(الفصل الثالث في محظورات الإحرام) وهي قسمان ما يختلف عمده وسهوه كاللباس والطيب ومالا يختلف كالصيد وحلق الشعر (فالأول) لا فدية على الصبي فيه لأن عمده خطأ (والثاني) عليه فيه الفدية وإن وطئ أفسد حجه ويمضي في فاسده وفي وجوب القضاء عليه وجهان (أحدهما) لا يجب لئلا تجب عبادة بدنية على غير مكلف (والثاني) يجب لأنه إفساد موجب للبدنة فاوجب القضاء كوطئ البالغ فإن قضى بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام فإن أحرم بالقضاء قبلها انصرف إلى حجة الاسلام وهل تجرئه عن القضاء؟ ينظر فإن كانت الفاسدة قد أدرك فيها شيئاً من الوقوف بعد بلوغه أجزأ عنهما جميعاً وإلا لم يجزئه وكذلك حكم العبد والله أعلم (مسألة) (ونفقة الحج وكفارته في مال وليه وعنه في مال الصبي)
أما نفقة الحج فقال القاضي ما زاد على نفقة الحضر فهو في مال الولي لأنه كلفه ذلك عن غير حاجة بالصبي إليه اختاره أبو الخطاب وحكي عن القاضي أنه ذكر في الخلاف أن جميع النفقة على الصبي لأن الحج له فنفقته عليه كالبالغ ولأن له فيه مصلحة بتحصيل الثواب له ويتمرن عليه فصار كأجر المعلم والطبيب والصحيح الأول لأن هذا لا يجب في العمر إلا مرة فلا حاجة الى التمرن عليه ولأنه قد لا يجب فلا يجوز تكليفه بذل ماله من غير حاجة إليه (فصل) فإن أغمي على البالغ فأحرم عنه رفيقه لم يصح وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة يصير محرماً بإحرام رفيقه عنه استحساناً ولنا أنه بالغ فلم يصر محرماً بإحرام رفيقه كالنائم ولأنه لو أذن في ذلك وأجازه لم يصح فمع عدمه أولى (مسألة) (وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيد ولا للمرأة الإحرام نفلاً إلا بإذن زوجها فإن شرعا فيه بغير إذن فلهما تحليلهما ويكونان كالمحصر وإن كان بإذن لم يجز تحليلهما) وجملته أنه ليس للعبد الإحرام بدون إذن سيده لأنه تفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب فإن فعل انعقد إحرامه صحيحاً لأنها عبادة بدنية فأشبهت الصلاة والصوم ولسيده تحليله في أظهر الروايتين اختارها ابن حامد لأن في بقائه عليه تفويتاً لحقه بغير إذنه فلم يلزم ذلك لسيده كالصوم المضر ببدنه (والثانية) ليس له تحليله اختارها أبو بكر لأنه لا يمكن التحلل من تطوع نفسه فلم يملك تحليل عبده والأول أصح وإنما لم يملك تحليل نفسه لأنه التزم التطوع باختياره فنظيره أن يحرم عبده بإذنه، وفي مسئلتنا يفوت حقه الواجب بغير اختياره فأما إن أحرم بإذن سيده لم يكن له تحليله وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة له ذلك لأنه ملكه منافع نفسه فكان له(3/165)
الرجوع فيها كالمعير يرجع في العارية ولنا أنه عقد لازم بإذن سيده فلم يكن لسيده فسخه كالنكاح ولا يلزم عليه العارية لأنها ليست لازمة ولو أعاره شيئاً ليرهنه فرهنه لم يكن له الرجوع فيه فإن باعه سيده بعد ما أحرم فحكم مشتريه في تحليله حكم بائعه لأنه اشتراه مسلوب المنفعة أشبه الأمة المزوجة والمستأجرة فإن علم المشتري بذلك
فلا خيار له كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه وإن لم يعلم فله الفسخ لأنه يتضرر بمضي العبد في حجة لفوات منافعه إلا أن يكون إحرامه بغير إذن سيده ونقول له تحليله فلا فسخ له لأنه يمكنه دفع الضرر عنه ولو أذن له سيده في الإحرام وعلم العبد برجوعه قبل إحرامه فهو كمن لم يؤذن له وإن لم يعلم ففيه وجهان بناء على الوكيل هل ينعزل بالعزل قبل العلم على روايتين (فصل) إذا نذر العبد الحج صح نذره لأنه مكلف فصح نذره كالحر ولسيده منعه من المضي فيه لأنه يفوت حق سيده الواجب فمنع منه كما لو لم ينذر ذكره القاضي وابن حامد وروى عن أحمد أنه قال لا يعجبني منعه من الوفاء به وذلك لما فيه من أداء الواجب فيحتمل أن ذلك على الكراهة لا على التحريم لما ذكرنا، ويحتمل التحريم لأنه واجب فلا يملك منعه منه كسائر الواجبات والأول أولى فإن أعتق لزمه الوفاء به بعد حجة الإسلام فإن أحرم به أولا انصرف إلى حجة الإسلام في الصحيح من المذهب كالحر إذا نذر حجاً (فصل) في جناياته وما جنى على إحرامه لزمه حكمه وحكمه فيما يلزمه حكم الحر المعسر فرضه الصيام وإن تحلل بحصر عدو أو حلله سيده فعليه الصيام لا يتحلل قبل فعله كالحر وليس لسيده أن يحول بينه وبين الصوم نص عليه لأنه صوم واجب أشبه صوم رمضان فإن ملكه السيد هديا وأذن له في اهدائه وقلنا أنه يملكه فهو كالواجب للهدي لا يتحلل إلا به وإن قلنا لا يملكه ففرضه الصيام وإن أذن له سيده في تمتع أو قران فعليه الصيام بدلا عن الهدي الواجب بهما وذكر القاضي أن على سيده تحمل ذلك عنه لأنه بإذنه فكان على من أذن فيه كما لو فعله النائب بإذن المستنيب، قال شيخنا وليس بجيد لأن الحج للعبد وهذا من موجباته فيكون عليه كالمرأة إذا حجت بإذن زوجها ويفارق من يحج عن غيره فإن الحج للمستنيب فموجبه عليه وإن تمتع أو قارن بغير إذن سيده فالصيام عليه بغير خلاف وإن أفسد حجه فعليه أن يصوم لذلك لأنه لا مال هل فهو كالمعسر الحر (فصل) وإن وطئ قبل التحلل الأول فسد نسكه ويلزمه المضي في فاسده كالحر لكن إن كان الإحرام مأذوناً فيه فليس لسيده إخراجه منه لأنه ليس له منعه من صحيحه فلم يملك منعه من(3/166)
فاسده وإن كان بغير إذنه فله تحليله منه لأن له تحليله من صحيحه فالفاسد أولى وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذوناً فيه أو غير مأذون ويصح القضاء في حال رقه لأنه وجب فيه فصح كالصلاة والصيام ثم إن كان الإحرام الذي أفسده مأذوناً فيه فليس له منعه من قضائه لأن إذنه في الحج الأول أذن في موجبه ومقتضاه ومن موجبه القضاء لما أفسده فإن كان الأول غير مأذون فيه احتمل أن لا يملك منعه من قضائه لأنه واجب وليس للسيد منعه من الواجبات واحتمل أن له منعه منه لأنه يملك منعه من الحج الذي شرع فيه بغير إذنه فكذلك هذا فإن أعتق قبل القضاء فليس له فعله قبل حجة الإسلام لأنها آكد فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام في الصحيح من المذهب وبقي القضاء في ذمته وإن عتق في أثناء الحجة الفاسدة فأدرك من الوقوف ما يجزئه أجزأه القضاء عن حجة الإسلام لأن المقضي لو كان صحيحاً أجزأه فكذلك قضاؤه فإن أعتق بعد ذلك لم يجزئه لأن المقضي لم يجزئه فكذلك القضاء والمدبر والمعلق عتقه بصفة وأم الولد والمعتق بعضه حكمه حكم القن فيما ذكرناه (فصل) وإن أحرمت المرأة بحج أو عمرة تطوعاً فلزوجها تحليلها ومنعها منه في ظاهر المذهب وهو ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي ليس له تحليلها لأن الحج يلزم بالشروع فيه فلم يملك تحليلها منه كالمنذور قال وحكي عن أحمد في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج لها أن تصوم بغير إذن زوجها قد ابتليت وابتلي زوجها ولنا أنه تطوع يفوت حق غيرها منه أحرمت بغير إذنه فملك تحليلها كالأمة إذا أحرمت بغير إذن سيدها والمدينة تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها ولأن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله عزوجل فحق الآدمي أولى لأن حقه أضيق لشحه وحاجته وكرم الله وغناه وكلام أحمد لا يتناول محل النزاع بل قد خالفه من وجهين (أحدهما) أنه في الصوم وتأثير الصوم في منع حق الزوج يسير لكونه في النهار دون الليل (الثاني) أن الصوم إذا وجب صار كالمنذور والشروع ههنا على وجه غير مشروع فلم يكن له حرمة بالنسبة إلى صاحب الحق
(فصل) فإن كانت حجة الإسلام لكن لم تكمل شروطها لعدم الاستطاعة فله منعها من الخروج إليها والتلبس بها لأنها غير واجبة عليها فإن أحرمت بها بغير إذن لم يملك تحليلها لأن ما أحرمت به يقع عن حجة الإسلام الواجبة بأصل الشرع كالمريض إذا تكلف حضور الجمعة ويحتمل(3/167)
أن له تحليلها لفقدان شرطها فأشبهت الأمة والصغيرة فإنه لما فقدت الحرية والبلوغ ملك منعها ولأنها ليست واجبة عليها أشبهت سائر التطوع فأما الخروج إلى حج التطوع والإحرام به فله منعها منه (مسألة) (وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض ولا تحليلها إن أحرمت به بغير خلاف حكاه ابن المنذر فإن أذن لها فله الرجوع ما لم تتلبس بالإحرام ومتى قلنا له تحليلها فحللها فحكمها حكم المحصر يلزمها الهدي أو الصوم إن لم تجده كسائر المحصرين) ليس للزوج منع امرأته من المضي إلى الحج الواجب عليها إذا كملت شروطه وكان لها محرم يخرج معها لأنه واجب وليس له منعها من الواجبات كالصوم والصلاة وهذا قول النخعي واسحاق وأصحاب الرأي وهو الصحيح من قولي الشافعي وله قول آخر أن له منعها بناء على أن الحج على التراخي ووجه ذلك ما تقدم ويستحب لها استئذانه نص عليه فإن أذن لها وإلا خرجت بغير إذنه (فصل) ولا تخرج إلى الحج في عدة الوفاة نص عليه ولها الخروج إذا كانت مبتوتة لأن المبيت ولزوم منزلها واجب في عدة الوفاة دون لمبتوتة فإنه لا يجب عليها ذلك وقدم على الحج لأنه يفوت وأما الرجعية فحكمها حكم الزوجة فإن خرجت للحج فتوفي زوجها في الطريق فسنذكر ذلك في العدد إن شاء الله تعالى والله أعلم وإن تكمل شروطه فله منعها من المضي إليه والشروع فيه لأنه يفوت حقه بما ليس بواجب عليها فملك منعها منه كصوم التطوع (فصل) فإن أحرمت بالحج الواجب عليها لم يكن له منعها، وكذلك إن أحرمت بالعمرة الواجبة ولا تحليلها إذا أحرمت في قول أكثر أهل العلم منهم النخعي واسحاق وأصحاب الرأي، وبه قال الشافعي في أصح قوليه، وقال في الآخر له منعها لأن الحج عنده على التراخي فلا يتعين في هذا العام والصحيح الأول لأن الحج الواجب يتعين بالشروع فيه فصار كالصلاة إذا أحرمت بها في أول
وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه، ولأن حق الزوج مستمر على الدوام فلو ملك منعها في هذا العام ملكه في كل عام فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام (فصل) فإن أحرمت بواجب فحلف عليها زوجها بالطلاق الثلاث أن لا تحج العام فليس لها أن تحل لأن الطلاق مباح وليس لها ترك الفضيلة لاجله، ونقل مهنا عن أحمد أنه سئل عن هذه المسألة فقال قال عطاء الطلاق هلاك وهي بمنزلة المحصر فاحتج بقول عطاء فلعله ذهب إليه لأن ضرر الطلاق عظيم لما فيه من خروجها من بيتها ومفارقة زوجها وولدها، وقد يكون ذلك أعظم من ذهاب مالها، ولذلك سماه عطاء هلاكاً، ولأنه لو منعها عدو من الحج إلا أن تدفع إليه مالها كان ذلك حصراً فهذا أولى(3/168)
(فصل) وليس للوالد منع ولده من حج الفرض والنذر ولا تحليله من إحرامه وليس للولد طاعته في تركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لاطاعة لمخلوق في معصية الله تعالى " فأما التطوع فله منعه من الخروج لأن له منعه من الغزو وهو من فروض الكفايات فالتطوع أولى، فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله لأنه وجب بالدخول فيه فصار كالواجب ابتداء أو كالنذر (فصل) فإن أحرمت المرأة بحجة النذر بغير إذن فهل لزوجها منعها؟ على روايتين حكاهما القاضي وأبو الحسين (إحداهما) ليس له منعها كحجة الإسلام (والثانية) له منعها لأنه وجب عليها بإيجابها أشبه حج التطوع إذا أحرمت به (فصل) الشرط الخامس الاستطاعة وهي أن يملك زادا وراحلة صالحة لمثله بآلتها لصالحة لمثله، أو ما يقدر به على تحصيل ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤنته ومؤنة عياله على الدوام الاستطاعة المشترطة لوجوب الحج والعمرة ملك الزاد والراحلة، وبه قال الحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير والشافعي واسحاق، قال الترمذي والعلم عليه عند أهل العلم، وقال عكرمة هي الصحة، وقال الضحاك إن كان شاباً فليؤاجر نفسه بأكله وعقبة حتى يقضي نسكه، وعن مالك إن كان يمكنه المشي وعادته سؤال الناس لزمه الحج لأن هذه الاستطاعة في حقه فهو كواجد الزاد والراحلة
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالراد والراحلة فوجب الرجوع الى تفسيره فروى الدارقطني بإسناده عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " وروى ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله ما يوجب الحج؟ قال: " الزاد والراحلة " رواه الترمذي وقال حديث حسن(3/169)
وروى الإمام أحمد قال: أنا هشيم عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال رجل يارسول الله ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد وما ذكروه ليس باستطاعة فإنه شاق وإن كان عادة، والاعتبار بعموم الأحوال دون خصوصها كما أن رخص السفر تعم من يشق عليه ومن لا يشق عليه، وكذلك من كان له ما يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة بالشروط المذكورة لأنه في معنى ملك الزاد والراحلة، ولأن القدرة على ما تحصل به الرقبة في الكفارة كملك الرقبة فكذلك ههنا (فصل) ويختص اشتراط الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر، فأما القريب الذي يمكنه المشي فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه لأنها مسافة قريبة ويمكنه السعي إليها فلزمه كالسعي(3/170)
إلى الجمعة، وإن كان ممن لا يمكنه المشي كالشيخ الكبير اعتبر وجود الحمولة في حقه لأنه عاجز عن المشي أشبه البعيد، وأما الزاد فلابد منه فان لم يجد زاداً ولا قدر على كسبه لم يلزمه الحج (فصل) والزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة فإن كان يملكه أو وجده يباع بثمن المثل في الغلاء والرخص أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله لزمه شراؤه وإن كانت تجحف بماله لم يلزمه كما قلنا في شراء الماء للوضوء وإذا كان يجد الزاد في كل منزل لم يلزمه حمله وإن لم يجده كذلك لزمه حمله وأما الماء وعلف البهائم فسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) ويشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء لذهابه ورجوعه ويجد ما يحتاج
إليه من آلتها التي تصلح لمثله فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب ولا يخشى السقوط اكتفى بذلك وإن كان ممن لم تجر عادته بذلك أو يخشى السقوط عنهما اعتبر وجود محمل وما أشبهه ممن لا يخشى سقوطه عنه ولا مشقة فيه لأن اعتبار الراحلة في حق القادر على المشي إنما كان لدفع المشقة فيجب أن يعتبر ههنا ما تندفع به المشقة وإن كان ممن لا يقدر على خدمة نفسه والقيام بأمره اعتبرت القدرة على من يخدمه لأنه من سبيله(3/171)
(فصل) ويعتبر أن يكون هذا فاضلاً عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤنتهم في مضيه ورجوعه لأن النفقة تتعلق بها حقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد وقد روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " رواه أبودواد وأن يكون فاضلا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم ومالا بد منه وإن يكون فاضلاً عن قضاء دينه لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية ويتعلق به حقوق الآدميين فهو آكد وكذلك منع الزكاة مع تعلق حقوق الفقراء بها وحاجتهم إليها فالحج الذي هو لخالص حق الله تعالى أولى وسواء كان الدين لآدمي معين أو من حقوق الله تعالى كزكاة في ذمته أو كفارات ونحوها وإن احتاج الى النكاح وخاف على نفسه العنت قدم التزويج لأنه واجب عليه ولا غناء به عنه فهو كنفقته وإن لم يخف قدم الحج لأن النكاح تطوع فلا يقدم على الحج الواجب وإن حج من تلزمه هذه الحقوق وضيعها صح حجه لأنها متعلقة بذمته فلا تمنه صحة حجه (فصل) ومن له دار يسكنها أو يسكنها عياله أو يحتاج إلى أجرتها لنفقة نفسه أو عياله أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها فلم تكفهم أو سائمة يحتاجون إليها لم يلزمه الحج لما ذكرنا وإن كان له من ذلك شئ فاضل عن حاجته لزمه بيعه في الحج فإن كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل قدر ما يحتاج به لزمه وإن كانت له كتب يحتاج إليها لم يلزمه بيعها في الحج(3/172)
وإلا لزمه وإن كان له بكتاب نسختان يستغنى باحدهما باع الأخرى وإن كان له دين على ملئ
باذل له يكفيه في الحج لزمه لأنه قادر وان كان على معسر أو تعذر استيفاؤه لم يلزمه (فصل) فإن تكلف الحج من لا يلزمه وأمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره مثل من يكتسب بصناعة كالخرز أو معاونة من ينفق عليه أو يكتري لزاده ولا يسأل الناس استحب له الحج لقول الله تعالى (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) فقدم ذكر الرجال ولأن فيه مبالغة في طاعة الله وخروجاً من الخلاف وإن كان يسأل الناس كره الحج له لأنه يضيق على الناس ويحصل كلاً عليهم في التزام مالا يلزمه وسئل الإمام أحمد عمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة فقال لا أحب له ذلك هذا يتوكل على أزواد الناس.
(مسألة) (ولا يصير مستطيعاً ببذل غيره بحال) لا يلزمه الحج ببذل غيره له ولا يصير مستطيعاً بذلك سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً، وسواء(3/173)
بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالا وهو قول الأكثرين، وعن الشافعي أنه إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه لأنه أمكنه الحج من غير منة تلزمه ولا ضرر يلحقه فلزمه الحج كما لو ملك الزاد والراحلة ولنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم " يوجب الحج الزاد والراحلة " يتعين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل مالو كان الباذل أجنبياً، ولأنه ليس بمالك للزاد والراحلة ولا ثمنهما فلم يلزمه الحج كما لو بذل له والده، ولا نسلم أنه لا يلزمه منه، ولو سلمناه فيبطل ببذل الوالد وبذل من للمبذول عليه أياد كثيرة ونعم (مسألة) (فمن كملت له هذه الشروط وجب عليه الحج على الفور) من كملت فيه هذه الشروط وجب عليه الحج لما ذكرنا من الأدلة ويجب عليه على الفور إذا أمكنه فعله ولم يجز له تأخيره وبه قال مالك، وقال الشافعي يجب الحج وجوباً موسعاً وله تأخيره، وحكى ابن أبي موسى وجها مثله قوله، وحكاه ابن حامد عن الإمام أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر(3/174)
رضي الله عنه على الحج وتخلف بالمدينة غير محارب ولا مشغول بشئ وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضياً دل على أن وجوبه على التراخي
ولنا قول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقوله (وأتموا الحج والعمرة لله) والأمر على الفور، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أراد الحج فليعجل " رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وفي رواية أحمد وابن ماجة " فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة " قال أحمد ورواه الثوري ووكيع عن أبي اسرائيل عن فضيل بن عمرو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن أخيه الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " قال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض(3/175)
حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا " وعن عمر نحوه من قوله، وكذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ولأنه أحد أركان الإسلام فكان واجباً على الفور كالصيام، ولأن وجوبه بصفة التوسع بخروجه عن رتبة الواجبات لأنه يؤخر الى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله لكونه فعل ما يجوز له فعله وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما فتح مكة سنة ثمان وإنما أخره سنة تسع فيحتمل أنه كان له عذر من عدم الاستطاعة أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفه الجمعة ويكمل الله دينه ويقال أنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ولم يجتمع قبله ولا بعده فأما تسمية فعل الحج قضاء فإنه يسمى بذلك قال الله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم) وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور(3/176)
تسمية الفعل إذا أخره قضاء بدليل الزكاة فإنها تجب على الفور ولو أخرها لا تسمى قضاء والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يقال قضاء القضاء ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة
أخرى لم يجز له تأخيره وإذا أخره لا يسمى قضاء (مسألة) (فإن عجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده وقد أجزأ عنه وإن عوفي) وجملة ذلك أن من وجدت فيه شرائط وجوب الحج وكان عاجزاً عنه لمانع مأيوس من زواله كزمانة أو مرض لا يرجى زواله أو كان نضو الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة والشيخ الفاني ونحوهم متى وجد من ينوب عنه في الحج وما يستنيبه به لزمه ذلك وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه ولا أرى له ذلك لأن الله تعالى قال (من استطاع إليه سبيلا) وهو غير مستطيع ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة ولنا حديث أبي رزين حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يحج عن أبيه ويعتمر وروى ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يارسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج ادركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال " نعم " وذلك في حجة الوداع متفق عليه وفي لفظ لمسلم قالت: يارسول الله أن أبي شيخ عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر(3/177)
بعيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فحجي عنه " وسئل علي رضي الله عنه عن شيخ يجد الاستطاعة قال يجهز عنه ولأن هذه عبادة تجب بإفسادها الكفارة فجاز أن يقوم غير فعله فيها مقام فعله كالصوم إذا عجز عنه افتدى بخلاف الصلاة ويلزمه أن يستنيب على الفور إذا أمكنه كما يلزمه ذلك بنفسه (فصل) ويستناب عنه من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي يسر فيه كالاستنابة عن الميت وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) فإن لم يجد مالاً يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف لأن الصحيح العادم ما يحج به لا يلزمه الحج فالمريض أولى وإن وجد مالا ولم يجد نائباً فقياس المذهب أن ينبني على الروايتين في امكان السير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط وجوب السعي فإن قلنا من شرائط لزوم
السعي ثبت الحج في ذمته يحج عنه بعد موته وإن قلنا من شرائط الوجوب لم يجب شئ (فصل) وإذا استناب من حج عنه ثم عوفي لم يجب عليه حج آخر وهذا قول إسحاق وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر يلزمه لأن هذا بدل اياس فإذا برأ تبينا أنه لم يكن مأيوساً منه فلزمه الأصل كالآيسة تعتد بالشهور ثم تحيض يلزمها العدة بالحيض ولنا أنه أتى بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو يبرأ أو نقول أدى حجة الإسلام بأمر الشرع فلم يلزمه حج ثان كما لو حج عن نفسه ولأن هذا يفضي إلى إيجاب حجتين عليه ولم يوجب الله عليه الا حجة واحدة وقولهم لم يكن مأيوساً من برئه قلنا لو لم يكن مأيوساً من برئه لما أبيح له أن(3/178)
يستنيب فإنه شرط لجواز الاستنابة فأما الآيسة إذا اعتدت بالشهور فلا يتصور عود حيضها فإن رأت دما فليس بحيض ولا يبطل به اعتدادها لكن من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه إذا اعتدت سنة ثم عاد حيضها لم يبطل اعتدادها (فصل) فإن عوفي قبل فراغ النائب من الحج فينبغي أن لا يجزئه الحج لأنه قدر على الأصل قبل تمام البدل فلزمه كالصغيرة ومن ارتفع حيضها قبل إتمام عدتها بالشهور وكالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته ويحتمل أن يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي والمكفر إذا قدر على الأصل بعد الشروع في البدل وإن برأ قبل إحرام النائب لم يجزئه بحال (فصل) فأما من يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه فليس له أن يستنيب فإن فعل لم يجزئه وإن لم يبرأ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة له الاستنابة ويكون ذلك مراعى فإن قدر على الحج بنفسه لزمه وإلا أجزأه ذلك كالمأيوس من برئه ولنا أنه يرجو القدرة على الحج بنفسه فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن فعل كالفقير وفارق المأيوس من برئه لأنه عاجز على الإطلاق آيس من القدرة على الأصل فأشبه الميت ولأن النص إنما ورد في الحج عن الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجى منه الحج بنفسه فلا يصح قياس غيره عليه إلا إذا كان مثله(3/179)
(فصل) فأما القادر على الحج بنفسه فلا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب إجماعاً قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن من عليه حجة الإسلام وهو قادر على الحج لا يجزئ عنه أن يحج غيره عنه والحج المنذور كحجة الإسلام في إباحة الاستنابة عند العجز والمنع منها مع القدرة لأنها حجة واجبة فهي كحجة الإسلام (فصل) وهل يصح الاستئجار على الحج فيه روايتان (أشهرهما) لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة واسحاق (والثانية) يجوز وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر لأنه يجوز أخذ النفقة عليه(3/180)
فجاز الاستئجار عليه كبناء المساجد والقناطر ولما أنها عبادة يختص فاعلها أن يكون مسلماً فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة، فأما بناء المساجد فيجوز أن يقع قربه وغير قربة فإذا وقع بأجرة لم يكن عبادة ولا قربة وهذا لا يصح أن يقع إلا عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح ولا يلزم من جواز أخذ النفقة جواز أخذ الأجرة بدليل الإمامة والقضاء يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال وهو نفقة في المعنى بخلاف الأجرة وفائدة الخلاف أنه متى لم يجز أخذ الأجرة عليها فلا يكون الا نائباً محضاً وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه فلو مات وأحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان لما أنفق نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال فأشبه ما لو أذن له في سد بثق فانبثق ولم ينسد فإذا ناب عنه آخر فإنه يحج عنه من حيث بلغ النائب الأول من الطريق لحصول قطع هذه المسأفة بمال المنوب عنه فلم يحتج إلى الانفاق دفعة أخرى كما لو حج بنفسه فمات في الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى وما فضل معه من المال رده إلا أن يؤذن له في أخذه وينفق عليه بقدر الحاجة من غير إسراف ولا تقتير وليس له التبرع بشئ منه إلا أن(3/181)
يؤذن له في ذلك قال أحمد في الذي يأخذ دراهم للحج لا يمشي ولا يقتر في النفقة ولا يسرف وقال في
رجل أخذ حجة عن ميت ففضلت معه فضلة يردها ولا يناهد أحداً إلا بقدر مالا يكون سرفاً ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال أما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذه فله أن يتوسع فيها وإن فضل شئ فهو له وإذا قال الميت حجوا عني حجة بألف فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له وإن قلنا بجواز الاستئجار على الحج جاز أن يستنيب من غير استئجار فيكون الحكم على ما ذكرنا وإن يستأجر فإن استأجر من يحج عنه أو عن ميت اعتبر فيه شروط الإجارة وما يأخذه اجرة يملكه ويباح له التصرف فيه والتوسع في النفقة وغيرها وما فضل فهو له وإن أحصر أو ضل عن الطريق أو ضاعت النفقة منه فهو من ضمانه وعليه الحج وإن مات انفسخت الإجارة لتلف المعقود عليه كما لو ماتت البهيمة المستأجرة ويكون للحج أيضاً من الموضع الذي بلغ إليه وما لزمه من الدماء فعليه لأن الحج عليه (فصل) والنائب غير المستأجر فما لزمه من الدماء بفعل محظور فعليه في ماله لأنه لم يؤذن له في الجناية فكان موجبها عليه كما لو لم يكن نائباً ودم المتعة والقران إن لم يؤذن له فيهما عليه لأنه كجنايته وإن أذن له فيهما فالدم على المستنيب لأنه أذن في سببهما ودم الاحصار على المستنيب لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع فإن أفسد حجة فالقضاء عليه ويرد ما أخذ لأن الحجة لم تجز عن(3/182)
المستنيب لتفريطه وجنايته، وكذلك إن فاته الحج بتفريطه وإن فات بغير تفريط احتسب له بالنفقة لأنه لم يفت فلم يكن مخالفاً كما لو مات، وإن قلنا بوجوب القضاء فهو عليه في ماله كما لو دخل في حج ظن أنه عليه فلم يكن عليه وفاته (فصل) وإذا سلك النائب طريقاً يمكنه سلوك أقرب منه بغير ضرر ففاضل النفقة في ماله، وإن تعجل عجله يمكنه تركها فكذلك، وإن أقام بمكة أكثر من مدة القصر بعد إمكان السفر للرجوع أنفق من ماله لأنه غير مأذون له فيه فإن لم يمكنه الخروج قبل ذلك فله النفقة لأنه مأذون فيه وله نفقة الرجوع وإن طالت إقامته بمكة ما لم يتخذها داراً فإن اتخذها داراً ولو ساعة لم يكن له نفقة لرجوعه لأنه صار بنية الإقامة مكياً فسقطت نفقته فلم تعد، وإن مرض في الطريق فعاد فله نفقة رجوعه لانه لابد له منه وقد حصل بغير تفريطه فأشبه مالو قطع عليه الطريق أو أحصر، وإن قال خفت المرض
فرجعت فعليه الضمان لأنه متوهم، وعن الإمام أحمد رحمه الله فيمن مرض في الكوفة فرجع: يرد جميع ما أخذ، وفي جميع ذلك إذا أذن له في النفقة فله ذلك لأن المال للمستنيب فجاز ما أذن فيه، وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يصح الشرط لأن ذلك من موجبات فعله أو الحج الواجب عليه فلم يصح شرطه على غيره كما لو شرط على أجنبي (فصل) يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة، والمرأة عن المرأة والرجل في الحج في قول عوام(3/183)
اهل العلم لا نعلم فيه مخالفاً إلا الحسن بن صالح فإنه كره حج المرأة عن الرجل.
قال إبن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة الخثعمية أن تحج عن أبيها، وعليه يعتمد من أجاز حج المرء عن غيره وفي الباب حديث أبي رزين وأحاديث سواه (فصل) ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضاً كان أو تطوعاً لأنها عبادة تدخلها النيابة فلم تجز عن البالغ العاقل بغير إذنه كالزكاة، فأما الميت فيجوز عنه بغير إذن واجباً كان أو تطوعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحج عن الميت وقد علم أنه لااذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة فعلى هذا كلما يفعله النائب عن المستنيب مما لم يؤمر به مثل أن يؤمر بحج فيعتمر، أو بعمرة فيحج يقع عن الميت لأنه يصح عنه من غير إذنه، ولا يقع عن الحي لعدم إذنه فيه، ويقع عمن فعله لأنه لما تعذر وقوعه عن المنوي عنه وقع عن نفسه كما لو استنابه رجلان فأحرم عنهما جميعا وعليه رد النفقة لأنه لم يفعل ما أمر به فأشبه ما لو لم يفعل شيئاً (فصول في مخالفة النائب) إذا أمره بحج فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات ثم حج نظرت فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج جاز ولا شئ عليه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وإن أحرم من مكة فعليه دم لترك(3/184)
ميقاته ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة وقال القاضي لا يقع فعله عن الآمر ويرد جميع النفقة لأنه أتى بغير ما أمر به وهو مذهب أبي حنيفة
ولنا أنه أحرم بالحج من الميقات فقد أتى بالحج صحيحاً من ميقاته اشبه مالو لم يحرم بالعمرة وإن أحرم به من مكة فما أخل إلا بما يجبره الدم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه فإن أمره بالإفراد فقرن لم يضمن شيئاً وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن لأنه مخالف ولنا أنه أتى بما أمر به وزيادة فصح كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى به شاتين تساوي إحداهما ديناراً ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج ففعلها فلا شئ عليه وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها (فصل) فإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر لأنه أمر بهما وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة فأحرم به من الميقات وظاهر كلام أحمد انه لايرد شيئاً من النفقة وهو مذهب الشافعي وقال القاضي يرد نصف النفقة لأن غرضه في عمره مفردة وتحصيل فضيلة التمتع وقد خالفه في ذلك وفوته عليه وقع عن المستنيب أيضاً ويرد نصف النفقة لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات وقد أمر به وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئاً (فصل) فإن أمره بالقران فأفرد أو تمتع صح ووقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما(3/185)
ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات وفي جميع ذلك إذا أمره بالنسكين ففعل أحدهما دون الآخر رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع المفعول عن الآمر وللنائب من النفقة بقدره (فصل) وإن استنابه رجل في الحج وآخر في العمرة واذنا له في القرآن ففعل جاز لأنه نسك مشروع وإن قرن من غير إذنهما صح ووقع عنهما ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفهما لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما وإن أذن أحدهما دون الآخر رد على غير الآمر نصف نفقته وحده، وقال القاضي إذا لم يأذنا له ضمن الجميع لأنه أمر بنسك مفرد ولم يأت به فكان مخالفاً كما لو أمر بحج فاعتمر ولنا أنه أتى بما أمر به وإنما خالف في صفته لافي أصله أشبه من أمر بالتمتع ولو أمر بأحد النسكين فقرن بينه وبين النسك الآخر لنفسه فالحكم فيه كذلك ودم القرآن على النائب إذا لم يؤذن له فيه لعدم الإذن في سببه وإن أذن أحدهما دون الآخر فعلى الآذن نصف الدم ونصفه على النائب
(فصل) وإن أمر بالحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو أمر بالعمرة فاعتمر ثم حج عن نفسه صح ولم يرد شيئاً من النفقة لأنه أتى بما أمر به على وجهه وإن أمره بالإحرام من ميقات فأحرم من غيره جاز لانها سواء في الأجزاء وإن أمره بالإحرام من الميقات جاز لأنه الأفضل وإن أمره بالإحرام من بلده فأحرم من الميقات جاز لأنه الأفضل، وإن أمره بالإحرام من الميقات فأحرم من بلده جاز لأنه زيادة لا تضر، وإن أمره بالحج في السنة أو الاعتمار في شهر ففعله في غيره جاز لأنه مأذون فيه في الجملة(3/186)
(مسألة) (ومن قدر على السعي لزمه ذلك إذا كان في وقت المسير ووجد طريقاً آمناً لا خفارة فيه يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد، وعنه أن إمكان المسير وتخلية الطريق من شرائط الوجوب.
وقال ابن حامد إن كانت الخفارة لا تجحف بماله لزمه بذلها) متى كملت الشروط المذكورة وجب على الحج على الفور لما ذكرناه ولزمه السعي إليه لأن مالا يتم الواجب إلا به واجب، ولأنه سعي إلى فريضة فكان واجباً كالسعي إلى الجمعة، وإنما يجب عليه السعي إذا كان في وقت المسير وهو كون الوقت متسعاً يمكنه الخروج فيه إليه وأمكنه المسير إليه بما جرت به العادة فلو أمكنه بأن يسير سيراً يجاوز العادة لم يلزمه السعي، ويشترط أن يجد طريقا مسلوكة لامانع فيها بعيدة كانت أو قريبة، براً كان أو بحراً إذا كان الغالب فيها السلامة، فإن لم يكن الغالب منه السلامة لم يلزمه سلوكه، فان كان في الطريق عدو يطلب خفارة لم يلزمه سلوكه ويسقط عنه السعي بسيره كانت أو كثيرة، ذكره القاضي لأنها رشوة فلم يلزمه بذلها في العبادة كالكثيرة وقال ابن حامد: إن كان ذلك مما لا يجحف بماله لزمه الحج لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وعلف البهائم، ويشترط أن يكون الطريق آمناً، فإن كان مخوفاً لم يلزمه سلوكه لأن فيه تغريراً بنفسه وماله، ويشترط أن يوجد فيه الماء والعلف كما جرت به العادة بحيث يوجد الماء وعلف البهائم في المنازل التي ينزلها على حسب العادة ولا يلزمه حمله من بلده ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ونحوها لأن هذا يشق ولم تجر العادة به، ولا يتمكن من حمل الماء والعلف لبهائمه في جميع الطريق بخلاف زاد نفسه فإنه يمكنه حمله
(فصل) واختلفت الرواية في إمكان المسير وتخلية الطريق فروي أنهما من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونهما لأن الله سبحانه وتعالى إنما فرض الحج على المستطيع وهذا غير مستطيع، ولأن هذا يتعذر معه فعل الحج فكان شرطاً كالزاد والراحلة وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروي أنهما من شرائط لزوم الأداء فلو كملت الشروط الخمسة ثم مات قبل وجود هذين الشرطين حج عنه بعد موته، وإن اعسر بعد وجودهما بقي في ذمته وهو ظاهر كلام الخرقي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل ما يوجب الحج؟ قال " الزاد والراحلة " حديث حسن، ولأنه عذر يمنع نفس الأداء فلم يمنع الوجوب كالعضب، ولأن إمكان الأداء ليس بشرط في وجوب العبادات بدليل مالو طهرت الحائض أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن أداؤها فيه، والاستطاعة مفسرة بالزاد والراحلة في الحديث فيجب المصير إليه، والفرق بين هذين وبين الزاد والراحلة أنه يتعذر مع فقدهما الأداء دون القضاء وفقد الزاد والراحلة يتعذر مع الجميع(3/187)
(مسألة) (ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة) وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج ولم يحج وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر سواء فاته بتفريطه أو بغير تفريطه وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يسقط بالموت فإن وصى بها فهي من الثلث لأنه عبادة بدنية فسقط بالموت كالصلاة ولنا ماروى ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال " حجي عن أبيك " وعنه أن إمرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال " ارأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ " قال نعم قال " فاقضوا الله فهو أحق بالقضاء " رواهما النسائي ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين وبهذا فارق الصلاة فإنها لا تدخلها النيابة والعمرة كالحج فميا ذكرنا إذا قلنا بوجوبها ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله لأنه دين مستقر فكان من جميع المال كالدين الآدمي (فصل) ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه
وبهذا قال الحسن ومالك واسحاق في النذر وقال عطاء في الناذر إن لم يكن نوى مكاناً فمن ميقاته واختاره ابن المنذر وقال الشافعي فيمن عليه حجة الإسلام يستأجر من يحج عنه من الميقات لأن الإحرام لا يجب من دونه ولنا أن الحج وجب عليه من بلده فوجب أن ينوب عنه منه لأن القضاء يكون على صفة الأداء كقضاء الصلاة والصوم كذلك الحكم في حج النذر والقضاء فياسا عليه فإن كان له وطنان استنيب من أقربهما فإن وجب عليه الحج بخراسان فمات ببغداد وبالعكس فقال أحمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين لأنه لو كان حياً في أقرب المكانين لم يجب عليه الحج من أبعد منه فكذلك نائبه فإن حج عنه من دون ذلك فقال القاضي إن كان دون مسافة القصر اجزأه لأنه في حكم القريب وإلا لم يجزئه لأنه لم يؤد الواجب بكماله ويحتمل أن يحزئه ويكون مسيئاً كمن وجب عليه الإحرام من الميقات فأحرم من دونه والله أعلم (فصل) فإن خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات لأنه أسقط بعض ما وجب عليه فلم يجب ثانياً وكذلك إن مات نائبه فاستنيب من حيث مات كذلك ولو أحرم بالحج ثم مات صحت النيابة عنه فما بقي من النسك سواء كان إحرامه لنفسه أو غيره نص عليه لأنها عبادة تدخلها النيابة فإذا مات بعد فعل بعضها قضي عنه باقيها كالزكاة (مسألة) (فإن ضاق ماله عن ذلك أو كان عليه دين أخذ للحج بحصته وحج به من حيث يبلغ)(3/188)
إذا لم يخلف الميت ما يكفي للحج من بلده حج عنه من حيث يبلغ، وان كان عليه دين لآدمي تحاصا ويؤخذ للحج بحصته فيحج بها من حيث يبلغ) قال الامام أحمد في رجل أوصى أن يحج عنه ولا يبلغ النفقة قال يحج عنه من حيث تبلغ النفقة للراكب من غير مدينته وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتموا منه ما استطعتم " ولأنه قدر على اداء بعض الواجب فلزمه كالزكاة، وعن أحمد ما يدل على أن الحج يسقط لأنه قال في رجل أوصى بحجة واجبة ولم يخلف ما يتم به حجة هل يحج عنه من المدينة أو من حيث تتم الحجة فقال: ما يكون
الحج عندي إلا من حيث وجب عليه وهذا تنبيه على سقوطه عمن عليه دين لا تفي تركته به وبالحج فإنه إذا أسقطه مع عدم المعارض فمع المعارضة بحق الآدمي المؤكد أولى، ويحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجهاً واحداً لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده وخفة حق الله تعالى مع عدم إمكانه على الوجه الواجب (مسألة) (فإن وصى بحج تطوع ولم يف ثلثه بالحج من بلده حج به من حيث يبلغ، أو يعان به في الحج نص عليه) وقال التطوع ما يبالي من حيث كان ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد إلا أن يرضي الورثة بزيادة أو يكون قد أوصى بشئ فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث (فصل) ويستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا رزين فقال " حج عن أبيك واعتمر " وسألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال " حجي عن أبيك " ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما.
نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر لما روى أبو هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أبوك " متفق عليه وإن كان الحج واجباً على الأب دونها بدأ به لأنه واجب فكان أولى من التطوع، وقد روى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حج الرجل عن والديه تقبل منه ومنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله براً " وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً بعث يوم القيامة مع الأبرار " وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج عن أبيه أو أمه فقد قضى عنه حجته وكان له فضل عشر حجج " رواهن الدارقطني(3/189)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله: ويشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح إذا كان بالغاً عاقلا، وعن أن المحرم من شرائط لزوم الأداء
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في وجود المحرم في حق المرأة فروي عنه أن الحج لا يجب على المرأة إذا لم تجد محرماً وهذا ظاهر كلام الخرقي وقال أبو داود قلت لأحمد امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل وجب عليها الحج؟ قال لا وقال المحرم من السبيل.
وهذا قول الحسن والنخعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر وروي عنه أنه من شرائط لزوم السعي دون الوجوب فعلى هذه الرواية متى كملت لها الشرائط الخمس وفاتها الحج بموت أو مرض لا يرجى برؤه أخرج عنها حجة لأن شروط الحج المختصة بها قد كملت وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير وعنه رواية ثالثة أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب قال الأثرم سمعت احمد يسئل هل يكون الرجل محرماً لأم امرأته يخرجها إلى الحج فقال أما في حجة الفريضة فأرجو لأنها تخرج إليها مع نساء ومع كل من أمنته وأما في غيرها فلا، والمذهب الأول وقال ابن سيرين ومالك والاوزاعي والشافعي ليس المحرم شرطاً في حجها بحال قال ابن سيرين تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به، وقال مالك تخرج مع جماعة النساء، وقال الشافعي تخرج مع حرة مسلمة ثقة، وقال الأوزاعي تخرج مع قوم عدول تتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل إلا أن يأخذ برأس البعير وتضع رجله على ذراعه قال إبن(3/190)
المنذر تركوا القول بظاهر الحديث واشترط كل واحد منهم شرطاً لا حجة معه عليه واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، وقال لعدي بن حاتم يوشك أن تخرج الظعينة تؤم البيت لاجوار معها لا تخاف إلا الله ولأنه سفر واجب فلم يشترط له المحرم كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار.
ولنا ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو محرم " وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم " فقام رجل فقال يارسول الله إني كنت في غزوة كذا وانطلقت امرأتي حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق فاحجج مع امرأتك " متفق عليهما وروى ابن عمر وأبو سعيد رضي الله عنه نحوا من حديث أبي هريرة قال أبو عبد الله أما أبو هريرة فيقول يوم وليلة ويروى عن أبي هريرة
لا تسافر سفراً أيضاً، وأما حديث أبي سعيد فيقول ثلاثة أيام قلت ما تقول أنت؟ قال لا تسافر سفراً قليلاً ولا كثيراً إلا مع ذي محرم.
وروى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لاتحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم " وهذا نص صريح في الحكم ولأنها أنشأت سفراً في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع وحديثهم محمول على الرجل بدليل أنهم شرطوا خروج غيرها معها فجعل ذلك الغير المحرم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا أولى مما اشترطوه بالتحكم من غير دليل ويحتمل(3/191)
أنه أراد أن الزاد والراحلة توجب الحج مع كمال بقية الشروط ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان المسير وقضاء الدين ونفقة العيال واشترط مالك إمكان الثبوت على الراحلة وهي غير مذكورة في الحديث واشترط كل واحد منهم شرطاً في محل النزاع من عند نفسه لامن كتاب ولا سنة فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاشتراط ولو قدر التعارض فحديثنا أصح وأخص وأولى بالتقديم وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه ولذلك لم يجزه في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها، وأما الأسيرة إذا تخلصت من أيدي الكفار فإن سفرها سفر ضرورة لا يقاس عليه حالة الاختيار ولذلك تخرج فيه وحدها ولأنها تدفع ضرراً متيقناً بتحمل الضرر المتوهم فلا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً.
(فصل) والمحرم زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح كابنها وأبيها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها لما روى أبو سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها " رواه مسلم وكذلك من تحرم عليه بالمصاهرة بسبب مباح لأنها محرمة عليه على التأبيد أشبه التحريم بالنسب قال أحمد ويكون زوج أم المرأة محرماً لها يحج بها ويسافر الرجل مع أم ولد جده وإذا كان أخوها من الرضاعة خرجت معه وقال في أم امرأته يكون محرماً لها في الفرض دون غيره.
قال الأثرم كأنه ذهب إلى أنها لم تذكر في قوله تعالى (ولا يبدين زينتهم) الآية فأما من تحل(3/192)
له في حال كزوج أختها فليس بمحرم لها نص عليه لأنه ليس بحرام عليها على التأبيد ولا يباح له النظر إليها وليس العبد محرماً لسيدته نص عليه أحمد، وقال الشافعي هو محرم لها وحكاه بعض اصحابنا عن أحمد لأنه يباح له النظر إليها فكان محرماً لها كذي رحمها ولنا ما روى سعيد في سننه بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال " سفر المرأة مع عبدها ضيعة " ولأنه غير مأمون عليها ولا تحرم عليه على التأبيد أشبه الأجنبي وقياسه على ذي الرحم لا يصح لأنه مأمون عليها بخلاف العبد ولا يلزم من إباحة النظر إليها أن يكون محرما فإنه يجوز النظر إلى القواعد من النساء ويجوز لغير أولي الإربة النظر إلى الأجنبية وليس محرماً لها.
(فصل) وأما الموطوءة بشبهة والمزني بها وابنتها فليس بمحرم لهما وعنه أنه محرم والأول أولى لأن تحريمها بسبب غير مباح فلم يثبت به حكم المحرمية كالتحريم الثابت باللعان وليس له الخلوة بهما والنظر إليهما لذلك، والكافر ليس بمحرم للمسلمة وإن كانت ابنته.
قال الامام أحمد في يهودي أو نصراني أسلمت ابنته لا يزوجها ولا يسافر بها ليس هو لها بمحرم، وقال أبو حنيفة والشافعي هو محرم لها لأنها محرمة عليه على التأبيد ولنا أن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها فوجب أن لا يثبت لكافر على مسلمة كالحضانة للطفل ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل وما ذكروه يبطل بالمحرمة باللعان وبالمجوسي مع ابنته، ولا ينبغي أن يكون في المجوسي خلاف لأنه لا يؤمن عليها ويعتقد حلها، نص عليه أحمد في المحرم،(3/193)
ويشترط في المحرم أن يكون بالغاً عاقلاً قيل لأحمد فيكون الصبي محرماً؟ قال لا حتى يحتلم لأنه لا يقوم بنفسه فكيف تخرج معه امرأة وذلك لأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل ذلك من غير البالغ لأنه يحتاج إلى حفظ فلا يقدر على حفظ غيره (فصل) ونفقة المحرم في الحج عليها نص عليه أحمد لأنه من سبيلها فكان عليها نفقته كالراحلة فعلى هذا يعتبر في استطاعتها أن تملك زاداً وراحلة لها ولمحرمها، فإن امتنع محرمها من الحج معها
مع بذلها له نفقته فهي كمن لا محرم لها، وهل يلزمه إجابتها إلى ذلك على روايتين، والصحيح أنه لا يلزمه لأن في الحج مشقة شديدة وكلفة عظيمة فلا يلزم أحداً لأجل غيره كما لم يلزمه أن يحج عنها إذا كانت مريضة (مسألة) (فإن مات المحرم في الطريق مضت في حجها ولم تصر محصرة)(3/194)
إذا مات محرم المرأة في الطريق فقال الإمام أحمد رحمه الله إذا تباعدت مضت فقضت الحج(3/195)
خاصة فهو آكد ثم قال بدلها من أن ترجع وهذا لابد لها من السفر بغير محرم فمضيها إلى قضاء حجتها(3/196)
أولى، لكن إن كان حجها تطوعاً وأمكنها الإقامة ببلد فهو أولى من السفر بغير محرم، وإن مات وهي قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها لأنها في حكم المقيم(3/197)
(مسألة) (ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره ولا نذره ولا نافلة فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام، وعنه يقع ما نواه) وجملة ذلك أنه ليس لمن لم يحج حجة الإسلام إن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الاسلام، وبهذا قال الأوزاعي والشافعي واسحاق، وقال أبو بكر عبد العزيز يقع الحج باطلاً ولا يصح عنه ولا عن غيره وروي ذلك عن ابن عباس، لأنه لما كان من شرط طواف الزيارة تعيين النية فمتى نواه لغيره لم يقع عن نفسه، ولهذا لو طاف حاملاً لغيره ولم ينوه لنفسه لم يقع عن نفسه، وقال الحسن وابراهيم وأيوب السختياني وجعفر بن محمد ومالك وأبو حنيفة يجوز أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه، وعن أحمد مثل ذلك، وقال الثوري إن كان يقدر على الحج عن نفسه حج عن نفسه، وإن لم يقدر حج عن غيره، واحتجوا بأن الحج مما تدخله النيابة فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يؤد فرضه عن نفسه كالزكاة
ولنا ماروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة؟ " قال قريب لي، قال " هل حججت قط؟ " قال لا، قال " فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة " وراه الامام أحمد وأبو داود وابن ماجة وهذا لفظه، ولأنه حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبياً، ويفارق الزكاة فإنه يجوز أن ينوب عن الغير وقد بقي عليه بعضها وههنا لا يجوز أن ينوب عن الغير من شرع في الحج قبل إتمامه ولا يطوف عن نفسه(3/198)
(فصل) فإن أحرم بالمنذورة من عليه حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام لأنها آكد وعنه يقع عن المنذورة لقوله صلى الله عليه وسلم " وإنما لكل امرئ ما نوى " فإذا قلنا يقع عن حجة الإسلام بقيت المنذورة في ذمته ولم تسقط عنه نص عليه أحمد وهذا قول ابن عمر وأنس وعطاء لأنها حجة واحدة فلم تجزئ عن حجتين كما لو نذر حجتين فحج واحدة، وقد نقل أبو الخطاب عن أحمد فيمن نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فاحرم عن النذر وقعت عن المفروضة ولا يجب عليه شئ آخر وصار كمن نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في يوم من رمضان فنواه عن فرضه ونذره فإنه يجزئه في رواية ذكره الخرقي(3/199)
وهذا قول ابن عباس وعكرمة رواه سعيد بن منصور عنهما، وروي أن عكرمة سئل عن ذلك فقال: تقضى حجته عن نذره وعن حجة الإسلام ارأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه منهما؟ قال وذكرت ذلك لابن عباس فقال أصبت أو أحسنت (فصل) فإن أحرم يتطوع، أو نذر من عليه حجة الإسلام وقع عن حجة الاسلام، وبه قال ابن عمر وأنس والشافعي، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق وابن المنذر يقع مانواه وهي رواية عن أحمد وقول ابي بكر لما تقدم(3/200)
ولنا أنه أحرم بالحج وعليه فريضة فوقع عن فرضه كالمطلق، ولو أحرم بتطوع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة لأنها واجبة أشبهت حجة الإسلام والعمرة كالحج فيما ذكرنا لأنها أحد النسكين
أشبهت الآخر والنائب كالمنوب عنه في هذا، فمتى أحرم النائب بتطوع أو نذر عمن لم يحج حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام سواء حج عن ميت أو حي لأن النائب يجري مجرى المنوب عنه، وإن استناب رجلين في حجة الإسلام ومنذور أو تطوع فأيهما سبق بالإحرام وقعت حجته عن حجة الإسلام ممن هي فكذلك من نائبه(3/201)
(فصل) وإذا كان الرجل قد أسقط فرض أحد النسكين عنه جاز أن ينوب عن غيره فيه دون الآخر، وليس للصبي والعبد أن ينوبا في الحج عن غيرهما لأنهما لم يسقطا عن أنفسهما فهما كالحر البالغ في ذلك، ويحتمل أن لهما النيابة في حج التطوع دون الفرض لأنهما من اهل التطوع دون الفرض ولا يمكن أن تقع الحجة التي نابا فيها عن فرضهما لكونهما ليسا من أهله فبقيت لمن فعلت عنه (مسألة) (وهل يجوز لمن يقدر على الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع على روايتين الاستنابة في حج التطوع تنقسم إلى ثلاثة أقسام(3/202)
(أحدها) أن يكون ممن لم يؤد حجة الإسلام فلا يصح أن يستنيب في حج التطوع لأنه لا يصح أن يفعله بنفسه فبنائبه أولى (الثاني) أن يكون ممن قد أدى حجة الإسلام وهو عاجز عن الحج بنفسه فيجوز أن يستنيب في التطوع، فإن ما جازت الاستنابة في فرضه جازت في نفله كالصدقة(3/203)
(الثالث) أن يكون قادراً على الحج وقد أسقط فرضه ففيه روايتان (إحداهما) يجوز وهو قول أبي حنيفة لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب (والثانية) لا يجوز وهو مذهب الشافعي لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض(3/204)
(فصل) فإن عجز عنه عجزاً مرجو الزوال كالمريض الذي يرجى برؤه والمحبوس جاز أن
يستنيب فيه لأنه حج لا يلزمه عجز عن فعله بنفسه فجاز أن يستنيب فيه كالشيخ الكبير والفرق بينه وبين(3/205)
الفرض أن الفرض عبادة العمر فلا يفوت بتأخيره عن هذا العام والتطوع مشروع في كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره، ولأن حج الفرض إذا مات قبل فعله فعل عنه بعد موته بخلاف التطوع (باب المواقيت) (مسألة) (ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة وأهل اليمن يلملم وأهل نجد قرن وأهل المشرق ذات عرق)(3/206)
للحج ميقاتان ميقات زمان وميقات مكان فأما مواقيت المكان فهي الخمسة المذكورة، وقد أجمع أهل العلم على أربعة منها وهي ذوالحليفة والجحفة وقرن ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن النبي (ص) فيها، فروى ابن عباس رضي الله عنه قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الحجفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم قال " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة " فمن كان دونهن مهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها، وعن ابن عمر رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن " قال ابن عمر وذكر لي ولم اسمعه أنه قال وأهل اليمن من يلملم، متفق عليهما، وذات عرق ميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي، قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات، وقد روي عن أنس رض الله عنه أنه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر، وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة، وروي ذلك عن حصين والقاسم بن عبد الرحمن وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق.
قال الترمذي هو حديث حسن.
قال ابن عبد البر: هو أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم بإجماع، واختلف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق، فروى أبو داود والنسائي وغيرهما بإسنادهم عن عائشة(3/207)
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق وعن أبي الزبير أنه سمع جابراً سئل عن المهل فقال سمعته أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الأخرى من الجحفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن " رواه مسلم وقال قوم آخرون إنما وقتها عمر رضي الله عنه فروى البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما فتح هذان المصران أتو عمر رضي الله عنه فقالوا يا أمير المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا وإنا إن أردنا قرنا شق علينا قال انظروا حذوها من طريقكم، فحدلهم ذات عرق، ويجوز أن يكون عمر ومن سأله لم يعلموا توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق فقال ذلك برأيه فأصاب ماوقته النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان موفقاً للصواب رضي الله عنه وإذا ثبت توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر فالإحرام منه أولى (فصل) وإذا كان الميقات قرية فانتقلت الى مكان آخر فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية لأن الحكم تعلق بذلك الموضع فلا يزول بخرابه، وقد رأى سعيد بن جبير رجلاً يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذه حتى خرج من البيوت وقطع الوادي فأتى به المقابر فقال هذه ذات عرق الأولى فهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم وجملة ذلك أن من سلك طريقاً فيها ميقات فهو ميقاته إن أراد الحج أو العمرة فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته وإن حج من اليمن فميقاته يلملم وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق، وهكذا كل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتاً له، سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الشامي يمر بالمدينة يريد الحج من أين يهل قال من ذي الحليفة قيل فإن بعض الناس يقولون يهل(3/208)
من ميقاته من الجحفة فقال سبحان الله أليس يروي ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " وهذا قول الشافعي واسحاق وقال أبو ثور في الشامي يحرم بالمدينة له أن يحرم من الجحفة وهو قول أصحاب الرأي وكانت عائشة رضي الله عنها إذا أرادت الحج
أحرمت من ذي الحليفة وإذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة ولعلهم يحتجون بأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل الشام الجحفة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " ولأنه ميقات فلم يجز تجاوزه بغير إحرام لمن يريد النسك كسائر المواقيت وخبرهم أريد به من لم يمر على ميقات آخر بدليل مالو مر بميقات غير ذي الحليفة لم يجز تجاوزه بغير إحرام بغير خلاف، وقد روى سعيد بن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة والحج والعمرة سواء في هذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة " (فصل) فإن مر من غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة سواء كان شامياً أو مدنياً لما روى أبو الزبير أنه سمع جابراً يسأل عن المهل فقال سمعته أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة " رواه مسلم، ولأنه مر على أحد المواقيت دون غيره فلم يلزمه الإحرام قبله كسائر المواقيت ولعل أبا قتادة حين أحرم أصحابه دونه في قصة صيد الحمار الوحشي إنما ترك الإحرام لأنه لم يمر على ذي الحليفة فأخر إحرامه إلى الجحفة ويمكن حمل حديث عائشة في تأخيرها إحرام العمرة إلى الجحفة على هذا، وأنها لا تمر في طريقها على ذي الحليفة لئلا يكون فعلها مخالفاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسألة) (ومن منزله دون الميقات فميقاته من موضعه يعني إذا كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كان ميقاته سكنه) هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن مجاهد قال يهل من مكة والصحيح الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عباس " فمن كان دونهن مهله من أهله " وهذا صريح فالعمل به أولى (فصل) إذا كان مسكنه قرية فالأفضل أن يحرم من أبعد جانبيها، وإن أحرم من أقرب جانبيها جاز، وهكذا القول في المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت قريبة والحلة كالقرية فيما ذكرنا وإن كان مسكنه منفرداً فميقاته مسكنه أو حذوه وكل ميقات فحذوه بمنزلته، ثم إن كان مسكنه في الحل فإحرامه منه للحج والعمرة معاً، وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل ليجع في النسك
بين الحل والحرم كالمكي، وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم شاء كالمكي(3/209)
(مسألة) (وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل، وإن أرادوا الحج فمن مكة) أهل مكة من كان بها سواء كان مقيماً بها أو غير مقيم لأن كل من أتى على ميقات كان ميقاتاً له لما ذكرنا فكذلك كل من كان بمكة فهي ميقاته للحج، وإن أراد العمرة فمن الحل لا نعلم في هذا خلافا ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يعمر عائشة رضي الله عنها من التنعيم وكانت بمكة يومئذ وهذا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى أهل مكة يهلون منها " يعني للحج، وقال أيضاً " ومن كان أهله دون الميقات فمن حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة " وهذا في الحج فأما في العمرة فميقتاتها في حقهم الحل من أي جوانب الحرم شاء لحديث عائشة رضي الله عنها حين أعمرها من التنعيم وهو أدنى الحل.
قال ابن سيرين: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم، وقال ابن عباس: يا أهل مكة من أتى منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر، يعني إذا أحرم بها من ناحية المزدلفة، وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم فإنه لو أحرم من الحرم لما جمع بينهما فيه لأن أفعال العمرة كلها في الحرم بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة ليجمع له الحل والحرم ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر على قدر تعبها، وأما إذا أراد المكي الإحرام بالحج فمن مكة للخبر المذكور،(3/210)
ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فسخوا الحج أمرهم فأحرموا من مكة، قال جابر رضي الله عنه أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إن نحرم إذا توجهنا من الأبطح، رواه مسلم، وهذا يدل على أنه لا فرق بين قاطني مكة وغيرهم ممن هو بها كالمتمتع إذا حل ومن فسخ حجه بها ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة أنه يهل بالحج من الميقات، فان لم يفعل فعليه دم والصحيح ما ذكرنا أولاً، وقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة،
ويحتمل أن أحمد إنما أراد أن الدم يسقط عنه إذا خرج إلى الميقات فأحرم ولا يسقط إذا أحرم من مكة وهذا في غير المكي، أما المكي فلا يجب عليه دم متعة بحال لقوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وذكر القاضي فيمن دخل مكة يحج عن غيره ثم أراد أن يعتمر بعده لنفسه أو بالعكس، أو دخل بعمرة لنفسه ثم أراد أن يحج أو يعتمر لغيره، أو دخل بعمرة لغيره ثم أراد أن يحج أو يعتمر لنفسه، أنه في جميع ذلك يخرج إلى الميقات فيحرم منه، فان لم يفعل فعليه دم قال: وقد قال الامام أحمد في رواية عبد الله: إذا اعتمر عن غيره ثم أراد الحج لنفسه يخرج إلى الميقات أو اعتمر عن نفسه يخرج إلى الميقات، فإن دخل مكة بغير إحرام ثم أراد الحج يخرج إلى الميقات، واحتج له القاضي بأنه جاوز الميقات مريداً للنسك غير محرم لنفسه فلزمه دم إذا أحرم دونه كمن جاوز(3/211)
الميقات غير محرم، وعلى هذا لو حج عن شخص واعتمر عن آخر أو اعتمر عن إنسان ثم حج أو اعتمر عن آخر فكذلك والذي ذكره شيخنا رحمه الله تعالى أنه لا يلزمه الخروج إلى الميقات في هذا كله وهو ظاهر كلام الخرقي رحمه الله تعالى لما ذكرنا لأن كل من كان بمكة كالقاطن بها وهذا قد حصل بمكة حلالاً على وجه مباح فأشبه المكي وما ذكره القاضي تحكم بغير دليل، والمعنى الذي ذكره لا يصح لوجوه (أحدها) أنه لا يلزم أن يكون مريداً للنسك لنفسه حال مجاوزته الميقات لأنه قد يبدو له بعد ذلك (الثاني) أن هذا لا يتناول من أحرم عن غيره (الثالث) لو وجب بهذا الخروج إلى الميقات لزم المتمتع والمفرد لأنهما جاوزا الميقات غير مريدين للنسك الذي أحرما به (الرابع) أن المعنى في الذي تجاوز الميقات غير محرم أنه فعل مالا يحل له فعله وترك الإحرام الواجب عليه في موضعه فأحرم من دونه (فصل) ومن أي الحرم أحرم بالحج جاز لأن المقصود من الإحرام به الجمع في النسك بين الحل والحرم وهو حاصل بالإحرام من أي موضع كان من الحرم فجاز كما يجوز الإحرام بالعمرة من
أي موضع كان من الحل، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حجة الوداع " إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء، ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت البلدة وغيرها فيه كالنحر(3/212)
(فصل) وإن أحرم بالحج من الحل الذي يلي الموقف فعليه دم لأنه أحرم من دون الميقات وإن أحرم من الجانب الآخر ثم سلك الحرم فلا شئ عليه نص عليه أحمد فيمن أحرم بالحج من التنعيم فقال ليس عليه شئ لأنه أحرم قبل ميقاته فكان كالمحرم قبل بقية المواقيت وإن لم يسلك الحرم فعليه دم لكونه لم يجمع في النسك بين الحل والحرم(3/213)
(مسألة) (ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم) ومن سلك طريقاً بين ميقاتين اجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو أقرب إلى طريقه لأن أهل العراق قالوا لعمر رضي الله عنه إن قرنا جور على طريقنا قال انظروا حذوها من طريقكم، فوقت لهم ذات عرق ولأن هذا مما يعرف بالاجتهاد والتقدير فإن اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة وإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه احتاط فأحرم من بعد بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا محرماً لأن الإحرام قبل الميقات جائز وتأخيره عنه غير جائز فالاحتياط فعل ما ذكرنا ولا يلزمه(3/214)
الإحرام حتى يعلم أنه قد حاذاه لأن الأصل عدم وجوبه فلا يجب بالنسك فإن أحرم ثم علم بعد أنه(3/215)
قد جاوز ما يحاذي الميقات غير محرم فعليه دم وإن شك في أقرب الميقاتين إليه فالحكم فيه كالحكم(3/216)
في المسألة قبلها فإن كانا متساويين في القرب إليه أحرم من حذو أبعدهما (مسألة) (ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام إلا لقتال مباح أو حاجة متكررة كالحطاب ونحوه ثم إن بدا له النسك أحرم من موضعه)
من تجاوز الميقات ممن لا يريد النسك ينقسم قسمين (أحدهما) من لا يريد دخول الحرم فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ولا شئ عليه في تركه فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدراً مرتين وكانوا يسافرون للجهاد وغيره فيمرون بذي الحليفة غير محرمين ولا يرون بذلك بأساً فإن بدا لهذا الإحرام أحرم من موضعه ولا شئ عليه، وهذا ظاهر(3/217)
كلام الخرقي وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وحكى ابن المنذر عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم وبه قال إسحاق لأنه أحرم من دون الميقات فلزمه الدم كالذي يريد دخول الحرم والأول أصح وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم " فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج أو العمرة " ولأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن هذا القول يفضي إلى من كان منزله دون الميقات إذا خرج إلى الميقات ثم عاد إلى منزله وأراد الإحرام لزمه الخروج إلى الميقات ولا قائل به ولأنه مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن كان منزله دون الميقات فمهله من أهله " (القسم الثاني) من يريد دخول الحرم إلى مكة أو غيرها وهم على ثلاثة أضرب (أحدها) من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة كالحطاب والحشاش وناقل الميرة والفيح ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها فلا إحرام عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة حلالاً وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه ولم يعلم أن أحداً منهم أحرم ولانا لو أوجبنا الإحرام على من يتكرر دخوله أفضى إلى أن يكون في جميع زمنه محرماً فسقط للحرج، وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلا من كان دون الميقات لأنه يجاوز الميقات مريداً للحرم فلم يجز بغير إحرام(3/218)
ولنا ما ذكرنا من النص والمعنى، وقد روى الترمذي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء، وقال حديث حسن صحيح ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات
أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله وفيه من الخلاف ما فيه (الضرب الثاني) من لا يجب عليه الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أسلم بعد تجاوز الميقات أو عتق العبد أو بلغ الصبي وأرادوا الإحرام فإنهم يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم وبه قال عطاء ومالك والثوري والاوزاعي واسحاق وبه قال أصحاب الرأي في الكافر يسلم والصبي يبلغ وقالوا في العبد عليه دم وقال الشافعي في جميعهم على كل واحد منهم دم وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله واختارها أبو بكر، وقال القاضي وهي أصح ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياساً على الكافر يسلم لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه فوجب الدم كالمسلم البالغ العاقل ولنا أنهم احرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام منه فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه لأنه ترك الواجب عليه (الضرب الثالث) المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم، وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم لا يجب الإحرام عليه، وعن أحمد ما يدل على ذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخلها بغير إحرام، ولأنه أحد الحرمين(3/219)
شبه حرم المدينة، ولأن الوجوب من الشارع ولم يرد به إيجاب ذلك على كل داخل فيبقى على الأصل ولنا أنه لو نذر دخولها لزمه الاحرام، ولم لم يكن واجباً لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان إذا ثبت ذلك فمتى أراد الإحرام بعد تجاوز الميقات فالحكم فيه كمن تجاوزه مريد النسك (فصل) ومن دخل الحرم بغير إحرام ممن يريد الإحرام فلا قضاء عليه وهذا قول الشافعي، وقال أبو حنيفة يجب عليه أن يأتي بحج أو عمرة، فإن أتى بحجة الإسلام في سنته أو منذورة أو عمرة أجزأه عن عمرة الدخول استحساناً لأن مروره على الميقات مريداً للحرم يوجب الإحرام، فإذا لم يأت به وجب قضاؤه كالنذر ولنا أنه مشروع لتحية المبقعة فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد فإن قيل تحية المسجد غير واجبة قلنا إلا أن النوافل المرتبات تقضى وإنما سقط القضاء لما ذكرنا فأما أن تجاوز الميقات ورجع قبل دخول الحرم فلا قضاء عليه بغير خلاف سواء أراد النسك أولا
(فصل) ومن كان منزله دون الميقات خارجاً من الحرم فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في الأحوال الثلاث لأن موضعه ميقاته فهو في حقه كالمواقيت لاهل الآفاق (مسألة) (ومن جاوزه مريدا النسك غير محرم رجع من الميقات فأحرم منه، فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع إلى الميقات) وجملته أن من جاوز الميقات مريداً للنسك غير محرم يجب عليه أن يرجع إلى الميقات ليحرم منه إذا أمكنه لأنه واجب أمكنه فعله فلزمه كسائر الواجبات، وسواء تجاوزه عالماً به أو جاهلاً علم تحريم(3/220)
ذلك أو جهله، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا شئ عليه لا نعلم في ذلك خلافاً، وبه قال جابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير والثوري والشافعي لأنه أحرم من الميقات الذي أمر بالإحرام منه فلم يلزمه شئ كما لو لم يتجاوزه، وإن أحرم من دون الميقات فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع، وبه قال مالك وابن المبارك وظاهر مذهب الشافعي أنه إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه إلا أن يكون قد تلبس بشئ من أفعال الحج كالوقوف وطواف القدوم فيستقر الدم عليه، قالوا لأنه حصل محرماً في الميقات قبل التلبس بأفعال الحج فلم يلزمه دم كما لو احرم عنه، وعن أبي حنيفة أن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقد عنه، وعن عطاء والحسن والنخعي لا شئ على من ترك الميقات ولنا ماروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ترك نسكاً فعليه دم " روي موقوفاً ومرفوعاً، ولأنه أحرم دون ميقاته واستقر عليه الدم كما لو لم يرجع أو كما لو طاف عند الشافعي، وكما لو لم يلب عند أبي حنيفة، ولأن الدم وجب بتركه الإحرام من الميقات ولا يزول هذا برجوعه ولا بتلبيته لأن الأصل بقاء ما وجب وفارق ما إذا رجع قبل إحرامه فأحرم منه، فإنه لم يترك الإحرام منه ولم يهتكه (فصل) ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه لم يسقط عنه الدم، وبه قال الشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الثوري وأصحاب الرأي يسقط لأن القضاء واجب
ولنا أنه وجب عليه بموجب هذا الإحرام فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد (فصل) وإن جاوز الميقات غير محرم وخشي إن رجع إلى الميقات فوات الحج جاز أن يحرم من موضعه بغير خلاف نعلمه ويجزئه الحج إلا أنه روي عن سعيد بن جبير، من ترك الميقات فلا حج له: والأول مذهب الجمهور لأنه لو كان من أركان الحج لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف، وإذا أحرم من دون الميقات عند خوف الفوات فعليه دم لا نعلم فيه خلافاً عند من أوجب الإحرام من الميقات لحديث ابن عباس، وإنما أبحنا له الإحرام من موضعه مراعاة لإدراك الحج فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته، ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة أو الخوف من عدو، أو لص، أو مرض، أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع فهو كالخائف الفوات في أنه يحرم من موضعه وعليه دم (مسألة) والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته ولا يحرم بالحج قبل أشهره فإن فعل فهو محرم)(3/221)
الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله روي نحو ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وعطاء ومالك واسحاق، وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده، وعن الشافعي كالمذهبين، وكان علقمة والاسود وعبد الرحمن يحرمون من بيوتهم، واحتجوا بما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة " شك عبد الله أيتهما قال رواه أبو داود، وأحرم ابن عمر من إيلياء، وروى النسائي وأبو داود بإسنادهما عن الضبي بن معبد قال: أهللت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما فقال أحدهما: ما هذا بأفقه من بعيره فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال لي: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وهذا إحرام به قبل الميقات، وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) إنما هو أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل (1) فإن قيل إنما فعل
ليبين الجواز قلنا قد حصل بيان الجواز بقوله كما في سائر المواقيت، ثم لو كان كذلك لكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحرمون من بيوتهم ولما تواطؤا على ترك الأفضل واختيار الأدنى وهم أفضل الخلق ولهم من الحرص على الفضائل والدرجات مالهم، وروى أبو يعلى الموصلي بإسناده عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستمتع أحدكم بحله ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه " وروى الحسن أن عمران بن حصين أحرم من مصره فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره، وقال أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه فيما صنع وكرهه له، رواهما سعيد والاثرم، وقال البخاري كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره، ولأنه تغرير بالإحرام وتعريض لفعل محظوراته وفيه مشقة على النفس فكره كالوصال في الصوم، قال عطاء انظروا هذه المواقيت التي وقت لكم فخذوا برخص الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنباً في إحرامه فيكون أعظم لوزره فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك فأما حديث الإحرام من بيت المقدس ففيه ضعف يرويه ابن أبي فديك ومحمد بن إسحاق وفيهما مقال ويحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس دون غيره ليجمع بين الصلاة في المسجدين في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه ولم يكن يحرم من غيره إلا من الميقات، وقول عمر رضي الله عنه للضبي:(3/222)
هديت لسنة نبيك يعني في الجمع بين الحج والعمرة لا في الإحرام من قبل الميقات، فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام من الميقات بين ذلك بفعله وقوله، وقد تبين أنه لم يرد ذلك بإنكاره على عمران بن حصين حين أحرم من مصره، وأما قول عمر وعلي رضي الله عنهما فإنما قالا إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك، يعني أن تنشي، لها سفراً من بلدك تقصد له ليس أن تحرم بها من أهلك، قال أحمد كان سفيان يفسره بهذا، وكذلك فسره به أحمد ولا يصح إن يفسر بنفس الإحرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم، وقد أمرهم سبحانه بإتمام العمرة، فلو حمل قولهم على ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تاركين الأمر، ثم أن عمر وعلياً ما كانا يحرمان إلا من الميقات افتراهما يريان أن ذلك ليس
بإتمام لها ويفعلانه؟ هذا لا ينبغي أن يتوهمه أحد، ولذلك أنكر عمر على عمران إحرامه من مصره واشتد عليه وكره أن يتسامع الناس مخافة أن يؤخذ به افتراه كره إتمام العمرة واشتد عليه أن يأخذ الناس بالأفضل؟ هذا لا يجوز فتعين حمل قولهما على ما حمله عليه الأئمة (فصل) ويكره الإحرام بالحج قبل أشهره بغير خلاف علمناه لكونه إحراماً به قبل وقته فأشبه الإحرام به قبل ميقاته بل الكراهة هنا أشد لأن في صحته اختلافاً فإن أحرم بالحج قبل ميقات المكان صح إحرامه بغير خلاف علمناه إلا أنه يكره ذلك وقد ذكرناه وإن أحرم به قبل أشهره صح أيضاً إذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج نص عليه أحمد في رواية جماعة، وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك واسحاق، وقال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي يجعله عمرة وذكر القاضي في الشرح رواية مثل ذلك واختارها ابن حامد لقول الله تعالى (الحج أشهر معلومات) تقديره وقت الحج أو أشهر الحج من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإذا ثبت أنه وقته لم يصح تقديمه عليه كأوقات الصلوات ولنا قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) يدل على أن جميع الأشهر ميقات (1) ولأنه أحد النسكين فجاز الإحرام به في جميع السنة كالعمرة وأحد الميقاتين فصح الإحرام قبله كميقات المكان والآية محمولة على أن الإحرام به إنما يستحب فيها (مسألة) (وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهو ميقات الزمان للحج) هذا قول ابن مسعود وابن عمر وابن الزبير وعطاء ومجاهد والحسن والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي وروي عن عمر وابنه وابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقول مالك لأن أقل الجمع ثلاثة، وقال الشافعي آخر أشهر الحج ليلة النحر وليس(3/223)
يوم النحر منها لقوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " يوم الحج الأكبر يوم النحر " رواه أبو داود فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره؟ ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولأن يوم النحر فيه ركن الحج وهو طواف
الزيارة وفيه رمي جمرة العقبة والحلق والنحر والسعي والرجوع إلى منى وما بعده ليس من أشهره لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه (1) فهو كالمحرم ولا يمنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث فقد قال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والقروء الطهر عند مالك ولو طلقها في طهر احتسبت بنفسه وبقول العرب ثلاث خلون من ذي الحجة وهم في الثالثة وقوله تعالى (فرض فيهن الحج) أي في أكثرهن والله تعالى أعلم (فصل) فأما العمرة فكل الزمان ميقات لها ولا يكره الإحرام بها في يوم النحر وعرفة وأيام التشريق في أشهر الروايتين وعنه يكره وبه قال أبو حنيفة ولنا أنه زمان لإحرام الحج فلم يكره فيه إحرام العمرة كغيره (باب الإحرام) (مسألة) (يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويلبس ثوبين أبيضين نظيفين ازارا أو رداء ويتجرد عن المخيط)(3/224)
يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبله وهو قول طاوس والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس ذلك واجباً في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال: إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكر، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة من ترك الاغتسال عند الإحرام فعليه دم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء " اغتسلي فكيف الطاهر؟ فأظهر التعجب من هذا القول، وكان ابن عمر يغتسل أحياناً ويتوضأ أحياناً وأي ذلك فعل أجزأه ولا أوجب (1) الاغتسال ولا أمر به إلا لحائض أو نفساء، ولو كان واجباً لأمر به غيرهما، ولأنه لأمر مستقبل فأشبه غسل الجمعة، فان لم يجد ماء، فقال القاضي يتيمم لأنه غسل
مشروع فناب التيمم عنه كالواجب، والصحيح أنه غير مسنون لأنه غسل غير واجب فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة وما ذكره منتقض بغسل الجمعة، والفرق بين الواجب والمسنون أن(3/225)
الواجب شرع لإباحة الصلاة والتيمم يقوم مقامه في ذلك، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يحصل شعثاً وتغبيراً، ولذلك افترقا في الطهارة الصفرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح (فصل) ويستحب للمرأة الغسل كالرجل وإن كانت حائضاً أو نفساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل رواه مسلم، وأمر عائشة أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض.
فإن رجت الحائض أو النفساء الطهر قبل الخروج من الميقات استحب لهما تأخير الاغتسال حتى يطهرا ليكون أكمل لهما وإلا اغتسلتا لما ذكرناه (فصل) ويستحب التنظيف بازالة الشعر وقطع الرائحة ونتف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظفار وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة، ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وتقليم الأظفار فاستحب له فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه (فصل) ويستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما تبقى عينه كالمسك(3/226)
أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأم حبيبة ومعاوية رضي الله عنهم وروي عن ابن الحنفية وأبي سعيد وعروة والقاسم والشعبي وابن جريج.
وكان عطاء يكره ذلك، وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم وإحتج مالك بما روى يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم يعني ساعة ثم قال " اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع من استدامته كاللبس
ولنا قول عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت.
وقالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
متفق عليه وفي لفظ لمسلم طيبته بأطيب الطيب وقالت بطيب فيه مسك وحديثهم في بعض ألفاظه عليه جبة بها أثر الخلوق رواه مسلم وفي بعضها وهو متضمخ بالخلوق وفي بعضها عليه ردع من زعفران وهذا يدل على أن طيب الرجل كان من الزعفران وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل ولأن حديثهم في سنة ثمان وحديثنا في سنة عشر قال ابن(3/227)
جريج كان شأن صاحب الجبة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام خيبر بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك أن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل فقد روى محمد بن المنتشر قال سألت ابن عمر عن الطيب عند الإحرام فقال لأن أطلي بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال فذكرت ذلك لعائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيباً فإذا صار الخبر حجة على من احتج به فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة على ابن عمر وغيره وقياسهم يبطل بالنكاح فإن الإحرام يمنع ابتداءه دون استدامته (فصل) فإن طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه فليس له لبسه فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذا إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع يفتدي لأنه ابتدأ الطيب وكذا إن تعمد مسه بيده أو نحاه عن موضعه ثم رده إليه فأما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس فسال إلى موضع اخر فلا شئ عليه لأنه ليس من فعله قالت عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيرانا النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا رواه أبو داود(3/228)
(فصل) ويستحب أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين إزارا ورداء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وليحرم
أحدكم في إزار ورداء ونعلين " ويستحب أن يكونا نظيفين إما جديدين أو مفسولين لأنا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه كشاهد الجمعة، والأولى أن يكونا أبيضين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياكم وكفنوا فيها موتاكم " رواه النسائي بمعناه (فصل) ويتجرد عن المخيط إن كان رجلاً، فأما المرأة فلها ليس لبس المخيط في الإحرام لأن المحرم ممنوع من لبسه في شئ من بدنه وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل والبرنس، ولو لبس إزاراً موصلاً، أو اتشح بثوب مخيط كان جائزاً وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى (مسألة) (ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما) المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها وإلا صلى ركعتين تطوعاً وأحرم عقيبهما وهذا قول عطاء وطاوس ومالك والشافعي والثوري وأبي حنيفة واسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وقد روي عن أحمد أن الإحرام عقيب الصلاة وإذا استوت به راحلته وإذا بدأ السير سواء لأن الجميع مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة.
قال الأثرم سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به راحته؟ قال كل ذلك قد جا، في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به راحلته فوسع في ذلك كله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة وروى ابن عباس وأنس رضي الله عنهما نحوه.
رواهن البخاري والأولى الإحرام عقيب الصلاة(3/229)
لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته، ثم خرج فلما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته واسوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به راحلته وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه ناس فقالوا: أهل حين علا البيداء.
رواه أبو داود
والاثرم وهذا لفظه، وهذا فيه بيان وزيادة فتعين حمل الأمر عليه، ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جمعاً بين الأخبار المختلفة وعلى سبيل الاستحباب، وكيفما أحرم جاز.
لا نعلم أحدا خالف في ذلك (مسألة) (وينوي الإحرام بنسك معين ولا ينعقد إلا بالنية) يستحب أن يعين ما يحرم به من الإنساك، وبه قال مالك وقال الشافعي في أحد قوليه الإطلاق أولى لما روي طاوس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجاً ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلوها عمرة ولأن ذلك أحوط لأنه لا يأمن الإحصار أو تعذر فعل الحج فيجعلها عمرة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام بنسك معين فقال " من شاء منكم أن يهل بالحج أو عمرة فليهل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل " والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما أحرموا بمعين لما نذكره إن شاء الله تعالى في الأحاديث الصحيحة، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه في صحبته يطلعون على أحواله ويقتدون به أعلم به من طاوس، ثم إن حديثه مرسل والشافعي لا يحتج بالمراسيل فكيف صار إليه مع مخالفه الروايات الصحيحة المسندة والاحتياط ممكن بأن يجعلها عمرة، فإن شاء كان متمتعاً، وإن شاء أدخل عليها الحج فصار قارناً (فصل) وينوي الإحرام بقلبه ولا ينعقد إلا بالنية لقول البني صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً لما ذكرنا وإن اقتصر على النية كفاه ذلك وهو قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة لا ينعقد بمجرد النية حتى يضاف إليها التلبية أو سوق الهدي لما روى خلاد بن السائب الانصاري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية قال الترمذي هذا حديث حسن ولأنها(3/230)
عبادة ذات تحريم وتحليل فكان لها نطق واجب كالصلاة ولأن الهدي والأضحية لا يجبان بمجرد النية كذلك النسك.
ولنا أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب فلم يكن في أولها كالصيام والخبر المراد به الاستحباب فإن منطوقه رفع الصوت ولا خلاف في عدم وجوبه فما هو من ضرورته أولى ولو وجب النطق لم يلزم كونه شرطاً فأن كثيراً من واجبات الحج غير مشترطه فيه والصلاة في آخرها نطق واجب بخلاف الحج والعمرة وأما الهدي والأضحية فإيجاب مال فهو يشبه النذر بخلاف الحج لأنه عبادة بدنية فعلى هذا لو نطق بغير ما نواه نحو أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس انعقد ما نواه دون ما لفظه به.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على هذا وذلك لأن الواجب النية وعليها الاعتماد واللفظ لا عبرة به فلم يؤثر كما لا يؤثر اختلاف النية فيما يعتبر له اللفظ دون النية فإن لبى أو ساق الهدي من غير نية لم ينعقد إحرامه لأن ما اعتبرت له النية لا ينعقد بدونها كالصوم والصلاة (مسألة) (ويشترط فيقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستي) فإن أراد التمتع قال اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستي وإن أراد الأفراد قال اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني وبشترط.
وإن أراد القران قال اللهم إني أريد الحج والعمرة فيسرهما لي وتقبلهما مني وبشترط.
وهذا الاشتراط مستحب ويفيد هذا الشرط شيئين.
(أحدهما) أنه إذا عاقه عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه أن له التحلل (والثاني) أنه متى حل بذلك فلا شئ عليه وممن رأى الاشتراط في الإحرام عمر وعلي وابن مسعود وعمار رضي الله عنهم وبه قال عبيدة السلماني وعلقمة والاسود وشريح وسعيد بن المسيب وعطاء وعكرمة والشافعي بالعراق وأنكره ابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير والزهري ومالك وأبو حنيفة وعن أبي حنيفة أن الاشتراط يفيد سقوط الدم فأما التحلل فهو ثابت عنده بكل إحصار واحتجوا بأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط ويقول حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولأنها عبادة تجب بأصل الشرع فلم يفد الاشتراط فيها كالصوم والصلاة.
ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت يارسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني " متفق عليه(3/231)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال قولي (لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني.
فإن لك على ربك ما استثنيت) رواه مسلم ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يعارض بقول ابن عمر ولو لم يكن فيه حديث لكان قول الخليفتين الراشدين مع من قد ذكرنا قوله من فقهاء الصحابة أولى من قول ابن عمر إذا ثبت هذا فإن غير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يقوم مقامه لأن المقصود المعنى واللفظ إنما أريد لتأدية المعنى قال إبراهيم خرجنا مع علقمة وهو يريد العمرة فقال اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت وإلا فلا حرج علي.
وكان شريح يقول اللهم قد عرفت نيتي وما أريد فإن كان أمراً تتمه فهو أحب إلي وإلا فلا حرج علي.
وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة قل اللهم إني أريد الحج وإياه نويت فإن تيسر وإلا فعمرة.
فإن نوى الاشتراط ولم يتلفظ به احتمل أن يصح لأنه تابع لعقد الإحرام والإحرام ينعقد بالنية فكذلك تابعه واحتمل أنه لابد من القول لأنه اشتراط فاعتبر فيه القول كالاشتراط في النذر والاعتكاف والوقوف ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس " قولي محلي من الأرض حيث تحبسني " (مسألة) (وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران) لا خلاف بين أهل العلم في جواز الإحرام بأي الإنساك الثلاثة شاء، وقد دل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومن من أهل بحج متفق عليه فذكرت التمتع والقران والإفراد (مسألة) (وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران، وعنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ثم التمتع) أفضل الإنساك التمتع ثم الإفراد ثم القران، وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد وسالم والقاسم وعكرمه وأحد قولي الشافعي، وروى المروذي عن أحمدان ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل(3/232)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه وذهب الثوري وأصحاب الرأي إلى اختيار القران لما روى أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعاً " لبيك عمرة وحجاً " متفق عليه، وحديث الضبي بن معبد حين أحرم بهما فأنى عمر فسأله فقال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وروي عن مروان بن الحكم قال كنت جالساً عند عثمان ابن عفان فسمع علياً يلبي بعمرة وحج فأرسل إليه فقال ألم نكن نهينا عن هذا؟ فقال بلى.
ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعاً فلم أكن أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك رواه سعيد ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة وإحرام بالنسكين من الميقات وفيه زيادة نسك هو الدم فكان أولى، وذهب مالك وأبو ثور إلى اختيار الأفراد وهو ظاهر مذهب الشافعي وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم لما روت عائشة وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج متفق عليهما وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك متفق عليه ولأنه يأتي بالحج تاماً من غير احتياج إلى جبر فكان أولى قال عثمان: ألا إن الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم وقال إبراهيم أن أبا بكر وعمر وابن مسعود وعائشة كانوا يجردون الحج ولنا ما روى ابن عباس وجابر وأبو موسى وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه(3/233)
لما طافوا بالبيت أن يحلو ويجعلوها عمرة فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة متفق عليهما ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " قال جابر حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم " حلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة " فقالوا كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به " وفي لفظ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اهديت " فحللنا
وسمعنا وأطعنا متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع وتأسف إذ لم يمكنه ذلك فدل على فضله، ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) دون سائر الانساك ولأن التمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك فكان أولى فأما القرآن فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج وتدخل أفعال العمرة فيه والمفرد إنما يأتي بالحج وجده وإن اعتمر بعده من أدنى الحل فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القارن ولا خلاف في إجزاء عمرة المتمتع فكان أولى فأما حجتهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ففيها أجوبة (أحدها) منع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم محرما بغير التمتع لأمور أولها أن رواة أحاديثهم قد رووا(3/234)
أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج رواه ابن عمر وعائشة وجابر رضي الله عنهم من طرق صحاح فسقط الاحتجاج بها (وثانيها) أن روايتهم اختلفت فرووا مرة أنه أفرد ومرة أنه تمتع ومرة أنه قرن والقضية واحدة ولا يمكن الجمع بينها فوجب اطراح الكل وأحاديثهم في القرآن أصحها حديث أنس وقد أنكره ابن عمر فقال رحم الله انسا ذهل أنس متفق عليه وفي رواية: كان أنس يتولج على النساء أي كان صغيراً وحديث علي رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ابن أبي ليلى وهو كثير الوهم قاله الدارقطني (وثالثها) أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً روى ذلك عمر وعلي وعثمان وسعد ابن أبي وقاص وابن عباس وابن عمر ومعاوية وأبو موسى وجابر وعائشة وحفصة بأحاديث صحاح وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ففي حديث عمر أنه قال إني لا أنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العمرة في الحج وفي حديث علي أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه متفق عليه وللنسائي قال علي لعثمان ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال بلى وعن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وعنه أن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا(3/235)
أحل حتى أنحر متفق عليهما وقال سعد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه وهذه الأحاديث راجحة لأن رواتها أكثر وأعلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمتعة عن نفسه في حديث حفصة فلا يعارض خبره غيره ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالمتعة ثم لم يحل منها لأجل هديه حتى أحرم بالحج فصار قارناً وسماه من سماه مفرداً لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها بعد فراغه من أفعال العمرة فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض (الوجه الثاني) من الجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الافراد والقرآن ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى وهو الداعي إلى الخير الهادي إلى الفضل ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه ولأنه لا يقدر على انتقاله وحله لسوقه وهذا ظاهر الدلالة (الثالث) إن ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحتجون بفعله وعند التعارض يجب تقديم القول لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره كنهيه عن الوصال مع فعله له ونكاحه بغير ولي مع قوله " لا نكاح إلا بولي " فإن قيل فقد قال أبو ذر كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة رواه مسلم قلنا هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير وأعلم أما الكتاب(3/236)
فقوله سبحانه (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) وهذا عام وأجمع المسلمون على إباحة التمتع، وأما السنة فروى سعيد بإسناده أن سراقة بن مالك سأل النبي صلى الله عليه وسلم المتعة لنا خاصة أم هي للأبد؟ قال " بل هي للأبد " وفي لفظ قال هي لعامنا أو للأبد؟ قال " بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ومعناه والله أعلم أن الجاهلية كانوا لا يحيزون التمتع ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور فبين النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وسائر المسلمين قال عمران تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزل فيه القرآن ولم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شئ فقال فيها رجل برأيه ما شاء متفق عليه وقال سعد بن أبي وقاص فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني المتعة وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني الناهي عنها والعرش بيوت مكة قال أحمد حين ذكر له حديث أبي ذر أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله تعالى وقد أجمع المسلمون على جوازها، فإن قيل فقد روى أبو داود أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/237)
ينهى عن العمرة قبل الحج قلنا هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع كحال حديث أبي ذر بل هو أدنى حالا فإن في إسناده مقالاً فإن قيل فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلنا فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها وخالفوهم في فعلها وقد ذكرنا إنكار علي على عثمان واعتراف عثمان له وقول عمران بن حصين منكراً لنهي من نهى وقول سعد عائباً على معاوية نهيه عنها وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم عنها جواب بل ذكر بعض من نهى في كلامه الحجة عليه فقال عمر رضي الله عنه والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله له حقيق بأن لا يقبل نهيه ولا يحتج به مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله بن عمر أنهى عمر عن المتعة؟ قال لا والله ما نهى عنها عمر ولكن قد نهى عنها عثمان ولما نهى معاوية عن المتعة أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها فقال معاوية من هؤلاء فقيل حشم أو موالي عائشة فأرسل إليها ما حملك على ذلك؟ فقالت أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت وقيل لابن عباس أن فلانا نهى عن المتعة قال انظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق فأي الفريقين أحق بالاتباع وأولى بالصواب؟ الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله أم الذين يخالفونهما؟ ثم قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة على الخلق أجمعين فكيف(3/238)
يعارض بقول غيره قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " عروة نهى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم
ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر وسئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقال إنك تخالف أباك فقال: عمر لم يقل الذي تقولون فإذا أكثروا عليه قال فكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟ روى الأثرم هذا كله (مسألة) (وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ويحرم بالحج من مكة أو من قريب منها في عامة، والإفراد أن يحرم بالحج مفرداً والقران أن يحرم بهما جميعاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها) إذا أدخل الحج على العمرة قبل طوافها من غير خوف الفوات جاز وكان قارناً بغير خلاف وقد فعل ذلك ابن عمر ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما بعد الطواف فليس له ذلك ولا يصير قارناً وبهذا قال الشافعي وابو ثور وروي عن عطاء، وقال مالك يصير قارناً وحكي ذلك عن أبي حنيفة لأنه أدخل الحج على إحرام العمرة فصح كما قبل الطواف ولنا أنه قد شرع في التحلل من العمرة فلم يجز إدخال الحج عليها كما بعد السعي (فصل) إلا أن يكون معه هدي فله ذلك لأنه لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقوله سبحانه (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) فلا يتحلل بطوافه ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة لئلا يفوته الحج ويصير قارناً بخلاف غيره (فصل) فأما إدخال العمرة على الحج فلا يجوز وإن فعل لم يصح ولم يصر قارناً روى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال مالك وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة يصح ويصير قارناً لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالآخر ولنا أنه قول علي رضي الله عنه رواه عنه الأثرم ولأن إدخال العمرة على الحج لا يفيد إلا ما أفاده العقد الأول فلم يصح كما لو استأجره على عمل ثم استأجره عليه ثانياً وعكسه إذا أدخل الحج على العمرة (مسألة) (ويجب على المتمتع والقارن دم نسك إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام وهم أهل مكة ومن كان منها دون مسافة القصر)(3/239)
يجب الدم على المتمتع في الجملة بالإجماع قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة
في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها فحج من عامة أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد وإلا فالصيام وقد نص الله سبحانه عليه بقوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية وقال ابن عمر تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ثم ليهل بالحج ويهدي فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه وعن أبي حمزة قال سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها جزور أو بقرة أو شرك في دم متفق عليه (مسألة) (والدم الواجب شاة أو سبع بدنة أو بدنة فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيراً) وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك لا يجزئ إلا بدنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تمتع ساق بدنة والذي ذكره ترك لظاهر القرآن لأنه سبحانه قال (فما استيسر من الهدي) واطراح الآثار الثابتة وما احتجوا به فلا حجة فيه فإن إهداء النبي صلى الله عليه وسلم للبدنة لا يمنع اجزاء ما دونها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق مائة بدنة ولا خلاف في أن ذلك ليس بواجب فلا يجب أن تكون البدنة التي ذبحها على صفة بدن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنهم يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً في حجته ولذلك ذهبوا إلى تفضيل الأفراد فكيف يكون سوقه للبدنة دليلاً لهم في التمتع ولم يكن متمتعاً (فصل) وإنما يجب الدم بشروط خمسة (أولها) أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، فإن أحرم بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً ولا يلزمه دم سواء وقعت أفعالها في أشهر الحج أو في غيره، نص عليه قال الأثرم سمعت أبا عبد الله سئل من أهل بعمرة في غير أشهر الحج ثم قدم في شوال أيحل في عمرته من شوال أو يكون متمتعاً؟ قال لا يكون متمتعاً واحتج بحديث جابر وذكر إسناده عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن امرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى ثم يخلو إلا ليلة واحدة ثم تحيض، قال لتخرج ثم لتهل بعمرة، ثم لتنتظر حتى تطهر، ثم لتطف بالبيت، قال أبو عبد الله فجعل عمرتها في الشهر الذي حلت فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً أن من اعتمر في غير أشهر الحج وفرغ من عمرته قبل أشهر الحج أنه لا يكون متمتعاً إلا قولين شاذين(3/240)
(أحدهما) عن طاوس أنه قال: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى الحج فأنت متمتع (والآخر) عن الحسن أنه قال: من اعتمر بعد النحر فهي متعة، قال إبن المنذر لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين، فأما إن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم حل منها في أشهر الحج فإنه لا يكون متمتعاً على ما ذكرناه عن أحمد، ونقل معنى ذلك عن جابر وأبي عياض وهو قول إسحاق وأحد قولي الشافعي، وقال طاوس عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم، وقال الحسن والحكم وابن شبرمة والثوري والشافي في أحد قوليه عمرته في الشهر الذي يطوف فيه، وقال عطاء عمرته في الشهر الذي يحل فيه وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة إن طاف للعمرة أربعة أشواط في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج فهو متمتع لأن العمرة صحت في أشهر الحج بدليل أنه لو وطئ أفسدها أشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج ولنا ما ذكرناه عن جابر ولأنه أتى بالنسك لا تتم العمرة إلا به في غير أشهر الحج فلم يكن متمتعاً كما لو طاف ويخرج عليه ما قاسوا عليه (الثاني) أن يحج من عامة فإن اعتمر في أشهر الحج فلم يحج ذلك العام بل حج في العام القابل فليس بمتمتع لا نعلم فيه خلافاً إلا قولاً شاذاً عن الحسن فيمن اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع حج أو لم يحج، والجمهور على خلاف هذا لأن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) وهذا يقتضي الموالاة بينهما، ولأنهم إذا اجمعوا على أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم حج من عامه فليس بمتمتع فهذا أولى لأن التباعد بينهما أكثر (الثالث) أن لا يسافر بين العمرة والحج سفراً بعيداً تقصر في مثله الصلاة، نص عليه، وروي ذلك عن عطاء والمغيرة والمديني واسحق، وقال الشافعي إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه، وقال أصحاب الرأي إن رجع من مصره بطلت متعته وإلا فلا، وقال مالك إن رجع إلى مصرة أو إلى غيره أبعد من مصره بطلت متعته وإلا فلا، وقال الحسن هو متمتع وإن رجع إلى بلده، واختاره ابن المنذر لعموم قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية
ولنا ماروي عمر رضي الله عنه أنه قال إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع فإن خرج(3/241)
ورجع فليس بمتمتع وعن ابن عمر نحو ذلك ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزمه الإحرام منه فإن كان بعيداً فقد أنشأ سفرا بعيداً لحجه فلم يترفه بترك أحد السفرين فلم يلزمه دم كموضع الوفاق والآية تناولت المتمتع وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر رضي الله عنه (الرابع) أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج فإن أدخل الحج على العمرة قبل حله منها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصير قارناً ولا يلزمه دم المتعة قالت عائشة رضي الله عنها خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج وعدي العمرة " قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال هذه عمرة مكان عمرتك، قال عروة فقضى الله حجتها وعمرتها ولم يكن في شئ من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة متفق عليه ولكن عليه دم للقران لأنه صار قارناً وترفه بسقوط أحد السفرين، فأما قول عروة لم يكن في ذلك هدي يحتمل أنه أراد لم يكن فيه هدي للمتعة إذ قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة بينهن (الخامس) أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ولا خلاف بين أهل العلم في أن دم المتعة لا يجب على حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) والمعنى في ذلك إن حاضر المسجد الحرام ميقاته مكة ولا يحصل له الترفه بترك أحد السفرين ولأنه أحرم من ميقاته أشبه المفرد.
(فصل) وحاضرو المسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر نص عليه أحمد وروي ذلك عن عطاء وبه قال الشافعي وقال مالك: هم أهل مكة وقال مجاهد: هم أهل الحرم وروي ذلك عن طاوس وروي عن مكحول وأصحاب الرأي من دون المواقيت لأنه موضع شرع فيه النسك فأشبه الحرم
لونا أن حاضر الشئ من دنا منه ومن دون مسافة القصر قريب من حكم الحاضر بدليل أنه إذا قصده لا يترخص رخص المسافر من الفطر والقصر فيكون من حاضريه، وتحديده بالميقات(3/242)
لا يصح لأنه قد يكون بعيداً يثبت له حكم السفر البعيد إذا قصده ولأن ذلك يفضي إلى جعل البعيد من حاضريه، والقريب من غير حاضريه لتفاوت المواقيت في القرب والبعد واعتباره بما ذكرنا أولى لأن الشارع حد الحاضر دون مسافة القصر بنفي أحكام المسافرين عنه فكان الاعتبار به أولى من الاعتبار بالنسك لوجود لفظ الحضور في الآية (فصل) إذا كان للمتمتع قريتان قريبة وبعيده فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه إذا كان بعض أهله قريباً لم يوجد فيه الشرط وهو أن لا يكون أهله من حاضري المسجد الحرام، ولأن له أن يحرم من القريبة فلم يكن بالتمتع مترفها بترك أحد السفرين، وقال القاضي: له حكم القرية التي يقيم بها أكثر فإن استويا فمن التي ماله بها أكثر؟ فإن استويا فمن التي ينوي الإقامة بها أكثر؟ فإن استويا فله حكم القرية التي أحرم منها وقد ذكرنا دليل ما قلناه (فصل) فإن دخل الآفاقي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد تمتعه فعليه دم المتعة قال إبن المنذر أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولو كان الرجل منشأة بمكة فخرج عنها منتقلاً مقيماً بغيرها ثم عاد إليها متمتعاً ناوياً للإقامة بها أو ناو فعليه دم متعة لأنه خرج بالانتقال عنها عن أن يكون من أهلها وبه قال مالك والشافعي واسحاق وذلك لأن حضور المسجد الحرام إنما حصل بنية الإقامة وفعلها وهذا إنما نوى الإقامة إذا فرغ من أفعال الحج لأنه إذا فرغ من عمرته فهو ناو للخروج إلى الحج فكأنه إنما نوى أن يقيم بعد وجوب الدم عليه فأما إن سافر المكي غير منتقل ثم عاد فاعتمر من الميقات وحج من عامة فلا دم عليه لأنه لم يخرج بذلك عن كون أهله من حاضري المسجد الحرام (فصل) وهذا الشرط الخامس شرط لوجوب الدم عليه وليس بشرط لكونه متمتعاً فإن متعة المكي صحيحة لأن التمتع أحد الإنساك الثلاثة فصح من المكي كالنسكين الآخرين ولأن حقيقة التمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامة وهذا موجود في المكي وقد نقل عن أحمد ليس على
أهل مكة متعة ومعناه ليس عليهم دم متعة لأن المتعة له لا عليه فتعين حمله على ما ذكرناه (فصل) إذا ترك الآفاقي الإحرام من الميقات وأحرم من دونه بعمرة ثم حل منها وأحرم بالحج من مكة من عامه فهو متمتع وعليه دمان دم المتعة ودم لإحرامه من دون الميقات.
قال إبن المنذر(3/243)
وابن عبد البر أجمع العلماء على أن من أحرم في أشهر الحج بعمرة وحل منها ولم يكن من حاضري المسجد ثم أقام بمكة حلالاً ثم حج من عامه أنه متمتع عليه دم.
وقال القاضي إذا تجاوز الميقات حتى صار بينه وبين مكة أقل من مسافة القصر فأحرم منه فلا دم عليه للمتعة لأنه من حاضري المسجد الحرام وليس بجيد فإن حضور المسجد الحرام إنما يحصل بالإقامة به ونية ذلك، وهذا لم تحصل منه الإقامة ولا نيتها ولأن الله تعالى قال (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وهذا يقتضي أن يكون المانع من الدم السكنى به وهذا ليس بساكن، وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم في أشهر الحج وحج من عامه فهو متمتع نص عليه أحمد وعليه دم وفي تنصيصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى، وذكر القاضي شرطاً سادساً لوجوب الدم وهو أن ينوي في ابتداء العمرة وفي أثنائها أنه متمتع وظاهر النص يدل على أن هذا غير مشترط فإنه لم يذكره، وكذلك الإجماع الذي ذكرناه مخالف لهذا القول لأنه قد حصل له الترفه بترك أحد السفرين فلزمه الدم كمن نوى (فصل في وقت وجوب الهدي وذبحه) أما وقت وجوبه فعن أحمد أنه يجب إذا أحرم بالحج وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن الله تعالى قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وعنه أنه يجب الدم إذا وقف بعرفه اختاره القاضي، وهو قول مالك لأن التمتع بالعمرة إلى الحج إنما يحصل بعد وجود الحج منه ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولأنه قبل ذلك بعرض الفوات فلا يحصل التمتع ولأنه لو احرم بالحج ثم أحصر أو فاته الحج لم يلزمه دم المتعة ولا كان متمتعاً ولو وجب الدم لما سقط وقال عطاء: يجب إذا رمى الجمرة.
ونحوه قال أبي الخطاب
قال: يجب إذا طلع الفجر يوم النحر لأنه وقت ذبحه فكان وقت وجوبه، وأما وقت ذبحه فيوم النحر، وبه قال مالك وأبو حنيفة لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز ذبح الأضحية فيه فلا يجوز ذبح الهدي الذي للمتمتع كما قبل التحلل من العمرة، وقال أبو الخطاب: سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ومعه هدي قال ينحر بمكة وإن قدم قبل العشر نحره لا يضيع أو يموت أو(3/244)
يسرق، وكذا قال عطاء: وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى.
ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته وأقام على إحرامه وكان قارنا، وقال الشافعي: يجوز نحره بعد الإحرام بالحج قولاً واحداً وفيما قبل ذلك بعد حله من العمرة احتمالان ووجه جوازه أنه دم يتعلق بالإحرام وينوب عنه الصيام فجاز قبل يوم النحر كدم الطيب ولأنه يجوز إذا بدله قبل يوم النحر فجاز اداؤه قبله كسائر الفديات (فصل) ويجب الدم على القارن في قول عامة أهل العلم ولا نعلم فيه خلافاً الا عن داود لأنه قال لا دم عليه وروي عن طاوس وحكى ابن المنذر إن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن هل يجب عليه دم؟ فقال لا فجروا برحله وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ولنا قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وهذا متمتع بالعمرة إلى الحج بدليل أن عليا لما سمع عثمان ينهى عن المتعة أهل بالعمرة والحج ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه وقال ابن عمر رضي الله عنهما إنما القران لأهل الآفاق وتلا قوله (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرن بين حجته فليهريق دما " ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فأشبه المتمتع فإن عدم الدم فعليه صيام كصيام المتمتع سواء ومن شرط وجوب الدم عليه أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام في قول جمهور العلماء.
وقال ابن الماجشون: عليه دم لأن الله تعالى إنما أسقط الدم عن المتمتع وليس هذا متمتعاً والصحيح الأول فإننا قد ذكرنا أنه متمتع وإن لم يكن متمتعاً فهو فرع عليه ووجوب الدم على القارن إنما كان معنى النص على المتمتع ولا يجوز أن يخالف الفرع عليه
(مسألة) (ومن كان مفرداً أو قارناً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمره لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك إلا أن يكون معه هدي فيكون على إحرامه) إذا كان مع المفرد والقارن هدي فليس له أن يحل من إحرامه ويجعله عمرة بغير خلاف علمناه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس " من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة(3/245)
وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يحل هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه.
فأما من لا هدي معه فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعاً إن لم يكن وقف بعرفة.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل وإن لم ينو ذلك وبهذا الذي ذكرناه قال مجاهد والحسن وداود وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة.
وروى ابن ماجة عن بلال بن الحارث المزني عن أبيه أنه قال يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن يأتي قال " لنا خاصة " وروي أيضاً عن المرقع الأسدي عن أبي ذر رضي الله عنه قال كان ما أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شئ إن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون جميع الناس ولنا أنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي في أحاديث كثيرة متفق عليها بحيث يقرب من المتواتر ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من أهل العلم علمناه.
وذكر أبو حفص في شرحه بإسناده عن إبراهيم الخرقي وقد سئل عن فسخ إلى العمرة فقال قال سلمة بن شبيب لاحمد ابن حنبل يا أبا عبد الله: كل شئ منك حسن جميل إلا خلة واحدة فقال وما هي؟ قال تقول نفسخ الحج قال احمد ما كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج أتركها لقولك، وقد روى فسخ الحج إلى العمرة ابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله
عنهم وأحاديثهم متفق عليها ورواه غيرهم من وجوه صحاح.
قال جابر: أهللنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً وحده وليس معه غيره فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فلما قدمنا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إن نحل قال أحلوا وأصيبوا من النساء قال فبلغه عنا أنا نقول لم يكن بيننا وبين عرفة لا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا بالمني قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي تحللت كما تحلون فحلوا، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اهديت " قال فحللنا وسمعنا وأطعنا، قال فقال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي(3/246)
متعتنا هذه يارسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ فظنه محمد بن أبي بكر أنه قال: للأبد متفق عليه، فأما حديثهم فقال أحمد روى هذا الحديث الحرث بن بلال، فمن الحارث بن بلال؟ يعني أنه مجهول ولم يروه إلا الداروردي، وحديث أبي ذر رواه مرقع الأسدي، فمن مرقع الأسدي؟ شاعر من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر، فقيل له أفليس قد روى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كانت لنا متعة الحج خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفيقول هذا أحد؟ المتعة في كتاب الله؟ وقد أجمع الناس على أنها جائزة، قال الجوزجاني مرقع الأسدي ليس بالمشهور، ومثل هذه الأحاديث في ضعفها وجهالة رواتها لا تقبل إذا انفردت فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه، وقد خالفه من هو أعلم منه، وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يكون حجة، وأما قياسهم فلا يقبل في مقابلة النص الصحيح على أن قياس الحج على العمرة في هذا لا يصح فإنه يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج ومن حصر عن عرفة والعمرة لا تصير حجاً بحال، ولأن فسخ الحج إلى العمرة يصير به متمتعاً فحصل الفضيلة وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة، ولا يلزم من مشروعية ما يحصل الفضيلة مشروعية ما يفوتها (فصل) وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعاً حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره، وقال القاضي لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة أو في انتهائها أنه متمتع، وهذه دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة فإن الله تعالى قال (فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) وفي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدي، ومن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه، ولأن وجوب دم المتعة للترفه بسقوط أحد السفرين، وهذا المعنى لا يختلف بالنية وعدمها فوجب أن لا يختلف في الوجوب على أنه لو ثبت أن النية شرط فقد وجدت فانه ماحل حتى نوى أنه يحل ثم يحرم بالحج (مسألة) ولو ساق المتمتع الهدي لم يكن له أن يحل لقول الله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى(3/247)
يبلغ الهدي محله) ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان معه هدي فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجته متفق عليه وهذا مذهب أبي حنيفة وقال مالك والشافعي في قول: له التحلل وينحر هديه عند المروة ويحتمله كلام الخرقي ولنا ما ذكرنا من الآية وحديث ابن عمر وروت حفصة رضي الله عنها أنها قالت يارسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أغت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " متفق عليه والأحاديث في ذلك كثيرة وعن أحمد فيمن قدم متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي قال: إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي، وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وهذا قول عطاء رواه حنبل في المناسك وقال من لبد أو ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما ذكرنا من الحديث الصحيح وهو أولى بالاتباع (فصل) فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل بكل حال في أشهر الحج وغيرها كان معه هدي أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل فجاج مكة طريق ومنحر " رواه أبو داود وابن ماجة
(مسألة) (والمرأة إذا دخلت متمعة فحاضت فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة) إذا حاضت المتمتعة قبل طواف العمرة لم يكن لها أن تطوف بالبيت لأنه صلاة ولأنها ممنوعة من دخول المسجد ولا يمكنها أن تحل من عمرتها قبل الطواف فإذا خشيت فوات الحج أحرمت بالحج من عمرتها وصارت قارنة، هذا قول مالك والاوزاعي والشافعي وكثير من أهل العلم، وقال أبو حنيفة قد رفضت العمرة وصار حجا وما قال هذا أحد غير أبي حنيفة وحجته ما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت أهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي(3/248)
العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه فقال هذه عمرة مكان عمرتك متفق عليه دليل على أنها رفضت عمرتها وأحرمت بحج من وجوه.
(أحدها) قوله (دعي عمرتك) و (الثاني) قوله (وامتشطي) و (الثالث) قوله (هذه عمرة مكان عمرتك) ولنا ما روى جابر قال: أقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال " ما شأنك؟ " قالت شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج " ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال " قد حللت من حجتك وعمرتك " قالت يارسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى طاوس عن عائشة أنها قالت أهللت بعمرة فقدمت ولم أطف حتى حضت فنسكت المناسك كلها، وقد أهللت بالحج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك " فأبت فبعث معها عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم.
رواهما مسلم وهما يدلان على جميع ما ذكرنا، ولأن إدخال الحج على العمرة جائز بالإجماع من غير خشية الفوات فمع خشيته أولى، وقال
ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لمن أهل بالعمرة أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي في حجة الوداع أن يهل بالحج مع العمرة ومع إمكان الحج مع بقاء العمرة لا يجوز رفضها كغير الحائض، فأما حديث عروة فإن قوله " انقضي رأسك وامتشطي ودعي العمرة " انفرد به عروة وخالف به كل من روي عن عائشة حين حاضت وقد روي ذلك طاوس والقاسم والاسود وغيره عن عائشة فلم يذكروا ذلك، وحديث جابر وطاوس مخالفان لهذه الزيادة(3/249)
وقد روى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة حديث حيضها فقال فيه حدثني غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها " دعي عمرتك، وانقضي رأسك وامتشطي " وذكر تمام الحديث، وهذا يدل على أنه لم يسمع من عائشة هذه الزيادة وهو مع ما ذكرنا من مخالفة بقية الرواة يدل على الوهم مع مخالفتها للكتاب والأصول إذ ليس لنا موضع آخر يجوز فيه رفض العمرة مع إمكان إتمامها، ويحتمل أن قوله " دعي العمرة " أي دعيها بحالها وأهلي بالحج معها أو دعي أفعال العمرة فإنها تدخل في أفعال الحج، فأما العمرة من التنعيم فلم يأمرها بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال " فاذهب بها يا عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم " وروى الأثرم باسناده عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت اعتمرت بعد الحج؟ قالت والله ما كانت عمرة ما كانت إلا زيارة ورب البيت إنما هي مثل نفقتها.
قال أحمد: إنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة حين ألحت عليه فقالت يرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك فقال " يا عبد الرحمن أعمرها " فنظر إلى أدنى الحل فأعمرها منه (مسألة) (ومن أحرم مطلقا صح وله صرفه إلى ما شاء) يصح الإحرام بالنسك المطلق وهو أن لا يعين حجاً ولا عمرة لأنه إذا صح الإحرام مع الإبهام صح مع الإطلاق قياساً عليه، فإذا أحرم مطلقاً فله صرفه إلى ما شاء من الإنساك لأن له أن يبتدئ
الإحرام بأيها شاء فكان له صرف المطلق إلى ذلك.
والأولى صرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع، وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقد قال أحمد يجعله عمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عمرة كذا هذا(3/250)
(مسألة) (وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله) يصح إبهام الإحرام وهو أن يحرم بما أحرم به فلان لما روى أبو موسى رضي الله عنه قال قدمت علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي بما أهللت؟ فقلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أحسنت " فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم قال " حل " متفق عليه وروى جابر وأنس أن عليا قدم من اليمن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بما أهللت؟ فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر في حديثه قال " فاهد وامكث إحراماً " وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن معي هديا لحللت " متفق عليهما ولا يخلو من أبهم إحرامه من أربعة أحوال (أحدها) أن يعلم ما أحرم به فلان فينعقد حرامه بمثله فان علياً رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا قلت حين فرضت الحج؟ " قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فإن معي الهدي فلا تحل " (الثاني) أن لا يعلم ما أحرم به فلان فيكون حكمه حكم الناسي على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (الثالث) أن يكون فلان قد أحرم مطلقاً فيكون حكمه حكم الفصل الذي قبله (الرابع) أن لا يعلم هل أحرم فلان أو لا فحكمه حكم من لم يحرم لأن الأصل عدم إحرامه فيكون إحرامه ههنا مطلقاً يصرفه إلى ما شاء فإن صرفه قبل الطواف وقع طوافه عما صرف إليه، وإن طاف قبل صرفه لم يعتد بطوافه لأنه طاف لا في حج ولا عمرة(3/251)
(مسألة) (وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد إحرامه بإحداهما)
إذ أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة ينعقد بهما وعليه قضاء إحداهما لأنه أحرم بها ولم يتمها ولنا أنهما عبادتان لا يلزمه المضي فيهما فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، وعلى هذا لو أفسد حجه وعمرته لم يلزمه إلا قضاؤها وعند أبي حنيفة يلزمه قضاؤهما معا بناء على صحة احرامه بهما (مسألة) (وإن أحرم بنسك ونسيه جعله عمرة وقال القاضي يصرفه إلى ما شاء) أما إذا أحرم بنسك ونسيه قبل الطواف فله صرفه إلى أي الإنساك شاء فإنه إن صرفه إلى عمرة وكان المنسي عمرة فقد أصاب وان كان حجا مفرداً أو قارناً فله فسخهما إلى العمرة على ما ذكرناه وإن صرفه إلى القران وكان المنسي قرانا فقد أصاب وإن كان عمرة فادخال الحج على العمرة جائز قبل الطواف فيصير قارناً، وإن كان مفرداً لغا إحرامه بالعمرة، وصح حجه، وسقط فرضه وإن صرفه إلى الإفراد وكان مفرداً فقد أصاب وإن كان متمتعاً فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى وهو يظن أنه مفرد وإن كان قارناً فكذلك والمنصوص عن أحمد أنه يجعله عمرة قال القاضي هذا على سبيل الاستحباب لأنه إذا أستحب ذلك مع العلم فمع عدمه أولى وقال أبو حنيفة يصرفه إلى القران، وهو قول الشافعي الجديد، وقال في القديم يتحرى فيبني على غالب ظنه لأنه من شرائط العبادة فيدخله التحري كالقبلة ومبني الخلاف على فسخ الحج إلى العمرة فإنه جائز عندنا ولا يجوز عندهم فعلى هذا إن صرفه إلى المتعة فهو متمتع عليه دم المتعة ويجزئه عن الحج والعمرة جميعاً وإن صرفه إلى إفراد أو قران لم يجزه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون المنسي حجاً مفرداً(3/252)
وليس له إدخال العمرة على الحج فتكون صحة العمرة مشكوكاً فيها فلا تسقط بالشك ولا دم عليه لذلك فانه لم يثبت حكم القران يقينا فلا يجب الدم مع الشك في سببه، ويحتمل أن يجب وأما إن شك بعد الطواف لم يجز صرفه إلا إلى العمرة لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز إلا أن يكون معه هدي فإن صرفه إلى حج أو قران فإنه يتحلل بفعل الحج ولا يجزئه واحد من النسكين لأنه يحتمل أن يكون حجاً وإدخال العمرة عليه غير جائز فلم يجزه عن واحد منهما مع
الشك ولا دم عليه للشك فيما يوجب الدم ولا قضاء عليه للنسك فيما يوجبه، وإن شك وهو في الوقوف بعد الطواف والسعي جعله عمرة فقصر، ثم أحرم بالحج فإنه إن كان المنسي عمرة فقد أصاب وكان متمتعاً، وإن كان إفراداً أو قراناً لم ينفسخ بتقصيره وعليه دم بكل حال لأنه لا يخلو إما أن يكون متمتعاً عليه دم المتعة أو غير متمتع فلزمه دم لتقصيره، وإن شك ولم يكن طاف وسعى جعله قراناً لأنه إن كان قرانا فقد أصاب، وإن كان معتمراً فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارناً، وإن كان مفرداً لغا إحرامه بالعمرة وصح إحرامه بالحج، وإن صرفه إلى الحج جاز أيضاً، ولا يجزئه عن العمرة في هذه المواضع لاحتمال أن يكون مفرداً وإدخال العمرة على الحج غير جائز ولا دم عليه للشك في وجود سببه (مسألة) (وإن أحرم عن رجلين وقع عن نفسه) إذا استنابه اثنان في النسك فأحرم عنهما به وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما،(3/253)
وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوها فمع نيته أولى (مسألة) (وإن أحرم عن أحدها لا بعينه وقع عن نفسه، وقال أبو الخطاب له صرفه إلى أيهما شاء) أما إذا أحرم عن أحدهما غير معين فإنه يقع عن نفسه أيضاً لأن أحدهما ليس أولى من الآخر أشبه المسألة قبلها.
ويحتمل أن يصح وله صرفه إلى أيهما شاء اختاره أبو الخطاب لأن الإحرام يصح بالمجهول فصح عن المجهول كما لو احرم مطلقاً فان لم يفعل حتى طاف شوطاً وقع عن نفسه ولم يكن له صرفه إلى أحدهما لأن الطواف لا يقع عن غير معين (مسألة) (وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " تستحب التلبية إذا استوى على راحلته لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وأدنى أحوال الأمر الاستحباب.
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يلبي إلا
لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا " وتستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ركب راحته واستوت(3/254)
به أهل رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت من قولهم استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رأوا الهلال صاحوا فقيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع بالتلبية وهذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم روى ابن عمر في المتفق عليه إن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " رواه مسلم عن جابر.
والتلبية مأخوذه من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال أنا أقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك، ولا شارد عليك هذا ونحوه.
وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة كما لو قالوا حنانيك أي رحمة بعد رحمة أو رحمه مع رحمه أو ما أشبهه.
وقال جماعة من العلماء معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال.
لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج قال: رب وما يبلغ صوتي قال أذن(3/255)
وعلي البلاغ فنادى إبراهيم أيها الناس كتب عليكم الحج فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون لبيك إن الحمد (بكسر الهمزة) نص عليه أحمد والفتح جائز والكسر أجود قال ثعلب: من قال إن بالفتح فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أي أن من كسر فقد جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب (فصل) ولا تستحب الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكره ونحوه.
وقال الشافعي وابن المنذر لقول جابر فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد " لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد مع هذا لبيك لبيك، لبيك وسعديك والخير
بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر رضي الله عنه لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوباً ومرغوباً اليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنساً كان يزيد: لبيك حقاً حقا، تعبداً ورقا.
ففي هذا دليل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها: وقد روي أن سعداً سمع بعض بني أخيه وهو يلبي يا ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسألة) (والتلبية سنة ويستحب رفع الصوت بها والإكثار منها والدعاء بعدها) التلبية سنة كما ذكرنا وليست واجبة، وبه قال الشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب(3/256)
الدم بتركها، وعن الثوري وأبى حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج) قال الإهلال، وعن عطاء وطاوس وعكرمة هي التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحلال وإحرام فكان في أولها ذكر واجب كالصلاة ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الإذكار، وفارق الصلاة فإن النطق في آخرها يجب فوجب في أولها بخلاف الحج، ويستحب رفع الصوت بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال " العج والثج " حديث غريب: العج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر وروى الترمذي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتاني جبريل يأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " وهو حديث حسن صحيح، وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخاً وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية.
وقال سالم: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته، ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيته (فصل) ويستحب الإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مامن مسلم يضحي (1) لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه " رواه ابن ماجه
(فصل) ولا يستحب رفع الصوت بها في مساجد الأمصار ولا في الأمصار إلا في مكة والمسجد(3/257)
الحرام لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة فقال: إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك.
وقال الشافعي يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته لعموم الحديث ولنا قول ابن عباس ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت عامة إلا الإمام خاصة فوجب إبقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنها محل النسك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضاً (فصل) ويتسحب الدعاء بعدها فيسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ويدعو بما أحب لما روى الدارقطني بإسناده عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه، واستعاذه برحمته من النار.
وقال القاسم بن محمد: يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه الدعاء، ولأن الدعاء مشروع مطلقاً فتأكدت مشروعيته بعد ذكر الله تعالى.
ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرعت فيه الصلاة على رسوله كالصلاة، أو فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان (فصل) ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته.
قال أحمد: إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بعمرة وإن شئت لبيت بحج وعمرة فقلت لبيك بحجة وعمرة.
وقال أبو الخطاب: لا يستحب ويروى عن ابن عمر وهو قول الشافعي لأن جابرا قال: ما سمى النبي صلى الله عليه وسلم في تلبيته(3/258)
حجاً ولا عمرة، وسمع ابن عمر رجلاً يقول لبيت بعمرة فضرب صدره قال تعلمه ما في نفسك ولنا ما روى أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لبيك عمرة وحجا " وقال جابر: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج وقال ابن عباس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبون بالحج، وقال ابن عمر: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق على هذه الأحاديث.
وقال أنس: سمعتهم يصرخون بهما صراخاً رواه البخاري، وهذه الأحاديث أصح من حديثهم وأكثر، وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روي بإسناده عن الضبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعاً ثم ذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله سبحانه عالم بها (فصل) ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالأذان والإذكار المشروعة في الصلاة (فصل) وإن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن لا يقول بعد ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سمعه يلبي عن شبرمة " لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة "(3/259)
ومتى لبى بالحج والعمرة بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد وذلك لقول أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لبيك عمرة وحجا " (مسألة) (ويلبي إذا علا نشزاً أو هبط وادياً وفي دبر الصلوات المكتوبات.
وإقبال الليل والنهار وإذا التقت الرفاق) التلبية مستحبة في جميع الأوقات ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع منها الستة المذكورة، والسابع إذا فعل محظورا ناسياً، الثامن (1) إذا سمع ملبياً لما روى جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكباً أو علا أكمة أو هبط وادياً وفي دبر الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل: وقال إبراهيم النخعي كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة، وإذا هبط واديا، وإذا علا نشزاً، وإذا لقي راكباً وإذا استوت به راحلته، وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك لا يلبي عند اصطدام الرفاق والحديث يدل عليه وكذلك قول النخعي (فصل) ويجزئ من التلبية دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ماشئ يفعله
العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاثاً؟ فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤا به قلت أليس يجزئه مرة واحدة؟ قال بلى وذلك لأن المروي التلبية مطلقاً من غير تقييد وذلك يحصل بمرة واحدة وهكذا التكبير في أدبار الصلوات الخمس في أيام الأضحى وأيام التشريق.
وإن زاد فلا بأس لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثاً حسن فإن الله وتر يحب الوتر(3/260)
(فصل) ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم، وبه قال ابن عباس وعطاء بن السائب وربيعة ابن عبد الرحمن وابن أبي ليلى وداود والشافعي، وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال: لا يلبي حول البيت، وقال ابن عينية: ما رأينا أحداً يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب.
وقال أبو الخطاب: لا يلبي وهو قول للشافعي لأنه مشتغل بذكر يخصه فكان أولى ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية والذكر المشروع في الطواف، ويكره له رفع الصوت بالتلبية حول البيت لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم واذكارهم (فصل) ولا بأس أن يلبي الحلال، وبه قال الحسن والنخعي وعطاء بن السائب والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وكره هذا مالك ولنا أنه ذكر مستحب للمحرم فلم يكره لغيره كسائر الاذكار (مسألة) (ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بقدر ما تسمع نفسها) قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها، وبهذا قال عطاء ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن سليمان بن يسار أنه قال: السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها اذان ولا إقامة، والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح(3/261)
باب محظورات الإحرام وهي تسعة (مسألة) (حلق الشعر)
أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمحرم أخذ شئ من شعره إلا من عذر لقول الله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وروى كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لعلك يؤذيك هوام رأسك " قال نعم يارسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو انسك شاة " متفق عليه ففيه دليل على أن الحلق كان محرماً قبل ذلك (فصل) فإن كان له عذر من مرض أو قمل أو غيره مما يتضرر بابقاء الشعر فله إزالته لقوله سبحانه (فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وللحديث المذكور قال ابن عباس رضي الله عنه: فمن كان منكم مريضاً أي برأسه قروح أو به أذى من رأسه أي قمل (مسألة) (وتقليم الأظفار) أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر لأنه إزالة جزء من بدنه يترفه به أشبه الشعر فإن انكسر فله إزالته قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر لأن بقاءه يؤلمه أشبه الشعر النابت في عينه (مسألة) (فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم وعنه لا يجب إلا في أربع فصاعداً) الكلام في هذه المسألة في فصلين(3/262)
(أحدهما) في وجوب الفدية بحلق شعر رأسه ولا خلاف في ذلك إذا كان لغير عذر، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على وجوب الفدية على من حلق وهو محرم لغير علة والأصل في وجوبها ما ذكرنا من الآية والخبر، وظاهر كلام شيخنا ههنا يدل على أنه لا فرق بين أن يقطع شعره لعذر أو غيره أو كان عامداً أو مخطئاً أنه يجب به الفدية وقد دل عليه ظاهر الآية والخبر وهو ظاهر المذهب، وبه قال الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر أنه لافدية على الناسي وهو قول إسحاق وابن المنذر لقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي، ولأن الآية قد دلت على وجوب الفدية على من حلق رأسه للأذى وهو معذور فكان تنيها على وجوبها على غير المعذور وفيها دليل على
وجوبها على المعذور بغير الأذى مثل المحتجم الذي يحلق موضع محاجمه، أو شعراً عن شجته وفي معنى الناسي والنائم الذي يقلع شعره أو يصوب رأسه من نار فيحرق لهبها شعره ونحو ذلك (الفصل الثاني) في القدر الذي تجب به الفدية وذلك ثلاث شعرات فما زاد قال القاضي: هذا المذهب، وهو قول الحسن وعطاء وابن عيينة والشافعي وأبي ثور لأنه شعر آدمي يقع ليه الجمع المطلق أشبه ربع الرأس (1) وفيه رواية أخرى ذكرها الخرقي أنه لا يجب إلا في أربع فصاعداً لأن الأربع كثير أشبهت ربع الرأس.
أما الثلاث فهي آخر القلة وآخر الشئ منه فأشبهت ما كان دونها وذكر ابن أبي موسى رواية انه لا يجب فيما دون الخمس ولا نعلم وجها لذلك، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم(3/263)
بدون ربع الرأس لأنه يقوم مقام الكل ولهذا إذا رأى رجلاً يقول رأيت فلاناً وإنما أري إحدى جهاته، وقال مالك إذا حلق من رأسه ما أماط به الأذى وجب الدم، وقد ذكرنا ما يدل على ما ذهبنا إليه، وقول أبي حنيفة أن الربع يقع عليه اسم الكل ممنوع وما ذكره من المثال غير مقيد بالربع بل هو مجاز يتناول القليل والكثير.
وهل يجب الدم بقص ثلاثة أظفار او لا يجب إلا في أربع يخرج على الروايتين في الشعر لأنه في معناه وعلى ما حكاه ابن أبي موسى لا يجب إلا في خمسة أظفار قياساً على الشعر والله أعلم.
(مسألة) (وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام وعنه قبضة وعنه درهم) يعني إذا حلق أقل من ثلاث شعرات أو أقل من أربع على الرواية الأخرى فعليه مد من طعام في ظاهر المذهب، وهو الذي ذكره الخرقي، وهو قول الحسن وابن عيينة والشافعي وعن أحمد في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمان وعنه في كل شعرة قبضة من طعام روى ذلك عن عطاء ونحوه عن مالك وأصحاب الرأي قال أصحاب الرأي يتصدق بشئ قليل، وقال مالك فيما قل من الشعر إطعام طعام.
ووجهه انه لا تقدير فيه فيجب فيه أقل ما يقع عليه اسم الصدقة.
وعن مالك فيمن أزال شعراً يسيراً لا ضمان عليه لأن النص إنما أوجب الفدية في حلق جميع الرأس والحقنا به ما يقع عليه اسم الرأس
ولنا أن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد والأولى وجوب الإطعام لأن الشارع إنما عدل(3/264)
عن الحيوان إلى الإطعام في جزاء الصيد وههنا أوجب الإطعام مع الحيوان على وجه التخيير فيجب أن يرجع إليه فيما لا يجب فيه الدم والأولى مد لأنه أقل ما وجب باشرع فدية فكان واجباً في أقل الشعر والطعام الذي يجزئ إخراجه في الفطرة من البر والشعير والتمر والزبيب كالذي يجزئ في الأربع من الشعر (فصل) وحكم الأظفار حكم الشعر فيما ذكرنا، قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم منهم حماد ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وفيه رواية أخرى لافدية عليه لأن الشرع لم يرد فيه بفدية ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر، وعدم النص لايمنع قياسه على المنصوص كشعر البدن مع شعر الرأس والحكم في فدية الأظفار، وفيما يجب فيما دون الثلاث منها أو الأربع على الرواية الأخرى، وفيما يجب في الأربع والثلاث كالحكم في الشعر على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه وهذا قول الشافعي وأبي ثور، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم إلا بتقليم أظفار يد كاملة، فلم قلم من كل يد أربعة لم يجب عليه دم عنده لأنه لم يستكمل منفعة اليد أشبه ما دون الثلاث ولنا أنه قلم ما يقع عليه اسم الجمع أشبه مالو قلم خمساً من يد واحدة، وقولهم يبطل بما إذا حلق ربع رأسه فإنه لم يستوف منفعة العضو ويجب به الدم، وقولهم يفضي إلى وجوب الدم في القليل دون الكثير (فصل) وفي قص بعض الظفر ما في جميعه وكذلك في قطع بعض الشعرة ما في قطع جميعها لأن(3/265)
الفدية تجب في الشعر والظفر سواء طال أو قصر وليس يقدر بمساحة فيتقدر الضمان عليه، بل هو كالموضحة يجب في الصغيرة منها ما يجب في الكبيرة، وخرج ابن عقيل وجهاً أنه يجب بحساب المتلف كالاصبع يجب في أنملتها ثلث ديتها (مسألة) (وإن حلق رأسه بأذنه فالفدية عليه، وإن كان مكرها أو نائما فالفدية على الحالق)
إذا حلق محرم رأس محرم بإذنه أو حلقه حلال بإذنه فالفدية على المحلوق رأسه لأن الله تعالى قال (ولا تحلقوا رؤوسكم) الآية، وقد علم أن غيره هو الذي يحلقه فأضاف الفعل إليه وجعل الفدية عليه ويحتمل أن يجب الضمان على الحالق لأنه شعر محترم أشبه شعرالصيد، ذكره ابن عقيل في الفصول وإن حلق رأسه وهو ساكت لم ينهه ففيه وجهان (أحدهما) يجب على الحالق كما لو اتلف ماله وهو ساكت (والثاني) على المحرم لأنه أمانة عنده فهو كما لو أتلف إنسان الوديعة فلم ينهه وإن حلقه مكرهاً أو نائماً فلا فدية على المحلوق رأسه، وبه قال إسحاق وأبو ثور وابن القاسم وابن المنذر، وقال أبو حنيفة عليه الفدية وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يحلق رأسه ولم يحلق بإذنه فأشبه ما لو انقطع الشعر بنفسه، إذا ثبت ذلك فإن الفدية تجب على الحالق محرماً كان أو حلالاً، وقال أصحاب الرأي على الحلال صدقة، وقال عطاء عليهما الفدية ولنا أنه أزال ما منع من إزالته لأجل الإحرام فكانت الفدية عليه كالمحرم يحلق رأس نفسه (مسألة) (وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه) وكذلك إن قلم أظفاره، وبه قال عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي واسحاق وأبو ثور(3/266)
وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال يتصدق بدرهم، وقال أبو حنيفة يلزمه صدقة لأنه محرم أتلف شعراً أشبه شعر المحرم ولنا أنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب باتلافه شئ كشعر بهيمة الأنعام (مسألة) (وقطع الشعر ونتفه كحلقة وشعر الرأس والبدن واحد وعنه لكل واحد حكم مفرد) لا فرق بين حلق الشعر وإزالته بالنورة، أو قصه، أو غير ذلك لا نعلم فيه خلافا وكذلك القول في الأظفار، وشعر الرأس والبدن واحد سواء في وجوب الفدية في ظاهر المذهب وهو قول الأكثرين خلافاً لداود لأنه شعر يحصل به الترفه والتنظيف أشبه الرأس، فإن حلق شعر رأسه وبدنه ففي الجميع فدية واحدة، وإن حلق من رأسه شعرتين ومن بدنة كذلك فعليه دم هذا اختيار أبي الخطاب وهو
ظاهر كلام الخرقي ومذهب أكثر الفقهاء، وفيه رواية أخرى أنه إذا قلع من رأسه وبدنه ما يجب الدم بكل واحد منهما منفرداً فعليه دمان، وهذا الذي ذكره القاضي وابن عقيل، وعلى هذه الرواية لو قطع من رأسه شعرتين ومن بدنة كذلك لم يجب عليه دم لأن الرأس يخالف البدن بحصول التحلل بحلقه دون شعر البدن ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن فلم تتعدد الفدية بتعدده فيه بخلاف مواضعه كسائر البدن وكما لو لبس قميصاً وسراويل (مسألة) (وإن خرج في عينيه شعر فقلعه أو نزل شعرة فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه أو قلع جلداً عليه شعر فلا فديه عليه) إذا خرج في عينيه شعر أو استرسل شعر حاجبيه على عينيه فغطاهما فله إزالته وكذلك إن انكسر(3/267)
ظفره فله قص ما انكسر منه ولا شئ عليه لانه إزالة لاذاه فلم يكن عليه فدية كقتل الصيد الصائل وكذلك إن قطع جلده عليها شعر لم يكن عليه فدية لأنه زال تبعاً لغيره والتابع لا يضمن كما لو قلع أشعار عيني إنسان فإنه لا يضمن اهدابهما فأما إن كان الأذى من غير الشعر كالقمل والقروح والصداع وشدة الحر عليه لكثرة الشعر فله إزالته وعليه الفدية كما لو احتاج إلى أكل الصيد في حال المخمصة وكذلك إن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فله قصه وعليه الفدية لما ذكرنا وقال ابن القاسم صاحب مالك لا فديه عليه ولنا أنه ما منع إزالته لضرر في غيره أشبه حلق رأسه دفعاً لضرر القمل وإن وقع في أظفاره مرض فأزالها لذلك المرض فلا شئ عليه لأنه أزالها لإزالة مرضها أشبه قص الظفر لكسره والله تعالى أعلم، وإن انكسر ظفره فأزال أكثر مما انكسر فعليه الفدية لأنه لا حاجة إلى إزالته.
(فصل) وإن خلل شعره فسقطت شعرة فإن كانت ميتة فلا شئ عليه وإن كانت من الشعر النابت ففيها الفدية لان أزالها بفعله فإن شك فيها فلا فدية لأن الأصل نفي الضمان وبراءة الذمة فلا يجب بالشك وان قطع اصبعاً عليها ظفر فلا شئ عليه لأنه تبع والله أعلم
(فصل) قال رحمه الله (الثالث) تغطيه رأسه فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عصبة أو طينه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تغطيه رأسه حكاه ابن المنذر، وقد دل عليه نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس وقوله عليه السلام في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " فعلل منع تخمير رأسه ببقائه على إحرامه فعلم أن المحرم ممنوع منه وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إحرام الرجل في رأسه، وذكر القاضي أن النبي صلى الله عليه وسلم(3/268)
قال " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها " وإنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم باليسير.
(فصل) والاذنان مع الرأس تحرم تغطيتهما كسائر الرأس وأباح ذلك الشافعي ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " وقد ذكرناه في الطهارة إذا ثبت ذلك فإنه يمنع من تغطية بعض رأسه كما يمنع تغطيه جميعه لأن المنهي عنه يحرم بعضه كما يحرم جميعه ولذلك لما قال الله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حرم حلق بعضه) وسواء غطاه بالملبوس المعتاد أو بغيره مثل أن عصبه بعصابة أو شدة بسير أو جعل عليه قرطاسا فيه دواء أو لا دواء فيه أو خضبه بحناء أو طلاه بطين أو نورة أو جعل عليه دواء فإن جميع ذلك ستر له وتغطيه وهو ممنوع منه وسواء كان ذلك لعذر أو غيره تجب به الفدية لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) الآية ولحديث كعب ابن عجرة وبهذا كله قال الشافعي وكان عطاء يرخص في العصابة من المصرورة، والصحيح الأول كما لو لبس قلنسوة للبرد.
(مسألة) (وإن استظل بالمحمل ففيه روايتان) كره أحمد رحمه الله للمحرم الاستظلال بالمحمل وما كان في معناه كالهودج والعمارية ونحو ذلك على البعير رواية واحدة ويروى كراهته عن ابن عمر ومالك وعبد الرحمن بن مهدي وأهل المدينة وكان سفيان بن عيينة يقول لا يستظل البتة ورخص فيه ربيعة والثوري والشافعي، وروي ذلك عن عثمان وعطاء لما روت ام الحصين قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة
وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم ولأنه يباح له التظلل في البيت والخباء فجاز في حال الركوب كالحلال واحتج أحمد بأن عطاء روي أن ابن عمر رضي الله عنه رأى على رحل عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة عوداً يستره من الشمس فنهاه وعن نافع عن ابن عمر أنه رأى رجلاً محرماً على رحل وقد رفع عليه ثوباً على عود يستره من الشمس فقال أضح لمن أحرمت له أي ابرز للشمس.
رواهما الأثرم، ولأنه يستره بما يقصد به الترفه(3/269)
أشبه مالو غطاه، والحديث الذي استدلوا به قد ذهب إليه أحمد ولم يكره الاستتار بالثوب، فإن ذلك لا يقصد الاستدامة والهودج بخلافه والخيمة والبيت يرادان الجمع الرحل وحفظه لا للترفه.
إذا ثبت ذلك فإن أحمد رحمه الله إنما كره ذلك كراهة تنزيه في الظاهر عنه لوقوع الخلاف فيه وقول ابن عمر، ولم ير ذلك حراماً ولا موجباً للفدية، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يستظل على محمل قال لا وذكر حديث ابن عمر، قيل له فإن فعل يهريق دماً؟ قال أما الدم فلا وعنه أنه تجب عليه الفدية اختاره الخرقي وهو وقل أهل المدينة لأنه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً أشبه مالو ستره بشئ يلاقيه، ويروى عن الرياشي قال: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر وقد ضحى للشمس، فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي استظل بظله * إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلاً * وواحسرتا إن كان حجك ناقصا (مسألة) (وإن حمل على رأسه شيئاً، أو نصب حياله ثوباً، أو ستظل بخيمة، أو شجرة، أو بيت فلا شئ عليه) إذا حمل على رأسه طبقاً، أو مكيلاً أو نحوه فلا فديه عليه، وبه قال عطاء ومالك وقال الشافعي عليه الفدية لأنه ستره ولنا أن هذ لا يقصد به الستر غالباً فلم تجب به الفدية كما لو وضع يديه على رأسه وسواء قصد به الستر أو لم يقصد لأن ما تجب به الفدية لا يختلف بالقصد وعدمه فكذلك مالا يجب به، واختار ابن
عقيل وجوب الفدية إذا قصد به الستر لان الحيل لاتحيل الحقوق، ولأنه لو جلس عند العطار لقصد شم الطيب وجبت عليه الفدية، وإن لم يقصد لم تجب كذلك هذا، وإن ستر رأسه ببدنه فلا شئ عليه لما ذكرنا، ولأن الستر ببعض بدنه لا يثبت له حكم الستر، وكذلك لو وضع يده على فرجه لم تجزه في الستر، ولأن المحرم مأمور بمسح رأسه وذلك يكون بوضع يده عليه، وإن طلا رأسه بغسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبد فلا يدخله الغبار ولا يصيبه الشعث، ولا يقع فيه الدبيب جاز، وهذا(3/270)
التلبيد الذي جاء في حديث ابن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا.
متفق عليه.
وإن كان في رأسه طيب مما جعله فيه قبل الإحرام فلا بأس لأن ابن عباس رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم (فصل) ولا بأس أن يستظل بالسقف والحائط والشجرة والخباء وإن نزل تحت شجرة وطرح عليها شيئاً يستظل به فلا بأس به عند جميع أهل العلم وقد صح به النقل قال جابر رضي الله عنه في حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس رواه مسلم ولا بأس أن ينصب حياله ثوباً يقيه الحر والبرد.
إما أن يمسكه إنسان أو يرفعه على عود على نحو ما روي في حديث أم الحصين أن بلالاً وأسامة كان رافعاً ثوبه يستر به النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك لا يقصد به الاستدامة فلم يكن به بأس كالاستظلال بحائط (مسألة) (وفي تغطية الوجه روايتان) (إحداهما) يباح روى ذلك عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقسم وطاوس والثوري والشافعي (والثانية) لا يباح وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عامر أن رجلاً وقع عن راحلته فأقعصته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ولا نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً، ولما روي عنه
عليه السلام أنه قال " إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها " وحديث ابن عباس المشهور فيه " ولا تخمروا رأسه " هذا المتفق عليه، وقوله " ولا تخمروا وجهه " فقال شعبة حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما كان يحدث إلا أنه قال " ولا تخمروا وجهه ورأسه " ففي قوله دليل على أنه ضعف هذه الزيادة، وقد روي في بعض ألفاظه " خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه " فتعارض الروايتان وما ذكروه يبطل بلبس القفازين(3/271)
(مسألة) (الرابع لبس المخيط والخفين) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف والأصل في هذا ماروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحداً لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه.
نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأشياء وألحق بها أهل العلم ما في معناه مثل الجبة والدراعة والتبان وأشباه ذلك، فلا يجوز للمحرم ستر بدنه بما عمل على قدره ولا ستر عضو من أعضائه بما عمل على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن والقفازين لليدين والخفين للرجلين ونحو ذلك، وليس في هذا اختلاف، قال ابن عبد البر: لا يجوز لبس شئ من المخيط عند جميع أهل العلم، وأجمعوا على ان المراد بهذا الذكور دون الاناث (مسألة) (إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا يقطعهما ولا فدية عليه) إذا لم يجد المحرم إزاراً فله أن يلبس سراويل وإذا لم يجد النعلين فله لبس الخفين لا نعلم فيه خلافا(3/272)
والاصل فيه ماروى ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم " متفق عليه.
ولا فدية عليه في لبسهما عند ذلك في قول عطاء وعكرمة والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي إلا مالكا وأبا حنيفة
قالا على من لبس السراويل الفدية لحديث ابن عمر الذي قدمناه ولأن ما وجبت الفدية بلبسه مع وجود الازار وجبت مع عدمه كالقميص ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عباس وهو صريح في الإباحة ظاهر في إسقاط الفدية لأنه أمر بلبسه ولم يذكر فدية ولأنه يختص لبسه بحالة عدم غيره فلم تجب به فدية كالخفين المقطوعين وحديث ابن عمر مخصوص بحديث ابن عباس.
وأما القميص فيمكنه أن يأتزر به من غير لبس ويحصل به الستر بخلاف السراويل (فصل) وإذا لبس الخفين مع عدم النعلين لم يلزمه قطعهما في أشهر الروايتين عن أحمد يروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه قال عطاء وعكرمة (والرواية الثانية) أنه يقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فعلى هذه الرواية إن لبسهما من غير قطع افتدى، وبه قال عروة بن الزبير ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " متفق عليه وهو متضمن لزيادة على حديث ابن عباس وجابر والزيادة من الثقة مقبولة.
قال الخطابي: العجب من أحمد(3/273)
في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه.
ووجه الأولى حديث ابن عباس وجابر " من لم يجد النعلين فليلبس الخفين " مع قول علي رضي الله عنه وقطع الخفين فساد يلبسهما كما هما مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح مع عدم غيره أشبه السراويل ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر فإن لبس المقطوع محرم مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وفيه إتلاف ماله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته فأما حديث ابن عمر فقد قيل ان قوله فليقطعهما من كلام نافع كذلك روي في أمالي أبي القاسم بن بشران بإسناد صحيح أن نافعاً قال بعد روايته للحديث وليقطع الخفين أسفل من الكعبين وروى ابن أبي موسى عن صفية بنت أبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، وكان ابن عمر يفتي بقطعهما قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع، وروي أبو حفص بإسناده في شرحه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه طاف وعليه خفان فقال له عمر رضي الله عنه والخفان مع القباء فقال قد لبستهما مع من هو خير منك يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويحتمل أن يكون الأمر بقطعهما منسوخاً فإن عمرو بن دينار روى الحديثين جميعاً وقال انظروا أيهما كان قبل، قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري حديث ابن عمر قبل لأنه جاء في بعض رواياته قال نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد يعني بالمدينة فكأنه كان قبل الإحرام وفي حديث ابن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول " من لم يجد نعلين فليلبس خفين "(3/274)
فيدل على تأخره عن حديث ابن عمر فيكون ناسخاً له لأنه لو كان القطع واجباً لبينه للناس فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه والمفهوم من إطلاق لبسهما لبسهما على حالهما من غير قطع قال شيخنا والأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجاً من الخلاف وأخذا بالاحتياط والذي قاله صحيح (فصل) فإن وجد المقطوع مع وجود النعل لم يجز له وعليه الفدية نص عليه، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة لا فدية عليه لأنه لو كان لبسه محرماً وفيه فدية لما أمر بقطعه لعدم الفائدة فيه وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط لإباحة لبسهما عدم النعلين فدل على أنه لا يجوز مع وجودهما ولأنه مخيط لعضو على قدره فوجب على المحرم الفدية بلبسه كالقفازين (فصل) وقياس قول أحمد في اللالكة والجمجم ونحوهما أنه لا يلبسهما فإنه قال لا يلبس النعل التي لها قيد وهذا أشد منها وقد قال في رأس الخف الصغير لا يلبسه وذلك لأنه يستر القدم وقد عمل لها على قدرها فأشبه الخف فإن عدم النعلين فله لبس ذلك ولا فدية عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لبس الخف عند ذلك فما دون الخف أولى (فصل) فأما النعل فيباح لبسها كيفما كانت ولا يجب قطع شئ منها لأن إباحتها وردت مطلقاً وروى عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لأننا لا نعرف النعال هكذا وقال إذا أحرمت فأقطع المحمل الذي على النعال والعقب الذي يجعل للنعل فقد كان عطاء يقول فيه دم وقال ابن أبي موسى في(3/275)
الإرشاد في القيد والعقب الفدية والقيد هو السير المعترض على الزمام قال القاضي: إنما كرههما إذا كانا عريضين وهذا هو الصحيح فإنه لم يجب قطع الخفين الساترين للقدمين والساقين فقطع سير النعل أولى أن لا يجب، ولأن ذلك معتاد في النعل فلم يجب إزالته كسائر سيورها ولأن قطع القيد والعقب
ربما تعذر معه المشي في النعلين لسقوطهما بزوال ذلك فلم يجب كقطع القبال (فصل) فإن وجد نعلا لم يمكنه لبسها فله لبس الخف ولا فدية عليه لان مالا يمكن استعماله كالمعدوم فاشبه مالو كانت النعل لغيره وكالماء في التيمم والرقبة التي لا يمكنه عتقها ولأن العجز عن لبسها قال مقام العدم في إباحة لبس الخف فكذلك في إسقاط الفدية ونص أحمد على وجوب الفدية لقوله عليه السلام " من لم يجد نعلين فيلبس الخفين " وهذا واجد (مسألة) (ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره إلا إزاره وهميانه فيه نفقته إذا لم يثبت إلا بالعقد) ليس للمحرم أن يعقد عليه الرداء ولا غيره إلا الإزار والهميان وليس له أن يجعل لذلك زرا وعروة ولا يخلله بشوكة ولا إبرة ولا خيط ولا يغرزه في إزاره لأنه في حكم المخيط وروى الأثرم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً سأله أخالف بين طرفي من ورائي ثم أعقده؟ وهو محرم فقال ابن عمر: لا تعقد عليك شيئاً.
وعن أبي معبد مولى ابن عباس أن ابن عباس قال له يا أبا معبد زر علي طيلساني وهو محرم فقال له كنت تكره هذا فقال إني أريد أن أفتدي ولا بأس أن يتشح بالقميص(3/276)
ويرتدي به وبرداء موصل ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو (فصل) فأما الإزار فيجوز عقده، لأنه يحتاج إليه لستر العورة فأبيح كاللباس وإن شد وسطه بالنديل أو نحوه كالحبل جاز إذا لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه: لا يقدها ويدخل بعضها في بعض، قال طاوس رأيت ابن عمر يطوف بالبيت وعليه عمامة قد شدها على وسطه فأدخلها هكذا.
ولا يجوز أن يشق أسفل إزاره نصفين ويعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل ولا يلبس الران لأنه في معنى الخف (فصل) فأما الهميان فهو مباح للمحرم في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وسعيد أبن المسيب وعطاء ومجاهد وطاوس والقاسم والنخعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن عبد البر أجاز ذلك جماعة فقهاء الأمصار متقدموهم ومتأخروهم ومتى ثبت بغير العقد مثل
أن يدخل السيور بعضها في بعض لم يعقده لأنه لا حاجة إليه فإن لم يثبت إلا بالعقد جاز نص عليه أحمد وهو قول إسحاق.
قال ابراهيم كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم ولا يرخصون في عقد غيره وقالت عائشة: أوثق عليك نفقتك.
وقال ابن عباس: أوثقوا عليكم نفقاتكم.
وذكر القاضي في الشرح أن ابن عباس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحرم في الهميان أن يربطه إذا كانت فيه نفقته(3/277)
وقال مجاهد سئل ابن عمر عن المحرم يشد الهميان عليه فقال لا بأس به إذا كانت فيه نفقته يستوثق من نفقته ولأنه مما تدعو الحاجة إليه فجاز كعقد الإزار (فصل) فإن لم يكن في الهميان نفقة لم يجز عقده لعدم الحاجة إليه وكذلك المنطقة وقد روى ابن عمر أنه كره المنطقة والهميان للمحرم وهو محمول على ما ليس فيه نفقة على ما تقدم من الرخصة فيما فيه النفقة، وسئل أحمد عن المحرم يلبس المنطقة من وجع الظهر أو لحاجة إليها.
فقال يفتدي.
فقيل له أفلا يكون مثل الهميان؟ قال لا: وعن ابن عمر أنه كره المنطقة للمحرم وأباح شد الهميان إذا كانت فيه نفقة والفرق بينهما أن الهميان يكون فيه النفقة والمنطقة لا نفقة فيها فأبيح شد ما فيه النفقة للحاجة إلى حفظها ولم يبح شد غيرها فان كان في المنطقة نفقة أو لم يكن في الهميان نفقة فهما سواء وقد ذكرنا أن أحمد لم يبح شد المنطقة لوجع الظهر إلا أن يفتدي لأن المنطقة ليست بعدة لذلك ولأنه فعل المحظور في الإحرام لدفع الضرر عن نفسه أشبه من لبس المخيط لدفع البرد أو تطيب للمرض فإن فعل مالا يباح له فعله من عقد غير الهميان والإزار ونحوه فعليه الفدية لأنه فعل محظوراً في الإحرام(3/278)
(مسألة) (وإن طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية وقال الخرقي لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كميه) إذا طرح على كتفيه قباء أو نحوه وأدخل كتفيه فيه فعليه الفديه وإن لم تدخل يداه في الكمين هذا مذهب مالك والشافعي لأنه مخيط لبسه المحرم على العادة في لبسه فأشبه القميص وقد روى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الأقبية وقال الخرقي لا فديه عليه إذا لم يدخل يديه في كميه وهو قول الحسن وعطاء وابراهيم وأبي حنيفة لما ذكرنا من حديث عبد الرحمن بن عوف في مسألة الخفين
إذا لم يجد نعلين ولان القباء لا يحيط بالبدن فلم تلزمه الفديه بوضعه على كتفيه إذا لم يدخل يديه في كميه كالقميص يتشح به وقياسهم منقوض بالرداء الموصل والخبر محمول على لبسه مع إدخال يديه في الكمين (مسألة) (ويتقلد بالسيف عن الضرورة) إذا احتاج المحرم إلى أن يتقلد بالسيف فله ذلك وبه قال عطاء والشافعي ومالك وكرهه الحسن ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن البراء قال: لا صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح (القراب بما فيه) وهذا ظاهر في إباحة حمله عند الحاجة لانهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد فاشترطوا حمل السلاح في قرابة فأما من غير خوف فقد قال أحمد لا الامن ضرورة وإنما منع منه لأن ابن عمر قال لا يحمل المحرم السلاح في الحرم.
قال شيخنا والقياس إباحته لأن ذلك ليس هو في المعنى الملبوس المنصوص على تحريمه ولذلك لو حمل قربة في عنقه لم يحرم ذلك ولم تجب به الفدية.
وقد سئل أحمد عن المحرم يلقي جرابه في عنقه كهيئة القربة فقال أرجوا أن لا يكون به بأس (فصل) قال الشيخ رحمه الله (الخامس الطيب فيحرم عليه تطيب بدنه وثيابه وشم الادهان المطيبة والادهان بها) أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته " لا تمسوه بطيب " رواه مسلم، وفي لفظ ولا تخيطوه.
متفق عليه فلما منع الميت من الطيب(3/279)
لإحرامه فالحي أولى ومتى تطيب فعليه الفدية لأنه فعل ما حرمه الإحرام فلزمته الفدية كاللباس فيحرم عليه تطيب بدنه لما ذكرنا من الحديث وتطيب ثيابه فلا يجوز له لبس ثوب مطيب وهذا قول جابر وابن عمر ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يلبس من الثياب شئ مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه فكلما صبغ بزعفران أو ورس أو غمس في ماء ورد أو بخر بعود فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ولا النوم عليه نص عليه أحمد لأنه استعمال له فأشبه لبسه ومتى لبسه أو استعمله فعليه الفديه، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان رطباً يلي
يدنه أو يابساً ينفض فعليه الفدية وإلا فلا لأنه ليس بمطيب ولنا أنه منهي عنه لأجل الإحرام فلزمته الفدية به كاستعمال الطيب في بدنه وقياساً على الثوب المطيب فإن غسله حتى ذهب ما فيه من ذلك فلا بأس به عند جميع العلماء وإن فرش فوق المطيب ثوباً صفيقاً يمنع الرائحة والمباشرة فلا فدية بالنوم عليه لأنه لم يستعمل الطيب ولم يباشره (فصل) وليس له شم الأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها ولا الادهان بها وليس في تحريم ذلك خلاف في المذهب وكره مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي الادهان بدهن البنفسج وقال الشافعي ليس بطيب ولنا أنه يقصد رائحته ويتخذ للطيب أشبه ماء الورد (مسألة) (وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والمبخر بالعود وأكل ما فيه الطيب يظهر طعمه أو ريحه يحرم عليه شم كل ما تطيب رائحته ويتخذ للشم كالمسك والعنبر والكافور والغالية والزعفران والورس وماء الورد لأنه استعمال للطيب وكذلك التبخر بالعود لأنه طيب (فصل) ومتى جعل شئ من الطيب في مأكول أو مشروب كالمسك والزعفران فلم تذهب رائحته لم يبح للمحرم تناوله نيا كان أو قد مسته النار وبهذا قال الشافعي وكان مالك وأصحاب الرأي(3/280)
لا يرون بما مست النار من طعام بأساً وإن بقيت رائحته وطعمه ولونه لأنه بالطبخ استحال عن كونه طيباً وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أنهم لم يكونوا يرون بأكل الخشكنانج الأصفر بأساً وكرهه القاسم بن محمد ولنا أن الاستمتاع والترفه به حاصل أشبه النئ ولأن المقصود من الطيب رائحته وهي باقيه وقول من أباح الخشكنانج الأصفر محمول على ما ذهبت رائحته فإن ما ذهبت رائحته.
وطعمه ولم يبق فيه إلا اللون مما مسته النار لا بأس بأكله لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن القاسم وجعفر بن محمد أنهما كرها الخشكنانج الأصفر ويمكن حمله على ما بقيت رائحته ليزول الخلاف فإن لم تمسه النار لكن ذهبت رائحته وطعمه فلا بأس به وهو قول الشافعي وكره مالك والحميدي واسحاق وأصحاب الرأي الملح الاصفر
وفرقوا بين ما مسته النار وما لم تمسه ولنا أن المقصود الرائحة دون اللون فإن الطيب إنما كان طيباً لرائحته لا للونه فوجب دوران الحكم معها دونه (فصل) فإن ذهبت رائتحه وبقي طعمه فظاهر كلام أحمد في رواية صالح تحريمه وهو مذهب الشافعي لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة فمتى وجد الطعم دل على وجود بقاء الرائحة وظاهر كلام الخرقي إباحته لأن المقصود الرائحة فيزول المنع بزوالها (فصل) ولا يجوز أن يأكل طيباً ولا يكتحل به ولا يستعط به ولا يحتقن به لأنه استعمال للطيب أشبه شمه (مسألة) (وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده فلا فديه عليه) إذا مس من الطيب مالا يعلق بيده كالمسك غير المسحوق وقطع الكافور والعنبر فلا فدية عليه لأنه غير مستعمل للطيب فإن شمه فعليه الفدية لأنه هكذا يستعمل وإن شم العود فلا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا وإن كان الطيب يعلق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق الذي يعلق بأصابعه فعليه الفدية لأنه مستعمل للطيب(3/281)
(مسألة) (وله شم العود والفواكه والشيح والخزامى) للمحرم شم العود ولا فدية عليه لأنه لا يتطيب به هكذا إنما يقصد منه التبخير وكذلك الفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيرها وكذلك نبات الصحراء كالشيح والقيصوم والخزامى الذي تستطاب رائحته وما يشمه الآدميون لغير قصد الطيب كالحناء والعصفر فمباح شمه ولا فدية في شئ من ذلك لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يشم شيئاً من نبت الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ولا نعلم احدا أوجب في ذلك شيئاً لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه الطيب أشبه سائر نبت الأرض وقد روي أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يحرمن في المعصفرات (مسألة) (وفي شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان بدهن غير مطيب في رأسه روايتان) المذكور في هذه المسألة ينقسم قسمين (أحدها) ما ينبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب
كالريحان الفارسي والمرشوش والنرجس والبرم ففيه روايتان (إحداهما) يباح بغير فدية وهو قول عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد واسحاق لأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه نبت البرية ولأنه لا يتخذ منه طيب أشبه العصفر (والثانية) يحرم شمه فإن فعل فعليه الفدية وهو قول جابر وابن عمر والشافعي وأبي ثور لأنه يتخذ للطيب أشبه الورد وكرهه مالك وأصحاب الرأي ولم يوجبوا فيه شيئاً وكلام أحمد محتمل لهذا فإنه قال في الريحان ليس من آلة المحرم ولم يذكر فيه فدية (الثاني) ما ينبت للطيب ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين والخيري فهذا إذا استعمله وشمه ففيه الفدية لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه كماء الورد فكذلك أصله، وعن أحمد رواية أخرى في الورد لا شئ في شمه لأنه زهر أشبه سائر الشجر، وقد ذكر شيخنا فيه ههنا روايتين وكذلك ذكر أبو الخطاب والأولى تحريمه ووجوب الفدية فيه لأنه ينبت للطيب ويتخذ منه أشبه الزعفران والعنبر.
قال القاضي: يقال أن العنبر ثمر شجرة وكذلك الكافور(3/282)
(فصل) فأما الادهان بدهن لا طيب فيه كالزيت والشيرج والسمن والشحم ودهن البان الساذج فنقل الأثرم قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج فقال نعم يدهن به إذا احتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل قال إبن المنذر اجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن ونقل جواز ذلك عن ابن عباس وأبي ذر والأسود بن يزيد وعطاء والضحاك نقله الأثرم ونقل أبو داود عن أحمد أنه قال الزيت الذي يؤكل لا يدهن المحرم به رأسه فظاهر هذا أنه لا يدهن رأسه بشئ من الادهان وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر (فصل) فأما دهن سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعاً وقد أجمع أهل العلم على إباحته في اليدين وإنما الكراهة في الرأس خاصة فإنه محل الشعر وقال القاضي في إباحته في جميع البدن روايتان فإن فعله فلا فديه فيه في ظاهر كلام أحمد سواء دهن رأسه وغيره إلا أن يكون مطيباً وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه انه صدع وهو محرم.
فقالوا ألا ندهنك بالسمن؟ قال لا.
قالوا أليس تأكله؟
قال ليس أكله كالادهان به.
وعن مجاهد أنه إن تداوى به فعليه الكفارة وقال من منع من دهن الرأس فيه الفدية لأنه مزيل للشعث أشبه ما لو كان مطيباً ولنا أن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولا دليل فيه من نص ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الطيب فإن الطيب يوجب الفدية وإن لم يزل شعثا ويستوي فيه الرأس وغيره والدهن بخلافه ولأنه مانع لا تجب الفدية باستعماله في البدن فلم تجب باستعماله في الرأس كالماء (مسألة) (وإن جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية وإلا فلا) متى قصد شم الطيب من غيره بفعل منه نحو أن يجلس عند العطارين لذلك أو يدخل الكعبة حال تجميرها ليشم طيبها أو يحمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها قال أحمد: سبحان الله كيف(3/283)
يجوز هذا؟ وأباح الشافعي ذلك إلا العقدة تكون معه يشمها فإن أصحابه اختلفوا فيها قال: لأنه شم الطيب من غيره أشبه ما لو لم يقصده ولنا أنه قصد شم الطييب مبتدئاً به وهو محرم فحرم كما لو باشره يحقق ذلك أن القصد شم الطيب لا مباشرته بدليل أنه لو مس اليابس الذي لا يعلق بيده لم يكن عليه شئ ولو رفعه بخرقة وشمه وجبت عليه الفدية وإن لم يباشره فأما إن لم يقصد شمه كالجالس عند العطار لحاجته وداخل السوق أو داخل الكعبة للتبرك بها ومن يشتري طيباً لنفسه أو للتجارة ولا يمسه فغير ممنوع منه لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه فإن حمل الطيب فقال ابن عقيل: أن كان ريحه ظاهراً لم يجز وإن لم يكن ظاهراً جاز (فصل) قال الشيخ رحمه الله (السادس) قتل صيد البر واصطياده وهو ما كان وحشياً مأكولاً أو متولداً منه ومن غيره لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل صيد البر واصطياده على المحرم، والأصل فيه قول الله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقوله تعالى (حرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) والصيد المحرم على المحرم ما جمع ثلاثة أشياء (أحدها) أن يكون وحشياً وما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج ونحوها لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً
والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء كالحمام يجب الجزاء في أهليه ووحشيه اعتبار بالأصل ولو توحش الأهلي لم يجب فيه شئ قال أحمد في بقرة صارت وحشية لا شئ فيها لأن الأصل فيها الانسية فإن تولد بين الوحشي والأهلي ولد ففيه الجزاء تغليباً للتحريم، واختلفت الرواية في الدجاج السندي هل فيه جزاء على روايتين وروى مهنا عن أحمد في البط يذبحه المحرم إذا لم يكن صيداً والصحيح أنه يحرم عليه ذبحه وفيه الجزاء لأن الأصل فيه الوحشي فهو كالحمام (الثاني) أن يكون مأكولاً فأما ما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير وسائر المحرمات فلا جزاء فيه قال أحمد رحمه الله إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله وهذا قول أكثر أهل العلم إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره كالسمع المتولد بين الضبع والذئب تغليباً للتحريم قبله كما غلبوا التحريم في أكله، وقال بعض أصحابنا في أم حبين جدي وهي دابة منتفخة البطن وهذا خلاف القياس فإن أم حبين مستخبثة عند العرب لا تؤكل، وقد حكي(3/284)
أن رجلا من البدو سئل: ما تأكلون؟ فقال مادب ودرج إلا أم حبين.
فقال السائل: ليهن أم حبين العافية وإنما تبعوا فيها قضية عثمان فانه قضى فيها بحملان وهو الجدي والصحيح أنه لا شئ فيها، واختلفت الرواية في الثعلب فعنه فيه الجزاء وهو المشهور، وبه قال طاوس وقتادة ومالك والشافعي وعن أحمد لا شئ فيه وهو قول الزهري وعمرو بن دينار وابن المنذر لأنه سبع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، واختلفت الرواية في السنور الوحشي والأهلي والصحيح أنه لا جزاء في الأهلي لأنه ليس وحشياً ولا مأكولاً وأما الوحشي فاختار القاضي أنه لا شئ فيه لأنه سبع.
وقال الثوري واسحاق في الوحشي حكومه والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في إباحته، واختلفت الرواية في الهدهد والصرد لاختلاف الروايتين في إباحتهما وكلما اختلفت في إباحته اختلف في جزائه فأما ما يحرم فالصحيح أنه لا جزاء فيه لعدم النص فيه وهو مخالف للقياس الثالث أن يكون من صيد البر فأما صيد البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف لقوله سبحانه (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما) قال ابن عباس رضي الله عنهما طعامه ما لفظه
(مسألة) (فمن أتلفه أو تلف في يده أو أتلف جزأ منه فعليه جزاؤه) من أتلف صيدا وهو محرم فعليه جزاؤه بإجماع أهل العلم، وقد دل عليه قوله سبحانه (من قتله منكم متعمدا فجزاء، مثل ما قتل من النعم) قال شيخنا رضي الله عنه ولا نعلم احدا خالف في قتل الصيد متعمداً أن فيه الجزاء إلا الحسن ومجاهدا قالا يجب في الخطأ والنسيان ولا يجب في العمد، وهذا خلاف النص فلا يلتفت إليه وقتل الصيد نوعان مباح ومحرم، فالمحرم أن يقتله ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء لما ذكرنا، والباح ثلاثة أنواع (أحدها) أن يضطر إليه (والثاني) أن يصول عليه الصيد (والثالث) إذا أراد تخليصه من سبع أو شبكة أو نحوه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى (فصل) ويضمن ما تلف في يده وإن صاده لم يملكه لأن ما حرم لحق غيره لا يملك بالأخذ من غير إذنه كمل غيره وعليه إرساله في موضع يمتنع فيه فإن لم يفعل فتلف ضمنه كما الآدمي إذا أخذه بغير حق فتلف في يده، وإن كان مملوكاً لآدمي فعليه رده إليه لكونه غصبه منه(3/285)
(فصل) وإن أتلف جزءاً من الصيد فعليه ضمانه لأن جملته مضمونة فكان بعضه مضموناً كالآدمي والاموال (مسألة) (ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً فيكون جزاؤه بينهما) يحرم على المحرم الدلالة على الصيد والإشارة إليه فإن في حديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحدا أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " وفي لفظ فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته وهذا يدل على تعليق التحريم بذلك لو وجد منهم ولأنه سبب إلى إتلاف صيد محرم فحرم كنصب الشرك (فصل) وليس له الإعانة على الصيد بشئ فإن في حديث أبي قتادة المتفق عليه ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح قالوا والله لا نعينك عليه، وفي رواية فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني.
وهذا يدل على أنهم اعتقدوا تحريم الأعانة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك ولأنه أعانه على محرم فحرم كالإعانة على قتل الآدمي، وبضمنه بالدلالة عليه فإذا دل المحرم حلالاً
على الصيد فأتلفه فالجزاء على المحرم روى ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني واسحاق(3/286)
وأصحاب الرأي، وقال مالك والشافعي لا شئ على الدال لأنه يضمن بالجناية فلا يضمن بالدلالة كالآدمي ولنا حديث أبي قتادة ولأنه سبب يتوصل به إلى إتلاف الصيد فتعلق به الضمان كما لو نصب أحبولة ولأنه قول علي وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لها في الصحابة، وإن اشار إليه فهو كما لو دل عليه لأنه في معناه (فصل) فإن دل محرماً على الصيد فقتله فالجزاء بينهما، وبه قال عطاء وحماد بن أبي سليمان، وقال الشعبي وسعيد بن جبير وأصحاب الرأي على كل واحد جزاء لأن كل واحد من الفعلين يستقل بالجزاء إذا انفرد فكذلك إذا لم يضمنه غيره، وقال مالك والشافعي لا شئ على الدال ولنا أن الواجب جزاء المتلف وهو واحد فيكون الجزاء واحداً وعلى مالك والشافعي ما سبق ولا فرق بين جميع الصورتين كون المدلول عليه ظاهراً أو خفياً لا يراه إلا بالدلالة عليه ولو دل محرم محرماً على الصيد ثم دل الآخر آخر ثم كذلك إلى عشرة فقتل العاشر كان الجزاء على جميعهم، وإن قتله الأول فلا شئ على غيره لأنه لم يدله عليه أحد فلا يشاركه في ضمانه أحد ولو كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة فلا شئ على الدال والمشير لأن ذلك لم يكن سبباً في تلفه ولأن هذه ليست دلالة على الحقيقة وكذلك إن وجد من المحرم حدث عند رؤية الصيد من ضحك أو استشراف(3/287)
ففطن له غيره فصاده فلا شئ على المحرم، فإن في حديث أبي قتادة قال.
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة ومنا المحرم ومنا غير المحرم إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش، وفي لفظ فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم إذ نظرت إذا أنا بحمار وحش، وفي لفظ فلما كنا بالصفاح إذا هم يتراءون فقلت أي شئ تنظرون؟ فلم يخبروني متفق عليه (فصل) فإن أعار قاتل الصيد سلاحاً فقتله به فهو كما لو دله عليه سواء كان المستعار مما لا يتم قلته إلا به أو أعاره شيئاً هو مستغن عنه مثل أن يعيره رمحاً ومعه رمح وكذلك لو أعانه عليه
بمناولته سلاحه أو سوطه أو أمره باصطياده لما ذكرنا من حديث أبي قتادة وقول أصحابه والله لا نعينك عليه بشئ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ " وكذلك إن أعاره سكيناً فذبحه بها فأما إن أعاره آلة ليستعملها في غير الصيد فاستعملها في الصيد لم يضمن لأن ذلك غير محرم عليه أشبه مالو ضحك عند رؤية الصيد ففطن له إنسان فصاده (فصل) فإن دل الحلال محرماً على صيد فقتله فلا شئ على الحلال لأنه لا يضمن الصيد بالإتلاف فبالدلالة أولى إلا أن يكون ذلك في الحرم فيشتركان في الجزاء كالمحرمين لأن صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم فإن اشترك في قتل الصيد حلال ومحرم في الحل فعلى المحرم الجزاء جميعه على ظاهر قول أحمد رحمه الله وقال أصحاب الشافعي عليه نصف الجزاء كما لو كانا محرمين(3/288)
ولنا أنه اشترك في قتله من يجب عليه الضمان ومن لا يجب فاختص الجزاء بمن يجب عليه كما لو دل الحلال محرماً على صيد فعليه ولأنه اجتمع موجب ومسقط فغلب الإيجاب كما لو قتل صيداً بعضه في الحرم وبعضه في الحل ذكر هذه المسألة القاضي أبو الحسين (فصل) وكذلك إن كان شريكه سبعاً ثم إن كان جرح أحدهما قبل صاحبه والسابق الحلال أو السبع فعلى المحرم جزاؤه مجروحاً وإن كان السابق المحرم فعليه أرش جرحه على ما ذكرنا وإن كان جرحهما في حال واحدة أو جرحاه ومات منهما فالجزاء كله على المحرم، وفيه وجه لنا كقول أصحاب الشافعي إن على المحرم نصفه كالمحرمين (مسألة) (ويحرم عليه الأكل من ذلك كله واكل ماصيد لأجله ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك) لا خلاف في تحريم الصيد على المحرم إذا صاده أو ذبحه لقوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وإن صاده حلال أو ذبحه وكان من المحرم إعانة فيه أو دلالة أو إشارة إليه لم يبح أيضا لان أعان عليه أشبه ما لو ذبحه، وإن صيد من أجله حرم عليه اكله يروي ذلك عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وبه قال مالك والشافعي وقال أبوحينفة له أكل ما صيد لاجله للقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشئ؟ " قالوا لا.
قال " كلوا ما
بقي من لحمها " متفق عليه فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والأمر والإعانة ولأنه صيد مذكى لم يحصل فيه ولا في سببه منع منه فلم يحرم عليه أكله كما لو لم يصد له(3/289)
ولنا ماروى ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة الليثي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيا وهو بالابواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ما في وجهه قال: " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " متفق عليه، وروى جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال هو أحسن حديث في الباب وهذا فيه تحريم ماصيد للمحرم وفيه إباحة ما لم يصده ولم يصد له (فصل) ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، ويروى ذلك عن طلحة بن عبيد الله وحكي عن عطاء وابن عمر وعائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن لحكم الصيد يحرم على المحرم بكل حال، وبه قال طاوس وكرهه الثوري واسحاق لعموم قوله سبحانه (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) ولما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة، وروى أبو داود باسناده عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: كان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع له طعاماً وصنع فيه الحجل واليعاقيب ولحم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه فقال أطعموه قوما حلالاً أنا حرم ثم قال علي أنشد الله من كان ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش فأبى أن يأكله؟ قالوا نعم، ولأنه لحم صيد فحرم على المحرم كما لو دل عليه ولنا ما ذكرنا من حديث أبي قتادة وجابر فإنهما صريحان في الحكم وفي ذلك جمع بين الأحاديث وبيان المختلف منها بأن يحمل ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأكل في حديث الصعب بن جثامة لعلمه أو ظنه أنه(3/290)
صيد من أجله ويتعين حمله على ذلك لما ذكرنا من الحديثين فإن الجمع بين الأحاديث أولى من التعارض والتناقض، وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير فجاء البهزي وهو صاحبه فقال يارسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق (فصل) وما حرم على المحرم لكونه دل عليه أو أعان عليه أو صيد من أجله لا يحرم على الحلال أكله لقول علي رضي الله عنه أطعموه حلالا وقد بينا حمله على أنه صيد من أجلهم وحديث الصعب ابن جثامة حين رد النبي صلى الله عليه وسلم الصيد عليه لم ينهه عن أكله ولأنه صيد حلال فأبيح للحلال أكله كما لو صيد لهم وهل يباح أكله لمحرم آخر فيه احتمالان (أحدهما) يباح فإن ظاهر حديث جابر إباحته وهو قول عثمان رضي الله عنه لأنه يروى أنه أهدي له صيد فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل وقال إنما صيد من أجلي ولأنه لم يصد من أجله فحل له كما لو صاده الحلال لنفسه ويحتمل أن يحرم وهو قول علي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها " قالوا لا قال " فكلوه " فمفهومه إن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم والأول أولى(3/291)
(فصل) وإذا قتل المحرم الصيد ثم أكله ضمنه للقتل دون الأكل، وبه قال مالك والشافعي، وقال عطاء وأبو حنيفة يضمنه للأكل أيضاً لأنه أكل من صيد محرم عليه فضمنه كما لو صيد لأجله ولنا أنه مضمون بالجزاء فلم يضمن ثانياً كما لو أتلفه بغير الأكل وكصيد المحرم إذا قتله الحلال وأكله وكذلك إن قتله محرم آخر ثم أكل منه لم يجب عليه الجزاء لما ذكرنا ولأن تحريمه لكونه ميتة والميتة لا تضمن بالجزاء، وكذلك إن حرم عليه أكله بالدلالة عليه والإعانة عليه فأكل منه لم يضمن لأنه صيد مضمون بالجزاء مرة فلم يجب به جزاء ثان كما لو أتلفه فإن أكل مما صيد لأجله ضمنه وهو قول مالك والشافعي في القديم وقال في الجديد لا جزاء عليه لأنه أكل للصيد فلم يجب به الجزاء كما لو قتله ثم أكله ولنا أنه إتلاف ممنوع منه لحرمة الإحرام فتعلق به الضمان كالقتل.
أما إذا قتله ثم أكله يحرم للإتلاف إنما حرم لكونه ميتة، إذا ثبت هذا فإنه يضمنه بمثله من اللحم لأن أصله مضمون بمثله من النعم فكذلك أبعاضه تضمن بمثلها بخلاف حيوان الآدمي فإنه يضمن جميعه بالقيمة فكذلك ابعاضه (فصل) وإذا ذبح المحرم الصيد صار ميتة يحرم أكله على جميع الناس، وهذا قول الحسن
والقاسم وسالم ومالك والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الحكم والثوري وأبو ثور لا بأس بأكله.
قال إبن المنذر هو بمنزلة ذبيحة السارق وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني(3/292)
يأكله الحلال، وحكي عن الشافعي قول قديم أنه يحل لغيره الأكل منه لأن من أباحت زكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال ولنا أنه حيوان حرم عليه ذبحة لحق الله تعالى فلم يحل بذبحه كالمجوسي، وبهذا فارق سائر الحيوانات وفارق غير الصيد فإنه لا يحرم ذبحه وكذلك الحكم في صيد المحرم إذا ذبحه محرم أو حلال وبعض الحنفية يقول هو مباح، ولنا ما ذكرناه (مسألة) (وإن اتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه بقيمته) إذا أتلف بيض صيد ضمنه بقيمته أي صيد كان قال ابن عباس في بيض النعام قيمته، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال النخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه " رواه ابن ماجه، وإذا وجب في بيض النعام قيمته مع أنه من ذوات الأمثال فغيره أولى، ولأن البيض لا مثل له فيجب فيه قيمته كصغار الطير فإن لم يكن له قيمة لكونه مدراً أو لان فرخه ميت فلا شئ فيه، قال أصحابنا(3/293)
إلا بيض النعام فإن لقشرة قيمة والصحيح أنه لا شئ فيه لأنه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى أن يصير فيه حيوان صار كالأحجار والخشب وسائر ماله قيمة من غير الصيد ألا ترى أنه لو نقب بيضة فأخرج ما فيها لزمه جزاء جميعها ثم لو كسرها هو أو غيره لم يلزمه لذلك شئ، ومن كسر بيضه فخرج منها فرخ حي فعاش فلا شئ فيه، وقال ابن عقيل يحتمل أن يضمنه إلا أن يحفظه من الجارح إلى أن ينهض فيطير لأنه صار في يده مضموناً وتخليته غير ممتنع ليس برد تام، ويحتمل أن لا يضمنه لأنه لم يجعله غير ممتنع بعد أن كان ممتنعاً بل تركه على صفته فهو كما لو أمسك طائراً أعرج ثم تركه وإن مات ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه ففي فرخ الحمام صغير أولاد الغنم، وفي فرخ
النعامة حوار وفيما عداهما قيمة إلا ما كان أكبر من الحمام ففيه ما نذكره من الخلاف في أمهاته إن شاء الله تعالى، ولا يحل لمحرم أكل بيض الصيد إذا كسره هو أو محرم سواه، وإن كسره حلال فهو كلحم الصيد إن كان أخذه لاجل المحرم لم يبح أكله وإلا أبيح، وإن كسر المحرم بيض صيد لم يحرم على الحلال لأن حله لا يقف على كسره ولا يعتبر له أهليته بل لو كسره مجوسي أو وثني أو بغير تسمية لم يحرم فأشبه قطع اللحم وطبخه، وقال القاضي: يحرم على الحلال أكله كالصيد لأن(3/294)
كسره جرى مجرى الذبح بدليل حله للمحرم بكسر الحلال له وتحريمه عليه بكسر المحرم (فصل) وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر أو ترك مع بيض الصيد بيضاً آخر أو شيئاً فنفر عن بيضه حتى فسد فعليه ضمانه لأنه تلف بسببه، وإن صح وفرخ فلا ضمان عليه، وإن باض الصيد على فراشه فنقله برفق ففسد ففيه وجهان بناء على الجراد إذا انفرش في طريقه وحكم بيض الجراد حكم الجراد وكذلك بيض كل حيوان حكمه حكمه لأنه جزء منه أشبه الأصل، وإن احتلب لبن صيد ففيه قيمته كما لو حلب لبن حيوان مغصوب (مسألة) (ولا يملك الصيد بغير الإرث وقيل لا يملكه به أيضا) لا يملك المحرم الصيد ابتداء بالبيع ولا بالهبة ونحوهما من الاسباب فان الصعب بن جثامة(3/295)
أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً فرده عليه وقال " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " فإن أخذه بأحد هذه الأسباب ثم تلف فعليه جزاؤه، وإن كان مبيعاً فعليه القيمة لمالكه مع الجزاء لأن ملكه لم يزل عنه، وإن أخذه رهناً فلا شئ عليه سوى الجزاء لأنه أمانة فإن لم يتلف فعليه رده إلى مالكه فإن أرسله فعليه ضمانه لمالكه وليس عليه جزاء وعليه رد المبيع أيضاً، ويحتمل أن يلزمه إرساله كما لو كان مملوكاً، ولأنه لا يجوز له إثبات يده المشاهدة على الصيد، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ولا يسترد المحرم الصيد الذي باعه وهو حلال بخيار ولا عيب في ثمنه ولا غير ذلك لأنه ابتداء ملك على الصيد وهو ممنوع منه، وإن رده المشتري عليه بعيب أو خيار فله ذلك لأن سبب الرد محقق
ثم لا يدخل في ملك المحرم ويلزمه إرساله (فصل) وإن ورثه المحرم ورثه لأن الملك بالإرث ليس بفعل من جهته، وإنما يدخل في ملكه حكماً اختار ذلك أو كرهه، ولهذا يدخل في ملك الصبي والمجنون ويدخل به المسلم في ملك الكافر فجرى مجرى الاستدامة وقيل لا يملك به أيضاً لأنه جهة من جهات التمليك أشبه البيع وغيره فعلى هذا يكون أحق به من غير ثبوت ملكه عليه فإذا حل ملكه(3/296)
(مسألة) (وإن أمسك صيدا حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه وكان ميتة وقال أبو الخطاب له أكله) إذا صاد المحرم صيداً لم يملكه، فإن أمسكه حتى حل لزمه إرساله وليس له ذبحه فإن تلف فعليه ضمانه لأنه لا يحل له إمساكه أشبه الغاصب، وإن ذبحه ضمنه لذلك وحرم أكله لأنه صيد ضمنه بحرمة الإحرام فلم يبح أكله كما لو ذبحه حال إحرامه، ولأنها زكاة منع منها بسبب الإحرام فأشبه ما لو كان الإحرام باقياً، واختار أبو الخطاب أن له أكله وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهل ذبح الصيد فأشبه ما لو صاده الحل والفرق ظاهر لأن هذا يلزمه ضمانه بخلاف الذي صاده بعد الحل ورى ابن أبي موسى عن أحمد إذا استأجر بيتاً في الحرم فوجد فيه صيداً ميتاً فداه احتياطاً والقياس أنه لا يجب عليه فداؤه ولأن الأصل براءة الذمة (مسألة) (وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة دون الحكمية عنه فان لم يفعل فتلف ضمنه وإن أرسله إنسان من يده قهراً فلا ضمان على المرسل) إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده أو في يد ثابت له في غير مكانه ولا شئ عليه إن مات وله التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما وإن غصبه(3/297)
غاصب لزمه رده ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه، ومعناه إذا كان في قبضته أو خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوط بحبل معه لزمه إرساله، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وقال الثوري هو ضامن لما في بيته أيضاً، وحكي نحو ذلك عن الشافعي، وقال أبو ثور ليس على إرسال ما في يده وهو أحد قولي
الشافعي لأنه في يده ولم يجب إرساله كما لو كان في يده الحكمية ولأنه لا يلزم من منع ابتداء الصيد المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلا فلم يلزمه شئ كما لو كان في ملك غيره وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة لأنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعاً منه وكحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك بدليل أنه لو حلف لا يملك شيئاً فاستدام إمساكه حنث، والأصل المقيس عليه ممنوع والحكم فيه ما ذكرنا قياساً عليه.
إذا ثبت هذا فانه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومن أخذه رده عليه إذا حل ومن قتله ضمنه له لأن ملكه كان عليه، وإزالة يده لا تزيل الملك بدليل الغصب والعارية فإن تلف في يده قبل إرساله مع إمكانه ضمنه لأنه تلف تحت اليد العادية فلزمه ضمانه كمال الآدمي ولا يلزمه ضمانه قبل إمكان الإرسال لعدم التفريط والتعدي فإن(3/298)
أرسله إنسان من يده قهر فلا ضمان عليه لأنه فعل ما له فعله ولأن اليد قد زال حكمها وحرمتها فإن أمسكه حتى حل فملكه باق عليه لأن ملكه لم يزل بالإحرام إنما زال حكم المشاهدة فصار كالعصير يتخمر ثم يتخلل قبل إراقته (فصل) ومن ملك صيدا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده وإرساله فإن تلف في يده أو أتلفه فعليه ضمانه كصيد الحل في حق المحرم.
وقال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء.
وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وممن كره الصيد الحرم ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وأصحاب الرأي، ورخص فيه جابر بن عبد الله ورويت عنه الكراهة قال هشام بن عروة: كان ابن الزبير تسع سنين براها في الأقفاص، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأساً ورخص فيه سعيد بن جبير ومجاهد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لأنه ملكه خارجاً وحل له التصرف فيه فجاز له ذلك في الحرم كصيد المدينة ولنا أن الحرم سبب محرم للصيد يوجب ضمانه فحرم استدامة إمساكه كالإحرام ولأنه صيد ذبحه في الحرم فلزمه جزاؤه كما لو صاده منه، وصيد المدينة لا جزاء فيه بخلاف صيد الحرم(3/299)
(فصل) فإن أمسك صيدا في الحرم فأخرجه لزمه إرساله من يده كالمحرم إذا أمسك الصيد حتى حل فإن تركه فتلف فعليه ضمانه كالمحرم إذا أمسكه حتى تحلل (مسألة) (وان قتل صيداً صائلا عليه دفعاً عن نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه فتلف لم يضمنه وقيل يضمنه فيهما) إذا صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر عليه الجزاء وهو قول أبي حنيفة لأنه قتله لحاجة نفسه أشبه قتله لحاجته إلى أكله ولنا إنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي الصائل ولأنه التحق بالمؤذيات طبعا فصار كالكلب العقور ولا فرق بين أن يخشى منه التلف أو مضرة لجرحه أو إتلاف ماله أو بعض حيواناته (فصل) فإن خلص صيداً من سبع أو شبكة أو أخذه ليخلص من رجله خيطاً ونحوه فتلف بذلك فلا ضمان عليه، وبه قال عطاء وقيل عليه الضمان وهو قول قتادة لعموم الآية، ولأن غاية ما فيه أنه عدم القصد إلى قتله فأشبه قتل الخطأ ولنا أنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي الصبي فمات بذلك وهذا ليس بمتعمد ولا تناوله الآية(3/300)
(مسألة) (ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان انسي ولا محرم الاكل ولا القمل على المحرم في رواية وأي شئ تصدق به كان خيراً منه) لا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم شئ من الحيوان الأهلي كبهيمة الانعام والخيول والدجاج ونحوها لأنه ليس بصيد، وإنما حرم الله سبحانه الصيد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في إحرامه في الحرم يتقرب الى الله سبحانه بذلك، وقال عليه السلام " أفضل الحج العج والثج " يعني إسالة الدماء بالذبح والنحر وهذا لا خلاف فيه، فإن كان متولداً بين وحشي وأهلي غلب جانب التحريم (فصل) فأما المحرم أكله فهو ثلاثة أقسام
(أحدها) الخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها في الحل والحرم وهي الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور، وفي بعض ألفاظ الحديث الحية مكان العقرب فيباح قتلهن في الإحرام والحرم وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري والشافعي وأصحاب الرأي واسحاق، وحكي عن النخعي أنه منه قتل الفأرة والحديث صريح في حل قتلها فلا تعويل على ما خالفه، والمراد بالغراب الأبقع وغراب البين، وقال قوم لا يباح قتل غراب البين لأنه روي " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية(3/301)
والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا " رواه مسلم وهذا يقيد مطلق ذكر الغراب في الحديث الآخر ولا يمكن حمله على العموم بدليل أن المباح من الغربان لا يحل قتله ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن " وذكر مثل حديث عائشة متفق عليهما وهذا عام في الغراب وهو أصح من الحديث الآخر، ولأن غراب البين محرم الاكل يعدوا على أموال الناس ولا وجه لإخراجه من العموم وفارق ما أبيح أكله فانه ليس في معنى ما أبيح قتله فلا يلزم من تخصيصه تخصيص ما ليس في معناه (القسم الثاني) من المحرم أكله ماكان طبعه الأذى وإن لم يوجد منه أذى كالأسد والنمر والفهد والذئب وما في معناه فيباح قتله أيضاً ولا جزاء فيه قال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم مثل الأسد والذئب والنمر والفهد.
فعلى هذا يباح قتل كل ما فيه أذى للناس في أنفسهم وأموالهم مثل سباع البهائم كلها، الحرام أكلها وجوارح الطير كالبازي والصقر والشاهين والعقاب ونحوها والحشرات(3/302)
المؤذية والزنبور والبق والبعوض والبراغيث والذباب وبه قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي: يقتل ما جاء في الحديث والذئب قياساً عليه ولنا أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه تنبيها على ما هو أعلى منها، ودلالة على ماكان
في معناها فنصه على الغراب والحدأة تنبيه على البازي ونحوه وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات وعلى العقرب تنبيه على الحية وقد ذكرت في بعض الأحاديث، وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي هي أعلا منه ولان مالا يضمن بقيمته ولا مثله لا يضمن بشئ كالحشرات (القسم الثالث) من المحرم الاكل مالا يؤذي بطبعه كالرخم والديدان فلا أثر للحرم ولا للإحرام فيه ولا جزاء فيه إن قتله، وبه قال الشافعي وقال مالك يحرم قتلها فإن قتلها فداها وكذلك كل سبع لا يعدو على الناس فإذا وطئ الذباب أو النمل أو الذر أو قتل الزنبور تصدق بشئ من الطعام، وقال ابن عقيل في النملة لقمة، أو تمرة إذا لم تؤذه، ويتخرج في النحلة مثل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النملة والنحلة.
وحكى ابن أبي موسى في الضفدع حكومة(3/303)
ولنا أن الله سبحانه إنما أوجب الجزاء في الصيد وليس هذا بصيد.
قال بعض أهل العلم الصيد ما جمع ثلاثة أشياء إن يكون مباحاً ممتنعاً، ولأنه لا مثل له ولا قيمة والضمان إنما يكون بأحد هذين الشيئين (فصل) ولا بأس أن يقرد المحرم بعيره روى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرد بعيره باسقيا أي نزع القراد عنه فرماه وهذا قول ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء وقال مالك لا يجوز وكرهه عكرمة ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة ولأنه مؤذ فأبيح قتله كالحية والعقرب (فصل) فأما القمل ففيه روايتان (إحداهما) إباحة قتله لأنه من أكثر الهوام أذى فأبيح قتله كالبراغيث وسائر ما يؤذي (والثانية) إن قتله محرم وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه يترفه بازالته فحرم كقطع الشعر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه فقال له احلق رأسك فلو كان قتل القمل وإزالته مباح لم يكن كعب ليتركه حتى يصير كذلك ولكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإزالته خاصة والصئبان كالقمل لأنه بيضه ولافرق بين قتل القمل ورميه أو قتله بالزئبق لحصول الترفه به قال القاضي إنما الروايتان فيما أزاله من شعره أما ما ألقاه من ظاهر بدنه وثوبه فلا شئ فيه رواية واحدة وظاهر كلام شيخنا ههنا يقتضي العموم ويجوز له حك رأسه برفع كيلا يقطع شعراً أو يقتل قملاً فإن حك فرآى في يده
شعراً استحب له أن يعيده احتياطاً ولا يجب حتى يستيقن(3/304)
(فصل) فإن تفلى المحرم أو قتل قملاً فلا فدية فيه فإن كعب بن عجرة حين حلق رأسه قد أذهب قملاً كثيراً ولم يجب عليه لذلك شئ إنما أوجب الفدية بحلق الشعر ولأن القمل لا قيمة له فأشبه البعوض والبراغيث ولأنه ليس بصيد ولاهو مأكولا حكي عن ابن عمر قال هي أهون مقتول وسئل ابن عباس في محرم ألقى قملة ثم طلبها فلم يجدها قال مالك ضالة لا تبتغى، وهذا قول طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي ثور وابن المنذر وعن أحمد فيمن قتل قملة قال يطعم شيئاً.
فعلى هذا أي شئ تصدق به أجزأه سواء قتل قليلاً أو كثيراً وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق تمرة فما فوقها، وقال مالك حفنة من طعام وروي ذلك عن ابن عمر وهذه الأقوال كلها قريب من قولنا فانهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به (فصل) والخلاف إنما هو في قتله للمحرم أما في الحرم فيباح قتل القمل بغير خلاف لأنه إنما حرم في حق المحرم لما فيه من الترفه فهو كقطع الشعر ومن كان في الحرم غير محرم فمباح له قطع الشعر وتقليم الأظفار والطيب وسائر ما يترفه به (فصل) ولا بأس بغسل المحرم رأسه وبدنه برفق.
فعل ذلك عمر وابنه وأرخص فيه علي وجابر(3/305)
وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك للمحرم أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه ولعله ذهب إلى أن ذلك ستر له، والصحيح أنه لا بأس بذلك لأن ذلك ليس بستر ولهذا لا يقوم مقام السترة في الصلاة، وقد روي عن ابن عباس قال ربما قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفساً في الماء؟ رواه سعيد ولأنه ليس بستر معتاد وأشبه صب الماء عليه ووضع يده عليه، وقد روي عبد الله بن جبير قال أرسلني ابن عباس الى أبي أيوب الأنصاري فأتيته وهو يغتسل فسلمت عليه فقال من هذا؟ فقلت أنا عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطاه
حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء: صب، فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل متفق عليه (فصل) ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمى ونحوهما لما فيه من إزالة الشعث والتعرض لقطع الشعر وكرهه جابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأصحاب الرأي فإن فعل فلا فدية عليه، وبه قال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وعن أحمد رحمه الله عليه الفديه، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال صاحباه عليه(3/306)
صدقة لأن الخطمي يستلذ برائحته ويزيل الشعث ويقتل الهوام فوجبت به الفدية كالورس ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصه بعيره " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " متفق عليه فأمر بغسله بالسدر مع إثبات حكم الإحرام في حقه والخطمى كالسدر، ولأنه ليس بطيب فلم تجب الفدية باستعماله كالتراب، وقولهم يستلذ رائحته ممنوع ثم يبطل بالفاكهة وبعض التراب وإزالة الشعث يحصل بذلك أيضاً، وقتل الهوام لا يعلم حصوله ولا يصح قياسه على الورس لأنه طيب، ولذلك لو استعمله في غير الغسل أو في ثوبه منع منه بخلاف مسئلتنا (مسألة) (ولا يحرم صيد البحر على المحرم وفي إباحته في الحرم روايتان) لا يحرم صيد البحر على المحرم بغير خلاف لقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) قال ابن عباس وابن عمر طعامه ما ألقاه، وعن ابن عباس طعامه ملحه ولا خلاف بين أهل العلم في جواز أكله وبيعه وشرائه، ولا فرق بين حيوان البحر الملح وبين ما في الأنهار والعيون فإن اسم البحر يتناول الكل قال الله سبحانه (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا(3/307)
ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا) ولأن الله تعالى قابله بصيد البر بقوله (وحرم عليكم صيد البر) فدل على أن ما ليس من صيد البر فهو من صيد البحر، وحيوان البحر ماكان يعيش في الماء ويفرخ فيه ويبيض فيه، فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء كالسمك ونحوه فهذا لا خلاف فيه، وإن
كان مما يعيش في البر كالسلحفاة والسرطان فهو كالسمك لاجزاء فيه، وقال عطاء فيه الجزاء وفي الضفدع وكل ما يعيش في البر ولنا أنه يفرخ في الماء ويبيض فيه فكان من حيوانه كالسمك فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم منهم الاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً غير ما حكي عن عطاء أنه قال: حيثما يكون أكثر فهو من صيده ولنا أنه إنما يفرخ في البر ويبيض فيه وإنما يدخل الماء ليتعيش فيه ويكتسب منه فهو كصياد الآدميين، فإن كان جنس من الحيوان نوع منه في البر ونوع منه في البحر كالسلحفاة فلكل نوع حكم نفسه كالبقر منها الوحشي محرم والأهلي مباح(3/308)
(فصل) وهل يباح صيد البحر في الحرم فيه روايتان أصحهما أنه لا يباح فلا يحل الصيد من آبار الحرم وعيونه كرهه جابر بن عبد الله رضي الله عنه لقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " ولأن الحرمة تثبت للصيد بحرمة المكان وهو شامل لكل صيد (والثانية) أنه مباح لأن الإحرام لا يحرمه الحرم كالسباع والحيوان الأهلي (مسألة) (ويضمن الجراد بقيمته فإن انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان وعنه لا ضمان في الجراد) اختلفت الرواية في الجراد فعنه هو صيد البحر لا جزاء فيه وهو مذهب أبي سعيد، قال إبن المنذر قال ابن عباس وكعب هو من صيد البحر، قال عروة هو من نثرة حوت، وروي عن أبي هريرة قال أصابنا ضرب من جراد فكان الرجل منا يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له أن هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إن هذا من صيد البحر " وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجراد من صيد البحر " رواهما أبو داود (والرواية الثانية) أنه من صيد البر وفيه الجزاء وهو قول الأكثرين لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك؟ قال درهمان، قال بخ درهمان خير من مائة جرادة، رواه(3/309)
الشافعي في مسنده، ولأنه طير يشاهد طيرانه في البر ويهلكه الماء إذا وقع فيه أشبه العصافير، فأما الحديثان اللذان ذكرناهما للرواية الأولى فوهم قاله أبو داود، فعلى هذا يضمنه بقيمته لأنه لا مثل له وهذا قول الشافعي، وعن أحمد يتصدق بتمرة عن الجرادة وهذا يروى عن عمر وعبد الله بن عمر، وقال ابن عباس قبضة من طعام، قال القاضي كلام أحمد وغيره محمول على أنه أوجب ذلك على طريق القيمة، والظاهر أنهم لم يريدوا بذلك التقدير وإنما أرادوا فيه أقل شئ (فصل) فإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه بحيث لا يمكنه التحرز منه ففيه وجهان (أحدهما) يجب جزاؤه لانه أتلقه لنفع نفسه فضمنه كالمضطر يقتل صيداً يأكله (والثاني) لا يضمنه لأنه اضطره إلى إتلافه أشبه الصائل عليه (مسألة) (ومن اضطر إلى أكل الصيد واحتاج إلى شئ من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفداء) إذا اضطر إلى أكل الصيد أبيح له ذلك بغير خلاف علمناه لقوله سبحانه (ولا تلقوا بأيديكم إلى(3/310)
التهلكة) وترك الأكل مع القدرة عند الضرورة القاء بيده إلى التهلكة ومتى قتله لزمه ضمانه سواء وجد غيره أو لم يجد، وقال الأوزاعي لا يضمنه لأنه مباح أشبه صيد البحر ولنا عموم الآية ولأنه قتله من غير معنى حدث من الصيد يقتضي قتله فضمنه كغيره ولأنه أتلفه لدفع الأذى عن نفسه لا لمعنى منه أشبه حلق الشعر لأذى برأسه وكذلك إن احتاج إلى حلق شعره للمرض أو القمل وقطع شعره لمداواة جرح أو نحوه أو تغطية رأسه أو لبس المخيط أو شئ من المحظورات فله فعله كما جاز حلق رأسه للحاجة فإن فعله فعليه الفدية لأن الفدية تثبت في حلق الرأس للعذر للآية وحديث كعب بن عجرة وقسنا عليه سائر المحظورات (فصل) قال الشيخ رحمه الله (السابع) عقد النكاح لا يصح منه، وفي الرجعة روايتان ولا فدية عليه في شئ منهما.
لا يجوز للمحرم أن يتزوج لنفسه ولا يكون ولياً في النكاح ولا وكيلاً فيه ولا يجوز تزويج المحرمة
روى ذلك عن عمر وابنه وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار(3/311)
والزهري والاوزاعي ومالك والشافعي وأجازه ابن عباس وهو قول أبي حنيفة لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم متفق عليه ولأنه عقد يملك به الاستمتاع فلم يحرمه الإحرام كشراء الاماء.
ولنا ماروى عثمان بن عفان رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه مسلم ولان الإحرام يحرم الطيب فيحرم النكاح كالعدة فأما حديث ابن عباس فقد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها رواه أبو داود والاثرم وعن أبي رافع قال تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما قال الترمذي هذا حديث حسن وميمونة أعلم بحال نفسها وأبو رافع صاحب القصة وهو السفير فيها فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرا وقد كان صغيراً لا يعرف حقائق الأمور وقد أنكر عليه هذا القول فقال سعيد بن المسيب وهم من ابن عباس ما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حلالا فكيف يعمل بحديث هذا حاله ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو في البلد الحرام كما قيل * قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً * وقيل تزوجها حلالا وأظهر أمر تزويجها وهو محرم ثم لو تعارض الحديثان كان تقديم حديثنا أولى لأنه(3/312)
قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فعله والقول آكد لأنه يحتمل أن يكون مختصاً بما فعله وعقد النكاح يخالف شراء الأمة لأنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة اختاله من الرضاع ولأن النكاح إنما يراد للوطئ غالباً بخلاف الشراء فإنه يراد للخدمة والتجارة وغير ذلك فافترقا.
(فصل) وإذا وكل المحرم حلالا في النكاح فعقد له النكاح بعد تحلل الموكل صح العقد لأن الاعتبار بحالة العقد وإن وكله وهو حلال فلم يعقد له العقد حتى أحرم لم يصح لما ذكرنا فإن أحرم
الامام الاعظم منع من التزويج لنفسه وتزويج أقاربه وهل يمنع من أن يزوج بالولاية العامة فيه احتمالان (أحدهما) يمنع كما لو باشر العقد (والثاني) لا يمنع لأن فيه حرجاً على الناس وتضييقاً عليهم في سائر البلاد ولان من يزوج من الحكام إنما يزوجوه بإذنه وولايته ذكر ذلك ابن عقيل واختار الجواز لأنه حال ولايته كان حلالا والاستدامة أقوى من الابتداء لأن الإمامة العظمى من شرطها العدالة ولا تبطل بالفسق الطارئ (فصل) وإذا وكل الحلال محلاً في النكاح فعقد النكاح وأحرم الموكل فقالت الزوجة وقع العقد بعد الإحرام فلم يصح وقال الزوج بل قبله فالقول قوله وإن كان الاختلاف بالعكس فالقول قوله أيضاً لأنه يملك فسخ العقد فملك الإقرار به لكن يجب عليه نصف الصداق (فصل) فإن تزوج أو زوج أو زوجت المحرمة لم يصح النكاح سواء كان الكل محرمين أو بعضهم لأنه منهي عنه فلم يصح كنكاح المرأة على عمتها وخالتها، وقال ابن أبي موسى إذا زوج المحرم غيره صح في إحدى الروايتين، وروى عن أحمد رحمه الله أنه قال: إن زوج المحرم لم ينفسخ النكاح قال بعض أصحابنا هذا يدل على أنه إذا كان الولي بمفرده أو الوكيل محرماً لم يفسد النكاح لأنه سبب يبيح محظوراً للحلال فلم يمنع منه الإحرام كما لو حلق المحرم رأس حلال والمذهب الأول للحديث،(3/313)
وكلام أحمد يحمل على أنه لم يفسخه لكونه مختلفاً فيه، قال القاضي ويفرق بينهما بطلقة وكذلك كل نكاح مختلف فيه كالنكاح بلا ولي ليباح تزويجها بيقين وفي الرجعة روايتان (إحداهما) لا تصح لأنه عقد وضع لإباحة البضع أشبه النكاح (والثانية) يصح ويباح وهو قول أكثر أهل العلم واختيار الخرقي لأنها إمساك للزوجة لقوله تعالى (فأمسكوهن بمعروف) ولأنها تجوز بلا ولي ولا شهود ولا اذنها فلم تحرم كامساكها بترك الطلاق، ولأن الصحيح من المذهب إن الرجعية مباحة قبل الرجعة فلا يحصل بها إحلال ولو قلنا إنها محرمة لم يكن ذلك مانعاً من رجعتها كالتكفير للمظاهر، وهذه الرواية هي الصحيحة إن شاء الله تعالى ويباح شراء الإماء للتسري وغيره، ولا نعلم في ذلك خلافاً والله أعلم (فصل) ويكره للمحرم الخطبة، وخطبة المحرمة، ويكره للمحرم أن يخطب للمحلين لقوله عليه السلام في حديث عثمان (ولا يخطب) ولأنه تسبب إلى الحرام أشبه الإشارة إلى الصيد والإحرام
الفاسد كالصحيح في منع النكاح وسائر المحظورات لأن حكمه باق في وجوب ما يجب بالإحرام فكذلك ما يحرم به (فصل) ويكره أن يشهد في النكاح لأنه معونة على النكاح أشبه الخطبة، وإن شهد أو خطب لم يفسد النكاح، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعقد النكاح بشهادة محرمين لأن في بعض الروايات لا يشهد ولنا أنه لا مدخل للشاهد في العقد فأشبه الخطيب وهذه الزيادة غير معروفة فلا يثبت بها حكم ومتى تزوج المحرم أو المحرمة أو زوج لم يجب عليه فدية لأنه فسد لأجل الاحرام فلم يجب به فدية كشراء الصيد ولا فرق بين الإحرام الفاسد والصحيح فيما ذكرنا لأنه يمنع ما يمنعه في الصحيح كحلق الشعر وتقليم الأظفار وغير ذلك كذلك التزويج(3/314)
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الثامن الجماع في الفرج قبلاً كان أو دبراً من آدمي أو غيره فمتى فعل ذلك قبل التحلل فسد نسكه عامداً كان أو ساهياً) يفسد الحج بالوطئ في الجملة بغير خلاف.
قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد باتيان شئ في حال الإحرام إلا بالجماع والأصل فيه ماروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال: إني وقعت بامرأتي ونحن محرمان، فقال إفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون، وحل إذا أحلوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، وكذلك قال ابن عباس وابن عمر ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً رواه الأثرم في سننه وفي حديث ابن عباس " ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما " قال إبن المنذر قول ابن عباس أعلى شئ روي فيمن وطئ في حجه، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي (فصل) ومتى كان قبل التحلل الأول فسد الحج سواء كان قبل الوقوف أو بعده في قول الأكثرين، وقال أبو حنيفة وأصحاب الرأي: إن جامع قبل الوقوف فسد حجه، وإن جامع بعده لم يفسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة " ولأنه معنى يأمن به الفوات فأمن به الإفساد كالتحلل(3/315)
ولنا قول من سمينا من الصحابة فإن قولهم مطلق جامع وهو محرم، ولأنه جماع صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الوقوف، وقوله عليه السلام " الحج عرفة " يعني معظمة، أو أنه ركن متأكد فيه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد بدليل العمرة (فصل) ولا فرق بين الوطئ في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويتخرج من وطئ البهيمة أنه لا يفسد الحج إذا قلنا لا يجب به الحد وهو قول مالك وأبي حنيفة لأنه لا يوجب الحد أشبه الوطئ دون الفرج.
وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة إن اللواط والوطئ في دبر(3/316)
المرأة لا يفسد الحج لأنه لا يثبت به الإحصان أشبه الوطئ دون الفرج ولنا أنه وطئ في فرج يوجب الغسل فافسد الحج كالوطئ في قبل الآدمية ويفارق الوطئ دون الفرج فإنه ليس من الكبائر في الأجنبية ولا يوجب مهراً ولا عدة ولا حداً ولا غسلاً وإن أنزل به فهو كمسئلتنا في رواية (فصل) والعمد والنسيان فيما ذكرنا سواء نص عليه أحمد فقال: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شئ لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والنسيان فيها سواء، والجاهل بالتحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور وممن قال أن عمد الوطئ ونسيانه سواء أبو حنيفة ومالك والشافعي في القديم وقال في الجديد لا يفسد الحج ولا يجب عليه مع النسيان شئ.
وحكى ابن عقيل في الفصول رواية لا يفسد لقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان " والجهل في معناه لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة فافترق فيها وطئ العامد والساهي كالصوم ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستفصلوا السائل عن العمد والنسيان حين سألهم عن حكم الوطئ ولأنه سبب يتعلق به وجوب القضاء في الحج فاستوى عمده وسهوه كالفوات والصوم ممنوع (فصل) ويجب به بدنة روى ذلك عن ابن عباس وطاوس ومجاهد ومالك والشافعي
وقال الثوري واسحاق عليه بدنة فان لم يجد فشاة، وقال أصحاب الرأي إن كان قبل الوقوف فسد حجه وعليه شاة وإن كان بعده فحجه صحيح لأنه قبل الوقوف معنى يوجب القضاء فلم يجب به بدنة كالفوات ولنا أنه جماع صادف إحراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم يفرقوا بين ما قبل الوقوف وبعده.
أما الفوات فهو مفارق للجماع وأما فساد الحج فلا فرق فيه بين حال الإكراه والمطاوعة لا نعلم فيه خلافا لأنهم لا يوجبون فيه الشاة بخلاف الجماع (فصل) وحكم المرأة حكم الرجل في فساد الحج لأن الجماع وجد منهما فاستويا فيه وحكم المكرهة والنائمة حكم المطاوعة ولا فرق فيما بعد يوم النحر وقبله لأنه وطئ قبل التحلل الأول أشبه قبل يوم النحر (مسألة) (وعليهما المضي في فاسده والقضاء على الفور من حيث أحرما أولا ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاعوت وإن أكرهت فعلى الزوج) لا يفسد الحج بغير الجماع فإذا فسد فعليه، إتمامه وليس له الخروج منه روى ذلك عن عمر وعلي وأبي(3/317)
هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال الحسن ومالك يجعل الحجة عمرة ولا يقيم على حجة فاسدة، وقال داود يخرج بالإفساد من الحج والعمرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ولنا عموم قوله تعالى " (وأتموا الحج والعمرة لله) ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج منه كالفوات والخبر لا يلزمنا لأن المعنى فيه بأمر الله وإنما وجب القضاء لأنه لم يأت به على الوجه الذي يلزم بالإحرام ونخص مالكاً بأنها حجة لا يمكنه الخروج منها بالإحرام فلا يخرج منها إلى عمرة كالصحيحة.
إذا ثبت هذا فانه يجب عليه أن يفعل بعد الإفساد كما يفعل قبله من الوقوف والمبيت بمزدلفة والرمي ويجتنب بعد الفساد ما يجتنبه قبله من الوطئ ثانياً وقتل الصيد والطيب واللباس ونحوه وعليه الفدية بالجناية على الإحرام الفاسد كالإحرام الصحيح ويلزمه القضاء من قابل بكل حال لأنه قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم فإن كانت الحجة التي أفسدها واجبة بأصل الشرع أو بالنذر أو قضاء كانت الحجة من قابل مجزئة
لأن الفاسد إذا انضم إليه القضاء أجزأ عما يجزئ عنه الأول لو لم يفسده وإن كانت تطوعاً وجب قضاؤها أيضاً لأنه بالدخول في الإحرام صار الإحرام عليه واجباً فإذا أفسده وجب قضاؤه كالمنذور ويكون القضاء على الفور ولا نعلم فيه مخالفاً لأن الحج الأصل يجب على الفور فهذا أولى لأنه قد تعين بالدخول فيه والواجب بأصل الشرع لم يتعين بذلك (فصل) ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين الميقات أو موضع إحرامه الأول لأنه إن كان الميقات أبعد فلا يجوز تجاوز الميقات بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد فعليه الإحرام بالقضاء منه نص عليه أحمد رحمه الله ليكون القضاء على صفة الأداء، ولأنه قول ابن عباس، وبه يقول سعيد بن المسيب والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال النخعي يحرم من موضع الجماع لأنه موضع الإفساد ولنا أنها عبادة فكان قضاؤها على حسب أدائها كالصلاة (فصل) ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت لأنها أفسدت حجتها متعمدة فكانت نفقة القضاء عليها كالرجل، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج لأنه الذي أفسد حجتها فكانت النفقة عليه كنفقة حجته (مسألة) (ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا وهو واجب أو مستحب على وجهين) إذا قضيا يفرقان من موضع الجماع حتى يقضيا حجهما روي هذا عن عمر وابن عباس رضي(3/318)
الله عنهما فروى سعيد والاثرم بإسنادهما أن عمر سئل عن رجل وقع بامرأته وهما محرمان فقال: انما حجكما فإذا كان قابل فحجا وأهديا حتى إذا بلغتما المكان الذي أصبتما فتفرقا حتى تحلا.
وروي عن ابن عباس مثل ذلك، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن أحمد رضي الله عنه أنهما يتفرقان من حيث يحرمان إلى أن يحلا رواه مالك في الموطأ عن علي رضي الله عنه وروى عن ابن عباس وهو قول مالك لأن التفريق بينهما خوفاً من معاودة المحظور وهو يوجد في جميع إحرامها، ووجه الأول أن ما قبل موضع الإفساد كان إحرامهما فيه صحيحاً فلم يوجب التفريق فيه كالذي لم يفسد وإنما اختص التفريق بموضع الجماع لأنه ربما يذكره
برؤية مكانه فيدعوه ذلك إلى فعله ومعنى التفريق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط ونحوه قال أحمد: يفترقان في النزول وفي المحمل والبساط ولكن يكون بقربهما، وهل يجب التفريق أو يستحب؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجب وهو قول أبي حنيفة لأنه لا يجب التفريق في قضاء رمضان إذا أفسده كذلك الحج (والثاني) يجب لأنه قول من سمينا من الصحابة وقد أمروا به ولأن الاجتماع في ذلك الموضع يذكر الجماع فيكون من دواعيه والأول أولى لأن حكمه التفريق للصيانة عما يتوهم من معاودة الوقاع عند تذكره برؤية مكانه وهذا وهم بعيد لا يقتضي الإيجاب والعمرة فيما ذكرناه كالحج لأنها أحد النسكين فأشبه الآخر فإن كان المعتر مكياً قد أحرم بها من الحل أحرم للقضاء من الحل، وإن كان أحرم بها من الحرم أحرم للقضاء من الحل لأنه ميقاتها ولا فرق بين المكي ومن حصل بها من المجاورين، وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى في فسادها فأتمها فقال أحمد: يخرج من الميقات فيحرم منه للحج فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم فإذا فرغ من حجه خرج إلى الميقات فأحرم منه بعمرة مكان التي أفسدها وعليه هدي يذبحه إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته، ولو أفسد المفرد حجته وأتم فله الإحرام بالعمرة من أدنى الحل كالمكيين (فصل) وإذا أفسد القارن نسكه فعليه فداء واحد وبه قال عطاء وابن جريج ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور، وقال الحكم عليه هديان ويتخرج لنا أن يلزمه بدنة للحج وشاة للعمرة إذا قلنا يلزمه طوافان وسعيان وقال أصحاب الرأي إن وطئ قبل الوقوف فسد نسكه وعليه شاتان للحج والعمرة ولنا أن الصحابة الذين سئلوا عمن أفسد نسكه لم يأمروه إلا بفداء واحد ولم يفرقوا ولأنه أحد الانساك الثلاثة فلم يجب في افساده أكثر من فدية واحدة كالآخرين وسائر محظورات الإحرام واللبس والطيب وغيرهما لا يجب في كل واحد منهما أكثر من فدية واحدة كما لو كان مفرداً(3/319)
(فصل) وحكم العمرة حكم الحج في فسادها بالوطئ قبل الفراغ من السعي ووجوب المضي في فاسدها ووجوب القضاء قياساً على الحج إلا أنه لا يجب بإفسادها إلا شاة، وقال الشافعي عليه القضاء وبدنة كالحج،
وقال أبو حنيفة إن وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط كقولنا وإن وطئ بعد ذلك لم تفسد عمرته وعليه شاة ولنا على الشافعي أنها عبادة لا وقوف فيها فلم تجب فيها بدنة كما لو قرنها بالحج ولأن العمرة دون الحج فيجب ان يكون حكمها دون حكمه ولنا على أبي حنيفة أن الجماع من محظورات الإحرام فاستوى فيه ما قبل الطواف وبعده كسائر المحظورات ولانه وطئ صادف إحراما تاما فأفسده كما قبل الطواف (فصل) إذا أفسد القارن والمتمع نسكهما لم يسقط الدم عنهما، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يسقط، وعن أحمد رحمه الله مثله لأنه لم يحصل الترفه بسقوط أحد السفرين.
وقال القاضي في القارن إذا قلنا إن عليه للإفساد دمين فسد دم القران ولنا أن ما وجب في النسك الصحيح وجب في الفاسد كالأفعال ولأنه دم وجب عليه فلم يسقط بالإفساد كالدم الواجب لترك الميقات فإن أفسد القارن نسكه ثم قضى مفرداً لم يلزمه في القضاء دم، وقال الشافعي يلزمه لأنه يجب في القضاء ما يجب في الأداء ولنا أن الأفراد أفضل من القران مع الدم فإذا أتى به فقد أتى بما هو أولى فلم يلزمه شئ كمن لزمته الصلاة بتيمم فقضاه بوضوء (مسألة) (وإن جامع بعد التحلل الأول لم يفسد نسكه ويمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو محرم وهل يلزمه بدنة أو شاة على روايتين) وفي هذه المسألة ثلاثة فصول (أحدها) أن الوطئ بعد التحلل الأول لا يفسد الحج وهو قول ابن عباس وعكرمة وعطاء والشعبي وربيعة ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وقال النخعي والزهري وحماد عليه حج من قابل لان الوطئ صادف إحراما تاما بالحج فافسده كالوطئ قبل الرمي ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " ولأن ابن عباس قال في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر: ينحران جزوراً بينهما وليس عليه الحج من قابل ولا نعرف له في الصحابة مخالفاً، ولأنها عبادة لها تحللان
فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كما بعد التسليمة الأولى في الصلاة وبهذا فارق ما قبل التحلل الأول (الفصل الثاني) إن يفسد الاحرام بالوطئ بعد جمرة العقبة فليزمه أن يحرم من الحل وبذلك قال(3/320)
عكرمه وربيعة واسحاق.
وقال ابن عباس والشعبي والشافعي حجه صحيح ولا يلزمه إحرام لأنه إحرام لم يفسد جميعه فلم يفسد بعضه كما بعد التحلل الثاني ولنا انه وطئ صادف إحراماً فأفسده كالإحرام التام، وإذا فسد إحرامه فعليه أن يحرم ليأتي بالطواف في إحرام صحيح لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف.
ويلزمه الإحرام من الحل لأن الإحرام ينبغي أن يجمع فيه بين الحل والحرم فلو أبحنا له الإحرام من الحرم لم يجمع بينهما لأن أفعاله كلها تقع في الحرم أشبه المعتمر.
وإذا أحرم طاف للزيارة وسعى إن لم يكن سعى وتحلل لأن الذي بقي عليه يقية أفعال الحج وإنما وجب عليه الإحرام ليأتي بها في إحرام صحيح هذا ظاهر كلام الخرقي.
والمنصوص عن أحمد رحمه الله ومن وافقه من الأئمة أنه يعتمر فيحتمل أنهم أرادوا هذا أيضاً وسموه عمرة لأن هذه أفعال العمرة.
ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقة فلزمه سعي وتقصير، والأول أصح، وقوله يحرم من التنعيم لم يذكره لوجوب الإحرام منه بل لأنه حل فمن أتى الحل وأحرم جاز كالمعتمر (فصل) ومتى وطئ بعد رمي الجمرة لم يفسد حجة حلق أو لم يحلق، هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي ومن سمينا من الأئمة لترتيبهم هذا الحكم على الوطئ بعد مجرد الرمي من غير إعتبار أمر زائد (فصل) فإن طاف للزيارة ولم يرم ثم وطئ لم يفسد حجة بحال لأن الحج قد تمت أركانه كلها ولا يلزمه إحرام من الحل فإن الرمي ليس بركن ولا يلزمه دم لما ذكرنا ويحتمل أن يلزمه لأنه وطئ قبل وجود ما يتم به التحلل أشبه من وطئ بعد الرمي قبل الطواف (فصل) والقارن كالمفرد في أنه إذا وطئ بعد الرمي لم يفسد حجة ولا عمرته لأن الحكم للحج ألا ترى أنه لا يحل من عمرته قبل الطواف ويفعل ذلك إذا كان قارنا ولأن الترتيب للحج دونها والحج لا يفسد قبل الطواف كذلك العمرة وقال أحمد فيمن وطئ بعد الطواف يوم النحر قبل أن يركع: ما عليه شئ.
قال أبو طالب: سألت أحمد عن الرجل يقبل بعد رمي جمرة العقبة قبل أن يزور البيت قال ليس عليه شئ قد قضى المناسك.
فعلى هذا ليس في غير الوطئ في الفرج شئ
(الفصل الثالث فيما يجب عليه فدية للوطئ وهو شاة) نص عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، وهو قول عكرمة وربيعة ومالك واسحاق وفيه رواية أخرى أن عليه بدنة وهو قول ابن عباس وعطاء والشعبي والشافعي وأصحاب الرأي لأنه وطئ في الحج فوجبت به بدنة كما قبل رمي جمرة العقبة.
ووجه الأولى أنه وطئ لم يفسد الحج فلم يوجب بدنة كالوطئ دون الفرج إذا لم ينزل ولأن حكم الإحرام(3/321)
خف بالتحلل الأول فينبغي أن ينقص موجبه عن الإحرام التام (فصل) وإذا أفسد القضاء لم يجب عليه قضاؤه وإنما يقضي عن الحج الأول كما لو أفسد قضاء الصلاة والصيام وجب القضاء للأصل دون القضاء كذا ههنا.
وذلك لأن الواجب لا يزداد بفواته وإنما يبقى ما كان واجباً في الذمة على ماكان عليه فيعود به القضاء (فصل) قال الشيخ رضي الله عنه (التاسع) (المباشرة في ما دون الفرج لشهوة فإن فعل فأنزل فعليه بدنة وهل يفسد نسكه؟ على روايتين وإن لم ينزل لم يفسد) إذا وطئ فميا دون الفرج أو قبل أو لمس بشهوة فأنزل فعليه بدنة، وبذلك قال الحسن وسعيد ابن جبير وأبو ثور، وقال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر عليه شاة لأنه مباشرة دون الفرج أشبه مالو لم ينزل.
ولنا أنها مباشرة أوجبت الغسل فاوجبت بدنة كالوطئ في الفرج (فصل) وفي فساد النسك به روايتان (إحداهما) يفسد اختارها أبو بكر والخرقي فيما إذا وطئ دون الفرج فأنزل وهو قول الحسن وعطاء والقاسم بن محمد ومالك واسحاق لأنها عبادة يفسدها الوطئ فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام (والثانية) لا يفسد وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلم يفسد الحج(3/322)
كما لو لم ينزل ولأنه لا نص فيه ولا إجماع ولا يصح قياسه على المنصوص عليه لأن الوطئ في الفرج يجب بنوعه الحد ولا يفترق الحال فيه بين الإنزال وعدمه بخلاف المباشرة، والصيام بخلاف الحج في
المفسدات ولذلك يفسد إذا أنزل بتكرار النظر وسائر محظوراته والحج لا يفسد بشئ من محظوراته غير الجماع فافترقا والمرأة كالرجل في هذا إذا كانت ذات شهوة وإلا فلا شئ عليها كالرجل إذا لم يكن له شهوة وإن لم ينزل لم يفسد حجة بذلك لا نعلم فيه خلافا لأنها مباشرة دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج قياساً عليه، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل قبل زوجته أفسدت حجك، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وهو محمول على ما إذا أنزل (فصل) فإن كرر النظر فانزل أو لم ينزل لم يفسد حجة روى ذلك عن ابن عباس، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وروي عن الحسن وعطاء ومالك فيمن ردد النظر حتى أمنى عليه حج قابل لأنه أنزل بفعل محظور أشبه الإنزال بالمباشرة ولنا أنه إنزال من غر مباشرة أشبه الإنزال بالفكر والإحتلام والأصل الذي قاموا عليه ممنوع ثم إن المباشرة أبلغ في اللذة وآكد في استدعاء الشهوة فلا يصح القياس عليها، وإن لم ينزل لم يفسد حجة لا نعلم أحدا قال بخلاف ذلك لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه الفكر والله أعلم (فصل) قال رضي الله عنه (والمرأة إحرامها في وجهها ويحرم عليها ما يحرم على الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل) يحرم على المرأة تغطية وجهها في إحرامها لا نعلم في هذا خلافاً إلا ماروي عن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تغطي وجهها فيحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة ولا يكون اختلافاً قال إبن المنذر كراهية البرقع ثابتة عن سعد وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ولا نعلم احدا خالف فيه والأصل فيه ماروى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها " (فصل) فإن احتاجت الى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها فانها تسدل القثوب فوق رأسها على وجهها روى ذلك عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما، وبه قال عطاء ومالك والثوري والشافعي(3/323)
واسحاق ومحمد بن الحسن ولا نعلم فيه خلافا لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه.
رواه أبو داود والاثرم ولأن بالمرأة حاجة الى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة.
وذكر القاضي أن الثوب يكون متجافياً عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة فإن أصابها ثم زال أو أزالته بسرعة فلا شئ عليها كما لو أطارت الربح الثوب عن عورة المصلي ثم عاد بسرعة لا تبطل الصلاد، وإن لم ترفعه مع القدرة فدت لأنها استدامت الستر قال شيخنا ولم أر هذا الشرط عن أحمد ولا هو في الخبر مع أن الظاهر خلافه فإن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من اصابة البشرة فلو كان هذا شرطاً لبين، وإنما منعت المرأة من البرقع والنقاب ونحوه مما يعد لستر الوجه قال أحمد إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل كأنه يقول إن النقاب من أسفل على وجهها (فصل) ويجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطيه الوجه ولا يمكن تغطيه جميع الرأس إلا بجزء من الوجه ولا كشف جميع الوجه لا بكشف جزء من الرأس فعند ذلك ستر الرأس كله أولى لأنه آكد إذ هو عورة ولا يختص بحالة الإحرام وكشف الوجه بخلافه وقد أبحنا ستر جملته للحاجة العارضة فستر جزء منه لستر العورة أولى (فصل) ولا بأس للمرأة أن تطوف منتقبة إن لم تكن محرمة فعلته عائشة رضي الله عنها وكره ذلك عطاء ثم رجع عنه وذكر أبو عبد الله حديث ابن جريج أن عطاء كان يكره لغير المحرمة أن تطوف منتقبة حتى حدثته عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة طافت وهي منقبة فأخذ به (فصل) ويحرم عليها ما يحرم على الرجل من قطع الشعر وتقليم الأظفار والطيب وقتل الصيد وسائر المحظورات إلا لبس المخيط وتظليل المحمل قال إبن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجال إلا بعض اللباس، وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القمص والدروع والسراويلات والخمر والخفات وإنما كان كذلك لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرم بأمر وحكمه عليه يدخل فيه الرجال والنساء إنما استثنى منه اللباس للحاجة إلى ستر المرأة لكونها عورة إلا وجهها فتجردها
يفضي إلى انكشافها فأبيح لها اللباس للستر كما أبيح للرجل عقد الإزار كيلا يسقط فتنكشف عورته ولم يبح عقد الرداء، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في(3/324)
إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمراد باللباس ههنا المخيط من القمص والدروع والسراويلات والخفاف وما يستر الرأس ونحوه (فصل) ويستحب للمرأة عند الإحرام ما يستحب للرجل من الغسل والطيب قالت عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا بالمسك والطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكر عليها والشابة والكبيرة سواء في هذا فإن عائشة كانت شابة فان قيل أليس قد كره ذلك في الجمة قلنا لأنها في الجمة تقرب من الرجال فيخاف الافتتان بها بخلاف مسألتنا ولهذا يلزم الحج النساء ولا يلزمهن الجمعة، وكذلك يستحب لها قلة الكلام إلا فيما ينفع والاشتغال بالتلبية وذكر الله تعالى (مسألة) (ولا تلبس القفازين ولا الخلخال ولا تكتحل بالاثمد) القفازان شئ يعمل لليدين يدخلهما فيهما من خرق يسترهما من الحر مثل ما يعمل للبزاة يحرم على المرأة لبسه في حال إحرامها، وهذا قول ابن عمر وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والنخعي ومالك واسحاق وكان سعد بن أبي وقاص يلبس بناته القفازين وهن محرمات ورخص فيه علي وعائشة وعطاء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي كالمذهبين واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إحرام المرأة في وجهها " ولأنه عضو يجوز ستره بغير المخيط فجاز ستره به كالرجلين ولنا ماروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين " رواه البخاري وحديثهم المراد به الكشف فأما الستر بغير المخيط فيجوز للرجل ولا يجوز بالمخيط (فصل) فأما الخلخال وما أشبهه من الحلي كالسوار فظاهر كلام شيخنا ههنا أنه لا يجوز لبسه وهو ظاهر كلام الخرقي وقد قال أحمد المحرمة والمتوفى عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما ما سوى
ذلك، وروي عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الحرير والحلي وكرهه الثوري وروي عن قتادة أنه كان لا يرى بأساً أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة وكره السوارين والخلخالين والدملحين وظاهر المذهب الرخصة فيه وهو قول ابن عمر وعائشة وأصحاب الراي وهو الصحيح.
قال أحمد في رواية حنبل تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال عن نافع كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات لا ينكر عبد الله ذلك، وقد ذكرنا حديث ابن عمر وفيه ولتلبس بعد ذلك ما أحبت(3/325)
من ألوان الثياب من معصفر أوخز أو حلي قال إبن المنذر لا يجوز المنع منه بغير حجة ويحمل كلام أحمد في المنع على الكراهة لما فيه من الزينة وشبهه بالكحل بالأثمد ولا فدية فيه كما لا فدية في الكحل فاما ليس القفازين ففيه الفدية لأنها لبست ما نهيت عن لبسه في الإحرام فلزمتها الفدية بالنقاب، وقال القاضي يحرم عليها شد يديها بخرقة لأنه ستر ليديها بما يختص بها أشبه القفازين، وكما لو شد الرجل على جسده شيئاً وإن لفت يديها من غير شد فلا فدية لأن المحرم هو اللبس لا تغطيتهما كبدن الرجل (فصل) والكحل بالأثمد في الإحرام مكروه للمرأة والرجل، وإنما خصت المرأة بالذكر لانها محل الزينة والكراهة في حقها أكثر من الرجل يروى هذا عن عطاء والحسن ومجاهد، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: يكتحل المحرم بكل كحل ليس فيه طيب ورخص فيه مالك في الحر يجده المحرم، وروى عن أحمد أنه قال: يكتحل المحرم بما لم يرد به الزينة، قيل له الرجال والنساء؟ قال نعم ووجه كراهته ماروي عن جابر أن علياً رضي الله عنه قدم من اليمن فوجد فاطمة ممن حل فلبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدقت صدقت " رواه مسلم وغيره، وهذا يدل على أنها كانت ممنوعة من ذلك، وروي عن عائشة أنها قالت لامرأة اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد أو الأسود، إذا ثبت هذا فإن الكحل بالأثمد مكروه ولا فدية فيه لا نعم فيه خلافاً، وروت شميسة عن عائشة قالت: اشتكيت عيني وأنا محرمة فسألت عائشة فقالت اكتحلي بأي كحل شئت غير الأثمد، أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة فيجب تركه، قال الشافعي إن فعلا فلا أعلم عليهما فيه فدية بشئ
(فصل) فأما الكحل بغير الأثمد والأسود فلا كراهة فيه إذا لم يكن مطيباً لما ذكرنا من حديث عائشة وقول ابن عمر، وقد روى مسلم عن نبيه بن وهب قال: خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان ليسأله فقال اضمدهما بالصبر فإن عثمان حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكلى عينيه وهو محرم يضمدهما بالصبر ففيه دليل على إباحة ما أشبهه مما ليس فيه زينة ولا طيب وكان إبراهيم لا يرى بالذرور الأحمر بأساً (فصل) وإذا أحرم الخنثى المشكل لم يلزمه اجتناب المخيط لانا لا نتيقن كونه رجلاً، وقال ابن المبارك يغطي رأسه ويكفر (قال شيحنا) والصحيح أنه لا شئ عليه لأن الأصل عدم الوجوب فلا يجب بالشك، فإن غطى وجهه وجسده لم يلزمه فدية لذلك، وإن جمع بين تغطية وجهه بنقاب أو برقع(3/326)
وغطى رأسه أو لبس المخيط لزمته الفدية لأنه لا يخلو أن يكون رجلاً أو امرأة والله أعلم (مسألة) (ويجوز لبس المعصفر والكحلي والخضاب بالحناء والنظر في المرآة لهما جميعاً) لا بأس بما صبغ بالعصفر لأنه ليس بطيب ولا بأس باستعماله وشمه هذا قول جابر وابن عمر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب رضي الله عنهم وهو مذهب الشافعي، وكرهه مالك اذا كان ينتفض في جسده ولم يوجب فيه فدية ومنع منه الثوري وأبو حنيفة ومحمد وشبهوه بالمورس والمزعفر لأنه صبغ طيب الرائحة ولنا أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرمة " وللبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر، أو خز، أو حلي " رواه أبو داود، وعن عائشة وأسماء وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن يحرمن في المعصفرات، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً، ولأنه ليس بطيب فلم يكره المصبوغ به كالسواد، وأما الورس والزعفران فإنه طيب ولا بأس بالممشق وهو المصبوغ بالمغرة لأنه مصبوغ بطين وكذلك سائر الأصباغ سوى ما ذكرنا لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه أو ماكان في معناه، وليس هذا كذلك فأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني على الرياحين في نفسها فما منع المحرم من استعماله منع لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته وإلا فلا
إلا أنه يكره للرجل لبس المعصفر في غير الإحرام فكذلك فيه وقد ذكرنا ذلك في الصلاة (فصل) ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء عند الإحرام لما روي عن ابن عمر أنه قال: من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء، ولأنه من الزينة فاستحب عند الإحرام كالطيب ولا بأس بالخضاب في حال إحرامها، وقال القاضي يكره لكونه من الزينة فأشبه الكحل بالأثمد، فإن فعلت ولم تشد يديها بالخرق فلا فدية عليها، وبه قال الشافعي وابن المنذر.
وكان مالك ومحمد بن الحسن يكرهان الخضاب للمحرمة وألزماها الفدية ولنا ما روى عكرمة أنه قال: كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم ولا بأس بذلك للرجل فيما لا تشبه فيه بالنساء لأن الأصل الإباحة، وليس ههنا دليل يمنع من نص ولا إجماع ولاهو في معنى المنصوص (فصل) ولا بأس بالنظر في المرآة للحاجة كمداواة جرح أو إزالة شعره نبتت في عينه ونحو ذلك مما أباح الشرع له فعله، وقد روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا ينظران في(3/327)
المرآة وهما محرمان ويكره أن ينظر فيها لإزالة شعث أو تسوية شعر أو شئ من الزينة ذكره الخرقي قال أحمد رحمه الله: لا بأس أن ينظر في المرآة ولا يصلح شعراً، ولا ينفض عنه غباراً، وقال أيضاً إذا كان يريد زينة فلا، قيل فكيف يريد زينة؟ قال يرى شعرة فيسويها، روي نحو ذلك عن عطاء لأنه قد روي في حديث " إن المحرم الاشعث الاغبر " وفي الآخر " إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته فيقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي قد أتوني شعثاً غبراً ضاحين " أو كما جاء ولا فدية بالنظر في المرآة بحال وإنما ذلك أدب لا شئ على فاعله لا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئاً (فصل) وللمحرم أن يحتجم ولا فدية عليه إذا لم يقطع شعراً في قول الجمهور لأنه تداو بإخراج دم أشبه الفصد وبط الجرح، وقال مالك لا يحتجم إلا من ضرورة وكان الحسن يرى في الحجامة دماً ولنا أن ابن عباس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم: متفق عليه ولم يذكر فدية، ولأنه لا يترفه بذلك أشبه شرب الأدوية، وكذلك الحكم في قطع العضو عند الحاجة والختان كل ذلك
مباح من غير فدية، فإن احتاج في الحجامة إلى قطع شعر فله قطعه لما روى عبيد الله بحينه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بلحي جمل في طريق مكة وهو محرم وسط رأسه.
متفق عليه، ومن ضرورة ذلك قطع الشعر، لانه يباح حلق الشعر لإزالة أذى القمل فكذلك هذا وعليه الفديه، وبه قال مالك والشافعي وابو حنيفة وابو ثور وابن المنذر، وقال أبو يوسف ومحمد يتصدق بشئ ولنا قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة) الآية ولأنه حلق شعرا لإزالة ضرر غيره فلزمته الفدية كما لو حلقه لإزالة قمله (فصل) ويجتنب المحرم مانهاه الله تعالى عنه بقوله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وهذا صيغته صيغة النفي والمراد به النهي كقوله تعالى (لاتضار والدة بولدها) والرفث الجماع روى ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وروي عن ابن عباس أنه قال الرفث غشيان النساء والتقبيل والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام، وقال أو عبيدة الرفت لغا الكلام وأنشد قول العجاج: * عن اللغا ورفث التكلم * وقيل الرفث هو ما يكنى عنه من ذكر الجماع، وروي عن ابن عباس أنه أنشد بيتاً فيه التصريح بما يكنى عنه من الجماع وهو محرم فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث ماروجع به النساء، وفي لفظ ما قيل من ذلك عند النساء، وفي الجملة كل ما فسر به الرفث ينبغي للمحرم أن يجتنبه إلا أنه في الجماع(3/328)
أظهر لما ذكرنا من تفسير الأئمة ولأنه قد جاء في موضع آخر وأريد به الجماع وهو قوله (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (1) أما الفسوق فهو السباب لقول الني صلى الله عليه وسلم " سباب المسلم فسوق " متفق عليه (2) وقيل الفسوق المعاصي روى ذلك عن ابن عباس وإن عمر وعطاء وابراهيم وقالوا أيضاً الجدال المراء قال ابن عباس رضي الله عنه هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه والمحرم ممنوع من ذلك كله قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " متفق عليه وقال مجاهد في قوله (ولا جدال في الحج) أي لا مجادلة وقول الجمهور أولى.
(فصل) ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب ومالا يحل فإن من كثر كلامه كثر سقطه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " قال أبو داود أصول السنن أربعة أحاديث هذا أحدها وهذا في حال الإحرام أشد استحباباً لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة فهو يشبه الاعتكاف، وقد احتج أحمد رحمه الله على ذلك بأن شريحاً رحمه الله كان إذا أحرم كأنه حية صماء فيستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى وقراءة القرآن وأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو يأمر بحاجته أو يسكت فإن تكلم بما لا إثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يكثر فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان على ناقة وهو محرم فجعل يقول: كان راكبها غصن بمروحة * إذا تدلت به أو شارب ثمل الله اكبر الله أكبر.
وهذا يدل على الإباحة، والفضيلة ما ذكرناه أولاً والله أعلم (فصل) ويجوز للمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع بغير خلاف علمناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم الحج(3/329)
باب الفدية (وهي على ثلاثة أضرب (أحدها) ما هو على التخيير وهو نوعان (أحدهما) يخير فيه بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة وهي فدية حلق الرأس وتقليم الأظفار وتغطية الرأس واللبس والطيب، وعنه يجب الدم إلا أن يفعله لعذر فيجب) الكلام في هذه المسألة في فصول (أحدها) في أن فدية هذه المحظورات على التخيير أيها شاء فعل والأصل في ذلك قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ذكره بلفظ أو وهي
للتخيير وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة " لعلك اذاك هو امك " قال: نعم يارسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين أو انسك شاة " متفق عليه وفي لفظ " أو اطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع تمر " فدلت الآية والخبر على وجوب الفدية على صفة التخيير بين الذبح والإطعام والصيام في حلق الشعر وقنا عليه تقليم الأظفار واللبس والطيب لأنه حرم في الإحرام لأجل الترفه فأشبه حلق الشعر ولا فرق في الحلق بين المعذور وغيره في ظاهر المذهب والعامد والمخطئ، وهو مذهب مالك والشافعي، وعن أحمد أنه إذا حلق من غير عذر فعليه دم من غير تخيبر اختاره ابن عقيل وهو مذهب أبي حنيفة لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإذا عدم العذر زال التخيير ولنا أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعا له والتبع لا يخالف أصله، ولان كل كفارة ثبت التخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه كجزاء الصيد، لا فرق بين قتله للضرورة إلى أكله أو لغير ذلك وإنما الشرط لجواز الحلق لا للتخير (الفصل الثاني) أنه مخير بين الثلاثة المذكورة في الحديث وهي صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة وقد دل الحديث المذكور على ذلك.
وفي لفظ أو أطعم فرقا بين ستة مساكين.
وفي لفظ فصم ثلاثة أيام وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين رواه أبو داود، وبهذا قال مجاهد والنخعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الحسن وعكرمة ونافع الصيام عشرة أيام والصدقة على عشرة مساكين(3/330)
ويروى عن الثوري وأصحاب الرأي قالوا يجزئ من البر نصف صاع ومن التمر والشعير صاع صاع واتباع السنة الصحيحة أولى (فصل) والحديث إنما ذكر فيه التمر ويقاس عليه البر والشعير والزبيب لأن كل موضع أجزأ فيه التمر أجزأ ذلك فيه كالفطرة وكفارة اليمين، وقد روى أبو داود في حديث كعب بن عجرة قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي " احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين فرقا من
زبيب أو انسك شاة " ولا يجزئ من هذه الأصناف أقل من ثلاثة آصع إلا البر ففيه روايتان (إحداهما) يجزئ مد بر لكل مسكين مكان نصف صاع من غير كما في كفارة اليمين (والثانية) لا يجزئ إلا نصف صاع لأن الحكم ثبت فيه بطريق التنبيه أو القياس والفرع يماثل أصله ولا يخالفه، وبهذا قال مالك والشافعي (فصل) ومن أبيح له حلق رأسه جاز له تقديم الكفارة على الحلق فعله علي رضي الله عنه ولأنها كفارة فجاز تقديمها على وجوبها ككفارة اليمين (الفصل الثالث) أنه لا فرق بين فعلها لعذر أو غيره وقد ذكرناه (مسألة) (النوع الثاني جزاء الصيد يتخير فيه بين المثل وتقويمه بدراهم يشتري بها طعاماً فيطعم لكل مسكين مداً أو يصوم عن كل مد يوما وان كان ممالا مثل له خبر بين الإطعام والصيام وعنه أن جزاء الصيد على الترتيب فيجب المثل فان لم يجد لزمه الإطعام فان لم يجد صام) الكلام في هذه المسألة في فصول (أحدها) في وجوب الجزاء على المحرم في قتل الصيد وأجمع أهل للعلم على وجوبه في الجملة، وقد نص الله تعالى عليه بقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تقتوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) نص على وجوب الجزاء على المتعمد وقد ذكرناه (الفصل الثاني) أنه على التخيير بين الأشياء المذكورة بأيها شاء كفر موسراً كان أو معسراً وبهذا قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد رواية ثانية أنها على الترتيب فيجب المثل أولاً فان لم يجد أطعم فان لم يجد صام روي هذا عن ابن عباس والثوري ولان هذي المتعة على الترتيب وهذا آمد منه لأنه بفعل محظور وعنه رواية ثالثة أنه لاإطعام في كفارة الصيد، وإنما ذكره في الآية ليعدل به الصيام لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح كهذا قال ابن عباس وهذا قول الشافعي ولنا قوله سبحانه (فجزأ مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل امنكم هديا بالغ الكعبة أو(3/331)
كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) و " أو " في الأمر للتخيير روي عن ابن عباس رضي الله عنه
أنه قال: كل شئ أو، أو، فهو مخير وأما ما كان (فان لم يجد) فهو الاول فالأول ولأنه عطف هذه الخصال بعضها على بعض بأو فكان مخيراً في جميعها كفدية الادى وقد سمى الله تعالى الطعام كفارة ولا يكون كفارة ما لم يجب إخراجه وجعله طعاماً للمساكين وما لا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعاماً لهم ولأنها كفارة ذكر فيها الطعام فكان من خصالها كسائر الكفارات وقولهم إنها وجبت بفعل محظور يبطل بفدية الأذى على أن لفظ النص صريح في التخيير فليس ترك مدلولة قياساً على هدي المتعة بأولى من العكس فكما لا يجوز ثم لا يجوز هنا (فصل) وإذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على فقراء الحرم ولا يجزئه أن يتصدق به حياً على المساكين لأن الله سبحانه سماه هدياً والهدي يجب ذبحه وله ذبحه أي وقت شاء، ولا يختص ذلك بأيام النحر لأن الأمر به مطلق (الفصل الثالث) أنه متى اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم والدراهم بطعام ويتصدق به على المساكين، وبهذا قال الشافعي وقال مالك: يقوم الصيد لا المثل وحكى ابن أبي موسى رواية مثل ذلك وحكى رواية أخرى أنه إن شاء اشترى بالدراهم طعاماً فتصدق به وإن شاء تصدق بالدراهم وجه قول مالك إن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف قوم المتلف كالذي لا مثل له ولنا على مالك أن كل متلف وجب فيه المثل إذا قوم وجبت قيمة مثله كالمثلي من مال الآدمي وعلى أنه لا تجوز الصدقة بالدراهم إن الله سبحانه إنما ذكر في الآية التخيير بين ثلاثة أشياء وهذا ليس منها.
والطعام المخرج هو الذي يخرج في الفطرة وفدية الأذى من التمر والزبيب والبر والشعير قياساً عليه ويحتمل أن يجزئ كل ما يسمى طعاماً لدخوله في إطلاق اللفظ (الفصل الرابع) أنه يطعم كل مسكين من البر مداً كما يدفع إليه في كفارة اليمين ومن سائر الأصناف نصف صاع نص عليه أحمد رحمه الله تعالى في إطعام المساكين في الفدية والجزاء وكفارة اليمين إن أطعم براً فمد لكل مسكين ان أطعم تمراً فنصف صاع لكل مسكين، ولفظ شيخنا ههنا مطلق في أنه يطعم لكل مسكين مداً ولم يفرق بين الأصناف وكذلك ذكره الخرقي مطلقاً، والأولى أنه لا يجتزئ من غير البرباقل من نصف صاع لأنه لم يرد الشرع في موضع بأقل من ذلك في طعمه
المساكين وهذا لا توقيف فيه فيرد إلى نظرائه ولا يجزئ إخراج الطعام إلا على مساكين الجرم(3/332)
لأنه قائم مقام الهدي الواجب لهم فيكون أيضاً لهم كقيمة المثلي من مال الآدمي (الفصل الخامس) أنه يصوم عن كل مد يوماً وهو قول عطاء ومالك والشافعي لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار وعن أحمد رحمه الله أنه يصوم عن كل نصف صاع يوماً وهو قول ابن عباس والحسن والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وابن المنذر قال القاضي المسألة رواية واحدة واليوم عن مد بر أو نصف صاع من غيره وكلام أحمد في الروايتين محمول على اختلاف الحالين لأن صوم اليوم مقابل إطعام المسكين وإطعام المسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، ولأن الله تعالى جعل اليوم في كفارة الظهار في مقابلة إطعام المسكين فكذا ههنا وروى أبو ثور إن كفارة الصيد من الإطعام والصيام مثل كفارة الآدمي وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ولنا أنه جزاء عن متلف فاختلف باختلافه كبدل مال الآدمي، ولأن الصحابة رضي الله عنهم حين قضوا في الصيد قضوا فيه مختلفاً (فصل) فإن بقي من الطعام مالا يعدل يوماً كدون المد صام عنه يوما كاملا كذلك قال عطاء والنخعي وحماد والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم احداً خالفهم لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكميله ولا يجب التتابع في الصيام، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن الله سبحانه أمر به مطلقاً فلا يتقيد بالتتابع من غير دليل ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعض نص عليه أحمد، وبه قال الشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وجوزه محمد بن الحسن إذا عجز عن بعض الإطعام ولا يصح لأنها كفارة واحدة فلم يجز فيها ذلك كسائر الكفارات (فصل) وإن كان ممالا مثل له من الصيد يخير قاتله بين أن يشتري بقيمته طعاماً فيطعمه للمساكين وبين أن يصوم لتعذر المثل وهل يجوز إخراج القيمة؟ فيه احتمالان (أحدهما) لا يجوز وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال إذا أصاب المحرم صيداً ولم يصب له عدل حكم عليه قوم طعاماً
إن قدر على طعام والاصام لكل نصف صاع يوماً هكذا يروي عن ابن عباس ولأنه جزاء صيد فلم يجز إخراج القيمة فيه كالذي له مثل ولأن الله تعال خير بين ثلاثة أشياء ليس منها القيمة فإذا عدم أحد الثلاثة يبقى التخيير بين الشيئين الباقيين فأما إيجاب شئ غير المنصوص عليه فلا (والثاني) يجوز إخراج القيمة لأن عمر رضي الله عنه قال لكعب ما جعلت على نفسك؟ قال درهمين.
قال(3/333)
اجعل ما جعلت على نفسك.
وقال عطاء في العصفور نصف درهم وظاهره اخراج الدرهم الواجبة، وعنه أن جزاء الصيد على الترتيب وقد ذكرناه (فصل) قال رضي الله عنه (الضرب الثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع (أحدها دم المتعة والقرآن فيجب الهدي فان لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع إلى أهله وإن صامها قبل ذلك أجزأه) لا نعلم خلافاً في وجوب الدم على المتمتع والقارن وقد ذكرناه فيما مضى وذكرنا شروط وجوب الدم فان لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله لقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) وتعتبر القدرة على الهدي في موضعه فمتى عدمه في موضعه جاز له الانتقال إلى الصيام وإن كان قادراً عليه في بلده لأن وجوبه موقت فاعتبرت له القدرة عليه في موضعه كالماء في الطهارة إذا عدمه في مكانه انتقل إلى التراب (فصل) ولكل واحد من صوم الثلاثة والسبعة وقتان وقت استحباب ووقت جواز.
فأما الثلاثة فالأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة يروي ذلك عن عطاء وطاوس والشعبي ومجاهد والحسن والنخعي وسعيد بن جبير وعلقمة وأصحاب الرأي وروي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما أنه يصومهن مابين أهلاله بالحج ويوم عرفة وظاهر هذا أنه يجعل آخرها يوم التروية لأن صوم يوم عرفة بعرفة غير مستحب.
وذكر القاضي في المجرد ذلك مذهب أحمد المنصوص عن أحمد ما ذكرناه أولاً وانما أوجبنا له صوم يوم عرفة ههنا لموضع الحاجة وعلى هذا القول يستحب له تقديم الإحرام
بالحج قبل يوم التروية ليصومها في الحج فإن صام منها شيئاً قبل إحرامه بالحج جاز نص عليه فأما وقت جواز صيامها فإذا أحرم بالعمرة.
وهذا قول أبي حنيفة، وعن أحمد إذا حل من العمرة وقال مالك والشافعي لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول إسحاق وابن المنذر لقول الله تعالى (فصيام ثلاثة أيام في الحج) ولأنه صيام واجب فلم يجز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب ولأن ما قبله وقت لا يجوز فيه المبدل فلم يجز فيه البدل كقبل الإحرام بالعمرة وقال الثوري والاوزاعي يصومهن من أول العشر إلى يوم عرفة ولنا أن احرم العمرة أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده كإحرام الحج.
وأما قوله (فصيام ثلاثة(3/334)
أيام في الحج) فقيل معناه في أشهر الحج فإنه لا بد فيه من اضمار إذا كان الحج أفعالاً لا يصام فيها إنما يصام في وقتها أو في أشهرها فهو كقوله سبحانه (الحج أشهر معلومات) وأما تقديمه على وقت الوجوب فيجوز إذا وجد السبب كتقديم التكفير على الحنث وزهوق النفس وأما كونه بدلاً فلا يقدم على المبدل فقد ذكرنا رواية في جواز تقديم الهدي على الإحرام بالحج فكذلك الصوم (فصل) فأما تقديم الصوم على إحرام العمرة فلا يجوز لا نعلم قائلا بجواز إلا رواية عن أحمد حكاها بعض الاصحاب وليس بشئ لأنه تقديم الصوم على سببه ووجوبه ومخالف لقول أهل العلم وأحمد رحمه الله ينزه عن هذا.
وأما السبعة فلها وقتان وقت اختيار ووقت جواز أما وقت الاختيار فإذا رجع إلى أهله لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " متفق عليه وأما وقت الجواز فإذا مضت أيام التشريق قال الأثرم سئل أحمد هل يصوم بالطريق أو بمكة؟.
قال: كيف شاء، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وعن عطاء ومجاهد يصومها في الطريق وهو قول إسحاق وقال ابن المنذر يصومها إذا رجع إلى أهله للخبر ويروى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وله قول كقولنا وكقول إسحاق ولنا أن كل صوم لزمه وجاز في وطنه جاز قبل ذلك كسائر الفروض وأما الآية فإن الله سبحانه جوز له تأخير الصيام الواجب تخفيفاً عنه فلا يمنع ذلك الأجزاء قبله كتأخير صوم رمضان في السفر والمرض
بقوله سبحانه (فعدة من أيام أخر) لأن الصوم وجد من أهله بعد وجود سببه فأجزأ كصوم المسافر والمريض (مسألة) (فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى وعنه لا يصومها ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم) إذا لم يصم المتمتع الثلاثة الأيام في الحج فإنه يصومها بعد ذلك، وبهذا قال علي وعائشة وابن عمر وعروة بن الزبير وعبيد بن عمير والحسن وعطاء والزهري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس وطاوس ومجاهد إذا فاته الصوم في العشر لم يصم بعده واستقر الهدي في ذمته لأن الله تعالى قال (فصيام ثلاثة أيام في الحج) ولأنه بدل موقت فيسقط بخروج وقته كالجمعة ولنا أنه صوم واجب فلم يسقط بخروج وقته كصوم رمضان والآية تدل على وجوبه في الحج لا على سقوطه والقياس منتقض بصوم الظهار إذا قدم المسيس عليه والجمعة ليست بدلاً إنما هي الأصل وإنما سقطت لان الوقت جعل شرطاً لها كالجماعة.
إذا ثبت هذا فإنه يصوم أيام منى وهذا قول ابن عمر(3/335)
وعائشة وعروة وعبيد بن عمير والزهري ومالك والاوزاعي واسحاق والشافعي في القديم لما روى ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري وهذا ينصرف إلى ترخيص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الله تعالى أمر بصيام هذه الأيام الثلاثة في الحج ولم يبق من الحج إلا هذه الأيام فيتعين الصوم فيها فإذا صام هذه الأيام فحكمه حكم من صام قبل يوم النحر، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يصوم أيام منى روى ذلك عن علي والحسن وعطاء وهو قول ابن المنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم ستة أيام ذكر منها أيام التشريق ولأنها لا يجوز فيها صوم النفل فلا يصومها عن الفرض كيوم النحر فعلى هذه الرواية يصوم بعد ذلك عشرة أيام وكذلك الحكم اذا قلنا بصوم أيام منى فلم يصمها واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في وجوب الدم عليه فعنه عليه دم لأنه أخر الواجب من مناسك الحج عن وقته فلزمه دم كرمي الجمار ولا فرق بين المؤخر لعذر أو لغيره لما ذكرنا وقال القاضي إنما يجب الدم إذا أخره لغير عذر فليس عليه إلا قضاؤه لأن الدم الذي هو المبدل لو أخره لعذر لم يكن عليه دم لتأخيره فالبدل أولى وروي ذلك عن أحمد
(مسألة) وقال أبو الخطاب (إن أخر الصوم أو الهدي لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه وإن أخر الهدي لغير عذر فهل يلزمه دم آخر؟ على روايتين) قال وعندي أنه لا يلزمه من الصوم دم بحال ولا يجب التتابع في الصيام إذا أخر الهدي الواجب لعذر مثل أن ضاعت نفقته فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا الواجبة، وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان (إحداهما) ليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدايا (والثانية) عليه هدي آخر لأنه نسك موقت فلزمه الدم بتأخيره عن وقته كرمي الجمار قال أحمد من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وأما إذا أخر الصوم فقد ذكرنا أنه يجب على الدم إذا كان تأخيره لغير عذر اختاره القاضي وإن كان لعذر ففيه روايتان، وعن أحمد رواية ثالثة أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته فلم يجب بفواته دم كصوم رمضان (فصل) ولا يجب التتابع في صيام التمتع لا في الثلاثة ولا في السبعة ولا في التفريق نص عليه أحمد رحمه الله لأن الأمر ورد بها مطلقاً وذلك لا يقتضي حجا ولا تفريقاً وهذا قول الثوري واسحاق وغيرهما وقال بعض الشافعية إذا أخر الثلاثة وصام السبعة فعليه التفريق لأنه وجب من(3/336)
حيث الفعل وما وجب التفريق فيه من حيث الفعل لا يسقط بفوات وقته كأفعال الصلاة من الركوع والسجود ولنا أنه صوم واجب فعله في زمن يصح الصوم فيه فلم يجب تفريقه كسائر الصوم ولا نسلم وجوب التفريق في الأداء فإنه إذا صام أيام منى واتبعها السبعة فما حصل التفريق وإن سلمنا وجوب التفريق في الأداء فإنما كان من حيث الوقت فإذا فات الوقت سقط كالتفريق بين الصلاتين (فصل) ووقت وجوب الصوم وقت وجوب الهدي لأنه بدل عنه فأشبه سائر الابدال فإن قيل فكيف جوزتم الانتقال إلى الصوم قبل زوال وجوب المبدل فلم يتحقق العجز عن المبدل لأنه إنما يتحقق العجز المجوز للانتقال إلى المبدل زمن الوجوب فكيف جوزتم الصوم قبل وجوبه؟ قلنا إنما جوزنا له الانتقال إلى المبدل بناء على العجز الظاهر فإن الظاهر من المعسر استمرار إعساره وعجزه كما
جوزنا التكفير قبل وجوب المبدل وأما تجويز الصوم قبل وجوبه فقد ذكرناه (مسألة) (ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه إلا أن يشاء) هذا قول الحسن وقتادة ومالك والشافعي وقال ابن أبي نجيح وحماد والثوري إن أيسر قبل أن يكمل الثلاثة فعليه الهدي فإن كمل الثلاثة صام السبعة وقيل متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام أو لم يصم وإن وجده بعد أن مضت أيام النحر أجزأه الصيام قدر على الهدي أو لم يقدر لأنه قدر على المبدل في زمن وجوبه فلم يجزه البدل كما لو لم يصم ولنا أنه يصوم دخل فيه لعدم الهدي فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج إليه كصوم السبعة وعلى هذا يخرج الأصل الذي قاسوا عليه فانه ما شرع في الصيام فأما إن اختار الانتقال إلى الهدي جاز لأنه أكمل.
(مسألة) وإن وجب ولم يشرع فهل يلزمه الانتقال؟ على روايتين (إحداهما) لا يلزمه الانتقال إليه قال في رواية المروذي إذا لم يصم في الحج فليصم إذا رجع ولا يرجع إلى الدم قد انتقل فرضه إلى الصيام وذلك لأن الصيام استقر في ذمته لوجوبه حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي.
(والثانية) يلزمه الانتقال إليه قال يعقوب سألت أحمد عن المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر قال عليه هديان يبعث بهما إلى مكة أوجب عليه الهدي الأصلي وهديا لتأخير الصوم عن وقته لأنه قدر على المبدل قبل شروعه في البدل فلزمه الانتقال إليه كالتيمم إذا وجد الماء(3/337)
(فصل) ومن لزمه صوم المتعة فمات قبل أن يأتي به لعذر منعه الصوم فلا شئ عليه وإن كان لغير عذر أطعم عنه كما يطعم عن صوم رمضان لأنه صوم وجب بأصل الشرع أشبه صوم رمضان (مسألة) (النوع الثاني المحصر يلزمه الهدي فان لم يجد صام عشرة أيام ثم حل) لا خلاف في وجوب الهدي على المحصر وقد دل عليه قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من من الهدي) فان لم يجد الهدي صام عشرة أيام ثم حل قياساً على هدي المتمتع وليس له التحلل قبل ذلك وفيه اختلاف نذكره في باب الإحصار إن شاء الله تعالى
(مسألة) (النوع الثالث فدية الوطئ) تجب به بدنة فان لم يجد صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كدم المتعة لقضاء الصحابة رضي الله عنهم به، وقد ذكرناه في الباب الذي قبله قاله عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله ابن عباس رواه عنهم الأثرم ولم يظهر لهم في الصحابة مخالف فيكون إجماعاً فيكون بدله مقيساً على بدل دم المتعة، هذا هو الصحيح من المذهب لأنا إنما أوجبنا البدنة بقول الصحابة رضي الله عنهم فكذلك في بدلها، وقال القاضي يخرج بدنة فان لم يجد أخرج بقرة فان لم يجد فسبعاً من الغنم فان لم يجد أخرج بقيمتها طعام فبأيها كفر أجزأه.
وجه قول القاضي يجب بالوطئ بدنه لما ذكرنا من قول الصحابة رضي الله عنهم فان لم يجد البدنة أخرج بقرة لأنها تساويها في الهدي والأضاحي، وقد روى أبو الزبير رضي الله عنه قال كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة؟ قال وهل هي إلا من البدن فان لم يجد أخرج سبعاً من الغنم لأنها تقوم مقام البدنة في الهدي والأضاحي ولما روى ابن عباس قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فأشتريها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يبتاع سبع شياه فيذبحهن رواه ابن ماجه وإن لم يجد أخرج بقيمتها طعاماً فان لم يجد صام عن كل مد يوماً كقولنا في جزاء الصيد على إحدى الروايتين في أنه لا ينتقل إلى الإطعام مع وجود المثل ولا إلى الصيام مع القدرة على الإطعام قال شيخنا وظاهر كلام الخرقي أنه مخير في هذه الخمسة فبايها كفرأجزأه والخرقي إنما صرح بإجزاء سبع من الغنم مع وجود البدنة هكذا ذكر في كتابه ولعل ذلك نقله بعض الأصحاب عنه في غير كتابه المختصر ووجه قوله إنها كفارة تجب بفعل محظور فيخير فيها بين الدم والإطعام والصيام كفدية الاذى (مسألة) (ويجب بالوطئ في الفرج بدنة إن كان في الحج وشاة إن كان في العمرة) ذكرنا ذلك في باب محظورات الإحرام مفصلا فيم إذا كان الوطئ قبل التحلل الأول وبعده وذكرناه(3/338)
الخلاف فيه بما يغني عن إعادته.
(مسألة) (ويجب على المرأة مثل ذلك إن كانت مطاوعة وإن كانت مكرهة فلا فدية عليها) وقيل عليها كفارة يتحملها الزوج عنها إذا جامع امرأته في الحج وهي مطاوعة فحكمها حكمه على
كل واحد منهما بدنة إن كان قبل التحلل الأول وممن أوجب عليها بدنة ابن عباس وسعيد بن المسيب ومالك والحكم وحماد ولأن ابن عباس رضي الله عنه قال: أهد ناقة، ولانها حدى المتجامعين من غير إكراه فأشبهت الرجل وعنه أنه قال أرجو أن يجزيهما هدي واحد يروي ذلك عن عطاء وهو مذهب الشافعي لأنه جماع واحد فلم يوجب أكثر من بدنة كحالة الإكراه، فأما المكرهة على الجماع فلا فدية عليها ولا على الواطئ أن يفدي عنها نص عليه أحمد لأنه جماع يوجب الكفارة فلم يوجب حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام، وهذا قول إسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وعن أحمد رواية أخرى أن عليه أن يهدي عنها وهو قول عطاء ومالك لأن إفساد الحج وجد منه في حقهما فكان عليه لإفساد حجها هدي كإفساد حجه وعنه ما يدل على أن الهدي عليها وهو قول أصحاب الرأي لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليه فكان الهدي عليها كما لو طاوعته ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليه يتحمله الزوج عنها فلا يكون رواية ثالثة.
(فصل) قال الشيخ رحمه الله (الضرب الثالث الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو للمباشرة في غير الفرج فما أوجب منها بدنة فحكمهما حكم البدنة الواجبة بالوطئ بالفرج وما عداه فقال القاضي ما وجب لترك واجب ملحق بدم المتعة وما وجب لمباشرة ملحق بفدية الأذى) إذا فاته الحج وجب عليه دم في أصلح الروايتين وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وكذلك إذا ترك شيئاً من واجبات الحج كالإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة وسائر الواجبات المتفق على وجوبها والهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين منصوص عليه ومقيس على المنصوص عليه فالمنصوص عليه فدية الأذى وجزاء الصيد ودم الإحصار ودم المتعة والبدنة الواجبة بالوطئ في الفرج لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بها وما سوى ذلك مقيس عليه فالبدنة الواجبة بالمباشرة فيما دون الفرج مقيسة على الواجبة بالوطئ بالفرج لأنه دم وجب بسبب المباشرة أشبه الواجب بالوطئ في الفرج وهكذا القران يقاس على هدي التمتع لأنه وجب للترفه بترك أحد السفرين أشبه دم المتعة(3/339)
ويقاس عليه أيضاً دم الفوات فيجب عليه مثل دم المتعة وبدله مثل بدله وهو صيام عشرة أيام إلا
أنه لا يمكن أن يكون منها ثلاثة قبل يوم النحر لأن الفوات إنما يكون بفوات ليلة النحر لأنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه فصار كالتارك لأحد السفرين، فإن قيل فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به إذ هو إحلال من إحرامه قبل إتمامه؟ قلنا أما الهدي فقد استويا فيه وأما البدل فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه وإنما ثبت قياساً وقياسه على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه على أن الصيام ههنا مثل الصيام عن دم الإحصار في العدد إلا أن صيام الإحصار يجب قبل الحل وهذا يجوز قبل الحل وبعده وأما الخرقي فإنه جعل الصوم عن دم الفوات كالصوم عن جزاء الصيد عن كل مديوما والمروي عن عمر وابنه رضي الله عنهما مثل ما ذكرنا ويقاس عليه أيضاً كل دم وجب لترك واجب كترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت بمزدلفة وطواف الوداع فالواجب فيه ما استيسر من الهدي فان لم يجد فصيام عشرة أيام لأن المتمتع ترك الإحرام من الميقات بالحج وكان يقتضي أن يكون واجباً فوجب عليه الهدي لذلك فقسنا عليه ترك الواجب ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور يترفه به كتقليم الأظفار واللبس والطيب وكل استمتاع من النساء يوجب شاة كالوطئ في العمرة وبعد التحلل الأول في الحج والمباشرة من غير إنزال فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرناه فيقاس عليه ويلحق به، وقد قال ابن عباس فيمن وقع على امرأته في العمرة قبل التقصير عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، رواه الأثرم (مسألة) (ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليه بدنة وإن لم ينزل فعليه شاة وعند بدنة) أما إذا أنزل بالمباشرة فإن عليه بدنة لأنه استمتاع أوجب الغسل فأوجب بدنة كالوطئ في الفرج وإن لم ينزل فعليه شاة في الصحيح كذلك ذكره الخرقي وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وابن سيرين والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأنها ملامسة لا تفسد الحج عريت عن الإنزال فلم توجب بدنة كاللمس لغير شهوة وعنه يجب عليه بدنة.
وقال الحسن فيمن ضرب بيده على فرج جاريته عليه بدنة، وعن سعيد بن جبير إذا قال منها ما دون الجماع ذبح بقرة لأنها مباشرة محظورة بالإحرام أشبهت ما اقترن به الإنزال ولنا أنها ملامسة من غير إنزال فأشبهت لمس غير الفرج ويجب به شاة لما روى الأثرم أن عمر
ابن عبد الله قبل عائشة بنت طلحة محرماً فسأل فأجمع له على أن يهريق دماً والظاهر أنه لم يكن أنزل لأنه(3/340)
لم يذكر.
وسواء مذى أو لم يمذ قال سعيد بن جير إن قبل فمذى أو لم يمذ فعليه دم وسائر اللمس لشهوة كالقبلة فيما ذكرنا لأنه استمتاع يلتذ به كالقبلة.
وقال أحمد رحمه الله فيمن قبض على فرج امرأته وهو محرم فإنه يهريق دماً وبه قال عطاء لأنه استمتاع محظور في الإحرام أشبه الوطئ فيما دون الفرج (مسألة) (وإن كرر النظر فانزل أو استمنى فعليه دم هل هو شاة أو بدنة؟ على روايتين وإن مذى بذلك فعليه شاة) إذا كرر النظر فأنزل ففيه روايتان (إحداهما) عليه بدنة روى ذلك عن ابن عباس (والثانية) عليه شاة وهو قول سعيد بن جبير وروي أيضاً عن ابن عباس وقال أبو ثور لا شئ عليه وحكي عن أبي حنيفة والشافعي لأنه ليس بمباشرة أشبه الفكر ولنا أنه إنزال بفعل محظور فأوجب الفدية كاللمس وقد روى الأثرم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال له رجل فعل الله بهذه وفعل أنها تطيبت لي فكلمتني وحدثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس تم حجك واهرق دماً.
والاستمناء في معنى تكرار النظر فيقاس عليه فإن كرر النظر فمذى فعليه شاة وكذلك ذكره أبو الخطاب لأنه جزء من المني لكونه خارجاً بسبب الشهوة ولأنه حصل به التذاذ فهو كاللمس فإن لم يقترن به مني ولا مذي فلا شئ عليه كرر النظر أو لم يكرره.
وقد روي عن أحمد فيمن جرد امرأته ولم يكن منه غير التجريد إن عليه شاة وهو محمول على أنه لمس فإن التجريد لا يخلو عن اللمس ظاهراً أو على أنه أمنى أو أمذى أما مجرد النظر فلا شئ ففيه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى نسائه وهو محرم وكذلك أصحابه (فصل) فإن نظر ولم يكرر النظر فأمنى فعليه شاة لأنه فعل يحصل به اللذة أوجب الإنزال أشبه اللمس وإلا فلا شئ عليه لأنه لا يمكن التحرز عنه أشبه الفكر والاحتلام (مسألة) (فإن فكر فانزل فلا شئ عليه وحكى ابو حفص البرمكي وابن عقيل أن حكمه حكم تكرار النظر إذا اقترن به الإنزال في إفساد الصوم)
فيحتمل أن يجب به ههنا دم قياساً عليه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " متفق عليه ولأنه لانص فيه ولا إجماع ولا يصح قياسه على تكرار النظر لأنه دونه في استدعاء الشهوة وافضائه إلى الإنزال ويخالفه في التحريم إذا تعلق بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجته فيبقى على الأصل(3/341)
(فصل) والعمد والنسيان في الوطئ سواء نص عليه أحمد وقد ذكرناه فأما القبلة واللمس وتكرار النظر فلم يذكر شيخنا حكم النسيان فيه في الحج لكن ذكره في مفسدات الصوم وفرق بين العمد والسهو فينبغي أن يكون ههنا مثله وكذلك ذكره الخرقي والفرق بينهما أن الوطئ لا يكاد يتطرق النسيان إليه بخلاف ما دونه ولأن الجماع يفسد الصوم بمجردة دون غيره والجاهل في التحريم والمكره في حكم الناسي لأنه معذور (فصل) قال رضي الله عنه (ومن كرر محظوراً من جنس مثل أن حلق ثم حلق أو وطئ ثم وطئ قبل التكفير عن الأول فكفارة واحدة وإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة) إذا حلق ثم حلق فالواجب فدية واحدة ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني فإن كفر عن الأول ثم حلق ثانياً فعليه بالثاني كفارة أيضاً وكذلك الحكم فيما إذا وطئ ثم وطئ أو لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب وكذلك سائر محظورات الإحرام إذا كررها ما خلا قتل الصيد وسواء فعله متتابعاً أو متفرقاً فإن فعلها مجتمعة كفعلها متفرقة في وجوب الفدية ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني وعنه أن لكل وطئ كفارة وإن لم يكفر عن الأول لأنه سبب للكفارة فأوجبها كالأول وعنه أنه إن كرره لأسباب مثل أن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة وروى عنه الأثرم فيمن لبس قميصاً وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة فكفارة فإن اعتل فلبس جبة ثم برأ ثم اعتل فلبس جبة فقال لا هذا عليه كفارتان وقال ابن أبي موسى في الإرشاد إذا لبس وغطى رأسه متفرقاً وجب عليه دمان وإن كان في وقت واحد فعلى روايتين وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يتداخل وقال مالك
تتداخل كفارة الوطئ دون غيره وقال أبو حنيفة إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات وقال في تكرار الوطئ عليه للثاني شاة إلا أن يفعله في مجلس واحد على وجه الرفض للإحرام ولنا إنما يتداخل إذا كان متتابعاً يتداخل وإن تفرق كالحدود وكفارات الإيمان ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو في دفعات والقول بأنه لا يتداخل لا يصح فإنه إذا حلق لا يمكن إلا شيئاً بعد شئ ولنا على أنه لا يتداخل إذا كفر عن الأول أنه سبب للكفارة فإذا كفر عن الأول وجب عليه للثاني كفارة كالإيمان أو نقول سبب يوجب عقوبة فيكرر بتكرره بعد التطهير كالحدود (مسألة) (وان قتل صيداً بعد صيد فعليه جزاؤهما وعنه عليه جزاء واحد) إذا قتل صيدين فعليه جزاؤهما سواء قتلهما دفعة واحدة أو واحدة بعد واحدة، وعن أحمد أنه(3/342)
يتداخل إذا كان متفرقاً فيجب عليه جزاء واحد كالمحظورات غير قتل الصيد والصحيح الأول لأن الله تعالى قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومثل الصيدين لا يكون مثل أحدهما ولأنه لو قتل صيدين دفعة واحدة وجب جزاؤهما فإذا تفرقا كان الوجوب أولى لأن حالة التفريق لا تنقص عن حالة الاجتماع كسائر المحظورات (مسألة) (وإن فعل محظوراً من أجناس فعليه لكل واحد فداء وعنه عليه فدية واحدة) إذا فعل محظوراً من أجناس كحلق ولبس وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد فدية سواء فعله مجتمعاً أو متفرقاً، وهذا مذهب الشافعي.
وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة إذا كانا في وقت واحد وان فعل ذلك واحداً بعد واحد فعليه لكل واحد دم وهو قول إسحاق وقال عطاء وعمر بن دينار إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ففعل ذلك فليس عليه إلا فدية واحدة وقال الحسن إن لبس القميص وتعمم وتطيب فعل ذلك جميعاً فليس عليه إلا فدية واحدة ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس فلم يتداخل جزاؤهما كالحدود المختلفة والإيمان المختلفة وعكسه إذا كانت من جنس واحد
(مسألة) (وإن حلق أو قلم أو وطئ أو قتل صيداً عامداً أو مخطئاً فعليه الكفارة وعنه في الصيد لا كفارة عليه إلا في العمد ويتخرج في الحلق مثله) أما الوطئ فقد ذكرناه وجملته أنه لا فرق بين العمد والخطأ في الحلق والتقليم ومن له عذر ومن لا عذر له في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي ونحوه عن الثوري وفيه وجه آخر لافدية على الناسي وهو قول أبي إسحاق وابن المنذر لقوله عليه السلام " عفي لا متي عن الخطأ والنسيان " ولنا أنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور فكان تنبيهاً على وجوبها على غير المعذور ودليلاً على وجوبها على المعذور بنوع آخر كالمحتجم يحلق موضع محاجمه أو شعر شجته وفي معنى الناسي النائم الذي يقلع شعره أو يصوب رأسه إلى تنور فيحرق اللهب شعره ونحو ذلك (فصل) وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه أيضاً هذا ظاهر المذهب، وبه قال الحسن وعطاء والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي قال الزهري على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة وعنه لا كفارة على المخطئ وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وابن المنذر وداود لأن الله تعالى قال (ومن قتله منكم متعمداً) فيدل بمفهومه على أنه لاجزاء على الخاطئ ولأن الأصل(3/343)
براءة ذمته فلا تشغلها إلا بدليل ولأنه محظور بالإحرام لا يفسد به ففرق بين عمده وخطأه كاللبس ووجه الأول قول جابر رضي الله عنه جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيد المحرم كبشا وقال عليه السلام في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه ولم يفرق بين العمد والخطأ رواهما ابن ماجة ولأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطاؤه كمال الآدمي (مسألة) (وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً فلا كفارة فيه وعنه عليه الكفارة) أما إذا لبس أو تطيب أو غطى رأسه عامداً فإن عليه الفدية بغير خلاف علمناه لأنه ترفه محظور في إحرامه عامداً فأشبه حلق الشعر ويستوي في ذلك قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجب الدم الا بتطبيب عضو كامل وفي اللباس بلباس يوم وليلة ولا
شئ فيما دون ذلك لأنه لم يلبس لبساً معتاداً أشبه مالو ائتزر بالقميص ولنا أنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور فاعتبر بمجرد الفعل كالوطئ أو محظوراً فلا يتقدر فديته بالزمن كسائر المحظورات وما ذكروه ممنوع فإن الناس يختلفون في اللبس في العادة وما ذكروه تقدير والتقديرات بابها التوقيف وتقديرهم بعضو ويوم وليلة تحكم محض وأما إذا ائتزر بقميص فليس ذلك بلبس مخيط ولذلك لا يحرم عليه وإن طال والمختلف فيه محرم لبسه (فصل) ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس لأنه فعل محظور فلزمته إزالته وقطع استدامته كسائر المحظورات والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه وإن وليه بنفسه فلا بأس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي عليه طيب " اغسل عنك الطيب " ولأنه تارك له فإن لم يجد ما يغسله به مسحه بخرقة أو حكه بتراب أو غيره لأن الذي عليه أن يزيله حسب الإمكان وقد فعله (فصل) فإن كان معه ماء وهو محتاج إلى الوضوء والماء لا يكفيهما غسل به الطيب وتيمم للحدث لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب وترك الوضوء إلى التيمم رخصة فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ لأن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحة فلا يتعين الماء والوضوء بخلافه فإن لبس قميصاً وسراويل وعمامة وخفين كفاه فدية واحدة لأن الجميع لبس فأشبه الطيب في رأسه وبدنه وفيه خلاف ذكرناه فيما مضى (فصل) فأما إن فعل ذلك ناسياً فلا فدية عليه هذا ظاهر المذهب والجاهل في معنى الناسي وهذا قول عطاء والثوري وإسحاق وابن المنذر قال أحمد قال سفيان ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه قال أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه لانه شئ(3/344)
لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيه سواء وكل شئ من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شئ أو لبس خفاً نزعه وليس عليه شئ وعنه رواية أخرى أن عليه الفدية في كل حال وهو مذهب مالك والليث وأبي حنيفة لأنه هتك حرمة الإحرام
فاستوى عمده وسهوه كالحلق والتقليم ولنا عموم وقوله عليه السلام " عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وروى يعلى ابن أمية أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر خلوق أو أثر صفرة فقال يارسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي قال " اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق - أو قال - أثر الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " متفق عليه وفي لفظ قال يارسول الله أحرمت بالعمرة وعلي هذه الجبة فلم يأمره بالفدية مع مسألته عما يصنع وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز دل على أنه عذره لجهله (1) والناسي في معناه.
ولأن الحج عبادة يجب بإفسادها الكفارة فكان في محظوراته ما يفرق فيه بين عمده وسهوه كالصوم.
وأما الحلق وقتل الصيد فه إتلاف ولا يمكن تلافيه، إذا ثبت ذلك فإنه متى ذكر فعليه خلع اللباس وغسل الطيب في الحال فإن أخر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية لأنه تطيب وليس من غير عذر فأشبه المبتدئ.
وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطباً ففيه وجهان (أحدهما) عليه الفدية لأنه قصد مس الطيب (والثاني) لا فدية عليه لأنه جهل تحريمه فأشبه من جهل تحريم الطيب.
وإن طيب بإذنه فعليه الفدية لأنه منسوب إليه، فإن قيل: فلم لا يجوز له استدامة الطيب ههنا كالذي تطيب قبل إحرامه؟ قلنا ذلك فعل مندوب اليه فكان له استدامته وههنا هو محرم وإنما سقط حكمه بالنسيان والجهل فإذا زالا ظهر حكمه وإن تعذر عليه إزالته لا كراه أو علة ولم يجد من يزيله فلا فديه عليه وجرى مجرى المكره على ابتداء الطيب وحكم الجاهل إذا علم حكم الناسي إذا ذكر وحكم المكره حكم الناسي لأنه مقرون به في الحديث الدال على العفو.
ويستحب له أن يلبي إذا فعل ذلك استذكاراً للحج واستشعاراً بإقامته عليه ورجوعه إليه، ويروى هذا القول عن إبراهيم النخعي وقد ذكره الخرقي (مسألة) (ومن رفض إحرامه ثم فعل محظوراً فعليه فداؤه) وجملة ذلك أن التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء كمال أفعاله أو التحلل عند الحصر أو بالعذر إذا شرط وما عدا هذا فليس له أن يتحلل به ولو نوى التحلل لم يحل ولا يفسد الإحرام برفضه لأنها عبادة لا يخرج منها بالفساد فلم يخرج برفضها بخلاف سائر العبادات، ويكون الإحرام(3/345)
باقياً في حقه يلزمه أحكامه ويلزمه جزاء كل جناية جناها، وإن وطئ أفسد حجه وعليه لذلك بدنة مع ما وجب عليه من الدماء سواء كان الوطئ قبل الجنايات أو بعدها فإن الجناية على الإحرام الفاسد كالجناية على الإحرام الصحيح وليس عليه لرفض الاحرام شئ لأنه مجرد نية لم تؤئر شيئاً (مسألة) (ومن تطيب قبل إحرامه في بدنة فله استدامة ذلك في إحرامه وليس له لبس ثوب مطيب) يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنة خاصة وقد ذكرناه في باب الإحرام وله استدامة الطيب في إحرامه قالت عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم وقالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
متفق عليه وفي لفظ للنسائي: كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها.
رواه أبو داود (فصل) وليس له لبس مطيب بعد إحرامه بغير خلاف لقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس " متفق عليه فإن لبس ثوباً مطيباً ثم أحرم فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه فإن فعل فعليه الفدية لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون استدامته وقد ذكرناه والله تعالى أعلم (مسألة) (وإن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه فإن استدام لبسه فعليه الفدية) إذا أحرم وعليه قميص أو سراويل أو جبة خلعه ولم يشقه ولا فدية عليه، وبه قال أكثر أهل العلم وقال بعضهم أنه يشق ثيابه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص منه ولنا ما ذكرناه من حديث يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال يارسول الله أحرمت بالعمرة وعلي هذه الجبة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بخلعها ولو وجب شقها أو وجبت عليه فدية لأمره بها لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فإن استدام لبسه فعليه الفدية لأن خلعه واجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به ولأنه محظور من محظورات الإحرام فوجب عليه دم لفعله كما لو حلق رأسه (مسألة) (وإن لبس ثوبا مطيبا فانقطع ريح الطيب منه وكان بحيث إذا رش فيه الماء فاح
ريحه فعليه الفدية) لأنه مطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء والماء لا رائحة له وإنما هو من الطيب الذي فيه فلزمته الفدية كما لو ظهرت بنفسها (فصل) قال رحمه الله (وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم إلا(3/346)
فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر) الهدايا والضحايا مختصه بمساكين الحرم لقوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) وكذلك جزاء المحظورات إذا فعلها في الحرم نص عليه أحمد رحمه الله فقال أما إذا كان بمكة أو كان من الصيد فكله بمكة لأن الله تعالى قال (هدايا بالغ الكعبة) وذكر القاضي في قتل الصيد رواية أخرى أنه يفدي حيث قتله كحلق الرأس وهذا يخالف نص الكتاب ومنصوص أحمد فلا يعول عليه وما وجب لترك نسك أو فوات فهو لمساكين الحرم دون غيرهم لأنه هدي وجب لترك نسك أشبه دم القران وقال ابن عقيل فيمن فعل المحظور لغير سبب يبيحه أنه يختص ذبحه وتفرقه لحمه بفقراء الحرم كسائر الهدي (فصل) وما وجب نحره بالحرم جب تفرقه لحمه به، وبهذا قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقه لحمها في الحل ولنا أنه أحد مقصودي النسك فاختص بالحرم كالذبح ولأن المقصود من ذبحه بالحرم التوسعة على مساكينه ولا يحصل بإعطائه غيرهم والطعام كالهدي في اختصاصه بفقراء الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي الهدي بمكة وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ويقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة ولنا قول ابن عباس رضي الله عنهما الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بالحرم كالهدي (فصل) ومساكين الحرم من كان فيه من أهله ومن رود إليه من الحاج وغيرهم وهم الذين تدفع إليهم الزكاة لخاصتهم فإن دفع إلى فقير في ظنه فبان غنيا خرج فيه وجهان كالزكاة وللشافعي فيه قولان وما جاز تفرقته بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة، وبه قال الشافعي وأبو ثور وجوزه أصحاب الرأي ولنا أنه كافر فلم يجز الدفع إليه كالحربي
(فصل) فإن عجز عن إيصاله إلى فقراء الحرم جاز ذبحه وتفريقه في غيره لقوله سبحانه (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فإن منع الناذر الوصول بنفسه وأمكنه تنفيذه لزمه وقال ابن عقيل يخرج في الهدي المنذور إذا عجز عن إيصاله روايتان كدماء الحج والصحيح الجواز (فصل) فأما فدية الأذى إذا وجد سببها في الحل فيجوز في الموضع الذي حلق فيه نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا يجوز إلا في الحرم لقوله تعالى (هديا بالغ الكعبة) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية وهي من الحل ولم يأمره ببعثه إلى الحرم، وروي الاثرم والجوزجاني في كتابيهما عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر رضي الله(3/347)
عنهما قال: كنت مع عثمان وعلي وحسين بن علي رضي الله عنهم حجابا فاشتكى حسين بن علي بالسقيا فأومأ بيده إلى رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا وهذا لفظ رواية الأثرم ولم يعرف لهم مخالف والآية وردت في الهدي وحكم اللبس والطيب حكم الحلق إذا وجد في الحل ذكره القاضي قياساً عليه وقال فيه وفي الحلق روايتان (إحداهما) يفدي حيث وجد سببه والثانية محل الجميع الحرم حكاهما ابن أبي موسى في الإرشاد (فصل) فأما دم الإحصار فيخرجه حيث أحصر من حل أو حرم نص عيه أحمد وهو قول مالك والشافعي فإن كان قادراً على أطراف الحرم ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه (والثاني) ينحره في موضعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه وعن أحمد رحمه الله ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلاً على نحره في وقت يتحلل وهذا يروي عن ابن مسعود رضي الله عنه فيمن لدغ في الطريق وروى ذلك كعن الحسن والشعبي وعطاء لأنه أمكنه النحر في الحرم أشبه مالو حصر فيه قال شيخنا وهذا والله أعلم فيمن كان حصره خاصاً أما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدزي إلى محله ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونحروا هداياهم بالحديبية وهي من الحل قال البخاري ومال أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شئ قبل الطواف وقبل أن يصل
الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً أن يقضي شيئاً ولا أن يعود له ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق أهل السير والنقل وقد دل عليه قوله سبحانه (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) ولأنه موضع حله فكان موضع نحره كالحرم فإن قيل فقد قال الله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وقال (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم كجزاء الصيد قلنا الآية في حق غير المحصر ولا يمكن قياس المحصر عليه لأن تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم وكل منهما ينحر في موضع تحلله وقد قيل في قوله تعالى (حتى يبلغ الهدي محله) أي حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم (مسألة) (وأما الصيام فيجزئه بكل مكان) لا نعلم فيه خلافاً كذلك قال ابن عباس وعطاء والنخعي وغيرهم وذلك لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام فإن نفعه يتعدى إلى المعطى والله تعالى أعلم (مسألة) (وكل دم ذكرنا يجزئ فيه شاة أو سبع بدنة ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة)(3/348)
كل من وجب عليه دم أجزأه ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة لقوله سبحانه في المتمتع (فما استيسر من الهدي) قال ابن عباس رضي الله عنهما شاة أو شرك في دم (1) وقال تعالى في فدية الأذى (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وفسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة بذبح شاة وما سوى هذين مقيس عليهما فإن اختار ذبح بدنة فهو أفضل لأنها أوفر لحماً وأنفع للفقراء وهل تكون كلها واجبة؟ فيه وجهان (أحدهما) تكون واجبة اختاره ابن عقيل لأنه اختار الا على لأداء فرضه فكان كله واجباً كما لو اختار إلا على من خصال الكفارة (والثاني) يكون سبعها واجباً والباقي تطوع له أكله وهديته لأن الزائد على السبع يجوز تركه من غير شرط ولا بدل أشبه مالو ذبح سبع شياه (فصل) ولا يجزئه إلا الجذع من الضأن والثني من غيره والجذع ماله ستة أشهر والثني من المعز ماله سنة ومن البقر ماله سنتان ومن الإبل ماله خمس سنين وبه قال مالك والليث والشافعي واسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال ابن عمر والزهري لا يجزئ إلا الثني من كل شئ.
وقال عطاء والاوزاعي يجزي، الجذع من الكل إلا المعز ولنا على الزهري ماروي عن أم هلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يجوز الجذع من الضأن أضحية " وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال كنا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مجاشع بن سليم فعزب الغنم فأمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية " رواهما ابن ماجة وعن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعاً من الضأن " رواه مسلم وهذا حجة على عطاء والاوزاعي، وحديث أبي بردة بن نيار قال يارسول الله إن عندي عناقاً جذعا هي خبر من شاتي لحم قال " تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك " رواه أبو داود والنسائي.
ولا يجزئ فيها المعيب الذي يمنع من الاجزاء في الهدي والأضاحي قياسها عليها (فصل) ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة) إذا كان في غير النذر وجزاء الصيد لما روى أبو الزبير عن جابر قال كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة؟ قال وهل هي إلا من البدن؟ رواه مسلم فأما في النذر فقال ابن عقيل يلزمه ما نواه فإن أطلق ففيه روايتان (إحداهما) هو مخير لما ذكرنا من الخبر (والأخرى) لا تجزئه إلا مع عدم البدنة وهو قول الشافعي لأنها بدل فاشترط عدم المبدل لها قال شيخنا والأولى أولى للخبر ولأن ما أجزأ عن سبعة في الهدايا ودم المتعة أجزأ في النذر بلفظ البدنة كالجزور، وإن كان في جزاء الصيد أجزأت أيضاً لحديث جابر اختاره شيخنا.
ويحتمل أن لا تجزئ لأن البقرة لا تشبه النعامة.
ومن وجبت علية بدنة أجزأه سبع من الغنم ذكره الخرقي سواء(3/349)
كانت من جزاء الصيد أو منذورة أو فدية الوطئ.
وقال ابن عقيل إنها تجزئ عنها عند عدمها في ظاهر كلام أحمد رحمه الله لأنه بدل فلا يصار إليه مع وجودها كسائر الإبدال، فأما عند عدمها فيجوز لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال إن علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها فأشتريها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم إن يبتاع سبع شياه فيذبحهن رواه ابن ماجه.
وعنه لا يجزئه أقل
من عشر شياه لانهم كانا يعدلونها في الغنيمة بعشر كذلك.
هذا والأول أولى للخبر ولنا أن الشاة معدولة بسبع بدنة وهي أطيب لحماً فإذا عدل إلى الأعلى أجزأه كما لو ذبح عن الشاة بدنة (فصل) ومن وجبت عليه سبع من الغنم أجزأته بدنة أو بقرة إن كان في كفارة محظور لأن الواجب فيه ما استيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمتعون فيذبحون البقرة عن سبعة.
قال جابر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبع منا في بدنة.
رواه مسلم.
فأما ان وجب عليه سبع من الغنم في جزاء الصيد فقال شيخنا لاتجزئه البدنة في الظاهر لأن الغنم أطيب لحماً فلا يعدل عن الأعلى إلى الأدنى (فصل) ومن وجبت عليه بقرة أجزأته بدنة لأنها أكثر لحماً وأوفر.
ويجزئه سبع من الغنم إذا قلنا يجزئ عن البدنة بطريق الأولى وإن كانت البقرة منذورة احتمل على ما حكاه ابن عقيل أن لا تجزئه سبع من الغنم مع وجودها كما لو كان المنذور بدنة والله تعالى أعلم * باب جزاء الصيد * (وهو ضربان (أحدهما) له مثل من النعم فيجب مثله وهو نوعان (أحدهما) قضت فيه الصحابة ففيه ما قضت) .
يجب على المحرم الجزاء يقتل صيد البر بمثله من النعم إن كان له مثل هذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي.
وقال أبو حنيفة الواجب القيمة ويجوز صرفها إلى المثل لأن الصيد ليس بمثلي ولنا قوله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشاً وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على إيجاب المثل فقال عمر وعلي وعثمان وزيد وابن عباس ومعاوية في النعامة بدنة، وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة وحكم عمر في حمار الوحش ببقرة حكموا بذلك في الأزمنة المختلفة والبلدان المتفرقة فدل على أن ذلك ليس على وجه القيمة لأنه لو كان على وجه القيمة لاعتبروا صفة المتلف التي تختلف القيمة فيه إما برؤية أو اخبار ولم ينقل عنهم السؤال عن ذلك حال الحكم ولانهم حكموا في الحمام بشاة والحمامة لا تبلغ قيمة الشاة غالباً.
إذا ثبت هذا فليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين الأنعام والصيد لكن أريد المماثلة من حيث الصورة، والمثلي من الصيد قسمان (أحدهما) قضت فيه(3/350)
الصحابة فيجب فيه ما قضت وبه قال عطاء والشافعي وإسحاق.
وقال مالك يستأنف الحكم فيه لأن الله تعالى قال (يحكم به ذواعدل منكم) ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم " (1) وقال " اقتداو بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (2) ولأنهم أقرب الى الصواب وأبصر بالعلم فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي فالذي؟؟ فيه النعامة حكم فيها عمر وعلي وعثمان وزيد وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم ببدنة.
وبه قال عطاء ومالك والشافعي وأكثر العلماء، وحكي عن النخعي إن فيها قيمتها وبه قال أبو حنيفة وخالفه في ذلك صاحباه واتباع النص والآثار أولى، ولأن النعامة تشبه البعير في خلقه فكان مثلاً لها فيدخل في عموم النص وفي حمار الوحش بقرة روى ذلك عن عمر وبه قال عروة ومجاهد والشافعي وعن أحمد فيه بدنة روى ذلك عن أبي عبيدة وابن عباس وبه قال عطاء والنخعي وفي بقرة الوحش بقرة روى ذلك عن ابن مسعود وعطاء وعروة وقتادة والشافعي، والإيل فيه بقرة قاله ابن عباس، قال أصحابنا في الثيتل والوعل بقرة كالايل، والاروي فيه بقرة قاله ابن عمر وقال القاضي فيها عضب وهو من أولاد البقر ما بلغ أن يعتص على قرن ولم يبلغ أن يكون ثوراً، وفي الضبع كبش لما روى أبو داود عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الضبع يصيدها المحرم كبشاً، قال أحمد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش وقضى به عمر وابن عباس وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وقال الأوزاعي كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكلها وهو القياس إلا أن اتباع السنة والآثار أولى، وفي الغزال شاة ثبت ذلك عن عمر وروي عن علي وبه قال عطاء وعروة والشافعي وابن المنذر ولا يحفظ عن غيرهم خلافهم وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة " قال ابن الزبير والجفرة التي قد فطست ورعت، رواه الدارقطني، وفي الثعلب شاة أيضاً لأنه يشبه الغزال وممن قال فيه الجزاء قتادة وطاوس ومالك والشافعي وعن أحمد لا شئ فيه لأنه سبع، وأما الوبر فقال القاضي فيه جفرة لأنه ليس بأكبر منها وهو قول الشافعي وقيل فيه شاة روى ذلك عن مجاهد وعطاء، وفي الضب جدي قضى به عمر وزيد وبه قال الشافعي وعن أحمد فيه شاة لأن جابر بن عبد الله وعطاء قالا فيه ذلك، وقال مجاهد حفنة من طعام
والأولى أولى لأن قضاء عمر أولى من قضاء غيره والجدي أقرب إليه من الشاة، وفي اليربوع جفرة لما ذكرنا من حديث جابر وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وقال النخعي ثمنه وقال مالك قيمته من الطعام وقال عمرو بن دينار ما سمعنا أن الضب واليربوع يوديان(3/351)
واتباع الآثار أولى والجفرة يكون لها أربعة أشهر من المعز وقال أبو الزبير هي التي فطمت ورعت وقيل هي الطفلة التي يروح بها الراعي على يديه، وفي الأرنب عناق لما ذكرنا من حديث جابر وقضى به عمر أيضاً وبه قال الشافعي وقال ابن عباس فيه حمل وقال عطاء فيه شاة وقضاء عمر أولى والعناق الأنثى من أولاد المعز أصغر من الجفرة، والذكر جدي وفي الحمام وهو كل ماعب وهدر شاة حكم به عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ونافع بن الحارث في حمام الحرم وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وعروة وقتادة والشافعي واسحاق وقال أبو حنيفة ومالك فيه قيمته إلا أن مالكا وافق في حمام الحرم دون الإحرام لأن القياس يقتضي القيمة في كل الطير تركناه في حمام الحرم بحكم الصحابة ففيما عداه يبقى على الأصل قلنا قد روي عن ابن عباس في الحمام في حال الإحرام كقولنا ولأنها حمامة مضمونة لحق الله تعالى فضمنت بشاة كحمامة الحرم ولأنها متى كانت الشاة مثلاً لها في الحرم فكذلك في الحل فيجب ضمانها لقول الله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وقياس الحمام على جنسه أولى من قياسه على غيره، والحمام كل ماعب الماء أي وضع منقاره فيه فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة كالدجاج والعصافير وإنما أوجبوا فيه شاة لشبهه بها في كرع الماء ولا يشرب كشرب بقية الطيور قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي كل طير يعب الماء يشرب مثل الحمام ففيه شاة فيدخل فيه الفواخت والدواشين والسفاهين والقمري والدسبي والقطا.
ولأن كل واحد منها تسميه العرب حماماً، وقال الكسائي كل مطوق حمام وعلى هذا القول الحجل حمام لأنه مطوق (مسألة) (النوع الثاني) ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة ويجوز أن يكون القاتل أحدهما) وذلك لقول الله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم من
حيث الخلقة لا من حيث القيمة بدليل أن قضاء الصحابة لم يكن بالمثل في القيمة وليس من شرط الحكم أن يكون فقيهاً لأن ذلك زيادة على أمر الله تعالى به وقد أمر عمر أربد أن يحكم في الضب ولم يسأله أفقيه أم لا لكن تعتبر العدالة لأنها منصوص عليها، وتعتبر الخبرة لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا من له خبرة ولأن الخبرة بما يحكم به شرط في سائر الحكام، ويجوز أن يكون القاتل أحد العدلين وبه قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال مالك والنخعي ليس له ذلك لأن الانسان لا يحكم لنفسه وكذلك يجوز أن يكون الحاكمان القاتلين وبه قال الشافعي وقال مالك لا يجوز حكاه أبو الحسين ولنا عموم قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) والقاتل مع غيره ذوا عدل منا وقد روى الشافعي في مسنده عن طارق بن شهاب قال: خرجنا حجاجاً فأوطأ رجل منا قال له أربد ضباً ففقر ظهره فقدمنا(3/352)
على عمر رضي الله عنه فسأله أربد فقال احكم يا أربد فيه قال أنت خير مني يا أمير المؤمنين قال إنما أمرتك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني فقال أربد أرى فيه جدياً قد جمع الماء والشجر فقال عمر فذلك فيه، فأمره عمر أن يحكم وهو القاتل وأمر أيضا كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم ولأنه مال يخرج في حق الله تعالى فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة، قال ابن عقيل إنما يحكم القاتل إذا قتل خطأ لأن القتل عمداً ينافي العدالة فيخرج عن أن يكون قد قتله جاهلاً بالتحريم فلا يمتنع أن يحكم لأنه لا يفسق بذلك والله أعلم.
وعلى قياس ذلك إذا قتله عند الحاجة إلى أكله لأن قتله مباح لكن يجب فيه الجزاء (مسألة) (ويجب في كل واحد من الصغير والكبير والصحيح والمعيب مثله إلا الماخض تفدى بقيمة مثلها وقال أبو الخطاب يجب فيها مثلها) يجب في كبير الصيد كبير مثله وفي الصغير صغير وفي الصحيح صحيح وفي المعيب معيب وفي الذكر ذكر وفي الأنثى أنثى، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك لا يجزئ إلا كبير صحيح لأن الله تعالى قال (هديا بالغ الكعبة) ولا يجزئ في الهدي صغير ولا معيب ولأنها كفارة متعلقة بقتل حيوان فلم تختلف بصغره وكبره كقتل لآدمي
ولنا قوله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومثل الصغير صغير ومثل المعيب معيب ولأن ما ضمن باليد والجناية اختلف ضمانه بالصغر والكبر كالبهيمة، والهدي في الآية مقيد بالمثل، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على ايجاب مالا يصلح هديا كالجفرة والعناق والجدي.
وكفارة الآدمي ليست بدلاً عنه ولا تجري مجرى الضمان بدليل أنها لا تتبعض في أبعاضه فإن فدى المعيب بصحيح فهو أفضل فأما الماخض وهي الحامل فقال القاضي يضمنها بقيمة مثلها، وهو مذهب الشافعي لأن قيمتها أكثر من قيمة لحمها وقال أبو الخطاب يضمنها بما خض مثلها للآية ولأن إيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه فان فداها بغير ماخض احتمل الجواز لأن هذه الصفة لا تزيد في لحمها بل ربما نقصتها فلا يشترط وجودها في المثل كاللون وإن جني على ماخض فأتلف جنينها وخرج ميتاً ففيه ما نقصت أمه كما لو جرحها وإن خرج حياً لوقت يعيش لمثله ثم مات ضمنه بمثله وإن كان لوقت لا يعيش لمثله فهو كالميت كجنين الآدمية (مسألة) (ويجوز فداء أعور من عين بأعور من أخرى وفداء الذكر بالانثى وفي فدائها به وجهان) إذا فدى المعيب بمثله جاز لما ذكرنا وإن اختلف العيب مثل فداء الأعور بأعرج والأعرج بأعور لم يجز لعدم المماثلة وإن فدى أعور من إحدى العينين بأعور من أخرى أو أعرج بقائمة بأعرج من أخرى(3/353)
جاز لأن هذا اختلاف يسير ونوع العيب واحد وإنما اختلف محله وإن فدى الذكر بالأنثى جاز لأن لحمها أطيب وأرطب وإن فداها به ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لأن لحمه أوفر فتساويا والآخر لا يجوز لأن زيادته عليها ليست من جنس زيادتها فاشبه فداء المعيب من نوع بالمعيب من نوع آخر ولأنه لا يجزئ عنها في الزكاة كذلك ههنا (مسألة) (الضرب الثاني) مالا مثل له وهو سائر الطير فيجب فيه قيمته إلا ما كان أكبر من الحمام فهل يجب فيه قيمته أو شاة؟ على وجهين) يجب فداء مالا مثل له بقيمته في موضعه الذي أتلفه فيه كإتلاف فصال الآدمي ولا خلاف بين أهل العلم في وجوب ضمان الصيد من الطير إلا ما حكي عن داود ماكان أصغر من الحمام لا يضمن لأن
الله تعالى قال (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وهذا لا مثل له ولنا عموم قوله تعالى (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وقد قيل في قوله تعالى (ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم) يعني الفرخ والبيض ومالا يقدر أن يفر من صغار الصيد (ورماحكم) يعني الكبار، وقد روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما حكما في الجراد الجزاء ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا يمنع من وجوب الجزاء في هذا بدليل آخر ويفدى بقيمته لأن الأصل أن يضمن بقيمته كما لو أتلفه الآدمي لكن تركنا هذا الأصل لدليل ففيما عداه تجب القيمة بقضية الأصل.
(فصل) فأما ماكان أكبر من الحمام كالأوز والحبارى والكركي والحجل والكبير من طير الماء ففيه وجهان (أحدهما) يجب فيه شاة لأنه يروي عن ابن عباس وعطاء وجابر أنهم قالوا في الحجلة والقطاة والحبارى شاة وزاد عطاء في الكركي والكروان وابن الماء ودجاجة الحبش والماء والخرب شاة شاة والخرب هو فرخ الحبارى ولأن إيجاب الشاة في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه (والوجه الثاني) فيه قيمته وهو مذهب الشافعي لأن القياس يقتضي وجوبها في جميع الطير تركناه في الحمام لإجماع الصحابة ففي غيره يبقى على أصل القياس (مسألة) (ومن أتلف جزءاً من صيد فعليه ما نقص من قيمته أو قيمة مثله إن كان مثلياً) أما مالا مثل له فإذا أتلف جزءاً منه ضمنه بقيمته لأن جملته تضمن بقيمته فكذلك اجزاؤه كما لو كان لآدمي وإن كان له مثل ففيه وجهان (أحدهما) يضمن بمثله من مثله لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعضه مثله كالمكيلات والآخر تجب قيمة مقداره من مثله لأن الجزء يشق إخراجه فيمنع إيجابه ولهذا عدل الشارع عن(3/354)
إيجاب جزء من بعير في خمس من الإبل إلى إيجاب شاة والأول أولى لأن المشقة ههنا غير ثابتة لوجود الخبرة له في العدول عن المثل إلى عدله من الطعام أو الصيام فينتفي المانع فيثبت مقتضى الأصل هذا إذا اندمل الصيد ممتنعاً.
(مسألة) (وإذا نفر صيداً فتلف بشئ ضمنه) إذا نفر صيداً فتلف في حال نفوره ضمنه وكذلك أن جرح صيداً فتحامل إن وقع في شئ تلف به لأنه تلف بسببه فإن نفره فسكن في مكان وأمن من نفوره ثم تلف لم يضمنه وفيه وجه آخر أنه يضمنه إذا تلف في المكان الذي انتقل إليه لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه دخل دار الندوة فالقى رداءه على واقف في البيت فوقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره فوقع على واقف آخر فانتهزته حية فقتلته فقال لعثمان ونافع بن الحارث إني وجدت في نفسي أني اطرته من منزل كان فيه آمنا إلى موقع كان فيه حية فقال نافع لعثمان كيف ترى في عنز ثنية عفراء يحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال عثمان أرى ذلك فأمر بها عمر رضي الله عنه رواه الشافعي في مسنده (مسألة) (وان جرحه فغاب ولم يعلم خبره فعليه ما نقصه وكذلك إن وجد ميتاً ولم يعلم موته بجنايته وإن اندمل غير ممتنع فعليه جزاء جميعه) وإذا جرح صيداً فغاب غير مندمل والجراحة موجبة لا تبقى الحياة معها غالباً فعليه جزاء جميعه كما لو قتله وإن كانت غير موجبة فعليه ضمان ما نقص لأنا لا نعلم حصول التلف بفعله إلا أنه يقومه صحيحاً وجريحاً جراحة غير مندملة فيعتبر ما بينهما لأنا لا نعلم هل يندمل أم لاوكذلك إن وجده ميتاً ولم يعلم أمات من الجناية أم من غيرها لما ذكرنا ويحتمل أن يلزمه ضمان جميعه ههنا لأنه وجد سبب إتلافه منه ولم نعلم سبباً آخر فوجب إحالته على السبب المعلوم كما لو وقع في الماء نجاسة فوجده متغيراً تغيراً يصلح أن يكون منها فانا نحكم بنجاسته وكذلك لو رمى صيداً فغاب عن عينه ثم وجده ميتاً لا أثر به غير سهمه حل أكله وهذا أقيس.
(فصل) وإن اندمل الصيد غير ممتنع ضمنه جميعه لأنه عطله فصار كالتالف ولأنه يفضي إلى تلفه فصار كما لو جرحه جرحا يتيقن موته به، وهذا مذهب أبي حنيفة ويتخرج أن يضمنه بما نقص لأنه لا يضمن إلا ما أتلف ولم يتلف جميعه بدليل مالو قتله محرم لزمه الجزاء والصحيح أن على المشتركين جزاء واحداً وضمانه بجزاء كامل يفضي الى إيجاب جزاءين وإن صيرته الجناية غير ممتنع فلم يعلم أصار ممتنعاً أم لا فعليه ضمانه لأن الأصل عدم الامتناع
(فصل) وكل ما يضمن به الآدمي يضمن به الصيد من مباشرة أو سبب وكذلك ما جنت دابته بيدها او فمها فأتلفت صيداً فالضمان على راكبها أو قائدها أو سائقها وما جنت برجلها فلا ضمان فيه(3/355)
وقال القاضي يضمن السائق جميع جنايتها لأن يده عليها ويشاهد رجلها، وقال ابن عقيل لا ضمان في الرجل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الرجل جبار " وإن انفلتت فأتلفت صيداً لم يضمنه لأنه لا يدله عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " العجماء جبار " ولذلك لو أتلفت آدمياً لم يضمنه ولو نصب شبكة أو حفر بئراً فوقع فيها صيد ضمنه لأنه بسببه كما يضمن الآدمي إلا أن يكون حفر البئر بحق كحفرة في داره أو في طريق واسع ينتفع بها المسلمون فينبغي أن لا يضمن كالآدمي وإن نصب شبكة قبل إحرامه فوقع فيها صيد بعد إحرامه لم يضمنه لأنه لم يوجد منه بعد إحرامه تسبب إلى إتلافه أشبه مالو صاده قبل إحرامه وتركه في منزله فتلف بعد إحرامه (مسألة) (وإن نتف ريشه فعاد فلا شئ عليه وقيل عليه قيمة الريش) إذا نتف ريش طائر ثم حفظه فأطعمه وسقاه حتى عاد ريشه فلا ضمان عليه لأن النقص زال وقيل عليه قيمة الريش لأن الثاني غير الأول فإن صار غير ممتنع بنتف ريشه فهو كالجرح وقد ذكرناه وإن غاب ففيه ما نقص، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وأوجب مالك وأبو حنيفة فيه الجزاء جميعه ولنا أنه نقص يمكن زواله فلا يضمنه بكماله كما لو جرحه ولم يعلم حاله (مسألة) (وكلما قتل صيداً حكم عليه) يعني يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني كما يجب إذا قتله ابتداء هذا ظاهر المذهب قال أبو بكر وهذا أولى القولين بأبي عبد الله، وبه قال عطاء والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وابن المنذر وفيه رواية ثانية أنه لا يجب إلا في المرة الأولى وروي ذلك عن ابن عباس.
وبه قال شريح والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي وقتادة لأن الله تعالى قال (ومن عاد فينتقم الله منه) ولم يوجب جزاء وفيه رواية ثالثة أن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وإلا فلا وقد ذكرناها ولنا أنها كفارة عن قتل فاستوى فيها المبتدي والعائد كقتل الآدمي، ولأنها بدل متلف يجب
به المثل أو القيمة فأشبه بدل مال الآدمي.
قال أحمد روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ وفيمن قتل ولم يسألوه هل كان قبل هذا قتل أو لا والآية اقتضت الجزاء على العائد بعمومها، وذكر العقوبة في الثاني لايمنع الوجوب كما قال تعالى (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقد ثبت ان العائد لو انتهى كان له ما سلف وأمره إلى الله (فصل) ويجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته.
نص عليه أحمد رحمه الله لأنها كفارة قتل فجاز تقديمها على الموت ككفارة قتل الآدمي، ولأنها كفارة أشبهت كفارة الظهار واليمين(3/356)
(مسألة) (وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد، وعنه على كل واحد جزاء، وعنه إن كفروا بالمال فكفارة واحدة، وإن كفروا بالصيام فعلى كل واحد كفارة) روي عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة ثلاث روايات (إحداهن) أن الواجب جزاء واحد وهو الصحيح.
يروى هذا عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال عطاء والزهري والنخعي والشعبي والشافعي واسحاق (والثانية) على كل واحد جزاء ذكرها ابن أبي موسى اختارها أبو بكر، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة، ويروى عن الحسن لأنها كفارة قتل يدخلها الصوم أشبهت كفارة قتل الآدمي (والثالثة) إن كان صوماً فعلى كل واحد منهم صوم تام، وإن كان غيره فجزاء واحد، وإن أهدى أحدهما أو أطعم وصام الآخر فعلى المهدي بحصته، وعلى الآخر صيام تام لأن الجزاء ليس بكفارة، وإنما هو بدل بدليل أن الله تعالى عطف عليه الكفارة فقال (فجزاء مثل ما قتل من النعم..أو كفارة) والصيام كفارة فيكمل ككفارة قتل الآدمي ولنا قوله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) والجماعة إنما قتلوا صيدا فلزمهم مثله، والزائد خارج عن المثل، فلا يجب، ومتى ثبت اتحاد الجزاء في الهدي وجب اتحاده في الصيام لأن الله تعالى قال (أو عدل ذلك صياما) والاتفاق حاصل على أنه معدول بالقيمة إما قيمة المتلف أو قيمة مثله
فإيجاب الزائد على عدل القيمة خلاف النص، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه فكان واحداً كالدية، وكفارة الآدمي لنا فيها منع فلا تتبعض في إبعاضه ولا تختلف باختلافه، فلم يتبعض على الجماعة بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن كان شريك المحرم حلالاً أو سبعاً فالجزاء كله على المحرم في أحد الوجهين وفيه وجه آخر إن على المحرم بحصته كالمحرمين وقد ذكرناه (فصل) وإن اشترك حلال ومحرم في قتل صيد حرمي فالجزاء بينهما نصفين لأن الإتلاف ينسب إلى كل واحد منهما نصفه ولا يزداد الواجب على المحرم باجتماع حرمة الإحرام والحرم، وهذا الاشتراك الذي هذا حكمه هو الذي يقع الفعل منهما معا أو يجرحه أحدهما قبل الآخر ويموت منهما فإن جرحه أحدهما وقتله الآخر فعلى الجارح ما نقصه على ما مضى، وعلى القاتل جزاؤه مجروحاً (فصل) وان قتل صيداً مملوكاً ضمنه بالقيمة لمالكه والجزاء لله تعالى لأنه حيوان مضمون بالكفارة فجاز أن يجتمع التقويم في التكفير فلا ضمانه كالعبد(3/357)
(فصل) وإذا قتل القارن صيداً فعليه جزاء واحد نص عليه أحمد فقال: إذا قتل القارن صيداً فعليه جزاء واحد وهؤلاء يقولون جزاآن فليزمهم أن يقولوا في صيد الحرم ثلاثة لأنهم يقولون في الحل اثنين ففي الحرم ينبغي أن يكون ثلاثة وهذا قول مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي جزاآن، وكذلك إذا تطيب أو لبس، قال القاضي وإذا قلنا على القارن طوافان لزمه جزاآن ولنا قوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) ومن أوجب جزائين فقد أوجب مثلين، ولأنه صيد واحد فلم يجب فيه جزآان كما لو قتل المحرم في الحرم صيداً (باب صيد الحرم ونباته) (مسألة) (وهو حرام على الحلال والمحرم فمن أتلف من صيده شيئاً فعليه ما على المحرم في مثله) الأصل في تحريمه النص والإجماع، أما النص فما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله
إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من النهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها " فقال العباس يارسول الله: إلا الاذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا الاذخر " متفق عليه.
وأجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم على الحلال والمحرم (فصل) وفيه الجزاء على من يقتله بمثل ما يجزي به الصيد في الإحرام، وحكي عن داود أنه لا جزاء فيه لأن الأصل براءة الذمة ولم يرد فيه نص فيبقى بحاله(3/358)
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في الحمام الحرم بشاة شاة، روى ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ولم ينقل عن غيرهم خلافهم فيكون إجماعاً، ولأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى أشبه الصيد في حق المحرم (فصل) للصوم مدخل في ضمان صيد الحرم عند الأكثرين خلافا لابي حنيفة ولنا أنه يضمن بالإطعام فيضمن بالصيام كالصيد في الإحرام (فصل) ويجب في حمام الحرم شاة، وقال أبو حنيفة فيه في الحرم شاة، وفي حمام الحل في الحرم حكومة، وفي حمام الحرم في الحل روايتان (إحداهما) حكومة (والثانية) شاة ولنا ما ذكرنا من قضاء الصحابة ولم يفرقوا.
ذكر هذين الفصلين القاضي أبو الحسن (فصل) وكل ما يضمن في الإحرام يضمن في الحرم إلا القمل فإنه يباح في الحرم بغير خلاف لأنه حرم في حق المحرم لأجل الترفه وهو مباح في الحرم كإباحة الطيب واللبس (فصل) ويضمن صيد الحرم في حق المسلم والكافر، والكبير والصغير، والحر والعبد، وقال أبو حنيفة لا يضمنه الصغير ولا الكافر ولنا أن الحرمة تعلقت بمحله بالنسبة إلى الجميع فوجب ضمانه كالآدمي(3/359)
(فصل) ويضمن صيد الحرم بالدلالة والإشارة كصيد الإحرام والواجب عليهما جزاء واحد نص
عليه أحمد، وظاهر كلامه أنه لافرق بين كون الدلالة في الحل والحرم، وقال القاضي لا جزاء على الدال إذا كان في الحل، والجزاء على المدلول وحده كالحلال إذا دل محرماً ولنا أن قتل الصيد الحرمي حرام على الدال فيضمن بالدلالة كما لو كان في الحرم يحققه أن صيد الحرم محرم على كل أحد لقوله عليه السلام " لا ينفر صيدها " وفي لفظ " لا يصاد صيدها " وهذا عام في كل أحد، ولأن صيد الحرم معصوم بمحله فحرم قتله عليهما كالملتجئ إلى الحرم، وإذا ثبت تحريمه عليهما فيضمن بالدلالة ممن يحرم عليه قتله كما يضمن بدلالة المحرم عليه، وكل ما يضمن به في الإحرام يضمن به في الحرم ومالا فلا لأنه صيد ممنوع منه لحق الله تعالى فيضمن بكل ما به في الإحرام وكان حكمه حكمه في وجوب الضمان وعدمه قياساً عليه (مسألة) (وإن رمى الحلال من الحل صيداً في الحرم، او أرسل كلبه عليه، أو قتل صيداً على غصن في الحرم أصله في الحل، أو أمسك طائراً في الحل فهلك فراخه في الحرم ضمن في أصح الروايتين) إذا رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم، او أرسل جارحاً عليه فقتله، أو قتل صيداً على غصن في الحرم أصله في الحل ضمنه، وبه قال الشافعي والثوري وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، وعن(3/360)
أحمد رواية أخرى لاجزاء عليه لان القاتل حلال في الحل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ينفر صيدها " ولم يفرق بين من هو في الحل والحرم، وقد أجمع المسلمون على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده، ولأن صيد الحرم معصوم بمحله لحرمة الحرم فلا يختص تحريمه بمن في الحرم كالملتجئ، وكذلك الحكم لو أمسك طائراً في الحل فهلك فراخه في الحرم فإنه يضمن الفراخ لما ذكرنا دون الأم لأنها من صيد الحل وهي حلال (مسألة) (وان قتل من الحرم صيداً في الحل بسهمه أو كلبه، أو صيداً على غصن في الحل أصله في الحرم، او أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل لم يضمن في أصح الروايتين) هذه المسائل عكس التي قبلها والصحيح أنه لا ضمان في ذلك لأنه ليس من صيد الحرم، قال أحمد فيمن أرسل كلبه في الحرم فصاد في الحل فلا شئ عليه، وعنه رواية أخرى عليه الضمان في جميع الصور
وعن الشافعي ما يدل عليه، وذهب الثوري والشافعي وأبو ثور وابن المنذر فيمن قتل طائراً على غصن في الحل أصله في الحرم لا جزاء عليه، وهو ظاهر قول أصحاب الرأي، وقال اسحاق وابن الماجشون عليه الجزاء لأن الغصن تابع للأصل وهو في الحرم ولنا أن الأصل حل الصيد حرم صيد الحرم بالنص والإجماع فبقي ما عداه على الأصل ولأنه صيد حل أصابه حلال فلم يحرم كما لو كانا في الحل، ولأن الجزاء إنما يجب في صيد الحرم، أو صيد المحرم وليس هذا واحداً منهما(3/361)
(فصل) وإن كان الصيد والصائد في الحل فرماه بسهمه، أو أرسل كلبه عليه فدخل الحرم ثم خرج فقتل الصيد في الحل فلا جزاء فيه، وبه قال أصحاب الرأي وأبو ثور وابن المنذر، وحكي عن الشافعي أن عليه الجزاء ولنا ما ذكرنا قال القاضي لا يزيد سهمه على نفسه، ولو عدا بنفسه فسلك الحرم في طريقه ثم قتل صيداً في الحل لم يكن عليه شئ فسهمه أولى (مسألة) (وإن أرسل كلبه من الحل على صيد في الحل فقتل صيدا في الحرم فعلى وجهين، وان فعل ذلك بسهمه ضمنه) أما إذا رمى من الحل صيداً فيه فقتل صيدا في الحرم فعليه الجزاء، وبهذا قال الثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور لا جزاء عليه ولنا أنه قتل صيداً حرمياً فلزمه جزاؤه كما لو رمى حجراً في الحرم فقتل صيداً.
يحققه أن الخطأ كالعمد في وجوب الجزاء وهذا لا يخرج عن أحدهما، فأما إن أرسل كلبه على صيد في الحل فقتله في الحرم فنص أحمد على أنه لا يضمنه وهو قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب على الصيد في الحرم، وإنما دخل باختيار نفسه أشبه مالو استرسل بنفسه، وقال عطاء وأبو حنيفة وصاحباه عليه الجزاء لأنه قتل صيداً حرمياً بإرسال كلبه عليه فضمنه كما لو قتله بسهمه وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز(3/362)
وحكى صالح عن أحمد أنه إن كان الصيد قريباً من الحرم ضمنه لأنه فرط بإرساله وإلا لم يضمنه وهذا قول
مالك فإن قتل صيداً غيره لم يضمنه، وهذا قول الثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور وابن المنذر لأنه لم يرسل الكلب على ذلك الصيد فأشبه مالو استرسل بنفسه، وفيه رواية أخرى أنه يضمن إن كان الصيد قريباً من الحرم لأنه مفرط فأشبه المسألة التي قبلها.
إذا ثبت هذا فإنه لا يأكل الصيد في هذه المواضع كلها ضمنه أولا لأنه صيد حرمي قتل في الحرم كما لو ضمنه، ولأننا إذا ألغينا فعل الآدمي صار الكلب كأنه استرسل بنفسه فقتله (فصل) فإن رمى الحلال من الحل صيداً فجرحه فتحامل الصيد فدخل الحرم فمات فيه حل أكله ولا جزاء فيه لأن الذكاة حصلت في الحل فأشبه مالو جرح صيداً ثم أحرم فمات الصيد بعد إحرامه ويكره أكله لموته في الحرم (فصل) وإن وقف صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فقتله قاتل ضمنه تغليباً للحرم وبه قال أصحاب الرأي وأبو ثور وإن نفر صيداً من الحرم فأصابه شئ في حال نفوره ضمنه لأنه تسبب إلى إتلافه فأشبه ما لو تلف بشركة أو شبكته وإن سكن من نفوره ثم أصابه شئ لم يضمنه نص عليه وهو قول الثوري لأنه لم يكن سبباً لإتلافه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه وقع على ردائه حمامة فأطارها فوقعت على واقف فانتهزتها حية فاستشار عثمان ونافع بن الحارث فحكما عليه(3/363)
بشاة وهذا يدل على أنهم رأوا عليه الضمان بعد سكونه فإن انتقل عن المكان الثاني فأصابه شئ فلا ضمان عليه لأنه خرج عن المكان الذي طرد إليه وقول الثوري وأحمد يدل على هذا قال سفيان إذا طردت في الحرم شيئاً فأصاب شيئاً قبل أن يقع أو حين وقع ضمنت وإن وقع من ذلك المكان الى مكان آخر فليس عليك شئ فقال أحمد رحمه الله جيد (فصل) قال المصنف رحمه الله (ويحرم قلع شجر الحرم وحشيشه إلا اليابس والاذخر وما زرعه الآدمي وفي جواز الرعي وجهان) أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم البري الذي لم ينبته الآدمي وعلى إباحة أخذ الاذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين حكى ذلك ابن المنذر والأصل ما روينا من حديث ابن عباس وروى أبو شريح وأبو هريرة بنحوه والكل متفق
عليها وفي حديث أبي هريرة " ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها " وروى الأثرم حديث أبي هريرة وفيه " لا يعضد شجرها ولا يحتش حشيشها ولا يصاد صيدها " فأما ما أنبته الآدمي من الشجر فقال أبو الخطاب وابن عقيل له قلعه من غير ضمان كالزرع، وقال القاضي: ما نبت في الحل ثم غرس في الحرم فلا جزاء فيه وما نبت أصله في الحرم ففيه الجزاء بكل حال، وقال الشافعي في شجر الحرم الجزاء بكل حال أنبته الآدميون أو نبت بنفسه، وحكى ابن البنا في الخصال(3/364)
مثل ذلك لعموم قوله عليه السلام " ولا يعضد شجرها " وقال أبو حنيفة: لا جزاء فيما أنبت الآدميون جنسه كالجوز واللوز والنخل ونحوه ولا فيما أنبته الآدمي من غيره كالدوح والسلم ونحوه لأن الحرم يختص تحريمه ما كان وحشياً من الصيد كذلك الشجر، وقول شيخنا وما زرعه الآدمي يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر فيكون كما حكاه ابن البنا وهو قول الشافعي ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع كقول أبي الخطاب ويحتمل أن يريد ما أنبت الآدميون حشيشه، قال شيخنا والأولى الاخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله إلا ما أنبته الآدميون من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله أنسيا دون من تأنس من الوحشي كذا ههنا (فصل) ويحرم قطع الشوك والعوسج وقال القاضي وابو الخطاب وابن عقيل لا يحرم وروي عن عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار والشافعي لأنه يؤذي بطبعه أشبه السباع من الحيوان ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا يعضد شوكها " وفي حديث أبي هريرة " لا يختلي شوكها " وهذا صريح وهو راجح على القياس (فصل) ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش لأنه بمنزلة الميت ولا يقطع ما انكسر ولم يبن لأنه قد تلف فهو بمنزلة الظفر المنكسر ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من(3/365)
الشجر بغير فعل آدمي ولا فيما سقط من الورق نص عليه ولا نعلم فيه خلافاً لأن الخبر إنما ورد في القطع وهذا لم يقطع فأما إذا قطعه آدمي فقال أحمد لم أسمع إذا قطع ينتفع به وقال في الدوحة تقطع
من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها لأنه ممنوع من إتلافه لحرمة الحرم فإذا قطعه من يحرم عليه قطعه لم ينتفع به كالصيد يذبحه المحرم ويحتمل إن يباح لغير القطع للانتفاع به لأنه انقطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به كما لو أقلعته الريح ويفارق الصيد الذي ذبحه لأن الذكاة يعتبر لها الأهلية ولهذا لا يحصل بفعل البهيمة بخلاف هذا (فصل) وليس له أخذ ورق الشجر وقال الشافعي له أخذه لأنه لا يضر به وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله ورخص فيه عمرو بن دينار ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها " رواه مسلم ولأن ما حرم أخذه حرم كل شيء منه كريش الطير وقولهم لا يضر به ممنوع فإنه يضعفه وربما آل إلى تلفه (فصل) ويحرم قطع حشيش الحرم إلا ما استثناه الشرع من الاذخر وما أنبته الآدميون واليابس لقوله عليه السلام " لا يحتش حشيشها " وفي استثنائه الاذخر دليل على تحريم ما عداه وفي جواز رعيه وجهان (أحدهما) لا يجوز وهو مذهب أبي حنيفة لأن ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل(3/366)
عليه ما يتلفه كالصيد (والثاني) يجوز وهو مذهب عطاء والشافعي لان الهديا كانت تدخل الحرم فتكثر فيه فلم ينقل أنها كانت تسد أفواهها ولأن الحاجة تدعو إليها أشبه قطع الاذخر ويباح أخذ الكمأة من الحرم وكذلك الفقع لانه لاأصل له فأشبه الثمرة وروى حنبل قال يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق وما سقط من الشجر وما أنبت الناس (مسألة) (ومن قطعه ضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما نقصه فإن استخلف سقط الضمان في أحد الوجهين) يجب الضمان في إتلاف شجر الحرم وحشيشه، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك وأبو داود وابن المنذر لا يضمن لأن المحرم لا يضمنه في الحل فلا يضمن في الحرم كالزرع قال إبن المنذر لااجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضا في كتاب ولا سنة ولا إجماع وأقول كما قال مالك نستغفر الله تعالى
ولنا ما روى أبوهشيمة قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بشجر كان في المسجد بضر بأهل الطواف فقطع وفدا قال وذكر البقرة رواه حنبل في المناسك وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة قال والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة ونحوه عن عطاء ولأنه ممنوع منه لحرمة الحرم فضمن كالصيد ويخالف المحرم فانه لايمنع من قطع شجر الحل ولا زرع الحرم إذا ثبت هذا فإنه يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والصغيرة بشاة والحشيش بقيمته والغصن بما(3/367)
نقص كأعضاء الحيوان، وبه قال الشافعي وقال أصحاب الرأي يضمن الكل بقيمته، وعن أحمد مثل ذلك وعنه في الغصن الكبير شاة ولنا قول ابن عباس وعطاء لأنه أحد نوعي ما يحرم إتلافه فكان فيه ما يضمن بمقدر كالصيد فإن قطع غصناً أو حشيشاً فاستخلف سقط ضمانة كما لو قطع شعر آدمي فنبت وفيه وجه آخر أنه لا يسقط لأن الثاني غير الأول فهو كما لو حلق المحرم شعراً فعاد (فصل) ومن قلع شجرة من الحرم فغرسها في مكان آخر فيبست ضمنها، لأنه أتلفها وإن غرسها في الحرم فنبتت لم يضمنها لأنه لم يتلفها ولم تزل حرمتها وإن نقصت ضمن نقصها وإن غرسها في الحل فنبتت فعليه ردها إليه لأنه أزال حرمتها فإن تعذر ردها أو ردها فيبست ضمنها وإن قلعها غيره من الحل فقال القاضي الضمان على الثاني لأنه أتلفها فإن قيل فلم لا يجب على المخرج كالصيد إذا نفره إنسان من الحرم فقتله إنسان في الحل فإن الضمان على المنفر قلنا الشجر لا ينتقل بنفسه ولا تزول حرمته بإخراجه ولهذا وجب على مخرجه رده والصيد يكون تارة في الحرم وتارة في الحل فمن نفره فقد فوت حرمته فلزمه جزاؤه وهذا لم يفوت حرمتها بالإخراج فكان الجزاء على المتلف لأنه أتلف شجراً حرمياً محرماً إتلافه (مسألة) (وإن قطع غصنا في الحل أصله في الحرم ضمنه وإن قطع غصناً في الحرم أصله في الحل لم يضمنه في أحد الوجهين) إذا كانت الشجرة في الحرم غصها في الحل فعلى قاطعة الضمان لأنه تابع لأصله وإن كانت في(3/368)
الحل وغصنها في الحرم لم يضمنه في أحد الوجهين اختاره القاضي لأنه نابع لأصله فهي كالتي قبلها وفي الآخر يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم فإن كان بعض الأصل في الحرم وبعضه في الحل ضمن الغصن سواء كان في الحل أو في الحرم تغليباً لحرمة الحرم كالصيد الواقف بعضه في الحل وبعضه في الحرم (فصل) يكره إخراج تراب الحرم وحصاه لأن ابن عباس وابن عمر كرهاه ولا يكره إخراج ماء زمزم لأنه يستخلف فهو كالثمرة (فصل) قال رحمه الله ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل والعارضة القائمة ونحوها ومن حشيشها للعلف ومن أدخل إليها صيداً فله إمساكه وذبحه صيد المدينة وشجرها وحشيشها حرام، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يحرم لأنه لو كان محرماً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولوجب فيه الجزاء كصيد الحرم ولنا ما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المدينة حرم مابين ثور إلى عير " متفق عليه وروى تحريم المدينة أبو هريرة ورافع وعبد الله بن زيد في المتفق عليه ورواه مسلم عن سعد وجابر وأنس رضي الله عنهم وهذا يدل على تعميم البيان وليس هو في الدرجة دون أخبار تحريم الحرم وقد قبلوه وأثبتوا أحكامه على أنه ليس بممتنع أن يبينه بياناً خاصاً أو بينه بيانا عام فينقل خاصاً كصفة الاذان والإقامة(3/369)
(فصل) ويفارق حرم المدينة حرم مكة في شيئين (أحدهما) انه يجوز أنه يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف لما روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا يارسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضاً غير أرضنا فرخص لنا فقال " القائمتان والوسادة والعارضة والمسند فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شئ " قيل المسند مرود البكرة(3/370)
فاستثنى ذلك وجعله مباحاً كاستثناء الاذخر بمكة وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المدينة حرام مابين عائر إلى ثور لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره " رواه أبو داود ولا المدينة يقرب منها وزرع فلو منعنا من احتشاشها أفضى إلى الضرر بخلاف مكة (الثاني) إن من صاد من خارج المدينة صيداً ثم أدخله إليها لم يلزمه(3/371)
إرساله نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم " يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " وهو طائر صغير فظاهر هذا أنه أباح إمساكه بالمدينة ولم ينكر ذلك وحرمه مكة أعظم من حرمة المدينة بدليل أنه لا يدخلها إلا محرم وإذا جاز إمساك الصيد فيها جاز ذبحه فيها كغيرها(3/372)
(مسألة) (ولا جزاء في صيد المدينة وعنه جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه) ليس في صيد المدينة وشجرها جزاء في إحدى الروايتين وهو قول أكثر أهل العلم لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام فلم يجب فيه جزاء كصيد وج (والثانية) فيه الجزاء روى ذلك عن ابن أبي ذئب وهو قول الشافعي القديم وابن المنذر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إني أحرم المدينة مثل ما حرم(3/373)
إبراهيم مكة " ونهى أن يعضد شجرها ويؤخذ طيرها فوجب في هذا الحرم الجزاء كما وجب في ذلك إذا لم يظهر بينهما فرق وجزاؤه إباحة سلب القاتل لما أخذ لما روى مسلم باسناده عن عامر بن سعد أن سعداً رضي الله عنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبداً يقطع شجراً ويخبطه فسلبه فلما جاء سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم فقال معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول(3/374)
الله صلى الله عليه وسلم وأبي أن يرد عليهم، وعن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من وجد أحداً يصيد فيه فليسلبه رواه أبو داود فعلى هذا يباح لمن وجد آخذ الصيد أو قاتله أو قاطع الشجر سلبه وهو أخذ جميع ثيابه حتى السراويل فإن كان على دابة لم يملك أخذها لأن الدابة ليست من السلب وإنما أخذها(3/375)
قاتل الكافر في الجهاد لأنها يستعان بها في الحرب بخلاف مسئلتنا فإن لم يسلبه أحد فلا شئ عليه سوى التوبة (مسألة) (وحد حرمها بين ثور إلى عير وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى) حد حرم المدينة ما بين لا بيتها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما(3/376)
بين لابيتها حرام " متفق عله واللابة الحرة وهي أرض بها حجارة سود قال أحمد رحمه الله: ما بين لابيتها حرام بريد في بريد كذا فسره مالك بن أنس والبرد أربعة فراسخ وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حول المدينة اثني عشر ميلاً حمى رواه مسلم وقد روي علي رضي الله عنه أن النبي(3/377)
صلى الله عليه وسلم قال " حرم المدينة ما بين ثور إلى عير " متفق عليه قال أهل العلم بالمدينة لا نعرف بها ثوراً ولا عيراً وإنما هما جبلان بمكة فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قدر ما بين ثور وعير ويحتمل أنه أراد جبلين بالمدينة وسماها ثوراً وعيراً تجوزاً والله تعالى أعلم(3/378)
(فصل) ولا يحرم صيد وج ولا شجره وهو واد بالطائف، وقال أصحاب الشافعي يحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صيد وج وعضاهها محرم " رواه الإمام أحمد ولنا أن الأصل الإباحة والحديث ضعفه أحمد ذكره أبو بكر الخلاف في كتاب العلل (باب ذكر دخول مكة) يستحب الاغتسال لدخول مكة لأن عبد الله بن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذى طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك رواه(3/379)
البخاري ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة
كالرجل وإن كانت حائضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد حاضت " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " ولأن الغسل يراد للتنظيف وهو يحصل مع الحيض وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون والحرث بن سويد (مسألة) (ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من السفلى (1) وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها متفق عليهما ولا بأس بدخولها ليلاً ونهاراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ليلاً ونهاراً رواهما النسائي (فصل) ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة لما روى جابر في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد رواه مسلم وغيره (مسألة) فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيماً وتشريفا وتكريما ومهاية وبرا، وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا، الحمد الله رب العالمين كثيراً كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وعظيم شأنه، الحمد الله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلاً، والحمد الله على كل حال، اللهم(3/380)
إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت يرفع بذلك صوته) يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت يروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الثوري وابن المبارك والشافعي واسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين كما روي عن المهاجر المكي قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه؟ فقال ما كنت أظن أحداً يفعل هذا إلا اليهود حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله رواه النسائي ولنا ما روى ابن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين " وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك
قول جابر وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء (فصل) ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت بالدعاء الذي ذكرناه لما روى ابن جريج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال " اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً ومهابة وبرا(3/381)
وزد من شرفه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً " وعن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام رواهما الشافعي بإسناده وباقي الدعاء ذكره الأثرم وابراهيم الحربي قال بعض أصحابنا ويرفع بذلك صوته وما زاد في الدعاء فحسن (فصل) إذا دخل المسجد فذكر صلاة مفروضة أو فائته أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف تحية ولأنه لو أقيمت الصلاة وهو في طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى وإن خاف فوات ركعتي الفجر أو الوتر أو حضرت جنازة قدمها لأنها تفوت بخلاف الطواف (مسألة) ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمراً وبطواف القدوم إن كان مفرداً أو قارناً) يستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ بالطواف بالبيت اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جابرا قال في حديثه حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله ابن عمر وغيرهم ولأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد البداية بتحية المسجد بصلاة ركعتين فإن كان معتمراً به أبطواف العمرة ولم يحتج إلا أن يطوف لها طواف قدوم لأن المقصود به تحية المسجد ومن دخل المسجد وقد قامت الصلاة اشتغل بها وأجزأت عن تحية المسجد كذلك ههنا وإن كان مفرداً أو قارناً بدأ بطواف القدوم وهي سنة بغير خلاف (مسلئة) (ويضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الا يمن وطرفيه على عاتقه الايسر) صفة الاضطباع ما ذكره ههنا وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وقعت بعد صاد أو ضاد أو طاء ساكنة فلبت طاء وهو مستحب في
طواف القدوم وطواف العمرة للمتمتع ومن في معناه لما روى أبو داود وابن ماجة عن يعلى بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً ورويا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى، وبه قال الشافعي وكثير من أهل العلم وقال مالك ليس الاضطباع بسنة وقال لم أسمع أحداً من بلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقد روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اضطبع ورمل وقال ففيم الرمل، ولم نبدي مناكبنا وقد نفى الله المشركين؟ بل لن ندع شيئاً فعلناه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود (فصل) فإذا فرغ من الطواف سوى ردائه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الاثرم(3/382)
يزيل الاضطباع إذا فرغ من الرمل والأول أولى لأن قوله طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ينصرف إلى جميعه ولا يضطبع في السعي وقال الشافعي يضطبع فانه أحد الطوافين فأشبه الطواف بالبيت ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطبع فيه والسنة في الاقتداء به قال أحمد رحمه الله ما سمعنا فيه شيئاً ولا يصح القياس إلا فيما عقل معناه وهذا تعبد محض (مسألة) (ثم يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه ثم يستلمه ويقبله وإن شاء استلمه وقبل يده وإن شاء أشار إليه ثم يقول الله أكبر إيمانا بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم كلما استلمه يبتدئ الطواف من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه فان حاذاء ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن فأجزأ فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر واستلمه وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنة ولأن ما لزمه استقباله لزمه لجميع بدنة كالقبلة فإذا قلنا بوجوب فذلك فلم يفعله أو بدأ بالطاف من دون الركن كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فمتى أكمل سبعة أشواط غير الأول صح طوافه وأجزأه وإلا فلا (فصل) ثم يستلمه ويقبله ومعنى الاستلام المسح باليد مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا
مسح الحجر قيل استلم أي مس السلام قاله ابن قتيبة وذلك لما روى أسلم قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول(3/383)
الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
متفق عليه وروى ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنه قال استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال " يا عمر ههنا تسكب العبرات " فإن لم يكن الحجر موجوداً والعياذ بالله فإنه يقف مقابلاً مكانه ويستلم الركن فإن شق استلامه وتقبيله استمله وقبل يده روى ذلك عن ابن عمر وجابر وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس والثوري والشافعي واسحاق وقال مالك يضع يده على فيه من غير تقبيل ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده رواه مسلم فان شق عليه استلمه بشئ في يده وقبله رواه ابن عباس مرفوعاً أخرجه مسلم والاقام بحذائه واستقبله بوجهه وأشار إليه وكبر وهلل وكذا إن طاف راكباً لما روى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الحجر أشار إليه بشئ في يده وكبر.
فإن أمكنه استلامه بشئ في يده كالعصا ونحوه فعل، فقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن.
وهذا كله مستحب ويستحب أن يقول عنده ماروى عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند استلامه " بسم الله والله أكبر إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم " يقول ذلك كلما استلمه(3/384)
(مسألة) (ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت على يساره) لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف كذلك وقد قال " لتأخذوا عني مناسككم " ولأن الله تعالى أمر بالطواف مجملاً وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله (مسألة) (فإذا أتى على الركن اليماني استلمه وقبل يده) الركن اليماني قبلة أهل اليمن وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه لأنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان ثم يأخذ على يمين نفسه فينتهي إلى الركن الثاني وهو العراقي
ثم يمر بالثالث وهو الشامي وهذان الركنان يليان الحجر ثم يأتي على الرابع وهو الركن اليماني واستلامه مستحب ولا يستحب تقبيله، وقال الخرقي يقبله والصحيح عن أحمد الأول وهو قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يستلم الركن اليماني قال ابن عبد البر جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن اليماني والركن الأسود لا يختلفون في شئ من ذلك وإنما الذي فرقوا به بينهما التقبيل فرأوا تقبيل الأسود ولم يروا تقبيل اليماني وأما استلامهما فأمر مجتمع عليه قال وقد روي مجاهد عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ووضع خده الأيمن عليه قال وهذا لا يصح إنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وحده وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وقال ابن عمر ما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء رواهما مسلم ولأن الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه السلام فسن استلامه كالركن الأسود فأما تقبيله فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسن(3/385)
(فصل) وأما العراقي والشامي وهما الركنان اللذان يليان الحجر فلا يسن استلامهما في قول الأكثرين وروي عن أنس ومعاوية وجابر وابن الزبير والحسن والحسين رضي الله عنهم استلامهما قال معاوية ليس شئ من البيت مهجور ولنا قول ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني وقال ما أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وروى ابن عباس أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها وقال له ابن عباس لم تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شئ من هذا البيت مهجوراً.
فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) .
فقال معاوية: صدقت ولأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم عليه السلام فلم بسن استلامها كالحائط الذي يلي الحجر (مسألة) (ويطوف سبعاً يرمل في الثلاثة الأول منها وهو إسراع المشي مع تقارب الخطى ولا يثب وثباً ويمشي أربعا)
يجب الطواف سبعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعاً ويرمل في الثلاثة الأول منها من الحجر إلى الحجر ومعنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة من(3/386)
طواف القدوم وطواف العمرة للمتمتع لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً ويمشي أربعة أشواط لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً رواه جابر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل إنما رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا قد رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده رواه الإمام أحمد في المسند وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت أن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة فإنه يرمل من الحجر إلى الحجر لا يمشي في شئ منها روى ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس وعطاء والحسن وسعيد بن جبير والقاسم وسالم بن عبد الله يمشي مابين الركنين لما روى ابن عباس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى فقال المشركون إنه يقدم عليكم قوم قدوهنتهم حمى يثرب ولقوامنها شراً فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا مابين الركنين ليري المشركين جلدهم فلما رأوهم رملوا قال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا قال ابن عباس ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الابقاء عليهم متفق عليه(3/387)
ولنا ماروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر ومن رواية مسلم عن جابر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات ومنها أن رواية ابن عباس أخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعله في حجة الوداع فيكون متأخراً فيجب تقديمه ومنها أن ابن عباس كان صغيراً في تلك الحال
وجابر وابن عمر كانا رجلين يتبعان أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ويحرصان على حفظها فهما أعلم ويحتمل أن يكون ماقاله ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس (فصل) ولا يسن الرمل في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم وطواف العمرة فإن ترك الرمل والاضطباع فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لانها هيئة فان موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة(3/388)
الأخيرة كان تاركاً للهيئة في جميع طوافه كمن ترك الجهر في الأولتين من العشاء وجهر في الآخرتين فإن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الاول أنى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به في الثالث كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها في بقية محلها كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية (فصل) وإن نسي الرمل فليس عليه إعادة لأن الرمل هيئة فلم تجب الإعادة بتركه كهيئات(3/389)
الصلاة وكالاضطباع في الطواف ولو تركه عمداً لم يلزمه شئ، وبه قال عامة العلماء، وحكي عن الحسن والثوري وابن الماجشون أن عليه دما لانه نسك وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك نسكاً فعليه دم " ولنا أنها هيئة فلم يجب بتركها شئ كالاضطباع والحديث إنما يصح عن ابن عباس وقد قال: من ترك الرمل فلا شئ عليه.
ثم قد خص بالاضطباع (فصل) ويستحب الدنو من البيت في الطواف لأنه المقصود فإن كان قربة زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحداً وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان حاشية الناس تمكن من الرمل فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضاً أو يختلط بالنساء فالدنو أولى ويطول كيفما أمكنه فإذا وجد فرجة رمل فيها، وإن تباعد من البيت أجزأه ما لم يخرج من المسجد سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل لا يضر في المسجد كما لو صلى مؤتماً بالإمام من وراء حائل فقد روت ام سلمة رضي الله عنها(3/390)
قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس " قالت فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي إلى جنب البيت متفق عليه (مسألة) (وكلما حاذى الحجر والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما ويقول كلما حاذى الحجر لا إله إلا الله والله أكبر) يستحب استلام الحجر الركن اليماني في طوافه لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة قال نافع وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود فإن شق عليه استلامهما أشار إليهما لما روى البخاري بإسناده عن ابن عباس قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار بيده وكبر (فصل) ويكبر كلما حاذى الحجر الأسود لما رويناه ويقول لا إله إلا الله والله أكبر قالت عاشئة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عزوجل رواه الاثرم وابن المنذر (مسألة) (ويقول بين الركنين (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار) لما روى أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار " وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وكل الله به - يعني الركن اليماني - سبعين ألف ملك فمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة قالوا آمين (مسألة) (ويقول في سائر طوافه اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم) وكان عبد الرحمن بن عوف يقول رب قني شح نفسي وعن عروة قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون لا إله إلا الله أنت، وأنت تحيي بعدما أمت، ويدعو بما أحب، ويكثر من ذكر الله تعالى، ويكثر الدعاء لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى،
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدع الحديث إلا ذكر الله تعالى أو قراءة القرآن أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ما لا بد له منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الطواف بالبيت صلاة فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير " (فصل) ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف، وبه قال مجاهد وعطاء والثوري وابن المبارك والشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد كراهته وروي ذلك عن الحسن وعروة ومالك(3/391)
ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في طوافه (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه، وقنا عذاب النار) وكان عمر وعبد الرحمن بن عوف يقولان ذلك في الطواف وهو قرآن، ولأن الطواف صلاة ولا تكره القراءة في الصلاة قال ابن المبارك: ليس شئ أفضل من القران (فصل) والمرأة كالرجل في البداية بالطواف وفيما ذكرنا إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً ولم تخش مجيئ الحيض استحب لها تأخير الطواف إلى الليل لأنه أستر، ولايستحب لها مزاحمة الرجال لتستلم الحجر لكن تشير إليه بيدها كالذي لا يمكنه الوصول إليه: قال عطاء كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين فقالت انطلقي عنك وأبت (1) فإن خشيت الحيض أو النفاس استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها (مسألة) (وليس على النساء ولا أهل مكة رمل ولا اضطباع وليس في غير هذا الطواف رمل والا اضطباع) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيها إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك من النساء إنما يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للانكشاف (فصل) وليس على أهل مكة رمل وهذا قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وكان ابن(3/392)
عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد، وهذا المعنى معدوم في أهل البلد.
والحكم فيمن أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر، ولأنه
أحرم من مكة أشبه أهل البلد.
وليس عليهم اضطباع لأن من لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع كالنساء والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد وقلنا يشرع له طواف القدوم لم يرمل فيه.
قال أحمد رحمه الله: ليس على أهل مكة رمل البيت ولا بين الصفا والمروة (فصل) وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وليس بصحيح لما ذكرنا من أن من تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة.
وكذلك من ترك الجهر في صلاة الفجر لا يقضيه في صلاة الظهر، ولا يقتضي القياس أن يقضي هيئة عبادة في عبادة أخرى.
قال القاضي ولو طاف فرمل واضطبع ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده وهو تبع في الطواف فلو قلنا لا يرمل في الطواف أفضى إلى كون التبع أكمل من المتبوع، وهذا قول مجاهد والشافعي قال شيخنا: وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا تتغير هيئاته تبعاً كتبعة ولو كانا متلازمين كان ترك الرمل في السعي تبعاً لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي(3/393)
(مسألة) (ومن طاف راكباً أو محمولاً أجزأه وعنه لا يجزئه إلا لعذر ولا يجزيء عن الحامل) يصح طواف الراكب للعذر بغير خلاف علمناه لأن ابن عباس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " متفق عليهما وقال جابر رضي الله عنه طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم يسألوه فإن الناس غشوه، والمحمول كالراكب فيما ذكرنا قياساً عليه (فصل) فإن فعل ذلك لغير عذر فعن أحمد فيه ثلاث روايات (إحداهن) لا يجزئ وهو ظاهر كلام الخرقي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر كالصلاة " (والثانية) يجزئه ويجبره بدم وهو قول أبي حنيفة إلا أنه قال بعيد
ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج أشبه مالو دفع من عرفة قبل الغروب (والثالثة) يجزئ ولا شئ عليه اختارها أبو بكر وهو مذهب الشافعي وابن المنذر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكباً قال إبن المنذر لا قول لأحد مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل (فصل) والطواف راجلاً أفضل بغير خلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حجة الوداع طاف ماشياً(3/394)
وأصحابه طافوا مشاة وفي قول أم سلمة شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " دليل على أن الطواف إنما يكون مشياً وانا طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكباً لعذر فإن ابن عباس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب رواه مسلم.
وكذلك في حديث جابر: فإن الناس غشوه (1) ورواه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طاف راكباً لشكاة به وبهذا يعتذر من منع الطواف راكباً عن طواف النبي صلى الله عليه وسلم والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس وشدة الزحام عذراً، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد تعليم الناس فلا يتمكن إلا بالركوب (فصل) وإذا طاف راكباً أو محمولاً فلا رمل فيه وقال القاضي يخب به بعيره والصحيح الأول لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به ولا يتحقق فيه معنى الرمل (فصل) فأما السعي محمولاً وراكباً فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكباً غير موجود فيه (فصل) من طيف به محمولاً لم يخل من ثلاثة أحوال (أحدها) أن ينويا جميعاً عن المحمول أو ينوي المحمول على نفسه ولا ينوي الحامل شيئاً فيقع عنه دون الحامل بغير خلاف (الثاني) أن يقصدا(3/395)
عن الحامل فيقع عنه ولا شئ للمحمول وكذلك أن نوى الحامل عن نفسه ولم ينو المحمول (الثالث)
أن يقصد كل واحد عن نفسه فيقع للمحمول دون الحامل وهذا أحد قولي الشافعي والقول الآخر يقع للحامل لأنه الفاعل.
وقال أبو حنيفة يقع لهما لأن كل واحد منهما طائف بنية صحيحة فأجزأ الطواف عنه كما لو لم ينو صاحبه شيئاً ولأنه لو حمله بعرفات لكان الوقوف عنهما كذا هذا، قال (شيخنا) وهو قول حسن، ووجه الأول أنه طواف أجزأ عن المحمول فلم يقع عن الحامل كما لو نويا جميعاً ولأنه طواف واحد فلم يقع عن شخصين كالراكب أما إذا حمله بعرفة فما حصل الوقوف بالحمل فإن المقصود الكون عفرفات وهما كائنان بها والمقصود ههنا الفعل وهو واحد فلا يقع عن شخصين ووقوعه عن المحمول أولى لأنه لم ينو بطوافه إلا لنفسه، والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله فإن تمكنه من الطواف لا يقف على حمله قصار المحمول مقصوداً لهما ولم يخلص قصد الحامل لنفسه فلم يقع لعدم التعيين.
وقال أبو حفص العكبري لا يجزئ الطواف عن واحد منهما لأن فعلا واحدا لا يقع عن اثنين وليس أحدهما أولى به من الآخر، وقد ذكرنا أن المحمول أولى بخلوص نيته لنفسه وقصد الحامل له فإن عدمت النية منهما أو نوى كل واحد منهما عن الآخر لم تصح لواحد منهما (مسألة) (وإن طاف منكساً أو على جدار الحجر أو شاذروان الكعبة، أو ترك شيئاً من طوافه وإن قل أو لم ينوه لم يجزه) إذا نكس الطواف فجعل البيت على يمينه لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الأجزاء كترك الرمل والاضطباع ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البيت في الطواف على يساره وقال عليه الصلاة والسلام " لتأخذوا(3/396)
عني مناسككم " ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب شرطاً لصحتها كالصلاة، وما قاسوا عليه مخالف لما ذكرنا كما اختلف حكم هيئات الصلاة وترتيبها (فصل) ويطوف من وراء الحجر لأن الله تعالى قال (وليطوفوا بالبيت العتيق) والحجر منه فمن لم يطف به لم يعتد بطوافه، وبهذا قال عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر.
وقال
أصحاب الرأي إن كان بمكة قضى ما بقي، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دم ونحوه قول الحسن ولنا أنه من البيت لما روت عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجر فقال " هو من البيت " وعنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منها فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منها " فأراها قريباً من سبعة أذرع رواهما مسلم، وعنها قالت قلت يا رسول الله إني نذرت إن أصلي في البيت " قال صلي في الحجر فإن الحجر من البيت " رواه الترمذي وقال حسن صحيح فمن ترك الطواف بالحجر لم يطف بالبيت جميعه فلم يصح كما لو ترك الطواف ببعض البناء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر وقال " لتأخذوا عني مناسككم "(3/397)
(فصل) ولو طاف على جدار الحجر أو شاذروان الكعبة وهو ما فضل من جدارها لم يجز لأن ذلك من البيت فإذا لم يطف به لم يطف بكل البيت، وكذلك إن ترك شيئاً من طوافه وإن قل لم يجزه لأن لم يطف بجميع البيت، وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء ذلك وطاف بجميع البيت من الحجر إلى الحجر (1) (فصل) والنية شرط في الطواف إن تركها لم يصح لأنها عبادة تتعلق بالبيت فاشترطت لها النية كالصلاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة " والصلاة لا تصح بدون النية (مسألة) (وإن طاف محدثاً أو نجساً أو عرياناً لم يجزه وعنه يجزئه ويجبره بدم) الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي، وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطاً فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده جبره بدم، وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة، وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناس للطهارة لا شئ عليه، وقال أبو حنيفة ليس شئ من ذلك شرطاً، واختلف أصحابه فقال بعضهم هو واجب، وقال بعضهم هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم تشترط له الطهارة كالوقوف
ولنا ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه " رواه الترمذي والاثرم، وعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قل حجة الوداع يوم النحر يؤذن " لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " متفق عليه، ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطاً كالصلاة وعكسه الوقوف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين حاضت " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " (فصل) وإذا شك في الطهارة وهو في الطواف لم يصح طوافه لأنه شك في شرط العبادة قبل الفراغ منها أشبه ما لو شك في الطهارة وهو في الصلاة، وإن شك بعد الفراغ منه لم يلزمه شئ لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها، وإن شك في عدد الطواف بني على اليقين.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك لانها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها بني على اليقين كالصلاة، فإن أخبره ثقة عن عدد طوافه قبل قوله إن كان عدلاً، وإن شك في عدده بعد الفراغ منه لم يلتفت إليه كمن شك في عدد الركعات بعد فراغ الصلاة، قال أحمد إذا كان رجلان(3/398)
يطوفان فاختلفا في الطواف بنيا على اليقين، قال شيخنا وهو محمول على أنهما شكا، فإن كان أحدهما يتيقن حال نفسه لم يلتفت إلى قول غيره، (فصل) إذا فرغ المتمتع ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد الطوافين لا بعينه بنى الأمر على الأشد وهو أنه كان محدثاً في طواف العمرة فلم تصح ولم يحل منها فيلزمه دم للحلق ويكون قد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا ويجزئه الطواف للحج عن النسكين، ولو قدرناه من الحج لزمه إعادة الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير معتد به، وإن كان وطئ بعد حله من العمرة حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة فاسدة فلا يصح ويلغو ما فعله من أفعال الحج ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق ودم للمضي في عمرته ولا يحصل له حج ولا عمرة، ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي ويحصل له الحج والعمرة
(مسألة) (وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأه) إذا أحدث في الطواف عمداً ابتدأ الطواف لأن الطهارة شرط له، فإذا أحدث عمداً أبطله كالصلاة وإن سبقه الحدث ففيه روايتان (إحداهما) يبتدئ أيضاً وهو قول مالك والحسن قياساً على الصلاة (والثانية) يتوضأ ويبني وبها قال الشافعي وإسحاق، وقال حنبل عن أحمد فيمن طاف ثلاثة أشواط أو أكثر يتوضأ فإن شاء بنى وإن شاء استأنف، قال أبو عبد الله يبني إذا لم يحدث حدثاً إلا الوضوء، فإن عمل عملاً غير ذلك استقبل الطواف وذلك لان المولاة تسقط عند العذر على إحدى الروايتين وهذا عذر، فأما إن اشتغل بغير الوضوء لزمه الابتداء لأنه ترك الموالاة لغير عذر وهذا إذا كان الطواف فرضاً، فأما النفل فلا تجب إعادته كالصلاة المسنونة إذا بطلت (فصل) والموالاة شرط في الطواف فمتى قطعه بفصل طويل ابتدأه سواء كان عمداً أو سهواً مثل أن يترك شوطاً من الطواف يظن أنه قد أتمه، وقال أصحاب الرأي فيمن طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة ثم رجع إلى بلده عليه أن يعود فيطوف ما بقي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى بين طوافه وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه صلاة فاشترطت له الموالاة كسائر الصلوات، أو نقول: عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إذا كان له عذر يشغله بنى، وإن قطعه لغير عذر أو لحاجة استقبل الطواف، وقال إذا أعيا في الطواف لا بأس ان(3/399)
يتسريح، وقال الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه لأنه قطعه للعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه للصلاة (مسألة) (ولو كان يسيراً أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى وبنى) ويتخرج أن الموالاة سنة، أما إذا لم يطل الفصل فإنه يبني على طوافه لأنه يسير فعفي عنه، وكذلك إن أقيمت الصلاة المكتوبة فإنه يقطع الطواف ويصلي جماعة في قول كثير من أهل العلم، وقال
مالك يمضي في طوافه ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة لأنه صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى ولنا قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " والطواف صلاة فيدخل في عموم النص، وإذا صلى بنى على طوافه، قال إبن المنذر ولا نعلم احدا خالف في ذلك إلا الحسن فإنه قال: يستأنف، وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف فلم يقطعه كاليسير، وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها، قال أحمد ويكون ابتداؤه من الحجر أنه يبتدئ بالحجر الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء، وحكم السعي حكم الطواف فيما ذكرنا لأنه إذا ثبت ذلك في الطواف مع تأكده ففي السعي بطريق الأولى، ولأن ذلك يروي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولا يعرف له في الصحابة مخالف وهذا قول عطاء والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، ويتخرج أن الموالاة في الطواف سنة وهو قول أصحاب الرأي قياساً على الصفا والمروة والصحيح الأول لما ذكرنا (مسألة) (ثم يصلي ركعتين) والأفضل أن يكون خلف المقام يقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) في الأولى و (قل هو الله أحد) في الثانية فإن جابراً رضي الله عنه روى في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت، قال محمد بن علي ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في(3/400)
الركعتين (قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون) وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما جاز فإن عمر رضي الله عنه ركعهما بذي طوى، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة " إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون " ففعلت ذلك فلم تصل حتى خرجت، ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة ويمر بين يديه الطائفون من الرجال والنساء فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شئ، وكان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه فتمر المرأة بين يديه ينتظرها حتى ترفع رجلها ثم يسجد وكذلك سائر الصلوات بمكة لا يعتبر لها سترة وقد ذكرنا ذلك (فصل) والركعتان فيه سنة مؤكذة غير واجبة، وبه قال مالك وللشافعي قولان (أحدهما)
أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانا واجبتين كالسعي ولنا قول عليه السلام للأعرابي حين سأله عن الفرائض فذكر الصلوات الخمس، فقال هل علي غيرها؟ قال " لا إلا أن تطوع " ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة فلم تكن واجبة كسائر النوافل وأما السعي فلم يجب لكونه تابعاً ولا هو مشروع مع كل طواف بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف (فصل) فإن صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف، روي نحوه عن ابن عباس(3/401)
وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير واسحاق، وعنه أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة، قال أبو بكر عبد العزيز هو أقيس، وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة فلم يجز عنها المكتوبة كركعتي الفجر ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام (فصل) ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين فعلته عائشة والمسور ابن مخرمة، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وكرهه ابن عمر والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأن تأخير الركعتين عن طوافهما يخل بالموالاة بينهما ولنا أن الطواف يجري مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينها فيصليها بعدها كذلك ههنا، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله لا يوجب كراهته فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة وذلك غير مكروه بالاتفاق والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل أن عمر صلاهما بذي طوى وأخرت أم سلمة ركعتي الطواف حين طافت راكبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخروج من الخلاف (فصل) والمشترط لصحة الطواف تسعة أشياء: الطهارة من الحدث والنجاسة، وستر العورة، والنية، والطواف بجميع البيت، وإن يكمل سبعة أشواط، ومحاذاة الحجر بجميع بدنة، والترتيب، وهو أن يطوف على يمينه، والموالاة، وسننه استلام الركن وتقبيله أو ما قام مقامه من الإشارة،(3/402)
واستلام الركن اليماني والاضطباع والرمل، والمشي في موضعه، والدعاء والذكر، وركعتا الطواف، والطواف ماشياً، والدنو من البيت، وفي ذلك اختلاف ذكرناه فيما مضى (مسألة) (ثم يعود إلى الركن فيستلمه) إذا فرغ من ركعتي الطواف وأراد الخروج إلى الصفا استحب أن يعود فيستلم الحجر نص عليه أحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ذكره جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يفعله وبه قال النخعي ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا (مسألة) (ثم يخرج إلى الصفا من بابه ويسعى سبعاً يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويكبر ثلاثاً ويقول الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهرم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم يلبي ويدعو بما أحب) وجملة ذلك أنه إذا فرغ من طوافه واستلم الركن فالمستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة فيستقبلها فيكبر الله عزوجل ويهلله ويدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وما أحب من الدنيا والآخرة قال جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله) نبدأ بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز(3/403)
وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات.
قال أحمد رحمه الله ويدعو بدعاء ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يخرج من الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه فيكبر سبع مرار ثلاثاً ثلاثا يكبر ثم يقول لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، ثم يدعو فيقول: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين، اللهم يسرني لليسرى وجنبني للعسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم قلت وقولك الحق (ادعوني أستجب لكم) وإنك لا تخلف المعياد، اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني على الاسلام، اللهم لا تقدمني إلى العذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن.
قال ويدعو دعاء كثيراً حتى إنه ليملنا وانا لشاب وكان إذا أتى على المسعى سعى وكبر، وكل ما دعا به فحسن (فصل) فإن لم يرق على الصفا فلا شئ عليه، قال القاضي لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة فيلصق عقبيه بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها ألصق أصابع رجليه(3/404)
بأسفل المروة والصعود عليهما أولى اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ترك مما بينهما شيئاً ولو ذراعا لم يجزه حتى يأتي به، وحكم المرأة في ذلك حكم الرجل إلا أنها لا ترقى لئلا تزاحم الرجال ولأنه استر لها (مسألة) (ثم ينزل فيمشي حتى يأتي العلم فيسعى سعياً شديداً إلى العلم الآخر، ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل عليها كما فعل علي الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه يفعل ذلك سبعاً) يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعيه، يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة، فإن افتتح بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، هذا وصف السعي وهو أن ينزل من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم أي يحاذيه وهو الميل الأخضر في ركن المسجد، فإذا كان منه نحواً من ستة أذرع سعى سعياً شديداً حتى ياحذي العلم الآخر وهما الميلان الأخضران بفناء المسجد وحذاء دار العباس، ثم يترك السعي فيمشي حتى يأتي المروة فيرقى
عليها ويستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا ومهما دعا به فلا بأس وليس في الدعاء شئ موقت ثم ينزل فيمشي في موضع مشبه ويسعى في موضع سعيه ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين ذلك.
قال أبو عبد الله كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم،(3/405)
وأنت الأعز الأكرم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله عزوجل " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولا يزال حتى تكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية وحكي عن ابن جرير وبعض الشافعية أنهم قالوا ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط لأن جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل إلى المروة حتى إذا انفضت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى حتى إذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل علي الصفا فلما كان آخر طوفه على المروة قال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة " وهذا يقتضي أنه آخر طوافه، ولو كان على ما ذكروه كان آخره عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه، ولأنه في كل مرة طائف بهما فاحتسب بذلك مرة كما إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة (فصل) ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة لأن الترتيب شرط في السعي كذلك، فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال " نبدأ بما بدأ الله به " وهذا قول الحسن ومالك والشافعي والاوزاعي وأصحاب الرأي، وعن ابن عباس أنه قال: قال الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) فبدأ بالصفا وقال اتبعوا القرآن فما بدأ الله به فابدؤا به(3/406)
(فصل) والرمل في السعي سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة ويقول " لانقطع الأبطح إلا شداً " وليس ذلك بواجب ولا شئ على تاركه، فان ابن عمر قال: إن أسع بين الصفا والمروة
فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، وإن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا شيخ كبير.
رواهما ابن ماجة وأبو داود، ولان ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شئ فيه فبين الصفا والمروة أولى (مسألة) (ويستحب أن يسعى طاهراً مستتراً متوالياً، وعنه أن ذلك من شرائطه) المستحب لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهراً من الحدث والنجاسة وكذلك جميع المناسك، فإن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كره له ذلك وأجزأه في قول أكثر أهل العلم منهم عطاء ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول.
إذا ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف، وإن ذكر بعد ماحل فلا شئ عليه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت " اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت أشبهت الوقوف بعرفة، قال أبو داود سمعت أحمد يقول إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت، وروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت بين الصفا والمروة فلتطف(3/407)
بالصفا والمروة رواه الأثرم، ولا تشترط الطهارة من النجاسة أيضاً ولا الستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى، وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه كالطواف في اشتراط الطهارة والستارة قياسا عليه ولا عمل عليه (فصل) والموالاة في السعي غير مشترطه في ظاهر كلام أحمد رحمه الله فإنه قال في رجل كان بين الصفا والمروة فلقيه قادم بعرفة يقف يسلم عليه ويسأله قال نعم أمر الصفا سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت، فأما بين الصفا والمروة فلا بأس؟ وقال القاضي تشترط الموالاة فيه قياساً على الطواف، وحكي رواية عن أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق، وقد روى الأثرم أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة، وكان عطاء لا يرى بأساً ان يستريح بينهم
ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت وهو صلاة، وتشترط له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي (مسألة) (والمرأة لا ترمل ولا ترقى) لا يسن للمرأة أن ترقى على المروة لئلا تزاحم الرجال ولأن ذلك استر لها ولا يسن لها الرمل، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولابين الصفا والمروة، وذلك لأن الأصل في ذلك إظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حقهن، ولأن النساء يقصد منهن الستر وفي ذلك تعرض للانكشاف فلم يستحب لهن (فصل) والسعي تبع للطواف لا يصح إلا بعد الطواف فإن سعى قبله لم يصح، وبه قال مالك(3/408)
والشافعي وأصحاب الرأي وقال عطاء يجزئه، وعن أحمد يجزئه إن نسي وإلا فلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التقدم والتأخر في حال الجهل والنسيان قال " لاحرج " ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد الطوف وقال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف غير متطهر أعاد السعي، وإن سعى المفرد والقارن بعد طواف القدوم لم يلزمهما سعي بعد ذلك ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي، روى ذلك عن الحسن وعطاء قالا: لا بأس ان يطوف أول النهار ويسعى آخره، وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ففيما بينه وبين الطواف أولى (مسألة) (فإذا فرغ من السعي فإذا كان معتمراً قصر من شعره وتحلل إلا أن يكون قد ساق معه هديا فلا يحل حتى يحج) إذا طاف المتمتع وسعى وقصر أو حلق وقد حل من عمرته إن لم يكن معه هدي لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس " من كان معه هدي فإنه لا يحل من شئ حرم منه حتى يقضي حجته ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا وبالمروة وليقصر وليحلل " متفق
عليه ولا نعلم فيه خلافا، ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود سمعت أحمد سئل عمن دخل مكة(3/409)
معتمراً فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه شئ؟ قال هذا لم يحل حتى يقصر ثم يهل بالحج وليس عليه شئ وبئس ما صنع (فصل) فأما من معه الهدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة، وعن أحمد رواية أخرى أنه يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئاً روى ذلك عن ابن عمر وهو قول عطاء لما روي عن معاوية قال قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص عند المروة متفق عليه، وقال مالك والشافعي في قول له التحلل ونحر هديه عند المروة ويحتمله كلام الخرقي ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر وروت عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللت بعمرة ولم أكن سقت الهدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " وعن حفصة أنها قلت: يارسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " متفق عليه والأحاديث فيه كثيرة، وعن أحمد رواية ثالثة فيمن قدم متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي قال إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم في العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وإن قدم(3/410)
في العشر لم يحل وهو قول عطاء رواه حنبل في المناسك وقال فيمن لبد أو ضفر هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما فيها من الأحاديث الصحيحة الصريحة فهي أولى بالاتباع (فصل) فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن وسواء كان في أشهر الحج أو في غيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة وقيل كلهن في ذي القعدة وكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره
من الحرم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل فجاج مكة طريق ومنحر " رواه أبو داود (فصل) وقول المصنف رحمه الله قصر من شعره يدل على أن المستحب في حق المتمتع إذا حل من عمرته التقصير ليؤخر الحلق إلى الحج قال أحمد رحمه الله في رواية أبي داود يعجبني إذا دخل متمتعاً أن يقصر ليكون الحلق للحج ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر " حلوا من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة وقصروا " وفي حديث ابن عمر أنه قال " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل " متفق عليه.
وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما وفي الحديث دليل على أنه لا يحل إلا بالتقصير وهذا ينبني على أن التقصير هل هو نسك أو لا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى فإن أحرم بالحج قبل التقصير وقلنا هو نسك فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا(3/411)
(فصل) فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا هو نسك فعليه دم فإن وطئ قبل التقصير فعليه دم وعمرته(3/412)
صحيحة، وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكى عن أصحاب الشافعي إن عمرته تفسد لأنه وطئ(3/413)
قبل حله من عمرته وعن عطاء قال يستغفر الله(3/414)
ولنا ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن امرأة معتمرة وقع عليها زوجها قبل(3/415)
أن تقصر قال من ترك من مناسكه شيئاً أو نسيه فليهرق دما قيل إنها موسرة قال فلتنحر ناقة ولأن(3/416)
التقصير ليس بركن فلا يفسد النسك بتركه ولا بالوطئ قبله كالرمي في الحج قال أحمد فيمن وقع على امرأته قبل تقصيرها من عمرتها تذبح شاة قيل عليها أو عليه؟ قال عليها هي وهو محمول على أنها
طاوعته فإن أكرهها فالدم عليه وقد ذكر ذلك على ما فيه من الخلاف والله تعالى أعلم(3/417)
(مسألة) (ومن كان متمتعاً قطع التلبية إذا وصل إلى البيت) قال أبو عبد الله يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن، وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاوس والنخعي والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وقال ابن عمر وعروة والحسن يقطعها إذا دخل الحرم، وعن سعيد بن المسيب يقطعها حين يرى عرش مكة، وعن مالك أنه إن أحرم من الميقات قطع التلبية إذا وصل الحرم وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت ولنا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وشعار للإقامة عليها وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها وهو التحلل منها والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فينبغي أن يقطع التلبية كالحاج يقطها إذا شرع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها وأما قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم(3/418)
(باب صفة الحج) نذكر في هذا الباب صفة الحج بعد حل المتمتع من عمرته والأولى أن نبدأ بذكر حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ونقتصر منه على ما يختص بهذا الباب وقد ذكرنا بعضه متفرقاً في الأبواب المتقدمة وهو صحيح رواه مسلم وغيره بالإسناد عن جابر وذكر الحديث قال " فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه وسلم الى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقية من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى عرفة
فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال " إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
إلا أن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن(3/419)
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيك ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.
وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا نشهد إنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس " اللهم اشهد اللهم اشهد " ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى " أيها الناس السكينة السكينة " كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد واقامتين ولم يسبح بينها شيئاً ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفاً حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول وجهه إلى الشق الآخر(3/420)
ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر
حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ماغبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا شرب منه.
قال عطاء كان منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى بالخيف (مسألة) (يستحب للمتمتع الذي حل وغيره من المحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة من مكة ومن حيث أحرم من الحرم جاز) سمي يوم التروية بهذا الاسم لأنهم كانوا يتروون من الماء فيه يعدونه ليوم عرفة وقيل سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام رأى ليلته في المنام ذبح ابنه فأصبح يروي في نفسه أهو حلم أم من الله تعالى فسمي يوم التروية فلما كانت ليلة عرفة رأى ذلك أيضاً فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة والله تعالى أعلم والمستحب لمن كان بمكة من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم أو كان مقيماً بمكة من أهلها أو(3/421)
من غيرهم وهو حلال أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى، وبهذا قال ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير واسحاق وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأهل مكة: ما لكم يقدم الناس عليكم شعثاً إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج.
وهذا مذهب ابن الزبير وقال مالك من كان بمكة فأحب أن يهل من المسجد لهلال ذي الحجة ولنا قول جابر فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وفي لفظ عن جابر رضي الله عنه قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح حتى إذا كان يوم التروية جعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج رواه مسلم.
وعن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر رأيتك إذا كنت
بمكة أهل الناس ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال عبد الله بن عمر أما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته متفق عليه ولأنه ميقات للاحرام فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كميقات المكان، وإن أحرم قبل ذلك جاز (فصل) والأفضل أن يحرم من مكة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت " حتى أهل مكة يهلون منها " ومن أيها أحرم جاز للحديث، وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز لقول جابر فأهللنا من الأبطح ولأن المقصود أن يجمع في النسك بين الحل والحرم وذلك حاصل بإحرامه من جميع الحرم ويستحب أن يفعل عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظيف ويتجرد عن المخيط ويطوف سبعاً ويصلي ركعتين ثم يحرم عقيبهما وممن استحب ذلك عطاء ومجاهد(3/422)
وسعيد بن جبير والثوري والشافعي واسحاق وابن المنذر ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه قال ابن عباس رضي الله عنه لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد إن يحرموا بالحج ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى يرجعوا، وهذا مذهب عطاء ومالك واسحاق، وإن طاف بعد إحرامه ثم سعى لم يجزه عن السعي الواجب، وهذا قول مالك وقال الشافعي يجزئه فعله ابن الزبير وهو قول القاسم بن محمد وابن المنذر لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه كما لو سعى بعد رجوعه من منى وكما لو سعى بعد طواف القدوم ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى ولو شرع لهم الطواف لم يتفقوا على تركه وقالت عائشة رضي الله عنها خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى (مسألة) (ثم يخرج إلى منى فيبيت فيها) يتسحب أن يخرج محرماً من مكة يوم التروية فيصلي الظهر بمنى ثم يقيم حتى يصلي بها الصلوات الخمس ويبيت بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كما جاء في حديث جابر وهذا قول سفيان ومالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً وليس ذلك واجباً عند الجميع قال إبن المنذر(3/423)
ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وقد تخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل وصلى ابن الزبير بمكة (فصل) فإن صادف يوم التروية يوم جمعة فمن كان مقيماً بمكة حتى زالت الشمس ممن تجب عليه الجمعة لم يخرج حتى يصليها لأن الجمعة فرض والخروج إلى منى في هذا الوقت ليس بفرض فأما قبل الزوال فإن شاء خرج وإن شاء أقام حتى يصلي فقد روي أن ذلك وجد في أيام عمر بن عبد العزيز فخرج إلى منى، وقال عطاء كل من أدركت يصنعونه أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب ومرة لا يجمع ولا يخطب فعلى هذا إذا خرج الإمام أمر من تخلف أن يصلي بالناس الجمعة وقال أحمد رحمه الله إذا كان والي مكة بمكة يوم الجمعة يجمع بهم قيل له يركب إلى منى فيجئ إلى مكة يجمع بهم؟ قال لا إذا كان هو بعد بمكة (مسألة) (فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة فأقام بنمرة حتى تزول الشمس) يستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس يوم عرفة فيقيم بنمرة لما تقدم من حديث جابر وإن شاء أقام بعرفة (مسألة) (ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان واقامتين) إذا زالت الشمس استحب للإمام أن يخطب خطبة يعلم الناس فيها مناسكهم من موضع الوقوف(3/424)
ووقته والدفع من عرفات والمبيت بمزدلفة وأخذ الحصى لرمي الجمار لما ذكرنا من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم يأمر بالأذان فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما ويقيم لكل صلاة إقامة وقال أبو ثور يؤذن المؤذن إذا صعد الإمام المنبر فجلس فإذا فرغ المؤذن قام الإمام فخطب وقيل يؤذن في آخر خطبة الإمام وحديث جابر يدل على أنه أذن بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته وكيفما فعل فحسن (فصل) والأولى أن يؤذن للأولى وإن لم يؤذن فلا بأس هكذا قال أحمد لأن كلا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والأذان أولى، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وقال
مالك يؤذن لكل صلاة واتباع السنة أولى من موافقة القياس على سائر المجموعات والفوائت (فصل) والسنة تعجيل الصلاة حين تزول الشمس وأن تقصر الخطبة ثم يروح إلى الموقف لما روي أن سالماً قال للحجاج يوم عرفة إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة وعجل الصلاة فقال ابن عمر صدق رواه البخاري ولأن تطويل ذلك يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال والسنة(3/425)
التعجيل في ذلك فقد روي سالم أن الحجاج أرسل إلى ابن عمر أي ساعة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يروح في هذا اليوم قال إذا كان ذاك رحنا فلما أراد ابن عمر أن يروح قال أزاغت الشمس قالوا لم تزغ فلما قالوا قد زاغت ارتحل رواه أبو داود قال ابن عمر غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة حتى إذا كان عند الصلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة، وقد ذكرنا حديث جابر قال ابن عبد البرهذا كله مما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين (فصل) ويجوز الجمع لمن بعرفة من مكي وغيره قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك كل من صلى مع الإمام وذكر أصحابنا أنه لا يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخاً إلحاقاً له بالقصر والصحيح الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع معه من حضر من المكيين وغيرهم فلم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر حين قال " أتموا فإنا سفر " ولو حرم لبينه لهم لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يقر النبي صلى الله عليه وسلم على الخطأ وقد كان عثمان رضي الله عنه يتم الصلاة لأنه اتخذ أهلا ولم يترك الجمع وروي نحو ذلك عن ابن الزبير وكان عمر بن عبد العزيز والي مكة فخرج فجمع بين الصلاتين ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين الخلاف في الجمع بعرفة(3/426)
والمزدلفة بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره فألحق فيما أجمعوا عليه فلا يعرج على غيره فأما القصر فلا يجوز لأهل مكة، وبه قال عطاء ومجاهد والزهري وابن جريج والثوري ويحيى القطان والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال القاسم وسالم ومالك والاوزاعي لهم القصر لأن لهم الجمع فكان لهم القصر كغيرهم
ولنا أنهم في غير سفر بعيد فلم يجز لهم القصر كغير من بعرفة ومزدلفة (1) قيل لأبي عبد الله رحمه الله فرجل أقام بمكة ثم خرج إلى الحج قال إن كان لا يريد أن يقيم بمكة إذا رجع صلى ركعتين وذكر فعل ابن عمر قال لأن خروجه إلى منى وعرفة ابتداء سفر فإن عزم على أن يرجع ويقيم بمكة أتم بمنى وعرفة (مسألة) (ثم يروح إلى الموقف وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة.
وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر) يعني إذا صلى الصلاتين صار إلى الموقف بعرفة لما ذكرنا من حديث جابر وابن عمر، ويستحب أن يغتسل للموقف لأن ابن مسعود رضي الله عنه كان يفعله، وروي عن علي رضي الله عنه، وبه قال الشافعي واسحاق وأبو ثور وابن المنذر لأنه مكان يجتمع فيه الناس للعبادة فاستحب له الاغتسال كالعيد والجمعة (فصل) وعرفة كلها موقف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قد وقفت ههنا وعرفة كلها موقف " رواه أبو داود وابن ماجة وعن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة(3/427)
في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول " كونوا على مشاعركم فإنكم على ارث من ارث أبيكم إبراهيم " (فصل) وليس وادي عرنة من الموقف ولا يجزئه الوقوف به قال ابن عبد البر أجمع الفقهاء على أن من وقف به لا يجزئه، وحكي عن مالك أنه يجزئه وعليه دم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة " رواه ابن ماجه ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزه كما لو وقف بمزدلفة.
وحد عرفة من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر (مسألة) (ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكباً وقيل الراجل أفضل) المستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبل القبلة لما جاء في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة والأفضل أن يقف راكباً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقف على راحلته وقيل الراجل أفضل لأنه أخف على الراحلة
ويحتمل التسوية بينهما.
والوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به إجماعاً نذكره إن شاء الله تعالى(3/428)
(مسألة) (ويكثر من الدعاء ومن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير.
اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري) وجملة ذلك أنه يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة فإنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك أحببنا له الفطر ليتقوى به على الدعاء مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين، وروى ابن ماجة في سننه قال قالت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عزوجل ثم يباهي بكم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء " ويستحب أن يختار المأثور من الأدعية مثل ماروي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير.
اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ويسر لي أمري " وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الله اكبر الله أكبر ولله الحمد، الله اكبر الله أكبر ولله الحمد، الله اكبر الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد.
اللهم اهدني بالهدي، وقني بالتقوى، واغفر لي في الآخرة والأولى.
ويرد يديه ويسكت قدر ما كان إنسان قارئاً فاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك، ولم يزل يفعل ذلك حتى أفاض.
وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، فقيل له هذا ثناء وليس بدعاء، فقال أما سمعت قول الشاعر(3/429)
أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه من تعرضه الثناء وروى أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة " اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شئ من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل
المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف المستجير، من خضعت لك رقبته، وذل لك جسده، وفاضت لك عينه، ورغم لك أنفه " وروينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال سمعت أعرابياً وهو مستلق بعرفة يقول: إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفاً، ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك في سابق وأمرك بي محيط، أطعتك باذنك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي وبفقري اليك وغناء عني أن تغفر لي وترحمني، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني، ولم أسئ حتى قضيت علي، اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك شهادة ان لا إله إلا الله، ولم اعصك في أبغض الأشياء اليك الشرك بك، فاغفر لي ما بينهما، اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك، تشاهدهم في ضمائرهم، وتطلع على سرائرهم، وسري اللهم لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا أصمت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك،(3/430)
علما بان أزمة الأمور بيديك ومصدرها عن قضائك.
وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي يقول: اللهم قد آويتني من ضناي، وبصرتني من عماي، وأنقذتني من جهلي وجفاي، أسألك ما يتم به فوزي، وما أؤمل في عاجل دنياي وديني، ومأمول أجلي ومعادي، ثم مالا أبلغ أداء شكره ولا أنال احصاءه وذكره إلا بتوفيقك والهامك إن هيجت قلبي القاسي على الشخوص إلى حرمك، وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك، ونقلت بدني لإشهادي مواقف حرمك، اقتداء بسنة خليلك، واحتذاء على مثال رسولك، واتباعاً لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك صلى الله عليهم، وأدعوك في مواقف الأنبياء عليهم السلام، ومناسك السعداء ومشاهد الشهداء دعاء من أتاك لرحمتك راجياً، وعن وطنه نائياً، ولقضاء نسكه مؤدياً، ولفرائضك قاضياً، ولكتابك تالياً، ولربه عزوجل داعيا ملبيا، ولقبله شاكياً، ولذنبه خاشياً، ولحظة مخطئاً، ولرهنه مغلقاً، ولنفسه ظالماً، ولجرمه عالما.
دعاء من عمت عيوبه وكثرت ذنوبه، وتصرمت أيامه، واشتدت فاقته، وانقطعت مدته، دعاء من ليس لذنبه سواك غافراً، ولا لعيبه غيرك مصلحاً، ولا لضعفه غيرك مقوياً، ولا لكسره غيرك جابراً، ولا لمأمول خير
غيرك معطيا، وقد أصبحت في بلد حرام ويوم حرام في شهر حرام في قيام من خير الأنام، أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك، ولا أخيب الراجين لديك، ولا أحرم الآملين لرحمتك الزائرين لبيتك، ولا أخسر المنقلبين من بلادك، اللهم وقد كان من تقصيري ما قد عرفت، ومن توبيقي(3/431)
نفسي ما قد علمت، ومن مظالمي ما قد أحصيت، فكم من كرب منه قد نجيت، وكم من غم قد جليت، ومن هم قد فرجت، ودعاء قد استجبت، وشدة قد أزلت، ورجاء قد أ؟ لت منك النعماء وحسن القضاء، ومني الجفا وطول الاستقصاء والتقصير عن أداء شكرك لك النعماء يا محمود فلا يمنعك يا محمود من اعطائي مسئلتي من حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤلي ما تعرف من تقصيري، وما تعلم من ذنوبي وعيوبي.
اللهم فأدعوك راغباً، وأنصب لك وجهي طالباً، وأضع لك خدي مذنباً راهباً فتقبل دعائي، وارحم ضعفي، وأصلح الفساد من أمري، واقطع من الدنيا همي، واجعل فيما عندك رغبتي اللهم واقلبني منقلب المدركين لرجائهم، المقبول دعاؤهم، المفلوج حجتهم، المبرور حجهم، المغفور ذنبهم، المحطوط خطاياهم، الممحو سيئاتهم، المرشود أمرهم، منقلب من لا يعصي لك بعده أمراً، ولا يأتي من بعده مأثماً، ولا يركب بعده جهلاً، ولا يحمل بعده وزراً، منقلب من عمرت قلبه بذكرك، ولسانه بشكرك، وطهرت الادناس من بدنه، واستودعت الهدي قلبه، وشرحت بالإسلام صدره، وأقررت بعفوك قبل الممات عينه، وأغضضت عن المآثم بصره، واستشهدت في سبيلك نفسه، يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، ولا حول ولا(3/432)
قوة إلا بالله العلي العظيم، ويدعو بما أحب من الدعاء والذكر إلى غروب الشمس (فصل) ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، فمن حصل بعرفة في شئ من هذا الوقت وهو عاقل تم حجه لا نعلم خلافاً بين العلماء أن آخر وقت الوقوف طلوع الفجر من يوم النحر، قال جابر رضي الله عنه لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟
قال نعم.
رواه الأثرم، وأما أوله فمن طلوع الفجر يوم عرفة، فمتى حصل بعرفة في شئ من هذا(3/433)
الوقت وهو عاقل فقد تم حجه، وقال مالك والشافعي أول وقته زوال الشمس يوم عرفة، واختاره أبو حفص العكبري، وحكى ابن عبد البر إجماعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقف بعد الزوال ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " ولأنه من يوم عرفة فكان وقتاً للوقوف كما بعد الزوال، وترك الوقوف فيه لايمنع كونه وقتا له كما بعد العشاء، وإنما وقفوا في وقت الفضيلة ولم يستوعبوا وقت الوقوف (فصل) وكيفما حصل بعرفة وهو عاقل أجزأه قائماً، أو جالساً، أو راكباً، أو نائماً، وإن مر بها مختاراً فلم يعلم أنها عرفة أجزأه أيضاً، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وقال أبو ثور لا يجزئه لأنه لا يكون واقفاً إلا بالإرادة ولنا عموم قوله عليه السلام " وقد أتى عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً " ولأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف وهو عاقل فأجزأه كما لو علم وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون ولم يفق حيت خرج منها لم يجزه وهو قول الحسن والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وقال عطاء في المغمى عليه يجزئه وهو قول مالك وأصحاب الرأي، وقد توقف أحمد في هذه المسألة، وقال: الحسن يقول بطل حجه، وعطاء يرخص فيه، وذلك لأنه لا يعتبر له نية ولا طهارة ويصح من النائم فصح من المغمى عليه كالمبيت بمزدلفة، ووجه الأول أنه ركن من أركان(3/434)
الحج فلم يصح من المغمى عليه كسائر أركانه.
قال ابن عقيل والسكران كالمغمى عليه لأنه زائل العقل بغير نوم، فأما النائم فهو في حكم المستيقظ يجزئه الوقوف (فصل) وتسن له الطهارة، قال أحمد يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء، كان عطاء يقول لا يقضي شئ من المناسك إلا على وضوء ولا يجب في ذلك وحكاه ابن المنذر إجماعاً، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها " افعلي ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت " دليل على أن الوقوف
بعرفة جائز على غير طهارة، ووقفت عائشة بعرفة حائضاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشترط ستارة، ولا استقبال، ولا نية، ولا نعلم فيه خلافا لأنه لا تشترط له الطهارة فلم يشترط له شئ من ذلك قياساً عليها (فصل) ومن فاته ذلك فاته الحج لقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه " رواه أبو داود يدل على فواته بخروج ليلة جمع، ولحديث جابر الذي ذكرناه ولا نعلم في ذلك خلافاً، ولأنه ركن للعبادة فلم يتم بدونه كسائر العبادات (مسألة) (ومن وقف بها نهاراً ودفع قبل غروب الشمس فعليه دم) يعني أنه يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
رواه جابر وغيره، وقال عليه السلام " خذوا عني مناسككم " فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح في قول جماعة الفقهاء إلا مالكاً فإنه قال لاحج له.
قال ابن عبد البر لا نعلم أحدا من العلماء قال بقول مالك، ووجه قوله ماروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحلل بعمرة وعليه الحج من قابل " ولنا ما روى عروة بن مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يارسول الله إني جئت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه ووقوف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليللا أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، ولانه وقف في زمن الوقوف أشبه الليل، فأما خبره فإنما خص الليل لأن الفوات يتعلق به(3/435)
إذا كان بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف كما قال عليه السلام " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها " وعلى من دفع قبل الغروب دم في قول أكثر العلماء منهم عطاء والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم لقول ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك نسكاً فعليه دم ويجزئه شاة، وقال ابن جريح عليه بدنة ونحوه قول الحسن
ولنا أنه واجب لا يفسد الحج بفواته فلم يوجب بدنة كالإحرام من الميقات (فصل) فإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً فوقف حتى غرب الشمس فلا دم عليه، وبه قال مالك والشافعي، وقال الكوفيون وأبو ثور عليه دم لأنه بالدفع لزمه الدم فلم يسقط برجوعه كما لو عاد بعد الغروب ولنا أنه أتى بالواجب وهو الوقوف في الليل والنهار فلم يجب عليه دم كمن تجاوز الميقات غير محرم ثم رجع فأحرم منه، فإن لم يعد حتى غرب الشمس فعليه دم لأن عليه الوقوف حال الغرب وقد فاته بخروجه فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم عاد إليه (مسألة) (فمن وافاها ليلا فوقف بها فلا دم عليه) إذا لم يأت عرفة حتى غابت الشمس ولم يدرك جزءاً من النهار فوقف بها ليلاً فقد تم حجه ولا شئ عليه، لا نعلم فيه مخالفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج " ولأنه لم يدرك جزأ من النهار فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه (مسألة) (ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة وعليه السكينة والوقار) فإذا وجد فجوة أسرع لقول جابر رضي الله عنه في حديثه فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص فأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء بالزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى " أيها الناس السكينة السكينة " وقال أسامة(3/436)
رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص يعني أسرع قال هشام النص فوق العنق متفق عليه (فصل) ويستحب أن يكون دفعه مع الإمام أو الوالي الذي إليه أمر الحج من قبله ولا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع قال احمد ما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام وسئل عن رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس قال ما وجدت عن أحمد أنه سهل فيه كلهم يشدد فيه (فصل) ويكون ملبياً ذاكر الله عزوجل لأن ذكر الله مستحب في كل الأوقات وهو في هذا
الوقت أشد تأكيداً لقول الله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله) الآية ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره ويستحب التلبية وقال قوم لا يلبي ولنا ماروى الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة متفق عليه، ويستحب أن يمضي على طريق المأزمين لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها وإن سلك غيرها جاز لحصول المقصود به (مسألة) (فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال) السنة لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء بغير(3/437)
خلاف قالل ابن المنذر أجمع اهل العلم لا اختلاف بينهم أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينها رواه جابر وابن عمر وأسامة وغيرهم وأحاديثهم صحاح (فصل) ويستحب أن يجمع قبل حط الرحال وأن يقيم لكل صلاة إقامة لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذ كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فقلت له الصلاة يارسول الله فقال " الصلاة أمامك " فركب فلما جاء مزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما متفق عليه وممن روي عنه أنه يجمع بينهما باقامتين بلا أذان ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد والشافعي واسحاق وإن اقتصر على إقامة للأولى فلا بأس يروي ذلك عن ابن عمر أيضاً وبه قال الثوري لما روي أن عمر رضي الله عنهما قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء يجمع صلى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة رواه مسلم وإن أذن للأولى وأقام للثانية فحسن فإنه مروي في حديث جابر وهو متضمن للزيادة وهو معتبر بسائر الفوائت والمجموعات وهو قول ابن المنذر وأبي ثور واختار الخرقي القول الأول قال إبن المنذر هو آخر قولي أحمد لان راويه أسامة وهو أعلم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان رديفه وإنما لم يؤذن للأولى ههنا لأنها في غير وقتها بخلاف المجموعتين(3/438)
بعرفة، وقال مالك يجمع بينهما بأذان وإقامتين، وروي ذلك عن عمر وابنه وابن مسعود واتباع
السنة أولى قال ابن عبد البر لا أعلم فيما قاله مالك حديثاً مرفوعاً بوجه من الوجوه وقال قوم إنما أمر عمر بالتأذين للثانية لأن الناس كانوا قد تفرقوا لعشائهم فأذن لجمعهم وكذلك ابن مسعود فإنه كان يجعل العشاء بمزدلفة بين الصلاتين (فصل) والسنة أن لا يتطوع بينهما قال ابن المنذر لا أعلمهم يختلفون في ذلك، وقد روي عن ابن مسعود أنه يتطوع بينهما ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولنا حديث أسامة وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بينهما وحديثهما أصح (مسألة) (وإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه) وبه قال عطاء وعروة والقاسم وسعيد بن جبير ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو يوسف وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والثوري لا يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين فكان نسكاً وقد قال عليه السلام " خذوا عني مناسككم " ولنا أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق بينهما كالظهر والعصر بعرفة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على الأفضل وما ذكروه يبطل بالجمع بعرفة (مسألة) (ومن فاتته الصلاة مع الإمام بعرفة أو بمزدلفة جمع وحده) لا نعلم خلافاً في أنه إذا فانه الجمع مع الإمام بمزدلفة أنه يجمع وحده لأن الثانية منهما تصلى في وقتها وكذلك لو فرق بينهما لم يبطل الجمع، وقد روى أسامة قال ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها وكذلك حكم من فاته الجمع مع الإمام بعرفة بين الظهر والعصر فإنه يجمع وحده أيضاً فعله ابن عمر، وبه قال عطاء ومالك والشافعي واسحاق(3/439)
وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة لا يجمع إلا مع الإمام لأن لكل صلاة وقتاً محدوداً، وإنما ترك ذلك في الجمع مع الإمام فإذا لم يكن اماما رجعنا إلى الأصل ولنا فعل ابن عمر ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفرداً كالجمع بين العشاءين بجمع قولهم إنا(3/440)
جاز الجمع في الجماعة لا يصح لأنهم قد سملواان الإمام يجمع، وإن كان منفرداً (مسألة) (ثم يبيت بها فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شئ عليه وإن وافاها بعد نصف الليل فلا شئ عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم، وحد المزدلفة مابين المأزمين ووادي محسر) وجملة ذلك أن المبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم هذا قول عطاء والزهري وقتادة والثوري والشافعي واسحاق وأبي عبيد وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها وقال " خذوا عني مناسككم " وقال علقمة والنخعي والشعبي من فانه جمع فاته الحج لقوله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه " ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه " يعني من جاء عرفة وما احتجوا به من الآية والخبر فالمنطوق فيهما ليس بركن في الحج إجماعاً فانه لو بات بجمع ولم يذكر الله تعالى ولم يشهد الصلاة صح حجه فما هو من ضرورة ذلك أولى ولأن المبيت ليس من ضرورة ذكر الله تعالى بها، وكذلك شهود صلاة الفجر فإنه لو أفاض من عرفة آخر ليلة النحر أمكنه ذلك فيتعين حمل ذلك على الإيجاب أو الفضيلة أو الاستحباب(3/441)
(فصل) وليس له الدفع قبل نصف الليل فإن فعل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شئ عليه، وبه قال الشافعي وقال مالك إن مر بها فلم ينزل فعليه دم وإن نزل فلا دم عليه متى ما دفع ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم باب بها وقال " لتأخذوا عني مناسككم " وإنما أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه فروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى مني متفق عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت رواه أبو داود فمن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل ولم يعد في الليل فعليه دم، وإن عاد فلا دم كالذي دفع من عرفة نهاراً ثم عاد نهاراً (فصل) ويجب الدم على من دفع قبل نصف الليل ولم يرجع في الليل وعلى من ترك المبيت بمنى
سواء فعل ذلك عامداً أو ساهياً أو جاهلاً لأنه ترك نسكاً والنسيان أثره في جعل الموجود كالمعدوم لا في جعل المعدوم كالموجود إلا أنه رخص لأهل السقاية والرعاء في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة في ترك البيتوتة، وفي حديث عدي وأرخص للعباس في ترك المبيت لأجل سقايته ولأن عليهم مشقة في المبيت لحاجتهم إلى حفظ مواشيهم وسقي الحاج فكان لهم ترك المبيت كليالي منى وروى عن أحمد أن المبيت بمزدلفة غير واجب والمذهب الأول (فصل) فإن وافاها بعد نصف الليل فلا شئ عليه لأنه لم يدرك جزءاً من النصف الأول فلم يتعلق به حكمه كمن أدرك الليل بعرفات دون النهار وإن جاء بعد الفجر فعليه دم لترك الواجب وهو المبيت والمستحب الأقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والمبيت إلى أن يصبح ثم يقف حتى بسفر ولا بأس بتقديم(3/442)
الضعفة والنساء، وممن كان يقدم ضعفه أهله عبد الرحمن بن عوف وعائشة، وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً لأن فيه رفقاً بهم ودفعاً لمشقة الزحام عنهم والاقتداء بنبيهم عليه الصلاة والسلام (فصل) وللمزدلفة ثلاثة أسماء: مزدلفة وجمع والمشعر الحرام، وحدها من مأزمي عرفة إلى قرن محسر وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ففي أي موضع وقف منها أجزأه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " كل المزدلفة موقف " رواه أبو داود وابن ماجة، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال " وقفت ههنا بجمع وجمع كلها موقف " وليس وادي محسر من مزدلفة لقوله " وارفعوا عن بطن محسر " (مسألة) (فإذا أصبح بها صلى الصبح، ثم يأني المشعر الحرام فيرقى عليه أو يقف عنده ويحمد الله تعالى ويكبر ويدعو) يستحب أن يعجل صلاة الصبح ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام لقول جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح، ثم إذا صلى أتى المشعر الحرام فوقف عنده أو رقي عليه إن أمكنه فذكر الله تعالى ودعاه واجتهد لقول الله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فرقي عليه فحمد الله وكبره وهلله ووحده، وفي
لفظ ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وهلله وكبره واجتهد، ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا اياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق (فإذا أفضتم من عرفات - إلى - غفور رحيم) الآيتين إلى أن يسفر لأن في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفاً حتى أسفر جدا (مسألة) (ثم يدفع قبل طلوع الشمس لا نعلم خلافاً في استحباب الدفع قبل طلوع الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما أن المشركين كانوا لا يفيضون يقولون: أشرق ثبير كيما نغير.
وإن رسول(3/443)
الله صلى الله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل أن تطلع الشمس.
رواه البخاري (1) والسنة الإسفار جداً، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وكان مالك يرى الدفع قبل الإسفار ولنا حديث جابر الذي ذكرناه، وعن نافع أن ابن الزبير أخر في الوقت حتى كادت الشمس تطلع، فقال ابن عمر إني أراه يريد أن يصنع كما صنع أهل الجاهلية فدفع ودفع الناس معه، وكان ابن مسعود يدفع كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة ويستحب أن يسير وعليه السكينة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس وقال أيها النس " إن البر ليس بايجاف الخيل الابل فعليكم بالسكينة " فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى (مسألة) (فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رميه بحجر) يستحب الإسراع في وادي محسر وهو مابين المزدلفة ومنى، فإن كان ماشياً أسرع، وإن كان راكباً حرك دابته لأن جابرا قال في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتى بطن محسر حرك قليلا، ويروى أن عمر رضي الله عنه لما أتى محسراً أسرع وقال: إليك يعدو قلقا وضينها * مخالفاً دين النصارى دينها * معترضاً في بطنها جنينها وذلك قدر رميه بحجر ويكون ملبياً في طريقه فإن الفضل بن عباس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل(3/444)
يلى حتى رمى جمرة العقبة.
متفق عليه، ولأن التلبية من شعار الحج فلا تقطع إلا بالشروع في الإحلال وأوله رمي جمرة العقبة (مسألة) (ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة ومن حيث أخذه جاز، ويكون أكبر من الحمص دون البندق) إنما يستحب أخذ حصى الجمار قبل أن يصل منى لئلا يشتغل عند قدومه بشئ قبل الرمي لأنها تحيه له كما أن الطواف تحية المسجد فلا يبدة بشئ قبله، وكان ابن عمر رضي الله عنه يأخذ حصى الجمار من جمع وفعله سعيد بن جبير وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع واستحبه الشافعي.
وقال أحمد: خذ الحصى من حيث شئت اختاره عطاء وابن المنذر وهو أصح إن شاء الله تعالى لأن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته " القط لي حصى " فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل يقبضهن في كفه ويقول " أمثال هؤلاء فارموا " ثم قال أيها(3/445)
الناس " إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " رواه ابن ماجه وكان ذلك بمنى ولا خلاف أنه يجزئه أخذه من حيث كان والتقاطه أولى من تكسيره لهذا الخبر ولأنه لا يؤمن في تكسيره أن يطير إلى وجهه شئ يؤذيه، ويستحب أن يكون كحصى الخذف للخبر ولقول جابر في حديثه كل حصاة منها مثل حصى الخذف، وروى سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس " إذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف " رواه أبو داود، قال الأثرم يكون أكبر من الحمص ودون البندق، وكان ابن عمر يرمي بمثل بعر الغنم، فإن رمى بحجر كبير فقال أصحابنا يجزئه مع ترك السنة لأنه قد رمى بحجر وكذلك الحكم في الصغير، وروى عن أحمد أنه قال لا يجوز حتى يأتي بالحصى على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أمر بهذا القدر ونهى عن تجاوزه والأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضي فساد المنهي عنه (فصلى) واختلفت الرواية عن أحمد في استحباب غسله فروي عنه أنه مستحب ذكره الخرقي لأنه روي عن ابن عمر وكان طاوس يفعله، وكان ابن عمر يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن أحمد أنه(3/446)
لا يستحب قوا لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وهذا الصحيح وهو قول عطاء ومالك ومالك وكثير من أهل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقطت له الحصى وهو راكب على بعيره جعل يقبضهن في يده لم يغسلهن ولا أمر بغلسهن ولا فيه معنى يقتضيه، فإن رمى بحجر نجس أجزأه لأنه حصاة ويحتمل أن لا يجزئه لأنه يؤدي به العبادة فاعتبرت طهارته كحجر الاستجمار وتراب التيمم، وإن غسله ورمى به أجزأه وجهاً واحداً والله تعالى أعلم (مسألة) (وعدده سبعون حصاة يرمي منها بسبع يوم النحر وباقيها في أيام منى كل يوم بإحدى وعشرين، فإذا وصل منى - وحدها من وادي محسر إلى العقبة - بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه) حد منى مابين جمرة العقبة ووادي محسر كذلك قال عطاء والشافعي وليس محسر والعقبة من منى ويستحب سلوك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها كذا في حديث جابر، فإذا وصل منى بدأ بجمرة العقبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بها، ولأنها تحية منى فلم يتقدمها شئ كالطواف في المسجد وهي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة لذلك سميت بهذا فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ثم ينصرف ولا يقف وهذا بجملته قول من علمنا قوله من أهل العلم وإن رماها من فوقها جاز، ولأن عمر رضي الله عنه جاء والزحام عند الجمرة فرماها من فوقها والأول أفضل لما روى عبد الرحمن بن يزيد أنه(3/447)
مشى مع عبد الله وهو يرمي الجمرة، فلما كان في بطن الوادي اعترضها فرماها، فقيل له أن ناساً يرمونها من فوقها فقال: من ههنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزل عليه سورة البقرة رماها.
متفق عليه وفي لفظ لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى جمرة بسبع حصيات ثم قال: والذي لا إله إلا هو من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
قال الترمذي هذا حديث صحيح.
ولا يسن الوقوف عندها لأن ابن عمر وابن عباس رويا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف.
رواه ابن ماجه.
ويكبر مع كل حصاة لأن جابرا قال: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، وإن قال اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً، فحسن.
فإن ابن مسعود ابن عمر كانا يقولان نحو ذلك، وروى حنبل في المناسك بإسناده عن زيد بن أسلم قال: رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله اكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وعملاً مشكوراً.
فسألته عما صنع فقال حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثل ما قلت ويرمي الحصى واحدة بعد واحدة كما ذكر، وإن رماها دفعة وحدة لم يجزه إلا عن واحدة نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وقال عطاء: بجزئه ويكبر لكل حصاة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى سبع رميات وقال " خذوا عن مناسككم " ويرفع يده حتى(3/448)
يرى بياض إبطه قال بعض أصحابنا (فصل) ويرميها راجلاً وراكباً وكيفما شاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته.
رواه جابر وابن عمر وغيرهما، قال جابر رضي الله عنه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحتله يوم النجر ويقول " لاخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " رواه مسلم، وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنهما يرمي جمرة العقبة على دابته يوم النحر وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا(3/449)
ماشياً ذاهباً وراجعاً، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ذاهباً وراجعاً.
رواه أحمد في المسند، وفي هذا بيان للتفريق بين هذا الجمرة وغيرها، ولأن رمي هذه الجمرة مما تستحب البداية به وهي في هذا اليوم عند قدرمه ولا يسن عندها وقوف، فلو سن له المشي إليها لشغله النزول عن الابتداء بها والتعجيل إليها بخلاف سائرها (فصل) ولا يجزئه الرمي ألا إن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه لم يجزئه لا نعلم فيه خلافاً
وكذلك إن وضعها بيده في المرمى لا يجزئه في قولهم جميعاً لأنه مأمور بالرمي ولم يرم، وإن طرحها طرحاً أجزأه لأنه يسمى رمياً وهذا قول أصحاب الرأي، وقال ابن القاسم لا يجزئه، وإن رمى حصاة فوقعت في غير المرمى فأطارت حصاة أخرى فوقعت في المرمى لم يجزه لأن التي رماها لم تقع في المرمى وإن رمى حصاة فالتقطها طائر قبل وصولها لم يجزه لأنها لم تقع في المرمى، وإن وقعت على موضع صلب في غير المرمى ثم تدحرجت إلى المرمى أو على ثوب انسان تم طارت فوقعت في المرمى أجزأته لأن حصولها في المرمى بفعله، وإن نفضها الإنسان عن ثوبه فوقعت في المرمى فعن أحمد أنها تجزئه لأنه انفرد برميها، وقال ابن عقيل لاتجزئه لأن حصولها في المرمى بفعل الثاني فأشبه مالو أخذها بيده فرمى(3/450)
بها، وإن رمى حصاة فشك هل وقعت في المرمى أو لا لم يجزه لأن الأصل بقاء الرمي في ذمته فلا يزول بالشك، وعنه يجزئه ذكره ابن البنا في الخصال، وإن غلب على ظنه أنها وقعت فيه أجزأته لأن الظاهر دليل (مسألة) (ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي) يروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وميمونة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وروي عن سعيد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهما يقطع التلبية إذا راح الموقف، وعن علي وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة، وقال مالك يقطع التلبية إذا راح المسجد، وكان الحسن يقول يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ولنا أن الفضل بن عباس رضي الله عنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وكان رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على ما خالفه، ويستحب قطع التلبية عند أول حصاة للخبر، وفي بعض ألفاظه: حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة.
رواه حنبل في المناسك وهذا بيان يتعين الأخذ به، وفي رواية من روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة دليل على أنه لم يكن يلي، ولأنه يتحلل بالرمي، وإذا شرع فيه قطع التلبية
كالمعتمر يقطع التلبية بالشروع في الطواف (مسألة) (وإن رمى بذهب أو فضة أو غير الحصى أو رمى بحجر رمى به مرة لم يجزه) يجزئ المرمي بكل ما يسمى حصى وهي الحجارة الصغار سواء كان أسود، أو أبيض، أو أحمر من المرمر أو البرام أو المرو وهو الصوان أو الرخام أو الكذان، أو حجر المسان وهذا قول مالك والشافعي، وقال القاضي لا يجزئ الرخام والبرام والكذان، ومقتضى قوله ان لا يجزئ المرو ولا حجر المسن، وقال أبو حنيفة يجزئ بالطين والمدر وما كان من جنس الأرض، ونحوه قول الثوري، وروي عن سكينة بنت الحسين أنها رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى وسقطت حصاة فرمت بخاتمها ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بالحصى وأمر بالرمي بمثل حصى الخذف فلا يتناول غير الحصى ويتناول(3/451)
جميع أنواعه فلا يجوز تخصيص بغير دليل ولا إلحاق غيره به والذهب والفضة لا يتناوله اسم الحصى (فصل) وإن رمى بحجر أخذ من المرمى لم يجزه، وقال الشافعي يجزئه لأنه حصى فيدخل في العموم ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه من غير المرمى وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه لو جاز الرمي بمارمي به لما احتاج أحد إلى أخذ الحصى من غير مكانه ولا نكسير، ولأن ابن عباس قال ما نقبل منه رفع، وإن رمى بخاتم فضة حجر لم يجزه في أحد الوجهين لأنه تبع والرمي بالمتبوع لا بالتابع (مسألة) (ويرمي بعد طلوع الشمس فإن رمى بعد نصف الليل أجزأه) وجملته أن لرمي هذه الجمرة وقتين: وقت فضيلة ووقت إجزاء، فأما وقت الفضيلة فعند طلوع الشمس.
قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رماها ضحى ذلك اليوم، وقال جابر رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده.
أخرجه مسلم، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " رواه الإمام أحمد، وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر، وبذلك قال عطاء وابن أبي ليلى والشافعي، وعن أحمد أنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس وهو قول مالك وأصحاب الرأي وابن المنذر، وقال مجاهد والثوري والنخعي لا يرميها إلا بعد طلوع الشمس لحديث ابن عباس
ولنا ماروى أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، وروي أنه أمرها أن تعجل الإفاضة وتوافي مكة مع صلاة الصبح، احتج به أحمد، ولانه وقت للدفع من المزدلفة فكان وقتاً للرمي كبعد طلوع الشمس، والاخبار المذكورة محمولة على الاستحباب (فصل) (وإن أخر الرمي إلى آخر النهار جاز) قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن ذلك مستحباً، وروى ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يسئل يوم النحر بمنى قال رجل رميت بعد ما أمسيت قال " لا حرج " رواه البخاري فإن أخرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغدو به قال أبو حنيفة واسحاق، وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف وابن المنذر يرمي ليلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج(3/452)
ولنا أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تزول الشمس من الغد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج " إنما كان في النهار لأنه سأله في يوم الحر ولا يكون اليوم إلا قبل مغيب الشمس، وقال مالك يرمي ليلاً وعليه دم، ومرة قال لادم عليه وإذا رمى انصرف ولم يقف لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عندها (مسألة) (ثم ينحر هديا إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره، وعنه يجزئه بعضه كالمسح)(3/453)
إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف وانصرف فأول شئ يبدأ به نحر الهدي إن كان معه هدي واجباً كان أو تطوعاً، فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي واجب اشتراه، وإن لم يكن عليه واجب فأحب أن يضحي اشترى ما يضحي به وينحر الإبل ويذبح ما سواها والمستحب أن يتولى ذلك بيده ويجوز أن يستنيب فيه، هذا قول مالك وأبي ثور وأصحاب الرأي، وذلك لما روى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ثم
أعطى عليا فنحر ما غبر مناه وأشركه في هديه، ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة ويقول بسم الله والله أكبر.
قال إبن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح يقول " بسم الله والله أكبر " (فصل) وإذا نحر الهدي فرقة على مساكين الحرم وهم من كان في الحرم وإن أطلقها لهم جاز كما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات ثم قال " من شاء اقتطع " رواه أبو داود(3/454)
وإن قسمها فهو أحسن وأفضل لأنه بقسمها يتبين إيصالها إلى مستحقها ويكفي المساكين تعب النهب والزحام ويقسم جلودها وجلالها لما روى علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم إن أقوم على بدنه وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها وأن لا نعطي الجازر منها شيئاً وقال نحن نعطيه من عندنا، وإنما لزمه قسم جلالها للخير ولانه سافها الله على تلك الصفة فلا يأخذ شيئاً مما جعله الله تعالى.
وقال بعض أصحابنا لا يلزمه اعطاء جلالها لأنه إنما أهدى الحيوان دون ما عليه والسنة النحر بمنى لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بها، وحيث نحر من الحرم أجزأه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق " رواه أبو داود (فصل) يلزمه الحلق أو التقصير من جميع شعره وكذلك المرأة وبه قال مالك وعنه يجزئه بعضه(3/455)
كالمسح كذلك قال ابن حامد، وقال الشافعي يجزئه التقصير من ثلاث شعرات.
وقال ابن المنذر يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له ولنا قوله تعالى (محلقين رؤسكم) وهذا عام في جميعه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه تفسيراً لمطلق الأمر به فيجب الرجوع إليه، فإن كان الشعر مضفوراً قصر من رءوس ضفائره كذلك قال مالك تقصر المرأة من جميع قرونها ولا يجب التقصير من كل شعره لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه وأي قدر قصر منه أجزأ لأن الأمر مطلق فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم.
قال أحمد: يقصر قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وهو محمول على الاستحباب.
وبأي شئ قصر الشعر أجزأه وكذلك إن نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته ولكن السنة الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه فروى
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ شق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم شق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال " ههنا أبو طلحة؟ " فدفعه إلى أبي طلحة.
رواه أبو داود.
والسنة أن يبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر لهذا الخبر فان لم يفعل أجزأه لا نعلم فيه خلافاً ويستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة ويكبر وقت الحلق لأنه نسك ويكون ذلك بعد النحر (فصل) وهو مخير بين الحلق والتقصير في قول الجمهور وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن التقصير يجزي يعني في حق من لم يوجد منه معنى يقتضي وجوب الحلق عليه إلا أنه يروى عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في الحجة الأولى ولا يصح هذا لأن الله تعالى قال (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يفرق والنبي صلى الله عليه وسلم قال " رحم الله المحلقين والمقصرين " وقد كان معه من قصر فلم ينكر عليه والحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقال " رحم الله المحلقين " قالوا يارسول الله والمقصرين قال " رحم المحلقين " قالوا والمقصرين يارسول الله قال " رحم الله المحلقين والمقصرين " رواه مسلم فأما من لبد أو عقص أو ضفر فقال أحمد من فعل ذلك فيحلق وهو قول النخعي ومالك والشافعي وإسحق وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول من لبد أو قصر أو عقد أو فتل أو عقص فهو على ما نوى إن نوى الحلق فليحلق وإلا فلا يلزمه وقال أصحاب الرأي وهو مخير على كل حال لأن ما ذكرناه يقتضي(3/456)
التخيير على العموم ولم يثبت في خلاف ذلك دليل ووجه القول الأول ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لبد فليحلق وثبت عن عمر وابنه أنهما أمرا من لبد رأسه أن يحلقه والنبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه وحلق والصحيح أنه مخير الا أن يتبت الخبر، وقول عمر وابنه قد خالفهما فيه ابن عباس وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على وجوبه بعد ما تبين جواز الأمرين والله أعلم (مسألة) (والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة والأنملة رأس الأصبع من المفصل الأعلى والمشروع للمرأة التقصير دون الحلق بغير خلاف) قال إبن المنذر أجمع على هذا أهل العلم لأن الحلق في حقهن مثله وقد روى ابن عباس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير " رواه أبو داود، وعن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها رواه الترمذي وكان أحمد يقول تقصر من كل قرن قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي واسحق وأبي ثور وقال أبو داود سمعت أحمد سئل عن المرأة تقصر من كل رأسها قال نعم تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطراف شعرها قدر الأنملة والرجل الذي يقصر كالمرأة في ذلك وقد ذكرنا فيه خلافاً (فصل) والأصلع الذي ليس على رأسه شعر يستحب أن يمر الموسى على رأسه روى ذلك عن ابن عمر وبه قال مسروق وسعيد بن جبير والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وليس بواجب وقال أبو حنيفة يجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهذا لو كان ذا شعر وجب عليه إزالته وإمرار الموسى على رأسه فإذا سقط أحدهما لتعذره بقي الآخر ولنا أن الحلق محله الشعر فسقط بعدمه كماسقط وجوب غسل العضو في الوضوء بفقده ولأنه إمرار لو فعله في الإحرام لم يجب به دم فلم يجب عند التحلل كإمراره على الشعر من غير حلق (فصل) ويستحب تقليم أظفاره والأخذ من شاربه قال إبن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره وكان عطاء وطاوس والشافعي يحبون لو أخذ من لحيته شيئاً ويستحب إذا حلق أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه كان ابن عمر يقول للحالق أبلغ العظمين افصل الرأس من اللحية وكان عطاء يقول من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين(3/457)
(مسألة) (ثم قد حل له لكل شئ إلا النساء وعنه الا الوطئ في الفرج) وجملته أن المحرم إذا رمي جمرة العقبة ثم حلق أو قصر حل له كل ماكان محرماً بالإحرام إلا النساء هذا الصحيح من المذهب نص عليه أحمد في رواية جماعة فيبقى ما كان محرما عليه من النساء من الوطئ والقبلة واللمس بشهوة وعقد النكاح ويحل له ما سوى ذلك هذا قول ابن الزبير وعائشة وعلقمة وسالم والنخعي وعبد الله بن الحسن وخارجة بن زيد والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وروي عن ابن عباس، وعن أحمد أنه يحل له كل شئ الا الوطئ في الفرج لأنه أغلظ المحرمات ويفسد
النسك بخلاف غيره وقال عمر رضي الله عنه يحل له كل شئ إلا النساء والطيب وروي ذلك عن ابنه وعروة بن الزبير وغيرهما لأنه من دواعي الوطئ أشبه القبلة، وعن عروة أنه لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، ولنا ماروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شئ إلا النساء " رواه سعيد وقالت عائشة: طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت، متفق عليه وعن سالم عن أبيه قال قال عمر بن الخطاب إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ إلا الطيب فقالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع رواه سعيد عن ابن عباس أنه قال إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ إلا النساء فقال له رجل والطيب فقال أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك الطيب هو ذاك أم لا؟ رواه ابن ماجه وقال مالك لا يحل له النساء ولا الطيب ولا قتل الصيد لقوله سبحانه (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) وهذا حرام وقد ذكرنا ما يرد هذا القول ويمنع أنه محرم وإنما بقي بعض أحكام الاحرام (مسألة) (والحلق والتقصير نسك إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟ على روايتين وعنه أنه إطلاق من محظور لا شئ في تركه ويحصل التحلل بالرمي وحده)(3/458)
الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة في ظاهر المذهب وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وعن أحمد أنه ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور كان محرما عليه بالإحرام فأطلق فيه بالحل كاللباس وسائر محظورات الإحرام فعلى هذه الرواية لا شئ على تاركه ويحصل التحلل بدونه ووجهها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من العمرة قبله فروى أبو موسى رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال " بم أهللت؟ " قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال " أحسنت " وأمرني فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة ثم قال لي " أحل " متفق عليه، وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سعى بين الصفا والمروة قال " من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة " رواه مسلم، ولان ماكان محرما في الاحرام إذا أبيح كان اطلاقا من محظور كسائر محرماته والرواية الأولى أصح فإن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، فروى ابن عمر ضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل " عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا " وأمره يقتضي الوجوب، ولأن الله تعالى وصفهم بقوله (محلقين رءوسكم ومقصرين) ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس وقتل الصيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثاً وعلى المقصرين مرة، ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل كالمباحات، ولأن النبي صلى الله(3/459)
عليه ولم وأصحابه فعلوه في جميع حجهم وعمرهم لم يخلوا به، ولو لم يكن نسكا لما داوموا عليه بل لم يفعلوه إلا نادراً لأنه لم يكن من عادتهم فيفعلوه عادة ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله، فأما أمره بالحل فإنما معناه - والله أعلم الحل بفعله لأن ذلك كان مشهوراً عندهم فاستغني عن ذكره ولا يمنع الحل من العبادة بما كان محرماً فيها كالسلام في الصلاة (فصل) فإذا قلنا إنه نسك جاز تأخيره إلى آخر أيام النحر لأنه إذا جاز تأخير النحر المقدم عليه فتأخيره أولى، فإن أخره عن ذلك فلا دم عليه في إحدى الروايتين لأن الله تعالى بين أول وقته ولم يبين آخره فمتى أتى به اجزاء كالطواف للزيارة والسعي (والثانية) عليه دم لأنه نسك أخره عن محله ومن ترك نسكاً فعليه دم ولافرق في التأخير بين القليل والكثير والعامد والساهي.
وقال مالك والثوري واسحاق وأبو حنيفة ومحمد من تركه حتى حل فعليه دم لأنه نسك فوجب أن يأتي به قبل الحل كسائر مناسكه.
ولنا ما تقدم وهل يحل قبله؟ فيه روايتان (إحداهما) أن التحلل إنما يحصل بالحلق والرمي معاً وهو ظاهر كلام الخرقي وقول الشافعي وأصحاب الرأي لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ إلا النساء " وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما، ولأنهما نسكان يتعقبهما الحل فكان حاصلاً بهما كالطواف والسعي في العمرة (والثانية) يحصل التحلل بالرمي وحده وهذا قول عطاء ومالك وأبي ثور قال شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله في حديث أم سلمة " إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ إلا النساء "
وكذلك قال ابن عباس قال بعض أصحابنا هذا ينبني على الخلاف في الحلق إن قلناهو نسك حصل(3/460)
الحل وإلا حصل بالرمي وحده وهو الذي ذكره شيخنا في كتابه المشروح (مسألة) (وإن قدم الحلق على الرمي والنحر جاهلاً أو ناسياً فلا شئ عليه، وإن كان عالماً فهل يلزمه دم؟ على روايتين) السنة في يوم النحر إن يرمي ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف ترتيبها هكذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك فروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى ثم نحر ثم حلق.
رواه أبو داود، فان أخل بترتيبها ناسياً أو جاهلاً فلا شئ عليه هذا قول الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والشافعي واسحاق وأبي ثور وداود ومحمد بن جرير الطبري، وقال أبو حنيفة إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر فعليه دم، فإن كان قارنا فعليه دمان، وقال زفر عليه ثلالثة دماء لأنه لم يوجد التحلل الأول اشبه مالو حلق قبل يوم النحر.
ولنا ماروى عبد الله بن عمرو قال: قال رجل يارسول الله حلقت قبل أن أذبح، قال " اذبح ولا خرج " فقال آخر ذبحت قبل أن أرمي، قال " ارم ولا حرج " متفق عليه، وفي لفظ قال فجاء رجل ققال يارسول الله: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح وذكر الحديث قال فما سمعته يسئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم عبض الأمور على بعض وأشباهها إلا قال " افعلوا ولا حرج " رواه مسلم، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير متفق عليه، روواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عيسى بن طلحة عن عبد الله ابن عمرو وفيه فحلقت قبل أن أرمي، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، فأما إن فعله عامداً عالماً مخالفة للسنة فإنه لا دم عليه في (إحدى الروايتين) وهو قول عطاء واسحاق لإطلاق حديث ابن عباس(3/461)
وكذلك حديث عبد الله بن عمرو من رواية سفيان بن عيينة (والثانية) عليه دم روي نحو ذلك عن سعيد بن جبير وجابر بن زيد وقتادة والنخعي لأن الله
تعالى قال (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب وقال " خذوا عني مناسككم " والحديث المطلق قد جاء مقيداً فيحمل المطلق على المقيد، قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال: إن كان جاهلاً فليس عليه دم فأما مع التعمد فلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رحل فقال لم أشعر، قيل لأبي عبد الله سفيان بن عيينة لا يقول لم أشعر فقال نعم ولكن مالكاً والناس عن الزهري لم أشعر وهو في الحديث، وقال مالك إن قدم الحلق على المرى فعليه دم وإن قدمه على النحر أو النحر على الرمي فلا شئ عليه لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول ولا يحصل إلا برمي الجمرة، فأما النحر قبل الرمي فجائز لأن الهدي قد بلغ محله ولنا الحديث فإنه لم يفرق بينهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الحلق والنحر والتقديم والتأخير فقال " لا حرج " ولا نعلم خلافاً بينهم في أن مخالفة الترتيب لا تخرج هذه الأفعال عن الأجزاء ولا يمنع وقوعها موقعها، وإنما اختلفوا في وجوب الدم على ما ذكرنا (فصل) فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأ طوافه، وبهذا قال الشافعي وقال مالك لاتجزئه الإفاضة فليرم ثم لينحر ثم ليقصر، وكان ابن عمر يقول فيمن أفاض قبل أن يحلق برجع فيحلق أو يقصر ثم يفيض(3/462)
ولنا ماروى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل أفضت قبل أن أرم، قال " ارم ولا حرج " وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قدم شيئاً قبل شئ فلا حرج " رواهما سعيد في سننه، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه آخر فقال إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال " ارم ولا حرج " فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم ولا أخر إلا قال " افعل ولا حرج " رواه أبو داود والنسائي والترمذي، ولأنه أتى بالرمي في وقته فأجزأه كما لو رتب، ومقتضى كلام أصحابنا أنه يحصل له بالإفاضة قبل الرمي التحلل الأول كمن رمى ولم يفض، فعلى هذا لو واقع أهله قبل الرمي بعد الإفاضة فعليه دم ولا يفسد حجه، وكذلك قال الأوزاعي فإن رجع إلى أهله ولم يرم فعليه دم الترك الرمي وحجه صحيح فإن ابن عباس قال: من نسي أو ترك شيئاً من نسكه فليهرق لذلك دما
(مسألة) (ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي) يستحب أن يخطب الامام بمعنى يوم النحر يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي نص عليه(3/463)
أحمد وهو مذهب الشافعي وابن المنذر، وذكر بعض أصحابنا أنه لا يخطب يومئذ وهو مذهب مالك لأنها تسن في اليوم الذي قبله فلا تسن فيه ولنا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر يعنى بمنى.
أخرجه البخاري، وعن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلي؟ عبر عنه والناس بين قائم وقاعد، وقال أبو أمامة رضي الله عنه سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر، وقال عبد الرحمن بن معاذ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحنا أسماعنا حتى كنا نسمع ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار.
رواهن أبو داود غير حديث ابن عباس، ولأنه يوم تكثر فيه أفعال الحج ويحتاج إلى تعليم الناس أحكام ذلك فاحتيج إلى الخطبة من أجله يوم عرفة (فصل) يوم الحج الأكبر يوم النحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر " هذا يوم الحج الأكبر " رواه البخاري وسمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه من الوقوف بالمشعر والدفع منه إلى منى والرمي والنحر والحلق وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى ليبيت بها وليس في غيره مثله وهو مع ذلك يوم عيد وبرم يحل فيه من أفعال الحج (مسألة) (ثم يفيض إلى مكة ويطوف للزيارة، ويعينه بالنية وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج)(3/464)
وجملة ذلك أنه إذا رمى ونحر وحلق أفاض إلى مكة يوم النحر فطاف طواف الزيارة وسمي بذلك لأنه يأتي من منى فيزور البيت، ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى ويسمى طواف الإفاضة لكونه يأتي به عند افضاته من منى إلى مكة، وصفة هذا الطواف كصفة طواف القدوم إلا أنه ينوي به طواف
الزيارة ويعينه بالنية ولا رمل فيه ولا اضطباع لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه، والنية شرط في هذا الطواف.
هذا قول اسحاق وابن القاسم صاحب مالك وابن المنذر، وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي: يجزئه وإن لم ينو الفرض الذي عليه ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه صلاة والصلاة لا تصح إلا بنية اتفاقاً، وهذا الطواف ركن للحج لا يتم إلا به بغير خلاف علمناه.
قال ابن عبد البر هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء، قال الله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) وعن عائشة قالت: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يرد الرجل من أهله فقلت يارسول الله إنها حائض فقال " أحابستنا هي؟ قالوا يارسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر قال " اخرجوا " متفق عليه فدل على أن هذا الطواف لابد منه وأنه حابس لمن لم يأت به (مسألة) (وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر والأفضل فعله يوم النحر فإن أخره عنه وعن أيام منى جاز) لهذا الطواف وقتان وقت فضيلة ووقت إجزاء فأما وقت الفضيلة فيوم النحر بعد الرمي والنحر(3/465)
والحلق لقول جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر.
وقد ذكرنا حديث عائشة قالت فأفضنا يوم النحر وقال ابن عمر أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر متفق عليهما، وإن أخره إلى الليل فلا بأس فإن ابن عباس وعائشة رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الزيارة إلى الليل رواهما أبو داود والترمذي وأما وقت الجواز فأوله من نصف الليل من ليلة النحر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة أولا طلوع الفجر يوم النحر وآخره آخر أيام النحر وهذا مبني على أول وقت الرمي وقد مضى الكلام فيه، واحتج على آخر وقته بأنه نسك يفعل في الحج فكان آخره محدوداً كالوقوف الرمي والصحيح أن آخر وقته غير محدود لأنه متى أتى به صح بغير خلاف وإنما
الخلاف في وجوب الدم فنقول طاف فيما بعد أيام النحر طوافاً صحيحاً فلم يلزمه دم كما لو طاف في أيام النحر وأما الوقوف والرمي فإنهما لما كانا موقتين كان لهما وقت يفوتان بفواته وليس كذلك الطواف فإنه متى أتى به صح (مسألة) ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو لم يكن سعى من طواف القدوم وإن كان قد سعى لم يسع لأن السعي الذي سعاه المتمتع إنما كان للعمرة فيشرع له أن يسعى للحج، وإن كان المفرد والقارن لم يسعيا مع طواف القدوم سعياً بعد طواف الزيارة لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف لكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى بعد الطواف وقال " خذوا عني مناسككم " وإن كان قد سعى مع طواف(3/466)
القدوم لم يسع فإنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الإنساك ولا نعلم فيه خلافاً، فأما الطواف فيستحب التطوع به لأنه صلاة (مسألة) (ثم قد حل له كل شئ) يعني إذا طاف للزيارة بعد الرمي والنحر والحلق وكان قد سعى حل له كل شئ حرمه الإحرام وقد ذكرنا أنه لم يكن بقي عليه من المحظورات سوى النساء فبهذا الطواف حل له النساء قال ابن عمر رضي الله عنهما: لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شئ حرم عنه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شئ حرم منه.
وعن عائشة رضي الله عنها مثله متفق عليهما ولا نعلم خلاف في حصول الحل بما ذكرناه على هذا الترتيب، فإن طاف ولم يكن سعى لم يحل حتى يسعى إن قلنا إن السعي ركن وإن قلنا هو سنة فهل يحل قبله على وجهين (أحدهما) يحل لأنه لم يبق عليه شئ من واجباته (والثاني) لا يحل لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرام الحج كالسعي في العمرة (فصل) قال الخرقي يستحب للمتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة أن يطوف طوافاً ينوي به القدوم ثم يسعى بين الصفا والمروة ثم يطوف طواف الزيارة لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك فإن(3/467)
الطواف الذي طافه في الأول كان طواف العمرة، وقد نص أحمد رحمه الله على ذلك في رواية الأثرم
قال قلت لأبي عبد الله فإذا رجع يعني المتمتع كم يطوف ويسعى؟ قال: يطول ويسعى لحجه ويطوف طوافاً آخر للزيارة.
عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا طواف القدوم فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد أيضا واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طافوا طوافاً واحداً.
فحمل أحمد رضي الله عنه قول عائشة على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطاً له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بصلاة الفرض قال شيخنا رحمه الله ولم أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد وأقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها من تحية المسجد ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ولا أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أحداً وحديث عائشة دليل على هذا فإنها قالت طافوا طوافاً واحداً بعد أن رجعوا من منى لحجتهم وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافاً آخر ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج لايتم إلا به وذكرت ما يستغني عنه وعلى كل(3/468)
حال فما ذكرت إلا طوافاً واحداً فمن أين يستدل على طوافين؟ وأيضاً فإنها لما حاضت فقرنت الحج إلى العرمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن طافت للقدوم لم تطف للقدوم ولا أمرها به النبي صلى الله عليه وسلم ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة ولأنه أول قدومه إلى البيت فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به وفي الجملة هذا الطواف المختلف فيه ليس بواجب إنما الواجب طواف واحد وهو طواف الزيارة وهو في حق المتمتع كهو في حق القارن والمفرد لا يتم الحج إلا به (فصل) والاطوفة المشروعة في الحج ثلاثة: طواف الزيارة وهو ركن لايتم الحج إلا به بغير
خلاف، وطواف القدوم وهو سنة لا شئ على تاركه، وطواف الوداع واجب يجب بتركه دم وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وقال مالك على تارك طواف القدوم دم ولا شئ على تارك طواف الوداع وحكي عن الشافعي كقولنا في طواف الوداع وكقوله في طواف القدوم وما زاد على هذه الاطوفة فهو نقل ولا يشرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه قال جابر لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول رواه مسلم ولا يكون السعي إلا بعد طواف وقد ذكرناه(3/469)
(فصل) ويستحب أن يدخل البيت فيكبر في نواحيه ويصلي فيه ركعتين ويدعو الله عزوجل قال ابن عمر رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت وبلال وأسامة بن زيد فقلت لبلال هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم قلت أين؟ قال بين العمودين تلقا وجهه قال ونيست أن أسأله كم صلى.
وقال ابن أسامة أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج متفق عليهما فقدم أهل العلم رواية بلال على رواية أسامة لأنه مثبت وأسامة ناف ولأن أسامة كان حديث السن فيجوز أن يكون أشتغل بالنظر إلى ما في الكعبة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن لم يدخل البيت فلا بأس فإن إسماعيل بن خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ قال لا متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع وهو كئيب فقال " إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي (مسألة) ويستحب أن يأتي زمزم فيشرب من مائها لما أحب ويتضلع منه قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون فناولوه دلواً فشرب منه.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ماء زمزم لما شرب له " وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال كنت عند ابن عباس جالساً فجاءه رجل فقال من أين جئت؟ قال من زمزم قال فشربت منها كما ينبغي؟ قال فكيف؟ قال إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثة من زمزم(3/470)
وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم(3/471)
لا يتضلعون من زمزم " رواهما ابن ماجة ويقول عند الشرب بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا، ورزقا واسعا ورياً(3/472)
وشبعاً وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأة من خشيتك وحكمتك (فصل) قال الشيخ رحمه الله (ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى) السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
متفق عليه والمبيت بمنى في لياليها واجب في إحدى الروايتين عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي.
روى ذلك عن ابن عباس وهو قول عروة ومجاهد وابراهيم وعطاء وروي عن عمربن الخطاب وبه قال مالك والشافعي (والثانية) ليس بواجب روى ذلك عن الحسن وروي عن ابن عباس إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه قد حل من حجه فلم يجب عليه المبيت بموضع معين كليلة الحصبة ووجه الرواية الأولى أن ابن عمر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن(3/473)
عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، متفق عليه وتخصيص العباس بالرخصة لعذره دليل على أنه لا رخصة لغيره وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته.
رواه ابن ماجه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكاً وقال " خذوا عني مناسككم " (مسألة) (ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع ثم يتقدم قليلاً فيقف يدعو الله تعالى ويطيل ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها بسبع ويقف عندها فيدعو ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويستبطن الوادي ولا يقف عندها ويستقبل القبلة في الجمرات كلها) وقد ذكرنا أن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة سبعة منها يرمي بها يوم النحر بعد طلوع
الشمس وباقيها في أيام التشريق الثلاثة بعد زوال الشمس كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث(3/474)
جمرات يبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة قريباً من مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في رمي جمرة العقبة ثم يتقدم منها إلى مكان لا يصيبه الحصى فيقف طويلاً يدعو الله تعالى رافعاً يديه ثم يتقدم إلى الوسطى فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة ويرميها بسبع ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها.
هذا قول الشافعي ولا نعلم في جميع ذلك خلافاً إلا أن مالكا قال: ليس بموضع لرفع اليدين وقد ذكرنا الخلاف فيه عند رؤية البيت وقال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسئل أيقوم الرجل عند الجمرتين إذا رمى؟ قال: أي لعمري شديداً ويطيل القيام أيضاً قيل: فإلى أين يتوجه في قيامه؟ قال إلى القبلة ويرميها من بطن الوادي، والأصل في هذا ماروت عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصا ويقف عند الأولى والثانية ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها.
رواه أبو داود، وعن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات يكر على أثر كل حصاة ثم يتقدم وستهل ويقوم قياماً طويلاً ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ويأخذ بذات الشمال ويستهل ويقوم مستقبل القبلة فياما طويلاً ثم يرفع يديه ويقوم طويلاً ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
رواه البخاري، وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه الذي(3/475)
دعا به بعرفة ويزيد وأصلح وأتم لنا مناسكنا وقال ابن المنذر كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً وسعياً مشكوراً.
وروى عبد الرحمن بن زيد قال: أفضت مع عبد الله فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويستبطن الوادي حتى إذا فرغ قال اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً، ثم قال: هكذا رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة صنع رواه الأثرم
(فصل) ولا يرمي إلا بعد الزوال فإن رمى قبل الزوال أعاد نص عليه وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال مالك والثوري والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي وعطاء إلا أن إسحاق وأصحاب الرأي رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال ولا ينفر إلا بعد الزوال وعن أحمد مثله ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمى بعد الزوال لقول جابر رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " وقال ابن عمر كنا نتحين إذا زالت الشمس رميناً، وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه إلا أن المستحب المبادرة إليها حين الزوال كما قال ابن عمر وقال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر مااذا فرغ من رميه صلى الظهر.
رواه ابن ماجه(3/476)
(فصل) فإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شئ عليه وبه قال الشافعي واسحاق وأبو حنيفة وعن الثوري أنه قال: يطعم شيئاً وإن أراق دما أحب إلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فيكون نسكاً ولنا أنه دعاء ووقوف مشروع فلم يجب بتركه دم كحالة رؤية البيت وكسائر الأدعية والنبي صلى الله عليه وسلم يفعل الواجبات والمندوبات وقد ذكرنا الدليل على أنه مندوب (مسألة) (والترتيب شرط في الرمي وفي عدد الحصا روايتان (إحداهما) سبع والأخرى يجزئه خمس) الترتيب في هذه الجمرات واجب على ما ذكرناه فإن نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم الثانية، ثم الأولى أو بدأ بالوسطى ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى نص عليه أحمد، وإن رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى أعاد القصوى وحدها.
وبه قال مالك، والشافعي وقال الحسن وعطاء لا يجب الترتيب وهو قول أبي حنيفة فإنه قال: إذا رمى منكساً يعيد.
فان لم يفعل أجزأه، واحتج بعضهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قدم نسكاً بين يدي نسك فلا حرج " ولأنها مناسك متكررة وفي أمكنه متفرقة في وقت واحد ليس بعضها تابعاً لبعض فلم يشترط الترتيب فيها كالرمي والذبح
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها في الرمي وقال " خذوا عني مناسككم " ولأنه نسك متكرر فاشترط الترتيب فيه كالسعي وحديثهم إنما هو فيمن يقدم نسكاً على نسك لا فيمن يقدم بعض النسك على بعض وقياسهم يبطل بالطواف والسعي(3/477)
(فصل) والأولى في الرمي أن لا ينقص عن سبع حصيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع فإن نقص حصاة أو حصاتين فلا بأس.
ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه وهو قول مجاهد وإسحاق وعنه إن رمى بست ناسياً فلا شئ عليه ولا ينبغي أن يتعمده فإن تعمد ذلك تصدق بشئ.
وكان ابن عمر يقول ما أبالي رميت بست أو سبع.
قال ابن عباس: ما أدري رماها النبي صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع، وعن أحمد أن عدد السبع شرط ويشبه مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع.
وقال أبو حية: لا بأس بما رمي به الرجل من الحصى، فقال عبد الله بن عمرو: صدق أبو حية.
وكان أبو حية بدريا.
ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال: سئل طاوس عن رجل ترك حصاة، قال: يتصدق بتمرة أو لقمة، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: أن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول رميت بست وبعضنا بسبع فلم يعب ذلك بعضنا على بعض.
رواه الأثرم وغيره (مسألة) (فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى لإخلاله بالترتيب فإن لم يعلم من أي الجمار تركها بني على اليقين ليتيقن براءة الذمة، فإن أخل بحصاة غير واجبة لم يؤثر تركها)(3/478)
(مسألة) (وإن أخر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه ويرتبه بنيته، وإن أخره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى في لياليها فعليه دم، وفي حصاة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة) إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة ولا شئ عليه(3/479)
إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، وبذلك قال الشافعي وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً إلى الغد وعليه لكل حصاة نصف صاع، وإن ترك أربعاً رماها وعليه دم ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي فإذا أخره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شئ كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته، قال القاضي: ولا يكون رميه في اليوم الثاني قضاء لأنه وقت واحد فإن سمي قضاء بالمراد به الفعل كقوله تعالى (ثم ليقضوا تفثهم) وقولهم قضيت الدين.
والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد وإنما قلنا يلزمه الترتيب بنيته لأنها عبادة يجب الترتيب فيها إذا فعلها في أيامها فوجب ترتيبها مجموعة كالمجموعتين والفوائت من الصلوات (فصل) فإن أخره عن أيام التشريق فعليه دم لأنه ترك نسكاً واجباً فيجب عليه دم لقول ابن عباس: من ترك نسكاً أو نسيه فإنه يهرق دماً.
ولأن آخر وقت الرمي آخر أيام التشريق فمتى خرجت قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء الواجب في ترك الرمي هذا قول أكثر أهل العلم.
وعن عطاء فيمن رمى جمرة العقبة وخرج إلى إبله في ليلة أربع عشرة ثم رمى قبل طلوع الفجر أجزأه فإن لم يرم فعليه دم والأول أولى لأن محل الرمي النهار فيخرج وقت الرمي بخروج النهار وكذلك إن ترك المبيت بمنى في لياليها وهذا مبني على الرواية في وجوب المبيت بمنى، وعن أحمد أنه لا شئ عليه وقد أساء.
وهو قول أصحاب الرأي لأن الشرع لم يرد فيه بشئ، وعنه يطعم شيئاً وخففه ثم قال: قد قال بعضهم ليس عليه.
وقال إبراهيم عليه دم وضحك ثم قال دم بمرة شدد وبمرة (1) قلت ليس إلا أن يطعم شيئاً قال نعم يطعم شيئاً تمراً أو نحوه فعلى هذا أي شئ تصدق به أجزأه، ولا فرق بين ليلة أو أكثر لأنه لا تقدير فيه، وفيما دون الثلاث ثلاث روايات (إحداهن) في كل واحدة مد (والثانية) درهم (والثالثة) نصف درهم.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا لا نظير له فإنا لا نعلم في ترك شئ من المناسك درهماً ولا نصفاً فايجابه بغير نص تحكم لا وجه له.
وفي ترك حصاة من رمي الجمار كذلك ولانه في معناه وقد ذكرنا ما في حلق الشعرة فيما مضى وذكرنا الخلاف
(مسألة) (وليس على أهل سقاية الحاج ولا الرعاة مبيت بمنى فإن غربت الشمس وهم بمنى لزم الرعاة المبيت دون أهل السقاية) لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم إن يبيت بمكة ليالي منى من أجل(3/480)
سقايته.
متفق عليه.
وقد روى مالك بإسناده عن أبي البداح بن عاصم عن أبيه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما.
قال مالك ظننت أنه قال في أول يوم منهما ثم يرمون يوم النفر.
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه ابن عيينة قال رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً وكذلك الحكم في أهل سقاية الحاج إلا أن الفرق بين الرعاء وأهل السقاية أن الرعاء إذا قاموا حتى غربت الشمس لزمهم المبيت إذا قلنا بوجوبه وأهل السقاية لا يلزمهم لأن الرعاء إنما رعيهم بالنهار فإذا غربت الشمس انقضى وقت الرعي وأهل السقاية يستقون بالليل، وصار الرعاء كالمريض الذي يسقط عنه حضور الجمعة لمرضه فإذا حضرها تعينت عليه كذلك الرعاء أبيح لهم ترك المبيت لأجل الرعي فإذا فات وقته وجب المبيت، وأهل الأعذار من غير الرعاء كالمرضى ومن له مال يخاف ضياعه ونحوهم كالرعاء في ترك البيتوتة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهؤلاء تنبيها على غيرهم فوجب إلحقاهم بهم لوجود المعنى فيهم (فصل) ومن كان مريضاً أو محبوساً أو له عذر جاز أن يستنيب من يرمي عنه.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله إذا رمى عنه الجمار يشهد هو ذاك أم يكون في رحله؟ قال يعجبني أن يشهد ذاك إن قدر حين يرمى عنه.
قلت فإن ضعف عن ذلك يكون في رحله ويبعث من يرمي عنه؟ قال: نعم قال القاضي: المستحب أن يضع الحصى في يد النائب ليكون له عمل في الرمي.
وإن أغمي على المستنيب لم تنقطع النيابة وللنائب الرمي عنه كما لو استنابه في الحج ثم أغمي عليه وبما ذكرنا في هذه المسألة قال الشافعي ونحوه قال مالك إلا أنه يتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات (فصل) ومن ترك الرمي من غير عذر فعليه دم.
قال أحمد: أعجب إلي إذا ترك رمي الأيام كلها كان عليه دم وفي ترك جمرة واحدة دم أيضاً نص عليه أحمد وبه قال عطاء والشافعي وأصحاب
الرأي.
وحكي عن مالك أنه عليه في جمرة وفي الجمرات كلها بدنة.
وقال الحسن: من نسي جمرة واحدة يتصدق على مسكين ولنا قول ابن عباس: من ترك شيئاً من مناسكه فعليه دم.
ولأنه ترك من مناسكه مالا يفسد الحج بتركه فكان الواجب عليه شاة كالمبيت.
وإن ترك أقل من جمرة فالظاهر عن أحمد أنه لا شئ في حصاة ولا حصاتين، وعنه أنه يجب الرمي بسبع فإن ترك شيئاً من ذلك تصدق بشئ أي شئ كان.
وعنه أن في حصاة دما وهو مذهب مالك والليث لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من ترك(3/481)
شيئاً من مناسكه فعليه دم، وعنه في الثلاثة دم وهو مذهب الشافعي وفيما دون ذلك في كل حصاة مد وعنه درهم وعنه نصف درهم.
وقال أبو حنيفة: إن ترك جمرة العقبة والجمار كلها فعليه دم وإن ترك أقل من ذلك فعيه في كل حصاة نصف صاع إلى أن يبلغ دما وقد ذكرنا ذلك (فصل) ويستحب أن لا يدع الصلاة مع الإمام في مسجد منى لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمنى، قال ابن مسعود رضي الله عنه: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر وعثمان ركعتين صدرا من إمارته، فإن كان الاما غير مرضي صلى المرء برفقته في رحله (مسألة) ويخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر وقال أبو حنيفة لا يستحب قياساً على اليومين الآخرين ولنا ماروي عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أواسط أيام التشريق ونحن عند راحلته، رواه أبو داود.
ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم كيف يتعجلون وكيف يودعون بخلاف اليوم الأول والثالث(3/482)
(مسألة) فمن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس وهو بمنى لزمه المبيت والرمي من الغد) أجمع أهل العلم على أن من أراد الخروج من منى شاخصاً عن الحرم غير مقيم بمكة أن له أن ينفر
بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق فإن أحب الإقامة بمكة فقال أحمد: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.
وقال مالك: يقول في أهل مكة من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا.
واحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر رضي الله عنه: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في النفر الأول إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الآخر.
جعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر: إلا آل خزيمة.
أي أنهم أهل الحرم.
والمذهب جواز النفر في النفر الاول لكل أحد وهو قول عامة العلماء لقول الله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) قال عطاء هي للناس عامة، وروى أبو داود وابن ماجة عن يحيى بن يعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيام منى ثلاثة فمن تعجل فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " قال ابن عيينة هذا أجود حديث رواه سفيان، وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك وفيه زيادة أنا اختصرته، ولأنه دفع من مكان فاستوى فيه أهل مكة وغيرهم كالدفع من عرفة ومزدلفة، وكلام أحمد في هذا أراد به الاستحباب موافقة لقول عمر، فمن أحب التعجيل في النفر الأول خرج قبل غروب الشمس فإن غربت قبل خروجه من منى لم ينفر سواء كان ارتحل أو لم يرتحل، هذا قول ابن عمر وجابر وعطاء وطاوس ومجاهد ومالك والثوري والشافعي واسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: له ان ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث لأنه لم يدخل وقت رمي اليوم الآخر فجاز له النفر كما قبل الغروب ولنا قوله سبحانه (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) واليوم اسم للنهار فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين، قال إبن المنذر: ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس.
وما قاسوا عليه لا يشبه ما نحن فيه فإنه تعجل في يومين(3/483)
(فصل) قال بعض أصحابنا يستحب لمن ينفر أن يأتي المحصب وهو الأبطح وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يهجع يسيراً ثم يدخل مكة، وكان ابن عمر يرى التحصيب سنة، قال إبن المنذر كان ابن عمر يصلي بالمحصب الظهر والعصر والمغرب والعشاء
وكان كثير الإتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان طاوس يحصب في شعب الجور، وكان ابن عباس وعائشة لا يريان ذلك سنة، قال ابن عباس رضي الله عنهما التحصيب ليس بشئ إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة رضي الله عنها أن نزول الأبطح ليس بسنة إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه إذا خرج، متفق عليهما، ومن استحب ذلك فلاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينزله، قال نافع كان ابن عمر يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ويذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وقال ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ينزلون الأبطح قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، ولا خلاف انه لا يجب ولا شئ على تاركه (فصل) ويستحب لمن حج أن يدخل البيت وقد ذكرناه ولا يدخله بنعليه ولا خفيه ولا إلى الحجر لأنه من البيت ولا يدخل الكعبة بسلاح قال أحمد وثياب الكعبة إذا نزعت يتصدق بها وقال إذا أراد أن يستشفي بشئ من طيب الكعبة فيأت بطيب من عنده فليزقه على البيت بحيث يأخذه ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً ولا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل فيه من الحل كذلك قال ابن عمر وابن عباس ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل والخروج أشد إلا أن ماء زمزم أخرجه كعب (فصل) قال أحمد رضي الله عنه كيف لنا بالجوار بمكة قال النبي صلى الله عليه وسلم " والله إنك لأحب البقاع إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " وإنما كره عمر الجوار بمكة لمن هاجر منها، وجابر ابن عبد الله جاور بمكة وجميع أهل البلاد ومن كان من أهل اليمن ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر أي لا بأس به وابن عمر كان يقيم بمكة قال والمقام بالمدينة أحب إلي من المقام بمكة لمن قوي عليه لأنها مهاجر المسلمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت شفيعاً له يوم القيامة "(3/484)
(مسألة) فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره) وجملة ذلك أن من أتى مكة فلا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع عليه لأن الوداع من المفارق وسواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط عنه الطواف
ولنا أنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر وانما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " وهذا ليس بنافر فأما الخارج من مكة فليس له الخروج حتى يودع البيت بطواف سبع وهو واجب يجب بتركه دم وبه قال الحسن والحكم وحماد والثوري واسحاق وأبو ثور.
وقال الشافعي في قول لا يجب بتركه شئ لأنه يسقط عن الحائض فلم يكن واجباً كطواف القدوم ولنا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
متفق عليه.
ولمسلم قال كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " وسقوطه عن المعذور لا يوجب سقوطه عن غيره كالصلاة تسقط عن الحائض، وتجب على غيرها بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها(3/485)
دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطاً عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك.
معنى إذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ووقته بعد فراغ الحاج من جميع ما أمره ليكون آخر عهده بالبيت كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وإخوانه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليكون آخر عهده بالبيت " ولأنه خارج من الحرم فلزمه التوديع كالبعيد (مسألة) فإن ودع ثم اشتغل في تجارة أو أقام أعاد الوداع لأن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت.
فإن اشتغل بعده بتجارة أو إقامة فعليه إعادته هذا قول عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي إذا طاف للوداع أو طاف تطوعا بعد ماحل له النفر أجزأه عن طواف الوداع.
وإن أقام شهراً لأنه طاف بعد(3/486)
ماحل له النفر فلم تلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه ولنا قوله عليه السلام " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " ولأنه إذا قام بعده خرج
عن أن يكون وداعاً في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر.
فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت.
وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً (مسألة) (فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأه عن طواف الوداع) هذا ظاهر المذهب لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت.
وقد فعل ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وركعتا الطواف والإحرام يجزئ عنهما المكتوبة، وعنه لا يجزئ عن طواف الوداع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجز إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين فأما إن نوى بطوافه الوداع لم يجزه عن طواف الزيارة لقوله عليه السلام " وإنما لكل امري ما نوى " وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة على ما نذكره إن شاء الله تعالى (مسألة) (فان خرج قبل الوداع رجع إليه.
فان لم يمكنه فعليه دم إلا الحائض والنفساء لا وداع عليهما) من خرج قبل الوداع فعليه الرجوع إن كان قريباً وإن أبعد فعليه دم هذا قول عطاء والثوري والشافعي، واسحاق وأبي ثور.
والقريب من كان من مكة دون مسافة القصر.
والبعيد مسافة القصر فما زاد.
نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريباً: وقال الثوري حد ذلك الحرم.
فمن كان فيه فهو قريب.
ومن خرج منه فهو بعيد(3/487)
ولنا أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يفطر ولا يقصر ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام ومن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم ولا فرق بين تركه عمداً أو خطأ لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطأه والمعذور وغيره كسائر واجباته.
فإن رجع البعيد فطاف للوداع.
فقال القاضي لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه.
وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له
عذر يسقط عنه الرجوع أولا لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحائض ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب (فصل) وإذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان تجاوزه إلا محرماً لأنه ليس من أهل الاعذار فليزمه طواف لإحرامه بالعمرة، والسعي، وطواف الوداع وفي سقوط الدم عنه الخلاف المذكور وإن كان من دون الميقات أحرم من موضعه.
فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فأما أن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد أحب إلي أن لا يدخل إلا محرماً وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، إنما دخل لحاجة غير متكررة أشبه من يدخلها للإقامة بها(3/488)
(فصل) والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا فدية كذلك هذا قول عامة أهل العلم.
وقد روي عن عمر وابنه رضي الله عنهما أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع وكان زيد بن ثابت يقول به ثم رجع عنه.
فروى مسلم أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا.
قال طاوس كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت يفتي: أن لاتصدر الحائض حتى يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: أما لا تسأل فلانه الأنصارية هل أمرها بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول.
ما أراك إلا قد صدقت، وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضاً، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا: يارسول الله إنها حائض فقال " أحابستنا هي؟ " قالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت يوم النحر.
قال " فلتنفر إذا " ولم يأمرها بفدية ولا غيرها.
وفي حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، وحكم النفساء حكم الحائض لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يجب ويسقط (فصل) إذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان وجعت فاغتسلت وودعت لأنها في حكم الإقامة لانها لا تستبيح الرخص.
فإن لم تمكنها الإقامة فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم
فأما إن فارقت البنيان لم يجب عليها الرجوع لخروجها عن حكم الحاضر فإن قيل فلم لا يجب الرجوع ما دامت قريبة كالخارج لغير عذر؟ قلنا هناك ترك واجباً فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة(3/489)
القصر لأنه يكون انشاء سفر طويل غير الأول وههنا لم يكن واجباً ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيماً (مسألة) (فإذا فرغ من الوداع وقف في الملتزم بين الركن والباب) يستحب أن يقف المودع في الملتزم وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة فيلتزمه ويلصق به صدره ووجهه ويدعو الله عزوجل.
لما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: طفت مع عبد الله.
فما جاء دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ.
قال نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطها بسطا وقال.
هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم.
رواه أبو داود.
وقال منصور سألت مجاهداً إذا أردت الوداع كيف أصنع؟ قال: تطوف سبعاً وتصلي ركعتين خلف المقام، ثم تأتي زمزم فتشرب منها ثم تأتي الملتزم ما بين الباب والحجر فتستلمه ثم تدعو ثم تسأل حاجتك ثم تستلم الحجر وتنصرف.
وقال بعض أصحابنا يقول في دعائه: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على(3/490)
آداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك.
اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شئ قدير.
وعن طاوس قال: رأيت
أعرابياً أتى المتلزم فتعلق باستار الكعبة فقال: بك أعوذ وبك ألوذ، اللهم فاجعل لي في اللهف إلى جودك، والرضى بضمانك، مندوحاً عن منع الباخلين، وغنى عما في أيدي المستأثرين.
اللهم فرجك القريب ومعروفك التام وعادتك الحسنة.
ثم أضلني في الناس فألفيته بعرفات قائماً وهو يقول: اللهم إن كنت لم تقبل حجتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم أعظم مصيبة ممن ورد حوضك وانصرف محروماً من وجه رغبتك.
وقال آخر: ياخير موفود إليه، قد ضعفت قوتي، وذهبت منتي، وأتيت إليك بذنوبي لا تسعها البحار أستجير برضاك من سخطك، وبعفوك عن عقوبتك، رب ارحم من شملته الخطايا، وغمرته الذنوب، وظهرت منه العيوب، ارحم أسير ضر، وطريد فقر، أسألك أن تهب لي عظيم جرمي، يا مستزاداً من نعمه، ومستعاذاً من نقمه، ارحم صوت حزين دعاك بزفير وشهيق.
اللهم إن كنت بسطت إليك يدي داعياً، فطالما كفيتني ساهياً، فنعمتك التي تظاهرت علي عند الغفلة، لا أيأس منها عند التوبة، فلا تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف، وهب لي الإصلاح في الولد،(3/491)
والامن في البلد.
والعافية في الجسد، إنك سميع مجيب، اللهم إن لك علي حقوقاً فتصدق بها علي، وللناس قبلي تبعات فتحملها عني: وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة.
اللهم إن سائلك عند بابك من ذهبت أيامه، وبقيت آثامه، وانقطعت شهوته، وبقيت تبعته، فارض عنه وإن لم ترض عنه فاعف عنه، فقد يعفو السيد عن عبده وهو غير راض عنه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألا إن المرأة إذا كانت حائضا أو نفساء لم تدخل المسجد ووقفت على بابه فدعت بذلك (فصل) قال أحمد: إذا ودع البيت يقوم عند الباب إذا خرج ويدعو فإذا تلا لا يقف ولا يلتفت فإن التفت رجع وودع، وروى حنبل في المناسك عن المهاجر قال قلت لجابر بن عبد الله: الرجل يطوف بالبيت ويصلي فإذا انصرف خرج ثم استقبل القبلة فقام فقال: ما كنت أحسب يصنع هذا إلا اليهود والنصاري قال أبو عبد الله أكره ذلك، وقول أبي عبد الله إن التفت رجع فودع على سبيل الاستحسان إذ لا نعلم لا بجاب ذلك عليه دليلاً.
وقد قال مجاهد هذا إذا كدت تخرج من باب المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة ثم قل: اللهم لا تجعله آخر العهد
(فصل) فإن خرج قبل طواف الزيارة رجع حراماً حتى يطوف بالبيت لأنه ركن لايتم الحج إلا به ولا يحل من إحرامه حتى يفعله، فمتى لم يفعله لم ينفك إحرامه ورجع متى أمكنه محرماً لا يجزئه غير(3/492)
ذلك، وبذلك قال عطاء والثوري ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر وقال الحسن يحج من العام المقبل، وحكي نحو ذلك عن عطاء أيضاً ولنا قول البني صلى الله عليه وسلم حين ذكر له أن صفية حاضت قال " أحابستنا هي؟ " قيل إنها قد أفاضت يوم النحر قال " فلتنفر إذاً " يدل على أن هذا الطواف لابد منه وأنه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل ورفض إحرامه لم يحل بذلك لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج، ومتى رجع إلى مكة فطاف بالبيت حل بطوافه لأن الطواف لا يفوت وقته على ما قدمناه (فصل) وترك بعض الطواف كترك الجميع فيما ذكرنا وسواء ترك شوطاً أو أقل أو أكثر وهذا قول عطاء ومالك والشافعي واسحاق وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي من طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة وطواف العمرة وسعى بين الصفا والمروة ثم رجع إلى الكوفة أن سعيه يجزئه وعليه دم لما ترك من الطواف بالبيت ولنا أن ما أتى به لا يجزئه إذا كان بمكة فلم يجزئه إذا خرج منها كما لو طاف دون أربعة أشواط (فصل) فإن ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة لم يبق محرماً إلا عن النساء خاصة لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي الجمرة فحل له كل شئ إلا النساء فإن وطئ لم يفسد حجة ولم تجب عليه بدنة لكن على دم ويجدد إحرامه ليطوف في إحرام صحيح وفي ذلك اختلاف ذكرناه فيما مضى(3/493)
(مسألة) (فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما) تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي " وفي رواية " من زار قبري وجبت له شفاعتي " رواه باللفظ الأول سعيد، وقال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن
قسيط عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مامن أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " قال وإذا حج الذي لم يحج قط يعني من غير طريق الشام لا يأخذ على طريق المدينة لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أقصد الطرق، ولا يتشاغل بغيره، ويروى عن العتبي قال.
كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يارسول الله سمعت الله يقول (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك متسغفرا من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن البان والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عتبي " الحق الأعرابي فبشره إن الله قد غفر له "(3/494)
ويستحب لمن دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ثم يقول: بسم الله والصلاة علي رسول الله، اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال مثل ذلك إلا أنه يقول وافتح لي أبواب فضلك لما روي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد، ثم تأتي القبر فتولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والسلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه وعباده، أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيراً كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحداً من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد أتيتك مستغفراً من ذنوبي مستشفعاً بك إلى ربي فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم أجعله(3/495)
أو الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين برحمتك يا أرحم الراحيمين.
ثم يدعو لوالديه ولا خوانه وللمسلمين أجمعين ثم يتقدم قليلاً ويقول: السلام عليك يا أبا بكر الصدق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ووزيريه ورحمه الله وبركاته، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيراً (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك صلى الله عليه وسلم ومن حرم مسجدك يا أرحم الراحمين (فصل) ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقبيله، قال أحمد رحمه الله ما أعرف هذا، قال الأثرم رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقومون من ناحية فيسلمون، قال أبو عبد الله وهكذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل.
قال أما المنبر فقد جاء فيه ما رواه إبراهيم بن عبد الله بن عبد القارئ أنه نظر إلى ابن عمر وهو يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم يضعها على وجه (فصل) ويستحب لمن رجع من الحج أن يقول ماروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثم يقول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون ما بدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وصلى الله على محمد(3/496)
وسلم، روى سعيد ثنا هشيم أنا ليث عن ثكير بن جعفر عن ابن عمر أنه قال: يقال إذا قدم الحاج تقبل الله نسكك، وأعظم أجرك، وأخلف نفقتك (فصل) في صفة العمرة قال الشيخ رحمه الله (من كان في الحرم خرج إلى الحل فأحرم منه) من أراد العمرة من أهل الحرم فخرج إلى الحل فأحرم منه وكان ميقاتاً له، لا نعلم فيه خلافاً
والأفضل أن يحرم من التنعيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم وقال ابن سيرين بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم، وإنما لزم الإحرام من الحل ليجمع في النسك بين الحل والحرم، ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أعمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة، وقد روي عن أحمد في المكي كلما تباعد في العمرة فهو أعظم للأجر هي على قدر تعبها (مسألة) (فإن أحرم من الحرم لم يجز وينعقد وعليه دم) وذلك لتركه الإحرام من الميقات، فإن خرج قبل الطواف ثم عاد أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم، وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صح أيضاً لأنه قد أتى بأركانها، وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها وقد جبره فأشبه من أحرم دون الميقات بالحج وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي (والقول الثاني) لا تصح عمرته(3/497)
لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ويسعى، وإن حلق قبل ذلك فعليه دم، وكذلك كل ما فعله من محظورات إحرامه عليه فديه، وإن وطئ أفسد عمرته ويمضي في فاسده وعليه دم لا فسادها ويقضيها بعمرة من الحل، فإن كانت العمرة التي أفسدها عمرة الإسلام أجزأه قضاؤها عن عمرة الإسلام وإلا فلا (مسألة) (ثم يطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر، ثم قد حل) لأن هذا أفعال العمرة فحل بفعلها كحله من الحج بأفعاله وهل يحل قبل الحلق والتقصير؟ على روايتين أصلهما هل الحلق والتقصير نسك أو ليس بنسك؟ فان قلنا انه نسك لم يحل قبله كالرمي، وإن قلنا ليس بنسك، بل إطلاق من محظور حل قبله كاللبس والطيب وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في الحج وهذا مقاس عليه (مسألة) (وتجزئ عمرة القارن والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين) لا نعلم في إجزاء عمرة المتمتع خلافاً كذلك قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وروى عن أحمد أن عمرة القارن لاتجزئ اختاره أبو بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة
رضي الله عنها حين حاضت من التنعيم، ولو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها " أعمرها بعدها، ولأنها ليست عمرة تامة لأنه لا طواف لها؟ وعنه أن العمرة من أدنى الحل لا تجزئ عن العمرة الواجبة قال إنما هي من أربعة أميال وثوابها على قدر تعبها، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله(3/498)
ما كانت عمرة إنما كانت زيارة، وإذا لم تكن تامة لم تجزئ لقوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) قال علي رضي الله عنه: اتمامهما أن تأتي بهما من دويرة أهلك ووجه الأولى قول الضبي بن معبد إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، فقال عمر رضي الله عنه هديت لسنة نبيك، وحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم حين حلت منهما " قد حللت من حجك وعمرتك " وإنما أعمرها من التنعيم قصداً لتطييب قلبها واحابة مسألتها لا لأنها كانت واجبة عليها، ثم إن لم تكن أجزأتها عمرة القران فقد أجزأتها العمرة من أدنى الحل وهي أحد ما قصدنا الدلالة عليه، ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة فأجزأته كعمرة المتمتع، ولأن عمرة القارن أحد النسكين للقارن فأجزأت كالحج، ولأن الحج من مكة يجزئ في حق المتمتع فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى، وإذا كان الطوا ف المجرد يجزئ عن العمرة في حق المكي فلأن تجزئ العمرة المشتملة على الطوا ف وغيره أولى (مسألة) (ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً) روى ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء وطاوس وعكرمة والشافعي، وكره العمرة في السنة مرتين الحسن وابن سيرين ومالك، قال النخعي ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله(3/499)
ولنا أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العرمة إلى العمرة كفارة لما بينهما " متفق عيه، وقال علي رضي الله عنه في كل شهر مرة، وكان أنس إذا حمم رأسه خرج فاعتمر رواهما الشافعي في مسنده، وقال عكرمة يعتمر
إذا مكن الموسى من شعره، وقال عطاء إن شاء اعتمر في كل شهر مرتين، فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما فلا يستحب في ظاهر قول السلف الذي حكيناه، وكذلك قال أحمد إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، وفي عشرة أيام يمكن حلق الرأس، فظاهر هذا أنه لا يستحب أن يعتمر في أقل من عشرة أيام، وقال في رواية الأثرم إن شاء اعتمر في كل سنة، وقال بعض أصحابنا يستحب الإكثار من الاعتمار كالطواف.
قال شيخنا رحمه الله وأحوال السلف وأقوالهم على ما قلناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنقل عنه الموالاة بينهما، وإنما نقل عن السلف إنكار ذلك والحق في اتباعهم، قال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أم يعذبون، قيل له فلم يعذبون؟ قال لأنه يدع الطواف بالبيت ويخرج إلى أربعة أميال ويجئ، وإلى أن يجئ من أربعة أميال قد طاف مائة طواف وكلما طاف بالبيت كان افضل من أن يمشي في غير شئ (فصل) روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان تعدل حجة " متفق عليه، قال أحمد من أدرك يوما من رمضان فقد أدرك عمرة رمضان وقال إسحاق معنى(3/500)
هذا الحديث مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن " وقال أنس رضي الله عنه حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة وحدة واعتمر أربع عمر: واحدة في ذي القعدة وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانه إذا قسم غنائم حنين.
متفق عليه، وقال أحمد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، قال وروي عن مجاهد أنه قال حج قبل ذلك حجة أخرى وما هو يثبت عندي وروي عن جابر رضي الله عنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر وهذا حديث غريب (فصل) وروي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تابعوا بين الحج والعمرة فانها ينفيان العقر والذنوب كما ينفي الكبر خبث الحديث والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة(3/501)
ثواب إلا الجنة " قال الترمذي حسن صحيح، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أتى
هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه ولدته أمه " متفق عليه (فصل) قال رضي الله عنه (أركان الحج الوقوف بعرفة وطواف الزيارة، وعنه أنها أربعة الوقوف والطواف والإحرام والسعي، وعنه أنها ثلاثة وأن السعي سنة، واختار القاضي أنه واجب وليس بركن) الوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به إجماعاً، وقد روى الثوري عن بكير بن عطاء الليثي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا يارسول(3/502)
الله: كيف الحج؟ قال " الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه " رواه أبو داود، قال محمد بن يحيى ما أري للثوي حديثاً أشرف منه.
وطواف الزيارة أيضاً ركن للحج لا يتم إلا به، قال ابن عبد البر هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء لقول الله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) (فصل) واختلفت الرواية في الإحرام والسعي، فروي عنه أن الإحرام ركن لأنه عبارة عن نية الدخول في الحج فلم يتم بدونها لقوله عليه السلام " إنما الأعمال بالنيات " وكسائر العبادات،(3/503)
وعنه أنه ليس بركن لحديث الثوري الذي ذكرناه، وأما السعي فروي عنه أنه ركن لايتم الحج إلا به وهو قول عائشة وعروة ومالك والشافعي لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون يعني بين الصفا والمروة فكانت سنة فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمرة.
رواه مسلم، وعن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت: دخلت مع نسوه من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه حتى أني أقول إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " رواه ابن ماجه، ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركناً فيها كالطواف بالبيت وعن أحمد أنه سنة لا دم في تركه، روى ذلك عن ابن عباس وأنس وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه فإن هذا رتبة
المباح، وإنما تثبت سنته بقوله (من شعائر الله) وروي أن في مصحف أبي وابن مسعود (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه نسك معدود لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركناً كالرمي، واختار القاضي أنه واجب وليس ركن لكن يجب بتركه دم وهو قول الحسن وأبي حنيفة والثوري وهذا أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لاعلى أنه لايتم إلا به، وقول عائشة في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة، وحديث بنت أبي تجراة يرويه عبد الله(3/504)
ابن المؤمل وقد تكلموا في حديثه ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب، فأما الآية فإنما نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية لأجل صنمين كانا على الصفا والمروة كذلك قالت عائشة وهذا أوسط الأقوال وهو اختيار شيخنا (مسألة) (وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي والحلق أو التقصير، وطواف الوداع) وفي ذلك اختلاف ذكرناه فيما منضى وذكرنا الدليل عليه وما عدا هذا سنن وهو الاغتسال وطواف القدوم، والرمل والاضطباع، واستلام الركنين وتقبيل الحجر والاسرع والمشي في مواضعها(3/505)
والخطب والإذكار والدعاء والصعود على الصفا والمروة، وسائر ما ذكرناه غير الأركان والواجبات وأركان العمرة الطواف قياساً على الحج، وفي الإحرام والسعي روايتان على ما ذكرنا في الحج واجبها الحلق أو التقصير في إحدى الروايتين بناء على الحلق في الحج وسنتها الغسل والدعاء والذكر والسنن التي في الطواف، فمن ترك ركناً لم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً فعليه دم، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه مفصلاً، ومن ترك سنة فلا شئ عليه لأنها ليست واجبة فلم يجب جبرها كسنن سائر العبادات والله تعالى أعلم(3/506)
(باب الفوات والاحصار) (مسألة) (ومن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج ويتحلل بطواف وسعي وعنه ينقلب إحرامه لعمرة ولا قضاء عليه إلا أن يكون فرضاً وعنه عليه القضاء) الكلام في هذه المسألة في ثلاثة أمور (أولها) إن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر، فمن لم يدرك الوقوف حتى طلع الفجر يومئذ فاته الحج لا نعلم فيه خلافاً، قال جابر رضي الله عنه لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال نعم رواه الأثرم؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه " يدل على فواته بخروج ليلة جمع (الثاني) إن من فاته الحج يتحلل بطواف وسعي وحلق هذا الصحيح من المذهب، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال ابن أبي موسى في المسألة روايتان(3/507)
(إحداهما) كما ذكرنا (والثانية) يمضي في حج فاسد وهو قول المزني قال يلزمه أفعال الحج لأن سقوط ما فات وقته لايمنع وجوب ما لم يفت ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف له مخالفا فكان إجماعا، وروى الشافعي في مسنده أن عمر رضي الله عنه قال لأبي أيوب حين فاته الحج اصنع مايصنع المعتمر ثم قد حللت فإن ادركت الحج قابلاً فحج واهد ما استيسر من الهدي، وروى النجاد بإسناده عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة وليحج من قابل " ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى إذا ثبت هذا فظاهر كلام الخرقي أنه يجعل إحرامه بعمرة وقد نص عليه أحمد واختاره أبو بكر وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعطاء وأصحاب الرأي، وعنه لا يصير إحرامه بعمرة، بل يتحلل بطواف وسعي وحلق وهو مذهب مالك والشافعي لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى(3/508)
الآخر كما لو أحرم بالعمرة، ويحتمل أن من قال يجعل إحرامه بعمرة أراد أنه يفعل فعل المعتمر من الطواف والسعي فلا يكون بين القولين خلاف، ويحتمل أنه يصير إحرامه بحج إحراماً بعمرة بحيث تجزئه عن عمرة الإسلام إن لم يكن اعتمر، ولو أدخل الحج عليها لصار قارناً إلا أنه لا يمكنه الحج بذلك الإحرام إلا أنه يصير محرماً به في غير أشهره فيكون كمن أحرم بالحج في غير أشهره، ولأن قلب الحج إلى العمرة يجوز من غير سبب على ما قررناه في فسخ الحج فمع الحاجة أولى، ويخرج على هذا قلب العمرة إلى الحج فإنه لا يجوز، ولأن العمرة لا يفوت وقتها ولا حاجة الى انقلاب إحرامها بخلاف الحج (الأمر الثالث) في وجوب القضاء وفيه روايتان (إحداهما) يجب سواء كان الفائت واجباً أو تطوعاً اختاره الخرقي، ويروى ذلك عن عمر وابنه وزيد وابن عباس وابن الزبير ومروان وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي (والثانية) لاقضاء عليه، بل إن كانت فرضاً فعلها بالوجوب السابق وتسقط إن كانت نفلا، روي هذا عن عطاء وهو إحدى الروايتين عن مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة قال مرة واحدة(3/509)
ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة، ولأنه معذور في ترك إتمام حجه فلم يلزمه القضاء كالمحصر، ولأنها عبادة تطوع فلم يجب قضاؤها إذا فاتت كسائر التطوعات ووجه الأولى ما ذكرناه من الحديث واجماع الصحابة، وروى الدارقطي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فاته عرفات فقد فاته الحج فليتحلل بعمرة وعليه الحج من قابل " ولأن الحج يلزمه بالشروع فيه فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات، وأما الحديث فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة وهذه إنما تجب بإيجابه لها بالشروع فيها فهي كالمنذور، وأما المحصر فإنه غير منسوب إليه التفريط بخلاف من فاته الحج على أن في المحصر رواية أنه يجب عليه القضاء فهو كمسئلتنا، وإذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم فيه خلافاً لأن الحجة المقضية لو تمت لأجزأت عن الواجبة عليه فكذلك قضاؤها لأن القضاء يقوم مقام الاداء
(مسألة) (وهل يلزمه هدي؟ على روايتين (إحداهما) عليه هدي يذبحه في حجة القضاء إن(3/510)
قلنا عليه قضاء وإلا ذبحه في عامة) يجب الهدي على من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة والفقهاء إلا أصحاب الراي فإنهم قالوا لاهدي عليه وهي الرواية الثانية عن احمد لأنه لو كان الفوات سبباً لوجوب الهدي لزم المحصر هديان للفوات والاحصار ولنا حديث عطاء وإجماع الصحابة ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي كالمحصر والمحصر لم يفت حجه لأنه يحل قبل فواته، إذا ثبت هذا فإنه يخرج الهدي في سنة القضاء إن قلنا بوجوبه وإلا أخرجه في عامة، وإذا كان معه هدي قد ساقه نحره ولا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء، بل عليه في السنة الثانية هدي أيضاً نص عليه أحمد لما روى الأثرم بإسناده أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر ما حبسك؟ قال حسبت أن اليوم يوم عرفة، قال فانطلق إلى البيت فطف به سبعاً وإن كان معك هدية فانحرها، ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد، فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله.
والهدي ما استيسر مثل هدي المتعة لحديث عمر رضي الله عنه، والمتمتع والمفرد والقارن والكي وغيره سواء فيما ذكرنا(3/511)
(فصل) فإن اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه للحج من قابل فله ذلك، روى ذلك عن مالك لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا تمنع إتمامه كالعمرة والمحرم بالحج في غير أشهره ويحتمل أنه ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، ورواية عن مالك الظاهر الخبر وقول الصحابة، ولكون إحرام الحج يصير في غير أشهره فصار كالمحرم بالعبادة قبل وقتها (فصل) فإن كان الذي فاته الحج قارنا حل وعليه مثل ما أهل به من قابل نص عليه أحمد وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور واسحاق ويحتمل أن يجزئه ما فعله عن عمرة الاسلام ولا يلزمه إلا قضاء الحج لأنه لم يفته غيره، وقال الثوري وأصحاب الرأي يطوف ويسعى لعمرته ثم لا يحل حتى يطوف(3/512)
ويسعى لحجه إلا أن سفيان قال ويهريق دماً، ووجه الأول أنه يجب القضاء على حسب الأداء في صورته ومعنا فيجب ان يكون ههنا كذلك ويلزمه هديان لقرانه وفواته، وبه قال مالك والشافعي وقيل يلزمه هدي ثالث للقضاء وليس بشئ فإن القضاء لا يجب له شئ، وإنما الهدي الذي في سنة القضاء للفوات، ولذلك لم يأمره الصحابة بأكثر من هدي واحد والله تعالى أعلم (مسألة) (وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم، وإن أخطأ بعضهم فقد فاته الحج) إذا أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة ظناً منهم أنه يوم عرفة أجزأهم لما روى الدارقطبي باسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن جابر بن أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه " وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوم فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون " رواه الدارقطني وغيره، ولأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء، فإن اختلفوا فأصاب بعض وأخطأ بعض لم يجز من أخطأ لأنهم غير معذورين في ذلك وقد ذكرنا حديث هبار حين قال لعمر ظننت أن اليوم يوم عرفة فلم يعذر بذلك (فصل) فإن كان عبداً لم يلزمه الهدي لأنه عاجز عنه بكونه لامال له فهو كالمعسر ويجب عليه الصوم بدل الهدي، فإن أذن له سيده في الهدي لم يكن له أن يهدي في ظاهر كلام الخرقي ولا يجزئه إلا الصيام هذا قول الثوري وأصحاب الرأي والشافعي حكاه ابن المنذر عنهم في الصيد وعلى قياس(3/513)
هذا كل دم لزمه في الإحرام لا يجزئه عند إلا الصيام، وقال غير الخرقي من أصحابنا أن ملكه السيد هديا وأذن له في ذبحه خرج على الروايتين في ملك العبد بالتمليك، فإن قلنا يملك لزمه الهدي وأجزأ عنه لأنه قادر عليه مالك له أشبه الحر وإن قلنا لا يملك لم يجزئه إلا الصيام لأنه ليس بمالك ولا سبيل له إلها الملك فهو كالمعسر، وإذا صام فإنه يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما ذكره الخرقي، وينبغي أن يخرج فيه من الخلاف ما ذكرناه في الصيد، فإن بقي من قيمتها دون المد صام عنه يوماً لأن الصوم لا يتبعض فيجب تكملته (قال شيخنا) والأولى أن يكون الواجب من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة
كما جاء في حديث عمر أنه قال لهبار بن الأسود فإن وجدت سعة فأهد، فإن لم تجد سعة فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله، وروى الشافعي عن ابن عمر رضي الله عنهما مثل ذلك وأحمد ذهب الى حديث عمر رضي الله عنه واحتج به، ولأنه صوم وجب لحله من إحرامه قبل إتمامه فكان عشرة أيام كصوم المحصر والمعسر في الصوم كالعبد، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لهبار إن وجدت سعة فاهد، وإن لم تجد فصم.
ويعتبر اليسار والاعسار في زمن الوجوب وهو في سنة القضاء إن قلنا بوجوبه، أو في سنة الفوات إن قلنا لا يجب القضاء، وقال الخرقي في العبد ثم يقصر ويحل(3/514)
يريد أن العبد لا يحلق لأن الحلق يزيل الشعر الذي يزيد في قيمته وماليته وهو ملك لسيده ولم يتعين إزالته فلم يكن له ذلك كغير حالة الإحرام فإن أذن له سيده فيه جاز لأن المنع منه لحقه (مسألة) (ومن أحرم فحصره عدو ولم يكن له طريق إلى الحج نحر هديا في موضعه رحل) لا خلاف بين أهل العلم أن المحصر إذا حصره عدو ومنعوه الوصول إلى البيت ولم يجد طريقاً آمناً أن له التحلل مشركاً كان العدو أو مسلماً لقوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا، وسواء كان الإحرام بحج أو عمرة أو بهما، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل لأنه لا يخاف الفوات ولا يصح ذلك لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية، وإنما كانوا محرمين بعمرة فحلقوا جميعاً.
وعلى من تحلل بالإحصار الهدي في قول الأكثرين، وعن مالك ليس عليه هدي لأنه(3/515)
تحلل أبيح له من غير تفريط أشبه من أتم حجه.
ولنا قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) قال الشافعي لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية، ولانه أبيح له التحلل قبل إتمام نسكه أشبه من فاته الحج وبهذا فارق من أتم حجه (فصل) ولا فرق بين الحصر العام في حق كل الحاج وبين الخاص في حق شخص واحد مثل
أن يجلس بغير حق أو تأخذه اللصوص لعموم النص ووجود المعنى في الكل، فأما من حبس بحق عليه يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التحلل في الحبس، فإن كان عاجزاً عن أدائه فحبس بغير حق فله التحلل كمن ذكرناه، وإن كان عليه دين مؤجل يحل قبل قدوم الحاج فمنعه صاحبه من الحج فله التحلل لأنه معذور، ولو أحرم العبد بغير إذن سيده أو المرأة للتطوع بغير إذن زوجها فلهما منعهما وحكمهما حكم المحصر(3/516)
(فصل) فإن أمكن المحصر الوصول من طريق أخرى لم يبح له التحلل ولزمه سلوكها بعد أو قرب، خشي الفوات أو لم يخشه، فإن كان محرماً بعمرة لم تفت، وإن كان بحج ففاته تحلل بعمرة وكذا لو لم يتحلل المحصر حتى زال الحصر لزمه السعي وإن كان بعد فوات الحج ليتحلل بعمرة، ثم هل يلزمه القضاء إن فاته الحج فيه روايتان (إحداهما) يلزمه كمن فاته بخطأ الطريق (والثانية) لا يجب لأن سبب الفوات الحصر أشبه من لم يجد طريقاً أخرى وبهذا فارق المخطئ (فصل) وإذا كان العدو الذين حصروا الحاج مسلمين فأمكنه الانصراف كان أولى من قتالهم لأن في قتالهم المخاطرة بالنفس والمال وقتل مسلم فكان تركه أولى ويجوز قتالهم لأنهم تعدوا على المسلمين لمنعهم طريقهم فأشبهوا سائر قطاع الطريق، وإن كانوا مشركين لم يجب قتالهم لأنه إنما يجب بأحد أمرين إذا بدأوا بالقتال أو وقع النفير فاحتيج إلى مدد وليس ههنا واحد منهما، لكن إن غلب على ظن المسلمين الظفر استحب قتالهم لما فيه من الجهاد وحصول النصر وإتمام النسك، وإن كان(3/517)
بالعكس فالأولى الانصراف لئلا يغرروا بالمسلمين، ومتى احتاجوا في القتال إلى لبس ما تجب في الفدية فلهم فعله وعليهم الفدية لأن لبسهم لأجل أنفسهم فأشبه مالو لبسوا للاستدفاء من برد، فإن أذن لهم العدو في العبور فلم يثقوا بهم فلهم الانصراف لأنهم خائفون على أنفسهم فكأنهم لم يؤمنوهم وإن وثقوا بأمانهم وكانوا معروفين بالوفاء لزمهم المضي على إحرامهم لأنه قد زال حصرهم، ان طلب العدو خفارة على تخلية الطريق وكان ممن لا يؤمن بأمانة لم يلزمهم بذلة لأن الخوف باق مع البذل، وإن
كان موثوقاً بأمانة والخفارة كثيرة لم يجب بذله، بل يكره إن كان العدو كافراً لأن فيه صغاراً وتقوية للكافر، وإن كانت يسيرة فقياس المذهب وجوب بذلة كالزيادة في ثمن الماء للوضوء.
وقال بعض أصحابنا: لا يجب بذل خفارة بحال وله التحلل كما في ابتداء الحج لا يلزمه إذا لم يجد طريقاً آمناً من غير خفارة (مسألة) متى قدر المحصر على الهدي فليس له التحلل قبل ذبحه، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى (فما استيسر من الهدي) وله نحره في موضع حصره من حل أو حرم نص عليه أحمد وهو قول مالك(3/518)
والشافعي إلا أن يكون قادراً على أطراف الحرم ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه نحره فيه لأن الحرم كله منحر وقد قدر عليه (والثاني) ينحره في موضعه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه، وعن أحمد ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم ويواطئ رجلاً على نحره في وقت يتحلل فيه، يروى هذا عن ابن مسعود فيمن لدغ في الطريق، وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي وعطاء (قال شيخنا) وهذا والله أعلم فيمن كان حصره خاصا، وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية وهي من الحل، قال البخاري قال مالك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا وحلوا من كل شئ قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه أمر أحداً أن يقضي شيئاً ولا أن يعودوا له، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كان تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق أهل السير وقد دل عليه قوله تعالى (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) ولأنه موضع حله فكان(3/519)
موضع نحره كالحرم، فإن قيل فقد قال الله تعالى (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وقال (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولأنه ذبح يتعلق بالإحرام فلم يجز في غير الحرم كدم الطيب واللبس، قلنا الآية في غير المحصر ولا يصح قياس المحصر عليه لأن تحلل المحصر في الحل وتحلل غيره في الحرم
فكل واحد منهما ينحر في موضع تحلله، وقد قيل في قوله تعالى (حتى يبلغ الهدي محله) حتى يذبح وذبحه في حق المحصر في موضع حله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وما قاسوا عليه ممنوع (فصل) وإذا أحصر المعتمر فله التحلل ونحر هديه وقت حصره لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه زمن الحديبية حلوا ونحروا هداياهم قبل يوم النحر وإن كان مفرداً أو قارناً فكذلك في إحدى الروايتين لأنه أحد النسكين أشبه العمرة، ولأن العمرة لا تفوت وجميع الزمان وقت لها، فإذا جاز الحل منها ونحر هديها من غير خشية فواتها فالحج الذي يخشى فواته أولى (والثانية) لا يحل ولا ينحر هديه إلى يوم النحر نص عليه في رواية الاثرم وحنبل لأن للهدي محل زمان ومحل مكان، فإذا سقط محل المكان للعجز عنه بقي محل الزمان واجباً لإمكانه، وإذا لم يجز له نحر الهدي قبل يوم النحر لم(3/520)
يجز له التحلل لقوله سبحانه (ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله) وإذا قلنا بجواز التحلل قبل يوم النحر فالمستحب له الإقامة على إحرامه رجاء زوال الحصر ومتى زال قبل تحلله فعليه المضي لإتمام نسكه بغير خلاف علمناه.
قال إبن المنذر قال كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن من يئس أنى يصل إلى البيت فجاز له الحل فلم يحل حتى خلي سبيله أن عليه أن يقضي مناسكه وإن زال الحصر بعد فوات الحج تحلل بعمرة، فإن فات الحج قبل زوال الحصر تحلل بهدي، وقد قيل إن عليه ههنا هديين: هدي للفوات وهدي للاحصار، ولم يذكر أحمد رحمه الله في رواية الأثرم هدياً ثانياً في حق من لم يتحلل إلا يوم النحر (مسألة) (فإن لم يجد صام عشرة أيام ثم حل، ولو نوى التحلل قبل ذلك لم يحل) إذا عجز المحصر عن الهدي انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حل، وبه قال الشافعي في أحد قوليه وقال مالك وأبو حنيفة لا يدل له لأنه لم يذكر في القرآن(3/521)
ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل كدم التمتع والطيب واللباس وترك النص عليه لا يمنع قياسه على غيره ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام كبدل هدي التمتع، وليس له أن يتحلل الابعد الصيام كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره وهل يلزمه الحلق أو التقصير مع ذبح الهدي والصيام؟ فيه
روايتان (إحداهما) لا يلزمه وهو ظاهر كلام الخرقي لأن الله تعالى ذكر الهدي وحده ولم يشرط سواه (والثانية) عليه الحلق أو التقصير لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق يوم الحديبية وفعل في النسك دال على الوجوب ولعل هذا يبني على الخلاف في الحلق هل هو نسك أو إطلاق من محظور وفيه اختلاف ذكرناه فيما مضى (فصل) ولا يتحلل إلا بالنية مع ما ذكرنا فيحصل الحل بشيئين: النحر الصوم مع النية على قولنا إن الحلاق ليس بنسك وإن قلنا هو نسك حصل بثلاثة أشياء الحلاق مع ما ذكرنا، فإن قيل فلم اعتبرتم النية ههنا ولم تعتبروها في غير المحصر قلنا لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه فيحل منها باكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر فإنه يريد الخروج من العبادة قبل اكمالها فافتقر إلى قصده ولأن الذبح قد يكون لغير الحل فلم يتخصص إلا بقصده بخلاف الرمي فإنه لا يكون إلا للنسك فلم يحتج إلى قصد (فصل) فإن نوى التحلل قبل الهدي أو الصيام لم يحل وكان على إحرامه حتى ينجر الهدي أو(3/522)
يصوم لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر على أفعال الحج قبلها وليس عليه في نية الحل فدية لأنها لم تؤثر في العبادة، فإن فعل شيئاً من محظورات الإحرام قبل ذلك فعليه فديته كما لو فعل القادر ذلك قبل أفعال الحج (مسألة) (وفي وجوب القضاء على المحصور روايتان) (إحداهما) لا قضاء عليه إلا أن يكون واجباً فيفعله بالوجوب السابق هذا هو الصحيح من المذهب، وبه قال مالك والشافعي (والثانية) عليه القضاء روى ذلك عن مجاهد وعكرمة والشعبي، وبه قال أبو حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية، ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج، ووجه الرواية الأولى أنه تطوع جاز التحلل(3/523)
منه مع صلاح الوقت له فلم يجب قضاؤه كما لو دخل في الصوم يعتقد أنه واجب فلم يكن، فأما الخبر
فأن الذين صدوا كانوا ألفاً وأربعمائة، والذين اعتمروا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا نفراً يسيراً ولم ينقل الينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً بالقضاء، وأما تسميتها عمرة القضية فانما يعني بها القضية التي اصطلحوا عليها واتفقوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا عمرة القضاء، وفارق الفوات فإنه مفرط بخلاف مسئلتنا (مسألة) (فإن صد عن عرفة دون البيت تحلل بعمرة ولا شئ عليه) إذا تمكن من الوصول إلى البيت وصد عن عرفة فله أن يفسخ نية الحج ويجعله عمرة ولا هدي عليه لأننا أبحنا له ذلك من غير حصر فمع الحصر أولى، فإن كان قد طاف وسعى للقدوم ثم أحصر أو مرض حتى فاته الحج تحلل بطواف وسعي آخر لأن الاول لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها وليس عليه أن يجدد إحراماً،(3/524)
وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال الزهري لابد أن يقف بعرفة، وقال محمد بن الحسن لا يكون محصراً بمكة، وروى عن أحمد رحمه الله لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه أن يحج من عامة فيصير متمتعاً وهذا ممنوع من الحج ولا يمكنه أن يصير متمتعاً فعلى هذا يقيم على إحرامه حتى يفوته الحج ثم يتحلل بعمرة، فإن فاته الحج فحكمه حكم من فاته بغير حصر، وقال مالك يخرج إلى الحل ويفعل ما يفعل المعتمر، فإن أحب أن يستنيب من يتمم عنه أفعال الحج جاز في التطوع لأنه جاز أن يستنيب في جملته فجاز في بعضه، ولا يجوز في حج الفرض إلا أن ييأس من القدرة عليه في جميع العمر كما في الحج كله (فصل) فإن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التحلل لأن الحصر يفسد التحلل من جميعه فأفاد التحلل من بعضه، وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحج كالرمي وطواف الوداع(3/525)
والمبيت بمزدلفة أو بمنى في لياليها فليس له التحلل لان صحة الحج لا تقف على ذلك ويكون عليه دم لتركه ذلك وحجة صحيح كما لو تركه من غير حصر، وإن حصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلل أيضاً لأن إحرامه إنما هو عن النساء، والشرع إنما ورد بالتحلل عن الإحرام التام الذي يحرم جميع محظوراته فلا يثبت بما ليس مثله، ومتى زال الحصر أتى بالطواف وتم حجه (مسألة) وإذا تحلل المحصر من الحج فزال الحصر وأمكنه الحج لزمه ذلك إن كانت حجة
الإسلام أو كانت واجبة في الجملة أو قلنا بوجوب القضاء لأن الحج يجب على الفور، فأما إن كانت تطوعاً ولم نقل بوجوب القضاء فلا شئ عليه كمن لم يحرم (فصل) فإن أحصر في حج فاسد فله التحلل لأنه إذا أبيح له في الحج الصحيح فالفاسد بطريق(3/526)
الأولى، فإن حل ثم زال الحصر وفي الوقت سعة فله أن يقضي في ذلك العام وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد فيه الحج في غير هذه المسألة (مسألة) (ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل في إحدى الروايتين) اختارها الخرقي روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان وبه قال مالك والشافعي واسحاق (والثانية) له التحلل بذلك، وروي نحوه عن ابن مسعود وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى " رواه النسائي ولأنه محصور فيدخل في عموم قوله (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) يحققه إن لفظ الاحصار إنما هو للمرض ونحوه يقال احصره المرض احصاراً فهو محصر، وحصره العدو فهو محصور فيكون اللفظ صريحاً(3/527)
في محل النزاع وحصر العدو مقيس عليه ولأنه مصدود عن البيت أشبه من صده العدو ووجه الرواية الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت إني أريد الحج وأنا شاكية فقال " حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني " فلو كان المرض يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط، وحديثهم متروك الظاهر فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالاً فإن حملوه على أنه يبيح له التحلل حملناه على ما إذا اشترط الحل على أن في حديثهم كلاما لأن ابن عباس يرويه ومذهبه بخلافه فإذا قلنا يتحلل فحكمه حكم من حصره العدو على ما مضى وإن قلنا لا يتحلل فإنه يقيم على إحرامه ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بالحرم وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل فإن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض(3/528)
(مسألة) (ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك ولا شئ عليه) إذا شرط في وقت إحرامه أن يحل متى مرض أو ضاعت نفقته أو نفذت أو نحوه أو قال إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فله التحلل متى وجد ذلك وليس عليه هدي ولا صوم ولا قضاء ولا غيره فإن للشرط تأثيراً في العبادات بدليل أنه لو قال إن شفى مريضي صمت شهراً متتابعاً أو متفرقاً كان على شرطه وإنما لم يلزمه هدي ولا قضاء لأنه إذا شرط شرطاً كان إحرامه الذي فعله إلى حين وجود الشرط فصار بمنزلة من أكمل أفعال الحج ثم ينظر في صيغة الشرط فإن قال إن مرضت فلي أن أحل أو إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستي فإذا حبس كان بالخيار بين الحل وبين البقاء على الإحرام، وإن قال إن مرضت فأنا حلال فمتى وجد الشرط حل بوجوده لأنه شرط صحيح فكان على ما شرط، وفي هذه المسألة اختلاف ذكرناه في باب الإحرام(3/529)
(باب الهدي والأضاحي) الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى (فصل لربك وانحر) قال بعض أهل التفسير والمراد به الأضحية بعد صلاة العيد، وأما السنة فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما.
متفق عليه الأملح الذي فيه بياض وسواد وبياضه أكثر قاله الكسائي، وقال ابن الأعرابي هو النقي البياض قال الشاعر حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا * أملح لالدا ولا محبباً وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، ويستحب لمن أتى مكة أن يهدي هديا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الهدي ويقيم بالمدينة(3/530)
(مسألة) (والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم والذكر والأنثى سواء) أفضل الهدايا والاضاحي الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم شرك في بدنة ثم شرك في بقرة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وقال به مالك في الهدي وقال في الأضحية الأفضل الجذع ثم الضأن ثم البقرة
ثم البدنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين ولا يفعل إلا الأفضل ولو علم الله سبحانه خيراً منه لفدى به اسحاق.
ولنا ماروى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة " الخ متفق عليه ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى(3/531)
فكانت البذنة فيه أفضل كالهدي ولأنها أكثر ثمناً ولحماً وأنفع للفقراء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الرقاب أفضل؟ فقال " أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها " والابل أغلا ثمناً وأنفس من الغنم.
فأما التضحية بالكبش فلانه افضل أجناس الغنم وكذلك حصول الفداء به أفضل والشاة أفضل من شرك في بدنة لأن إراقة الدم مقصود في الاضحية والمنفرد يتقرب بإراقته كله (فصل) والذكر والأنثى سواء لأن الله تعالى قال (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وقال (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) ولم يقل ذكراً ولا أنثى وممن أجاز ذكران الإبل في الهدي ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومالك وعطاء والشافعي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ما رأيت أحداً فاعلاً ذلك: وإن أنحر أنثى أحب إلي، والأول أولى لما ذكرنا من النص، وقد(3/532)
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى جملاً لأبي جهل في أنفه برة من فضة رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه يجوز ذبح الذكر من سائر بهيمة الأنعام فكذلك من الإبل، ولأن القصد اللحم ولحم الذكر أوفر ولحم الأنثى أرطب فتساويا.
قال أحمد الخصي أحب إلينا من النعجة لأن لحمه أوفر وأطيب.
قال شيخنا والكبش في الأضحية أفضل النعم لأنها أضحية النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن أبي موسى والضأن أفضل من المعز لأنه أطيب لحماً، وقال القاضي جذع الضأن أفضل من ثنى المعز لذلك ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نعم الأضحية الجذع من الضأن " حديث غريب قال شيخنا رحمه الله ويحتمل أن الثني من المعز أفضل من الجذع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من
الضأن " رواه مسلم، وهذا يدل على فضل الثني على الجذع لكونه جعل الثني أصلاً والجذع بدلا لا ينتقل إليه إلا عند عدم الثني.(3/533)
(فصل) ويسن استسمانها واستحسانها لقول الله تعالى (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) قال ابن عباس تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها ولأن ذلك أعظم لأجرها وأعظم لنفعها والأفضل في لون الغنم البياض لما روي عن مولاة أبي ورقة بن سعيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين " رواه أحمد بمعناه وقال أبو هريرة " دم بيضاء أحب إلى الله من دم سوداوين " ولأنه لون أضحية النبي صلى الله عليه وسلم ثم ماكان أحسن لوناً فهو أفضل.
(مسألة) (ولا يجزي إلا الجذع من الضأن وهو ماله ستة أشهر والثني مما سواه) وهو قول مالك والليث والشافعي وابي عبيد وأصحاب الرأي، وقال ابن عمر والزهري: لا يجزئ(3/534)
الجذع لأنه لا يجزئ من غير الضأن فلا يجزئ منه كالحمل وعن عطاء والاوزاعي أنهما قالا لا يجزئ الجذع في جميع الأجناس لما روى مجاشع بن سليم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الجذع يوفي بما يوفي به الثني " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ولأنه يجزئ من بعض الأجناس فأجزأ من جميعها كالثني.
ولنا على أجزاء الجذع من الضأن حديث مجاشع وأبي هريرة، وعلى أن الجذعة من غيرها لاتجزئ قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن " وقال أبو بردة بن نيار رضي الله عنه عندي جذعة من المعز أحب إلي من شاتين فهل تجزي عني؟ قال " نعم ولا تجزي عن أحد بعدك " متفق عليه وحديثهم محمول على الجذع من الضأن لما ذكرنا قال ابراهيم الحربي إنما يجزئ الجذع من الضأن لانه ينزو فليقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنيا(3/535)
(فصل) ولا يجزي في الأضحية غير بهيمة الأنعام وان كان أحد أبويه وحشياً وحكي عن الحسن
ابن صالح أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة والظبي عن واحد وقال أصحاب الرأي يجزئ ولد البقرة الانسية إذا كان أبوه وحشياً وقال أبو ثور يجزئ إذا كان منسوباً إلى بهيمة الأنعام.
ولنا قوله سبحانه (ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وهي الإبل والبقر والغنم وعلى أصحاب الرأي أنه متولد بين ما يجزئ وبين مالا يجزئ أشبه مالو كانت الأم وحشية.
والجذع من الضأن ماله ستة أشهر.
قال وكيع الجذع من الضأن أن يكون ابن سبعة أشهر أو ستة أشهر قال الخرقي(3/536)
وسمعت أبي يقول سألت بعض أهل البادية كيف تعرفون الضأن إذا أجذع قالوا لا تزال الصوفة قائمة على ظهره مادام حملاً فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع وفيه قول أن الجذع من الضأن ماله ثمانية أشهر ذكره ابن أبي موسى (مسألة) (وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ماله سنتان ومن المعز ماله سنة) قال الأصمعي وأبو زياد الكلابي وأبو زيد الأنصاري إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيه فهو حينئذ ثني ويروى أنه يسمى ثنياً لأنه ألقى ثنيته، وأما البقرة فهي التي لها سنتان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تذبحوا إلا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان على ما ذكرنا في الزكاة، وثني المعز ماله سنة، وقال ابن أبي موسى فيه قول أن ثني البقر مادخل في السنة الرابعة(3/537)
والأول المشهور في المذهب.
(مسألة) (وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم والباقون اللحم) أما إجزاء الشاة عن واحد فلا نعلم فيه خلافاً، وقد روى أبو أيوب رضي الله عنه قال كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حديث صحيح، وتجزي البدنة والبقرة عن سبعة وهذا قول أكثر أهل العلم وري ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس وسالم والحسن وعمرو بن دينار والثوري والاوزاعي
والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لاتجزئ نفس واحدة(3/538)
عن سبعة ونحوه قول مالك إلا أن يذبح عنه وعن أهل بيته، قال احمد ما علمت أن احدا لا يرخص في ذلك إلا ابن عمر، وعن سعيد بن المسيب أن الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة وبه قال إسحاق لما روى رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عن عشرة من الغنم ببعير متفق عليه.
وعن ابن عباس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة رواه ابن ماجه.
ولنا ماروى جابر قال نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
وقال أيضاً كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها رواه مسلم.
وهذا أصح من حديثهم.
وأما حديث رافع فهو في القسمة لافي الأضحية.
إذا ثبت هذا فسواء كان المشتركون من أهل بيت أو لم يكونوا، متطوعين أو متفترضين أو كان بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم، وقال أبو حنيفة يجوز إذا كانوا كلهم متقربين ولا يجوز إذا لم يرد بعضهم القربة.(3/539)
ولنا أن الجزء المجزئ لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر القران ولأن كل إنسان إنما يجزئ عنه نصيبه فلا يضره نية غيره في نصيبه ويجوز أن يقتسموا اللحم لأن القسمة إفراز حق وليست بيعاً ومنع منه أصحاب الشافعي في وجه، بناء على أن القسمة بيع وبيع لحم الهدي والأضحية غير جائز.
ولنا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراك مع أن سنة الهدي والأضحية الأكل منها دليل على تجويز القسمة إذ به يتمكن من الأكل وكذلك الصدقة والهدية.
(فصل) ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بدنه أو بقرة يضحي بها نص عليه أحمد وقال مالك والليث والاوزاعي واسحاق.
وروي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة قال(3/540)
صالح قلت لأبي يضحى بالشاة عن أهل البيت؟ قال نعم لا بأس قد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين قال (بسم الله هذا عن محمد وأهل بيته) وقرب الآخر وقال (اللهم منك ولك عمن وحدك من أمتي) وحكي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يضحي بالشاة فتجئ بنته فتقول عني؟ وعنك، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجز عنهما كالاجنبيين ولنا الحديث الذي ذكره أحمد وروى جابر قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلما وجههما قال " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العاليمن، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر " ثم ذبح رواه أبو داود، وقد ذكرنا حديث أبو أيوب في أول المسألة(3/541)
(مسألة) (ولا يجزئ فيها العوراء البين عورها وهي التي انخسفت عينها، ولا العجفاء التي لا تنقى وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، ولا العرجاء البين ظلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم، ولا المريضة البين مرضها ولا العضباء وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها) أما العيوب الأربعة الأول فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أنها تمنع الأجزاء في الهدي والأضحية لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لاتنقى " رواه أبو داود والنسائي نص على الاضاحي والهدي في معناها ومعنى العوراء البين عورها التي قد انخسفت عينها والعين(3/542)
عضو مستطاب فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها لأن عورها ليس بين ولا ينقص ذلك لحمها، والعجفاء المهزولة، والتي لاتنقى هلا التي لامخ فيها في عظامها لهزالها والنقي المخ قال الشاعر: لا تنسكين عملاً ما أنقين * ما دام مخ في سلامي أو عين فهذه لا تجزئ لأنه لامخ فيها انما هي عظام مجتمعة، وأما العرجاء البين عرجها فهي التي بها عرج
فاحش وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم فيسبقنها إلى الكلأ فيرعينه لا تدركهن فينقص لحمها فإن كان عرجاً يسيراً لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت.
وأما المريضة البين مرضها فقال الخرقي هي التي لا يرجى برؤها لأن ذلك ينقص قيمتها ولحمها نقصاً كثيراً وقال القاضي هي الجرباء لان الجرب إذا كثر يهزل ويفسد(3/543)
اللحم، وهذا قول أصحاب الشافعي، قال شيخنا والذي في الحديث " المريضة البين مرضها " وهو الذي يبين أثره عليها لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده، وهذا أولى مما ذكره الخرقي والقاضي لانه تقييد للملطق وتخصيص للعموم بلا دليل والمعنى يقتضي العموم كما يقتضيه اللفظ والمعنى، وأما العضب فهو ذهاب اكثر من نصف القرن أو الأذن وذلك يمنع الأجزاء أيضاً، وبه قال النخعي وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي تجزئ مكسورة القرن، وروي نحو ذلك عن علي وعمار وابن المسيب والحسن وقال مالك إن كان قرنها يدمي لم تجزئ، وإلا أجزأت وعن أحمد لاتجزئ ما ذهب ثلث إذنها وهو قول أبي حنيفة، وقال عطاء ومالك إذا ذهبت الأذن كلها لم تجز وإن ذهب يسير جاز، واحتجوا بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم أربع لا تجوز في الأضاحي يدل على أن غيرها يجزئ ولأن في حديث(3/544)
البراء عن عبيد بن فيروز قال قلت: للبراء فإني أكره النقص من القرن والذنب قال: اكره لنفسك ما شئت ولا تضيق على الناس ولأن المقصود اللحم وهذا لا يؤثر فيه.
ولنا ماروي عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن قال قتادة فسألت سعيد بن المسيب فقال نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه النسائي وابن ماجة وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن رواه أبو داود والنسائي وهذا منطوق يقدم على المفهوم.
(فصل) ولا تجزئ العمياء لأن النهي عن العوراء تنبيه على العمياء ولا تجزئ وإن لم يكن عماها بيناً لأن العمى يمنع مشيها مع الغنم ومشاركتها في العلف ولا تجزئ ما قطع منها عضو كالألية والأطباء(3/545)
لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تجوز العجفاء ولا الجداء، قال أحمد رحمه الله هي التي قد يبس ضرعها، ولأنه أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين (فصل) وتكره المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف لما روى علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولاشرقاء ولا خرقاء قال زهير قلت: لأبي اسحاق ما المقابلة؟ قال تقطع طرف الأذن قلت: فما المدابرة؟ قال تقطع من مؤخر الأذن قلت: فما الخرقاء؟ قال شق الأذن قلت: فما الشرقاء؟ قال تشق أذنها للسمة رواه أبو داود، وقال القاضي الخرقاء التي قد انثقبت أذنها والشرقاء التي تشق أذنها ويبقى كالشتاخين وهذا نهي تنزيه ويحصل الأجزاء بها لأن اشتراط السلامة من ذلك يشق ولا يكاد يوجد سالم(3/546)
من هذا كله.
وذكر ابن أبي موسى في الإرشاد انها لاتجزئ لظاهر الحديث والجمهور على خلاف هذا للمشقة (مسألة) (وتجزئ الجماء والبتراء والخصي وقال ابن حامد لا تجزئ الجماء) تجزئ الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن والصمعاء وهي الصغيرة الأذن والبتراء وهي التي لا ذنب لها سواء كان خلقه أو مقطوعاً ومن لا يرى بالبتراء بأساً ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن وسعيد ابن جبير والنخعي وكره الليث أن يضحى بالبتراء ما فوق القبضة، وقال ابن حامد لا تجرئ الجماء لأن ذهاب اكثر من نصف القرن يمنع فذهاب جميعه أولى ولأن ما منع منه العور منع منه العمى فكذلك ما منع منه العضب يمنع منه كونه أجم.
ولنا أن هذا نقص لا ينقص اللحم ولم يخل بالقصود ولم يرد به نهي فوجب أن يجزئ، وفارق العضب فإنه قد نهى عنه وهو عيب فإنه ربما دمي وآلم الشاة فيكون كمرضها ويقبح منظرها بخلاف الأجم فإنه ليس بمرض ولاعيب وما كان كامل الخلقة فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن(3/547)
كحيل وقال خير الاضحية الكبس الاقرن.
(فصل) ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين والوجأ رض الخصيتن وما
قطعت خصيتاه أو سلتا في معناه، ولأن الخصي اذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويسمن قال الشعبي ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه، وبهذا قال الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً (فصل: والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ويذبح البقر والغنم) السنة نحر الإبل كما ذكر وممن استحب ذلك مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر.
وقال عطاء يستحب وهي باركة وجوز الثوري وأصحاب الرأي كلا الأمرين ولنا ما روى زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته لينحرها فقال:(3/548)
ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وروى أبو داود بإسناده عن عبد الرحمن بن ساباط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وفي قول الله تعالى (فإذا وجبت جنوبها) دليل على أنها تنحر قائمة وقيل في تفسير قوله تعالى (واذكروا اسم الله عليها صواف) أي قياماً وكيفما نحر اجزأه قال احمد وينحر الابل معقولة على ثلاث قوائم فان خشي عليها أن تنفر اناخها، ويذبح البقر والغنم قال الله تعالى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين ذبحهما بيده، فإن ذبح ما ينحر أو نحرما يذبح جاز وأبيح لأنه لم يتجاوز محل الذبح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أنهر الدم وذكر اسم عليه فكل " وقد روي عن أحمد أنه توقف في أكل البعير إذا ذبح والأول أولى لما ذكرنا.
(مسألة) (ويقول عند ذلك بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك) يستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة وإن يقول " بسم لله والله أكبر " قال إبن المنذر ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح يقول: بسم الله والله أكبر.
وإن قال ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مما زاد على ذلك فحسن فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين ثم(3/549)
قال حين وجههما (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين) " بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك عن محمد وأمته " رواه أبو داود، فان اقتصر على التسمية أو وجه الذبيحة إلى غير القبلة ترك الأفضل وأجزأه هذا قول القاسم والنخعي والثوري والشافعي وابن المنذر، وكره ابن عمر وابن سيرين الأكل من الذبيحة إذا وجهت إلى غير القبلة، والصحيح أنه غير واجب لأنه لم يقم عليه دليل.
(فصل) إذا قال اللهم تقبل مني ومن فلان بعد قوله اللهم هذا منك ولك فحسن وهو قول الأكثرين، وقال أبو حنيفة يكره أن يذكر اسم غير الله لقول الله تعالى (وما أهل به لغير الله) ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم وهذا نص لا يعرج على خلافه وليس عليه أن يقول عمن فان النية تجزئ بغير خلاف(3/550)
(مسألة) (ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم، وإن ذبحها بيده كان أفضل، فان لم يفعل استحب أن يشهدها) يستحب أن لا يذبح الأضحية إلا مسلم لأنها قربة فلا يليها غير أهل القربة، فإن استناب ذمياً في ذبحها أجزأت مع الكراهة وهو قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وعن أحمد لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم وهو قول مالك، وممن كره ذلك علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم، وبه قال الحسن وابن سيرين، قال جابر لا يذبح النسك إلا مسلم لأن في حديث ابن عباس الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم " ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر " ولأن الشحوم تحرم علينا مما يذبحونه على رواية فيكون ذلك بمنزلة إتلافه، وحكى ابن أبي موسى رواية ثالثة أنه إن كان بعيراً لم ينحر وإلا أجزأ في أصح الروايتين (ووجه الأولى) أنه من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم، ويجوز أن يتولى الكافر ماكان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر ولا نسلم تحريم الشحوم علينا بذبحهم والحديث محمول على الاستحباب والأولى أن يذبحها المسلم ليخرج من الخلاف، وذبحها بيده أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين(3/551)
أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى ووضع رجله على صفاحهما ونحر البدنات الست بيده (1) التي ساقها في حجته ثلاثاً وستين بدنة بيده ولان فعله قربة وتولي القربة بنفسه أولى من الاستنابة فيها والاستنابة جائزة فإن النبي صلى الله عليه وسلم استناب من نحر ما بقي من بدنة (2) وهذا لا خلاف فيه، وإن لم يذبحها بيده استحب أن يحضر ذبحها لأن في حديث ابن عباس الطويل " واحضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة " أحضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها " (مسألة) (ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها إلى آخر يومين من أيام التشريق) الكلام في وقت الذبح في ثلاثة أشياء أوله وآخره وعموم وقته أو خصوصه، أما أوله فظاهر كلامه ههنا إذا دخل وقت صلاة العيد ومضى قدر الصلاة التامة فقد دخل وقت الذبح ولا يعتبر نفس الصلاة لافرق في هذا بين أهل الأمصار والقرى ممن يصلي العيد وغيرهم وهذا قول الخرقي إلا أنه(3/552)
قال مقدار الصلاة والخطبة وهذا مذهب الشافعي وابن المنذر لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها به كالصيام، وظاهر كلام أحمد أنه من شرط جواز التضحية في حق أهل المصر صلاة الإمام وخطبته وعلى قياس قوله كل موضع يصلى فيه العيد روي نحو هذا عن الحسن والاوزاعي ومالك وأبي حنيفة واسحاق لما روى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " متفق عليه، وظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة، فإن ذبح بعد الصلاة وقبل الخطبة أجزأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق المنع على فعل الصلاة فلا يتعلق بغيره، ولأن الخطبة غير واجبة فلا تكون شرطاً وهذا قول الثوري وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لموافقة ظاهر الحديث، فأما غير أهل الأمصار والقرى فأول الوقت في حقهم قدر الصلاة والخطبة بعد حل الصلاة في قول الخرقي، وظاهر ما ذكره شيخنا في كتاب المقنع أن أول الوقت في حقهم قدر الصلاة بعد حل الصلاة لانه لاصلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها، وقال(3/553)
عطاء وقتها إذا طلعت الشمس، وقال أبو حنيفة أول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني لأنه من يوم النحر فكان وقتاً لها كسائر اليوم ولنا أنها عبادة وقتها في حق أهل المصر بعد اشراق الشمس فلا يتقدم وقتها في حق غيرهم كصلاة العيد وما ذكروه يبطل بأهل المصر فإن لم يصل الإمام في المصر لم يجز الذبح حتى تزول الشمس عند من اعتبر نفس الصلاة لأنها حينئذ تسقط فكأنه قد صلى وسواء ترك الصلاة عمداً أو خطأ لعذر أو لغير عذر، فأما الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز في أول النهار لأن الصلاة فيه غير واجبة، ولأن الوقت قد دخل في اليوم الأول وهذا من أثنائه فلم يعتبر فيه صلاة ولا غيرها، فإن صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد فمتى صلى في أحد الموضعين جاز الذبح لوجود الصلاة التي يسقط بها الفرض عن سائر الناس ولا يستحب أن يذبح قبل الإمام فإن فعل أجزأه، وقال ابن أبي موسى لا تجزئه ويروى عن مالك والصحيح أنها تجزئ لما ذكرنا من الأحاديث(3/554)
(فصل) والثاني في آخر وقت الذبح وآخره آخر اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده وهذ قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم، قال أحمد أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية قال خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أنساً وإليه ذهب مالك والثوري وأبو حنيفة، وروي عن علي رضي الله عنه آخره آخر أيام التشريق، وبه قال عطاء والحسن والشافعي لأنه روي عن جبير ابن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أيام منى كلها منحر " ولأنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلاً للنحر كالأوليين، وقال ابن سيرين لا يجوز إلا في يوم النحر خاصة لأنها وظيفة عيد فاختصت بيوم العيد كالصلاة واداء الفطرة يوم الفطر، وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد كقول ابن سيرين في أهل الأمصار وكقولنا في أهل منى، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار تجوز التضحية إلى هلال المحرم لما روى أبو أمامة سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: كان الرجل من المسلمين يشتري(3/555)
أضحيته فيسمنها حتى يكون آخر ذي الحجة فيضحي بها.
رواه الإمام أحمد بإسناده وقال هذا حديث عجيب وقال أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة أيام ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه فلم تجز التضحية فيه كاليوم الذي بعده، ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي، وقد روي عنه مثل مذهبنا وحديثهم إنما هو " ومنى كلها منحر " وليس فيه ذكر الأيام والتكبير أعم من الذبح، وكذلك الافطار بدليل أو يوم النحر (مسألة) (ولا يجزي في ليلتيهما في قول الخرقي وقال غيره يجزئ) اختلفت الرواية عن أحمد في الذبح في ليلتي يومي التشريق فعنه لا يجزئ نص عليه أحمد رضي الله عنه في رواية الأثرم وهو قول مالك لقول الله تعالى (ليذكروا اسم الله في أيام معدودات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الذبح بالليل، ولأنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر، ولأن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب ولا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود ولهذا قالوا يكره الذبح فيه، فعلى هذا إن ذبح ليلا لم يجزئه عن الواجب، وإن(3/556)
كانت تطوعاً فذبحها ليلا كانت شاة لحم ولم تكن أضحية فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها لا بذبحها، وروى عن أحمد أن الذبح يجوز ليلا اختاره أصحابنا المتأخرون، وبه قال الشافعي واسحاق وأبو حنيفة وأصحابه لأن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار، ولأن الليل داخل في مدة الذبح فجاز الذبح فيه كالأيام (مسألة) (فإن فات الوقت ذبح الواجب قضاء وسقط التطوع) إذا فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاء وصنع به مايصنع بالمذبوح في وقته لأن حكم القضاء حكم الأداء، فأما التطوع فهو مخير فيه، فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم
وليست أضحبة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح لأن الذبح قد سقط بفوات وقته كالوقوف والرمي ولنا أن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلم يسقط بفوات وقته كتفرقه اللحم، ولأنه لو ذبحها(3/557)
في الوقت ثم خرج قبل تفرقتها فرقها بعد ذلك، وبهذا فارق الوقوف والرمي ولأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك، فإن ضلت الأضحية التي وجبت بإيجابه لها أو سرقت بغير تفريط منه فلا ضمان عليه لأنها أمانة في يده فإن عادت بعد الوقت ذبحها على ما ذكرناه (فصل) فإن ذبحها قبل وقتها لم تجزه وعليه بدلها إن كانت واجبة بنذر أو تعيين لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " ولأنها نسيكة واجبة ذبحها قبل وقتها فلزمه بدلها كالهدي إذا ذبحه قبل محله، ويجب أن يكون بدلها مثلها أو خيراً منها لأنه أتلفها، فإن كانت غير واجبة فهي شاة لحم ولا بدل عليه إلا أن يشاء لأنه قصد التطوع فأفسده فلم يجب عليه بدله كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها إلى غير مستحقها فعلى هذا يحمل الحديث على الندب أو على مااذا كانت واجبة والشاة المذبوحة شاة لحم كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه يصنع بها ما شاء كشاة ذبحها للحمها لا لغير ذلك لأنها إن كانت واجبة فقد لزمه ابدالها وذبح ما يقوم مقامها فخرجت هذه عن كونها واجبة كالهدي الواجب إذا عطب دون محله، وإن كانت تطوعاً فقد أخرجها بذبحه إياها عن القربة فبقيت مجرد شاة(3/558)
لحم ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكم الهدي على رواية ويكون معنى قوله شاة لحم يعني أنها تفارقها في فضلها وثوابها خاصة دون مايصنع بها (مسألة) (ويتعين الهدي بقوله هذا هدي أو تقليده أو اشعاره مع النية، والأضحية بقوله هذه أضحية ولو نوى حال الشراء لم تتعين بذلك) يتعين الهدي بقوله هذا هدي أو تقليده أو اشعاره مع النية وبهذا قال الثوري واسحاق لأن الفعل مع النية يقوم مقام اللفظ إذا كان الفعل يدل على المقصود كمن بنى مسجداً وأذن في الصلاة
فيه، وكذلك الأضحية تتعين بقوله هذه أضحية فتصير واجبة بذلك كما يعتق العبد بقول سيده هذا حر ولا يتعين بالنية هذا مقصود الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة إذا اشتراها بنية الأضحية صارت أضحية لأنه مأمور بشراء أضحية، فإذا اشتراها بالنية وقعت عنه كالوكيل قال صاحب المحرر وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله فيما نقله عن الحسن بن ثواب وأبو الحرث كما يتعين الهدي بالاشعار(3/559)
ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف، ويفارق البيع فإنه لا يمكنه جعله لموكله بعد إيقاعه وههنا بعد الشراء يمكنه جعلها أضحية (فصل) فإن عينها وهي ناقصة نقصاً يمنع الأجزاء وجب عليه ذبحها كما لو نذر ذبحها، ولأن إيجابها كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام يلزمه الوفاء به ولا يجزئه عن الأضحية الشرعية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " أربع لا تجوز في الأضاحي " الحديث، ولكنه يذبحها ويثاب على ما يتصدق به منها كما يثاب على الصدقة بما لا يصلح أن يكون هديا وكما لو أعتق عن كفارته عبداً لا يجزئ في الكفارة إلا أنه ههنا لا يلزمه بدلها لأن الأضحية في الأصل غير واجبة ولم يوجد منه ما يوجبها، فإن زال عيبها المانع من الأجزاء كبرء المريضة والعرجاء وزوال الهزال فقال القاضي تجزئ في قياس المذهب، وقال أصحاب الشافعي لا تجزئ لأن الاعتبار بحال إيجابها، ولأن الزيادة فيها كانت للمساكين كما أنها لو نقصت بعد إيجابها كان عليهم ولا يمنع كونها أضحية ولنا أنها أضحية يجزئ مثلها فاجزأت كما لو لم يوجبها إلا بعد زوال عيبها (مسألة) (وإذا تعيبت لم يجز بيعها ولا هبتها إلا أن يبدلها بخير منها، وقال أبو الخطاب لا يجوز أيضاً)(3/560)
إذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها، وقال القاضي يجوز أن يبيعها ويشتري خيراً منها نص عليه أحمد وهو قول عطاء ومجاهد وأبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساق في حجته مائة بدنة، وقدم عليا من اليمن فأشركه في بدنة رواه مسلم، والاشتراك نوع من البيع أو الهبة، ولأنه يجوز ابدالها بخير منها والابدال نوع من البيع ولنا انه قد تعين ذبحها فلم يجز بيعها كما لو نذر ذبحها بعينها ولأنه جعلها لله فلم يجز بيعها كالوقف
وإنما جاز إبدالها بجنسها لأنه لم يزل الحق فيها عن جنسها وإنما انتقل إلى خير منها فكان في المعنى ضم زيادة إليها وقد جاز إبدال المصحف ولم يجز بيعه، وأما الحديث فيحتمل أنه أشرك علياً فيها قبل إيجابها، ويحتمل أن اشراكه فيها بمعنى أن علياً جاء ببدن فاشتركا في الجميع فكان بمعنى الابدال لا بمعنى البيع (1) ويجوز أن تكون الشركة في ثوابها وأجرها، فأما إبدالها بخير منها فقد نص أحمد على جوازه وهو اختيار الخرقي، وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة وأبو حنيفة ومالك ومحمد بن الحسن واختار أبو الخطاب أنه لا يجوز لأن أحمد نص في الهدي إذا عطب أنه يجزئ عنه، وفي الأضحية إذا(3/561)
هلكت وذبحها فسرقت لا بدل عليه، ولو كان ملكه ما زال عنها لزمه بدلها في هذه المسائل ولما ذكرنا في عدم جواز بيعها وهذا مذهب ابي يوسف والشافعي وأبي ثور ولأنه زال ملكه عنها لله تعالى فلم يجز أبدالها كالوقف.
ولنا ما ذكرنا من حديث علي رضي الله عنه وقد تأولناه على معنى الابدال، ويتعين حمله عليه لاتفاقنا على تحريم بيعها وهبتها، ولأنه عدل عن العين إلى خير منها من جنسها فجاز كما لو أخرج عن بنت لبون حقة في الزكاة، ولأن النذور محمولة على أصولها في الفروض وفي الفروض يجوز إخراج البدل في الزكاة فكذلك في النذور، وقوله قد زال ملكه ممنوع بل تعلق بها حق الله تعالى مع بقاء ملكه عليها بدليل أنه لو غير الواجب في ذمته فعطب أو تعيب كان له استرجاعه ولو زال ملكه عنه لم يعد إليه كالوقف والفرق بين الإبدال والبيع أن الإبدال لا يزيل الحق المتعلق بها من جنسها والبدل قائم مقامها فكأنها لم تزل في المعنى، وقوله إلا أن يبدلها بخير منها يدل على أنه لا يجوز بدونها لأنه تفويت جزء منها فلم يجز كإتلافه وهذا لا خلاف فيه ويدل على أنه لا يجوز إبدالها بمثلها لعدم الفائدة فيه، وقال القاضي في إبدالها احتمالان (أحدهما) لا يجوز ذلك (والثاني) يجوز لأنه لا ينقص(3/562)
مما وجب عليه شئ، ولنا أنه يعتبر ما وجب عليه لغير فائدة فلم يجز كإبدالها بدونها (فصل) وإذا عينها ثم مات وعليه دين لم يجز بيعها فيه سواء كان له وفاء أو لم يكن، وبه قال أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي، وقال الأوزاعي تباع إذا لم يكن لدينه وفاء إلا منها، وقال مالك
إن تشاجر الورثة فيها باعوها ولنا أنه تعين ذبحها فلم تبع في دينه كما لو كان حياً، إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون مقامه في الاكل والصدقة والهدية لأنهم يقومون مقام موروثهم فيما له وعليه (مسألة) (وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضر بها) قال أحمد رحمه الله لا يركبها إلا عند الضرورة وهو قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً " رواه أبو داود، ولأنه تعلق بها حق المساكين فلم يجز ركوبها من غير ضرورة كملكهم وإنما جوزناه عند الضرورة للحديث فإن نقصها الركوب ضمن النقص لأنه تعلق بها حق غيره فأما ركوبها مع عدم الحاجة ففيه روايتان (إحداهما) لا يجوز لما ذكرنا (والثانية) يجوز لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال " أركبها " فقال يارسول الله إنها بدنة، فقال " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة متفق عليه(3/563)
(مسألة) (وإن ولدت ذبح ولدها معها ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها) إذا عين أضحية فولدت فحكم ولدها حكمها سواء كان حملاً حال التعيين أو حدث بعده، وبهذا قال الشافعي وعن أبي حنيفة لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حياً، فإن ذبحه دفعه إليهم مذبوحاً وارش ما نقصه الذبح لأنه من نمائها فيلزمه دفعه إليهم على صفته كصوفها وشعرها.
ولنا أن استحقاق ولدها حكم ثبت للولد بطريق السراية من الام فثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد والمدبرة، إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما ذبحها لانه صار أضحية على وجه التبع لامه، ولا يجوز ذبحه قبل وقت ذبح أمه ولا تأخيره عن آخر الوقت كأمة، وقد روي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سأله فقال يا أمير المؤمنين: إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وإنها وضعت هذا العجل، فقال علي لا تحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة رواه سعيد والاثرم (فصل) وولد الهدية بمنزلتها أيضا كولد الأضحية إن أمكن سوقه وإلا حمله على ظهرها وسقاه من لبنها فان لم يمكنه سوقه ولا حمله صنع به ما يصنع بالهدي إذا عطب ولا فرق في ذلك بين ما عينه ابتداء، وبين ما عينه عن الواجب في ذمته، وقال القاضي في المعين بدلا عن الواجب يحتمل أن لا يتبعها(3/564)
ولدها لأن ما في الذمة واحد فلا يلزمه اثنان والصحيح أنه يتبع أمه في الوجوب فإنه ولد هدي واجب فتبعه كالمعين ابتداء، ولما ذكر من حديث علي فإن تعيبت المعينة عن واجب في الذمة وقلنا يذبحها ذبح ولدها معها لأنه تبع لها، وإن قلنا يبطل تعيينها وترد إلى مالكها احتمل أن يبطل التعيين في ولدها تبعاً كما ثبت تبعاً قياساً على نمائها المتصل بها، واحتمل أن لا يبطل ويكون للفقراء لأنه تبعها في الوجوب حال اتصاله بها ولم يتبعها في زواله لأنه صار منفصلا عنها فهو كولد المبيع المعيب إذا ولد عند المشتري ثم رده لا يبطل البيع في ولدها، والمدبرة إذا قتلت سيدها قبطل تدبيرها لا يبطل في ولدها وحكم الأضحية المعينة عما في الذمة إذا تعينت وولدت كذلك على قياس الهدية لأنها في معناها (فصل) ولا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شئ أو كان الحلب يضر بها وينقص لحمها لم يكن له أخذه وإلا فله أخذه والانتفاع به، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحلبها ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن فإن احتلبها تصدق به لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد، ولنا قول علي رضي الله عنه لا يحلبها إلا فضلاً عن تيسير(3/565)
ولدها، ولأنه انتفاع لا يضر بها ولا بولدها فأشبه الركوب ويفارق الولد فإنه يمكن إيصاله إلى محله، أما اللبن فإن حلبه وتركه فسد، وإن لم يحلبه تعقد الضرع وأضربها فجوز له شربه وإن تصدق به كان أفضل لأن فيه خروجاً من الخلاف، وإن احتلب ما يضر بها أو بولدها لم يجز له وعليه الصدقة به وإن شربه ضمنه لأنه تعدى بأخذه وهكذا الحكم في الهدية، فإن قيل فصوفها وشعرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به فلم جوزتم له الانتفاع باللبن قلنا الفرق بينهما من وجهين (أحدهما) ان لبنها يتولد من غذائها وعلفها وهو القائم فبه فجاز صرفه إليه كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يركب ويحلب وليس له أنى أخذ الصوف ولا الشعر (الثاني) أن الصوف والشعر ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها واجزائها واللبن يشرب ويؤخذ شيئاً فشيئاً فجرى مجرى منافعها وركوبها، ولأن اللبن يتجدد كل يوم والصوف والشعر عين
موجودة دائمة في جميع احوال (مسألة) وله أن يجز صوفها ووبرها إذا كان أنفع لها مثل أن تكون في زمن تخف بجزه وتسمن ويتصدق هبه، وإن لا يضر بها لقرب مدة الذبح أو كان بقاؤه أنفع لها لكونه يقيها الحر والبرد(3/566)
لم يجز له حزه كما لا يجوز أخذ بعض أعضائها (مسألة) (ولا يعطى الجازر بأجرته شيئاً منها) وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي ورخص الحسن وعبد الله بن عبيد بن عمير في اعطائه الجلد.
ولنا ما روى علي بضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً وقال " نحن نعطيه من عندنا " متفق عليه، ولأن ما يدفعه إلى الجزار عوض عن عمله وجزارته ولا تجوز المعاوضة بشئ منها، فأما إن دفع إليه صدقة أو هبة فلا بأس لأنه مستحق للاخذ فهو كغيره، بل هو أولى لانه باشرها وتاقت نفسه إليها (مسألة) (وله أن ينتفه بجلدها وجلها ولا يبيعه ولا شيئاً منها) لا خلاف في جواز الانتفاع بجلودها وجلالها لأن الجلد جزء منها فجاز للمضحي الانتفاع به كاللحم كان علقمة ومسروق يد بغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت رسول الله قد كانوا ينتفعون من ضحاياهم يحملون منها الودك ويتخذون منها الاسقية، قال " وما(3/567)
ذاك " قالت نهيت عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فقال " انها نهيتكم للدافة التي دفت فكلا وتزودوا وتصدقوا " حديث صحيح ولأنه انتفاع به فجاز كلحمها (فصل) ولا يجوز بيع شئ من الأضحية واجبة كانت أو تطوعاً لأنها تعينت بالذبح، قال أحمد لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها وقال سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى.
قال الميموني قالوا لأبي عبد الله فجلد الأضحية نعطيه السلاخ؟ قال لا وحكى قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تعط في جزارتها شيئاً منها " ثم قال اسناد جيد، وبه قال الشافعي وروي عن أبي هريرة، ورخص الحسن والنخعي في
الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت، وروي نحو ذلك عن الاوزاعي لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق لحمها، وقال أبو حنيفة يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه وحكاء ابن المنذر عن أحمد وإسحاق.
ولنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقسم جلودها وجلالها وأن لا يعطى الجازر شيئا منها وفيه دليل على وجوب الصدقة بالجلال وعلى تسويتها بالجلود، ولانه جعله الله تعالى فلم يجز بيعه وكالوقف وما ذكروه في شراء آلة(3/568)
البيت يبطل باللحم لا يجوز بيعه لشراء الآلة وإن كان ينتفع به (مسألة) (فإن ذبحها فسرقت فلا شئ عليه) لأنها أمانة في يده، فإذا تلفت بغير تفريطه لم يضمنها كالوديعة (مسألة) (وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذنه أجزأت ولا ضمان على ذابحها) وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك هي شاة لحم لمالكها ارشها وعليه بدلها لأن الذبح عبادة، فإذا فعلها غير صاحبها عنه بغير إذنه لم تقع الموقع كالزكاة، وقال الشافعي تجزئ وله على ذابحها ارش مابين قيمتها صحيحة ومذبوحة لأن الذبح أحد مقصودي الهدي، فإذا فعله فاعل بغير إذن المضحي ضمنه كتفرقة اللحم.
ولنا على مالك أنه فعل لا يفتقر إلى النية فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه كغسل ثوبه من النجاسة، وعلى الشاعفي أنها أضحية أجزأت عن صاحبها ووقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان بإذن، ولأنه إراقة دم تعينت ارقاته لحق الله تعالى فلم يضمن مريقة كقاتل المرتد بغير إذن الإمام، ولأن الأرش لو وجب فإنما يجب ما بين كونها مستحقة الذبح في هذه الأيام متعينة له وما بينها مذبوحة ولا قيمة لهذه الحياة ولا تفاوت بين القيمتين فتعذر وجود الأرش ووجوبه، ولأنه لو وجب الأرش لم يخل إما أن يجب للمضحي أو للفقراء لا جائز أن يجب للفقراء لأنهم انما يستحقونها مذبوحة، ولو دفعها إليهم في الحياة لم يجز، ولا جائز أن يجب له لأنه بدل شئ منها فلم يجز أن يأخذه كبدل عضو من أعضائها، ولأنهم وافقونا في أن الارض لا يدفع إليه فتعذر إيجابة لعدم مستحقه (فصل) وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيباً فإن شاء ردها، وإن شاء أخذ أرشها
ثم إن كان عيبها يمنع الأجزاء لم يكن له التضحية بها وإن لم يمنع فله ذلك والارض له فإن أوجبها ثم(3/569)
علم أنها معيبة فذكر القاضي أنه مخير بين ردها وأخذ أرشها فإن أخذ أرشها فحكمه حكم الزائد عن قيمة الأضحية على ما نذكره، ويحتمل أن يكون الأرش له لأن الإيجاب إنما صادفها بدون الذي أخذ أرشه فلم يتعلق الإيجاب بالأرش ولا بمبدله فاشبه مالو تصدق بها ثم أخذ أرشها، وعلى قول أبي الخطاب: لا يملك ردها لأنه قد زال ملكه عنها بإيجابها فأشبه ما لو اشترى عبداً معيباً فأعتقه ثم علم عيبه وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا يتعين أخذ الأرش، وفي كون الأرش للمشتري ووجوبه في التضحية وجهان ثم ينظر فإن كان عيبها لا يمنع أجزاءها فقد صح إيجابها والتضحية بها، وإن كان يمنع أجزاءها فحكمه حكم ما لو أوجبها عالما بعيبها على ما ذكرناه (مسألة) (وإن أتلفها أجنبي ضمنها بقيمتها، ان أتلفها صاحبها ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز ويشتري به شاة أو سبع بدنة فإن لم يبلغ اشترى به لحماً فتصدق به أو يتصدق بالفضل) إذا أتلف الأضحية الواجبة صاحبها فعليه قيمتها لأنها من المتقومات، وتعتبر القيمة يوم أتلفها فإن غلت الغنم بعد ذلك فصار مثله خيراً من قيمتها فقال أبو الخطاب يلزمه مثله لأنها أكثر الأمرين ولأنه يتعلق بها حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه مثلها ليوفي بحق الله تعالى بخلاف الأجنبي وهذا مذهب الشافعي.
وظاهر قول القاضي أنه لا يلزمه إلا القيمة يوم الإتلاف وهو قول أبي حنيفة لأنه إتلاف أوجب القيمة فلم يجب به أكثر من القيمة يوم الإتلاف كما لو أتلفها أجنبي وكسائر المضمونات فإن رخصت الغنم فزادت قيمتها على مثلها مثل ان كانت قيمتها عند إتلافها عشرة فصارت قيمة مثلها(3/570)
خمسة فعليه عشرة وجهاً واحدا فإن شاء اشترى بها أضحية واحدة تساوي عشرة، وإن شاء اشترى اثنتين فإن اشترى واحدة وفضل من العشرة مالا يجئ به أضحية اشترى به شركاً في بدنة فإن لم يتسع لذلك أو لم تمكنه المشاركة فيه وجهان (أحدهما) يشتري لحماً ويتصدق به لأن الذبح وتفرقه اللحم
مقصودان فإن تعذر أحدهما وجب الآخر (والثاني) يتصدق بالفضل لأنه إذا لم يحصل له التقرب بالاراقة كان اللحم وثمنه سواء، وإن أتلفها أجنبي فعليه قيمتها يوم تلفها وجهاً واحداً ويلزمه دفعها إلى صاحبها فإن زاد على ثمن مثلها فحكمه حكم ما لو أتلفها صاحبها وان لم تبلغ القيمة ثمن أضحية فالحكم فيه على ما مضى فيما إذا زاد على ثمن الأضحية في حج المضحي (مسألة) (فإن تلفت بغير تدريطه أو سرقت أو ضلت فلا شئ عليه لأنها أمانة في يده فلم يضمنها إذا لم يفرط كالوديعة) (مسألة) (وإن عطب الهدي في الطريق نحره في موضعه وصبغ نعله التي في عنقه في دمه وضرب بها صفحة سنامه ليعرفه الفقراء فيأخذوه ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته) وجملة ذلك أن من تطوع بهدي غير واجب لم يخل من حالين (أحدهما) أن ينويه هدياً ولا يوجبه بلسانه ولا تقليده واشعاره فهذا لا يلزمه امضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشئ من ماله أشبه مالو نوى الصدقة بدرهم (الثاني) أن يوجبه بلسانه أو يقلده ويشعره مع النية فيصير واجباً معيناً يتعلق الوجوب بعينه دون ذمة صاحبه ويكون في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريطه منه أو سرق أو ضل فلا ضمان عليه(3/571)
كالوديعة لأن الحق إنما تعلق بالعين فسقط بتلفها، وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أهدى تطوعاً ثم ضلت فليس عليه البدل " إلا أن يشاء فإن كان نذراً فعليه البدل فأما إن أتلفها أو تلفت بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجباً لغيره فضمنه كالوديعة وإن خاف عطبه أو عجزه عن المشي وصحبه الرفاق نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يبح له أكل شئ منه ولا لأحد من صحابته وإن كانوا فقراء، ويستحب له أن يصبغ نعل الهدي المقلد في عنقه ثم يضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي فيأخذوه، وبهذا قال الشافعي وسعيد بن جبير وروي عن ابن عمر أنه أكل من هديه الذي عطب ولم يقض مكانه، وقال مالك: يباح لرفتقه ولسائر الناس غير صاحبه أو سائقه ولا يأمر أحداً يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل أو ادخر شيئاً
من لحمه ضمنه لما روي هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية بن كعب صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي.
قال " انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم خل بينه وبين الناس " فيدخل في عموم قوله " خل بينه وبين الناس " رفقته وغيرهم ولنا ماروى ابن عباس رضي الله عنه أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول " إن عطب منها شئ فخشيت عليها فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفتك " رواه مسلم، وفي لفظ " ويخليها والناس ولا يطعم منها هو ولا أحد من أصحابه " رواه الإمام أحمد وهذا صحيح متضمن للزيادة ومعنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه ولا يصح قياس رفقته على غيرهم لأن الإنسان يشفق على رفقته(3/572)
ويجب التوسعة عليهم وربما وسع عليهم من مؤنته وإنما منع السائق ورفقته من الاكل منها ليلا يقصر في حفظها فيعطيها ليأكل هو ورفقته منها فتلحقه التهمة في عطبها لنفسه ورفقته فحرموها لذلك.
فإن أكل منها أو باع أو أطعم غنياً أو رفقته ضمنه بمثله لحما، وإن أتلفها أو تلفت بتفريطه أو خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعليه ضمانها يوصله إلى فقراء الحرم لأنه لا يتعذر عليه ايصال الضمان إليهم بخلاف العاطب، وإن أطعم منها فقيراً أو أمره بالأكل منها فلا ضمان عليه لأنه أوصله إلى مستحقه فأشبه ما لو فعل ذلك بعد بلوغ الهدي محله، وإن تعيب ذبحه وأجزأه.
وقال أبو حنيفة لا يجزيه، ولنا أنه لو عطب لم يلزمه شئ فالعيب أولى لأنه أقل وكما لو حدث به العيب حال اضجاعه فإنه قد سلمه، وإن تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به، وقال أبو حنيفة يباع جميعه ويشترى بالجمع هدي وبنى ذلك على أنه لا يجزئ وقد بينا أنه يجزئ (مسألة) (وإن تعيبت ذبحها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كالفدية والمنذور في الذمة فعليه بدلها) إذا أوجب أضحية سليمة ثم حدث بها عيب بمنع الأجزاء ذبحها وأجزأته روي هذا عن عطاء والحسن والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي واسحاق وقال أصحاب الرأي لا تجزئ لأن
الأضحية عندهم واجبة فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها سليمة كما لو أوجبها في ذمته ثم عينها فعابت ولناما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: ابتعنا كبشاً نضحي به فأصاب الذئب من اليته فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به رواه ابن ماجه، ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم(3/573)
بمنع الأجزاء كما لو حدث بها عيب بمعالجة الذبح ولا نسلم أنها واجبة في الذمة وإنما تعلق الوجوب بعينها فأما إن تعيبت بفعله فعليه بدلها، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا عالج ذبحها فقلعت السكين عينها أجزأت استحساناً، ولنا أنه عيب أحدثه قبل ذبحه فلم يجزئه كما لو كان قبل معالجة الذبح (فصل) والواجب في الذمة من الهدي قسمان (أحدهما) وجب بالنذر في ذمته (والثاني) وجب بغيره كهدي المتعة والقرآن والدماء الواجبة في النسك بترك واجب أو فعل محظور فمتى عين عما في ذمته شيئاً فقال هذا الواجب علي فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أي أن تبرأ الذمة لأنه لو أوجب هديا ولا هدي عليه لتعين فكذلك إذا كان اجبا فعينه الا أن مضمون عليه فإن عطب أو سرق أو نحو ذلك لم يجزئه وعاد الوجوب إلى ذمته كما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به مكيلاً فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته، ولأن ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر فصار الدين يضمنه ضامن أو يرهن به رهناً فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة الدين فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن أو تلف الرهن بقي الحق في الذمة بحاله فأما إن ساق الهدي ينوي به الواجب الذي في ذمته ولم يعينه بالقول فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك لأنه لم يتعلق به حق لغيره وله نماؤه وإن عطب تلف من ماله وإن تعيب لم يجزئه ذبحه وعليه الهدي الذي كان واجباً ولا يبرأ إلا بإيصاله إلى مستحقه بمنزلة من عليه دين فحمل إلى مستحقه يقصد دفعة إليه فتلف قبل أن يوصله إليه ومتى عينه بالقول تعين فإن ذبحه فسرق أو عطب فلا شئ عليه قال أحمد رحمه الله إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق(3/574)
لا شئ عليه، فإنه إذا نحر فقد فرغ وبهذا قال الثوري وابن القاسم صاحب مالك وأصحاب الرأي.
وقال الشافعي: عليه الإعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذحبه.
ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه، ودليل أنه أدى الواجب أنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة لأنه لو خلي بينه وبين الفقراء أجزأه ولذلك لما نحر النبي صلى الله عليه وسلم البدنات قال " من شاء اقتطع " وإذا عطب هذا المعين أو تعيب عيباً يمنع الأجزاء لم يجزئه ذبحه عما في الذمة لأن عليه هديا سليماً ولم يوجد وكذلك إذا عين عن الأضحية التي في الذمة شاة فهلكت أو تعيبت بما يمنع الأجزاء لم تجزئ لأن ذمته لم تبرأ إلا بذبح شاة سليمة كما لو نذر عتق رقبة أو كان عليه عتق رقبة في كفارة فاشتراها سليمة ثم عابت عنده لم تجزئه عما في ذمته بخلاف ما لو نذر عتق عبد معين فعاب فإنه يجزئ عنه (مسألة) (وهل له استرجاع هذا العاطب والمعيب؟ على روايتين) (إحداهما) له استرجاعه إلى ملكه فيصنع به ما شاء.
هذا ظاهر كلام الخرقي ورواه ابن المنذر عن أحمد والشافعي واسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي ونحوه عن عطالانه إنما عينه عما في ذمته فإذا لم يقع عنه عاد إلى صاحبه كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة.
وقال مالك: يأكل ويطعم من أحب من الأغنياء والفقراء ولا يبيع منه شيئاً.
ولنا ما روى سعيد باسناد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا اهديت هديا واجباً فعطب فانحره ثم كله إن شئت واهده إن شئت وبعه إن شئت.
ويقوم به في هدي آخر ولأنه متى كان له أن يأكل ويطعم الاغنياء كان له بيعه لأنه ملكه (والثانية) لا يرجع المعين إلى ملكه لأنه قد تعلق به حق الفقراء بتعيينه فلزم ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء (فصل) فإن عين معيباً عما في ذمته لم يجزه ويلزمه ذبحه على قياس قوله في الأضحية إذا عينها معيبة لزمه ذبحها ولم يجزه، وإن عين صحيحاً فهلك أو تعيبت بغير تفريطه لم يلزمه أكثر مما كان واجباً في الذمة لأن الزائد لم يجب في الذمة، وإنما تعلق بالعين فسقط بتلفها كأصل الهدي إذا لم يجب بغير التعيين، وإذا أتلفه أو تلف بتفريطه لزمه مثل المعين إن كان زائدا عما في الذمة لان الزائد تعلق به حق الله تعالى فإذا فوته لزمه كاهدي المعين ابتداء(3/575)
(مسألة) (وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها)
إذا ضل المعين فذبح غيره ثم وجده أو عين غير الضال بدلاً عما في الذمة ثم وجد الضال ذبحهما معاً.
روى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وبه قال مالك والشافعي وإسحاق لما روي عن عائشة رضي الله عنها انها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير بهديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت: هذه سنة الهدي.
رواه الدار قطبي، وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه تعلق حق الله تعالى بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر، ويتخرج أن يرجع إلى ملكه أحدهما بناء على المسألة التي قبلها فيما إذا عين عما في الذمة شاة فعطبت أو تعينت أنها ترجع إلى ملكه لأنه قد ذبح عما في الذمة فلم يلزمه شئ آخر كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي (فصل) إذا غصب شاة فذبحها عما في ذمته لم يجزه وإن رضي مالكها وسواء عوضه عنها أو لم يعوضه وقال أبو حنيفة يجزيه إن رضي مالكها.
ولنا أن هذا لم يكن قربة في ابتدائه فلم يصر قربة في أثنائه كما لو ذبحها للأكل ثم نوى بها التقرب وكما لو أعتق عبداً ثم نواه عن كفارته (فصل) لا يبرأ من الهدي إلا بذبحه أو نحره لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه فإن نحره بنفسه أو وكل من نحره أجزأه وكذلك إن نحره إنسان بغير إذنه في وقته وفيه اختلاف ذكرناه، وإن دفعه إلى الفقراء سليماً فنحروه أجزأ عنهم لأنه حصل المقصود بفعلهم فأجزأه كما لو ذبحه غيرهم وإن لم ينحروه فعليه أن يسترده منهم وينحره فان لم يفعل أو لم يقدر فعليه ضمانه لأنه فوته بتفريطه في دفعه إليهم سليماً (فصل) ويباح للفقراء الاخد من الهدي إذا لم يدفعه إليهم باحذ شيئين (أحدهما) الأذن فيه لفظاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من شاء اقتطع " (والثاني) دلالة الحال على الأذن كالتخلية بينهم وبينه، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يباح إلا باللفظ.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " اصبغ نعلها في دمها واضرب به صفحتها " دليل على أن ذلك وشبهه كاف من غير لفظ ولولا ذلك لم يكن هذا مفيداً (فصل) قال رحمه الله: سوق الهدي مسنون لا يجب إلا بالنذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فساق(3/576)
في حجته مائة بدنة وكان يبعث بهديه وهو بالمدينة وليس بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به والأصل عدم الوجوب فإن نذره وجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ولأنه نذر طاعة
فوجب الوفاء به كنذور الطاعات (1) (مسألة) (ويستحب أن يقفه بعرفة ويجمع بين الحل والحرام ولا يجب ذلك) روي استحباب ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه عن سعيد بن جبير.
وقال مالك: أحب للقارن يسوق هديه من حيث يحرم فإن ابتاعه من درن ذلك مما يلي مكة بعد أن يقفه بعرفة جاز، وقال في هدي المجامع إن لم يكن ساقه فليشتره من مكة ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه إلى مكة.
ولنا أن المراد من الهدي نحره ونفع المساكين بلحمه وهذا لا يقف على شئ مما ذكوره ولم يرد بما قالوه دليل يوجبه فبقي على أصله (مسألة) ويسن إشعار البدن وهو أن يشق صفحة سنامها حتى يسيل الدم ويقلدها ويقلد الغنم النعل وآذان القرب والعري) يسن تقليد الإبل والبقر وإشعارها وهو أن يشق صفحة سنامها الإيمن حتى يدميها في قول أهل العلم وقال أبو حنيفة هذا مثله غير جائز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان ولأنه إيلام فهو كقطع عضو منه، وقال مالك: إن كانت البقرة ذا ت سنام فلا بأس بإشعارها وإلا فلا لونا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها.
متفق عليه، وفعله الصحابة فيجب تقديمه على عموم ما احتجوا به ولأنه إيلام لغرض صحيح فجاز كالكي والوسم والحجامة وفائدته أن لا تختلط بغيرها وأن يتوقاها اللص ولا يحصل ذلك بالتقليد بمفرده لأنه يحتمل أن ينحل ويذهب وقياسهم ينتقض بالكي وبشعر البقرة لانها من البدن فتشعر كذات السنام.
أما الغنم فلا يسن اشعارها لأنها ضعيفة وصوفها وشعرها يستر موضع إشعارها.
إذا ثبت هذا فالسنة الاشعار في صفحتها اليمنى، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور وقال مالك وأبو يوسف بل(3/577)
يشعرها في صفحتها اليسرى، وعن أحمد مثله لأن ابن عمر فعله.
ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ثم دعا ببدنة وأشعرها من صفحة سنامها الإيمن وسلت الدم عنها بيده.
رواه مسلم.
وأما ابن عمر فقد روي عنه كمذهبنا رواه البخاري ثم فعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل ابن عمر
بغير خلاف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في شأنه كله وإذا ساق الهدي من قبل الميقات استحب اشعاره وتقليده من الميقات لحديث ابن عباس: وإن كانت غنماً استحب أن يقلدها نعلاً أو آذان القرب أو علافة إداوة أو عروة، وقال مالك وأبو حنيفة لا يسن تقليد الغنم لأنه لو كان سنة لنقل كما نقل في الابل.
ولنا ما روى أن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفتل القلائد للنبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ولأنه إذا سن تقليد الإبل مع أنه يمكن تعريفها بالإشعار فالغنم أولى وإن ترك التقليد والاشعار فلا شئ عليه لأنه غير واجب (مسألة) (وإذا نذر هديا مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة أو بقرة لأن المطلق في النذور يحمل على المعهود الشرعي، والهدي الواجب في الشرع إنما هو من النعم وأقله ما ذكرناه فحمل عليه ولهذا لما قال الله تعالى في المتعة (فما استيسر من الهدي) حمل على ما قلنا فإن اختار إخراج بدنة كاملة فهو أفضل وهل تكون كلها واجبة على وجهين ذكرناهما في باب الفدية) (مسألة) (ومن نذر بدنة أجزأته بقرة) قد ذكرنا ذلك في باب الفدية (مسألة) (فإن عين بنذره أجزأه ماعينه صغيرا كان أو كبيراً من الحيوان وغيره وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم إلا أن يعينه بموضع سواه) إذا عين الهدي بشئ لزمه ماعينه وأجزأه سواء كان من بهيمة الأنعام أو من غيرها وسواء كان حيواناً أو غيره مما ينقل أو مما لا ينقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من راح يعني إلى الجمعة في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة " فذكر الدجاجة والبيضة في الهدي وعليه إيصا له إلى فقراء الحرم لأنه سماه هديا وأطلق فيحمل على محل الهدي المشروع(3/578)
وقد قال سبحانه (ثم محلها إلى البيت العتيق) فإن كان مما ينقل كالعقار باعه وبعث ثمنه إلى الحرم فتصدق به فيه وكذلك إذا نذر هدياً مطلقاً أو معيناً وأطلق مكانه وجب عليه إيصاله إلى فقراء الحرم وجوز أبو حنيفة ذبحه حيث شاء كما لو نذر الصدقة بشاة.
ولنا قوله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) ولأن النذر يحمل على المعهود شرعاً والمعهود في الهدي الواجب بالشرع كهدي المتعة وشبهه
إن ذبحه يكون في الحرم كذا ههنا فإن عين نذره بموضع غير الحرم لزم ذبحه فيه ويفرق لحمه على مساكينه أو اطلاقه لهم لما روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت إن أنحر ببوانة.
قال " أبها صنم؟ " قال لا.
قال " أوف بنذرك " رواه أبو داود فإن نذر الذبح بموضع فيه صنم أو شئ من الكفر أو المعاصي كبيوت النار والكنائس والبيع وأشباه ذلك (1) لم يصح نذره لعموم هذا الحديث ولأنه نذر معصية فلا يوف به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نذر في معصية الله " ولقوله عليه السلام " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (مسألة) (ويستحب أن يأكل من هديه ولا يأكل من واجب إلا من دم المتعة والقرآن) يستحب أن يأكل من هديه وسواء في ذلك ما أوجبه بالتعيين من غير أن يكون واجباً في ذمته وما نحره تطوعاً من غير أن يوجبه لقول الله تعالى (فكلوا منها) وأقل أحوال الأمر الاستحباب، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنه، وقال جابر: كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث فرخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كلوا وتزودوا " فأكلنا وتزودنا رواه البخاري.
والمستحب أن يأكل اليسير كما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فاكلام منها وحسياً من مرقها ولأنه نسك فاستحب الأكل منه كالأضحية وله التزود والأكل كثيراً كما جاء في حديث جابر وتجزئه الصدقة باليسير منها كما في الأضحية فإن أكلها كلها ضمن المشروع للصدقة منها كما في الأضحية، وقال ابن عقيل: حكمه في الأكل والتفريق حكم الأضحية، وحديث جابر في أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر من كل جزور ببضعة يدل على خلاف قوله ولأن الهدي يكثر بخلاف الأضحية.
وإن(3/579)
لم يأكل فحسن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نحر البدنات الخمس قال " من شاء اقتطع " وظاهره أنه لم يأكل منهن شيئاً، وقال بعض أهل العلم يجب الأكل منها لظاهر الأمر.
ولنا الحديث المذكور ولأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها فلم يجب الأكل منها كالعقيقة (مسألة) (ولا يأكل من واجب إلا دم المتعة والقرآن دون ما سواهما) نص عليه أحمد لأن سببهما غير محظور فأشبها هدي التطوع، وهذا قول أصحاب الرأي، وعن
أحمد أنه يحرم الأكل من النذور وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن واسحق لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله لله تعالى بخلاف غيرهما وقال ابن أبي موسى: لا يأكل أيضاً من الكفارة ويأكل مما سوى الثلاثة ونحوه مذهب مالك، لأن ما سوى الثلاثة لم يسمه للمساكين ولا مدخل للإطعام فيه فاشبه التطوع وقال الشافعي لا يأكل من واجب لأنه هدي وجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة ولنا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة فصارت قارنة ثم ذبح عنهن النبي صلى الله عليه وسلم البقر فأكلن من لحومها، قال أحمد قد أكل من البقر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة.
وقالت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت أن يحل فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا؟ فقيل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
وقال ابن عمر تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة.
متفق عليه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها رواه مسلم.
ولأنهما دما نسك أشبها التطوع ولا يجوز الأكل من غيرهما لأنه وجب بفعل محظور أشبه جزاء الصيد (فصل) فإن أكل مما منع من أكله ضمنه بمثله لحماً لأن الجميع مضمون عليه بمثله حيواناً فكذلك ابعاضه، وكذلك إن أعطى الجازر منها شيئاً ضمنه بمثله فإن أطعم غنياً منها على سبيل الهدية جاز كما(3/580)
يجوز له ذلك في الاضحة لان ماملك أكله ملك هديته، وإن باع شيئاً منها أو أتلفه ضمنه بمثله لأنه ممنوع من ذلك عطيته للجازر، وإن أتلف أجنبي منه شيئا ضمنه بقيمته لأنه من غير ذوات الأمثال فضمنه بقيمته كما لو أتلف لحماً لآدمي معين (فصل) قال رحمه الله (والأضحية سنة مؤكدة لا تجب إلا بالنذر) أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة.
روى ذلك عن ابي بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال سويد بن غفلة وسعيد بن المسيب وعلقمة والاسود وعطاء والشافعي
واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال ربيعة ومالك والثوري والليث والاوزاعي وأبو حنيفة هي واجبة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كان له سبعة ولم يصح فلا يقربن مصلانا " وعن محنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا أيها الناس أن على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة " ولنا ماروى الدار قطبي بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث كتبن علي وهن لكم تطوع " وفي رواية " الوتر والنحر وركعتا الفجر " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره لوا بشرته شيئاً " رواه مسلم.
علقه على الإرادة والواجب لا يعلق على الإرادة، ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة، وحديثهم قد ضعفه أصحاب الحديث ثم نحمله على الاستحباب كما قال " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " وقال: " من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن صملانا " وقد روي عن أحمد في اليتيم يضحي عنه وليه إذا كان موسراً، وقال أبو الخطاب وهذا يدل على أنها واجبة والصحيح أن هذا على وجه التوسعة عليه لا سبيل الإيجاب.
فان نذرها وجبت لقول النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه " وهذا نذر طاعة(3/581)
(مسألة) (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها نص عليه) وبهذا قال ربيعة وأبو الزناد، وروي عن بلال أنه قال ما أبالي ألا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فوه أحب إلي من أن أضحي، وبهذا قال الشعبي وأبو ثور وقالت عائشة لأن أتصدق بخاتمي هذا أحب إلي من أن أهدي إلي البيت ألفاً.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء بعده، ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عزوجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً " رواه ابن ماجه: ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عائشة في الهدي لا في الاضحية
(مسألة) ويستحب أن يأكل ثلثها، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها، وإن أكل أكثر جاز) قال أحمد نحن نذهب إلى حديث عبد الله يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث.
قال علقمة بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آمل ثلثها، وإن أرسل إلى أهل أخيه بثلث، وأن أتصدق بثلث.
وعن ابن عمر قال: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين، وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر.
يجعلها نصفين يأكل نصفها ويتصدق بنصف لقول الله تعالى (فكلا منها وأطعموا البائس الفقير) وقال أصحاب الرأي ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة، وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت لي قدر فأكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها، ونحر خمس بدنات أو ست بدنات وقال " من شاء اقتطع " ولم يأكل منهن شيئاً.
ولنا ما روى ابن عباس في صفة أضحية النبي صلى الله عليه وسلم قال: ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث رواه الحافظ أبو موسى في الوظائف وقال حديث حسن، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ولم يعرف لهما مخالف في(3/582)
الصحابة.
ولأن الله تعالى قال فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) والقانع السائل، يقال قنع قنوعاً إذا سأل، والمعتر الذي يعتريك أي بتعرض لك لتطعمه ولا يسأل فذكر ثلاثة أصناف فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثاً، وأما الآية التي احتج بها أصحاب الشافعي فإن الله تعالى لم يبين قدر المأكول منها والمتصدق به وقد نبه عليه في آيتنا وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وابن عمر بقوله، وأما خبر أصحاب الرأي فهو في الهدي، والهدي يكثر فلا يتمكن الإنسان من قسمه وأخذ ثلثه فيتعين الصدقة.
والأمر في هذا واسع فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها أجزأ لأن الله تعالى أمر بالأكل والإطعام منها ولم يقيده بشئ فمتى أكل وأطعم فقد أتى بما أمر.
وقال أصحاب الشافعي يجوز أكلها كلها.
ولنا أن الله تعالى قال (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) وظاهر الأمر الوجوب، وقال بعض أهل العلم يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجميعها للأمر بالأكل.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات وقال " من شاء فليقتطع " ولم يأكل منهن شيئاً،
ولأنها ذبيحة يتقرب بها إلى الله تعالى فلم يجب الأكل منها كالعقيقة فيكون الأمر للاستحباب أو للاباحة كالامر بالأكل من الثمار والزروع والنظر إليها (فصل) ويجوز أن يطعم منها كافراً وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي وكره مالك والليث إعطاء النصراني جلد الأضحية، وقال مالك غيرهم أحب إلينا.
ولنا أنه طعام له أكله فجاز إطعامه الذمي كسائر طعامه، ولأنه صدقة تطوع فأشبه سائر صدقة التطوع، وأما الصدقة الا جبة منها فلا يجزئ دفعه إلى كافر لأنها واجبة فأشبهت الزكاة وكفارة اليمين (مسألة) (فإن أكلها كلها ضمن أقل ما يجزئ في الصدقة مها) لقول الله تعالى (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) والأمر يقتضي الوجوب، ولأن ما أبيح له أكله لا يلزمه غرامته، ويلزم غرم ما وجبت به الصدقة لأنه حق يجب عليه مع بقائه فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة ويضمنه بمثله لحماً لأن ما ضمن جميعه بحيوان ضمن بعضه بمثله وفيه قول آخر إنه يجب عليه ضمان ثلثها ذكره صاحب المحرر والأول أقيس وأصح(3/583)
(فصل) وإذا نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها، وقال القاضي من أصحابنا يمنع من الأكل منها وهو ظاهر كلام أحمد وبناه على الهدي المنذور.
ولنا أن النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها والنذر لا يغير من صفة المنذور إلا الإيجاب وفارق الهدي فإن الهدي الاجب بأصل الشرع لا يجوز الأكل منه فالمنذور محمول عليه (فصل) ويجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي وابن عمر رضي الله عنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث.
ولنا أن النبي قال " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدالكم " رواه مسلم، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما نهيتكم للدافة التي دفت فكلوا وتزودوا وتصدقوا وادخروا " قال أحمد رحمه الله فيه أسانيد صحاح، فأما علي وابن عمر فلم تبلغهما الرخصة وقد كانا سمعا النهي فروياه على ما سمعوه (فصل) ولا يضحي عما في البطن روى ذلك عن ابن عمر وبه قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً
وليس للعبد والمدبر والمكاتب وأم الولد أن يضحوا إلا بإذن سادتهم لأنهم ممنوعون من التصرف بغير إذنهم والمكاتب ممنوع من التبرع والأضحية تبرع، فأما من نصفه حراذا ملك يجزئه الحر فله أن يضحي بغير إذن سيده لأن له التبرع بغير إذن (مسألة) (ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً حتى يضحي وهل ذلك حرام؟ على وجهين؟ لما روت ام سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي " رواه مسلم، وفي رواية " ولا من بشرته " رواه مسلم ظاهر هذا التحريم وهو قول بعض أصحابنا، وحكاه ابن المنذر عن أحمد واسحاق وسعيد بن المسيب، وقال القاضي وجماعة من أصحابنا هو مكروه غير محرم، وبه قال مالك والشافعي(3/584)
لقول عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شئ أحله الله له حتى ينحر الهدي.
متفق عليه، وقال أبو حنيفة لا يكره ذلك لأنه لا يحرم عليه الوطئ واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي.
ولنا الحديث المذكور وظاهره التحريم وهذا يرد القياس وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه وتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص، ولأنه يجب حمل حديثهم على غير ما تناوله محل النزاع لوجوه (منها) أن أقل أحوال النهي الكراهة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل مانهي عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه) (ومنها) أن عائشة إنما تعلم ظاهراً ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائماً كاللباس والطيب، أما قص الشعر وتقليم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها، فإن احتمل إرادته فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص ولأن عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة تخبر عن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له، إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار، فإن فعل استغفر الله ولا فدية عليه اجماعا ساء فعله عمداً أو ناسياً
(فصل) قال ابن أبي موسى يستحب أن يحلق رأسه عقيب الذبح ولم يذكر له وجهاً والله أعلم ولعله لما كان ممنوعاً منه قبل الذبح استحب له ذلك كالمحرم (فصل) قال رضي الله عنه (والعقيقة سنة مؤكدة) العقيقة الذبيحة التي تذبح عن المولود، وقيل هي الطعام الذي يصنع ويدعى إليه من أجل المولود.
قال أبو عبيد العقيقة الشعر الذي على المولود، وجمعها عقائق ثم إن العرب سمت الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة على عادتهم في تسمية الشئ باسم سببه أو ما يجاوره ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية بحيث لا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة، وقال ابن عبد البر: أنكر أحمد هذا التفسير وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه، ووجهه أن أصل العق القطع، ومنه عق والدين إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم والمرئ والودجين(3/585)
والعقيقة سنة في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار وقال أصحاب الرأي ليست سنة وهي من أمر الجاهلية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقل " أن الله لا يجب العقوق " فكأنه كره الاسم وقال " من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل " رواه مالك في الموطأ وقال الحسن وداود هي واجبة وروي عن بريدة أن الناس يعرضون عليها كما يعرضون على الصلوات الخمس لما روى سلمة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمي ويحلق رأسه " وعن أبي هريرة مثله قال أحمد إسناده جيد، وروي حديث سمرة الاثرم وأبو داود، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام بشاتين مكافئتين (1) وعن الجارية بشاة، وظاهر الأمر الوجوب ولنا على أنها مستحبة هذه الاحاديث، وعن أمر كرز الكعبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة " وفي لفظ " عن الغلام شاتان مثلان، وعن الجارية شاة " رواه أبو داود وقد دل على استحبابها الإجماع.
قال أبو الزناد من أمر الناس كانوا يكرهون تركه، وقال أحمد رضي الله عنه العقيقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدعق عن الحسن والحسين وفعله أصحابه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الغلام مرتهن بعقيقته " وهو إسناد جيد يرويه أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم ومن جعلها من أمر الجاهلية فهو لأن هذه الأخبار لم تبلغه، والدليل على عدم وجوبها ما احتج به أصحاب الرأي من الخبر، وما روي فيها من الأخبار محمولة على تأكيد الاستحباب جمعاً بين الأخبار فإنه أولى من التعارض ولأنها ذبيحة لسرور حادث فلم تكن واجبة كالوليمة (فصل) وهي أفضل من التصدق بقيمتها نص عليه أحمد قال: إذا لم يكن عنده ما يعق فاستقرض رجوت أن يخلف الله عليه أحيا سنة.
قال أحمد احياء السنن واتباعها أفضل، وقد ورد فيها من تأكيد الأحاديث التي رويناها ما لم يرد في غيرها (مسألة) (عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة) يروي ذلك عن ابن عباس وعائشة وهو قول أكثر القائلين بها.
منهم الشافعي وأبو ثور وكان ابن عمر يقول: شاة شاة عن الغلام والجارية، لما روي(3/586)
أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن شاة، وعن الحسين شاة.
رواه أبو داود وكان الحسن وقتادة لا يريان عن الجارية عقيقة لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة.
ولنا حديث عائشة وأم كرز وما رووه محمول على الجواز.
إذا ثبت هذا فيستحب أن تكون الشاتان متماثلتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم شاتان مكافأتان، وفي رواية مثلان قال أحمد يعني متقاربتين أو متساويتين لما جاء من الحديث فيه، ويجوز فيها الذكر والأنثى لأنه روي في حديث أم كرز أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ولا بأس أن تكون ذكوراً أو إناثاً " رواه سعيد وابن داود والذكر أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وضحى بكبشين والعقيقة تجري مجرى الأضحية والأفضل في لونها البياض ويستحب استحسانها واستسمانها واستعظامها لما ذكرنا في الأضحية لأنها تشبهها فإن خالف ذلك أو عق بكبش واحد أجزأ لما روينا من حديث الحسن والحسين (مسألة) (وتذبح يوم سابعه ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي إحدى وعشرين) السنة أن تذبح العقيقة يوم السابع لما ذكرنا من حديث سمرة.
قال شيخنا ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم القائلين بمشروعيتها في استحباب ذبحها يوم السابع.
يستحب أن
يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وأن يتصدق بوزن شعره من الفضة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن " احلقي رأسه وتصدقي وزن شعره فضة على المساكين والاوقاص " يعني أهل الصفة رواه الإمام أحمد، وروى سعيد في سننه عن محمد بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وضحى بكبشين.
والعقيقة تجري مجرى الأضحية والأفضل في لونها البياض، وأنه تصدق بوزن شعورهما ورقاً وأن فاطمة رضي الله عنها كانت إذا ولدت ولداً حلقت شعره وتصدقت بوزن شعره ورقا: وإن سماه قبل السابع فحسن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ولد لي الليلة ولد فسميته باسم أبي إبراهيم " والغلام الذي جاء به أنس بن مالك فحنكه وسماه عبد الله.
ويستحب أن يحسن اسمه لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنكم تدعون يوم القيامة(3/587)
بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماكم " رواه أبو داود وقال عليه الصلاة والسلام " أحب الأسماء إلى الله عبد الله والرحمن " رواه مسلم وهو حديث صحيح وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال " أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي " وفي رواية " لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي " (فصل) فإن فات الذبح في السابع ففي أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين، وهذا قول إسحاق لأنه روي عن عائشة رضي الله عنها، والظاهر أنها لا تقوله إلا توفيقاً فإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأ لحصول المقصود بذلك فإن تجاوز إحدى وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع فيجعله في ثمان وعشرين، فإن لم يكن ففي خمس وثلاثين، وعلى هذا قياساً على ما قبله، واحتمل أن يجوز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها فإن لم يعق أصلاً فبلغ الغلام وكسب فقد سئل أحمد عن هذه المسألة فقال ذلك على الوالد يعني لا يعق عن نففسه لأن السنة في حق غيره وقال عطاء والحسن يعق عن نفسه لأنه مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه ولنا أنها مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها غيره كالأجنبي وكصدقة الفطر (فصل) يكره أن يلطخ رأس الصبي بدم عن أحمد والزهري ومالك والشافعي وابن المنذر
وحكي عن الحسن وقتادة أنه مستحب، وحكاه ابن أبي موسى قولا في المذهب لما روي في حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الغلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويدمى " رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال ابن عبد البر لا أعلم أحداً قال هذا إلا الحسن وقتادة وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مع الغلام العقيقة فهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى " رواه أبو داود وهذا يقتضي أن لا يمس بدم لأنه أذى، وروى زيد بن عبد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم " قال مهنا ذكرت هذا الحديث لأحمد فقال: ما أظرفه.
رواه ابن ماجه ولم يقل عن أبيه، ولأن هذا تنجيس له فلا يشرع كلطخه بغيره من النجاسات، وقال بريدة كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ويلطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة(3/588)
ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران.
رواه أبو داود فأما رواية من روى ويدمي فقال أبو داود ويسمى أصح هكذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتادة واياس بن دغفل عن الحسن ووهم همام وقال: ويدمي قال أحمد قال فيه ابن أبي عروبة يسمى، وقال همام يدمى، وما اره الاخطأ وقبل هو تصحيف من الراوي (مسألة) (وينزعها أعضاء ولا يكسر عظمها وحكمها حكم الأضحية) يستحب أن يفصلها أعضاء ولا يكسر عظامها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت السنة شاتان مكافأتان عن الغلام وعن الجارية شاة يطبخ جدولاً لا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع.
قال أبو عبيد الهروي في العقيقة تطبخ جدولاً لا يسكر لها عظم أي عضواً عضواً وهو الجدل بالدال غير المعجمة والأرب والشلو والعضو والوصل كله واحد إنما فعل بها ذلك لأنها أول ذبيحة ذبحت عن الغلام فاستحب ذلك تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة وروي أيضاً عن عطاء وابن جريج وبه قال الشافعي (فصل) وحكمها حكم الأضحية في سنها وما يجزئ منها، وما لا يجزئ، ويستحب فيها من الصفة ما يستحب فيها وكانت عائشة تنقول ائتوني به أعين أقرن.
قال عطاء الذكر أحب إلي من الأنثى والضأن أحب إلينا من المعز، ويكره فيها ما يكره في الأضحية وهي: الشرقاء والخرقاء والمقابلة
والمدابرة، ويستحب استشراف العين والأذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس عليها وحكمها في الأكل والهدية والصدقة حكم الأضحية، وبهذا قال الشافعي وقال ابن سيرين اصنع بلحمها كيف شئت، وقال ابن جريح تطبخ بماء وملح وتهدى في الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشئ وسئل أحمد عنها فحكى قول ابن سيرين، وهذا يدل على أنه ذهب إليه وسئل هل يأكلها كلها؟ قال: ألم أقل يأكلها كلها ولا يتصدق منها بشئ؟ والاشبه قياسها على الأضحية لانها نسيكة مشروعة غير واجبة أشبهت الأضحية، ولأنها أشبهتها في صفتها وسنها وقدرها وشروطها فكذلك في مصرفها وإن طبخها ودعا من أكلها فحسن (فصل) قال أحمد رحمه الله: يباع الجلد والرأس والسقط ويتصدق به ونص في الأضحية على(3/589)
خلاف هذا وهو أقيس في مذهبه لانها ذبيحة الله فلا يباع منها شئ كالهدي، ولأنه يمكن الصدقة به فلا جاجة إلى بيعه، وقال أبو الخطاب يحتمل أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى فيخرج في المسئلتين روايتان، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر فأشبهت الهدي، والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة أشبهت الذبح في الوليمة، ولأن الذبيحة ههنا لم تخرج عن ملكه فكان له أن يفعل بها ما شاء من بيع وغيره، والصدقة بثمن ما بيع منها بمنزلة الصدقة به في فضلها وثوابها وحصول النفع به فكان له ذلك (فصل) قال بعض أهل العلم: يستحب للوالد أن يؤذن في أذن ابنه حين يولد لما روى عبد الله ابن رافع عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وسماه وروينا أن رجلاً قال لرجل عند الحسن يهنيه بانب: ليهنك الفارس، فقال الحسن: وما يدرك أفارس هو أو حمار؟ فقال كيف نقول؟ قال قل؟ بورك لك في الموهوب؟ وشكرت الواهب؟ وبلغ أشده؟ ورزقت بره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر.
وروى أنس رضي الله عنه قال: ذهب بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد قال " هل معك تمر؟ " فناولته تمرات فلاكهن ثم فغرفاه ثم مجه
طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد قال " هل معك تمر؟ " فناولته تمرات فلاكهن ثم فغرفاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظروا إلى حب الأنصار التمر " وسماه عبد الله (مسألة) (ولا تسن الفرعة وهي ذبح أول ولد الناقة ولا العتيرة وهي ذبيحة رجب) هذا قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين فإنه كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئاً(3/590)
والفرعة والفرع بفتح الراء أول ولد الناقة كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية فنهوا عنها قال ذلك أبو عمرو الشيباني وقال أبو عبيد: العتيرة هي الرجبية كان أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمراً نذر أن يذبح من غنمه شاة في رجب وهي العتائر، والصحيح إن شاء الله تعالى أنهم كانوا يذبحونها في رجب من غير نذر جعلوا ذلك سنة فيما بينهم كالأضحية في الأضحى وكان منهم من ينذرها كما قد ينذر الأضحية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم " على كل أهل بيت أضحاة وعتيرة " وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام تقريراً لما كان في الجاهلية وهو يقتضي ثبوتها بغير نذر ثم نسخ بعد، ولأن العتيرة لو كانت هي المنذورة لم تكن منسوخة فإن الإنسان لو نذر ذبح شاة في أي قت كان لزمه الوفاء بنذره وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة.
قال إبن المنذر: هذا حديث ثابت.
ولنا على أنها لا تسن ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا فرع ولا عتيرة " متفق عليه.
وهذا الحديث متأخر على الأمر بها فيكون ناسخا ودليل تأخر أمران (أحدهما) أن راويه أبو هريرة وهو متأخر الإسلام فإن إسلامه في سنة فتح خيبر وهي السنة السابعة من الهجرة (والثاني) أن الفرع والعتيرة كان فعلها أمراً متقدماً على الإسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له، ولو قدرنا تقدم النهي عن الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها، وهذا خلاف الظاهر، إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة فقي رجب أو ذبح ولد الناقة لجاته إلى ذلك أو للصدقة به وإطعامه لم يكن ذلك مكروها والله تعالى أعلم (تم الجزء الثالث..)(3/591)
بسم الله الرحمن الرحيم (وبه نستعين) كتاب البيع البيع مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً واشتقاقه من الباع لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع ولذلك سمي البيع صفقة والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (وأحل الله البيع) وقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقوله (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا فيه فأنزلت (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم الحج، وعن ابن الزبير نحوه رواه البخاري، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
__________
ليعلم أن كتاب البيع في الشرح الكبير متأخر عن موضعه هنا فقدمناه لاجل موافقته للمغني للاستفادة من الكتابين قراءة ومراجعة(4/2)
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " متفق عليه، وروى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال " يا معشر التجار " فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال " إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح في أحاديث كثيرة سوى هذه، وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه ولا يبذله صاحبه بغير عوض ففي تجويز البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته (مسألة) (وله صورتان (إحداهما) الإيجاب والقبول.
فالإيجاب أن يقول البائع بعتك أو ملكتك أو نحوهما، والقبول أن يقول المشتري ابتعت أو قبلت أو ما في معناهما فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى الروايتين) إذا تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي كقوله ابتعت منك فقال بعتك صح في أصح الروايتين لأن لفظ القبول والإيجاب وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما فيصح كما لو تقدم الإيجاب (والثانية) لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح مع تقدم القبول كالنكاح ولأن القبول مبني على الإيجاب فإذا لم يتقدم الإيجاب فقد أتى بالقبول في غير محله فوجوده كعدمه، فإن تقدم بلفظ الطلب فقال: بعني ثوبك بكذا فقال بعتك ففيه روايتان أيضاً (إحداهما) يصح لما ذكرنا وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأنه لو تأخر عن الإيجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام ولأنه عقد عري عن القبول فلم ينعقد كما لو لم يطلب فأما إن تقدم بلفظ الاستفهام مثل أن يقول أتبيعني ثوبك بكذا فيقول بعتك لم يصح بحال.
نص عليه أحمد(4/3)
وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم لأن ذلك ليس بقبول ولا استدعاء (مسألة) (وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ماداما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه وإلا فلا) لأن حالة المجلس كحالة العقد بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه، فإن تفرقا عن المجلس أو تشاغلا بما يقطعه لم يصح لأن العقد إنما يتم بالقبول فلم يتم مع تباعده عنه كالاستثناء والشرط وخبر المبتدأ الذي لايتم الكلام إلا به
(مسألة) (الثانية المعاطاة) وهو أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه ما يرضيه أو يقول البائع خذ هذا بدرهم فيأخذه، وقال القاضي لا يصح هذا إلا في الشئ اليسير نص أحمد على صحة هذا البيع فيمن قال لخباز كيف تبيع الخبز؟ قال كذا بدرهم قال زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه وقول مالك نحو من هذا فإنه قال: يقع البيع بما يعتقده الناس بيعاً، وقال بعض الحنفية يصح في خسائس الأشياء: وهو قول القاضي لأن العرف إنما جرى به في الشئ اليسير ومذهب الشافعي أن البيع لا يصح إلا بإيجاب وقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا ولنا أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفريق، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولأن البيع كان موجوداً بينهم معلوماً عندهم.
وإنما علق الشرع عليه أحكاماً وأبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول.
ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً، ولو كان ذلك شرطاً لوجب نقله ولم يتصور منهم اهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط الإيجاب والقبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيراً وأكلهم المال بالباطل ولم ينقل ذلك(4/4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان أجماعاً ولأن الإيجاب والقبول انما يرادان للدلالة فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه (فصل) وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة فانه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة.
متفق عليه وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه " أهديه أم صدقة؟ " فإن قيل صدقة قال لأصحابه " كلوا " ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم وفي حديث سلمان
رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: هذا شئ من الصدقة رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " كلوا " ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر فقال رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شئ أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله " وأكل ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية ولو كان الإيجاب والقبول شرطاً في هذه العقود لشق ذلك ولكانت أكثر العقود فاسدة وأكثر أموالهم محرمة وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى (فصل) قال رضي الله عنه (ولا يصح البيع إلا بشروط سبعة (أحدها) التراضي به وهو أن يأتيا به اختياراً لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فإن كان أحدهما مكرهاً لم يصح لعدم الشرط إلا أن يكره بحق كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه فيصح لأنه قول حمل عليه لحق فصح كإسلام المرتد) (فصل) (الثاني أن يكون العاقد جائز التصرف وهو المكلف الرشيد فلا يصح من غير عاقل(4/5)
كالطفل والمجنون والمبرسم والسكران والنائم لأنه قول يعتبر له الرضى فلم يصح من غير عاقل كالإقرار وسواء أذن له وليه أو لم يأذن (فأما الصبي المميز والسفيه فيصح تصرفهما بإذن وليهما) في إحدى الروايتين (ولا يصح بغير إذنهما إلا في الشئ اليسير) يصح تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في إحدى الروايتين.
وهو قول أبي حنيفة (والأخرى) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير مكلف فأشبه غير المميز، ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصح به التصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطاً وهو البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة ولنا قول الله تعالى (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) معناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق ذلك بتفويض التصرف إليهم من البيع والشراء ليعلم هل تغير أولا ولأنه عاقل مميز محجور عليه فيصح تصرفه بإذن وليه كالعبد، وفارق غير المميز فإنه لا تحصل له المصلحة بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة الى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه قلنا يعلم ذلك بتصرفاته وجريانها على وفق المصلحة كما يعلم في حق البالغ
فإن معرفة رشده شرط لدفع ماله إليه وصحة تصرفه كذا ههنا، فأما إن تصرف بغير إذن وليه(4/6)
لم يصح تصرفه الا في الشئ اليسير، وكذلك تصرف غير المميز لما روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه اشترى من صبي عصفوراً فأرسله ذكره ابن أبي موسى، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي حنيفة وهو مبني على تصرف الفضولي وسنذكره إن شاء الله تعالى، وكذلك الحكم في تصرف السفيه بإذن وليه فيه روايتان (إحداهما) يصح لأنه عقد معاوضة فملكه بالإذن كالنكاح وقياساً على الصبي المميز، يحقق هذا أن الحجر على الصبي أعلى من الحجر عليه فههنا أولى بالصحة ولأننا لو منعنا تصرفه بالإذن لم يكن لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره) (والثانية) لا يصح لأن الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرفه فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه فلم يصح كما لو أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة وللشافعي وجهان كهاتين ويصح تصرفه في الشئ اليسير كالصبي (فصل) (الثالث: أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة) (فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبذره والنحل منفرداً أو في كواراته) قوله لغير ضرورة احتراز من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة والخمر يباح دفع اللقمة بها، فكل عين مملوكة يجوز اقتناؤها والانتفاع بها في غير حال الضرورة يجوز بيعها إلا ما استثناه الشرع كالكلب وأم الولد والوقف لان الملك سبب إطلاق التصرف، والمنفعة المباحة يباح له استبقاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها توصلا إليها ودفعاً لحاجته بها كسائر ما أبيح نفعه، وسواء في ذلك ما كان طاهرا كالثياب والعقار وبهيمة(4/7)
الأنعام والخيل والصيود أو مختلفاً في نجاسته كالبغل والحمار لا نعلم في ذلك خلافاً، ويجوز بيع الجحش الصغير والفهد الصغير وفرخ البازي إذا قلنا بجواز بيعهما لأنه ينتفع به في المال فأشبه طفل العبيد (فصل) ويجوز بيع دود القز وبذره وقال أبو حنيفة إن كان مع دود القز قز جاز بيعه وإلا فلا لأنه لا ينتفع بعينه فهو كالحشرات وقيل لا يجوز بيع بذره، ولنا أنه حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لتملك ما يخرج منه أشبه البهائم ولأن الدود وبذره طاهر منتفع به فجاز بيعه كالثوب، وقوله لا ينتفع بعينه
يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع سوى النتاج ويفارق الحشرات التي لا نفع فيها أصلا فإن نفع هذه كثير لأن الحرير الذي هو أشرف الملابس إنما يحصل منها (فصل) ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع، وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعها منفردة كما ذكر في دود القز، ولنا أنه حيوان طاهر يخرج من بطنه شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه كبهيمة الأنعام، واختلف أصحابنا في بيعها في كواراتها فقال القاضي لا يجوز لأنه لا يمكن مشاهدتها جميعا ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا معها وهو مجهول.
وقال أبو الخطاب يجوز بيعها في كواراتها منفردة عنها فإنه يمكن مشاهدتها في كواراتها إذا فتح رأسها يعرف كثرته من قلته، وخفاء بعضه لايمنع صحة بيعه كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض فلا يشاهد إلا ظاهرة والعسل يدخل في البيع تبعاً فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان، فإن لم يمكن مشاهدته لكونه مستوراً بأقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته(4/8)
(فصل) وفي بيع العلق التي ينتفع بها كالتي تعلق على صاحب الكلف فيمص الدم والديدان التي تترك في الشص فتصاد بها السمك وجهان: أصحهما جواز بيعها لحصول نفعها فهي كالسمك (والثاني) لا يجوز بيعها لأنها لا ينتفع بها إلا نادرا فشبهت ما لانفع فيه.
(مسألة) (ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب اختارها الخرقي.
والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر) يجوز بيع الهر وبه قال ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه كره ثمنها وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر ابن زيد اختاره أبو بكر لما روى مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن السنور فقال زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور رواه أبو داود ولنا أنه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد في حبسه فجاز بيعه كالبغل والحمار، ويمكن حمل الحديث على غير المملوك منها وعلى ما لانفع فيه منها بدليل ما ذكرناه (فصل) ويجوز بيع الفيل وسباع البهائم والطير الذي يصلح للصيد كالفهد والصقر والبازي
والعقاب والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغة وأشباه ذلك وبهذا قال الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز وابن أبي موسى لا يجوز بيع الفهد والصقر والفيل ونحوها لأنها نجسة فلم يجز بيعها كالكلب(4/9)
ولنا أنه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد في حبسه فأبيح بيعه كالبغل والحمار وما ذكروه يبطل بالبغل والحمار وحكمهما حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع.
فأما الكلب فإن الشرع توعد على اقتنائه وحرمه إلا في حال الحاجة فصارت إباحته ثابتة بطريق الضرورة ولأن الأصل إباحة البيع لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) حرم منه ما استثناه الشرع لمعان غير موجودة في هذا فيبقى على أصل الإباحة، فإن كان الفهد والصقر ونحوها ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لم يجز بيعه لعدم النفع به، وإن أمكن تعليمه جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع أشبه الجحش الصغير فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعل عليها شباشاً ليجمع الطير إليها فيصيده الصياد فيحتمل جواز بيعها للنفع الحاصل منها ويحتمل المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه (فصل) فأما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير فإن لم يكن فيه نفع لم يجز بيعه طاهراً كان أو نجسا وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخاً وكان طاهراً جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به أشبه أصله، وإن كان نجساً كبيض البازي والصقر ونحوه فحكمه حكم فرخه، وقال القاضي لا يجوز بيعه لنجاسته وكونه لا ينتفع به في الحال وما ذكر ملغى بفرخه وبالجحش الصغير (فصل) قال أحمد رحمه الله أكره بيع القرد.
قال ابن عقيل هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب فأما بيعه لمن ينتفع به لحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنه كالصقر وهذا مذهب الشافعي وقياس قول أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقاً (مسألة) (ويجوز بيع العبد المرتد المريض وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان)(4/10)
حكم بيع المرتد حكم القاتل في صحة بيعه وسائر أحكامه، وبيعه جائز لأن قتله غير متحتم لاحتمال رجوعه إلى الاسلام ولانه مملوك منتفع به، وخشية هلاكه لا تمنع صحة بيعه كالمريض فإنا لا نعلم خلافاً
في صحة بيع المريض (فصل) ويصح بيع العبد الجاني في أصح الوجهين سواء كانت جنايته عمداً أو خطأ على النفس أو ما دونها موجبة للقصاص أو غير موجبة وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا يصح بيعه لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع صحة بيعه كالرهن.
بل حق الجناية آكد لأنها تقدم على حق المرتهن.
ولنا أنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة أو حق ثبت بغير رضى سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته أو تصرف في الجاني فجاز كالعتق، وإن كان الحق قصاصاً فهو يرجى سلامته ويخشى تلفه وذلك لا يمنع كالمريض، أما الرهن فإن الحق متعلق فيه لا يملك سيده إبداله ثبت الحق فيه برضاه وثيقة للدين فلو أبطله بالبيع سقط حق الوثيقة الذي التزمه برضاه واختياره (فصل) فأما القاتل في المحاربة فإن تاب قبل القدرة عليه فهو كالجاني وإن لم يتب حتى قدر عليه فقال أبو الخطاب هو كالقاتل في غير محاربة لأنه عبد قن يصح اعتاقه ويملك استخدامه فصح بيعه كغير القاتل، ولأنه يمكنه الانتفاع به إلى حين قتله، ويعتقه فيجر به ولاء أولاده فجاز بيعه كالمريض المأيوس من برئه، وقال القاضي لا يصح بيعه لأنه تحتم قتله وإتلافه وإذهاب ماليته وحرم إبقاؤه فصار بمنزلة ما لا ينتفع به من الحشرات والميتات، وهذه المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد بها محلا للبيع كالمنفعة الحاصلة من الميتة لسد رمق أو إطعام كلب، والأولى أصح فإنه كان محلا للبيع والأصل بقاء ذلك فيه وانحتام إتلافه لا يجعله تالفاً بدليل أن أحكام الحياة من التكليف وغيره لا تسقط عنه ولا تثبت(4/11)
أحكام الموتى له من إرث ماله ونفوذ وصيته وغيرها، ولأن خروجه عن حكم الأصل لا يثبت إلا بدليل ولانص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات لأن تلك لم يكن فيها منفعة فيما مضى ولافي الحال وعلى أن هذا المحتم يمكن زواله لزوال ما يثبت به من الرجوع عن الإقرار والرجوع من الشهود ولو لم يمكن زواله فأكثر ما فيه تحقق تلفه، وهذا يجعله كالمريض المأيوس من برئه وبيعه جائز (فصل) فأما بيع لبن الآدميات فرويت الكراهة فيه عن احمد، واختلف أصحابنا في جوازه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي.
وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وهو مذهب أبي
حنيفة ومالك لأنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه جزء من آدمي فلم يجز بيعه أشبه سائر أجزائه.
والأول أصح لأنه طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فانه لانفع فيه.
ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه يجوز بيع العبد والأمة.
وإنما حرم بيع الحر لأنه غير مملوك وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لانفع فيه (مسألة) (وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان) قال أحمد لا أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها.
وقال الشراء أهون.
وممن كره بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن جبير واسحاق قال ابن عمر وددت أن الأيدي تقطع في بيعها.
وقال أبو الخطاب يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهي رواية عن أحمد لأنه منتفع به فأشبه سائر كتب العلم، وهل يكره شراؤه وإبداله؟ على روايتين ورخص في بيعها الحسن والحكم وعكرمة والشافعي وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الورق والجلد وبيعه مباح ولنا قول الصحابة ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى فتجب صيانته عن البيع والابتذال (يقول الاخرون ان المبتذل ما لا يباع وانفس الجواهر تباع وان بيعه يسهل على الناس الانتفاع به تعميم هدايته وكتبه محمد رشيد رضا) أما الشراء فهو أسهل لأنه استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها ولم ير بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع كراهية كسبه والرواية الأخرى يكره لأن المقصود منه كلام الله تعالى فيجب صيانته عن الابتذال وفي جواز شرائه التسبب إلى ذلك والمعونة عليه، ولا يجوز بيعه لكافر فإن اشتراه فالبيع باطل وبه(4/12)
قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يجوز ويجبر على بيعه لأنه أهل للشراء والمصحف محل، له ولنا أنه يمنع من استدامة الملك عليه فمنع من ابتدائه كسائر مالا يجوز بيعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز تمكينهم من التوسل إلى نيل أيديهم اياه {مسألة} (ولا يجوز بيع الحشرات ولا الميتة ولا شئ منها ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد)
لا يجوز بيع الميتة ولا الخنزير ولا الدم.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على القول به، وذلك لما روى جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم وهو بمكة يقول " إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام " متفق عليه ولا يجوز بيع مالا نفع فيه كالحشرات كلها وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد كالأسد والذئب، وما لا يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم والحدأة والغراب الأبقع وغراب البين وبيضها لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل للمال بالباطل ولانه ليس فيها نفع مباح أشبهت الخنزير {مسألة} (ولايجوز بيع الكلب أي كلب كان لا نعلم فيه خلافا في المذهب) وبه قال الحسن وربيعة.
وحماد والشافعي وداود، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله وعطاء والنخعي رو أجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ ثمنها، وعنه لا يجوز بيع الكلب العقور واختلف أصحاب مالك فقال قوم لا يجوز.
وقال قوم يجوز بيع الكلب المأذون في إمساكه ويكره لما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد ولأنه يباح الانتفاع به.
ويصح نقل اليد فيه والوصية به فصح بيعه كالحمار ولنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهى متفق عليه وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثمن الكلب خبيث " رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملؤا كفه تراباً رواه أبودواد ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة أشبه الخنزير، وأما حديثهم فقال الترمذي لا يصح اسناد هذا الحديث.
قال الدارقطني الصحيح أنه موقوف على جابر وقال أحمد هذا من الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف (فصل) ولا يحل قتل الكلب المعلم لأنه محل منتفع به مباح اقتناؤه فحرم إتلافه كالشاة.
ولا نعلم في هذا خلافاً ولا غرم على قاتله وهذا مذهب الشافعي.
وقال مالك وعطاء عليه الغرم لما ذكرنا في تحريم قتله.
ولنا أنه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه بإتلافه كالخنزير.
وإنما حرم إتلافه لما فيه من الاضرار وهو منهي عنه.
فأما قتله ما لا يباح إمساكه من الكلاب فإن كان أسود بهيما أبيح قتله لأنه شيطان كما جاء في حديث أبي ذر ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن الكلاب
أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم " وكذلك يباح قتل الكلب العقور لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " متفق عليه ويقتل كل واحد من هذين وإن كان(4/13)
معلماً لما ذكرنا من الحديثين.
وعلى قياس الكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم يباح قتله ولأنه يؤذي بلا نفع أشبه الذئب وما لا مضره فيه لا يباح قتله للخبر المذكور.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال " عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان " رواه مسلم (فصل) ويحرم اقتناء الكلاب الاكلب الصيد والماشية والحرث لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أوصيد أوزرع نقص من أجره كل يوم قيراط " متفق عليه.
وإن اقتناه لحفظ البيوت لم يجز للخبر، ويحتمل الا باحة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه في معنى الثلاثة والأول أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما تناول أول الخبر تحريمه قال القاضي وليس هو في معناها فقد يحتال اللص باخراجه بشئ يطعمه إياه ليسرق المتاع، أما الذئب فلا يحتمل هذا في حقه ولأن اقتناءه في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء (فصل) ويجوز تربية الجرو الصغير لأحد الثلاثة في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك فيأخذ حكمه كما جاز بيع الجحش الصغير الذى لانفع فيه في الحال لمآله إلى الانتفاع ولأنه لو لم يتخذ الصغير لما أمكن جعل الكلب للصيد إذ لا يصير معلماً إلا بالتعلم ولا يمكن تعلمه إلا بتربيته واقتنائه مدة يعلمه فيها قال الله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن) ولا يوجد كلب معلم بغير تعليم.
والثاني لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة (فصل) ومن اقتنى كلب صيد ثم ترك الصيد مدة وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة تركه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه، وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح اقتناؤه حتى يزرع زرعاً آخر، وكذلك لو هلكت ماشيته أو باعها وهو يريد شراء غيرها فله إمساك كلبها لينتفع به في التي
يشتريها، فإن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به احتمل الجواز لاستثنائه في الخبر مطلقاً واحتمل المنع لأنه اقتناء من غير حاجة أشبه غيره من الكلاب، ومعنى كلب الصيد أي كلب يصيد به وهكذا الاحتمالان فيمن اقتنى كلباً ليحفظ له حرثاً أو ماشية إن حصلت أو يصيد به إن احتاج إلى الصيد وليس في الحال حرث ولا ماشية، ويحتمل الجواز لقصده ذلك كما لو حصد الزرع وأراد زرع غيره (مسألة) (ولا يجوز بيع السرجين النجس) وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجوز ولأن أهل الأمصار يبتاعونه لزرعهم من غير نكير فكان إجماعاً ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وما ذكروه ليس بإجماع لان الاجماع اتفاق أهل العلم ولم يوجد ولأنه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع الآدمي (فصل) ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها وملكها لا نعلم في ذلك خلافا وقد روى البخاري بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عزوجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره " {مسألة} (ولايجوز بيع الادهان النجسة)(4/14)
في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه لأن أكله حرام لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان مائعاً فلا تقربوه " من المسند وإذا كان حراماً لم يجز بيعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " ولأنه نجس فلم يجز بيعه قياساً على شحم الميتة وعنه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها لأنه يعتقد حلها ويستبيح أكلها ولأنه قد روي عن أبي موسى لتوا به السويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه، والصحيح الأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها، إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " متفق عليه.
ولأنه لا يجوز بيعها من مسلم فلا يجوز بيعها لكافر كالخمر والخنزير فإنهم يعتقدون حله ولايجوز بيعه لهم ولأنه دهن نجس فلم يجز بيعه لكافر كشحوم الميتة.
قال شيخنا ويجوز أن يدفع إلى الكافر في فكاك مسلم ويعلم الكافر بنجاسته لأنه ليس ببيع في الحقيقة إنما هو استنقاذ المسلم به
{مسألة} (وفي جواز الاستصباح بها روايتان ويخرج على ذلك جواز بيعها) اختلفت الرواية في الاستصباح بالزيت النجس فروي عنه أنه لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في السمن الذي ماتت فيه الفأرة " وإن كان مائعاً فلا تقربوه " ولا النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال " لا، هو حرام " متفق عليه.
وهذا في معناه وهو قول ابن المنذر وعنه إباحته لأن ذلك يروي عن ابن عمر وهو قول الشافعي لأنه أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر وهذا اختيار الخرقي، فعلى هذا يستصبح به على وجه لا تتعدى نجاسته إما أن يجعل في إبريق ويصب منه في المصباح ولا يمس وإما أن يدع على رأس الجرة التي فيها الزيت سراجاً مثقوباً ويطبقه على رأس إناء الزيت، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء بحيث يرتفع الزيت فيملأ السراج وما أشبه هذا، وعلى قياس هذا كل انتفاع لا يفضي إلى التنجيس بها يجوز ويتخرج على جواز الاستصباح به جواز بيعه وهكذا ذكره أبو الخطاب لأنه يجوز الإنتفاع به من غير ضرورة فجاز بيعه كالبغل والحمار، وهل تطهر بالغسل فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى، وإذا قلنا تطهر بالغسل فالقياس يقتضي جواز بيعها لأنها عين نجسة تطهر بالغسل أشبهت الثوب النجس.
وكره أحمد رحمه الله أن تدهن بها بالجلود وقال تجعل منها الأسقية، ونقل عن ابن عمر أنه يدهن بها الجلود وعجب أحمد من هذا فيحتمل أن يحمل على ما لا تتعدى نجاسته كالنعال كما قلنا في جلود الميتة (فصل) فأما شحوم الميتة وشحم الكلب والخنزير فلا يجوز الاستصباح به ولا الإنتفاع به في جلود ولا سفن ولا غيرها لما ذكرنا من الحديث، وإذا استصبح بالزيت النجس فاجتمع من دخانه شئ فهو نجس لأن جزء منه، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة فان علق بشئ عفي عن يسيره لمشقة التحرز عنه وإن كثر لم يعف عنه (فصل) ولايجوز بيع الترياق الذي فيه لحوم الحيات لأن نفعه إنما يحصل بالأكل وهو محرم فخلا(4/15)
من نفع مباح فلم يجز بيعه كالميتة، ولا يجوز التداوي به ولا بسم الأفاعي، فأما سم النبات فإن كان لا ينتفع به أو يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه، وإن أمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا جاز بيعه لأنه طاهر منتفع به
(فصل) (الرابع أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه فإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه لم يصح وعنه يصح ويقف على إجازة المالك) إذا اشترى بعين مال غيره أو باع ماله بغير إذنه ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح البيع وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر (والثانية) يصح البيع والشراء ويقف على إجازة المالك فإن أجازه نفذ ولزم البيع وإن لم يجزه بطل وهو قول مالك وإسحاق وبه قال أبو حنيفة في البيع.
فأما الشراء فيقع للمشتري عنده بكل حال لما روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة وأخبرته فقال " بارك الله لك في صفقة يمينك " رواه ابن ماجه والاثرم ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فصح وقفه على إجازته كالوصية بزيادة على الثلث ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام " لاتبع ما ليس عندك " رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح يعني مالا تملك لأنه ذكره جواباً له حين سأله أنه يبيع الشئ ويمضي ويشتريه ويسلمه.
ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب ولانه باع مالا يقدر على تسليمه فأشبه الطير في الهواء.
فأما الوصية فيتأخر فيها القبول عن الإيجاب، ولا يعتبر ان يكون لها مجيز حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر مالايجوز في البيع، وحديث عروة نحمله على أن وكالته كانت مطلقة بدليل أنه يسلم ويستلم وليس ذلك لغير المالك باتفاقنا {مسألة} (وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه صح فإن أجازه من اشترى له ملكه وإلا لزم من اشتراه) إذا اشترى في ذمته لإنسان شيئاً بغير إذنه صح لأنه متصرف في ذمته لا في مال غيره وسواء نقد الثمن من مال الغير أو لا لأن الثمن هو الذي في الذمة والذي نقده عوضه ولذلك قلنا إنه إذا اشترى ونقده الثمن بعد ذلك كان له البدل، وإن خرج مغصوباً لم يبطل العقد وإنما وقف الأمر على إجازة الآخر لإنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وإن لم يقبله لزم من اشتراه (فصل) وإن باع سلعة وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم مالو باعها بغير إذنه في قول الأكثرين منهم أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي قال ابن أبي ليلى سكوته إقرار لأنه يدل على الرضا كسكوت
البكر في الاذن في النكاح.
ولنا أن السكوت محتمل فلم يكن إذنا كسكوت الثيب، وفارق سكوت البكر لوجود الحياء المانع من الكلام في حقها وليس ذلك موجوداً هاهنا {مسألة} (ولايجوز بيع مالا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه رواية واحدة) وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لاتبع ما ليس عندك " حديث حسن صحيح ولانه يبيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء(4/16)
{مسألة} (ولا يجوز بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا المساكن وأرضاً من العراق فتحت صلحاً وهي الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني صلوبا لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام ولم تقدر مدتها لعموم المصلحة فيها) لا يجوز بيع شئ من الأرض الموقوفة ولا شراؤه كأرض الشام ونحوها في ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وروي ذلك عن عبد الله ابن مغفل وقبيصة بن ذؤيب وميمون بن مهران والاوزاعي ومالك وأبي إسحاق الفزاري.
قال الأوزاعي لم تزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه علماؤهم، وقال: أجمع رأي عمر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهروا على أهل الشام على إقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون خراجها إلى المسلمين ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرض طوعا ولاكرها وكرهوا ذلك لما كان من أيقاف عمر وأصحابه الأرضين المحبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين لاتباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهر عليه بعد من المشركين، وقال الثوري إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها، وروي نحو هذا عن ابن سيرين والقرظي، لما روى عبد الرحمن بن زيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً على أن يكفيه جزيتها، وروي عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبقر (1) في الأهل والمال، ثم قال
عبد الله وكيف بمال بزاذان وبكذا وكذا؟ وهذا يدل على أن له مالاً بزا ذان ولأنها أرض لهم فجاز بيعها كأرض الصلح، وقد روي عن أحمد أنه قال: كان الشراء أسهل يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس وهو رجل من المسلمين وكره البيع، قال شيخنا وإنما رخص في الشراء والله أعلم لأن بعض الصحابة اشترى ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض ليقوم فيها مقام من كانت في يده والبيع.
أخذ عوض عما لا يملكه ولا يستحقه فلا يجوز ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا أراضيهم.
وقال الشعبي اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قصا فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها؟ قال من أربابها، فلما اجتمع المهاجرون والأنصار قال هؤلاء أربابها فهل اشتريت منهم شيئاً؟ قال لا، قال فارددها إلى من اشتريتها منه وخذ مالك.
وهذا قول عمر في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر فكان إجماعاً ولا سبيل إلى وجود إجماع أقوى من هذا وشبهه إذ لا سبيل إلى نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا إلى نقل قول العشرة ولم يوجد الإجماع إلا القول المنتشر، فإن قيل فقد خالفه ابن مسعود بما ذكر عنه.
قلنا لا نسلم المخالفة وقولهم اشترى قلنا المراد به أكرى كذا قال أبو عبيد، والدليل عليه قوله على أن يكفيه جزيتها ولا يكون مشتريا لها وجزيتها على غيره وقد روي عنه القاسم أنه قال: من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار والذل وهذا يدل على أن الشراء هنا الاكتراء وكذلك كل من رويت عنه الرخصة في الشراء محمول
__________
(1) التبقر التوسع(4/17)
على ذلك وقوله فكيف بمال بزاذان ليس فيه ذكر الشراء، ولأن المال الأرض فيحتمل أنه أراد من السائمة أو الزرع أو نحوه، ويحتمل أنه أراد أرضاً اكتراها وقد يحتمل أنه أراد بذلك غيره وقد يعيب الإنسان الفعل المعيب من غيره (جواب ثان) أنه يتناول الشراء وبقي قول عمر في النهي عن البيع غير معارض، فأما المعنى فلأنها موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الوقوف والدليل على وقفها النقل والمعنى أما النقل فما نقل من
الأخبار أن عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها وتركها لتكون مادة للمسلمين الذين يقاتلون في سبيل الله إلى يوم القيامة وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور تغني شهرته عن نقله وأما المعنى فلانها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم لورثته (الظاهر أن تكون لورثتهم) ولمن انتقلت إليه عنهم ولم تكن مشتركة بين المسلمين، ولأنه لو قسمت لنقل ذلك ولم يخف بالكلية فإن قيل فهذا لا يلزم منه الوقف لأنه يحتمل أنه تركها للمسلمين عامة فتكون فيئاً للمسلمين والإمام نائبهم فيفعل ما يرى فيه المصلحة من بيع وغيره، ويحتمل أنه تركها لاربابها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، قلنا أما الأول فلا يصح لأن عمر إنما ترك قسمتها لتكون مادة للمسلمين كلهم ينتفعون بها مع بقاء أصلها وهذا معنى الوقف، ولو جاز تخصيص قوم بأصلها لكان الذين افتتحوها أحق بها ولا يجوز أن يمنعها أهلها لمفسدة ثم يخص بها غيرهم مع وجود المفسدة المانعة والثاني أظهر فساداً من الأول لأنه إذا منعها المسلمين المستحقين كيف يخص بها أهل الذمة المشركين الذين لا حق لهم ولا نصيب؟ (فصل) وإذا بيعت هذه الأرض فحكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه فصح بحكم الحاكم كسائر المختلفات، وإن باع الإمام شيئاً لمصلحة رآها مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج إلى عمارته ولا يعمرها إلا من يشتريها صح أيضاً لأن فعل الإمام كحكم الحاكم، وقد ذكر ابن عائذ في كتاب فتوح الشام قال: قال غير واحد من مشايخنا إن الناس سألوا عبد الملك والوليد وسليمان أن يأذنوا لهم في شراء الأرض من أهل الذمة فأذنوا لهم على ادخال أثمانها في بيت المال، فلما ولى عمر بن عبد العزيز أعرض عن تلك الأشرية لاختلاط الأمور فيها لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولما لم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك كتب كتاباً قرئ على الناس: ان من اشترى شيئاً بعد سنة مائة إن بيعه مردود.
وتسمى سنة مائة سنة المدة فتناهى الناس عن شرائها ثم اشتروا أشريه كبيرة كانت يأيدي أهلها تؤدي العشر ولا جزية عليها، فلما أفضى الأمر إلى المنصور ورفعت إليه تلك الأشرية وأن ذلك أضر بالخراج وكسره فأراد ردها إلى أهلها فقيل له قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها.
فبعث المعدلين منهم عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عباس إلى بعلبك، وهضاب بن طوق ومحرز ابن زريق إلى الغوطة، وأمرهم أن لا يضعوا على القطائع والأشرية القديمة خراجا ومنعوا الخراج
على ما بقي بأيدي الانباط وعى الأشرية المحدثة من سنة مائة إلى السنة التي عدل فيها فعلى هذا ينبغي أن يجزئ ما باعه إمام أو بيع بإذنه أو تعذر رد بيعه هذا المجزئ في أن يضرب عليه خراج بقدر ما يحتمله ويترك في يد مشتريه أو من انتقل إليه إلا ما بيع قبل المائة سنة فإنه لا خراج عليه كما نقل في هذا الخبر(4/18)
(فصل) وحكم إقطاع هذه الأرض حكم بيعها في أن ما كان من عمر رضي الله عنه أو ما كان قبل مائة سنة فهو لا هله وما كان بعد المائة ضرب عليه الخراج كما فعل المنصور إلا أن يكون بغير إذن الإمام فيكون باطلاً، وذكر ابن عائذ في كتابه باسناده عن سليمان بن عتبة إن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد أظنه المنصور سأله في مقدمة الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين عن الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة يذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة فقلت يا أمير المؤمنين أن الله تعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم واثخانهم في عدوالله وعسكروا في مرج بردان المرة إلى مرج شعبان حسي بردا - مروج كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست لأحد منهم فأقاموا بها حتى وطأ الله بهم المشركين قهراً وذلا فاختبأ كل قوم محلهم وهيئوا فيها بناء فرفع إلى عمر فأمضاه عمر لهم وأمضاه عثمان من بعده إلى ولاية أمير المؤمنين قال فقد أمضيناه لهم! وعن الأحوص بن حكيم أن المسلمين الذين فتحوا حمص لم يدخلوها وعسكروا على نهر الأوند فأحيوه فأمضاه لهم عمر وعثمان وقد كان أناس منهم تعدوا ذاك إلى حبس الاوند الذي على باب الرتبتين فعسكروا في برجه مسلحة لمن خلفهم من المسلمين، فلما بلغهم ما أمضاه عمر للمعسكرين على نهر الأوند سألوا أن يشركوهم في تلك القطائع فكتب إلى عمر فيه فكتب أن يعوضوا مثله من المروج التي كانوا عسكروا فيها على باب الرتبتين فلم تزل تلك القطائع على شاطئ الأوند وعلى باب حمص وعلى باب الرتبتين ماضية لاهلها لاخراج عليها تؤدي العشر (فصل) وهذا الذي ذكرناه في الأرض المغلة، أما المساكن فلا بأس بحيازتها وبيعها وشرائها وسكناها، قال أبو عبيد ما علمنا أحداً كره ذلك وقد اقتسمت بالكوفة خططاً في زمن عمر رضي الله عنه بإذنه وبالبصرة وسكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشام ومصر وغيرهما من
البلدان فما غاب ذلك أحد ولا أنكره (فصل) وكذلك ما فتح صلحاً بشرط أن يكون لأهله كأرض الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني صلوبا وما في معناها فيجوز بيعها لأنها ملك لاهلها فهي كالمساكن وكذلك كل أرض أسلم أهلها عليها كأرض المدينة وشبهها فإنها ملك لأهلها يجوز بيعها لذلك {مسألة} (وتجوز إجارتها) لأنها مستأجرة في أيدي أربابها وإجارة المستأجر جائزة على ما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (وعن أحمد أنه كره بيعها) لما ذكرنا (وأجاز شراءها) لأنه كالاستنقاذ لها فجاز كشراء الأسير، ولأنه قد روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا في المسألة التي قبلها، وإذا قلنا بصحة الشراء فإنها تكون في أيدي المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي خراجها ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشتري بعوض إلا ما كان قبل مائة سنة أو ما كان من إقطاع عمر رضي الله عنه على ما ذكرناه، فإن اشتراها وشرط الخراج على البائع كما فعل ابن مسعود فهو كراء لا شراء وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الاجارات {مسألة} (ولايجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها وعنه يجوز ذلك)(4/19)
اختلف الرواية في بيع رباع مكة وإجارة دورها فروي أن ذلك غير جائز وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد وكرهه إسحاق لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم في مكة " لاتباع رباعها، ولا تكرى بيوتها " رواه الأثرم، وعن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مكة حرام بيع رباعها حرام إجارتها " رواه سعيد بن منصور في سننه وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره مسدد في مسنده ولأنها فتحت عنوة ولم تقسم فصارت موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم يقسموها ودليل أنها فتحت عنوة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار " متفق عليه.
وروت أم هانئ أنها قالت أجرت حموين لي فأراد علي قتلهما فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يارسول الله: إني أجرت
حموين لي فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت " متفق عليه.
وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن ضبابة فدل على أنها فتحت عنوة (والرواية الثانية) أنه يجوز ذلك روى ذلك عن طاوس وعمر وبن دينار وهو قول الشافعي وابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أين تنزل غداً؟ قال " وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " متفق عليه، يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه ورثه دون أخوته لكونه كان على دينه دونهما ولو كانت غير مملوكة لما أثر بيع عقيل شيأ ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دور بمكة كأبي بكر والزبير وحكيم بن حزام وأبي سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع ومنهم من ترك داره فهي في يد أعقابهم، وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال له ابن الزبير بعت مكرمة قريش فقال يا ابن أخي ذهبت المكارم إلى التقوى أو كما قال، واشترى معاوية منه دارين، واشترى عمر رضي الله عنه دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره منكر فكان إجماعاً، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة دورهم إليهم فقال " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
ومن أغلق بابه فهو آمن " وأقر هم في دورهم ورباعهم ولم ينقل أحداً عن داره ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى أن عمر مع شدته في الحق لما احتاج إلى دار للسجن لم يأخذها إلا بالبيع.
ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأرض وما روي من الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف.
وأما كونها فتحت عنوة فهو صحيح لا يمكن دفعه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم فيدل ذلك على أنه تركها لهم كما ترك لهوازن نساءهم وابناءهم (1) كان الاولى أن يقول كما أعتقهم بقوله " أنتم الطلقاء ") وعلى القول الأول من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به يسكنه ويسكنه وليس له بيعه ولا أخذ أجرته.
ومن احتاج إلى مسكن فله بذلك الأجرة فيه.
وإن احتاج الى الشراء فله ذلك كما فعل عمر رضي الله عنه.
وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها.
فإن سكن بأجرة جاز أن لا يدفع إليهم الأجرة إن أمكنه لأنهم لا يستحقونها.
وقد روي أن سفيان سكن(4/20)
في بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه، وذكر لأحمد فعل سفيان فتبسم فظاهر
هذا أنه أعجبه قال ابن عقيل وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك.
أما بقاع المناسك كموضع المسعى والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف (فصل) ومن بنى بمكة بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها كما يجوز بيع أبنية الوقوف وانقاضها، وان كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة لأنها تابعة لها وهكذا تراب كل وقف وانقاضه قال أحمد وأما البناء بمكة فإني أكرهه قال إسحاق البناء بمكة على وجه الاستخلاص لنفسه لا يحل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له ألا تبني لك بمنى بيتا فقال " منى مناخ من سبق ".
{مسألة} (ولايجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر ولا ما في المعادن الجارية من القار والملح والنفط ولا ما ينبت في أرضه من الكلأ والشوك ومن أخذ منه شيئاً ملكه) الأنهار النابعة في غير ملك كالأنهار الكبار لا تملك بحال ولا يجوز بيعها، ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك كالطير فدخل إلى أرضه ولكل احد أخذه وتملكه، إلا أن يحتفر منه ساقيه فيكون أحق بها من غيره، وأما ما ينبع في ملكه كالبئر والعين المستنبطة بنفس النهر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض فالماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر المذهب لأنه يجزي من تحت الأرض فأشبه الماء الجاري في النهر إلى ملكه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر يملك لأنه نماء الملك.
وقد روي عن أحمد نحو ذلك فإنه قيل له قي رجل له أرض ولآخر ماء فيشترك صاحب الأرض وصاحب الماء في الزرع يكون بينهما؟ فقال لا باس اختاره أبو بكر وهذا يدل من قوله على أن الماء مملوك لصاحبه، وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك كالقار والنفط والموميا والملح، وكذلك الحكم في الكلأ والشوك النابت في أرضه فكذلك كله يخرج على الروايتين في الماء، والصحيح أن الماء لا يملك فكذلك هذه وجواز بيع ذلك مبني على ملكه قال أحمد: لا يعجبني بيع الماء البتة وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن قوم بينهم نهر تشرب منه أرضوهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه الحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدراهم؟ قال ما أدري أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء قيل له إنه ليس يبيعه إنما يكريه قال إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شئ هذا إلا البيع؟
وروى الأثرم باسناده عن جابر وإياس بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع وروى أبو عبيد والا ثرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون شركاء في ثلاث في النار والكلأ والماء " فإن قلنا يملك جاز بيعه وإن قلنا لا يملك فصاحب الارض أحق به من غيره لكونه في ملكه فإن دخل غيره بغير إذنه فأخذه ملكه لأنه يباح في الاصل فأشبه مالو عشش في أرضه طائر أو دخل إليها صيد أو نضبت عن سمك فدخل إليها داخل فأخذه {مسألة} (إلا أنه لا يجوز له الدخول إلى ملك غيره بغير إذنه) لأنه تصرف في ملك الغير بغير(4/21)
إذنه أشبه ما لو دخل لغير ذلك (وعنه يجوز بيعه) وهذا مبني على أنه يملك وقد ذكرناه (فصل) والخلاف في بيع ذلك إنما هو قبل حيازته.
فأما ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن فإنه يملكه بذلك بغير خلاف بين أهل العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة حطب فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع " رواه البخاري، وقد روى أبو عبيد في الأموال عن المشيخة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه.
وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ من غير نكير وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بإذن مالكه لأنه ملكه.
قال أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحق بملئها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة؟ " أو كما قال فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسبلها للمسلمين، وروي أن عثمان اشترى منه نصفها باثني عشر ألفاً ثم قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوماً وآخذها يوماً وأما إن تنصب لك عليها دلواً وأنصب عليها دلواً فاختار يوماً ويوماً فكان الناس يستقون منها في يوم عثمان لليومين فقال اليهودي أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه بثمانية آلاف، وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها وملك ما يسقيه منها وجواز قسمة مائها بالمهايأة وكون مالكها أحق بمائها وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك
(فصل) فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البرك وغيرها فالأولى أنه يملك ماؤها ويصح بيعه إذا كان معلوماً لأنه مباح حصله بشئ معد له كالصيد يحصل في شبكة والسمك في بركة معدة له ولا يحصل أخذ شئ منه بغير إذن مالكه وكذلك إن جرى من نهر غير مملوك ماء إلى بركة في أرضه يستقر الماء فيها لا يخرج منها فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة قياساً عليه والله أعلم.
(فصل) إذا اشترى ممن في ماله حلال وحرام كالسلطان الظالم والمرابي فإن علم أن المبيع من حلال فهو حلال وإن علم أنه من الحرام فهو حرام ولا يقبل قول المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلمه من أيها هو كره لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لإمكان الحلال سواء قل الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام أو كثرته تكثر الشبهة وتقل قال أحمد لا يعجبني أن يأكل منه وذلك لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبراء لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه الاوان لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه " متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري " فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك، ومن اجتزأ على ما يشك فيه من المأثم أو شك أن يواقع ما استبان " وروى الحسن بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دع ما يريبك الى ما لا يريبك " وهذا مذهب الشافعي (فصل) والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب ما أصله الحظر كالذبيحة في بلده فيها مجوس وعبدة أو ثان(4/22)
يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن جاز أن تكون ذبيحة مسلم لأن الأصل التحريم فلا يجوز إلا بيقين أو ظاهر وكذلك إن كان فيها اخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك والأصل فيه حديث عدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك فخالط أكلباً لم يسم عليها فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتله " متفق عليه.
فأما إن كان ذلك في بلد الإسلام فالظاهر إباحتها لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع مالا يحل بيعه ظاهرا (الثاني) ما أصله الاباحة كالماء يجده متغيراً لا يعلم بنجاسة تغيره أو غيرها فهو طاهر في الحكم لأن الأصل الطهارة لا يزول عنها إلا بيقين أو ظاهر ولم يوجد واحد منهما، والأصل في ذلك
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشئ قال " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا " متفق عليه (الثالث) ما لا يفرق له أصل كرجل في ماله حلال وحرام فهذا هو الشبهة التي الأولى تركها على ما ذكرناه وعملا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال " لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها " وهو من باب الورع (فصل) وكان أحمد لا يقبل جوائز السلطان وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك.
وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم وبشر بن سعيد ومحمد بن واسع الثوري وابن المبارك، وكان هذا منهم على سبيل الورع لا على أنها حرام فإن أحمد قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة وقال ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم نصيب فكيف أقول إنها سحت وممن كان يقبل جوائزهم ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم مثل الحسن والحسين وابن جعفر ورخص فيه الحسن البصري ومكحول الزهري والشافعي.
واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ومات ودرعه مرهونة عنده وأجاب يهودياً دعاه وأكل من طعامه وقد أخبر الله تعالى أنهم أكالون للسحت، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا بأس بجوائز السلطان فإن ما يعطيكم من حلال أكثر مما يعطيكم من الحرام وقال لا تسأل السلطان شيئاً وإن أعطى فخذ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام (فصل) قال أحمد رضي الله عنه فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام يتصدق بالثلاثة وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة دراهم حرام تصدق بالعشرة لأن هذا كثير وذاك قليل، قيل له قال سفيان ما كان دون العشرة يتصدق به وما كان أكثر يخرج؟ قال نعم لا يجحف به قال القاضي ليس هذا على سبيل التحديد وإنما هو على سبيل الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام وشق التورع عن الجميع بخلاف القليل فإنه يسهل إخراج الكل والواجب في الموضعين إخراج قدر الحرام والباقي له وهذا لأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه وإنما حرم لتعلق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم كما لو كان صاحبه حاضراً فرضي بعوضه وسواء كان قليلاً أو كثيراً، والورع إخراج ما يتيقن به إخراج عين الحرام ولا يحصل ذلك إلا بإخراج الجميع لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل المشقة فيه
واقتصر على الواجب.
ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم من لا يكون له سوى الدراهم اليسيرة فيشق إخراجها لحاجته إليها ومنهم من يكون له كثير فيستغني عنها فيسهل إخراجها والله تعالى أعلم(4/23)
(فصل) (الخامس أن يكون مقدوراً على تسليمه فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في الهواء ولا السمك في الماء ولا المغصوب إلا من غاصبه أو ممن يقدر على أخذه منه) بيع العبد الآبق لا يجوز سواء علم بمكانه أو جهله وكذلك ما في معناه من الجمل الشارد والفرس العائر وشبههما وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيراً شارداً وعن ابن سيرين لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً وعن شريح مثله.
ولنا ماروى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر رواه مسلم وهذا بيع غرر ولأنه غير مقدور على تسليمه فلم يجز بيعه كالطير في الهواء فإن حصل في يد انسان جاز بيعه لإمكان تسليمه (فصل) ولا يجوز بيع الطير في الهواء مملوكا كان اولا أما المملوك فلأنه غير مقدور عليه وغير المملوك لا يجوز لعلتين عدم القدرة وعدم الملك لحديث أبي هريرة قيل في تفسيره هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولا نعلم في هذا خلافاً ولا فرق بين كون الطائر يألف الرجوع أولا يألفه لأنه لا يقدر على تسليمه الآن وإنما يقدر إذا عاد.
فإن قيل فالغائب في مكان بعيد لا يقدر على تسليمه في الحال، قلنا الغائب يقدر على استحضاره والطير لا يقدر صاحبه على رده إلا أن يرجع هو بنفسه ولا يستقل مالكه برده فيكون عاجزاً عن تسليمه لعجزه عن الواسطة التي يحصل بها تسليمه بخلاف الغائب وإن باعه الطير في البرج نظرت فإن كان البرج مفتوحاً لم يجز لأن الطير إن لم يمكن تسليمه فإن كان مغلقاً ويمكن أخذه جاز بيعه وقال القاضي إن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز بيعه وهذا مذهب الشافعي.
وهو ملغي بالبعيد الذي لا يمكن إحضاره إلا بتعب ومشقة، وفرقوا بينهما بأن البعيد تعلم الكلفة التي يحتاج إليها في إحضاره بالعادة وتأخير التسليم مدته معلومة، والصحيح أن تفاوت المدة في إحضار البعيد واختلاف المشقة أكبر من التفاوت في إمساك طائر من البرج، والعادة
تكون في هذا كالعادة في ذلك فإذا صح في البعيد مع كثرة التفاوت وشدة اختلاف المشقة فهذا أولى (فصل) ولا يجوز بيع السمك في الآجام هذا قول أكثر أهل العلم وروى عن ابن مسعود أنه نهى عنه وقال إنه غرر وكرهه الحسن النخعي ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور ولا نعلم لهم مخالفاً لما ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن باعه في الماء جاز بثلاثة شروط أحدها أن يكون مملوكاً وأن يكون الماء رقيقا لايمنع مشاهدته ومعرفته، وأن يمكن اصطياده لأنه مملوك معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالموضوع في طست في الماء.
وإن اختل شرط مما ذكرنا لم يجز بيعه لفوات الشرط وروي عن عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى فيمن له أجمة يحبس السمك فيها يجوز بيعه لأنه يقدر على تسليمه ظاهراً أشبه ما يحتاج إلى مؤنة في الكيل أو الوزن والنقل.
ولنا قول ابن مسعود وابن عمر لا تشتروا السمك في الماء لأنه غرر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا منه ولأنه لا يقدر على تسليمه إلا بعد اصطياده أشبه الطير في الهواء ولأنه مجهول أشبه اللبن في الضرع ويفارق ما قاسوا عليه، لأن ذلك من مؤنة القبض وهذا يحتاج إلى مؤنة ليمكن قبضه، فأما إن كانت له بركة له فيها سمك(4/24)
يمكن اصطياده بغير كلفة والماء رقيق لايمنع المشاهدة صح بيعه على ما ذكرنا، وإن لم يمكن إلا بكلفة ومشقة وكانت يسيرة بمنزلة اصطياد الطائر من البرج فالقول فيه كالقول في بيع الطائر في البرج على ما ذكرنا من الخلاف وإن كانت كثيرة تتطاول المدة فيه لم يجز بيعه للعجز عن تسليمه في الحال والجهل بإمكان التسليم (فصل) ولا يجوز بيع المغصوب لعدم إمكان تسليمه فإن باعه لغاصبه أو لقادر على أخذه منه جاز لعدم الغرر فيه ولإمكان قبضه، وكذلك إن باع الآبق لقادر عليه صح كذلك وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده صح البيع فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه وثبت له الفسخ للعجز عن القبض فهو كما لو باعه فرساً فشردت قبل تسليمها أو غائباً بالصفة فعجز عن تسليمه (فصل) (السادس أن يكون معلوما برؤية أو صفة يحصل بها معرفته فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له أو رآه ولم يعلم ما هو أو ذكر له من صفته ما لا يكفي في السلم لم يصح البيع وعنه يصح وللمشتري خيار الرؤية)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته فالمشهور عنه أنه لا يصح بيعه وبهذا قال الشعبي والنخعي والحسن والاوزاعي ومالك واسحاق وهذا أحد قولي الشافعي.
وفيه رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي واحتج من أجازه بعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع) وبما روي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما إحداهما بالكوفة والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال ما أبالي إني بعت ما لم أره.
وقيل لطلحة فقال لي الخيار لأنني اشتريت ما لم أره، فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار لطلحة.
وهذا اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح.
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر رواه مسلم، ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر، ولأنه بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بما ذكرنا من الأصل، وأما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة ومع ذلك فهو قول صحابي وقد اختلف في كونه حجة ولا يعارض به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله شئ من الخيارات، وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات وإضرار بهن ولأن الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع.
فإن قيل فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه " والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح قلنا: هذا يرويه عمربن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية ونحوهما، فلو باع ثوباً مطوياً أو عيناً حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف الثمن لأجله كان كبيع الغائب فإن قلنا بصحة بيع الغائب فللمشتري الخيار في أشهر الروايتين وهو قول أبي حنيفة ويثبت الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والإمضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ انفسخ العقد وإن لم يختر لزم العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها وقيل يتقيد بالمجلس وإن اختار الفسخ قبل(4/25)
الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه فملك الفسخ كحالة الرؤية وإن اختار إمضاء العقد لم يلزم لأن
الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد على المجهول فيفضي إلى الضرر وكذلك لو تبايعا على أن لا يثبت الخيار للمشتري لم يصح الشرط كذلك.
وهل يفسد به البيع؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع (فصل) ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية، وإن لم يره المشتري فلكل منهما الخيار وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لاخيار للبائع لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو أثبتنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار بدليل مالو باع شيئاً على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت الخيار له ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري.
فأما الخبر فإنه قول طلحة وجبير وقد خالفهما عثمان وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضا منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما {مسألة} (وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم أو رآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهراً صح في أصح الروايتين ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له، وإن وجده متغيراً فله الفسخ والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه) إذا ذكر له من صفات المبيع ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وعنه لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم ولا نسلم أن الصفة لا يحصل بها المعرفة فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي لا يختلف بها الثمن ظاهراً ولهذا اكتفي به في السلم ولأنه لا يعتبر في الرؤية الاطلاع على الصفات الخفية.
وأما ما لا يصح السلم فيه فإنما لم يصح بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها.
إذا ثبت هذا فانه متى وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال ابن سيرين وأيوب ومالك والعنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولان الرؤية من تمام هذا العقد فأشبه غير الموصوف ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين، ولنا أنه سلم له المعقود عليه بصفاته فلم يكن له خيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم.
وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا تعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أنه يسميه من يرى ثبوت الخيار فلا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في
الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالمسلم فيه وإن اختلفا في اختلاف الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأن لاصل براءة ذمته من الثمن فلم يلزمه ما لم يقربه أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها (فصل) والبيع بالصفة نوعان (أحدهما) بيع عين معينه مثل أن يقول بعتك عبدي التركي ويذكر صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود عليه معينا فيزول العقد بزوال محله، ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر (الثاني) بيع موصوف غير معين مثل أن يقول بعتك عبداً تركياً ثم يستقصي صفات السلم فهذا في معنى السلم فمتى سلم إليه عبداً على غير(4/26)
ما وصف فرده أو على ما وصف فأبدله لم يفسد العقد لأن العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد برده كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فرده ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز التفرق فيه قبل قبض أحد العوضين كالسلم وقال القاضي يجوز التفرق فيه قبل القبض لأنه بيع حال فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين (فصل) فإن رأيا المبيع ثم عقدا البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل العلم وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حالة العقد وحكي ذلك عن الحكم وحماد ولأن ما كان شرطاً في صحة العقد يجب أن يكون موجوداً حال العقد كالشهادة في النكاح، ولنا أنه معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد والشرط إنما هو العلم والرؤية طريق العلم ولهذا اكتفي بالصفة المحصلة للعلم والشهادة في النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر ما ذكرناه ما لو رأيا داراً أوقفا في بيت منها أو أرضاً ووقفا في طرفها وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم المشاهدة للكل في الحال، ولو كانت الرؤية المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لا اشترط رؤية جميعه، إذا ثبت ذلك فمتى وجد المبيع بحاله لم يتغير لزمه البيع، وإن كان ناقصاً ثبت له الخيار لأن ذلك كحدوث العيب، وإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به فأما إن عقدا البيع بعد رؤية المبيع بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه، وإن كان يتغير فيها لم يصح بيعه أيضاً لأنه مجهول، وكذلك إن كان الظاهر تغيره فإن كان يحتمل التغير
وعدمه وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فيصح بيعه كما لو كانت الغيبة يسيرة وهذا ظاهر مذهب الشافعي {مسألة} (ولايجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأرة، والنوى في التمر) بيع الحمل في البطن فاسد بغير خلاف، قال إبن المنذر اجمعوا على أن بيع الملاقيح والمضامين غير جائز، وإنما لم يجز بيع الحمل في البطن لوجهين (أحدهما) الجهالة فإنه لا تعلم صفته ولا حياته (والثاني) أنه غير مقدور على تسليمه بخلاف الغائب فإنه يقدر على الشروع في تسليمه، وقد روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين، قال أبو عبيد الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة، والمضامين ما في أصلاب الفحول فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عامة أو في أعوام وأنشد إن المضامين التي في الصلب * ماء الفحول في الظهور الحدب وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المجر، قال ابن الأعرابي المجر ما في بطن الناقة والمجر الربا والمجر القمار والمجر المحاقلة والمزابنة (فصل) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع حبل الحبلة ومعناه نتاج النتاج قاله أبو عبيد وعن ابن عمر قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج(4/27)
الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم وكلا البيعين فاسد، أما الأول فلأنه بيع معدوم، وإذا لم يجز بيع الحمل فبيع حمله أولى، وأما الثاني فلأنه بيع إلى أجل مجهول (فصل) ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، وبه قال الشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ونهى عنه ابن عباس وأبو هريرة وكرهه طاوس ومجاهد.
وحكي عن مالك أنه يجوز أياما معلومة إذا عرفا حلابها لسقي الصبي كلبن الظئر وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمد بن مسلمة، ولنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع رواه الخلال وابن ماجة، ولأنه مجهول الصفة والمقدار فأشبه الحمل، ولأنه بيع عين لم تخلق فلم يصح كبيع ما تحمل الناقة والعادة في
ذلك تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحضانة لأنه موضع حاجة (فصل) ولا يجوز بيع المسك في الفأرة وهو الوعاء الذي يكون فيه.
قال الشاعر: إذا التاجر الهندي راح بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجري فإن فتح وشاهد ما فيه جاز بيعه وإن لم يشاهد لم يجز بيعه للجهالة، وقال بعض الشافعية يجوز لأن بقاءه في فأرته مصلحة له فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته أشبه ما مأكوله في جوفه، ولنا أنه يبقى خارج وعائه من غير ضرورة وتبقى رائحته فلم يجز بيعه مستوراً كالدر في الصدف وما مأكوله في جوفه إخراجه يفضي إلى تلفه، فالتفصيل في بيعه مع وعائه كالتفصيل في بيع السمن في ظرفه على ما نذكره (فصل) ولا يجوز بيع النوى في التمر والبيض في الدجاجة للجهل بها ولا نعلم في هذا اختلافاً، فأما بيع الصوف على الظهر فالمشهور أنه لا يجوز بيعه لما ذكرنا من الحديث، ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه، وعنه أنه يجوز بشرط جزء في الحال لأنه معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالرطبة وفارق الأعضاء لكونها لا يمكن تسليمها مع بقاء الحيوان سالماً والخلاف فيه كالخلاف في اللبن في الضرع، فإن اشتراه بشرط القطع وتركه حتى طال فحكمه حكم الرطبة إذا طالت على ما نذكره في موضعه {مسألة} (فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوماً أو بالشم إن كان مشموماً صح بيعه وشراؤه، وإن لم يمكن جاز بيعه بالصفة كالبصير وله خيار الخلف في الصفة) وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة له الخيار إلى معرفته بالبيع إما بحسه أو ذوقه أو وصفه وقال عبيد الله بن الحسن شراؤه جائز وإذا أمر إنساناً بالنظر إليه لزمه.
وقال الشافعي لا يجوز إلا على الوجه الذي يجوز فيه بيع المجهول أو يكون قد رآه بصيراً ثم اشتراه قبل مضي زمن يتغير فيه المبيع لأنه مجهول الصفة عند العاقد فلم يصح كبيع البيض في الدجاجة والنوى في التمر ولنا أنه يمكن الاطلاع على المقصود ومعرفته فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم مقام عبارته فكذلك شم الأعمى وذوقه، فأما البيض والنوى فلا يمكن الإطلاع عليه ولا وصفه بخلاف مسئلتنا {مسألة} (ولايجوز بيع الملامسة) وهو أن يقول بعتك ثوبي هذا إنك متى لمسته فهو عليك بكذا أو يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا
(ولا بيع المنابذة) وهو أن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا (ولابيع الحصاة) وهو أن يقول ارم هذه الحصاة(4/28)
فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا أو يقول بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في فساد هذه المبايعات، والملامسة أن يبيعه شيئاً ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع، والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته بكذا هكذا فسره أحمد في الظاهر عنه ونحوه قال مالك والاوزاعي، وفيما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل ان يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه.
وروى مسلم عن أبي هريرة في تفسيرهما قال هو لمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه ولم ينظر كل واحد منهما إلى ثوب صاحبه، وعلى التفسير الأول لا يصح البيع فيهما لعلتين (إحداهما) الجهالة (والثانية) كونه معلقا على شرط وهو نبذ الثوب أو لمسه له، وإن عقد البيع قبل نبذه ولمسه فقال بعتك ما تلمسه من هذه الثياب أو ما أنبذه إليك فهو غير معين ولا موصوف فأشبه مالو قال بعتك واحداً منها.
فأما بيع الحصاة فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة واختلف في تفسيره فقيل هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، وقيل هو أن يقول بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، وقيل هو أن يقول بعتك هذا بكذا على أني متى رميت هذه الحصاة وجب البيع، وكل هذه البيوع فاسدة لما فيها من الغرر والجهل والله تعالى أعلم {مسألة} (ولايجوز أن يبيع عبداً غير معين، ولا عبداً من عبيد، ولا شاة من قطيع، ولا شجرة من بستان، ولا هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين، ولا هذا القطيع الاشاة غير معينة، وإن استثنى معيناً من ذلك جاز) لا يجوز أن يبيع عبداً غير معين لأنه مجهول ولأنه غرر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولا عبداً من عبيده سواء قلوا أو كثروا وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا باعه عبداً من عبدين أو من ثلاثة بشرط الخيار له صح لأن الحاجة تدعو إليه، ولو كانوا أكثر لم يصح لأنه يكثر الغرر
ولنا أنه مما تختلف أجزاؤه وقيمته فلا يجوز شراء بعضه غير معين ولاشياع كالأربعة ولأنه لا يصح من غير شرط الخيار فلا يصح مع شرطه كالأربعة ولا حاجة الى هذا فإن الاختيار يمكن قبل العقد ويبطل ما قالوه بالاربعة، ولايجوز بيع شاة من القطيع لأن شياه القطيع غير متساوية القيم فتكون مجهولة ولأن ذلك يفضي إلى التنازع، وكذلك إن باع شجرة من بستان لا يصح لما ذكرنا ولأن فيه غرراً فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر (فصل) وإن باع هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين، أو هذا القطيع إلا شاة غير معينة لم يصح نص عليه وهو قول أكثر أهل العلم، وقال مالك يصح أن يبيع مائة شاة إلا شاة يختارها، ويبيع ثمرة حائط ويستثني ثمرة نخلات يعدها ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، قال الترمذي هذا حديث صحيح، ونهى عن بيع الغرر ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو قال إلا شاة مطلقة ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو قال بعتك شاة تختارها من القطيع، وضابط هذا الباب أنه لا يصح استثناء ما لا يصح بيعه منفرداً أو بيع(4/29)
ما عداه منفرداً عن المستثنى ونحوه مذهب أبي حنيفة والشافعي إلا أن أصحابنا استثنوا من هذا سواقط الشاة للأثر الوارد فيبقى فيما عداه على قضية الأصل، فإن استثنى معيناً من ذلك جاز لأن المبيع معلوم بالمشاهدة لكون المستثنى معلوماً ولا يبقى فيه غرر ولأن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم يدل على الصحة إذا كانت معلومة ولا نعلم في هذا خلافاً {مسألة} (وإن باع قفيزاً من هذه الصبرة صح) لأنه معلوم لكون أجزائها لا تختلف فلا تفضي إلى الجهالة، وكذلك إذا باعه رطلا من دن أو من زبرة حديد يصح لذلك، وحكي عن داود أنه لا يصح لأنه غير مشاهد ولا موصوف.
ولنا أن المبيع مقدر معلوم من جملة يصح بيعها أشبه إذا باع نصفها وما ذكره قياس وهو لا يحتج بالقياس ثم لا يصح لأنه إذا شاهد الجميع فقد شاهد البعض {مسألة} (وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً أو ثمرة الشجرة إلا صاعاً لم يصح وعنه يصح) إذا باع صبرة واستثنى منها قفيزاً أو أقفزة أو باع ثمرة بستان واستثنى منها صاعاً أو آصعاً لم يصح في ظاهر المذهب، روى ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والشافعي والاوزاعي واسحاق وأبي ثور وأصحاب
الرأي.
وفيه رواية أخرى أنه يجوز وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد الله ومالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه ثنيا معلومة ولأنه معلوم أشبه إذا استثنى منها جزءاً مشاعاً ووجه الأولى ما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ولأن المبيع إنما علم بالمشاهدة لا بالقدر، والاستثناء يغير حكم المشاهدة لأنه لا يدرى كم يبقى في حكم المشاهدة فلم يجز، ويخالف الجز فإنه لا يعتبر حكم المشاهدة ولا يمنع المعرفة بها، وكذلك إذا باع ثمرة شجرة واستثنى أرطالاً فالحكم فيه على ما ذكرا.
وقال القاضي في شرحه يصح لأن الصحابة رضي الله عنهم أجازوا استثناء سواقط الشاة والصحيح ما ذكرناه، وهذه المسألة أشبه بمسألة استثناء الصاع من الحائط والمعنى الذي ذكرناه ثم متحقق هاهنا (فصل) فإن استثنى من الحائط شجرة بعينها جاز لأن المستثنى معلوم ولا يؤدي إلى الجهالة في المستثنى منه، وإن استثنى شجرة غير معينة لم يصح لأن المستثنى مجهول.
وقال مالك يصح أن يستثنى ثمرة نخلات يعدها وقد ذكرناه، وقد روي عن ابن عمر أنه باع ثمرة بأربعة آلاف واستثنى طعام القنيان وهذا يحتمل أنه استثنى نخلا معينا بقدر طعام القنيان لأنه لو حمل على غير ذلك كان مخالفاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم، ولأن المستثنى متى كان مجهولاً لزم أن يكون الباقي بعده مجهولاً فلم يصح بيعه كما لو قال بعتك من هذه الثمرة طعام القنيان (فصل) وإن استثنى جزءاً معلوماً من الصبرة أو الحائط مشاعاً كثلاث أو أربع أو أجزاء كثلاثة أثمان صح البيع والاستثناء ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي، وقال أبو بكر وابن أبي موسى لا يجوز ولنا أنه لايؤدي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه فصح كما لو استثنى شجرة بعينها وذلك لا معنى بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها اي بعتك ثلثيها، وإن باع حيواناً واستثنى ثلثه جاز ومنع منه القاضي قياساً على استثناء الشحم ولا يصح لأن الشحم مجهولا لا يصح إفراده بالبيع وهذا معلوم يصح إفراده بالبيع(4/30)
فصح استثناؤه كالشجرة المعينة، وقياس المعلوم على المجهول في الفساد لا يصح فعلى هذا يصيران شريكين فيه للمشتري ثلثاه وللبائع ثلثه
(فصل) وإذا قال بعتك قفيزاً من هذه الصبرة إلا مكوكاً جاز لأن القفيز معلوم والمكوك معلوم ولا يفضي إلى جهالة، ولو قال بعتك هذه الثمرة بأربعة دراهم إلا بقدر درهم صح لأن قدره معلوم من المبيع وهو الربع فكأنه قال بعتك ثلاثة أرباع هذه الثمرة بأربعة دراهم، وإن قال إلا ما يساوي درهماً لم يصح لأن ما يساوي الدرهم يكون الربع وأكثر وأقل فيكون مجهولاً فيبطل {مسألة} (وإن باعه أرضاً إلا جريباً أو جريباً من أرض يعلمان جربانها صح وكان مشاعاً فيها وإلا لم يصح) إذا باعه أرضاً إلا جريباً يريدان بذلك قدراً غير مشاع لم يصح لأن الأرض لا تساوي اجزاؤها فيكون البيع مجهولاً فهو كما لو باعه شاة من قطيع أو عبداً من عبيد، وإن كان الجريب المستثنى مشاعاً في الأرض وهما يعلمان جربانها صح لأنها إذا كانت عشرة أجربه فقد باع تسعة أعشار هذه الأرض وهو معلوم بالمشاهدة وإن لم يعلما جربانها لم يصح لأن المبيع غير معلوم فهو كما لو باع هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين وكذلك إن باعه جريباً من هذه الأرض إن أراد قدراً غير مشاع لم يصح، وإن باعه مشاعاً وهما يعلمان جربانها صح، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الجريب عبارة عن بقعة بعينها وموضعه مجهول.
ولنا أن الجريب من عشرة عشرها ولو قال بعتك عشر هذه الأرض صح فكذلك إذا باعه منها جريباً مشاعاً وهي عشرة.
وما قالوه غير مسلم لأنه عبارة عن قدر كما أن المكيال عبارة عن قدر فإذا أضافه إلى جملة كان ذلك جزأ منها، وإن كانا لا يعلمان ذرعان الدار لم يصح لأن الجملة غير معلومة وأجزاء الأرض مختلفة فلا يمكن أن يكون معيناً ولا مشاعاً، وإن قال بعتك من الأرض من هنا إلى هنا جاز لأنه معلوم، وإن قال عشرة أذرع ابتداؤها من هنا إلى حيث ينتهي الذرع لم يصح لأن الموضع الذي ينتهي إليه الذرع لا يعلم حال العقد، وإن قال بعتك نصيبي من هذه الدار ولا يعلم قدر نصيبه أو قال نصيباً منها أو سهما لم يصح للجهالة وان علماه صح، وإن قال بعتك نصف داري مما يلي دارك لم يصح نص عليه لأنه لا يدري إلى أين ينتهي فيكون مجهولاً (فصل) وحكم الثوب حكم الأرض إلا أنه إذا قال بعتك من هذا الثوب من هذا الموضع إلى هذا صح فإن كان القطع لا ينقصه قطعاه، وإن كان ينقصه وشرط البائع أن يقطع له أو رضي بقطعه هو والمشتري جاز، وإن تشاحا في ذلك كانا شريكين فيه كما يشتركان في الأرض، وقال القاضي
لا يصح لأنه لا يقدر على التسليم إلا بضرر أشبه مالو باعه نصفاً معيناً من الحيوان، ولنا أن التسليم ممكن ولحوق الضرر لايمنع التسليم إذا حصل الرضا فهو كما لو باعه نصف حيوان مشاعاً وفارق نصف الحيوان المعين فإنه لا يمكن تسليمه مفرداً إلا بإتلافه وإخراجه عن المالية {مسألة} (وإن باعه حيواناً مأكولا إلا رأسه أو جلده أو أطرافه صح وإن استثنى حمله أو شحمه لم يصح) إذا باعه حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه أو جلده أو أطرافه صح نص عليه أحمد رحمه الله وقال مالك يصح في السفر دون الحضر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسواقط فجوز له شراء اللحم دونها.
وقال(4/31)
أبو حنيفة والشافعي لا يجوز لأنه لا يجوز إفراده بالبيع فلم يجز استثناؤه كالحمل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها، وروى أبو بكر في الشفاء باسناده عن جابر عن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقرة باعها رجل واشترط رأسها فقضى بالشروى يعني أن يعطى رأساً مثل رأس، ولأن المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطاً واستثنى منه نخلة معينة، وكونه لا يجوز إفراده بالبيع لا يمنع صحة استثنائه كما أن الثمرة قبل التأبير لا يجوز إفرادها بالبيع بشرط كشرط التبقية ويجوز استثناؤها والحمل مجهول وفيه منع.
فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر ويلزمه قيمة ذلك على التقريب نص عليه لما روي عن علي رضي الله عنه انه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط ثنياها فقال اذهبوا إلى السوق فإذا بلغت أقصى ثمنها فاعطوه بحساب ثنياها من ثمنها (فصل) فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح نص عليه أحمد، قال أبو بكر لا يختلفون عن أبي عبد الله أنه لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، ولأنه مجهول لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كفخذها، وإن استثنى الحمل لم يصح الاستثناء لما ذكرنا وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، نقل عن أحمد صحته، وبه قال الحسن والنخعي واسحاق وأبو ثور لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما باع جارية واستثنى ما في بطنها، ولأنه يصح استثناؤه في العتق
فصح في البيع قياساً عليه.
ولنا ما تقدم في الصحيح من حديث ابن عمر أنه أعتق جارية واستثنى ما في بطنها لأن الثقات الحفاظ حدثوا بالحديث فقالوا أعتق جارية والإسناد واحد.
قاله أبو بكر ولا يلزم من الصحة في العتق الصحة في البيع لأن العتق لا تمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم، ولا تعتبر فيه شروط البيع (فصل) وإن باع جارية حاملاً بحر، فقال القاضي لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه يدخل في البيع فكأنه مستثنى.
والاولى صحته لا المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر لأنه ليس بمبيع ولا مستثنى باللفظ، وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع أمة مزوجة صح ووقعت منفعة البضع مستثناة بالشرع ولو استثناها بلفظه لم يجز، ولو باع أرضاً فيها زرع للبائع أو نخله مؤبرة وقعت منفعتها مستثناة مدة بقاء الزرع والثمرة ولو استثناها بقوله لم يجز (فصل) ولو باعه سمسماً واستثنى الكسب لم يجز لأنه قد باعه الشريج في الحقيقة وهو غير معلوم فإنه غير معين ولا موصوف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، وكذلك إن باعه قطناً، واستثنى الحب لم يجز للجهالة، وكذلك إن باعه السمسم واستثنى الشيرج لم يجز لذلك {مسألة} (ويجوز بيع ما مأكوله في جوفه وبيع الباقلا والجوز واللوز في قشريه والحب المشتد في سنبله) يجوز بيع ما مأكوله في جوفه كالرمان والبيض والجوز لا نعلم فيه خلافا لأن الحاجة تدعو إلى بيعه كذلك لكونه يفسد إذا أخرج من قشره(4/32)
(فصل) ويجوز بيع الجوز واللوز والفستق والباقلا والرطب في قشريه مقطوعاً وفي شجره وبيع الطلع قبل تشقيقه مقطوعاً وفي شجره وبيع الحب المشتد في سنبله، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال الشافعي لا يجوز حتى ينزع قشره الا على إلا في الطلع والسنبل في أحد القولين، واحتج بأنه مستور بما لا يدخر عليه ولا مصلحة فيه فلم يجز بيعه كتراب الصاغة والمعادن وبيع والحيوان المذبوح في سلخه.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع السنبل حتى يبيض وتؤمن العاهة فمفهومة إباحة بيعه إذا بدا صلاحه وأبيض سنبله ولأنه مستور بحائل من أصل خلقته فجاز بيعه كالرمان والبيض والقشر الأسفل، ولا يصح قولهم ليس من مصلحته فإنه لاقوام له في شجرة إلا به، والباقلا
يؤكل رطباً وقشره يحفظ رطوبته ولأن الباقلا يباع في أسواق المسلمين من غير نكير وهذا إجماع، وكذلك الجوز واللوز في شجرهما والحيوان المذبوح يجوز بيعه في سلخه فإنه إذا جاز بيعه قبل ذبحه وهو مراد للذبح فكذلك إذا ذبح كما أن الرمانة إذا جاز بيعها قبل كسرها فكذلك إذا كسرت، وأما تراب الصاغة والمعادن فلنا فيهما منع وإن سلم فليس ذلك من أصل الخلقة في تراب الصاغة ولا بقاؤه فيه من مصلحته بخلاف مسألتنا.
(فصل) (السابع أن يكون الثمن معلوماً فإن باعه السلعة برقمها أو بألف درهم ذهباً وفضة أو بما ينقطع به السعر أو بما باع به فلان أو بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح البيع وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه) يشترط أن يكون الثمن في البيع معلوماً عند المتعاقدين لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالآخر وقياساً على رأس مال السلم فإن باعه السلعة برقمها وهما لا يعلمانه أو أحدهما لم يصح البيع للجهالة فيه وكذلك إن باعه بألف درهم ذهباً وفضه لأنه مجهول ولأنه بيع غرر فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر، وإن باعه بمائة ذهباً وفضة لم يصح البيع، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح ويكون نصفين لأن الإطلاق يقتضي التسوية كالإقرار، ولنا أن قدر كل واحد منهما مجهول فلم يصح كما لو قال بمائة بعضها ذهب وقوله إنه يقتضي التسوية ممنوع فإنه لو فسره بغير ذلك صح.
وكذلك لو أقر له بمائة ذهباً وفضة فالقول قوله في قدر كل واحد منهما.
وإن باعه بما ينقطع السعر به أو بما باع به فلان عبده وهما لا يعلمانه أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول، وإن باعه بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح لجهالته وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه لأنه تعين بانفراده وعدم مشاركة غيره ولهذا لو أقر بدينار أو أوصى به انصرف إليه.
{مسألة} (وإن قال بعتك بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقد أو عشرين نسيئة لم يصح) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعه وهذا هو كذلك فسره مالك والثوري واسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم لأنه لم يجزم له ببيع واحد أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس ان يقول أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل انه جرى بينها بعد ما يجري في العقد فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا(4/33)
فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقداً كافياً فيقول كقول الجمهور، فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجاباً.
وقد روي عن أحمد أنه قال فيمن قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم أنه يصح فيتحمل أن لا يلحق به هذا البيع فيخرج وجهاً في الصحة ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح لكونه جعالة بخلاف البيع ولان العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفتين فتتعين الأجرة المسماة عوضاً فلا يفضي إلى التنازع وهذا بخلافه {مسألة} (وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم والثوب كل ذراع بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم صح) إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم صح وإن لم يعلما قدر قفزانها حال العقد وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يصح في قفيز واحد ويبطل فيما سواه لأن جملة الثمن مجهولة فلم يصح كبيع المتاع برقمه، ولنا أن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو وكيل الصبرة فجاز كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون لكل ثلاثة عشر درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب كذا ههنا ولأن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم قدر ما يقابل كل جزء من المبيع فصح كالأصل المذكور وكذلك حكم الثوب والأرض والقطيع من الغنم إذا كان مشاهداً فباعه إياه كل ذراع بدرهم أو كل شاة بدرهم صح وإن لم يعلما قدر ذلك حال العقد لما ذكرنا في الصبرة {مسألة} (وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون ذلك العدد منها مجهولاً) ويحتمل أن يصح البيع بناء على قوله في الإجارة إذا أجره كل شهر بدرهم.
قال ابن عقيل وهو الاشبهة كالمسألة التي قبلها لأن من وإن أعطيت البعض فما هو بعض مجهول بل قد جعل لكل جزء معلوم منها ثمناً معلوماً فهو كما لو قال قفيزاً منها وكمسألة الإجارة (فصل) وإن قال بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم على أن أزيدك قفيزاً أو أنقصك قفيزاً لم يصح لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه.
وإن قال على أن أزيدك قفيزاً لم يجز لأن القفيز مجهول.
وإن قال على أن
أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة الاخرى أو بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك هذه الصبرة وقفيزاً من هذه الأخرى بعشرة دراهم، وإن قال على أن أنقصك قفيزاً لم يصح لأن معناه بعتك هذه الصبرة إلا قفيزاً كل قفيز بدرهم وشئ مجهول، ولو قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة الأخرى لم يصح لإفضائه إلى جهالة في الثمن في التفصيل لأنه يصير قفيزاً وشيئاً بدرهم وهما لا يعرفانه لعدم معرفتهما بكمية ما في الصبرة من القفزان.
ولو قصد أني أحط ثمن قفيز من الصبرة ولا أحتسب به لم يصح للجهالة التي ذكرناها.
وإن علما قدر فقزان الصبرة أو قال هذه عشرة أقفزة بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة أو وصفه بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك كل قفيز وعشرة بدرهم وإن لم يعلم القفزان وجعله هبة لم يصح وإن أراد أني لا احتسب(4/34)
عليك بثمن قفيز منها صح أيضاً لأنهما لما علما جملة الصبرة علما ما ينقص من الثمن، ولو قال على أن أنقصك قفيزاً صح لأن معناه بعتك تسعة أقفزة بعشرة دراهم، وحكي عن أبي بكر أنه يصح في جميع المسائل على قياس قول أحمد لأنه يجيز الشرط ولا يصح ما قاله لأن المبيع مجهول فلا يصح بيعه بخلاف الشرط الذي لا يفضي إلى الجهالة.
وما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم فيه نحو من مسائل الصبرة.
وإن قال بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب أو هذا القطيع بألف درهم صح إذا شاهداه وإن قال بعتك نصفه أو ثلثه أو ربعه بكذا صح وإن قال بعتك من الثوب كل ذراع بدرهم أو من القطيع كل شاة بدرهم لا يصح لأنه مجهول (فصل) ويصح بيع الصبرة جزافاً مع جهل المتبايعين بقدرها لا نعلم فيه خلافاً وقد نص عليه أحمد ودل عليه حديث ابن عمر وهو قوله، كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه متفق عليه، ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان، ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشق لكون الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر فاكفتي برؤية ظاهره بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق وتختلف أجزاؤه ولايحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو
الرؤية، وكذلك لو قال بعتك نصف هذه الصبرة أو جزأ منها معلوماً لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه كالحيوان، قال ابن عقيل ولا يصح هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء، فإن كانت مختلفة مثل صبرة بقال القرية لم يصح، ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءاً مشاعاً فيستحق من جيدها ورديئها بقسطه ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافاً، وقال مالك لا يجوز في الأثمان لأن لها خطراً ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب ولنا أنه معلوم بالمشاهدة أشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قال.
وأما الرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم، وكذلك الثياب إذا شراها ورأى جميع أجزائها (فصل) فإن كان البائع يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها جزافاً نص عليه أحمد وهو اختيار الخرقي.
وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وبه قال مالك واسحاق وروي ذلك عن طاوس، قال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، وعن أحمد رحمه الله أنه مكروه غير محرم فقد روى بكر بن محمد عن أبيه عنه أنه سئل عن الرجل يبيع الطعام جزافاً وقد عرف كيله، فقلت له وإن مالكاً يقول إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن اختار أن يرده رده قال: هذا تغليظ شديد ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله إلا أن يخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء.
ولم ير أبو حنيفة والشافعي بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره فمع العلم من أحدهما أولى.
ووجه الأول ما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من عرف مبلغ شئ فلا يبيعه جزافاً حتى يبينه " قال القاضي وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله وأيضاً الاجماع الذي نقله مالك ولأن البائع لا يعدل إلى البيع جزافاً مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير ظاهراً وقد قال عليه السلام " من غشنا(4/35)
فليس منا " فصار كتدليس البيع فإن باع ما علم كيله صبرة فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم إن البيع صحيح لازم وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما أشبه مالو علما كيله أو جهلاه ولم يثبت ما روي من النهي فيه، وانما كرهه أحمد كراهة تنزيه لاختلاف العلماء فيه ولأن تسويتهما في العلم أو الجهل أبعد من التغرير.
وقال القاضي وأصحابه هذا بمنزلة التدليس والغش
إن علم به المشتري فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فهو كمن اشترى مصراة يعلم تصريتها، وإن لم يعلم أن البائع كان عالماً بذلك فله الخيار في الفسخ والإمضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغرر من البائع فصح العقد معه ويثبت للمشتري الخيار، وذهب بعض أصحابه إلى أن البيع فاسد والنهي يقتضي الفساد (فصل) فإن أخبره البائع بكيله ثم باعه بذلك الكيل فالبيع صحيح، فإن قبضه باكتياله تم البيع والقبض، وإن قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافاً إن كان البيع باقياً كاله عليه، فإن كان قدر حقه الذي أخبره فقد استوفاه، وان كان زائداً رد الفضل وإن كان ناقصاً أخذ النقص، وإن كان قد تلف فالقول قول القابض مع يمينه سواء قل القبض أو كثر لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق وليس للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله لأن للبائع فيه علقة فإنه لو زاد كانت الزيادة له ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل لأن ذلك يمنعه من معرفة كيله، وان تصرف فيما يتحقق أنه مستحق له مثل أن يكون حقه قفيزاً فيتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأنه تصرف في حقه بعد قبضه فجاز كما لوكيل له (والثاني) لا يجوز لأنه لا يجوز له التصرف في الجميع فلم يجز له التصرف في البعض كما قبل القبض، فإن قبضه بالوزن فهو كما لو قبضه جزافاً، فأما إن أعلمه بكيلة ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن سواء زاد أو نقص لم يجز لما روى الأثرم باسناده عن الحكم قال: قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إذهبوا بنا إلى عثمان نعينه على طعامه " فقام إلى جنبه فقال عثمان في هذه الغرارة كذا وكذا وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سميت الكيل فكل " قال أحمد إذا أخبره البائع أن في كل قارورة منها كذا رطلاً فأخذ بذلك ولا يكتاله فلا يعجبني لقوله فعثمان " إذا سميت الكيل فكل " قيل له إنهم يقولون إذا فتح فسد.
قال فلم لا يفتحون واحدة ويتركون الباقي (فصل) ولو كان طعاماً وآخر يشاهده فلمن شاهد الكيل شراؤه بغير كيل ثان لأنه شاهد كيله أشبه مالو كيل له وعنه يحتاج إلى كيل للخبر وكالبيع الأول ولو كاله بائع للمشتري ثم اشتراه منه فكذلك لما ذكرنا، ولو اشترى اثنان طعاماً فاكتالاه ثم اشترى أحدهما حصة شريكه قبل تفرقهما فهو جائز، وإن لم يحضر المشتري الكيل لم يجز إلا بكيل.
وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى
لابد من كيله، وإن باعه الثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز ولم يحتج إلى كيل ثان ينقله كالصبرة (فصل) قال أحمد في رجل يشتري الجوز فيعد في مكيل ألف جوزه ثم يأخذ الجوز كله على ذلك العيار لا يجوز.
وقال في رجل ابتاع أعكاماً كيلا وقال للبائع كل لي عكما منها وأخد ما بقي على هذا الكيل أكره هذا حتى يكيلها كلها.
قال الثوري كان أصحابنا يكرهون هذا وذلك لأن ما في(4/36)
العكوم يختلف فلا يعلم ما في بعضها بكيل البعض، والجوز يختلف فيكون في أحد المكيلين أكثر من الآخر فلا يصح تقديره بالكيل كما لا يصح تقدير المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل (فصل) وإن باع الأدهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءها لا تختلف فهي كالصبرة وكذلك الحكم في العسل والدبس والخل وسائر المائعات التي لا تختلف، فإن باعه كل رطل بدرهم أو باعه رطلاً منه أو أرطالاً معلومة يعلم أن فيها أكثر منها أو باعه أجزاء مشاعة أو أجزاء أو باعه إياه مع الظرف بعشرة دراهم أو بثمن معلوم جاز، وإن باعه السمن والظرف كل رطل بدرهم وهما يعلمان مبلغ كل واحد منهما صح لأنه قد علم المبيع والثمن، وإن لم يعلما ذلك جاز أيضاً لأنه قد رضي أن يشتري الظرف كل رطل بدرهم وما فيه كذلك فأشبه مالو اشترى ظرفين في أحدهما سمن وفي آخر زيت كل رطل بدرهم.
وقال القاضي لا يصح لأن وزن الظرف يزيد وينقص فيدخل على غرر.
والأول أصح لأن بيع كل واحد منهما منفرداً يصح كذلك، فكذلك إذا جمعهما كالأرض المختلفة الأجزاء والثياب وغيرها.
فأما إن باعه كل رطل بدرهم على أن يزن الظرف فيحسب عليه بوزنه ولا يكون مبيعاً وهما يعلمان زنة كل واحد منهما صح لأنه إذا علم أن الدهن عشرة والظرف رطل كان معناه بعتك عشرة أرطال باثني عشر درهما، وإن كانا لا يعلمان زنة الظرف والدهن لم يصح لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن في الحال، وسواء جهلا زنتهما جميعاً أو زنة أحدهما كذلك (فصل) وإن وجد في ظرف الدهن ربا فقال ابن المنذر قال أحمد واسحاق إن كان سمانا عنده سمن أعطاه بوزنه سمناً، وإن لم يكن عنده سمن أعطاه بقدر الرب من الثمن وألزمه شريح بقدر الرب سمناً بكل حال، وقال الثوري إن شاء أخذ الذي وجد ولا يكلف أن يعطيه بقدر الرب سمناً.
ولنا أنه وجد المبيع بكيل ناقصاً فأشبه ما لو اشترى صبرة فوجد تحتها ربوة أو اشتراها على أنها عشرة أقفزة فبانت تسعة فإنه يأخذ الموجود بقسطه من الثمن، كذلك هذا فعلى هذا إنما يأخذ الموجود بقسطه من الثمن ولا يلزم البائع أن يعطيه سمناً سواء كان موجوداً عنده أو لم يكن، فإن تراضيا على إعطائه سمناً جاز (فصل) وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح ذكره القاضي لأنه قصد استثناء قيمة الدينار وذلك غير معلوم، واستثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً ولأنه استثناء من غير الجنس فلم يصح كما لو قال بمائة إلا قفيزاً من حنطة ويجئ على قول الخرقي أنه يصح فيمن استثنى في الإقرار عيناً من ورق أو ورقاً من عين فإنه يصح، فعلى هذا يحذف من الجملة بقيمة الدينار، ولو قال بمائة إلا قفيزاً من حنطة لم يصح لأنه استثناء من غير الجنس.
فأما الذهب والفضة فهما كالجنس الواحد (فصل في تفريق الصفقة) (وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز) صفقة واحدة بثمن واحد (وله ثلاث صور (إحداها) أن يبيع معلوماً ومجهولاً) كقولك بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه الفرس الأخرى بكذا فهذا بيع باطل بكل حال ولا أعلم في بطلانه خلافاً لأن المجهول لا يصح بيعه بجهالته والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذر التقسيط(4/37)
(الثانية) باع مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه كعبد مشترك بينهما أو ما يقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما فيصح في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد في نصيب الآخر، والثاني لا يصح فيهما وأصل الوجهين أن أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين (إحداهما) يفسد فيهما (والثانية) يصح في الحرة.
الوجه الأول قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يصح وهو قول أبي ثور لأن الصفقة جمعت حلالاً وحراماً فغلب التحريم، ولأن الصفقة إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكل كالجمع بين الأختين وبيع درهم بدرهمين، ووجه الأول أن كل واحد منهما له حكم لو كان منفرداً فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد حكمه كما لو باع شقصا وسيفاً ولأن ما يجوز بيعه قد صدر فيه البيع من أهله في محله بشرطه فصح كما لو انفرد، ولأن البيع سبب اقتضى الحكم في محلين
فامتنع حكمه في أحد المحلين لنبوته عن قبوله فيصح في الآخر كما لو وصى بشئ لآدمي وبهيمة.
وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر فلذلك فسد فيهما وهذا بخلافه (فصل) ومتى حكمنا بالصحة ههنا وكان المشتري عالماً بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وإن لم يعلم مثل أن اشترى عبداً يظنه كله للبائع فبان أنه لا يملك إلا نصفه فله الخيار بين الفسخ والإمساك لأن الصفقة تبعضت عليه، وأما البائع فلا خيار له لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بقسطه ولو وقع العقد على شيئين يفتقر الى القبض فيهما فتلف أحدهما قبل قبضه، فقال القاضي للمشتري الخيار بين إمساك الباقي بحصته وبين الفسخ لأن حكم ما قبل القبض في كون المبيع من ضمان البائع حكم ما قبل العقد بدليل أنه لو تعيب قبل قبضه ملك المشتري الفسخ به (الثالثة باع عبده وعبد غيره بغير إذنه أو عبداً وحراً أو خلاً وخمراً ففيه روايتان) اختلفت الرواية عن أحمد في هذا المسألة فنقل صالح عن أحمد فيمن اشترى عبدين فوجد أحدهما حراً رجع بقيمته من الثمن، ونقل عنه مهنا فيمن تزوج امرأة على عبدين فوجد أحدهما حراً فلها قيمة العبدين فأبطل الصداق فيهما جميعاً.
وللشافعي قولان كالروايتين وأبطل مالك العقد فيهما إلا أن يبيع ملكه وملك غيره فيصح في ملكه يقف في ملك غيره على الإجازة ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص أو بإجماع كالحر والخمر لم يصح العقد فيهما وإن لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه لان ما اختلف فيه يمكن أن يلحقه حكم الإجازة بحكم حاكم بصحة بيعه، وقال أبو ثور لا يصح بيعه لما تقدم في القسم الثاني، ولأن الثمن مجهول لأنه إنما يبين بالتقسيط للثمن على القيمة وذلك مجهول في الحال فلم يصح البيع به كما لو قال بعتك هذه السلعة برقمها أو بحصتها من رأس المال، ولأنه لو صرح به فقال بعتك هذا بقسطه من الثمن لم يصح فكذلك إذا لم يصرح وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ووجه الرواية الأولى أنه متى سمى ثمناً في مبيع فتقسط بعضه لا يوجب جهالة تمنع الصحة كما لو وجد بعض المبيع معيباً فأخذ أرشه، وإذا قلنا بالصحة فللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً كالقسم(4/38)
الثاني لتبعض الصفقة عليه والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز كالحكم في البيع إلا أن الظاهر فيها الصحة لأنها ليست عقود معاوضة فلا تؤثر جهالة العوض فيها (فصل) وإن وقع العقد على مكيل أو موزون فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي رواية واحدة سواء كانا من جنس واحد أو جنسين ويأخذ المشتري الباقي بحصته من الثمن لأن العقد وقع صحيحاً فذهاب بعضه لا يفسخه كما بعد القبض وكما لو وجد أحد المبيعين معيباً فرده أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض المبيع {مسألة} (وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح؟ على وجهين) (أحدهما) يصح فيهما ويتقسط الثمن على قدر قيمتهما وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لرجل واحد وكما لو باعا عبداً واحدا لهما (والثاني) لا يصح لأن كل واحد منهما مبيع بقسطه من الثمن وهو مجهول على ما قدمنا وفارق ما إذا كانا لرجل واحد فإن جملة المبيع مقابلة بجملة الثمن من غير تقسيط والعبد المشترك ينقسم عليه الثمن بالأجزاء فلا جهالة فيه، فأما إن باع قفيزين متساويين له ولغيره بثمن واحد بإذنه صح لأن الثمن يتقسط عليهما بالأجزاء فلا يفضي إلى جهالة الثمن، وكذلك إن باعه عبداً لهما بثمن واحد صح لما ذكرنا {مسألة} (وإن جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف صح فيهما ويقسط العوض عليهما في أحد الوجهين) إذا جمع بين عقدين مختلفي الحد كالبيع والإجارة والبيع والصرف بعوض واحد صح فيهما لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة كما لو جمع ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه، وكذلك إن باع سيفاً محلى بذهب وفضة، وفيه وجه آخر أنه لا يصح لأن حكمهما مختلف وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما فإن البيع فيه خيار ولا يشترط فيه التقابض في المجلس، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف يشترط له التقابض، وينفسخ العقد بتلف العين.
وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد فقال زوجتك ابنتي وبعتك داري بمائة صح النكاح لكونه لا يفسد بفساد العوض وفي البيع وجهان وللشافعي قولان كالوجهين {مسألة} (وإن جمع بين كتابه وبيع فكاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة مثل أن يقول بعتك
عبدي هذا وكاتبتك بمائة كل شهر عشرة بطل البيع وجهاً واحداً) لأنه باع عبده لعبد فلم يصح كبيعه إياه من غير كتابة وهل تبطل الكتابة؟ ينبني على روايتين في تفريق الصفقة (فصل) قال رضي الله عنه (ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها) لا يحل البيع بعد نداء الجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله تعالى وذروا البيع) فإن باع لم يصح البيع للنهي عنه.
والنداء الذي يتعلق به المنع هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر لأنه النداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلق الحكم به، والنداء الثاني زيد في زمن عثمان رضي الله عنه، وحكي القاضي رواية عن أحمد أن البيع يحرم(4/39)
بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على المنبر، ولا يصح هذا لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت، ولأن المقصود بهذا إدراك الجمعة وهو حاصل بما ذكرنا دون ما ذكره، ولا نه لو اختص تحريم البيع بالوقت لما اختص بالزوال فإن ما قبله وقت أيضا، فأما من لا تجب عليه الجمعة من النساء والمسافرين وغيرهم فلا يثبت في حقه هذا الحكم وذكر ابن أبي موسى فيه روايتين لعموم النهي، والصحيح ما ذكرنا إن شاء الله تعالى فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي، ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم، فان كان المسافر في غير المصر أو كان مقيماً بقرية لاجمعة على أهلها لم يحرم البيع ولم يكره وجهاً واحدا، فإن كان أحدهما مخاطباً بالجمعة دون الآخر حرم على المخاطب وكره للآخر لما فيه من الإعانة على الإثم، ويحتمل أن يحرم لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) {مسألة} (ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين كالإجارة والصلح ونحوهما وفيه وجه آخر أنه يحرم ولا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع.
ولا أن النهي مختص بالبيع وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي لقلة وجوده فلا يؤدي إلى ترك الجمعة فلا يصح قياسه على البيع) {مسألة} (ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة ولا لأهل الحرب ويحتمل أن يصح مع التحريم)
بيع العصير ممن يعتقد أنه يتخذه خمراً محرم وكرهه الشافعي، وذكر بعض أصحابه إن البائع إذا اعتقد أنه يصيره خمراً محرم وإنما يكره إذا شك فيه، وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري أنه لا بأس ببيع التمر ممن يتخذه مسكراً، قال الثوري بع الحلال من شئت لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) ولأن البيع تم بأركانه وشروطه، ولنا قول الله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وهذا نهي يقتضي التحريم، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال يا محمد: إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها، وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها.
أخرجه الترمذي من حديث أنس، وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن بطة باسناده عن محمد ابن سيرين أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، وأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمره بقلعه وقال بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر، ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية فأشبه إجارة أمته لم يعلم أنه يستأجرها للزنا بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها صورة النزاع بدليلنا، وقولهم تم البيع بشروطه وأركانه قلنا لكن وجد المانع منه إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيع إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله أو بقرائن محتفه بقوله تدل عليه، وإن كان الأمر محتملاً كمن لا يعلم حالة أو من يعمل الخل والخمر معاً ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز.
فإن باعها لمن يتخذها خمراً فالبيع باطل ويحتمل أن يصح، وهو مذهب الشافعي(4/40)
لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب ولنا أنه عقد على عين لمعصية الله تعالى بها فلم يصح كإجارة الأمة للزنا والغناء، وأما التدليس فهو المحرم دون العقد ولأن التحريم هنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع الربا وفارق التدليس فإنه لحق آدمي (فصل) وهكذا الحكم في كل ما قصد به الحرام كبيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب أو لقطاع الطريق، وبيع الأمة للغناء أو إجارتها لذلك فهو حرام والعقد باطل لما قدمنا.
قال ابن عقيل
وقد نص أحمد على مسائل نبه بها على ذلك فقال في القصاب والخباز إذا علم أن من يشتري منه يدعو عليه من يشرب المسكر لا يبيعه، ومن يخرط الأقداح لا يبيعها لمن يشرب فيها ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس ببيعه للنساء، وروي عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك كله باطلاً (فصل) قال أحمد في رجل مات وخلف جارية مغنيه وولداً يتيماً وقد احتاج إلى بيعها قال يبيعها على أنها ساذجة فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألف درهم فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين ديناراً.
فقال لاتباع الاعلى أنها ساذجة.
ووجهه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز بيع المغنيات ولا أثمانهن ولا كسبهن " قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم فيه بعض أهل العلم ورواه ابن ماجة وهذا يحمل على بيعهن لأجل الغناء، فأما ماليتهن الحاصلة بغير الغناء فلا تبطل كبيع العصير لمن لا يتخذه خمراً فإنه لا يحرم لصلاحيته للخمر (فصل) (ولايجوز بيع الخمر ولا التوكل في بيعه ولا شرائه) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الخمر غير جائز، وعند أبي حنيفة يجوز للمسلم أن يوكل ذمياً في بيعها وشرائها ولا يصح.
فإن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حرمت التجارة في الخمر " وعن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال " لا، هو حرام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قاتل الله اليهود، أن الله تعالى حرم عليهم شحومها فجعلوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه " متفق عليه ومن وكل في بيع الخمر وأكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك، ولأن الخمر نجسه محرمة فحرم بيعها والتوكيل فيه كالميتة والخنزير {مسألة} (ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين) لا يصح شراء الكافر مسلماً، وهذا إحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث ويبقى ملكه عليه إذا أسلم في يده فصح أن يشتريه كالمسلم.
ولنا أنه يمنع استدامة ملكه عليه فمنع من ابتدائه كالنكاح ولأنه عقد يثبت الملك
للكافر على المسلم فلم يصح كالنكاح وإنما ملكه بالإرث وبقي ملكه عليه إذا أسلم في يده لأن الاستدامة أقوى من الابتداء بالفعل والاختيار بدليل ثبوته بهما للحوم الصيد مع منعه من ابتدائه فلا يلزم من(4/41)
ثبوت الاقوى ثبوت ما دونه مع أنا نقطع الاستدامة عليه بإجباره على إزالتها، فإن كان ممن يعتق عليه بالقرابة صح في إحدى الروايتين وعتق عليه وهذا قول بعض الأصحاب، والأخرى لا يصح ولا يعتق لأنه شراء يملك به المسلم فلم يصح كالذي لا يعتق عليه، ولأن ما منع من شرائه لم يبح له شراؤه وإن زال ملكه عقيب الشراء المحرم الصيد.
وجه الرواية الأولى أن الملك لا يستقر عليه وإنما يعتق بمجرد الملك في الحال ويزول الملك عنه بالكلية ويحصل له من نفع الحرية أضعاف ما حصل من الإماء بالملك في لحظة يسيرة.
ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالته وكذا شراء المحرم الصيد {مسألة} (وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة مكله عنه) لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً وليس له كتابته لأن الكتابة لا تزيل ملك السيد عنه ولايجوز اقرار ملك الكافر عليه وقال القاضي له ذلك لأنه يزيل يده عنه فأشبه بيعه والأول أولى {مسألة} (ولايجوز بيع الرجل على بيع أخيه وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة، ولا شراؤه على شراء أخيه وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ البيع ويعقد معه فإن فعل فهل يصح؟ على وجهين) أما البيع فهو محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لابيع بعضكم على بيع بعض " ومعناه ما ذكرنا ومثله أن يقول أبيعك خيراً منها بثمنها أو يعرض عليهما سلعة يرغب المشتري ليفسخ البيع ويعقد معه فلا يجوز ذلك للنهي عنه ولما فيه من الاضرار بالمسلم والإفساد عليه، وفي معنى ذلك شراؤه على شراء أخيه لأنه في معنى المنهي عنه، ولأن الشراء يسمى بيعاً فيدخل في عموم النهي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه متفق عليه.
وهو في معنى الخاطب، وإن خالف وفعل فالبيع باطل للنهي عنه والنهي يقتضي الفساد، وفيه وجه أنه يصح لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري أو قوله الذي فسخ البيع من أجله وذلك سابق على البيع، ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل به الضرر فالبيع
المحصل للمصلحة أولى ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش وهذا مذهب الشافعي (فصل) وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يسم الرجل على سوم أخيه " ولا يخلو من أربعة اقسام (أحدها) أن يوجد من البائع تصريح بالرضا بالبيع.
فهذا يحرم السوم على غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي والثاني أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد فروى أنس أن رجلا من الأنصار شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الشدة والجهد فقال له " أما تبقى لك شئ؟ " قال بلى قدح وحلس قال " فائتني بهما " فأتاه بهما فقال " من يبتاعهما؟ " فقال رجل أخذتهما بدرهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من يزيد على درهم؟ " فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه: رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا أيضاً إجماع فإن المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة (الثالث) أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا عدمه فلا يحرم السوم أيضاً ولا الزيادة استدلالاً(4/42)
بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت له أن معاوية وأبا جهم خطباها فأمرها أن تنكح أسامة، وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في أحدهما أبيح في الآخر (الرابع) أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح.
فقال القاضي لا تحرم المساومة، وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة استدلالاً بحديث فاطمة ولأن الأصل إباحة السوم والخطبة فحرم منه ما وجد فيه التصريح بالرضا وما عداه يبقى على الأصل (قال شيخنا) لو قيل بالتحريم ههنا لكان وجها حسناً فإن النهي عام خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها فتبقى هذه الصورة على مقتضى العموم ولأنه وجد منه دليل على الرضا أشبه مالو صرح به، ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضا لانها جات مستشيرة للنبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك دليلاً على الرضا وكيف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تفوتينا بنفسك " فلم تكن تفعل شيئاً قبل مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم والحكم في الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه (فصل) وبيع التلجئة باطل وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي هو صحيح
لأن البيع تم بأركانه وشروطه خالياً عن مقارنة مفسدة فصح كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع بغير شرط.
ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين، ومعنى بيع التلجئة أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ملكه فيواطئ رجلا على أن يظهر أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك ولا يريدان بيعاً حقيقيا {مسألة} (وفي بيع الحاضر للبادي روايتان إحداهما يصح والأخرى لا يصح بخمسة شروط أن يحضر البادي لبيع سلعة بسعر يومها جاهلاً بسعرها ويقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها، وإن اختل شرط منها صح البيع) البادي ههنا من يدخل البلد من غير أهلها سواء كان بدوياً أو من قرية أو من بلدة أخرى، ولا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي لقول ابن عباس نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لباد؟ قال لا يكون له سمساراً، متفق عليه، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " رواه مسلم والمعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي بيع سلعته اشتراها الناس رخص وتوسع عليهم السعر، وإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل لبلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا.
وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز ومالك والليث والشافعي، ونقل أبو إسحاق ابن شاقلا أن الحسن بن علي المصري سأل أحمد عن بيع حاضر لباد فقال لا بأس به قال له فالخبر الذي جاء بالنهي.
قال كان ذلك مرة، فظاهر هذا أن النهي اختص بأول الإسلام لما كان عليهم من الضيق في ذلك.
هذا قول مجاهد وأبي حنيفة وأصحابه، والمذهب الأول لعموم النهي وما ثبت في حقهم ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل، وهو مذهب الشافعي وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم بثلاثة شروط (أحدها) أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى البيع له فان كان هو القاصد للحاضر جاز لان التضيق حصل منه لامن الحاضر.
(الثاني) أن يكون(4/43)
البادي جاهلاً بالسعر قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا كان البادي عارفاً بالسعر لم يحرم لأن التوسعة لا تحصل بتركه يبيعها لأنه لا يبيعها إلا بسعرها ظاهراً (الثالث) أن يكون قد جلب السلعة للبيع، فأما
إن جلبها ليأكلها أو يخزنها فليس في بيع الحاضر له تضييقا بل توسعة، وذكر القاضي شرطين آخرين (أحدهما) أن يكون مريداً لبيعها بسعر يومها، فأما إن كان أحضرها وفي نفسه أن لا يبيعها رخيصة فليس في بيعه تضييق (الثاني) أن يكون بالناس حاجة إليها وضرر في تأخير بيعها كالأقوات ونحوها، وقال أصحاب الشافعي إنما يحرم بشروط أربعة وهي ما ذكرنا إلا حاجة الناس إليها فمتى اختل شرط منها لم يحرم البيع وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام وظاهر المذهب أنه باطل نص عليه أحمد في رواية اسماعيل بن سعيد.
وذكر الخرقي رواية أخرى أن البيع صحيح وهو مذهب الشافعي لأن النهي لمعنى في غير المنهي عنه فلم يبطل كتلقي الركبان ولنا أنه منهي عنه والنهي يقتضي الفساد والله أعلم {مسألة} (فأما شراؤه له فيصح رواية واحدة) وهو قول الحسن وكرهت طائفة الشراء لهم أيضاً كما كرهت البيع فروى أنس قال: كان يقال هي كلمة جامعة يقول لا تبيعن له شيئاً ولا تبتاعن له شيئا وهو إحدى الروايتين عن مالك ولنا أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه فإن النهي عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر، وليس ذلك في الشراء لهم ولا يتضررون لعدم الغبن للبادين بل هو دفع الضرر عنهم والخلق في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضرر.
فأما إن أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله والاوزاعي وابن المنذر وكرهه مالك والليث وقول الصحابي أولى (فصل) وليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول يقال لمن يريد أن يبيع أقل ما يبيع الناس بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، واحتج بما روي الشافعي وسعيد بن منصور عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر أنه مر بحاطب في سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحتمل زبيباً وهم يعتبرون سعرك فإما أن ترفع في السفر وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت ولأن في ذلك إضراراً بالناس إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال " إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد مثله فوجه الدلالة من وجهين (أحدهما) أنه لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لا جابهم إليه (الثاني) أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام ولأنه ماله فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان كما لو اتفق الجماعة عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعتهم بلداً يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ويطلبها المحتاج(4/44)
ولا يجدها إلا قليلاً فيرفع في ثمنها ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الأضرار بالجانبين جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراماً، فأما حديث عمر فقد روي فيه سعيد والشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى حاطباً في داره فقال: أن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء وانما هو شئ أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع كيف شئت وهذا رجوع إلى ما قلنا وما ذكروه من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه {مسألة} (من باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها إلا أن تكون قد تغيرت صفتها، وإن اشتراها أبوه أو ابنه جاز) من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقداً لم يجز روى ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي وبه قال الثوري والاوزاعي ومالك واسحاق وأصحاب الرأي وأجازه الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها ولنا ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت بئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن يتوب.
رواه أحمد وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم
فجرى مجرى روايتها ذلك عنه لأن ذلك ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل، ولذلك قال ابن عباس في مثل هذه المسألة أرى مائة بخمسين بينهما حريرة يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما والذرائع معتبرة، فأما إن باعها بمثل الثمن أو أكثر جاز لأنه لا يكون ذريعة وهذا إن كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت مثل أن هزل العبد أو نسي متاعه أو تخرق الثوب ونحوه جاز له شراؤها بما شاء لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا (فصل) فإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز ولا نعلم فيه خلافا لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض، فإن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر فقال أصحابنا يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينهما أشبه ما لو اشتراها بعرض، وقال أبو حنيفة لا يجوز استحساناً لأنهما كالشئ الواحد في معنى الثمنية ولان ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهو كما لو باعها بجنس الثمن الأول قال شيخنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى وهذه المسألة تسمى مسألة العينة قال الشاعر: أندان أم نعتان أم ينبري لنا * فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربة ومعنى نعتان أي نشتري عينه كما وصفنا، وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس وقال أكره(4/45)
للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد قال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالاجل غالبا ويجوز أن تكون العينة اسماً لهذه المسألة وللبيع نسيئة جميعاً لكن البيع بنسيئة مباح اتفاقاً ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره (فصل) فإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال أحمد في رواية حرب لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهي كمسألة العينة، فإن اشتراها بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها أو بمثله نسيئة جاز لما ذكرنا في مسألة العينة، وإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها
فهو كمسألة العينة على ما ذكرنا من الخلاف، قال شيخنا ويحتمل أن يكون له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه إذ لم يكن ذلك عن مواطأة ولا حيلة بل وقع اتفاقاً من غير قصد لأن الأصل حل البيع وإنما حرم في مسألة العينة للأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه لأن التوسل بذلك أكثر فلا يلحق به ما دونه (فصل) وفي كل موضع قلنا لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير البائع اشترى بنسيئة أشبه الأجنبي {مسألة} (وإن باع ما يجري فيه الربا بنسئية ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز) روى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وبه قال مالك وإسحاق وأجازه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن حسين والشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي.
قال علي بن حسين إذا لم يكن لك في ذلك رأي.
وروى محمد بن عبد الله بن أبي مريم قال بعت تمراً من التمارين كل سبعة آصع بدرهم ثم وجدت عند رجل منهم تمراً يبيعه أربعة آصع بدرهم فاشتريت منه فسألت عكرمة عن ذلك فقال لا بأس أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيب عن ذلك وأخبرته بقول عكرمة فقال كذب قال عبد الله ابن عباس ما بعت من شئ مما يكال بمكيال فلا تأخذ منه شيئاً مما يكال بمكيال إلا ورقاً أو ذهباً، فإذا أخذت ذلك فابتع ممن شئت منه أو من غيره، فرجعت فإذا عكرمة قد طلبني فقال الذي قلت لك هو حلال هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيب ان فضل لي عنده فضل قال فاعطه أنت الكسر وخذ منه الدراهم ووجه تحريم ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة، وقد نص أحمد على ما يدل على هذا، قال شيخنا والذي يقوى عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولاقصد ذلك في ابتداء العقد كما قال علي بن الحسين فيما روى عنه عبد الله بن زيد قال قدمت على علي بن الحسين فقلت له إني أجذ نخلي وأبيع فيمن حضرني إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل الاجل فيوقفونها بالسوق فابتاع منهم وأقاصهم، قال لا بأس بذلك إذا لم يكن منك على رأي وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح كما لو كان المبيع الأول حيواناً أو ثياباً ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، فإن لم يأخذ بالثمن طعاماً لكن اشترى من المشتري طعاماً بدراهم
وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أو لم يسلمها إليه لكن قاصه بها جاز كما في حديث علي بن الحسين (فصل) والاحتكار حرام لما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحتكر الطعام، وعن(4/46)
سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من احتكر فهو خاطئ رواهما الأثرم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " والاحتكار المحرم ما جمع ثلاثة شروط: (أحدها) أن يشتري فلو جلب شيئاً أو أدخل عليه من غلته شيئاً فادخره لم يكن محتكراً روى ذلك عن الحسن ومالك، قال الاوازعي الجالب ليس بمحتكر لقوله " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " ولأن الجالب لا يضيق على أحد ولا يضر بل ينفع، فإن الناس إذا علموا أن عنده طعاماً معداً للبيع كان أطيب لقلوبهم (الثاني) أن يكون قوتاً، فأما الادام والعسل والزيت وعلف البهائم فليس احتكاره بمحرم.
قال الأثرم سئل أبو عبد الله عن أي شئ الاحتكار؟ قال إذا كان من قوت الناس فهذا الذي يكره وهذا قول عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيب يحتكر الزيت وهو راوي حديث الاحتكار، قال أبو داود وكان يحتكر النوى والخبط والبزر ولأن هذه الأشياء لاتعم الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان (الثالث) أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين (أحدهما) أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قاله أحمد، فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكبيرة كبغداد والبصرة ومصر ونحوها لا يحرم فيها الاحتكار لأن ذلك لا يؤثر فيها غالباً (الثاني) أن يكون في حال الضيق بأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، وأما ان اشتراه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد لم يحرم (فصل) ويستحب الإشهاد في البيع لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) أقل أحوال الأمر الندب ولأنه أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد، ويختص ذلك ماله خطر فأما مالا خطر له كحوائج البقال والعطار وشبهها فلا يستحب ذلك فيها لأنها تكثر فيشق الاشهاد عليها وتقبح إقامة البينة عليها، والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير وليس ذلك بواجب في واحد منها ولا شرطاً له روى ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول الشافعي وأصحاب الرأى واسحاق، وقال قوم هو فرض لا يجوز تركه
روى ذلك عن ابن عباس وممن رأى الإشهاد في البيع عطاء وجابر بن زيد والنخعي لظاهر الأمر قياساً على النكاح.
ولنا قوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قال أبو سعيد: صار الأمر الى الأمانة وتلا هذه الآية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه ومن رجل سراويل ومن أعرابي فرساً فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت، ولم ينقل أنه أشهد في شئ من ذلك وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولانقل عنهم فعله ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا يشهدون في كل بياعاتهم لنقل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد البارقي أن بشتري له أضحية ولم يأمره بالإشهاد، ولأن المبايعة تكثر بين الناس في أسواقهم وغيرها فلو وجب الإشهاد في كل ما يتبايعونه أفضى إلى الحرج المحطوط عنا بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب وهذا ظاهران شاء الله تعالى (فصل) ويكره البيع والشراء في المسجد لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقال(4/47)
قوم لا بأس به.
والصحيح الأول للحديث المذكور فإن باع فالبيع صحيح لأنه تم بأركانه وشروطه ولم يثبت وجود مفسد له وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس والتصرية، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا لا أربح الله تجارتك " من غير أخبار بفساد البيع دليل على صحته والله أعلم {بسم الله الرحمن الرحيم} باب الشروط في البيع وهي ضربان: صحيح وهو ثلاثة أنواع (أحدها) شروط من مقتضى البيع كالتقابض وطول الثمن ونحوه فهذا لا يؤثر فيه لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد فوجوده كعدمه (الثاني) شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة أو صفة في المبيع مقصودة نحو كون العبد كاتباً أو خطيباً أو صانعاً أو مسلماً أو الأمة بكراً أو الدابة هملاجة أو الفهد صيوداً فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به فإن لم يف به فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن والرضا به لأنه شرط وصفاً مرغوباً فيه فصار
الشرط مستحقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً {مسألة} (فإن شرطها ثيباً كافرة فبانت بكراً مسلمة فلا فسخ له لأنه زاده خيراً وليس ذلك يزيد في الثمن فاشبه مالو شرطه غير صانع فبان صانعاً) وهذا قول الشافعي في البكر واختيار القاضي واستبعد كونه يقصد الثيوبة لعجزه عن البكر ويحتمل أن له الفسخ لأن له فيه قصداً صحيحاً وهو أن طالب الكافرة أكثره لصلاحيتها للمسلمين والكفار أو ليستريح من تكليفها العبادات وقد يشترط الثيب لعجزه عن البكر أو لبيعها لعاجز عن البكر فقد فات قصده وقد دل اشتراطه على أن له قصداً صحيحاً.
فأما إن شرط صفة غير مقصودة فبانت بخلافها مثل أن يشرطها سبطة فبانت جعده أو جاهلة فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيراً.
(فصل) فإن شرط الشاة لبوناً صح وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع فلم يجز شرطه، ولنا أنه أمر مقصود يتحقق من الحيوان ويأخذ قسطاً من الثمن فصح اشراطه كالصناعة في الأمة والهملجة في الدابة وإنما لم يجز بيعه مفرداً للجهالة والجهالة فيما كان تبعاً لا تمنع الصحة ولذلك لو اشتراها بغير شرط صح بيعه معها.
وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوى في التمر وإن لم يجز بيعهما منفردين فإن شرط أنها تحلب قدراً معلوما لم يصح لأن اللبن يختلف ولا يمكن ضبطه فتعذر الوفاء به، وإن شرطها غزيرة اللبن صح لأنه يمكن الوفاء به وإن شرطها حاملاً صح.
وقال القاضي قياس المذهب أن لا يصح لأن الحمل لاحكم له.
ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ويحتمل أنه ريح ولنا أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها فصح شرطه كالصناعة وكونها لبوناً.
وقوله إن الحمل لاحكم له لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها، ومنع أخذ الحوامل في الزكاة ومنع وطئ الحبالى المسبيات وأرخص للحامل في الفطر في رمضان إذا اخافت على ولدها ومنع من(4/48)
اقامة الحد عليها من أجل حملها.
وظاهر الحديث المروي في اللعان يدل على أنه لاعنها حال حملها فانتفى عنه ولدها، فإن شرط أنها تضع الولد في وقت بعينه لم يصح وجهاً واحداً لأنه لا يمكن الوفاء به، وكذلك إن شرط أنها لا تحمل لذلك، وقال مالك لا يصح في المرتفعات ويصح في غيرهن، ولنا أنه
باعها بشرط البراءة من الحمل فلم يصح كالمرتفعات، وإن شرطها حائلاً فبانت حاملاً فإن كانت أمة فهو عيب يثبت الخيار وإن كان في غيرها فهو زيادة لا يستحق به فسخاً، ويحتمل أن يستحق لأنه قد يريدها لسفر أو حمل شئ لا تتمكن منه مع الحمل، وإن شرط البيض في الدجاجة فقيل لا يصح لأنه لا علم عليه يعرف به ولم يثبت له في الشرع حكم وقيل يصح لأنه يعرف بالعادة فأشبه اشتراط الشاة لبونا {مسألة} (وإن اشترط الطائر مصوتاً أو انه يجئ من مسافة معلومة صح وقال القاضي لا يصح) إذا شرط في الهزار والقمري ونحوهما أنه مصوت فقال بعض أصحابنا لا يصح وبه قال أبو حنيفة لأن صياح الطير يجوز أن يوجد وأن لا يوجد ولأنه لا يمكنه اكراهه على التصويت.
والأولى جوازه لأن فيه قصداً صحيحاً وهو عادة له وخلقه فيه فأشبه الهملجة في الدابة والصيد في الفهد، وإن شرط في الحمام انه يجئ من مسافة معلومة صح أيضاً اختاره أبو الخطاب لأن هذه عادة مستمرة وفيها قصد صحيح لتبليغ الأخبار وحمل الكتب فجرى مجرى الصيد والهملجة وقال القاضي لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن فيه تعذيباً للحيوان أشبه مالو شرط الكبش مناطحاً.
وإن شرط الغناء في الجارية لا يصح لأن الغناء مذموم في الشرع فلم يصح اشتراطه كالزنا.
وإن شرط في الكبش النطاح أو في الديك كونه مناقراً لم يصح لأنه منهي عنه في الشرع فجرى مجرى الغناء في الجارية.
وإن شرط إن الديك يوقظه للصلاة لم يصح لأنه لا يمكن الوفاء به وإن شرط أنه يصيح في أوقات معلومة جرى مجرى التصويت في القمري على ما ذكرنا (والثالث) أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع كسكنى الدار شهراً وحملان البعير إلى موضع معلوم أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو خياطة الثوب أو تفصيله ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن يبيع داراً ويستثنى سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهره إلى مكان معلوم أو عبداً ويستثنى خدمته مدة معلومة نص عليه أحمد وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح لأنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ولأنه ينافي مقتضى البيع فأشبه مالو شرط أن لا يسلمه ذلك لأنه شرط تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع منفعته وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى انه يبطل البيع والشرط نقلها عبد الله بن محمد في الرجل يشتري من الرجل الجارية ويشترط أن تخدمه فالبيع باطل
قال شيخنا وهذه الرواية لاتدل على محل النزاع في هذه المسألة فإن اشتراط خدمة الجارية باطل لوجهين (أحدهما) أنها مجهولة فإطلاقه يقتضي خدمتها أبداً وهذا لا خلاف في بطلانه إنما الخلاف في اشتراط منفعة معلومة (الثاني) أن يشترط خدمتها بعد زوال ملكه عنها وذلك يفضي إلى الخلوة بها والخطر برؤيتها وصحبتها وهذا لا يوجد في غيرها ولذلك منع إعارة الأمة الشابة لغير محرمها وقال(4/49)
مالك ان اشرط ركوباً إلى مكان قريب جاز وإن كان إلى مكان بعيد كره لأن اليسير تدخله المسامحة ولنا ماروى جابرانه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة وفي لفظ قال فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه وفي لفظ فبعته بخمس أواق قال قلت على أن لي ظهره إلى المدينة قال " ولك ظهره إلى المدينة " رواه مسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة ولأن المنفعة قد تقع مستثناة بالشرع على المشتري فيما إذا اشترى نخلاً مؤبرة أو أرضاً مزروعة أو داراً مؤجرة أو أمة مزوجة فجاز أن يستثنيها كما لو اشترط البائع الثمرة قبل التأبير ولم يصح نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط إنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومة إباحة الشرط الواحد وقياسهم منقوض بشرط الخيار والتأجيل في الثمن (فصل) وإن باع أمة واستثنى وطأها مدة معلومة لم يصع لان الوطئ لا يباح في غير ملك أو نكاح لقول الله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وفارق اشتراط وطئ المكاتبة حيث نبيحه لأنها مملوكة فيستباح وطؤها بالشرط في المحل المملوك.
واختار ابن عقيل عدم الإباحة أيضاً وهو قول أكثر الفقهاء (فصل) وإن باع المشتري العين المستثناة منفعتها صح البيع وتكون في يد المشتري الثاني مستثناة ايضاً فإن كان عالماً بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له خيار كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه وإن لم يعلم فله خيار الفسخ كمن اشترى أمة مزوجة أو داراً مؤجرة وإن أتلف المشتري العين فعليه أجرة المثل لتفويت المنفعة المستحقة لغيره وثمن البيع وإن تلفت العين بتفريطه فهو كتلفها بفعله نص عليه أحمد وقال يرجع البائع على المبتاع باحرة المثل قال القاضي: معناه عندي القدر الذي نقصه
البائع لأجل الشرط وظاهر كلام أحمد خلاف هذا لأنه يضمن ما فات بتفريطه فضمنه بعوضه وهو أجرة المثل فأما إن تلفت بغير فعله وتفريطه لم يضمن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله فعلى المشتري أن يحمله على غيره لأنه كان له حملان؟ قال الا إنما شرط عليه هذا بعينه لأنه لا يملكها البائع من جهته فلم يلزمه عوضها كما لو تلفت النخلة المؤبرة بثمرتها أوغير المؤبرة إذا اشترط البائع ثمرتها وكما لو باع حائطاً واستثنى منه شجرة بعينها فتلفت، وقال القاضي عليه ضمانها أخذا من عموم كلام أحمد وإذا تلفت العين رجع البائع على المبتاع بأجرة المثل وكلامه محمول على حالة التفريط على ما ذكرناه (فصل) إذا اشترط البائع منفعة المبيع فأراد المشتري أن يعطيه ما يقوم مقام المبيع في المنفعة أو يعوضه عنها لم يلزمه قبوله وله استيفاء المنفعة من غير المبيع نص عليه أحمد لأن حقه تعلق بعينها أشبه ما لو استأجر عينا فبذل له الآخر مثلها ولأن البائع قد يكون له غرض في استيفاء منافع تلك العين فلا يجبر على قبول عوضها فإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما وإن أراد البائع إعارة العين أو إجارتها لمن يقوم مقامه فله ذلك في قياس المذهب لأنها منافع مستحقة له فملك ذلك فيها كمنافع الدار المستأجرة الموصى بمنافعها ولا تجوز إجارتها إلا لمثله في الانتفاع فإن أراد إجارتها أو إعارتها لمن يضر بالعين بانتفاعه لم يجز ذلك كما لا يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن لا يقوم مقامه ذكر ذلك ابن عقيل.(4/50)
(فصل) وإن قال بعتك هذه الدار وأجرتكها شهراً لم يصح لأنه إذا باعه فقد ملك المشتري المنافع فإذا أجره إياها فقد شرط أن يكون له بدل في مقابلة ما ملكه المشتري فلم يصح قال ابن عقيل وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ومعناه أن يستأجره طحاناً ليطحن له كذا بقفيز منه فيصير كأنه شرط له القفيز عوضاً عن عمله في باقي الكر المطحون ويحتمل الجواز بناء على اشتراط منفعة البائع في المبيع على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوبا ويشرط على بائعه خياطته قميصا أو بغلة ويشرط حذوها نعلاً أو حزمة حطب ويشرط حملها إلى موضع معلوم نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره، واحتج أحمد بما روي أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب
وشارطه على حملها، وبه قال إسحاق وأبو عبيدة، وقال أبو حنيفة يجوز أن يشري بغلة ويشرط على البائع حذوها، وحكي عن أبي ثور والثوري أنهما أبطلا العقد بهذا الشرط لأنه شرط فاسد أشبه الشروط الفاسدة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط ولنا ما تقدم في قضية محمد بن مسلمة ولأنه بيع وإجارة لأنه باعه الثوب وأجره نفسه على خياطته وكل واحد منهما يصح إفراده بالعقد فإذا جمعهما جاز كالعينين ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط قال أحمد: إنما نهى عن شرطين في بيع وهو يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد ولابد من العلم بالمنفعة لهما ليصح اشتراطها لأننا نزلنا ذلك منزلة الإجارة فلو اشترط حمل الحطب إلى منزله والبائع لايعرف منزله لم يصح وإن شرط حذوها نعلاً فلا بد من معرفة صفتها كما لو استأجره على ذلك ابتداء.
قال أحمد: في الرجل يشتري البغلة على أن يحذوها جائز إذا أراد الشراك فإن تعذر العمل بتلف المبيع قبله أو بموت البائع انفسخت الإجارة ورجع المشتري عليه بعوض ذلك، وإن تعذر بمرض أقيم مقامه من يعمل العمل والأجرة عليه كقولنا في الإجارة.
(فصل) وإذا اشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فأقام البائع مقامه من يعمل العمل فله ذلك بمنزلة الأجير المشترك يجوز أن يعمل العمل بنفسه وبمن يقوم مقامه وإن أراد بذل العوض عن ذلك لم يلزم المشتري قبوله وإن أراد المشتري أخذ العوض عنه لم يلزم البائع بذله لأن المعاوضة عقد تراض فلا يجبر عليه أحد وإن تراضيا عليه احتمل الجواز لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عنها لو لم يشترطها فإذا ملكها المشتري جاز له أخذ العوض عنها كما لو استأجرها وكما يجوز أن تؤجر المنافع الموصى بهامن ورثة الموصى ويحتمل أن لا يجوز لأنه مشترط بحكم العادة والاستحسان لأجل الحاجة فلم يجز أخذ العوض عنه كالقرض فإنه يجوز أن يرد في الخبز والخمير قل أو كثر ولو أراد أن يأخذ بقدر خبزه وكسره بقدر الزيادة لم يجز ولأنه أخذ عوضاً عن مرفق معتاد جرت العادة بالعفو عنه دون أخذ العوض فأشبه المنافع المستثناة شرعاً وهو ما إذا باع أرضاً فيها زرع للبائع واستحق تبقيته إلى حين الحصاد فلو أخذه قصيلاً لينتفع بالأرض إلى وقت الحصاد لم يكن له ذلك {مسألة} (وذكر الخرقي في جز الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح فيخرج ههنا مثله)(4/51)
إذا اشترى زرعاً أو جزه من الرطبة أو ثمرة على الشجر فالحصاد وجز الرطبة وجذاذ الثمرة على المشتري لأن نقل المبيع وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع بخلاف الكيل والوزن والعدد فإنها على البائع من مؤنة تسليم المبيع إلى المشتري والتسليم على البائع، وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز بيعها والتصرف فيها وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا.
فإن شرطه على البائع فاختلف أصحابنا فقال الخرقي يبطل البيع وقال ابن أبي موسى لا يجوز وقيل يجوز فإن قلنا لا يجوز فهل يبطل البيع لبطلان الشرط على روايتين، وقال القاضي: المذهب جواز الشرط ذكره أبو بكر وابن حامد وقال القاضي ولم أجد بما قاله الخرقي رواية في المذهب، واختلف فيه أصحاب الشافعي فقال بعضهم إذا شرط الحصاد على البائع بطل البيع قولا واحداً وقال بعضهم يكون على قولين فمن أفسده قال لا يصح لثلاثة معان (أحدها) شرط العمل في الزرع قبل أن يملكه (والثاني) أنه شرط مالا يقتضيه العقد (والثالث) أنه شرط تأخير التسليم لأن معنى ذلك تسليمه مقطوعاً، ومن أجازه هذا بيع وإجارة وكل واحد منهما يصح إفراده فصح جمعهما كالعينين وقولهم شرط العمل فيما لا يملكه يبطل بشرط رهن المبيع على الثمن في البيع (والثاني) يبطل بشرط الرهن والكفيل والخيار (والثالث) ليس بتأخير لأنه يمكنه تسليمه قائماً ويبقى الشرط من المستلم فليس ذلك بتأخير التسليم فإذا فسدت هذه المعاني صح لما ذكرناه.
فإن قيل فالبيع يخالف حكمه حكم الإجارة لأن الضمان ينتقل في البيع بتسليم العين بخلاف الإجارة فكيف يصح الجمع بينهما؟ قلنا كما يصح بيع الشقص والسيف وحكمهما مختلف بدليل ثبوت الشفعة في الشقص دون السيف، وقد صح الجمع بينهما.
وقول الخرقي أن العقد ههنا يبطل يحتمل أن يختص هذه المسألة وشبهها مما يفضي الشرط فيه إلى التنازع فإن البائع قد يريد قطعها من أعلاها ليبقى له منها بقية والمشتري يريد الاستقصاء عليها ليزيد له ما يأخذه فيفضي إلى التنازع وهو مفسدة فيبطل البيع من أجله، ويحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراط منفعة البائع في البيع كما ذكرنا في صدر المسألة والأول أولى لوجهين (أحدهما) أنه قد قال في موضع آخر ولا يبطل البيع شرط واحد (والثاني) أن المذهب أنه يصح اشتراط منفعة
البائع في البيع كما ذكرنا والله أعلم {مسألة} وإن جمع بين شرطين لم يصح) ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: الشرط الواحد لا بأس به إنما نهى عن الشرطين في البيع وهو ماروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك " أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله أن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع وحديث جابريدل على إباحة الشرط حين باعه جملة وشرط ظهره إلى المدينة.
واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما فروي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان ليسامن مصلحة العقد فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوباً واشترط على(4/52)
البائع خياطته أوقصارتة أو طعاما واشترط طحنه وحمله إن شرط أحد هذه الاشياء فالبيع جائز، وإن اشترط شرطين فالبيع باطل وكذلك فسر القاضي في شرحه الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد ولا يطؤها ففسره بشرطين فاسدين، وروى عنه اسماعيل بن سعيد في الشرطين في البيع أن يقول إذا بعتها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة فظاهر كلام أحمد أن الشرطين المنهي عنهما ماكان من هذا النحو، وأما إن شرط شرطين أو أكثر من مقتضى العقد أو من مصلحته مثل أن يبيعه بشرط الخيار والتأجيل والرهن والضمين أو بشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن فهذا لا يؤثر في العقد وإن كثر، وقال القاضي في المجرد ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل سواء كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته أخذاً من ظاهر الحديث وعملاً بعمومة ولم يفرق الشافعي وأصحاب الرأي بين الشرط والشرطين ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ولأن الصحيح لا يؤثر في البيع وإن كثر والفاسد يؤثر فيه وإن اتحد والحديث الذي رويناه يدل على الفرق ولأن العذر اليسير إذا احتمل في العقد لا يلزم احتمال الكثير، حديثهم ليس له أصل وقد أنكره أحمد ولا يعرفه مروياً في
مسند فلا يعول عليه، والذي ذكره القاضي في المجرد بعيد أيضاً.
فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف وشرط ما هو من مصلحة العقد كالأجل والخيار والرهن والضمين وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة فيه مصلحة العقد فلا ينبغي أن يؤثر في بطلانه قلت أو كثرت.
ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئاً من هذا القسم فالظاهر أنه غير مراد له والأولى تفسيره بما حكاه ابن المنذر والله أعلم (فصل) (الثاني) فاسد وهو ثلاثة أنواع (أحدها) أن يشرط على صاحبه عقد آخر كسلف أو قرض أو بيع أو إجارة أو صرف للثمن أوغير فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده) المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل بيع وسلف ولا شرطان في بيع " قال الترمذي هذا حديث صحيح ولأن النبي صلى الله عليه سلم نهى عن بيعتين في بيعه، حديث صحيح وهذا منه، قال أحمد وكذلك كل ما في معنى ذلك مثل أن يقول على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسداً قال ولا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير ولنا الخبر والنهي يقتضي الفساد ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط فيفسد العقد لأن البائع لم يرض به إلا بالشرط فإذا فات فات الرضا به ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله لاألتفت إلى اللفظ لا يصح لأن البيع هو اللفظ كان فاسداً فكيف يكون صحيحاً، ويحتمل أن يصح البيع ويبطل الشرط بناء على ما ينافي مقتضى العقد على ما نذكره إن شاء الله تعالى(4/53)
(الثاني) شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو إلا يبيع ولا يهب ولا يعتق وإن أعتق فالولاء له أو يشترط أن يفعل ذلك فهذا الشرط باطل في نفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة حين شرط أهلها الولاء " ماكان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " نص على بطلان هذا الشرط وقسنا عليه سائر الشروط لأنها في معناه وهل يبطل
بها البيع؟ على روايتين، قال القاضي: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح وهو ظاهر كلام الخرقي وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى وأبو ثور (والثانية) البيع فاسد وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه شرط فاسد فأفسد البيع كما لو اشترط فيه عقداً آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن البائع إنما رضي بزوال ملكه عن المبيع بشرطه والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه لزال ملكه بغير رضاه، والبيع ممن شرطه التراضي ولأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط ووجه الأولى ماروت عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه فأعينيني، فقلت إن أحب أهلك أعدها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال " أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى، ماكان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق " متفق عليه فأبطل الشرط ولم يبطل العقد قال إبن المنذر خبر بريرة ثابت ولا نعلم خبراً يعارضه فالقول به يجب فإن قيل المراد بقوله " اشترطي لهم الولاء " أي عليهم بدليل أنه أمرها به ولا يأمرها بفاسد قلنا لا يصح هذا التأويل لوجهين أحدهما أن الولاء لها بإعتاقها فلا حاجة الى اشتراطه (الثاني) لهم أبوا البيع إلا أن يشترط لهم الولاء فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه منها وأما أمرها بذلك فليس هو أمراً على الحقيقة، وإنما هو صيغة الأمر بمعنى التسوية بين الا شتراط وتركه كقول الله تعالى (استغفر لهم) وقوله (اصبروا اولا تصبروا) والتقدير واشترطي لهم الولاء اولا تشترطي ولهذا قال عقيبه " فإنما الولاء لمن أعتق " وحديثهم لااصل له على ما ذكرنا وما ذكروه من المعنى في مقابلة النص لا يقبل (فصل) وإذا حكمنا بصحة البيع فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ذكره القاضي وللمشتري
الرجوع يزيادة الثمن إن كان هو المشترط لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من أجل شرطه فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيباً ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشئ كمن شرط رهناً اوضمينا فامتنع(4/54)
الراهن والضمين ولأن ما ينقصه الشرط من الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشئ مع فساد الشرط وصحة البيع.
وإن حكمنا بفساد العقد لم يحصل به ملك سواء قبضه أو يقبضه على ما نذكره إن شاء الله تعالى {مسألة} (إذا شرط العتق ففي صحته روايتان) إحداهما يصح وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي لأن عائشة اشترت بريرة وشرط عليها أهلها عتقها وولاءها فأنكر النبي صلى الله وسلم شرط الولاء دون العتق (والثانية) الشرط فاسد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط أن لا يبيعه ولانه شرط إزالة ملكه عنه أشبه ما إذا اشترط أن يبيعه وليس في حديث عائشة أنها شرطت لهم العتق إنما اخبرهم أنها تريد ذلك من غير شرط فاشرطوا ولاءها فإن حكمنا بفساده فحمكه حكم سائر الشروط الفاسدة على مابينا وإن حكمنا بصحته فاعتقه المشتري فقد وفى بما شرط عليه وإن لم يعتقه ففيه وجهان (أحدهما) يجبر لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه فيجبر كما لو نذر عتقه (والثاني) لا يجبر لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط بدليل ما لو شرط الرهن والضمين فعلى هذا يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يسلم له ما شرط أشبه ما لو شرط عليه رهناً فلم يف به، وإن تعيب المبيع أو كان أمة فأحبلها أعتقه وأجزأه لأن الرق باق فيه وإن استغله أو أخذ من كسبه شيئاً فهو له وإن مات المبيع رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق فيقال كم قيمته لو بيع مطلقاً وكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فيرجع بقسط ذلك من ثمنه في أحد الوجهين كالارش وفي الآخر يضمن بما نقص من قيمته {مسألة} (وعنه فيمن باع جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن أن البيع جائز) روى المروذي عن أحمد أنه قال هو في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم " لا شرطان
في بيع " يعني أنه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الاول فهما شرطان في بيع نهي عنهما ولأنه ينافي مقتضى العقد لأنه شرط أن لا يبيعه من غيره إذا أعطاه ثمنه فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان وروى عنه اسماعيل بن سعيد البيع جائز لما روي عن ابن مسعود أنه قال ابتعت من امرأتي زينب الثقفية جارية وشرطت لها إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به فذكرت ذلك لعمر فقال لا تقربها ولأحد فيها شرط قال إسماعيل فذكرت لأحمد الحديث قال البيع جائز ولا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة لم يقل عمر في ذلك البيع فاسد فحمل الحديث على ظاهره وأخذه به وقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته والقياس يقتضي فساده قال شيخنا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في رواية المروذي على فساد الشرط وفي رواية اسماعيل بن سعيد على جواز البيع فيكون البيع صحيحاً والشرط فاسداً كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها وقول أحمد لاتقربها قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة أن لا يبيعها ولا يهبها أو شرط عليه ولاءها أولا يقربها والبيع جائز لحديث عمر المذكور.
وقال القاضي(4/55)
وهذا يدل على الكراهة لا على التحريم قال ابن عقيل عندي أنه إنما منع من الوطئ لمكان الخلاف في العقد لكونه يفسد بفساد الشرط في بعض المذاهب {مسألة} (وإن شرط رهناً فاسداً كالخمر ونحوه فهل يبطل البيع على وجهين؟) أصلهما الروايتان في الشروط الفاسدة وقد مضى ذكرهما (فصل) وإذا قال رجل لغريمه: بعني هذا على أن أقضيك دينك منه، ففعل، فالشرط باطل لأنه شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء وهل يفسد البيع؟ ينبني على الشروط الفاسدة في البيع على ما ذكرنا.
وإن قال اقبضني حقي على أن أبيعك كذا وكذا فالشرط باطل والقضاء صحيح لأنه أقبضه حقه وإن قال أقبضني أجود من مالي على أن أبيعك كذا فالقضاء والشرط باطلان وعليه رد ما قبضه ويطالب بماله (فصل) ومتى حكمنا بفساد العقد لم يثبت به ملك سواء اتصل به القبض أو لا ولا ينفذ تصرف المشتري فيه ببيع ولاهبة ولا عتق ولا غيره وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة يثبت الملك فيه إذا
اتصل به القبض وللبائع الرجوع فيه فيأخذه مع زيادته المتصلة إلا أن يتصرف فيه المشتري تصرفاً يمنع الرجوع فيه فيأخذ قيمته محتجاً بحديث بريرة فإن عائشة اشترتها بشرط الولاء فاعتقها فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم العتق والبيع فاسد ولأن المشتري على صفة يملك المبيع ابتداء بعقد وقد حصل عليه الضمان للبدل غير أنه عقد فيه تسليط فوجب أن يملكه كالعقد الصحيح.
ولنا أنه مقبوض بعقد فاسد فلم يملكه كما لو كان الثمن ميتة أو دما فأما حديث بريرة فإنما يدل على صحة العقد لاعلى ما ذكروه وليس في الحديث أن عائشة اشترتها بهذا الشرط بل الظاهر أن أهلها حين بلغهم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرط تركوه ويحتمل أن الشرط كان سابقاً للعقد فلم يؤثر فيه (فصل) وعليه رد المبيع مع نمائه المنفصل وأجرة مثله مدة بقائه في يديه، وإن نقص ضمن نقصه لأنها جملة مضمونة فأجزاؤها تكون مضمونة أيضاً وإن تلف المبيع في يد المشتري فعليه ضمانه بقيمته يوم التلف قاله القاضي ولأن أحمد نص عليه في الغصب ولأنه قبضه بإذن مالكه فأشبه العارية، وذكر الخرقي في الغصب أنه يلزمه قيمته أكثر ما كانت فيخرج ههنا كذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (فصل) فإن كان المبيع أمة فوطئها المشتري فلا حد عليه لاعتقاده أنها ملكه، ولأن في الملك اختلافاً وعليه مهر مثلها لأن الحد إذا سقط للشبهة وجب المهر، ولأن الوطئ في ملك الغير يوجب المهر وعليه أرش البكارة إن كانت بكراً، فان قيل أليس إذا تزوج امرأة تزويجاً فاسداً فوطئها فأزال بكارتها لا يضمن البكارة؟ قلنا لأن النكاح تضمن الإذن في الوطئ المذهب للبكارة لأنه معقود على الوطئ ولا كذلك البيع لانه ليس معقود على الوطئ بدليل أنه يجوز شراء من لا يحل وطؤها.
فإن قيل إذا أوجبتم(4/56)
مهر بكر فكيف توجبون ضمان البكارة وقد دخل ضمانها في المهر؟ وإذا أوجبتم ضمان البكارة فكيف توجبون مهر بكر وقد أدى عوض البكارة بضمانه له فجرى مجرى من أزال بكارتها بأصبعه ثم وطئها؟ قلنا لأن مهر البكر ضمان المنفعة وأرش البكارة ضمان جزء فلذلك اجتمعا، وأما الثاني فإنه إذا وطئها بكراً فقد استوفى نفع هذا الجزء فوجبت قيمة ما استوفى من نفعه وإذا أتلفه وجب ضمان عينه ولايجوز
أن يضمن العين ويسقط ضمان المنفعة كما لو غصب عيناً ذات منفعة فاستوفى منفعتها ثم أتلفها أو غصب ثوباً فلبسه حتى أبلاه وأتلفه فإنه يضمن القيمة والمنفعة كذا ههنا (فصل) وإن ولدت كان ولدها حراً لأنه وطئها بشبهة ويلحق به لذلك ولاولاء عليه لأنه حر الأصل وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه لأنه يوم الحيلولة بينه وبين صاحبه فإن سقط ميتاً لم يضمن لأنه إنما يضمنه حين وضعه ولا قيمة له حينئذ.
فإن قيل فلو ضرب بطنها فألقت جنيناً ميتاً وجب ضمانه قلنا الضارب يجب عليه غرة وههنا يضمنه بقيمته ولا قيمة له ولأن الجاني أتلفه وقطع نماءه وههنا يضمنه بالحيلولة بعينه فإن كان الضارب أجنبياً فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب غرة عبد أو أمة وللسيد أقل الأمرين من دية الجنين أو قيمته يوم سقط لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حياً ولذلك ضمنه للبائع وإنما كان للسيد أقل الأمرين لأن الغرة إن كانت أكثر من القيمة فالباقي منها لورثته لأنه حصل بالحرية فلا يستحق السيد منها شيئاً وإن كانت أقل لم يكن على الضارب أكثر منها لأنه بسبب ذلك ضمن، وإن ضرب الواطئ بطنها فألقت الجنين ميتاً فعليه الغرة أيضاً ولا يرث منها شيئاً، وللسيد أقل الأمرين كما ذكرنا، وان سلم الجارية المبيعة إلى البائع حاملاً فولدت عنده ضمن نقص الولادة وإن تلفت بذلك ضمنها لأن تلفها بسبب منه وإن ملكها الواطئ لم تصر بذلك أم ولد على الصحيح من المذهب لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبهت الزوجة وهكذا كل موضع حبلت في ملك غيره لا تصير له أم ولد بهذا (فصل) إذا باع المشتري المبيع الفاسد لم يصح لأنه باع ملك غيره بغير إذنه، وعلى المشتري رده على البائع الأول لأنه مالكه ولبائعه أخذه حيث وجده، ويرجع المشتري الثاني بالثمن على الذي باعه ويرجع الأول على بائعه فإن تلف في يد الثاني فللبائع مطالبة من شاء منهما لأن الأول ضامن والثاني قبضه من يد ضامنه بغير إذن صاحبه فكان ضامناً.
فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمن الثاني لم يرجع بالفضل على الاول لأن التلف في يده فاستقر الضمان عليه، وإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني (فصل) وإن زاد المبيع في يد المشتري بسمن أو نحوه ثم نقص حتى عاد إلى ما كان عليه أو ولدت الأمة في يد المشتري ثم مات ولدها احتمل أن يضمن تلك الزيادة لأنها زيادة في عين مضمونة أشبهت الزيادة في المغصوب واحتمل أن لا يضمنها لأنه دخل على أن لا يكون في مقابلة الزيادة عوض، فعلى
هذا تكون الزيادة أمانة في يده إن تلفت بتفريطه أو عدوانه ضمنها والافلا، وإن تلفت العين بعد(4/57)
زيادتها أسقطت تلك الزيادة من القيمة وضمنها بما بقي من القيمة حين التلف، قال القاضي وهذا ظاهر كلام أحمد (فصل) وإذا باع بيعاً فاسداً وتقابضا ثم أتلف البائع الثمن ثم أفلس فله الرجوع في المبيع والمشترى أسوة الغرماء وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة المشتري أحق بالمبيع من سائر الغرماء لأنه في يده فكان أحق به كالمرتهن.
ولنا أنه لم يقبضه وثيقة فلم يكن أحق به كما لو كان وديعة عنده بخلاف المرتهن فإنه قبضه على أنه وثيقة بحقه (فصل) وإذا قال بع عبدك من فلان بألف على ان على خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المبيع والثمن على غيره، ولا يشبه هذا ما لو قال " أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي خمسمائة.
لكون هذا عوضاً في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ولذلك لم يجز في النكاح.
أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك فلا يثبت لأن العوض على غيره، وإن كان هذا القول على وجه الضمان صح البيع ولزم الضمان (الثالث أن يشترط شرطاً يعلق البيع كقوله بعتك إن جئتني بكذا أو أن رضي فلان) فلا يصح البيع لأنه علق البيع على شرط مستقبل فلم يصح كما إذا قال: بعتك إذا جاء رأس الشهر {مسألة} (وكذلك إذا قال المرتهن إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك، فلا يصح البيع، إلا بيع العربون وهو أن يشتري شيئاً ويعطي البائع درهماً ويقول ان اخدته وإلا فالدرهم لك.
فقال أحمد يصح لأن عمر فعله وعند أبي الخطاب أنه لا يصح) وممن روي عنه القول بفساد الشرط ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم احداً خالفهم، والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم قال الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله لا يغلق الرهن؟ قال لا يدفع رهن إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك.
قال إبن المنذر هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك والثوري واحمد وإنما فسد البيع لانه معلق بشرط مستقبل فلم
يصح كالمسألة قبلها، وكما لو قال إن ولدت ناقتي فصيلاً فقد بعتكه بدينار (فصل) والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر على أنه ان أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع.
يقال عربون وعربون وعربان وأربان.
قال أحمد ومحمد بن سيرين لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر أنه أجازه وقال ابن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئاً قال أحمد هذا في معناه، وقال أبو الخطاب لا يصح وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس والحسن ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لاجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما(4/58)
لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها ردهم (قال شيخنا) وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي عن نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه قال أي شئ أقول هذا عمر رضي الله عنه؟ وضعف الحديث المروي.
روى هذه القصة الأثرم بإسناده (فصل) فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال لاتبع هذه السلعة لغيري وإن لم اشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشترى لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد بيع العربون.
وان لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لانه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا من انتظاره وتأخر بيعه من أجله لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة {مسألة} (وإن قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث أو مدة معلومة وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح نص عليه) وهذا قول أبي حنيفة والثوري وإسحاق ومحمد بن الحسن، وقال به أبو ثور
إذا كان إلى ثلاث، وحكي مثل قوله عن ابن عمر، وقال مالك يجوز في اليومين والثلاثة ونحوها وإن كان عشرين ليلة فسخ البيع، وقال الشافعي وزفر البيع فاسد لأنه علق فسخ البيع على غرر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد.
ولنا أنه يروى عن عمر ولأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار فجاز كما لو شرط الخيار ولأنه بيع فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف ولأن هذا بمعنى شرط الخيار لانه كما يحتاج إلى التروي في المبيع - هل يوافقه أولا - يحتاج إلى التروي في الثمن هل يصير منقودا أولا فهما شبيهان في المعنى وإن تغايرا في الصورة إلا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ وهذا ينفسخ إذا لم ينقد في المدة المذكورة لأنه جعله كذلك.
{مسألة} (وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ وعنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه) اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم والحكم وحماد لا يبرأ إلا مما سمى، وقال شريح لا يبرأ إلا مما أراه أو وضع يده عليه، وروي عنه أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه يروي ذلك عن عثمان ونحوه عن زيد بن ثابت، وهو قول مالك وقول الشافعي في الحيوان خاصة لما روي أن عبد الله ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيباً فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر تحلف إنك لم تعلم بهذا العيب؟ قال لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم رواه الإمام أحمد، وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعاً ويتخرج(4/59)
أن يبرأ من العيوب كلها بالبراءة وحكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد بناء على جواز البراءة من المجهول، وروى هذا عن ابن عمر، وهو قول أصحاب الرأي وقول الشافعي لما روت ام سلمة أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استهما وتوخيا وليحلل كل واحد منكما صاحبه " وهذا يدل على أن البراءة من المجهول جائزة ولأنه إسقاط حق لا تسليم فيه فصح في المجهول كالطلاق والعتاق ولافرق بين المجهول وغيره فما يثبت في أحدهما يثبت في الآخر وقول عثمان قد خالفه ابن عمر فلا يبقى حجة
(فصل) وإذا قلنا بفساد هذا الشرط لم يفسد به البيع في ظاهر المذهب وهو وجه لأصحاب الشافعي لما ذكرنا من قضية ابن عمر فانهم أجمعوا على صحتها فعلى هذا لايمنع الرد بوجود الشرط.
ويكون وجوده كعدمه وعن أحمد في الشروط الفاسدة روايتان (إحداهما) يفسد بها العقد فيدخل فيها هذا البيع لأن البائع إنما رضي بهذا الثمن عوضاً عن ماله بهذا الشرط فإذا فسد الشرط فات الرضا به فيفسد البيع لعدم التراضي.
(فصل) قال رضي الله عنه (وإن باعه داراً أو ثوباً على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر فالبيع باطل) لأنه لا يمكن اجبار البائع على تسليم الزيادة انما باع عشرة، ولا المشتري على أخذ البعض وإنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة أيضاً، عنه أنه صحيح والزيادة للبائع لأن ذلك نفص على المشتري فلم يمنع صحة البيع كالمعيب، ثم يخير البائع بين تسليم المبيع زائداً وبين تسليم العشرة فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيراً وإن أبى تسليمه زائداً فللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ بجميع الثمن المسمى فإن رضي بالأخذ أخذ بالعشرة والبائع شريك له بالذراع، وهل للبائع خيار الفسخ؟ على وجهين (أولهما) له الفسخ لأن عليه ضرراً في المشاركة (والثاني) لاخيار له لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ ولأن هذا الضرر حصل بتغريره واختياره بخلاف مجبره فلا ينبغي أن يسلط به على فسخ عقد المشتري، فإن بذلها البائع للمشتري بثمن أو طلبها المشتري بثمن لم يلزم الآخر القبول لأنها معاوضة يعتبر فيها التراضي منهما فلا يجبر واحد منهما عليها وإن تراضيا على ذلك جاز، وإن بانت تسعة فالبيع باطل لما ذكرنا وعنه أنه صحيح والمشتري بالخيار بين الفسخ وأخذ المبيع بقسطه من الثمن، وقال أصحاب الشافعي ليس له إمساكه إلا بجميع الثمن أو الفسخ بناء على المبيع المعيب عندهم، ولنا أنه وجد المبيع ناقصاً في القدر فكان له إمساكه بقسطه من الثمن كالصبرة إذا اشتراها على أنها مائة فبانت خمسين وسنبين في المعيب أن له إمساكه وأخذ الأرش، فإن أخذها بقسطها من الثمن فللبائع الخيار بين الرضا بذلك وبين الفسخ لأنه إنما رضي ببيعها بكل الثمن فإذا لم يصل إليه ثبت له الفسخ، فإن بذل له المشتري جميع الثمن لم يملك الفسخ لأنه وصل إليه الثمن الذي رضيه فأشبه مالو اشترى معيباً فرضيه بجميع الثمن وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز لأنها(4/60)
معاوضة فجازت بتراضيهما كغيرها (فصل) وإن اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أحد عشر رد الزائد ولاخيار له ههنا لأنه لاضرر في رد الزيادة وإن بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه متى سمى الكيل في الصبرة لا يكون قبضها إلا بالكيل فإن وجدها قدر حقه أخذها وإن كانت زائدة رد الزيادة وإن نقصت أخذها بقسطها من الثمن وهل له الفسخ وإذا وجدها ناقصة؟ على وجهين (أحدهما) له الخيار وهو مذهب الشافعي لأنه وجد المبيع ناقصاً فكان له الفسخ كغير الصبرة وكنقصان الصفة (والثاني) لاخيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف غيره {باب الخيار في المبيع} (وهو على سبعة أقسام: أحدها خيار المجلس ويثبت في البيع والصلح بمعناه والإجارة ويثبت في الصرف والسلم وعنه لا يثبت فيهما ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين) وجملته أن خيار المجلس يثبت في البيع بمعنى أنه يقع جائزاً ولكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخه ماداما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل العلم يروي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة، وبه قال سعيد بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والاوزاعي وابن أبي ذئب والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال مالك وأصحاب الرأي يلزم العقد بالإيجاب والقبول والخيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع ولنا ماروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا " تبايع الرجلان فلكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " رواه الأئمة ورواه عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو ثور الاسملي ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر وابن جريج والليث
ابن سعد وغيرهم وهو صريح في حكم المسألة وعاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته الحديث مع روايته له وثوبته عنده قال الشافعي لاأدري هل أيهم مالك نفسه أو نافعاً وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر.
وقال ابن أبي ذئب يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث.
فإن قيل المراد بالتفرق هاهنا التفرق بالأقوال كقوله تعالى (وما تفرق الذين أو توا الكتاب الامن بعد ما جاءتهم البينة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " أي بالأقوال والاعتقادات قلنا هذا باطل لوجوه منها أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بقول ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على(4/61)
البيع بعد الاختلاف فيه (الثاني) أن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنه بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه (الثالث) أنه قال في الحديث " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار بعد تبايعهما " وقال " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " (والرابع) أنه يرده تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه كان إذا بايع رجلاً مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبي برزة بقوله مثل قولنا وهما راويا الحديث وأعلم معناه وقول عمر لبيع صفقة أو خيار معناه أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشرط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه لأنه قد روي عن الحوزجاني مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجز أن يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لاحجة في قول احد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قول الصحابي لا يحتج به إذا خالفه غيره من الصحابة وقد خالفه ابنه وأبو برزة وغيرهما، ولا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع الابعد رؤية ونظر غالباً فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت الخيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط ولاخيار الرؤية والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله وضعف ما يذكره المخالف في مقابلته (فصل) ويثبت الخيار في الصلح بمعنى البيع لأنه عقد معاوضة أشبه البيع.
والهبة إذا شرط فيها عوضاً معلوماً ثبت فيها الخيار في إحدى الروايتين بناء على الاختلاف فيها هل تصير بيعاً أو لا ويثبت في الإجارة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع ويثبت في الصرف والسلم وما يشترط فيه القبض في المجلس
كبيع مال الربا بجنسه في الصحيح لما ذكرنا من الخبر والمعنى.
وعنه لا يثبت فيها قياساً على خيار الشرط فإنه لا يثبت فيها رواية واحدة لأن موضوعها على أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق بدليل اشتراط القبض، وثبوت الخيار يبقى بينهما علقة ولا يثبت في سائر العقود وهي.
على اضرب (أحدها) لازم لا يقصد به العوض كالنكاح والخلع فلا يثبت فيهما خيار لأن الخيار إنما يثبت لمعرفة الحظ في كون العوض جابراً لما يذهب من ماله والعوض هاهنا ليس هو المقصود وكذلك الوقف والهبة بغير عوض ولأن في ثبوت الخيار في النكاح ضرراً ذكرناه (الضرب الثاني) لازم من أحد طرفيه كالرهن لازم في حق الراهن وجده فلا يثبت فيه خيار لأن المرتهن يستغني بالجواز في حقه عن ثبوت الخيار والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض وكذلك الضامن والكفيل لاخيار لهما لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغبن، وكذلك المكاتب (الضرب الثالث) عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية فلا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها والتمكن من فسخها بأصل وضعها (الضرب الرابع) ما هو متردد بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة، وظاهر المذهب أنهما جائزان فلا يدخلهما خيار، وقيل هما إجارة فلهما حكمها، والسبق والرمي الظاهر أنهما جعالة فلا(4/62)
يثبت فيهما خيار وقيل هما إجارة وقد ذكرناه، فأما الحوالة والأخذ بالشفعة فهو عقد لازم يستقل به أحد المتعاقدين فلا خيار فيهما لأن من لا يعتبر رضاه الخيار له، إذا لم يثبت في أحد طرفيه لا يثبت في الآخر كسائر العقود، ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنه يقصد فيهما العوض فأشبها سائر عقود المعاوضات {مسألة} (ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما لما ذكرناه) ولا خلاف في لزوم العقد بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه مثل أن يجد في السلعة عيباً فيردها به أو يكون قد شرط الخيار مدة معلومة فيملك الرد فيها بغير خلاف علمناه بين أهل العلم، وفي معنى العيب أن يدلس المبيع بما يختلف به الثمن أو يشرط في المبيع صفة يختلف بها الثمن فيبين بخلافه أو يخبره في المرابحة
بثمن حال وهو مؤجل ونحو ذلك وقد دل على لزوم البيع بالتفرق قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعاداتهم لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز، فإن كانا في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستدبراً لصاحبه خطوات وقيل هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة.
قال أبو الحارث سئل أحمد عن تفرقه الأبدان فقال إذا أخذ هذا هكذا وأخذ هذا هكذا فقد تفرقا.
وروى مسلم عن نافع قال فكان ابن عمر إذا باع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع، وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة أن يفارقه من بيت إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من مجلس إلى بيت ونحو ذلك، فإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه، وإن كانا في سفينة صغيرة خرج أحدهما منها ومشى، وإن كانت كبيرة صعد أحدهما إلى أعلاها ونزل الآخر في أسفلها وهذا كله مذهب الشافعي، فإن كان المشتري هو البائع مثل أن اشترى لنفسه من مال ولده أو اشترى لولده من نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس لأنه يتولى طرفي العقد فلم يثبت له خيار كالشفيع ويحتمل أن يثبت فيه كغيره فعلى هذا يعتبر لزومه مفارقة مجلس العقد لأن الافتراق لا يمكن هاهنا لكون البائع هو المشتري، ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماء أو جهلاه لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق وقد وجد، ولو هرب أحدهما من الآخر لزم العقد لأنه فارقه ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع، ولو أقاما في المجلس وسدلا بينهما ستراً أو بنيا بينهما حاجزاً أو ناما وقاما فمضيا جميعاً ولم يتفرقا فالخيار بحاله وإن طالت المدة لعدم التفرق، وقد روى أبو داود والاثرم بإسنادهما عن أبي الوضئ قال غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرساً بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحنا من الغد وحضر الرحيل قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفعه اليه فقال بيني وبينك(4/63)
أبوبرزة صاحب رسول الله صلى الله وعليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالوا له هذه القصة
فقال أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وما أراكما افترقتما.
فإن فارق أحدهما الآخر مكرهاً احتمل بطلان الخيار لوجود التفرق ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه، وقال القاضي لا ينقطع الخيار لأنه حكم علق على التفرق فلم يثبت مع الإكراه كما لو علق عليه الطلاق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه يبقى الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه الإكراه فيه حتى يفارقه، وإن أكرها جميعاً انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما يقطع خياره بتفرقة الآخر له فأشبه مالو أكره صاحبه دونه، وذكر ابن عقيل من صور الإكراه مالو رأيا سبعاً أو ظالما خشياه فهربا فزعا منه أو حملهما سبيل أو فرقت بينهما ريح.
فان خرس أحدهما قامت اشارته مقام نطقه فإن لم تفهم إشارته أو جن أو أغمي عليه قام أبوه أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي (فصل) ولو ألحقا في العقد خياراً بعد لزومه لم يلحق وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابنا يلحقه لأن لهما فسخ العقد فكان لهما إلحاق الخيار به كالمجلس.
ولنا أنه عقد لازم فلم يصر جائزاً بقولهما كالنكاح وفارق المجلس فإنه جائز فجاز إبقاؤه على جوازه (فصل) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " رواه الترمذي وقال حديث حسن وقوله " إلا أن يكون صفقة خيار " يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفرقهما لكونه ثابتاً بعده بالشرط، ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرط فيه أن لا يكون فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق.
وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمر وهذا الحديث فقال هذا الان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اختيار أبي بكر، وقال القاضي ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر فعله والأول أصح لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل ابن عمر، والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه
{مسألة} (إلا أن يتبايعا على أن لاخيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده فيسقط في إحدى الروايتين، وإن اسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه أن الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل بالتخاير ولا بالإسقاط قبل العقد ولابعده وهو ظاهر كلام الخرقي لأن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " من غير تقييد ولا تخصيص في رواية حكيم بن حزام وأبي برزة(4/64)
وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمرو.
والتقييد إنما هو في حديث ابن عمر، ومتى انفرد بعض الرواة بزيادة قدم قول الأكثرين وذوي الضبط (والرواية الثانية) أن الخيار يبطل بالتخاير اختارها ابن أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع " يعني لزم، وفي لفظ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع " متفق عليه.
والأخذ بالزيادة أولى وهي صريحة في الحكم، والتخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد فالتخاير في ابتدائه أن يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك فلا يكون لهما خيارا، والتخاير بعده أن يقول كل واحد منهما بعد العقد اخترت إمضاء العقد والزامه أو اخترت العقد أو أسقطت خياري فيلزم العقد من الطرفين، وإن اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو كان خيار الشرط فاسقطه أحدهما، وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء العقد قولان أظهرهما لا يقطع الخيار لأنه إسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار الشفعة، فعلى هذا هل يبطل به العقد؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة.
ولنا ما ذكرنا من حديثي ابن عمر وذلك صريح في الحكم فلانعول على ما خالفه ولأن ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارناً للعقد كاشتراط الخيار ولأنه أحد الخيارين في البيع فجاز إخلاؤه عنه كخيار الشرط، وقولهم أنه إسقاط للخيار قبل سببه ممنوع فإن سبب الخيار البيع المطلق، فأما البيع مع التخاير فليس سبباً له ثم لو ثبت أنه سبب للخيار لكن المانع مقارن له فلم يثبت حكمه، والشفعة لنا فيها منع وإن سلم فالفرق بينهما أن الشفيع أجنبي من العقد فلم يصح اشتراط إسقاط
خياره في العقد بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن قال أحدهما لصاحبه اختر ولم يقل الآخر شيئاً فالساكت على خياره لأنه لم يوجد منه ما يبطله وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " رواه البخاري ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر كما لو جعل لزوجته الخيار فلم تختر شيئاً ويحمل الحديث على أنه خيره فاختار، والأول أولى لظاهر الحديث ولأنه جعل الخيار لغيره ويفارق الزوجة لأنه ملكها مالا تملك فإذا لم تقبل سقط وههنا كل واحد منهما يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكاً إنما كان إسقاطاً فسقط (فصل) قال رضي الله عنه (الثاني خيار الشرط وهو أن يشترط في العقد خيار مدة معلومة فيثبت فيها وإن طالت) هذا قول أبي يوسف ومحمد وابن المنذر وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي ليلى واسحاق وأبي ثور وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة مثل قرية لا يصل إليها في(4/65)
أقل من أربعة أيام لأن الخيار لحاجته فيقدر بها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز أكثر من ثلاث لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام أن رضي أخذ وإن سخط ترك.
ولأن الخيار ينافي مقتضى البيع لأنه يمنع الملك واللزوم وإطلاق التصرف، وإنما جاز للحاجة فجاز القليل منه وآخر حد القلة ثلاث قال الله تعالى (فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام - بعد قوله - فيأخذكم عذاب قريب) ولنا أنه حق يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ولم يثبت ما روي عن عمر رضي الله عنه وقد روي عن أنس خلافه، وتقدير مالك بالحاجة لا يصح فإنها لا يمكن ضبط الحكم بها لخفائها واختلافها وإنما يرتبط بمظنتها وهو الاقدام فإنه صالح أن يكون ضابطاً وربط الحكم به في الثلاث وفي السلم والأجل، وقول الآخرين: أنه ينافي مقتضى البيع لا يصح لأن مقتضى البيع نقل الملك والخيار لا ينافيه وإن سلمنا ذلك لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل وجب تعدية الحكم لتعدي ذلك المعنى
{مسألة} (ولايجوز مجهولاً في ظاهر المذهب، وعنه يجوز وهما على خيارهما ما لم يقطعاه أو تنتهي مدته) إذا شرط الخيار أبداً أو متى شاء، أو قال أحدهما ولي الخيار ولم يذكر مدته أو شرطاه إلى مدة مجهولة كقدوم زيد أو نزول المطر أو مشاورة إنسان ونحو ذلك لم يصح في الصحيح من المذهب هذا اختيار القاضي وابن عقيل ومذهب الشافعي وعن أحمد أنه يصح وهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه أو تنتهي مدته إن كان مشروطاً إلى مدة وهو قول ابن شبرمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم المسلمون على شروطهم وقال مالك يصح ويضرب لهما مدة يختبر المبيع في مثلها في العادة لأن ذلك مقرر في العادة فإذا أطلقا حمل عليه، وقال أبو حنيفة إن اسقطا الشرط قبل مضي الثلاث أو حذفا الزائد عليها وبينا مدته صح لانهما حذفا المفسد قبل اتصاله بالعقد فوجب أن يصح كما لو لم يشترطاه ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل، ولأن اشتراط الخيار أبداً يقتضي المنع من التصرف على الأبد وذلك ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو قال بعتك بشرط أن لا تتصرف، وقول مالك أنه يرد إلى العادة لا يصح فإنه لاعادة في الخيار يرجع إليها واشتراطه مع الجهالة نادر، وقول أبي حنيفة لا يصح فإن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد لا يخلو من أن يكون صحيحا أو فاسداً فإن كان صحيحاً مع الشرط لم يفسد بوجود ما شرطناه وإن كان فاسداً لم ينقلب صحيحاً كبيع درهم بدرهمين إذا حذف أحدهما، وإذا قلنا يفسد الشرط هل يفسد به البيع؟ على روايتين (إحداهما) يفسد وهو مذهب الشافعي لأنه عقد قارنه شرط فاسد كنكاح الشغار، ولأن البائع إنما رضي ببذله بهذا الثمن مع الخيار في استرجاعه والمشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن فيه مع الخيار في فسخه فلو صححناه لأزلنا ملك كل واحد منهما عنه بغير رضاه وألزمناه ما لم يرض به ولأن الشرط يأخذ قسطاً من الثمن فإذا حذفناه وجب رد ما سقط من الثمن من أجله وذلك مجهول فيكون الثمن مجهولاً فيفسد به(4/66)
العقد (والثانية) لا يفسد به العقد وهو قول ابن أبي ليلى لحديث بريرة ولأن العقد قد تم بأركانه والشرط زائد فإذا فسد وزال سقط الفاسد وبقي العقد بركنيه كما لو لم يشترط (فصل) وإن شرطه إلى الحصاد أو الجذاذ احتمل أن يكون كتعليقه على قدوم زيد لأنه يختلف
ويتقدم ويتأخر فكان مجهولاً، ويحتمل أن يصح لأن ذلك يتفاوت في العادة ولا يكثر تفاوته، وإن شرطه إلى العطاء وأراد وقت العطاء وكان معلوماً صح، وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول (فصل) وإن شرطا الخيار شهراً يوماً يثبت ويوماً لا، فقال ابن عقيل يصح في اليوم الأول لامكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز، ويحتمل أن يبطل الشرط كله لأنه شرط واحد تناول الخيار في أيام فإذا فسد بعضه فسد جميعه كما لو شرطه إلى الحصاد {مسألة} (ولا يثبت إلا في البيع والصلح بمعناه والإجارة في الذمة أو على مدة لاتلي العقد) لا نعلم خلافاً في ثبوت خيار الشرط في البيع الذي لا يشترط فيه القبض في المجلس وكذلك الصلح بمعنى البيع لأنه بيع بلفظ الصلح والهبة بعوض على إحدى الروايتين والإجارة في الذمة نحو أن يقول استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه لأن الإجارة بيع المنافع فأشبهت بيع الأعيان، فأما الإجارة المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون خيار الشرط لأن دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها أو استبقائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز وهذا مذهب الشافعي، وذكر القاضي مرة مثل هذا ومرة قال يثبت فيها خيار الشرط قياساً على البيع، وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق بينهما، فإن كانت المدة لاتلي العقد يثبت فيها خيار الشرط إذا كانت مدة الخيار لا تشتمل على شئ من مدة العقد فإن كانت بعض مدة العقد تدخل في مدة الخيار لم يجز لما ذكرنا {مسألة} (وإن شرطاه إلى الغد لم يدخل في المدة) وهذا مذهب الشافعي، وعنه يدخل وهو مذهب أبي حنيفة لان إلى تستعمل بمعنى مع كقوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق * ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) والخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك ولنا أن موضوع (إلى) لانتهاء الغاية فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وكالأجل وليس ههنا شك فإن الأصل حمل اللفظ على موضوعه فكأن الواضع قال متى سمعتم هذه اللفظة فافهموا منها انتهاء الغاية.
وفيما استشهدوا به حملت إلى على معنى مع بدليل، أو لتعذر حملها على موضوعها ولأن الأصل لزوم العقد وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت ما تيقن منه وما شككنا فيه رددناه إلى الأصل.
(فصل) وإن شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو إلى غروبها صح، وقال بعض أهل العلم لا يصح توقيته بطلوعها لأنها قد تتغيم فلا يعلم وقت طلوعها، ولنا أنه تعليق للخيار بأمر ظاهر معلوم فصح كتعليقه بغروبها، وطلوع الشمس بروزها من الأفق كما أن غروبها سقوط القرص، ولذلك لو علق طلاق(4/67)
امرأته أو عتق عبده بطلوع الشمس وقع ببروزها من الأفق، وإن عرض غيم يمنع المعرفة بطلوعها فالخيار ثابت حتى يتيقن طلوعها كما لو علقه بغروبها فمنع الغيم المعرفة بوقته، ولو جعل الخيار إلى طلوع الشمس من تحت السحاب أو إلى غيبتها تحته كان خياراً مجهولاً {مسألة} (وإن شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد ويحتمل أن يكون من حين التفرق) إذا شرط الخيار مدة معلومة اعتبرنا مدة الخيار من حين العقد في أظهر الوجهين والآخر من حين التفرق لأن الخيار ثابت في المجلس حقاً فلا حاجة الى إثباته بالشرط ولأن حالة المجلس كحالة العقد لأن لهما فيه الزيادة والنقصان فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار بعد انقضائه والأول أصح لأنها مدة ملحقة بالعقد فأشبهت الأجل، ولأن الاشتراط سبب ثبوت الخيار فيجب أن يتعقبه حكمه كالملك في البيع ولأنا لو جعلنا ابتداءها من حين التفرق أدى إلى جهالته لأنا لا نعلم متى يتفرقان فلا نعلم متى ابتداؤه ولا وقت انتهائه، ولا يمنع ثبوت الحكم بسببين كتحريم الوطئ بالصيام والإحرام، فعلى هذا لو شرط ابتداءه من حين التفرق لم يصح إلا على قولنا بصحة الخيار المجهول، وإن قلنا ابتداؤه من حين التفرق فشرط ثبوته من حين العقد صح لأنه معلوم الابتداء والانتهاء، ويحتمل أن لا يصح لأن خيار المجلس يغني عن خيار آخر فيمنع ثبوته والأول أولى ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا {مسألة} (وإن شرط الخيار لغيره جاز وكان توكيلاً له فيه) إذا شرط الخيار لأجنبي صح وكان اشتراطاً لنفسه وتوكيلاً لغيره فيه وهذا قول أبي حنيفة ومالك وللشافعي قولان (أحدهما) لا يصح وهو قول القاضي إذا أطلق الخيار لفلان أو قال لفلان دوني لأن الخيار شرع لتحصيل الحظ لكل واحد من المتعاقدين بنظره فلا يكون لمن لاحظ له، وإن جعل الأجنبي وكيلاً صح ولنا أن الخيار يعتمد شرطهما ويفوض إليهما وقد أمكن تصحيح شرطهما وتنفيذ تصرفهما على الوجه
الذي ذكرناه فلا يجوز إلغاؤه مع إمكان تصحيحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون على شروطهم " فعلى هذا يكون لكل واحد من المشترط ووكيله الذي شرط له الخيار الفسخ، ولو كان المبيع عبداً فشرط الخيار له صح سواء شرطه له البائع أو المشتري لأنه بمنزلة الأجنبي، وإن كان العاقد وكيلاً فشرط الخيار لنفسه صح فإن النظر في تحصيل الحظ مفوض إليه، وإن شرطه للمالك صح لأنه المالك والحظ له، وإن شرطه لأجنبي انبنى على الروايتين في صحة توكيل الوكيل (فصل) ولو قال بعتك على أن أستأمر فلاناً أو حد ذلك بوقت معلوم فهو خيار صحيح وله الفسخ قبل أن يستأمره لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وإن لم يظبطه بمدة معلومة فهو خيار مجهول فيه من الخلاف ما ذكرناه(4/68)
{مسألة} (وإن شرطا الخيار لأحدهما دون صاحبه صح) يجوز شرط الخيار لأحد المتعاقدين دون الآخر ويجوز أن يشرطا لأحدهما مدة وللآخر دونها لأن ذلك حقهما وإنما جوز رفقاً بهما فكيفما تراضيا به جاز، ولو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما بعينه دون الآخر صح لأن أكثر ما فيه أنه جمع بين مبيع فيه الخيار وبين مبيع لاخيار فيه وذلك جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه فإنه يصح ويكون كل واحد منهما مبيعاً بقسطه من الثمن فإن فسخ البيع فيما فيه الخيار رجع بقسطه من الثمن كما لو وجد أحدهما معيباً فرده، وإن شرط الخيار في أحدهما لا بعينه أو شرط الخيار لأحد المتعاقدين لا بعينه لم يصح لأنه مجهول فأشبه مالو اشترى واحداً من عبدين لا بعينه، ولأنه يفضي إلى التنازع فربما طلب كل واحد من المتعاقدين ضد ما يطلبه الآخر ويدعي أنني المستحق للخيار أو يطلب من له الخيار رد أحد المبيعين ويقول ليس هذا الذي شرطت لك الخيار فيه، ويحتمل أن لا يصح شرط الخيار في أحد المبيعين بعينه كما لا يصح بيعه بقسطه من الثمن وهذا كله مذهب الشافعي {مسألة} (ولمن له الخيار الفسخ بغير حضور صاحبه ولارضاه) وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وزفر، وقال أبو حنيفة ليس له الفسخ إلا بحضور صاحبه
كالوديعة.
ولنا أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق، وما ذكره ينتقض بالطلاق، والوديعة لاحق للمودع فيها ويصح فسخها مع غيبته {مسألة} (فإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما) إذا انقضت مدة الخيار ولم يفسخ أحدهما بطل الخيار ولزم العقد، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقال القاضي لا يلزم بمضي المدة وهو قول مالك لان مدة الخيار ضربت لحق له لا لحق عليه فلم يلزم الحكم بنفس مرور الزمان كمضي الأجل في حق المولي.
ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل، ولأن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة التي شرطاه فيها والشرط يثبت الخيار فلا يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله ولأنه حكم مؤقت ففات بفوات وقته كسائر المؤقتات.
ولأن البيع يقتضي اللزوم وإنما يختلف موجبه بالشرط ففيما لم يتناوله الشرط يجب أن يثبت موجبه لزوال المعارض كما لو أمضياه.
وأما المولي فإن المدة إنما ضربت لاستحقاق المطالبة وهي تستحق بمضي المدة والحكم في هذه المسألة ظاهر (فصل) فإن قال أحد المتعاقدين عند العقد (لاخلابة) فقال أحمد: أرى ذلك جائزاً وله الخياران كان خلبه وإن لم يكن خلبه فليس له خيار وذلك لأن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيع فقال " إذا بايعت فقل لاخلابة " متفق عليه ولمسلم " من بايعت فقل لاخلابة " فكان إذا بايع يقول لاخلابة قال شيخنا ويحتمل أن لا يكون له خيار ويكون هذا الخبر خاصاً بحبان لأنه روي أنه عاش إلى زمن عثمان فكان(4/69)
يبايع الناس ثم يخاصمهم فيمر بهم بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه ويحك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثاً وهذا يدل على اختصاصه بهذا لأنه لو كان للناس عامة لقال لمن يخاصمه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار لمن قال لاخلابة، وقال بعض الشافعية إن كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار الثلاث ثبت وإن علم أحدهما دون الآخر فعلى وجهين لأنه روي أن حبان بن منقذ بن عمرو كان لا يزال يغبن فأتى الني صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال " إذا أنت بايعت فقل لاخلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت أمسكت وإن سخطت فارددها على صاحبها " وما ثبت في حق واحد
من الصحابة ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل، ولنا أن هذا اللفظ لا يقتضي الخيار مطلقاً ولا يقتضي تقييده بثلاث والأصل اعتبار اللفظ فيما يقتضيه، والخبر الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجه مرسلاً وهم لا يرون المرسل حجة ثم لم يقولوا بالحديث على وجهه إنما قالوا إنه في حق من يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثاً ولا يعلم ذلك أحد لأن اللفظ لا يقتضيه فكيف يعلم أن مقتضاه مالا يقتضيه ولا يدل عليه، وعلى أنه إنما كان خاصاً لحبان بدليل ما رويناه ولأنه كان يثبت له الرد على من لم يعلم مقتضاه.
(فصل) إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار فيه لأنه من الحيل ولا يحل لآخذ الثمن الإنتفاع به في مدة الخيار ولا التصرف فيه قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يشتري من الرجل الشئ ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار قال هو جائز إذا لم يكن حيلة أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس.
قيل لأبي عبد الله فإن أراد إرفاقه أراد أن يقرضه مالاً، يخاف أن يذهب فاشترى منه شيئاً وجعل له الخيار لم يرد الحيلة، فقال أبو عبد الله هذا جائز إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته.
وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع إلا بإتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة {مسألة} (وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين) ينتقل الملك في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق بين كون الخيار لهما أو لأحدهما أيهما كان وهو أحد أقوال الشافعي وعن أحمد إن الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي وبه قال أبو حنيفة إذا كان الخيار لهما أو للبائع وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض، وللشافعي قول ثالث أن الملك موقوف فإن أمضيا البيع تبينا أن الملك للمشتري وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع " وقوله " من(4/70)
باع نخلاً بعد أن يؤبر فثمره للبائع إلا أن يشترط المبتاع " متفق عليه " فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه وهو عام في كل بيع، ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كالذي لا خيار فيه، ولأن البيع تمليك، بدليل أنه يصح بقوله ملكتك فيثبت به الملك كسائر البيع لأن التمليك يدل على نقل الملك إلى المشتري ويقتضيه لفظه وقد اعتبره الشرع وقضى بصحته فوجب اعتباره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه وثبوت الخيار فيه لا ينافيه كما لو باع عرضاً بعوض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيباً، وقولهم إنه قاصر غير صحيح وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك فيه كبيع المعيب، وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون، وقولهم أنه يخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري لا يصح لأنه يفضي إلى وجود ملك بغير مالك وهو محال ويفضي أيضاً إلى ثبوت الملك للبائع في الثمن من غير حصول عوضه للمشتري، أو إلى نقل ملكه عن المبيع من غير ثبوته في عوضه وكون العقد معاوضة يأبى ذلك، وقول أصحاب الشافعي إن الملك موقوف إن أمضيا البيع تبينا أنه انتقل وإلا فلا غير صحيح فإن انتقال الملك إنما ينبني على سببه الناقل وهو البيع وذلك لا يختلف بامضائه وفسخه، فإن امضاءه ليس من المقتضي ولا شرطاً فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت الملك قبله والفسخ ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه، ولأن البيع مع الخيار سبب يثبت الملك عقيبة فيما إذا لم يفسخ فوجب أن يثبته وإن فسخ كبيع المعيب وهو ظاهر إن شاء الله تعالى {مسألة} (فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه) ما يحصل من غلات المبيع ونمائه في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، قال أحمد فيمن اشترى عبداً ووهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد فالمال للمشتري، وقال الشافعي إن أمضيا العقد وقلنا الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له، وإن قلنا الملك للبائع فالنماء له وإن فسخا العقد وقلنا الملك للبائع أو موقوف فالنماء له وإلا فهو للمشتري ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " قال الترمذي هذا حديث صحيح وهذا من ضمان
المشتري فيجب ان يكون خراجه له، ولأن الملك ينتقل بالبيع على ما بينا فيجب ان يكون نماؤه للمشتري كما بعد انقضاء الخيار ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على قولنا إن الملك لا ينتقل، وأما النماء المتصل فهو تابع للمبيع بكل حال كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة (فصل) وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه أو لم يكن مكيلاً ولا موزوناً فإن تلف أو نقص أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار ومؤنته عليه، وإن كان عبداً فهل هلال شوال ففطرته عليه لذلك، وإن اشترى حاملاً فولدت عنده في مدة الخيار ثم ردها على البائع لزمه رد ولدها لانه مبيع حدث فيه زيادة منفصلة فلزم رده(4/71)
بزيادته كما لو اشترى عبدين فسمن أحدهما عنده، وقال الشافعي في أحد قوليه لايرد الولد لأن الحمل لاحكم له لأنه جزء متصل بالأم فلم يأخذ قسطاً من الثمن كأطرافها.
ولنا أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلاً يقسط عليه إذا كان متصلاً كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع، والحكم في الأصل ممنوع ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلاً ويصح إفراده منفصلاً والوصية به وله، ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية ويرثها ورثته وقولهم لا حكم للحمل لا يصح لهذه الأحكام وغيرها مما قد ذكرناه {مسألة} (وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع) إنما لم يجز لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا انقطعت عنه غلته فيتصرف فيه المشتري فأما تصرفه بما يحصل به تجربة المبيع كركوب الدابة لينظر سيرها، والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها، وتحلب الشاة ليعلم قدر لبنها ونحو ذلك فيجوز لأن ذلك هو المقصود بالخيار وهو اختبار المبيع {مسألة} (فإن تصرفا فيه ببيع أو هبة أو نحوهما لم ينفذ تصرفهما) إذا تصرف أحد المتبايعين في مدة الخيار في المبيع تصرفاً ينقل الملك كالبيع والهبة والوقف أو يستغله كالإجارة والتزويج والرهن والكتابة ونحوهما لم يصح تصرفه إلا العتق على ما نذكره سواء وجد تصرف
من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع من الخيار واسترجاع المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل خياره لأنه لاحق لغيره فيه وثبوت الخيار له لا يمنع تصرفه فيه كالمعيب، قال أحمد إذا اشترط الخيار فباعه قبل ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه وهذا فيما إذا اشترط الخيار له وحده، وكذلك إذا قلنا إن البيع لا ينقل الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده فتصرف فيه البائع نفذ تصرفه وصح لأنه ملكه وله إبطال خيار غيره، وقال ابن أبي موسى في تصرف المشتري في المبيع قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان (إحداهما) لا يصح لأن في صحته اسقاط حق البائع من الخيار (والثانية) هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح، وإن اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري قال أحمد في رواية أبي طالب إذا اشترى ثوباً بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه إن طلبه فإن لم يقدر على رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه.
فقوله يرده إن طلبه يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه، وقد روى البخاري عن ابن عمر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فكان على بكر صعب لعمر فكان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أبوه لا يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " بعنيه " فقال عمر فهو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله ابن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا يدل على التصرف قبل التفرق، والأول أصح وحديث ابن عمر ليس فيه(4/72)
تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحمل على أنه أراد هبته وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمناً والهبة لا يثبت فيها الخيار، وقال الشافعي تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه إما أن يكون على ملكه فيملك العقد عليه، إما أن يكون للمشتري والبائع يملك فسخه، فجعل البيع والهبة فسخاً وأما تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا الملك لغيره وإن قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان ولنا على إبطال تصرف البائع أنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية شرعية ولا نيابة عرفية فلم يصح كما بعد الخيار، وقولهم يملك الفسخ قلنا إلا أن ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم يصح كتصرف الأب فيما وهبه لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص المشفوع قبل أخذه
(فصل) فإن تصرف المشتري بإذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صح التصرف وانقطع خيارهما لأنه يدل على تراضيهما بإمضاء البيع فينقطع به خيارهما كما لو تخايرا، وانما صح تصرفهما لأن قطع الخيار حصل بالإذن في البيع فيقع بعد البيع انقطاع الخيار ويحتمل أن لا يصح تصرف البائع بإذن المشتري لأن البائع لا يحتاج إلى إذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير إذن المشتري وقد ذكرنا أنه لا يصح كذا ههنا، وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن ينفسخ به البيع فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفاً سواه صح لأن الملك عاد إليه بفسخ البيع فصح تصرفه فيه كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف فيه إلا إذا قلنا أن تصرفه لا ينفسخ به البيع وكذلك إن تقدم تصرفه بما ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا {مسألة} (ويكون تصرف البائع فسخا لبيع وتصرف المشتري إسقاطاً لخياره في أحد الوجهين وفي الآخر البيع والخيار بحالهما، وان استخدام المبيع لم يبطل خياره في أصح الوجهين وكذلك إن قبلته الجارية ويحتمل أن يبطل إذا لم يمنعها) إذا تصرف البائع في المبيع بما يفتقر إلى الملك كان فسخاً للبيع وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن تصرفه يدل على رغبته في المبيع فكان فسخاً للبيع كصريح القول لأن الصريح إنما كان فسخاً للبيع لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات الطلاق، وعن أحمد رواية أخرى لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فيه استرجاعاً له كمن وجد متاعه عند مفلس فتصرف فيه، وإن تصرف المشتري في المبيع في مدة الخيار بما ذكرنا ونحوه مما يختص الملك كاعتاق العبد وكتابته ووطئ الجارية ومباشرتها ولمسها بشهوة ووقف المبيع وركوب الدابة لحاجته أو سكنى الدار ورمها وحصاد الزرع فما وجد من هذا فهو رضا بالمبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح بالرضى وبدلالته ولذلك بطل خيار المعتقة بتمكينها من نفسها وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن وطئك فلا خيار لك " وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، فأما ما يستعلم به المبيع كركوب الدابة ليختبر فراهتها والطحن على الرحى ليعلم قدره ونحو ذلك فلا يدل على الرضا ولا يبطل به الخيار لانه(4/73)
المقصود بالخيار وفيه وجه آخر أن تصرف المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل إلا بالتصريح كما لو ركب الدابة ليختبرها، والأول أصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضى به فيبطل به الخيار كصريح القول، ولأن صريح القول إنما يبطل به الخيار لدلالته على الرضى فما دل على الرضى بالمبيع يقوم مقام القول ككنايات الطلاق، وإن عرضه على البيع أو باعه بيعاً فاسداً، أو عرضه على الرهن، أو وهبه فلم يقبل الموهوب له بطل خياره على الوجه الأول لأن ذلك يدل على الرضى به، قال أحمد إذا شرط الخيار فباعه قبل ذلك يربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه (فصل) وإن استخدم المشتري المبيع ففيه روايتان (إحداهما) لا يبطل خياره، قال أبو الصقر قلت لأحمد رجل اشترى جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت رأسه أو غمزت رجله أو طبخت له أو خبزت هل يستوجبها بذلك؟ قال لا حتى يبلغ منها مالا يحل لغيره قلت فإن مشطها أو خظبها أو حفها هل استوجبها بذلك؟ قال قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها.
وذلك لأن الاستخدام لا يختص الملك ويراد به تجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة ليعلم سيرها.
ونقل حرب عن أحمد أنه يبطل خياره لأنه انتفاع بالمبيع أشبه لمسها بشهوة.
ويمكن أن يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع لا يبطل الخيار كركوب الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل الخيار كركوب الدابة لحاجته، وإن قبلت الجارية المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي، ويحتمل أن يبطل ذكره أبو الخطاب إذا لم يمنعها لأن إقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه بها، وقال أبو حنيفة إن قبلته بشهوة بطل خياره لأنه استمتاع يختص الملك فأبطل خياره كما لو قبلها ولنا أنها قبلة لأحد المتعاقدين فلم يبطل خياره كما لو قبلت البائع ولأن الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه بغير رضاه ولا دلالة عليه بخلاف ما إذا قبلها فإنه يدل على الرضى بها، ومتى بطل خيار المشتري بتصرفه فخيار البائع باق بحاله لأن خياره لا يبطل برضى غيره إلا أن يكون تصرف بإذن البائع وقد ذكرناه {مسألة} (وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه وبطل خيارهما، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة) إذا تصرف أحد المتعاقدين بعتق المبيع في مدة الخيار نفذ عتق من حكمنا بالملك له، وظاهر
المذهب أن الملك للمشتري فنفذ عتقه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لأنه عتق من مالك جائز التصرف فنفذ كما بعد المدة وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا عتق فيما لا يملك ابن آدم " يدل بمفهومه على أنه ينفذ في الملك وملك البائع الفسخ لا يمنع نفوذ العتق من المشتري كما لو باع عبداً بجارية معيبة فإن عتق المشتري ينفذ مع أن للبائع الفسخ.
ولو وهب رجل ابنه عبداً فاعتقه نفذ عتقه مع ملك الأب استرجاعه ولا ينفذ عتق البائع في ظاهر المذهب، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي ينفذ عتقه لأنه ملكه، وإن كان الملك انتقل فإنه يسترجعه بالعتق، ولنا أنه إعتاق من غير مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه(4/74)
الذي وهبه إياه، وقد دللنا على أن الملك انتقل إلى المشتري، وإن قلنا بالرواية الأخرى وإن الملك لم ينتقل إلى المشتري نفذ عتق البائع دون المشتري، وإن أعتق البائع والمشتري جميعاً فإن تقدم عتق المشتري فالحكم على ما ذكرناه، وإن تقدم عتق البائع فينبغي أن لا ينفذ عتق واحد منهما لأن البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير مملوكة، ولكن حصل بإعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ عتق المشتري، ومتى أعاد البائع الاعتاق مرة ثانية نفذ إعتاقه لأنه عاد العبد إليه أشبه مالو استرجعه بصريح قوله إلا على الرواية التي تقول إن تصرف البائع لا يكون فسخاً للبيع فينبغي أن ينفذ إعتاق المشتري.
ولو اشترى من يعتق عليه جرى مجرى إعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه، وإن باع عبداً بجارية بشرط الخيار فاعتقها نفذ عتق الأمة دون العبد، وإن أعتق أحدهما ثم أعتق الآخر نظرت فإن أعتق الأمة أولاً نفذ عتقها وبطل خياره ولم ينفذ عتق العبد، وإن أعتق العبد أولاً انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم ينفذ اعتاقه ولا ينفذ عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه وعادت إلى سيدها الذي باعها.
(فصل) وإذا قال لعبده إذا بعتك فأنت حر ثم باعه صار حراً نص عليه أحمد، وبه قال الحسن وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وسواء شرطا الخيار أو لم يشرطاه، وقال أبو حنيفة والثوري لا يعتق لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه فلم ينفذ اعتاقه له، ولنا أن زمن انتقال الملك زمن الحرية لأن البيع سبب لنقل الملك وشرط للحرية فيجب تغليب الحرية كما لو قال لعبده إذا مت فأنت حر ولأنه علق
حريته على فعله للبيع، والصادر منه في البيع إنما هو الإيجاب فمتى قال للمشتري بعتك فقد وجد شرط الحرية فيعتق قبل قبول المشتري وعلله القاضي بأن الخيار ثابت في كل بيع فلا ينقطع تصرفه فيه فعلى هذا لو تخايرا ثم باعه لم يعتق، ولا يصح هذا التعليل على مذهبنا لأننا قد ذكرنا أن البائع لو أعتق في مدة الخيار لم ينفذ إعتاقه (فصل) وإذا اعتق المشتري العبد بطل خياره وخيار البائع، وهذا اختيار الخرقي كما لو تلف المبيع على ما نذكره، وفيه رواية أخرى أنه لا يبطل خيار البائع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " فعلى هذه الرواية له الفسخ ولا رجوع بالقيمة يوم العتق (فصل) وإن تلف المبيع في مدة الخيار فلا يخلوا إما أن يكون قبل القبض أو بعده فإن كان قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ البيع، وكان من مال البائع ولا نعلم في هذا خلافاً إلا أن يتلفه المشتري فيكون من ضمانه، ويبطل خياره في خيار البائع روايتان وإن كان المبيع غير المكيل والموزون فلم يمنع البائع والمشتري من قبضه فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري ويكون كتلفه بعد القبض، وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره وفي خيار البائع روايتان (إحداهما) يبطل وهو اختيار الخرقي وأبي بكر لأنه خيار فسخ فبطل بتلف(4/75)
المبيع كخيار الرد بالعيب إذا تلف المعيب (والثانية) لا يبطل وللبائع الفسخ ويطالب المشتري بقيمته أو مثله إن كان مثلياً اختارها القاضي وابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف المبيع كما لو اشترى ثوباً بثوب فتلف أحدهما ووجد الآخر بالثوب عيباً فإنه يرده ويرجع بقيمة ثوبه كذا ههنا {مسألة} (وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين وفيه وجه آخر أنه كالعتق لأنه تصرف يبطل الشفعة فأشبه العتق) والصحيح أن حكمه حكم البيع فيما ذكرنا لأن المبيع يتعلق به حق البائع فقلنا يمنع جواز التصرف فمنع صحة الوقف كالرهن ويفارق الوقف العتق لأنه مبني على التغليب والسراية بخلاف الوقف ولا
نسلم أن الوقف يبطل الشفعة والله أعلم {مسألة} (وإن وطئ المشتري الجارية فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر ثابت النسب) لا يجوز للمشتري وطئ الجارية في مدة الخيار إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده لأنه يتعلق بها حق البائع فلم يصح وطئها كالمرهونة ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن وطئها فلا حد عليه لأن الحد يدرأ بشبهة الملك فبحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته، وإن علقت منه فالولد حر يلحقه نسبه لأنه من أمته ولا يلزم قيمته لذلك وتصير أم ولد له، فإن فسخ البائع البيع رجع بقيمتها لأنه تعذر الفسخ فيها ولا يرجع بقيمة ولدها لأنه حدث في ملك المشتري، وإن قلنا إن الملك لا ينتقل الى المشتري فلا حد عليه أيضاً لأن له فيها شبهة لوجود سبب نقل الملك إليه فيها، واختلاف أهل العلم في ثبوت الملك له، والحد يدرأ بالشبهات وعليه المهر وقيمة الولد وحكمهما حكم نمائهما، وإن علم التحريم وإن ملكه غير ثابت فولده رقيق {مسألة} (وإن وطئها البائع وقلنا البيع ينفسخ بوطئه فكذلك، وإن قلنا لا ينفسخ فعليه المهر وولده رقيق إلا إذا قلنا الملك له ولا حد فيه على كل حال) وقال أصحابنا عليه الحد إذا علم زوال ملكه وإن البيع لا ينفسخ بوطئه وهو المنصوص، وأما البائع فلا يحل له الوطئ قبل فسخ البيع، وقال بعض الشافعية له وطؤها لأن البيع ينفسخ بوطئه فإن كان الملك انتقل رجعت إليه، وإن لم يكن انتقل انقطع حق المشتري منها فيكون واطئا لمملوكته التي لا حق لغيره فيها، ولنا أن الملك انتقل عنه فلم يحل له وطؤها لقول الله تعالى (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) ولأن ابتداء الوطئ يقع في غير ملكه حراماً، ولو انفسخ البيع قبل وطئه لم يحل حتى يستبرئها ولاحد عليه، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، وقال بعض أصحابنا أن علم التحريم وان مكله قد زال ولا ينفسخ بالوطئ فعليه الحد، وذكر أن أحمد نص عليه لأنه لم يصادف ملكاً ولا شبهة ملك.
ولنا ان ملكه(4/76)
يحصل بابتداء وطئه فيحصل تمام الوطئ في ملكه مع اختلاف العلماء في كون الملك له وحل الوطئ له
ولا يجب الحد مع واحدة من هذه الشبهات فكيف إذا اجتمعت مع أنه يحتمل أن يحصل الفسخ باللامسة قبل الوطئ فيكون الملك قد رجع إليه قبل وطئه، ولهذا قال أحمد في المشتري إنها قد وجبت عليه فيما إذا مشطها أو خضبها أو حفها فبوضع يده عليها للجماع ولمس فرجها أولى، وعلى هذا يكون ولده منها حراً ثابت النسب ولا يلزمه قيمته ولا مهر عليه، وتصير أم ولد له، وقال أصحابنا إن علم التحريم فولده رقيق لا يلحقه نسبه، وإن لم يعلم لحقه النسب وولده حر وعليه قيمته يوم الولادة وعليه المهر ولا تصير أم ولد له لأنه وطئها في غير ملكه (فصل) ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي وكرهه مالك قال لأنه في معنى بيع وسلف إذا أقبضه الثمن ثم تفاسخا البيع صار كأنه أقرضه إياه.
ولنا أن هذا الحكم من أحكام البيع فجاز في مدة الخيار كالإجارة وما ذكره لا يصح لأننا لا نجيز له التصرف فيه {مسألة} (ومن مات منهم بطل خياره ولم يورث) إذا مات أحد المتبايعين في مدة الخيار بطل خياره في ظاهر المذهب، ويبقى خيار الآخر بحاله إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته فيكون لورثته، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ويتخرج أن الخيار لا يبطل، وينتقل إلى ورثته لأنه حق مالي فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب ولأنه حق فسخ فينتقل إلى الوارث كالفسخ بالتحالف، وهذا قول مالك والشافعي.
ولنا أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة {فصل} (الثالث) خيار الغبن ويثبت في ثلاث صور (إحداها) إذا تلقى الركبان فباعهم أو اشترى منهم فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم قد غبنوا غبناً يخرج عن العادة، روي أنهم كانوا يتلقون الاجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبطوا الا سواق فربما غبنوهم غبناً بيناً فيضروا بهم وربما أضروا بأهل البلد لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعاً ويترابصون بها السعة فهو في معنى بيع الحاضر للبادي فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فروى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد " وعن أبي هريرة مثله متفق عليهما، وكرهه أكثر العلماء منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث والاوزاعي والشافعي واسحاق
وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأساً، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح في قول الجميع قاله ابن عبد البر، وعن أحمد أن البيع باطل لظاهر النهي والأول أصح لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار " رواه مسلم والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة وفارق(4/77)
بيع الحاضر للبادي فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار إذ ليس الضرر عليه إنما هو على المسلمين، إذا تقرر هذا فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غبن، وقال أصحاب الرأي لا خيار له وقد روينا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ولا قول لأحد مع قوله، وظاهر المذهب أنه لاخيار له إلا مع الغبن لأنه إنما يثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع عدم الغبن وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل إطلاق الحديث في إثبات الخيار على هذا لعلمنا بمعناه ومراده ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار إذا أتى السوق فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع، وظاهر كلام الخرقي إن الخيار يثبت له مجرد الغبن وان قل والأولى أن يتقيد بما يخرج عن العادة لأن ما دون ذلك لا ينضبط، وقال أصحاب مالك إنما نهى عن تلقي الركبان لما يفوت به من الرفق بأهل السوق لئلا ينقطع عنهم ماله جلسوا من ابتغاء فضل الله، قال ابن القاسم فإن تلقاها متلق فاشتراها عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها، وقال الليث بن سعد يباع في السوق وهذا مخالف لمدلول الحديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا هبط السوق ولم يجعلوا له خيار أو جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار له يدل على أن النهي عن التلقي لحقه لا لحق غيره، ولأن الجالس في السوق كالمتلقي في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل الله ولا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما والحاق الضرر به دفعاً للضرر عن مثله، وليس رعاية حق الجالس أولى من رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل السوق كلهم في سلعته فلا يعرج على مثل هذا (فصل) فإن تلقاهم فباعهم شيئاً فهو كمن اشترى منهم ولهم الخيار إذا غبنهم غبناً يخرج عن العادة
وهذا أحد الوجهين للشافعية وقالوا في الآخر النهي عن الشراء دون البيع فلا يدخل البيع فيه وهذا مقتضى قول أصحاب مالك لأنهم عللوه بما ذكرنا عنهم ولا يتحقق ذلك في البيع لهم.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تلقوا الركبان " والبائع داخل فيه ولأن النهي عنه لما فيه من خديعتهم وغبنهم، وهذا في البيع كهو في الشراء، والحديث قد جاء ملطقا، ولو كان مختصاً بالشراء لألحق به ما في معناه وهذا في معناه (فصل) فإن خرج لغير قصد التلقي فلقي ركباً فقال القاضي: ليس له الابتياع منهم ولا الشراء وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، ويحتمل أن لا يحرم عليه ذلك وهو قول الليث بن سعد والوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه لم يقصد التلقي فلم يتناوله النهي ولأنه نادر فلا يكثر ضرره كمن يقصد ذلك ووجه الأول أنه إنما نهى عن التلقي دفعاً للخديعة والغبن عنهم وذلك متحقق سواء قصد التلقي أو لم يقصده فأشبه ما لو قصد {مسألة} (الثانية النجش وهو أن يزيد في السلعة من يريد شراها ليغر المشتري فله الخيار إذا غبن)(4/78)
النجش حرام وخداع قال البخاري الناجش آكل ربا خائن وهو خداع باطل لا يحل لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش متفق عليه، ولأن في ذلك تغريراً بالمشتري وخديعة له، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الخديعة في النار " فإن اشترى مع النجش فالشراء صحيح في قول أكثر العلماء منهم الشافعي وأصحاب الرأي، وعن أحمد أن البيع باطل اختاره أبو بكر وهو قول مالك لأن النهي يقتضي الفساد.
ولنا أن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في البيع ولأن النهي لحق آدمي فلم يفسد العقد كبيع المدلس، وفارق ماكان لحق الله تعالى فإن حق الآدمي يمكن جبره بالخيار أو زيادة في الثمن، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فللمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء كما في تلقي الركبان فإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له، وسواء كان النجش بمواطأة من البائع أو لم يكن، وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن ذلك بمواطأة من البائع وعلمه فلا خيار،
واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه فقال بعضهم لاخيار للمشتري لأن التفريط منه حيث اشترى ما لايعرف قيمته.
ولنا أنه تغرير بالعاقد فإذا غبن ثبت له الخيار كما في تلقي الركبان، وبذلك يبطل ما ذكروه ولو قال البائع أعطيت بهذه السلعة ما لم يعط فصدقه المشتري ثم كان كاذباً فالبيع صحيح وللمشتري الخيار أيضاً لأنه في معنى النجش {مسألة} (الثالثة المسترسل إذا غبن الغبن المذكور) يعني إذا غبن غبناً يخرج عن العادة كما ذكرنا في تلقي الركبان، والنجش يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء، وبه قال مالك قال ابن أبي موسى وقد قيل قد لزمه البيع ولا فسخ له وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد كغير المسترسل وكالغبن اليسير.
ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان.
فأما غير المسترسل فإنه دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو استعجل فجهل مالو تثبت لعلمه لم يكن له خيار لأنه انبنى على تفريطه وتقصيره، والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة قال أحمد: المسترسل الذي لا يحسن أن يما كس وفي لفظ الذي لا يماكس فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير مما كسة ولا معرفة بغبنه.
ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحده أبو بكر في التنبيه وابن أبي موسى في الإرشاد بالثلث وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم " والثلث كثير " وقيل السدس والأولى تحديده بما لا يتغابن الناس به في العادة لأن ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف (فصل) وإذا وقع البيع على غير متعين كقفيز من صبرة ورطل من دن فظاهر قول الخرقي أنه يلزم بالتفرق سواء تقابضا أولا، وقال القاضي في موضع المبيع الذي لا يلزم الا بالقبض كالمكيل والموزون فقد صرح بأنه لا يلزم قبل قبضه، وذكر في موضع آخر: من اشترى فقيزا من صبرتين فتلفت إحداهما قبل القبض بطل العقد في التالف دون الباقي رواية واحدة، ولا خيار للبائع وهذا(4/79)
تصريح باللزوم في حق البائع قبل القبض، وأنه لو كان جائزاً كان له الخيار سواء تلفت احداهما أو لم تتلف.
ووجه الجواز أنه مبيع لا يملك بيعه ولا التصرف فيه فكان جائزاً كما قبل التفرق، ولأنه لو
تلف لكان من ضمان البائع.
ووجه اللزوم قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " وما ذكرناه للقول الأول ينتقض ببيع الموصوف والسلم فإنه لازم مع ما ذكرناه وكذلك سائر البيع في إحدى الروايتين.
(فصل) قال رضي الله عنه (الرابع خيار التدليس بما يزيد الثمن كتصرية اللبن في الضرع وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده وجمع ماء الرحى وارساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد) التصرية جمع اللبن في الضرع يقال صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف ويقال صرى الماء في الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة: رأيت غلاماً قد صرى في فقرته * ماء الشباب عنفوان شرته قال البخاري أصل التصرية حبس الماء.
يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضاً ومنه سميت مجامع الناس محافل، والتصرية حرام إذا أريد بها التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصروا الإبل " وقوله " من غشنا فليس منا " وروى ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وراه ابن عبد البر " ولا تحل خلابة مسلم " فمن اشترى مصراة من بهيمة الأنعام وهو لا يعلم تصريتها ثم علم فله الخيار في الرد والإمساك روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي واسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم، وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لو لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها، والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل ولنا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر " متفق عليه، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها فمحا " رواه أبو داود ولأنه تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كالشمطاء إذا سود شعرها،
وبه يبطل قياسهم فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وإذا دلسه ثبت له الخيار، وأما انتفاخ البطن فقد يكون لغير الحمل فلا معنى لحمله عليه وعلى أن هذا القياس يخالف النص واتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى، إذا ثبت هذا فإنما يثبت الخيار إذا لم يعلم المشتري بالتصرية فإن كان عالماً لم يثبت له خيار، وقال أصحاب الشافعي يثبت له الخيار في وجه للخبر ولأن انقطاع اللبن لم يوجد وقد يبقى على حاله كما لو(4/80)
تزوجت عنيناً ثم طلبت الفسخ.
ولنا أنه اشتراها عالماً بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من سود شعرها عالماً بذلك ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد لا يعلق عليه حكم، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع (فصل) وكذلك كل تدليس يختلف الثمن لأجله مثل أن يسود شعر الجارية أو يجعده أو يحمر وجهها أو يضمر الماء على الرحى ويرسله عند عرضها على المشتري يثبت الخيار أيضاً لأنه تدليس يختلف الثمن باختلافه فأثبت الخيار كالتصرية، وبهذا قال الشافعي، ووافق أبو حنيفة في تسويد الشعر وقال في تجعيده لا يثبت به خيار لانه تدليس بما ليس بعيب أشبه ما لو سود أنامل العبد ليظنه كاتباً أو حدادا وما ذكروه ينتقض بتسويد الشعر، وأما تسويد أنامل العبد فليس بمنحصر في كونه كاتباً لأنه يحتمل أن يكون قد ولع بالدواة أو كان غلاماً لكاتب يصلح له الدواة فظنه كاتبا طمعا لا يستحق به فسخاً، فإن حصل هذا من غير تدليس مثل أن اجتمع اللبن في الضرع من غير قصد، أو احمر وجه الجارية لخجل أو تعب أو يسود شعرها بشئ وقع عليه، فقال القاضي له الرد أيضاً لدفع الضرر اللاحق بالمشتري والضرر واجب الدفع سواء قصد أو لم يقصد أشبه العيب، ويحتمل أن لا يثبت الخيار بحمرة الوجه بخجل أو تعب لأنه يحتمل ذلك فتعين ظنه من خلقته الأصلية لطمع فأشبه سواد أنامل العبد (فصل) وإن دلسه بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر وتسبيطه فلا خيار للمشتري لأنه لا ضرر في ذلك، وإن علف الشاة فظنها المشتري حاملاً أو سود أنامل العبد أو ثوبه ليظنه كاتباً أو حداداً أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري لأن سواد الأنامل قد يكون لو لع أو خدمة كاتب أو حداد أو شروع في الكتابة وانتفاخ
البطن يكون للأكل فظنه المشتري غير ذلك طمعاً لا يثبت به الخيار (فصل) فإن أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له في المصراة أرشاً بل خيره بين الإمساك والرد مع صاع من تمر ولأن المدلس ليس بمعيب فلم يستحق له أرشاً، فإن تعذر عليه الرد بتلف فعليه الثمن لأنه تعذر عليه الرد ولا أرش له أشبه غير المدلس، فإن تعيب عنده قبل العلم بالتدليس فله رده ورد أرش العيب عنده وأخذ الثمن وإن شاء أمسك ولا شئ له، وإن تصرف في المبيع بعد علمه بالتدليس بطل رده كما لو تصرف في المبيع، المعيب وإن أخر الرد من غير تصرف فحكمه حكم تأخير رد المعيب على ما نذكره إن شاء الله {مسألة} (ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر فان لم يجد التمر فقيمته في موضعه سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة) إذا رد المصراة لزمه بدل اللبن في قول كل من جوز ردها وهو مقدر بصاع من تمر كما جاء في(4/81)
الحديث، وهذا قول الليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من قوت البلد لأن في بعض الأحاديث " ورد معها صاعاً من طعام " وفي بعضها " ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً " فجمع بين الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر لأنه غالب قوت البلد في المدينة لأنه غالب قوت بلد أخر، وقال أبو يوسف يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فيقدر بقيمته كسائر المتلفات وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى، وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع بر كقولهم في الفطرة.
ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وقد نص فيه على التمر فقال " إن شاء ردها وصاعاً من تمر " وللبخاري " من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر " ولمسلم " ردها ورد صاعا من تمر لاسمرا " يعني لايرد قمحاً والمراد بالطعام في الحديث التمر لأنه مطلق في أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد وحديث ابن عمر في روايته جميع بن عمير التيمي قال ابن نمير هو من أكذب الناس، وقال ابن حبان كان يضع الحديث مع أن الحديث متروك الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها
قمحاً ثم قد شك فيه الراوي مع مخالفة الحديث الصحيح فلا يعول عليه، وقياس أبي يوسف مخالف للنص فلا يقبل ولا يبعد أن يقدر الشارع بدل هذا المتلف قطعاً للخصومة والتنازع كما قدر دية الآدمي ودية أطرافه، ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن، فلذلك أوجبه لوجوه ثلاثة (أحدها) أن القيمة هي الأثمان لا التمر (الثاني) أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعاً صاعا من تمر مع اختلاف لبنها (الثالث) أن لفظه للعموم فيتناول كل مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعاً وإن أمكن أن يكون كذلك فيتعين إيجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها فلا يجوز العدول عنها، ويجب أن يكون صاع التمر جيداً غير معيب لأنه واجب بإطلاق الشارع فينصرف إلى ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة، ويكفي فيه أدنى ما يقع عليه اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر أقل من قيمة الشاة أو أكثر أو مثلها نص عليه وليس فيه جمع بين البدل والمبدل لان التمر بدل اللبن قدره الشارع به كما قدر في يدي العبد قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء العبد على ملك السيد، وإن عدم التمر في موضعه فعليه قيمته في موضع العقد لأنه بمنزلة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها (فصل) ولا فرق بين الناقة والبقرة والشاة فيما ذكرنا، وقال داود لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث " لا تصروا الإبل والغنم " فدل على أن ما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص، والقياس لا تثبت به الاحكام.
ولنا عموم قوله " من اشترى مصراة ومن ابتاع محفلة " ولم يفصل والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أكثر وأنفع فيثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع (فصل) إذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد فردهن رد مع كل مصراة صاعاً وبه قال الشافعي وبعض المالكية، وقال بعضهم في الجميع صاع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من(4/82)
اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ".
ولنا قوله " من اشترى مصراة " وهذا يتناول الواحدة ولأن ما جعل عوضاً عن شئ في صفقتين وجب إذا كان في صفقة واحدة كأرش العيب وأما الحديث فإن الضمير فيه يعود إلى الواحدة {مسألة} (فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر)
إذا احتلبها واللبن بحاله ثم ردها مع لبنها فلا شئ عليه لأن المبيع إذا كان موجوداً فرده لم يلزمه بدله فإن أبى البائع قبوله وطلب التمر فليس له ذلك إذا كان اللبن لم يتغير ويحتمل أن يلزمه قبوله لظاهر الخبر ولأنه قد نقص بالحلب لأن كونه في الضرع أحفظ له ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه البدل كسائر المبدلات مع أبدالها.
والحديث المراد به رد التمر حاله عدم اللبن لقوله " في حلبتها صاع من تمر " وقولهم الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن إبقاؤه في الضرع على الدوام لأنه يضر بالحيوان، فإن تغير اللبن ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه قبوله وهو قول مالك للخبر ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه تلفه (والثاني) يلزمه قبوله لأن التعهد حصل باستعلام المبيع بتعين البائع وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة (فصل) فإن رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيباً ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد لعيب آخر كما لو اشترى أعرج فرضي به فوجده أبرص فإن رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن لأنه عوض به فيما إذا ردها بالتصرية فيكون عوضاً له مطلقاً (فصل) ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها عيباً فله الرد، ثم إن لم يكن في ضرعها لبن حال العقد فلا شئ عليه لأن اللبن الحادث بعد العقد يحدث على ملكه، وإن كان فيه لبن حال العقد إلا أنه يسير لا يخلو الضرع من مثله عادة فلا شئ فيه لأنه لا عبرة به ولا قيمة له في العادة، وإن كان كثيراً وكان قائماً بحاله انبنى رده على رد لبن المصراة وقد سبق، فإن قلنا ليس له رده فبقاؤه كتلفه، وهل له رد المبيع؟ يخرج على الروايتين فيما إذا اشترى شيئاً فتلف بعضه أو تعيب فإن قلنا برده رد مثل اللبن لأنه من المثليات والأصل ضمانها بمثلها إلا أنه خولف في لبن المصراة للنص ففيما عداه يبقى على الأصل، ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما ذكرنا (فصل) قال ابن عقيل إذا علم التصرية قبل حلبها مثل أن أقربه البائع أو شهد به من تقبل شهادته فله ردها ولا شئ معها لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر " ولم يأخذ لها ههنا لبناً فلم يلزمه رد شئ معها وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا مما لا خلاف فيه
{مسألة} (ومتى علم التصرية فله الرد، وقال القاضي ليس له ردها إلا بعد ثلاث) اختلف أصحابنا في مدة الخيار فقال القاضي هو مقدر بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا(4/83)
إمساكها بعدها فإن أمسكها بعدها سقط الرد قال وهو ظاهر كلام أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي لأن أبا هريرة روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام أن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر " رواه مسلم، قالوا هذه الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها لأن لبنها في أول يوم لبن التصرية وفي الثاني يجوز أن يكون نقص لتغير المكان واختلاف العلف وكذلك الثالث، فإذا مضت الثلاث استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور ولا يثبت قبل انقضائها، وقال أبو الخطاب متى تبينت التصرية جاز له الرد قبل الثلاث وبعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا ظهر كسائر التدليس وهو قول بعض المدلسين، فعلى هذا فائدة التقدير في الخبر بالثلاث لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها فاعتبرها لحصول العلم ظاهراً، فإن حصل العلم بها أولم يحصل فالاعتبار به دونها كما في سائر التدليس، وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها وهو قول ابن المنذر وأبي حامد من الشافعية وحكاه عن الشافعي لظاهر حديث أبي هريرة فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وقول القاضي لا يثبت في شئ منها، وقول أبي الخطاب يسوى بينها وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى والقياس ما قاله أبو الخطاب قياساً على سائر التدليس {مسألة} (وإن صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله: إذا اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج لم يملك الرد.
وقال أصحاب الشافعي له الرد في أحد الوجهين للخبر ولأن التدليس كان موجوداً في حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن.
ولنا أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص الثمن ولم يوجد فامتنع الرد ولأن العيب لم يوجد ولم تختلف صفة البيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس ولأن الخيار يثبت لدفع الضرر ولا ضرر {مسألة} (فإن كانت التصرية في غير بهيمة الأنعام كالأمة والأتان والفرس ثبت له الخيار في
أحد الوجهين) اختاره ابن عقيل وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " من اشترى مصراة " ولأنه تصرية بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار كتصرية بهيمة الأنعام لأن الآدمية تراد للرضاع ويرغب فيها ظئراً، ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ، والفرس تراد لولدها (والثاني) لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد كلبن بهيمة الأنعام، والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لذلك، واللفظ العام أريد به الخاص لأنه أمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاماً وخاصاً في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص فإن قلنا بردها لم يلزمه بذل لبنها ولا يرد معها شيئاً لأن هذا اللبن لا يباع عادة ولا يعتاض عنه {مسألة} (ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها) لقوله عليه السلام " من غشنا فليس منا " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام " المسلم أخو المسلم لا يحل(4/84)
لمسلم باع من أخيه بيعاً إلا بينه " رواه ابن ماجه، فإن فعل فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي بدليل حديث التصرية فإن النبي صلى الله عليه وسلم صححه مع نهيه عنه، وقال أبو بكر إن دلس العيب فالبيع باطل لأنه منهي عنه والنهي عنه والنهي يقتضي الفساد، فقيل له ما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً فدل على رجوعه (فصل) قال رضي الله عنه (الخامس خيار العيب وهو النقص كالمرض وذهاب جارحة أو سن أو زيادتها ونحو ذلك، وعيوب الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق والبول في الفراش إن كان من مميز) العيوب النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلا للعقد باعتبار صفة المالية فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف التجار، فالعيوب في الخلقة كالجنون والجذام والبرص والصمم والعمى والعور والعرج والعفل والقرن والفتق والرتق والقرع والطرش والخرس وسائر المرض والأصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان والتخنيث وكونه خنثى والخصاء والتزوج في الأمة والبخر فيها وهذا كله قول أبي حنيفة والشافعي، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشترى ولها زوج
أنه عيب، وكذلك الدين في رقبة العبد إذا كان السيد معسراً، والجناية الموجبة للقود، ولأن الرقبة صارت كالمستحقة لوجوب الدفع في الجناية والبيع في الدين ومستحقة الإتلاف بالقصاص، والزنا والبخر عيب في العبد والأمة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس بعيب في العبد لأنه لايراد للفراش والاستمتاع بخلاف الأمة.
ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته فإنه بالزنا يتعرض لإقامة الحد عليه والتعزير ولا يأمنه سيده على عائلته؟ والبخر يؤذي سيده ومن جالسه أوساره، والسرقة والإباق والبول في الفراش عيوب في الكبير الذي جاوز العشر، وقال أصحاب أبي حنيفة في الذي يأكل وحده ويشرب وحده، وقال الثوري واسحاق ليس بعيب حتى يحتلم لأن الأحكام تتعلق به من التكليف ووجوب الحد فكذلك هذا.
ولنا أن الصبي العاقل يتحرز من هذا عادة كتحرز الكبير فوجوده منه في تلك الحال يدل على أن البول لداء في بطنه، والسرقة والإباق لخبث في طبعه.
وحد ذلك بالعشر لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الصبي على ترك الصلاة عندها والتفريق بينهم في المضاجع.
فأما من دون ذلك فتكون هذه الأمور منه لضعف عقله وعدم تثبته، وكذلك إن كان العبد يشرب الخمر ويسكر من النبيذ نص عليه أحمد لأنه يوجب الحد فهو كالزنا، وكذلك الحمق الشديد والاستطالة على الناس لأنه يحتاج إلى التأديب وربما تكرر فأفضى الى تلفه، ويختص الكبير دون الصغير لأنه منصوب إلى فعله، وعدم الختان ليس بعيب في العبد الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الأمة الكبيرة وبه قال الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة هو عيب فيها لأنه زيادة ألم أشبهت العبد.
ولنا أنه لا يجب عليها والألم فيه يقل(4/85)
ولا يخشى منه التلف بخلاف العبد الكبير، فأما الكبير فإن كان مجلوباً من الكفار فليس ذلك بعيب فيه لأن العادة أنهم لا يختنون فصار ذلك معلوماً عند المشتري فهو كديتهم، وان كان مسلما مولداً فهو عيب فيه لأنه يخشى عليه منه وهو خلاف العادة (فصل) والثيوبة ليست بعيب لانها الغالب على الجواري فالاطلاق لا يقتضي خلافها هذا اختيار القاضي، وقال ابن عقيل إذا أطلق الشراء اقتضى سلامتها من الثيوبة وبقاء البكارة، فالثيوبة إتلاف جزء والأصل عدم الإتلاف والثمن يختلف باختلافه فنقول جزء يختلف الثمن ببقائه وزواله فزواله
عيب كتلف بعض أجزائها.
وتحريمها على المشتري بنسب أو رضاع ليس بعيب إذ ليس في المحل ما يوجب خللا في المالية ولا نقصاً والتحريم يختص به، وكذلك الإحرام والصيام لأنهما يزولان قريباً وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً وكذلك عدة البائن.
فأما عدة الرجعية فهي عيب لأن الرجعية زوجة لا يؤمن ارتجاعها، ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب، وحكي عن مالك في الجارية المغنية أنه عيب فيها لأنه محرم.
ولنا أنه ليس بنقص في عينها ولا قيمتها فهو كالصناعة وكونه محرماً ممنوع وإن سلم فالمحرم استعماله لا معرفته، والعسر ليس بعيب وكان شريح يرد به ولنا أنه ليس بنقص وعمله بإحدى يديه يقوم مقام عمله بالأخرى، والكفر ليس بعيب وبه قال الشافعي وهو عيب عند أبي حنيفة لأنه نقص لقول الله تعالى (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) ولنا أن العبيد فيهم المسلم والكافر والأصل فيهم الكفر، فالاطلاق لا يقتضي خلاف ذلك وكون المؤمن خيراً من الكافر لا يقتضي كون الكفر عيباً كما أن المتقي خير من غيره، قال الله تعالى (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس عدمه عيبا.
وكونه ولد زنا ليس بعيب وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هو عيب في الجارية لأنها تراد للافتراش بخلاف العبد، قلنا أن النسب في الرقيق غير مقصود بدليل أنهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب.
وكون الجارية لا تحسن الطبخ أو الخبز ونحوه ليس بعيب لأن هذا حرفة فلم يك فقدها عيباً كسائر الصنائع.
وكونها لا تحيض ليس بعيب، وقال الشافعي هو عيب إذا كان لكبر لأن من لا تحيض لا تحمل.
ولنا أن الإطلاق لا يقتضي الحيض ولاعدمه فلم يكن فواته عيباً كما لو كان لغير الكبر {مسألة} (فمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه فله الخيار بين الرد والإمساك مع الأرش وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن) من اشترى معيباً يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم فلا خيار له لأنه بذل الثمن فيه عالماً راضياً به عوضاً أشبه ما لا عيب فيه لا نعلم خلاف ذلك، وإن علم به عيباً لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع علم العيب فكتمه أو لم يعلم لا نعلم فيه خلافاً ولأن إثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روي(4/86)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى مملوكاً فكتب " هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد اشترى منه عبداً - أو أمة - لا دابة ولا غائلة بيع المسلم للمسلم " ولأن الأصل السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر، فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض وكان له الرد وأخذ الثمن كاملاً (فصل) فإن اختار إمساك المعيب وأخذ الأرش فله ذلك وبه قال اسحاق، وقال أبو حنيفة والشافعي ليس له إلا الإمساك أو الرد ولا أرش له إلا أن يتعذر رد المبيع وروي ذلك عن أحمد حكاه صاحب المحرر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصراة الخيار بين الإمساك من غير أرش أو الرد ولأنه يملك الرد فلم يملك أخذ جزء من الثمن كالرد بالخيار.
ولنا أنه ظهر على عيب لم يعلم به فكان له الأرش كما لو تعيب عنده ولأنه فات عليه جزء من المبيع فكانت له المطالبة بعوضه كما لو اشترى عشرة أقفزة فبانت تسعة أو كما لو أتلفه بعد البيع، فأما المصراة فليس فيها عيب وإنما ملك الخيار بالتدليس لا لفوات جزء وكذلك لا يستحق أرشاً إذا تعذر الرد، إذا ثبت هذا فمعنى الأرش أن يقوم المبيع صحيحاً ثم يقوم معيباً فيؤخذ قسط ما بينهما من الثمن.
مثاله أن يقوم المعيب صحيحاً بعشرة ومعيباً بتسعة والثمن خمسة عشر فقد نقصه العيب عشر قيمته فيرجع على البائع بعشر الثمن وهو درهم ونصف، وعلة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن ولأننا لو ضمناه نقص القيمة أفضى إلى اجتماع الثمن والمثمن للمشتري فيما إذا اشترى شيئاً بعشرة وقيمته عشرون فوجد به عيبا ينقصه عشرة فأخذها حصل له المبيع ورجع بثمنه، وهذا لاسبيل إليه وقد نص أحمد على ما ذكرناه.
وذكره الحسن البصري فقال يرجع بقيمة العيب في الثمن يوم اشتراه.
قال أحمد هذا أحسن ما سمعته {مسألة} (وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه المنفصل وعنه لا يرده إلا مع نمائه) وجملة ذلك أنه إذا أراد رد المبيع فلا يخلو إما أن يكون بحاله أو أن يكون قد زاد أو نقص فإن كان بحاله رده وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد أو حصلت له فائدة فذلك قسمان (أحدهما) أن تكون الزيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة والحمل والثمرة قبل الظهور فانه يردها بمائها فإنه يتبع
في العقود والفسوخ (القسم الثاني) أن تكون الزيادة منفصلة وهي نوعان (أحدهما) أن تكون من غير المبيع كالكسب والأجرة وما يوهب له أو يوصى له به فهو للمشتري في مقابلة ضمانه لأن المبيع لو هلك كان من مال المشتري وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " ولا نعلم في هذا خلافا وقد روى ابن ماجة بإسناده عن عائشة أن رجلاً اشترى عبداً فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيباً فرده فقال يا رسول الله إنه استغل غلامي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " رواه أبو داود وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم (النوع الثاني) أن تكون الزيادة من عين المبيع كالولد والثمرة واللبن فهي للمشتري أيضاً ويرد(4/87)
الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي إلا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه وسنذكر ذلك وعنه ليس له رده دون نمائه قياساً على النماء المتصل، والمذهب الأول لما ذكرناه من حديث عائشة وقال مالك، إن كان النماء ثمرة لم يردها، وإن كان ولداً رده لأن الرد حكم فسرى إلى الولد كالكتابة، وقال أبو حنيفة: النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد لأنه لا يمكن رد الأصل بدونه لأنه من موجبه فلا يرفع العقد مع بقاء موجبه، ولا يمكن رده معه لأنه لم يتناوله العقد.
ولنا أنه نماء حدث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كما لو كان في يد البائع وكالكسب ولأنه نماء منفصل فجاز رد الأصل بدونه كالكسب والثمرة عند مالك، وقولهم إن النماء من موجب العقد لا يصح إنما موجبه الملك ولو كان موجباً للعقد لعاد إلى البائع بالفسخ، وقول مالك لا يصح، لأن الولد ليس بمبيع فلا يمكن رده بحكم رد الأم، ويبطل ما ذكره بنقل الملك بالهبة والبيع وغيرهما فإنه لا يسري إلى الولد بوجوده في الأم فإن اشتراها حاملا فولدت عند المشتري فردها رد ولدها معها لأنه من جملة المبيع والولادة نماء متصل، وإن نقص المبيع فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى {مسألة} (ووطئ الثيب لايمنع الرد وعنه يمنع) إذا اشترى أمة ثيباً فوطئها المشتري قبل علمه بالعيب فله ردها ولا شئ عليه روي ذلك عن زيد بن ثابت، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وعثمان البتي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يمنع الرد
يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الزهري والثوري وأبو حنيفة واسحاق لان الوطئ كالجناية لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع الرد كوطئ البكر، وقال شريح والشعبي والنخعي وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى يردها ومعها أرش واختلفوا فيه فقال شريح والنخعي نصف عشر ثمنها، وقال الشعبي حكومة وقال سعيد بن المسيب دنانير، وقال ابن أبي موسى مهر مثلها وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره ابن أبي موسى رواية عن احمد لأنه إذا فسخ صار واطئاً في ملك الغير لكون الفسخ رفعاً للعقد من أصله.
ولنا أنه معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضا بالعيب فلم يمنع الرد كالاستخدام وكوطئ الزوج.
وما قالوه يبطل بوطئ الزوج، ووطئ البكر ينقص ثمنها.
وقولهم يكون واطئاً في ملك الغير لا يصح لأن الفسخ رفع العقد من حينه لامن أصله بدليل أنه لا يبطل الشفعة ولا يوجب رد الكسب فيكون وطؤه في ملكه (فصل) ولو اشتراها مزوجة فوطئها الزوج لم يمنع ذلك الرد بغير خلاف نعلمه، فإن زوجها المشتري فوطئها الزوج ثم أراد ردها بالعيب فإن كان النكاح باقياً فهو عيب حادث، وإن كان قد زال فحكمه حكم وطئ السيد، وقد استحسن أحمد أنه يمنع الرد وهو محمول على الرواية الأخرى إذ لا فرق بين هذا وبين وطئ السيد، وإن زنت في يد المشتري ولم يكن عرف ذلك منها فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويحتمل أن يكون عيباً بكل حال لأنه لزمها حكم الزنا في يد المشتري(4/88)
{مسألة} (وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش، وعنه أنه مخير بين الأرش وبين الرد وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن) إذا وطئ المشتري البكر قبل علمه بالعيب ففيه روايتان (إحداهما) لا يردها ويأخذ أرش العيب وبه قال مالك وابن سيرين والزهري والثوري والشافعي وأبو حنيفة واسحاق قال ابن أبي موسى وهو الصحيح عن أحمد (والرواية الأخرى) يردها ومعها شئ اختارها الخرقي وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي ومالك وابن أبي ليلى وأبو ثور، والواجب رد ما نقص قيمتها بالوطئ فإذا كانت قيمتها بكراً مائة وثيباً ثمانين رد معها عشرين لأنه بفسخ العقد يصير مضموناً عليه بقيمته بخلاف
أرش العيب الذي يأخذه المشتري، وهذا قول مالك وأبي ثور، وقال شريح والنخعي يرد عشر ثمنها وقال سعيد بن المسيب يرد عشرة دنانير وما قلناه إن شاء الله أولى، واحتج من منع ردها بأن الوطئ نقص عينها وقيمتها فمنع الرد كما لو اشترى عبداً فخصاه فنقصت قيمته، ووجه الرواية الأخرى أنه عيب حدث عند أحد المتبايعين لا للاستعلام فيثبت معه الخيار كالعيب الحادث عند البائع قبل القبض (فصل) وكذلك كل مبيع كان معيباً ثم حدث به عيب عند المشتري قبل علمه بالأول ففيه روايتان (إحداهما) ليس له الرد وله أرش العيب القديم، وبه قال الثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن سيرين والزهري والشعبي لأن الرد يثبت لإزالة الضرر، وفي الرد على البائع إضرار به ولا يزال الضرر بالضرر (والثانية) له الرد ويرد أرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن وإن شاء أمسكه وله الأرش، وبه قال مالك واسحاق وقال الحكم يرده ولم يذكر معه شيئاً، ولنا حديث المصراة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردها بعد حلبها ورد عوض لبنها ولأنه روي عن عثمان أنه قضى في الثوب إذا كان به عوار يرده وإن كان قد لبسه، ولأنه عيب حدث عند المشتري فكان له الخيار بين رد المبيع وأرشه وبين أرش العيب القديم كما لو حدث لا ستعلام المبيع ولأن العيبين قد استويا والبائع قد دلس والمشتري لم يدلس فكان رعاية جانبه أولى، ولأن الرد كان جائزاً قبل حدوث العيب الثاني فلا يزول إلا بدليل وليس في المسألة إجماع ولا نص، والقياس إنما يكون على أصل وليس لما ذكروه أصل فيبقى الجواز بحاله.
إذا ثبت هذا فإنه يرد أرش العيب الحادث عنده لأن المبيع بجملته مضمون عليه بقيمته فكذلك أجزاؤه.
فإن زال العيب الحادث عنده رده ولا شئ معه على كلتا الروايتين وبه قال الشافعي لأنه زال المانع مع قيام السبب المقتضي للرد فثبت حكمه، ولو اشترى أمة فحملت عنده ثم أصاب بها عيباً فالحمل عيب للآدميات دون غيرهن لأنه يمنع الوطئ ويخاف منه التلف فإن ولدت فالولد للمشتري، وإن نقصتها الولادة فذلك عيب، وإن لم تنقصها الولادة ومات الولد ردها لزوال(4/89)
العيب فإن كان ولدها باقياً لم يكن له ردها دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهو محرم، وقال الشريف ابن جعفر وأبو الخطاب في مسائلهما له ردها دون ولدها وهو قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه موضع
حاجة فأشبه مالو ولدت حراً فإنه يجوز بيعها دون ولدها ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " رواه الترمذي وقال حديث حسن ولأنه أمكن منع الضرر بأخذ الأرش أو برد ولدها معها فلم يجز ارتكاب نهي الشرع بالتفريق بينهما كما لو أراد الإقالة فيها دون ولدها، وقولهم أن الحاجة داعية إليه قلنا قد اندفعت الحاجة بأخذ الأرش.
أما إذا ولدت حراً فلا سبيل إلى بيعه معها بحال ولو كان المبيع حيواناً غير الآدمي فحدث فيه حمل عند المشتري لم يمنع الرد بالعيب لأنه زيادة، وإن علم بالعيب بعد الوضع ولم تنقصه الولادة فله رد الأم وإمساك الولد لأن التفريق بينهما لا يحرم ولا فرق بين حملها قبل القبض وبعده، ولو اشتراها حاملاً فولدت عنده ثم اطلع على عيب فردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع والزيادة فيه نماء متصل فاشبه مالو سمنت الشاة، وإن تلف الولد فهو كتعيب المبيع عنده فإن قلنا له الرد فعليه قيمته، وعن أحمد لا قيمة عليه للولد، وحمل القاضي كلام أحمد على أن البائع دلس العيب، وإن نقصت الأم بالولادة فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويمكن حمل كلام أحمد على أنه لاحكم للحمل وهو أحد أقوال الشافعي فعلى هذا يكون الولد حينئذ للمشتري فلا يلزمه رده مع بقائه ولاقيمته مع التلف، والأول أصح وعليه العمل (فصل) فإن كان المبيع كاتباً أو صانعاً فنسي ذلك عند المشتري ثم وجد به عيباً فالنسيان عيب حادث فهو كغيره من العيوب وعنه يرده ولا شئ عليه وعلله القاضي بأنه ليس بنقص في العين، ويمكن عوده بالتذكر، قال وعلى هذا لو كان سميناً فهزل والقياس ما ذكرناه فإن الصناعة والكتابة مقومة تضمن في الغصب وتلزم بشرطها في البيع فأشبهت الأعيان والمنافع من السمع والبصر والعقل وإمكان العود منتقض بالسن والبصر والحمل، وما روي عن أحمد محمول على ما إذا دلس بعيب (فصل) وإذا تعيب المبيع عند البائع بعد العقد وكان المبيع من ضمانه فهو كالعيب القديم، وإن كان من ضمان المشتري فهو كالعيب الحادث بعد القبض، فأما الحادث بعد القبض فهو من ضمان المشتري لا يثبت الخيار وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك عهدة الرقيق ثلاثة أيام فما أصابه فيها فهو من مال البائع إلا في الجنون والجذام والبرص، فإن تبين إلى سنة ثبت الخيار لما روى الحسن عن
عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عهدة الرقيق ثلاثة أيام ولأنه إجماع أهل المدينة ولأن الحيوان يكون فيه العيب ثم يظهر.
ولنا أنه ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثاً فلم يثبت به الخيار كسائر المبيع وكما بعد الثلاثة والسنة وحديثهم لا يثبت قال أحمد ليس فيه حديث صحيح، وقال ابن المنذر لا يثبت(4/90)
في العهدة حديث، والحسن لم يلق عقبة، وإجماع أهل المدينة ليس بحجة، والداء الكامن لا عبرة به وإنما النقص بما ظهر لا بماكمن {مسألة} (قال الخرقي إلا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا) قال القاضي ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب رجع بالثمن كله نص عليه في رواية حنبل.
معنى دلس العيب أي كتمه عن المشتري أو غطاه عنه بما يوهم المشتري عدمه مشتق من الدلسة وهي الظلمة فكأن البائع يستر العيب، وكتمانه جعله في ظلمة فخفي على المشتري فلم يره ولم يعلم به والتدليس حرام وقد ذكرناه فمتى فعله البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب المبيع في يده فله رد المبيع وأخذ ثمنه كاملاً ولا أرش عليه سواء كان بفعل المشتري كوطئ البكر وقطع الثوب أو بفعل آدمي آخر مثل أن يجني عليه أو بفعل العبد كالسرقة أو بفعل الله تعالى، وسواء كان ناقصاً للمبيع أو مذهباً لجملته قال أحمد في رجل اشترى عبداً فأبق وأقام البينة أن إباقه كان موجوداً في يد البائع يرجع على البائع بجميع الثمن لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان، ويحكى هذا عن الحكم ومالك لأنه غره فرجع عليه كما لو غره بحرية أمة (قال شيخنا) ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت، وأرش البكر إذا وطئها لقوله عليه السلام " الخراج بالضمان " وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري مع كونه قد نهى عن التصرية وقال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وقد جعل الشارع الضمان عليه لوجوب الخراج، فلو كان ضمانه على البائع لكان الخراج له لوجود علته، ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع، ولا نعلم لهذا أصلا ولا يشبه هذا التغرير بحرية الامة في النكاح لأنه يرجع على من غره وإن لم يكن سيد الأمة، وههنا لو كان التدليس من وكيل البائع لم يرجع عليه بشئ نص عليه
{مسألة} (وإن أعتق العبد أو تلف المبيع يرجع بأرشه، وكذلك ان باعه غيره عالم بعيبه، وكذلك إن وهبه وإن فعله عالماً بعيبه فلا شئ له) إذا زال ملك المشتري عن المبيع بعتق أو موت أو وقف أو قتل أو تعذر الرد لا ستيلاد ونحوه قبل علمه بالعيب فله الأرش، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال في المقتول خاصة لاارش له لأنه زال ملكه بفعل مضمون أشبه البيع ولنا أنه عيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فكان له الأرش كما لو أعتقه، والبيع ممنوع وإن سلم فقد استدرك ظلامته فيه، وأما الهبة فمن أحمد فيها روايتان (إحداهما) أنها كالبيع لأنه لم ييأس من إمكان الرد لاحتمال رجوع الموهوب إليه.
(والثانية) له الأرش وهو أولى ولم يذكر القاضي غيرها لأنه لم يستدرك ظلامته أشبه الوقف، وإمكان الرد ليس بمانع من أخذ الأرش عندنا بدليل(4/91)
ما قبل الهبة، وإن أكل الطعام أو لبس الثوب فأتلفه رجع بأرشه وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يرجع بشئ لأنه أهلك العين فأشبه مالو قتل العبد.
ولنا أنه ما استدرك ظلامته ولارضي بالعيب فلم يسقط حقه من الأرش كما لو تلف بفعل الله تعالى (فصل) إذا باع المشتري المبيع قبل علمه بالعيب فله الأرش نص عليه أحمد لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد ولم يوجد منه الرضى به ناقصاً فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه، وظاهر كلام الخرفي أنه لا أرش له سواء باعه عالما بيعه أو غير عالم.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن امتناع الرد كان بفعله فأشبه ما لو أتلف المبيع ولأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب (فصل) وإن باعه عالماً بعيبه أو وهبه أو أعتقه أو وقفه أو استولد الأمة ونحوه فلا شئ له.
ذكره القاضي لأن تصرفه فيه مع علمه بالعيب يدل على رضاه به أشبه مالو صرح بالرضا (قال شيخنا) وقياس المذهب أن له الأرش بكل حال، وقد روي عن أحمد فيما إذا باعه أو وهبه لانا خيرناه ابتداء بين رده وامساكه مع الأرش فبيعه والتصرف فيه بمنزلة إمساكه ولأن الأرش عوض الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط ببيعه، كما لو باعه عشرة أقفزة وسلم إليه تسعة فباعها المشتري، وقولهم إنه استدرك
ظلامته لا يصح فإن ظلامته من البائع ولم يستدركها منه، وإنما ظلم المشتري الثاني فلا يسقط حقه بذلك من الظالم له وهذا هو الصحيح من قول مالك، وذكر أبو الخطاب رواية أخرى فيمن باعه ليس له شئ إلا أن يرد عليه المبيع فيكون له حينئذ الرد أو الأرش لأنه إذا باعه فقد استدرك ظلامته، فعلى هذا إذا علم به المشتري الثاني فرده به أو أخذ أرشه منه فللأول أخذ أرشه وهو قول الشافعي إذا امتنع على المشتري الثاني رده بعيب حدث عنده لأنه لم يستدرك ظلامته، وكل واحد من المشتريين يرجع بحصة العيب من الثمن الذي اشتراه به على ما تقدم (فصل) وإذا ردها المشتري الثاني على الأول وكان الاول باعها عالما بالعيب أو وجد منه ما يدل على الرضى به فليس له رده لأن تصرفه رضى بالعيب، وإن لم يكن علم فله رده على بائعه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس له رده إلا أن يكون المشتري فسخ بحكم الحاكم لأنه سقط حقه من الرد ببيعه فأشبه مالو علم بعيبه.
ولنا أنه أمكنه استدراك ظلامته برده فملك ذلك كما لو فسخ الثاني بحكم حاكم أو كما لو لم يزل ملكه عنه ولا نسلم سقوط حقه، وإنما امتنع لعجزه عن رده فإذا عاد إليه زال المانع فظهر جواز الرد كما لو امتنع الرد لغيبة البائع أو لمعنى آخر، وسواء رجع إلى المشتري الأول بالعيب الاول أو بإقالة أو هبة أو شراء ثان أو ميراث في ظاهر كلام القاضي، وقال أصحاب الشافعي إن رجع بغير الفسخ بالعيب الاول ففيه وجهان (أحدهما) ليس له رده لأنه استدرك ظلامته ببيعه ولم يزل فسخه.
ولنا أن سبب استحقاق الرد قائم وإنما امتنع لتعذره بزوال ملكه فإذا زال المانع وجب(4/92)
أن يجوز الرد كما لو رد عليه بالعيب، فعلى هذا إذا باعها المشتري لبائعها الأول فوجد بها عيباً كان موجوداً حال العقد الأول فله الرد على البائع الثاني ثم للثاني رده عليه وفائدة الرد ههنا اختلاف الثمنين فإنه قد يكون الثمن الثاني أكثر (فصل) وإن استغل المشتري المبيع أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفاً دالاً على الرضى به قبل علمه بالعيب لم يسقط خياره لأن ذلك لا يدل على الرضى به معيباً، وإن فعله بعد علمه بعيبه بطل خياره في قول عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر كأن الحسن وشريح وعبيد الله بن الحسن وابن أبي ليلى
والثوري واسحاق وأصحاب الرأي يقولون إذا اشترى سلعة فعرضها على البيع بعد علمه بالعيب بطل خياره، وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً، فأما الأرش فقال ابن أبي موسى لا يستحقه أيضاً، وقد ذكرنا أن قياس المذهب استحقاق الأرش.
قال أحمد أنا أقول إذا استخدم العبد فأراد نقصان العيب فله ذلك، فأما ان احتلب اللبن الحادث بعد العقد لم يسقط رده لأن اللبن له فملك استيفاءه من المبيع الذي يريد رده، وكذلك إن ركب الدابة لينظر سيرها أو استخدم الأمة ليختبرها أو لبس القميص ليعرف قدره لم يسقط خياره لأن ذلك ليس برضا بالمبيع ولهذا لا يسقط به خيار الشرط وإن استخدمها لغير ذلك استخداماً كثيراً بطل رده، وإن كان يسيراً لا ينقص الملك لم يبطل الخيار، قيل لأحمد إن هؤلاء يقولون إذا اشترى عبداً فوجده معيباً فاستخدمه بأن يقول ناولني هذا الثوب بطل خياره فأنكر ذلك وقال من قال هذا أو قال من أين أخذوا هذا؟ ليس هذا برضا حتى يكون شئ يبين ويطول وقد نقل عنه في بطلان خيار الشرط بالاستخدام روايتان فكذلك يخرج ههنا (فصل) فإن أبق العبد ثم علم عيبه فله أخذ أرشه فإن أخذه ثم قدر على العبد فإن لم يكن معروفاً بالإباق قبل البيع فقد تعيب عند المشتري فهل يملك رده ورد أرش العيب الحادث عنده والأرش الذي أخذه على روايتين، وإن كان آبقاً فله رده ورد ما أخذه من الأرش وأخذ ثمنه، وقال الثوري والشافعي ليس للمشتري أخذ أرشه سواء قدر على رده أو عجز عنه إلا أن يهلك لأنه لم ييأس من رده فهو كما لو باعه، ولنا أنه معيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فيه فكان له أرشه كما لو أعتقه وفي البيع استدرك ظلامته بخلاف مسئلتنا.
(فصل إذا اشترى عبداً فأعتقه ثم علم به عيباً فأخذ أرشه فهو له.
وعنه رواية أخرى أنه يجعله في الرقاب وهو قول الشعبي لأنه من جملة الرقبة التي جعلها الله فلا يرجع إليه شئ من بدلها، ولنا أن العتق إنما صادف الرقبة المعينة والجزء الذي أخذ بدله ما تناوله عتق ولا كان موجوداً وليس الأرش بدلاً عن العبد إنما هو عن جزء من الثمن جعل مقابلاً للجزء الفائت فلما لم يحصل ذلك الجزء من المبيع رجع بقدره من الثمن لامن قيمة العبد، وكلام أحمد في الرواية الأخرى يحمل على استحباب ذلك لا على(4/93)
وجوبه.
قال القاضي إنما الروايتان فيما إذا أعتق عن كفارته لأنه إذا أعتقه عن الكفارة لا يجوز أن يرجع إليه شئ من بدله كالمكاتب إذ أدى بعض كتابته.
ولنا أنه أرش عبدا عتقه فهو كما لو تبرع بعتقه {مسألة} (وإن باع بعضه فله أرش الباقي وفي أرش المبيع الروايتان وقال الخرقي له رد ملكه منه بقسطه من الثمن أو أرش العيب بقدر ملكه فيه) إذا باع بعض المبيع ثم ظهر على عيب فله أرش الباقي لأنه كان له ذلك والأصل في كل ثابت بقاؤه وفي أرش المبيع ما ذكرنا من الخلاف فيما إذا باع الجميع فإن أراد رد الباقي بحصته من الثمن ففيه روايتان (إحداهما) له ذلك اختارها الخرقي لأنه مبيع رده ممكن أشبه ما لو كان الجميع باقياً (والأخرى) لا يجوز وهي الصحيحة إذا كان المبيع عيناً واحدة أو عينين ينقصهما التفريق لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة أو ضرر الشركة وامتناع الانتفاع بها على الكمال كوطئ الامة وليس الثوب، وبهذا قال شريح والشعبي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقد ذكر أصحابنا في غير هذا الموضع فيما إذا كان المبيع عينين ينقصهما التفريق أنه لا يجوز رد إحداهما وحدها لما فيه من الضرر، وفيما إذا اشترى معيباً وتعيب عنده أنه لا يملك رده إلا أن يرد أرش العيب الحادث عنده فكذلك لا يجوز أن يرده في مسئلتنا معيباً بعيب الشركة أو نقص القيمة بغير شئ.
وما ذكره الخرقي يحمل على ما إذا دلس البائع العيب على ما ذكرنا فيما مضى.
وإن كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق فهل له رد الباقية في ملكه؟ يخرج على الروايتين في تفريق للصفقة.
قال القاضي: المسألة مبنية على تفريق الصفقة سواء كان المبيع عيناً واحدة أو عينين، والتفصيل الذي ذكرناه أولى {مسألة} (وإن صبغه أو نسجه فله الارش ولارد له في أظهر الروايتين) فيما إذا صبغه وهو قول أبي حنيفة لأن فيه ضرراً على البائع وتشق المشاركة فلم تجز كما لو فصله وخاطه أو خلط المبيع بما لا يتميز منه، وعنه له الرد ويكون شريكاً للبائع بقيمة الصبغ والنسج لأنه رد المبيع بعينه أشبه مالو لم يصبغه ولم ينسجه، ومتى رده لزمت الشركة ضرورة، وعنه يرده ويأخذ زيادته بالصبغ كما لو قصره وهو بعيد لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة فلم يجز لقوله سبحانه (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وإن قال البائع أنا آخذه وأعطي قيمة الصبغ لم يلزم المشتري ذلك، وقال
الشافعي ليس للمشتري إلا رده لأنه أمكنه رده فلم يملك أخذ الأرش كما لو سمن عنده، ولنا أنه لا يمكنه رده إلا برد شئ من ماله معه فلم يسقط حق من الأرش بامتناعه من رده كما لو تعيب عنده فطلب البائع أخذه مع أخذ أرش العيب الحادث والأصل لا يسلمه فإنه يستحق أخذ الأرش إذا رده {مسألة} (وإن اشترى ما مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسداً فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن كله، وإن كان له مكسوراً قيمة كبيض النعام وجوز الهند فهو مخير بين أخذ أرشه وبين رده، وعنه ليس له رد ولا أرش في ذلك كله)(4/94)
إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره كالبيض والجوز والرمان والبطيخ فكسره فظهر عيبه ففيه روايتان (إحداهما) لا يرجع على البائع بشئ وهو مذهب مالك لأنه ليس من البائع تدليس ولا تفريط لعدم معرفته بعيبه وكونه لا يمكنه الوقوف عليه إلا بكسره فجرى مجرى البراءة من العيوب (والثانية) يرجع عليه وهي ظاهر المذهب وقول أبي حنيفة والشافعي لأن عقد البيع اقتضى السلامة من عيب ليطلع عليه المشتري فإذا بان معيباً ثبت له الخيار كالعبد ولأن البائع إنما يستحق ثمن المعيب دون الصحيح لأنه لم يملكه صحيحاً فلا معنى لإيجاب الثمن كله، وكونه لم يفرط لا يقتضي أن يجب له ثمن ما لم يسلمه بدليل العيب الذي لم يعلمه في العبد.
إذا ثبت هذا فإن المبيع إن كان مما لا قيمة له مكسوراً كبيض الدجاج الفاسد والرمان الأسود والجوز الخرب رجع بالثمن كله لأن هذا يبين به فساد العقد من أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه فهو كبيع الحشرات والميتات وليس عليه رد المبيع إلى البائع لأنه لا فائدة فيه، وإن كان الفاسد في بعضه رجع بقسطه (الثاني) أن يكون مما لعيبه قيمة كبيض النعام وجوز الهند والبطيخ الذي فيه نفع ونحوه فإذا كسره نظرت.
فإن كان كسراً لا يمكن استعلام المبيع بدونه فالمشتري مخير بين رده ورد أرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش عيبه.
هذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي عندي لا أرش عليه لكسره لأنه حصل بطريق استعلام العيب والبائع سلطه عليه حيث علم أنه لا يعلم صحته من فساده بغير ذلك، وهذا قول الشافعي.
ووجه قول الخرقي أنه نقص لم يمنع الرد فلزم رد أرشه كلبن المصراة إذا احتلبها والبكر إذا وطئها، وبها يبطل ما ذكره
بل ههنا أولى لأنه لا تدليس من البائع والتصرية تدليس، وإن كان كسراً يمكن استعلام المبيع بدونه إلا أنه لا يتلف المبيع بالكلية فالحكم فيه كالذي قبله عند الخرقي والقاضي والمشتري مخير بين رده وأرش الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش العيب، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية ليس له رده وله أرش العيب، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقد ذكرناه، وإن كسره كسراً لا يبقى له قيمة فله أرش العيب لا غير لأنه أتلفه.
وقدر أرش العيب قسط ما بين الصحيح والمعيب من الثمن فيقوم المبيع صحيحاً ثم يقوم معيباً غير مكسور فيكون للمشتري قدر ما بينهما من الثمن (فصل) ولو اشترى ثوباً فنشره فوجده معيباً فإن كان مما لا ينقصه النشر رده وإن كان ينقصه النشر كالهسجاني الذي يطوي طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جوز الهند على التفصيل المذكور فيما إذا لم يزد على ما يحصل به استعلام المبيع أو زاد كنشر من لا يعرف، وإن أراد أخذ أرشه فله ذلك بكل حال {مسألة} (ومن علم العيب وأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا من التصرف ونحوه) وهكذا ذكر أبو الخطاب لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على التراخي كخيار القصاص وعنه أنه على الفور وهو مذهب الشافعي، فمتى علم العيب وأخر الرد مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل(4/95)
على الرضى فأسقط خياره كالتصرف ولأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة والأول أولى، ولا نسلم أن الإمساك يدل على الرضى والشفعة تثبت لدفع ضرر غير متحقق بخلاف الرد بالعيب {مسألة} (ولا يفتقر الرد إلى رضى ولا قضاء ولا حضور صاحبه قبل القبض ولا بعده) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان قبل القبض افتقر إلى حضور صاحبه دون رضاه، وإن كان بعده افتقر إلى رضا صاحبه أو حكم حاكم لأن ملكه قد تم على الثمن فلا يزول إلا رضاه ولنا أنه رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا حضوره كالطلاق ولأنه مستحق الرد بالعيب فلم يفتقر إلى رضا صاحبه كقبل القبض {مسألة} (فإن اشترى اثنان شيئاً وشرطا الخيار أو وجداه معيباً فرضي أحدهما فللآخر الفسخ في نصيبه، وعنه ليس له ذلك)
نقل عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان حكاهما أبو بكر وابن أبي موسى (إحداهما) لمن لم يرض الفسخ، وبه قال ابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف ومحمد، وإحدى الروايتين عن مالك والأخرى لا يجوز له رد مشترك رده ناقصاً أشبه مالو تعيب عنده.
ولنا أنه رد جميع ما ملكه بالعقد فجاز كما لو انفرد بشرائه، والشركة إنما حصلت بإيجاب البائع وإنما باع كل واحد منهما نصفها فخرجت عن ملك البائع مشقصة بخلاف العيب الحادث (فصل) وإن ورث اثنان خيار عيب فرضي أحدهما سقط حق الآخر من الرد لأنه لو رد وحده شقصت السلعة على البائع فتضرر بذلك وإنما أخرجها من ملكه إلى واحد غير مشقصة فلا يجوز رد بعضها إليه مشقصاً بخلاف المسألة التي قبلها، فإن عقد الواحد مع الاثنين عقدين فكأنه باع كل واحد منهما نصفها منفرداً فرد عليه أحدهما جميعا ما باعه إياه وههنا بخلافه (فصل) ولو اشترى رجل من رجلين شيئاً فوجده معيباً فله رده عليهما فإن كان أحدهما غائباً رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في يده حتى يقدم، ولو كان أحدهما باع العين كلها بوكالة الآخر فالحكم كذلك سواء كان الحاضر الوكيل أو الموكل.
نص أحمد على نحو من هذا، وإن أراد رد نصيب أحدهما وإمساك نصيب الآخر جاز لأنه يرد على البائع جميع ما باعه ولم يحصل برده تشقيص لأنه كان مشقصاً قبل البيع (فصل) وإن اشترى حلي فضة بوزنه دراهم فوجده معيباً فله رده وليس له أخذ الارش لا فضائه إلى التفاضل فيما يجب فيه التماثل، فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين يرده ويرد أرش العيب الحادث عنده وبأخذ ثمنه، وقال القاضي ليس له رده لا فضائه إلى التفاضل ولا يصح لأن الرد فسخ للعقد ورفع له فلا تبقى المعاوضة وإنما يدفع الأرش عوضاً عن العيب الحادث عنده(4/96)
بمنزلة ما لو خفي عليه في ملك صاحبه من غير بيع وكما لو فسخ الحاكم عليه، وعلى الرواية الأخرى يفسخ الحاكم البيع ويرد البائع الثمن ويطالب بقيمة الحلي لأنه لم يمكن إهمال العيب ولا أخذ الأرش.
ولأصحاب الشافعي وجهان كهاتين الروايتين وإن تلف الحلي فسخ العقد، ويرد قيمته ويسترجع الثمن
فإن تلف المبيع لا يمنع جواز الفسخ، واختار شيخنا أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش نقصه كما قلنا فيما إذا فسخ المشتري على إحدى الروايتين وإنما يرجع إلى قيمته عند تعذره بتلف أو عجز عن رده أما مع بقائه وإمكان رده فيجب رده دون بدله كسائر المبيع إذا انفسخ العقد فيه وليس في رده ورد أرشه تفاضل لأن المعاوضة قد زالت بالفسخ ولم يبق له مقابل، وإنما هذا الأرش بمنزلة الجناية عليه ولأن قيمته إذا زادت على وزنه أو نقصت عنه أفضى إلى التفاضل لأن قيمته عوض عنه فلا يجوز ذلك إلا أن يأخذ القيمة من غير الجنس.
ولو باع قفيزاً مما فيه الربا بمثله فوجد أحدهما بما أخذه عيباً ينقص قيمته دون كله لم يملك أخذ أرشه لئلا يفضي إلى التفاضل والحكم فيه على ما ذكرنا في الحكم بالدراهم {مسألة} (وإن اشترى واحد معيبين صفقة واحدة ليس له إلا ردهما أو إمساكهما والمطالبة بالأرش) قاله القاضي، وعنه له رد أحدهما بقسطه من الثمن كما لو كان أحدهما معيب والآخر صحيحاً لأن المانع من الرد إنما هو تشقيص المبيع على البائع وهو موجود فيما إذا كان أحدهما صحيحاً، فإن تلف أحدهما فله رد الباقي بقسطه من الثمن في إحدى الروايتين، هذا قول الحادث العكلي والاوزاعي واسحاق وقول أبي حنيفة فيما بعد القبض لأنه رد المعيب على وجه لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لورد الجميع (والثانية) ليس له إلا أخذ الأرش مع إمساك الباقي منهما وهو ظاهر قول الشافعي وقول أبي حنيفة فيما قبل القبض لأن في الرد تبعيض الصفقة على البائع وذلك ضرر أشبه إذا كانا مما ينقصه التفريق، والقول في قيمة التالف قول المشتري مع يمينه لأنه منكر لما يدعيه البائع من زيادة قيمته ولأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا زادت قدر ما يغرمه فهو بمنزلة المستعير والغاصب {مسألة} (وإن كان أحدهما معيباً فله رده بقسطه من الثمن وعنه ليس له إلا ردهما أو إمساكهما) ووجه الروايتين ما ذكرنا فيما إذا تلف أحدهما وفيه من التفصيل والخلاف ما ذكرنا {مسألة} (فإن كان المبيع مما ينقصه التفريق كمصراعي باب أو زوجي خف أو من لا يجوز التفريق بينهما كجارية وولدها فليس له رد أحدهما) لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة وسوء المشاركة ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " رواه الترمذي وفي ذلك اختلاف ذكرنا فيما مضى وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله تعالى(4/97)
{مسألة} (وإن اختلفا في العيب هل كان عند البائع أو حدث عند المشتري ففي أيهما يقبل قوله؟ روايتان إلا أن لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله بغير يمين) اذا اختلف المتبايعان في العيب هل كان في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري، فإن كان لا يحتمل الاقول أحدهما كالاصبع الزائدة والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها والجرح الطارئ الذي لا يمكن كونه قديماً فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأنا نعلم صدقة فلا حاجة الى استحلافه وإن احتمل قول كل واحد منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان (إحداهما) القول قول المشتري فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار اختارها الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله من الثمن ولزوم العقد في حقه فكان القول قول من ينفي ذلك كما لو اختلفا في قبض المبيع (والثانية) القول قول البائع مع يمينه فيحلف على حسب جوابه إن أجاب أنه باعه بريئاً من العيب حلف على ذلك، وإن أجاب أنه لا يستحق ما يدعيه من الرد حلف على ذلك.
ويمينه على البت لأن الإيمان كلها على البت إلا ما كان على النفي في فعل الغير وعنه أنها على نفي العلم فيحلف أنه ما يعلم به عيباً حال البيع ذكرها ابن أبي موسى والرواية الثانية مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد ولأن المشتري يدعي عليه استحقاق فسخ البيع والبائع ينكره والقول قول المنكر (فصل) وإذا باع الوكيل ثم ظهر المشتري على عيب كان بالمبيع فله رده على الموكل لأن المبيع يرد بالعيب على من كان له، فان كان العيب مما يمكن حدوثه فأقربه الوكيل وأنكره الموكل فقال أبو الخطاب يقبل إقراره على موكله بالعيب لأنه أمر يستحق به الرد فقبل إقراره به على موكله كخيار الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي لا يقبل إقرار الوكيل بذلك، قال شيخنا وهو أصح لأنه اقرار على الغير فلم يقبل كالأجنبي، وفارق خيار الشرط من حيث إن الموكل يعلم صفة سلعته ولا يعلم صفة العقد لغيبته عنه، فعلى هذا إذا رده المشتري على الوكيل لم يملك الوكيل رده على الموكل لأن رده كإقراره وهو غير مقبول على غيره ذكره القاضي، فان أنكره الوكيل فتوجهت اليمين عليه
فنكل عنها فرد عليه بنكوله فهل له رده على الموكل على وجهين (أحدهما) ليس له رده لأن ذلك يجري مجرى إقراره (والثاني) له رده لأنه رجع إليه بغير رضاه أشبه مالو قامت به بينة (فصل) ولو اشترى جارية على أنها بكرا فقال المشتري هي ثيب أو النساء الثقات ويقبل قول واحدة، فإن وطئها المشتري وقال ما وجدتها بكراً خرج فيه وجهان بناء على الاختلاف في العيب الحادث(4/98)
(فصل) فإن رد المشتري السلعة بعيب فأنكر البائع أنها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال للصيرفي هذا درهمي يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتك ويبرأ لأن البائع منكر كون هذه سلعته ومنكر استحقاق الفسخ والقول قول المنكر، فأما إن جاء ليرد السلعة بخيار فأنكر البائع أنها سلعته فحكى ابن المنذر عن أحمد أن القول قول المشتري وهو قول الثوري واسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا على استحقاق فسخ العقد والرد بالعيب بخلافه {مسألة} (ومن باع عبداً يلزمه عقوبة من قصاص أو غيره ويعلم المشتري ذلك فلا شئ له) لأنه رضي به معيباً أشبه سائر المعيبات وهذا قول الشافعي، وإن علم بعد البيع فله الرد أو الأرش على أصلنا كغيره من العيوب {مسألة} (فإن لم يعلم حتى قتل فله الأرش لتعذر الرد) وهو قسط ما بين قيمته جانياً وغير جان، ولا يبطل البيع من أصله وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وقال أبو حنيفة والشافعي يرجع بجميع الثمن لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع فجرى مجرى إتلافه إياه، ولنا أنه تلف عند المشتري بالعيب الذي كان فيه فلم يوجب الرجوع بجميع الثمن كما لو كان مريضاً فمات بدائه أو مرتداً فقتل بردته وبهذا ينتقض ما ذكروه ولا يصح قياسهم على إتلافه لأنه لم يتلفه فلم يشتركا في المقتضي، وإن كانت الجناية موجبة للقطع فقطعت يده عند المشتري فقد تعيب عنده لأن استحقاق القطع دون حقيقته فهل يمنع ذلك رده بعيبه؟ على روايتين {مسألة} (وإن كانت الجناية موجبة للمال والسيد معسر قدم حق المجني عليه، وللمشتري الخيار
إذا لم يكن عالماً، فإن كان السيد موسراً تعلق الأرش بذمته والبيع لازم) إذا كانت الجناية موجبة للمال أو للقود فعفي عنه الى مال فعلى السيد فداؤه ويزول الحق عن رقبة العبد ببيعه لأن للسيد الخيرة بين تسليمه وفدائه.
فإذا باعه تعين عليه فداؤه لإخراج العبد عن ملكه ولاخيار للمشتري لعدم الضرر عليه إذ الرجوع على غيره هذا إذا كان السيد موسراً وقال بعض أصحاب الشافعي لا يلزم السيد فداؤه لأن أكثر ما فيه أنه التزم فداءه ولا يلزمه كما لو قال الراهن أنا أقضي الدين من الرهن ولنا أنه أزال ملكه عن الجاني فلزمه فداؤه كما لو أتلفه وبهذا قال أبو حنيفة، وإن كان البائع معسراً لم يسقط حق المجني عليه من رقبة الجاني لأن المالك إنما يملك نقل حقه عن رقبته بفدائه أو ما يقوم مقامه ولا يحصل ذلك من ذمة المعسر فيبقى الحق في رقبته بحاله مقدماً على حق المشتري وللمشتري خيار الفسخ إن لم يكن عالماً فإن فسخ رجع بالثمن وإن لم يفسخ وكانت الجناية مستوعبة لرقبة العبد فأخذ(4/99)
بها رجع المشتري بالثمن أيضاً لأن أرش مثل هذا جميع ثمنه وإن لم تكن مستوعبة رجع بقدر أرشه وإن كان عالماً بعيبه راضياً بتعلق الحق به لم يرجع بشئ لأنه اشترى معيباً عالما بعيبه فإن اختار المشتري فداءه فله ذلك والبيع بحاله لأنه يقوم مقام البائع بين تسليمه وفدائه، وحكمه في الرجوع بما فداه به على البائع حكم قضاء الدين عنه على ما نذكره في موضعه.
{فصل} قال رضي الله عنه (السادس خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والموضعة ولابد في جميعها من معرفة المشتري برأس المال) هذه أنواع من أنواع البيع وأنا اختصت بأسماء كاختصاص السلم ويثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة في الثمن أو نحو ذلك فيثبت للمشتري الخيار كما لو أخبره بأنه كاتب أو صانع فاشتراه بثمن فبان بخلافه ولا بد في جميع هذه الأنواع من معرفة المشتري برأس المال لأن معرفة الثمن متوقفة على العلم به والعلم بالثمن شرط فمتى فات لم يصلح البيع لفوات شرطه {مسألة} (ومعنى التولية البيع برأس المال فيقول وليتكه أو بعتك برأس ماله أو بما اشتريته أو برقمه) قال أحمد رحمه الله لا بأس ببيع الرقم والرقم هو الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوماً لهما حال العقد وهذا قول عامة العلماء وكره طاوس بيع الرقم، ولنا أنه بيع بثمن معلوم فأشبه ما لو ذكر مقداره
أو إذا قال بعتك هذا بما اشتريته وقد علماه فإن لم يعلم فالبيع باطل لجهالة الثمن {مسألة} (والشركة بيع بعضه بقسطه من الثمن ويصح بقوله شركتك في نصفه أو ثلثه) إذا اشترى شيئاً فقال له رجل أشركني في نصفه بنصف الثمن فقال له أشركتك صح وصار شركا بينهما إذا كان الثمن معلوماً لهما، ولو قال أشركني فيه أو قال الشركة فقال شركتك أو قال ولني ما اشتريت ولم يذكر الثمن فقال وليتك صح إذا كان الثمن معلوماً لأن الشركة تقتضي ابتياع جزء منه بقسطه من الثمن على ما ذكر والتولية ابتياعه بمثل الثمن فإذا ذكر اسمه انصرف إليه كما إذا قال أقلني فقال أقلتك، وفي حديث عن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل ذكره البخاري، ولو اشترى شيئاً فقال له رجل أشركني فشركه انصرف إلى النصف لأنها تنصرف إلى التسوية بإطلاقها، فإن اشترى إثنان عبداً فقال لهما رجل أشركاني فيه فقالا شركناك احتمل أن يكون لهما النصف لأن اشراكهما لو كان من كل واحد منهما منفرداً لكان له النصف فكذلك حال الاجتماع، ويحتمل أن يكون له الثلث لأن الاشتراك يفيد التساوي ولا يحصل التساوي إلا بجعله بينهم أثلاثاً وهذا أصح لأن إشراك الواحد إنما اقتضى النصف لحصول التسوية به وإن شركه كل واحد منهما منفرداً كان له النصف ولكل(4/100)
واحد منهما الربع، وإن قال أشركاني فيه فشركه أحدهما فعلى الوجه الأول يكون له نصف حصة الذي شركه وهو الربع وعلى الآخر له السدس لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما ليكون مساوياً لهما فإذا أجابه أحدهما ثبت له الملك فيما طلب منه وإن قال له أحدهما أشركناك انبنى على تصرف الفضولي.
فإن قلنا يقف على الإجازة فأجازه فهل يثبت له الملك في نصفه أو ثلثه على الوجهين، ولو قال لاحدهما أشكرني في نصف هذا العبد فإن قلنا يقف على الإجازة من صاحبه فأجازه فله نصف العبد ولهما نصفه وإلا فله نصف حصة الذي شركه، فإن اشترى عبداً فلقيه رجل فقال أشركني في هذا العبد فقال قد شركتك فله نصفه فإن لقيه آخر فقال أشركني في هذا
العبد وكان عالماً بشركه الأول فله ربع العبد وهو نصف حصة الذي شركه لأن طلبه للشركة رجع إلى ما ملكه المشارك وهو النصف فكان بينهما، وإن لم يعلم بشركه الأول فهو طالب نصف العبد لاعتقاده أن جميع العبد لمن طلب منه المشاركة، فإذا قال له شركتك احتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن يصير له نصف العبد ولا يبقى للذي شركه شئ لأنه طلب منه نصف العبد فأجابه إليه فصار كأنه قال بعني نصف هذا العبد فقال بعتك، وهذا قول القاضي (الثاني) أن ينصرف قوله شركتك فيه إلى نصف نصيبه ونصف نصيب شريكه فيمتد في نصف نصيبه ويقف الزائد على إجازة صاحبه على إحدى الروايتين لأن لفظ الشركة يقتضي بعض نصيبه ومساواة المشتري له فلو باع جميع نصيبه لم يكن له شركة لأنه لا يتحقق فيه ما طلب منه (الثالث) لا يكون للثاني إلا الربع بكل حال لأن الشركة إنما تثبت بقول البائع شركتك لأن ذلك هو الإيجاب الناقل للملك وهو عالم أنه ليس له إلا نصف العبد فينصرف إيجابه إلى نصف ملكه، وعلى هذين الوجهين لطالب الشركة الخيار لأنه إنما طلب النصف فلم يحصل له جميعه إلا أن نقول بوقوفه على الإجازة في الوجه الثاني فيخير الآخر، ويحتمل أن لا تصح الشركة أصلا لأنه طلب شراء النصف فاجيب في الربع فصار بمنزلة مالو قال بعني نصف هذا العبد بعتك ربعه.
(فصل) ولو اشترى قفيزاً من الطعام فقبض نصفه فقال له رجل بعني نصف هذا القفيز فباعه انصرف إلى النصف المقبوض لأن البيع ينصرف إلى ما يجوز له بيعه وهو المقبوض وإن أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن ففعل لم تصح الشركة إلا فيما قبض منه فيكون النصف المقبوض بينهما لكل واحد منهما ربعه بربع الثمن لأن الشركة تقتضي التسوية هكذا ذكر القاضي، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله أن الشركة تنصرف إلى النصف كله فيكون بائعاً لما يصح بيعه وما لا يصح فيصح في نصف المقبوض في أصح الوجهين ولا يصح فيما لم يقبض كما في تفريق الصفقة.(4/101)
{مسألة} (والمرابحة أن يبيعه بربح فيقول رأس مالي فيه مائة بعتكه بها وربح عشرة) فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا نعلم احدا كرهه وإن قال على أن أربح في كل عشرة درهماً
أو قال ده يازدة أو دوازده.
فقد كرهه أحمد ورويت فيه الكراهة عن ابن عمر وابن عباس والحسن ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار، وقال إسحاق لا يجوز لأن الثمن مجهول حال العقد فلم يجز كما لو باعه بما يخرج به في الحساب، ورخص فيه سعد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رأس المال معلوم والربح معلوم أشبه ما إذا قال وربح عشرة دراهم ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم يعلم لهما في الصحابة مخالف ولأن فيه نوعاً من الجهالة فالتحرز عنها أولى وهذه كراهة تنزيه والبيع صحيح والجهالة يمكن إزالتها بالحساب فلم تضر كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم أما مايخرج به الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل {مسألة} (والمواضعة أن يقول بعتكه بها ووضيعة درهم من كل عشرة فيلزم المشتري تسعون درهما) المواضعة أن يخبر برأس ماله ويقول بعتك هذا به وأضع لك عشرة فيصح من غير كراهة، وإن قال بوضيعة درهم من كل عشرة كره لما ذكرنا في المرابحة وصح فإذا كان رأس ماله مائة لزمه تسعون ويكون الحط عشرة، وقال قوم يكون الحط درهماً من كل أحد عشر فيكون ذلك تسعة دراهم وجزأ من أحد عشر جزأ من درهم ويبقى تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزأ من درهم، وهذا غلط لأن هذا يكون حطاً من كل أحد عشر وهو غير ماقاله، فأما إن قال بوضعية درهم لك عشرة كانت الوضيعة من كل أحد عشر درهماً درهم ويكون الباقي تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزأ من درهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن أبي ثور أنه قال الحط ههنا عشرة مثل الأولى ولا يصح فإنه إذا قال لكل عشرة درهم يكون الدرهم من غيرها فكأنه قال من كل أحد عشر درهماً درهم، وإذا قال من كل عشرة درهما كان الدرهم من العدة، ولأن من للتبعيض فكأنه قال آخذ من العشرة تسعة وأحط منها درهما (فصل) فإن باعه السلعة مرابحة مثل أن يخبره أن ثمنها مائة ويربح عشرة ثم علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع الصحة كالعيب وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في الثمن وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهماً، وبهذا قال الثوري وابن أبي ليلى وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة يخير بين الأخذ بكل الثمن
أو يترك قياساً على المبيع.
ولنا انه باعه برأس ماله وما قدره من الربح فإذا بان رأس ماله قدراً كان مبيعاً به وبالزيادة التي(4/102)
اتفقا عليها والمعيب كذلك عندنا فإن له أخذ الأرش ثم الفرق بينهما أن المسيب لم يرض إلا بالثمن المذكور وههنا رضي فيه برأس المال والربح المقدر، وهل للمشتري الخيار؟ فالمنصوص عن أحمد أن المشتري مخير بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح وبين تركه نقل ذلك حنبل وهو قول للشافعي لأن المشتري لا يأمن الخيانة في هذا الثمن أيضاً، ولأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن لكونه خالفا أو وكيلاً أو غير ذلك فظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له وحكي قولا للشافعي لأنه رضيه بمائة وعشرة فإذا حصل له بدون ذلك فقد زاده خيراً فلم يثبت له الخيار كما لو اشتراه على أنه معيب فبان صحيحاً أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه بتسعين، وأما البائع فلا خيار له لأنه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد حصل له ذلك.
(فصل) وإن قال في المرابحة رأس مالي فيه مائة وأربح عشرة ثم قال غلطت رأس مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ماقاله ثانياً ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحاق وروى أبو طالب عن احمد إذا كان البائع معروفاً بالصدق قبل قوله وإن لم يكن صدوقاً جاز البيع، قال القاضي وظاهر كلام الخرقي أن القول قول البائع مع يمينه لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب، والصحيح الأول وكون البائع مؤتمناً لا يوجب قبول دعواه في الخلط كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال غلطت، وعن أحمد رواية ثالثة أنه لا يقبل قول البائع وإن أقام بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الثوري والشافعي لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه وإن أقام بينة لإقراره بكذبها ولنا أنها بينة عادلة شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل كسائر البينات ولا نسلم أنه أقر بخلافها فإن الإقرار يكون لغير المقر وحالة اخباره بثمنها لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقراراً، فإن لم يكن له بينة أو كانت له بينة وقلنا لا تقبل فادعى أن المشتري يعلم غلطه فأنكر المشتري فالقول قوله، فإن طلب
بيمينه فقال القاضي لا يمين عليه لأنه مدع واليمين على المدعى عليه، ولأنه قد أقر فيستغني بالإقرار عن اليمين، والصحيح أن عليه اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنه ادعى ما يلزمه رد السعلة أو زيادة في ثمنها فلزمه اليمين كموضع الوفاق وليس هو ههنا مدع إنما هو مدعى عليه العلم بمقدار الثمن الأول، وإن قلنا يقبل قول البائع أو قامت له بينة بما ادعاه وقلنا تقبل بينته فللمشتري أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر ذكره الخرقي فإنه لو باعها بدون ثمنها عالماً لزمه البيع بما عقد عليه لكونه تعاطى سببه عالماً فلزمه كمشتري المعيب عالماً بعيبه، وإذا كان البيع يلزمه بالعلم فادعى عليه لزمته اليمين فإن نكل قضي عليه بالنكول، وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحطها من الربح وبين(4/103)
فسخ العقد (قال شيخنا) ويحتمل أنه إذا قال بعتك بمائة وربح عشرة ثم تبين أنه غلط بعشرة أنه لا يلزمه حط العشرة من الربح لأن البائع رضي بربح عشرة في هذا المبيع فلا يكون له أكثر منها، وكذلك إن تبين أنه زاد في رأس المال لا ينقص الربح من عشرة لأن البائع لم يبعه إلا بربح عشرة، فأما إن قال وأربح في كل عشرة درهماً فإنه يلزمه حط العشرة من الربح في الصورتين وإنما أثبتنا للمشتري الخيار لأنه دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر كان عليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب، وإن اختار أحدهما بمائة واحد وعشرين لم يكن للبائع خيار لأنه قد زاده خيراً فلم يكن له خيار كبائع المعيب إذا رضيه المشتري، وإن اختار البائع إسقاط الزيادة عن المشتري فلا خيار له أيضاً لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد ورضيا به {مسألة} (ومتى اشتراه بثمن مؤجل أو ممن لا تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن فلم يبين ذلك للمشتري في تخييره بالثمن فللمشتري الخيار بين الإمساك والرد) إذا اشتراه بثمن مؤجل لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره فان لم يفعل لم يفسد البيع وللمشتري الخيار بين أخذه بالثمن الذي وقع عليه حالاً وبين الفسخ في إحدى الروايتين وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن البائع لم يرض بذمة المشتري وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزم الرضى بذلك وحكى ابن المنذر عن أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلاً لأنه الثمن
الذي اشترى به البائع والتأجيل صفة له فهو كما لو أخبره بزيادة في الثمن وإن كان قد استهلك حبس الثمن بقدر الأجل وهذا قول شريح (فصل) وإن اشتراه بدنانير فأخبر أنه اشتراه بدراهم أو بالعكس أو اشتراه بعوض فأخبر أنه اشتراه بثمن أو بالعكس واشباه ذلك فللمشتري الخيار بين الفسخ وبين الرضى به بالثمن الذي تبايعا به كسائر المواضع التي يثبت فيها ذلك.
(فصل) وإن اشتراه ممن لاتقبل شهادته له كأبيه وابنه لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين ذلك وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد يجوز وإن لم يبين لأنه اشتراه بعقد صحيح وأخبر بثمنه فأشبه مالو اشتراه من أجنبي.
ولنا أنه متهم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم فلم يجز أن يخبر بما اشترى منهم مطلقاً كما لو اشترى من مكاتبه فانه يجب عليه أن يبين أمره لا نعلم فيه خلافا وبه يبطل قياسهم (فصل) وإن اشتراه بأكثر من ثمنه حيلة مثل أن يشتريه من غلام دكانه الحر أو غيره على وجه الحيلة لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره لأن ذلك تدليس وحرام على ما بيناه، وإن لم يكن حيله(4/104)
فقال القاضي إذا باع غلام دكانه سلعة ثم اشتراها منه بأكثر من ذلك لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره لأنه يتهم في حقه فهو كمن لا تقبل شهادته له والصحيح إن شاء الله أن ذلك يجوز لأنه أجنبي فأشبه غيره (فصل) إذا اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة أو اشترى اثنان شيئا فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذي أداه فيه فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالاجزاء كالثياب ونحوها لم يجز حتى يبين الحال على وجهه نص عليه وهذا مذهب الثوري واسحاق وأصحاب الرأي، وقال الشافعي يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته كما لو كان المبيع شقصاً وشفعاً فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته من الثمن، وذكر ابن أبي موسى فيما إذا اشتراه اثنان فتقاسماه رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لأن ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به.
ولنا ان قسمة الثمن على المبيع طريقه الظن واحتمال الخطأ فيه
كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز فيه هذا وصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه، وأما الشفيع فلنا فيه منع وإن سلم فإن ما أخذه الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه لكونه لا طريق له سوى التقويم ولأنه لو لم يأخذه به لا تخذه الناس طريقاً إلى إسقاط الشفعة فيؤدي إلى تقويتها وهاهنا يمكن الاخبار بالحال وبيعه مساومة ولا تدعوا الحاجة إليه فإن باعه ولم يبين فللمشتري الخيار بين الامساك والرد كالمسائل المذكورة وإن كان من المتماثلات التي ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالبر والشعير المتساوي جاز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن لا نعلم فيه خلافا لان ثمن ذلك الجزء معلوم يقيناً ولذلك جاز بيع قفيز من الصبرة.
وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة فأخذهما على الصفة فله بيع أحدهما مرابحة بحصته من الثمن على قياس ذلك لأن الثمن ينقسم عليهما نصفين لا باعتبار القيمة، ولذلك لو أقال في أحدهما أو تعذر تسليمه كان له نصف الثمن من غير اعتبار قيمة المأخوذ منهما فكأنه أخذ كل واحد منهما منفرداً وإن حصل في أحدهما زيادة على الصفة جرت مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكر إن شاء الله {مسألة} (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار أو يؤخذ أرشاً للعيب أو جناية عليه يلحق برأس المال ويخبر به) وجملة ذلك إن البائع إذا أراد الاخبار بثمن السلعة وكانت بحالها لم تتغير أخبر بثمنها، فإن تغير سعر السلعة بأن حط البائع بعض الثمن عن المشتري أو اشتراه في مدة الخيار لحق بالعقد واخبر به في الثمن، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، وأن تغير سعر السلعة وهي(4/105)
بحالها فإن غلت لم يلزمه الإخبار بذلك لأنه زيادة فيها، وإن رخصت فكذلك نص عليه أحمد لأنه صادق بدون الإخبار بذلك، ويحتمل أن يلزمه الأخبار بالحال، فإن المشتري لو علم بذلك لم يرضها بذلك الثمن فكتمانه تغرير به فإن أخبره بدون ثمنها ولم يبين الحال لم يجز لأنه كذبه، فأما ما يؤخذ أرشاً للعيب أو جناية عليه فذكر القاضي أنه يخبر به على وجهه، وقال أبو الخطاب يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي وهو الذي ذكره شيخنا في هذا الكتاب لأن أرش العيب عوض عما فات
به فكان ثمن الموجود ما بقي، وفي أرش الجناية وجهان (أحدهما) يحط من الثمن كأرش العيب وهو الأولى (والثاني) لا يحطه كالنماء، وقال الشافعي يحطهما من الثمن ويقول: تقوم علي بكذا.
لأنه صادق فيما أخبر به أشبه مالو أخبره بالحال على وجهه ولنا أن الإخبار بالحال أبلغ في الصدق وأقرب إلى البيان وبقي التغيير والتدليس فلزمه ذلك كما يلزمه بيان العيب وقياس أرش الجناية على النماء والكسب لا يصح لأن أرش الجناية عوض نقصه الحاصل بالجناية عليه فهو بمنزلة ثمن جزء منه باعه أو كقيمة أحد الثوبين إذا تلف أحدهما، والنماء زيادة لم ينقص بها المبيع ولا هي عوض عن شئ منه {مسألة} (وإن جنى ففداه المشتري أو زيد في الثمن أو حط منه بعد لزومه لم يلحق به) أما إذا جنى ففداه المشتري، فإنه لا يلحق بالثمن ولا يخبر به في المرابحة بغير خلاف علمناه لأن هذا لم يزد به المبيع قيمة ولا ذاتاً وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية والعيب الحاصل بتعلقها برقبته فأشبهت الدواء المزيل لمرضه الحادث عند المشتري، فأما الأدوية والمؤنة والكسوة وعمله في السلعة بنفسه أو عمل غيره له بغير أجرة فإنه لا يخبر بذلك في الثمن وجها واحدا، وان أخبر بالحال على وجهه فحسن وكذلك ما زيد في الثمن أو حط منه بعد لزوم العقد لا يخبر به، ويخبر بالثمن الأول لأن ذلك هبة من أحدهما للآخر فلا يكون عوضاً وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يلحق بالعقد ويخبر به في المرابحة لانه بسبب العقد {مسألة} (وإن اشترى ثوباً بعشرة وقصره بعشرة أخبر بذلك على وجهه، فإن قال تحصل علي بعشرين فهل يجوز ذلك؟ على وجهين، وإن عمل فيه بنفسه عملا يساوي عشرة لم يجز ذلك وجهاً واحداً) وجملة ذلك أن من أراد البيع مرابحة والسلعة بحالها أخبر بثمنها.
وإن تغيرت فهو على ضربين (أحدهما) أن تتغير بزيادة وذلك نوعان (أحدهما) أن تزيد لنمائها كالسمن وتعلم صنعة أو يحدث منها نماء منفصل كالولد والثمرة والكسب فهذا إذا أراد بيعها مرابحة اخبر الثمن من غير زيادة لأنه الذي ابتاعها به، وإن أخذ النماء المنفصل أو استخدم الأمة أو وطئ الثيب أخبر برأس المال ولم يجب تبيين الحال، وروى ابن المنذر عن أحمد أنه يبين ذلك كله وهو قول إسحاق، وقال أصحاب الرأي(4/106)
في الغلة يأخذها لا بأس ان يبيع مرابحة، وفي الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين لأنه موجب العقد ولنا أنه صادق فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري فجاز كما لو لم يزد، ولأن الولد والثمرة نماء منفصل، فلم يمنع من بيع المرابحة كالغلة (النوع الثاني) أن يعمل فيها عملا مثل أن يقصرها أو يرفوها أو يخيطها أو يحملها فمتى أراد بيعها مرابحة أخبر بالحال على وجهه سواء عمل ذلك بنفسه أو استأجر من عمله هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال: يبين ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز أن يقول تحصلت علي بكذا وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وطاوس والنخعي والاوزاعي وابو ثور، وفيه وجه آخر أنه يجوز فيما استأجر عليه أن يضم الأجرة إلى الثمن ويقول.
تحصلت علي بكذا لأنه صادق، وبه قال الشعبي والحكم والشافعي.
ولنا أنه تغرير بالمشتري فإنه عسى أنه لو علم أن بعض ما تحصلت به لأجل الصناعة لم يرغب فيها لعدم رغبته في ذلك فأشبه ما ينفق على الحيوان في مؤنته وكسوته، وعلى المتاع في خزنه (الضرب الثاني) أن يتغير بنقص كالمرض والجناية عليه أو تلف بعضه أو الولادة أو أن يتعيب أو يأخذ المشتري بعضه كالصوف واللبن ونحوه فإنه يخبر بالحال ولا نعلم فيه خلافاً {مسألة} (وإن اشتراه بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر بذلك على وجهه وإن قال اشتريته بعشرة جاز وقال أصحابنا يحط الربح من الثمن الثاني ويخبر أنه اشتراه بخمسة) المستحب في هذه المسألة وأمثالها أو يخبر بالحال على وجهه لأن فيه خروجاً من الخلاف وهو أبعد من التغرير بالمشتري، فإن أخبر أنه اشتراه بعشرة ولم يبين جاز وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد لأنه صادق فيما أخبر به وليس فيه تهمة فأشبه مالو لم يربح، وروي عن ابن سرين أنه يطرح الربح من الثمن الثاني ويخبر أن رأس ماله عليه خمسة، وأعجب أحمد قول ابن سيرين قال فإن باعه على ما اشتراه يبين أمره يعني أنه ربح مرة ثم اشتراه وهذا من أحمد على الاستحباب لما ذكرناه، ولأنه الثمن الذي حصل به الملك الثاني أشبه مالو خسر فيه، وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعه مرابحة إلا أن يبين أمره أو يخبر أن رأس ماله عليه خمسة وهو قول القاضي وأصحابه لأن المرابحة تضمن فيها العقود فيخبر بما تقوم عليه كما تضم أجرة الخياط والقصاب، وقد استفاد بهذا العقد الثاني تقرير الربح في العقد الأول لأنه أمن أن يرد عليه، فعلى هذا ينبغي إذا طرح الربح من الثمن الثاني أن يقول تقوم علي
بخمسة ولا يقول اشتريته بخمسة لأنه كذب وهو حرام فيصير كما لو ضم أجرة القصارة ونحوها إلى الثمن وأخبر به.
ولنا ما ذكرناه، وما ذكروه من ضم القصارة والخياطة فشئ بنوه على أصولهم لا نسلمه ثم لا يشبه هذا ما ذكروه لأن المؤنة لزمته في هذا البيع الذي يلي المرابحة وهذا الربح في عقد آخر قبل هذا الشراء فأشبه الخسارة فيه، وأما تقويم الربح فغير صحيح فإن العقد الأول قد لزم ولم يظهر(4/107)
العيب ولم يتعلق به حكمه، وقد ذكرنا في مثل هذه المسألة أن للمشتري أن يرده على البائع إذا ظهر على عيب قديم وإذا لم يلزمه طرح النماء والغلة فههنا أولى، ويجئ على قولهم أنه لو اشترى بعشرة ثم باعه بعشرين ثم اشتراها بعشرة فإنه يخبر أنها حصلت عليه بغير شئ، وإن اشتراها بعشرة ثم باعها بثلاثة عشر ثم اشتراها بخمسة أخبر أنها تقومت عليه بدرهمين، وإن اشتراها بخمسة عشر أخبر أنها تقومت عليه باثني عشر نص أحمد على نظير هذا، فان لم يربح ولكن اشتراها ثانية بخمسة أخبر بها لأنها ثمن للعقد الذي يلي المرابحة، ولو خسر فيها مثل أن اشتراها بخمسة عشر ثم باعها بعشرة ثم اشتراها بأي ثمن كان أخبر به ولم يجز أن يضم الخسارة إلى الثمن الثاني ويخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه وهو يدل على صحة ما ذكرناه (فصل) وإن ابتاع اثنان ثوباً بعشرين ثم بذل لهما فيه اثنان وعشرون فاشترى أحدهما نصيب صاحبه فيه بذلك السعر فإنه يخبر في المرابحة بأحد وعشرين نص عليه وهذا قول النخعي، وقال الشعبي يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الدرهم الذي كان أعطيه قد كان أحرزه ثم رجع إلى قول النخعي بعد ذلك ولا نعلم احدا خاف ذلك لأنه اشترى نصفه الأول بعشرة والثاني بأحد عشر فصار أحداً وعشرين (فصل) قال أحمد المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة لأن بيع المرابحة يعتريه أمانة واسترسال من المشتري ويحتاج فيه إلى تعيين الحال على وجهه ولا يؤمن هوى النفس في نوع تأويل وخطر فيكون على خطر وغرر فتجنب ذلك أسلم وأولى (فصل) وإن اشترى رجل نصف سلعة بعشرة واشترى آخر نصفها بعشرين ثم باعاها مساومة بثمن واحد فهو بينهما نصفان لا نعلم فيه خلافاً لأن الثمن عوض عنها فكان بينهما على حسب ملكهما فيها
كالإتلاف وإن باعها مرابحة أو مواضعة أو تولية فكذلك نص عليه أحمد وهو قول ابن سيرين والحكم قال الأثرم قال أبو عبد الله إذا باعها فالثمن بينهما نصفان.
قلت أعطى أحدهما أكثر مما أعطى الآخر؟ فقال وإن اليس الثوب بينهما الساعة سواء؟ فالثمن بينهما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك صاحبه.
وحكى أبو بكر عن أحمد أن الثمن بينهما على قدر رءوس أموالهما لأن بيع المرابحة يقتضي أن يكون الثمن في مقابلة رأس المال فيكون مقسوماً بينهما على حسب رءوس أموالهما، قال شخينا ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر، وقيل هذا وجه خرجه أبو بكر وليس برواية والمذهب الأول لأن الثمن عوض المبيع وملكهما متساو فيه فكان ملكهما لعوضه متساوياً كما لو باعه مساومة (فصل) قال رضي الله عنه (السابع خيار يثبت لاختلاف المتبايعين فمتى اختلفا في قدر الثمن تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعتكه بكذا ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا)(4/108)
إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة فقال البائع بعتك بعشرين، وقال المشتري بعشرة ولأحدهما بينة حكم بينهما وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، وبه قال شريح وأبو حنيفة والشافعي وهي رواية عن مالك وله رواية أخرى القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور وزفر لأن البائع يدعي عشرة ينكرها المشتري والقول قول المنكر، وقال الشعبي القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه ابن المنذر عن أحمد لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " رواه سعيد وابن ماجة وغيرهما والمشهور في المذهب الأول.
ويحتمل أن يكون معنى القولين واحداً وأن القول قول البائع مع يمينه فإذا حلف فرضي المشتري بذلك أخذ به وإن أبى حلف أيضاً وفسخ البيع لأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا " ولأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه فإن البائع يدعي عقداً بعشرين ينكره المشتري والمشتري يدعي عقداً بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في حقهما وهذا الجواب عما ذكروه (فصل) والمبتدئ باليمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا فإن شاء المشتري أخذه بما قال
البائع والاحلف ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يبدأ يبين المشتري لأنه منكر واليمين في جنبته أقوى ولأنه يقضى بنكوله ينفصل الحكم وما كان أقرب إلى فصل الخصومة كان أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " وفي لفظ " فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " رواه أحمد ومعناه إن شاء أخذ وإن شاء حلف ولأن البائع أقوى جنبة لانها إذا تحالفا عاد المبيع إليه فكان أقوى كصاحب اليد وقد بينا أن كل واحد منهما منكر فيتساويان من هذا الوجه والبائع إذا حلف فهو بمنزلة نكول المشتري يحلف الآخر ويقتضى به فهما سواء ويكفي كل واحد منهما يمين واحدة لأنه أقرب إلى فصل القضاء {مسألة} (فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه) يعني إذا حلف البائع فنكل المشتري عن اليمين قضي عليه وإن نكل المشتري حلف المشتري وقضي له، ووجه ذلك حديث ابن عمر لما باع زيداً عبداً واختلفا في عيب فيه فاحتكما إلى عثمان فوجبت علي عبد الله اليمين فلم يحلف فرد عثمان عليه العبد رواه الإمام أحمد {مسألة} (فإن تخالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه أقر العقد وإلا فلكل واحد منهما الفسخ) إذا تخالفا لم ينفسخ البيع بنفس التخالف لأنه عقد صحيح فلم ينفسخ باختلافهما وتعارضهما في الحجة كما لو قامت البينة لكل واحد منهما، لكن إن رضي احدهما مما قال الآخر أجبر الآخر عليه وأقر(4/109)
العقد بينهما وإن لم يرض واحد منهما فلكل واحد منهما الفسخ هذا ظاهر كلام أحمد ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن العقد صحيح وأحدهما ظالم وإنما يفسخه الحاكم لتعذر إمضائه في الحكم أشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان وجهل السابق منهما ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما بذلك، وروي أن ابن مسعود باع الأشعث بن قيس رقيقاً من رقيق الإمارة فقال عبد الله بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث شريت منك بعشرة آلاف، فقال عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع " قال فإني أرد البيع رواه سعيد
وروى أيضا حديثاً عن عبد الملك بن عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان للمشتري الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك " وهذا ظاهر في انه يفسخ من غير حاكم لأنه جعل الخيار إليه فأشبه من له خيار الشرط ولأنه فسخ لا ستدراك الظلامة أشبه الرد بالعيب ولا يشبه النكاح لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق {مسألة} (وإن كانت السلعة تالفة رجعاً إلى قيمة مثلها فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري وعنه لا يتحالفان إذا كانت تالفة والقول قول المشتري مع يمينه) إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) يتحالفان هكذا ذكره الخرقي مثل لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك (والاخرى) القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر وهو قول النخعي والثوري والاوزاعي وابي حنيفة لقوله عليه السلام في الحديث " والسلعة قائمة " مفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واستحقاق عشرة في ثمنها، واختلفا في عشرة زائدة البائع يدعيها والمشتري ينكرها والقول قول المنكر وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه ففيما عداه يبقى على القياس، ووجه الرواية الأولى عموم قوله عليه السلام " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " قال أحمد ولم ينقل فيه " والبيع قائم " إلا يزيد بن هارون قال أبو عبد الله وقد أخطأ، رواه الخلق عن المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة، ولأن كل واحد منهما مدع ومنكر فيشرع اليمين كحال قيام السلعة فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها، وقولهم تركناه للحديث قلنا لم يثبت في الحديث، قال إبن المنذر وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه، وعلي أنه إذا خولف الأصل لمعنى وجب تعديه الحكم بتعدي ذلك المعنى فنقيس عليه بل يثبت الحكم بالبينة فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى، فإذا تحالفا(4/110)
فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخه وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما فسخه كما إذا كانت السلعة باقية ويرد الثمن إلى المشتري ويدفع المشتري قيمة السلعة إلى البائع فإن
كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا، وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ فيما إذا كانت قيمة السلعة مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ويكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه لا فائدة في ذلك لأن الحاصل به الرجوع إلى ما ادعاه المشتري.
وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ لأن ذلك ضرر عليه من غير فائدة، ويحتمل أن يشرع لتحصل الفائدة للمشتري، ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفاً بصفاتها، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم (فصل) وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره فالقول قول البائع لأنه منكر لما يدعيه المشتري بعد انفساخ العقد أشبه ما إذا اختلفا في القبض {مسألة} (وإن ماتا فورثتهما في منزلتهما) في جميع ما ذكرناه لأنهم يقومون مقامهما في أخذ مالهما وارث حقوقهما فكذلك فيما يلزمهما أو يصير لهما، ولأنها يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في الدعوى {مسألة} (ومتى فسخ المظلوم منهما انفسخ العقد ظاهراً وباطناً وإن فسخ الظالم لم ينفسخ قي حقه باطناً وعليه إثم الغاصب) وجملة ذلك أن الفسخ إذ وجد منهما فقال القاضي ظاهر كلام أحمد أن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً لأنه فسخ لا ستدراك الظلامة فهو كالرد بالعيب أو فسخ عقد بالتحالف فأشبه الفسخ باللعان.
وقال أبو الخطاب إن كان البائع ظالم لم ينفسخ العقد في الباطن لأنه لا يمكنه إمضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لأنه غاصب، وإن كان المشتري ظالماً انفسخ البيع ظاهراً وباطناً لعجز البائع عن استيفاء حقه فكان له الفسخ كما لو أفلس المشتري، ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ولهم وجه ثالث أنه لا ينفسخ في الباطن بحال وهذا فاسد لأنه لو علم أنه لا ينفسخ في الباطن بحال لما أمكن فسخه في الظاهر فإنه لا يباح لكل واحد منهما التصرف فيما رجع إليه بالفسخ ومتى علم أن ذلك محرم منع منه، ولأن الشارع جعل للمظلوم منهما الفسخ ظاهراً وباطناً فانفسخ بفسخه في الباطن كالرد بالعيب (قال شيخنا) ويقوى عندي أن فسخه المظلوم منهما انفسخ ظاهراً وباطناً
كذلك، وإن فسخه الكاذب عالماً بكذبه لم ينفسخ بالنسبة إليه لأنه لا يحل به الفسخ فلم يثبت حكمه بالنسبة إليه ويثبت بالنسبة إلى صاحبه فيباح له التصرف فيما رجع إليه لأنه رجع إليه بحكم من غير(4/111)
عدوان منه فأشبه مالو رد عليه المبيع بدعوى العيب ولا عيب فيه {مسألة} (وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه) إذا اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص عليه في رواية الأثرم لأن الظاهر انهما لا يعقدان إلا به، وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراده إذا كان هو الأغلب والمعاملة به أكثر لأن الظاهر وقوع المعاملة به أشبه إذا كان في البلد نقد واحد، ويحتمل أنه ردهما إليه مع التساوي لأن فيه تسوية بينهما في الحق وتوسطاً بينهما وفي العدول الى غيره ميل على أحدهما فكان التوسط أولى، وعلى مدعي ذلك اليمين لأن قول خصمه محتمل فيجب اليمين لنفي ذلك الاحتمال كوجوبها على المنكر، وإن لم يكن في البلد إلا نقدان تحالفا لأنهما اختلفا في الثمن على وجه لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره {مسألة} (وإن اختلفا في أجل أو شرط فالقول قول من ينفيه، وعنه يتحالفان إلا أن يكون شرطاً فاسداً فالقول قول من يثبته) إذا اختلفا في أجل أو شرط أو رهن أو ضمين أو في قدر الأجل أو الرهن فالقول قول من ينفيه في إحدى الروايتين مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه فكان القول قول من يدعيه كأصل العقد (والثانية) يتحالفان وهو قول الشافعي لأنهما اختلفا في صفة العقد فوجب أن يتحالفا كما لو اختلفا في الثمن فأما إن اختلفا فيما يفسد العقد فقال بعتك بخمس أو خيار مجهول أو في شرط فاسد، وقال لابل بعتني بنقد معلوم أو خيار معلوم إلى ثلاث فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه لأن ظهور تعاطي المسلمين الصحيح أكثر من تعاطي الفاسد، وإن قال بعتك مكرهاً فأنكر فالقول قول المشتري لأن الأصل عدم الإكراه وصحة البيع كذلك، وإن قال بعتك وأنا صبي فالقول قول المشتري نص عليه وهو قول الثوري واسحاق لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده فكان القول
قول من يدعي الصحة كالتي قبلها، ويحتمل أن يقبل قول من يدعي الصغر لأنه الأصل وهو قول بعض أصحاب الشافعي ويفارق ما إذا اختلفا في الإكراه والشرط الفاسد من وجهين (أحدهما) أن الأصل عدمه وههنا الأصل بقاؤه (والثاني) أن الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح وههنا ما ثبت أنه كان مكلفاً، وإن قال بعتك وأنا مجنون فإن لم يعلم حال جنون فالقول قول المشتري لأن الأصل عدمه، وإن ثبت أنه كان مجنوناً فهو كالصبي، وإن قال بعتك وأنا غير مأذون لي في التجارة فالقول قول المشتري نص عليه في رواية منها لأنه مكلف فالظاهر أنه لا يعقد إلا عقداً صحيحاً {مسألة} (وإن قال بعتني هذين قال بل أحدهما فالقول قول البائع)(4/112)
أما إذا قال بعتني هذا العبد والأمة بمائة قال بل بعتك العبد بخمسين فالقول قول البائع لأن المشتري يدعي عقداً ينكره البائع والقول قول المنكر، وإن قال البائع بعتك هذا العبد بألف فقال بل هو والعبد الآخر بألف فالقول قول البائع مع يمينه وهو قول أبي حنيفة لان البائع ينكر بيع العبد الزائد فكان القول قوله مع يمينه كما لو ادعى شراءه منفرداً.
وقال الشافعي يتحالفان لأنهما اختلفا في أحد عوضي العقد أشبه ما لو اختلفا في الثمن وهذا القول أقيس وأولى إن شاء الله تعالى {مسألة} (وإن قال بعتني هذا قال بل هذا حلف كل واحد منهما على ما أنكره ولم يثبت بيع واحد منهما) وذلك مثل أن يقول البائع بعتك هذا العبد قال بل بعتني هذه الجارية لأن كل واحد منهما يدعي عقداً على عين ينكرها المدعى عليه والقول قول المنكر فإذا حلف البائع ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده وإن كان مدعيها قد قبضها ردت عليه وأما العبد فان كان في يد البائع أقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه لأنه لا يدعيه وعلى البائع رد الثمن اليه لأنه لم يصل إليه المعقود عليه، وإن كان في يد المشتري فعليه رده إلى البائع لأنه يعترف أنه لم يشتره وليس للبائع طلبه إذا بذل ثمنه لاعترافه بيعه، وإن لم يعطه ثمنه فله فسخ البيع واسترجاعه لتعذر الثمن عليه فملك الفسخ كما لو أفلس المشتري، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان فأشبه مالو ادعى أحدهما البيع فيهما جميعاً وأنكره الآخر، وإن أقام أحدهما بينة دون
الأخر ثبت ما قامت عليه البينة دون الآخر {مسألة} (وإن قال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري لا أسلمه حتى أقبض المبيع وكان الثمن عيناً أو عرضاً جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما) لأن حق البائع قد تعلق بعين الثمن كما تعلق حق المشتري بعين المبيع فاستويا وقد وجب لكل واحد منهما على الآخر حق قد استحق قبضه فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه وهذا قول الثوري وأحد أقوال الشافعي، وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع أولا وهو قول ثان للشافعي والأول أولى لما ذكرنا، وقال أبو حنيفة ومالك يجبر المشتري على تسليم الثمن قبل الاستيفاء كالمرتهن ولنا أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه فكان تقديمه أولى ويخالف الرهن فإنه لا تتعلق به مصلحة عقد الرهن والتسليم ههنا يتعلق به مصلحة عقد البيع وإن كان ديناً أجبر البائع على تسليم المبيع ثم أجبر المشتري على تسليم الثمن لأن حق المشتري تعلق بعين المبيع وحق البائع تعلق بالذمة وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده وكذلك تقديم الدين الذي به الرهن على ما في الذمة(4/113)
وكذلك تقديم أرش الجناية على الدين لذلك، وقال مالك وأبو حنيفة يجبر المشتري أولاً على تسليم الثمن كالمسألة قبلها وقد ذكرنا ما يدل على خلافه، إذا ثبت هذا وأجبنا على البائع التسليم فسلم فإن كان المشتري موسراً والثمن حاضراً أجبر على تسليمه وإن كان الثمن غائباً عن البلد في مسافة القصر أو كان المشتري معسراً فللبائع الفسخ لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن فكان له الفسخ والرجوع في عين ماله كالمفلس، وإن كان الثمن في بيته أو بلده حجر على المشتري في المبيع وسائر ماله حتى يسلم الثمن لئلا يتصرف في ماله تصرفاً يضر بالبائع، وإن كان غائباً عن البلد قريباً دون مسافة القصر فللبائع الفسخ في أحد الوجهين لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن أشبه المفلس (والثاني) لا يثبت له خيار الفسخ لأنه كالحاضر فعلى هذا يحجر على المشتري كما لو كان في البدل وهذا كله مذهب الشافعي، وقال شيخنا ويقوى عندي أنه لا يجب على البائع تسليم المبيع حتى يحضر الثمن ويتمكن من تسليمه لأن البائع إنما رضي ببذل المبيع بالثمن فلا يلزمه دفعة قبل حصول عوضه ولأن المتعاقدين سواء في المعاوضة
فيستويان في التسليم وإنما يؤثر ما ذكر في الترجيح في تقديم التسليم مع حضور العوض الآخر لعدم الضرر فيه أما مع الحظر المحوج إلى الحجر أو المجوز الفسخ فلا ينبغي أن يثبت ولأن شرع الحجر لا يندفع به الضرر لأنه يقف على الحاكم ويتعذر ذلك في الغالب ولأن ما أثبت الحجر والفسخ بعد التسليم أولى أن يمنع التسليم لأن المنع أسهل من الرفع، والمنع قبل التسليم أسهل من المنع بعده ولذلك ملكت المرأة منع نفسها من التسليم قبل قبض صداقها ولم تملكه بعد التسليم على أحد الوجهين.
وكل موضع قلنا له الفسخ فإنه يفسخ بغير حكم حاكم لأنه فسخ للبيع فتعذر ثمنه فملكه البائع كالفسخ في عين ماله إذا أفلس المشتري وكل موضع قلنا يحجر عليه فذلك إلى الحاكم لأن ولاية الحجر إليه (فصل) فإن هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسر فللبائع الفسخ في الحال لأنه يملك الفسخ مع حضوره فمع هربه أولى وإن كان موسراً أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد الحاكم له ما لا قضاه وإلا باع المبيع وقضى ثمه منه وما فضل فللمشتري وإن أعوز ففي ذمته، قال شيخنا ويقوى عندي أن للبائع الفسخ بكل حال لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيداً عن البلد للضرر في التأخير فههنا مع العجز عن الاستيفاء بكل حال أولى، ولا يندفع الضرر برفع الأمر إلى الحاكم لأنه قد يعجز عن إثباته عنده وقد يكون المبيع في مكان لاحاكم فيه والغالب أن لا يحضره من يعرفه الحاكم بالعدالة فاحالته على هذا تضييع لماله وهذه الفروع تقوي ما ذكرته من أن للبائع منع المشتري من قبض المبيع قبل إحضار الثمن لما في ذلك من الضرر(4/114)
(فصل) وليس للبائع الامتناع من تسليم المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن مالك في القبيحة وقال في الجميلة يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ لأن التهمة تلحقه فيها فمنع منها.
ولنا أنه بيع عين لاخيار فيها قد قبض ثمنها فوجب تسليمها كسائر المبيعات وما ذكره من التهمة لا يمكنه من المنع كالقبيحة ولأنه إن كان استبرأها قبل بيعها فاحتمال وجود الحمل منها بعيد نادر وإن كان لم يستبرئها فهو الذي ترك التحفظ لنفسه، ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلا تظهر حاملاً لم يكن له ذلك لأنه ترك التحفظ لنفسه حال العقد فلم يكن له كفيل كما لو طالب كفيلا بالثمن المؤجل
{مسألة} (ويثبت الخيار للتخلف في الصفة وتغير ما تقدمت رؤيته وقد ذكرناه) في الفصل السادس من كتاب البيع بما يغني عن إعادته (فصل) قال رضي الله عنه (ومن اشترى مكيلا أو موزونا لم يجز بيعه حتى يقبضه، وإن تلف قبل قبضه فهو من مال البائع إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين فسخ العقد وإمضائه ومطالبة متلفه ببدله وعنه في الصبرة المتعينة أنه يجوز بيعها قبل قبضها، وإن تلفت فهي من ضمان المشتري) ظاهر المذهب أن المكيل والموزون لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه، وهو ظاهر كلام الخرقي وكذلك قال في المعدود سواء كان متعيناً كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها، وهو ظاهر كلام أحمد ونحوه قول إسحاق، وروي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن أبي سليمان أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه وما ليس بمكيل ولا موزون يجوز بيعه قبل قبضه، وقال القاضي وأصحابه المراد بالمكيل والموزون والمعدود ما ليس بمتعين كالقفيز من صبرة والرطل من زبده، فأما المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، وقد نقل عن أحمد نحو ذلك فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعاماً فطلب من يحمله فرجع وقد احترق فهو من مال المشتري.
وذكر الجوز جاني عنه فيمن اشترى ما في السفينة صبرة لم يسم كيلاً فلا بأس أن يشترك فيها ويبيع ما شاء إلا أن يكون بينهما كيل فلا يولى عليه، ونحو هذا قال مالك فإنه قال فيما بيع من الطعام مكايلة أو موازنة لم يجز بيعه قبل قبضه وما بيع مجازفة أو بيع من غير الطعام مكايلة أو موازنة جاز بيعه قبل قبضه، ووجه ذلك ماروى الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المبتاع رواه البخاري عن ابن عمر من قوله تعليقاً.
وقول الصحابي مضت السنة يقتضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأن المبيع المعين لا يتعلق به حق توفيه فكان من مال المشتري كغير المكيل والموزون ونقل عن أحمد أن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزونا أو لم يكن، فعلى هذا(4/115)
يختص ذلك بالمطعوم في أنه لايدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه فإن الترمذي روي عن أحمد أنه
أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه، وقال الأثرم سألت أبا عبد الله عن قوله نهى عن ربح ما لا يضمن قال هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه، وقال ابن عبد البر الأصح عن أحمد بن حنبل أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فمفهومه إباحة بيع ما سواه قبل قبضه وروى ابن عمر قال رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم وهذا نص في بيع المعين وعموم قوله عليه السلام " من ابتاع طعاماً فلا يبيعه (بالرفع وفي رواية فلا يبعه بالجزم والخبر في الاولى بمعنى الانشاء) حتى يستوفيه " متفق عليهما.
ولمسلم عن ابن عمر قال.
كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أن نبيعه حتى ننقله من مكانه.
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه والتصرف فيه كما بعد قبضه، وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام مع تنصيصه على البيع مجازفة بالمنع وهو خلاف قول القاضي وأصحابه ويدل بمفهومه على أن ما عدا الطعام يخالفه في ذلك (فصل) وكل مالا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه لا يجوز له بيعه حتى يقبضه وقد ذكرنا ذلك وذكرنا الذي يحتاج الى قبض والخلاف فيه لما ذكرنا من الأحاديث ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم نعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا إلا ما حكى عن البتي أنه لا بأس ببيع كل شئ قبل قبضه.
قال ابن عبد البر وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام أظنه لم يبلغه الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه.
(فصل) والمبيع بصفة أو برؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع فعلى هذا لا يجوز بيعه قبل قبضه لأنه يتعلق به حق توفيه فجرى مجرى المكيل والموزون (فصل) وما يحتاج إلى القبض إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع، فإن تلف بآفة سماوية بطل العقد ورجع المشتري بالثمن وإن بان بفعل المشتري استقر عليه الثمن وكان كالقبض لأنه تصرف فيه، وإن أتلفه أجنبي لم يبطل العقد على قياس قوله في الجائحة ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن لأن التلف حصل في يد البائع فهو كحدوث العيب في يده وبين البقاء على العقد ومطالبة
المتلف بالمثل إن كان مثلياً وبالقيمة إن لم يكن مثلياً، وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً، وإن أتلفه البائع فقال أصحابنا الحكم فيه كما لو أتلفه أجنبي، وقال الشافعي: ينفسخ العقد ويرجع المشتري بالثمن لاغير لأنه تلف يضمنه به البائع أشبه تلفه بفعل الله تعالى، وفرق أصحابنا بينهما لكونه إذا تلف بفعل(4/116)
الله تعالى لم يوجد مقتض للضمان سوى حكم العقد بخلاف ما إذا أتلفه، فإن إتلافه يقتضي الضمان بالمثل وحكم العقد يقتضي الضمان بالثمن فكانت الخيرة الى المشتري في التضمين بأيهما شاء (فصل) وإن تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي فالمشتري مخير بين أخذه ناقصاً ولا شئ له وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن لأنه إن رضيه معيباً فكأنه اشترى معيباً عالما بعيبه لا يستحق شيئاً من أجل العيب، وإن فسخ العقد لم يكن له أكثر من الثمن لأنه لو تلف المبيع كله لم يكن له أكثر من الثمن أو تلف بعضه لم يكن له الفسخ لذلك لانه أتلف ملكه فلم يرجع على غيره وإن كان بفعل البائع فقياس قول اصحابنا إن المشتري مخير بين الفسخ والرجوع بالثمن وبين أخذه والرجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيب، وقياس قول الشافعي أنه بمنزلة ما لو تلف بفعل الله تعالى وإن كان بفعل أجنبي فله الفسخ والمطالبة بالثمن وأخذ المبيع ومطالبة الأجنبي بعوض ما أتلف (فصل) ولو باع شاة بشعير فأكلته قبل قبضه فإن كانت في يد المشتري فهو كما لو أتلفه، وإن كانت في يد البائع فهو كإتلافه وكذلك إن كانت في يد أجنبي فهو كإتلافه، وإن لم يكن في يد أحد انفسخ البيع لأن المبيع هلك قبل قبضه بأمر لا ينسب إلى آدمي فهو كتلفه بفعل الله تعالى (فصل) ولو اشترى شاة أو عبداً أو شقصاً بطعام فقبض الشاة أو العبد وباعهما أو أخذ الشقص بالشفعة ثم تلف الطعام قبل قبضه انفسخ الأول دون الثاني ولا يبطل الأخذ بالشفعة لأنه كمل قبل فسخ العقد ويرجع مشتري الطعام على مشتري الشاة أو العبد أو الشقص بقيمة ذلك لتعذر رده، وعلى الشفيع مثل الطعام لأنه عوض الشقص {مسألة} (وعنه في الصبرة المتعينة أنه يجوز بيعها قبل قبضها وإن تلفت فهي من ضمان المشتري) نقلها عنه أبو الحارث والجوزجاني واختاره القاضي وأصحابه ونحوه قول مالك لقول ابن عمر مضت
السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المتاع وقد ذكرنا ذلك {مسألة} (وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه وإن تلف فهو من مال المشتري) وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أنه كالمكيل والموزون في ذلك كله ما عدا المكيل والموزون والمعدود والمطعوم على ما ذكرنا فيه من الخلاف يجوز التصرف فيه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والاوزاعي واسحاق، وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شئ قبل القبض اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس وهو قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة اختار بيع العقار قبل قبضه وإذا قلنا بجواز التصرف فيه فتلف فهو من ضمان المشتري، وقال أبو حنيفة كل مبيع قبل قبضه من ضمان البائع إلا العقار، وقال الشافعي(4/117)
هو من ضمان البائع في الجميع، وحكى أبو الخطاب عن أحمد مثل ذلك.
واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم إن يباع الطعام قبل قبضه، وبما روي عن ابن عباس أنه قال أرى كل شئ بمنزلة الطعام (1) (الطعام ربوي وعليه مدار المعيشة فلا يقاس عليه ما ليس مثله في ذلك) وبما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرا الصدقات حيث تقبض، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال " انههم عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا " ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.
ولنا على جواز بيعه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر أنه كان على بكر صعب يعني لعمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعنيه " فقال هو لك يا رسول فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله ابن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا ظاهر في التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جملاً ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض
المنافع ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفيه فصح بيعه كالمال في يد المودع والمضارب ولنا على أنه إذا تلف فهو من ضمان المشتري قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه وقول ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المبتاع، وأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومة فإن تخصيص الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على جوازه فيما سواه وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض واليد ليست شرطاً في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة (فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه قال القاضي ولو ابتاع شيئاً مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له أخذ بدله إن تراضيا لأنه مبيع لم يقبض فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه إلا أن يكون سلماً لأنه لا يجوز بيع السلم قبل قبضه (فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا والاجرة وبدل الصلح اذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود.
وما لا ينفسخ العقد بهلاكه يجوز التصرف فيه قبل القبض كعوض الخلع والعتق على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود(4/118)
عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزاً من الغرر ومالا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي، وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه، وقال الشافعي لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو بصفة بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها وكذلك قال الشافعي في عوض الخلف وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لايمنع الرجوع فيه قبل الدخول، فأما ما ملك بإرث أو وصيه أو غنيمة أو تعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض، وهذا
مذهب أبي حنيفة والشافعي وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلاً فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فهي كالتي في يده فإن كان غصباً فقد ذكرنا حكمه (فصل) فإن اشترى اثنان طعاماً فقبضاه ثم باع أحدهما الآخر نصيبه قبل أن يقسماه احتمل أن لا يجوز وكرهه الحسن وابن سيرين فيما يكال أو يوزن لأنه لم يقبض نصيبه منفرداً فأشبه غير المقبوض ويحتمل الجواز لأنه مقبوض لهما يجوز بيعه لا جنبي فجاز بيعه لشريكه كسائر الأموال فإن تقاسماه وتفرقا ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الذي كاله له لم يجز كما لو اشترى من رجل طعاماً فاكتاله وتفرقا ثم باعه إياه بذلك الكيل وإن لم يتفرقا خرج على الروايتين اللتين ذكرناهما (فصل) وكل مالا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز فيه الشركة ولا التولية ولا الحوالة به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنها تختص بمثل الثمن الأول فجازت قبل القبض كالإقالة، ولنا أن التولية والشركة من أنواع البيع فإن الشركة بيع بعضه بقسطه من ثمنه والتولية بيع جميعه بمثل ثمنه فيدخل في عموم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ولأنه تمليك لغير من هو في ذمته فأشبه البيع.
وأما الإقالة فهي فسخ للبيع فأشبهت الرد بالعيب، وكذلك لا يصح هبته ولا رهنه ولا دفعه أجرة وما أشبه ذلك ولا التصرفات المنعقدة إلى القبض لانه غير مقبوض فلاسبيل إلى اقباضه(4/119)
{مسألة} (ويحصل القبض فيما بيع بالكيل والوزن بكيله ووزنه) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قبض، وقد روي عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التمييز لأنه خلي بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضاً له كالعقار.
ولنا ماروى عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت فكل وإذا ابتعت فاكتل " رواه البخاري وروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى يكتاله " رواه مسلم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري رواه ابن ماجه وهذا فيما بيع كيلا
{مسألة} (وفي الصبرة وما ينقل بالنقل) لأن ابن عمر قال كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافاً أن لا يبيعوه في مكانه حتى يحولوه، وفي لفظ كنا نبتاع الطعام جزافاً فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، وفي لفظ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله رواهن مسلم وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام " إذا سميت الكيل فكل " {مسألة} (وفيما يتناول بالتناول وفيما عدا ذلك بالتخلية) وعنه أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز إذا كان البيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد وإن كان ثياباً فقبضها نقلها وإن كان حيوانًا فقبضه بمشيه من مكانه وإن كان ما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب فيه الرجوع إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الاشياء ما ذكرناه (فصل) وأجرة الكيال والوزان في المكيل والموزون على البائع لأن عليه تقبيض المبيع للمشتري والقبض لا يحصل إلا بذلك فكان على البائع كما أن على بائع الثمرة سقيها وكذلك أجرة العداد في المعدودات وأما نقل المنقولات وما أشبهها فهو على المشتري لأنه لا يتعلق به حق توفيه نص عليه أحمد (فصل) ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده باختيار البائع وبغير اختياره لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن ولأن التسليم من مقتضيات العقد فمتى وجد بعده وقع موقفه كقبض الثمن(4/120)
{مسألة} (والإقالة فسخ يجوز في المبيع قبل قبضه ولا يستحق بها شفعة ولايجوز إلا بمثل الثمن وعنه أنها بيع فلا يثبت.
فيها ذلك إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين إقالة النادم مستحبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أقال نادماً بيعته أقاله الله عثرته يوم القيامة " رواه ابن ماجه وأبو داود ولم يقل أبو داود يوم القيامة، وهي فسخ في أصح الروايتين اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي (والثانية) هي بيع وهي مذهب مالك لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة
التي خرج عليها فكانت بيعاً كالأول، وكونها بمثل الثمن لا يمنع من كونها بيعاً كالتولية، وحكي عن أبي حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق غيرهما فلا تثبت أحكام البيع في حقهما بل يجوز في المبيع قبل قبضه وفي السلم ويثبت حكم البيع في حق الشفيع فيجوز له أخذ الشقص الذي تقايلا فيه بالشفعة ولنا أن الإقالة هي الرفع والإزالة يقال أقالك الله عثرتك أي أزالها فكانت فسخاً للعقد الأول بدليل جواز الإقالة في السلم مع إجماعهم على أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قلب قبضه، ولأنها مقدرة بالثمن الأول ولو كانت بيعاً لم تقدر به ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخاً كالرد بالعيب، ويدل على أبي حنيفة ما كان فسخاً في حق المتعاقدين كان فسخاً في حق غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار ولأن حقيقة الفسخ لا تختلف بالنسبة إلى شخص دون شخص والأصل اعتبار الحقائق، فإن قلنا هي فسخ جازت قبل القبض وبعده وقال أبو بكر لابد من كيل ثان ويقوم الفسخ مقام البيع في إيجاب كيل ثان كقيام فسخ النكاح مقام الطلاق في العدة ولنا أنه فسخ للبيع فجاز قبل القبض كالرد بالعيب والتدليس والفسخ بالخيار أو لاختلاف المتبايعين وفارق العدة فإنها اعتبرت للاستبراء والحاجة داعية إليه في كل فرقة بعد الدخول بخلاف مسئلتنا.
وإن قلنا هي بيع لم يجز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض لأن بيعه من بائعه قبل قبضه لا يجوز كما لا يجوز من غيره ولا يستحق بها الشفعة إن كانت فسخاً لأنها رفع للعقد وإزالة له وليست معاوضة فأشبهت سائر الفسوخ، ومن حلف لا يبيع فأقال لم يحنث، وإن كانت بيعاً استحقت الشفعة وحنث الحالف على ترك البيع بفعلها كالتولية.
والصحيح أنها لا تجوز إلا بمثل الثمن سواء قلنا هي فسخ أو بيع لانها خصت بمثل الثمن كالتولية وفيه وجه آخر أنها تجوز بأكثر من الثمن الأول وأقل منه كسائر البياعات فإذا(4/121)
قلنا لا تجوز إلا بمثل الثمن وأقال بأقل منه أو أكثر لم تصح الإقالة وكان الملك باقياً للمشتري، وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة أنها تصح بالثمن الأول ويبطل الشرط لأن لفظها اقتضى مثل الثمن والشرط ينافيه فيبطل ونفي الفسخ على مقتضاه كسائر الفسوخ، ولنا أنه شرط التفاضل فيما يعتبر فيه التماثل فيبطل كبيع درهم بدرهمين ولأن القصد بالإقالة رد كل حق إلى صاحبه فإذا اشترط زيادة أو نقصاً
أخرج العقد عن مقصوده فيبطل كما لو باعه بشرط أن لا يسلم إليه وفارق سائر الفسوخ لأنه لا يعتبر فيه الرضى منهما بل يسأل به أحدهما فإذا شرط عليه شئ لم يلزمه لتمكنه من الفسخ بدونه وإن شرط لنفسه شيئاً لم يلزم أيضاً لأنه لا يستحق أكثر من الفسخ وفي مسئلتنا لا تجوز الإقالة إلا برضاهما وإنما رضي بها أحدهما مع الزيادة أو النقص فإذا أبطلنا شرطه فات رضاه فتبطل الإقالة لعدم رضاه بها {باب الربا والصرف} الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) وقال (أن تكون أمة هي أربى من أمة) أي أكثر عدداً.
وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى (وحرم الربا) وما عداها من الآيات، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يا رسول الله ما هي؟ قال " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه متفق عليهما وأجمعت الأمة على أن الربا محرم.(4/122)
{مسألة} (وهو نوعان ربا الفضل وربا النسيئة) وأجمعت الأمة على تحريمهما وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة فحكي عن ابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم وابن الزبير أنهم قالوا إنما الربا في النسيئة لقوله عليه السلام " لاربا إلا في النسيئة " رواه البخاري والمشهور من ذلك قول ابن عباس ثم أنه رجع إلى قول الجماعة وروى ذلك الأثرم وقاله الترمذي وابن المنذر وروى سعيد بإسناده عن أبي صالح قال صحبت ابن عباس حتى مات فوالله ما رجع عن الصرف، وعن سعيد بن جبير قال سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير به بأساً وكان يأمر به، والصحيح قول الجمهور لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " وعن أبي سعيد قال جاء
بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا يا بلال؟ " قال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به " متفق عليهما قال الترمذي: على حديث أبي سعيد العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ربا إلا في النسيئة " محمول على الجنسين {مسألة} (فأما ربا الفضل فيحرم في الجنس الواحد من كل مكيل أو موزون، وإن كان يسيراً(4/123)
كتمرة بتمرتين وحبة بحبتين، وعنه لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم وعنه لا يحرم إلا في ذلك إذا كان مكيلا أو موزونا) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة من أتمها حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد " رواه مسلم.
فهذه الأعيان الستة المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع، واختلف أهل العلم فيما سواها فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليها، وبه قال داود ونفاة القياس وقالوا اما عداها على أصل الإباحة لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) واتفق القائلون بالقياس على أن لربا فيها بعلة وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها لأن القياس دليل شرعي فيجب استخراج علة هذا الحكم وإثباته حيث وجدت علته ولأن قول الله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) يقتضي تحريم كل زيادة إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه وهذا يعارض ما ذكروه، ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والذرة والدخن لأنها يتقارب نفعها فجرى مجرى نوعي الجنس، وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد وبيعوا التمر بالبر كيف شئتم " فلا يعول عليه واتفق المعللون على أن علة الذهب(4/124)
والفضة واحدة وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة كونه مكيل جنس نقلها عن أحمد الجماعة ذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب وبه قال النخعي والزهري والثوري واسحاق وأصحاب الرأي، فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل أو موزون بجنسه مطعوماً كان أو غير مطعوم كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف والكتان والحناء والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء " وهو الربا فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال " لا باس إذا كان يداً بيد " رواه أحمد في المسند عن ابن حبان عن أبيه عن ابن عمر، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما وزن مثلاً بمثل إذا كان نوعاً واحداً " رواه الدارقطني، وعن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين لما كان يداً بيد فلا بأس به إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن، ولأن قضية البيع المساواة والمعتبر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فانه جائزا إذا تساويا(4/125)
في الكيل (والرواية الثانية) أن العلة في الاثمان الثمنيه وفيما عداها كونه مطعوم جنس فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها.
قال أبو بكر روى ذلك عن أحمد جماعة، ونحو ذلك قول الشافعي فإنه قال: العلة الطعم والجنس شرط والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالباً فيختص بالذهب والفضة لما روى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل رواه مسلم، ولان الطعم وصف شرف اذبه قوام الابدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال فيقتضي التعليل بهما، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات لان أحد وصفي علة الربا يكفي في تحريم النساء
(والرواية الثالثة) العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالتفاح والرمان والبطيخ والجوز والبيض ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأشنان والحديد، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب وهو قديم قولي الشافعي لما روى عن سعيد ابن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا ربا الا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب " أخرجه الدارقطني وقال الصحيح أنه من قول سعيد ومن رفعة فقد وهم، ولأن لكل واحد من هذه الأوصاف أثراً والحكم مقرون بجيعها في المنصوص عليه فلا يجوز حذفه ولان الكيل الوزن الجنس لا يقتضي وجوب المماثلة وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لاما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لاتتحقق المماثلة به لعدم العيار الشرعي فيه، وانما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلاً وفي الموزون وزناً فوجب أن يكون الطعم معتبراً في المكيل(4/126)
والموزون دون غيرهما، والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها وتقييد كل واحد منها بالآخر فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي من كيل أو وزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه وهذا اختيار شيخنا، وقال مالك العلة القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات، وقال ربيعة يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره.
وقال ابن سيرين في الجنس الواحد.
وهذا القول لا يصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل " لا بأس إذا كان يدا بيد " وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبداً بعبدين رواه أبو داود والترمذي وقال: هو حديث صحيح، وقول مالك ينتقض بالحطب والادام يستصلح به القوت ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة.
فالحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة كالارز والدخن والذرة والقطنيات والدهن واللبن ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم.
قال ابن المنذر هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، وما يعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا فيه رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم وذلك كالتين النوى والقت والماء، والطين الأرمني فإنه يؤكل دواء فيكون
موزوناً مأكولاً فهو إذا من القسم الأول وما عداه إنما يؤكل سفهاً فجرى مجرى الرمل والحصا.
وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل والوزن من جنس واحد ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه.
والأولى إن شاء الله حله إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به ولا معنى يقوي التمسك به وهي مع ضعفها يعارض(4/127)
بعضها بعضاً فوجب اطراحها والجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار، ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتاً كالأرز والذرة أو أدماً كالقطنيات واللحم واللبن أو تفكهاً كالثمار أو تداويا كالا هليلج والسقمونيا فإن الكل في باب الربا واحد (فصل) وقوله في كل مكيل أو موزون أي ما كان جنسه مكيلا أو موزونا وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن أما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة أو لكثرته كالزبرة العظيمة فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل ويحرم التفاضل فيه، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر، ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله ووافق في الموزون واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل من زاد أو ازداد فقد أربى " ولأن ما جرى الربا في كثيرة جرى في قليله كالموزون ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة بحفنة وهذا قول الثوري لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره (فصل) اما مالا وزن للصناعة فيه كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان والصوف والحرير فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجري فيه الربا فإنه قال لا بأس بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين وهذا قول أكثر أهل العلم.
وقال لا يباع الفلس بالفلسين ولا السكين بالسكينين ولا الا برة بالإبرتين أصله الوزن ونقل القاضي حكم احدى المسئلتين إلى الأخرى فجعل في(4/128)
الجميع روايتين (إحداهما) لا يجري في الجميع وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم لأنه ليس بموزون ولا مكيل وهذا هو الصحيح إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والإجماع فيه
(والثانية) يجري الربا في الجميع اختارها ابن عقيل لان أصله الوزن فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر أن اختار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالاسطال ففيه الربا وإلا فلا (فصل) ويجري الربا في لحم الطير وعن أبي يوسف لا يجري فيه لأنه يباع بغير وزن.
ولنا أنه لحكم فأشبه سائر اللحمان وقوله لا يوزن قلنا هو من جنس ما يوزن ويقصد نقله وتختلف قيمته بثقله وخفته أشبه ما يباع من الخبز عداً (فصل) والجيد والردئ والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وهذا قول أكثر العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه وأنكر ذلك أصحابه، وحكى بعض اصحابنا عن أحمد رواية أنه لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة لأن للصناعة قيمة بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " وعن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الذهب بالذهب تبرها وعينها والفضة بالفضة تبرها وعينها " رواه أبو داود وروى مسلم عن أبي الأشعث أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فبلغ عبادة فقدم فقال أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً(4/129)
بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى " وروى الأثرم عن عطاء بن يسار ان معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل ولأنهما تساويا في الوزن فلا يؤثر اختلافهما في القيمة كالجيد بالردئ فأما إن قال لصائغ(4/130)
اصنع لي خاتماً وزنه درهم وأعطيك مثل زنته وأجرتك درهماً فليس ذلك بيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا للصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة الخاتم والباقي أجرة له(4/131)
(فصل) وكل ما حرم فيه ربا الفضل حرم فيه النساء بغير خلاف علمناه، ويحرم التفرق قبل القبض
لقول النبي صلى الله عليه وسلم " عيناً بعين " وقوله " يداً بيد " ولأن تحريم النساء آكد ولذلك جرى في(4/132)
الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم {مسألة} (ولا يباع ما أصله الكيل بشئ من جنسه وزناً ولا ما أصله الوزن كيلاً) لا خلاف بين أهل العلم في وجوب المماثلة في بيع الأموال التي يحرم التفاضل فيها وأن المساواة المرعية هي المساواة في المكيل كيلاً وفي الموزون وزناً، ومتى تحققت هذه المساواة لم يضر اختلافهما فيما سواها وإن لم توجد لم يصح البيع وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأكثر أهل العلم.
وقال مالك يجوز بيع بعض الموزونات ببعض جزافاً.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزناً بوزن الفضة بالفضة وزناً بوزن والبر بالبر كيلاً بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل " رواه الأثرم عن عبادة ورواه أبو داود وفي لفظ " البر بالبر مداً بمد والشعير بالشعير مداً بمد فمن زاد أو ازداد فقد أربى " فأمر بالمساواة في الموزنات المذكورة في الوزن كما أمر بالمساواة في المكيلات بالكيل وما عدا الذهب والفضة من الموزونات مقيس عليهما ولأنه جنس يجري فيه الربا فلم يجز بيع بعضه ببعض جزافاً كالمكيل ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع ولا يعلم عدم ذلك إلا بالوزن فوجب ذلك كما في المكيل والأثمان إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزناً ولا بيع الموزن بالموزن كيلاً لأن التماثل في(4/133)
الكيل مشترط في المكيل وفي الوزن في الموزون وقد عدمت ولأنه متى باع رطلاً من المكيل برطل حصل في الرطل من الخفيف أكثر ما يحصل من الثقيل فيختلفان في الكيل وإن لم يعلم الفضل لكن يجهل التساوي فلا يصح كما لو باع بعضه ببعض جزافاً.
وكذلك إذا باع الموزون بالموزون بالكيل لا يتحقق التماثل في الوزن فلم يصح كما ذكرنا في المكيل (فصل) ولو باع بعضه ببعض جزافاً أو كان جزافاً من أحد الطرفين لم يجز قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن ذلك لا يجوز إذا كنا من صنف واحد لما روى مسلم عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم
" الذهب بالذهب وزناً بوزن " إلى تمام الحديث دليل على أنه لا يجوز بيعه إلا كذلك ولأن التماثل شرط والجهل به يبطل البيع الحقيقة التفاضل {مسألة} قال (فإن اختلف الجنس جاز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وجزافاً) ما لا يشترط فيه التماثل كالجنسين وما لا ربا فيه يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وجزافاً وهذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر العلماء قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة لا ندري كم كيل هذه ولا كم كيل هذه من صنف واحد غير جائز ولا بأس به من صنفين استدلالا بقوله عليه السلام " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " وذهب بعض أصحابنا إلى منع بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون جزافاً، وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم أكره(4/134)
ذلك قال ابن أبي موسى: لاخير فيما يكال بما يكال جزافاً، ولا فيما يوزن بما يوزن جزافاً.
اتفقت الأجناس أو اختلفت ولا بأس ببيع المكيل بالموزون جزافاً، وقال ذلك القاضي والشريف أبو جعفر قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام مجازفة وقياساً على الجنس الواحد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " ولأنه يجوز التفاضل فيه فجاز جزافاً كالمكيل بالموزون، يحققه أنه إذا كان حقيقة الفضل لا يمنع فاحتماله أولى أن لايمنع وحديثهم أراد به الجنس الواحد، ولهذا جاء في بعض ألفاظ: نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر.
ثم هو مخصوص بالمكيل بالموزون فنقيس عليه محل النزاع والقياس لا يصح لأن الجنس الواحد يجب التماثل فيه فمنع من بيعه مجازفة لفوات المماثلة المشترطة وفي الجنسين لا يشترط التماثل ولا يمنع حقيقة التفاضل فاحتماله أولى (فصل) إذا قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة وهما من جنس واحد وقد علما كيلهما وتساويهما صح البيع لوجود التماثل المشترط، وإن قال بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلاً بمثل فكيلتا فكانتا سواء صح البيع، وإن زادت إحدهما فرضي صاحب الناقصة بها مع نقصها أو رضي صاحب الزائدة برد الفضل على صاحبه جاز وإن امتنع فسخ البيع بينهما ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي(4/135)
{مسألة} (والجنس ماله اسم خاص يشتمل أنواعاً كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح) الجنس الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها، والنوع الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها، وقد يكون النوع جنساً بالنسبة إلى ما تحته والجنس نوعاً بالنسبة إلى ما فوقه.
والمراد ههنا الجنس الأخص والنوع الأخص فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهما جنس كأنواع التمر وأنواع الحنطة وأنواع الشعير فالتمور كلها جنس وإن كثرت أنواعها كالبرني والعقلي وغيرهما ولك شيئين اتفقا في الجنس ثبت فيهما حكم الشرع بتحريم التفاضل، وإن اختلفت الأنواع لما ذكرنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل " الحديث بتمامه فاعتبر المساواة في جنس التمر بالتمر والبر بالبر ثم قال: فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم (فصل) واختلفت الرواية في البر والشعير فظاهر المذهب أنهما جنسان وهو قول الثوري(4/136)
والشافعي وأصحاب الرأي وعنه أنهما جنس واحد " يروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث والحكم وحماد ومالك والليث لما روي عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال: بعه ثم اشتر به شعيراً، فذهب الغلام فأخذ صاعاً وزيادة بعض صاع فلما جاء معمراً أخبره فقال معمرا: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا تأخذن الامثلا بمثل فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير.
قيل فإنه ليس بمثله قال إني أخاف أن يضارع.
أخرجه مسلم ولأن أحدهما يعتبر بالآخر فكانا كنوعي الجنس ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " بيعوا البر بالشعير كيف شئتم يداً بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع(4/137)
البر بالشعير والشعير بالبر هما يداً بيد وأما نسيئة فلا - وفي لفظ - فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " وهذا صريح لا يجوز تركه بغير معارض مثله وحديث معمر لابد فيه من اضمار الجنس بدليل سائر أجناس الطعام، ويحتمل أنه أراد الطعام المعهود عندهم وهو نسيئة فإنه قال في الخبر وكان طعامنا
يومئذ الشعير ثم لو كان عاماً لوجب تقديم الخاص الصريح عليه وفعل معمر وقوله لا يعارض به فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقياسهم منقوض بالذهب والفضة {مسألة} (وفروع الأجناس أجناس كالأدقة والأخباز والأدهان) إذا كان المشتركان في الاسم الخاص من جنسين فهما جنسان كالأدقة والأخباز والخلول والأدهان وعصير الاشياء المختلفة كلها أجناس مختلفة باختلاف أصولها، وحكي عن أحمد أن خل التمر وخل(4/138)
العنب جنس وحكي أيضاً عن مالك لأن الاسم الخاص يجمعهما.
والصحيح الأول لأنهما من جنسين مختلفين فكانا جنسين كدقيق الحنطة ودقيق الدخن وما ذكر للرواية الأخرى منقوض بسائر فروع الأصول التي ذكرناها، فكل فرع مبني على أصله فزيت الزيتون وزيت البطم وزيت الفجل أجناس ودهن السمك والشيرج والجوز واللوز والبزر أجناس، وعسل النحل وعسل القصب جنسان وتمر النخل وتمر الهند جنسان، وكل شيئين أصلهما واحد فهما جنس وإن اختلفت مقاصدهما، فدهن الورد والبنفسج والزئبق والياسمين إذا كانت من دهن واحد فهي جنس واحد وهذا الصحيح من مذهب الشافعي، وله قول آخر لا يجري الربا فيها لأنها تقصد للأكل، وقال أبو حنيفة هي أجناس لاختلاف(4/139)
مقاصدها.
ولنا أنها كلها شيرج وانما طيبت بهذه الرياحين فنسبت إليها فلم تصر أجناسها كما لو طيب سائر أنواع الأجناس، وقولهم لا تقصد للأكل قلنا هي صالحة للأكل وإنما تعد لما هو أعلى منه فلا تخرج عن كونها مأكولة بصلاحها لغيره، وقولهم أنها أجناس لا يصح لأنها من أصل واحد يشملها اسم واحد فكانت جنساً كأنواع التمر والحنطة (فصل) وقد يكون الجنس الواحد مشتملاً على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وغيره وهما جنسان واللبن يشتمل على المخيض والزبد وهما جنسان فما داما متصلين اتصال الخلقة فهما جنس واحد فإذا ميز أحدهما من الآخر صارا جنسين حكمهما حكم الجنسين الأصلين(4/140)
(فصل) واللحم أجناس باختلاف أصوله، وكذلك اللبن وعنه جنس واحد وعنه في اللحم أنه أربعة أجناس لحم الأنعام ولحم الوحش ولحم الطير ولحم دواب الماء) اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في اللحم فروي عنه أنه جنس واحد وهذا الذي ذكره الخرقي وهو قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذه رواية عن أحمد، وقال الأنعام والوحش والطير ودواب الماء أجناس يجوز التفاضل فيها رواية واحدة وإنما في اللحم روايتان (إحداهما) أنه أربعة أجناس كما(4/141)
ذكرناه وهو مذهب مالك إلا أنه يحتمل أن الأنعام والوحش جنس واحد فيكون عنده ثلاثة أصناف وروي عنه أنه أجناس باختلاف أصوله وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهي أصح لأنها فروع أصول هي أجناس فكانت أجناساً كالأدقة والأخباز وهذا اختيار ابن عقيل، وعنه في اللحم أنه أربعة أجناس على ما ذكرناه، وهذا اختيار القاضي واحتج بأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها والقصد إلى أكلها فكانت أجناساً (قال شيخنا) وهذا ضعيف لأن كونها أجناساً لا يوجب حصرها في أربعة(4/142)
أجناس ولا نظير لهذا فيقاس عليه، والصحيح أنه أجناس باختلاف أصوله، ووجه قول الخرقي أنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه فكان جنساً واحداً كالطلع، والصحيح ما ذكرنا وما ذكره من الدليل منتقض بعسل النحل وعسل القصب وغير ذلك، فعلى هذا لحم الإبل كله صنف بخاتيها وعرابها، والبقر عرابها وجواميسها صنف، والغنم ضأنها ومعزها جنس.
ويحتمل أن يكونا صنفين لأن الله تعالى سماها في الأزواج الثمانية فقال (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) ففرق بينهما كما فرق بين الإبل والبقر فقال (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) والوحش أصناف بقرها(4/143)
صنف وغنمها صنف وظباؤها صنف، وكل ماله اسم يخصه فهو صنف، والطير أصناف، كل ما انفرد باسم وصفة فهو صنف، فيجوز أن يباع لحم صنف لحم صنف آخر متفاضلاً ومتماثلا ويباع بصفة متماثلا ومن جعلها صنفا واحدا لم يجز بيع لحم بلحم متماثلاً
(فصل) وفي اللبن روايتان (إحداهما) هو جنس واحد لما ذكرنا في اللحم (والثانية) هو أجناس باختلاف أصوله كاللحم وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك لبن الأنعام كلها جنس واحد وقال ابن عقيل لبن البقر الأهلية والوحشية جنس واحد على الروايات كلها لأن اسم البقر يشملها ولا يصح لأن لحمهما جنسان فكان لبنهما جنسين كالإبل والبقر، ويجوز بيع اللبن بغير جنسه متفاضلاً وكيف شاء يداً بيد وبجنسه متماثلاً كيلاً، ولا فرق بين أن يكونا حليبين أو حامضين أو أحدهما حليباً والآخر حامضاً لأن تغير الصفة لايمنع جواز البيع كالجودة والرداءة، وإن شيب أحدهما بماء أو غيره لم يجز بيعه بخالص لابمشوب من جنسه وسنذكر ذلك {مسألة} (واللحم والشحم والكبد أجناس) اللحم والشحم جنسان، والكبد جنس والطحال جنس والقلب جنس والمخ جنس ويجوز بيع جنس بجنس آخر متفاضلاً، وقال القاضي لا يجوز بيع اللحم بالشحم وكره مالك ذلك إلا أن يتماثلا وظاهر المذهب إباحة البيع فيهما متماثلاً ومتفاضلاً وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنهما جنسان فجاز التفاضل(4/144)
فيهما كالذهب والفضة، فإن منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لأن الشحم لا يظهر وإن كان فيه شئ فهو غير مقصود فلا يمنع البيع ولو منع ذلك لم يجز بيع لحم بلحم لاشتمال كل واحد منهما على ما ليس من جنسه ثم لا يصح هذا عند القاضي لأن السمين الذي يكون مع اللحم عنده لحم فلا يتصور اشتمال اللحم على الشحم، وذكر القاضي أن الأبيض الذي في ظاهر اللحم الاحمر هو والأحمر جنس واحد وإن الألية والشحم جنسان، وظاهر كلام الخرقي أن كل ما هو أبيض في الحيوان يذوب بالإذابة ويصير دهناً فهو جنس واحد (قال شيخنا) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقوله سبحانه (حرمنا(4/145)
عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما) فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم، ولأنه يشبه الشحم في لونه وذوبه ومقصده فكان شحما كالذي في البطن {مسألة} (ولايجوز بيع لحم بحيوان من جنسه وفي بيعه بغير جنسه وجهان)
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه وهو مذهب مالك والشافعي وقول الفقهاء السبعة وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد للحم ويجوز بغيره، وقال أبو حنيفة يجوز مطلقاً لأنه باع مال الربا بما لاربا فيه أشبه بيع الحيوان بالدراهم أو بلحم من غير جنسه ولنا ما روى عن مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان، قال ابن عبد البر هذا أحسن أسانيده، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت ذكره الإمام أحمد، وروى ابن عباس أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزأ بهذا العناق قال أبو بكر لا يصلح هذا قال الشافعي لا أعلم مخالفاً لأبي بكر في ذلك.
وقال أبو الزناد كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع السمسم بالشيرج وهذا فارق ما قاسووا عليه، فما بيعه بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا يجوز لما ذكرنا من الا حاديث واختار القاضي جوازه وللشافعي فيه قولان، واحتج من أجازه بأن مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز كما لو باعه بالأثمان، والظاهر أن الاختلاف مبني على الاختلاف في اللحم، فإن قلنا بأنه جنس واحد لم يجز، وإن قلنا إنه أجناس جاز بيعه بغير جنسه لما ذكرنا فإن باعه بحيوان غير مأكول جاز في ظاهر قول أصحابنا وهو قول عامة الفقهاء {مسألة} (ولايجوز بيع حب بدقيقة ولا بسويقه في أصح الروايتين) لا يجوز بيع الحب بالدقيق في الصحيح من المذهب وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد ومكحول الثوري وأبي حنيفة وهو المشهور عن الشافعي وعن أحمد أنه جائز، وبه قال ربيعة ومالك وحكي عن النخعي وقتادة وابن شبرمة واسحاق وأبي ثور لأن الدقيق نفس الحنطة وإنما تكسرت أجزاؤها فجاز بيع بعضها ببعض كالحنطة المكسرة بالصحاح فعلى هذا إنما يباع الحب وزناً لأن أجزاءه قد تفرقت بالطحن وانتشرت فيأخذ من المكيال مكاناً كبيراً والحب يأخذ مكاناً صغيراً والوزن يسوي بينهما وبهذا قال إسحاق ولنا أن بيع الحب بالدقيق بيع مال الربا بجنسه متفاضلاً فحرم كبيع مكيلة بمكيلتين وذلك لأن الطحن قد فرق أجزاءه فيحصل في مكياله دون ما يحصل في مكيال الحب، وإن لم يتحقق التفاضل فقد جهل
التماثل والجهل بالتماثل كالعمل بالتفاضل فيما يشترط التماثل فيه، ولذلك لم يجز بيع بعضه ببعض جزافاً والتساوي في الوزن لا يلزم منه التساوي في الكيل، والحب والدقيق مكيلان لأن الأصل الكيل ولم(4/146)
يوجد ما ينقل عنه ثم لو ثبت أن الدقيق كان موزنا لم يتحقق التماثل لأن المكيل لا يقدر بالوزن كما لا يقدر الموزون بالكيل (فصل) ولا يجوز بيع الحب بالسويق، وبه قال الشافعي وحكي عن مالك وأبي ثور جواز ذلك متماثلاً ومتفاضلاً.
ولنا أنه بيع الحب ببعض أجزائه متفاضلاً فلم يجز كبيع مكوك حنطه بمكوكي دقيق ولا سبيل إلى التماثل لأن النار قد أخذت من أحدهما دون الآخر فأشبهت المقلية بالنيئة، فأما الخبز والهريسة والفالوذج والنشاء وأشباهها فلا يجوز بيعه بالحنطة، وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز بناء على مسألة مد عجوة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، ويجوز بيع الحب بالدقيق من غير جنسه والخبز وغير ذلك لعدم اشتراط المماثلة بينهما، وقال ابن أبي موسى لا يجوز بيع سويق الشعير بالبر في رواية وذلك مبني على أن البر والشعير جنس واحد وقد ذكرناه {مسألة} (ولايجوز بيع أصله بعصيره ولا خالصه بمشوبه ولارطبه بيابسه ولانيئه بمطبوخه) لا يجوز بيع شئ من مال الربا بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج الزيتون بزيت وسائر الأدهان بأصولها والعصير بأصله كعصير العنب والرمان التفاح والسفرجل وقصب السكر لا يباع شئ منها بأصله وبه قال الشافعي وقال ابن المنذر وقال أبو ثور يجوز، وقال أبو حنيفة يجوز إذا علم أن ما في الأصل من الدهن والعصير أقل من المنفرد وإن لم يجز، ولنا أنه مال بيع بأصله الذي هو منه فلم يجز كبيع اللحم بالحيوان وقد أثبتنا ذلك بالنص (فصل) ولايجوز بيع اللبن بالزبد ولا بالسمن ولا بشئ من فروعه كاللبأ والمخيض وسواء كان فيه من غيره أولا لأنه مستخرج من اللبن فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه كالسمسم بالشيرج وهذا مذهب الشافعي، وعن أحمد أنه يجوز بيع اللبن بالزبد إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلاً ومنع جوازه متماثلاً، وقال القاضي وهذه الرواية لا تخرج على
المذهب لأن الشيئين إذا دخلهما الربا لم يجز بيع أحدهما بالآخر ومعه من غير جنسه كمد عجوة، والصحيح أن هذه الرواية دالة على جواز البيع في مسألة مد عجوة وكونها مخالفة لروايات أخر لا يمنع كونها رواية كسائر الروايات المخالفة لغيرها لكونها مخالفة لظاهر المذهب والحكم في السمن كالحكم في الزبد، وأما اللبن بالمخيض فلا يجوز نص عليه أحمد ويتخرج الجواز كالتي قبلها، وأما اللبن باللبأ فإن كان قبل أن تمسه النار جاز متماثلاً لأنه لبن بلبن؟ وإن مسته النار لم يجز، وذكر القاضي وجها أنه يجوز وليس بصحيح لأن النار عقدت أجزاء أحدهما وذهبت ببعض رطوبته فلم يجز بيعه بما لم تمسه النار كالخبز بالعجين المقلية بالنيئة وهذا مذهب الشافعي (فصل) ولا يجوز بيع الخالص بالمشوب كحنطة فيها شعير أو رواب بخالصة أو غير خالصة أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو اللبن بالكشك أو الكامخ، ويتخرج الجواز إذا كان اللبن أكثر من اللبن الذي في الكشك والكامخ بناء على مد عجوة، ولا يجوز بيع العسل في شمعه بمثله فإن كان(4/147)
الخلط يسيراً كحبات الشعير ويسير التراب والزوان الذي لا يظهر في الكيل لم يمنع لأنه لا يخل بالتماثل ولا يجوز بيع التمر بالدبس والخل والناطف والقطارة لأن بعضها معه من غير جنسه وبعضها مائع والتمر جامد، ولا يجوز بيع الناطف بعضه ببعض ولا بغيره من المصنوع من التمر لان معهما شيئاً مقصوداً من غير جنسهما فهو كمد عجوة والعنب كالتمر فيما ذكرناه (فصل) ولا يجوز بيع المشوب بالمشوب كالكشك والكامخ ولا يجوز بيع أحدهما بالآخر كمسألة مد عجوة ولا يجوز نيئة بمطبوخة كالخبز بالعجين والحنطة المقلية بالنيئة لأنه لا يحصل التماثل لأن النار ذهبت ببعض رطوبتها وهذا مذهب الشافعي (فصل) ولايجوز بيع نوع بنوع آخر إذا لم يكن فيه منه فيجوز بيع الزبد بالزبد والسمن بالمخيض في ظاهر المذهب متماثلا متفاضلاً لأنهما جنسان من أصل واحد أشبها اللحم والشحم، وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض الثوري والشافعي واسحاق لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود وهو يسير فلم يمنع كالملح في الشيرج، وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز لخلوه من اللبن المخيض، ولا يجوز بيع الزبد بالسمن
لأن في الزبد لبنا يسيرا ولا شئ في السمن فيختل التماثل ولأنه من الزبد فلم يجز بيعه كالزيتون بالزيت وهذا مذهب الشافعي، واختار القاضي جوازه لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود فوجوده كعدمه ولهذا جاز بيع الزبد بالمخيض ولا يصح ذلك لأن التماثل شرط وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه يخل بالتماثل فلم يجز البيع كتمر منزوع النوى بما نواه فيه ولأن أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر أشبه الرطب بالتمر وكل رطب بيابس من جنسه، ولا يجوز بيع شئ من الزبد والسمن والمخيض بشئ من أنواع اللبن كالجبن واللبأ ونحوهما لأن هذه الأنواع لم ينزع منها شئ فهي كاللبن الذي فيه زبده فلم يجز بيعها به كبيع اللبن بها، وأما بيع الجبن بالأقط فلا يجوز بيع رطوبتهما أو رطوبة أحدهما كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر، وإن كانا يابسين احتمل المنع لأن الجبن موزون والأقط مكيل فأشبه بيع الخبز بالدقيق، ويحتمل الجواز إذا تماثلا كبيع الجبن بالجبن (فصل) ولا يجوز بيع رطب بيابس كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب والحنطة المبلولة أو الرطبة باليابسة والمقلية بالنيئة ونحو ذلك، وبه قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب والليث ومالك والشافعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه إما أن يكونا جنساً فيجوز متماثلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " التمر بالتمر مثلا بمثل " أو يكونا جنسين فيجوز لقوله عليه السلام " لا تبيعوا التمر بالتمر فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " ولنا قوله عليه السلام " لا تبيعوا التمر بالتمر " وفي لفظ نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في بيع العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً متفق عليهما، وعن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر قال " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا نعم.
فنهى عن ذلك رواه مالك وأبو داود والاثرم وابن ماجة، وفي رواية الأثرم قال " فلا إذن " نهى وعلل بأنه ينقص إذا يبس، وروى مالك عن(4/148)
نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الرطب بالتمر كيلا وبيع العنب بالزبيب كيلاً ولأنه جنس فيه الربا بيع بعضه ببعض على وجه ينفرد أحدهما بالنقصان فلم يجز كبيع المقلية بالنيئة، ولا يلزم الحديث بالعتيق لأن التفاوت يسير.
قال الخطابي وقد تكلم بعض
الناس في إسناد حديث سعد بن أبي وقاص في بيع الرطب بالتمر، وقال زيد أبو عياش راويه ضعيف وليس الأمر على ما توهمه وأبو عياش مولى بني زهرة معروف وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو لا يروي عن متروك الحديث {مسألة} (يجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة ومطبوخه بمطبوخه وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف وعصيره بعصيره ورطبه برطبه) يجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بنوعه متساوياً وبه قال أبو حنيفة والمشهور عن الشافعي المنع لأنه يعتبر تساويهما حالة الكمال وهو حال كونهما حباً وقد فات ذلك لأن أحد الدقيقين يكون من حنطة رزينة والآخر من خفيفة فيستويان دقيقاً ولا يستويان حباً ولنا أنهما تساويا حال العقد على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع التمر بالتمر.
إذا ثبت هذا فإنما يباع بعضه ببعض كيلاً لأن الحنطة مكيلة ولم يوجد في الدقيق والسويق ما ينقلهما عن ذلك ويشترط تساويهما في النعومة ذكره أصحابنا وهو قول أبي حنيفة لأنهما إذا تفاوتا في النعومة تفاوتا في ثاني الحال فيصير كبيع الحب بالدقيق وزناً، وذكر القاضي أن الدقيق يباع بالدقيق وزنا ولاوجه له، وقد سلم في السويق أنه يباع بالكيل والدقيق مثله (فصل) ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق وبه قال الشافعي وعنه الجواز لأن كل واحد منهما أجزاء حنطة ليس معه غيره أشبه السويق بالسويق ولنا أن النار قد أخذت من السويق فلم يجز بيعه بالدقيق كالمقلية بالنيئة، وروي عن مالك وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور جواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً لأنهما جنسان، ولنا أنهما أجزاء جنس واحد فأشبه بيع أحدهما بجنسه (فصل) ويجوز بيع مطبوخه بمطبوخه كاللبأ بمثله والجبن بالجبن والأقط بالأقط والسمن بالسمن متساوياً ويعتبر التساوي بين الأقط والأقط بالكيل، ولا يباع ناشف من ذلك برطب كما لا يباع الرطب بالتمر ويباع الجبن بالجبن بالوزن لأنه لا يمكن كيله أشبه الخبز، وكذلك الزبد والسمن ويتخرج أن يباع السمن بالكيل كالشيرج
(فصل) ويجوز بيع الخبز بالخبز وزناً وكذلك النشاء بنوعه إذا تساويا في النشافة والرطوبة ويعتبر التساوي في الوزن لأنه يقدر به عادة ولا يمكن كيله، وقال مالك إذا تحرى المماثلة فلا بأس وإن لم يوزن وبه قال الأوزاعي وأبو ثور وحكي عن أبي حنيفة لا بأس به قرصاً بقرصين، وقال الشافعي لا يجوز بيع بعضه ببعض بحال إلا أن ييبس ويدق دقاً ناعماً ويباع بالكيل ففيه قولان لأنه مكيل،(4/149)
ويجب التساوي فيه ولا يمكن كيله فتعذرت المساواة فيه ولأن في كل واحد منهما من غير جنسه فلم يجز بيعه كالمغشوش من الذهب والفضة وغيرهما ولنا على وجوب التساوي أنه مطعوم موزون فحرم التفاضل بينهما كاللحم واللبن، ومتى وجب التساوي وجبت معرفة حقيقة التساوي في المعيار الشرعي كالحنطة بالحنطة والدقيق بالدقيق.
ولنا على الشافعي أن معظم نفعه في حال رطوبته فجاز بيعه به كاللبن باللبن ولا يمتنع أن يكون موزوناً أصله مكيل كالأدهان، ولا يجوز بيع الرطب باليابس لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فأشبه الرطب بالتمر ولا يمنع زيادة أخذ النار من أحدهما أكثر من الآخر إذا لم يكثر لأن ذلك يسير ولا يمكن التحرز منه أشبه بيع الحديثة بالعتيقة وما فيه من الملح والماء غير مقصود ويراد لمصلحته فهو كالملح في الشيرج فإن يبس الخبز ودق وصار فتيتاً بيع بمثله كيلاً لأنه أمكن كيله فرد إلى أصله.
وقال ابن عقيل فيه وجه أنه يباع الوزن لأنه انتقل إليه (فصل) فأما ما فيه غيره من فروع الحنطة مما هو مقصود كالهريسة والخزيرة والفالوذج وخبز الا بازير والخشكنانج والسنبوسك ونحوه فلا يجوز بيع بعضه ببعض ولا بيع نوع بنوع آخر لأن كل واحد منهما يشتمل على ما ليس من جنسه، وهو مقصود كاللحم في الهريسة والعسل في الفالوذج والماء والدهن في الخزيرة ويكثر التفاوت في ذلك فلا يتحقق التماثل فيه، وحكم سائر الحبوب حكم الحنطة فيما ذكرنا، ويجوز بيع الحنطة والمصنوع منها بغيرها من الحبوب والمصنوع منها لعدم اشتراط المماثلة بينهما (فصل) ويجوز بيع العصير بجنسه متماثلا ومتفاضلاً بغير جنسه وكيف شاء لأنهما جنسان ويعتبر التساوي فيهما بالكيل لأنه يقدر به ويباع به عادة وهذا مذهب الشافعي وسواء كانا مطبوخين أو نيئين، وقال أصحاب
الشافعي: لا يجوز بيع المطبوخ بجنسه لأن النار تعقد أجزاءهما فيختلف ويؤدي إلى التفاضل ولنا أنهما متساويان في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فأشبه النئ بالنئ، فأما بيع النئ بالمطبوخ من جنس واحد فلا يجوز لأن أحدهما ينفرد بالنقص في ثاني الحال أشبه الرطب بالتمر، وقد ذكرناه وإن باع عصير شئ من ذلك بثفله فان كان فيه بقية من المستخرج منه لم يجز بيعه به فلا يجوز بيع الشيرج بالكسب ولا الزيت بثفله الذي فيه بقية من الزيت إلا على قولنا بجواز مد عجوة وإن لم يبق فيه شئ من عصيره جاز بيعه به متفاضلاً ومتماثلا لأنهما جنسان (فصل) ويجوز بيع الرطب بالرطب والعنب بالعنب ونحوه من الرطب بمثله في قول الا كثرين ومنع منه الشافعي فيما يبس، فأما ما لا ييبس كالقثاء والخيار ونحوه فعلى قولين لأنه لا يعلم تساويهما حالة الادخار فأشبه الرطب بالتمر، وذهب أبو حفص العكبري إلى هذا وقال ويحتمله كلام الخرقي لقوله في اللحم لا يجوز بيع بعضه ببعض رطباً قال شيخنا ومفهوم كلام الخرقي إباحته ههنا لأنه قال: ولا يباع شئ من الرطب بيابس من جنسه مفهومه جواز الرطب بالرطب ولنا أن نهيه عليه السلام عن بيع التمر بالتمر يدل بمفهومه على إباحة بيع كل واحد منهما بمثله(4/150)
ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كبيع اللبن باللبن والتمر بالتمر ولأن قوله تعالى (وأحل الله البيع) عام خرج منه المنصوص عليه وهو بيع التمر بالتمر وليس هذا في معناه فيبقى على العموم، وقياسهم لا يصح فإن التفاوت كثير وينفرد أحدهما بالنقصان بخلاف مسئلتنا، ولا بأس ببيع الحديث بالعتيق لأن التفاوت فيه يسير ولا يمكن ضبطه فعفي عنه (فصل) ويجوز بيع القطارة والدبس والخل كل نوع بعضه ببعض متساوياً قال أحمد في رواية مهنا في خل الدقل يجوز بيع بعضه ببعض متساويا لأن الماء في كل واحد منهما غير مقصود وهو من مصلحته فلم يمنع جواز البيع كالخبز بالخبز والتمر بالتمر في كل واحد منهما نواه ولا يباع نوع بالآخر لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقل ويكثر فيفضي إلى التفاضل، والعنب كالتمر إلا أنه لا يباع خل العنب بخل الزبيب لا نفراد أحدهما بما ليس من جنسه، ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض
كخل العنب وخل التمر (فصل) ويجوز بيع اللحم باللحم رطباً نص عليه، وقال الخرقي لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا إذا تناهى جفافه وهذا مذهب الشافعي واختاره أبو حفص العكبري في شرحه، قال القاضي والمذهب جواز بيعه، ونص أحمد على جواز بيع الرطب بالرطب ينبه على إباحة بيع اللحم باللحم من حيث كان اللحم حال كماله ومعظم نفعه في حال رطوبته دون حال يبسه فجرى مجرى اللبن بخلاف الرطب فإن حال كماله ومعظم نفعه في حال يبسه فإذا جاز فيه البيع ففي اللحم أولى، فأما بيع رطبه بيابسه ونيئه بمطبوخه فلا يجوز لانفراد أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلم يجز كالرطب بالتمر، قال القاضي ولا يجوز بيع بعضه ببعض إلا منزوع العظام كما لا يجوز بيع العسل بمثله إلا بعد التصفية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وكلام أحمد رحمه الله يقتضي الإباحة مطلقاً فإنه قال في رواية حنبل إذا صار إلى الوزن رطلاً برطل مثلاً بمثل فأطلق ولم يشترط شيئاً ولأن العظم تابع للحم بأصل الخلقة فأشبه النوى في التمر وفارق العسل في أن اختلاط الشمع به من فعل النحل لا من أصل الخلقة {مسألة} (ولا يجوز بيع المحاقلة وهو بيع الحب في سنبله بجنسه وفي بيعه بغير جنسه وجهان) وذلك لما روى البخاري عن أنس قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمحاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة.
والمحاضرة بيع الزرع الأخضر والمحاقلة بيع الزرع في الحقول بحب من جنسه، قال جابر: المحاقلة أن يبيع الزرع بمائة فرق حنطه، وقال الأزهري الحقل الفراخ المزروع وفسره أبو سعيد باستكراء الأرض بالحنطة ولأنه بيع الحب بجنسه جزافاً من أحد الجانبين فلم يجز كما لو كانا على الأرض فأما بيعه بغير جنسه فإن كان بدراهم أو دنانير جاز لأن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد يدل على جواز ذلك إذا اشتد وهذا أحد قولي الشافعي، وإن باعه بحب ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " (والثاني) لا يجوز لعموم الحديث المذكور {مسألة} (ولا يجوز بيع المزابنة وهو بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر إلا في العرايا وهي(4/151)
بيع الرطب في رءوس النخل خرصاً بمثله من التمر كيلا فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى
أكل الرطب ولا ثمن معه) لا يجوز بيع المزابنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة وهو بيع الرطب بالتمر متفق عليه.
وروى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، فأما العرايا فيجوز في الجملة وهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك في أهل المدينة والاوزاعي في أهل الشام والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال أبو حنيفة لا يحل بيعها لما ذكرنا من الحديث ولأنه بيع الرطب بالتمر من غير كيل في أحدهما فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق متفق عليه، ورواه زيد بن ثابت وسهل بن أبي حثمة وغيرهما وحديثهم في سياقه إلا العرايا كذلك في المتفق عليه، وهذه زيادة يجب الأخذ بها ولو قدر التعارض وجب تقديم حديثنا بخصوصه جمعاً بين الحديثين وعملاً بكلا النصين.
قال إبن المنذر الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، والقياس لا يصار اليه مع النص مع أن في الحديث أنه أرخص في العرايا، والرخصة استباحة المحظور مع وجود السبب الحاظر، فلو منع وجود السبب من الاستباحة لم يبق لنا رخصة بحال {فصل} وإنما يجوز بشروط خمسة (أحدها) أن يكون فيما دون خمسة أوسق في ظاهر المذهب ولا خلاف في أنها لا تجوز في زيادة على خسمة أوسق وانها تجوز فيما نقص عن خمسة أوسق عند القائلين بجوازها.
فأما الخمسة الأوسق فظاهر المذهب أنه لا يجوز فيها وبه قال ابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، وقال مالك والشافعي في قول يجوز ورواه اسماعيل بن سعيد عن أحمد لأن في حديث زيد وسهل أنه أرخص في العرايا مطلقاً ثم استثنى ما زاد على الخمسة وشك الراوي في الخمسة فبقي المشكوك فيه على أصل الإباحة ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة.
والمزابنة بيع الرطب بالتمر ثم أرخص في العرية فيما دون خمسة أوسق وشك في الخمسة فيبقى على العموم في التحريم ولأن العرية رخصة بنيت على خلاف النص والقياس فيما دون الخمسة، والخمسة مشكوك فيها فلا تثبت إباحتها مع الشك، وروى ابن المنذر
بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرية في الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة والتخصيص بهذا يدل على أنه لا تجوز الزيادة في العدد عليه كما اتفقنا على أنه لا تجوز الزيادة على الخمسة لتخصيصه إياها بالذكر ولأن خمسة الأوسق في حكم ما زاد عليها في وجوب الزكاة فيها دون ما نقص عنها فأما قولهم أرخص في العرية مطلقاً فلم يثبت أن الرخصة المطلقة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها بل الرخصة واحدة رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة فيجب حمل المطلق على المقيد ويصير القيد المذكور في أحد الحديثين كأنه مذكور في الآخر ولذلك يقيد فيما زاد على الخمسة اتفاقاً(4/152)
(فصل) ولا يجوز أن يشتري أكثر من خمسة أوسق فيما زاد على صفقة سواء اشتراها من واحد أو من جماعة، وقال الشافعي يجوز للإنسان بيع جميع حائطه عرايا من رجل واحد ومن رجال في عقود متكررة لعموم حديث زيد ولأن كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر كسائر البيوع، ولنا عموم النهي عن المزابنة استثنى منه العرية فيما دون خمسة أوسق فما زاد يبقى على العموم في التحريم ولأن مالا يجوز عليه العقد مرة إذا كان نوعاً واحداً لا يجوز في عقدين كالذي على وجه الأرض وكالجمع بين الاختين.
(فصل) (كذا في الاصل وكان المناسب ان يذكر هذا الفصل عقيب الشرط الثاني ولا ندري إن كان هذا الوضع من المصنف أو من النساخ) ولا تعتبر حاجة البائع فلو باع رجل عرية من رجلين فيها أكثر من خمسة أوسق جاز وقال أبو بكر القاضي لا يجوز لما ذكرنا في المشتري ولنا أن المغلب في التجويز حاجة المشتري بدليل ما روى محمود بن لبيد قال قلت لزيد بن ثابت ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه وعندهم فضول من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطباً، وإذا كان سبب الرخصة حاجة المشتري لم تعتبر حاجة البائع إلى البيع فلا يتقيد في حقه بخمسة أوسق، ولا ننا لو اعتبرنا الحاجة من المشتري وحاجة البائع إلى البيع أفضى إلى أن لا يحصل الإرفاق إذ لا يكاد يتفق وجود الحاجتين فتسقط الرخصة.
فإن قلنا لا يجوز ذلك بطل العقد الثاني وإن اشترى عريتين أو باعهما وفيهما أقل من خمسة أوسق جاز وجهاً واحداً
(الثاني) أن يكون مشتريها محتاجاً إلى أكلها رطباً ولا يجوز بيعها لغني وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر أنها تباح مطلقاً لكل أحد لأن كل بيع جاز للمحتاج جاز للغني كسائر البيوع ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان.
ولنا حديث زيد بن ثابت الذي ذكرناه وإذا خولف الأصل بشرط لم يجز مخالفته بدون ذلك الشرط ولا يلزم من إباحته للحاجة إباحته مع عدمها كالزكاة للمساكين فعلى هذا متى كان المشتري غير محتاج إلى أكل الرطب لم يجز شراؤها بالتمر، ولو باعها لواهبها تحرزاً من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك أو لغيره لم يجز وقال ابن عقيل يباح ويحتمله كلام أحمد لأن الحاجة وجدت من الجانبين فجاز كما لو كان المشتري محتاجاً إلى أكلها ولنا حديث زيد الذي ذكرناه والرخصة لمعنى خاص لا تثبت مع عدمه ولأن في حديث زيد وسهل يأكلها أهلها رطباً ولو جازت لتخليص المعري لما شرط ذلك (الثالث) أن لا يكون للمشتري نقد يشتري به للخبر المذكور (الرابع) أن يشتريها بخرصها من التمر ويجب أن يكون التمر الذي يشتري به معلوماً بالكيل ولا يجوز جزافاً لا نعلم خلافاً في هذا عند من أباح بيع العرايا لما روى زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً متفق عليه، ولمسلم أن تؤخذ بمثل خرصها تمراً يأكلها أهلها رطباً، إذا ثبت ذلك فمعنى خرصها بمثلها من التمر أن ينظر الخارص إلى العرية فينظر كم يجئ منها تمراً فيشتريها المشتري بمثله تمراً، وبهذا قال الشافعي، ونقل حنبل عن أحمد أنه قال يخرصها رطباً ويعطي تمراً وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أنه يشتريها بمثل الرطب الذي عليها لأنه بيع(4/153)
اشترطت المماثلة فيه فاعتبرت حال البيع كسائر البيوع ولأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال وإن لا يباع الرطب بالتمر خولف في الأصل في بيع الرطب بالتمر فبقي فيما عداه على قضية الدليل.
قال القاضي والأول أصح لأنه ينبني على خرص الثمار في العشر والصحيح خرصة تمراً ولأن المماثلة في بيع التمر بالتمر معتبرة حالة الادخار وبيع الرطب بمثله تمراً يفضي إلى فوات ذلك، فأما ان اشتراها بخرصها رطباً لم يجز وهذا أحد الوجوه لاصحاب الشافعي والثاني يجوز والثالث لا يجوز مع اتفاق النوع ويجوز مع اختلافه.
ووجه جوازه ماروى الجوزجاني عن أبي صالح عن الليث عن ابن شهاب عن سالم عن ابن
عمر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو التمر ولم يرخص في غير ذلك، ولأنه إذا جاز بيعها بالتمر مع اختصاص أحدهما بالنقص في ثاني الحال فلأن يجوز مع عدم ذلك أولى ولنا ما روى مسلم بإسناده عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تؤخذ بمثل خرصها تمراً، وعن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وقال " ذلك الربا تلك المزابنة " إلا أنه أرخص في العرية النخلة أو النخلتين يأخذهما أهل البيت بخرصهما تمراً يأكلونها رطباً ولأنه مبيع يجب فيه مثله تمراً فلم يجز بيعه بمثله رطباً كالتمر الجاف، ولأن من له رطب فهو مستغن عن شراء الرطب بأكل ما عنده وبيع العرايا يشترط فيه حاجة المشتري على ما أسلفناه وحديث ابن يحيى شك في الرطب والتمر فلا يجوز العمل مع الشك سيما وهذه الأحاديث تثبته وتزيل الشك (الخامس) التقابض في المجلس وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا ولا نعلم فيه مخالفاً لأنه بيع تمر بتمر فاعتبر فيه شروطه إلا ما استثناه الشرع مما لم يمكن اعتباره في بيع العرايا، والقبض في كل واحد منهما على حسبه ففي التمر اكتياله وفي الثمر التخلية، وليس من شروطه حضور التمر عند النخيل بل لو تبايعا بعد معرفة التمر والثمرة ثم مضيا جميعا إلى النخيل فسلمه إلى مشتريه ثم مضيا إلى التمر فسلمه البائع أو تسلم التمر أولا ثم مضيا إلى النخل فسلمه جاز لأن التفرق لم يحصل قبل القبض.
إذا ثبت هذا فإن بيع العرية يقع على وجهين (أحدهما) أن يقول بعتك ثمرة هذه النخلة بكذا ويصفه الثاني أن يكيل من التمر بقدر خرصها ثم يقول بعتك هذا بهذا، أو بعتك ثمرة النخلة بهذا التمر ونحو هذا فإن باعه بمعين فقبضه بنقله وأخذه وإن باعه بموصوف فقبضه بكيله {مسألة} (فيعطيه من التمر مثل ما يؤول إليه ما في النخل عند الجفاف وعنه يعطيه مثل رطبه وقد ذكرناه) (فصل) ولا يشترط في العرية أن تكون موهوبة لبائعها، وبه قال الشافعي وظاهر قول الخرقي أنه شرط، وقال الأثرم سمعت أحمد يسئل عن تفسير العرايا فقال: العرايا أن يعري الرجل الجار أو القرابة للحاجة والمسكنة فللمعري أن يبيعها ممن شاء، وقال مالك بيع العرايا الجائز هو أن يعري الرجل الرجل نخلات من حائطه ثم يكره صاحب الحائط دخول الرجل المعرى حائطه لأنه ربما كان مع أهله في الحائط(4/154)
فيؤذيه دخول صاحبه عليه فيجوز أن يشتريها منه، واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخيل عاما قال أبو عبيد الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخله عامها ذلك قال شاعر الأنصار: ليست بسنهاء ولا رجبية * ولكن عرايا في السنين الجوائح يقول إنا نعريها الناس، فتعين صرف اللفظ الى موضوعه لغة ومقتضاه في العربية ما لم يوجد ما يصرفه عن ذلك.
ولنا حديث زيد بن ثابت وهو حجة على مالك في تصريحه بجواز بيعها من غير الواهب ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق لعدم اختصاص الحاجة بها ولم يجز بيعها بالتمر لان لأن الظاهر من حال صاحب الحائط الذي له النخل الكثير يعريه الناس أنه لا يعجز عن اداء ثمن العرية.
وفيه حجة على من اشترط كونها موهوبة لبائعها لأن علة الرخصة حاجة المشتري إلى أكل الرطب ولا ثمن معه سوى التمر فمتى وجد ذلك جاز البيع، ولأن اشتراط كونها موهوبة مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطباً ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولأن ما جاز بيعه لواهبة إذا كان موهوباً جاز وإن لم يكن موهوباً كسائر الأموال وما جاز بيعه لواهبة جاز لغيره كسائر الأموال وإنما سمي عرية لتعريه عن غيره وافراده بالبيع {مسألة} (ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين) لا يجوز بيع العرية في غير النخيل اختاره أبو حامد وهو قول الليث إلا تكون ثمرته مما لا يجري فيه الربا فيجوز بيع رطبها بيابسها لعدم جريان الربا فيها، وقال القاضي يجوز في سائر الثمار وهو قول مالك والاوزاعي قياساً على ثمرة النخيل، ويحتمل أن يجوز في العنب دون غيرهما وهو قول الشافعي لأن العنب كالرطب في وجوب الزكاة فيه وجواز خرصه وتوسيقه وكثرة يابسه واقتنائه في بعض البلدان والحاجة إلى أكل رطبه، والتنصيص على الشئ يوجب ثبوت الحكم في مثله ولايجوز في غيرهما لاختلافهما في أكثر هذه المعاني فإنه لا يمكن خرصها لتفرقها في الأغصان واستتارها بالأوراق ولا يقتات يابسها فلا يحتاج إلى الشراء به، ووجه الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة التمر بالثمرة إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب وكل ثمر بخرصة وهذا حديث حسن رواه
الترمذي وهو يدل على تخصيص العرية بالتمر فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وعن كل ثمر بخرصه ولان الأصل يقتضي تحريم بيع العرية وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة ولا يصح قياس غيرها عليها لوجهين (أحدهما) أن غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات بها وسهولة خرصها وكون الرخصة في الأصل لأهل المدينة، وإنما كانت حاجتهم إلى الرطب دون غيره (الثاني) أن القياس لا يعمل به إذا خالف نصاً وقياسهم يخالف نصوصاً غير مخصوصة، وإنما يجوز التخصيص بالقياس على المحل المخصوص ونهى عن بيع العنب بالزبيب لم يدل على تخصيص فيقاس عليه وكذلك سائر الثمار {مسألة} (ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما(4/155)
كمد عجوة ودرهم بمدين أو بدرهمين أو بمد ودرهم وعنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه) هذه المسألة تسمى مسألة مد عجوة وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز نص عليه أحمد في مواضع كثيرة قال ابن أبي موسى في السيف المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة تباع بجنس ما عليها لا يجوز قولاً واحداً، وروى هذا عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد أنه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه: قال حرب قلت لأحمد دفعت ديناراً كوفياً ودرهما وأخذت دينار اشامياً وزنهما سواء؟ قال لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روى عن محمد ابن أبي حرب الجرجرائي قال أبو داود سمعت أحمد يسئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم فقال لا أقول فيه شيئاً، قال أبو بكر روى هذه المسألة عن أحمد خمسة عشر نفساً كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة يجوز ذلك بما ذكرنا من الشرط، وقال الحسن لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم وبه قال الشعبي والنخعي
واحتجوا بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد لأنه لو اشترى لحماً من قصاب جاز مع احتمال كونه ميتة لكن يجب حمله على أنه مذكى تصحيحاً، وقد أمكن تصحيح العقد ههنا بجعل(4/156)
الجنس في مقابلة غير الجنس أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل ولنا ما روى فضالة بن عبيد قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا، حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود وفي لفظ رواه مسلم قال أمر رسول الله صلى الله عليه بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب وزناً بوزن " ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض.
بيانه إذا اشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، وكذلك إذا اشترى شقصاً وسيفاً بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهماً ومداً قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث هذا إذا تفاوتت القيم ومع التساوي يجهل ذلك لأن التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص، وقولهم يجب تصحيح العقد ممنوع بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، كذلك لو باع بثمن وأطلق وفي البلد نقود بطل العقد ولم يحمل على نقد أقرب البلاد اليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئاً فإنه يصح لأن الظاهر أنه ملكه لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحماً فالظاهر أنه مذكى لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة(4/157)
{مسألة} (وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه كدينار قراضة وصحيح بصحيحين أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء أو تمراً برنيا ومعقلياً بابرحيمي فإن ذلك يصح قاله أبو بكر وأومأ إليه أحمد واختار القاضي أن الحكم فيها كالتي قبلها)
وهو مذهب مالك والشافعي لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا وروى عن أحمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن نقله أحمد بن القاسم لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها ويشق تمييزها فعفي عنها بخلاف الأثمان ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل " الحديث وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المرعية هي في الموزون وزناً وفي المكيل كيلا ولان الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه فيما إذا اتحد النوع في كل واحد من الطرفين فكذلك إذا اختلفا واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة ولأنه باع ذهباً بذهب متساوياً في الوزن فصح كما لو اتفق النوع، وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين أو في غير الربويات بدليل مالو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد وردئ {مسألة} (ولايجوز بيع تمر منزوع النوى بما نواه فيه لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه دون الآخر، وإن نزع النوى ثم باع النوى والتمر بنوى وتمر لم يجز لأن التبعية زالت بنزعه فصار كمسألة مد عجوة بخلاف ما إذا كان في كل واحد نواه، وإن باع تمراً منزوع النوى بتمر منزوع النوى(4/158)
جاز كما لو باع تمراً فيه النوى بعضه ببعض، وقال أصحاب الشافعي لا يجوز في أحد الوجهين لأنهما لم يتساويا في حال الكمال ولأنه يتجافى في المكيال ولنا قول النبي صلى الله وعليه وسلم " التمر بالتمر مداً بمد " ولأنهما تساويا في حال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان فجاز كما لو كان في كل واحد نواه، ويجوز بيع النوى بالنوى كيلا كذلك {مسألة} (وفي بيع النوى بتمر فيه النوى، واللبن بشاة ذات لبن والصوف بنعجة عليها صوف روايتان) إذا باع النوى بتمر نواه فيه فعلى روايتين (إحداهما) لا يجوز رواه عنه مهنا وابن القاسم لأنه كمسألة مدعجوة وكما لو باع تمراً فيه نواه بتمر منزوع النوى (والثانية) يجوز رواها ابن منصور لأن النوى في التمر غير مقصود فجاز كما لو باع داراً مموهاً سقفها بذهب، فعلى هذا يجوز بيعه متفاضلاً ومتساوياً لأن النوى الذي في التمر لا عبرة به فصار كبيع النوى بتمر منزوع النوى (فصل) وإن باع شاة ذات لبن بلبن أو شاة عليها صوف بصوف أو باع لبوناً بلبون أو ذات
صوف بمثلها خرج فيه الروايتان كالتي قبلها (إحداهما) الجواز اختاره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة لأن ما فيه الربا غير مقصود (والثاني) المنع وهو مذهب الشافعي لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه أشبه بيع اللحم بالحيوان والأول أولى، والفرق بينهما أن اللحم والحيوان مقصود بخلاف اللبن والصوف، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجهاً واحداً لأن اللبن لا أثر له ولا يقابله شئ من الثمن فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن وحبات الشعير في الحنطة ولا نعلم فيه خلافاً، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل حال، ويحتمل أن لا يجوز على قولنا إن اللبن جنس واحد، ولو باع نخلة عليها ثمر بثمر أو بنخلة عليها ثمر ففيه أيضاً وجهان (أحدهما) الجواز اختاره أبو بكر لأن الثمر غير مقصود بالبيع (والثاني) لا يجوز ووجه الوجهين ما ذكرنا في المسألة قبلها، واختار القاضي المنع وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن بكون الثمرة يصح إفرادها بالبيع وهي معلومة بخلاف اللبن في الشاة، وهذ الفرق غير مؤثر فإن ما يمنع إذا جاز(4/159)
إفراده يمنع وإن لم يجز إفراده كالسيف المحلى يباع بجنس حليته وما لا يمنع لا يمنع وإن جاز افراده كمال العبد (فصل) وإن باع داراً سقفها مموه بذهب أو دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما جاز لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبداً له مال فاشترط ماله وهو من جنس الثمن جاز إذا كان المال غير مقصود فهو كالسقف المموه، ولو اشترى عبداً بعبد واشترط كل واحد منهما مال العبد جاز أيضاً إذا كان المال غير مقصود (فصل) وإن باع جنساً فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فهو على أقسام (أحدها) أن يكون غير المقصود يسيراً لا يؤثر في كيل ولا وزن كالملح فيما يعمل فيه وحبات الشعير في الحنطة فلا يمنع لأنه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه كبيع الخبز بالملح جاز لأن وجود ذلك كعدمه (الثاني) أن يكون غير المقصود كثيراً إلا أنه لمصلحة المقصود كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر فيجوز بيعه بمثله ويتنزل خلطه بمنزلة رطوبته لكونه من مصلحته فلم يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب
ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب لافضائه إلى التفاضل فجرى مجرى بيع التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله إلا بيع الشيرج بالشيرج لكون الماء لا يظهر في الشيرج (الثالث) أن يكون غير المقصود كثيراً وليس من مصلحته كاللبن المشوب بالماء بمثله والأثمان المغشوشة بغيرها فلا يجوز بيع بعضها ببعض لأن خلطه ليس من مصلحته وهو يخل بالتماثل المقصود فيه، وإن باعه بجنس غير المقصود كبيعه الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم احتمل الجواز لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في(4/160)
الأصل وإن باع ديناراً مغشوشاً بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز لأنه يخل بالتماثل المقصود، وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على وجهين أولاهما الجواز لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له (فصل) ولو دفع إلى إنسان درهماً وقال أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم وبنصفه فلوساً أو حاجة أخرى جاز لأنه اشترى نصفاً بنصف وهما متساويان فصح كما لو دفع إليه درهمين فقال بعني بهذا الدرهم فلوساً وأعطني بالآخر نصفين، وإن قال أعطني بهذا الدرهم نصفاً وفلوساً جاز أيضاً لأن معناه ذلك ولأن ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقيناً وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء {مسألة} (والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما لا عرف لهم فيه ففيه وجهان) (أحدهما) يعتبر عرفة في موضعه ولا يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز ونحو هذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة الاعتبار في كل بلد بعادته، ولنا ما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يحمل كلامه على بيان الأحكام ولأن ما كان مكيلاً بالحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف إليه التحريم في تفاضل الكيل فلا يجوز أن يتغير بعد ذلك وهكذا الوزن، فأما مالا عرف له في الحجاز ففيه وجهان (أحدهما) يرد إلى أقرب الأشياء
شبهاً به بالحجاز كما أن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها وهو القياس (والثاني) يعتبر عرفة في موضعه لأن ما لم يكن له في الشرع حد يرجع فيه إلى العرف كالقبض الحرز والتفرق، وعلى هذا(4/161)
إن اختلفت البلاد فالاعتبار بالغالب فإن لم يكن غالب تعين الوجه الأول ومذهب الشافعي كهذين الوجهين (فصل) والبر والشعير مكيلان منصوص عليهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " البر بالبر كيلاً بكيل والشعير بالشعير كيلا بكيل " وكذلك سائر الحبوب والا بازير والاشنان والجص والنورة وما أشبهها والتمر مكيل وهو من المنصوص عليه وكذلك سائر ثمرة النخل من الرطب والبسر وغيرهما، وسائر ما تجب فيه الزكاة من الثمار مثل الزبيب والفستق والبندق واللوز والعناب والمشمش والزيتون والبطم والملح مكيل وهو من المنصوص عليه بقوله عليه السلام " الملح بالملح مداً بمد " والذهب والفضة موزونان بقوله عليه السلام " الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن " وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد والرصاص والصفر والنحاس والزجاج والزئبق وكذلك الابريسم والقطن والكتان والصوف وغزل ذلك وما أشبهه، ومنه الخبز واللحم والشحم والجبن والزبد والشمع والزعفران والورس والعصفر وما أشبه ذلك (فصل) والدقيق والسويق مكيلان لأن أصلهما مكيل ولم يوجد ما ينقلهما عنه ولأنهما يشبهان ما يكال وذكر القاضي في الدقيق أنه يجوز بيع بعضه ببعض وزناً ولا يمنع أن يكون موزوناً وأصله مكيل كالخبز.
ولنا ما ذكرناه ولأنه يقدر بالصاع بدليل أنه يخرج في الفطر صاع من دقيق، وقد جاء ذلك في الحديث والصاع إنما يقدر به المكيلات، وعلى هذا يكون الأقط مكيلاً لأن في حديث صدقة الفطر صاع من أقط.
فأما اللبن وغيره من المائعات كالأدهان من الزيت والشيرج والعسل والدبس والخل ونحو ذلك، فالظاهر أنها مكيلة.
قال القاضي في الأدهان هي مكيلة وفي اللبن يصح السلم فيه كيلاً، وقال أصحاب الشافعي لا يباع اللبن بعضه ببعض إلا كيلاً، وقد روي عن أحمد رحمه الله تعالى أنه سئل عن السلف في اللبن فقال نعم كيلاً أو وزناً وذلك لأن الماء يقدر بالصاع، ولذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ويغتسل هو وزوجته من الفرق وهذه مكاييل قدر بها الماء، وكذلك
سائر المائعات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما في ضروع الأنعام إلا بكيل رواه ابن ماجه، وأما غير المكيل والموزون فما لم يكن له أصل بالحجاز في كيل ولا وزن ولا يشبه ما جرى فيه عرف بذلك كالنبات والحبوب والمعدودات من الجوز والبيض والرمان والقثاء والخيار وسائر الخضر(4/162)
والبقول والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ ونحوها، فهذه إذا اعتبرنا التماثل فيها فإنه يعتبر في الوزن لأنه أخصر ذكره القاضي في الفواكة الرطبة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، والآخر قالوا يعتبر ما أمكن كيله بالكيل لأن الأصل الأعيان الأربعة وهي مكيلة، ومن شأن الفرع أن يرد إلى أصله بحكمه، والأصل حكمه تحريم التفاضل بالكيل فكذلك يكون حكم فروعه ولنا أن الوزن أخصر فوجب اعتباره في غير المكيل والموزون كالذي لا يمكن كيله، وإنما اعتبر الكيل في المنصوص لأنه يقدر به في العادة وهذا بخلافه (فصل) قال رضي الله عنه (وأما ربا النسيئة فكل شيئين ليس أحدهما ثمناً علة ربا الفضل فيهما واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون لا يجوز النساء فيهما وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد) متى كان أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً جاز النساء بينهما بغير خلاف لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس مال السلم الدراهم والدنانير فلو حرم النساء ههنا لا نسد باب السلم في الموزونات في الغالب وإن لم يكن أحدهما ثمناً، فكل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة بغير خلاف نعلمه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وفي لفظ " لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد وأما النسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير - والشعير أكثرهما - يداً بيد وأما النسيئة فلا " رواه أبو داود (فصل) وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد، وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يشترط التقابض في غير النقدين لأن ما عداهما ليس بأثمان.
فلم يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا كبيع ذلك بأحد النقدين، وأما قوله عليه السلام " فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " فالمراد به القبض، ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق بينهما قبل القبض كالذهب بالفضة {مسألة} (وإن باع مكيلاً بموزون كاللحم بالبر جاز التفرق قبل القبض وفي التساوي روايتان) وهذا ذكره أبو الخطاب وقال هو رواية واحدة لأن علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض لأنه قال: وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يداً بيد(4/163)
وهل يجوز النساء؟ فيه روايتان (إحداهما) لا يجوز ذكرها الخرقي لأنهما مالان من أموال الربا فلم يجز النساء فيهما كالمكيل بالمكيل (والثانية) يجوز وهو قول النخعي لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان وعند من يعلل بالطعم لا يجيزه ههنا وجهاً واحداً {مسألة} (وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب والحيوان يجوز النساء فيهما، وعنه لا يجوز وعنه لا يجوز في الجنس الواحد كالحيوان بالحيوان ويجوز في الجنسين كالثياب بالحيوان) فيه أربع روايات (إحداهن) لا يحرم النساء فيه سواء بيع بجنسه أو بغيره متساوياً أو متفاضلاً، وقال القاضي إن كان مطعوماً حرم النساء فيه وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، وهذا مبني على أن العلة الطعم وهو مذهب الشافعي، ووجه جواز النساء ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد بن علي أن علياً باع بعيراً له يقال له عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار، ولأن النساء أحد نوعي الربا فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر فعلى هذه الرواية علة تحريم النساء الوصف الذي مع الجنس.
أما الكيل أو الوزن أو الطعم عند من يعلل به فيختص تحريم النساء بالمكيل والموزون عند من يعلل به اختاره القاضي (والرواية الثانية) يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر سواء كان من جنسه أو لا لما روى سمرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
قال الترمذي حديث صحيح ولم يفرق بين الجنس
والجنسين، ولأنه بيع عرض بعرض فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا فيكون علة النساء بينهما المالية على هذه الرواية.
قال القاضي فعلى هذا لو باع عرضاً بعرض ومع أحدهما دراهم العروض نقدا والدراهم نسئية جاز وإن كان بالعكس لم يجز لأنه يفضي إلى النسئية في العروض (قال شيخنا) وهذه الرواية ضعيفة جداً لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص.
ولا إجماع ولا قياس صحيح فإن للمحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أو صافا لها أثر في تحريم الفضل فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار، وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه وإن لم يخالف أصلا فكيف مع مخالفة الأصل في حل البيع؟ فأما حديث سمرة فهو من رواية الحسن عن سمرة، وأبو عبد الله لا يصحح سماع الحسن من سمرة قاله الأثرم (والرواية الثالثة) يحرم النساء في كل ما بيع بجنسه كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب ولا يحرم(4/164)
في غير ذلك وهذا مذهب أبي حنيفة ويروى كراهة بيع الحيوان بالحيوان نساء عن ابن الحنفية وعبد الله ابن عبيد بن عمير وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري والحسن وروي ذلك عن عمار وابن عمر لحديث سمرة ولأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل فحرم النساء كالكيل والوزن (والرواية الرابعة) لا يحرم النساء إلا فيما بيع بجنسه متفاضلاً لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يداً بيد " قال الترمذي حديث حسن، وروي الإمام أحمد بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً قال يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال لا باس إذا كان يداً بيد " وهذا يدل بمفهومه على إباحة النساء مع التماثل والرواية الأولى أصح لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها قد قال أحمد ليس فيها حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال هما مرسلان، وحديث سمرة قد أجبنا عنه وحديث جابر قال أبو عبد الله هذا حجاج زاد فيه نساء، وليث بن سعيد قال يعقوب بن شيبة هو واهي الحديث وهو صدوق، وان كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه والآخر فيه ربا كالمكيل بالمعدود ففي تحريم النساء فيهما روايتان {مسألة} (ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ وهو بيع الدين بالدين) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الكالئ بالكالئ رواه أبو عبيد في الغريب (فصل) قال رحمه الله تعالى (ومتى افترق المتصارفان قبل التقابض أو افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس ماله بطل العقد) أما إذا افترقا عن مجلس السلم قبل قبض رأس المال فسيذكر في بابه إن شاء الله تعالى، وأما الصرف فهو بيع الأثمان بعضها ببعض، والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء " وقوله عليه السلام " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد " ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا ونهى أن يباع غائب منها بناجز وكلها أحاديث صحاح.
ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما أو إلى الصراف فتقابضاه عنده جاز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك لاخير في ذلك لأنهما فارقا مجلسهما ولنا أنهما لم يتفارقا قبل التقابض فأشبه مالو كانا في سفينة تسير بهما أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه في قوله للذين مشياً إليه من جانب العسكر: وما أراكما افترقتما.
وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد لفوات شرطه(4/165)
{مسألة} وإن قبض البعض ثم افترقا بطل في الجميع في أحد الوجهين، وفي الآخر يبطل فيما لم يقبض بناء على تفريق الصفقة، ولو وكل أحدهما وكيلاً في القبض فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز وقام قبض وكيله مقام قبضه سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه، وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل لأن القبض في المجلس شرط وقد فات، وإن تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك لأنهما لم يتفرقا قبل القبض، ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد وهو مذهب الشافعي لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض أشبه ما لو افترقا، والصحيح الأول فإن الشرط التقابض في المجلس وقد وجد واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا
فإن الصرف يقع لازماً صحيحاً قبل القبض ثم يشترط القبض في المجلس (فصل) ولو صارف رجلاً ديناراً بعشرة دراهم وليس معه إلا خمسة لم يجز أن يتفرقا بل قبض العشرة، فإن قبض الخمسة وافترقا فهل يبطل في الجميع أو في نصف الدينار؟ ينبني على تفريق الصفقة فان ارادا صحة العقد فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه أو يفسخان العقد كله ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه ثم يأخذ الدينار كله فيكون نصفه له والباقي أمانة في يده ويتفرقان ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار أو اشترى به منه شيئاً أو جعله سلما في شئ أو وهبه إياه جاز، ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين وقال أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح، ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر جاز وإن طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شئ عليه في تلفه نص أحمد على أكثر هذه المسائل، فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم فاشترى بها نصف دينار وقبض ديناراً كاملاً ودفع إليه الدراهم ثم اقترضها منه واشترى بها النصف الباقي أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه ودفع إليه عوضاً عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة فلا بأس {مسألة} (وإن تقابضا ثم افترقا فوجدا أحدهما ما قبضه رديئاً فرده بطل العقد في إحدى الروايتين) هذا إن كان فيه عيب من غير جنسه لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما يشترط قبضه اختاره القاضي، والآخر لا يبطل لأن قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه في المجلس وإن رد بعضه وقلنا يبطل في المردود فهل يبطل في الباقي؟ على روايتين بناء على تفريق الصفقة، وإن كان العيب من جنسه فسنذكره إن شاء الله تعالى (فصل) فإذا باع مدي تمر ردئ بدرهم ثم اشترى بالدرهم تمراً جيداً أو اشترى من رجل ديناراً صحيحاً بدراهم وتقابضا ثم اشترى منه بالدراهم قراضة عن غير مواطأة ولا حيلة فلا بأس به، وقال ابن أبي موسى لا يجوز إلا أن يمضي الى غيره ليبتاع منه فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع(4/166)
فيبتاع منه، وقال أحمد في رواية الأثرم يبيعها من غيره أحب إلي، قلت له فإن لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها
منه، فقال يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول هي ترجع إليه، قيل لأبي عبد الله فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره (قوله فذهب الخرقي العبارة تعقيد واضطراب فتراجع في مظنتها من المغني) فلم يجدها فرجع إليه، فقال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم، فظاهر هذا أنه على وجه الاستحباب لا الإيجاب ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على هذا ولهذا قال إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم، وقال مالك إن فعل ذلك مرة جاز وإن فعله أكثر من مرة لم يجز لأنه يضارع الربا ولنا ما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال: جاء بلال رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أين هذا؟ " قال بلال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أوه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتربه " وروى أبو سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاء بتمر جنيب فقال " أكل تمر خيبر وهكذا؟ " فقال لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تفعل بع التمر بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً " متفق عليهما ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرماً لبينه له وعرفه إياه، ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز كما لو باعه من غيره، ولأن ما جاز من البياعات مرة جاز على الإطلاق كسائر البياعات، فإن تواطآ على ذلك لم يجز وكان حيله محرمة، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة والشافعي يجوز ما لم يكن مشروطاً في العقد.
ولنا أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة والحيل محرمة على ما سنذكره (فصل) والصرف ينقسم إلى قسمين (أحدهما) أن يبيع عينا بعين وهو أن يقول بعتك هذا الدينار بهذه الدراهم (والثاني) أن يقع العقد على موصوف نحو أن يقول بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم ناصرية وقد يكون أحد العوضين معيناً دون الأخر وكل ذلك جائز، وظاهر المذهب أن النقود تتعين بالتعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها، فإن تبايعا عيناً بعين ثم تقابضا فوجد أحدهما عيباً فيما قبضه فذلك قسمان (عبارة المغني في الصفحة السابقة.
لم يخل من قسمين.
وهو جواب الشرط.
وما هنا لا يصلح جوابا بل هو معطوف على ما قبله) (أحدهما) أن يكون العيب غشا من غير جنس المبيع كالنحاس في الدراهم والمس
في الذهب فالصرف باطل وهو قول الشافعي، وذكر أبو بكر فيها ثلاث روايات (إحداهن) البيع باطل (والثانية) صحيح وللمشتري الخيار والترك وأخذ البدل (والثالثة) يلزمه العقد وليس له رد ولا بدل.
ولنا انه باعه غير ما سمى له فلم يصح كما لو قال بعتك هذه البغلة فإذا هو حمار، أو هذا الثوب القز وإذا هو كتان، وأما القول بأنه يلزمه البيع فلا يصح لأنه اشترى معيباً لم يعلم عيبه فلم يلزمه ذلك بغير أرش كسائر البياعات (القسم الثاني) أن يكون العيب من جنسه كالسواد في الفضة والخشونة(4/167)
كونها تتفطر (لعل أصله ككونها تتفطر وانظر عبارة المغني في اوائل هذه الصفحة فهي أصرح وأفصح) عند الضرب أوان سكتها مخالفة لسكة السلطان فيصح العقد ويخير المشتري بين الامساك والترك ولا بدل له لأن العقد وقع على معين فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتره، وإن قلنا أن النقد لا يتعين بالتعيين في العقد فله أخذ البدل ولا يبطل العقد لأن الذي قبضه ليس هو المعقود عليه فأشبه المسلم إذا قبضه فوجد به عيبا ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرناه (فصل) ولو أرادا أخذ أرش العيب والعوضان في الصرف من جنس واحد لم يجز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وخرج القاضي وجها لجواز أخذ الأرش في المجس لأن الزيادة طرأت بعد العقد وليس لذلك وجه فإن أرش العيب من العوض يجبر به في المرابحة ويرد به إذا رد المبيع بفسخ أو إقالة ولو لم يكن من العوض فبأي شئ استحقه المشتري فإنه ليس بهبة، على أن الزيادة في المجلس من العوض وإن لم يكن أرشا فالارش أولى، وإن كان الصرف بغير جنسه فله أخذ الأرش في المجلس لأن المماثلة غير معتبرة، وتختلف قبض بعض العوض عن بعض لا يضر ماداما في المجلس فجاز كما في سائر المبيع، وإن كان بعد التفرق لم يجز لأنه يفضي إلى حصول التفرق قبل قبض أحد العوضين إلا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن كأنه أخذ أرش عيب الفضة حنطة فيجوز، وكذلك الحكم في سائر أموال الربا فيما بيع بجنسه أو بغير جنسه مما يشترط فيه القبض، فإذا كان مما لا يشترط قبضه كمن باع قفيز حنطة بقفيزي شعير فوجد أحدهما عيباً فأخذ أرشه درهماً جاز وإن كان بعد التفرق لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما يشترط فيه القبض(4/168)
(فصل) وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض ثم علم عيبه فسخ العقد ويرد الموجود وتبقى قيمة العيب في ذمة من تلف في يده فيرد مثلها أو عوضها إن اتفقا عليه سواء كان الصرف بجنسه أو بغير جنسه ذكره ابن عقيل وهو قول الشافعي، قال ابن عقيل وقد روي عن أحمد جواز أخذ الأرش والأول أولى إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين (القسم الثاني) أن يصطرفا في الذمة فيصح(4/169)
سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أولا إذا تقابضا قبل الافتراق وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك لا يجوز الصرف إلا أن تكون العينان حاضرتين وعنه لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين وعن زفر مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبيعوا غائباً منها بناجز " ولأنه إذا لم يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين.
ولنا أنهما تقابضا في المجلس فصح كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد به ان لا يباع عاجل بآجل أو مقبوض بغير مقبوض بدليل ما لو غير أحدهما فإنه يصح وإن كان الآخر غائباً ولأن القبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد ألا ترى إلى قوله عيناً بعين يداً بيد، والقبض يجري في المجلس كذا التعيين.
إذا ثبت هذا فلا بد من تعينها بالتقابض في المجلس ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيباً قبل التفرق فله المطالبة بالبدل سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه لأن العقد وقع على مطلق لاعيب فيه فكان له المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز كما لو رضي بالمسلم فيه معيباً، وان اختار أخذ أرشه وكان العوضان من جنسين جاز وإن كانا من جنس لم يجز وقد ذكرناه، وإن تقابضا ثم افترقا ثم وجد العيب من جنسه فله إبداله في إحدى الروايتين اختارها الخلال والخرقي وروي ذلك عن الحسن وقتادة وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لأن ما جاز إبداله قبل التفرق جاز بعد التفرق كالمسلم فيه (والثانية) ليس له ذلك اختارها أبو بكر وهو مذهب أبي حنيفة.
والقول الثاني للشافعي لأنه يقبضه بعد التفرق ولايجوز ذلك في الصرف، ومن نصر الرواية الأولى قال قبض الأول صح(4/170)
به العقد وقبض الثاني بدل عن الأول، ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد فإن لم يأخذه فيه بطل
العقد، وإن وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل وعلى الثانية يبطل في المردود وهل يصح فيما لم يرد على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولافرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين وقال مالك إن وجد درهماً زيفاً فرضي به جاز وإن رده انتقض الصرف في دينار وإن رد أحد عشر درهماً انتقض في دينارين وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر ولنا أن ما لا عيب فيه لم يرد فلم ينتقض الصرف فيما يقابله كسائر العوض، وإن اختار واجد العيب الفسخ فعلى قولنا له البدل ليس له الفسخ إذا أبدل له لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى الرواية الأخرى له الفسخ أو الإمساك في الجميع لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع إبقاء العقد وان اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق لم يكن له ذلك لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف ويجوز على الرواية الأخرى (فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة أن يكون العوضان معلومين إما بصفة يتميزان بها أو يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الإطلاق إليه، فلو قال بعتك دينارا مصريا بعشرين درهماً من نقد عشرة بدينار لم يصح إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار إلا نوع واحد فتنصرف الصفة إليه وكذلك الحكم في البيع (فصل) وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه لأن الذمة الحاضرة كالعين(4/171)
الحاضرة ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدينار من غير تعيين ولنا أنه بيع دين بدين وقد قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز، وقال أحمد إنما هو إجماع وقد روى أبو عبيد في الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ وفسره بالدين بالدين إلا أن الأثرم روى أن أحمد سئل أيصح هذا الحديث؟ قال لا.
فأما الصرف فإنما صح بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد، ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئاً بعد شئ فإن كان يعطيه كل درهم
بحسابه من الدنانير صح نص عليه، فإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز نص عليه لأن الدنانير دين والدراهم قد صارت ديناً فيصير بيع دين بدين، وإن قبض أحدهما من الآخر ماله عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شئ ولم يقبضه إياها وقت دفعها إليه ثم أحضرها وقوماها قانه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لايوم دفعها اليه لأنه قبل ذلك لم تصر في ملكه إنما هي وديعة في يده، وإن تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها ويحتمل أن تكون من ضمان القابض إذا قبضها بنية الاستيفاء لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في عقد صحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه، ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم أدراراً لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك بل كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أرادا التصارف أحضرا أحدهما واصطرفا بعين وذمة (فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول الأكثرين ومنع(4/172)
منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي عن ابن مسعود لأن القبض شرط وقد يختلف ولنا أن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت يارسول الله رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا بأس ان تأخذها بسعر يومها ما لم تفرقا وليس بينكما شئ " رواه أبو داود والاثرم قال أحمد إنما يقضيه إياها بالسعر لم يختلفوا إلا ما قال أصحاب الرأي أنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس كما لو كان العوض عرضاً ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا بأس ان تأخذها بسعر يومها " فشرط أخذها بالسعر وروي أن بكر ابن عبد الله ومسروقاً العجلي سألا ابن عمر عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر أعطوه بسعر السوق.
ولأن هذا جرى مجرى القضاء فيقيد بالمثل كالقضاء من الجنس والتماثل
ههنا بالقيمة لتعذر التماثل بالصورة، قيل لأبي عبد الله فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه فقال إن كان مما يتغابن الناس به فسهل ما لم يكن حيلة (فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلاً فقد توقف أحمد فيه، وقال القاضي يحتمل وجهين (احدهما) المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة غير مستحق القبض فكان(4/173)
القبض ناجزاً في أحدهما والناجز يأخذ قسطاً من الثمن (الثاني) الجواز وهو قول أبي حنيفة لأنه ثابت في الذمة وما في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، وهذا هو الصحيح إذا قضاه بسعر يومها ولم يجعل للمقتضي فضلاً لأجل تأجيل ما في الذمة لأنه إن لم ينقض عن سعرها شيئاً فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض فأشبه مالو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.
هذا اختيار شيخنا (فصل) قال أحمد لو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه ديناراً وقال استوف حقك منه فاستوفاه بعد التفرق جاز، ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره واستيفاء دينه من ثمنها فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها بقدر حقه لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه ولأنه متهم نص أحمد على ذلك (فصل) ولو كان له عند رجل دينار وديعة فصارفه به وهو معلوم بقاؤه أو مظنون صح الصرف وإن ظن عدمه لم يصح لأن حكمه حكم المعدوم، وإن شك فيه فقال ابن عقيل يصح وهو قول بعض الشافعية، وقال القاضي لا يصح لأنه غير معلوم البقاء وهو منصوص الشافعي.
ووجه الأول أن الأصل بقاؤه فصح البناء عليه عند الشك لأن الشك لا يزيل اليقين، ولذلك صح بيع الحيوان المشكوك في حياته فإن تبين أنه كان تالفاً حين العقد تبينا أن العقد وقع باطلاً (فصل) وإذا عرف المصطرفان وزن العرضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه فإذا باع ديناراً بدينار كذلك وافترقا فوجد أحدهما ما قبضه ناقصاً بطل الصرف لأنهما تبايعاً ذهباً بذهب متفاضلا، فان وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار فإن كان قال بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل لوجود التفاضل وإن قال بعتك ديناراً بدينار ثم تقابضا كان
الزائد في يد القابض مشاعاً مضموناً لمالكه لأنه قبضه على أنه غوض ولم يفسد العقد لأنه إنما باع(4/174)
ديناراً بمثله وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد جاز سواء كان من جنسه أو من غيره لأنها معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطاً بغيره معيباً بعيب الشركة ودافعة لا يلزمه أخذ عوضه إلا أن يكونا في المجلس فيرد الزائد أو يدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير فوفاه عشرة عدداً فوجدها أحد عشر كان هذا الدينار زائداً في يد القابض مشاعاً مضموناً لمالكه لأنه قبضه على أنه عوض عما له فكان مضموناً بهذا القبض ولمالكه التصرف فيه كيف شاء {مسألة} (والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد في أظهر الروايتين فلا يجوز ابدالها، وان خرجت مغصوبة بطل العقد) وبه قال مالك والشافعي وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد فيجوز إبدالها ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، وهذا مذهب أبي حنيفة لأنه يجوز إطلاقها في العقد فلم تتعين بالتعيين كالمكيال والصنجة.
ولنا أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض وإنما يراد لتقدير المعقود عليه وتعريف قدره ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسئلتنا، وإنما جاز إطلاقها لأن لها عرفا ينصرف إليه يقوم في بابها مقام الصفة، فعلى هذا إن وجدها معيبة خير بين الإمساك والرد كالعوض الآخر، ويتخرج أن يمسك ويطالب بالإرش لأنه مبيع أشبه سائر المبيعات، وإن كان ذلك في الصرف فقد ذكرناه.
هذا إن كان العيب من جنس النقود وإن كان من غير جنسها كالنحاس في الفضة والفضة في الذهب وكان في جميعها بطل العقد وإن كان في بعضها بطل فيه، وفي الباقي وجهان بناء على تفريق الصفقة وإن قلنا لا يتعين انعكست هذه الأحكام(4/175)
(فصل) في إنفاق المغشوش من النقود وفيه روايتان أظهرهما الجواز نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية عامتها نحاس إلا شيئاً فيها فضة فقال إذا كان شيئاً اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا
عليها فأرجوا أن لا يكون بها بأس (والثانية) التحريم نقل حنبل في دراهم يخلط فيها مس ونحاس يشتري بها ويباع فلا يجوز أن يبتاع بها أحد، كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام، وقال أصحاب الشافعي إن كان الغش مما لا قيمة له جاز الشراء بها، وإن كان مما له قيمة ففي جواز إنفاقها وجهان.
واحتج من منع المغشوشة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " وبأن عمر نهى عن بيع نفاية بيت المال ولأن المقصود فيه مجهول أشبه تراب الصاغة، والأولى أن يحمل كلام أحمد في الجواز على الخصوص فيما ظهر عيبه واصطلح عليه فإن المعاملة به جائزة إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين ولأن هذا مستفيض في الأعصار جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشقة وضرر وليس شراؤه بها غشاً للمسلمين ولا تغريراً لهم والمقصود منها ظاهر مرئي معلوم بخلاف تراب الصاغة، ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به فإن ذلك يفضي إلى التغرير بالمسلمين، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال في رجل اجتمعت عنده دراهم زيوف ما يصنع بها؟ قال يسبكها.
قيل له فيبيعها بدينار؟ قال لا، قيل يبيعها بفلوس؟ قال لا إني أخاف أن يغربها مسلماً قيل لأبي عبد الله فيتصدق بها؟ قال: إني أخاف أن يغربها مسلماً، وقال ما ينبغي له أن يغربها المسلمين ولا أقول أنه حرام لأنه على تأويل وذلك إنما كرهته لأنه يغربها مسلماً.
فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين وعلى هذا يحمل منع عمر بيع نفاية بيت المال لما فيه من التغرير(4/176)
فإن مشتريها ربما خلطها بدراهم جيدة واشترى بها ممن لا يعرف حالها ولو كانت مما اصطلحوا على انفاقه لم تكن نفاية، فإن قيل روي عن عمر أنه قال من زافت عليه دراهمه فليخرج بها إلى البقيع فليشتر بها سحق الثياب، وهذا دليل على جواز إنفاق المغشوشة التي لم يصطلح عليها قلنا قد قال أحمد معنى زافت عليه دراهمه أي نفيت ليس أنها زيوف ويتعين حمله على هذا جمعاً بين الروايتين عنه ويحتمل أنه أراد ما ظهر غشه وبان زيفه بحيث لا يخفى على أحد ولا يحصل بها تغرير، وإن تعذر تأويلها تعارضت الروايتان عنه ويرجع إلى ما ذكرنا من المعنى ولا فرق بين ما كان غشه يبقى كالنحاس والرصاص وما لا ثبات له كالزرنيخية والأندرانية وهو زرنيخ ونورة يطلى عليه فضة فإذا دخل
النار استهلك الغش وذهب.(4/177)
(فصل) ولايجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشئ من جنسه لأنه مال ربا بيع بجنسه على وجه لا تعلم المماثلة بينهما فلم يصح كبيع الصبرة بالصبرة وان بيع بغير جنسه، وحكى ابن المنذر عن أحمد كراهة بيع تراب المعادن وهو قول عطاء والشعبي والشافعي والثوري واسحاق لأنه مجهول، وقال ابن أبي موسى في(4/178)
الإرشاد يجوز وهو قول مالك، وروي ذلك عن الحسن والنخعي وربيعة والليث قالوا فإن اختلط واشكل فليبعه يعرض ولا يبيعه بعين ولا ورق لأنه باعه بما لاربا فيه فجاز كما لو اشترى ثوباً بدينار ودرهم (فصل) والحيل كلها محرمة لا تجوز في شئ من الدين وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله عزوجل واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك قال أيوب السختياني رحمه الله أنهم ليخادعون الله سبحانه كما يخادعون صبياً، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي.
فمن ذلك ما لو كان لرجل عشرة صحاح ومع آخر خمسة عشر مكسرة فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلاً أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة ثم وهبه الخمسة الزائدة أو اشترى منه بها أوقية صابون ونحوها مما يأخذه بأقل من قيمته أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح بمثلها من المكسرة واشترى منه بالحبة الباقية ثوباً قيمته خمسة دنانير، وهكذا لو أقرضه شيئاً وباعه سلعة بأكثر من قيمتها أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة هذا كله وأشباهه جائز إن لم يكن مشروطاً في العقد، وقال بعض أصحاب الشافعي يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه(4/179)
ولنا أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها فمسخهم قردة وسماهم معتدين وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتعين ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم، قال بعض المفسرين في قوله تعالى (وموعظة للمتقين)
أي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة ويتركونها إلى يوم الأحد ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد ثم يأخذها ويقول ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه وهذا حيلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار " رواه أبو داود فجعله قماراً مع ادخاله الفرس الثالث لكونه لايمنع معنى القمار وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذاً أو مأخوذاً منه وإنما دخل صورة تحيلاً على إباحة محرم وسائر الحيل مثل ذلك، ولأن الله تعالى إنما حرم المحرمات لمفسدتها والضرر الحاصل منها ولا تزول مفسدتها مع بقاء معناها باظهارهما صورة غير صورتها فوجب أن لا يزول التحريم كما لو سمى الخمر بغير اسمها لم يبح ذلك شربها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها " ومن الحيل في غير الربا أنهم يتوصلون إلى بيع المنهي عنه بأن يستأجروا بياض أرض البستان بأمثال أجرته ثم يساقيه على ثمر شجرة بجزء من ألف جزء للمالك وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ولا يأخذ منه المالك شيئاً ولا يريد ذلك، وإنما قصده بيع الثمرة قبل وجودها بما سماه أجرة والعامل لا يقصد أيضاً سوى ذلك وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها ومتى لم يخرج الثمر أو أصابته(4/180)
جائحة جاء المستأجر يطلب الجائحة ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لاغير ورب الأرض يعلم ذلك (فصل) وإن اشترى شيئاً بمكسرة لم يجز أن يعطيه صحيحاً أقل منها، قال أحمد هذا هو الربا المحض وذلك لأنه يأخذ عوض الفضة أقل منها فيحصل التفاضل، ولو اشتراه بصحيح لم يجز أن يعطيه مكسرة أكثر منها كذلك، فإن تفاسخا البيع ثم عقدا بالصحاح أو بالمكسرة جاز، ولو اشترى ثوباً بنصف دينار لزمه نصف دينار شق، فإن عاد فاشترى شيئاً آخر بنصف لزمه نصف شق أيضاً فإن وفاء ديناراً صحيحاً بطل العقد الثاني لأنه تضمن اشتراط زيادة ثمن العقد الأول، وأن كان ذلك قبل لزوم العقد الاول بطل أيضاً لأنه وجد ما يفسده قبل انبرامه، وإن كان بعد لزومه لم يؤثر ذلك فيه ولا يلزمه أكثر من ثمنه الذي عقد البيع به ومذهب الشافعي في هذا كما ذكرنا(4/181)
{مسألة} (ويحرم الربا بين المسلم والحربي) وبين المسلمين في دار الحرب كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام وبذلك قال مالك والاوزاعي(4/182)
وابو يوسف والشافعي واسحاق، وقال أبو حنيفة لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب لا ربا بينهما لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لاربا بين(4/183)
المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب " لأن أموالهم مباحة وانما حظرها الامان في دار الإسلام فما لم يكن كذلك كان مباحاً.
ولنا قول الله تعالى (وحرم الربا الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم(4/184)
الذي يتخبطه الشيطان من المس) وقوله تعالى (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل، وقوله " من زاد أو ازداد فقد أربى " عام ولأن ما كان محرماً في دار الإسلام كان محرماً في دار الحرب كالربا بين المسلمين وخبرهم مرسل لا تعرف صحته (استدلوا أيضا بان مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه المسلم حل وأما المستأمن منهم بدارنا فماله محرم بعقد الامان لان أخذه غدر محرم وفي فتح القدير اشتراط أن يكون الربح للمسلم) ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك ولايجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة بخبر مجهول ولم يرو في صحيح ولا(4/185)
مسند ولا كتاب موثوق به وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا ما حظره الأمان {باب بيع الأصول والثمار} ومن باع داراً تناول البيع أرضها وبناءها وما يتصل بها لمصلحتها كالسلاليم والرفوف المسمرة والأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرحى المنصوبة وأشباه ذلك لانه متصل بها لمصلحتها أشبه حيطانها {مسألة} (ولا يدخل ما هو مودع فيها من الكنز والأحجار المدفونة)
لأن ذلك مودع فيها للنقل عنها فأشبه الفرش والستور، ولا يدخل ما هو منفصل عنها لا يختص بمصلحتها كالحبل والدلو والبكرة والقفل والفرش، وكذلك الرفوف الموضوعة على الأوتاد بغير تسمير(4/186)
ولا غرز في الحائط، وحجر الرحى إن لم يكن منصوباً والخوابي الموضوعة من غير أن يطين عليها لأنه منفصل عنها لا تختص بمصلحتها أشبه الثياب والطعام {مسألة} (فأما ما كان من مصالحها لكنه منفصل عنها كالمفتاح وحجر الرحا الفوقاني إذا كان السفلاني منصوباً ففيه وجهان) (أحدهما) يدخل في البيع لأنه لمصلحتها فأشبه المنصوب فيها (والثاني) لايدخل لأنه منفصل عنها فأشبه القفل والدلو ونحو ذلك وهذا مذهب الشافعي {مسألة} وما كان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها أو مبني فيها كأساسات الحيطان المهدمة فهو للمشتري لأنه من أجزائها فهو كترابها) والمعادن الجامدة فيها والآجر كالحجارة في هذا، وإذا كان المشتري عالماً بذلك فلا خيار له وإن لم يعلم وكان يضر بالارض وينقصها كالصخر المضر بعروق الشجر فهو عيب حكمه حكم سائر العيوب فإن كانت الحجارة والآجر مودعاً فيها فهو للبائع كالكنز ويلزمه نقلها وتسوية الأرض وإصلاح الحفر لأنه ضرر لحق لاستصلاح ملكه فكان عليه إزالته وإن كان قلعها يضربا بالأرض أو تتطاول مدته فهو عيب، وإن لم يكن في نقلها ضرر وكان يمكن نقلها في أيام يسيرة كالثلاثة فما دون فليس بعيب وله مطالبة البائع لأنه لاعرف في تبقيتها بخلاف الزرع، ومتى كان عالماً بالحال فلا أجرة له في الزمان الذي نقلت فيه لأنه علم بذلك ورضي به فهو كما لو اشترى أرضاً فيها زرع، وإن لم يعلم فاختار إمساك المبيع فهل له أجرة لزمان النقل على وجهين (أحدهما) له ذلك لأن المنافع مضمونة على المتلف فكان عليه بدلها كالاجر (والثاني) لا يجب لأنه لما رضي بإمساك المبيع رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، فإن لم يختر الإمساك فقال البائع أنا أدع ذلك لك وكان مما لا ضرر في بقائه لم يكن له خيار لزوال الضرر عنه (فصل) فإن كان في الأرض معادن جامدة كمعادن الذهب والفضة ونحوهما دخلت في البيع وملكت بملك الأرض التي هي فيها لأنها من أجزائها فهي كأحجارها ولكن لا يباع معدن الذهب
بذهب، ويجوز بيعها بغير جنسها وإن ظهر في الأرض معدن لم يعلم به البائع فله الخيار لأنه زيادة لم يعلم بها فأشبه ما لو باعه ثوباً على أنه عشرة أذرع فبان أحد عشر، هذا إذا كان قد ملك الأرض بإحياء أو إقطاع، وقد روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضاً فظهر فيها معدن فقالوا إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم فأخذه فقبله ورد عليهم المعدن.
وإن كان البائع ملك الأرض بالبيع احتمل أن لا يثبت له خيار لأن الحق لغيره وهو المالك الأول، واحتمل أن يثبت له الخيار كما لو اشترى معيباً ثم باعه ولم يعلم عيبه فإنه يستحق الرد وإن كان قد باعه مثل ما اشتراه، وروى أبو طالب عن أحمد إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه وظاهر هذا أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خياراً لأنه من أجزاء الأرض فأشبه ما لو ظهر فيها حجارة ولها قيمة كبيرة (فصل) فإن كان فيها بئر أو عين مستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض والماء الذي فيها غير مملوك في أصح الروايتين، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين وفي معنى الماء المعادن(4/187)
الجارية في الأملاك كالقار والنفط والموميا والملح وكذلك ما ينبت في الأرض من الكلأ والشوك ففي هذا كله روايتان، فإن قلنا هي مملوكة دخلت في البيع وإلا لم تدخل {مسألة} (وإن باع أرضاً بحقوقها دخل غراسها وبناؤها في البيع وإن لم يقل بحقوقها فعلى وجهين) إذا باع أرضاً بحقوقها أو رهنا دخل في ذلك غراسها وبناؤها، وإن لم يقل بحقوقها فهل يدخل الغرس والبناء فيهما على وجهين، ونص الشافعي على أنهما يدخلان في البيع دون الرهن واختلف أصحابه في ذلك فمنهم من قال فيهما جميعاً قولان، ومنهم من فرق بينهما بكون البيع أقوى فيستتبع البناء والشجر بخلاف الرهن ووجه دخولهما في البيع أنهما من حقوق الأرض ولذلك يدخلان إذا قال بحقوقها وما كان من حقوقها يدخل فيها بالإطلاق كطرقها ومنافعها (والوجه الثاني) لا يدخلان لأنهما ليسا من الأرض فلا يدخلان في بيعها ورهنها كالثمرة المؤبرة ومن نصر الأول فرق بينهما بكون الثمرة تراد للنقل وليست من حقوقها بخلاف الشجرة والبناء فإن قال بعتك هذا البستان دخل فيه الشجر لأنه اسم
للأرض والشجر والحائط ولذلك لا تسمى الأرض المكشوفة بستاناً ويدخل فيه البناء ذكره ابن عقيل لأن ما دخل فيه الشجر دخل فيه البناء، ويحتمل أن لا يدخل.
لأن اسم البستان لا يفتقر إليه، فأما إن باعه شجراً لم تدخل الأرض في البيع.
ذكره أبو اسحاق ابن شاقلا لأن الإسم لا يتناولها ولا هي تبع للمبيع (فصل) وإن قال بعتك هذه القرية وكان في اللفظ قرينة تدل على دخول أرضها مثل المساومة على أرضها أو ذكر الزرع والغرس فيها وذكر حدودها أو بذل ثمن لا يصلح إلا فيها وفي أرضها دخل في البيع لأن الاسم يجوز أن يطلق عليها مع أرضها والقرينة صارفة إليه ودالة عليه فأشبه مالو صرح به وإن لم يكن قرينة تصرف الى ذلك فالبيع يتناول البيوت والحصن الدائر عليها فإن القرية اسم لذلك وهو مأخوذ من الجمع لأنه يجمع الناس وسواء قال بحقوقها أو لم يقل، وأما الغراس بين بنيانها فحكمه حكم الغراس في الأرض إن قال بحقوقها دخل وإن لم يقله فعلى وجهين {مسألة} (وإن كان فيها زرع يجز مرة بعد أخرى كالرطبة والبقول أو تكرر ثمرته كالقثاء والباذنجان فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة للبائع) سواء كان مما يبقى سنة كالهندبا أو أكثر كالرطبة، وعلى البائع قطع ما يستحقه منه في الحال فإنه ليس لذلك حد ينتهي اليه ولأن ذلك يطول ويخرج غير ما كان ظاهراً والزيادة من الأصول التي هي ملك المشتري، وكذلك إن كان مما تتكرر ثمرته كالقثاء والبطيخ والباذنجان فالأصول للمشتري والثمرة الظاهرة عند البيع للبائع لأن ذلك مما تتكرر الثمرة فيه أشبه الشجر، وإن كان مما تؤخذ زهرته وتبقى عروقه في الأرض كالبنفسج والنرجس فالأصول للمشتري لأنه جعل في الأرض للبقاء فيها فهو كالرطبة، وكذلك أوراقه وغصونه لأنه لا يقصد أخذه فهو كورق الشجر وأغصانه، فأما زهرته فإن تفتحت فهي للبائع وما لم تتفتح للمشتري، واختار ابن عقيل في هذا كله أن البائع إن قال بعتك هذه الأرض بحقوقها دخل فيها وإلا ففيه وجهان كالشجر(4/188)
(فصل) وإذا اشترى أرضاً وفيها بذر فاستحق المشتري أصله كالرطبة والبقول التي تجز مرة
بعد أخرى فهو للمشتري لأنه يترك في الأرض للتبقية فهو كأصول الشجر ولأنه لو كان ظاهرا كان له فالمستتر أولى وسواء علقت له عروق في الارض أولا، وإن كان بذراً لما يستحقه البائع كالشعير فهو له إلا أن يشترطه المبتاع فيكون له، وقال الشافعي يبطل البيع لأن البذر مجهول وهو مقصود ولنا أن البذر يدخل تبعاً فلم يضر جهله كما لو اشترى عبداً واشترط ماله ولأنه يجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في الأصل كبيع اللبن في الضرع مع الشاة والحمل مع الأم ولا تضر جهالته، ولايجوز مفرداً فإن لم يعلم المشتري ذلك فله فسخ البيع وامضاؤه لأنه يفوت عليه منفعة الأرض مدة فإن تركه البائع للمشتري أو قال أنا أحوله وأمكن ذلك في زمن يسير لا يضر بمنافع الأرض فلا خيار للمشتري لأنه أزال العيب بالنقل أو زاده خيراً بالترك فلزمه قبوله لأن فيه تصحيح العقد وهذا مذهب الشافعي، وكذلك إن اشترى نخلاً فيها طلع فبان مؤبراً فله الخيار لأنه يفوت على المشتري ثمرة عامة فإن تركها البائع فلا خيار له، وان قال أنا أقطعها الآن لم يسقط خياره لأن ثمرة العام تفوت وإن قطعها وإن اشترى أرضاً فيها زرع للبائع أو شجراً فيه ثمر للبائع والمشتري جاهل يظن أن الزرع والثمر له فله الخيار كما لو جهل وجوده لأنه إنما رضي بذلك ماله عوضاً عن الأرض والشجر بما فيهما فإذا بان بخلافه ثبت له الخيار كمن اشترى معيباً يظنه صحيحاً، فإن اختلفا في ذلك فالقول قول المشتري إذا كان مثله يجهل ذلك كالعامي، وإن كان ممن يعلم ذلك لم يقبل قوله {مسألة} (وإن كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة كالبر والشعير فهو للبائع مبقى إلى الحصاد إلا أن يشترط المبتاع) إذا كان في الأرض زرع لا يحصد إلا مرة كالبر والقطاني وما المقصود منه مستتر كالجزر والفجل والثوم وأشباه ذلك فاشترطه المشتري فهو له قصيلاً كان أو ذا حب مستتراً أو ظاهراً معلوماً أو مجهولا لكونه دخل في البيع تبعاً للأرض فلم يضر جهله وعدم كماله كما لو اشترى شجرة فاشترط تمرتها بعد تأبيرها، وإن أطلق البيع فهو للبائع لأنه مودع في الأرض فهو كالكنز والقماش وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم فيه مخالفاً.
إذا ثبت ذلك فإنه يكون للبائع مبقى في الأرض إلى الحصاد بغير أجرة لأن المنفعة حصلت مستثناة له، وعليه حصاده في أول وقت حصاده وإن كان بقاؤه أنفع له
على ما نذكر في الثمرة وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه نقله عقيب البيع كقوله في الثمرة، وسنذكر ذلك، وهكذا الحكم في القصب الفارسي لأن له وقتاً يقطع فيه الا إن العروق للمشتري لأنها تترك في الأرض للبقاء فيها والقصب كالثمرة وإن لم يكن ظهر من القصب شئ فهو للمشتري: فأما قصب السكر فهو كالزرع، ويحتمل أن يكون كالقصب الفارسي لأنه يؤخذ سنة بعد سنة، فإن حصده قبل أوان الحصاد لينتفع بالأرض في غيره لم يملك الانتفاع بها لأن منفعتها إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد ضرورة بقاء الزرع فتتقدر ببقائه كالثمرة على الشجر، وكما لو كان المبيع طعاماً لا ينقل مثله عادة إلا في(4/189)
شهر لم يكلف إلا ذلك فإن تكلف نقله في أقل من شهر لينتفع بالدار في غيره لم يجز كذا ههنا، ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضربها الأرض فعلى البائع إزالتها، وإن تحفرت الارض فعليه تسوية حفرها لأنه استصلاح لملكه فهو كما لو باع داراً فيها خابية كبيرة لا تخرج إلا بهدم الباب فهدمه كان عليه الضمان وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك آخر من غير إذن الاول ولافعل صدر عنه النقص وأسند إليه كان الضمان على مدخل النقص (فصل) قال رحمه الله (ومن باع نخلاً مؤبراً وهو ما تشقق طلعه فالثمر للبائع متروكا في رءوس النخل إلى الجزاز إلا أن يشترطه المبتاع) الأبار التلقيح قاله ابن عبد البر إلا أنه لا يكون حتى يتشقق الطلع فعبر به عن ظهور الثمرة للزومه منه يقال أبرت النخلة بالتخفيف والتشديد فهي مؤبرة ومأبورة ومنه قوله عليه السلام " خير المال سكة مأبورة " والسكة النخل المصفوف والحكم متعلق بالظهور دون نفس التلقيح ولذلك فسره ههنا به قال القاضي وقد يتشقق الطلع بنفسه قد يشقه الصعاد فيظهر وايهما كان فهو المراد هنا وهذا قول أكثر أهل العلم، وحكي ابن أبي موسى رواية عن أحمد أنه إذا انشق طلعه ولم يؤبر أنه للبائع لظاهر الحديث والمشهور الاول.
وهذه المسألة تشتمل على فصول (أحدها) أن البيع متى وقع على نخل مثمر ولم يشترط الثمرة وكانت الثمرة مؤبرة فهي للبائع، وإن كانت غير مؤبرة فهي للمشتري وبهذا قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى هي للمشتري في الحالين لأنها
متصلة بالأصل اتصال خلقه فكانت تابعة له كالأغصان، وقال أبو حنيفة والاوزاعي هي للبائع لأنه نماء له حد فلم يتبع أصله كالزرع في الأرض ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع " متفق عليه وهذا صريح في رد قول ابن أبي ليلى وحجة على أبي حنيفة والاوزاعي بمفهومة لأنه جعل التأبير حداً لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري وإلا لم يكن حداً ولا كان التأبير مفيداً ولأنه نماء كامن لظهوره غاية فيكون تابعاً لأصله قبل ظهوره كالحمل في الحيوان، فأما الأغصان فإنها تدخل في اسم النخل وليس لانفصالها غاية، والزرع ليس من نماء الأرض وإنما هو مودع فيها(4/190)
(الفصل الثاني) أنه متى اشترطها أحد المتبايعين فهي له مؤبرة كانت أو غير مؤبرة البائع والمشتري سواء، وقال مالك إن اشترطها المشتري بعد التأبير جاز لأنه بمنزلة مشتريها مع أصلها وإن اشترطها البائع قبل التأبير لم يجز لأن ذلك بمنزلة شرائه لها قبل بدو صلاحها بشرط التبقية.
ولنا أنه استثنى بعض ما وقع عليه العقد وهو معلوم فصح كما لو باع حائطاً واستثنى نخلة بعينها ولأنه أحد المتبايعين فصح اشتراطه للثمرة كالمشتري، وقد ثبت الأصل بالاتفاق عليه، ولو اشترط جزءاً من الثمرة معلوماً كان كاشتراط جميعها في الجواز في قول الجمهور، وقال ابن القاسم من أصحاب مالك لا يجوز اشتراط بعضها لأن الخبر إنما ورد باشتراط جميعها.
ولنا أن ما جاز اشتراط جميعه جاز اشتراط بعضه كمدة الخيار وهكذا الحكم في مال العبد إذا اشترط بعضه (الفصل الثالث) إن الثمرة إذا بقيت للبائع فله تركها في الشجر إلى أوان الجزاز سواء استحقها بشرطه أو بظهورها وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يلزمه قطعها وتفريغ النخل منها لأنه مبيع مشغول بملك البائع فلزمه نقله وتفريغه كما لو باع داراً فيها طعام له أو قماش ولنا أن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة كما باع داراً فيها طعام لم يجب نقله إلا على حسب العادة في ذلك وهو أن ينقله نهاراً شيئا بعد شئ ولا يلزمه النقل ليلاً ولا جمع دواب البلد لنقله كذلك ههنا تفريغ النخل من الثمرة في أوان تفريغها وذلك أوان جذاذها، وقياسه حجة لنا لما بيناه، إذا تقرر
هذا فالمرجع في جزه إلى ما جرت به العادة فإن كان المبيع نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره، وإن كان مما بسره خير من رطبه أو ما جرت العادة بأخذه بسراً فإنه يجزه حين تستحكم حلاوة بسره لأن هذا(4/191)
هو العادة فإذا استحكمت حلاوته فعليه قطعه، وإن قيل بقاؤه في شجره خير له وأبقى لم يمنع وجوب القطع لأن العادة في ذلك قد وجدت فليس له إبقاؤه بعد ذلك وإن كان المبيع عنباً أو فاكهة سواه فأخذه حين يتناهى ادراكه ويجز مثله وهذا قول مالك والشافعي (فصل) فإن أبر بعضه دون بعض فما أبر للبائع وما يؤبر للمشتري نص عليه أحمد واختاره أبو بكر للخبر الذي عليه مبنى هذه المسألة، وقال ابن حامد الكل للبائع وهو مذهب الشافعي لأنا إذا لم نجعل الكل للبائع أدى إلى الاضرار باشتراك الا يدي فيجب أن يجعل ما لم يؤبر تبعاً لما أبر كثمر النخلة الواحدة إذا أبر بعضها فإن الجميع للبائع بالاتفاق، وقد يتبع الباطن الظاهر منه كأساسات الحيطان تتبع الظاهر منه، وهذا الخلاف في النوع الواحد لأن الظاهر أنه يتقارب ويتلاحق فيختلط، فأما إن أبر نوع لم يتبعه النوع الآخر ولم يفرق أبو الخطاب بين النوع والجنس كله وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يفضي الى سوء المشاركة واختلاف الا يدي كما في النوع الواحد، والأشبه الفرق بين النوعين والنوع لأن النوعين يتباعدان ويتميز أحدهما عن الآخر ولا يخشى اختلاطهما أشبها الجنسين وما ذكروه يبطل بالجنسين، لا يصح القياس على النوع الواحد لافتراقهما فيما ذكرنا، ولو باع حائطين قد أبر أحدهما لم يتبعه الآخر لأنه يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي لانفراد كل واحد منهما عن صاحبه، ولو أبر بعض الحائط فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فللمبيع حكم نفسه ولا يتبع غيره وخرج القاضي وجها في أنه يتبع غير المبيع فيكون للبائع كما لو باع الحائط كله وهو أحد الوجهين لأصحاب(4/192)
الشافعي.
ولنا أن المبيع لم يؤبر شئ منه فوجب أن يكون للمشتري لمفهوم الحديث وكما لو كان منفرداً في بستان وحده ولأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة ولا اختلاف الأيدي ولا إلى ضرر فبقي على حكم الأصل، فإن بيعت النخلة المؤبرة كلها أو بعضها ثم حدث طلع فهو للمشتري لأنه حدث في ملكه أشبه
مالو حدث بعد أخذ الثمرة ولأن ما أطلع بعد تأبير غيره لا يكاد يشتبه لتباعد ما بينهما (فصل) وطلع الفحال كطلع الإناث فيما ذكرنا وهو ظاهر كلام الشافعي ويحتمل أنه للبائع بكل حال لأنه قد يؤخذ للأكل قبل ظهوره فهو كثمرة لا تخلق إلا ظاهرة كالتين ويكون ظهور طلعه كظهور ثمرة غيره.
ولنا أنها ثمرة نخل إذا تركت ظهرت فهي كالإناث، ولأنه يدخل في عموم الخبر وما ذكر للوجه الآخر لا يصح فإن أكله ليس هو المقصود منه وإنما يراد للتلقيح به وذلك يكون بعد ظهوره فأشبه طلع الإناث، فإن باع نخيلاً فيه فحال وإناث لم يتشقق منه شئ فالكل للمشتري إلا على الوجه الآخر، فإن طلع الفحال يكون للبائع، وإن تشقق أحد النوعين دون الآخر فما تشقق للبائع وما لم يتشقق للمشتري إلا عند من سوى بين الأنواع كلها (فصل) وكل عقد معاوضة يجري مجرى البيع في أن الثمرة المؤبرة تكون لمن انتقل عنه الأصل وغير المؤبرة لمن انتقل إليه مثل أن يصدق المرأة نخلاً أو يخلعها به أو يجعله عوضاً في إجارة أو عقد صلح لأنه عقد معاوضة فجرى مجرى البيع، وإن انتقل بغير معاوضة كالهبة والرهن أو فسخ لأجل العيب أو فلس المشتري أو رجوع الأب في هبة ولده أو تقايلا البيع، أو كان صداقاً فرجع إلى(4/193)
الزوج لفسخ المرأة النكاح أو نصفه لطلاق الزوج فإنه في الفسخ يتبع الأصل سواء أبر أو لم يؤبر لأنه نماء متصل أشبه السمن وفي الهبة والرهن حكمهما حكم البيع في أنه يتبع قبل التأبير ولا يتبع بعده لأن الملك زال عن الأصل بغير فسخ أشبه البيع، وأما رجوع البائع لفلس المشتري، أو الزوج لا نفساخ النكاح فيذكران في بابيهما {مسألة} (وكذلك الشجر إذا كان فيه ثمر باد كالتوت والتين والرمان والجوز) والشجر على خمسة أضرب (أحدها) ما تكون ثمرته في اكمام ثم تتفتح فتظهر كالنخل الذي بينا حكمه وهو الأصل وما سوا مقيس عليه، ومن هذا الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسح فإنه تظهر أكمامه ثم تتفتح فهو كالطلع إن تفتح جنبذه فهو للبائع وإلا فهو للمشتري (الثاني) ما تظهر ثمرته بارزة لاقشر عليها ولا نور كالتين والتوت والجميز فهي للبائع لأن ظهورها من شجرها
بمنزلة ظهور ما في الطلع (الثالث) ما يظهر في قشره ثم يبقى فيه إلى حين الأكل كالموز والرمان فهو للبائع أيضاً بنفس الظهور لأن قشره من مصلحته ويبقى فيه إلى حين الأكل كالتين (الرابع) ما يظهر في قشرين كالجوز واللوز فهو للبائع أيضاً بنفس الظهور لأن قشرة لا يزول عنه غالباً إلا بعد جزازه فأشبه الضرب الذي قبله، ولأن قشر اللوز يؤكل معه أشبه التين، وقال القاضي إن تشقق القشر الأعلى فهو للبائع، وإن لم يتشقق فهو للمشتري كالطلع، ولو اعتبر هذا لم يكن للبائع إلا نادراً ولا يصح قياسه على الطلع لأن الطلع لابد من تشققه وتشققه من مصلحته وهذا بخلافه فإنه لا يتشقق على شجرة وتشققه قبل كماله يفسده(4/194)
(الخامس) ما يظهر نوره ثم يتناثر فتظهر الثمرة كالتفاح والمشمش والإجاص والخوخ، فإذا تفتح نوره وظهرت الثمرة فيه فهو للبائع، وإن لم تظهر فهو للمشتري، وقيل ما يتناثر نوره فهو للبائع ومالا فهو للمشتري لأن الثمرة لا تظهر حتى يتناثر النور وقال القاضي يحتمل أن يكون للبائع بظهور نوره لأن الطلع إذا تشقق كان كنور الشجر، فإن العقد التي في جوف الطلع ليست عين الثمرة وإنما هي أوعية لها تكبر الثمرة في جوفها وتظهر فتصير العقدة في طرفها وهي قمع الرطبة، وظاهر لفظه ههنا يقتضي ما قلناه أولاً وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه علق استحقاق البائع للثمرة ببدوها ولا يبدو الثمر حتى ينفتح نوره وقد يبدو إذا كبر قبل أن ينثر النور فيتعلق ذلك بظهوره والعنب بمنزلة ماله نور لأنه يبدو في قطوفه شئ صغار كحب الدخن ثم يتفتح ويتناثر كتناثر النور فيكون من هذا القسم وهذا يفارق الطلع لأن الذي في الطلع عين الثمرة ينمو ويتغير والنور في هذه الثمار يتساقط ويذهب وتظهر الثمرة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه كما ذكرنا أو قريبا منه وبينهما اختلاف قريب مما ذكرنا {مسألة} (والورق للمشتري بكل حال) الأغصان والورق وسائر أجزاء الشجر للمشتري لأنه من أجزائها خلق لمصلحتها فهو كأجزاء سائر المبيع، ويحتمل أن يكون ورق التوت المقصود أخذه لدود القز للبائع إذا تفتح وللمشتري قبل ذلك لأنه بمنزلة الجنبذ الذي يتفتح فيظهر نوره من الورد وغيره وإنما هذا في المواضع التي عادتهم أخذ الورق
وإن لم يكن عادتهم ذلك فهو للمشتري كسائر الورق والله أعلم {مسألة} (وإن ظهر بعض الثمرة فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري، وقال أبو حامد الكل للبائع) وقد ذكرناه(4/195)
{مسألة} (وإن احتاج الزرع أو الثمرة إلى سقي لم يلزم المشتري ولم يملك منع البائع منه) إذا كانت الثمرة للبائع مبقاة في شجر المشتري فاحتاجت إلى سقي لم يكن للمشتري منعه لأنه يبقى به فلزمه تمكينه منه كتركه على الأصول، وإن أراد سقيها من غير حاجة فللمشتري منعه لأن سقيه يتضمن التصرف في ملك غيره والأصل منعه منه وإنما أبحناه للحاجة فما لم توجد الحاجة يبقى على أصل المنع، وإن احتاجت إلى سقي يضر بالشجر أو احتاج الشجر إلى سقي يضر بالثمرة فقال القاضي: أيهما طلب السقي لحاجته أجبر الآخر عليه لأنه دخل العقد على ذلك فإن المشتري اقتضى عقده تبقيه الثمرة والسقي من تبقيتها واقتضى تمكين المشتري من حفظ الأصول وتسلميها فلزم كل واحد منهما ما أوجبه العقد للآخر وإن أضربه وإنما له أن يسقي بقدر حاجته، وإن اختلفا في ذلك رجع إلى أهل الخبرة وأيهما التمس السقي فالمؤنة عليه لأنه لحاجته (فصل) وإن خيف على الأصول الضرر بتبقية الثمرة عليها لعطش أو غيره والضرر يسير لم يجبر على قطعها لأنها مستحقة للبقاء فلم يجبر على إزالتها لدفع ضرر يسير عن غيره، وإن كان كثيراً فخيف على الأصول الجفاف أو نقص حملها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجبر كذلك (والثاني) يجبر على القطع لأن الضرر يلحقها وإن لم تقطع والأصول تسلم بالقطع فكان القطع أولى وللشافعي قولان كالوجهين (فضل) ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ولا الزرع قبل اشتداد حبة إلا بشرط القطع في الحال(4/196)
لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط التبقية إجماعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع.
متفق عليه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
قال إبن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث(4/197)
(فصل) وكذلك الزرع الأخضر في الأرض لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع كما ذكرنا في الثمرة على الأصول لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري.
قال إبن المنذر ولا أعلم أحداً يعدل عن القول به وهو قول مالك وأهل المدينة وأهل(4/198)
البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي، فإن باعه بشرط القطع أو باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع صح بالإجماع لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو قال " أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ(4/199)
أحدكم مال أخيه؟ " رواه البخاري وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه (فصل) وإذا اشترى رجل نصف الثمرة قبل بدو صلاحها أو نصف الزرع قبل اشتداد حبة مشاعاً لم يجز سواء اشتراها من رجل أو من أكثر منه، وسواء شرط القطع أو لم يشترطه لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع ما لا يمكله فلم يصح اشتراطه.(4/200)
{مسألة} (ولايجوز بيع الرطبة والبقول إلا بشرط جذه ولا القثاء ونحوه إلا لفظه لفظة إلا أن يبيع أصله) الرطبة وما أشبهها مما تثبت أصوله في الأرض ويؤخذ ما ظهر منه بالقطع مرة بعد أخرى كالنعناع والهندبا وبشبههما لا يجوز بيعه إلا أن يبيع الظاهر منه بشرط القطع في الحال وبذلك قال الشافعي، وروي(4/201)
ذلك عن الحسن وعطاء ورخص مالك في شراء جزتين وثلاثاً ولا يصح ذلك لأن ما في الأرض منه مستور وما يحدث منه معدوم فلا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع ما يحدث من الثمرة، ومتى أشترى جزة لم يجز إبقاؤها لأن ما يظهر منها أعيان لم يتناولها البيع فيكون للبائع إذا ظهر فيفضي إلى اختلاط المبيع بغيره فإن أخرها حتى طالت فالحكم فيها يذكر إن شاء الله تعالى(4/202)
(فصل) وإذا باع ثمرة شئ من هذه البقول كالقثاء والباذنجان لم يجز إلا بيع الموجود منها دون المعدوم، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز بيع الجميع لأن ذلك يشق تمييزه فجعل ما لم يظهر تبعاً لما ظهر كما إن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا(4/203)
ولنا أنها ثمرة لم تخلق فلم يصح بيعها كما لو باعها قبل ظهور شئ منها والحاجة تندفع ببيع أصوله ولأن ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع بخلاف ما لم يخلق ولأن ما لم يخلق من ثمرة النخل لا يجوز بيعه تبعاً لما خلق، وإن كان ما لم يبد صلاحه تبعاً لما بدا، إذا ثبت ذلك فإن باعها قبل بدو صلاحها لم يجز(4/204)
إلا بشرط القطع، وإن كان بعد بدو صلاحه جاز مطلقاً وبشرط القطع والتبقية على ما نذكر في ثمرة الاشجار وسنبين بم يكون بدو صلاحه؟ (فصل) ويصح بيع هذه الأصول التي تتكرر ثمرتها من غير شرط القطع ذكره القاضي وهو(4/205)
مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا فرق بين كون الأصول صغاراً أو كباراً مثمرة أو غير مثمرة لأنه أصل فيه الثمرة فأشبه الشجر، فإن باع المثمر منه فثمرته الظاهرة للبائع متروكة إلى حين بلوغها إلا أن يشترطها المبتاع فإن حدثت ثمرة أخرى فهي للمشتري وإن اختلطت بثمرة البائع ولم تتميز كان الحكم فيها كثمرة الشجرة إذا اختلطت بثمرة أخرى على ما يأتي حكمه(4/206)
(فصل) والقطن ضربان (أحدهما) ماله أصل يبقى في الأرض أعواماً فهذا حكمه حكم الشجر في أنه يصح افراده البيع، وإذا بيعت الأرض بحقوقها دخل في البيع وثمرة كالطلع أن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري (الثاني) ما يتكرر زرعه كل عام فحكمه حكم الزرع، ومتى كان جوزه ضعيفاً رطباً لم يقو ما فيه لم يصح بيعه إلا أن يشترط القطع كالزرع الأخضر، وإن قوي حبه واشتد جاز بيعه بشرط التبقية كالزرع(4/207)
إذا اشتد حبه، وإذا بيعت الأرض لم يدخل في البيع إلا أن يشترطه المبتاع، والباذنجان الذي تبقى أصوله وتتكرر ثمرته كالشجر وما يتكرر زرعه كل عام فهو كالحنطة والشعير.
(فصل) ولايجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالجزر والفجل والثوم والبصل حتى يقلع ويشاهد وهذا قول الشافعي وابن المنذر وأصحاب الرأي وأباحه مالك والاوزاعي واسحاق لأن الحاجة(4/208)
تدعوا إليه فأشبه بيع ما لم يبد صلاحه تبعاً لما بدا ولنا أنه مجهول لم يره ولم يوصف له فأشبه بيع الحمل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر رواه مسلم وهذا غرر، وأما بيع ما لم يبد صلاحه فإنما جاز تبعاً فإن الظاهر أنه يتلاحق في الصلاح ويتبع بعضه(4/209)
بعضاً، فإن كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث واللفت وسائر ما تقصد فروعه جاز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الحيطان التي أساساتها مدفونة، ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعاً لما ظهر فلا تضر جهالته كالحمل في البطن مع بيع الحيوان، فإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه(4/210)
لأن الحكم للأغلب، وكذا إن تساويا لأن الأصل اعتبار الشرط في الجميع وإنما سقط اعتباره فيما كان معظم المقصود منه ظاهراً تبعا ففيما عداه يبقى على الأصل {مسألة} (والحصاد واللقاط على المشتري)(4/211)
وكذلك جزاز الثمرة إذا اشتراها في شجرها لأن نقل المبيع وتفريغ مالك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع، ويفارق الكل والوزن فإنهما على البائع لأنهما من مؤنة تسليم المبيع إلى المشتري والتسليم على البائع وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز التصرف فيها،(4/212)
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً {مسألة} (فإن باعه مطلقاً أو بشرط التبقية لم يصح) إذا باع الثمرة قبل صلاحها أو الزرع قبل اشتداد حبه بشرط التبقية لم يصح إجماعاً وقد ذكرناه(4/213)
وكذلك إذا باعها ولم يشترط تبقية ولا قطعاً، وبه قال مالك والشافعي وأجازه أبو حنيفة لأن إطلاق العقد يقتضي القطع فحمل عليه كما لو اشترطه قالوا: ومعنى النهي أن يبيعها مدركة قبل إدراكها بدليل قوله في الحديث " أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ " فلفظة المنع تدل على أن العقد(4/214)
يتناول معنى هو مقصود في الحال حتى يتصور المنع ولنا النهي المطلق عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع واستدلالهم بسياق الحديث يدل على هدم قاعدتهم التي قرروها في أن إطلاق العقد يقتضي القطع ويقرر ما قلناه من أن(4/215)
إطلاق العقد يقتضي التبقية فيصير العقد المطلق كالذي يشرط فيه التبقية يتناولهما النهي جميعاً ويصح تعليلهما بالعلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم من منع الثمرة وهلاكها (فصل) وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع على ثلاثة أضرب (أحدها) أن يبيعها(4/216)
منفردة لغير مالك الأصل فلا يصح وهذا الذي ذكرناه وبينا بطلانه (الثاني) أن يبيعها مع الأصل فيجوز بالإجماع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها الذي باعها إلا أن يشترط المبتاع " متفق عليه ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعاً في البيع فلم يضر احتمال الغرر فيها كما(4/217)
احتملت الجهالة في بيع اللبن في الضرع مع بيع الشاة وأساسات الحيطان (الثالث) أن يبيعها مفردة لمالك الأصل نحو أن تكون للبائع ولم يشترطها المبتاع فيبيعها له بعد ذلك أو يوصي لرجل بثمرة نخلة
فيبيعها لورثة الموصى فيه وجهان (أحدهما) يصح وهو المشهور عن مالك وأحد الوجهين لأصحاب(4/218)
الشافعي لانه يجتمع الأصل والثمرة للمشتري أشبه مالو اشتراهما معاً، ولأنه إذا باعها لمالك الأصل حصل التسليم إلى المشتري على الكمال لكونه مالكاً لأصولها فصح كبيعها مع أصلها (والثاني) لا يصح وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن العقد تناول الثمرة خاصة والغرر فيما تناوله العقد(4/219)
أصل يمنع الصحة كما لو كانت الأصول لأجنبي ولأنها تدخل في عموم النهي بخلاف ما إذا باعهما معها فإنه مستثنى بالخبر المذكور، ولأن الغرر فيما يتناوله العقد أصل يمنع الصحة ولا يمنع إذا تناوله تبعاً فإنه يجوز في التابع من الغرر ما لا يجوز في المتبوع كاللبن في الضرع والحمل مع الشاة وغيرهما، وإن باعه الثمرة بشرط(4/220)
القطع في الحال صح وجهاً واحداً ولا يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له (فصل) وإذا باع الزرع الأخضر من غير شرط القطع مع الأرض جاز كبيع الثمرة مع الأصل وإن باعه لمالك الأرض منفرداً ففيه وجهان على ما ذكرنا في الثمرة، واختار أبو الخطاب الجواز(4/221)
وإن باعه إياه بشرط القطع جاز وجهاً واحداً ولم يلزم المشتري الوفاء بالشرط لأن الأصل له فهو كبيع الثمرة لمالك الأصل (فصل) وإذا اشترى قصيلاً من شعير ونحوه فقطعه ثم نبت فهو لصاحب الأرض المشتري(4/222)
ترك الأصول على سبيل الرفض لها فسقط حقه منها كما يسقط حق صاحب الزرع من السنابل التي يدعها ولذلك أبيح التقاطها، ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل فهو لصاحب الأرض نص أحمد على هاتين المسئلتين، ومما يؤكد هذا أن البائع لو أراد التصرف في أرضه بعد قصل الزرع بما(4/223)
يفسد الأصول ويقلعها كان له ذلك ولم يملك المشتري منعه {مسألة} (فإن باعها بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح واشتد الحب وطالت الجزة وحدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطباً فأثمرت بطل البيع، وعنه لا يبطل(4/224)
ويشتركان في الزيادة وعنه يتصدقان بها) اختلفت الرواية فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع ثم تركها حتى بدا صلاحها فنقل عنه حنبل وأبو طالب أن البيع يبطل اختارها الخرقي، وقال القاضي هي أصح فعلى هذا يرد المشتري(4/225)
الثمرة إلى البائع ويأخذ الثمن ونقل احمد بن سعيد أن البيع لا يبطل وهو قول أكثر الفقهاء لأن أكثر ما فيه ان المبيع اختلط بغيره فأشبه ما لو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى أو ثوباً فاختلط بغيره، ونقل عنه أبو داود فيمن اشترى قصيلاً فمرض أو توانا حتى صار شعيراً فان اراد به حيلة فسد البيع وانتفض(4/226)
وجعل بعض أصحابنا هذا رواية ثالثة فيمن قصد التبقية وإلا لم يفسد، قال شيخنا: والظاهر أن هذا يرجع إلى ما نقله أحمد بن سعيد فإنه يتعين حمل ما نقله أحمد بن سعيد على صحة البيع على من لم يرد حيلة فإن أراد الحيلة لم يصح بحال، وقد ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة، ووجه الرواية الأولى(4/227)
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فاستثنى منه ما اشتراه بشرط القطع وقطعه بالإجماع فيبقى فيما عداه على أصل التحريم، ولأن التبقية معنى حرم الشرع اشتراطه لحق الله تعالى فابطل العقد وجوده كالنسيئة فيما يحرم فيه النساء وترك التقابض فيما يشترك القبض فيه، ولأن(4/228)
صحة البيع تجعل ذلك ذريعة إلى شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وتركها حتى يبدو صلاحها ووسائل الحرام حرام كبيع العينة، ومتى حكمنا بفساد البيع فالثمرة كلها للبائع، وعنه أنهما يتصدقان بالزيادة
قال القاضي هذا مستحب لوقوع الخلاف في مستحق الثمرة فاستحب الصدقة بها وإلا فالحق أنها للبائع(4/229)
تبعاً للأصل كسائر نماء المبيع المتصل إذا رد على البائع بفسخ أو بطلان، ونقل ابن أبي موسى في الإرشاد أن البائع والمشتري يشتركان في الزيادة وإن قلنا لا يبطل العقد فقد روي إنهما يشتركان في الزيادة لحصولها في ملكهما كان الثمرة ملك المشتري والأصل ملك البائع وهو سبب الزيادة وقال القاضي(4/230)
الزيادة للمشتري كالعبد إذا سمن، وحمل قول أحمد يشتركان على الاستحباب والأول أظهر لما ذكرنا فإن الزيادة حصلت من أصل البائع من غير استحقاق تركها فكان له فيها حق بخلاف سمن العبد فإنه لا يتحقق فيه هذا المعنى ولا يشبهه ولا يصح حمل قول أحمد على الاستحباب، فإنه لا يستحب(4/231)
للبائع أن يأخذ من المشتري مالا يستحقه، بل ذلك حرام عليه فكيف يستحب وعن أحمد أنهما يتصدقان بالزيادة وهو قول الثوري ومحمد بن الحسن لأن عين المبيع زاد بجهة محظورة، قال الثوري إذا اشترى قصيلاً يأخذ رأس ماله ويتصدق بالباقي، ولأن الأمر اشتبه في هذه الزيادة فكان(4/232)
الأولى الصدقة بها، قال شيخنا: ويشبه أن يكون هذا استحباباً لأن الصدقات بالشبهات مستحبة فإن أبيا الصدقة بها اشتركا فيها والزيادة هي ما بين قيمتها يوم الشراء وقيمتها يوم أخذها، قال القاضي: ويحتمل أنه ما بين قيمتها قبيل بدو صلاحها وقيمتها بعده لأن الثمرة قبل بدو صلاحها كانت للمشتري(4/233)
بنمائها لا حق للبائع فيها، وكذلك الحكم في الرطبة إذا طالت والزرع الأخضر إذا أدجن لأنه في معنى الثمرة وهذا إذا لم يقصد وقت الشراء تأخيره ولم يجعل شراءه بشرط القطع حيله على المنهي عنه من شراء الثمرة قبل بدو صلاحها ليتركها حتى يبدو صلاحها، فإن قصد ذلك فالبيع(4/234)
باطل من أصله لأنه حيلة محرمة، وعند أبي حنيفة والشافعي لاحكم للقصد والبيع صحيح وقد ذكرنا ذلك في تحريم الحيل (فصل) فإن حدثت ثمرة أخرى أو باع شجراً فيه ثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى، فإن تميزت(4/235)
فلكل واحد ثمرته، وان اختلطتا ولم تتميز واحدة منهما فهما شريكان فيهما كل بقدر ثمرته، فإن لم يعلم قدرهما اصطلحا عليهما ولا يبطل العقد في ظاهر المذهب لأن المبيع لم يتعذر تسليمه، وانما اختلط بغيره فهو كما لو اشترى طعاماً في مكان فانثال عليه طعام للبائع أو انثال هو على طعام للبائع ولم يعرف(4/236)
قدر كل واحد منهما، ويفارق هذا مالو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها فتركها حتى بدا صلاحها فإن العقد يبطل في أظهر الروايتين لكون اختلاط المبيع بغيره حصل بارتكاب نهي وكونه يتخذ حيلة على شراء الثمرة قبل بدو صلاحها وههنا ما ارتكب نهياً ولا يجعل هذا طريق إلى فعل المحرم، وفيه(4/237)
رواية أخرى أنه يبطل ذكرها أبو الخطاب كالمسألة التي قبلها، والصحيح الأولى وقد ذكرنا الفرق بينهما، وقال القاضي: إن كانت الثمرة للبائع فحدثت ثمرة أخرى قيل لكل واحد اسمح بنصيبك لصاحبك، فإن فعل أحدهما أقررنا العقد وأجبرنا الآخر على القبول لأنه يزول به النزاع، وإن(4/238)
امتنعا فسخنا العقد لتعذر وصول كل واحد منهما إلى قدر حقه، وإن اشترى ثمرة فحدثت ثمرة أخرى لم نقل للمشتري اسمح بنصيبك لان الثمر كل المبيع فلا يؤمر بتخليته كله ونقول للبائع ذلك فإن سمح بنصيبه للمشتري أجبرنا على القبول وإلا فسخ البيع وهذا مذهب الشافعي، وقال ابن عقيل:(4/239)
لعل هذا قول لبعض أصحابنا فإنني لم أجده معزياً إلى أحمد، والظاهر أن هذا اختيار القاضي وليس بمذهب لأحمد ولو اشترى حنطة فانثالت عليها أخرى لم ينفسخ البيع والحكم فيه كالحكم في الثمرة
تحدث معها أخرى على ما ذكرناه(4/240)
(فصل) فإن اشترى عرية فتركها حتى أثمرت بطل البيع وهذا قول الخرقي، وعن أحمد أنه لا يبطل وهو قول الشافعي لأن كل ثمرة جاز بيعها رطبا لا يبطل العقد إذا صارت تمراً كغير العرية، وكما لو قطها وتركها عنده حتى أتمرت(4/241)
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " يأكلها رطباً " ولأن شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب فإذا أتمرت تبينا عدم الحاجة فيبطل العقد ولا فرق بين تركه لغناه عنها أو مع حاجته إليها وتركها لعذر أو لغير عذر للخبر، ولو أخذها رطبا فتركها عنده فأتمرت أو شمسها حتى صارت تمراً(4/242)
جاز لأنه قد أخذها، فإن أخذ بعضها رطباً وترك باقيها حتى أتمر فهل يبطل البيع فيما أتمر؟ على وجهين {مسألة} (وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر جاز بيعه مطلقاً وبشرط التبقية، وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجزاز)(4/243)
إذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها مطلقاً وبشرط القطع وبشرط التبقية وهو قول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجوز بشرط التبقية إلا أن محمداً قال: إذا تناهى عظمها جاز واحتجوا بأن هذا شرط للانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز كما لو اشترط تبقية الطعام في كندوجه(4/244)
ولنا أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها يدل بمفهومه على إباحة بيعها بعد بدو صلاحها والمنهي عنه قبل بدو الصلاح عندهم بيعها بشرط التبقية فيجب ان يكون ذلك جائزاً بعد بدو الصلاح وإلا لم يكن بدو الصلاح غاية ولا يكون في ذكره فائدة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة(4/245)
حتى يبدو صلاحها وتأمن العاهة، وتعليله بأمن العاهة يدل على التبقية لأن ما يقطع في الحال لا يخاف العاهة عليه، وإذا بدا الصلاح فقد أمنت العاهة فيجب أن يجوز بيعه مبقى لزوال علة المنع، ولأن النقل والتحويل يجب في الممتنع بحكم العرف، فإذا شرطه جاز كما لو اشترط نقل الطعام من ملك البائع حسب(4/246)
العادة وفي هذا انفصال عما ذكروه، وكذلك إذا اشتد الحب يجوز بيعه كذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " حتى يبيض " فجعل ذلك غاية للمنع من بيعه فيدل على الجواز بعده، وفي رواية نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد، ولأنه إذا اشتد حبه بدا صلاحه فصار كالثمرة إذا بدا صلاحها(4/247)
وإذا اشتد بعض حبه جاز بيع جميع ما في البستان من نوعه كالشجرة {مسألة} (ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك لأنه يجب عليه تسليم الثمرة كاملة) وذلك يكون بالسقي فإن قيل فلم قلتم إنه إذا باع الأصل وفيه ثمرة للبائع لا يلزم المشتري سقيها(4/248)
قلنا لأن المشتري ليس عليه تسليم الثمرة لأن البائع لم يملكها من جهته، وإنما بقي مكله عليها بخلاف مسئلتنا، فإن امتنع البائع من السقي لضرر يلحق بالأصل أجبر عليه لأنه دخل على ذلك (فصل) ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها روى ذلك عن الزبير بن العوام والحسن البصري وأبي(4/249)
حنيفة والشافعي وابن المنذر، وكرهه ابن عباس وعكرمة وأبو سلمة لأنه تبع له قبل قبضه فلم يجز كما لو كان على وجه الأرض ولم يقبضه.
ولنا أنه يجوز له التصرف فيه فجاز بيعه كما لو قطعه، وقولهم لم يقبضه ممنوع فإن قبض كل شئ بحسبه وهذا قبضه التخلية وقد وجدت(4/250)
{مسألة} (وإن تلفت بجائحة من السماء رجع على البائع، وعنه إن أتلفت الثلث فصاعداً ضمنه البائع وإلا فلا) كل ما تهلكه الجائحة من الثمر على أصوله قبل أوان الجزاز من ضمان البائع وبهذا قال أكثر
أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد ومالك وأبو عبيد وجماعة من أهل الحديث وهو قول الشافعي القديم،(4/251)
وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد هو من ضمان المشتري لما روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتها الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تألى فلان أن لا يفعل خيراً " متفق عليه، ولو كان واجباً(4/252)
لاجبره عليه، ولأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف فتعلق بها الضمان كالنقل والتحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي فكذلك لا يضمنه بإتلاف غيره ولنا ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/253)
" إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " رواهما مسلم، ورواه أبو داود ولفظه " من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم؟ " وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه قال الشافعي لم يثبت عندي(4/254)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت عندي لم أعده، ولو كنت قائلاً بوضعها لوضعتها في القليل والكثير: قلنا الحديث ثابت رواه الإمام أحمد ومسلم وابو داود وابن ماجة وغيرهم: فإما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب فقد تألى أن لا يفعل(4/255)
خيراً، وإنما لم يجبره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قول بمجرد قول المدعي من غير إقرار بالبائع ولا حضوره، وأما التخلية فليست قبضاً تاما بدليل مالو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها كانت من ضمان المؤجر كذلك الثمرة في شجرتها كالمنافع قبل استيفائها تؤخذ حالاً فحالاً وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة(4/256)
(فصل) والجائحة كل آفة لا صنع لآدمي فيها كالريح والحر والبرد والعطش لما روي الساجي باسناده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجائحة تكون في البرد والحر وفي الحبق وفي السيل وفي الريح وهذا تفسير من الرواي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليه، فأما ما(4/257)
كان بفعل آدمي فقال القاضي يخير المشتري بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة كالمكيل والموزون إذا أتلفه آدمي قبل القبض لأنه أمكن الرجوع ببدله بخلاف التالف بالجائحة ألا إن في إحراق اللصوص ونهب العساكر والحرامية وجهين، فإن قيل فقد نهى النبي صلى الله(4/258)
عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن والثمرة غير مضمونة على المشتري، فإذا كانت القيمة أكثر من الثمن فقد ربح فيه.
قلنا إن المراد بالخبر النهي عن الربح بالبيع بدليل أن المكيل لو زادت قيمته قبل قبضه ثم قبضه جاز ذلك بالإجماع(4/259)
(فصل) وظاهر المذهب أنه لافرق بين قليل الجائحة وكثيرها الا أن ما جرت العادة بتلف مثله كاليسير الذي لا ينضبط لا يلتفت عليه، قال أحمد إني لا أقول في عشر ثمرات ولا عشرين ولا أدري ما الثلث ولكن إذا كانت جائحة تستغرق الثلث أو الربع أو الخمس توضع، وعن أحمد أن ما دون الثلث(4/260)
من ضمان المشتري وهو مذهب مالك والشافعي في القديم لأنه لابد أن يأكل الطائر منها وتنثر الريح وتسقط منها فلم يكن بد من ضابط وحد والثلث قد اعتبره الشارع في الوصية وعطية المريض قال الأثرم قال أحمد إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة(4/261)
بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية " الثلث والثلث كثير " فلهذا قدر به
ولنا عموم الأحاديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيها فيجب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها فكان ما تلف منها من ضمان البائع، وإن نقص عن الثلث كالتي على الأرض(4/262)
وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة فلا يدخل في الخبر ولأنه لا يمكن التحرز منه فهو معلوم الوجود بحكم العادة فأنه مشروط.
إذا ثبت ذلك فمتى تلف شئ له قدر خارج عن العادة وضع من الثمن بقدر الذاهب، وإن تلف الجميع بطل العقد ويرجع المشتري بجميع الثمن، وأما على(4/263)
الرواية الثانية فإنه يعتبر ثلث الثمرة وقيل ثلث القيمة، فإن تلف الثلث فما زاد رجع بقسطه من الثمن وإن كان دونه لم يرجع بشئ، وإن اختلفا في الجائحة أو قدر التالف فالقول قول البائع لأن الأصل بالسلامة، ولأنه غارم والقول في الأصول قول الغارم(4/264)
(فصل) فإن بلغت الثمرة أوان الجزاز فلم يجزها حتى أصابتها جائحة فقال القاضي عندي لا توضع لأنه مفرط بترك النقل في وقته مع قدرته فكان الضمان عليه، ولو اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط(4/265)
القطع فأمكنه قطعها فلم يقطعها حتى تلفت فهي من ضمانه لذلك، وإن تلفت قبل إمكان قطعها فهي من مال البائع كالمسألة قبلها.(4/266)
(فصل) فإن استأجر أرضاً فزرعها فتلف الزرع فلا شئ على المؤجر نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا لأن المعقود عليه منافع الأرض ولم يتلف إنما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها(4/267)
ليقصر فيها ثياباً فتلفت الثياب فيها {مسألة} (وصلاح بعض ثمرة الشجرة صلاح لجميعها)(4/268)
لا يختلف فيه فيباح بيع جميعها بذلك لا نعلم فيه خلافاً وهل يكون صلاحاً لسائر النوع الذي في البستان؟ على روايتين أظهرهما أنه يكون صلاحاً فيجوز بيعه وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن قياساً(4/269)
على الشجرة الواحدة، ولأن اعتبار الصلاح يشق ويؤدي إلى الاشتراك واختلاف الا يدي فوجب أن يتبع ما لم يبد صلاحه من نوعه لما بدا كالشجرة الواحدة (والثانية) لا يكون صلاحاً، ولا يجوز(4/270)
بيع إلا ما بدا صلاحه لأنه لم يبد صلاحه فلم يجز بيعه كالذي في البستان الآخر.(4/271)
(فصل) فأما النوع الآخر من ذلك الجنس فقال القاضي لا يجوز بيعه وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وقال محمد بن الحسن ما كان متقارب الإدراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه وما(4/272)
يتأخر تأخراً كثيراً فلا يجوزه في الباقي، وقال أبو الخطاب يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن الجنس الواحد يضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب فيتبعه(4/273)
في جواز البيع كالنوع الواحد، والأول أولى لأن النوعين قد يتباعد إدراكهما فلم يتبع أحدهما الآخر في بدو الصلاح كالجنسين ويخالف الزكاة فإن القصد هو الغني من جنس ذلك المال لتقارب منفعته(4/274)
وقيام كل نوع مقام الآخر في المقصود والمعنى ههنا هو تقارب إدراك أحدهما من الآخر ودفع الضرر الحاصل بالاشتراك واختلاف الأيدي ولا يحصل ذلك في النوعين فصار في هذا كالجنسين(4/275)
(فصل) فأما النوع الواحد من بساتين فلا يتبع أحدهما الآخر في جواز بيع أحدهما ببدو صلاح الآخر سواء كانا متجاورين أو متباعدين وهذا مذهب الشافعي، وحكي عن أحمد أن بدو الصلاح(4/276)
في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه وبهذا قال مالك، لأنهما يتقاربان في الصلاح فأشبه القراح الواحد ولأن المقصود الأمن من العاهة وقد وجد والأول المذهب لأنه إنما جعل ما لم يبد صلاحه(4/277)
بمنزلة ما بدا دفعاً لضرر الاشتراك واختلاف الأيدي وإلا فالأصل اعتبار كل شئ بنفسه والذي في القراح الآخر لا يوجد فيه هذا الضرر فوجب أن لايتبع الآخر كما لو تباعدا فإن بدا صلاح النوع(4/278)
الواحد فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه من بقية النوع من ذلك البستان لم يجز لدخوله تحت عموم النهي وتعذر قياسه على الصورة المخصوصة من العموم وهي إذا باعه ما بدا صلاحه لأنه دخل في البيع تبعاً(4/279)
دفعاً لمضرة الاشتراك ولا يوجد ذلك ههنا، ولأنه قد يدخل في البيع تبعاً ما لا يجوز إفراده كالثمرة تباع مع الأصل والزرع مع الأرض، ويحتمل الجواز لأن الكل في حكم ما بدا صلاحه فأشبه بيعه معه(4/280)
وكما لو أفرد بالبيع ما بدا صلاحه {مسألة} (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أو يتموه، وفي سائر الثمار(4/281)
أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله) وجملة ذلك أن ما كان من الثمر يتغير لونه عند صلاحه كثمرة النخل والعنب غير الأبيض والإجاص(4/282)
فبدو صلاحه بذلك، فإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموهه وهو أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفو
لونه، فإن كان مما لا يتلون كالتفاح ونحوه فبأن يحلو ويطيب، وإن كان بطيخاً أو نحوه فبأن ينمو وفيه النضج(4/283)
وإن كان مما لا يتغير لونه ويؤكل طيبا كالقثاء والخيار فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادة، وقال القاضي وأصحاب الشافعي بلوغه تناهي عظمه وما قلناه أشبه بصلاحه مما قالوه فإن بدو صلاح الشئ ابتداؤه(4/284)
وتناهي عظمه آخر صلاحه، ولأن بدو الصلاح في الثمر يسبق حال الجزاز فلا يجوز أن يجعل بدو صلاحه فيما يقاس عليه بسبقه قطعه عادة وما قلنا في هذا الفصل فهو قول مالك والشافعي وكثير من(4/285)
أهل العلم أو مقارب له، وقال عطاء لا يباع حتى يؤكل من الثمر قليل أو كثير وروي عن ابن عمر وابن عباس ولعلهم أرادوا صلاحه للأكل فيرجع معناه إلى ما قلنا فإن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى(4/286)
الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل متفق عليه، وإن أرادوا حقيقة الأكل فيحمل على ذلك موافقة لا كثر الأخبار وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الثمر حتى يطيب(4/287)
أكله متفق عليه، ونهى أن تباع الثمرة حتى تزهو قيل وما تزهو؟ قال " تحمار أو تصفار " رواه البخاري ونهى عن بيع العنب حتى يسود، رواه الترمذي وابن ماجة والأحاديث في هذا كثيرة كلها تدل(4/288)
على هذا المعنى والله أعلم.
{مسألة} (ومن باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع)(4/289)
إذا باع عبده أو أمته وله مال ملكه إياه أو خصه به فهو للبائع لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع " رواه مسلم(4/290)
وغيره ولأن العبد وماله للبائع، فإذا باع العبد اختص البيع به دون غيره كما لو كان له عبدان فباع أحدهما وإن اشترطه المبتاع كان له للخبر، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وقضي به شريح، وبه(4/291)
قال مالك والشافعي وإسحاق.
{مسألة} (فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط المبيع، وإن لم يكن قصده(4/292)
المال لم يشترط علمه) إذا اشترى عبداً واشترط ماله وكان المال مقصوداً بالشراء صح اشتراطه للخبر ويشترط أن يوجد(4/293)
فيه شرائط البيع من العلم به وإلا يكون بينة وبين الثمن ربا كما يعتبر ذلك في العينين المبيعتين لأنه مبيع مقصود فأشبه مالو ضم إلى العبد عيناً أخرى وباعهما، وإن لم يكن قصده المال صح شرطه وإن كان(4/294)
مجهولاً نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي ثور والبتي، وسواء كان المال من جنس الثمن أو من غير جنسه عيناً كان أو ديناً، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر.
قال البتي: إذا باع عبداً بألف(4/295)
درهم ومعه ألف درهم فالبيع جائز إذا كان رغبة المبتاع في العبد لا في الدراهم وذلك لأنه دخل في البيع تبعاً غير مقصود فأشبه أساسات الحيطان والتمويه بالذهب في السقوف، وقال القاضي: هذا(4/296)
ينبني على كون العبد يملك اولا يملك.
فإن قلنا لا يملك فاشترط المشتري ماله صار مبيعا معه فاشترط فيه ما يشترط في سائر المبيعات وهو مذهب أبي حنيفة، وإن قلنا يملك احتملت فيه الجهالة وغيرها مما(4/297)
ذكرنا من قبل أنه بيع تبعاً فهو كطي الآبار، وهذا خلاف نص أحمد والخرقي فإنهما جعلا الشرط الذي يختلف الحكم به قصد المشتري دون غيره.
قال شيخنا: وهو أصح إن شاء الله تعالى، واحتمال(4/298)
الجهالة فيه لكونه غير مقصود كاللبن في الضرع والحمل في البطن وأشباه ذلك فإنه مبيع ويحتمل فيه الجهالة وغيرها لما ذكرنا، وقد قيل إن المال ليس بمبيع ههنا، وانما استيقاء المشتري على ملك العبد(4/299)
فلا يزول عنه إلى البائع وهو قريب من الأول (فصل) وإذا اشترط مال العبد في الشراء ثم رده بإقالة أو عيب رد ماله وقال داود يرده دون ماله(4/300)
لأن ماله لم يدخل فيه فأشبه النماء الحادث عنده، ولنا أنه عين مال أخذها المشتري لا تحصل بدون البيع فيردها بالفسخ كالعبد، ولأن العبد إذا كان ذا مال كانت قيمته أكثر فأخذ ماله ينقص قيمته فلم يملك(4/301)
رده حتى يدفع ما يزيل نقصه، فإن تلف ماله فاراد رده فهو بمنزلة العيب الحادث هل يمنع الرد؟ على روايتين فإن قلنا بالرد فعليه قيمة ما تلف عنده.
قال أحمد في رجل اشترى أمة معها قناع فاشترطه وظهر على(4/302)
عيب وقد تلف القناع غرم قيمته بحصته من الثمن {مسألة} (وإن كان عليه ثياب فقال أحمد: ما كان للجمال فهو للبائع، وما كان للبس(4/303)
المعتاد فهو للمشتري) إذا كان على العبد أو الجارية حلي فهو بمنزلة ماله على ما ذكرنا.
فأما الثياب فقال أحمد: ما كان يلبسه(4/304)
عند البائع فهو للمشتري، وإن كانت ثياباً يلبسها فوق ثيابه أو شئ يزينه به فهو للبائع إلا أن يشترطه(4/305)
المبتاع، وإنما كان كذلك لأن ثياب البذلة جرت العادة ببيعها معه، ولأنها تتعلق بها حاجة العبد وإنما(4/306)
يلبسها إياه لينفقه بها وهذه حاجة السيد لا حاجة العبد ولم تجر العادة بالمسامحة فيها فجرت مجرى الستور(4/307)
في الدرا والدابة التي يركبه عليها.
وقال ابن عمر من باع وليدة زينها بثياب فللذي اشتراها ما عليها(4/308)
إلا أن يشترطه الذي باعها، وبه قال الحسن والنخعي، ولنا الخبر المذكور ولأن الثياب لم يتناولها لفظ(4/309)
البيع ولا جرت العادة ببيعها معه أشبه سائر مال البائع ولأنه زينة للمبيع أشبه مالو زين الدار ببسط(4/310)
أو ستور والله سبحانه وتعالى أعلم(4/311)
(باب السلم) وهو أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل ويسمى سلفاً وسلماً يقال: أسلم واسلف وهو نوع من البيع وينعقد بلفظ السلف والسلم لأنهما حقيقة فيه، ويشترط له ما يشترط للبيع إلا أنه يجوز في المعدوم، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ هذه الآية، رواه سعيد وإن اللفظ يشمله بعمومه، وأما السنة فروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه، وأما الإجماع فقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز
(فصل) ولا يصح إلا بشروط سبعة (أحدها) أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً كالمكيل من الحبوب وغيرها والموزون القطن والابريسم والكتان والقنت والصوف والشعر والكاغد والحديد والصفر والنحاس والطيب والأدهان والخلول وكل مكيل أو موزون وكذلك المزروع كالثياب، وقد جاء الحديث في الثمار، وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن السلم في الطعام جائز.
{مسألة} (فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرءوس ونحوها ففيه روايتان)(4/312)
اختلفت الرواية في السلم في الحيوان فروي أنه لا يصح السلم فيه وهو قول الثوري وأصحاب الرأي وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبي.
قال عمر: إن من الربا أبوابا لاتخفى وإن منها السلم في البسر، ولأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ظبطه، وإن استقصى صفاته التي يختلف بها الثمن مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف أهدب الأشفار ألمى الشفة تعذر تسلميه لندرة وجوده على تلك الصفة وإن لم يذكرها اختلف بها الثمن ظاهراً والمشهور في المذهب صحة السلم فيه نص عليه أحمد في رواية الأثرم، قال إبن المنذر وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب الحسن والشعبي ومجاهد والزهري والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور، ولأن أبا رافع قال: استسلف النبي صلى الله(4/313)
عليه وسلم من رجل بكرا، ورواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبتاع البعير بالبعيرين وبالابعرة إلى مجئ الصدقة، رواه أبو داود ولأنه يثبت في الذمة صداقاً فيثبت في السلم كالثياب.
فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان، قال الشعبي إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم رواه سعيد، وقد روي عن علي أنه باع جملا له يدعى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل، ولو ثبت قول عمر في تحريم السلم في الحيوان فقد عارضه
قول من سمينا ممن وافقنا.
(فصل) واختلفت الرواية في السلم في الحيوان مما لا يكال ولا يوزن ولا يزرع فنقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنه قال: لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه قال أبو الخطاب معناه يوقف عليه بحد معلوم لا يختلف كالزرع فأما الرمان والبيض فلا أرى السلم فيه، وحكى ابن المنذر عنه وعن اسحاق أنه لاخير في السلم في الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء والخيار لأنه لا يكال ولا يوزن ومنه الصغير والكبير فعلى هذه الرواية لا يصح السلم في كل معدود مختلف كالذي سمينا وكالبقول لأنه يختلف ولا يمكن(4/314)
تقديره بالحزم لأن الحزم يمكن في الصغير والكبير فلم يصح السلم فيه كالجواهر، ونقل اسماعيل بن سعيد وابن منصور جواز السلم في الفواكه والموز والخضراوات ونحوها لأن كثيراً من ذلك يتقارب وينضبط بالكبر والصغر وما لا يتقارب ينضبط بالوزن كالبقول ونحوها فيصح السلم فيه كالمزروع، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي والاوزاعي، وحكى ابن المنذر عن الشافعي المنع من السلم في البيض الجوز ولعل هذا قول آخر فيكون له قولان: (فصل) وفي السلم في الرؤوس من الخلاف ما ذكرناه وكذلك الأطراف وللشافعي فيه قولان (أحدهما) يجوز وهو قول مالك والاوزاعي وأبي ثور لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم (والأخرى) لا يجوز وهو قول أبي حنيفة لأن أكثره العظام والمشافر واللحم فيه قليل وليس بموزون بخلاف اللحم فإن كان مطبوخاً أو مشوياً فقال الشافعي لا يصح السلم فيه وهو قياس قول القاضي لا يتناثر ويختلف وعلى قول اصحابنا غير القاضي حكم ما مسته النار حكم غيره وبه قال مالك والاوزاعي(4/315)
وأبي ثور والعقد يقتضيه سليماً من التناثر والعادة في طبخة تتقارب فأشبه غيره وفي الجلود من الخلاف ما في الرؤوس والأطراف وقال الشافعي لا يصح السلم فيها لأنه يختلف فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر أقوى فيحتاج إلى وصف كل موضع منه ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه، ولنا أن التفاوت في ذلك معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه كالحيوان فإنه يشتمل على الرأس والجلد
والأطراف والشحم وما في البطن وكذلك الرأس يشتمل على لحم الخدين والأذنين والعينين ويختلف ولم يمنع صحة السلم فيه كذلك ههنا (فصل) ويصح السلم في اللحم وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه يختلف، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم " ظاهرة إباحة السلم في كل موزون ولأنا قد بينا جواز السلم في الحيوان فاللحم أولى (مسألة) وفي الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس وما يجمع أخلاطاً مميزة كالثياب المنسوجة من نوعين وجهان) لا يصح السلم في الأواني المختلفة الرؤوس والأوساط لأن الصفة لا تأتي عليها وفيه وجه آخر أنه يصح إذا ضبط بارتفاع حائطه ودون أسفله وأعلاه لأن التفاوت في ذلك يسير.
فأما الثياب المنسوجة من نوعين كالقطن والكتان والابريسم فالصحيح جواز السلم فيها لأن ضبطها ممكن وفيه وجه آخر أنه لا يجوز كالمعاجين.
(فصل) ويصح السلم في اللبأ والخبز وما أمكن ضبطه ما مسته النار، وقال الشافعي لا يصح السلم في كل معمول بالنار لأن النار تختلف ويختلف الثمن ويختلف عملها، ولنا أنه موزون فجاز السلم فيه كسائر الموزونات ولعموم الحديث ولأن عمل النار فيه معلوم بالعادة ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فأشبه المجفف بالشمس، فأما اللحم المطبوخ والمشوي فقال القاضي لا يصح السلم فيه وهو مذهب الشافعي لأنه يتفاوت كثيراً وعادة الناس فيه مختلفة فلا يمكن ضبطه وقال بعض أصحابنا: يصح السلم فيه لما ذكرنا في الخبز واللبأ.(4/316)
(فصل) ويصح السلم في النشاب والنبل وقال القاضي: لا يصح السلم فيهما وهو مذهب الشافعي لأنه يجمع أخلاطاً من خشب وعقب وريش ونصل فرى مجرى اخلاط الصيادلة ولأن فيه ريشاً نجساً لأنه من جوارح الطير.
ولنا أنه مما يصح بيعه ويمكن ضبطه بالصفات التي لا يتفاوت الثمن معها غالباً فصح السلم فيه كالقصب والخشب وما فيه من غيره متميز يمكن ضبطه والإحاطة به ولا يتفاوت كثيراً فلا
يمنع كالثياب المنسوجة من جنسين وقد يكون الريش طاهراً وإن كان نجساً لكن يصح بيعه فلا يمنع السلم فيه كنجاسة البغل والحمار.
{مسألة} (ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر كلها والحوامل من الحيوان والمغشوش من الأثمان وغيرها وما يجمع أخلاطا غير مميزة كالغالية والند والمعاجين ويصح فيما يترك فيه شئ غير مقصود لمصلحته كالجبن والعجين وخل التمر والسكنجبين ونحوه) لا يصح السلم فيما لا ينضبط بالصفة كالجوهر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والفيروزج والبلور لأن أثمانها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة ضوئها وصفائها ولا يمكن تقديرها بشئ معين لأن ذلك يتلف وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن مالك صحة السلم فيها إذا اشترط منها شيئاً معلوماً إن كان وزنا فبوزن معروف والصحيح الأول لما ذكرناه، ولا يصح في الحوامل من الحيوان لأن الصفة لا تأتي عليها، ولأن الولد مجهول غير متحقق، وفيه وجه آخر أنه يصح لأن الحمل لا حكم له مع الأم بدليل صحة بيع الحامل وإن اشترط الحمل ولا نقول بأن الجهل بالحمل مبطل للبيع لكن إن لم تكن حاملاً فله الرد، وإذا صح البيع صح السلم لأنه بيع، ولا يصح في المغشوش من الأثمان لأنه مجهول لا ينضبط بالصفة ولا فيما يجمع اخلاطاً غير مميزة كالغالية والند والمعاجين التي يتداوى بها للجهل بها.
والذي يجمع اخلاطاً على أربعة أضرب (أحدها) مختلط مقصود متميز كالثياب المنسوجة من نوعين والصحيح جواز السلم فيها (الثاني) ما خلطه لمصلحته وليس بمقصود في نفسه كالانفحة في الجبن والملح في العجين والخبز والماء في خل التمر والخل في السكنجبين فيصح السلم فيه لأنه يسير لمصلحته (الثالث) اخلاط مقصودة غير متميزة كالغالية والند والمعاجين(4/317)
فلا يصح السلم فيه لأن الصفة لا تأتي عليها (الرابع) ما خلطه غير مقصود ولا مصلحة فيه كاللبن المشوب بالماء فلا يصح السلم فيه لان غشه يمنع العلم بقدر المقصود منه فيكون مجهولا، ولا يصح السلم في القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والتوز إذ لا يمكن ضبط مقادير ذلك وتمييز ما فيه منها، وقيل يجوز السلم فيها كالثياب المنسوجة من نوعين وكالنشاب المشتمل على الخشب والعقب والريش
والنصول والأولى ما ذكرنا.
(فصل) الثاني أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهراً فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره إنما اشترط ذلك لأن المسلم فيه عوض في الذمة فلابد من العلم به كالثمن، ولأن العلم شرط في البيع وطريقه الرؤية أو الوصف والرؤية متعذرة ههنا فتعين الوصف والأوصاف على ضربين متفق على اشتراطها ومختلف فيها، فالمتفق عليها ثلاثة أوصاف: الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه لابد منها في كل مسلم فيه وكذلك معرفته وسنذكرها وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم فيه خلافاً (الضرب الثاني) ما يختلف الثمن باختلافه غير هذه الأوصاف فينبغي أن يكون ذكرها شرطاً قياساً على المتفق عليها ونذكرها عند ذكره وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة يكفي ذكر الأوصاف الأول لأنها تشتمل على ما وراءها من الصفات.
ولنا أنه يبقى من الصفات من اللون والبلد ونحوهما ما يختلف الثمن والعوض لاجله فوجب ذكره كالنوع، ولا يجب استقصاء كل الصفات لأنه يتعذر وقد ينتهي الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المسلم فيه فيجب الا كتفاء بالأوصاف الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهراً، ولو استقصى الصفات حتى انتهى إلى حال يتعذر وجود المسلم فيه بتلك الصفات بطل لأن من شروط السلم أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله واستقصاء الصفات يمنع منه (فصل) ولو أسلم في جارية وابنتها أو أختها أو عمتها أو خالتها أو بنت عمها لم يصح لأنه لابد أن يضبط كل واحدة منهما بصفات ويتعذر وجود تلك الصفات في جارية وبنتها، ولو أسلم في ثوب على صفة خرقة معيبة لم يجز لأنها قد تهلك وهذا غرر فهو كما لو شرط مكيالا بعينه غير معلوم (فصل) والجنس والجودة والقدر شرط في كل مسلم فيه فلا حاجة الى تكرير ذكر ذلك ويذكر ما سواها فيصف التمر بأربعة أوصاف النوع برني أو معقلي والبلد إن كان يختلف فيقول بغدادي أو(4/318)
بصري فإن البغدادي أحلى وأقل بقاء لعذوبة الماء، والبصري بخلافه، والقدر كبار أو صغار، أو حديث أو عتيق فإن أطلق العتيق أجزأ أي عتيق كان ما لم يكن مسوساً ولا حشفاً ولا متغيراً، وإن شرط عتيق
عام أو عامين فهو على ما شرط، فأما اللون فإن كان النوع الواحد يختلف كالطبرزد يكون أحمر وأسود ذكره وإلا فلا، والرطب كالتمر في هذه الأوصاف إلا الحديث والعتيق وليس له من الرطب إلا ما أرطب كله ولا يأخذ مشدخا ولا ما قارب أن يتمر وهكذا ما يشبهه من العنب والفواكه (فصل) ويصف البر بأربعة أوصاف النوع فيقول سبيلة أو سلموني والبلد حوراني أو سمالي وصغار الحب أو كباره وحديث أو عتيق، وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره ولا يسلم إليه إلا مصفى وهذا الحكم في الشعير وسائر الحبوب ويصف العسل بثلاثة أوصاف بالبلد ويجزئ ذلك عن النوع، والزمان ربيعي وصيفي واللون وليس له إلا مصفى (فصل) ولا بد في الحيوان من ذكر النوع والسن والذكورية والأنوثية ويذكر اللون إن كان النوع الواحد يختلف ويرجع في سن الغلام إليه إن كان بالغاً وإلا فالقول قول سيده، وإن لم يعلم رجع في ذلك إلى أهل الخبرة على ما يغلب على ظنونهم تقريباً، وإذا ذكر النوع في الرقيق وكان مختلفاً مثل التركي منهم الحبكلي والخزري فهل يحتاج إلى ذكره أو يكفي ذكر النوع؟ يحتمل وجهين (أولاهما) أنه يحتاج لأنه يختلف به الثمن، ولا يحتاج في الجارية إلى ذكر الجعودة والسبوطة لأن ذلك لا يختلف به الثمن اختلافاً بيناً ومثل ذلك لا يراعى كما لا تراعى صفات الحسن والملاحة، فإن ذكر شيئاً من ذلك(4/319)
لزمه، ويذكر الثيوبة والبكارة لأن الثمن يختلف بذلك ويتعلق به الغرض ويذكر القد خماسي أو سداسي يعني خمسة أشبار أو ستة أشبار.
قال أحمد: يقول خماسي سداسي أسود أبيض أعجمي أو فصيح، أما الإبل فيضبطها بأربعة أوصاف فلان والسن بنت مخاض أو بنت لبون واللون بيضاء أو حمراء أو ورقاء وذكر أو أنثى، فإن اختلف النتاج فكان فيه مهرية وأرجبية فهل يحتاج إلى ضبط ذلك؟ يحتمل وجهين ولا يفتقر إلى ذكر ما زاد على هذه الأوصاف، وإن ذكر بعضه كان تأكيداً ولزمه وأوصاف الخيل كأوصاف الإبل، وأما البغال والحمر فلا نتاج لها فيجعل بدل ذلك نسبتها إلى بلدها، وأما البقر والغنم فإن عرف لها نتاج فهي كالإبل وإلا فهي كالحمر، ولا بد من ذكر النوع في هذه الحيوانات فيقول في الإبل بختية أو عرابية، وفي الخيل عربية أو هجين أو برذون، وفي الغنم
ضأن أو معز إلا الحمير والبغال فلا أنواع فيها (فصل) ويذكر في اللحم السمن والذكورية والأنوثية والسمن والهزال وراعياً أو مغلوفا ونوع الحيوان وموضع اللحم منه ويزيد في الذكر فحلاً أو خصياً وإن كان لحم صيد لم يحتج إلى ذكر العلف والخصى ويذكر الآلة التي يصاد بها من جارحة أو أحبولة، وفي الجارحة يذكر صيد فهد أو كلب أو صقر فإن الأحبولة يؤخذ الصيد منها سليماً، وصيد الكلب خير من صيد الفهد لكون الكلب أطيب نكهة من الفهد لكونه مفتوح الفم في أكثر الأوقات، والصحيح إن شاء الله أن هذا ليس بشرط لأن التفاوت فيه يسير ولا يكاد الثمن يتباين باختلافه ولا يعرفه إلا القليل من الناس، وإذا لم يحتج في الرقيق إلى ذكر السمن والهزال وأشباهها وما يتباين بها الثمن وتتعلق بها الرغبات ويعرفها الناس(4/320)
فهذا أولى، ويلزم قبول اللحم بعظامه لأنه هكذا يقطع فهو كالنوى في التمر، فان كان السلم في لحم طير لم يحتج إلى ذكر الذكورية والأنوثية إلا أن يختلف بذلك كلحم الدجاج ولا إلى ذكر موضع اللحم إلا أن يكون كثيراً يأخذ منه بعضه ولا يلزمه قبول الرأس والساقين لأنه لا لحم عليها، ويذكر في السمك النوع بردي أو غيره والكبر والصغر والسمن والهزال والطري والملح ولا يقبل الرأس والذنب وله ما بينهما وإن كان كثيراً يأخذ بعضه ذكر موضع اللحم منه (فصل) ويضبط السمن بالنوع من ضأن أو معز أو بقر واللون أبيض أو أصفر، قال القاضي ويذكر المرعى ولايحتاج إلى ذكر حديث أو عتيق لأن الإطلاق يقتضي الحديث ولا يصح السلم في عتيقه لأنه عيب ولا ينتهي الى حد يضبط به، ويصف الزبد بأوصاف السمن ويزيد زبد يومه أو أمسه ولا يلزمه قبول متغير من السمن والزبد ولا رقيق إلا أن تكون رقته للحر، ويصف اللبن بالمرعى ولايحتاج إلى اللون ولا حليب يومه لأن اطلاقه يقتضي ذلك ولا يلزمه قبول متغير.
قال أحمد ويصح السلم في المخيض وقال الشافعي لا يصح لأن فيه ما ليس من مصلحته وهو الماء فصار المقصود مجهولاً ولنا أن الماء يسير يترك لاجل المصحلة جرت العادة به فلم يمنع صحة السلم فيه كالماء في الشيرج وفي خل التمر، ويصف الجبن بالنوع والمرعى ورطب أو يابس، ويصف اللبأ بصفات اللبن ويزيد
اللون ويذكر الطبخ وعدمه.
(فصل) ويضبط الثياب بستة أوصاف النوع كتان أو قطن والبلد والطول والعرض والصفاقة(4/321)
والرقة والغلظ والنعومة والخشونة ولا يذكر الوزن وإن ذكره لم يصح لتعذر الجمع بين صفاته المشترطة مع وزن معلوم فيكون فيه تغرير لبعد اتفاقه، وإن ذكر الخام أو المقصور فله شرطه وإن لم يذكره جاز وله خام لأنه الأصل، وإن ذكر مغسولاً أو لبيساً لم يجز لأن اللبيس يختلف ولا ينضبط فان أسلم في مصبوغ مما يصبغ غزله جاز لأن ذلك من جملة صفات الثوب وإن كان مما يصبغ بعد نسجه لم يجز لأن الصبغ يمنع من الوقوف على نعومة الثوب وخشونته ولأن الصبغ غير معلوم، وإن أسلم في ثوب مختلف الغزول كقطن وكتان أو قطن وابريسم أو صوف وابريسم وكانت الغزول مضبوطة بأن يقول السدى ابريسم واللحمة كتان أو نحوه جاز وقد ذكرناه، ولهذا جاز السلم في الخز وهو من غزلين مختلفين، وإن أسلم في ثوب موشى وكان الوشي من تمام نسجه جاز وإن كان زيادة لم يجز لأنه لا ينضبط.
(فصل) ويصف غزل القطن والكتان بالبلد واللون والغلظ والرقة والنعومة والخشونة ويصف القطن بذلك ويجعل مكان الغلظة والرقة الطول والقصر، وإن شرط في القطن منزوع احب جاز وإن أطلق كان له بحبه كالتمر بنواه، ويصف الابريسم بالبلد واللون والغلظ والرقة، ويصف الصوف بالبلد واللون والطول والقصر والزمان خريفي أو ربيعي لأن صوف الخريف أنظف، قال القاضي: ويصفه بالذكورية والأنوثية لأن صوف الإناث أنعم ويحتمل أن لا يحتاج إلى هذه الصفة لأن التفاوت في هذا يسير وعليه تسليمه نقياً من الشوك والبعر وإن لم يشترطه، وإن اشترطه جاز وكان تأكيداً وكذلك الشعر والوبر، ويصح السلم في الكاغد لأنه يمكن ضبطه ويصفه بالطول والعرض والرقة والغلظ واستواء الصنعة وما يختلف به الثمن(4/322)
(فصل) ويضبط الرصاص والنحاس والحديد بالنوع فيقول في الرصاص قلعي أو أسرب والنعومة والخشونة واللون إن كان يختلف ويزيد في الحديد ذكرا أو انثى فإن الذكر أحد وأمضى وإن أسلم في الأواني التي يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها كالأسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز
ويضبطها بذلك وإن أسلم في قصاع وأقداح من الخشب جاز ويذكر نوع خشبها من جوز أو توت وقدرها في الصغر والكبر والعمق والضيق والثخانة والرقة وإن أسلم في سيف ضبطه بنوع حديده وطوله وعرضه ورقته وبلده وغلظه وقديم الطبع أو محدث ماض أو غيره يصف قبضته وجفنه (فصل) والخشب على أضرب منه ما يراد للبناء فيذكر نوعه ورطوبته ويبسه وطوله ودوره أو سمكه وعرضه ويلزمه أن يدفع إليه من طرفه إلى طرفه بذلك العرض والدور، وان كان أحد طرفيه أغلظ مما وصف فقد زاده خيراً، وإن كان أدق لم يلزمه قبوله، وإن ذكر الوزن أو سمحاً جاز وإن لم يذكره جاز وله سمح خال من العقد لأن ذلك عيب وإن كان للقسي ذكر هذه الأوصاف وزاد سهلياً أو جبلياً أو خوطاً أو فلقة فإن الجبلي أقوى من السهلي والخوط أقوى من الفلقة ويذكر فيما للوقود الغلظ واليبس والرطوبة والوزن، ويذكر فيما للنصب النوع والغلظ وسائر ما يحتاج الى معرفته ويخرجه من الجهالة وإن أسلم في النشاب والنبل ضبطه بنوع خشبه وطوله وقصره ودقته وغلظه ولونه ونصله وريشه.
(فصل) والحجارة منها ما هو للأرحية فيضبطها بالدور والثخانة والبلد والنوع إن كان يختلف ومنها ما هو للبناء فيذكر اللون والقدر والنوع والوزن ويذكر في حجارة الآنية النوع واللون والقدر واللين والوزن ويصف البلور بأوصافه ويصف الآجر واللبن بموضع التربة واللون والدور والثخانة وإن أسلم(4/323)
في الجص والنورة ذكر اللون والوزن ولا يقبل ما أصابه الماء فجف ولا ما قدم قدما يؤثر فيه ويضبط التراب بمثل ذلك ويقبل الطين الذي قد جف إن كان لا يتأثر بذلك (فصل) ويضبط العنبر بالوزن والبلد وإن شرط قطعة أو قطعتين جاز وإن لم يشترط فله اعطاؤه صغاراً أو كباراً، وقد قيل العنبر نبات يخلقه الله تعالى في جنبات البحر ويضبط العود الهندي ببلده وما يعرف به ويضبط اللبان والمصطكا وصمغ الشجر والمسك وسائر ما يجوز السلم فيه بما يختلف به {مسألة} (فإن شرط الأجود لم يصح) لتعذر الوصول إليه إلا نادراً (وإن شرط الأردأ لم يصح في أحد الوجهين) لذلك (والثاني) يصح لأنه يمكنه تسليم المسلم أو خير منه فيلزم المسلم قبوله
{مسألة} (وإن جاءه بدون ما وصف له أو نوع آخر فله أخذه) لأنه رضي بدون حقه ولا يلزمه لأن فيه إسقاط حقه، وقال القاضي يلزمه إذ لم يكن أدنى من النوع المشترط لأنه من جنسه أشبه الزائد في الصفة.
ولنا أنه لم يأت بالمشروط فلم يلزم قبوله كالأدنى بخلاف الزائد في الصفة فإنه أحضر المشروط مع زيادة ولان أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة {مسألة} (وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له آخذه) لقوله عليه الصلاة والسلام " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وذكر ابن أبي موسى رواية أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيراً مثله ولعله بناه على أنهما جنس واحد والأول أصح {مسألة} (وإن جاءه بأجود منه من نوعه لزمه قبوله) لأنه أتى بما تناوله العقد وزيادة تنفعه ولا تضره {مسألة} (وإن جاءه بالأجود فقال خذه وزدني درهما لم يصح) وقال أبو حنيفة يصح كما لو جاءه بزيادة في القدر.
ولنا أن الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد كما لو كان مكيلا أو موزونا، وإن جاءه بزيادة في القدر فقال له ذلك صح لأن الزيادة ههنا يجوز إفرادها بالبيع {فصل} قال رحمه الله تعالى (الثالث أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع في المذروع فان أسلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا لم يصح وعنه يصح) يشترط معرفة قدر المسلم فيه بالكيل في المكيل والوزن في الموزون في إحدى الروايتين لقول(4/324)
النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه ويشترط معرفة المذروع بالذرع والمعدود بالعد لأنه عوض غائب يثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن، ولا نعلم في اعتبار معرفة مقدار المسلم فيه خلافاً.
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم فإن أسلف في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا ففيه روايتان (إحداهما) لا يصح نقلها عنه الأثرم فقال سئل أحمد عن السلم في التمر وزنا فقال لا إلا كيلا، قلت إن الناس ههنا لا يعرفون الكيل.
قال وإن كانوا لا يعرفون الكيل
فعلى هذه الرواية لا يجوز في المكيل إلا كيلا ولا في الموزن إلا وزناً ذكره القاضي وابن أبي موسى لأنه مبيع يشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به في الأصل كبيع الربويات بعضها ببعض ولأنه مقدر بغير ما هو مقدر به في الأصل فلم يجز كما لو اسلم في المذروع وزنا (الثانية) يجوز فنقل المروذي عن أحمد أن السلم يجوز في اللبن إذا كان كيلا أو وزناً وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا لأن اللبن لا يخلو من أن يكون مكيلا أو موزونا وقد أجاز السلم فيه بكل منهما وهو قول الشافعي وابن المنذر، وقال مالك ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر وزناً وهذا الصحيح إن شاء الله لأن الغرض معرفة قدره وإمكان تسليمه من غير تنازع فبأي قدر قدره جاز ويفارق بيع الربويات فإن التماثل بالكيل في المكيل الوزن في الموزون شرط ولا يعلم هذا الشرط إذ قدرها بغير مقدارها الأصلي، وقد ذكرنا المكيل والموزون في باب الربا، ولا يسلم في اللبأ إلا موزوناً لأنه يجمد عقيب حلبه فلا يتحقق الكيل فيه وإن كان المسلم فيه مما لا يمكن وزنه بميزان لثقله كالأرحية والحجارة الكبار وزن بالسفينة فتترك السفينة في الماء ثم يترك ذلك فيها فينظر إلى أي موضع تغوص فيعلمه ثم يرفع ويترك مكانه رمل أو أحجار صغار إلى أن يبلغ الماء الموضع المعلم ثم يوزن بميزان فيكون زنة ذلك الشئ {مسألة} (ولا بد أن يكون المكيال معلوماً فإن شرط مكيالاً بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح) بشرط أن يكون المكيال والصنجة والذراع معروفة عند العامة فإن عين مكيالا أو صنجة أو(4/325)
ذراعاً غير معلوم لم يصح لأنه يهلك فيتعذر المسلم فيه وهذا غرر لا يحتاج إليه العقد.
قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لايعرف عياره ولا في ثوب بذرع فلان لأن المعيار لو تلف أو مات فلان بطل السلم منهم الثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور فإن عين مكيال رجل أو ميزانه وكانا معروفين عند العامة جاز ولم يختص بهما، فإن لم يعلما لم يجز لما ذكرنا {مسألة} (وفي المعدود المختلف غير الحيوان روايتان) (إحداهما) يسلم فيه عدداً والأخرى وزناً وقيل يسلم في الجوز والبيض عدداً وفي الفواكه والبقول
وزناً وما عدا المكيل والموزون الحيوان والمذروع فعلى ضربين معدود وغيره والمعدود نوعان (أحدهما) لا يتباين كثيراً كالجوز والبيض فيسلم فيه عددا في أضهر الروايتين وهو قول أبي حنيفة والاوزاعي، وقال الشافعي لا يسلم فيهما عدداً لأن ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عدداً كالبطيخ وإنما يسلم فيهما وزناً وكيلا ولنا أن التفاوت يسير ويذهب ذلك باشتراط الكبر والصغر أو الوسط فيذهب التفاوت وإن بقي شئ " يسير عفي عنه كسائر التفاوت في المكيل والموزون المعفو عنه، ويفارق البطيخ فإنه يتفاوت تفاوتاً كثيراً لا ينضبط ولنا فيه منع أيضاً (النوع الثاني) ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار فحكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول وفيه وجهان (أحدهما) يسلم فيه عددا ويضبطها بالصغر والكبر لانه يباع هكذا (والثاني) لا يسلم فيه الاوزنا وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لأنه لا يمكن تقديره بالعدد لأنه يختلف كثيراً ويتباين جداً، ولا بالكيل لأنه يتجافى في المكيال.
ولا يمكن تقدير البقل بالحزم لأنه يختلف ويمكن حزم الكبيرة والصغيرة فلم يمكن تقديره بغير الوزن فيتعين تقديره به، وقيل يسلم في الجوز والبيض عدداً لأنه يباع كذلك وفي الفواكه والبقول وزناً لأنه أضبط وقد ذكرناه(4/326)
قال رحمه الله تعالى (فصل) (الرابع أن يشترط أجلا معلوماً له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن أسلم حالا أو إلى أجل قريب كاليوم ونحوه لم يصح) يشترط لصحة السلم كونه مؤجلا ولا يصح السلم الحال نص عليه أحمد في رواية المروذي، وبه قال أبو حنيفة ومالك والاوزاعي، وقال الشافعي وأبو ثور وابن المنذر يجوز السلم حالا لأنه عقد يصح مؤجلا فصح حالا كبيوع الأعيان، ولأنه إذا جاز مؤجلا فحالا أجوز ومن الغرر أبعد ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " فأمر بالأجل والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه أمر بهذه الشروط تبييناً لشروط السلم ومنعا منه بدونها، ولذلك لا يصح إذا انتفى الكيل والوزن فكذلك الأجل، ولأنه إنما جاز رخصة للمرفق ولا يحصل المرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل انتفى المرفق فلا يصح الكتابة، ولأن الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه أما الاسم فإنه سمي سلماً وسلفاً لتعجل أحد العوضين وتأخر الآخر
ومعناه ما ذكرناه في أول الباب من أن الشارع رخص فيه من أجل الحاجة الداعية إليه ومع حضور ما يبيعه حالا لا حاجة إلى السلم فلا يثبت وفارق بيوع الأعيان فإنها لم تثبت على خلاف الأصل لمعنى يختص بالتأجيل وما ذكروه من التنبيه غير صحيح لأن ذلك إنما يجري فيما إذا كان المعنى المقتضي موجوداً في الفرع بصفة التأكيد وليس كذلك ههنا فان البعد من الغرر ليس هو المقتضي لصحة السلم المؤجل وإنما المصحح له شئ آخر لم يذكر اجتماعهما فيه وقد بينا افتراقهما.
إذا ثبت هذا فإنه إن باعه ما يصح السلم فيه حالا في الذمة صح ومعناه معنى السلم، وإنما افترقا في اللفظ لكن يشترط في البيع إن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فإن باعه ما ليس عنده لم يصح وقد ذكرناه (فصل) ويشترط كون الأجل مدة لها وقع في الثمن كالشهر وما قاربه، وقال أصحاب أبي حنيفة لو قدره بنصف يوم جاز، وقدره بعضهم بثلاثة أيام وهو قول الأوزاعي لأنها مدة يجوز فيها خيار الشرط وهي آخر حد القلة قالوا لأن الأجل إنما اعتبر في السلم لأن المسلم فيه معدوم في الأصل لكون(4/327)
السلم إنما ثبت رخصه في حق المفاليس فلابد من الأجل ليحصل ويسلم وهذا يتحقق بأقل مدة يتصور حصوله فيها.
ولنا أن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق الذي شرع من أجله السلم ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن، ولا يصح اعتباره بمدة الخيار لأن الخيار يجوز ساعة وهذا لا يجوز والأجل يجوز أن يكون أعواماً وهم لا يجيزون الخيار أكثر من ثلاث وكونها آخر حد القلة لا يقتضي التقدير بها، وقولهم إن المقصود يحصل بأقل مدة لا يصح فإن السلم إنما يكون لحاجة المفاليس الذين لهم ثمار أو زروع أو تجارات ينتظرون حصولها ولا يحصل هذا في المدة اليسيرة غالبا {مسألة} (إلا أن يسلم في شئ يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة فيصح) قال الأثرم قلت لأبي عبد الله الرجل يدفع إلى الرجل الدراهم في الشئ يؤكل فيأخذ منه كل يوم من تلك السلعة شيئاً فقال على معنى السلم؟ فقلت نعم، فقال لا باس ثم قال مثل الرجل القصاب يعطيه الدينار على أنه يأخذ منه كل يوم رطلا من لحم قد وصفه: وبهذا قال مالك، وقال الشافعي إذا أسلم في جنس واحد إلى أجلين لم يصح في أحد القولين لأن ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر
وذلك مجهول.
ولنا أن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى أجلين وآجال كبيوع الأعيان، فعلى هذا إذا قبض البعض وتعذر رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقي فضلاً على المقبوض لأنه مبيع واحد متماثل الاجزاء فيقسط الثمن على أجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله {مسألة} (فان أسلم في جنس إلى أجلين أو في جنسين إلى أجل صح) أما إذا أسلم في جنس إلى أجلين فقد ذكرناه في المسألة قبلها، وأن أسلم في جنسين إلى أجل واحد صح قياساً على البيع {مسألة} (ولابد أن يكون الأجل مقدراً بزمن معلوم للخبر) وهو أن يسلم إلى وقت يعلم بالأهلة نحو أول الشهر وأوسطه وآخره أو يوم معلوم منه لقول الله تعالى (يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك، فإن أسلم إلى عيد الفطر أو النحر أو يوم عرفة أو عاشوراء أو نحوها جاز لأنه معلوم بالأهلة فإن(4/328)
جعل الأجل مقدراً بغير الشهور الهلالية وكان ما يعرفه المسلمون وهو مشهور بينهم مثل الأشهر الرومية كشباط ونحوه أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان عند من يعرفهما فظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى أنه لا يصح لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية أشبه إذا أسلم إلى الشعانين وعيد الفطير، ولأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين اشبه ما ذكرنا، وقال القاضي يصح وهو قول الأوزاعي والشافعي لأنه معلوم لا يختلف أشبه أعياد المسلمين وفارق ما يختلف لكونه لا يعلمه المسلمون وإن كان مما لا يعرفه المسلمون كالشعانين وعيد الفطير ونحوهما لم يصح السلم إليه لأن المسلمين لا يعرفونه ولايجوز تقليد أهل الذمة فيه لأن قولهم غير مقبول ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون، وإن أسلم الى ما لا يختلف مثل كانون الأول ولا يعرفه المتعاقدان أو أحدهما لم يصح لأنه مجهول عنده {فصل} وإذا جعل الأجل إلى شهر تعلق بأوله، وإن جعل الأجل اسما يتناول شيئين كجمادى ويوم النفر تعلق بأولهما، وإن قال الى ثلاثة أشهر كان إلى انقضائها لأنه إذا ذكر ثلاثة أشهر مبهمة وجب أن يكون ابتداؤها من حين لفظه بها، وكذلك لو قال إلى شهر كان إلى آخره وينصرف إلى الأشهر الهلالية لقول الله تعالى (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) وإن أراد الهلالية فان(4/329)
كان في أثناء شهر كمل شهراً بالعدد وشهرين بالأهلة، وقيل تكون الثلاثة بالعدد وسنذكر ذلك في غير هذا، وإن قال محله شهر كذا صح وتعلق بأوله، وقيل لا يصح لأنه جعل ذلك ظرفا فيحتمل أوله وآخره والصحيح الأول، فإنه لو قال لعبده أنت حر في شهر كذا تعلق بأوله وهو نظير مسئلتنا، فإن قيل العتق يتعلق بالاخطار والاغرار ويجوز تعليقه على مجهول كنزول المطر وقدوم زيد بخلاف مسئلتنا، قلنا إلا أنه إذا جعل محله في شهر تعلق بأوله فلا يكون مجهولاً وكذا السلم {مسألة} (وإن أسلم إلى الحصاد أو شرط الخيار إليه فعلى روايتين) لا يصح أن يؤجل السلم إلى الحصاد والجزاز وما أشبهه، كذلك قال ابن عباس وأبو حنيفة والشافعي وابن المنذر، وفيه رواية أخرى أنه يجوز.
قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال مالك وأبو ثور، وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء، وبه قال ابن أبي ليلى وقال أحمد إن كان شئ يعرف فأرجو، وكذلك إن قال إلى قدوم الغزاة وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء لأن ذلك معلوم، فأما نفس العطاء فهو مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر، ويحتمل أنه أراد نفس العطاء لكونه يتقارب أيضاً فأشبه الحصاد ووجه ذلك أنه أجل تعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة لا يتفاوت تفاوتا كثيراً أشبه إذا قال إلى رأس السنة(4/330)
ولنا قول ابن عباس: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم، ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز أن يكون أجلا كقدوم زيد، فإن قيل فقد روي عن عائشة أنها قالت: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي " أن ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة " قلنا قال إبن المنذر رواه حرمي بن عمارة، وقال أحمد فيه غفلة وهو صدوق، قال إبن المنذر فأخاف أن يكون من غفلاته إذ لم يتابع عليه، ثم أنه لا خلاف في أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح، وإن جعل الخيار إليه فهو في معنى الاجل {مسألة} (وإذا جاءه بالسلم قبل محله ولا ضرر في قبضه لزمه قبضه وإلا فلا)
عبر بالسلم عن المسلم فيه كما يعبر بالسرقة عن المسروق، وبالرهن عن المرهون، وإذا حضر المسلم فيه على الصفة المشروطة لم يخل من أحوال ثلاثة (أحدها) أن يحضره في محله فيلزمه قبوله كالبيع المعين سواء تضرر بقبضه أولا لأن على المسلم إليه ضرراً في بقائه في يده، فإن امتنع قيل له إما أن تقبض حقك أو تبرئ منه لأن قبض الحاكم قام مقام قبض الممتنع بولايته إلا أنه ليس له الابراء (الحال الثاني) أن يحضره بعد محل الوجوب فهو كما لو أحضر المبيع بعد تفرقهما (الحال الثالث) أن يحضره قبل محله فينظر، فان كان في قبضه قبل المحل ضرر إما لكونه مما يتغير كالفاكهة والأطعمة كلها أو كان قديمة دون حديثه كالحبوب ونحو هذا لم يلزم المسلم قبوله لأن له غرضاً في تأخيره بأن يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت، وكذلك الحيوان لأنه لا يأمن تلفه ويحتاج إلى المؤنة وهكذا إن كان يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالقطن ونحوه، أو كان الوقت مخوفاً يخشى على ما يقبضه فلا يلزمه الأخذ في هذه الأحوال لأن عليه ضرراً في قبضه ولم يأت محل استحقاقه له فهو كنقص صفة فيه، وإن كان مما لاضرر في قبضه ولا يتغير كالحديد والرصاص والنحاس فإنه يستوي قديمه وحديثه ونحو ذلك الزيت والعسل ولم يكن في قبضه ضرر الخوف ولا تحمل مؤنة فعليه قبضه لحصول غرضه مع زيادة تعجل المنفعة فجرى مجرى زيادة الصفة وزيادة الجودة في المسلم فيه (فصل) وليس له إلا أقل ما تقع عليه الصفة لأنه قد سلم إليه ما تناوله العقد فبرئت ذمته منه فعليه أن يسلم الحبوب نقية، فإن كان فيها تراب يأخذ موضعاً من المكيال لم يجز، وإن كان يسيراً لا يؤثر في الكيل ولا يعيب لزمه أخذه، ولا يلزمه أخذ التمر إلا جافاً، ولا يلزم ان يتناهى جفافه لأنه يقع عليه(4/331)
الاسم، ولا يلزمه أن يقبل معيباً بحال وإن قبضه فوجده معيباً فله المطالبة بالبدل كالمبيع والله أعلم (فصل) الشرط الخامس أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله لا نعلم فيه خلافاً لأنه إذا كان ظاهراً أمكن تسليمه عند وجوب التسليم، وإذا لم يكن عام الوجود لم يكن موجوداً عند المحل كذلك فلا يمكن تسليمه فلم يصح كبيع الآبق، بل أولى فإن السلم احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر الغرر فإن كان لا يوجد فيه أولا يوجد إلا نادراً كالسلم في العنب
والرطب إلى شباط أو آذار أو أسلم الى محل لا يعم وجوده فيه كزمان أول العنب أو آخره الذي لا يوجد فيه إلا نادراً لم يصح لأنه لا يؤمن انقطاعه فلا يغلب على الظن القدرة على تسليمه عند وجوب التسليم {مسألة} (وإن أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قرية صغيرة لم يصح لأنه لا يؤمن تلفه وانقطاعه) قال إبن المنذر: ابطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم منهم الثوري ومالك والشافعي والاوزاعي واسحاق وأصحاب الرأي، قال وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى فقال اليهودي من تمر حائط بني فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما من حائط بني فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " رواه ابن ماجه وغيره ورواه الجوزجاني في المترجم وقال أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع ولأنه لا يؤمن انقطاعه وتلفه أشبه مالو اسلم في شئ قدره مكيال معين أو صنجة معينة أو أحضر خرقة وأسلم في مثلها (فصل) ولا يشترط وجود المسلم فيه حال العقد بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان الشتاء(4/332)
وفي كل معدوم إذا كان موجوداً عند المحل وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر، وقال الثوري والاوزاعي وأصحاب الرأي يشترط أن يكون جنسه موجوداً حال العقد إلى حال المحل لأن كل زمان يجوز أن يكون محلاً للمسلم فيه لموت المسلم إليه فاعتبر وجوده فيه كالمحل.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال " من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر الوجود ولو كان شرطاً لذكره ولنهاهم عن السلف سنتين لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة ولا يثبت في الذمة ويوجد في محله غالباً أشبه الموجود ولا نسلم أن الدين يحل بالموت، وإن سلمنا فلا يلزم أن يشترط ذلك الوجود إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال السلم مجهولة والمحل ما جعله المتعاقدان محلاً وههنا لم يجعلاه {مسألة} (وإن أسلم إلى محل يوجد فيه عاماً فانقطع خير بين الصبر والفسخ والرجوع برأس ماله أو عوضه إن كان معدوماً في أحد الوجهين وفي الآخر ينفسخ بنفس التعذر)
وجملة ذلك أنه تعذر تسليم المسلم فيه عند محله أما لغيبة المسلم إليه أو عجزه عن التسليم حتى عدم المسلم فيه أو لم تحمل الثمار تلك السنة فالمسلم بالخيار بين الصبر إلى أن يوجد فيطالب به وبين أن يفسخ العقد ويرجع بالثمن إن كان موجوداً أو بمثله إن كان مثلياً والاقيمته، وبذلك قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر، وفيه وجه آخر أنه ينفسخ بنفس التعذر لكون المسلم فيه من ثمرة العام بدليل وجوب التسليم منها فإذا هلكت انفسخ العقد به كما لو باعه قفيزاً من صبرة فهلكت والأول أصح فإن العقد قد صح وإنما تعذر التسليم فهو كمن اشترى عبداً فأبق قبل القبض، ولا يصح دعوى التعيين في هذا العام، فإنهما(4/333)
لو تراضيا على دفع المسلم فيه من غيرها جاز وإنما أجبر على دفعه من ثمرة العام لتمكنه من دفع ما هو نصف حقه وذلك يجب الدفع من ثمرة نفسه إذا قدر ولم يجد غيرها وليست متعينة فإن تعذر البعض فللمشتري الخيار بين الفسخ في الكل والرجوع بالثمن وبين أن يصبر إلى حين الامكان ويطالب بحقه، فان أحب الفسخ في المتعذر وحده فله ذلك لأن الفساد طرأ بعد صحة العقد فلم يوجب الفساد في الكل ويصبر على ما نذكره من الخلاف في الإقالة في بعض السلم، وإن قلنا أن الفسخ يثبت بنفس التعذر انفسخ في المعقود دون الموجود لما ذكرنا من أن الفساد الطارئ على بعض المعقود عليه لا يوجب فساد الجميع ويثبت للمشتري خيار الفسخ في الموجود كما ذكرنا في الوجه الأول (فصل) وإذا أسلم ذمي إلى ذمي في خمر ثم أسلم أحدهما فقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المسلم يأخذ دراهمه لأنه إن كان المسلم المسلم فليس له استيفاء الخمر فقد تعذر استيفاء المعقود عليه وإن كان الآخر فقد تعذر عليه الإيفاء فصار الأمر الى رأس ماله {فصل} (الشرط السادس) أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد فإن تفرقا قبل ذلك بطل، وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك شرطاً لأنه معاوضة لا تخرج بتأخير قبضه من أن تكون سلماً فأشبه تأخيره إلى آخر المجلس ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف، ولا يصح قياسه على المجلس بدليل الصرف، وإن قبض بعضه ثم تفرقا فكلام الخرقي(4/334)
يقتضي أن لا يصح وحكي ذلك عن ابن شبرمة والثوري.
وقال أبو الخطاب هل يصح في المقبوض؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة وهذا الذي يقتضيه مذهب الشافعي، وقد نص أحمد في رواية ابن منصور إذا أسلمت ثلثمائة درهم في أصناف شتى مائة في حنطة ومائة في شعير ومائة في شئ آخر فخرج فيها زيوف رد على الأصناف الثلاثة على كل صنف بقدر ما وجد من الزيوف فصحح العقد في البافي بحصته من الثمن، وقال الشريف أبو جعفر فيمن أسلف ألفاً إلى رجل فقبضه نصفه وأحاله بنصفه أو كان له دين على المسلم إليه بقدر نصفه فحسبه عليه من الألف صح السلم في النصف المقبوض وبطل في الباقي وحكي عن أبي حنيفة أنه قال يبطل في الحوالة في الكل، وفي المسألة الأخرى يبطل فيما لم يقبض وحده بناء على تفريق الصفقة (فصل) وإن قبض الثمن فوجده رديئاً فرده والثمن معين بطل العقد برده فإن كان الثمن أحد النقدين وقلنا تتعين النقود بالتعيين بطل، ويبتدئان عقداً آخر إن اختاره، وإن كان في الذمة فله إبداله في المجلس ولا يبطل العقد برده لأن العقد إنما وقع على ثمن سليم فإذا دفع إليه معيباً كان له رده والمطالبة بالسليم، ولم يؤثر قبض المعيب في العقد، وإن تفرقا ثم علما عيبه فرده ففيه وجهان (أحدهما) يبطل العقد برده لوقوع القبض بعد التفرق (والثاني) لا يبطل لأن القبض الأول كان صحيحا بدليل مالو أمسكه ولم يرده وهذا بدل عن المقبوض وهذا قول أبي يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي واختيار المزني لكن من شرطه أن يقبض البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا عن مجلس الرد قبل قبض البدل بطل وجهاً واحداً لخلو العقد عن قبض الثمن بعد تفرقهما، فإن وجد بعض الثمن رديئاً فرده(4/335)
ففي المردود ما ذكرنا من التفصيل، وهل يصح في غير الردئ.
إذا قلنا بفساده في الردئ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة (فصل) وإن ظهرت الدراهم مستحقة والثمن معين لم يصح.
قال أحمد: إذا خرجت الدراهم مسروقة فليس بينهما بيع.
وذلك لأن الثمن إذا كان معينا فقد اشترى بعين مال غيره بغير إذنه وإن
كان غير معين فله المطالبة ببدله في المجلس، وإن قبضه ثم تفرقا بطل العقد لأن المقبوض لا يصلح عوضاً فقد تفرقا قبل أخذ الثمن الاعلى الرواية التي تقول بصحة تصرف الفضول، أو إن النقود لا تتعين بالتعيين، وإن وجد بعضه مستحقاً بطل العقد فيه، وفي الباقي على وجهين بناء على تفريق الصفقة (فصل) وإن كان له في ذمة رجل دينارا فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح قال إبن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وروي عن ابن عمر أنه قال: لا يصح لذلك وذلك لأن المسلم فيه دين: فإذا جعل الثمن ديناً كان بيع دين بدين ولا يصح بالإجماع، ولو قال أسلمت إليك في كر طعام وشرطا أن يعجل له منها خمسين ويؤجل خمسين لم يصح العقد في الكل في قول الخرقي ويخرج في صحته في قدر المقبوض وجهان (أحدهما) يصح وهو قول أبي حنيفة بناء على تفريق الصفقة (والثاني) لا يصح وبه قال الشافعي وهو أصح لأن للمعجل فضلاً على المؤجل فيقتضي أن يكون في مقابلته أكثر مما في مقابلة المؤخر والزيادة مجهولة فلا يصح {مسألة} (وهل يشترط كونه معلوم القدر والصفة كالمسلم فيه على وجهين)(4/336)
اختلفت الرواية في معرفة صفة الثمن المعين ولا خلاف في اشتراط معرفة صفته إذا كان في الذمة لأنه أحد عوضي السلم، فإذا لم يكن معيناً اشترط معرفة صفته كالآخر إلا أنه إذا أطلق وفي البلد نقد واحد انصرف إليه وقام مقام وصفه، وإن كان الثمن معيناً فقال القاضي وابو الخطاب يشترط ذلك لأن أحمد قال: يقول أسلمت إليك كذا وكذا درهما ونصف الثمن فاعتبر ضبط صفته، وهذا قول مالك وأبي حنيفة لأنه عقد لا يمكن إتمامه في الحال ولا تسليم المعقود عليه ولا يؤمن انفساخه فوجبت معرفة رأس مال السلم فيه ليرد بدله كالقرض، ولأنه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقاً فينفسخ العقد في قدره فلا يعلم في كم بقي وكم انفسخ؟ فإن قيل هذا موهوم والموهومات لا تعتبر.
قلنا الوهم ههنا معتبر لأن الأصل عدم الجواز، وإنما جاز إذا وقع الأمن الغرر ولم يوجد ههنا بدليل ما إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه أو قدر السلم بصنجة بعينها وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لأنه لم يذكره في شروط السلم وهو أحد قولي الشافعي لأنه عوض مشاهد فلم يحتج إلى معرفة قدره كبيوع الأعيان وكلام أحمد
إنما تناول غير المعين ولا خلاف في اعتبار أوصافه، ودليلهم ينتقض بعقد الإجارة فإنه ينفسخ بتلف العين المستأجرة ولايحتاج مع التعيين إلى معرفة الأوصاف، ولأن رد مثل الثمن إنما يستحق عند فسخ العقد لا من جهة عقده.
وجهالة ذلك لا تؤثر كما لو باع المكيل والموزون، ولأن العقد قد تمت شرائطه فلا يبطل بأمر موهوم فعلى القول الأول لا يجوز أن يجعل رأس مال السلم مالاً يمكن ضبطه بالصفة كالجواهر وسائر مالا يجوز السلم فيه فإن فعلا بطل العقد ويرده إن كان موجوداً وإلا رد قيمته، فإن(4/337)
اختلفا في القيمة فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم وكذلك إن حكمنا بصحة العقد ثم انفسخ.
فإن اختلفا في المسلم فيه فقال أحدهما في كذا مدي حنطة، وقال الآخر في كذا مدي شعير تحالفا وتفاسخا وبه قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي كما لو اختلفا في ثمن المبيع (فصل) وكل مالين حرم النساء فيهما لا يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر لأن السلم من شرطه النساء والتأجيل والذي ذكره الخرقي في أنه لا يجوز النساء في العروض وهي إحدى الروايتين فعلى هذا لا يجوز إسلام بعضها في بعض.
وقال ابن أبي موسى: لا يجوز أن يكون رأس مال السلم إلا عيناً أو ورقاً، قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد، قال إبن المنذر قيل لأحمد يسلم ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن؟ فلم يعجبه، فعلى هذا لا يجوز أن يكون المسلم فيه ثمناً وهو قول أبي حنيفة لأنها لا تثبت في الذمة إلا ثمناً فلا يجوز أن تكون مثمنة، وعلى الرواية التي تقول يجوز النساء في العروض يجوز أن يكون رأس المال عرضاً كالثمن سواء ويجوز إسلامها في الأثمان، قال الشريف أبو جعفر يجوز السلم في الدراهم والدنانير وهذا مذهب مالك والشافعي لأنها تثبت في الذمة صداقاً فتثبت في الذمة سلما كالعروض ولانه لاربا بينهما من حيث التفاضل ولا النساء فصح إسلام أحدهما في الآخر كالعرض في العرض ولا يصح ما قاله أبو حنيفة فإنه لو باع دراهم بدنانير صح ولا بد أن يكون أحدهم مثمناً فعلى هذا إذا أسلم عرضاً في عرض موصوف بصفاته فجاء عند الحلول بذلك العرض بعينه لزمه قبوله على أحد الوجهين لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته فلزمه قبوله كما لو كان غيره (والثاني) لا يلزمه لان يفضي إلى كون الثمن هو المثمن، ومن نصر الأول قال هذا لا يصح لأن الثمن إنما هو في الذمة وهذا عوض(4/338)
عنه، وهكذا لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة فجاء المحل وهي على صفة المسلم فيه فأحضرها خرج فيها الوجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه يفضي إلى أن يكون قد استمتع بها وردها خالية عن عقر (والثاني) يجوز لأنه أحضر المسلم فيه على صفته، ويبطل الأول بما إذا وجد بها عيباً فردها وللشافعي في هاتين المسئلتين وجهان كهذين، فان فعل ذلك حيلة لينتفع بالعين أو ليطأ الجارية ثم يردها بغير عوض لم يجز وجهاً واحداً {مسألة} (وإن أسلم ثمنا واحدا في جنسين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس) يجوز أن يسلم ديناراً في قفيز حنطة وقفيز شعير فإن لم يبين ثمن الحنطة من الشعير لم يصح وقال مالك يجوز وللشافعي قولان كالمذهبين لأن كل عقد جاز على جنسين في عقدين جاز عليهما في عقد واحد كبيوع الأعيان.
ولنا أن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه مفرداً بثمن مجهول، ولأن فيه غرراً لأنا لا نأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلم ندربكم يرجع؟ وهذا غرر يؤثر مثله في السلم، وبمثل هذا عللنا معرفة صفة الثمن وقد ذكرنا ثم وجهاً أنه لا يشترط فيخرج ههنا مثله لأنه في معناه، والجواز ههنا أولى لأن العقد ثم إذا انفسخ لا يعلم مقدار ما يرجع به وههنا يرجع بقسطه من رأس مال السلم، ولأنه لو باع عبده وعبد غيره بثمن واحد جاز في أظهر الوجهين وهذا مثله، ولأنه لما جاز أن يسلم في شئ واحد إلى أجلين ولا يبين ثمن كل منهما ينبغي أن يجوز ههنا.
قال ابن أبي موسى: ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهماً في كر حنطة إلا أن يبين حصة ما لكل واحد منهما من الثمن، والأولى صحة هذا لأنه إذا تعذر بعض السلم رجع بقسطه منهما، وإن تعذر النصف رجع بالنصف، وإن تعذر الخمس رجع بدينار وعشرة دراهم (فصل) قال رحمه الله تعالى (السابع أن يسلم في الذمة، فان أسلم في عين لم يصح)(4/339)
لأنه ربما تلف قبل أوان تسليمه فلم يصح كما لو شرط مكيالا بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة، ولأن المعين يمكن بيعه في الحال فلا حاجة الى السلم فيه {مسألة} (ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء)
ذكره القاضي وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث، وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم فليسلم في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر مكان الإيفاء، ولو كان شرطاً لذكره وفي الحديث الذي فيه أن اليهودي أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " ولم يذكر مكان الإيفاء ولأنه عقد معاوضة أشبه بيوع الأعيان، وقال الثوري يشترط وهو القول الثاني للشافعي وقال الأوزاعي هو مكروه لأن القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه يؤمئذ، وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي إن كان لحمله مؤنة وجب شرطه وإلا فلا لأنه إذا كان لحمله مؤنة اختلف فيه الغرض بخلاف مالا مؤنة فيه {مسألة} (إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه) فيشترط ذكره لأنه متى كانا في برية لم يمكن التسليم في مكان العقد فإذا ترك ذكره كان مجهولا {مسألة} (ويكون الوفاء في موضع العقد) إذا كانا في مكان يمكن الوفاء فيه اقتضى العقد التسليم في مكانه فاكتفى بذلك عن ذكره {مسألة} (فإن شرط الوفاء فيه كان تأكيداً) وهو حسن لأنه شرط ما يقتضيه العقد أشبه مالو شرط الحلول في ثمن المبيع {مسألة} (وإن شرطه في غيره صح) لأنه بيع فصح شرط الإيفاء في غير مكانه كبيوع الأعيان ولأنه شرط ذكر مكان الإيفاء فصح كما لو ذكره في مكان العقد (وعنه لا يصح) ذكرها ابن أبي موسى لأنه شرط خلاف ما اقتضاه العقد لأن العقد يقتضي الإيفاء في مكانه، وقال القاضي وابو الخطاب: متى ذكر مكان الإيفاء ففيه روايتان سواء شرطه في مكان العقد أو في غيره لأنه ربما تعذر تسليمه في ذلك المكان فأشبه تعيين المكيال اختاره(4/340)
أبو بكر، ولنا أن في تعيين المكان غرضاً ومصلحة لهما أشبه تعيين الزمان وبهذا يبطل ما ذكروه، ثم لا يخلو إما أن يكون مقتضى العقد التسليم في مكانه فإذا شرطه فقد شرط مقتضى العقد أولا يكون ذلك مقتضى
العقد فيتعين ذكر مكان الإيفاء نفياً للجهالة عنه وقطعاً للتنازع فالغرر في تركه لافي ذكره، وتعيين المكان يفارق هذا فإنه لا حاجة إليه ويفوت به علم المقدار المشترط لصحة العقد ويفضي إلى التنازع وفي مسئلتنا لا يفوت به شرط، ويقطع التنازع والمعنى المانع من التقدير بمكيال بعينه مجهول هو المقتضي لذكر مكان الإيفاء فكيف يصح قياسهم عليه؟ {مسألة} (ولايجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه ولاهبته ولا أخذ غيره مكانه ولا الحوالة به) لا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه وكذلك التولية والشركة وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي جواز الشركة والتولية عن مالك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية وقياساً على الإقالة، ولنا أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم يصح كما لو كان بلفظ البيع ولأنهما نوعا بيع فلا يجوز فيه السلم قبل قبضه كالنوع الآخر والحديث لا نعرفه وهو حجة لنا لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع فيدخلان في النهي ويحمل قوله وأرخص في الشركة والتولية على أنه أرخص فيهما في الجملة لافي هذا الموضع، وأما الإقالة فإنها فسخ وليست بيعاً وأما أخذ غيره مكانه فهو أن يأخذ غير المسلم فيه عوضاً عن المسلم فيه وذلك حرام سواء كان المسلم فيه موجوداً أو معدوماً وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وذكر ابن أبي موسى رواية فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فرضي أن يأخذ شعيرا مثله جاز وذلك محمول على أن البر والشعير جنس والصحيح في المذهب خلافه وقال مالك يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه يتعجله ولا يؤخره إلا الطعام، وقال ابن المنذر وقد ثبت ان ابن عباس قال: إذا أسلمت في شئ إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا(4/341)
فخذ عوضاً أنقص منه ولا تربح مرتين رواه سعيد في سننه.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وابن ماجة، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له فلم يجز كبيعه لغيره
(فصل) ولا تجوز الحوالة به لأنها إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة أن يكون لرجل سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي عنده السلم فلا يجوز وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضاً لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
{مسألة} (ويجوز بيع الدين المستقر لمن هو في ذمته بشرط أن يقبض عوضه في المجلس ولايجوز لغيره) لحديث ابن عمر: كنا نبيع الأبعرة بالبقيع بالدنانير ونأخذ عوضها الدراهم وبالدراهم ونأخذ عوضها الدنانير فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا باس إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " فقد دل الحديث على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر وغيره مقاس عليه ودل على اشتراط القبض في المجلس قوله " إذا تفرقتما وليس بينكما شئ " وفي ذلك اختلاف ذكرناه في الصرف وفيه رواية أخرى أنه لا يصح بيعه لمن هو في ذمته كما لا يصح في السلم، والأول أولى فإن اشتراه منه موصوف في الذمة من غير جنسه جاز ولا يتفرقا قبل القبض لأنه يكون بيع دين بدين، وإن أعطاه معيناً بما يشترط فيه التقابض مثل أن أعطاه عوض الحنطة شعيراً جاز ولم يجز التفرق قبل القبض وإن أعطاه معيناً لا يشترط فيه التقابض جاز التفرق قبل القبض كما لو قال بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك ويحتمل أن لا يجوز لأن المبيع في الذمة فلم يجز التفرق قبل القبض كالسلم (فصل) وإن باع الدين لغير من هو في ذمته لم يصح، وبه قال أبو حنيفة والثوري واسحاق قال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضاً فبعه من الذي هو عليه بنقد ولا تبعه من غيره بنقد ولا نسيئة وإذا أقرضت رجلاً دراهم أو دنانير فلا تأخذ من غيره عوضا بمالك عليه، وقال الشافعي(4/342)
إن كان الدين على معسر أو مماطل لم يصح البيع لأنه معجوز عن تسليمه وان كان على ملئ باذل له ففيه قولان (أحدهما) يصح لأنه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح كما لو اشترى في ذمته، ويشترط أن يشتري بعين أو يتقابضا في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين.
ولنا أنه غير قادر على تسليمه فلم
يصح كبيع الآبق والطير في الهواء {مسألة} وتجوز الإقالة في السلم وتجوز في بعضه في أحد الوجهين إذا قبض رأس مال السلم أو عوضه في مجلس الإقالة) الإقالة في السلم جائزة لانها فسخ قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، ولأن الإقالة فسخ للعقد وقع من أصله وليست بيعاً، قال القاضي ولو قال لي عندك هذا الطعام صالحني على ثمنه جاز لأنه أقاله.
فأما الإقالة في بعض السلم فاختلفت الرواية فيها فروي عنه أنها لا تجوز وقد رويت كراهتها عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين والنخعي وسعيد بن جبير وربيعة وابن أبي ليلى وإسحاق، وروى حنبل عن أحمد أنه قال: لا باس بها.
روى ذلك عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومحمد بن علي وحميد بن عبد الرحمن وعمرو بن دينار والحكم والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وابن المنذر لأن كل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والأنظار ووجه الرواية الأولى أن السلف في الغالب يزاد فيه في الثمن من أجل التأجيل فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو شرط ذلك في ابتداء العقد، ويخرج الإبراء والانظار فانه لا يتعلق به شئ من ذلك(4/343)