كما لو لم يكن السقف له ويحتمل ثبوت الشفعة فيه لأن له قراراً أشبه السفل (فصل) الشرط الثالث المطالبة بها على الفور ساعة يعلم نص عليه، وقال القاضي له طلبها في المجلس وإن طال فإن أخر الطلب سقطت شفعته) ظاهر المذهب أن حق الشفعة على الفور إن طالب بها ساعة يعلم بالبيع والابطلت نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال الشفعة بالمواثبة ساعة يعلم وهو قول ابن شبرمة والبتي والاوزاعي وابي حنيفة والعنبري والشافعي في جديد قوله وعن أحمد رواية ثانية أن الشفعة على التراخي لا تسقط ما لم
يوجد منه ما يدل على الرضى بعفو أو مطالبة بقسمه ونحوه وهو قول مالك وقول الشافعي إلا أن مالكاً قال تنقطع بمضي سنة وعنه بمضي مدة يعلم أنه تارك لها لأن هذا الخيار لا ضرر في تراخيه فلم يسقط بالتأخير كحق القصاص، وبيان عدم الضرر أن النفع للمشتري بإستغلال المبيع فإن أحدث فيه عمارة من بناء أو غراس(5/473)
فله قيمته وحكي عن ابن أبي ليلى والثوري أن الخيار مقدر بثلاثة أيام وهو أحد أقوال الشافعي لأن الثلاث حدبها خيار الشرط فصلحت حداً لهذا الخيار ولنا ماروى ابن السلماني عن أبيه عن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الشفعة كحل العقال) رواه ابن ماجه وفي لفظ (الشفعة كنشطة العقال قيدت ثبت وإن تركت فاللوم على من تركها) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((الشفعة لمن واثبها) رواه الفقهاء في كتبهم ولأنه خيار لدفع الضرر عن المال فكان على الفور كخيار الرد بالعيب لأن إثباته على التراخي يضر المشتري لكونه لا يستقر ملكه على المبيع ويمنعه من التصرف بعمارة خشية أخذه منه ولا يندفع عنه الضرر بدفع قيمته لأن خسارتها في الغالب أكثر من قيمتها مع تعب قبله وبدنه فيها، والتحديد بثلاثة أيام تحكم لا دليل عليه، والأصل المقيس عليه ممنوع ثم هو باطل بخيار الرد العيب.
إذا تقرر هذا فقال ابن حامد يتقدر الخيار بالمجلس وهو قول القاضي وبه قال أبو حنيفة فمتى طالب في مجلس العلم ثبتت الشفعة وإن طال لأن المجلس كله في حكم حالة العقد بدليل أن القبض فيه لما يشترط فيه القبض كالقبض حالة العقد، وظاهر كلام أحمد انه لا يتقدر بالمجلس بل متى طالب عقيب عمله وإلا بطلت شفعته وهو ظاهر كلام الخرقي وقول الشافعي في الجديد لما ذكرنا من الخبر والمعنى، وما ذكروه يبطل بخيار الرد بالعيب، فعلى هذا متى أخر المطالبة عن وقت العلم لغير عذر بطلت شفعته وإن أخرها لعذر مثل أن أن لا يعلم أو يعلم ليلاً فيؤخر إلى الصبح أو لشدة جوع أو عطش حتى يأكل ويشرب أو أخرها لطهارة أو إغلاق(5/474)
باب أو ليخرج من الحمام أو ليؤذن ويقيم ويأتي بالصلاة وسنتها أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها لم تبطل شفعته لأن العادة تقديم هذه الحوائج على غيرها فلا يكون الإشتغال بها رضي بترك الشفعة إلا أن يكون المشتري حاضراً عنده في هذه الأحوال فيمكنه مطالبته من غير اشتغاله عن اشتغاله فإن شفعته تبطل بتركه
المطالبة لأن هذا لا يشغله عنها ولا تشغله المطالبة عنه فأما مع غيبته فلافان العادة تقديم هذه الأشياء فلم يلزمه تأخيرها كما لو أمكنه أن يسرع في مشيه ويحرك دابته فلم يفعل ومضى على حب عادته لم تسقط شفعته لأنه طلب بحكم العادة، وإذا فرغ من حوائجه من مضى على حسب عادته إلى المشتري فاذالقيه بدأه بالسلام لأن ذلك الشنة لأن في الحديث (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ثم يطالب فإن قال بعد السلام بارك الله لك في صفقة يمينك أو دعا له بالمغفرة ونحو ذلك لم تبطل شفعته لأن ذلك يتصل بالسلام فهو من جملته والدعاء له بالبركة في الصفقة دعاء لنفسه لأن الشقص يرجع إليه فلان يكون ذلك رضا فإن إشتغل بكلام آخر أو سكت لغير حاجة بطلت شفعته لما قدمنا (مسألة) (إلا أن يعلم وهو غائب فيشهد على الطلب ثم إن أخر الطلب بعد الإشهاد مع إمكانه أو ترك الإشهاد أو لم يشهد لكن سار في طلبها فعلى وجهين) متى عليم الغائب بالبيع وقدر على الإشهاد على المطالبة فلم يفعل بطلت شفعته سواء قدر على التوكيل أو عجز عنه أو سار عقيب العلم أو أقام هذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب وهو ظاهر قول الخرقي وهو وجه(5/475)
للشافعي والوجه الآخر لا يحتاج إلى الإشهاد لأنه إذا ثبت عذره فالظاهر إنه ترك الشفعة لذلك فقبل قوله فيه ولنا أنه قد يترك الطلب للعذر وقد يتركه لغير وقد يسير لطلب الشفعة ويسير لغيره وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد فإذا لم يفعل سقطت شفعته كتارك الطلب مع الحضور وقال القاضي إن سار عقيب علمه إلى البلد الذي فيه المشتري من غيره إشهاد احتمل أن لا تبطل شفعته لأن ظاهر سيره أنه للطلب وهو قل أصحاب الرأي والعنبري وقول للشافعي وقال أصحاب الرأي له من الأجل بعد العلم قدر السيرفان مضى الأجل قبل أن يطلب أو يبعث بطلت شفعته وقال العنبري له مسافة الطريق ذاهباً وجائياً لأن عذره في ترك الطلب ظاهر لم يحتچ معه إلى الشهادة وقد ذكر نا وجه القول الأول (فصل) فإن أخر الطلب بعد الإشهاد مع إمكانه فظاهر كلام الخرقي إن الشفعة بحالها وقال القاضي تبطل.
إذا قدر على المسير وأخره وإن لم يقدر على المسير وقدر على التوكيل في طلبها فلم يفعل بطلت أيضاً لأنه تارك للطلب بها مع قدرته عليه فسقطت كالحاضر أو كما لو لم يشهد وهذا مذهب الشافعي، إلا أن لهم فيما إذا قدر على التوكيل
فلم يفعل وجهين (أحدهما) لا تبطل شفعته لأن له غرضاً في المطالبة بنفسه لكونه أقوم بذلك أو يخاف الضرر من جهة وكيله بأن يقر عليه برشوة أو غير ذلك فيلزمه إقراره فكان معذوراً ولنا أن عليه في السفر ضرراً لإلتزامه كلفته وقد يكون له حوائج وتجارة ينقطع عنها وتضيع بغيبته(5/476)
والتوكيل إن كان بجعل لزمه غرم وإن كان بغير جعل ففيه منه ويخاف الضرر من جهته فأكتفي بالإشهاد فأما أن ترك السفر لعجزه عنه أو لضرر يلحقه فيه لم تبطل شفعته وجهاً واحداً لأنه معذور كمن لم يعلم (فصل) تجب الشفعة للغائب في قول الأكثرين منهم مالك والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن النخعي ليس للغائب شفعة وبه قال الحارث العكلي والبتي إلا للغائب القريب لأن إثباتها يضر بالمشتري ويمنع استقرار ملكه وتصرفه على حسب اختياره خوفاً من أخذه فلم يثبت كما لا يثبت للحاضر على التراخي ولنا عموم قوله عليه السلام (الشفعة فيما لم يقسم) وسائر الأحاديث ولأن الشفعة حق مالي وجد سببه بالنسبة إلى الغائب فيثبت له كالإرث ولأنه شريك لم يعلم بالبيع فتثبت له الشفعة عند علمه كالحاضر إذا كتم عنه البيع والغائب غيبة قريبة وضرر المشتري يندفع بإيجاب الثمن له كما في الصور المذكورة.
إذا ثبت هذا ولم يعلم بالبيع إلا عند قدومه فله المطالبة وإن طالت غيبته لأنه خيار ثبت لازالة والضرر عن المال فتراخي الزمان قبل العلم به لا يسقطه كالرد بالعيب ومتى علم فحكمه في المطالبة حكم الحاضر في أنه ان طالب على الفور استحق والابطلت شفعته، وحكم المريض والمحبوس ومن لم يعلم بالبيع حكم الغائب لما ذكرنا (مسألة) (فإن ترك الطلب والإشهاد لعجزه عنهما كالمريض والمحبوس ومن لا يجد من يشهده لم تبطل شفعته) أما إذا كان مرضه لا يمنع المطالبة كالصداع اليسير والألم القليل فهو كالصحيح، وإن كان المرض(5/477)
يمنع المطالبة كالحمى وأشباهها فهو كالغائب في الإشهاد والتوكيل، وأما المحبوس فإن كان حبس ظلماً أو بدين لا يمكنه أداؤه فهو كالمريض وإن كان محبوساً بحق يلزمه أداؤه وهو قادر عليه فهو كالمطلق إن لم يبادر إلى المطالبة ولم يوكل بطلت شفعته
(فصل) فإن عجز عن الإشهاد في سفره لم تبطل شفعته بغير خلاف لأنه معذور في تركه فأشبه ما لو ترك الطلب لعذر أو لعدم العلم، ومتى قدر على الإشهاد فأخره كان كتأخير الطلب بالشفعة إن كان لعذر لم تسقط الشفعة وإن كان لغير عذر سقطت لأن الإشهاد قائم مقام الطلب ونائب عنه فيعتبر له ما يعتبر للطلب، ومن لم يقدر الاعلى إشهاد من لا تقبل شهادته كالمرأة والفاسق فترك الإشهاد لم تسقط شفعته بتركه لأن قولهم غير مقبول فلم تزم شهادتهم كالا طفال والمجانين، وإن لم يجد من يشهده إلا من لا يقدم معه إلى موضع المطالبة قلم يشهد فالأولى أن شفعته لا تبطل لأن إشهاده لا يفيد فأشبه إشهاد من لا تقبل شهادته، وإن لم يجد الامستوري الحال فلم يشهدهما احتمل أن تبطل لأن شهادتهما يمكن إثباتها بالتزكية فأشبها العدلين، ويحتمل أن لا تبطل لأنه يحتاج في إثبات شهادتهما إلى كلفة كثيرة وقد لا يقدر على ذلك فلا تقبل شهادتهما فإن أشهدهما لم تبطل شفعته سواء قبلت شهادتهما أو لم تقبل لأنه لا يمكنه أكثر من ذلك فأشبه العاجز عن الإشهاد وكذلك إن لم يقدر إلا على إشهاد واحد فأشهده أو ترك اشهاده(5/478)
(مسألة) (أو لإظهارهم زيادة في الثمن أو نقصاً في المبيع أو أن المشتري غيره أو أخبره من لا يقبل خبره فلم يصدقه أو قال للمشتري بعني ما اشتريت أو صالحني سقطت شفعته) إذا أظهر المشتري أن الثمن أكثر مما وقع عليه العقد فترك الشفيع الشفعة لم تبطل بذلك وبه قال الشافعي وأصصحاب الرأي ومالك إلا أنه قال بعد أن يحلف ما سلمت الشفعة إلا لمكان الثمن الكثيرو قال ابن أبي ليلى لاشفعة له لأنه سلم ورضي ولنا أنه تركها للعذر فإنه لا يرضاه بالثمن الكثير ويرضاه بالقليل وقد يعجز عن الكثير فلم تسقط بذلك كما لو تركها لعدم العلم وكذلك ان ظهر أن المبيع سهام قليلة فبانت كثيرة لأنه قد يرغب في الكثير دون القليل وكذلك إن كان بالعكس لأنه قد يقدر على ثمن القليل دون الكثير أو إنهما تبايعا بدنانير فبانت بدراهم أو بالعكس وبه قال الشافعي وزفر، وقال أبو حنيفة وصاحباه إن كان قيمتهما سواء سقطت الشفعة لانهما كالحنس الواحد
ولنا أنهما جنسان أشبها الثياب والحيوان ولأنه قد يملك النقد الذي وقع به البيع دون ما أظهره فيتركه لعدم ملكه له وكذلك إن أظهر أنه اشتراه بنقد فبان أنه اشتراه بعرض أو بالعكس أو بنوع من العروض فبان أنه بغيره أو أظهر أنه اشتراه له فبان أن اشتراه لغيره أو بالعكس أو أنه اشتراه لإنسان فبان أنه اشتراه لغيره لأنه قد يرضى بشركة إنسان دون غيره وقد يحابي إنساناً أو يخافه(5/479)
فيترك لذلك وكذلك إن أظهر أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى نصفه بنصفه أو أنه اشترى نصفه بثمن فبان أنه اشترى جميعه بضعفه أو أنه اشترى الشقص وحده فبان أنه اشتراه هو وغيره وأو بالعكس لم تسقط الشفعة في جميع ذلك لأنه قد يكون له غرض فيما أبطنه دون ما أظهره فيترك لذلك فلم تسقط شفعته كما لو أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أقل منه.
فأما إن أظهر أنه اشتراه بثمن فبان أنه اشتراه بأكثر أو أنه اشترى الكل بثمن فبان أنه اشترى به بعضه سقطت شفعته لأن الضرر فيما أبطنه أكثر فإذا لم يرض بالثمن القليل مع قلة ضرره فبالكثير أولى (فصل) فان أخبره بالبيع مخبر فصدقة ولم يطالب بالشفعة بطلت شفعته سواء كان المخبر ممن يقبل خبره أولا لأن العلم قد يحصل بخبر من لا يقبل خبره لقرائن دالة على صدقة وإن قال لم أصدقه وكان المخبر ممن يحكم بشهادته كرجلين عدلين بطلت شفعته لأن قولهم حجة تثبت بها الحقوق، وإن كان ممن لا يعمل بقوله كالفاسق والصبي لم تبطل وحكي عن أبي يوسف أنها تسقط لأنه خبر يعمل به في الشرع في الاذن في دخول الدار وشبهه فسقطت كخبر العدل ولنا أنه خبر لا يقبل في الشرع اشبه قول الطفل والمجنون، وإن أخبره رجل عدل أو مستور الحال سقطت شفعته، ويحتمل أن لا يستقط يروى هذا عن أبي حنيفة وزفر لأن الواحد لا تقوم به البينة.(5/480)
ولنا أنه خبر لا تعتبر فيه الشهادة فقبل من العدل كالرواية والفتيا وسائر الأخبار الدينية، وفارق الشهادة فإنه يحتاط لها باللفظ والمجلس وحضور المدعي عليه وإنكاره ولأن الشهادة يعارضها إنكار المنكر وتوجب الحق عليه بخلاف هذا الخبر، والمرأة كالرجل في ذلك والعبد كالحر وقال القاضي
هما كالفاسق والصبي وهذا مذهب الشافعي لأن قولهما لا يثبت به حق ولنا أن هذا خبر وليس بشهادة فاستوى فيه الرجل والمرأة والعبد والحر كالرواية والأخبار الدينية والعبد من أهل الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص وهذا مما عداهما فأشبه الحر (مسألة) (وإن قال الشفيع للمشتري بعني ما اشتريت أو قاسمني بطلت شفعته) لأنه يدل على رضاه يشرائه وتركه الشفعة وإن قال صالحني على مال سقطت أيضاً وهو قول أبي الخطاب وقال القاضي لا تسقط لأنه لم يرض بإسقاطها وإنما رضي بالمعاوضة ولم تثبت العاوضة فبقيت الشفعة ولنا أنه رضي بتركها وطلب عوضها فثبت الترك المرضي به ولم يثبت العوض كما لو قال بعني فلم يبيعه ولأن ترك المطالبة بها كاف في سقوطها فمع طلب عوضها أولى ولا صحاب الشافعي وجهان كهذين فان صالحه عنه بعوض لم يصح وبه قال أبوحنية والشافعي وقال مالك يصح لأنه عوض عن إزالة ملك فجاز كأخذ العوض عن تمليك المرأة أمرها(5/481)
ولنا أنه خيار لا يسقط إلى فلم يجز أخذ العوض عنه كخيار الشرط وبه يبطل ما قاله وأما الخلع فهو عما ملكه بعوض وههنا بخلافه (فصل) وإن لقيه الشفيع في غير بلده فلم يطالبه قال إنما تركت المطالبة لا طالبة في البلد الذي فيه البيع أو المبيع أو لا آخذ الشقص في موضع الشفعة سقطت شفعته لأن ذلك ليس بعذر في ترك المطالبة فإنها لا تقف على تسليم الشقص ولا حضور البلد الذي هو فيه، وإن قال نسيت فلم أذكر المطالبة أو نسيت البيع سقطت شفعته لأنه خيار على الفور فإذا أخره نسياناً بطل كالرد بالعيب وكما لو أمكنت المعتقة زوجها من وطئها نسياناً ويحتمل أن لا تسقط المطالبة لأنه تركها لعذر فأشبه مالو تركها لعدم علمه بها وإن تركها جهلا لاستحقاقه لها إذا كان مثله يجهل ذلك بطلت كالرد بالعيب ويحتمل أن لا تبطل كما إذا ادعت المعتقة الجهل بملك الفسخ (مسألة) (وإن دل في البيع لم تبطل شفعته) لأن ذلك لا يدل على الرضى بإسقاطها بل لعله أراد البيع ليأخذ بالشفعة (مسألة) (وإن توكل الشفيع في البيع لم تسقط شفعته بذلك سواء توكل للبائع أو للمشتري)
ذكره الشريف وأبو الخطاب وهو ظاهر مذهب الشافعي، وقال القاضي وبعض الشافعية إن كان وكيل البائع فلا شفعة له لانه تحلقه التهمة في البيع لكونه يقصد تقليل الثمن ليأخذ به بخلاف المشتري وقال(5/482)
أصحاب الرأى لاشفعة لوكيل المشتري بناء على أصلهم أن الملك ينتقل إلى الوكيل فلا يستحق على نفسه ولنا أنه وكيل فلا تسقط شفعته كالأجر ولا نسلم أن الملك ينتقل إلى الوكيل بل ينتقل إلى الموكل ثم لو انتقل إلى الوكيل لما ثبت في ملكه إنما ينتقل في الحال إلى الموكل فلا يكون الأخذ من نفسه ولا الا ستحقاق عليها وأم التهمة فلا تؤثر لأن الموكل وكله من علمه بثبوت شفعه راضياً بتصرفه فلم يؤثر كما لو وكله في الشراء من نفسه، وفعلى هذا لو قال لشريكه بع نصف نصبي مع نصف نصيبك ففعل ثبتت الشفعة لكل واحد منهما في المبيع من نصيب صاحبه وعند القاضي تثبت في نصيب الوكيل دون نصيب الموكل (مسألة) (وإن جعل له الخيار فاختار إمضاء البيع فهو على شفعته) إذا شرط للشفيع الخيار فاختار امضاء العقد أو ضمن العهدة للمشتري فالشفعة بحالها وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي تسقط لأن العقد تم به فأشبه البائع إذا باع بعض نصيب نفسه ولنا أن هذا سبب سبق وجوب الشفعة فلم تسقط به الشفعة كالإذن في البيع والعفو عن الشفعة قبل تمام البيع وما ذكروه لا يصح فإن البيع لا يقف على الضمان ويبطل بما إذا كان المشتري شريكاً فإن البيع تم به وثبتت له الشفعة بقدر نصيبه (مسألة) (وإن أسقط شفعته قبل البيع لم تسقط ويحتمل أن تسقط) ادا عفا الشفيع عن الشفعة قبل البيع فقال قد أذنت في البيع أو أسقطت شفعتي أو ما أشبه ذلك(5/483)
لم تسقط وله المطالبة بها في ظاهر المذهب وبه قال مالك والشافعي والبتى وأصحاب الرأي، وعن أحمد ما يدل على أن الشفعة تسقط بذلك فإن اسماعيل بن سعيد قال قلت لأحمد ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان بينه وبين أخيه ربعة فأراد بيعها فليعرضها عليه) وقد جاء في بعض الحديث (لا يحل له إلا أن يعرضها عليه إذا كانت الشفعة ثابتة) فقال ما هو بيعيد من أن يكون على ذلك وإن لا تكون له شفعة وهذا قول
الحكم والثوري وابي خيثمة وطائفة من أهل الحديث، قال إبن المنذر وقد اختلف فيه عن أحمد فقال مرة تبطل شفعته وقال مرة لا تبطل، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان له شركة في أرض ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يستأدن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك) ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن شاء ترك) فلا يكون لتركه معنى ولأن مفهوم قوله (فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) إنه إذا باعه بإذنه لاحق له ولأن الشفعة ثبتت في موضع الإتفاق على خلاف الأصل لكونه يأخذ ملك المشتري بغير رضاه ويجبره على المعاوضة به لدخوله مع البائع في العقد الذي أساء فيه بإدخاله الضرر على شريكه وتركه الإحسان إليه في عوضه عليه وهذا المعنى معدوم ههنا فإنه قد عرضه عليه، وامتناعه من أخذه دليل على عدم الضرر في حقه ببيعه فان كان فيه ضرر فهو أدخله على نفسه فلا يستحق الشفعة كما لو أخر المطالبة بعد البيع.
ووجه الأول أنه إسقاط حق قبل وجوبه فلم يصح كما لو أبرأه مما يجب له أو لو أسقطت المرأة صداقها قبل التزويج، وأما الخبر فيحتمل أنه أراد العرض عليه ليبتاع ذلك إن أراد فتخف عليه المؤنة(5/484)
ويكتفي أخذ المشتري الشقص لا اسقاط حقه من شفعته (مسألة) وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ له لم تسقط وله الأخذ بها إذا كبر وان تركها لعدم الخط فيها سقطت ذكره ابن حامد وقال القاضي يحتمل أن لا تسقط) إذا بيع في شركة الصغير شقص ثبتت له الشفعة في قول عامة الفقهاء منهم الحسن وعطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وسوار والعنبري وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى لا شفعة له وروي ذلك عن النخعي والحارث العكلي لأن الصبي لا يمكنه الأخذ ولا يمكن انتظاره حتى يبلغ لما فيه من الإضرار بالمشتري، وليس للولي الأخذ لأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ كالأجنبي ولنا عموم الأحاديث ولأنه خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فثبت في حق الصبي كخيار الرد بالعيب، قولهم لا يمكن الأخذ ممنوع فإن الولي يأخذ بها كما يرد بالعيب، قولهم لا يمكنه العفو يبطل بالوكيل فيها وبالرد بالعيب فإن ولي الصبي لا يمكنه العفو ويمكنه الرد ولأن في الأخذ تحصيلا للملك للصبي ونظراً له وفي العفو تضييع وتفريط في حقه ولا يلزم من ملك ما فيه الحظ ملك ما فيه تضبيع ولأن العفو
إسقاط لحقه والأخذ استيفاء له ولا يلزم من ملك الولي استيفاء حق المولي عليه ملك إسقاطه بدليل سائر حقوقه وديونه، فإن لم يأخذ الولي أنتظر بلوغ الصبي كما ينتظر قدوم الغائب، وبه يبطل ما ذكروه من الضرر في الإنتظار.
إذا ثبت هذا فإن الصغير إذا كبر فله الأخذ بها في ظاهر قول الخرقي سواء عفا(5/485)
عنها الولي أولم يعف وسواء كان الخط في الأخذ بها أو في تركها وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وهذا قول الأوزاعي وزفر ومحمد بن الحسن وحكاه بعض أصحاب الشافعي عنه لأن المستحق للشفعة يملك الأخذ بها سواء كان له الحظ فيها أولم يمكن فلم تسقط بترك غيره كالغائب إذا ترك وكيله الأخذ بها، وقال ابن حامدا تركها المولى لحظ الصبي أو لأنه ليس للصبي ما يأخذها به سقطت وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الولي فعل ماله فعله فلم يجز للصبي نقضه كالرد العيب ولأنه فعل ما للصبي فيه حظ فصح كالأخذ مع الحظ، وإن تركها لغير ذلك لم تسقط، وقال أبو حنيفة تسقط بعفو الولي عنها في الحالين لأن من ملك الأخذ بها ملك العفو عنها كالمالك، وخالفه صاحباه في هذا لأنه اسقط حقاً للمولي عليه ولا حظ له في إسقاطه فلم يصح كالإبراء وخيار الرد بالعيب، ولا يصح قياس الولي على المالك لأن للمالك التبرع والإبراء وما لا حظ له فيه بخلاف الولي (فصل) فأما الولي فإن كان للصبي حظ في الأخذ بها مثل أن يكون الشراء رخيصاً أو بثمن المثل وللصبي ما يشتري به العقار لزم وليه الأخذ بالشفعة لأن عليه الإحتياط له والاخذ بما فيه الحظ فإذا أخذ بها ثبت الملك للصبي ولم يملك نقضه بعد البلوغ في قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الأوزاعي ليس للولي الأخذ بها لأنه لا يملك العفو عنها ولا يملك الأخذ بها كالأجنبي وإنما يأخذ بها الصبي إذا كبر، وهذا لا يصح لأنه خيار جعل لإزالة الضرر عن المال فملكه الولي كالرد بالعيب(5/486)
وقد ذكرنا فساد قياسه فيما مضى، فإن تركها الولي مع الحظ للصبي الأخذ بها إذا كبر ولا يلزم الولي غرم لذلك لأنه لم يفوت شيئاً من ماله وإنما ترك تحصيل ماله الحظ فيه فأشبه مالو ترك شراء العقار له مع الخط في شرائه وإن كان الحظ في تركها مثل أن يكون المشتري قد غبن أو كان
في الاحذ بها يحتاج إلى أن يستقرض ويرهن مال الصبي له الأخذ لأنه لا يملك فعل مالا حظ للصبي فيه، وفان أخذ لم يصح في إحدى الروايتين ويكون باقياً على ملك المشتري لأنه اشترى له ما لا يملك شراءه فلم يصح كما لو اشترى بزيادة كثيرة على ثمن المثل أو اشترى معيباً يعلم عيبه، ولا يملك الولي المبيع لأن الشفعة تؤخذ بحق الشركة ولا شركة للولي ولذلك لو أراد الأخذ لنفسه لم يصح فأشبه مالو تزوج لغيره بغير إذنه فإنه يقع باطلاً ولا يصح لواحد منهما كذا ههنا وهذا مذهب الشافعي (والثانية) يصح الأخذ للصبي لأنه اشترى له ما يندفع عنه الضرر به فصح كما لو اشترى معيباً لا يعلم عيبه والحظ يختلف ويخفي فقد يكون له حظ في الأخذ بأكثر من ثمن المثل لزيادة قيمة ملكه والشقص الذي يشتريه بزوال الشركة أو لأن الضرر الذي يندفع بأخذه كثير فلا يمكن اعتبار الحظ بنفسه لخفائه ولا بكثرة الثمن لما ذكرناه فسقط اعتباره وصح البيع (فصل) وإذا باع وصي الأيتام فباع لأحدهم نصيباً في شركة الآخر فله الأخذ للآخر بالشفعة لأنه(5/487)
كالشراء له، وإن كان الوصي شريكاً لمن باع عليه فليس له الأخذ للتهمة في البيع ولأنه بمنزلة من يشتري لنفسه من مال يتيمه، ولو باع الوصي نصيبه كان له الأخذ لليتيم بالشفعة مع الحظ لليتيم لأن التهمة منتفية فإنه لا يقدر على الزيادة في ثمنه لكون المشتري لا يوافقه ولأن الثمن حاصل له من المشتري كحصوله من اليتيم بخلاف بيعه مال اليتيم فإنه يمكنه تقليل الثمن ليأخذ الشقص به، فإن رفع الأمر إلى الحاكم فباع عليه فللوصي الأخذ حينئذ لعدم التهمة، فإن كان مكان الوصي أب فباع شقص ولده فله الأخذ بالشفعة لأن له أن يشتري من نفسه مال ولده لعدم التهمة، وإن بيع شقص في شركة حمل لم يكن لوليه الأخذ له بالشفعة لأنه لا يمكن تمليكه بغير الوصية فإذا ولد الحمل ثم كبر فله الأخذ بالشفعة كالصبي إذا كبر (فصل) وإذا عفا ولي الصبي عن شفعته التي له فيها حظ ثم أراد الأخذ بها فله ذلك في قياس المذهب لأنها لم تسقط بإسقاطه ولذلك ملك الصبي الأخذ بها إذا كبر ولو سقطت لم يملك الأخذ بها، ويحتمل أن لا يملك الأخذ بها لأن ذلك يؤدي إلى ثبوت حق الشفعة على التراخي وذلك على خلاف الخبر والمعنى ويخالف أخذ الصبي بها إذا كبر لأن الحق يتجدد له عند كبره فلا يملك تأخيره حينئذ وكذلك أخذ الغائب بها إذا اقدم، فأما إن تركها
لعدم الحظ فيها ثم أراد الا خذ بها والأمر بحاله لم يملك ذلك كمالم يملكه ابتداء، وإن صار فيها حظ أو كان معسراً عند البيع فأيسر بعد ذلك انبنى ذلك على سقوطها بذلك فان قلنالا تسقط وللصبي الأخذ بها إذا كبر فحكمها حكم ما فيه الحظ وإن قلنا تسقط فليس له الأخذ بها بحال لأنها قد سقطت مطلقاً فهو كما لو عفا الكبير عن شفعته(5/488)
(فصل) والحكم في المجنون المطبق كالحكم في الصبي سواء لأنه محجور عليه لحظه وكذلك السفيه فاما المغمى عليه فحكمه الغائب لان لا ولاية عليه وكذلك المحبوس، فعلى هذا ننتظر إفاقته وأما مفلس فله الأخذ بالشفعة والعفو عنها وليس لغرمائه الا خذ بها لأنها معاوضة فلا يجبر عليها كسائر المعاوضات وليس لهم إجباره على العفو لأنه إسقاط حق فلا يجبر، وسواء كان له حظ في الأخذ بها أو لم يكن لأنه يأخذ في ذمته وليس بمحجور عليه في ذمته لكن لهم منعه من دفع ماله في ثمنها لتعلق حقوقهم بماله فاشبه مالو إشترى في ذمته شقصاً غير هذا، ومتى ملك الشقص المأخوذ بالشفعة تعلقت حقوق الغرماء به سواء أخذه برضاهم أو بغيره لأنه مال له فأشبه مالوا كتسبه.
وأما المكاتب فله الأخذ والترك وليس لسيده الاعتراض عليه لأن التصرف يقع له دون سيده، وكذلك المأذون له في التجارة من العبيد له الأخذ بالشفعة لأنه مأذون له في الشراء وان عفاعنها لم ينفذ عفوه لأن الملك للسيد ولم يأذن في إبطال حقوقه، فإن أسقطها السيد سقطت ولم يكن للعبد أن يأخذ لأن للسيد الحجر عليه ولأن الحق قد أسقطه مستحقه فسقط بإسقاطه (فصل) (الشرط الرابع) أن يأخذ جميع المبيع فإن طلب أخذ البعض سقطت شفعته وبه قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي وقال أبو يوسف لا تسقط لأن طلبه لبعضها طلب لجميعها لكونه لا يتبعض ولا يجوز أخذ بعضها(5/489)
ولنا أنه تارك لطلب بعضها فتسقط ويسقط باقيها لأنها لاتتبعض، ولا يصح ما ذكره فإن طلب بعضها ليس بطلب جميعها ومالا يتبعض لا يثبت حتى يثت السبب في جميعه كالنكاح بخلاف السقوط فإن الجميع يسقط بوجود السبب في بعضه كالطلاق (فصل) فإن أخذ الشقص بثمن مغصوب ففيه وجهان (أحدهما) لا تسقط شفعته لأنه بالعقد استحق الشقص
بمثل ثمنه في الذمة فإذا عينه فيمالا يملكه سقط التعيين وبقي الإستحقاق في الذمة أشبه مالو أخر الثمن أو ما لو اشترى شيأ آخر ونقد فيه ثمناً مغصوباً (والثاني) يسقط لأن أخذه للشقص بمالا يصح أخذه به ترك له وإعراض عنه فسقطت الشفعة كما لو ترك الطلب بها (مسألة) (وإن كانا شفيعين فالشفعة بينهما على قدر ملكهما وعنه على عدد الرؤوس) ظاهر المذهب أن الشقص المشفوع إذا أخذه الشفعاء قسم بينهم على قدر أملاكهم اختاره أبو بكر وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين وعطاء وبه قال مالك وسوار والعنبري واسحاق وأبو عبيد وهو أحد قولي الشافعي، وعن أحمد رواية ثانية أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس اختارها ابن عقيل وروي ذلك عن النخعي والشعبي وهو قول ابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وأصحاب الرأي لأن كل واحد منهم لو انفرد لا يستحق الجميع فإذا اجتمعوا تساووا كالبنين في الميراث وكالمعتقين في سراية العتق ولنا أنه حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الأملاك كالغلة ودليلهم ينتقض بالإبن والأب أو(5/490)
الجد وبالفرسان والرجالة في الغنيمة وبأصحاب الديون والوصايا إذا نقص ماله عن دين أحدهم أو الثلث عن وصية أحدهم، وأما الإعتاق فلنا فيه منع وإن سلم فلأنه إتلاف والإتلاف يستوي فيه القليل والكثير كالنجاسة تلقي في مائع، وأما البنون فإنهم تساووا في السبب وهو النبوة فتساووا في الإرث بها فنظيره في مسئلتنا تساوي الشفعاء في سهامهم، فإذا كانت دار بين ثلاثة لأحدهم النصف وللأخر الثلث وللآخر السدس فباع أحدهم فعلى هذا ينظر مخرج سهام الشركاء كلهم فيأخذ منهم سهام الشفعاء فإذا علمت عدتها قسمت السهم المشفوع عليها ويصير العقار بين الشفعاء على تلك العدة كما يفعل في مسائل الرد ففي هذه المسألة مخرج سهام الشركاء ستة فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة لصاحب الثلث سهمان وللآخر سهم فالشفعة بينهم على ثلاثة ويصير العقر بينهم أثلاثاً لصاحب الثلث ثلثاه وللآخر ثلثه وإن باع صاحب الثلث كانت بين الآخرين أرباعاً لصاحب النصف ثلاثة أرباعها وللآخر ربعها وإن باع صاحب السدس كانت بين الآخرين أخماساً لصاحب النصف ثلاثة أخماسه وللآخر خمساه هذا على ظاهر المذهب، وعلى الرواية الثانية ينقسم الشقص المشفوع بين الآخرين نصفين فإذا باع صاحب
النصف قسم النصف بين الآخرين لكل واحد الربع فيصير لصاحب الثلث ثلث وربع وللآخر ربع وسدس وإن باع صاحب الثلث صار لصاحب النصف الثلثان وللآخر الثلث وإن باع صاحب السدس فلصاحب النصف ثلث وربع ولصاحب الثلث ربع وسدس(5/491)
(مسألة) (فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر إلا أن يأخذ الكل أو يترك) وجملة ذلك أنه إذا كان الشقص بين شفعاء فترك بعضهم فليس للباقين إلا أخذ الجميع أو ترك الجميع قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن في أخذ البعض أضراراً بالمشتري بتبعيض الصفقة عليه ولا يزال الضرر بالضرر، ولأن الشفعة إنما تثبت على خلاف الأصل دفعاً لضرر الشريك الداخل خوفاً من سوء المشاركة ومؤنة القسمة فإذا أخذ بعض الشقص لم يندفع عنه الضرر فلم يتحقق المعنى المجوز لمخالفة الأصل فلا تثبت، وإن وهب بعض الشركاء نصيبه من الشفعة لبعض الشركاء أو لغيره لم يصح لأن ذلك عفو وليس بهبة فلم يصح لغير من هو عليه كالعفو عن القصاص (فصل) فإن كان الشفعاء غائبين لم تسقط الشفعة لموضع العذر فإذا قدم أحدهم فليس له إلا أن يأخذ الكل أو يترك لأنا لا نعلم اليوم مطالباً سواه ولأن في أخذ البعض تبعيضاً لصفقة المشتري فلم يجز ذلك كما لو لم يكن معه غيره، ولا يجوز تأخير حقه إلى أن يقدم شركاؤه لأن في التأخير ضرراً بالمشتري فإذا أخذ الجميع ثم حضر آخر قاسمه إن شاء أو عفا فيبقى للاول لأن المطالبة إنما وجدت منهما فإن قاسمه ثم حضر الثالث قاسمهما إن أحب أو عفافيبقى للأولين، فإن نما الشقص في يد الأول نماء منفصلاً لم يشاركه فيه واحد منهما لأنه انفصل في ملكه أشبه مالو انفصل في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعة(5/492)
وكذلك إذا أخذ الثاني فنما في يده منفصلاً لم يشاركه الثالث فيه، فإن خرج الشقص مستحقاً فالعهدة على المشتري يرجع الثلاثة عليه ولا يرجع أحدهم على الآخر فإن الأخذ وإن كان من الأول فهو بمنزلة النائب عن المشتري في الدفع إليهما والنائب عنهما في دفع الثمن إليه لأن الشفعة مستحقة
عليه لهم هذا ظاهر مذهب الشافعي، وإن امتنع الأول من المطالبة حتى يحضر صاحباه أو قال آخذ قدر حقي ففيه وجهان (أحدهما) يبطل حقه لأنه قدر على أخذ الكل وتركه فأشبه المفرد (والثاني) لا تبطل لأنه تركه لعذر وهو خوف قدوم الغائب فينزعه منه والترك لعذر لا يسقط الشفعة بدليل ما لو أظهر المشتري ثمناً كثيراً فترك لذلك فبان خلافه، وإن ترك الأول شفعته توفرت الشفعة على صاحبيه وإذا قدم الاول منهما فله أخذ الجميع على ما ذكرنا في الأول، فإن أخذ الأول بها ثم رد ما أخذه بعيب فكذلك وبهذا قال الشافعي وحكي عن محمد بن الحسن أنها لا تتوفر عليهما وليس لهما أخذ نصيب الأول لأنه لم يعف وإنما رد نصيبه بالعيب فأشبه مالو رجع إلى المشتري ببيع أو هبة ولنا أن الشفيع فسخ ملكه ورجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان لشريكه أخذه كما لو عفا ويفارق عودة بسبب آخر لأنه عاد غير الملك الاول الذي تعلقت به الشفعة (فصل) وإذا حضر الثاني بعد أخذ الأول فأخذ نصف الشقص منه واقتسما ثم قدم الثالث وطالب بالشفعة وأخذ بها بطلت القسمة لأن هذا الثالث إذا أخذ بالشفعة فهو كأنه مشارك حال القسمة لثبوت(5/493)
حقه، ولهذا لو باع المشتري ثم قدم الشفيع كان له إبطال البيع، فإن قيل وكيف تصح القسمة وشريكهما الثالث غائب؟ قلنا يحتمل أن يكون وكل في القسمة قبل البيع أو قبل عمله به أو يكون الشريكان رفعا ذلك إلى الحاكم وطالباه بالقسمة عن الغائب فقاسمهما وبقي الغائب على شفعته، فإن قيل وكيف تصح مقاسمتهما للشقص وحق الثالث ثابت فيه؟ قلنا ثبوت حق الشفعة لايمنع التصرف لأنه لا يصح بيعه وهبته وغيرهما ويملك الفسع إبطاله كذا ههنا.
إذا ثبت هذا فإن الثالث إذا قدم فوجد أحد شريكيه غائباً أخذ من الحاضر ثلث ما في يده لأنه قدر ما يستحقه ثم إن حكم له القاضي على الغائب أخذ ثلث ما في يده أيضاً وإن لم يقض انتظر الغائب حتى يقدم لأن موضع عذر (فصل) إذا أخذ الأول الشقص كله بالشفعة فقدم الثاني فقال لا آخذ منك نصفه بل اقتصر على قذر نصيبي وهو الثلث فله ذلك لأنه اقتصر على بعض حقه وليس فيه ببعض الصفقة على المشتري فجاز كترك الكل، فإذا قدم الثالث فله أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده فيضيفه إلى ما في يد الأول
ويقسمانه نصفين فتصح قسمة الشقص من ثمانية عشر سهما لأن الثالث أخذ حقه من الثاني ثلث الثلث ومخرجه تسعة فيضمه إلى الثلثين وهي ستة صارت سبعة ثم قسما السبعة نصفين لا تنقسم فاضرب اثنين في تسعة يكن ثمانية عشر للثاني أربعة ولكل واحد من شريكيه سبعة، وإنما كان كذلك لأن الثاني ترك سدساً كان له أخذه وحقه منه ثلثاه وهو السبع فيوفر ذلك على شريكيه في الشفعة، فللأول والثالث أن يقولا نحن سواء في الاستحقاق ولم يترك واحد منا شيئاً من حقه فنجمع ما معنا فنقسمه فيكون على ما ذكرنا، وإن قال الثاني أنا آخذ الربع فله ذلك لما ذكرنا في التي قبلها، فإذا قدم الثالث أخذ منه(5/494)
نصف سدس وهو ثلث في يده فضمنه إلى ثلاثة الأرباع وهي تسعة يصير الجميع عشرة فيقسمانها لكل واحد منهما خمسة وللثاني سهمان وتصح من اثني عشر (مسألة) (وإن كان المشتري شريكاً فالشفعة بينه وبين الآخر) وللآخر الأخذ بقدر نصيبه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن الحسن والشعبي والبتي لا شفعة للآخر لأنها تثبت لدفع ضرر الشريك الداخل وهذا شركته متقدمة فلا ضرر في شرائه، وحكي ابن الصباغ عنهم أن الشفعة كلها لغير المشتري ولا شئ للمشتري فيها لأنها تستحق عليه فلا يستحقها على نفسه ولنا أنهما تساويا في الشركة فتساويا في الشفعة كما لو اشترى أجنبي بل المشتري أولى لأنه قد ملك الشقص المشفوع من غير نظر إلى المشتري وقد حصل شراؤه والثاني لا يصح أيضا لا نالا نقول أنه يأخذ من نفسه بالشفعة وإنما يمنع الشريك أن يأخذ قدر حقه بالشفعة فيبقى على ملكه ثم لا يمتنع أن يستحق الإنسان على نفسه لأجل تعلق حق الغير به الا ترى أن العبد المرهون إذا جنى على عبد آخر لسيده ثبت للسيد على عبده أرش الجناية لأجل تعلق حق المرتهن ولو لم يكن رهناً ما تعلق به، إذا ثبت هذا فإن لشريك المشتري أخذ بقدر نصيبه لا غير أو العفو (مسألة) (وإن ترك المشتري شفعته ليوجب الكل على شريكه لم يكن له ذلك) إذا قال المشتري قد أسقطت شفعتي فخذ الكل أو أترك لم يلزمه ذلك ولم يصح إسقاط المشتري(5/495)
لأن ملكه إستقر على قدر حقه فجرى مجرى الشفيعين إذا أخذا بالشفعة ثم عفاأحدهما عن حقه ولذلك لو حضر أحد الشفيعين فأخذ جميع الشقص بالشفعة ثم حضر الآخر فله أخذ النصف من ذلك فإن قال الأول خذ الكل أودع فإني قد أسقطت شفعتي لم يكن له ذلك، فإن قيل هذا تبعيض للصفقة على المشتري قلنا هذا تبعيض اقتضاه دخوله في العقد فصار كالرضى منه به كما قلنا في الشفيع الحاضر إذا أخذ جميع الشقص وكما لو اشترى شقصاً وسيفاً (مسألة) (وإذا كانت دار بين اثنين فباع أحدهما نصيبه لأجنبي صفقتين ثم علم الشريك فله أن يأخذ بالبيعين وله أن يأخذ بأحدهما، فإن أخذ بالثاني شاركه المشتري في شفعته في أحد الوجهين وإن أخذ بالأول لم يشاركه وإن أخذ بهما جميعاً لم يشاركه في شفعة الأول، وهل يشاركه في شفعة الثاني؟ على وجهين) وجملة ذلك أن الشريك إذا باع بعض الشقص لاجنبي ثم باعه باقيه في صفقة أخرى ثم على الشفيع فله أخذ المبيع الأول والثاني وله أخذ أحدهما، فإن أخذ الأول لم يشاركه في شفعته أحد، وإن أخذ بالثاني فهل يشاركه المشتري في شفعته بنصيبه الأول؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) يشاركه فيها وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه شريك في وقت البيع الثاني بملكه الذي إشتراه أولاً (والثاني) لا يشاركه لأن ملكه على الأول لم يستقر لكون الشفيع يملك أخذه (والثالث) إن عفا الشفيع عن(5/496)
الأول شاركه في الثاني وإن أخذ بهما جميعاً لم يشاركه وهذا مذهب الشافعي لأنه إذا عفا عنه إستقر ملكه بخلاف ما إذا أخذ، فإن قلنا يشاركه في الشفعة ففي قدر ما يستحق وجهان أحدهما ثلثه والثاني نصفه بناء على الروايتين في قسم الشفعة على قدر الأملاك أو عدد الرؤوس فإذا قلنا يشاركه فعفا له عن الأول صار له ثلث العقار في أحد الوجهين وفي الآخر ثلاثة أثمانه وباقيه لشريكه وإن لم يعف عن الأول فله نصف سدسه في أحد الوجهين وفي الآخر ثمنه والباقي لشريكه، وإن باعه الشريك الشقص في ثلاث صفقات متساوية فحكمه حكم مالو باعه لثلاثة أنفس على ما نذكره ويستحق ما يستحقون وللشفيع ههنا مثل ماله مع الثلاثة والله أعلم
(فصل) وإن كانت دار بين ثلاثة فوكل أحدهم شريكه في بيع نصيبه مع نصيبه فباعهما لرجل واحد فلشريكهما الشفعة فيهما، وهل له أخذ أحذ النصيبين دون الآخر؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأن المالك اثنان فيما بيعان فكان له أخذ نصيب أحدهما كما لو توليا العقد (والثاني) ليس له ذلك لأن الصفقة واحدة وفي أخذ أحدهما تبعيض الصفقة على المشتري فلم يجز كما لو كانا لرجل واحد، وان وكل رجل رجلاً في شراء نصف نصيب أحد الشركاء فاشترى الشقص كله لنفسه ولموكله فلشريكه أخذ نصيب أحدهما لأنهما مشتريان أشبه مالو وليا العقد، والفرق بين هذه الصورة(5/497)
والتي قبلها أن أخذ أحد النصيبين لا يفضي إلى تبعيض الصفقة على المشتري ولأنه قد يرضى شركة أحد المشتريين دون الآخر بخلاف التي قبلها فإن المشتري واحد (مسألة) (وإن اشترى إثنان حق واحد فللشفيع أخذ حق أحدهما) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى يجوز له ذلك بعد القبض ولايجوز قبله لأنه قبل القبض يبعض صفقة البائع ولنا أنهما مشتريان فجاز للشفيع أخذ نصيب أحدهما كما بعد القبض وما ذكروه ممنوع على أن المشتري الآخر يأخذ نصيبه فلا يكون تبعيضاً فإن باع إثنان من إثنين فهي أربعة عقود وللشفيع أخذ الكل أو ما شاء منها (فصل) وإذا باع شقصاً لثلاثة دفعة واحدة فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة وله أن يأخذ بمن أحدهم وله أن يأخذ من إثنين دون الثالث لأن كل عقد منها منفرد فلا يتوقف الأخذ به على الأخذ بما في العقد الآخر كما لو كانت متفرقة وإذا أخذ نصيب أحدهم لم يكن اللاخرين مشاركته في الشفعة لأن ملكهما لم يسبق ملك من أخذ نصيبه ولا يستحق الشفعة إلا بملك سابق، فأما إن باع نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود متفرقة ثم على الشفيع فله أيضاً أن يأخذ الثلاثة وله أن يأخذ ما شاء منها فإن أخذ نصيب الأول لم يكن للآخرين مشاركته في شفعته لأنهما لم يكن لهما ملك حين بيعه وإن أخذ(5/498)
نصيب الثاني وحده لم يملك الثالث مشاركته لذلك ويشاركه الأول في شفعته لأن ملكه سابق لشراء الثاني فهو شريك في إستحقاقها حال شرائه ويحتمل أن لا يشاركه لأن ملكه حال شراء الثاني يستحق أخذه بالشفعة فلا يكون سبباً في إستحقاقها، وإن أخذ من الثالث وعفا عن الأولين ففي مشاركتهما له وجهان، وإن أخذ من الثلاثة ففيه وجهان (أحدهما) لا يشاركه واحد منهم لأن املاكهم قد استحقاقها بالشفعة فلا يستحق عليه بها شفعة (والثاني) يشاركه الثاني في شفعة الثالث وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي لأنه كان مالكا ملكا صحيحا شراء الثالث ولذلك إستحق مشاركته إذا عفا عن شفعته فكذلك اذالم يعف لا إنما إستحق الشفعة بالملك الذي صار به شريكاً لا بالعفو عنه ولذلك قلنا في الشفيع إذا لم يعلم بالشفعة حتى باع نصيبه إن له أخذ نصيب المشتري الأول وللمشتري الأول أخذ نصيب المشتري الثاني، وعلى هذا يشاركه الأول في شفعة الثاني والثالث جميعا.
قعلى هذا إذا كانت دار بين اثنين نصفين فباع أحدهما نصيبه لثلاثة في ثلاثة عقود في كل عقد سدساً فللشفيع السدس الأول وثلاثة أرباع الثاني وثلاثة أخماس الثالث وللمشتري الأول ربع السدس الثاني وخمس الثالث وللمشتري(5/499)
الثاني خمس الثالث فتصح المسألة من مائة وعشرين سهماً للشفيع الأول مائة وسبعة أسهم وللثاني تسعة وللثالث أربعة، وإن قلنا إن الشفعة على عدد الرؤوس فللمشتري الأول نصف السدس الثاني وثلث الثالث وللثاني ثلث الثالث وهو نصف التسع فتصح من ستة وثلاثين فلشفيع تسعة وعشرون وللثاني خمسة وللثالث سهمان (فصل) دار بين أربعة أرباعاً باع ثلاثة منهم في عقود متفرقة ولم يعلم شريكهم ولا بعضهم ببعض فلذي لم يبع الشفعة في الجميع، وهل يستحق البائع الثاني والثالث الشفعة فيما باعه البائع الأول؟ على وجهين، وكذلك هل يستحق الثالث الشفعة فيما باعه الأول والثاني؟ على وجهين وهل يستحق مشتري الربع الأول الشفعة فيما باعه الثاني والثالث؟ أو هل يستحق الثاني شفعة الثالث على ثلاثة أوجه (أحدها) يستحقان لأنهما مالكان حال البيع (والثاني) لا حق لهما لأن ملكهما متزلزل يستحق أخذه بالشفعة فلا تثبت به (والثالث) إن عفا عنهما أخذ وإلا فلا فإذا قلنا يشترك الجميع فللذي لم يبع ثلث كل ربع لان
له شريكين فصار له الربع مضموما إلى ملكه فكمل له النصف للبائع الثالث والمشتري الأول الثلث لكل واحد منهما سدس لأنه شريك في شفعة مبيعين وللبائع الثاني والمشتري الثاني السدس لكل واحد منهما نصفه لأنه شريك في شفعة بيع واحد وتصح من اثني عشر (مسألة) (وإن اشترى واحد حق إثنين أو اشترى شقصين من دارين صفقة واحدة فللشفيع(5/500)
أخذا أحدهما على أصح الوجهين) إذا اشترى رجل من رجلين شقصا صفقة واحدة فللشفيع أخذ نصيب أحدهما دون الآخر وبه قال الشافعي وحكي عن القاضي أنه لا يملك ذلك وهو قول أبي حنيفة ومالك لئلا تتبعض صفقة المشتري ولنا أن عقد الإثنين مع واحد عقدان لأنه مشترمن كل واحد منهما ملكه بثمن مفرد فكان للشفيع أخذه كما لو أفرده بعقد وبهذا ينفصل عما ذكروه، وأما إذا باع شقصين من أرضين صفقة واحدة لرجل واحد وكان الشريك في أحدهما غير الشريك في الآخر فلهما أن يأخذا ويقسما الثمن على قدر القيمتين، وإن أخذ أحدهما دون الآخر جازو يأخذ الشقص الذي في شركته بحصته من الثمن، ويتخرج أن لا شفعة له لأن فيه تبعيض الصفقة على المشتري وذلك ضرر به وليس له أخذهما معاً لأن أحدهما لا شركة له فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فجرى مجرى الشقص والسيف على ما نذكره، وإن كان الشريك فيهما واحدا فله أخذهما وتركهما لأنه شريك فيهما وله أخذ أحدهما دون الآخر وهو منصوص الشافعي، وفيه وجه آخر أنه لا يملك ذلك، ومتى أختاره سقطت الشفعة فيهما لأنه أمكنه أخذ المبيع كله فلم يملك أخذ بعضنه كما لو كان شقصاً واحداً ذكره أبو الخطاب وبعض الشافعية ولنا أنه يستحق كل واحد منهما بسبب غير الآخر فجرى مجرى الشريكين ولأنه لو جرى مجرى(5/501)
الشقص الواحد لوجب إذا كانا شريكين فترك أحدهما شفعته أن يكون للآخر أخذ الكل والأمر بخلافه (مسألة) (وإن باع شقفصا وسيفاً فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن ويحتمل أن لا يجوز) إذا باع شقصا مشفوا ومعه مالاً شفعة فيه كالسيف والثوب في عقد واحد ثبتت الشفعة في الشقص
بحصته من الثمن دون ما معه فيقوم كل واحد منهما ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فما يخص الشقص بأخذ به الشفيع وبه قال أبو حنيفة والشافعي، ويحتمل أن لا يجب لئلا تتبعض شفعة المشتري وفي ذلك إضرار به أشبه مالو أراد أخذ بعض الشقص وقال مالك تثبت الشفعة فيهما لذلك ولنا أن السيف لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فلم يؤخذ بالشفعة كما لو أفرده والضرر اللاحق بالمشتري هو ألحقه بنفسه لجمعه في العقد بين ما تثبت فيه الشفعة وما لا تثبت ولأن في الأخذ بالكل أضراراً بالمشتري أيضاً لأنه ربما كان غرضه في ابقاء السيف له ففي أخذه منه إضرار به من غير سبب يقتضيه (مسألة) (وإن تلف بعض المبيع فله أخذ الباقي بحصته من الثمن وقال ابن حامد إن كان تلفه بفعل الله تعالى فليس له أخذه إلا بجميع الثمن) إذا تلف الشقص أو بعضه في يد المشتري فهو من ضمانه لأنه ملكه تلف في يده، فإن أراد(5/502)
الشغيغ الأخذ إذا تلف بعضه أخذ الموجود بحصته من الثمن سواء كان التلف بفعل الله تعلى أو بفعل آدمي وسواء تلف بإختيار المشتري كنقضه البناء أو بغير اختياره مثل أن انهدم، ثم إن كانت الأبعاض موجودة أخذها مع العرصة بالحصة وإن كانت معدومة أخذ العوض وما بقي من البناء، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم وهو قول الثوري والعنبري وأبي يوسف وقول للشافعي، وقال ابن حامد إن كان التلف بعفل آدمي كما ذكرنا وإن كان بفعل الله تعالى كانهدام البناء بنفسه أو حريق أو غرق فليس للشغيع أخذ الباقي إلا بكل الثمن أو يترك وهو قول أبي حنيفة وقول للشافعي لأنه متى كان النقص بفعل آدمي رجع بدله إلى المشتري فلا يتضرر ومتى كان بغير ذلك لم يرجع إليه شئ فيكون الأخذ منه إضراراً به والضرر لا يزال بالضرر.
ولنا أنه تعذر على الشفيع أخذ الجميع وقدر على أخذ البعض فكان له بالحصة كما لو تلف بفعل سواء وكما لو كان له شفيع آخر، أو نقول أخذ بعض ما دخل معه في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف، وأما الضرر فإنما حصل بالتلف ولا صنع للشفيع فيه والذي يأخذه الشفيع يؤدي ثمنه فلا يتضرر المشتري بأخذه وإنما قلنا يأخذ الأبعاض وإن كانت منفصلة لأن استحقاقه
كان حال عقد البيع وفي تلك الحال كان متصلاً اتصالاً ليس مآله إلى الانفصال وانفصاله بعد ذلك لا يسقط حق الشفعة، ويفارق الثمرة غير المؤبرة إذا أبرت فإن مآلها إلى الإنفصال والظهور فإذا ظهر فقد انفصلت فلم تدخل في الشفعة، وإن نقصت القيمة مع بقاء صورة المبيع مثل إن أنشق الحائط واستهدم(5/503)
البناء وشعث الشجر وبارت الأرض فليس له إلا أن يأخذ بجميع الثمن أو يترك لأن هذه المعاني لا يقابلها الثمن بخلاف الأعيان، ولهذا لو بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، ولو زاد المبيع زيادة متصلة دخلت في الشفعة.
(فصل) (الشرط الخامس أن يكون للشفيع ملك سابق) لأن الشفعة إنما ثبتت للشريك لدفع الضرر عنه وإذا لم يكن له ملك سابق فلا ضرر عليه فلا تثبت له الشفعة (مسألة) (فإن اشترى إثنان دارا صفقة واحدة فلا شفعة لأحدهما على صاحبه) لأنه لا مزية لأحدهما على صاحبه لتساويهما.
(مسألة) (فإن ادعى كل واحد منهما السبق فتحالفا أو تعارضت بينتا هما فلا شفعة لهما) إذا كانت دار بين رجلين فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يده بالشفعة سئلا متى ملكتماها؟ فإن قالا ملكناها دفعة واحدة فلا شفعة لأحدهما على الآخر لأن الشفعة إنما ثبتت بملك سابق في ملك متجدد بعده وإن قال كل واحد منهما ملكي سابق ولأحدهما بينة بما ادعاه قضي له وإن كان لكل واحدم منهما بينة قدم أسبقهما تاريخاً فإن شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وإن لم يكن لواحد منهما بينة سمعنا دعوى السابق وسألنا خصمه فإن أنكر فالقول(5/504)
قوله مع يمينه فإن حلف سقطت دعوى الأول ثم نسمع دعوى الثاني على الأول فإن أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعاً وإن ادعى الأول فنكل الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم نسمع دعواه لأن خصمه قد استحق ملكه وإن حلف الثاني ونكل الأول قضينا عليه (مسألة) (ولا شفعة بشركة الوقف في أحد الوجهين)
ذكره القاضيان ابن أبي موسى وأبو يعلى وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يؤخذ بالشفعة فلا تجب به كالمجاور وما لا ينقسم ولأننا إن قلنا هو غير مملوك فالموقوف عليه غير مالك وإن قلنا هو مملوك فملكه غير تام لأنه لا يبيح إباحة التصرف في الرقبة فلا يملك به ملكاً تاماً، وقال أبو الخطاب إن قلنا هو مملوك وجبت به الشفعة لأنه مملوك بيع في شركته شقص فوجبت به الشفعة كالطلق ولأن الضرر يندفع عنه بالشفعة فوجبت فيه كوجوبها في الطلق وإنما لم يستحق بالشفعة لأن الأخذ بها بيع وهو مما لا يجوز بيعه (فصل) وإن تصرف المشتري في المبيع قبل الطلب بوقف أو هبة سقطت الشفعة نص عليه في رواية علي بن سعيد وبكر بن محمد وحكي ذلك عن الماسرجسي في الوقف لأن الشفعة إنما تثبت في المملوك وقد خرج بهذا عن كونه مملوكاً قال ابن أبي موسى من اشترى داراً فجعلها مسجداً فقد استهلكها(5/505)
ولا شفعة فيها ولأن في الشفعة ههنا إضراراً بالموهوب له والموقوف عليه لأن ملكه يزول عنه بغير عوض ويزال الضرر بالضرر بخلاف البيع فإنه إذا فسخ البيع الثاني رجع المشتري الثاني بالثمن الذي أخذ منه فلا يلحقه ضرر، ولأن ثبوت الشفعة ههنا يوجب رد العوض إلى غير المالك وسلبه عن المالك وفي ذلك ضرر فيكون منفياً، وقال أبو بكر للشفيع فسخ ذلك وأخذه بالثمن الذي وقع به البيع وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي لأن الشفيع يملك فسخ البيع الثاني والثالث مع إمكان الأخذ بهما فلأن يملك فسخ عقد لا يمكنه الأخذ به أولى، ولأن حق الشفيع أسبق وجنبته أقوى فلم يملك المشتري تصرفا يبطل حقه ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حق الغير كما لو وقف المريض أملاكه وعليه دين فإنه إذا مات رد الوقف إلى الغرماء والورثة فيما زاد على ثلثه بل لهم إبطال العتق والوقف أولى، فإذا قلنا بثبوت الشفعة أخذ الشفيع الشقص ممن هو في يده ويفسخ عقده ويدفع الثمن إلى المشتري وحكي عن مالك أنه يكون للموهوب له لأنه يأخذ ملكه.
ولنا أن الشفيع يبطل الهبة ويأخذ الشقص بحكم العقد الأول ولو لم يكن وهب كان الثمن له فكذلك بعد الهبة المفسوخة
(مسألة) (وإن باع فله الأخذ بأي البيعين شاء فإن أخذ بالأول رجع الثاني على الأول) إذا تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع أو قبل علمه صح تصرفه لأنه ملكه وصح قبضه(5/506)
له ولم يبق إلا أن الشفيع ملك أن يتملكه عليه وذلك لا يمنع من تصرفه كما لو كان أحد العوضين في البيع معيناً لم يمنع التصرف في الآخر، والموهوب له يجوز له التصرف في الهبة وإن كان الواصب ممن له الرجوع فيه مفتى تصرف فيه تصرفاً تجب به الشفعة كالبيع فللشفيع الخيار إن شاء فسخ البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بثمنه لأن الشفعة وجبت له قبل تصرف المشتري وإن شاء أمضى تصرفه وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني لأنه شفيع في العقدين فكان له الأخذ بأيهما شاء، وإن تبايع ذلك ثلاثة فله أن يأخذ بالبيع الأول وينفسخ العقدان الآخران وله أن يأخذه بالثاني وينفسخ الثالث وحده وله ان يأخذه بالثلث ولا ينفسخ شئ من العقود، فإذا أخذه من الثالث دفع إليه الثمن الذي اشترى به ورجع الثالث عليه بما أعطاه لأنه قد انفسخ عقده وأخذ الشقص منه فرجع بثمنه على الثاني لأنه أخذه منه وإن أخذ بالبيع الأول دفع إلى المشتري الأول الثمن الذي اشترى به وانفسخ عقد الآخرين ورجع الثالث على الثاني بما أعطاه والثاني على الأول بما أعطاه، فإن كان الأول اشتراه بعشرة ثم اشتراه الثاني بعشرين ثم اشتراه الثالث بثلاثين فأخذه بالبيع الأول دفع إلى الأول عشرة وأخذ الأول من الثاني عشرين وأخذ الثالث من الثاني ثلاثين لأن الشقص إنما يؤخذ من الثالث لكونه في يده وقد انفسخ عقده فيرجع بثمنه الذي ورثه ولا نعلم في هذا خلافا، وبه يقول مالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأي وما كان في معنى البيع مما تجب به الشفعة فهو كالبيع على ما ذكرنا وإن كان مما لا تجب به الشفعة فو كالهبة والوقف على ما ذكرنا من الخلاف فيه والله أعلم(5/507)
(مسألة) (وإن فسخ العقد بعيب أو إقالة أو تحالف فللشفيع أخذه ويأخذه في التحالف بما حلف عليه البائع) إذا رد المشتري الشقص بعيب أو قايل البائع فللشفيع فسخ الإقالة والرد والأخذ بالشفعة لأن
حقه سابق عليهما ولا يمكنه الأخذ معهما فان تحالفها على الثمن وفسخا البيع فللشفيع أن يأخذ الشقص بما حلف على البائع لأن البائع مقر بالبيع الثمن الذي حلف عليه ومقر للشفيع بإستحقاق الشفعة بذلك فإذا بطل حق المشتري بإنكاره لم يبطل حق الشفيع بذلك وله أن يبطل فسخهما ويأخذه لأن حقه أسبق (فصل) وإن اشترى شقصاً بعبد ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيباً فله رد العبد وإسترجاع الشقص ويقدم على حق الشفيع لأن في تقديم حق الشفيع إضراراً بالبائع بإسقاط حقه من الفسخ الذي استحقه والشفعة ثبتت لإزالة الضرر فلا تثبت على وجه يحصل به الضرر فإن الضرر لا يزال بالضرر وقال أصحاب الشافعي يقدم حق الشفيع في أحد الوجهين لأن حقه أسبق فوجب تقديمه كما لو وجد المشتري بالشقص عيباً فرده ولنا أن في الشفعة إبطال حق البائع وحقه أسبق لأنه استند إلى وجود العيب وهو موجود حال البيع والشفعة ثبتت بالبيع فكان حق البائع سابقاً وفي الشفعة إبطاله فلم تثبت، وينارق ما إذا كان(5/508)
الشقص معيباً فإن حق المشتري إنما هو في استرجاع الثمن قد تحصل له من الشفيع فلا فائدة في الرد وفي مسئلتنا حق البائع في استرجاع الشقص ولا يحتمل ذلك مع الأخذ بالشعفة فافترقا، فإن لم يرد البائع العبد المعيب حتى أخذ الشفيع كان له رد العبد ولم يملك استرجاع المبيع لان الشفيع ملكب بالأخذ فلم يملك البائع إبطال ملكه كما لو باعه المشتري لاجني فإن الشفعة بيع في الحقيقة ولكن يرجع بقيمة الشقص لأنه بمنزلة التالف والمشتري قد أخذ من الشفيع قيمة العبد فهل يتراجعان؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يتراجعان لأن الشفيع أخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد وهو قيمة العبد صحيحا لاعيب فيه بدليل أن البائع إذا علم بالعيب ملك رده ويحتمل أن يأخذه بقيمته معيباً لأنه إنما أعطى عبداً معيباً فلا يأخذ قيمة غير ما أعطي (والثاني) يتراجعان لأن الشفيع إنما يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد والذي استقر عليه العقد قيمة الشقص فإذا قلنا يتراجعان فأيهما كان ما دفعه أكثر رجع بالفضل على صاحبه، وإن لم يرد البائع العبدو لكن أخذ أرشه لم يرجع المشتري على الشفيع بشئ
لأنه إنما دفع إليه قيمة العبد غير معيب وإن أدى قيمته معيباً رجع المشتري عليه بما أدى من أرشه وإن عفا عنه ولم يأخذ أرشاً لم يرجع الشفيع عليه بشئ لأن البيع لازم من جهة المشتري لا يملك فسخه فاشبه مالو حط عنه بعض الثمن بعد لزوم العقد، وإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع أو هبة أو إرث أو غيره فليس للشفيع أخذه بالبيع الأول لأن ملك المشتري زال عنه وإنقطع حقه منه وإنتقل حقه إلى(5/509)
القيمة فإذا أخذها لم يبق له حق بخلاف مالو غصب شيئاً لم يقدر على رده فأدى قيمته ثم قدر عليه فإنه يرده لأن ملك المغصوب منه لم يزل عنه (فصل) ولو كان ثمن الشقص مكيلا أو موزونا فتلف قبل قبضه بطل البيع وبطلت الشفعة لأنه تعذر التسليم فتعذر إمضاء العقد فلم تثبت الشفعة كما لو فسخ البيع في مدة الخيار بخلاف الإقالة والرد بالعيب وإن كان الشفيع قد أخذ الشقص فهو كما لو أخذه في المسألة التي قبلها لان لمشتري النقص التصرف فيه قبل نقبيض ثمنه فأشبه مالو أشتراه منه أجنبي (فصل) فإن اشترى شقصا بعبد أو ثمن معين فخرج مستحقاً فالبيع باطل ولا شفعة فيه لأنها إنما تثبت في عقد ينقل الملك إلى المشتري وهو العقد الصحيح فأما الباطل فوجوده كعدمه فإن كان الشفيع قد أخذ بالشفعة لزمه رد ما أخذ على البائع ولا يثبت ذلك إلا ببينة أو اقرارا من الشفيع والمتبايعين وإن أقر المتبايعان وأنكر الشفيع لم يقبل قولهما عليه وله الأخذ بالشفعة ويرد العبد إلى صاحبه ويرجع البائع على المشتري بقيمة الشقص وإن أقر الشفيع أو المشتري دون البائع لم تثبت الشفعة ويجب على المشتري رد قيمة العبد على صاحبه ويبقى الشقص معه يزعم أنه للبائع والبائع ينكره ويدعي عليه وجوب رد العبد والمشتري ينكره فيشتري الشقص منه ويتبار آن، وإن أقر الشفيع والبائع وأنكر المشتري وجب على البائع رد العبد لعى صاحبه ولم تثبت الشفعة ولم يملك البائع مطالبة المشتري بشئ لأن البيع صحيح في الظاهر وقد أدى ثمنه الذي هو ملكه في الظاهر، ان أقر الشفيع وحده(5/510)
لم تثبت الشفعة ولا يثبت شئ من أحكام البطلان في حق المتبايعين، فأما إن اشترى الشقص بثمن في
في الذمة ثم نقد الثمن فبان مستحقاً كانت الشفعة واجبة لأن البيع صحيح، فإن تعذر قبض الثمن من المشتري لإعسار أو غيره فللبائع فسخ البيع ويقدم حق الشفيع لأن بالأخذ بها يحصل للمشتري ما يؤديه ثمناً فتزول عسرته ويحصل الجمع بين الحقين فكان أولى (فصل) واذا وجبت الشفعة وقضى القاضي بها والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للثفيع أقلني فأقاله لم تصح الإقالة لأنها تصح بين المتبايعين وليس بين الشفيع والبائع بيع وإنما هو مشتر من المشتري فإن باعه إياه صح لأن العقار يجوز التصرف فيه قبل قبضه (مسألة) (وإن أجره المشتري أخذه الشفيع وله الأجرة من يوم أخذه) لأنه صار ملكه بأخذه.
(مسألة) (وإن استغله المشتري فالغلة له) لانها نماء ملكه (مسألة) (وإن أخذه الشفيع وفيه زرع أو ثمرة ظاهرة فهي للمشتري مبقاة إلى الحصاد والجذاذ) إذا زرع المشتري الأرض فللشفيع الأخذ بالشفعة ويبقى زرع المشتري إلى الحصاد لأن ضرره لا يتباقي ولا أجرة عليه لانه زرعه في ملكه ولأن الشفيع إشترى الأرض وفيها زرع للبائع فكان له مبقى إلى الحصاد بلا أجرة كغير المشفوع وإن كان في الشجر ثمر ظاهر أثمر في ملك المشتري فهو له مبقى إلى الجذاذ كالزرع(5/511)
(فصل) وإذا نمى المبيع في يد المشتري لم يخل من حالين أحدهما) أن يكون نماء منتصلا كالشجر إذا كبر أو ثمرة غير ظاهرة فأن الشفيع يأخذه بزيادته لأنها زيادة غير متميزة فتبعت الأصل كما لو رد بعيب أو خيار أو إقالة، فإن قيل فلم لا يرجع الزوج في نصفه زائداً إذا طلق قبل الدخول؟ قلنا لأن الزوج يقدر على الرجوع بالسيمة إذا فاته الرجوع في العين وفي مسئلتنا إذا لم يرجع في الشقص سقط حقه من الشفعة فلم يسقط حقه من الأصل لأجل ما حدث من البائع وإذا أخذ الأصل تبعه نماؤه المتصل كما ذكرنا في الفسوخ كلها (الحال الثاني) أن تكون الزيادة مننفصلة كالغلة والأجرة والطلع المؤبرو الثمرة الظاهرة فهي للمشتري لأنها حدثت في ملكه وتكون مبقاة في رءوس النخل إلى الجذاذ لأن أخذ الشفيع من يشتري شراء ثان فيكون حكمه حكم مالو اشترى برضاه وإن اشتراه وفيه
طلع غيره مؤبر فأبرأ ثم أخذه الشفيع أخذ الأصل دون الثمرة ويأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن كما لو كما لو كان المبيع شقصا (مسألة) وإن قاسم المشتري وكيل الشفيع أو قاسم الشفيع لكونه أظهر له زيادة في الثمن أو نحوه وغرس أو بنى فللشفيع أن يدفع إليه قيمة الغراس والبناء ويملكه أو يقلعه ويضمن النقص فإن اختار الشفيع أخذه واختار المشتري قلعه فله ذلك إذا لم يكن فيه ضرر بالقلع) وجملة ذلك أنه يتصور بناء المشتري وغرسه في الشقص المشفوع على وجه مباح في مسائل (منها)(5/512)
أن يظهر المشتري أنه اشتراه بأكثر من ثمنه أو أنه وهب له أو غير ذلك مما يمنع الشفيع من الأخذ بها فيتركها ويقاسمه ثم يبني المشتري ويغرس فيه (ومنها) أن يكون غائبا فيقاسمه وكيله أو صغيراً فيقاسمه وليه أو نحو ذلك ثم يقدم الغائب أو يبلغ الصبي فيأخذ بالشفعة، وكذلك إن كان غائباً أو صغيراً فطالب المشتري الحاكم بالقسمة فقاسم ثم قدم الغائب وبلغ الصبي فيأخذ بالشفعة بعد غرس المشتري وبنائه فإن للمشتري قلع غرسه وبنائه إن اختار ذلك لأنه ملكه فإذا قلعه فلليس عليه تسوية الحفر ولا نقص الأرض ذكره القاضي وهو قول الشافعي لأنه غرس وبنى في ملكه وما حدث من النقص إنما حدث في ملكه وذلك مما لا يقابله ثمن، وظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع لأنه اشترط في قلع الغرس والبناء عدم الضرر وذلك لأنه نقص دخل على ملك غيره لأجل تخليص ملكه فلزمه ضمانة كما لو كسر مجبرء غيره لا خراج ديناره منها، قولهم أن النقص حصل في ملكه ليس كذلك فإن النقص الحاصل بالقلع إنما حصل في ملك الشفيع فأما نقص الأرض الحاصل بالغرس والبناء فلا يضمنه لما ذكروه، فإن لم يختر المشتري القلع فللشفيع الخيار بين ثلاثة أشياء: ترك الشفعة وبين دفع قيمة الغراس والبناء فيملكه مع الأرض وبين قلع الغراس والبناء وبضمن له ما نقص بالقلع.
وبهذا قال الشعبي والاوزاعي وابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي والبتي وسوار واسحاق، وقال حماد بن أبي سليمان والثوري وأصحاب الرأي يكلف المشتري القلع ولا شئ له لأنه بنى فيما استحق عليه أخذه فأشبه الغاصب ولأنه بنى في حق غيره بغير إذنه فأشبه مالو كانت مستحقة(5/513)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا إضرار) ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك ولأنه بنى في ملكه الذي ملك بيعه فلم يكلف قلعه مع الإضرار كما لو لم يكن مشفوعاً، وفارق ما قاسوا عليه فإنه بنى في غير ملكه، ولأنه عرق ظالم وليس لعرق ظالم حق.
إذا ثبت هذا فإنه لا يمكن إيجاب قيمته مستحقاً للبقاء في الأرض لأنه لا يستحق ذلك، ولا قيمته مقلوعاً لأنه لو وجبت قيمته مقلوعا لوجب قلعة ولم يضمن شيئاً ولأنه قد يكون مما لا قيمة له إذا قلعه، ولم يذكر أضحابنا كيفية وجوب القيمة فالظاهر أن الأرض تقوم مغروسة مبنية ثم تقوم خالية منها فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء فيدفعه الشفيع إلى المشتري إن أحب أو ما نقص مننه إن اختار القلع لأن ذلك هو الذي زاد بالغرس والبناء، ويحتمل أن يقوم والبناء مستحق للترك بالأجرة أو لأخذه بالقيمة إذا امتنعا من قلعة، فإن كان للغرس وقت يقلع فيه فيكون له قيمة وإن قلع قبله لم يكن له قيمة أو تكون قيمته قليلة فاختار الشفيع قلعه قبل وقته فله ذلك لأنه يضمن النقص فينجبر به ضرر المشتري سواء كثر النقص أو قل ويعود ضرر كثرة النقص على الشفيع وقد رضي بتحمله، وإن غرس أو بنى مع الشفيع أو وكيله في المشاع ثم أخذه الشفيع فالحكم في أخذ نصيبه من ذلك كالحكم في أخذ جميعه بعد المقاسمة (مسألة) (فإن باع الشفيع ملكه قبل العلم لم تسقط شفعته في أحد الوجهين وللمشتري الشفعة فيما باعه الشفيع في أصح الوجهين)(5/514)
وجملة ذلك أن الشفيع إذا باع ملكه عالماً بالحال سقطت شفعته لأنه لم يبق له ملك يستحق به، ولانه الشفعة تثبت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة، وقد زال ذلك بييعه، وإن باع بعضه ففيه وجهان (أحدهما) تسقط أيضاً لأنها استحقت بجميعه، وإذا باع بعضه سقط ما تعلق بذلك من الشفعة فسقط باقيها لأنها لا تتبعض فيسقط جميعها بسقوط بعضها كالرق والنكاح وكما لو عفا عن بعضها (والثاني) لا تسقط لأنه قد بقي من نصيبه ما يستحق به الشفعة في جميع المبيع لو انفرد، وفكذلك إذا بقي، وللمشتري الأول الشفعة على الثاني في المسألة الأولى، وفي الثانية إذا قلنا بسقوط شفعة البائع الأول
لأنه شريك في المبيع، وإن قلنا لا تسقط شفعة البائع فله أخذ الشقص من المشتري الأول، وهل للمشتري الأول شفعة على المشتري الثاني؟ فيه وجهان (أحدهما) له الشفعة لأنه شريك فإن الملك ثابت له يملك التصرف فيه بجميع التصرفات ويستحق نماء وفوائده، واستحقاق الشفعة به من فوائده (والثاني) لا شفعة له لأن ملكه يؤخذ بها فلا تؤخد الشفعة به ولان ملكه متزلزل ضعيف فلا يستحق الشفعة به لضعفه، قاغل شيخنا والأول أقيس فإن استحقاق أخذه منه لا يمنع أن يستحق به الشفعة كالصداق قبل الدخول والشقص الموهوب للولي.
فعلى هذا للمشتري الأول الشفعة على المشتري الثاني سواء أخذ منه المبيع بالشفعة أو لم يؤخذ، وللبائع الثاني إذا باع بعض الشقص الأخذ من المشتري الأول في أحد الوجهين، فأما إن باع الشفيع ملكه قبل علمه بالبيع الأول فقال القاضي تسقط شفعته(5/515)
أيضاً لما ذكرناه وهو مذهب الشافعي ولأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة وهو الملك الذي يخاف الضرر بسببه فصار كمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه حتى زال أو حتى باعه.
فعلى هذا حكمه حكم مالو باع مع علمه سواء فيما إذا باع جميعه أو بعضه، وقال أبو الخطاب لا تسقط شفعته لأنها ثبتت له ولم يوجد منه رضي بتركها ولا ما يدل على إسقاطها والأصل بقاؤها بخلاف ما إذا علم فإن بيعه دليل على رضاه بتركها.
فعلى هذا للبائع الثاني أخذ الشقص من المشتري الأول فإن عفا عنه فللمشتري الأول أخذ الشقص من المشتري الثاني، وإن أخذ منه فهل للمشتري الأول الأخذ من الثاني؟ على وجهين (أولاهما أن له الأخذ لأن ملكه كان ثابتاً حال البيع ولم يوجد منه ما يمنع ذلك (مسألة) (وإن مات بطلت شفعته إلا أن يموت بعد طلبها فتكون لوارثه) وجملة ذلك أن الشفيع إذا مات قبل الأخذ بالشفعة فإن كان قبل الطلب بها سقطت ولا تنقل إلى الورثة، قال أحمد الموت يبطل به ثلاثة أشياء الشفعة والحد إذا مات المقذوف والخيار إذا مات الذي اشترط الخيار، لم يكن للورثة هذه الثلاثة أيضاً إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب فليس تجب إلا أن يشهد أني على حقي من كذا وكذا وإني قد طلبته فإن مات بعده كان لوارثه الطلب به، وروي سقوط الشفعة بالموت عن الحسن وابن سيرين والشعي والنخعي وبه قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي
وقال مالك والشافعي والعنبري يورث، قال أبو الخطاب ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فيورث كخيار الرد بالعيب(5/516)
ولنا أنه حق فسخ ثبت لا لفوات جزء فلم يورث كالرجوع في الهبة ولأنه نوع خيار جعل للتمليك أشبه خيار القبول فأما خيار الرد بالعيب فانه لا ستدارك جزء فات من المبيع (فصل) فإن مات بعد طلب الشفعة انتقل حق المطالبة بالشفعة إلى الورثة قولاً واحداً ذكره أبو الخطاب، وقد ذكرنا نص أحمد عليه لأن الحق يتقرر بالطلب ولذلك لا يسقط بتأخير الحق بعده وقبله يسقط، وقال القاضي يصير الشقص ملكاً للشفيع بنفس المطالبة والأول أصح فإنه لو صار ملكاً للشفيع لم يصح العفو عن الشفعة بعد طلبها كما لا يصح العفو عنها بعد الأخذ بها.
فإذا ثبت هذا فإن الحق ينتقل إلى جميع الورثة على قدر ارثهم لأنه حق مالي موروث فينتقل إلى الجميع كسائر الحقوق المالية وسواء قلنا الشفعة على قدر الأملاك أو على عدد الرؤوس لأن هذا ينتقل إليهم من موروثهم فإن ترك بعض الورثة حقه توفر الحق على باقي الورثة ولم يكن لهم إلا أن يأخذوا الكل أو يتركوا كالشفعاء إذا عفا بعضهم عن شفعته لأنا لو جوزنا أخذ بعض الشقص لتشقص المبيع وتبعضت الصفقة على المشتري وهذا ضرر في حقه (فصل) وان أشهد الشفيع على مطالبته بها للعذر ثم مات لم تبطل وللورثة المطالبة بها نص عليه أحمد لأن الإشهاد على الطلب عند العجز عنه يقوم مقامه فلم تسقط الشفعة بالموت بعده كنفس الطلب(5/517)
(فصل) وإذا بيع شقص له شفيعان فعفاعنها أحدهما وطالب بها الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي فله أخذ الشقص بها لأنه وارث لشفيع مطالب بالشفعة فملك الأخذ بها كالأجنبي وكذلك لو قذف رجل أمهما وهي ميتة فعفا أحدهما وطلب الآخر ثم مات الطالب فورثه العافي ثبت له استيفاؤه بالنيابة عن أخيه الميت إذا قلنا بوجوب الحد بقذفها
(فصل) ولو مات مفلس وله شقص فباع شريكه كان لورثته الشفعة وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة لا شفعة لهم لأن الحق النتقل إلى الغرماء ولنا أنه بيع في شركة ما خلفه موروثهم شقص فكان لهم المطالبة بشفعته كغير المفلس، ولا نسلم أن التركة انتقلت إلى الغرماء بل هي للورثة بدليل أنها لو نمت أو زاد ثمنا لحسب على الغرماء في قضاء ديونهم، وإنما تعلق حقهم به فلم يمنع ذلك من الشفعة كما لو كان لرجل شقص مرهون فباع شريكه فإنه يستحق الشقعة به، ولو كانت للميت دار فبيع بعضها في قضاء دينه لم يكن للورثة شفعة لأن البيع يقع لهم فلا يستحقون الشفعة على أنفسهم ولو كان الورث شريكا للمورث فباع نصيب الموروث في دينه فلا شفعة أيضا لانه نصيب الموروث انتقل بموته إلى الوارث فإذا بيع فقد بيع ملكه فلا يستحق الشفعة على نفسه (فصل) ولو اشترى شقصا مشفوعاً ووصى به ثم مات فللشفيع أخذه بالشفعة لأن حقه أسبق(5/518)
من حق الموصى له فإذا أخذه دفع الثمن إلى الورثة وبطلت الوصية لأن الموصى به ذهب فبطلت الوصية به كما لو تلف، ولا يستحق الموصى له بدله لأنه لم يوص له إلا بالشقص، وقد فات بأخذه، ولو وصى رجل لانسان بتقص ثم مات فبيع في شركته شقص قبل قبول الموصى له فالشفعة للورثة في الصحيح لأن الموصى به لا يصير للموصى له إلا بعد القبول ولم يوجد فيكون باقياً على ملك الورثة، ويحتمل أن يكون للموصى له إذا قلنا إن الملك ينقل إليه بمجرد الموت فإذا قبل الوصية استحق المطالبة لأننا تبينا أن الملك كان له فكان المبيع في شركته، ولا يستحق المطالبة قبل القبول لأنا لا نعلم أن الملك له قبل القبول لأنا لا نعلم أن الملك له قبل القبول وإنما يتبين ذلك بقبوله فإن قبل تبينا انه كانله وإن رد تبينا أنه كان للورثة ولا يستحق الورثة المطالبة أيضاً لذلك ويحتمل أن لهم المطالبة لأن الأصل عدم القبول وبقاء الحق لهم، ويفارق الموصى له من وجهين (أحدهما) أن الأصل عدم القبول منه (والثاني) أنه يمكنه أن يقبل ثم يطالب بخلاف الوارث فإنه لا سبيل له إلى فعل ما يعلم به ثبوت الملك له أو لغيره فإذا طالبوا ثم قبل الوصي الوصية كانت الشفعة له ويفتقر إلى الطلب منه لان الطلب الاول يتبين نه من غير المستحق، وإن قلنا بالرواية الأولى
فطالب الورثة بالشفعة فلهم الأخذ بها وإذا قبل الوصي أخذ الشقص الموصى به دون الشقص المشفوع لأن الشقص الموصى به إنما انتقل إليه بعد الأخذ بشفعته فأشبه ما لو أخذ بها الموصى في حياته، وإن لم يطالبوا بالشفعة حتى قبل الموصى له فلا شفعة له لأن البيع وقع قبل ثبوت الملك له وحصول شركته وفي ثبوتها للورثة وجهان بناء على مالو باع الشفيع نصيبه قبل علمه ببيع شريكه(5/519)
(فصل) ولو اشترى رجل شقصاً ثم ارتد فقتل أو مات فللشفيع أخذه بالشقعة لأنها وجبت بالشراء وانتقاله إلى المسلمين بقتله أو موته لا يمنع الشفعة كما لو مات على الإسلام فورثه ورثته أو صار ماله لبيت المال لعدم ورثته والمطالب بالشفعة وكيل بيت المال (فصل) وإذا اشترى المرتد شقصا فتصرفه موقوف فإن قتل على ردته أو مات عليها تبينا أن شراءه باطل ولا شفعة فيه وإن أسلم تبينا صحته وثبوت الشفعة فيه، وقال أبو بكر تصرفه غير صحيح في الحالين لأن ملكه يزول بردنه فإذا أسلم عاد اليه تمليكا مستأنفا، وقال الشافعي وأبو يوسف تصرفه صحيح في الحالين وتجب الشفعة فيه، ومبنى الشفعة ههنا على صحة تصرف المرتد ويذكر في غير هذا الموضع، وإن بيع شقص في شركة المرتد وكان المشتري كافراً فأخذه بالشفعة انبنى على ذلك أيضاً لأن اخذ بالشفعة شراء للشقص من المشتري فأشبه شراءه لغيره، فإن ارتد الشفيع المسلم وقتل بالردة أو مات عليها انتقل ماله إلى المسلمين، فان كان طالب بالشفعة انتقلت أيضاً إلى المسلمين ينظر فيها الإمام أو نائبه وإن قتل أو مات قبل طلبها بطلت شفعته كما لو مات على إسلامه، ولو مات الشفيع المسلم ولم يحلف وارثاً سوى بيت المال انتقل نصيبه إلى المسلمين إن مات بعد الطلب والافلا (فصل) قال رحمه الله (ويأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد فإن عجز عنه أو عن بعضه سقطت شفعته) وجملة ذلك أن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري بالثمن الذي استقر عليه العقد لما روي في(5/520)
حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (هو أحق به بالثمن) رواه الجوزجاني في كتابه ولأن الشفيع إنما استحق الشقص بالبيع فكان مستحقاً له بالثمن كالمشتري فإن قيل أن الشفيع إستحق أخذه بغير رضا مالكه
فينبغي أن يأخذ بقيمته كالمضطر يأخذ طعام غيره، قلنا المضطر استحق أخذه بسبب حاجة خاصة فكان المرجع في بدله إلى قيمته والشفيع استحقه لا جل البيع ولهذا لو انتقل بهبة أو ميراث لم يستحق الشفعة وإذا استحق ذلك بالبيع وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.
إذا ثبت هذا فإننا نتظر في الثمن فإن كان دراهم أو دنانير أعطاه الشفيع مثله (فصل) ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على الثمن لأن في أخذه بدون دفع الثمن أضراراً بالمشتري ولا يزال الضرر بالضرر، فإن أحضر رهناً أو ضميناً لم يلزم المشتري قبوله لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن فلم يلزم المشتري ذلك كما لو أراد تأخير ثمن حال، وإن بذل عوضاً عن الثمن لم يلزمه قبوله لأنها معاوضة فلم يجبر عليها، وإذا أخذ بالشفعة لم يلزم المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن فإن كان موجوداً سلمه وإن تعذر في الحال فقال أحمد في رواية حرب ينظر الشفيع يوماً أو يومين بقدر ما يرى الحاكم فإذا كان أكثر فلا وهذا قول مالك، وقال ابن شبرمة وأصحاب الشافعي نيظر ثلاثاً لأنها آخر حد القلة فإن أحضر الثمن والافسخ عليه، وقال أبو حنيفة وأصحاب لا يأخذ بالشفعة ولا(5/521)
يقتضي القاضي بها حتى يحضر الثمن لأن الشفيع يأخذ الشقص بغير احتيار المشتري فلا يستحق ذلك إلا بإحضار عوضه كتسليم المبيع ولنا أنه تملك للمبيع بعوض فلا يفف على إحضار العوض كالبيع، وأما التسليم في البيع فالتسليم في الشفعة مثله وكون الاخذ بغير اختيار المشتري يدل على قوته فلا يمنع من اعتباره في الصحة، ومتى أجلناه مدة فأحضر الثمن فيها والافسخ الحاكم الأخذ ورده إلى المشتري، وكذا لو هرب لشفيع بعد الأخذ قال شيخنا والأولى إن للمشتري الفسخ من غير حاكم لأنه فات شرط الأخذ ولأنه تعذر على البائع الوصول إلى الثمن فملك الفسخ كغير من أخذت الشفعة منه، وكما لو أفلس الشفيع والشفعة لا تقف على حكم الحاكم فلا يقف فسخ الأخذ بها على الحاكم كفسخ غيرها من البيوع وكالرد بالعيب ولأن وقف ذلك على الحاكم يفضي إلى الضرر بالمشتري لأنه قد يتعذر عليه إثبات ما يدعيه وقد يصعب عليه حضور مجلس الحاكم لبعده أو غير ذلك فلا يشرع فيها ما يفضي إلى الضرر، ولأنه لو وقف الأمر على الحاكم لم يملك
الاخذ الابعد احضار الثمن لئلا يفضي إلى هذا الضرر، وإن أفلس الشفيع خير المشتري بين الفسخ وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن كالبائع إذا أفلس المشتري (مسألة) (وما يزاد في ثمن أو يحط منه في مدة الخيار يلحق به وما بعد ذلك لا يلحق به) قد ذكرنا أن الشفيع إنما يستحق الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد فلو تبايعا بقدر ثم غيراه(5/522)
في زمن الخيار بزيادة أو نقص ثبت ذلك التغيير في حق الشفيع لأن حق الشفيع إنما يثبت إذا تم العقد وإنما يستحق بالثمن الذي هو ثابت حال استحقاقه ولأن زمن الخيار بمنزلة حالة العقد والتعيير يلحق بالعقد فيه لأنهما على اختيارهما فيه كما لو كانا في حال العقد، فأما إذا انقضى الخيار وانبرم العقد فزادا أو نقصا لم يلحق بالعقد لأن الزيادة بعده هبة تعتبر لها شروط الهبة والنقص إبراء مبتدأ، ولا يثبت ذلك في حق الشفيع وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يثبت النقص في حق الشفيع دون الزيادة وإن كانا عنده ملحقان بالعقد لأن الزيادة تضر بالشفيع فلم يملكاها بخلاف النقص، وقال مالك إن بقي ما يكون ثمناً أخذ به وإن حظ الأكثر أخذه بجميع الثمن الأول.
ولنا أن ذلك يعتبر بعد استقرار العبد فلم يثبت في حق الشفيع كالزيادة ولأن الشفيع استحق الأخذ بالثمن الأول قبل التغيير فلم يؤثر التغيير بعد ذلك فيه كالزيادة وما ذكروه من العذدر لا يصح لأن ذلك لو لحق العقد لزم الشفيع وإن أضر به كالزيادة في مدة الخيار ولأنه حط بعد لزوم العقد فأشبه حط الجميع أو الأكثر عند مالك (مسألة) (وإن كان مؤجلا أخذه الشفيع بالأجل إن كان مليئاً وإلا أقام كفيلا مليئاً وأخذه به) وبهذا قال مالك وعبد الملك وإسحاق، وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد حالا، وقال أبو حنيفة لا يأخذ إلا بثمن حال أو ينتظر مضي الأجل ثم يأخذ، وعن الشافعي كمذهبنا ومذهب أبي حنيفة(5/523)
لأنه لا يمكنه أخذه بالمؤجل لأنه يقضي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمة الشفيع والذمم لا تتماثل وإنما يأخذ بمثله ولا يلزمه أن يأخذ بمثله حالا لئلا يلزمه أكثر مما يلزم المشتري ولا بسلعة
بمثل الثمن إلى الأجل لأنه انما يأخذه بمثل الثمن أو القيمة والسلعة ليست واحداً منهما فلم يبق إلا التخيير ولنا أن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته والتأجيل من صفاته ولأن في الحلول زيادة على التأجيل فلم يلزم الشفيع كزيادة القدر، وما ذكروه من اختلاف الذمم فأنا لا نوجبها حتى توجد الملاءة في الشفيع أو في الضامن بحيث ينحفظ المال فلا يضر اختلافهما فيها وراء ذلك، كما لو اشترى الشقص بسلعة وجبت قيمتها ولا يضر اختلافهما، ومتى أخذه الشفيع بالأجل فمات الشفيع أو المشتري وقننا يحل الدين بالموت حل الدين على الميت منهما دون صاحبه لأن سبب حلوله الموت فاختص بمن وجد في حقه (مسألة) (وإن كان الثمن عرضاً أعطاه مثله إن كان ذا مثل وإلا أعطاه قيمته) أما إذا كان من المثليات كالحبوب والأدهان فهو كالأثمان قياساً عليها فيعطيه الشفيع مثلها مثلها هكذا ذكره أصحابنا وهو قول أصحاب الرأي وأصحاب الشافعي لأن هذا مثل من طريق الصورة والقيمة فكان أولى من الممائل في إحداهما ولأن الواجب بذل الثمن فكان مثله كبدل العرض والمتلف وإن كان(5/524)
مما لا مثل له كالثياب والحيوان فإن الشفيع يستحق الشقس بقيمة الثمن وهذا قول: أكثر أهل العلم وبه يقول أصحاب الرأي والشافعي وحكي عن الحسن وسوار أن الشفعة لا تجب ههنا لأنها تجب بمثل الثمن وهذا لا مثل له فتعذر الأخذ فلم يجب كما لو جهل الثمن ولنا أنه أحد نوعي الثمن فجاز أن تثبت به الشفعة في المبيع كالمثلى وما ذكروه لا يصح لان الثمل يكون من طريق الصورة ومن طريق القيمة كبدل المتلف (فصل) وإن كان الثمن تجب قيمته فإنها تعتبر وقت البيع لأنه وقت الاستحقاق والاعتبار بعد ذلك بالزايدة والنقص في القيمة، وإن كان فيه خيار اعتبرت القيمة حين انقضاء الخيار واستقرار العقد لأنه حين استحقاق الشفعة وبه قال الشافعي، وحكي عن مالك أنه يأخذه بقيمته يوم المحاكمة وليس بصحيح لأن وقت الإستحقاق وقت العقد وما زاد بعد ذلك حصل في ملك البائع فلا يكون للمشتري وما نقص فمن
مال البائع فلا ينقص حق المشتري (مسألة) (وإن اختلفا في قدر الثمن فالقول قول المشتري إلا أن تكون للشفيع بينة) اذ اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فقال المشتري اشتريته بمائة فقال الشفيع بل بخمسين فاقول قول المشتري لأنه العاقد فهو أعرف بالثمن ولأن الشقص ملكه فلا ينزع عنه بالدعوى بغير بينة وبهذا قال الشافعي، قان قيل فهلا قلتم القول قول الشفيع لأنه غارم ومنكر للزيادة فهو كالغاصب(5/525)
والمتلف والضامن نصيب شريكه إذا أعتق؟ قلنا الشفيع ليس بغارم لأنه لا شئ عليه وإنما يريد أن يملك الشقص بثمنه بخلاف الغاصب والمتلف والمعتق، فأما إن كان للشفيع بينة حكم له بها وكذلك إن كان للمشتري بينة حكم بها واستغنى عن يمينه ويثبت ذلك بشاهد ويمين وشهادة رجل وامرأتين، ولا تقبل شهادة البائع لأنه إذا شهد للشفيع كان متهماً لأنه يطلب تقليل الثمن خوفاً من الدرك عليه، فإن أقام كل واحد منهما بينة احتمل تعارضهما لأنهما يتنازعان فيما وقع عليه العقد فيصيران كمن لابينة لهما، وذكر الشريف أن بينة الشفيع تقدم لأنها خارجة ويقتضيه قول الخرقي لأن بينة الخارج عنده تقدم على بينة الداخل والشفيع خارج وهو قول أبي حنيفة وقال صاحباه تقدم بنية المشتري لأنها ترجح بقول المشتري فإنه مقدم على قول الشفيع، ويخالف الخارج والداخل لأن بينة الداخل يجوز أن تكون مستندة إلى يده وفي مسئلتنا البينة تشهد على نفس العقد كشهادة بينة الشفيع ولنا أنهما بينتان تعارضتا فقدمت بينة من لا يقبل قوله عند عدمها كالداخل والخارج ويحتمل أن يقرع بينهما لأنهما يتنازعان في العقد ولا يدلهما عليه فصار كالمتنازعين عينا في يد غيرهما (فصل) فإن قال المشتري لا أعلم قدر الثمن فالقول قوله لأن ما يدعيه ممكن يجوز أن يكون اشتراه جزافاً أو بثمن نسي قدره ويحلف فإذا حلف سقطت الشفعة لأنها لا تستحق بغير بدل(5/526)
ولا يمكن أن يدفع إليه مالا يدعيه فإن ادعى أنك فعلت ذلك تحليلا على إسقاط الشفعة حلف على نفي ذلك (فصل) فان اشترى شقصا بعرض واختلفا في قيمته فإن كان موجوداً عرضناه على المقومين وإن
تعذر إحضاره فالقول قول المشتري كما لو اختلفا في قدره فإن ادعى جهل قيمته فهو على ما ذكرنا فيما إذا ادعى جهل ثمنه وإن اختلفا في الغراس والبناء في الشقص فقال المشتري أنا أحدثته فأنكر فالقول قول المشتري لأنه ملكه والشفيع يريد تملكه عليه فكان القول قول المالك (مسألة) (وإن قال المشتري اشتريته بألف وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فللشفيع أخذه بألف فإن قال المشتري غلطت فهل يقبل قوله مع يمينه؟ على وجهين) وجملة ذلك أن للشفيع أن يأخذه بما قال المشتري لأن المشتري مقر له باستحقاقه بألف ويدعي أن البائع ظلمه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة أن حكم الحاكم بألفين أخذه الشفيع بهما لأن الحاكم إذا حكم عليه بالبينة بطل قوله وثبت ما حكم به ولنا أن المشتري يقر بأن هذه البينة كاذبة وأنه ظلم بألف فلم يحكم له به وإنما حكم بها للبائع لأنه لا يكذبها فإن قال المشتري صدقت البينة وكنت أنا كاذباً أو ناسياً ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل رجوعه لأنه رجوع عن إقرار تعلق به حق آدمي غيره فاشبه مالو أقر له بدين (والثاني) يقبل(5/527)
قوله وقال القاضي هو قياس المذهب عندي كما لو أخبر في المرابحة بثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر قبل قوله مع يمينه بل ههنا أولى لأنه قد قامت البينة بكذبة وحكم الحاكم بخلاف قوله فقبل رجوعه عن الكذب، وإن لم تكن للبائع بينة فتحالفا فللشفيع أخذه بما حلف عليه البائع، فإن أراد أخذه بما حلف عليه المشتري لم يكن له ذلك لأن للبائع فسخ البيع وأخذه بما قال المشتري يمنع ذلك، ولأنه يفضي إلى إلزام العقد بما حلف عليه المشتري ولا يملك ذلك، فإن رضي المشتري بأخذه بما قال البائع جاز وملك الشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه المشتري لأن حق البائع من الفسخ قد زال فإن عاد المشتري فصدق البائع وقال الثمن ألفان وكنت غالطاً فهل للشفيع أخذه بالثمن الذي حلف عليه؟ فيه وجهان كما لو قامت به بينة (فصل) ولو اشترى شقصاً له شفيعان فادعى على أحد الشفيعين أنه عفا عن الشفعة وشهد له بذلك الشفيع الآخر قبل عفوه عن شفعته لم تقبل شهادته لأنه يجر إلى نفسه نفعاً وهو توفر الشفعة عليه
فإذا ردت شهادته ثم عفا عن الشفعة ثم أعاد تلك الشهادة لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد زوالها كشهادة الفاسق إذا ردت ثم تاب وأعادها لم تقبل، ولو لم يشهد حتى عفا قبلت شهادته لعدم التهمة ويحلف المشتري مع شهادته ولو لم تكن بينة فالقول قول المنكر مع يمينه وإن كانت الدعوى على(5/528)
الشفيعين معاً فحلفا ثبتت الشفعة وإن حلف أحدهما ونكل الآخر نظرنا في الحالف فإن صدق شريكه في الشفعة في أنه لم يعف لم يحتج إلى يمين وكانت الشفعة بينهما لأن الحق له فإن الشفعة تتوفر عليه إذا سقطت شفعة شريكه وإن ادعى أنه عفا فنكل قضي له بالشفعة كلها وسواء ورثا الشفعة أو كانا شريكين، فإن شهد أجنبي بعفو أحد الشفيعين واحتيج إلى يمين معه قبل عفو الآخر حلف وأخذ الكل بالشفعة وإن كان بعده حلف المشتري وسقطت الشفعةء وإن كانوا ثلاثة شفعاء فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو بعد عفوهما قبلت وإن شهدا قبله ردت، وإن شهدا بعد عفو أحدهماو قبل عفو الآخر ردت شهادة غير العافي وقبلت شهادة العافي وإن شهد البائع بعفو الشفيع عن شفعته بعد قبض الثمن قبلت شهادته، وإن كان قبله قبلت شهادة قبلت في أحد الوجهين لأنهما سواء عنده (والثاني) لا تقبل لأنه يحتمل أن يكون قصد ذلك ليسهل استيفاء الثمن لأن المشتري يأخذ الشقص من الشفيع فيسهل عليه وفاؤه أو يتعذر على المشتري الوفاء لفلسه فيستحق استرجاع المبيع، وإن شهد لمكاتبه بعفو شفعته أو شهد بشراء شئ لمكاتبه فيه شفعة لم تقبل لأن المكاتب عبده فلا تقبل شهادته له كمدبره ولأن ما يحصل للمكاتب ينتفع به السيد لأنه إن عجز صار له وإن لم يعجز سهل عليه وفاؤه وإن شهد على مكانبه بشئ من ذلك قبلت شهادته لأنه غير متهم فأشبه الشهادة على ولده (مسألة) (وإن ادعى أنك اشتريته بألف قال بل اتهبته أو ورثته فالقول قوله مع يمينه فإن نكل(5/529)
أو قامت للشفيع بينه فله أخذه ويقال للمشتري إما أن تقبل الثمن أو تبرئ منه) وجملة ذلك أنه إذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلي أخذه بالشفعة فانه يحتاج الى تحرير دعواه فيحدد المكان الذي فيه الشقص ويذكر ققدر الشقص والثمن ويدعي
الشفعة فيه فإذا ادعى سئل المدعى عليه فإن أقر لزمه وإن أنكر وقال إنما اتهبته أو ورثته فلا شفعة لك فيه فالقول قول من ينفيه كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة فإن حلف برئ وإن نكل قضي عليه وإن قال لا يستحق علي شفعة فالقول قوله مع يمينه ويكون يمينه على حسب قوله في الإنكار وإذا نكل وقضي عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإذا أخذه دفع إليه، وإن قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشتري فيدفع إليه كما لو أقر له بدار فأنكرها (والثاني) يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه، ومتى ادعاه المشتري دفع إليه (والثالث) يقال له إما أن تقبضه وإما أن تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال الكتابة فادعى أنه حرام احتاره القاضي، وهذا يفارق المكاتب لأن سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذي أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى سيده تحريم ما أتاه به وهذا لا يطالب الشفيع بشئ فلا ينبغي أن يكلف الإبراء مما يدعيه والوجه الأول أولى إن شاء الله تعالى(5/530)
(فصل) فإن قال اشتريته لفلان وكان حاضراً استدعاه الحاكم وسأله فإن صدقه كان الشراء له والشفعة عليه، وإن قال هذا ملكي ولم أشتره انتقلت الخصومة اليه وإن كذبه حكم بالشراء لمن اشتراه وأخذه منه بالشفعة وإن كان المقر له غائباً أخذه الحاكم ودفعه إلى الشفيع وكان الغائب على حجته إذا قدم لأننا لو وقفنا الأمر في الشفعة إلى حضور المقر له كان في ذلك إسقاط الشفعة لأن كل مشتر يدعي أنه لغائب، وإن قال اشتريته لإبني الطفل أو لهذا الطفل وله عليه ولاية لم تثبت الشفعة في أحد الوجهين لأن الملك ثبت للطفل ولا تجب الشفعة باقرار الولي عليه لأنه إيجاب حق في مال صغير باقرار وليه (والثاني) تثبت لأنه يملك الشراء له فصح إقراره فيه كما يصح إقراره بعيب في مبيعه، فأما إن ادعى عليه شفعة في شقص فقال هذا لفلان الغائب أولفلان الطفل ثم أقر بشرائه له لم تثبت فيه الشفعة إلا أن تثبت ببينة أو يقدم الغائب ويبلغ الطفل فيطالبهما بها لأن الملك ثبت لهما بإقراره به وإقراره بالشراء بعد ذك اقرار في ملك غيره فلا يقبل بخلاف ما إذا أقر بالشراء ابتداء لأن الملك ثبت لهما بذلك الإقرار المثبت للشفعة فثبتا جميعاً وإن لم يذكر سبب الملك لم يسأله الحاكم عنه ولم يطالب ببيانه لأنه لو صرح
بالشراء لم تثبت به شفعة فلا فائدة في الكشف عنه ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا.
(فصل) وإذا كانت دار بين حاضر وغائب فادعى الحاضر على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه(5/531)
منه وأنه يستحقه بالشفعة فصدقة فللشفيع أخذه بالشفعة لأن من في يده العين يصدق في تصرفه فيما في يده، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان (أحدهما) ليس له أخذه لأن هذا إقرار على غيره ولنا أنه أقر بما في يده فقبل اقراره كما لو أقر بأصل ملكه، وهكذا لو ادعى عليه أنك بعت نصيب الغائب بإذنه وأقر له الوكيل كان كإقرار البائع بالبيع فإذا قدم الغائب فأنكر البيع أو الإذن في البيع فالقول قوله مع يمينه وينتزع الشقص ويطالب بأجرته من شاء منهما ويستقر الضمان على الشفيع لأن المنافع تلفت تحت يده، فإن طالب الوكيل رجع عل الشفيع وإن طالب الشفيع لم يرجع على أحد وإن ادعى على الوكيل إنك اشتريت الشقص الذي في يدك فأنكر وقال إنما أنا وكيل فيه أو مستودع له فالقول قوله مع يمينه وإن كان للمدعي بينة حكم بها وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي مع أن أبا حنيفة لا يرى القضاء على الغائب لأن القضاء ههنا على الحاضر لوجوب الشفعة عليه واستحقاقه إنتزاع الشقص من يده فحصل القضاء على الغائب ضمناً، فإن لم تكن بينة وطلب الشفيع بينه ونكل الوكيل عنها احتمل أن يقضي عليه لأنه لو أقر لقضي عليه فكذلك إذا نكل واحتمل أن لا يقضي عليه لأنه قضاء على الغائب(5/532)
بغير بينة ولا إقرار من الشقص في يده (فصل) وإذا ادعى على رجل شفعة في شقص اشتراه فقال ليس له ملك في شركتي فعلى الشفيع إقامة البينة بالشركة وبه قال أبو حنيفة ومحمد والشافعي، وقال أبو يوسف إذا كان في يده استحق الشفعة به لأن الظاهر من اليد الملك ولنا إن الملك لا يثبت بمجرد اليد وإذا لم يثبت الملك الذي يستحق به الشفعة لم تثبت ومجرد الظاهر لا يكفي كما لو ادعى ولد أمة في يده فإن ادعى أن المدعي عليه يعلم أنه شريك فعلى المشتري اليمين أنه
لا يعلم ذلك لا نها يمين على نفي فعل الغير فمكانت على العلم كاليمين على نفي دين الميت فإذا حلف سقطت دعواه وإن نكل قضى عله (فصل) إذا ادعى على شريكه أنك اشتريت نصيبك من عمرو فلي شفعته فصدقه عمرو وأنكر الشريك وقال بل ورثته من أبي فأقام المدعي بينة أنه كان ملك عمر ولم تثبت الشفعة بذلك وقال محمد تثبت ويقال له اما ان تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع لأنهما شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع ولنا أنهما لم يشهدا بالبيع وإقرار عمرو على المنكر بالبيع لا يقبل لأنه إقرار على غيره فلا يقبل في حقه ولا تقبل شهادته عليه وليست الشفعة من حقوق العقد فيقبل فيها قول البائع فصار بمنزلة مالو(5/533)
حلف أني ما اشتريت الدار فقال من كانت الدارملكه أنا بعته إياها لم يقبل عليه في الحنث ولا يلزم إذا أقر البائع بالبيع والشقص في يده وأنكر المشتري الشراء لأن الذي في يده الدار مقربها للشفيع ولا منازع له فيها سواه وههنا من الدار في يده يدعيها لنفسه والمقر بالبيع لا شئ في يده ولا يقدر على تقسيم الشقص فافترقا (مسألة) (وإن كان عوضاً في الخلع والصداق والصلح عن دم العمد وقلنا بوجوب الشفعة فيه فقال القاضي يأخذه بقيمته) قال وهو قياس قول ابن حامد وهو قول مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى لأنه ملك الشقص القابل للشفعة ببدل ليس له مثل فوجب الرجوع الى قيمته في الأخذ بالشفعة كما لو باعه بسلعة لامثل لها ولا ننا لو أوجبنا مهر المثل لا فضى إلى تقويم البضع على الأجانب وأضر بالشفيع لأن المهر يتفاوت مع المسمى لتسامح الناس فيه في العادة بخلاف البيع وقال غير القاضي يأخذه بالدية ومهر المثل وحكاه الشريف أبو جعفر عن ابن حامد وهو قول العكلي والشافعي لأنه ملك الشقص ببدل ليس له مثل فيجب الرجوع إلى قيمة البدل إذا لم يكن نقداً ولا مثلياً وعوض الشقص هو البضع وقيمة البضع مهر المثل.(5/534)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله تعالى (ولا شفعة في بيع الخيار قبل انقضائه نص عليه ويحتمل أن تجب) لا تثبت الشفعة في بيع الخيار قبل انقضائه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما وحده أيهما كان، وقال أبو الخطاب يتخرج أن تثبت الشفعة لأن الملك انتقل فثبتت الشفعة في مدة الخيار كما بعد إنقضائه، وقال أبو حنيفة إن كان الخيار للبائع أو لهما لم تثبت الشفعة حتى يتقضي لأن في الأخذ بها اسقاط حق البائع من الفسخ وإلزام البيع في حقه بغير رضاه ولأن الشفيع إنما يأخذ من المشتري ولم ينتقل الملك إليه وإن كان الخيار للمشتري فقد انتقل الملك إليه ولا حق لغيره فيه والشفيع يملك أخذه بعد لزوم البيع واستقرار الملك فلأن يملك ذلك قبل لزومه أولى وغاية ما يقدر ثبوت الخيار له وذلك الا يمنع الأخذ بالشفعة كما لو وجد به عيبا وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا أنه مبيع فيه الخيار فلم تثبت الشفعة كما لو كان للبائع وذلك لأن الأخذ بالشفعة يلزم المشتري بالعقد بغير رضاه ويوجب العهدة عليه ويفوت حقه من الرجوع في عين الثمن فلم يجز كما لو كان الخيار للبائع فإننا إنما منعنا من الشفعة لما فيه من إبطال خيار البائع وتفويت حق الرجوع في عين ماله وهما في نظر الشرع على السواء، وفارق الرد بالعيب فإنه إنما تثبت لا ستدارك الظلامة وذلك يزول بأخذ الشفيع فإن باع الشفيع حصته في مدة الخيار عالماً ببيع الأول سقطت شفعته وقد ذكرنا ذلك فيما مضى(5/535)
(فصل) وبيع المريض كبيع الصحيح في الصحة وثبوت الشفعة وسائر الأحكام إذا باع بثمن المثل سواء كان لوارث أو غير وارث وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يصح بيع المريض مرض الموت لوارثه لأنه محجور عليه في حقه فلم يصح بيعه كالصبي ولنا أنه إنما حجر عليه في التبرع في حقه فلم يمنع الصحة فيما سواه كالأجنبي إذا لم يزد على التبرع بالثلث وذلك لأن الحجر في شئ لا يمنع صحة غيره كما أن الحجر على المرتهن في الرهن لا يمنع التصرف في غيره والحجر على المفلس في ماله لا يمنع التصرف في ذمته، فإما بيعه بالمحاباة فلا
يخلو إما أن يكون لوارث أو لغيره فإن كان لوارث بطلت المحاباة لأنها في المرض بمنزلة محاباة الوصية في الوصية لوارث لا تجوز ويبطل البيع في قدر المحاباة من المبيع وهل يصح فيما عداه؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح لأن المشتري أبرأ الضامن في كل المبيع فلم يصح في بعضه كما لو قال بعتك هذا الثوب بعشرة فقال قبلت البيع في نصفه أو قال قبلته بخمسة أو قبلت نصفه بخمسة ولأنه لا يمكن تصحيح البيع على الوجه الذي تواجبا عليه فلم يصح لتفريق الصفقة (الثاني) أن يبطل البيع في قدر المحاباة ويصح فيما يقابل الثمن المسمى وللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ لأن الصفقة تفرقت عليه وللشفيع أخذ ما صح فيه البيع وإنما قلنا بالصحة لأن البطلان إنما جاء من المحاباة فاختص بما قابلها (الثالث) أنه يصح في الجميع ويفف على إجازة الورثة لأن الوصية للوارث صحيحة في أصح الروايتين وتقف على إجازة الورثة فكذلك(5/536)
المحاباة له فإن أجازوا المحاباة صح البيع في الجميع ولا خيار للمشتري ويملك الشفيع الأخذ به لأنه يأخذ بالثمن، وإن ردوا بطل البيع في قدر المحاباة وصح فيما بقي ولا يملك الشفيع الأخذ قبل إجازة الورثة وردهم لأن حقهم متعلق بالبيع فلم يملك إبطاله وله أخذ ما صح البيع فيه فإن اختار المشتري الرد في هذه الصورة وفي التي قبلها واختار الشفيع الأخذ بالشفعة قدم الشفيع لأنه لا ضرر على المشتري وجرى مجرى المعيب إذا رضيه الشفيع بعيبه (فصل) إذا كان المشتري أجنبياً والشفيع أجنبي فن لم تزد المحاباة على الثلث صح البيع وللشفيع الأخذ بذلك الثمن لأن البيع حصل به فلا يمنع منها كون المبيع مسترخصاً فإن زادت على الثلث فالحكم فيه حكم أصل المحاباة في حق الوارث وإن كان الشفيع وارثًا ففيه وجهان (أحدهما) له الأخذ بالشفعة لأن المحاباة وقعت لغيره فلم يمنع منها تمكن الوارث من أخذها كما لو وهب غريم وارثه مالاً فأخذه الوارث (والثاني) يصح البيع ولا تجب الشفعة وهو قول أصحاب أبي حنيفة لأننا لو أثبتناها جعلنا للموروث سبيلاً إلى إثبات حق لوارثه في المحاباة، ويفارق الهبة لغريم الوارث لأن استحقاق الوارث الأخذ بدينه لامن جهة الهبة وهذا استحاقه بالبيع الحاصل من موروثه فافترقا.
ولأصحاب الشافعي في هذا خمسة أوجه وجهان كهذين (والثالث) أن البيع باطل من أصله لا فضائه إلى إيصال المحاباة إلى الوارث(5/537)
وهذا فاسد لأن الشفعة فرع للبيع ولا يبطل الأصل فرعه وعلى الوجه الأول ما حصلت للوارث المحاباة إنما حصلت لغيره ووصلت إليه بجبهة الأخذ من المشتري فأشبه هبة غريم الوارث (الوجه الرابع) أن للشفيع أن يأخذ بقدر ما عدا المحاباة بجميع الثمن بمنزلة هبة المقابل للمحاباة لأن المحاباة بالنصف مثلاً هبة للنصف وهذا لا يصح لأنه لو كان بمنزلة هبة النصف ما كان للشفيع الأجنبي أخذ الكل لأن الموهوب لا شفعة فيه (الخامس) أن البيع يبطل في قدر المحاباة وهو فاسد لأنها محاباة لأجنبي بما دون الثلث فلا يبطل كما لو لم يكن الشقص مشفوعاً (فصل) ويملك الشفيع الشقص بأخذه وبكل لفظ يدل على أخذه بأن يقول قد أخذته بالثمن أو تملكته بالثمن ونحو ذلك إذ كان الشقص والثمن معلومين ولا يفتقر إلى حكم حاكم وبهذا قال الشافعي، وقال القاضي وابو الخطاب يملكه بالمطالبة لأن البيع السابق سبب فإذا انضمت إليه المطالبة كان كالإيجاب في البيع إذا نضم إليه القبول، وقال أبو حنيفة لا يحصل إلا بحكم حاكم لأنه نقل للملك عن مالكه إلى غيره قهراً فاقتقر إلى حكم حاكم كأخذ دينه ولنا أنه حق ثبت بالنص والإجماع فلم يفتقر إلى حكم حاكم كالرد بالعيب وبهذا ينتقض ما ذكروه ويأخذ الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ولأنه مال يتملكه قهراً فملكه بالأخذ كالغنائم والمباحات، ومكله باللفظ الدال على الأخذ لأنه بيع في الحقيقة لكن الشفيع يستقل به فاستقل باللفظ الدال عليه، وقولهم يملك المطالبة بمجردها لا يصح لأنه لو ملك بها لما سقطت الشفعة بالعفو بعد(5/538)
المطالبة ولوجب إذا كان له شفيعان فطلبا الشفعة ثم ترك أحدهما أن يكون للآخر أخذ قدر نصيبه ولا يملك أخذ نصيب صاحبه.
إذ ثبت هذا فإنه إذا قال قد أخذت الشقص بالثمن الذي ثم عليه العقد وهو عالم بقدره وبالمبيع صح الأخذ وملك الشقص ولا خيار له ولا للمشتري لأن الشقص يؤخذ قهراً والمقهور لا خيارن له والآخذ قهراً لا خيار له أيضاً كمسترجع المبيع لعيب في ثمنه أو الثمن لعيب في الميبع وإن كان الثمن مجهولاً أو الشقص لم يملكه بذلك لأنه بيع في الحقيقة فيعتبر العلم بالعوض كسائر البيوع
وله المطالبة بالشفعة ثم يتعرف مقدار الثمن من المشتري أو من غيره والمبيع فيأخذه بثمنه ويحتمل أن له الأخذ مع جهالة الشقص بناء على بيع الغائب (مسألة) (وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري فهل تجب الشفعة؟ على وجهين (أحدهما) تجب الشفعة وهو قول أبي حنيفة والمزني (والثاني) لا تجب ونصره الشريف أبو جعفر في مسائله وهو قول مالك وابن شريح لأن الشفعة فرع للبيع ولم يثبت فلا يثبت فرعه ولأن الشفيع إنما يأخذ الشقص من المشتري وإذا أنكر البيع لم يمكن الأخذ منه، ووجه الأول أن البائع أقر بحقين حق للشفيع وحق للمشتري فإذا سقط حق المشتري بإنكاره ثبت حق الشفيع كما لو أقر بدار لرجلين فأنكر أحدهما ولأنه أقر للشفيع أنه مستحق لأخذ هذه الدار والشفيع يدعي ذلك فوجب قبوله كما لو أقر أنها ملكه، فعلى هذا يقبض الشفيع من البائع ويسلم إليه الثمن ويكون درك الشفيع على البائع لأن القبض منه ولم يثبت(5/539)
الشراء في حق المشتري وليس للشفيع ولا للبائع محاكمة المشتري ليثبت البيع في حقه وتكون العهدة عليه لأن مقصود البائع الثمن وقد حصل من الشفيع ومقصود الشفيع أخذ الشقص وضمان العهدة وقد حصل من البائع فلا فائدة في المحاكمة، فان قيل أليس لو ادعى على رجل ديناً فقال آخر أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه ولا تخاصمه لا يلزمه قبوله فهلا قلتم ههنا كذلك؟ قلنا في الدين عليه منة في قبوله من غير غريمه وههنا بخلافه، ولأن البائع يدعي أن الثمن الذي يدفعه الشفيع حق للمشتري عوضاً عن هذا البيع فصار كالنائب عن المشتري في دفع الثمن، والبائع كالنائب عنه في دفع الشقص بخلاف الدين فلن كان البائع مقرار بقبض الثمن من المشتري بقي الثمن الذي على الشفيع لا يدعيه أحد لأن البائع يقول هو للمشتري والمشتري يقول لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن يقال للمشتري إما أن تقبضه وإما أن تبرئ منه (والثاني) يأخذه الحاكم عنده (والثالث) يبقى في ذمة الشفيع وفي جميع ذلك متى ادعاه البائع أو المشتري دفع إليه لأنه لأحدهما، وإن تداعياء جميعاً فأقر المشتري بالبيع وأنكر البائع أنه ما قبض منه شيئاً فهو للمشتري لأن البائع قد أقر له به ولأن البائع إذ أنكر القبض لم يكن مدعياً لهذا الثمن لأن البائع لا يستحق علي الشفيع ثمنا إنما يستحقه على المشتري وقد أقر بالقبض منه وأما المشتري
فإنه يدعيه وقد أقر له باستحقاقه فوجب دفع إليه (مسألة) (وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع)(5/540)
إذا أخذ الشفيع الشقص فظهر مستحقاً فرجوعه بالثمن على المشتري ويرجع المشتري على البائع وإن وجده معيباً فله رده على المشتري أو أخذ أرشه منه والمشتري يرد على البائع أو بأخذ الأرش منه سواء قبض الشقص من المشتري أو من البائع وبه قال الشافعي، وقال ابن أبي ليلى وتبقى عهدة الشفيع على البائع لأن الحق ثبت له بإيجاب البائع فكان رجوعه عليه كالمشتري، وقال أبو حنيفة إن أخذ، من المشتري فالعهدة عليه وإن أخذه من البائع فالعهدة عليه لأن الشفيع إذا أخذه من البائع تعذر قبض المشتري فينفسخ البيع بين البائع والمشتري فكأن الشفيع أخذه من البائع مالكاً من جهته فكانت عهدته عليه ولنا أن الشفعة مستحقة بعد الشراء وحصول الملك للمشتري ثم يزول الملك من المشتري إلى الشقص بالثمن فكانت العدة عليه كما لو أخذه منه ببيع ولأنه ملكه من جهة المشتري بالثمن فملك رده عليه بالعيب كالمشتري في البيع الأول، وقياسه على المشتري في جعل عهدته على البائع لا يصح لأن المشتري ملكه من البائع بخلاف الشفيع، وأما إذا أخذه من البائع فالبائع نائب عن المشتري في التسليم المستحق عليه ولو انفسخ العقد بين المشتري والبائع بطلت الشفعة لأنها استحقت به (فصل) وحكم الشفيع في الرد بالعيب حكم المشتري من المشتري فإن علم المشتري بالعيب ولم يعلم الشفى فللشفيع رده على المشتري أو أخذ أرشه منه وليس للمشترى شئ ويحتمل أن لا يملك الشفيع(5/541)
أخذ الأرش لأن الشفيع يأخذ بالثمن الذي استقر عليه العقد فإذا أخذ الارش فما أخذه بالثمن الذي استقر على المشتري وإن علم الشفيع وحده فليس لواحد منهما رد ولا أرش لأن الشفيع أخذه عالما بعيبه فلم يثبت له رد ولا أرش كالمشتري إذا علم العيب والمشتري قد استغنى عن الرد لزوال ملكه عن المبيع وحصول الثمن له من الشفيع ولم يملك الأرش لأنه استدرك ظلامته ورجع إليه جميع الثمن فأشبه ما لورده على
البائع ويحتمل أن يملك أخذ الأرش لأنه بدل عن الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط بزوال ملكه عن المبيع كما لو اشترى قفيزين فتلف أحدهما وأخذ الآخر فعلى هذا ما يأخذه من الأرش يسقط عن الشفيع من الثمن بقدره لأن الشقص يجب عليه بالثمن الذي استقر عليه العقد فأشبه مالو أخذ الأرش قبل أخذ الشفيع منه وإن علما جميعاً فليس لواحد منهما رد ولارش لأن كل واحد منهما دخل على بصيرة ورضي ببذل الثمن فيه بهذه الصفة، وإن لم يعلما فللشفيع رده على المشتري وللمشتري رده على البائع فإن لم يرلد الشفيع فلا رد للمشتري لما ذكرنا أولا، وإن أخذ الشفيع أرشه من المشتري فللمشتري أخذه من البائع وإن لم يأخذ منه فلا شئ للمشتري ويحتمل أن يملك أخذه على الوجه الذي ذكرناه فإذا آخذه فإن كان الشفيع لم يسقطه عن المشتري سقط عنه من الثمن بقدرة لأنه الثمن الذي استقر عليه البيع وسكوته لا يسقط حقه، وان أسقطه عن المشتري نوفر عليه كما لو زاده على الثمن باختياره، فأما إن اشتراه بالبراءة من كل عيب فالصحيح في المذهب أنه لا يبرأ وحكمه حكم مالو لم يشترط وفيه رواية(5/542)
أخرى أنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم بالعيب فدلسه واشترط البراءة، فعلى هذه الرواية إن علم الشفيع باشتراط البراءة فحكمه حكم المشتري لأنه دخل على شرائه فصار كمشتريين اشترطا البراءة وإن لم يعلم ذلك فحكمه حكم مالو علمه المشتري دون الشفيع (مسألة) (وإن أبى المشتري قبض المبيع أجبره الحاكم عليه ثم يأخذه الشفيع منه قاله القاضي قال وليس له أخذه من البائع وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الشفيع يشتري الشقص من المشتري فلا يأخذه من غيره، وبنوا ذلك على أن البيع لا يتم إلا بالقبض فإذا فات القبض بطل العقد وسقطت الشفعة وقال أبو الخطاب قياس المذهب أن يأخذه الشفيع من يد البائع ويكون كأخذه من المشتري وهو قول أبي حنيفة لأن العقد يلزم في بيع العقار قبل قبضه ويدخل المبيع في ملك المشتري وضمانه ويجوز له التصرف فيه بنفس العقد فصار كما لو قبضه المشتري والله أعلم (مسألة) (ولو ورث إثنان شقصاً عن أبيهما فباع أحدهما نعيبه فالشفعة بين أخيه وشريك أبيه) وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الجديد وقال في القديم الأخ أحق بالشفعة وبه قال مالك لأن أخاه
أخص بشركته من شريك أبيه لاشتراكهما في سبب المالك ولنا أنهما شريكان حال ثبوت الشفعة فكانت بينهما كما لو ملكوا كلهم بسبب واحد ولأن الشفعة ثبتت لدفع ضرر الشريك الداخل على شركائه بسنبب شركته وهو موجود في حق الكل وما ذكروه لاأصل(5/543)
له ولم يثبت اعتبار الشرع له في موضع والإعتبار بالشركة لا بسببها وهكذا لو اشترى رجل نصف دار ثم اشترى إثنان نصفها الآخر أو ورثاه أو اتهباه أو وصل إليهما بسبب من أسباب الملك فباع أحدهما نصيبه، أو ورث ثلاثة دارا فباع أحدهم نصيبه من إثنين ثم باع أحد الشريكين نصيبه فالشفعة بين جميع الشركاء وكذلك لو مات رجل وخلف ابنين وأختين فباعت إحدى البنتين نصيبها أو إحدى الأختين فالشفعة بين جميع الشركاء، ولو مات رجل وترك ثلاث بنين وأرضاً فمات أحدهم عن ابنين فباع أحد العمين نصيبه فالشفعة بنى أخيه وابي أخيه، ولو خلف ابنين أو وصى بثلثه لا ثنين فباع أحد الشريكين الوصيين أو أحد الإبنين فالشفعة بين شركائه كلهم ولمخالفينا في هذه المسائل اختلاف يطول ذكره (مسألة) (ولا شفعة لكافر على مسلم) روى ذلك عن الحسن والشعبي ويقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وجماعة من أهل العلم تجب له الشفعة لعموم قوله عليه السلام (لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه وان باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب ولنا ما ورى الدارقطني في كتاب العلل بإسناده عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا شفعة لنصراني) وهذا يخص عموم ما احتجوا به ولأنه معنى يختص العقار فأشبه الإستعلاء في البنيان يحققه أن الشفعة إنما تثبت للمسلم دفعاً للضرر عن ملكه وقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري ولا يلزم من تقديم دفع ضرر(5/544)
المسلم على المسلم تقديم دفع اضرر الذمي فإن حق المسلم أرجح ورعايته أولى ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل رعاية لحق الشريك المسلم وليس الذمي في معنى المسلم فيبقى فيه على مقتضى الأصل وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي لعموم الأدلة ولأنها إذا تثبت للمسلم على المسلم مع عظم حرمته فلان
تثبت على الذمي مع دناءته أولى (فصل) وتثبت للذمي على الذمي لعموم الاخبار ولأنهما تساويا في الدين فتثبت لأحدهما على الآخر كالمسلمين ولا نعلم في هذا خلافا نبايعوا بخمر أو خنزير وأخذ الشفيع بذلك لم ينقض ما فعلوه، وإن جرى التقابض بين المتبايعين دون الشفيع وترافعوا إلينا لم نحكم له بالشفعة وبه قال الشافعي وقال أبو الخطاب إن تبايعوا بخمر وقلنا هي مال لهم حكمنا لهلهم بالشفعة وقال أبو حنيفة تثبت الشفعة إذا كان الثمن خمراً لأنها مال لهم فاشبه مالو تبايعوا بدراهم لكن إن كان الشفيع ذمياً أخذه بمثله وان كان مسلما أخذه بقيمة الخمر ولنا أنه عقد بخمر فلم تثبت فيه الشفعة كما لو كان بين مسلمين ولأنه عقد بثمن محرم أشبه البيع بالخنزير والميتة، ولا نسلم أن الخمر مال لهم فإن الله تعالى حرمه كما حرم الخنزير واعتقادهم حله لا يجعله مالا كالخنزير، وإنما لم ينتقض عقد هم إذا تقابضوا لأننا لا نتعرض لما فعواه مما يعتقدونه في دينهم ما لم يتحاكموا إلينا قبل تمامه ولو تحاكموا إلينا قبل التقابض لفسخناه.
فأما أهل البدع فتثبت الشفعة لمن حكمنا بإسلامه منهم كالفاسق بالأفعال لعموم الأدلة التي ذكرناها، وروى حرب عن أحمد أنه سئل عن أصحاب البدع هل لهم شفعة؟ وذكر(5/545)
له عن ابن ادريس أنه قال ليس للرافضة شفعة فضحك، وقال أراد أن يخرجهم من الإسلام فظاهر هذا أنه أثبت لهم الشفعة، وهذا محمول على غير الغلاة منهم فأما الغلاة كالعتقد أن جبريل غلط في الرسالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أرسل إلى علي ونحوه ومن حكم بكفره من الدعاة إلى القول بخلق القرآن فلا شفعة له لأن الشفعة إذا لم تثبت للذمي الذي يقر على كفره فغيره أولى (فصل) وتثبت الشفعة للبدوي على القروي وللقروي على البدوي في قول أكثر أهل العلم، وقال الشعبي والبتي لا شفعة لمن لم يسكن المصر وعموم الادلة واشتراكها في المعنى المقتضي لوجوب الشفعة يدل على ثبوتها لهم (فصل) قال أحمد في رواية حنبل لا نرى في أرض السواد شفعة لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين فلا يجوز بيعها والشفعة إنما تكون في البيع وكذلك الحكم في سائر الأرض التي وقفها عمر وهي التي فتحت عنوة في زمنه ولم يقسمها كأرض الشام ومصر وكذلك كل أرض فتحت عنوة ولم تقسم بين
الغانمين الا أن يحكم ببيعها حاكم أو يفعله الإمام أو نائبه فان فعل ذلك ثبتت فيه الشفعة لأنه فصل مختلف فيه ومتى حكم الحاكم في المختلف فيه بشئ نفذ حكمه (مسألة) (وهل تجب الشفعة للمضارب على رب المال ولرب المال على المضارب فيما يشتريه من مال المضاربة؟ على وجهين)(5/546)
إذا بيع شقص في شركة مال المضاربة فللعامل الأخذ بها إذا كان الحظ فيها، فإن تركها فلرب المال الأخذ لأن مال المضاربة ملكه ولا ينفذ عفو العامل لأن الملك لغيره فلم ينفذ عفوه كالمأذون له، فإن اشترى المضارب بمال المضاربة شقصا في شركة رب المال فهل لرب المال فيه شفعة؟ على وجهين مبنيين على شراء رب المال من مال المضاربة وقد ذكرناهما، وإن كان المضارب شفيعة ولا ربح في المال فله الأخذ بها لأن الملك لغيره، وإن كان فيه ربح وقلنا لا يملك بالظهور فكذلك، وإن قلنا يملك بالظهور ففيه وجهان كرب المال ومذهب الشافعي في هذا كله على ما ذكرنا، فان باع المضارب شقصاً في شركته لم يكن له أخذه بالشفعة لأنه متهم فأشبه شراءه من نفسه (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة فقارض واحد منهم أحد شريكيه بألف فاشترى به نصف نصيب الثالث لم تثبت فيه شفعة في أحد الوجهين لأن أحد الشريكين رب المال والآخر العامل فهما كالشريكين في المتاع فلا يستحق أحدهما على الآخر شفعة، وإن باع الثالث باقي نصيبه لا جنبي كانت الشفعة مستحقة يبنهم أخماساً لرب المال خمساها وللعامل مثله ولرب المضاربة خمسها بالسدس الذي له فيجعل مال المضاربة كشريك آخر لأن حكمه متميز عن مال كل واحد منهما (فصل) فإن كانت الدار بين ثلاثة أثلاثا فاشترى أجنبي نصيب أحدهم فطالبه أحد الشريكين بالشفعة فقال إنما اشتريته لشريكك لم تؤثر هذه الدعوى في قدر ما يستحق من الشفعة فإن الشفعة بين(5/547)
الشريكين نصفين سواء اشتراها الأجنبي لنفسه أو للشريك الآخر، وإن ترك المطالب بالشفعة حقه منها بناء على هذا القول ثم تبين كذبه فلم تسقط شفعته، وإن أخذ نصف المبيع كذلك ثم تبين كذب
المشتري وعفا الشريك عن شفعته فله أخذ نصيبه من الشفعة لأن اقتصاره على أخذ النصف انبنى على خبر المشتري فلم يؤثر في إسقاط الشفعة واستحق أخذ الباقي لعفو شريكه عنه، وإن امتنع من أخذ الباقي سقطت شفعته كلهما لأنه لا يملك تبعيض صفقة المشتري ويحتمل أن لا يسقط حقه من النصف الذي أخذه ولا يبطل أخذه له لأن المشتري أقر بما تضمن استحقاقه لذلك فلا يبطل برجوعه عن إقراره، وإن أنكر الشريك كون الشراء له وعفا عن شفعته وأصر المشتري على الإقرار للشريك به فللشفيع أخذ اكل لأنه لا منازع له في استحقاقه وله الاقتصار علين النصف لاقرار المشتري له باستحقاق ذلك (فصل) فإن قال أحد الشريكين للمشتري شراؤك باطل وقال الآخر هو صحيح فالشفعة كلها للمعترف بالصحة، وكذلك إن قال ما اشتريته إنما اتهبته وصدقه الآخران اشتراه فالشفعة لمصدق بالشراء لأن شريكه مسقط لحقه باعترافه أنه لا بيع أو لا بيع صحيح، ولو احتال المشتري على إسقاط الشفعة بحيلة لا نسقطها فقال أحد الشفيعين قد سقطت الشفعة توفرت على الآخر لاعتراف صاحبه بسقوطها، ولو توكل أحد التفيعين في البيع أو الشراء أو ضمن عهدة المبيع أو عفا عن الشفعة قبل(5/548)
البيع وقال لاشفعة لي لذلك توفرت على الآخر، وإن اعتقد أن له شفعة وطالب بها فارتفعا إلى حاكم فحكم بأنه لاشفعة له توفرت على الآخر لأنها سقطت بحكم الحاكم فأشبه مالو سقطت بإسقاط المستحق (فصل) إذا ادعى رجل على آخر ثلث دار فأنكره ثم صالحه عن دعواه بثلث دار أخرى صح ووجبت الشفعة في الثلث المصالح به لأن المدعي يزعم أنه محق في دعواه وأن ما أخذه عوض عن الثلث الذى ادعاه فلزمه حكم دعواه ووجبت الشفعة، ولا شفعة على المنكر في الثلث المصالح عنه لأنه يزعم أنه على ملكه لم يزل وإنما دفع ثلث داره إلى المدعي اكتفاء لشرء ودفعا لضرر الخصومة واليمين عن نفسه فلم تلزمه فيه شفعة، وإن قال المنكر للمدعي خذ الثلث الذي تدعيه بثلث دارك ففعل فلا شفعة على المدعي فيما أخذه وعلى المنكر الشفعة في الثلث الذي يأخذه لأنه يزعم أنه أخذه عوضاً عن ملكه الثابت له وقال أصحاب الشافعي تجب الشفعة في الثلث الذي أخذه المدعي أيضاً لأنها معاوضة من الجانبين
بشقصين فوجبت الشفعة فيهما كما لو كانت بين مقرين ولنا أن المدعي يزعم أن ما أخذه كان ملكاً له قبل الصلح ولم يتجدد له عليه ملك وإنما استنقذه بصلحه فلم تجب فيه شفعة كما لو أقر له به (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة أثلاثاً فاشترى أحدهم نصيب أحد شريكيه ثم باعه لأجنبي ثم علم شريكه فله أن يأخذ بالعقدين وله الأخذ بأحدهما لأنه شريك فيهما فإن أخذ بالعقد الثاني أخذ جميع ما في يد مشتريه لانه لا شريك له في شفعته وإن أخذ العقد الأول ولم يأخذ بالثاني أخذ نصف المبيع(5/549)
وهو السدس لأن المشتري شريكه في شفعته، ويأخذ نصفه من المشتري الأول ونصفه من المشتري الثاني لأن شريكه لما اشترى الثلث كان بينهما نصفين لكل واحد منهما السدس فإذا باع الثلث من جميع ما في يده وفي يده ثلثان فقد باع نصف ما في يده والشفيع يستحق ربع ما في يده وهو السدس فصار منقسما في يديهما نصفين فيأخذ من كل واحد منهما نصفه وهو نصف السدس ويدفع ثمنه إلى الأول ويرجع المشتري الثاني على الأول بربع الثمن الذي اشترى به وتكون المسألة من اثنى عشرثم ترجع إلى أربعة للشفيع نصف الدار ولكل واحد من الآخرين الربع، وإن أخذ بالعقدين أخذ جميع ما في يد الثاني وربع ما في يد الأول فصار له ثلاثة أرباع الدار ولشريكه الربع ويدفع الى الأول نصف الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أربع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لانه يأخذ الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثلاثة أرباع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بربع الثمن الثاني لأنه يأخذ نصف ما اشتراه الأول وهو اسدس فيدفع إليه نصف الثمن لذلك، وقد صار نصف هذا النصف في يد الثاني وهو ربع ما في يده فيأخذه منه ويرجع الثاني على الأول بثمنه وبقي المأخوذ من الثاني ثلاثة أرباع ما اشتراه فأخذها منه ودفع إليه ثلاثة أرباع الثمن، وإن كان المشتري الثاني هو البائع الأول فالحكم على ما ذكرنالا يختلف، وإن كانت الدار بين الثلاثة أرباعا لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها بينهما فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه ثم باع ربعاً مما في يده لا جنبي ثم علم شريكه فأخذ بالبيع الثاني أخذ جميعه ودفع إلى المشتري ثمنه وإن أخذ بالبيع الأول وحده أخذ ثلث المبيع وهو(5/550)
نصف سدس لأن المبيع كله ربغ فثلثه نصف سدس ويأخذ ثلثيه من المشتري الأول وثلثه من الثاني ومخرج ذلك من ستة ثلاثين النصف ثمانية عشر ولكل واحد منهما تسعة فلما اشترى صاحب النصف تسعة كانت شفعتها بينه وبين شريكه الذي لم يبع أثلاثاً لشريكه ثلثها ثلاثة، فلما باع صاحب النصف ثلث ما في يده حصل في المبيع من الثلاثة ثلثها وهو سهم بقي في يد البائع منها سهمان فيرد الثلاثة إلى الشريك يصير في يده اثنا عشروهي الثلث ويبقى في يد المشتري الثاني ثمانية وهي تسعان وفي يد صاحب النصف ستة عشر وهي أربعة أتساع ويدفع الشريك الثمن إلى المشتري الأول ويرجع المشتري الثاني عليه بتسع الثمن الذي اشترى به لأنه قد أخذ منه تسع مبيعه، وإن أخذ بالعقدين أخذ من من الثاني جميع ما في يده وأخذ من الأول نصف التسع وهي سهمان من ستة وثلاثين فيصير في يده عشرون سهماو هي خمسة أتساع ويبقى في يد الأول ستة عشر سهما وهي أربعة أتساع ويدفع إليه ثلث الثمن الأول ويدفع إلى الثاني ثمانية أتساع الثمن الثاني ويرجع الثاني على الأول بتسع الثمن الثاني (فصل) إذا كانت دار بين ثلاثة لزيد نصفها ولعمر وثلثها ولكبر سدسها فاشترى بكر من زيد ثلث الدار ثم باع عمراً سدسها ولم يعلم عمرو بشرائه للثلث ثم علم فله المطالبة بحقه من شفعة الثلث وهو ثلثاه وهو تسعاً الدار فيأخذ من بكر ثلثي ذلك وقد حصل ثلثه الباقي في يده بشرائه للسدس فيفسخ بيعه في ويأخذه بشفعة البيع الأول ويبققى من بيعه خمسة أتساعه لزيد ثلث شفعته فتقسم بينهما أثلاثاً وتصح المسألة من مائة واثنبين وستين سهماً الثلث المبيع أربعة وخسمون لعمرو ثلثاها بشفعته ستة وثلاثون سهما يأخذ ثلثها من بكر وهي أربعة وعشرون سهماً وثلثها في يده إثنا عشر سهماً والسدس الذي(5/551)
اشتراه سبعة وعشرون سهماً قد أخذ منها إثنا عشر بالشفعة بقي منها خمسة عشر له ثلثاها عشرة ويأخذ منها زيد خمسة فحصل لزيد إثنان وثلاثون سهما ولكبر ثلاثون سهما ولعمرو مائة سهم وذلك نصف الدار وتسعها ونصف تسع تسعها، ويدفع بكر إلى عمر وثلثي الثمن في البيع الأول وعلى زيد خمسة أتساع الثمن الثاني بينهما أثلاثاً، فإن عفا عمرو عن شفعة الثلث فشفعة السدس الذي اشتراه بينه وبين زيد
أثلاثاً، ويحصل لعمرو أربعة أتساع الدار ولزيد تسعاها ولبكر ثلثها وتصح من تسعة، وإن باع بكر السدس لأجنبي فهو كبيعة إياه لعمرو إلا أن لعمرو العفو عن شفعته في السدس بخلاف ما إذا كان هو المشتري فإنه لا يصح عفو عن نصيبه منها، وإن باع بكر الثلث لأجنبي فلعمرو ثلثا شفعة المبيع الأول وهو التسعان يأخذ ثلثهما من بكر وثلثيهما من المشتري الثاني وذلك تسع وثلث تسع يبقى في يد الثاني سدس وسدس تسع وهو عشرة من أربعة وخمسين بين عمرو وزيد أثلاثاً، وتصح أيضاً من مائة واثنين وستين ويدفع عمرو إلى بكر ثلثي ثمن مبيعه ويدفع هو وز يد إلى المشتري الثاني ثمن خمسة أتساع مبيعه بينهما أثلاثًا، ويرجع المشتري الثاني على بكر بثمن أربعة أتساع مبيعه، وإن لم يعلم عمرو حتى باع مما في يديه سدساً لم تبطل شفعته في أحد الوجوه وله أن يأخذ بها كما لو لم يبع شيئاً (والثاني) تبطل شفعته كلها (والثالث) تبطل في قدر ما باع وتبقى فيما لم يبع وقد ذكرنا توجيه هذه، والوجوه فأما(5/552)
شفعة ما باعه ففيها ثلاثة أوجه (أحدها) أنها بين المشتري الثاني وزيد وبكر أرباعاً للمشتري نصفها ولكل واحد منهم ربعها على قدر أملاكهم حين بيعه (والثاني) أنها بين زيد وبكر على أربعة عشر سهما زيد تسعة ولبكر خمسة لأن لزيد السدس ولبكر سدس يستحق منه أربعة أتساعه بالشفعة فيبقى معه خمسة أتساع السدس ملكه مستقر عليها فأضفناها إلى سدس زيد وقسمنا الشفعة على ذلك ولم نعط المشتري الثاني ولا بكراً بالسهام المستحقة بالشفعة شيئاً لأن الملك عليها غير مستقر (والثالث) إن عفا لهم عن التفعة إستحقوا بها وإن أخذت بالشفعة لم يستحقوا بها شيئاً وان عفا عن بعضهم دون بعض استحق المعفو عنه، بسهامه دون غير المعفو عنه وما بطلت الشفعة فيه ببيع عمرو فهو بمنزلة المعفو عنه فيخرج في قدره وجهان، ولو استقصينا فروع هذه المسألة على سبيل البسط لطال وخرج إلى الأملال (فصل) إذا كانت دار بين أربعة أرباعاً فاشترى اثنان منهم نصيب أحدهم إستحق الرابع الشفعة عليهما واستحق كل واحد من المشتريين الشفعة على صاحبه فإن طالب كل واحد منهم بشفعته قسم المبيع بينهم أثلاثاً وصارت الدار ببنهم كذلك، وإن عفا الرابع وحده قسم المبيع بين المشتريين نصفين وكذلك إن عفا الجميع عن شفعتهم فيصير لهما ثلاثة أرباع الدار وللرابع الربع بحاله وإن طالب الرابع
وحده أخذ منهما نصف المبيع لأن كل واحد منهما له من الملك مثل ما للمطالب فشفعة مبيعه بينه وبين شفعيه نصفين فيحصل للرابع ثلاثة أثمان الدار وباقيها بينهما نصفين، وتصح من ستة عشر، وإن طالب الرابع وحده أحدهما دون الآخر قاسمه الثمن نصفين فيحصل للمعفو عنه ثلاثة أثمان والباقي بين الرابع والآخر نصفين وتصح من ستة عشر، وإن عفا أحد المشترين ولم يعف الآخر ولا الرابع قسم مبيع المعفو عنه بينه وبين الرابع نصفين ومبيع الآخر بينهم أثلاثاً فيحصل للذي لم يعف عنه ربع(5/553)
وثلث ثمن وذلك سدس وثمن والباقي بين الآخرين نصفين وتصح من ثمانية وأربعين، وإن عفا الرابع عن أحدهما ولم يعف أحدهما عن صاحبه أخذ ممن لم يعف عنه ثلث الثمن والباقي بينهما نصفين ويكون الرابع كالعافي في التي قبلها وتصح أيضاً من ثمانية وأربعين، وإن عفا الرابع وأحدهما عن الآخر ولم يعف الآخر فلغير العافي ربع وسدس والباقي بين العافيين نصفين لكل واحد منهما سدس وثمن وتصح من أربعة وعشرين وما يفرع من المسائل فهو على مساق ما ذكرناه باب المساقاة وهي أن يدفع إنسان شجرة إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه يجزء معلوم له من الثمرة، وسميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي لأن أهل الحجاز أكثر حاجتهم إلى السقي لكونهما يسقون من الآبار، فسميت بذلك والأصل في جوازها السنة والإجماع أما السنة فما روى عبد الله بن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع متفق عليه، وأما الإجماع فقال أبو جعفر علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدة خلافتهم واشتهر ذلك ولم ينكره منكر فكان إجماعاً(5/554)
(مسألة) (تجوز المساقاة في ثمر النخل وفي كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته) هذا قول الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسالم ومالك والثوري والاوزاعي
وأبو يوسف ومحمد واسحاق وأبو ثور، وقال داود لا تجوز إلا في تمر النخل لأن الخبر إنما ورد بها فيه، وقال الشافعي لا تجوز إلا في النخل والكرم لأن الزكاة تجب في ثمرتهما، وفي سائر الشجر قولان (أحدهما) لا تجوز فيه لأن الزكاة لا تجب في نمائها فأشبه مالا ثمرة له، وقال أبو حنيفة، وزفر لا تجوز بحال لأنها إجارة بثمرة لم تخلق أو إجارة بثمرة مجهولة أشبه إجارته بثمرة غير الشجر الذي يسقيه ولنا ما ذكرنا من الحديث والاجماع ولا يجوز التعويل على ما خالفهما فإن قيل راوي حديث خيبر ابن عمر وقد رجع عنه فقال.
كنا نخابر أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ولا ينعقد الاجماع مع مخالفته، ويدل على نسخ حديث ابن عمر أيضاً رجوعه عن العمل به إلى حديث رافع، قلنا لا يجوز حمل حديث رافع على ما يخالف الإجماع ولا حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء بعده ثم من بعدهم فكيف يتصور نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل ذلك في عصر الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهي وهو حاضر معهم وعالم يفعلهم؟ فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والإجماع، على أنه قد روي في تفسير خبر(5/555)
رافع عنه ما يدل على صحة قولنا فروى البخاري بإسناده عنه قال كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، وروي تفسيره أيضا بشئ غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جداً، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن حديث رافع نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزارعة فقال رافع يروى عنه في هذا ضروب وكأنه يريد أن اختلاف الرويات عنه يوهن حديثه، وقال طاوس إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال (لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) رواه البخاري ومسلم وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع، عليه فكيف يجوز نسخ أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعده؟ ولا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن شئ من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه، وأما غير ابن عمر فقد أنكر
على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته، والمعنى يدل على ذلك فإن كثيراً من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه ولا يمكنهم الإستئجار عليه وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر ففي تجويز المساقاة دفع الحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئين(5/556)
فجاز كالمصاربة بالأثمان، فأما قياسهم فيبطل بالمضاربة فإنه يعمل في المال بنمائه وهو معدوم مجهول وقد جاز بالإجماع وهذا في معناه، ثم إن الشارع قد جوز العقد في الإجارة على المنافع المعدومة للحاجة فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة للحاجة؟ مع أن القياس إنما يكون في إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه أو الجمع عليه، فأما في إبطال نص وخرق إجماع بقياس نص آخر فلا سبيل إليه، وأما تخصيص ذلك بالنخل أو به وبالكرم فيخالف عموم قوله عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر وهذا عام في كل ثمر ولا تكاد بلد ذات أشجار تخلو من شجر غير النخل وقد جاء في لفظ بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر رواه الدارقطني ولأنه شجر يثمر كل حول فأشبه النخل والكرم ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر لكثرته فأشبه النخل ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة ولا أثر فيها وإنما العلة ما ذكرناه (فصل) فأما مالا ثمر له كالصفصاف والجوز أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والارز فلاتجوز المساقاة عليه وبه قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأنه غير منصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولأن المساقاة إنما تجوز بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة له إلا أن يكون مما يقصد ورقة أو زهرة كالتوت(5/557)
والورد فالقياس يقتضي جواز المساقاة عليه لأنه في معنى الثمر لكونه مما يتكرر كل عام ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له حكمه (مسألة) (وتصح بلفظ المساقاة) لأنه موضوعها حقيقة وبلفظ المعاملة لقوله في الحديث عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها، وتصح بكل ما يؤدي معناها من الألفاظ نحو فالحتك واعمل في
بستاني هذا حتى تكمل ثمرته وما أشبهه لأن القصد المعني فإذا أتى بأي لفظ دل عليه صح كالبيع (مسألة) (وتصح بلفظ الإجارة في أحد الوجهين) لأنه مؤد للمعنى فصح به العقد كسائر الألفاظ المتفق عليها والثاني لا تصح وهو اختيار أبي الخطاب لأن الإجارة يشترط لها كون العوض معلوماً وتكون لازمه والمساقاة بخلافه والأول أقيس لما ذكرنا (مسألة) (وقد نص أحمد في رواية جماعة فيمن قال أجرتك هذه الأرض بثلث مايخرج منها أنه يصح وهذه مزارعة بلفظ الإجارة ذكره أبو الخطاب) فمعنى قوله أجرتك هذه الأرض بثلث أي زارعتك عليها بثلث عبر عن المزاعة بالإجارة على سبيل المجاز كما يعبر عن الشجاع بالأسد، فعلى هذا يكون نهيه عليه السلام عنها بثلث أو ربع إنما ينصرف إلى الإجارة الحقيقة لاعن المزارعة وقال أكثر أصحابنا هي إجارة لأنها مذكورة بلفظها فتكون إجارة حقيقة وتصح بعض الخارج من الأرض كما تصح بالدراهم قال شيخنا والأول أقيس وأصح لما سبق(5/558)
(مسألة) (وهل تصح على ثمرة موجودة، على روايتين (إحداهما تجوز اختارها أبو بكر وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور وأحد قولي الشافعي لانها إذا جازت مع كثرة الغرر فيها فمع وجودها وقلة الغرر فيها أولى وإنما تصح إذا بقي من العمل ما تزيد به الثمرة كالتأبير والسقي وإصلاح الثمرة فإن ببقي مالا تزيد به الثمرة كالجذاذ ونحوه لم يجز بغير خلاف (والثانية) لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من زرع أو ثمر، ولأن هذا يفضي إلى أن يستحق بالعقد عوضاً موجوداً ينتقل الملك فيه عن رب المال إلى المساقي فلم يصح كما لو بدا صلاح الثمرة ولأنه عقد على العمل في المال ببعض نمائه فلم يجز بعد ظهور النماء كالمضاربة ولأن هذا يجعل إجارة بمعلوم ومجهول فلم يصح كما لو استأجره على العمل بذلك، وقولهم إنهما أقل غررا قلنا قلة الغرر ليس من المقتضي للجواز ولا كثرته الموجودة في محل النص مانعة منه فلا تؤثر قلته شيئاً، والشرع ورد به على وجه لا يستحق العامل فيه عوضاً موجوداً ولا ينتقل إليه من ملك رب المال شئ وإنما
يحدث النماء الموجود على ملكهما على ما شرطاه فلم تجز مخالفة هذا الموضوع ولا إثبات عقد ليس في معناه الحاقاً به كما لو بدا صلاح الثمرة وكالمضاربة بعدن ظهور الربح، ومن نصر الوجه الأول قال نص النبي صلى الله عليه وسلم على المساقاة على الثمرة المعدومة بجزء منها نبيه على جوازها على الموجودة لما(5/559)
ذكرنا، ولا يصح القياس على المضاربة إذا ظهر الربح لأنها لا تحتاج إلى عمل وههنا يحتاج إليه فلا يصح القياس، ونظير ذلك المساقاة على الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه لا يصح بغير خلاف علمناه لكون العمل لا يزيد في الثمرة بخلاف الرواية الأولى فإن العمل يزيد فيها فافترقا (فصل) وإذا ساقاه على ودي النخل أو صغار الشجر إلى مدة يحمل فيها غالباً بجزء من الثمرة صح لأنه ليس فيه أكثر من أن عمل العامل يكثر وذلك لا يمنع الصحة كما لو جعل له سهم من ألف، وفيه الأقسام التي نذكرها في كبار النخل والشجر فإن قلنا المساقاة عقد جائز لم يحتج إلى ذكر مدة وان قلناهو لازم اشترط ذكر المدة وسنذكره (مسألة) (وإن ساقاه على شجر بغرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء من الثمرة صح) والحكم فيه كالحكم فيما إذا ساقاه على صغار الشجر على ما بينته قال أحمد في رواية المروذي فيمن قال لرجل اغرس في أرضي هذه شجراً أو نخلاً فما كان من غلة فلك بعملك كذا وكذا سهماً من كذا وكذا فأجازه، واحتج بحديث خيبر في الزرع والنخل لكن يشترط أن يكون الغرس من رب الأرض كما يشترط في المزارعة كون البذر من رب الأرض، فإن كان من العامل خرج على الروايتين في المزارعة إذا شرط البذر من العامل، وقال القاضي المعاملة باطلة وصاحب الأرض بالخيار بين تكليفه قلعها ويضمن له نقصها وبين تركها في أرضه ويدفع إليه قيمتها كالمشتري إذا غرس في الأرض ثم جاء الشفيع(5/560)
فاخذها وإن اختار العامل قلع شجره فله ذلك سواء بذلك بذل له القيمة أو لم يبذلها لأنه ملكه فلم يمنع من تحويله وإن اتفقا على إبقاء الغرس ودفع أجر الأرض جاز (فصل) ولو دفع أرضه إلى رجل يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجر ويحتمل الجواز بناء على
المزارعة فإن المزارع يبذر الأرض فتكون بينه وبين صاحب الأرض وهذا نظيره، فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما فذلك فاسد وجهاً واحداً وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد ولا نعلم فيه مخالفاً لأنه يشترط اشتراكهما في الأصل ففسد كما لو دفع إليه الشجر أو النخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما أو شرط في المزارعة كون الأرض والزرع بينهما (فصل) ومن شرط صحة المساقاة تقدير نصيب العامل بجزء معلوم من الثمرة كالثلث والربح لحديث ابن عمر في خيبر وسواء قل الجزء أو كثر فلو جعل للعامل جزءاً من مائة جزء أو جعل الجزء لنفسه والباقي للعامل جاز إذا لم يفعل ذلك حيلة، فإن عقد على جزء مبهم كالسهم والجزء والنصيب لم يجز لأنه إذا لم يكن معلوماً لم يمكن القسمة بينهما ولو جعل له آصعا معلومة أو جعل مع الجزء المعلوم آصعاً لم يجز لأنه ربما لم يحصل ذلك أو لم يحصل غيره فيستضر رب الشجر أو يكثر الحاصل فيتضرر العامل وكذلك إن شرط له ثمر شجر بعينه لأنه قد لا يحمل وقد لا يحمل غيرها ولهذه العلة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزارعة التي يجعل فيها لرب الأرض مكاناً معيناً وللعامل مكانا معينا قال رافع كنا نكتري الأرض على أن لنا(5/561)
هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأما الذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه، فمتى شرط شيئاً من هذه الشروط الفاسدة فسدت المسافاة، والثمرة كلها لرب المال لأنها نماء ملكه وللعامل أجر مثله كالمضاربة الفاسدة (فصل) ولا يحتاج أن يشرط لرب المال لأنه يأخذ بماله لا بالشرط فإذا قال ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة صح والباقي لرب المال، وإن قال على أن لي ثلث الثمرة فقال ابن حامد يصح وقيل لا يصح وقد ذكرنا تعليل ذلك في المضاربة، وإن اختلفا في الجزء المشروط فهو للعامل لأنه إنما يستحق بالشرط كما ذكرنا، وفان اختلفا في قدر المشروط للعامل فقال ابن حامد القول قول رب المال وقال مالك القول قول العامل إذا ادعى ما يشبه لأنه أقوى سبباً لتسلمه الحائط والعمل، وقد ذكرنا في المضارب رواية أن القول قول إذا ادعى أجر المثل فيخرج ههنا مثله وقال الشافعي يتحالفان وكذلك إن اختلفا فيما تتاولته المساقاة من الشجر
ولنا أن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل فكان القول قوله فإن كان مع أحدهما بينة حكم بها وإن كان مع كل واحد منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج فإن كان الشجر لا ثنين فصدق أحدهما العامل وكذبه الآخر أخذ نصيبه مما يدعيه من مال المصدق وإن شهد على المنكر قبلت شهادته إذا كان عدلاً لأنه لا يجر إلى نفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرراً ويحلف مع شاهده وإن لم يكن عدلاً(5/562)
كانت شهادته كعدمه ولو كانا عاملين ورب المال واحداً فشهد أحدهما على صاحبه قبلت شهادته لما ذكرنا (فصل) وإذا كان في البستان شجر من أجناس كالتين والزيتون والكرم فشرط للعامل من كل جنس قدراً كنصف ثمر التين وثلث الزيتون وربع الكرم، أو كان فيه أنواع من جنس فشرط من كل نوع قدراً وهما يعرفان قدر كل نوع صح لأن ذلك كثلاثة بساتين ساقاة على كل بستان بقدر مخالف للقدر المشروط من الآخر، وإن لم يعلما قدره أو أحدهما لم يجز للجهالة، ولو قال ساقيتك على هذين البساتين بالنصف من هذا والثلث من هذا صح لأنها صفقة واحدة جمعت عوضين فصار كقوله بعتك داري هاتين هذه بألف وهذه بمائة، وإن قال بالنصف من أحدهما والثلث من الآخر ولم يعينه لم يصح الجهالة لأنه لا يعلم الذي يستحق نصفه، لو ساقاه على بستان واحد نصفه هذا بالنصف ونصفه هذا بالثلث وهما متميزان صح لأنهما كبستانين (فصل) فإن كان البستان لإثنين فساقيا عاملاً واحداً على أن له نصف نصيب أحدهما وثلث نصيب الآخر والعامل عامل ما لكل واحد منهما جاز لأن عقد الواحد مع الإثنين عقدان، ولو أفرد كل واحد منهما بعقد كان له أن يشرط ما اتفقا عليه وإن جهل نصيب كل واحد منهما لم يجز لأنه غرر فأنه قد يقل نصيب من شرط له النصف فيقل حظه، وقد يكثر فيتوفر حظه، فأما إن شرطا قدراً واحداً من مالهما جاز وإن لم يعلم قدر مالكل واحد منهما لأنها جهالة لا غرر فيها ولا ضرر فهو كا لو قالا بعناك(5/563)
دارنا هذه بألف ولم يعلم نصيب كل واحد منهما جاز لأنه أي نصيب كان فقد علم عوضه وعلم جملة المبيع فصح كذلك ههنا، ولو ساقى واحد إثنين جاز ويجوز أن يشرط لهما التساوي في النصيب وان
يشرط لأحدهما أكثر من الآخر (فصل) ولو ساقاه ثلاث سنين على أن له في الأولى النصف وفي الثانية الثلث وفي الثالثة الربع جاز لأنه قدر ماله في كل سنة معلوم فصح كما لو شرط له من كل نوع قدراً (فصل) ولا تصح المساقاة إلا على شجر معلوم بالرؤية أو بالصفة التي لا يختلف معها كالبيع وإن ساقاه على بستان لم يره ولم يوصف له لم يصح لأنه عقد على مجهول أشبه البيع وإن ساقاه على أحد هذين الحائطين لم يصح لأنها معاوضة يختلف العوض فيها باختلاف الأعيان فلم يجز على غير معين كالبيع.
(فصل) وتصح على البعل كما تصح على السقي وبه قال مالك ولا نعلم فيه خلافاً عند من يجوز المساقاة لأن الحاجة تدعوا إلى المعاملة في ذلك كدعائها إلى المعاملة في غيره فيقاس عليه (مسألة) (والمساقاة عقد جائز في ظاهر كلامه) وكذلك المزارعة أو ما إليه أحمد في رواية الاثرم قد سئل عن الاكار يخرج من غير أن يخرجه صاحب الضيعة فلم يمنعه من ذلك ذكره ابن حامد وهو قول بعض أصحاب الحديث، وقال بعض أصحابنا(5/564)
هو لازم وهو قول أكثر الفقهاء لأنه عقد معاوضة فكان لازما كالإجارة لأنه لو كان جائزاً كان لرب المال فسخه إذا ظهرت الثمرة فيسقط سهم العامل فيتضرر ولنا ما روى مسلم عن ابن عمر أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بخيبر على أن يعملوها ويكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نقر كم على ذلك ما شئنا) ولو كان لازماً لم يجز بغير تقدير مدة ولا أن يجعل الخيرة إليه في مدة إقرارهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قدر لهم مدة لنقل لأن هذا مما يحتاج إليه فلا يجوز الإخلال بنقله وعمر رضي الله عنه إجلاهم من أرض الحجاز وأخرجهم من خيبر ولو كانت لهم مدة مقدرة لم يجز إخراجهم فيها ولأنه عقد على جزء من نماء المال فكان جائزاً كالمضاربة، وفارق الإجارة لأنها بيع فكانت لازمه كبيع الأعيان ولأن عوضها معلوم أشبهت البيع وقياسهم ينتقض بالمضاربة وهي أشبه بالمساقاة من الإجارة فقياسها عليها أولى
وقولهم إنه يفضي الى أن رب المال يفسخ بعد إدراك الثمرة قلنا إذا ظهرت الثمرة ظهرت على ملكيهما فلا يسقط حق العامل منها بفسخ ولاغيره كما إذا فسخ المضارب بعد ظهور الربح، فعلى هذا لا يفتقر إلى ذكر مدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدة معلومة ولا خلفاؤه حين عاملوهم، ولأنه عقد جائز فلم يفتقر إلى ضرب مدة كالمضاربة وسائر العقود الجائزة، ومتى فسخ أحدهما بعد ظهور الثمرة فهي بينهما على ما شرطاه وعلى العامل تمام العمل كما يلزم المضارب بيع العروض إذا فسخت المضاربة بعد(5/565)
ظهور الربح وإن فسخ العامل قبل ذلك فلا شئ له لأنه رضي بإسقاط حقه فهو كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح وعامل الجعالة إذا فسخ قبل اتمام عمله، فان فسخ رب المال قبل ظهور الثمرة فعليه أجر المثل للعامل لأنه منعه إتمام عمله الذي يستحق به العوض فأشبه مالو فسخ الجاعل قبل إتمام عمل الجعالة وفارق رب المال في المضاربة إذا فسخها قبل ظهور الربح لأن عمل هذا مفض إلى ظهور الثمرة غالباً فلولا السفخ لظهرت الثمرة فملك نصيبه منها وقد قطع ذلك بفسخه فأشبه فسخ الجعالة بخلاف المضاربة فإنه لا يعلم إفضاؤها إلى الربح ولأن الثمرة إذا ظهرت في الشجر كان العمل عليها في الإبتداء من أسباب ظهورها والربح إذا ظهر في المضاربة قد لا يكون للعمل الأول فيه أثر أصلا (مسألة) (فان قلناهي عقد لازم فلا تصح إلا على مدة معلومة) وهذا قول الشافعي وقال أبو ثور تصح وتقع على سنة واحدة وأجازه بعض الكوفبين استحساناً ولأنه لما شرط له جزءاً من الثمرة كان ذلك دليلاً على إرادة مدة تحصل فيها الثمرة ولنا أنه عقد لازم فوجب تقديره بمدة معلومة كالإجارة ولأن المساقاة أشبه بالإجارة لأنها تقتضي العمل على العين مع بقائها ولأنها إذا وقعت مطلقة لم يمكن حملها على إطلاقها مع لزومها لأنها تفضي إلى أن العامل يستبد بالشجر كل مدته فيصير كالمالك ولا يمكن تقديره بالسنة لأنه تحكم وقد تكمل الثمرة في أقل من السنة فعلى هذا لاتتقدر أكثر المدة بل يجوز ما يتفقان عليه من المدة التي يبقى الشجر فيها وإن طالت وقيل لا يجوز(5/566)
أكثر من ثلاثين سنة وهذا تحكم وتوقيت لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع فأما أقل المدة فتقدر بمدة
تكمل فيها الثمرة ولا يجوز على أقل منها لأن المقصود اشتراكهما في الثمرة ولا يوجد في أقل من هذه المدة (مسألة) (فإن شرطا مدة لا تكمل فيها لم يصح) لذلك فإذا عمل فيها فظهرت الثمرة فيها ولم تكمل فله أجرة مثله في أحد الوجهين وفي الآخر لا شئ له لأنه رضي بالعمل بغير عوض فهو كالمتبرع والأول أصح لأن هذا لم يرض إلا بعوض وهو جزء من الثمرة وذلك الجزء موجود لكن لا يمكن تسليمه إليه فلما تعذر دفع العوض الذي اتفقا عليه كان له أجر مثله كما في الإجارة الفاسدة بخلاف المتبرع فإنه رضي بغير شئ، وإن لم تظهر الثمرة فلا شئ له في أصح الوجهين لأنه رضي بالعمل بغير عوض (فصل) فإن ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالباً فلم تحمل تلك السنة فلا شئ للعامل لأنه عقد صحيح لم يظهر فيه النماء أشبه المضاربة إذا لم يربح فيها وإن ظهرت الثمرة ولم تكمل فله نصيبه منها وعليه إتمام العمل فيها كما لو انفسخت قبل كمالها (مسألة) (وإن شرطا مدة قد تكمل فيها الثمرة وقد لا تكمل ففي صحة المساقاة وجهان) (أحدهما) تصح لان الشجر يحتمل أن يحمل ويحتمل أن لا يحمل والمساقاة جائزة فيه (والثاني) لا يصح لأنه عقد على معدوم ليس الغالب وجوده فلم يصح كالسلم في مثل ذلك ولأن ذلك غرر أمكن(5/567)
التحرز منه فلم يجز العقد معه كما لو شرط ثمرة نخلة بعينها، وفارق ما إذا شرط مدة تكمل فيها الثمرة فإن الغالب أن الشجر يحمل وإحتمال ان لا يحمل نادر لم يمكن التحرز عنه، فإن قلنا العقد صحيح فله حصته من الثمر فإن لم يحمل فلا شئ له وإن قلنا هو فاسد استحق أجر المثل سواء حمل أو لم يحمل لأنه لم يرض بغير عوض ولم يسلم له العوض فاستحق أجر المثل بخلاف مااذا شرطا مدة لا يحمل في مثلها، وفيه وجه آخر أنه لا شئ له كما لو اشترطاه مدة لا يحمل فيها الشجر غالباً ومتى خرجت الثمرة قبل انقضاء المدة فله حقه منها إذا قلنا بصحة العقد وإن خرجت بعدها فلا شئ له فيها ومذهب الشافعي في هذا قريب مما ذكرنا (مسالة) (وإن مات العامل تم الوارث فإن لم يكن له وارث أقام الحاكم مقامه من تركته)
وجملة ذلك إنا قد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن المساقاة عقد جائز لا يفتقر إلى ذكر مدة لأن ابقاء ها إليهما وفسخها جائز لكل واحد منهما فلم تحتج الى مدة، فإن قدرها بمدة، جاز لأنه لا ضرر في ذلك وقد يناه في المضاربة والمساقاة مثلها، فعلى هذا تنفسخ بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه للسفه كالمضاربة ويكون الحكم فيها كما لو فسخها أحدهما، فأما إن قلنا بلزومها لم ينفسخ العقد ويقوم الوارث مقام الميت منهما لأنه عقد لارم أشبه الاجارة، فانه كان الميت العامل فأبى وارثه القيام مقامه لم يجبر لأن الوارث لا يلزمه من الحقوق التى على مورته إلا ما أمكن دفعه من تركته والعمل ليس مما يمكن فيه ذلك(5/568)
فعلى هذا يستأجر الحاكم من التركة من يعمل فإن لم يكن له تركة أو تعذر الاستجار فلرب المال الفسخ لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت الفسخ كما لو تعذر ثمن المبيع قبل قبضه (مسألة) (فإن فسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما فإن فسخ قبل ظهورها فهل للعامل أجرة؟ على وجهين) أما إذا فسخ بعد ظهور الثمرة فهي بينهما كما إذا انفسخت المضاربة بعد ظهور الربح، فعلى هذا يباع من نصيب العامل ما يحتاج إليه لأجر ما بقي من العمل واستؤجر من يعمل ذلك وإن إحتيج إلى بيع الجميع بيع ثم لا يخلو إما أن يكون قد بد اصلاح الثمرة أو لافان كان قد بداصلاحها خير المالك بين البيع والشراء فإن اشترى نصيب العامل جاز وإن اختار بيع نصبيبه باعه وباع الحاكم نصيب العامل وإن أبى البيع والشراء باع الحاكم نصيب العامل وحده وما بقي على العامل يستأجر من يعمله والباقي لورثته، وإن كانت لم يبد صلاحها خير المالك أيضاً فإن ببع لا جنبي لم يجز إلا بشرط القطع، ولا يجوز بيع نصيب العامل وحده لأنه لا يمكن قطعه إلا بقطع نصيب المالك ولا يجوز ذلك إلا بإذنه وهل يجوز شراء المالك لها؟ على وجهين (أحدهما) لا يجوز كالأجنبي (والثاني) يجوز كما إذا بع نخلاً مؤبراً جاز للمشتري أن يبتاع الثمرة التي للبائع من غير شرط القطع وهكذا الحكم إذا انفسخت المساقاة بموت العامل إذا قلنا بجوازها وأبى الوارث العلم، فأما إن فسخ قبل ظهور الثمرة فللعامل الاجر في أحد الوجهين لأنه عمل بعوض لم يصح له فكانت له الأجرة(5/569)
كما لو فسخ بغير عذر (والثاني) لا شئ له لأن الفسخ مستند إلى موته ولا صنع لرب المال فيه أشبه إذا فسخ العامل قبل ظهور الثمرة (مسألة) (وكذلك إن هرب العامل ولم يوجد له ما ينفق عليها فهو كما لو مات) إن كان العقد جائزاً فلرب الأرض الفسخ وإن قلنا بلزومه فوجد الحاكم له مالا أو أمكنه الإقتراض عليه من بيت المال أو غيره فعل وإن لم يمكنه ووجد من يعمل بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة فعل فإن تعذر ذلك فلرب المال الفسخ لما ذكرنا، وأما الميت فلا يقترض عليه لأنه لا ذمة له والأولى في هذه الصورة أن لا يكون للعامل أجرة لأنه ترك العمل إختياراً منه فلم يكن له أجره كما لو ترك العمل من غير هرب مع القدرة عليه (مسألة) (فإن عمل فيها رب المال بإذن حاكم أو إشهاد رجع به وإلا فلا) قد ذكرنا أن لرب المال الفسخ فإن اختار البقاء على المساقاة لم تنفسخ إذا قلنا بلزومها ويستأذن الحاكم في الإنفاق على الثمرة ويرجع بما أنفق فإن عجز عن إستئذان الحاكم فأفق بنية الرجوع وأشهد على الإنفاق بشرط الرجوع رجع بما أنفق وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه مضطر، وإن أمكنه استئذان الحاكم وأنفق بنية الرجوع ولم يستأذنه فهل يرجع بذلك؟ على وجهين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه، فإن تبرع بالإنفاق لم يرجع كما لو تبرع بالصدقة والحكم فيما إذا أنفق على الثمرة بعد فسخ العقد إذا تعذر بيعها كالحكم ههنا سواء(5/570)
(فصل) قال رحمه الله (ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها من السقي والحرث والزبار والتفليح والتشميس وإصلاح طرق الماء وموضع الشمس) وجملة ذلك أنه يلزم العامل بإطلاق عقد المساقاة ما فيه صلاح الثمرة وزيادتها من حرث الأرض تحت الشجرة والبقر التي تحرث وآلة الحرث وسقي الشجر وإستقاء الماء وإصلاح طرق الماء وقطع الحشيش المضر والشوك وقطع الشجر اليابس وزبار الكرم وقطع ما يتحاج إلى قطعه وتسوية الثمرة وإصلاح الأجاحين وهي الحفر التي يجتمع فيها الماء على أصول التحل وإدارة الدولاب وحفظ
الثمر في الشجر وبعده حتى يقسم، وإن كان مما يشمس فعليه تشميسه لأن إطلاق عقد المساقاة يقتضي ذلك فإن موضوعها على أن العمل من العامل (مسألة) (وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل من شد الحيطان وأجر الأنهار وحفر البئر والدولاب وما يدبره) وكذلك شراء ما يلقح به إذا أطلقا العقد وإن شرطا ذلك كان تأكيداً وقيل ما يتكرر كل عام فهو على العامل ومالا فلا، قال شيخنا وهذا صحيح إلا في شراء ما يلقح به فإنه على رب المال وإن تكرر لأن هذا ليس من العمل، فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا هي على رب المال لأنها ليست من العمل أشبه ما يلقح به، قال شيخنا والأولى أنها على العامل لأنها تراد للعمل أشبهت بقر الحرث ولأن(5/571)
إستقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه وإن احتاج إليها كغيره من الأعمال وقال بعض أصحاب الشافعي ما يتعلق بالأصول والثمرة معا ككسح النهر هو على من شرط عليه منهما وإن أهمل شرط ذلك على أحدهما لم تصح المساقاة وقد ذكرنا ما يدل على أنه من العامل، فأما تسميد الأرض بالزبل إذا احتاجت إليه فتحصيله على رب المال لأنه ليس من العمل أشبه ما يلقح به وتفريقه في الأرض على العامل كالتلقيح.
(فصل) فإن شرطا على أحدهما شيئاً مما يلزم الآخر فقال القاضي وابو الخطاب لا يجوز ذلك فعلى هذا تفسد المساقاة وهو مذهب الشافعي لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال، وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما فإن شرطه على العامل جاز لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد ولا مفسدة فيه فصح كتأجيل الثمن في البيع وشرط الرهن والضمين والخيار فيه لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد منهما من العمل معلوماً لئلا يفضي إلى التنازع فيختل العمل، وإن لا يكون على رب المال أكثر العمل ولا نصفه لأن العامل إنما يستحق بعمله فإذا لم يعمل أكثر العمل كان وجود عمله كعدمه فلا يستحق شيئاً (فصل) فإن شرط أن يعمل معه غلمان رب المال فهو كعمل رب المال فأن يد الغلام كيد مولاه وقال
أبو الخطاب فيه وجهان أحدهما كما ذكرنا والثاني يجوز لأن غلمانه ماله فجاز أن يجعل تبعاً لماله كثور(5/572)
الدولاب وكما يجوز في القراض أن يدفع إلى العامل بهيمة يحمل عليها، وأما رب المال لا يجوز جعله تبعاً وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن، فإذا شرط غلماناً يعملون معه فنفقتهم على ما يشترطان عليه فإن أطلقا فهي على رب المال وبهذا قال الشافعي وقال مالك نفقتهم على المساقي ولا ينبغي أن يشرطها على رب المال لأن العمل على المساقي فمؤنة من يعمله عليه كمؤنة غلمانه ولنا أنه مملوك رب المال فكانت نفقته عليه عند الإطلاق كما لو أجرة فإن شرطها على العامل جاز ولا يشترط تقديرها وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن يشترط لأنه إشترط عليه مالا يلزمه فوجب أن يكون معلوماً كسائر الشروط ولنا أنه لو وجب تقديرها لوجب ذكر صفاتها ولا يجب ذلك فلم يجب تقدبرها ولابد من معرفة الغلمان المشروط عملهم برؤية أو صفة تحصل بها معرفتهم كما في عقد الإجارة (فصل) فإن شرط العامل أن أجر الأجراء الذين يحتاج الى الاستعانة بهم من الثمرة وقدر الأجرة لم يصح لأن العمل عليه فإذا شرط أجرة من المال لم يصح كما لو شرط لنفسه أجر عمله وكذلك إن لم يقدره لذلك لأنه مجهول، ويفارق هذا ما إذا شرط المضارب أجر من يحتاج إليهم من الحمالين ونحوهم لأن ذلك لا يلزم العامل فكان على المال ولو شرط أجرما يلزمه عمله بنفسه لم يصح (مسألة) (وحكم العامل حكم المضارب فيما يقبل قوله فيه وفيما يرد)(5/573)
لأن رب المال ائتمنه فأشبه المضارب فإن إتهم حلف وإن ثبتت خيانته ضم إليه من اشاء ربه كالوصي إذا ثبتت خيانته فإن لم يمكن حفظه استؤجر من ماله من يعمل عمله، وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب مالك لا يقام غيره مقامه بل يحفظ منه لأن فسقه لا يمنع استيفاء المنافع المقصودة منه فأشبه ما لو فسق بغير الخيانة ولنا أنه تعذر استيفاء المنافع المقصودة منه فاستوفيت بغيره كما لو هرب ولانسلم إمكان استيفاء المنافع
منه لأنه لا يؤمن من تركها ولا يوثق منه بفعلها ولا نقول إن له فسخ المساقاة وإنما نقول لما لم يمكن حفظها من خيانتك أقم غيرك يعمل ذلك وارفع يدك عنها لأن الأمانة قد تعذرت في حقك فلا يلزم رب المال أئتمانك وفارق فسقه بغير الخيانة فإنه لا ضرر على رب المال فيها وههنا يفوت ماله، فإن عجز عن العمل لضعفه مع أماننه ضم إليه غيره ولا تنزع يده لأن العمل مستحق عليه ولا ضرر في بقاء يده عليه وإن عجز بالكلية أقام مقامه من يعمل والأجرة عليه في الموضعين لأن عليه تمام العمل وهذا من تمامه (فصل) ويملك العامل حصته من الثمرة بظهورها فلو تلفت كلها إلا واحدة كانت بينهما وهذا أحد قولي الشافعي والثاني يملكه بالمقاسمة كالمضارب ولنا أن الشرط صحيح فيثبت مقتضاه كسائر الشروط الصحيحة ومقتضاه كون الثمرة بينهما على كل حال، وأما القراض فنقول إنه يملك الربح بالظهور كمسئلتنا وإن سلم فالفرق بينهما أن الربح وقاية(5/574)
لرأس المال فلم يملك حتى سلم رأس المال لربه وهذا ليس بوقاية لشئ فإنه لو تلفت الأصول كلها كان الثمر بينهما.
إذا ثبت ذلك فإنه يلزم كل واحد منهما زكاة حصته إذا بلغت نصاباً نص عليه أحمد في المزارعة فإن لم تبلغ نصاباً الا بجمعهما لم تجب الاعلى قولنا أن الخلطة تؤثرفي غير السائمة، فيبدأ بإخراج الزكاة ثم يقسمان ما بقي فإن بلغت حصة أحدهما نصاباً دون الآخر فعلى من بلغت حصته نصاباً الزكاة وحده يخرجها بعد المقاسمة إلا أن يكون لمن لم تبلغ حصته نصاباً ما يتم به النصاب من موضع آخر فيجب عليهما جميعاً، وإن كان أحدهما لا زكاة عليه كالمكاتب والذمي فعلى الآخر زكاة حصته إن بلغت نصاباً وبهذا كله قال مالك والشافعي وقال الليث إن كان شريكه نصرانياً أعلمه أن الزكاة مؤداة في الحائط ثم يقاسمه بعد الزكاة ما بقي ولنا أن النصراني لا زكاة عليه فلم يخرج من حصته شئ كما لو انفرد بها وقد روى أبو داود سنته عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فخيرض النخيل حين يطيب قبل أن يؤكل ثم يخبر يهود خيبر أيأخذونه بذلك الخرص أم يدفعونه إليهم بذلك الخرص؟ لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار ويفترق قال جابر خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق وزعم
أن اليهود لما خيرهم ابن رواحة أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق (فصل) وإن ساقاة على أرض خراجيه فالخراج على رب المال لأنه يجب على الرقبة بدنه أليل(5/575)
تجب سواء أثمرت الشجرة أو لم تثمر ولأن الخراج يجب أجرة للأرض فكان على رب الأرض كما لو اسنأجر أرضا وزارع غيره فيها وبه قال الشافعي، وقد نقل أحمد في الذي يتقبل الأرض البيضاء لعمل عليها وهي من أرض السواد يقبلها من السلطان فعلى من تقبلها أن يؤدي وظيفة عمر رضي الله عنه ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر وهذا معناه والله أعلم إذا دفع السلطان أرض الخراج إلى رجل يعملها ويؤدي خراجها فأنه يبدأ بخراجها ثم يزكي ما بقي كما ذكر الخراقي في باب الزكاة ولا تنافي بين ذلك وبين ما ذكرناه ههنا (فصل) ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائدة على ما شرط له من الثمرة بغير خلاف لأنه ربما يحدث من النماء بقدر تلك الدراهم فيضر برب المال ولذلك معنا من إشتراط أقفزة معلومة فإن جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها فيها أو ثمر شجر غير الشجر الذي ساقاه عليه لم يجز وكذلك لو شرط عليه في غير الشجر الذي ساقاه عليه أو عملا في السنة فهذا يفسد العقد سواء جعل ذلك كله حقه أو بعضه أو جميع العمل أو بعضه لأنه يخالف موضع المساقاة إذ موضوعها أن يعمل في شجر معين بجزء مشاع من ثمرته في ذلك الوقت الذي يستحق عليه فيه العمل (فصل) إذا ساقاه رجلاً أو زارعة فعامل العامل غيره على الأرض أو الشجر لم يجز وبه قال أبو يوسف وأبو ثور وأجازه مالك إذا جاء برجل أمين(5/576)
ولنا أنه عامل في المال بجزء من نمائه فلم يجز أن يعامل غيره فيه كالمضارب ولأنه إنما أذن له في العمل فيه فلم يجز أن يأذن لغيره كالوكيل، فأما إن استأجر أرضاً فإنه يزارع غيره فيها لأن منافعها صارت مستحقة له فملك المزارعة فيها كالمالك والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج وكذلك يجوز لمن في يده أرض خراجية أن يزارع فيها لأنها كالمستأجرة وللموقوف عليه أن يزارع
في الوقف ويساقي على شجره لأنه أما مالك لرقبة ذلك أو بمنزلة المالك ولا نعلم فيه خلافا عند من أجاز المساقاة والمزارعة (فصل) وإن ساقاه على شجرفبان مستحقاً بعد العمل أخذه وبه وثمرته لأنه عين ماله ولاحق للعامل في ثمرته ولانه عمل فيها بغير إذن مالكها ولا أجرة له لذلك وله على الغاصب أجر مثله لأنه غره واستعمله فأشبه مالو غصب نقرة واستأجر من ضربها دراهم، وإن شمس الثمرة فلم تنقص أخذهما ربها وإن نقصت فله أرش نقصها ويرجع به على من شاء منهما ويستقر الضمان على الغاصب، وان استحقت بعد أن اقتسماها وأكلاها فللمالك تضمين من شاء منهما فإن ضمن الغاصب فله تضمينه الكل وله تضمينه قدر نصيبه وتضمين العامل قدر نصيبه لأن الغاصب سبب يد العامل فلزمه ضمان الجميع فإن ضمنه الكل رجع على العامل بقدر نصيبه لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله ويحتمل أن لا يرجع الغاصب على العامل بشئ لأنه غره فلم يرجع عليه كما لو أطعم إنساناً(5/577)
شيئاً وقال كله فإنه طعامي ثم تبين أنه مغصوب، وإن ضمن العامل احتمل أنه لا يضمنه إلا نصيبه خاصة لأنه ما قبض الثمرة كلها وإنما كان مراعياً لها وحافظاً فلا يلزمه ضمانها ما لم يقبضها ويحتمل أن يضمنه الكل لانه يده ثبتت على الكل مشاهدة بغير حق فإن ضمنه الكل رجع على الغاصب ببدل نصيبه منها وأجر مثله، وإن ضمن كل واحد منهما ما صار إليه رجع العامل على الغاصب بأجر مثله لا غير وإن تلفت الثمرة في شجرها أو بعد الجذاذ قبل القسمة فمن جعل العامل قابضاً لها بثبوت يده على حائطها قال يلزمه ضمانها ومن قال لا يكون قابضاً إلا بأخذ نصيبه منها قال لا يلزمه الضمان ويكون على الغاصب (مسألة) (وإن شرط إن سقى سيحاً فله الربع وإن سقى بكلفة فله النصف أو إن زرعها شعيراً فله الربع وإن زرعها حنطة فله النصف لم يصح في أحد الوجهين) لأن العمل مجهول والنصيب مجهول وهو في معنى يعتين في بيعه (والثاني) يصح بناء على قوله في الإجارة إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإنه ثصح في المنصوص عنه
وهذا مثله، فأما إن قال ما زرعتها من شئ فلي نصفه صح لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ولو جعل له في المزارعة ثلث الحنطة ونصف الشعير وثلثي الباقلا وبينا قدر ما يزرع من كل واحد من هذه الأنواع أما بتقدير البذر أو تقدير المكان وتعيينه مثل أن يقول(5/578)
تزرع هذا المكان قحما وهذا شعيراً أو تزرع مدين حنطة ومدي شعير جاز لأن كل واحد من هذه طريق إلى العلم فاكتفى به (مسألة) (وإن قال ما زرعت من شعير فلي ربعه وما زرعت من حنطة فلي نصفه لم يصح) لأن ما يزرعه من كل واحد منهما مجهول القدر فهو كما لو شرطه له في المساقاة ثلث هذا النوع ونصف النوع الآخر وهو جاهل بما فيه منهما (مسألة) (ولو قال سافيتك هذا البستان بالنصف على أن أساقيك الآخر بالربع لم يصح وجهاً واحداً) لأنه يشرط عقداً في عقد فصار في معنى قوله بعتك هذا على أن تبيعني هذا وتشتري منى هذا وإنما فسد لمعنيين (أحدهما) أنه شرط في العقد عقداً آخر والنفع الحاصل بذلك مجهول فكأنه شرط العوض في مقابلة معلوم ومجهول (الثاني) أن العقد الآخر لا يلزم بالشرط فيسقط الشرط وإذا سقط وجب رد الجزء الذي تركه من العوض لا جله وذلك مجهول فيصير الكل مجهولا (فصل) ولو قال لك الخمسان إن كانت عليك خسارة وإن لم يكن عليك خسارة فلك الربع لم يصح نص عليه أحمد وقال هذا شرطان في شرط وكرهه، قال شيخنا ويخرج فيها مثل ما إذا شرط إن سقى سيحاً له الربع وإن سقى بكلفة فله النصف(5/579)
(فصل) وان ساقى أحد الشريكين شريكه وجعل له من الثمر أكثر من نصيبه مثل أن يكون الأصل بينهما نصفين فجعل له ثلثي الثمرة صح وكان السدس حصته من المساقاة فصار كأنه قال ساقيتك على نصيبي بالثلث وإن جعل الثمرة بينهما نصفين أو جعل للعامل الثلث فهي مساقاة فاسدة لأن العامل يستحق نصفها
بملكه فلم يجعل له في مقابلة عمله شيئاً وإذا شرط له الثلث فقد شرط أن غير العامل يأخذ من نصيب العامل ثلثه ويستعمله بلا عوض فلا يصح فإذا عمل في الشجر بناء على هذا كانت الثمرة بينهما بحكم الملك ولا يستحق العامل بعمله شيئاً لأنه تبرع به لرضاه بالعمل بغير عوض فاشبه مالو قال له أنا أعمل فيه بغير شئ وذكر أصحابنا وجهاً آخر أنه يستحق أجر المثل لأن المساقاة تقتضي عوضاً فلم تسقط برضاه بإسقاطه كالنكاح إذا لم يسلم له المسمى يجب فيه مهر المثل ولنا أنه عمل في مال غيره متبرعاً فلم يستحق عوضاً كما لو لم يعقد المساقاة ويفارق النكاح من وجهين (أحدهما) أن عقد النكاح صحيح فوجب به العوض لصحته وهذا فاسد لا يوجب شيئاً (والثاني) أن الابضاع لاتستباح بالبذل والإباحة والعمل ههنا يستباح بذلك، ولأن المهر في النكاح لا يخلو من أن يكون واجباً بالعقد أو بالإصابة أو بهما فإن وجب بالعقد لم يصح قياس هذا عليه لوجهين (أحدهما) أن النكاح صحيح وهذا فاسد (والثاني) أن العقد ههنا لو أوجب لا وجب قبل العمل ولا خلاف أن هذا لا يوجب قبل العمل شيئاً وإن وجب بالإصابة لم يصح القياس عليه أيضاً لوجهين (أحدهما) أن الاصابة لاتستباح بالإباحة والبذل بخلاف العمل (والثاني) أن الإصابة لو خلت من العقد لأوجبت وهذا بخلافه وإن وجب بهما امتنع القياس عليه أيضاً لهذه الوجوه كلها، فأما إن ساقى أحدهما شريكه على أن يعملا معاً فالمساقاة فاسدة والثمرة بينهما على قدر ملكيهما ويتقاصان العمل إن تساويا فيه، وإن كان لأحدهما فضل نظرت فإن كان قد شرط له فضل في مقابلة عمله استحق ما فضل له من أجر المثل وإن لم يشرط فليس له شئ الاعلى الوجه اذي ذكره أصحابنا وتكلمنا عليه(5/580)
فصل في المزارعة (مسألة) (تجوز المزارعة بجزء معلوم يجعل للعامل من الزرع في قول أكثر أهل العلم قال البخاري قال أبو جعفر ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وابن سيرين، وهو قول سعيد بن المسيب وطاوس وعبد الرحمن(5/581)
ابن الاسود وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبى ليلى وابنه وأبي يوسف ومحمد وروي ذلك عن معاذ والحسن وعبد الرحمن بن مرثد، قال البخاري وعامل عمر الناس على أنه ان جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكذا.
وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعي ومالك وأبو حنيفة وروي عن ابن عباس الأمران جميعاً، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان بياض الأرض أقل فإن كان أكثر فعلى وجهين، ومنهما في الأرض البيضاء لما روى رافع بن خديج قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً وطواعية رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع قلنا ما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فليزرعها ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) وعن ابن عمر قال ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعت رافع بن خديج يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، وهذه كلها أحاديث صحاح متفق عليها والمخابرة المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير الأكار وقيل المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسراً فروى البخاري عن جابر قال كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض فلبزرعها أو لمينحها فان لم يفعل فليمسك أرضه) وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة قلت وما المخابرة؟ قال ((أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع) ولنا ما روى ابن عمر قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر متفق عليه، وقد روى ذلك عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وقال أبو جعفر عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خبير بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع وهذا صحيح مشهور عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ما تواثم أهلوهم ثم من بعدهم لم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به وعمل به أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده(5/582)
فروى البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسقاً تمراً وعشرون وسقاً شعيراً فقسم عمر خيبر فخير أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لهن من الماء والأرض أو يمضي لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الوسق فكانت عائشة إختارت الأرض، فإن قيل حديث خيبر منسوخ بخبر رافع قلنا مثل هذا لا يجوز أن ينسخ لان التسخ إنما يكون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاما شئ عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز نسخه ومتى نسخ؟ فإن كان نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمل به بعد نسخه؟ وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاءه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ وأبن كان راوي النسخ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه (أحدها) أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده فإنه قال كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا فكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ فأما بشئ معلوم مضمون فلا بأس، وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين (والثاني) أن خبره ورد في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة(5/583)
ولم يدل حديثه عليها أصلاً وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضاً لأن القصة واحدة أتت بألفاظ مختلفة فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر (الثالث) أن أحاديث رافع مضطربة جداً مختلفة اختلافاً كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف تقدم على مثل حديثنا، قال الامام أحمد حديث رافع ألوان وقال ابن المنذر قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لذلك (منها) الذي ذكرنا (ومنها) خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس، قال زيد أنا أعلم بذلك منه وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الرجلين قد اقتتلا فقال (إن كان هذا شأنكم فلا تكرو المزارع) رواه أبو داود، وروي البخاري عن عمرو
ابن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال (أن يمنع أحدكم خير له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) ثم أن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها مالا يختلف في فساده كما قد بينا، وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعة وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إطراحها واستعمال الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث والجواب الرابع أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع وجب حمله على أنه منسوخ(5/584)
لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ خبر خيبر لكونه معمولاً به من جهة النبي صلى الله عليه وسلم الى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين فمتى كان نسخه؟ فأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فإنه قد روي حديث خيبر أيضاً فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخاً بقصة خيبر لا ستحالة نسخها كما ذكرنا وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت، فإن قال أصحاب الشافعي تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي على الأرض البيضاء جمعاً بينهما قلنا هذا بعيد لوجوه خمسة (أحدهما) أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأني منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه (الثاني) أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه وما ذكرناه دلت عليه بعض الروايات وفسره رواية بما ذكرناه، وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث والجمع بينهما بحمل بعضها على ما فسره رواية به أولى من التحكم بما لادليل عليه (الثالث) أن قولهم يفضي إلى تقييد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما على بعض محتملاته لاغير (الرابع) أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنته ومعانيها فكان أولى من قول من خالفهم (الخامس) أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه على ما رواه أبو جعفر رحمه الله عليه وما روي في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماع من الصحابة رضي الله عنهم(5/585)
فلا يسوع لأحد خلافه والقياس يقتضيه فإن الأرض عين تنمى بالعمل فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها كالمال في المضاربة والنخل في المساقاة، ولأنه أرض فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخل، ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض لا يقدرون على زرعها والعمل عليها والأكرة يحتاجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت الحكمة جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل ههنا آكد لأن الحاجة إلى الزرع آكد منها إلى غيره لكونه قوتاً ولأن الأرض لا يفتفع بها إلا بالعمل فيها بخلاف المال والله أعلم (مسألة) (فان كان في الأرض شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح) سواء قل بياض الأرض أو كثر نص عليه أحمد وقال قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا وبهذا قال كل من أجاز المزارعة في الأرض المفردة، فإذا قال ساقيتك على الشجر وزارعتك على الأرض بالنصف جاز وكذلك إن قال عاملتك على النصف لأن المعاملة تشملهما، وإن قال زارعتك الأرض بالنصف وساقيتك على الشجر بالربع جاز كما يجوز أن يساقيه على أنواع من الشجر ويجعل له في كل نوع قدراً، وإن قال ساقيتك على الأرض والشجر بالنصف جاز لان المزارعة مساقاة من حيث إنها تحتاج الى السقي، وقال أصحاب الشافعي لا يصح لأن المساقاة لا نتناول الأرض فصح في النخل وحده وقيل ينبني على تفريق الصفقة(5/586)
ولنا أنه عبر عن عقد بلفظ عقد يشاركه في المعنى المشهور به في الإشتقاق فصح كما لو عقد بلفظ البيع في السلم، وهكذا إن قال في الأرض البيضاء ساقيتك على هذه الأرض بنصف ما يزرع فيها، فإن قال ساقيتك على الشجر بالنصف ولم يذكر الأرض لم تدخل في العقد، وليس للعامل أن يزرع وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو يوسف: الداخل زرع البياض، فإن تشارطا أن ذلك بينهما فهو جائز، وإن اشترط
صاحب الأرض أنه يزرع البياضن لم يصح لأن الداخل يسقي لرب الأرض فتلك زيادة ازدادها عليه ولنا أن هذا لم يتناوله العقد فلم يدخل فيه كما لو كانت أرضاً منفردة (فصل) وإن زارعه أرضاً فيها شجرات يسيرة لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها وبه قال الشافعي وابن المنذر وأجازه مالك اذا كان الشجر يقدر الثلث أو أقل لأنه يسير فيدخل تبعاً، ولنا أنه اشترط الثمرة كلها فلم يجز كما لو كان الشجر أكثر من الثلث (فصل) وإن أجره بياض الأرض وساقاه على الشجر الذي فيها جاز لأنهما عقدان يجوز افراد كل واحد منهما فجاز الجمع بينهما كالبيع والإجارة، وقيل لا يجوز بناء على الوجه الذي لا يجوز الجمع بينهما في الأصل والأول أولى إلا أن يفعلا ذلك حيلة على شراء الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو صلاحها فلا يجوز سواء جمعا بين العقدين أو عقدا أحدهما بعد الآخر لما ذكرنا في إبطال الحيل (مسألة) (ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وظاهر المذهب اشتراطه) اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروى عنه اشتراط كون البذر من رب الأرض نص(5/587)
عليه في رواية جماعة وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب وهو قول ابن سيرين والشافعي واسحاق لأنه عقد يشترك رب المال والعامل في نمائه فوجب أن يكون رأس المال كله من عند أحدهما كالمساقاة والمضاربة، وروي عنه ما يذل على أن البذر يجوز أن يكون من العامل فإنه قال في رواية منها في الرجل يكون له الأرض فيها نخل وشجر يدفعها إلى قوم يزرعون الأرض ويقومون على الشجر على أنه له النصف ولهم النصف فلا بأس بذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر على هذا، فأجاز دفع الأرض ليزرعها من غير ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر جاز، روي نحو ذلك عن عمر رضي الله عنه وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث وهو أصح إن شاء الله تعالى وروي عن سعد وابن مسعود وابن عمر أن البذر من العامل، ولعلهم أرادوايه أنه يجوز أن يكون من العامل فيكون كقول عمر ولا يكون قولاً ثالثاً، والدليل على ذلك قول ابن عمر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها
وفي لفظ على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها فجعل عملها من أموالهم وزرعها عليهم ولم يذكر شيئاً آخر وظاهره أن البذر من أهل خيبر، والأصل المعمول به في المزارعة قصة خيبر ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إن البذر على المسلمين ولو كان شرطا لما أخل بذكره ولو فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لنقل ولم يجز ترك نقله ولأن عمر رضي الله عنه فعل الأمرين جميعاً فروي البخاري عنه أنه عامل الناس على(5/588)
أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وان جاء وابالبذر فلهم كذا، وظاهر هذا أن ذلك اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا، فإن قيل هذا بمنزلة بيعتين في بيعه فكيف يفعله عمر؟ قلنا يحمل على أنه فعل ذلك ليخيرهم في أي العقدين شاءوا فمن اختار عقداً عقده معه معيناً كما لو قال في البيع إن شئت بعتك بعشرة صحاح وإن شئت بأحد عشر مكسرة فاختار أحدهما فعقد البيع عليه معيناً، ويجوز أن يكون مجيئه بالبذر أو شروعه في العمل بغير بذر مع إقرار عمر له على ذلك وعمله به جرى مجرى العقد، ولهذا روي عن أحمد صحة الإجارة فيما إذا قال إن خطته روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم، وما ذكره أصحابنا من القياس يخالف ظاهر النص والإجماع الذي ذكرنا هما فكيف يعمل به؟ ثم هو منتقض بما إذا اشترك مالان ببدن صاحب أحدهما (فصل) فإن كان البذر منهما نصفين وشرطا أن الزرع بينهما نصفان فهو بينهما سواء قلنا بصحة المزارعة أو فسادها لأنها إن كانت صحيحة فالزرع بينهما على ما شرطاه وإن كانت فاسدة فلكل واحد منهما بقدر بذره لكن إن حكمنا بصحتها لم يرجع أحدهما على صاحبه بشئ وان وإن قلنا من شرط صحتها أن يكون البذر من رب الأرض فهي فاسدة فعلى العامل نصف أجر الأرض وله على رب الأرض نصف أجر عمله فيتقاصان بقدر الأقل منهما ويرجع أحدهما على صاحبه بالفضل، وإن شرطا التفاضل في الرزع وقلنا بصحتها فالزرع بينهما على ما شرطاه ولا تراجع وإن قلنا بفسادها فالزرع بينهما(5/589)
على قدر البذر ويتراجعان كما ذكرنا وكذلك إن تفاضلا في البذر وشرطا التساوي في الزرع أو شرطا لأحدهما أكثر من قدر بذره أو أقل
(فصل) فإن قال صاحب الأرض أجرتك نصف أرضي بنصف البذر ونصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرج المزارع البذر كله لم يصح لأن المنفعة غير معلومة وكذلك لو جعلها أجرة لأرض أخرى أو داراً لم يجز والزرع كله للمزارع وعليه أجر مثل الأرض فإن أمكن علم المنفعة وضبطها بما لا يختلف معه ومعرفة البذز جاز كان الزرع بينهما ويحتمل أن لا يصح لأن البذر عوض في الإجارة فيشترط قبضه كما لو كان مبيعاً وما حصل فيه قبض وإن قال أجرتك نصف أرضي بنصف منفعتك ومنفعة بقرك وآلتك وأخرجا البذر فهي كالتي قبلها إلا أن الزرع يكون بنهما على كل حال (مسألة) (فإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما الباقي لم يصح) لأنه كأنه اشترط لنفسه قفزاناً معلومة وهو شرط فاسد تفسديه المزارعة لأن الأرض ربما لا تخرج إلا تلك القفزان فيختص رب المال بها وربما لا تخرجه وموضوع المرزاعة على اشتراكهما في الزرع (مسألة) (وكذلك لو شرطا لأحدهما دراهم معلومة أو زرع ناحية معينة أو شرط لأحدهما ما على الجداول إما منفرداً أو مع نصيبه فهو فاسد بإجماع العلماء) لأن الخبر صحيح في النهي عنه غير معارض ولا منسوخ ولأنه ربما تلف ما عين لأحدهما دون الآخر فينفرد أحدهما بالغلة دون صاحبه(5/590)
(مسألة) (ومتى فسد فالزرع لصاحب البذر) لأنه عين ماله ينقلب من حال إلى حال وينمي فهو كصغار الشجر إذا غرس فطال وعليه إجرة صاحبه فإن كان البذر من العامل فعليه إجرة الأرض لأن ربها إنما بذلها بعوض لم يسلم له فرجع إلى عوض منافعها الفائتة بزرعها على الزرع وإن فسدت والبذر من رب الأرض فالزرع له لما ذكرنا وعليه مثل أجر العامل لذلك وإن كان منهما فالزرع بينهما على قدر البذر ويتراجعان بما يفضل لأحدهما على ما ذكرنا (مسألة) وحكم المزارعة حكم المساقاة) فيما ذكرنا من الجواز واللزوم وأنها لا تجوز إلا بجزء للعامل من الزرع وما يلزم العامل ورب الأرض
وغير ذلك من أحكامها لأنها معاملة على الأرض ببعض نمائها (مسألة) (والحصاد على العامل نص عليه وكذلك الجذاذ وعنه أن الجذاذ عليهما) الجذاذ والحصاد واللقاط على العامل نص عليه أحمد في الحصاد وهو مذهب الشافعي لأنه من العمل فكان على العمل كالتشميس، وروى عن أحمد في الجذاذ أنه إذا شرط على العامل فجائز لأن العمل عليه وإن لم يشرطه فعلى رب المال بحصة ما يصير إليه وعلى العامل بحصة ما يصير إليه فجعل الجذاذ(5/591)
عليهما وأجاز إشتراطه على العامل وهو قول بعض الشافعية، وقال محمد بن الحسن تفسد المساقاة بشرطه على العامل لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، وإحتج من جعله عليهما بأنه بعد تكامل الثمرة وإنقضاء المعاملة فأشبه نقله إلى منزلة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى يهود خيبر على أن يعملوها من أموالهم ولأن هذا من العمل أشبه التشميس وبه يبطل ما ذكروه، وفارق النقل إلى المنزل فأنه يكون بعد القسمة وزوال العقد فأشبه المخزن (فصل) وإن دفع رجل بذره إلى صاحب الأرض ليرزعه في أرضه ويكون ما يخرج بينهما فهو فاسد لأن البذر ليس من رب الأرض ولا من العامل ويكون الزرع لمالك البذر وعليه أجر الأرض والعمل ويتخرج أن تنبني صحته على إحدى الروايتين كالمسألة التي بعدها (مسألة) وإن قال أنا أزرع الأرض بذري وعواملي وتسفيها بمائك والزرع بيننا ففيها روايتان (إحداهما) لا تصح إختارها القاضي لأن موضوع المزراعة على أن من تكون أحدهما اقترض من الآخر العمل وصاحب الماء ليس منه أرض ولا عمل بذر ولأن الماء لا يباع ولا يستأجر فكيف تصح المزارعة به؟ (والثانية) تصح اختارها أبو بكر ونقلها عن أحمد يعقوب بن بختان وحرب لأن الماء أحد ما يحتاج إليه في الزرع فجاز أن يكون من أحدهما كالأرض والعمل والأول أصح لأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص(5/592)
(فصل) وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض ومن الآخر البذر ومن الآخر البقر والعمل على
أن ما رزق الله تعالى بينهم فعملوا فهذا عقد فاسد نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومنها واحمد ابن القاسم، وذكر حديث مجاهد في أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم علي الفدان وقال الآخر قبلي الأرض وقال الآخر قبلي البذر وقال الا خر قبلي العمل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الزرع لصاحب البذر وألغى صاحب الأرض وجعل لصاحب العمل كل يوم درهماً ولصاحب الفدان شيئاً معلوماً، فقال أحمد لا يصح والعمل على غيره وذكر هذا الحديث سعيد بن منصور عن الوليد ابن مسلم عن الأوزاعي عن واصل بن أبي جميل عن مجاهد وقال في آخره فحدثبت به مكحو لا فقال ما يسرني بهذا الحديث وصيفا، وحكم هذه المسألة حكم المسألة التي ذكرنا ها في أول الفصل وهما فاسدتان لأن موضوع المزارعة على أن البذر من رب الأرض أو من العامل وليس هو واحد منهما، وليست شركة لأن الشركة تكون بالأثمان فإن كانت بالعروض اعتبر كونها معلومة ولم يوجد شئ من ذلك ههنا، ولا هي إجارة لأن الإجارة تفتقر إلى مدة معلومة وعوض معلوم وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
فعلى هذا يكون الزرع لصاحب البذر لأنه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجر مثلهما لأنهما دخلا على أن يسلم لهما المسمى فإذا لم يسلم عاد إلى بدله وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وقال أصحاب الرأي يتصدق بالفضل والصحيح أن النماء لصاحب البذر لا تلزمه الصدقة به كسائر ماله(5/593)
(فصل) فإن كانت الأرض لثلاثة فاشتركوا على أن يزرعوها ببذرهم ودوابهم وأعوانهم على أن ما أخرج الله بينهم على قدر مالهم جاز وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا لأن أحدهم لا يفضل صاحبه بشئ فصل فان زارع رجلاً أو آجره أرضه فزرعها وسقط منن الحب شئ فنبت في تلك الأرض عاماً آخر فهو لصاحب الأرض نص عليه أحمد في رواية أبي داود ومحمد بن الحارث، وقال الشافعي هو هو لصاحب الحب لأنه عين ماله فهو كما لو بذره قصداً ولنا أن صاحب الحب أسقط حقه منه بحكم العرف وزال ملكه عنه لأن العادة ترك ذلك لمن يأخذه ولهذا أبيح له التقاطه ورعيه ولا نعلم خلافاً في إباحة التقاط ما خلفه الحصادون من سنبل وحب
وغيرهما فجرى ذلك مجرى نبذه على سيبل الترك له وصار كالشئ التافه يسقط منه الثمرة والقمة ونحوهما والنوى لو التقطه إنسان فغرسه كان له دون من سقط منه كذا هذا (مسألة) (وإن زارع شريكه في نصيبه صح) إذا جعل له في الزرع أكثر من نصيبه مثل أن تكون الأرض بينهما نصفين فجعل للعامل الثلثين صح وكان السدس حصته من المزارعة فصار كأنه قال زارعتك على نصيبي بالثلث فصح كما لو زارع(5/594)
أجنبياً، وفيه وجه آخر أنه لا يصح لأن النصف للمزارع ولا يصح إن يزارع الإنسان لنفسه فإذا فسد في نصيبه فسد في الجميع كما لو جمع في البيع بين ما يصح ومالا يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى وقد ذكرنا في المساقاة نحو هذا (فصل في إجارة الأرض) تجوز إجارتها بالذهب والفضة وسائر العروض غير المطعوم في قول عامة أهل العلم، قال أحمد: قلما إختلفوا في الذهب والورق، وقال ابن المنذر: اجمع عوام أهل العلم على أن إكتراء الأرض وقتاً معلوماً جائز بالذهب والفضة.
وروي هذا القول عن سعد ورافع بن خديج وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة والقاسم ومالك والليث والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي أروي عن طاوس والحسن كراهة ذلك لما روى رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع متفق عليه.
ولنا أن رافعاً قال أما بالذهب والورق فلم ينهنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه ولمسلم (اما بشئ معلوم مضمون فلا بأس) وعن حنظلة بن قيس أنه سأل رافع بن خديج عن كراء الأرض فقال نهى رسول(5/595)
الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض فقلت بالذهب والفضة؟ قال إنما نهى عنها ببعض ما يخرج منها أما بالذهب والفضة فلا بأس متفق عليه، وعن سعد قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سعد بالماء منها فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكربها بذهب أو فضة.
رواه أبو داود، ولأنها عين
يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها كالدور، والحكم في العروض كالحكم في الأثمان.
وأما حديثهم فقد فسره الراري بما ذكرنا عنه فلا يجوز الاحتجاج به على غيره وحديثنا مفسر لحديثهم فان راويهما واحد وقد رواه عاماً وخاصاً فيحمل العام على الخاص مع موافقة الخاص لسائر الأحاديث والقياس وقول أكثر أهل العلم فأما إجارتها بطعام فتقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يؤجرها بطعام معلوم غير الخارج منها فيجوز نص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، ومنع منه مالك حتى منع إجارتها باللبن والعسل، وقد روي عن أحمد أنه قال ربما تهيبته، قال القاضي هذا من أحمد على سبيل الورع ومذهبه الجواز، وإحتج مالك بما روى رافع بن خديج عن بعض عمومته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له أرض(5/596)