كتاب الحدود (1) لا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم
(2) ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه
(3) إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب الحدود]
مسألة 1: (ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم) ، فأما الصبي والمجنون فلا حد عليهما إذا زنيا، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وفي حديث ماعز «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين أقر له: أبك جنون؟ قال: لا» (رواه مسلم) ، وروي عنه أنه سأل عنه «أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس» . إذا ثبت هذا فينبغي أن يكون عالما بالتحريم، وقال عمر وعلي: لا حد إلا على من علمه، فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام أو الناشئ ببادية قُبل قوله، وإلا فلا يقبل؛ لأن تحريم الزنا لا يخفى على ناشئ ببلاد الإسلام.
مسألة 2: (ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه) ؛ لأنه حق لله سبحانه والإمام نائب عن الله عز وجل فاختص باستيفائه كالجزية والخراج.
مسألة 3: (إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن) في قول أكثرهم، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا، وروى سعيد أن فاطمة حدت جارية لها، وقال أصحاب الرأي: ليس له ذلك؛ لأن الحدود إلى السلطان، ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إذا زنت أمة(1/585)
أمة أحدكم فليجلدها»
(4) وليس له قطعه في السرقة
(5) ولا قتله في الردة، ولا جلد مكاتبه
(6) ولا أمته المزوجة
(7) وحد الرقيق نصف حد الحر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحدكم فليجلدها» (رواه الترمذي) ، وقوله: " «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» رواه الدارقطني، ولأنه يملك تأديبه وتزويجه إذا كانت أمته فملك إقامة الحد عليه كالسلطان وفارق الصبي، إذا ثبت هذا فإنه إنما يجوز له إقامته بالجلد خاصة مثل حد الزنا وحد القذف والشرب، فإن كان قطعا في السرقة لم يقمه السيد؛ لأنه يحتاج إلى مزيد احتياط ففوض إلى الإمام، وإنما ملك السيد الجلد؛ لأنه تأديب وهو يملك تأديبه، وفي تفويضه إليه ستر عليه لئلا يقيمه الإمام فيظهر وتنقص قيمته، ولا يملك إقامته إلا إذا ثبت ببينة أو إقرار، فإن ثبت بإقرار فللسيد سماعه وإقامة الحد به، وإن ثبت بشهادة اعتبر ثبوتها عند الحاكم؛ لأنها تحتاج إلى البحث عن العدالة ولا يقوم بذلك إلا الحاكم، وقال القاضي يعقوب: إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد كما يقيمه بالإقرار، فأما إقامته عليه بعلمه فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما: لا يقيمه بعلمه كالإمام، والثانية: يقيمه؛ لأنه قد ثبت عنده فجاز له إقامته كما لو أقر، ويختص ذلك بالمملوك القن، فإن كان بعضه حرا لم يملك إقامة الحد عليه؛ لأن الحر إنما يقيم الحد عليه الإمام، وهذا بعضه حر فلا يقيم السيد عليه الحد كما لو كان كله حرا.
مسألة 4: (وليس له قطعه في السرقة) ؛ لأن ذلك حق الله تعالى، وهو مفوض إلى نائب الله سبحانه، وهو الإمام.
مسألة 5: (وليس له قتله في الردة) لذلك (ولا جلد مكاتبه) لأنه قد انعقد في حقه سبب الحرية.
مسألة 6: (ولا أمته المزوجة) لما روي عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة ذات زوج فزنت دفعت إلى السلطان، فإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن، ولا يعرف له مخالف، وقد احتج به أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
مسألة 7: (وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر) فمتى زنى العبد أو الأمة جلد خمسين جلدة سواء كانا بكرين أو ثيبين؛ لقوله سبحانه:(1/586)
(8) ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط
فصل: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق
(9) ولا يمد ولا يربط ولا يجرد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ؛ ولأن عدتها على النصف من عدة الحرة فيكون جلدها على النصف، ولا فرق بين العبد والأمة بدليل سراية العتق، فالتنصيص على أحدهما تنصيص على الآخر.
مسألة 8: (ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط) وذلك أن من شرط إقامة الحد بالإقرار: البقاء على الإقرار إلى تمام الحد، فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه ولم يتبع، لما روي أن ماعزا هرب، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» (رواه أبو داود) ، قال ابن عبد البر: ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن دهر وغيرهم أن ماعزا لما هرب فقال لهم: ردوني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» ، ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه؛ ولأن رجوعه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
[فصل فيما يشترط في السوط يقام به الحد]
(فصل: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق) ؛ لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: " فوق هذا "، فأتي بسوط جديد لم تكسر غرته، فقال: " بين هذين» رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا، وروي عن أبي هريرة مسندا، وقد روى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: " ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين " فيكون وسطا لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم، وهكذا العذاب يكون وسطا، لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا يحطه فلا يؤلم، قال أحمد: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود، يعني لا يبالغ في رفع يده، فإن المقصود أدبه لا قتله.
مسألة 9: (ولا يمد ولا يربط ولا يجرد) قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد، وجلد أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينقل عن أحد مد ولا قيد ولا تجريد، ولا تنزع ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت؛ لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب.(1/587)
(10) ويتقى وجهه ورأسه وفرجه
(11) ويضرب الرجل قائما
(12) والمرأة جالسة، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها
(13) ومن كان مريضاً يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما «روى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أمة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أحسنت»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 10: (ويتقى وجهه ورأسه وفرجه) ؛ لأنها مقاتل وليس القصد قتله، وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لكل موضع من الحد حظ إلا الوجه والفرج، وقال للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه، وينبغي أن يفرق الضرب على جميع الجسد ويكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين والفخذين، والمرأة كالرجل في ذلك.
مسألة 11: (ويضرب الرجل قائما) ؛ لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو من الجسد حظه من الضرب، وقال مالك: يضرب جالسا؛ لأن الله سبحانه لم يأمر بالقيام، ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة، قلنا: ولم يأمر بالجلوس أيضا ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر، وأما المرأة فتضرب جالسة ليكون أستر لها.
مسألة 12: (وتضرب المرأة جالسة، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها) لئلا تنكشف، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما؛ لأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها، ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة، وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب، وفي حديث عمران بن حصين قال: " «فأمر بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت» (رواه مسلم) ، قال الأوزاعي: يعني فشدت عليها.
مسألة 13: (ومن كان مريضا يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روى) أبو داود بإسناده «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " فجرت جارية لآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا علي انطلق فأقم عليها الحد، فانطلقت فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فقال: يا علي أفرغت؟ فقلت أتيتها ودمها يسيل) ، فقال: دعها حتى ينقطع عنها الدم، ثم أقم عليها الحد» رواه مسلم بنحو من هذا المعنى.(1/588)
(14) فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة
فصل وإن اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل قتل وسقط سائرها
(15) ولو زنى أو سرق مرارا ولم يحد فحد واحد
(16) وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 14: (فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة) ؛ لما روى أبو أمامة بن سهل عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه اشتكى رجل منهم حتى ضنى فعاد جلدا على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأقر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة» (رواه أبو داود) ، قال ابن المنذر: هذا الحديث في إسناده مقال، ولأنه لما كانت الصلاة تختلف باختلاف حال المصلي فالحد بذلك أولى.
[فصل في تداخل الحدود]
فصل: (وإذا اجتمعت حدود لله عز وجل فيها قتل قتل وسقط سائرها) وهو قول عبد الله بن مسعود، وقال الشافعي: تستوفى جميعها؛ لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كالقصاص في الأطراف، ولنا قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا مخالف له من الصحابة، ولأن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل سقط ما دونه كالمحارب إذا أخذ المال وقتل فإنه يقتل ولا يقطع، ولأن هذه الحدود تراد للزجر، ومن يقتل فلا فائدة في زجره، ويخالف حق الأدمي فإنه آكد.
مسألة 15: (ومن زنى مرارا أو سرق مرارا ولم يحد فحد واحد) ؛ لأن الحد كفارة لمن يحد فإذا فعل موجبه مرارا أجزأ حد واحد كالأيمان بالله سبحانه فإنه تجزئه كفارة واحدة، وكما لو وطئ في رمضان في يوم مرتين فإنه يجزئه كفارة واحدة كذا هاهنا، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
مسألة 16: (وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها استوفيت كلها) لوجود أسبابها.(1/589)
استوفيت كلها
(17) ويبدأ بالأخف فالأخف منها
(18) وتدرأ الحدود بالشبهات، فلو زنى بجارية له فيها شرك - وإن قل - أو لولده
(19) أو وطئ في نكاح مختلف فيه
(20) أو مكرها
(21) أو سرق من مال له فيه حق أو لولده وإن سفل من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه لم يحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 17: (ويبدأ بالأخف فالأخف منها) فلو شرب وزنى وسرق بدئ بحد الشرب ثم بحد الزنا؛ لأن حد الشرب أخف من حد الزنا فإنه إما أربعون وإما ثمانون، وحد الزنا مائة، ثم يقطع في السرقة.
مسألة 18: (وتدرأ الحدود بالشبهات) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرأوا الحدود بالشبهات» قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات (فلو زنى بجارية له فيها شرك وإن قل أو لولده لم يحد) لأن ملكه فيها وإن قل شبهة في درء الحد عنه، وكذلك إذا كانت لابنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» (رواه أبو داود) ؛ ولأنه فرج له فيه ملك فلم يحد بوطئه كوطء المكاتبة والمرهونة.
مسألة 19: (وإن وطئ في نكاح مختلف فيه) كالنكاح بلا ولي، ونكاح المتعة والشغار والتحليل وبلا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح المجوسية (لم يحد) في قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف شبهة والحد يدرأ بالشبهات، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهة.
مسألة 20: (وإن وطئ مكرها لم يحد) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت المكرهة امرأة.
مسألة 21: (ومن سرق من مال له فيه حق أو لولده وإن سفل لم يحد) ؛ لأن ذلك شبهة في درء الحد عنه؛ لأنه أخذ مالا له أخذه، ولما كانت الجارية المشتركة لا يجب(1/590)
فصل: ومن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الحد بوطئها، فكذلك المال المشترك لا يجب الحد بالأخذ منه، ومال ولده كماله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» ، (وكذلك إذا أخذ من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه فإنه لا يحد) ؛ لأن العلماء اختلفوا في حل ذلك، واختلاف العلماء في حل الشيء شبهة في درء الحد، كما لو وطئ في نكاح فاسد مختلف فيه.
[فصل فيمن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إليه]
(فصل: ومن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج) من الحرم فيستوفى منه، روي ذلك عن ابن عباس، وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الجناية إذا كانت فيما دون النفس (استوفيت، وإن كانت في النفس) لم تستوف في الحرم؛ ولأن حرمة النفس أعظم، قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل، والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم حد جنايته حتى يخرج منه، وإن هتك حرمة الحرم بالجناية هتكت حرمته بإقامة الحد عليه، ودليل الأولى قول الله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قيل: المراد بهذا الخبر الأمر، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها، فلا يسفك فيها دم» (رواه مسلم) ، وروى أبو شريح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد فيها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقولوا: إن الله أذن لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب» متفق عليه، ووجه الحجة أنه حرم سفك الدم بها على الإطلاق، وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم، فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا، ومن وجه آخر وهو أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها» ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دماء كانت حلالا في غير الحرم فحرمها الحرم، ثم أحلت له ساعة، ثم عادت الحرمة، ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله:(1/591)
لكن لا يبايع ولا يشارى
(22) وإن فعل ذلك في الحرم استوفى منه فيه
(23) وإن أتى حدا في الغزو لم يستوف حتى يخرج من دار الحرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
«فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقولوا: إن الله أذن لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يأذن لكم» ، وهذا ظاهر، إذا ثبت هذا فإنه (لا يبايع ولا يشارى) ولا يطعم ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك، فإذا خرج استوفى حق الله عز وجل منه، وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا أطعم وأوي تمكن من الإقامة أبدا فيضيع الحق الذي عليه، وإذا منع ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله عز وجل.
مسألة 22: (وإن فعل ذلك في الحرم استوفى منه فيه) لا نعلم في ذلك خلافا، وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال: من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، وقال الله سبحانه: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم، ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عند ارتكاب المعاصي حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما يحتاج إليه غيرهم، فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدود الله في حقهم، وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها، ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجئ إليها بجناية صدرت منه في غيرها.
مسألة 23: (وإن أتى حدا في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب) لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقطع في الغزاة» لقطعتك، وفي لفظ «لا تقطع الأيدي في الغزاة» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، ولأنه إجماع الصحابة، وروى سعيد في سننه أن عمر كتب إلى الناس: لا تجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء مثل ذلك، وعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم(1/592)
باب حد الزنا من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نجلده فقال حذيفة: أتجلدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم، وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا
فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني، قال: فخلته حين التقى الناس، وكانت بسعد جراحة فصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحا فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم الله، وجعل الناس يقولون: هذا ملك لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الصبر صبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلما هزم الله العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد، فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله به المسلمين ما أبلاهم، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا، وهذا اتفاق لم يظهر خلافه، فأما إذا خرج من دار الحرب فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات والأخبار، وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو نحوه، فإذا زال العارض أقيم، ولهذا قال عمر: حتى يقطع الدرب قافلا.
[باب حد الزنا]
الزاني: (من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل ذلك به) ، لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها لا شبهة له في وطئها أنه زان، فأما إن وطئها في دبرها فهو أيضا زان؛ لأنه وطئ امرأة في فرجها ولا ملك له فيها ولا شبهة فكان زانيا، كما لو وطئ في القبل، ولأن الله سبحانه قال: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] ، ثم بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن الله قد جعل لهن سبيلا: " البكر بالبكر جلد(1/593)
(24) أو من غلام (25) أو من فعل ذلك به
(26) فحده الرجم إن كان محصنا، أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنا، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مائة وتغريب عام» (رواه مسلم) ، والوطء الحرام في الدبر فاحشة؛ لقوله سبحانه في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] يعني الوطء في أدبار الرجال.
1 -
مسألة 24: من تلوط بغلام فحكمه حكم الزاني في إحدى الروايتين، وفي الأخرى يقتل بالرجم بكرا أو ثيبا، وهو قول علي وابن عباس وجابر بن زيد، ووجه ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أبو داود، وفي لفظ «فاقتلوا الأعلى والأسفل» ، واحتج الإمام أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه، ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك، ودليل الأولى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» (رواه البيهقي) ؛ ولأنه إيلاج في فرج آدمي أشبه الإيلاج في فرج المرأة، وإذا ثبت أنه زان فيدخل في عموم قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وعموم الأخبار فيه. 1
مسألة 25: (ومن فعل ذلك به) يعني أن يكون زانيا إذا وطئ في الدبر رجلا كان أو امرأة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» ، وأما إذا وطئ الرجل المرأة في دبرها فهو زان أيضا؛ لأنه وطئها في فرجها فأشبه وطأها في قبلها.
مسألة 26: (فحده الرجم إن كان محصنا، أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنا) فالزاني المحصن يجب عليه الرجم بالأحجار حتى يموت، لم يخالف في الرجم إلا الخوارج قالوا: الجلد للبكر والثيب لعموم آية الحد، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت، وقد رجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين وماعزا(1/594)
(27) والمحصن هو الحر البالغ الذي قد وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
حتى ماتوا، وعنه يجلد ثم يرجم، فعله علي وروي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز، ونص على الأولى الأثرم في سننه واختاره؛ لأن جابرا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا ولم يجلده وقال: «أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (رواه البخاري) ولم يأمره بجلدها، ورجم الغامدية ولم يجلدها، ورجم عمر وعثمان ولم يجلدا، وهذا كان آخرا فيجب تقديمه في العمل به، ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة: إنه أول حد نزل وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يجلده، (ورجم عمر ولم يجلد) ، ولأنه حد يوجب القتل فلم يجب معه جلد كالردة، ونحو هذا نقل إسماعيل بن سعيد، ووجه الرواية الأخرى قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وهذا عام، ثم جاءت السنة بالرجم فوجب الجمع بينهما فروى عبادة بن الصامت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم» رواه مسلم وأبو داود وهذا صريح ثابت بيقين لا يترك إلا بيقين مثله، والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح، فعلى هذا يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم.
مسألة 27: (والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح) وذلك أن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم، وللإحصان شروط سبعة:
الأول: الحرية في قول أكثرهم، فأما العبد والأمة فلا يجب عليهما الرجم؛ لأن الله سبحانه قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والرجم لا ينتصف، وحكم العبد حكم الأمة في ذلك.
الشرط الثاني والثالث: البلوغ والعقل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة(1/595)
(28) ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقرار به أربع مرات مصرحا بذكر حقيقته أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
والرجم» فاعتبر الثيوبة خاصة، ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يؤدي إيجاب الرجم على الصبي والمجنون، وهذا أولى من القياس، وقال بعض أصحاب الشافعي: الإحصان: الوطء في النكاح الصحيح وسائر الشروط معتبرة للرجم لا للإحصان، ومعناه أنه لو وطئ من هو صبي أو مجنون في نكاح صحيح ثم عقل المجنون وبلغ الصبي وزنيا رجما؛ لأنه وطء محل للزوج الأول فأشبه الوطء في حال الكمال، ولنا ما سبق.
الشرط الرابع: أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة؛ لأنه إذا كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء ولا يحصل به الإحصان كما لو كانا غير كاملين.
الخامس: أن يكون الوطء في القبل فلو وطئ في الدبر أو فيما دون الفرج لم يحصل الإحصان؛ لأنه ليس بمحل الوطء.
السادس: أن يكون في نكاح، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا، ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه.
السابع: أن يكون النكاح صحيحا فإن كان فاسدا لم يحصل به الإحصان؛ لأنه وطء في غير ملك فأشبه وطء الشبهة.
مسألة 28: (ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقراره به أربع مرات مصرحا بذكر حقيقته، أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا ويجيئون في مجلس واحد ويتفقون على الشهادة بزنا واحد) وذلك أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار اعتبر إقرار أربع مرات، وقال الشافعي وغيره: يحد بإقراره مرة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (رواه البخاري) ، وفي حديث الجهنية أنه رجمها، وإنما اعترفت مرة، ولأنه حق فأشبه سائر الحقوق، ولنا ما روى أبو هريرة قال: «أتى رجل من الأسلميين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع(1/596)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
شهادات دعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ارجموه» متفق عليه، ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله سبحانه، وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه: «حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة» رواه أبو داود، وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة، وقد روى أبو بردة الأسلمي «أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» على ذلك ولم ينكره فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يقر على الخطأ، ولأن أبا بكر قد علم هذا من حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه، فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير، وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي ثبت به كان أربعا.
1 -
مسألة 29: ويعتبر أن يصرح بحقيقة الزنا لتزول الشبهة؛ لأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد، وقد روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت، قال: لا، قال: أفنكتها - لا يكني - قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه» رواه البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة قال: «أنكتها؟ قال: نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟ قال: نعم، قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراما كما يأتي الرجل من امرأته حلالا» وذكر الحديث، رواه أبو داود.
1 -
مسألة 30: قد سبق أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة، وقد مضى الإقرار، وأما البينة (فشهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا) فيعتبر لشهود الزنا شروط: الأول: أن يكونوا أربعة، وهذا إجماع لقوله سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ، وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] . الشرط الثاني: أن يكونوا رجالا كلهم، فلا تقبل فيه شهادة النساء؛ لأن في شهادتهن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. الثالث: الحرية فلا تقبل فيه شهادة عبيد، لا نعلم في ذلك خلافا إلا عن أبي ثور فإن شهادتهم عنده مقبولة، ولنا أنه مختلف في قبول شهادتهم في جميع الحقوق، فيكون ذلك شبهة في(1/597)
(31) ويجيئون في مجلس واحد
(32) ويتفقون على الشهادة بزنا واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
درء ما يدرأ بالشبهات. الرابع: أن يكونوا عدولا، ولا خلاف في اشتراطها، فإن العدالة مشترطة في سائر الشهادات وهاهنا مع مزيد الاحتياط أولى، ويكونوا مسلمين ولا نعلم في هذا خلافا، فلو شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بمسلمة فعليهم الحد، ولا حد على المشهود عليه. الخامس: أن يصفوا الزنا فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشأ في البئر، لما روي في قصة ماعز لما أقر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟ قال: نعم» وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى، ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه.
مسألة 31: (ويجيئون في مجلس واحد) ، وهو شرط سادس في الشهود أن يأتوا الحاكم في مجلس واحد، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم فعليهم الحد، وقيل: لا يشترط؛ لقوله سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ولم يذكر المجلس، لأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت تقبل وإن افترقت في مجالس كسائر الشهادات، ولنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنا ولم يشهد زياد فحد الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد الثلاثة فحدهم ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم به، ويفارق هذا سائر الشهادات، وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط، ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا.
مسألة 32: (ويشترط أن يتفقوا على الشهادة بزنا واحد) ، فلو شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما واختلفوا في اليوم، فالجميع قذفة وعليهم الحد؛ لأنهم لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما، وحكي عن الإمام أحمد رواية ثانية أنه يجب الحد على المشهود عليه؛ لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر، قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد، قال القاضي: قال أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنى بها(1/598)
باب حد القذف
ومن رمى محصنا بالزنا أو شهد عليه به فلم تكمل الشهادة عليه جلد ثمانين جلدة إذا طلب المقذوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
بيضاء وشهد اثنان أنه زنى بها سوداء فهم قذفة، وهذا ينقض عليه قوله: ولو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية من هذا البيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية أخرى منه، فإن كانت الزاويتان متباعدتين بحيث لا يمكن أن يوجد الفعل الواحد فيهما، فالقول فيهما كالقول فيما إذا اختلفا في البيتين، وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه، وقال الشافعي: لا حد عليه؛ لأن شهادتهم لم تكمل فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، ولنا أنه أمكن صدق الشهود عليه بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتين وتمامه في الأخرى فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا على موضع واحد.
فإن قيل: قد يمكن أن تكون الشهادة هاهنا على فعلين فلم أوجبتم الحد والحدود تدرأ بالشبهات؟ قلنا: يبطل هذا فيما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكون الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا لا يمتنع وجوب الحد فكذا هاهنا.
[باب حد القذف]
(ومن رمى محصنا بالزنا أو شهد به عليه فلم تكمل الشهادة عليه جلد ثمانين جلدة إذا طالب المقذوف) أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن، وذلك لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
والمحصن من وجدت فيه خمس شرائط:
أن يكون حرا مسلما عاقلا بالغا عفيفا، وهذا إجماع وبه يقول جملة العلماء قديما وحديثا، سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد، وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالا: إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد، والأول أولى؛ لأن من لم يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد له ولد كالمجنونة، وروي عن الإمام أحمد في اشتراط البلوغ روايتان: إحداهما: يشترط لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل، ولأن زنا الصبي لا يوجب الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون، والثانية: لا يشترط لأنه حر بالغ عاقل(1/599)
(35) والمحصن هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف
(36) ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها
(37) ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه أشبه الكبير، فعلى هذا لا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله، وأدناه أن يكون الغلام ابن عشر سنين والجارية تسع.
1 -
مسألة 33: وإذا لم تكمل الشهادة عليه بالزنا فعلى القاذف والشهود الحد؛ لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ؛ ولأنه إجماع الصحابة، فإن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع بمحضر من الصحابة فلم ينكروه، ولأنه رام بالزنى لم يأت بأربعة شهود فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد.
1 -
مسألة 34: وإنما يجب الحد على القاذف إذا طالب المقذوف؛ لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه.
مسألة 35: (والمحصن هو الحر المسلم البالغ العفيف) عن الزنا، وقد سبق.
مسألة 36: (ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها) نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على من قذف الملاعنة وهو قول ابن عمر وابن عباس والجمهور، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قضى في الملاعنة أن لا ترمى ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» رواه أبو داود، ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولا يثبت الزنا به ولذلك لا يلزمها به حد، وكذا من قذف ابنها فقال: هو من الذي رميت به، فأما إن قال: ليس هو ابن فلان وأراد أنه منفي عنه شرعا فلا حد عليه؛ لأنه صادق.
مسألة 37: (ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم) ، وقال ابن المنذر: لكل واحد حد، وعن أحمد مثله؛ لأنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات، ولنا قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، ولم يفرق بين قذفهم واحدة أو جماعة، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوه بامرأة فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به،(1/600)
(38) إذا طالبوا أو واحد منهم
(39) فإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره
باب حد المسكر ومن شرب مسكرا قل أو كثر، مختارا عالما أن كثيره يسكر جلد الحد أربعين جلدة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
بخلاف ما إذا قذف كل واحد بكلمة فإن ظهور كذبه في قذف واحد لا يزيل المعرة عن الآخر ولا يتحقق كذبه فيه.
مسألة 38: (وإذا طالبوا أو واحد منهم) ، وقد سبقت في قذف الواحد، وإن طلب واحد منهم فله إقامة الحد على قاذفه؛ لأنه مقذوف لم يشهد عليه أربعة فوجب الحد على قاذفه كما لو أقر بالقذف وطلب حقه.
مسألة 39: (وإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره) كما لو قتله جماعة عمدا وعفي عن بعضهم لا يسقط حق الباقين فكذلك هاهنا.
[باب حد المسكر]
(ومن شرب مسكرا قل أو كثر مختارا عالما أن كثيره يسكر جلد الحد أربعين جلدة) .
في هذه المسألة فصول:
الأول: أن كل مسكر حرام وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه، روي ذلك عن جماعة من الصحابة، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» ، وعن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما، وقال عمر: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب، وقال الإمام أحمد: ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح، قال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة، وأما حديث ابن عباس: «حرمت الخمر لعينها، والمسكر من كل شراب» فهو عمدتهم، وهو موقوف عليه، مع أنه يحتمل أنه أراد المسكر من كل شراب، فإنه يروي هو وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كل مسكر حرام» .(1/601)
«لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين وقال: جلد النبي أربعين» وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي
(40) وسواء كان عصير العنب أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الفصل الثاني: أن الحد يجب على من شرب القليل من المسكر والكثير، ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك وفي عصير العنب غير المطبوخ، واختلفوا في سائرها: فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر، وقال قوم: لا يجلد إلا أن يسكر، ولنا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود وغيره، وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليلها وكثيرها، ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر.
الفصل الثالث: أن يشربها مختارا لشربها، فإن شربها مكرها فلا حد عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
الفصل الرابع: أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيرها يسكر، فأما غيره فلا حد عليه؛ لأنه غير عالم ولا قاصد لارتكاب المعصية فأشبه من وطئ امرأة يظنها زوجته، وثبت أن عمر قال: لا حد إلا على من علمه، وبه قال عامة أهل العلم.
الفصل الخامس: أن حد شارب الخمر أربعون، وهو اختيار أبي بكر، وعنه أن حده ثمانون لإجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود، فضرب عمر ثمانين، وروي أن عليا قال في المشورة: إنه إذا سكر هذا، وإذا هذا افترى، فحده حد المفتري، روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما، (ودليل الرواية الأولى أن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال: جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلي) رواه مسلم، وعن أنس قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتي به أبو بكر فصنع به مثل ذلك، ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحد فقال ابن(1/602)
(41) ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات لما روى أبو بردة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجلد أكثر من عشر جلدات إلا في حد من حدود الله»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عوف: أقل الحدود ثمانون، فضرب به عمر» ، متفق عليه، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من فعل غيره، ولا ينعقد الإجماع على شيء قد خالفه فيه أبو بكر وعلي، فتحمل زيادة عمر على أنها تعزير، ويجوز فعلها إذا رآه الإمام.
مسألة 40: (وسواء كان من عصير العنب أو غيره) روي ذلك عن تسعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: كل مسكر حرام، وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب.
مسألة 41: (ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات) ، وذلك أن الجنايات التي لا حد فيها كوطء الشريك جاريته المشتركة أو أمته المزوجة أو امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج أو سرق دون النصاب أو من غير حرز أو شتم إنسانا بما ليس بقذف ونحوه فإن ذلك يوجب التعزير، واختلف عن أحمد في مقداره: فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص عليه في مواضع، لما روى أبو بردة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط (إلا في حد من حدود الله) » متفق عليه، وروي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنس تلك الجناية وتحمله كلام الخرقي؛ لأنه قال: لا يبلغ بالتعزير الحد، فعلى هذا ما كان شبه الوطء كوطء الجارية المشتركة وجارية ابنه أو أشباه هذا يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان شبه غير الوطء (لم يبلغ به) أدنى الحدود، ووجه هذا حديث النعمان بن بشير الأنصاري في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها أنه يجلد مائة، وهذا تعزير؛ لأنه في حق المحصن وحده الرجم، وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها(1/603)
(42) إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة
باب حد السرقة ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال فأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحدهما يجلد الحد إلا سوطا واحدا رواه الأثرم واحتج به أحمد، قال القاضي: هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير، بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للأثر إلا في وطء جارية امرأته لحديث النعمان، وفي الجارية المشتركة لحديث عمر، وما عدا هذا يبقى على العموم لحديث أبي بردة الصحيح، قال شيخنا: وهذا قول حسن.
مسألة 42: (إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة) لحديث النعمان، وقد سبق.
[باب حد السرقة]
(ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال وأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت) ، ولا يجب القطع إلا بشروط أربعة:
أحدها: السرقة، ومعناها أخذ المال على وجه الخفية والاستتار، ومنه استراق السمع، فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على الخائن ولا على المختلس قطع» ، وفي حديث عن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المنتهب قطع» رواهما أبو داود، وقال: لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير.(1/604)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الشرط الثاني: أن يكون المسروق نصابا، وقيل يقطع في القليل والكثير؛ لظاهر الآية، ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله السارق، يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده» متفق عليه، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعدا» متفق عليه، ويحتمل أن الحبل يساوي ذلك، وكذلك بيضة السلاح، وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم» متفق عليه، قال ابن عبد البر: هذا أصح حديث يروى في هذا الباب، ولا يختلف أهل العلم في ذلك، وفي هذا الحديث دليل على أن العروض تقوم بالدراهم؛ لأن ثمن المجن قوم بها، ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات.
الشرط الثالث: كون المسروق مالا، فإن سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا كان أو كبيرا، وقيل: يقطع بسرقة الصغير؛ لعموم الآية، ولأنه غير مميز أشبه العمد، وذكره أبو الخطاب رواية عن الإمام أحمد، ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم.
الشرط الرابع: أن يخرجه من الحرز، أكثر أهل العلم على اشتراطه، ولا نعلم عن أحد خلافهم إلا الحسن والنخعي، وروي عن عائشة فيمن جمع المتاع في البيت: عليه القطع، وعن الحسن مثل قول سائر أهل العلم، قال ابن المنذر: وليس فيه خبر ثابت فهو كالإجماع منهم، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيها، ولنا إجماع أهل العلم السابق على قوله، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلا من مزينة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمار فقال: «من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب، وإذا ثبت هذا في الحرز وما عد حرزا في(1/605)
(44) فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
العرف، فإنه لما لم يثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى العرف؛ لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته، إذا ثبت هذا فإن حرز الذهب والفضة والجواهر في الصناديق تحت الأغلاق والأقفال الوثيقة، وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران، فإن كان لابسا ثوبا أو متوسدا له نائما عليه أو مستيقظا في أي موضع فهو محرز بدليل حديث رداء صفوان إذ سرق رداؤه وهو متوسده في المسجد فقطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سارقه، فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز، وحرز البقل وقدور الباقلاء بالشرائح من الخشب والقصب إذا كان في السوق حارس، وحرز الخشب والحطب بالحظائر وتعبية بعضه على بعضه ويقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه على ما جرت به العادة، وما في الفنادق مغلق عليه فهو محرز وإن لم يقيد.
1 -
مسألة 43: فإذا وجدت هذه الشروط وجب قطع يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وحسمت، ولا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى، روي ذلك عن أبي بكر وعمر ولا مخالف لهما في الصحابة، ولأن البطش بها أقوى فكان البداية بها أردع، ويستحب أن تحسم اليد والرجل بعد القطع، ومعناه أنه يغلى لها الزيت فإذا قطعت غمست فيه لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق سرق شملة فقال: اقطعوه واحسموه» ، وهو حديث في إسناده مقال، قاله ابن المنذر.
مسألة 44: (فإن عاد ثانيا قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت) ، وبذلك قالت الجماعة إلا عطاء، وحكي عنه أنه تقطع يده اليسرى؛ لقوله سبحانه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وحكي ذلك عن ربيعة وداود، ومذهب جماعة فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين على ما قلناه، وقد روي عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في السارق:(1/606)
(45) فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل
(46) ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين، أو اعتراف مرتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
«إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» ؛ ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى كذا هاهنا، وإنما قطعت رجله اليسرى؛ لأنه أرفق به، ولأنه يمكنه المشي على خشبة، ولو قطعت رجله اليمنى ويده اليمنى لم يمكنه ذلك.
مسألة 45: (فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل) وهو اختيار أبي بكر وروي عن علي والحسن والشعبي، وعن أحمد أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس وهو قول الشافعي؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في السارق: «إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» (رواه الدارقطني) ؛ ولأن اليسار تقطع قودا فتقطع في السرقة كاليمنى، ولأن في قطع اليدين تعطيل منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل، ألا ترى أنا عدلنا في الثانية إلى قطع الرجل لهذا المعنى، ولأن قطع اليدين بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يستنجي ولا أن يحترز من النجاسة ولا يزيلها عنه ولا يأكل ولا يبطش، ولذلك أوجب الله سبحانه في يديه دية جميعه، وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها.
مسألة 46: (ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين، أو اعتراف مرتين) ، وذلك أن القطع إنما يثبت بأحد أمرين: بينة أو اعتراف، فأما البينة فيشترط فيها أن يكونا رجلين مسلمين حرين عدلين، سواء كان السارق مسلما أو ذميا، وقد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنا، ويشترط أن يصفا السرقة والحرز والجنس والنصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان: نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز، وبصفاته فيقولان: من حرز فلان ابن فلان بحيث يتميز عن غيره، فإذا اجتمعت الشروط وجب الحد، الثاني: الاعتراف مرتين، لما روى أبو داود بإسناده عن أمية المخزومي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص قد اعترف فقال له:(1/607)
(47) ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله
(48) وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع، وإن كان بعده لم يسقط
(49) وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع، وإن كان قبله لم يجب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
" ما أخالك سرقت " قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع» ، ولو وجب القطع بأول مرة ما أخره، ويشترط أن يذكر في اعترافه شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه.
مسألة 47: (ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله) ؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن يكون ماله أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه، فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة.
مسألة 48: (وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع، وإن كان بعده لم يسقط) ، وذلك أنه إذا باعه العين أو وهبها له قبل رفعه إلى الحاكم سقط القطع عنه؛ لأن المطالبة شرط لما سبق، ولم يبق مطالب، وإن كان البيع أو الهبة بعد أن رفعه إلى الحاكم لم يسقط القطع، لما روى الزهري «عن صفوان عن أبيه أنه نام في المسجد فتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن يقطع، فقال صفوان: يا رسول الله لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فهلا قبل أن تأتي به» رواه ابن ماجه، والجوزجاني، وفي لفظ قال: " «فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها، قال: فهلا كان قبل أن تأتيني به» رواه الأثرم وأبو داود، فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لدرأ القطع، وبعده لا يسقط.
مسألة 49: (وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع، وإن كان قبله لم يجب) ؛ لقول الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، ولأنه نقصان حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو نقص باستعماله، وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده؛(1/608)
(50) وإذا قطع فعليه رد المسروق وإن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا
باب حد المحاربين وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ، فأما إن نقص قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب، وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله، وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع للشك في شرط الوجوب، ولأن الأصل عدمه.
مسألة 50: (وإذا قطع فعليه رد المسروق إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا) لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين على مالكها إن كانت باقية، فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا؛ لأنها عين يجب ضمانها بالرد إن كانت باقية، ويجب غرمها إن كانت تالفة كما لو لم يقطع، ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك، والحديث في ذلك يرويه سعد بن إبراهيم، وقال ابن المنذر: مجهول، ويحتمل أنه أراد بقوله: إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه، يعني ليس عليه غرامة أجرة القاطع.
[باب حد المحاربين]
(وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل) وإن عفا صاحب المال، (وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا) وخلي سبيله، روي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقيل يخير الإمام فيهم بين القتل والقطع والنفي، لقوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] و " أو " للتخيير، وقيل: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قطعه وقتله وبين أن يجمع له ذلك كله؛ لأنه وجد منه ما(1/609)
، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا (51) ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع السارق به
(52) ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يوجب القتل والقطع فأشبه ما لو زنى وسرق، وعنه إذا قتل وأخذ المال قطع ثم قتل ثم صلب، قال مالك: إذا قطع الطريق فإن رآه الإمام جلدا إذا رأى قتله، وإن كان جلدا لا رأى له قطعه، ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» (رواه أبو داود) ، وأما " أو " فقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثل قولنا، فإما أن يكون توقيفا أو لغة، وأيهما كان فهو حجة يدل على أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف ككفارة اليمين، وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ ككفارة القتل، يدل عليه أن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق، وقد سوي بينهم مع اختلاف جناياتهم، وبهذا نرد على مالك، فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي، وهو على خلاف الأصول التي ذكرناها، وقول أبي حنيفة لا يصح لأن القطع لو وجب بحق الله سبحانه لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال، ولأن الحدود لله سبحانه إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن، وذكر العاقولي في معلقه أن أبا داود روى عن ابن عباس قال: «وادع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بردة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل ثم صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف» وهو نص.
مسألة 51: (ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع به السارق) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار» ، ولم يفصل.
مسألة 52: (ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي من الأرض) ؛ لقوله سبحانه: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال ابن عباس: النفي في هذه الحالة يعني في حق من لم يقتل ولم يأخذ مالا ولكنه أخاف السبيل، ونفيه تشريده عن الأمصار والبلدان، فلا يترك(1/610)
نفي من الأرض
(53) ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها
فصل (54) ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحاً أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يكون أنه يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وإن قتل الدافع فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يأوي إلى بلد لظاهر الآية، فإن النفي الطرد والإبعاد، وأما الحبس فهو إمساك، وهما متنافيان.
مسألة 53: (ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها) لا نعلم في هذا خلافا، ودليله قول الله سبحانه: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فيسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه، ولأنه إذا تاب قبل القدرة عليه فالظاهر أنها توبة إخلاص، وأما التوبة بعد القدرة عليه فالظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه فلا تفيده، وأما حقوق الآدميين التي ذكرناها من القصاص وغيرها، فيؤخذ بها ولا تسقط بالتوبة كما لو أخذ شيئا أو أتلف شيئا وهو غير محارب ثم تاب، فإنه يلزم به إلا أن يعفو صاحبه.
مسألة 54: (ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحا أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه، وإن قتل الدافع فهو شهيد) ، وذلك أن من عرض لإنسان يريد نفسه أو ماله أو حريمه فإنه يجوز له دفعه عن نفسه وماله وحريمه بأسهل ما يندفع به، كما يجوز ذلك في أهل البغي، فإن كان يندفع بالقول لم يجز ضربه؛ لأن المقصود دفعه وليس المقصود ضربه، وإن كان يندفع بالضرب لم يجز قتله لأن المقصود دفعه لا قتله، فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبادره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله به أو يقطع طرفه، فإن قتله أو أتلف منه عضوا كان هدرا لأنه قتله لدفع شره فلم يضمن كالباغي، ولأنه اضطره إلى قتله فصار كأنه القاتل لنفسه، وإن قتل الدافع فهو شهيد، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو(1/611)
(55) ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان في ذلك
(56) ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بعصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه
(57) وإن عض إنسان يده فانتزعها منه فسقطت ثناياه فلا ضمان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
شهيد» رواه الخلال بإسناده، ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل يقتله الباغي، سواء كان القاصد ذكرا أو أنثى، كبيرا أو صغيرا، وهكذا الحكم فيمن حمل عليه السلاح أو دخل منزله بغير إذنه بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يخرجه بأسهل ما يمكن على ما سبق فيمن عرض له من يريد نفسه أو ماله.
مسألة 55: (ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان عليه) وذلك أنه من صالت عليه بهيمة فلم يقدر على دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعا، وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره، وقال أبو حنيفة: عليه ضمانها؛ لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره، ولنا أنه قتلها بالدفع الجائز فلم يضمنها كالعبد، ولأنه حيوان جاز إتلافه لجنايته فلم يضمنه كالآدمي، ويفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولهذا لو قتل المحرم الصيد للمجاعة ضمنه ولو قتله لعياله لم يضمنه.
مسألة 56: (ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بحصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه) وقال أبو حنيفة: يضمنه؛ لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه، فمجرد النظر أولى، ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» "، وعن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع في حجر من باب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحك رأسه بمدراة في يده، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو علمت أنك تنظر في لطمست - أو لطعنت - بها في عينك» متفق عليهما، وهذا أولى مما ذكروه.
مسألة 57: (فإن عض إنسان يده فانتزعها فسقطت ثناياه فلا ضمان فيها) لما روي(1/612)
باب قتال أهل البغي وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم بأسهل ما يندفعون به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عن عمران بن حصين «أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك» متفق عليه.
[باب قتال أهل البغي]
(وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه) ، وهم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء هم البغاة، (فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم) عنه، واجتمعت الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - على قتال البغاة، وقاتل أبو بكر مانعي الزكاة، وعلي قاتل أهل البصرة يوم الجمل وأهل الشام يوم صفين وأهل النهروان، وروى عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أعطى إماما صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم، وفي حديث أبي سعيد: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (رواه مسلم) ، وفي حديث عرفجة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون هنات وهنات - فرفع صوته - ألا من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان» (رواه مسلم) ، فمن اتفق المسلمون على إمامته، وبيعته إمامته، ثبتت ووجبت معونته لما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابة، وكذلك من ثبتت إمامته بعهد الذي قبله، فإن أبا بكر عهد إلى عمر فأقرت به الصحابة وأجمعوا على قبوله فصار إجماعا، ولو خرج رجل بسيفه على الناس حتى أقروا له بالطاعة وبايعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه لما في ذلك من(1/613)
(58) فإن آل إلى قتالهم أو تلف مالهم فلا شيء على الدافع
(59) وإن قتل الدافع كان شهيدا
(60) ولا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله: «من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان» ، وينبغي أن لا يقاتل البغاة حتى يراسلوا فيبعث إليهم من يكشف لهم الصواب، فإن لجوا قاتلهم؛ لأن الله سبحانه بدأ بالإصلاح فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وقد روي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، وأمر أصحابه أن لا يبدأوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة، ثم سمعهم يقولون: الله أكبر يا ثارات عثمان، فقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم، وروى عبد الله بن شداد أن عليا بعث إلى الحرورية عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله عز وجل ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف، فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، فإن أبوا وأمكن دفعهم بدون القتال بما هو أسهل لم يجز قتلهم؛ لأن المقصود دفعهم لا قتلهم.
مسألة 58: (فإن آل ما دفعوا به إلى قتلهم فلا شيء على الدافع) من إثم ولا ضمان؛ لأنه فعل ما أمر به قتل من أحل الله قتله، وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب من مال لا يضمن؛ لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى.
مسألة 59: (وإن قتل الدافع كان شهيدا) لأنه قتيل في حرب أمر بها وأثيب عليها فكان شهيدا كقتيل الكفار.
مسألة 60: (ولا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح) لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال يوم الجمل: لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح باب، ومن أغلق بابا ـ أو بابه ـ فهو آمن، ولا يتبع مدبر، وعنه أنه ودى قوما من بيت المال قتلوا مدبرين، وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا، وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد، ما حكم من بغى على أمتي؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم(1/614)
(61) ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية
(62) ومن قتل منم غسل وكفن وصلي عليه
(63) ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال
(64) وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم ولا على الدافع إليهم
(65) ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم» (رواه الحاكم) ؛ ولأن المقصود كفهم ودفعهم - وقد حصل - فلم يجز قتلهم كالصائل.
مسألة 61: (ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية) ، ولا نعلم بين أهل العلم في تحريم ذلك خلافا، ولما سبق من حديث أبي أمامة وحديث ابن مسعود، ولأن قتالهم إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم إلا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل، وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة.
مسألة 62: (ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» ؛ ولأنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيصلى عليهم ويغسلون كما لو لم يكن لهم فئة، فإن المخالف يسلم في هذه الصورة.
مسألة 63: (ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال) أما البغاة فلأنهم قتلوا وأتلفوا بتأويل فلا يلزمهم الضمان، وأما أهل العدل فلا يلزمهم ذلك أيضا؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم فعله فلم يلزمهم شيء للباغين؛ لأنهم متعدون بقتالهم.
مسألة 64: (وما أخذه أهل البغي حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم) يروى ذلك عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع، ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه، ولأن في ذلك مشقة شديدة فإنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فإذا ظهر الإمام على البلد فذكر أرباب الأموال أن البغاة أخذوا زكاة أموالهم قبل قولهم ولم يستحلفوا، نص عليه لما في إعادته من المشقة، وإنما لم يستحلفوا؛ لأن حق الله لا يستحلف عليه.
مسألة 65: (ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره) يعني إذا(1/615)
باب حكم المرتد ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وجب قتله؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه»
(66) ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل بالسيف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
نصبوا قاضيا يصلح للقضاء لاجتماع شروط القضاء فيه فحكمه حكم قاضي أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل ويرد منه ما يرد، وعند أبي حنيفة لا يجوز قضاؤه لأنهم مفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء، وعند أصحابنا لا يفسقون بخروجهم؛ لأن ذلك مما يسوغ الاجتهاد فيه فلا يفسق مجتهدهم كسائر الفروع، فإذا ثبت هذا فإنه إذا حكم بما لا يخالف نصا ولا إجماعا نفذ حكمه، وإن خالف ذلك نقض حكمه، وإن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته الإجماع.
[باب حكم المرتد]
(ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وجب قتله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «من بدل دينه فاقتلوه» (رواه البخاري) ، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين، روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر فكان إجماعا.
مسألة 66: (ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل بالسيف) ؛ لما روى مالك في موطئه عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه، قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني، ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم.
إذا ثبت وجوب الاستتابة فإن مدتها ثلاثة أيام لحديث عمر، وحكم المرأة في قتلها(1/616)
(67) ومن جحد الله أو جعل له شريكا أو صاحبة أو ولدا أو كذب الله تعالى أو سبه أو كذب رسوله أو سبه أو جحد نبيا أو جحد كتاب الله أو شيئا منه أو جحد أحد أركان الإسلام أو أحل محرما ظهر الإجماع على تحريمه فقد ارتد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
بالردة حكم الرجل؛ ولأن الارتداد قد يكون لشبهة ولا يزول في الحال فوجب أن ينظر في مدة يرتئي فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة، وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لحديث عمر وتكرر دعايته لعله ينعطف قلبه ويراجع دينه، وإذا ثبت هذا فلا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتال بالارتداد، روي ذلك عن أبي بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» ، وروى الدارقطني بإسناده «أن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بها أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت» ، ولأنها شخص بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل، وإذا ثبت هذا فإن الردة لا تصح إلا من عاقل، فأما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون فلا تصح ردتهما ولا حكم لكلامهما، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان قبل ذلك، ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، وأما القتل فإنه يكون بالسيف بالقياس على القتل في القصاص؛ لأنه أروح للمقتول.
مسألة 67: (ومن جحد الله) سبحانه بعد إقراره به فقد ارتد؛ لأنه لم يعبد إلها، (وجعل له شريكا) فهو مشرك وليس بموحد، (وكذلك من جعل له ندا، ومن جعل لله ولدا فقد كذب على الله تعالى، ومن سبه) فقد استخف به، (ومن كذب رسوله أو سبه) فقد رد على الله تعالى ولم يوجب طاعته (ومن جحد نبيا) فقد كفر لقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151] ، (وكذا من جحد كتاب الله أو شيئا منه فقد كفر) ؛ لأنه كذب الله تعالى ورد عليه، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، (ومن جحد أحد أركان الإسلام(1/617)
(68) إلا أن يكون ممن تخفى عليه الواجبات والمحرمات فيعرف ذلك، فإن لم يقبل كفر
(69) ويصح إسلام الصبي العاقل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أو أحل محرما ظهر الإجماع على تحريمه فقد كذب الله ورسوله) ؛ لأن أدلة ذلك قد ظهرت في الكتاب والسنة فلا تخفى على المسلمين ولا يجحدها إلا مكذب لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
مسألة 68: (إلا أن يكون ممن تخفى عليه الواجبات والمحرمات فيعرف ذلك، فإن لم يقبل ذلك كفر) ، والذي يخفى عليه ذلك من يكون حديث عهد بالإسلام، أو يكون قد نشأ ببلاد بعيدة عن المسلمين فهذا يعرف، فإن رجع عن ذلك وإلا قتل، وأما من كان ناشئا بين المسلمين مسلما فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وذلك لأن إقرار هذه الأشياء ظاهر في الكتاب والسنة، فالمخل بها مكذب لله ولرسوله فيكفر بذلك كما قلنا في جاحد أركان الإسلام.
مسألة 69: (ويصح إسلام الصبي العاقل) وهو إذا بلغ عشر سنين وعقل الإسلام صح إسلامه؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم صبيا فصح إسلامه وعد ذلك من مناقبه وسبقه، ويقال أول من أسلم من الصبيان علي، ومن الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن العبيد بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفي الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» (رواه أبو داود) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (رواه البخاري) ، وقال: " «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» (رواه أبو داود) ، وهذا يدخل في عموم الصبي، ولأن الإسلام عبادة محضة فصحت من الصبي كالصلاة والحج، وإن كان دون عشر سنين نظرت فإن كان لا يعقل الإسلام لم يصح منه؛ لأنه لا يصدر عن عقل فيكون كلامه مثل كلام المجنون، وإن كان يعقل الإسلام فينبغي أن يصح إسلامه، وكلام الخرقي يقتضي التفريق بين ابن عشر وبين من له دون العشر،(1/618)
(70) وإن ارتد لم يقتل حتى يستتاب ثلاثا بعد بلوغه
(71) ومن ثبتت ردته فأسلم قبل منه، ويكفي في إسلامه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إلا أن يكون كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحوه، أو يعتقد أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى العرب خاصة فلا يقبل منه حتى يقر بما جحده
(72) وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب فسبيا لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما، ويجوز استرقاق سائر أولادهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وعموم ما ذكرنا من الآثار يقتضي عدم التفريق، وقد حكى ابن المنذر عن أحمد: إذا كان ابن سبع فإسلامه إسلام، قال الجوزجاني: حجة أحمد في السبع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروهم بالصلاة لسبع» (رواه أبو داود) ، وعن عروة أن عليا والزبير أسلما وهما ابنا ثمان سنين، وبايع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين.
مسألة 70: (وإن ارتد الصبي لم يقتل حتى يستتاب ثلاثا بعد بلوغه) ، وذلك لأن ردة الصبي صحيحة كما إن إسلامه صحيح، وإنما لم يقتل قبل البلوغ؛ لأن الغلام لا تجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة والقصاص، فإذا بلغ فثبوته على ردته بمنزلة ابتدائها، فعند ذلك يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل كالذي ارتد وهو بالغ.
مسألة 71: ومن ثبتت ردته ثم أسلم قبل منه) كما يقبل من الكافر الأصلي (إلا أن يكون كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحوه أو يعتقد أن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى العرب خاصة فلا يقبل منه حتى يقر بما جحده) فإن كان كفره بقوله إن محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث إلى العرب خاصة احتاج - مع الشهادتين - إلى أن يقر أنه مبعوث إلى الخلق أجمعين، ويتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف دين الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إذا استباح محرما.
مسألة 72: (وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب فسبيا لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما، ويجوز استرقاق سائر أولادهما) ، وذلك لأن الرق لا يجري على المرتد بحال لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» ؛ ولأنه لا يجوز إقراره على(1/619)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل فإنهم سلموه ولم يثبت أن الذين سباهم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانوا أسلموا، ولا يثبت لهم حكم الردة، فأما أولاد المرتدين فإن كانوا ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم بإسلامهم تبعا لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة؛ لأن الإسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر، ولا يجوز استرقاقهم صغارا لأنهم مسلمون، ولا كبارا لأنهم إذا كبروا فرضوا الإسلام فهم مسلمون، وإن رضوا الكفر فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق، فأما من حدث من أولادهم بعد الردة فهو محكوم بكفره؛ لأنه ولد بين أبوين كافرين، ويجوز استرقاقهم في ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد؛ لأنهم لم يثبت لهم حكم الإسلام فجاز استرقاقهم كولد الحربيين.(1/620)
كتاب الجهاد وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين
(1) ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده
(2) ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب الجهاد]
(وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين) ، ومعنى فرض الكفاية الذي إذا لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، وإنما يسقط بفعل البعض، وهو في الابتداء كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الأعيان لا يسقط عن واحد بفعل غيره، وفرض الكفاية بخلافه، والجهاد فرض كفاية في قول عامتهم؛ لقول الله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ، وهذا يدل على أن القاعدين غير مأثومين مع جهاد غيرهم.
مسألة 1: (ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده) ؛ لقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] .
مسألة 2: (ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع) ، وذلك أنه يشترط لوجوب الجهاد شروط:
أحدها: أن يكون ذكرا، فأما النساء فلا يجب عليهن، لما روت عائشة قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال: «جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» (رواه ابن ماجه) ، ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها.
والثاني: الحرية، فلا يجب على العبد لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد» ؛ ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج.(1/621)
(3) والجهاد أفضل التطوع، لقول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله " قال: ثم أي؟ قال: " الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور» ، وعن أبي سعيد قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»
(4) وغزو البحر أفضل من غزو البر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الثالث: البلوغ، فلا يجب على صبي؛ لأن الصبي ضعيف البنية، وقد روى ابن عمر قال: «عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة» متفق عليه.
الرابع: العقل، فلا يجب على مجنون؛ لأنه لا يتأتى منه الجهاد، فهو كالطفل في ذلك.
الخامس: المستطيع، وهو أن يكون صحيحا في بدنه قادرا على النفقة، فأما الأعمى والأعرج والمريض فلا يجب عليهم جهاد؛ لأن العمى عذر لا يخفى، وأما العرج فإن كان كثيرا منع وإن كان يسيرا لم يمنع، والمرض كذلك، وذلك لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] يعني في ترك الجهاد، وأما النفقة فتشترط في الاستطاعة؛ لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ؛ ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فتعتبر القدرة عليها، وقال الله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، وهذا فيما إذا كانت المسافة تحتاج إلى ركوب فلا بد من الراحلة.
مسألة 3: (والجهاد أفضل التطوع، لقول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور "، وعن أبي سعيد قال: " سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الناس أفضل؟ قال: رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) » (رواه مسلم) .
مسألة 4: (وغزو البحر أفضل من غزو البر) لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت أم حرام: ما يضحكك يا رسول الله؟(1/622)
(5) ويغزا مع كل بر وفاجر
(6) ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر، ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» متفق عليه، وروى أبو داود عن أم حرام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» ، وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله تعالى وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين» ، ولأن الغازي في البحر أعظم خطرا ومشقة، فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق، ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره.
مسألة 5: (ويغزا مع كل بر وفاجر) يعني مع كل إمام، لما روى أبو داود بإسناده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» ؛ ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وإظهار كلمة الكفر وفيه أعظم الفساد.
مسألة 6: (ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو) لقول الله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ؛ ولأن الأقرب أكثر ضررا، وفي مقاتلته دفع ضرره عن المقاتل وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه.
مسألة 7: (وتمام الرباط أربعون يوما) ، والرباط الإقامة بالثغر مقويا المسلمين على الكفار، والثغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخافونه، وروى أبو داود بإسناده عن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من(1/623)
(7) وتمام الرباط أربعون يوما
وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه» وقال: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» ومن مات مرابطًا أجرى له أجره إلى يوم القيامة ووقي الفتان (8) ولا يجاهد من أحد أبويه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ألف يوم فيما سواه» (رواه الترمذي) من المنازل، وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتان القبر» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وعن سلمان قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان» أخرجه مسلم، وإذا ثبت هذا فإن تمام الرباط أربعون يوما، كذلك قال ابن عمر وأبو هريرة، وروى أبو الشيخ بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوما» "، وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة قال: رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط، وروى نافع عن ابن عمر أنه قدم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الرباط فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوما، قال: عزمت عليك إلا رجعت حتى تتمها أربعين يوما، ولو رابط أكثر من ذلك أو أقل فله ثواب ما عمل.
مسألة 8: (ولا يجاهد من أحد أبويه حي مسلم إلا بإذنه) لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أجاهد؟ فقال: ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد» وروى الترمذي عن ابن عباس مثله وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية «جئت لأبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان،(1/624)
حي مسلم إلا بإذنه
(9) إلا أن يتعين عليه
(10) ولا يدخل من النساء دار الحرب إلا امرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما» وعن أبي سعيد «أن رجلا هاجر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك باليمن أحد؟ قال: نعم أبواي، قال: أذنا لك؟ قال: لا، قال: فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» رواهما أبو داود، ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، فإن كان أبواه غير مسلمين فلا إذن لهما؛ لأن كثيرا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يجاهدون وآباؤهم مشركون لا يستأذنونهم، منهم أبو بكر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان يوم بدر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه رئيس المشركين قتل ببدر، وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد، فأنزل الله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة: 22] الآية.
مسألة 9: (إلا أن يتعين عليه) الجهاد فلا إذن لهما؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله، وكذلك كل ما وجب من الحج والصلاة في الجماعة والسفر للعلم الواجب، ولأنه عبادة تعينت عليه فلا يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة.
مسألة 10: (ولا يدخل من النساء أرض الحرب إلا امرأة طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى) ويكره دخول النساء الشواب أرض العدو؛ لأنهن لسن من أهل القتال لاستيلاء الخور والجبن عليهن، ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحل منهن ما حرم الله، فأما المرأة الطاعنة في السن إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء وعلاج الجرحى فلا بأس به، فقد قال أنس: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقالت الربيع: " «كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسقي الماء ومعالجة الجرحى» (رواه البخاري) ، ويجوز للأمير أن يستصحب معه المرأة الواحدة عنده للحاجة، فقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج معه بالمرأة الواحدة من نسائه ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا من الضرر.(1/625)
طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى
(11) ولا يستعان بمشرك (12) إلا عند الحاجة إليه
(13) ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 11: (ولا يستعان بمشرك إلا عند الحاجة إليه) لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنا لا نستعين بمشرك» (رواه أبو داود) ؛ ولأنه لا يؤمن أن يدخل على المسلمين ضررا فأشبه المرجف والمخذل، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن حبيب قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: وأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: إنا لا نستعين بالمشرك على المشركين، قال: فأسلمنا وشهدنا معه» (رواه أحمد) ، وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بدر فأدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة فسر المسلمون به، فقال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع، فلن أستعين بمشرك على مشرك» رواه الجوزجاني، وفيه قالت: «ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق» (رواه مسلم) .
مسألة 12: (إلا عند الحاجة إليه) وعن أحمد ما يدل على ذلك، فقد خرج صفوان بن أمية مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين وهو مشرك وأسهم له، وروى الزهري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه وأسهم لهم» رواه سعيد في سننه، هذا إذا غزا مع الإمام بإذنه وهي إحدى الروايتين، وعنه لا يسهم له ولكن يرضخ له لأنه ليس من أهل الجهاد أشبه العبد.
مسألة 13: (ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير) لأنه أعرف بمصالح الحرب والطرقات ومكامن العدو وكثرتهم وقلتهم، فينبغي أنه يرجع إلى رأيه، (إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، أو تعرض فرصة يخافون فوتها) فمتى جاء العدو بلدا وجب على(1/626)
تعرض فرصة يخافون فوتها
(14) وإذا دخلوا دار الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير
(15) ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز له أن يختص به، إلا الطعام والعلف فله أن يأخذ منه ما يحتاج إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أهله النفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف عنهم إلا من يحتاج إلى إقامته لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج لقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إذا استنفرتم فانفروا» (رواه ابن ماجه) ، وقد ذم الله سبحانه الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب، فقال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] ، ولا يخرجون إلا بإذن الأمير إذا أمكن ذلك، وكذلك إن عرض لهم فرصة يخافون فوتها جاز لهم انتهازها ويستأذنونه إذا أمكن.
مسألة 14: (وإذا دخلوا أرض الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير) ؛ لقول الله سبحانه: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، ولأنه أعرف بحال الناس والمواضع ومكامن العدو وحاله وقربه وبعده، فإذا استؤذن فالظاهر أنه لا يأذن لهم في الخروج إلا إذا علم خلو المكان من المخافة، وإن خرجوا من غير إذنه لم يأمنوا أن يكون في الموضع الذي يذهبون إليه عدو فيظفر بهم، وربما ارتحل الأمير بالناس وبقي الخارج فيضيع.
مسألة 15: (ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز أن يختص به) ، والمسلمون شركاؤه فيه؛ لأنه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كغير المباح (إلا الطعام والعلف فله إن يأخذ منه ما يحتاج إليه) لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «أصبنا طعاما يوم خيبرفكان الرجل يجيء فيأخذ مقدار ما يكفيه ثم ينصرف» رواه أبو داود، وروى سعيد أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر: إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك، فكتب إليه: دع الناس يعلفون ويأكلون، ومن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين، ولأن الحاجة تدعو(1/627)
(16) فإن باعه رد ثمنه في المغنم
(17) وإن فضل معه منه بعد رجوعه إلى بلده لزمه رده، إلا أن يكون يسيرا فله أكله وهديته
(18) ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق، وقتالهم قبل دعائهم، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم»
(19) ولا يقتل صبي ولا مجنون ولا امرأة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إلى هذا، وفي المنع منه ضرر بالجيش وبدوابهم، ويعسر عليهم نقل العلوفة والطعام من دار الإسلام، ولا يمكن قسمة ما يأخذه الواحد منهم، ولو قسم لم يحصل الواحد منهم على شيء ينتفع به فأبيح لهم ذلك فمن أخذ ما يقتات به أو يعلف دوابه فهو أحق به.
مسألة 16: (فإن باعه رد ثمنه في المغنم) كغير الطعام.
مسألة 17: (فإن فضل منه ما لا حاجة به إليه رده) على المسلمين؛ لأنه إنما أبيح له منه ما يحتاج إليه لا غير (وأما الشيء اليسير فيجوز أكله وهديته) لأن ما كان مباحا في دار الحرب فإذا أخرجه كان أحق به كالذي لا قيمة له في دار الحرب، وعنه يجب رده لأنه أبيح في دار الحرب للحاجة وقد زالت الحاجة فتزول الإباحة، ولهذا لا يجوز له ابتداء الأخذ في دار الإسلام.
مسألة 18: (ويجوز تبييت الكفار) وهو كبسهم ليلا (ورميهم بالمنجنيق وقتالهم قبل دعائهم؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم» ، وقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف، وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الإسكندرية.
مسألة 19: (ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا) وروى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والصبيان» متفق عليه، وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة» رواه أبو داود، وروى سعيد أن أبا بكر أوصى(1/628)
ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا
(20) ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن، ولا يختار إلا الأصلح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتلوا صبيا ولا امرأة ولا هرما، وأن عمر أوصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما، ولا يقتل المجنون بالقياس على الطفل، ولأنه لا نكاية له أشبه الصبي، وفي حديث أبي بكر أنه قال: وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم، ولأنه لا نكاية لهم فلم يجز قتلهم كالنساء، والزمن والأعمى يقاس على الشيخ بما بيناه من عدم النكاية في الحرب إلا أن يكون لهم رأي في الحرب فيقتلون لأن ذلك نكاية كالقتال.
مسألة 20: (ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن، ولا يختار إلا الأصلح للمسلمين) أما جواز تخير القتل فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال قريظة وهم ما بين الستمائة والسبعمائة، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبرا، ولأن العدو قد يكون منهم من له قوة ونكاية في المسلمين فيكون قتله أصلح للمسلمين، وأما جواز المن والفداء فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، وأيضا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد من على ثمامة بن أثال وعلى أبي غيرة الشاعر وأبي العاص بن الربيع، وقال في أسارى بدر: " «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له» (رواه البخاري) ، ودليل الفداء «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا ففادى كل رجل بأربع مائة، وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين» ، وهذه قصص اشتهرت وعلمت، وقد فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل واحدة منها مرة أو مرارا وهو دليل الجواز، ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون هي الأصلح، وفي بعض الأسارى فإن منهم من تكون له قوة ونكاية فقتله أصلح، ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في الإسلام فإطلاقه ربما كان سببا لإسلامه فالمن عليه أصلح، ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح، والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض إليه ذلك، ويجوز استرقاق أهل الكتاب والمجوس وأما غيرهم فلا، وعن أحمد يجوز استرقاقهم لأنه كافر فجاز استرقاقه كالكتابي.
إذا ثبت هذا فإن التخيير المشروع تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة، فإذا رأى أن(1/629)
للمسلمين
(21) وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة
(22) ولا يفرق في السبي بين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مصلحة المسلمين في قتله بأن يكون ذا شوكة وبأس يخاف الضرر بتركه لم يجز إلا قتله، وما رأى فيه مصلحة من سائر الخصال تحتم ولم يجز له غيره، ومتى تردد في هذه الأمور فالقتل أولى، قال مجاهد في أميرين أحدهما يقتل الأسارى: الذي يقتل أفضل، قال إسحاق: الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع فيه الكثير.
مسألة 21: (وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة) لا نعلم في هذا خلافا «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم فداء أسرى بدر بين الغانمين» ، ولأنه مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح، وإذا استرقهم كانوا غنيمة للمسلمين؛ لأنهم الذين أسروهم وقهروهم، ومن كان بدله غنيمة كان أصله غنيمة قياسا للأصل على البدل.
مسألة 22: (ولا يفرق في السبي بين ذوي رحم محرم إلا أن يكونوا بالغين) أجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز، وروى أبو أيوب قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، ولأن في ذلك إضرارا بها وتحسرا عليه، وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم التفريق وإن كان الولد كبيرا وبالغا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الثانية نقلها مهنى يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ، لما روى عبادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يفرق بين الأم وولدها، فقيل: إلى متى؟ قال: حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية» "، وعن سلمة بن الأكوع «أنه أتى أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة وبنتها فنفله أبو بكر ابنتها ثم استوهبها منه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوهبها إياه» (رواه أبو داود) ، ولما أهدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مارية وأختها سيرين أمسك مارية لنفسه ووهب سيرين لحسان بن ثابت، ولأن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بينهما فالعبيد أولى، وأما الأب فلا يجوز التفريق بينه وبين ولده؛ لأنه أحد الأبوين أشبه الأم، والجد في ذلك كالأب، والجدة كالأم؛ لأن الجد أب والجدة أم يقومان مقام الأبوين في استحقاق(1/630)
ذوي رحم محرم إلا أن يكونوا بالغين
(23) ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق
(24) ومن أعطى شيئا يستعين به في غزوة فإذا رجع فله ما فضل، إلا أن يكون لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق، يستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم؛ لأن الجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض، ولا يفرق بين الأخوين ولا الأختين لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «وهب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين فبعت أحدهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رده رده» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وروى عبد الرحمن ابن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع، ولأنه ذو رحم محرم من النسب فلم يجز التفريق بينهما كالوالد والولد.
مسألة 23: (ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق) ؛ لأنه إذا اشتراهم على أنهم ذوو رحم ثم بان أنهم ليس بينهم رحم فإن قيمتهم تزيد بذلك، فإنه إذا اشترى امرأتين على أن إحداهما بنت الأخرى لم يتمكن من وطئهما جميعا، ومتى وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد ولا يتمكن من بيعها، فإذا بانت أجنبية حل وطئها وبيعها وهبتها، فتزيد قيمتها بذلك فيجب عليه رد الفضل كما لو أخذ دراهم بحقه فبانت أكثر عددا مما حسبت عليه.
مسألة 24: (ومن أعطى شيئا يستعين به في غزاته فإذا رجع فله ما فضل، إلا أن يكون لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو) ، ولأنه أعطى على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الإجارة فكان له الفاضل، كما لو أوصى أن يحج عنه حجة بألف فإن الفضل له؛ وإن أعطاه شيئا ينفقه في الغزو أو في سبيل الله ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى؛ لأنه أعطاه الجميع في سبيل الله مطلقا فلزمه امتثال ما أمره به كما لو أوصى بألف يحج بها ففضل منها فضلة ردت في الحج.(1/631)
(25) وإن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع، إلا أن يجعل حبيسا
(26) وما أخذ من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة، وإن قسم قبل علمه فله أخذه بثمنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 25: (وإن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع، إلا أن يجعل حبيسا) قوله: " حمل على فرس " يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك النفقة " المدفوعة إليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبه أو حبيسا فيبقى حبيسا بحاله، قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» متفق عليه، وهذا يدل على أنه ملكه ولولا ذلك ما باعه، ويدل على أنه ملكه بعد الغزو؛ لأنه أقامه للبيع بالمدينة، ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال، فدل على أنه أقامه للبيع بعد أن غزا عليه، وذكر أحمد مثل ذلك وسئل: متى يطيب له الفرس؟ قال: إذا غزا عليه، فقيل له: فإن العدو جاوزنا فخرج على هذه الفرس في الطلب إلى خمسة فراسخ ثم رجع؟ قال: لا، حتى يكون غزوا، وهذا قول أكثرهم.
مسألة 26: (وما أخذ) من أهل الحرب (من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة، وإن قسم بعد علمه فله أخذه بثمنه الذي حسب به على آخذه) أما إذا علم صاحبه قبل القسمة رد إلى صاحبه بغير شيء في قول عامتهم، لما «روى ابن عمر أن غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ابن عمر ولم يقسم، وعنه قال: ذهب له فرس فأخذها العدو فظهر عليهم المسلمون فرد إليه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواهما أبو داود.(1/632)
الذي حسب به على آخذه
(27) وإن أخذه أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه
(28) وإن أخذه بغير شيء رده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وروى الأثرم عن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم، وروى هذه الأحاديث كلها سعيد بن منصور.
وأما ما أدركه المسلمون بعد أن قسم ففيه روايتان:
إحداهما: أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على من هو في يده، وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن، لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا كان المشركون أصابوه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة» "، ولأنه إنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحق الغانم يتخير بالثمن ويرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع.
والرواية الثانية: عن أحمد إذا قسم فلا حق له فيه، وهو قول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أحمد: أما قول من قال: هو أحق به بالقيمة فهو قول ضيف عن مجاهد، ودليل هذه الرواية قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وهي أقوال انتشرت كتب بها عمر إلى أبي عبيدة بالشام وإلى السائب بن الأقرع حين فتح ماه وجلولاء وانتشر ذلك ولم ينكر فصار إجماعا ولم يقل أحد بخلافه.
مسألة 27: (وإن أخذه منهم أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه) ووجه ذلك قول عمر، ولأنه حصل في يده بثمن فلم يجز أخذه منه بغير شيء كما لو اشتراه من المغنم.
مسألة 28: (وإن أخذه بغير شيء رده) لما «روي أن قوما أغاروا على سرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليالي، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذها، فقلت: يا رسول الله إني(1/633)
(29) ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به
باب الأنفال وهي الزيادة على السهم المستحق، وهي ثلاث أضرب:
أحدها: سلب المقتول غير مخموس لقاتله، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
نذرت أن أنحرها، فقال: " بئس ما جزيتها، لا نذر في معصية» ، وفي رواية «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» (رواه مسلم) .
مسألة 29: (ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به) لما روى سعيد بن منصور حدثنا عثمان بن مطر حدثنا ابن جرير عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل له إليه، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رءوس أموالهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى، فحكم للتجار برءوس أموالهم، ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه ما امتنع من أدائه.
[باب الأنفال]
(وهي الزيادة على السهم المستحق، وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: سلب المقتول غير مخموس لقاتله) ، وذلك أن القاتل يستحق سلب المقتول في الجملة، لا نعلم فيه خلافا (والأصل فيه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل كافرا فله سلبه» رواه أنس وسمرة بن جندب، وروى أبو قتادة قال: «خرجنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حنين فلما التقينا رأيت رجلا(1/634)
سلبه»
(30) وهو ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت، ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال: فقمت إليه فقلت: من يشهد لي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله فأرضه منه، فقال أبو بكر الصديق: لا ها الله، إذا تعمد إلى أسد من أسد الله فيقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صدق فأسلمه إليه، فأعطانيه» متفق عليه، وروى أنس: " أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل كافرا فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم» رواه أبو داود.
مسألة 30: (والسلب ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها) وذلك لأن المفهوم من السلب اللباس، وكذلك السلاح، ولأنه يستعين به في حربه وقتاله فهو أولى بالأخذ من اللباس، وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه ولذلك استحق بها زيادة السهمان، فأما الدراهم فليست من السلب؛ لأنها ليست من الملبوس ولا مما يستعان بها في الحرب، وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن الدابة أيضا ليست من السلب وهو اختيار الخلال وصاحبه أبي بكر، قال الخلال: إنما السلب ما كان على بدنه، والدابة ليست كذلك، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته، ودليل الأولى ما روى عوف ابن مالك قال: «خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن، فلقينا جموع الروم فيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر، فعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى» رواه الأثرم، فإذا ثبت هذا فالدابة وما عليها من سرجها ولجامها(1/635)
(31) وإنما يستحقه من قتله حال قيام الحرب، غير مثخن ولا ممنوع من القتال.
الثاني: أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط، كما «أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل» ، ونفله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة جاءه بأهل تسعة أبيات امرأة منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وجميع آلتها من السلب إذا كان راكبا عليها، وإذا ثبت هذا وأنه القاتل فهو غير مخموس لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب» رواه أبو داود، وعموم الأخبار التي ذكرناها وحديث عمر: «لا يخمس السلب» حجة في ذلك.
مسألة 31: (وإنما يستحق ذلك من قتله حال قيام الحرب غير مثخن ولا ممنوع من القتال) ، وقال أصحابنا: يشترط لذلك أربعة شروط: الأول: أن يقتله حال قيام الحرب، فإن قتله بعد انقضائها فلا سلب له فإن العلماء أجمعوا على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا فإنه لا يستحق سلبه، الشرط الثاني: أن لا يكون مثخنا فإن كان مثخنا بالجراح لم يستحقه، بدليل حديث ابن مسعود أنه وقف على أبي جهل وأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح لأنه أثبته، الشرط الثالث: أن يكون مقبلا على القتال، فإن كان منهزما لم يستحق سلبه؛ لأنه كفي شره بالهزيمة، إلا أن يكون متحيزا إلى فئة، الشرط الرابع: أن يغرر بنفسه في قتله مثل أن يبارزه أو يحمل عليه، فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فلا سلب له، وقالت طائفة من أصحاب الحديث: السلب للقاتل على كل حال لعموم الأخبار.
الضرب (الثاني أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط كما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل، ونفله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليلة جاءه بتسعة أهل أبيات امرأة منهم) قال سلمة: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتبعتهم. . . فذكر تمام الحديث، وفي آخره: فأعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» ، رواه أبو داود، وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر» . . . وذكر الحديث.(1/636)
الثالث: ما يستحق بالشرط، وهو نوعان: أحدهما: أن يقول الأمير: من دخل النقب أو صعد السور فله كذا، ومن جاء بعشر من البقر أو غيرها فله واحدة منها، فيستحق ما جعل له، الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجعة أخرى ويجعل لها الثلث، فما جاءت له أخرج خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لها، وقسم الباقي في الجيش والسرية معاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
(الثالث: ما يستحق بالشرط، وهو نوعان: أحدهما: أن يقول الأمير: من دخل النقب أو صعد السور فله كذا، ومن جاء بعشر من البقر فله واحدة منها، فيستحق ما جعل له) في قول أكثرهم ونص عليه أحمد في مواضع، ولم يجز هذا مالك وأصحابه، وقالوا: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة، ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: «شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة» "، وفي لفظ: " «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس، إذا قفل» رواهما أبو داود، وروى الترمذي بإسناده عن عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث» ، وقال: حديث حسن غريب، وقال ابن المنذر: بلغنا عن عمر بن الخطاب أن جرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام قال له عمر: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء، ورواه الأثرم بإسناده.
وإذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنهم إنما استحقوا هذا النفل بالشرط السابق، فإن لم يكن شرطه لهم فلا نفل له، أليس قد نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدأة الربع وفي الرجوع الثلث؟ قال: نعم، ذلك إذا قفل، وتقدم القول فيه، ولأن في ذلك مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب، وما ذكره يبطل هذه(1/637)
فصل: ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
المسائل، (الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجوع أخرى ويجعل لها الثلث، فما جاءت به أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي في الجيش والسريه معا) ، ودليل ذلك ما سبق من حديث حبيب بن مسلمة وعبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
[فصل فيمن يرضخ له من الغنيمة]
(فصل: ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على قدر غنائمهم) ، ومعناه أن يعطوا من الغنيمة دون السهم، ولا تقدير لذلك بل يرجع إلى اجتهاد الإمام فيعطي كلا على قدر غنائه ونفعه للمسلمين، وهو قول أكثرهم لما روى ابن عباس أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلا يضرب لهن» رواه مسلم، وفي رواية سعيد بن منصور أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من المغنم شيء؟ قال: يحذيان، وليس لهما شيء، وفي لفظ ليس لهما سهم، وقد يرضخ لهما، وعن عمير مولى أبي اللحم قال: " شهدت خيبر مع ساداتي فكلموا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع " رواه أبو داود واحتج به أحمد، ولأنهما ليسا من أهل القتال فلا يسهم لهما كالصبي، وأما الصبيان فيرضخ لهم ولا يسهم لهم، وقيل: ليس لهم شيء، وقال مالك: يسهم له إذا قاتل وأطاق القتال، وقال الأوزاعي: أسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر، وأسهم. . . المسلمين كل مولود ولد في أرض الحرب، ولنا ما روى سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة، ولأنهم ليسوا من أهل القتال فلم يسهم لهم كالعبيد والنساء، ولم يثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم لصبي، وما ذكروه فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما، فأما الكفار فاختلفت الرواية عن أحمد فيهم إذا غزوا معنا، فروي عنه لا يسهم لهم؛ لأنهم من غير أهل الجهاد فأشبهوا العبيد، ولكن يرضخ لهم كسائر من ليس له سهم، وعنه يسهم لهم إذا(1/638)
قدر غنائمهم
(32) ولا يبلغ بالراجل منه سهم راجل، ولا بالفارس سهم فارس
(33) وإن غزا العبد على فرس لسيده فسهم الفرس لسيده ويرضخ للعبد
باب الغنائم وقسمتها
وهي نوعان: أحدهما: الأرض فيخير الإمام بين قسمتها ووقفها للمسلمين ويضرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
غزوا مع الإمام بإذنه كما يسهم للمسلم، لما روى الزهري: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم» رواه سعيد في سننه، «وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وهو على شركه، فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة قلوبهم» ، ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق، وبهذا فارق الرقيق فإن نقصه في دنياه وأحكامه.
مسألة 32: (ولا يبلغ بالراجل منه سهم راجل، ولا بالفارس سهم فارس) لما سبق من الأحاديث والآثار.
مسألة 33: (وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم لسيده سهم الفرس ورضخ للعبد) أما الرضخ للعبد فلما سبق، وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها، فإن كان معه فرسان أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال الشافعي: لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له، أشبه ما إذا كان تحت مخذل، ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه، إذا ثبت هذا فإن سهم الفرس ورضخ العبد جميعا لسيده لأنه مالكه ومالك الفرس وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه.
[باب الغنائم وقسمتها]
(وهي نوعان: أحدهما: الأرض فيخير الإمام بين قسمتها على الغانمين وبين وقفها على المسلمين، ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها) وهي الأرض التي فتحت عنوة، وهي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، فحكمها أن الإمام مخير بين قسمتها بين الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين؛ لأن كلا الأمرين قد ثبت(1/639)
عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها
(34) وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه، الثاني: سائر الأموال، فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال ويستعد له من التجار وغيرهم، سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا، ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا ما بعده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
فيه حجة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه، ووقف مكة ولم يقسمها» ، ووقف عمر أرض الشام وأرض العراق ومصر ووافق على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه بذلك، وعنه تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة على ذلك، وعنه أن قسمتها متعينة ولا يجوز وقفها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره، وهو قول مالك لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، يفهم منها أن أربعة أخماسها للغانمين، والرواية الأولى أولى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين جميعا في خيبر، ولأن عمر قال: لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، فقد وقفها مع علمه بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل على أن فعله لذلك لم يكن متعينا، كيف والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد وقف نصف خيبر، ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها، وإذا ثبت هذا فإنه إن وقفها فعليها الخراج يضرب عليها أجرة لها في كل عام على من هي في يده، وإن قسمها بين الغانمين فلا خراج فيها، وليس له أن يفعل شيئا من ذلك إلا إذا رآه مصلحة للمسلمين كما كان مخيرا في الأسارى لم يكن تخيير شهوة، وإنما هو تخيير لما فيه المصلحة للمسلمين.
مسألة 34: (وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه) ، وكذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وقف وقسمة فليس لأحد نقضه ولا تغييره، وإنما الروايات فيما يستأنف فتحه، وما قسم بين الغانمين فلا خراج عليه، وما وقفه الأئمة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب عليه خراج لا يجوز تغييره ولا بيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه.
النوع (الثاني) من الغنائم: (سائر الأموال، فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال ويستعد له من التجار وغيرهم، سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا، ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا بعده) قال أحمد: إني أرى أن كل من شهد على أي حال كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان(1/640)
(35) ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره
(36) ولا لمن جاء بعدما تنقضي الحرب من مدد أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
راجلاً فراجل، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة، وقال أبو حنيفة: الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل فارساً فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل القتال، وإن دخل راجلاً فله سهم راجل، وإن استفاد فرساً فقاتل عليه. ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فيعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي، والأصل في هذا أن حاله عند استحقاق السهم حال مقتضى الحرب بدليل قول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولأنها الحالة التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك، بخلاف ما قبل ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها ولا يدري هل يظفر بهم أو لا، ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئاً، ولو وجد مدد في تلك الحال أو أسير فهرب أو كافر فأسلم فقاتل استحق السهم، فدل على أن الاعتبار بحالة الإحراز فوجب اعتباره دون غيره.
مسألة 35: (ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره) وذلك أنه إذا مرض في دار الحرب فلا يخلو إما أن يكون مرضاً يسيراً لا يخرجه عن كونه من أهل القتال كالصداع والحمى لم يسقط سهمه، وإن خرج عن كونه من أهل القتال كالزمن والأشل سقط سهمه لأنه ليس من أهل القتال والجهاد أشبه العبد.
مسألة 36: (ولا لمن جاء بعدما تنقضي الحرب من مدد أو غيره) لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة، فإذا جاء بعدها فلم يشهدها فلا سهم له. ولأنه قد جاء وقد ملكت وصارت للغانمين الذين حضروها فلم يبق له فيها نصيب، وروى أبو هريرة: «أن أبان بن سعيد وأصحابه قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد أن فتحها، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس يا أبان، ولم يقسم له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -" رواه أبو داود، وروى سعيد عن طارق بن شهاب: إن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة، فكتب في ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب عمر: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة،(1/641)
(37) ومن بعث الأمير لمصلحة الجيش أسهم له، ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم
(38) ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها والأجعال لأصحابها، ثم يخمس باقيها فيقسم خمسها خمسة أسهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وروي نحو ذلك عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غزوة أرمينية، ولأنه مدد لحق بعد أن تقضى الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها إلى دار الإسلام.
مسألة 37: (ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش أسهم له) وهذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس يبعثون لمصلحة الجيش فهم شركاء الجيش فيما غنم، وقد تخلف عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم بدر فأجرى له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهمه من الغنيمة، وعن ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يوم الحديبية فقال: إن عثمان انطلق في حاجة لله وحاجة لرسوله، وإني أبايع له، فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره» " ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهماً كالسرية (ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم) في قول عامتهم، وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينها وبين الجيش، قال ابن المنذر: وروينا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وترد سراياهم على قعدهم» وفي تنفيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك، ولأنهم جيش واحد وكل منهم ردء لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش.
مسألة 38: (ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها) لأن أجرتهم منها والفاضل للغانمين، كما يبدأ بأجرة العامل على الزكاة (ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها) لأن صاحبها معين (والأجعال لأصحابها) كذلك (ثم يخمس باقيها فيقسم خمسها خمسة أسهم) يعني أنه يجعل الغنيمة كلها خمسة أسهم يأخذ منها سهماً يقسمه خمسة أسهم وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فسهم الله ورسوله واحد لأن الدنيا والآخرة لله سبحانه، وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم الخمس على(1/642)
سهم لله تعالى ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف في السلاح والكراع والمصالح، وسهم لذوي القربى وهم: بنو هاشم وبنو المطلب غنيهم وفقيرهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وسهم لليتامى الفقراء، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
خمسة» : (فسهم لله ورسوله يصرف في الكراع وهي الخيل والسلاح ومصالح المسلمين) من سد الثغور ونحوه. (والخمس الثاني لذي القربى وهم) أقارب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (من بني هاشم وبني المطلب) ابني عبد مناف دون غيرهم لما «روى جبير بن مطعم قال: (لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله بهم منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني - وفي رواية: لم يفارقونا - في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد. وشبك بين أصابعه» رواه الإمام
أحمد والبخاري، فرعى لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصرتهم وموافقتهم بني هاشم في الجاهلية، ويشترك الذكر والأنثى فيه لدخولهم في اسم القرابة، وعن أحمد يسوى بين الذكر والأنثى أعطوا بسهم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء، فأشبه ما لو أوصى بثلثه لقرابة فلان، ولأنه سهم من الخمس فيسوى فيه بين الذكر والأنثى كسائر سهامه، وعنه (للذكر مثل حظ الأنثيين) لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعاً ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث، ويدخل في ذلك الغني والفقير لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قرابته الأغنياء كالعباس وغيره ولم يخص الفقراء لأنهما يدخلان في اسم القرابة فلا يختص أحدهما دون الآخر. (والخمس الثالث في اليتامى) وهم الذين لا آباء لهم ولم يبلغوا الحلم، قال أصحابنا: ولا يستحقون إلا مع الفقر، وقال بعضهم هو للغني والفقير لأنه يستحق باسم اليتيم، وهو شامل لهما وقياساً له على سهم ذي القربى، ووجه الأول أنه لو كان له أب ذو مال لم يستحق شيئاً فإذا كان المال له كان الأولى أن لا يستحق شيئاً؛ لأن وجود المال له أنفع من وجود الأب، ولأنهم صرف إليهم(1/643)
(39) ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ
(40) ثم يقسم ما بقي للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له ولفرسه سهمان، لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفرس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لحاجتهم لأن اسم اليتم يطلق عليهم في العرف للرحمة، ومن كان إعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة فيه، بخلاف ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكرمة لهم، والغني والفقير في القرب سواء فاستووا في الاستحقاق. (والخمس الرابع في المساكين) ويدخل فيهم الفقراء فهم صنفان في الزكاة وواحد هاهنا وفي سائر الأحكام. (والخمس الخامس في بني السبيل) وهم المسافرون المنقطع بهم يعطى كل واحد منهم بقدر حاجته وما يوصله إلى بلده، لأن الدفع إليه لأجل الحاجة فأعطى بقدرها.
مسألة 39: (ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ) ثم يقسم ما بقي بين الغانمين. قال أحمد: النفل من أربعة أخماس الغنيمة، وهو قول أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، وروى معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» ، رواه أحمد ورواه أبو داود من حديث حبيب بن مسلمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنما نفلهم بعد الخمس وفي الرضخ وجهان:
أحدهما: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنه استحق بحضور الوقعة أشبه سهام الغانمين.
والثاني: أنه من أصل الغنيمة لأنه استحق لأجل المعاونة في تحصيل الغنيمة فأشبه أجرة النقالين.
مسألة 40: (وما بقي من أربعة أخماس الغنيمة يصير للغانمين للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم) وأجمعوا على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فيفهم من ذلك أن الباقي للغانمين لأنه أضافها إليهم، ثم أخذ منها سهماً لغيرهم فبقي سائرهم لهم كقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وقال عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة، واتفقوا كلهم على أن للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه إلا أبا حنيفة قال: للفارس سهمان وقد ثبت عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه» ، متفق عليه.(1/644)
سهمين ولصاحبه سهما»
(41) وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم
(42) وإن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما، ولا يسهم لأكثر من فرسين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 41: (وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم) وغير العربي هو البرذون وهو الهجين أيضاً، وقد حكي عن أحمد أنه قال: الهجين البرذون، واختلفت الرواية عن أحمد في سهمه فقال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر، وعنه أسهم للبرذون مثل سهم العربي سهمين واختاره الخلال لأن الله سبحانه قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] وهذا من الخيل، ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي، وحكى القاضي رواية أخرى عنه أنه لا يسهم له، وحكى أبو بكر رواية رابعة أن البراذين إذا أدركت أسهم لها مثل الفرس لأنه عملت عمل العراب فأعطيت سهمها، ودليل الأولى ما روى سعيد عن أبي الأقمر قال: أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكودان ضحى الغد وعلى الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حمضة فقال: لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك. فقال عمر، هبلت الوادعي أمه، أمضوها على ما قال. وروى الجوزجاني عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا وجدنا في العراق خيلاً عراضاً دكاً، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهامها؟ فكتب: تلك البراذين، فما قارب العتاق منها فاجعل له سهماً واحداً وألغ ما سوى ذلك. وروي بإسناده عن مكحول «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهماً» .
مسألة 42: (وإن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما، ولا يسهم لأكثر من فرسين) لما روى الأوزاعي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس» . وعن أزهر بن عبد الله أن عمر كتب إلى أبي عبيدة أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة ولصاحبها سهم فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب، رواهما سعيد في سننه، ولأن به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب واحد يضعفه ويمنعه القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث.(1/645)
(43) ولا يسهم لدابة غير الخيل
فصل: (44) وما تركه الكفار فزعاً وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 43: (ولا يسهم لدابة غير الخيل) كالجمل والبغل والحمار، وعنه إذا غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره أسهم له ولبعيره سهمان، وعنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ولقوله سبحانه: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] والركاب الإبل، ولأنه حيوان يجوز المسابقة عليه فيسهم له كالفرس، واختار أبو الخطاب أنه لا يسهم له وهو قول أكثرهم، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لغير الخيل، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً، ولم تخل غزاة من غزواته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأبعرة بل كانت غالب دوابهم، فلم ينقل أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل ذلك، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم له كالبغل، فأما ما عدا هذا من البغال والحمير والفيلة فلا يسهم له بغير خلاف وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لها.
مسألة 44: (وما تركه الكفار فزعاً وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين) والفيء هو الراجع للمسلمين من مال الكفار، يقال: فاء الفيء إذا رجع نحو المشرق، والإيجاف أصله التحريك، والمراد هاهنا الحركة في السير، قال قتادة: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ما قطعتم وادياً ولا سرتم إليها، إنما كانت حوائط بني النضير أطعمها الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصرف ذلك في مصالح المسلمين. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]- حتى بلغ - {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]- حتى بلغ - {وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7]- حتى بلغ - {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة، " ولئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه " واختلفت الرواية عن أحمد في الفيء هل يخمس أو لا؟ فروي عنه أنه يخمس اختارها الخرقي، وعنه لا يخمس وهو قول عامتهم؛ لأن الله(1/646)
منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين
(45) ومن وجد كافراً ضالاً عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له
(46) وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلى قوله - {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فجعله كله لهم ولم يذكر خمساً. ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين. ووجه الأولى قوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] وظاهر هذا أن جميعه لهؤلاء الأصناف وهم أهل الخمس، وجاءت الأخبار عن عمر وغيره دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والأخبار تتعارض، وفي إيجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوفيق فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره مصروف إلى من في الحرب كالغنيمة، ولأنه مال مشترك مظهور عليه فوجب أن يخمس كالغنيمة والركاز.
مسألة 45: (ومن وجد كافراً ضالاً عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له) في إحدى الروايتين؛ لأنه وجده في دار الإسلام فأشبه المباحات والصيد واللقطة، والأخرى يكون فيئاً؛ لأنه لم يوجف عليه وهو من مال الكفار فأشبه ما لو أخذ من دراهم.
مسألة 46: (وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس) وفي هذه المسألة ثلاث روايات:
إحداهن: أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسها الإمام ويقسم الباقي بينهم، وهو قول أكثرهم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، وبالقياس على ما إذا دخلوا بإذن الإمام.
والثانية: هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد أشبه الاحتطاب، فإن الجهاد إنما يكون بإذن الإمام أو من طائفة لهم منعة. فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب.
والثالثة: أنه فيء لا حق لهم فيه، لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق، والأولى أولى.
قال الأوزاعي: لما نقل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم، فأخذ المشركون ناساً من القبط فكانوا خداماً لهم، فخرجوا يوماً إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون، فرفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت، فكتب(1/647)
باب الأمان ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه
(47) ويصح الأمان من كل مسلم عاقل مختار، حرا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة، لقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس، رواه سعيد والأثرم. وكذا إن كانت الطائفة ذات منعة في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا شيء لهم.
[باب الأمان]
(ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه) وذلك أن من أعطى الأمان حرم قتله وماله والتعرض له. فأما صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان: أمنتك وأجرتك لقوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم هانئ: "قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت» (رواه البخاري) ، وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وفي معنى ذلك لا تخف ولا بأس عليك، فقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للهرمزان: لا بأس عليك تكلم. فلما تكلم أمر عمر بقتله، فقال أنس: ليس لك إلى ذلك سبيل، قد أمنته. فدرأ عنه القتل. رواه سعيد وغيره. وقال عمر: إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم، فإن الله يعلم الألسنة. وفي رواية: إذا قال الرجل للرجل: لا تخف أو مترس فقد أمنه، وهذا كله لا نعلم فيه خلافاً، فأما إن قال له كف أو ألق سلاحك فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أماناً فكان أماناً كقوله: أمنتك، ويحتمل أنه ليس بأمان؛ لأن لفظه لا يشعر به، وهو يستعمل للإرهاب والتخويف فأشبه ما لو قال: لأقتلنك.
مسألة 47: (ويصح الأمان من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً) وهو قول أكثرهم وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد(1/648)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم»
(48) ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة، وأمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه، وأمان الإمام لجميع الكفار
(49) ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إلا أن يكون مأذوناً له؛ لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي، ولأنه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم. ولنا ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» رواه البخاري، وقال عمر: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد. ولأنه مسلم مكلف أشبه الحر. وأما التهمة فتبطل بما لو أذن له في القتال فإنه يصح أمانه. وأما المرأة فيجوز أمانها في قولهم جميعاً. وأما الصبي المميز ففيه روايتان، قال أبو بكر: يصح أمانه رواية واحدة؛ لأنه مسلم مميز فأشبه البالغ، وحمل رواية المنع على من لم يعقل وفارق المجنون فإنه لا تمييز له.
مسألة 48: (ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة) كالواحد والعشرة والقافلة والحصن الصغير، لما روى فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب جيشاً فكنت فيهم، فحضرنا موضعاً فرأينا أنا سنفتحها اليوم فجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، رواه سعيد. فإذا صح من العبد فالحر أولى. ولا يصح أمان الواحد لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتئات على الإمام (ويصح أمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه) ؛ لأنه نائب الإمام فيه (ويصح أمان الإمام لجميع الكفار) ؛ لأنه متولي ذلك يفعل ما يرى فيه المصلحة.
مسألة 49: (ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه) لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بأمنه إياهم من نفسه وترك خيانتهم، وإن لم يكن ذلك مذكوراً فهو معلوم في المعنى، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» .(1/649)
(50) وإن خلوا أسيراً منا بشرط أن يبعث إليهم مالاً معلوماً لزمه الوفاء لهم
(51) فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز لزمه الوفاء لهم
(52) إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم
فصل (53) وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 50: (وإن خلوا أسيراً منا بشرط أن يبعث إليهم مالاً معلوماً لزمه الوفاء لهم به) ؛ لأن الله سبحانه قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل الحديبية على رد من جاءه فوفى لهم وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر» ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي منعه مفسدة في حقهم، لأنهم لا يأمنون بعده أسيراً، والحاجة داعية إلى ذلك، فلزم الوفاء به كما يلزم الوفاء بعقد الهدنة.
مسألة 51: (فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز عنه لزمه العود) في إحدى الروايتين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاهد أهل الحديبية على رد من جاء مسلماً فرد أبا جندل وأبا بصير وقال: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» . والرواية الأخرى لا يرجع؛ لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط شرب الخمر أو قتل مسلم.
مسألة 52: (إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم) ؛ لأن في رجوعها إليهم تسليطاً لهم على وطئها حراماً، وقد منع الله ورسوله رد النساء إلى كفار قريش بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية، وهي مشهورة، رواه أبو داود وغيره، وفيها: فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .
مسألة 53: (وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها) ومعناها أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوض وغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز لقول الله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] . وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. ولا يجوز إلا النظر للمسلمين، إما أن يكون بالمسلمين ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة، ولا تتقدر بمدة بل هي على ما يرى الإمام من المصلحة في قلتها وكثرتها، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من(1/650)
(54) ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه
(55) وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب
(56) وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم
(57) وإن سباهم كفار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
عشر سنين وهي اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي؛ لأن قوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] عام خص منه مدة العشر بصلح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية على عشر، ففيما زاد عليها يبقى على مقتضى العموم. ووجه الأول أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد كمدة الإجازة، والعام مخصوص في العشر لمعنى هو موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب. فإن قلنا بجوازه في الزيادة لم يجز مطلقاً من غير تقدير؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وإن قلنا يتقدر بالعشر فعقد على أكثر من ذلك فسد في الزيادة وكان في العشر على وجهين مبنيين على تفريق الصفقة.
مسألة 54: (ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه) ؛ لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمنا، ولأن عقد الهدنة يكون مع جملة من الكفار وليس لأحد من المسلمين إعطاء الأمان لأكثر من القافلة؛ لأن في تجويز ذلك افتئاتاً على الإمام أو نائبه في تلك الناحية وتعطيل الجهاد بالكلية، فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، فإن دخل بعض الكفار الذين هادنهم دار الإسلام كان آمناً؛ لأنه دخل معتقداً أنه دخل بأمان، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح.
مسألة 55: (وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب) ؛ لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، ومن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئاً أو قتل منهم أحداً فعليه ضمانه، ولا يلزم الإمام حمايتهم من أهل الحرب، ولا حماية بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط.
مسألة 56: (وإن خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ إليهم عهدهم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ، يعني أعلمهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي أن يقع في قلبه خوف منهم حتى يكون ذلك عن أمارة تدل على ما خافه.
مسألة 57: (وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم) لأنهم في عهد منه فلا(1/651)
آخرون لم يجز لنا شراؤهم
(58) وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يجوز أن يملك ما سبي منهم كأهل الذمة، ويحتمل أن يجوز ذلك؛ لأنه لا يجب عليه أن يدفعه عنهم فلا يلزمه رد ما استنقذه منهم كما لو أعان أهل الحرب على أهل الحرب.
مسألة 58: (وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار الحرب، وتستحب لمن قدر على ذلك) قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] ولأن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة لا تنقطع، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد» رواه سعيد وغيره، وعن معاذ بن جبل قال: " سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» أخرجه أبو داود،. فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» رواه سعيد فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها، ولا هجرة من بلد بعد فتحه؛ لأن الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وبعد الفتح صار البلد المفتوح دار إسلام فلا هجرة منه إذاً، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك لمن أراد الهجرة من مكة بعد فتحها، «فإن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح: إنه لا دين لمن لم يهاجر، فأتى المدينة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما جاء بك أبا وهب؟ قال: قيل: إنه لا دين لمن لم يهاجر، قال: ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة. أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية» يعني من مكة، إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدها: من تجب عليه، وهو من لا يمكنه إظهار دينه، ولا عذر له من مرض ولا عجز عن الهجرة، فهذا تجب عليه للآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] ، ولأن القيام بواجب الدين واجب ولا يتمكن منه إلا بالهجرة، وما(1/652)
الحرب، وتستحب لمن قدر على ذلك
(59) ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، إلا من بلد بعد فتحه
باب الجزية ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لا يتمكن من الواجب إلا به واجب لكونه من ضرورة الواجب.
الثاني: من تستحب له الهجرة، وهو من يتمكن من إظهار دينه في دار الحرب والقيام بواجبه، إما لقوة عشيرته أو غير ذلك، فهذا لا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه، وتستحب له؛ لأن في إقامته عندهم تكثيراً لعددهم واختلاطاً بهم ورؤية المنكر بينهم.
الثالث: من تسقط عنه الهجرة، وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف، فهذا لا تجب عليه ولا يوصف باستحباب، لقوله سبحانه: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99] .
مسألة 59: (ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، إلا من بلد بعد فتحه) لما سبق.
[باب الجزية]
(ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة، والنصارى ومن دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة) والأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وأما السنة «فروى المغيرة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: " أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» أخرجه البخاري. وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة، واشتقاقها من جزى يجزي إذا قضى، تقول العرب: جزيت ديني إذا قضيته، وقال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي لا تقضي. والذين تقبل منهم الجزية صنفان: أهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب. فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة، وإنما خالفوا اليهود في فروع دينهم، وفرق النصارى(1/653)
دان بالإنجيل، والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة
(61) ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم
(62) وتؤخذ الجزية في رأس كل حول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى، فجميعهم من أهل الإنجيل وإن اختلفت فروعهم، والصابئون قال أحمد: هم جنس من النصارى، وقال: بلغني أنهم يسبتون فهم من اليهود، وروي عن عمر أنهم يسبتون. وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى، وأما من لهم شبهة كتاب كالمجوس، قال الشافعي: كان لهم كتاب فرفع، وقد أخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر منهم الجزية، وروى البخاري بإسناده عن بجالة قال: «ولم يكن عمر أخذ الجزية من مجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من المجوس هجر» . إذا ثبت هذا فإن أهل العلم من الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم أجمعوا على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس مع ما فيه من الآثار الصحيحة، وعمل بها الخلفاء الراشدون، ثم جرت به السنة إلى يومنا هذا.
1 -
مسألة 60: (وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عاهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة، فإن نقضوا العهد بمخالفة شيء من ذلك صاروا حرباً لزوال عهدهم، ولم تؤخذ منهم جزية بعد ذلك. ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين:
أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول.
والثاني: أن يلتزموا أحكام الإسلام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وإنما يحصل الصغار بذلك.
مسألة 61: (ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] إلى قوله - {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم. وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] يعني حتى يلتزموا إعطاءها فلا يعتبر حقيقة الإعطاء كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] معناه التزموا ذلك بالإجماع، كذا هاهنا.
مسألة 62: (وتؤخذ الجزية في رأس كل حول) ؛ لأنه مال يتكرر بتكرر الحول فلا تجب إلا بأوله كالزكاة والدية.(1/654)
(63) من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً
(64) ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد (65) ولا فقير عاجز عنها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 63: وتؤخذ (من الموسر ثمانية وأربعون درهماً، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهماً، ومن دونه اثنا عشر درهماً) ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذها منهم كذلك، وقد روي عن أحمد أن الجزية مقدرة بمقدار لا يزيد ولا ينقص، وعنه أنها غير مقدرة منهم كذلك، بل ذلك مردود إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة، فإنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك، ودليله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم ديناراً ولم يفصل» ، رواه أبو داود،. «وصالح أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر، والنصف في رجب» رواه أبو داود، وعمر جعل أهل الجزية ثلاث طبقات: الغني ثمانية وأربعون درهماً، والمتوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً. ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة، وعنه أن أقلها مقدر بدينار، وأعلاها غير مقدر، وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهل اليمن ولم ينقص منه، ووجه الرواية الأولى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرضها مقدرة وعمر فرضها مقدرة وكان ذلك بمشهد من الصحابة فكان إجماعاً.
مسألة 64: (ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير عاجز عنها) . لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن الجزية إنما تجب على الرجل العاقل ولا تجب على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وقد دل عليه «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: "خذ من كل حالم ديناراً» وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن أضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي، رواه سعيد. ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء محقونون بدونها وكذلك الشيخ والزمن والأعمى لا جزية عليهم لذلك، ولا تجب على عبد؛ لأن ما يجب على العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إلى إيجاب الجزية على المسلم، وهذا مجمع عليه، وكذلك إن كان السيد ذمياً، قال ابن المنذر: " اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا جزية على العبد " ووجهه ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جزية على العبد» . وعن ابن عمر مثله، ولأن(1/655)
(66) ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه
(67) وإن مات أخذت من تركته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات، ولأنه محقون الدم فلا تجب عليه الجزية كالصبيان، وعنه تجب عليه الجزية يؤديها سيده لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: "لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم على بعض، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه "، وروي نحوه عن علي، قال أحمد: أراد عمر أن يوفر الجزية؛ لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه إذاً ما يؤخذ منه، والذمي يؤدى عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر.
1 -
مسألة 65: (ولا تجب على فقير عاجز عنها) لقوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهذا عاجز عنها، ولأن عمر جعل الجزية على طبقات أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه، ولأنه مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.
مسألة 66: (ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه) لقوله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وروى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال، قال أحمد: وقد روي عن عمر أنه قال: "إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الجزية» وروي أن ذمياً أسلم فطولب بالجزية، وقيل إنما أسلمت تعوذاً قال: إن في الإسلام معاذاً، فقال عمر: إن في الإسلام معاذاً، وكتب: لا تؤخذ منه الجزية، رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى، ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحلول، ولأنها عقوبة بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل، وبهذا فارق سائر الديون.
مسألة 67: (وإن مات أخذت من تركته) يعني يموت على كفره فلا تسقط عنه في ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه قال: تسقط بالموت(1/656)
(68) ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر
(69) وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر
(70) ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود، ولنا أنها دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بعد الموت كديون الآدميين، والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية.
مسألة 68: (ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر) اشتهر هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصحت الرواية عنه به وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور» رواه أبو داود. وروى الإمام أحمد عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. وهذا كان بالعراق، وروى أبو عبيد في الأموال أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهماً درهماً، وقال الشافعي: لا يؤخذ من أهل الذمة إلا الجزية، وما ذكرناه حجة عليهم. والله أعلم.
مسألة 69: (وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر) قال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء، إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فيؤخذ منهم مثله. ولنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر واشتهر ذلك بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعاً. ولا يعشر في السنة إلا مرة؛ لأنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة، وأهل الذمة كذلك.
مسألة 70: (ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله) لأن في كتاب عبد الرحمن بن غنم الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا وخالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق" فزاد عليهم عمر: "ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده " فظاهره أنه متى نقض شيئاً من ذلك انتقض عهده وحل دمه وماله، وهو ظاهر كلام الخرقي، ولأنه عقد بشرط فمتى لم(1/657)
(72) ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يوجد الشرط زال حكم العقد، كما لو امتنع من التزام الأحكام فإنه إذا امتنع منها وقد حكم بها حاكم، أو من ترك الجزية، انتقض عهده من غير خلاف في المذهب، وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب؛ لأن إطلاق الأمان لا يقتضي ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلوا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان، وبقية الشروط في بعضها روايتان، وفي بعضها لا ينتقض عهدهم بمخالفتها بحال؛ لأنه لا ضرر فيها على مسلم ولا ينافي عقد الذمة سواء شرط عليهم أو لم يشرط، وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به فصلب في بيت المقدس، ولأن فيه ضرراً على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه يتعذر به أخذ الجزية منهم، وما ذكرناه من حديث عمر حجة عليه.
1 -
مسألة 71: ومن هرب منهم إلى دار الحرب حل دمه وماله، قال الخرقي: ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضاً للعهد عاد حربياً؛ لأنه إذا فعل ذلك صار حكمه حكم أهل الحرب وحل دمه وماله كأهل الحرب، ومتى قدر عليه أبيح قتله وأسره وأخذ ماله كأهل الحرب سواء.
مسألة 72: (ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه، إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب) وإنما ينتقض عهدهم؛ لأن النقض إنما وجد منه ولم يوجد منهم فيبقون على العهد ولا يحل سبيهم ولا التعرض لهم في المعنى، فإن كانت ذريته معه لم تستبرأ؛ لأن النقض إنما وجد منه دونهم.(1/658)
كتاب القضاء وهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء
(1) ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه وإن وجد غيره فالأصل تركه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[كتاب القضاء]
(وهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء) ودليل أنه فرض كفاية أن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجباً عليهم كالجهاد والإمامة.
قال أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وإنما ينصبه الإمام؛ لأن أمره إليه وهو نائب عنه.
مسألة 1: (ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه) . والناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
منهم: من يجب عليه وهو من يصلح له ولا يوجد سواه فيتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه، وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين، فإنه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال: لا يأثم، فيحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر، ويحتمل أن يحمل على ما إذا لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره، فإن أحمد قال: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ والأمر على ما قال.
والضرب الثاني: من يجوز له ولا يجب عليه وهو أن يكون من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه فيكون الأفضل له تركه لما فيه من الخطر والغرر، ولما في تركه من السلامة، ولما ورد فيه من التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي له، وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه.
والضرب الثالث: من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه(1/659)
(2) ومن شرطه أن يكون رجلاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً متكلماً عدلاً عالماً
(3) ولا يجوز له أن يقبل رشوة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
شروطه، وقد روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار فذكر إلى أن قال: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» (رواه الترمذي) .
مسألة 2: (ومن شرطه أن يكون رجلاً حراً مسلماً سميعاً بصيراً متكلماً عدلاً عالماً) فهي ثمانية شروط:
الأول: كونه رجلاً فتجتمع الذكورية والبلوغ؛ لأن الصبي لا قول له والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلاً لحضور الرجال ومحافل الخصوم.
الثاني: أن يكون حراً؛ لأن ذلك من أوصاف الكمال ولأن العبد مختلف في قبول شهادته.
الثالث: أن يكون مسلماً؛ لأن الكفر ينافي العدالة، ولا خلاف في اعتبار الإسلام.
الرابع: أن يكون سميعاً يسمع الإقرار من المقر والإنكار من المنكر والشهادة من الشاهد.
الخامس: أن يكون بصيراً ليعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه.
السادس: أن يكون متكلماً لينطق بالفصل بين الخصوم.
السابع: أن يكون عدلاً فلا يصح أن يكون فاسقاً؛ لأنه لا يكون شاهداً فأولى ألا يكون قاضياً.
الثامن: أن يكون عالماً مجتهداً ليحكم بالعلم، لقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولم يقل بالتقليد، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وروى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار» رواه ابن ماجه، ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عامياً مقلداً فالحاكم أولى.
مسألة 3: (ولا يجوز له أن يقبل رشوة ولا هدية) وذلك أن الرشوة في الحكم حرام بلا خلاف، قال الله سبحانه: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره:(1/660)
(4) ولا هدية ممن لم يكن يهديه إليه
(5) ولا الحكم قبل معرفة الحق
(6) فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
هو الرشوة، وقال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر، وقد روى عبد الله بن عمر قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» قال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد "في الحكم"، ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد "والرائش" والرائش السفير بينهما، ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحق عنه؛ وذلك من أعظم الظلم، قال كعب: الرشوة تسفه الحليم، وتعمي عين الحكيم.
مسألة 4: ولا يقبل هدية (ممن لم يكن يهدي إليه) يعني قبل ولايته، ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوصل إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فأما إن كانت بينهما مهاداة متقدمة جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية، وذكر القاضي أنه يستحب له التنزه عنها أيضاً إلا أن يخشى أن يقدمها بين يدي حكومة أو تكون في حال الحكومة فإنه يحرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة.
مسألة 5: (ولا يجوز له الحكم قبل معرفة الحق) ؛ لأن الله سبحانه قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] ومن لم يعرف الحق كيف يحكم به.
مسألة 6: (فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة) ، لقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغنياً عن مشاورتهم، وإنما أراد أن يستن بذلك الحاكم بعده، وقد شاور رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه في أسارى بدر، وفي مصالحة الكفار يوم الخندق، وفي لقاء الكفار يوم بدر. وروي: ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وشاور أبو بكر الناس في الجدة، وشاور عمر في دية الجنين، ولا مخالف في استحباب ذلك؛ لأنه قد ينتبه بالمشاورة، ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة، وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف من يساويه، وقال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما، ولما ولي محارب بن دثار قضاء الكوفة كان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما، وما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون.(1/661)
(7) ولا يحكم وهو غضبان
(8) ولا في حال يمنع استيفاء الرأي
(9) ولا يتخذ في مجلس الحكم بواباً
(10) ويجب العدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 7: (ولا يحكم وهو غضبان) لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في ذلك، وكتب أبو بكرة إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» متفق عليه.
مسألة 8: (ولا يحكم في حال يمنع استيفاء الرأي) فقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي موسى إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس " وفي معنى الغضب كل ما يشغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج ومدافعة الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح، فهذه كلها تمنع استيفاء الرأي الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه.
مسألة 9: (ولا يتخذ في مجلس الحكم بواباً) ؛ لأنه ربما منع صاحب الحاجة من الدخول عليه.
مسألة 10: (ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب) ، وروى عمر بن شيبة في كتاب القضايا بإسناده «عن أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» (رواه الدارقطني) وفي رواية «فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة» وفي كتاب عمر إلى أبي موسى واس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك (رواه الدارقطني) ، ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته، فأدى ذلك إلى ظلمه. إذا ثبت هذا فإنه يجلس الخصمين بين يديه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم» رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن للحاكم في الإقبال عليهما والنظر في خصومتهما.(1/662)
باب صفة الحاكم (11) إذا جلس إليه الخصمان فادعى أحدهما على الآخر لم تسمع الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعى عليه، فإن كان دينا ذكر قدره وجنسه، وإن كان عقارا ذكر موضعه وحده، وإن كان عينا حاضرة عينها، وإن كانت غائبة ذكر جنسها وقيمتها
(12) ثم يقول لخصمه: ما تقول فإن أقر حكم للمدعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
[باب صفة الحاكم]
باب صفة الحكم مسألة 11: (وإذا جلس إليه الخصمان فادعى أحدهما على الآخر لم يسمع الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعى عليه) لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه، فإن اعترف به ألزمه، ولا يمكنه أن يلزمه مجهولاً. وإذا ثبت هذا (فإن كان المدعى أثماناً فلا بد من ذكر الجنس والنوع) فيقول عشرة دنانير مصرية، وإن كان عيناً تنضبط بالصفة كالحبوب والثياب والحيوان فلا بد من ذكر الصفات التي تشترط في المسلم، وإن كان المدعى تالفاً مما له مثل ادعى المثل وضبط بصفته، وإن كان مما لا مثل له ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه، (وإن كان المدعى عقاراً ذكر موضعه وحدوده) وأنه في يده ظلماً وأنا أطالبه برده علي، (وإن كان المدعى عيناً حاضرة عينها) بالإشارة إليها، (وإن كانت غائبة ذكر بيان جنسها وقيمتها) لما ذكرناه. فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم تلقينه تحريرها؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: يجوز لأنه لا ضرر على خصمه في ذلك.
والثاني: لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته.
مسألة 12: (ثم يقول لخصمه: ما تقول) فإنه يجوز للحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك؛ لأن شاهد الحال يدل عليه؛ لأن إحضاره والدعوى إنما تراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله، فعند ذلك يقول الحاكم للمدعى عليه: ما تقول فيما يدعيه؟ (فإن أقر حكم للمدعي) إن سأله المقر له، وإن لم يسأله لم يحكم به؛ لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة، فأما(1/663)
(13) وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون في يد أحدهما، فيقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم وأقامها حكم له بها، وإن لم تكن له بينة قال: فلك يمينه، فإن طلبها استحلفه وبرئ، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»
(14) وإن نكل عن اليمين وردها على المدعي استحلفه وحكم له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
إذا سأله فقال: احكم لي، فإنه يحكم له حينئذ، والحكم أن يقول: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك له، أو يقول: أخرج له منه، فيكون ذلك حكماً عليه.
مسألة 13: (وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون في يد أحدهما) يعني العين المدعاة، (فيقول الحاكم للمدعي: ألك بينة؟) لما روي «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، فليس له فيها حق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» (رواه أبو داود) وهو حديث صحيح. (وإن قال: نعم لي بينة وأقامها حكم له بها) بدليل الحديث، ولأن البينة كالإقرار، إذا لو أقر حكم عليه، (وإن لم يكن له بينة قال له: فلك يمينه) كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي. وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي؛ لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مسألة مستحقها كنفس الحق، (وإن طلب إحلافه استحلفه وبرئ، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» .
مسألة 14: (وإن نكل عن اليمين) قضى عليه بنكوله، لما روي أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً. فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى أن يحلف، فرد عليه العبد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره.(1/664)
(15) وإن نكل أيضاً صرفهما
(16) وإن لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وعند أبي الخطاب لا يحكم بالنكول ولكن ترد اليمين على المدعى، وقال: قد صوبه أحمد وقال: ما هو ببعيد يحلف ويأخذ. فيقال للناكل: لك رد اليمين على المدعي، (فإن ردها على المدعي استحلفه وحكم له) وهو قول أهل المدينة، روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما روى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق» رواه الدارقطني.
مسألة 15: (وإن نكل أيضاً صرفهما) ؛ لأن يمين كل واحد منهما بطلت بنكوله عنها فقد أبطلا حجتهما باختيارهما، فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس؛ لأنه أسقط حقه منها، فإن عاد في مجلس آخر فاستأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول، فإن بذل اليمين حكم بها لأنها يمين في دعوى أخرى.
مسألة 16: (وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي) ببينته، وتسمى بينة الخارج، وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وقد اختلف عن أحمد فيما إذا تعارضا، فعنه تقدم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال، وعنه تقدم بينة المدعى عليه بكل حال؛ لأن جنبة الداخل أقوى، بدليل أن يمينه تقدم على يمين المدعي، فإذا تعارضت البينتان وجب تقديمه كما لو لم يكن لهما بينة، وعنه إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت: نتجت في ملكه أو كانت أقدم تاريخاً قدمت بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد، وقد روي عن جابر بن عبد الله: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» ووجه الأولى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» فجعل جنس البينات في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المنكر بينة، ولأن بينة المدعي أكثر فائدة بدليل أنها تثبت شيئاً لم يكن، وبينة المدعى عليه إنما تثبت ظاهراً دلت اليد عليه فلم تكن مفيدة، فوجب تقديم ما كان أكثر فائدة على غيره، ولأنه تجوز الشهادة بالملك لرؤية اليد والتصرف فجائز أن تكون مستند بينة اليد فصارت بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد، كما أن شاهدي الفرع لما كان مبنيين على شاهدي الأصل " لم تكن لهما مزية على شاهدي الأصل " كذا هاهنا.(1/665)
(17) فإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها، وقام مقام صاحب اليد فيما ذكرنا.
الثاني: أن تكون في يديهما، فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها
(18) وإن لم يكن لواحد منهما بينة أو لهما بينتان قسمت بينهما وحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 17: (وإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها وقام مقام صاحب اليد في كل ما ذكرنا) .
(الثاني: أن تكون العين في يديهما، فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها) لأنها كالإقرار لا نعلم في ذلك خلافاً.
مسألة 18: (وإن لم يكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه) وجعلت بينهما نصفين؛ لأن كل واحد منهما يده على نصفها، والقول قول صاحب اليد مع يمينه، وإن نكلا عن اليمين قضى عليهما بالنكول وجعلت بينهما نصفين لكل واحد منهما النصف الذي كان في يد صاحبه. وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضى له بجميعها.
1 -
مسألة 19: وإن أقام كل واحد منهما بينة وتساويا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبعير بينهما نصفين» ذكره ابن المنذر، ورواه أبو داود، وقال أبو الخطاب: وفيه رواية أخرى يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق لغيره فيها، وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما، قال الخرقي: ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به، ولأن البينتين لما تعارضتا - من غير ترجيح - وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا، ولأنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما، ولا تتعين إحداهما؛ لأنه تحكم لا دليل عليه فلم يبق إلا إسقاطهما، ولكل واحد منهما النصف الذي يده عليه مع يمينه كما لو لم تكن بينة، وعنه أن العين تقسم بينهما من غير يمين لظاهر الحديث الذي رويناه، ولأننا قد قررنا أن بينة(1/666)
(20) وإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما، واليمين على مدعي النصف
(21) وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل.
الثالث: أن تكون في يد غيرهما، وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد، وإن أقر لهما صارت كالتي في يديهما
(22) وإن قال لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له، وإن لم يكن لهما بينة، أو لكل واحد منهما بينة استهما على اليمين، فمن خرج سهمه حلف وأخذها
باب في تعارض الدعاوى (23) إذا تنازعا قميصاً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه
(24) وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل فهي له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الخارج مقدمة وكل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها الآخر فتقدم بينة النصف للذي في يد صاحبه ولا يحتاج إلى يمين، وتقدم بينة صاحبه في النصف الآخر.
مسألة 20: (فإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما، واليمين على مدعي النصف) ؛ لأن يده على النصف فالقول قوله فيه مع يمينه ويد مدعي الكل على النصف الآخر ولا منازع له فيه فيبقى في يده بغير يمين.
مسألة 21: (وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل) لأنهما تعارضا في النصف فيكون النصف لمدعي الكل لا تنازع، والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم، وظاهر المذهب تقدم بينة المدعي فتكون الدار كلها للمدعي جميعها.
(الثالث: أن تكون في يد غيرهما، فإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد) وقد مضى الكلام فيه (وإن أقر لهما صارت كالتي في أيديهما) وقد مضت.
مسألة 22: (وإن قال: لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له) ببينته لما سبق (وإن لم تكن لهما بينة، أو لكل واحد بينة، استهما على اليمين فمن خرج سهمه حلف وأخذها) لما روى أبو هريرة: «أن رجلين تداعيا عيناً ولم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها» رواه أبو داود، ولأنهما تساويا في الدعوى وعدم البينة واليد، والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيداً في مرض موته ولا مال له غيرهم. وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان لكل واحد منهما بينة روايتين:
إحداهما: تسقط البينتان كما ذكرنا وقد سبق دليلها وحكمها.
والرواية الثانية تستعمل البينتان: وفي كيفية استعمالهما روايتان:
إحداهما تقسم العين بينهما.
والثانية: تقدم بينة أحدهما بالقرعة. ووجه الأولى ما روى أبو موسى «أن رجلين اختصما إلى رسول الله(1/667)
(25) وإن تنازعا أرضاً فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنه له، فقضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» (رواه أبو داود) . وإذا قلنا يقرع بينهما فوجهه ما رواه الشافعي رفعه إلى ابن المسيب: «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم بينهما» والصحيح في المذهب أنه يقرع بينهما، فمن خرجت القرعة له حلف وسلمت إليه. وهو دليل على أن البينتين سقطتا لإيجابنا اليمين كمن وقعت له القرعة. ووجهه أن البينتين حجتان فإذا تعارضتا على وجه لا ترجح إحداهما على الأخرى سقط الاحتجاج بهما كالخبرين إذا تعارضا. وأما حديث ابن المسيب فيحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلفه، وإن لم يكن مذكوراً في الحديث فليس بمنفي. وأما حديث أبي موسى فيحتمل أن الشيء كان في أيديهما فأسقط البينتين وقسمه بينهما. على أنه روي في الحديث ولا بينة لهما.
[باب في تعارض الدعاوى]
مسألة 23: (إذا تنازعا قصيماً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه) ؛ لأن تصرفه في الثوب أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعته.
مسألة 24: وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل) والآخر آخذ بزمامها (فهي للراكب) ولصاحب الحمل كذلك.
مسألة 25: (وإن تنازعا أرضاً فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له) ؛ لأنه صاحب اليد لكونه المستوفي لمنفعتها فكانت له، كما لو تنازعا عيناً في يده فإنها تكون لمن هي في يده.(1/668)
(26) وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها
(27) وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللزوج ما يصلح للرجال وللمرأة ما يصلح للنساء، وما يصلح لهما بينهما
(28) وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببنائهما أو محلولاً منهما فهو بينهما، وإن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 26: (وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها) فإذا كان نجار وعطار في دكان واحد فاختلفا فيما فيها حكم بآلة العطارين للعطار وبآلة النجارين للنجار؛ لأن تصرفه في آلة صنعته أظهر، والظاهر معه أيضاً، فإن الظاهر أن العطار لا يستعمل آلة النجار والنجار لا يستعمل آلة العطار. وإن لم يكونا في دكان واحد لكن اختلفا في عين تصلح لأحدهما لم يرجح أحدهما بصلاحية المختلف فيه له، بل إن كان في أيديهما فهو بينهما، وإن كان في يد أحدهما فهو له مع يمينه، وإن كان في يد غيرهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها.
مسألة 27: (وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللرجل ما يصلح للرجل وللمرأة ما يصلح للنساء، وما يصلح لهما فهو بينهما) فمتى اختلفا في شيء ولأحدهما بينة فهو له بغير خلاف، وإن لم تكن له بينة فالمنصوص عنه أنه ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه، وما يصلح للنساء من الحلي والمقانع وقمصهن ومغازلهن فالقول فيه قول المرأة مع يمينها، وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما؛ لأن أيديهما جميعاً على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي فإن القول قولهما، وقد يرجح أحدهما على صاحبه يداً وتصرفاً، فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها.
مسألة 28: (وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببنائهما أو محلولاً منهما فهو بينهما، وإن كان معقوداً ببناء أحدهما وحده فهو له) فمتى كان الحائط بين ملكيهما وتساويا في كونه معقوداً ببنائهما معاً يعني متصلاً به اتصالاً لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الحظائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو يكون لكل واحد منهما عليه عقد أو قبة أو تساويا في كونه محلولاً من بنائهما أي غير متصل ببنائهما الاتصال الذي ذكرناه فإنهما يتحالفان فيحلف كل واحد منهما على النصف الذي في يده؛ لأن الحائط في أيديهما فيجعل بينهما نصفين لتساويهما في ذلك، وهذا إذا لم يكن لأحدهما(1/669)
معقوداً ببناء أحدهما وحده فهو له
(30) وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما، أو تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما وإن تنازعا قميصاً أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما
(31) وإن تنازع مسلم وكافر في ميت يزعم كل واحد منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم وإن كانت لهما بينتان فكذلك وإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
بينة، فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنها كالإقرار، وإن كان لهما بينتان تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما، فإن لم يكن بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر قضى على الناكل فكان الكل للآخر.
1 -
مسألة 29: وإن كان الحائط متصلاً ببناء أحدهما كان له مع يمينه؛ لأن هذا مما لا يمكن إحداثه فوجب أن يرجح به كالأزج يعني العقد، ولأن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحداً، فإذا كان بعضه لرجل فالظاهر أن بقيته له.
مسألة 30: (وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما فهو بينهما) ؛ لأن يديهما عليه سواء (وإن تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما فهو بينهما) ؛ لأنه حاجز بين ملكيهما فأشبه الحائط بين البيتين (وإن تنازعا قميصاً أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما) ؛ لأن يد الممسك بكمه ثابتة على نصفه، ألا ترى أنه لو كان آخذاً بكمه وباقيه على الأرض فادعاه مدع كان القول قول من هو آخذ بكمه ولا يلتفت إلى من أخذ بالكثير، ومثله إذا اختلفا في عمامة أحدهما آخذ بطرفها والآخر آخذ ببقيتها لأنها في أيديهما ويتحالفان في هذه المسائل.
مسألة 31: (وإن تنازع مسلم وكافر ميراث ميت يزعم كل واحد منهما أنه كان على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه) ؛ لأن الأصل بقاؤه عليه فالقول قول من ينفيه مع يمينه، (وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم) ؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ولأن الظاهر الإسلام في دار الإسلام، ولأنه يغلب إسلامه في الصلاة عليه ودفنه فكذلك في ميراثه. (وإن كانت لهما بينتان فكذلك) يعني أن الحكم كالتي قبلها؛ لأن البينتين سقطتا وصارا كمن لا بينة لهما (وإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها) ؛ لأن البينة كالإقرار، ولو أقر له الآخر حكم له فكذلك إذا قامت له بينة وحده.(1/670)
(32) وإن ادعى كل واحد من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه، وهما موسران عتق كله ولا ولاء لهما عليه
(33) وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب الموسر وحده
(34) وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء
(35) وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه ولا ولاء عليه
(36) وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 32: (وإذا ادعى كل من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه منه وهما موسران عتق كله) ؛ لأن كل واحد منهما يعترف بحرية نصيبه مدعياً نصف القيمة على شريكه لكونه أعتق نصيب نفسه وهو موسر فيسري إلى نصيب الآخر (ولا ولاء عليه لواحد منهما) ؛ لأنه لا يدعيه واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما يقول: أنت المعتق له وولاؤه لك لا حق لي فيه.
مسألة 33: (وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عتق نصيب الموسر وحده) ؛ لأنه اعترف بحرية نصيبه بعتق شريكه الموسر؛ لأن الموسر إذا عتق نصيبه سرى إلى نصيب المعسر، ولا يعتق نصيب الموسر؛ لأن اعترافه بعتق شريكه نصيبه لا يكون اعترافاً بعتق نصيبه، ولأن إعتاق المعسر لا يسري ولا يثبت للمعسر الولاء؛ لأنه غير معتق.
مسألة 34: (وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء) ؛ لأن اعتراف كل واحد منهما بعتق الآخر لا يوجب اعترافاً بعتق نصيبه؛ لأن عتق المعسر لا يسري.
مسألة 35: (وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه) الذي كان له قديماً؛ لأن عتقه عليه باعترافه بأن كان حراً، (ولا يثبت له عليه ولاء؛ لأنه لا يدعي إعتاقه بل يعترف أن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن هو في يده ظلماً فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار)
مسألة 36: (وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما) ، وقد ذكرنا فيما سبق أنه لا ولاء لواحد من الشريكين الموسرين؛ لأن كل واحد منهما يقول لشريكه: أنت المعتق والولاء لك لا حق لي فيه. فإن عاد كل واحد منهما فادعى أنه المعتق وأن الولاء له ثبت لهما الولاء؛ لأنه لا مستحق له سواهما، وإنما لم يثبت لواحد منهما لإنكاره، فإذا اعترف به زال الإنكار فثبت له، فعند ذلك يتحالفان ويكون الولاء بينهما كما لو تنازعا في شيء في أيديهما ولا بينة لأحدهما فإنه يكون بينهما.(1/671)
أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما
(37) وإن قال الرجل لعبده: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم
(38) وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد؛ لأن بينته تشهد بزيادة
(39) ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرض موته عتق منه ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله
(40) وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: بل هذا، عتق ثلث كل واحد منهما، وكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 37: (وإن قال السيد لعبده: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم) ؛ لأن الأصل معهم.
مسألة 38: (وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد؛ لأن بينته تشهد بزيادة) لأنها مثبتة وبينتهم نافية والإثبات مقدم على النفي في أحد الوجهين، وفي الآخر تتعارض البينتان ويبقى العبد رقيقاً؛ لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به وتنفي ما شهدت به الأخرى فهما سواء.
مسألة 39: (ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرضه عتق ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله) ولأن ثلثيه ثلث جميع المال، فإنه لو كانت قيمتهما ستمائة كل واحد منهما ثلاثمائة كان ثلثها مائتين وهي ثلثا العبد فإن أجازا عتق جميعه؛ لأن الحق لهما إن شاءا أخذاه وإن شاءا تركاه.
مسألة 40: (وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا، وقال الآخر: بل هذا، عتق ثلث كل واحد منهما فكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر) ؛ لأن كل واحد من الابنين إذا عين واحداً صار مدعياً أنه أعتق منه ثلثاه، وأنه لم يبق منه على الرق إلا ثلثه ميراثاً بينهما لكل واحد منهما سدسه وأن الآخر كله رقيق لكل واحد منهما نصفه فيعمل بقول كل واحد منهما في توريثه منهما فيصير له سدس العبد الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر، ويصير ثلث كل واحد من العبدين حراً؛ لأن لكل واحد من الابنين نصف العبدين فقبل قوله في نصيبه فعتق ثلث نصيبه من العبدين وجمعناه في العبد الذي اعترف بعتقه وذلك ثلثه.(1/672)
ونصف الآخر
(41) وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه
باب حكم كتاب القاضي (42) يجوز الحكم على الغائب إذا كانت للمدعي بينة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 41: (وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه) يعني إذا عين أحدهما عبداً، وقال الآخر: لا أدري من منهما فإنا نقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي عينه أخوه صارا كأنهما عيناه ويعتق ثلثاه إلا أن يجيزا عتقه كله، وإن وقعت على الآخر صار كأنه عينه وعين أخوه الآخر يعتق من كل واحد ثلثه، ويبقى له السدس في الذي عينه ونصف الآخر على ما سبق؛ لأن القرعة قامت مقام التعيين عند الإشكال والالتباس.
[باب حكم كتاب القاضي]
مسألة 42: (يجوز الحكم على الغائب إذا كان للمدعي بينة) فمتى ادعى حقاً على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه أجابه إلى ذلك وسمع بينته وحكم بها، وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب، وهو قول أبي حنيفة، إلا أنه قال: إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه، وعن أحمد مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد، ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه قبل حضوره. ولنا «أن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (رواه البخاري) فقضى لها عليه ولم يكن حاضراً، ولأن أبا حنيفة وافقنا في سماع البينة فيقول: هذه بينة عادلة مسموعة فجاز الحكم بها كما لو كان حاضراً، وأما حديثهم فنقول به وأنه إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع(1/673)
(43) ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به
(44) ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كلامهما معاً، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإنه لا تسمع البينة على حاضر، والغائب بخلافه.
مسألة 43: (ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به، والأصل في كتاب القاضي إلى القاضي الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] . وأما السنة فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف، وكان في كتابه إلى هرقل «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجراً عظيماً. وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] » (رواه البخاري) الآية. وروى الضحاك بن سفيان قال: «كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» (رواه أبو داود) وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي، ولأن الحاجة إلى قبوله داعية، فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله، فإذا ثبت هذا فإنه يلزم القاضي الواصل إليه الكتاب قبوله " وأخذ المحكوم عليه به؛ لأن ذلك هو المقصود منه.
مسألة 44: (ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم) فيعتبر في ثبوته ثلاثة شروط:
أحدها: أن يشهد به شاهدان عدلان، وقيل: يكفي معرفة خطه وختمه؛ لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه الشهادة، ويتخرج لنا مثله بناء على ما إذا وجدت وصية الرجل(1/674)
وحكامهم
(45) فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به
(46) وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه
(47) ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا الحدود والقصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مكتوبة عند رأسه بخطه عمل بها، ولنا إن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود، ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول على الخط.
الشرط الثاني: أن يكتب القاضي من موضع ولايته، فإن كتب القاضي من غير عمله كتاباً لم يسغ قبوله؛ لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو كالعامي.
الشرط الثالث: أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته، فإن وصل في غير موضع ولايته لم يكن له قبوله حتى يصل إلى موضع ولايته لما سبق.
مسألة 45: (فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به) وروي أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية قاضي البصرة كتاباً فوصل، وقد عزل وولي الحسن، فلما وصل الكتاب عمل به؛ لأن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده دون الكتاب، ولو ضاع الكتاب فشهداه عنده بذلك ثبت، فإذا شهدا بذلك عند الحاكم المتجدد وجب أن يقبل.
مسألة 46: (وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه) سواء مات أو عزل قبل خروج الكتاب من يده أو بعده؛ لأن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت، ولأن كتابه إنه كان بما حكم فحكمه لا يبطل بموته وعزله، وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع، ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل.
مسألة 47: (ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا في الحدود والقصاص) وقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها، وفي الحدود التي لله تعالى على قوليه؛ لأن كل حق يثبت بالشهادة فإنه يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي؛ لأنه بمنزلة الشهادة على الشهادة، فيثبت بها كسائر الحقوق، أو كالشهادة على الأموال. ولنا أن حدود الله سبحانه مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها، والشهادة(1/675)
باب القسمة وهي نوعان: قسمة إجبار، وهي ما يمكن قسمته من غير ضرر ولا رد عوض، إذا طلب الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة
(48) فإن أقر به لم يجبر الممتنع عليه، وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
على الشهادة لا تخلو من الشبهة ولذلك اشترطنا لقبولها تعذر شهادة الأصل ولم نقبلها إلا للحاجة ولا حاجة هاهنا، ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على موضع الإجماع لما بينا من الفرق فيبطل إثباتها.
[باب القسمة]
(وهي نوعان) :
أحدهما (قسمة إجبار، وهي قسمة ما يمكن قسمه من غير ضرر ولا رد عوض، إذا طلب أحد الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة) . وتعتبر لها ثلاثة شروط:
أحدهما: أن لا يكون فيها ضرر، فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع منها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه ورواه مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي لفظ آخر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجه) .
الشرط الثاني: أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها، فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع على القسمة لأنها تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين لقوله سبحانه: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
الشرط الثالث: أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة؛ لأن في الإجبار على القسمة حكماً على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، بخلاف حالة الرضا فإنه لا يحكم على أحدهما وإنما يقسم بقولهما ورضاهما.
مسألة 48: (فإن أقر به) يعني الملك (لم يجبر الممتنع منهما عليه) ؛ لأنه لم يوجد شرط الإجبار، (وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما وأثبت في القصة أن قسمه بينهما(1/676)
وأثبت في القضية أن قسمه كان عن إقرار لا عن بينة.
الثاني: قسمة التراضي، وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن تعديله إلا برد عوض من أحدهما فلا إجبار فيها
(49) والقسمة إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار
(50) وتجوز في
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كان عن إقرارهما لا عن بينة) وقال أبو حنيفة: إن كان عقاراً نسبوه إلى الميراث لم يقسمه، وإن لم ينسبوه إلى الميراث أو كان غير عقار قسمه؛ لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطاً للبت فيه؛ لأنه إذا لم يثبت عنده الموت والقرابة فلا احتياط، ويخالف العقار غيره يثوي ويهلك ويحفظ بقسمته، والظاهر عند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يقسم عقاراً كان أو غيره، قال: لأني لو قسمتها بقولكم ثم رفعت إلى حاكم يقسمها أن يجعلها حكماً لكم ولعلها لغيركم، ولنا أن اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر، وما ذكره الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يندفع إذا أثبت في القصة أن قسمته بينهم كان عن إقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم، وكل ذي حجة على حجته. وما ذكره أبو حنيفة لا يصح فإنه لا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر الأصل عدمه كما قلنا إن الظاهر ملكهم فيما لم يدعوه ميراثاً؛ لأنه لم يثبت لغيرهم، (الثاني قسمة التراضي، وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن تعديله إلا برد عوض من أحدهما فلا إجبار فيها) ، مثال ما فيه ضرر أن تكون دار بين اثنين لأحدهما عشرها وللآخر الباقي إذا اقتسماها لا يصلح لصاحب العشر ما ينتفع به فيتضرر لذلك، فإذا طلب صاحب الكثير القسمة لا يجبر الآخر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه. وأما ما لا يمكن تعديله إلا برد عوض فإنه يكون بيعاً، فإن تراضيا عليه جاز، وان امتنع أحدهما لم يجبر؛ لأن البيع لا يجبر عليه أحد لقوله سبحانه: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
مسألة 49: (والقسمة إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار) لأنها ليست بيعاً، وقال الشافعي في أحد قوليه: هي بيع، وحكي ذلك عن ابن بطة؛ لأنه يعدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة البيع، ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الإجبار وتلزم بإخراج القرعة ويتقدر(1/677)
المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً وفي الثمار خرصاً
(51) وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض، فإن كان بعضه طلقاً وبعضه وقفاً وفيها عوض من صاحب الطلق لم يجز وإن كان من رب الوقف جاز
(52) وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء صار له ولزم بذلك)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحد النصيبين بقدر الآخر، والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك، ولأنه تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها فلم تكن بيعاً كسائر العقود، وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثمار خرصاً والتفرق قبل القبض في قسمة المكيل والموزون وقسمة ما يكال وزناً وما يوزن كيلاً ولا يحنث فيها إذا حلف لا يبيع، وإذا كان العقار وقفاً أو نصفه وقفاً ونصفه طلقاً جازت القسمة، وإن قلنا هي بيع لم يجز ذلك فيها، وهذا إذا خلت من الرد فإذا كان فيها رد فهي بيع؛ لأن صاحب الرد يبذل المال عوضاً عما حصل له من شريكه وهذا هو البيع، فإن فعلاه في وقف لم يجز؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه، فإن كان بعضه وقفاً وبعضه طلقاً والرد من أهل الطلق لم يجز لأنهم يشترون بعض الوقف، وإن كان الرد من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وهو جائز.
مسألة 50: (وتجوز في المكيل وزناً في الموزون كيلاً وفي الثمار خرصاً) هذا إذا قلنا: إنها ليست بيعاً وهو المنصور في المذهب وأنها إفراز حق فإن ذلك كله جائز. وأما إن قلنا: إنها بيع لم يجز فيها شيء من ذلك على ما مر.
مسألة 51: (وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض، فإن كان بعضه طلقاً وبعضه وقفاً وفيها عوض من صاحب الطلق لم يجز) ؛ لأنه يشتري الوقف (وإن كان من رب الوقف جاز) ؛ لأنه يشتري الطلق من صاحبه على ما مر.
مسألة 52: (وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء صار له ولزم بذلك) ، وذلك أنا قد ذكرنا أن القسمة على ضربين: قسمة إجبار وقسمة تراض، فأما قسمة الإجبار فهي التي يمكن تعديل السهام فيها من غير رد شيء، فإذا عدلت السهام أقرع بينهم، وكيف ما أقرع جاز في ظاهر كلامه، قال: إن شاء رقاعاً وإن شاء خواتيم تطرح في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم، ثم يقال: أخرج خاتماً على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له، وعلى هذا لو أقرع بحصى أو غيره جاز ويلزم ذلك بالقرعة سواء كان(1/678)
(53) ويجب أن يكون قاسم الحاكم عدلاً وكذلك كاتبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
القاسم قاسم الحاكم أو عدلاً نصباه؛ لأن قرعة قاسم الحاكم كحكم الحاكم بدليل أنه يجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق فتنفذ قرعته، والذي رضوا به وحكموه فهو كرجل حكم بينهم في القضاء، ولو حكموا رجلاً بينهم لزم حكمه كذا هاهنا. فإما إن قسما بأنفسهما أو أقرعا أو نصبا قاسماً فاسقاً لم يلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة، ولأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه. وأما قسمة التراضي فهي التي فيها رد ولا يمكن تعديل السهام فيها إلا أن يجعل مع بعضها عوض، فهل تلزم بالقرعة؟ فيه وجهان:
أحدهما يلزم كقسمة الأجبار؛ لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه.
والثاني: لا يلزم لأنها بيع والبيع لا يلزم إلا بالتراضي، وإنما القرعة هاهنا ليعرف البائع من المشتري، فأما إن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما واحداً من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز؛ لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما، وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار، ويلزم هاهنا التراضي وتفرقهما كما يلزم البيع.
مسألة 53: (ويجب أن يكون قاسم الحاكم بينهما عدلاً وكذلك كاتبه) ويكون عارفاً بالحساب أيضاً والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه، ولا يفتقر أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا أن يكون حراً. واشترط الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يكون حراً، وتلزم قسمته بالقرعة، وإن نصبا قاسماً بينهما على صفة قاسم الحاكم فهو كقاسم الحاكم في لزوم القسمة بالقرعة، وإن كان فاسقاً أو كافراً لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها "بعد القرعة "، ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه.
[كتاب الشهادات] 1(1/679)
كتاب الشهادة (1) تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين لزمهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
كتاب الشهادات والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] . وأما السنة فروى وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله، الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلا ذلك. قال: فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى محمد بن عبيد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال، والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك وغيره، إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة بحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها. قال شريح: القضاء جمرة فنحه عنك بعودين، يعني بشاهدين، وإنما الخصم داء والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء.
مسألة 1: (وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين لزمهما القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135](1/681)
القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} [النساء: 135] الآية
(2) والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدها الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول
(3) الثاني: المال وما يقصد به المال، فيثبت بشاهدين، أو رجل وامرأتين، وبرجل مع يمين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقال سبحانه: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وخص القلب؛ لأنه موضع العلم بها، ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات. فإذا ثبت هذا فإنه إذا دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمه الإجابة، وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك، فإن قام بالفرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع، وإن امتنع الكل أثموا، وقوله: إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر" يعني أنه لو دعي إلى شهادة في مكان بعيد يشق عليه المشي إليه لم يلزمه ذلك، وكذلك إذا دعاه في وقت برد أو مطر أو طين كثير أو ثلج يتضرر بالخروج فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» .
مسألة 2: (والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدها الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول) أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا إلا أربعة، وقال سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] وأكثرهم قال: لا تقبل فيه إلا شهادة الأحرار، وقال أبو ثور: تقبل فيه شهادة العبيد، ولا يصح؛ لأنه مختلف في شهادتهم في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع قبول شهادتهم فيما يندرئ بالشبهات، ولا نعلم خلافاً في أنه لا تقبل فيه إلا شهادة العدول ظاهراً وباطناً، وأنه لا يقبل فيه إلا شهادة المسلمين سواء كان المشهود عليه مسلماً أو ذمياً.
مسألة 3: (الثاني المال وما يقصد به المال، فيثبت بشاهدين، أو برجل وامرأتين، وبرجل مع يمين الطالب) وذلك كالبيع والقرض والرهن والوصية له وجناية الخطأ لقوله سبحانه: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]-إلى قوله- {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] نص على المداينة، وقسنا عليه سائر ما ذكرناه، قال ابن أبي موسى: ولا تثبت الوصية إلا بشاهدين لقوله سبحانه:(1/682)
الطالب
(4) الثالث: ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك - فلا يقبل إلا رجلان
(5) الرابع ما لا يطلع عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ويقبل في ذلك شاهد ويمين المدعي، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي. وروى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين مع الشاهد الواحد» رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل المسانيد والسنن، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس: اليمين مع الشاهد إسناد جيد، ولأن اليمين شرعت في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه فكذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته عليها وبها، وفي حق المنكر؛ لأن الأصل براءة ذمته، والمدعي هاهنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه.
مسألة 4: (الثالث ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك فلا يقبل فيه إلا رجلان) في إحدى الروايتين لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فقيس عليه سائر ما ذكرنا، ولأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال أشبه العقوبات، والرواية الأخرى: يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين؛ لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال، وقال القاضي: النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة، والوكالة والوصية والكتابة تخرج على روايتين؛ لأن النكاح مما يحتاط له لأجل حفظ النسب.
مسألة 5: (الرابع ما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب) والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة (فتثبت بشهادة امرأة عدل؛ لأن «عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كيف وقد زعمت ذلك» متفق عليه،(1/683)
الرجال، كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب فيثبت بشهادة امرأة عدل؛ «لأن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " كيف وقد زعمت ذلك»
(6) وتقبل شهادة العبد في كل شيء إلا الحدود والقصاص (7) وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر
(8) وشهادة الفاعل على فعله كالمرضعة على الرضاع والقاسم على القسمة
(9) وشهادة الأخ لأخيه
(10) والصديق لصديقه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقسنا عليه سائرها، ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فأشبه الرواية. وعنه لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى.
مسألة: 6 (وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر) .
مسألة 7: (وتقبل شهادة العبيد في كل شيء إلا في الحدود والقصاص) على إحدى الروايتين، لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والعبد عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية فيدخل في العموم، وحديث عقبة قال فيه: «فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كيف وقد زعمت ذلك» فقبل شهادتها، ولأنه عدل غير متهم أشبه الحر. وأما الحد فلا تقبل شهادته فيه؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة لوقوع الخلاف فيها.
وفي القصاص احتمالان:
أحدهما: لا قبول لذلك.
والثاني: تقبل؛ لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار فيه أشبه الأموال، وذكر الشريف وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين، وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد حكم القن لأنهم أرقاء.
مسألة 8: (وتقبل شهادة الإنسان على فعل نفسه كالمرضع على الرضاع) لحديث عقبة، (وكذلك القاسم على القسمة) والحاكم على حكمه بعد العزل؛ لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره.
مسألة 9: (وشهادة الأخ لأخيه جائزة) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وقال الله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ولم يفصل، ولأنه عدل غير متهم فيجب قبول شهادته كالأجنبي.
مسألة 10: (وتقبل شهادة الصديق لصديقه) للآية في قول عامتهم، إلا مالكاً فإنه(1/684)
(11) وشهادة الأصم على المرئيات
(12) وشهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
(13) وشهادة المستخفي
(14) ومن سمع إنسانا يقر بحق وإن لم يقل للشاهد أشهد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قال: لا تقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً فهو متهم، كما ترد شهادة العدو على عدوه للتهمة. ولنا عموم أدلة الشهادة، وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعاً أعظم مما يرجوه الصديق من صديقه، وأما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالف الصداقة.
مسألة 11: (وتجوز شهادة الأصم على المرئيات) .
مسألة 12: (وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت) روي ذلك عن ابن عباس وعلي، لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولأنه قول علي وابن عباس ولم يعرف لهما مخالف فكان إجماعاً، ولأن روايته مقبولة فقبلت شهادته كالبصير، ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين، وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وعرف صوته يقيناً، وهذا لا سبيل إلى إنكاره، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وفارق الأفعال فإن طريق الشهادة عليها الرؤية ولا يمكنه رؤيتها، فإذا ثبت هذا فإنما يجوز له أن يشهد إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقيناً، فإن جواز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه، ولا خلاف في قبول روايته وجواز استمتاعه من زوجته إذا عرف صوتها.
مسألة 13: (وتجوز شهادة المستخفي) وهو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليستمع إقراره ولا يعلم به، كالرجل يجحد الحق علانية ويقر به سراً، فيختفي له شاهدان لا يعلم بهما فإن أقر به سراً سمعاه وشهدا عليه فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة وهو قول الشافعي، وقد روي عن أحمد لا تقبل شهادته وهو اختيار أبي بكر وابن أبي موسى؛ لأن الله سبحانه قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة» يعني لا يجوز لسامعه أن يذكره عنه لالتفاته وحذره، ولنا أنهما سمعا إقراره فقبلت شهادتهما كما لو أشهدهما.
مسألة 14: (ويجوز شهادة من سمع إنساناً يقر بحق وإن لم يقل للشاهد اشهد علي) وعنه لا يشهد حتى يقول له المقر: اشهد علي، كالشهادة على الشهادة؛ لأنه يجوز(1/685)
(15) وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة
(16) ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
لشاهد الفرع أن يشهد بها حتى يقول له شاهد الأصل: اشهد علي أني أشهد على فلان بكذا، وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإن سمعه يقر بدين شهد؛ لأن المقر بالدين معترف أنه عليه الآن، والمقر بالقرض لا يعترف بذلك؛ لأنه يجوز أنه اقترض منه ثم وفاه، وعنه رواية رابعة أنه إذا سمع الشهادة فدعي إلى إقامتها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. قال: ولكن يجب عليه إذا شهد أن يشهد إذا دعي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] قال: إذا شهدوا، والصحيح الأول؛ لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه، فجاز أن يشهد به كما يجوز أن يشهد على الأفعال من القتل والجرح والسرقة والأفعال برؤيتها، فإن السارق لا يقول: اشهدوا على أنني سرقت، وكذا كل فاعل فاحشة أو معصية، وفارق الشهادة على الشهادة فإنها ضعيفة فاعتبر تقويتها بالاسترعاء.
مسألة 15: (وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة) أجمعوا على صحة الشهادة في النسب والولادة، قال ابن المنذر: أما النسب فلا نعلم أحداً من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك قطعاً، ولا يمكن المشاهدة لسببه، وإنما نعلم ذلك من طريق الظاهر فجازت الشهادة به بالظن. وأما ما عدا النسب والولادة مما تجوز الشهادة به بالاستفاضة فذكر أصحابنا تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل؛ لأن هذه الأمور تتعذر في الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة فجاز أن يشهد بها كالنسب، وظاهر كلام أحمد أنه لا يشهد بذلك حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه، وقال القاضي: يجوز أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما؛ لأن الحق يثبت بقول اثنين.
مسألة 16: (ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص) ؛ لأن شهادة الاستفاضة ضعيفة لكونها مبنية على غلبة الظن فالأصل أن لا تجوز، وإنما جازت في هذه الأشياء حفظاً لها(1/686)
(17) وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته
باب من ترد شهادته لا تقبل شهادة صبي ولا زائل العقل ولا أخرس ولا كافر ولا فاسق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أن لا تضيع كشهادة النسب مثلاً، بخلاف الحدود والقصاص فإن مبناها على الدرء والإسقاط فاحتيج فيه إلى العلم به ليشهد به، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اشهد علي مثل الشمس أو دع.
مسألة 17: (وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته) ؛ لأن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] إلى قوله - {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]- ثم قال - {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 5] نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب، وكذلك الفاسق إذا تاب قبلت شهادته بالقياس على القاذف إذا تاب، والتوبة الندم والاستغفار من الذنب والعزم أن لا يعود، لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] الآية، وإن كانت مظلمة لآدمي فالتوبة من ذلك التخلص منه برده إلى مالكه والتحليل منه؛ لأن الحق لآدمي فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه، وتوبة القاذف إكذابه لنفسه لما روي عن عمر أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه، ولأنه بالقذف أثبت العار فبإكذابه نفسه يزيله، فإن لم يكن كاذباً قال: قذفي لفلانة كان باطلاً، وقد ندمت عليه ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه.
[باب من ترد شهادته]
(لا تقبل شهادة صبي) لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والصبيان ليسوا من رجالنا، ولأنه غير مكلف أشبه المجنون. وعنه تقبل شهادة ابن عشر إذا كان عاقلاً في حال أهل العدالة؛ لأنه يؤمر بالصلاة ويضرب عليها أشبه البالغ. وعنه شهادة الصبيان في الجراح خاصة قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير والمذهب الأول لما سبق.
الثاني (العقل) فلا تقبل شهادة المجنون والمعتوه ولا السكران ولا المبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل فعلى غيرهم أولى.
الثالث الكلام (فلا تقبل شهادة الأخرس) بالإشارة لأنها محتملة فلم تقبل كإشارة الناطق، وإنما تقبل في(1/687)
(18) ولا مجهول الحال
(19) ولا جار إلى نفسه نفعا
(20) ولا دافع عنها شرا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أحكامه المختصة به للضرورة، وهي هاهنا معدومة، ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته؛ لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر أحكامه.
الرابع: الإسلام (فلا تقبل شهادة كافر) بحال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والكافر ليس بعدل ولا مرضي ولا هو منا، إلا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم لقوله سبحانه: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] الآيات، وهذا نص، قد قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، قال أبو عبيد: قضى به ابن مسعود في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الخامس: أن يكون من أهل العدالة (فلا تقبل شهادة الفاسق) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ويعتبر في العدالة شيئان:
أحدهما: الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم بحيث لا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة، ولأن الفاسق لا يؤمن منه شهادة الزور؛ لأن الله نص على الفاسق فقسنا عليه مرتكب الكبائر، وهي كل ما فيه حد أو وعيد، واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب فإذا كان الأغلب منه فعل الطاعات لم ترد شهادته، وإن كان الأغلب فعل الصغائر بحيث يصر عليها ردت شهادته؛ لأن الحكم للأغلب بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] الآية.
مسألة 18: (ولا تقبل شهادة مجهول الحال) ؛ لأن العدالة شرط، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وهذا غير مرضي، وهو غير معلوم العدالة فلا تقبل شهادته كالفاسق.
مسألة 19: (ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً) بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه، فإن المكاتب عبد لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (رواه أبو داود) فكأنه يشهد لنفسه؛ لأن مال عبده له.
مسألة 20: (ولا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضرراً) كشهادة العاقلة بجرح شهود الخطأ لأنهم يدفعون عن أنفسهم الدية فلا تقبل للتهمة في ذلك.(1/688)
(21) ولا شهادة والد وإن علا لولده، ولا ولد لوالده
(22) ولا سيد لعبده ولا مكاتبه
(23) ولا شهادتهما له
(24) ولا أحد الزوجين لصاحبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 21: (ولا تقبل شهادة والد وإن علا لولده، ولا ولد لوالده) وإن سفل، فالولادة مانعة من الشهادة من العمودين سواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما، وعنه تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له؛ لأن مال الابن لأبيه أو في حكم ماله له أن يتملكه، فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعاً، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» (رواه ابن ماجه) ، ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه، وعنه رواية ثالثة: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنياً عنه؛ لأن كل واحد منهما لا ينتفع بذلك فلا تهمة في حقه، وعن عمر تقبل شهادة بعضهم لبعض؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ودليل الأولى ما روى الزهري عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر ولا ظنين في قرابة ولا ولاء» (رواه الترمذي) ، والظنين المتهم، والأب متهم لولده؛ لأن بينهما بضعة فكأنه يشهد لنفسه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها» (رواه البخاري) ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، والابن كذلك؛ لأنه وارث أبيه. وأما الآية فنخصها بخبرنا فإنه أخص منها.
مسألة 22: (ولا تقبل شهادة سيد عبد لعبده) ؛ لأنه يشهد لنفسه؛ لأن ماله له. (ولا تجوز شهادته لمكاتبه) لذلك.
مسألة 23: (ولا تجوز شهادتهما له) يعني لا تجوز شهادة العبد ولا المكاتب لسيدهما لأنهما متهمان في ذلك؛ لأن العبد ينبسط في مال سيده ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه.
مسألة 24: (ولا تجوز شهادة أحد الزوجين لصاحبه) في إحدى الروايتين، وتقبل(1/689)
(25) ولا شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه، ولا الشريك فيما هو شريك فيه
(26) ولا العدو على عدوه
(27) ولا معروف بكثرة الغلط والغفلة شهادته
(28) ولا من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين في حمام أو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في الأخرى؛ لأنه عقد على منفعة فلا يتضمن رد الشهادة كالإجارة، ودليل الأولى أن كل واحد منهما يرث صاحبه من غير حجب وينبسط في ماله عادة فهو متهم في حقه فلم تقبل شهادته له كالأب مع ابنه، ولأن يسار الرجل يزيد في نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يجر إلى نفسه نفعاً، ولهذا يضاف مال كل واحد منهما إلى صاحبه قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] الآية، وقال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] فأضافها إليهن تارة وإلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارة، وقال ابن مسعود للذي قال إن غلامي سرق مرآة امرأتي: عبدكم سرق مالكم. ويفارق عقد الإجارة من هذا الوجوه.
مسألة 25: (ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه) ؛ لأنه متهم في ذلك (ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه) لذلك (ولا الشريك فيما هو شريك فيه) ؛ لأنه يشهد لنفسه.
مسألة 26: (ولا العدو على عدوه) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» رواه أبو داود، والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة، وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره، وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا.
مسألة 27: (ولا من يعرف بكثرة الغلط والغفلة) ؛ لأنه لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه أو بغير ما شهد به أو لغير من أشهده، واعتبرنا كثرة الغلط؛ لأن أحداً لا يسلم من الغلط في الجملة، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسهو، فلو منع الغلط القليل الشهادة لانسد باب الشهادات، فاعتبرنا الغلط الكثير كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة، إذا ثبت هذا فينبغي للشاهد أن يكون حافظاً متيقظاً ضابطاً لما يشهد به لتحصل الثقة بقوله ويغلب على الظن صدقه.
مسألة 28: (ولا تجوز شهادة من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين(1/690)
(29) ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها
(31) ولا يسمع في الجرح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
في الحمام أو غيره) والمصافع والمغني والرقاص؛ لأن ذلك سخف ودناءة، فإذا استحسن هذا ورضيه لنفسه فلا مروءة له ولا تحصل الثقة بقوله، وروى ابن مسعود قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (رواه البخاري) أي: من لا يستحي صنع ما يشاء، فإن صنع شيئاً من ذلك متخفياً به لم يمنع قبول شهادته؛ لأن مروءته لا تسقط به.
مسألة 29: (ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها) كشهادة الشريك لشريكه والوارث لموروثه؛ لأنه يشهد لنفسه وشهادته لنفسه لا تصح كذا هاهنا.
مسألة 30: (ولا يسمع في الجرح والتعديل والترجمة ونحوها إلا شهادة اثنين) وعنه تقبل من واحد وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية، ولنا أن الجرح والتعديل إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة، وفارق الرواية لبنائها على المساهلة، ولا نسلم أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة، ويعتبر في الجرح والتعديل اللفظ فيقول في التعديل: أشهد أنه عدل، ويكفي هذا وإن لم يقل علي ولا لي لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فإذا شهد أنه عدل ثبتت عدالته عليه وله، ودخل في عموم الآية. وأما الترجمة فحكمها كذلك فإذا تحاكم إلى القاضي أعجميان لا يعرف لسانهما فلا بد من مترجم عنهما، ولا يقبل إلا من اثنين عدلين، وعنه تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز، وقال ابن المنذر في «حديث زيد بن ثابت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يتعلم كتاب اليهود قال: فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا إليه» ، ولأنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة أشبه أخبار الديانات، ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة، ويفارق أخبار الديانات لأنها لا تتعلق بالمتخاصمين. ولا نسلم أنه لا يعتبر لفظ الشهادة، ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته، فإذا ترجم له كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه، ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا هاهنا، فعلى هذا تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك(1/691)
والتعديل ونحوها إلا شهادة اثنين
(31) وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح
(32) وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف وحلف مع شاهده على الألف الآخر إن أحب
(33) وإن قال أحدهما: ألف من قرض، وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الحق، فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيها الحرية، وإن كان مالاً كفى ترجمة رجل وامرأتين، وإن كان مما لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين لم يقبل إلا ترجمة رجلين، وإن كان حد زنا ففي الشهادة على الإقرار به روايتان:
إحداهما لا يكفي إلا شهادة أربعة.
والثانية: يكفي شهادة اثنين، فالترجمة عن الإقرار به تخرج على وجهين، ويعتبر في ذلك كله لفظ الشهادة؛ لأنه شهادة. وإن قلنا: يكتفي بواحد فلا بد من عدالته، وتقبل من العبد؛ لأنه من أهل الشهادة.
مسألة 31: (وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح) قال مالك: ننظر أيهما أعدل اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه، ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه؛ لأن التعديل يتضمن نفي الريبة والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدم على النفي، ولأن الجارح يقول رأيته يفعل كذا وكذا ومستند المعدل أنه لم يره يفعل ذلك ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بأن يكون الجارح رآه يفعل ذلك والمعدل لم يره.
مسألة 32: (وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف وحلف مع شهادته على الألف الآخر إن أحب) وذلك أنه متى شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به، وعن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة؛ لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد، ولنا أن الشهادة كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهما على صاحبه، فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق، وهو قول من يرى الحكم بشاهد ويمين.
مسألة 33: (وإن قال أحدهما: ألف من قرض، وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل الشهادة) ؛ لأن كل واحد منهما شهد بغير ما شهد به الآخر، والمسألة الأولى فيما إذا أطلقا الشهادة أو عزواها إلى سبب واحد، فأما مع اختلاف الأسباب كما ذكرناه أو مع اختلاف(1/692)
الشهادة
(34) وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان أو الصفة لم تكمل شهادتهم
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها (35) تجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الصفات مثل أن يشهد أحدهما بألف دينار وآخر بخمسمائة درهم أو يشهد أحدهما بألف درهم بيض والآخر بخمسمائة سود لم تكمل البينة، لكن له أن يحلف معهما ويستحق ما شهدا به أو مع أحدهما ويستحق ما شهد به وحده. والله أعلم.
مسألة 34: (وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان والصفة لم تكمل شهادتهم) وإذا شهد أربعة بالزنا واختلفوا في المكان والزمان مثل ما إذا شهد اثنان أنه زنا بها في بيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به الآخران، أو اختلفوا في الزمان مثل أن يشهد اثنان أنه زنا بها يوم الخميس ويشهد اثنان أنه زنا بها في يوم الجمعة، أو اختلفوا في صفة الزنا فاثنان وصفاه على صفة واثنان لم يصفا شيئاً إنما شهدا بظاهر الحال لم تكمل شهادتهم لأنهم لم يشهدوا على فعل واحد فأشبه ما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما، وحكي عن أحمد أنه يجب الحد على المشهود عليه فيما إذا اختلفا في المكان والزمان؛ لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر، قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد وهذا بعيد. قال القاضي: قال أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنا بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنا بها وهي سوداء فهم قذفة، وهذا ينقض قوله.
[باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها]
مسألة 35: (وتجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي إذا تعذرت شهادة الأصل بموت أو غيبة أو مرض) ويجوز كتاب القاضي في المال وما يقصد به المال كالبيع والإجارة والرهن والوصية له، وإنما كان كذلك؛ لأن كتاب القاضي يتضمن الشهادة على القاضي، فمهما جاز فيه جاز فيها، والشهادة على الشهادة في الجملة جائزة بإجماع أهل العلم، قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة(1/693)
(36) إذا تعذرت شهادة الأصل بموت، أو غيبة، أو مرض ونحوه
بشرط (37) أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلاناً أقر عندي أو أشهدني بكذا
(38) ويعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
على الشهادة في الأموال، ولأن الحاجة داعية إليها فلو لم تقبل بطلت الشهادة بالوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم بموت الشهود وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل.
مسألة 36: وإنما تقبل (إذا تعذرت شهادة الأصل) لموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة قصر، وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهداً الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فهما كالحاضرين، ودليل جوازها مع التعذر بالغيبة أنه قد تعذرت شهادة الأصل فجاز الحكم بشهادة الفرع كما لو ماتا، ويخالف الحاضرين فإنه لا عذر لهما. إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يحضر للشهادة ثم يرجع من يومه؛ لأن على الشاهد في تكليفه لمثل ذلك ضرراً وقد قال الله سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع، وقال أبو الخطاب: تعتبر مسافة القصر؛ لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الرخص وفي كون الأقرب من عصبات المرأة إذا كان فيها لم يزوج الأبعد ولا الحاكم، وإذا كان في مسافة القصر زوج غيره فكذا هاهنا.
مسألة 37: (ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد حتى يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلاناً) ابن فلان قد عرفته بعينه واسمه ونسبه (أقر عندي أو أشهدني) على نفسه طوعاً (بكذا) نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وإنما اشترط الاسترعاء؛ لأنه إذا سمع شاهداً يقول أشهد لفلان على فلان بكذا احتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه فإنه لا يسترعيه إلا على واجب.
مسألة 38: (وتعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع) لأنهم شهود ومن شرط الشهادة العدالة لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .(1/694)
(39) ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم
(40) وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها
فصل: ومتى غير العدل شهادته فزاد فيها أو نقص قبل الحكم قبلت
(41) وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت، وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
مسألة 39: (ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم) ؛ لأنه قدر على الأصل، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل الشروع في الصلاة.
مسألة 40: (وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها) يعني إن فسق شهود الأصل أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم بها؛ لأن الحكم ينبني على شهادتهما فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا.
[فصل في تغيير العدل في الشهادة قبل الحكم]
فصل: (ومتى غير العدل شهادته قبل الحكم بها فزاد فيها أو نقص قبلت) وذلك أن يشهد بمائة ثم يقول: مائة وخمسون أو يقول: بل لقي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به آخراً، وقيل تبطل شهادته، وقيل: يؤخذ بأول قبوله؛ لأنه أداها وهو غير متهم فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحاكم ولنا أن شهادته الأخيرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب أن يحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها، وأما الأولى فلا يحكم بها؛ لأنه رجع عنها فزالت برجوعه وهي شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه.
مسألة 41: (وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت، وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر) يعني إذا فسق الشاهد قبل الحكم بشهادته لم يجز الحكم بها؛ لأن من شرط الحكم بالشهادة العدالة وقد نص تعالى بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وليس هذا بعدل فترد شهادته، وإن كان فسقه بعد حكم الحاكم بشهادته لم ينقض الحكم؛ لأن الحكم تم بشرطه؛ لأن شرطه شهادة عدل وقد وجدت.
مسألة: 42 (وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم) ؛ لأنه تم بشرطه فلم يجز نقضه باحتمال الخطأ كما لو بان للحاكم أنه أخطأ في اجتهاده باجتهاد ثان، وبيان احتمال الخطأ أنه يحتمل أن الشهود كذبوا في الرجوع لا في الشهادة، وإذا(1/695)
(42) وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم ولم يمنع الاستيفاء إلا في الحدود والقصاص
(43) وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثلياً، وقيمته إن لم يكن مثلياً
(44) ويكون ذلك بينهم على عددهم، فإن رجع أحدهم فعليه حصته
(45) وإن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فقالوا: تعمدنا فعليهم القصاص وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح
باب اليمين في الدعاوى اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلماً أو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ثبت هذا فللمشهود له استيفاء الحق المالي سواء كان قائماً أو تالفاً؛ لأن الحق ثبت له على المشهود عليه فكان له استيفاؤه كما لو لم يرجعوا عن الشهادة، (إلا في الحدود والقصاص) إذا رجع الشهود قبل الاستيفاء وقالوا: أخطأنا فعليهم دية ما تلف بشهادتهم، لأنهم تسببوا إلى الجناية خطأ، ولا تحملها العاقلة لأنها وجبت باعترافهما، وهي لا تحمل ما وجب بالاعتراف.
مسألة 43: (وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثلياً أو قيمته إن لم يكن مثلياً) للمشهود عليه لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان فلزمهم الضمان كما لو غصباه.
مسألة 44: (ويكون الضمان بينهم على عددهم) ؛ لأن الإتلاف حصل من جهتهم فأشبه ما لو غصبوه، فإذا كانوا ثلاثة غرم كل واحد منهم ثلث الواجب (وإن رجع منهم واحد غرم الثلث) .
مسألة 45: (وإن كان المشهود به قتلاً أو جرحاً فقالوا: تعمدنا فعليهم القصاص) لأنهم تسببوا إلى القتل العمد العدوان فلزمهم القصاص كما لو باشروا، (وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح) لأنهم تسببوا إلى القتل الخطأ فلزمهم ضمانه بأرشه كما لو باشروا.
[باب اليمين في الدعاوى]
(اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلماً أو كافراً) لقوله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6](1/696)
كافراً
(47) ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: «قل والله ما أردت إلا واحدة؟ قال: والله ما أردت إلا واحدة» (رواه أبو داود) . وسواء كان المدعى عليه مسلماً أو كافراً عدلاً أو فاسقاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحضرمي المدعي على الكندي: «ليس لك إلا يمينه. فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه. قال: ليس لك إلا ذلك منه» إلا أن الكافر إن كان يهودياً قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر ونجاه من فرعون وملئه، وإن كان نصرانياً يقول: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، والمجوسي يقول: والله الذي خلقني ورزقني.
1 -
مسألة 46: (وتشرع اليمين في حقوق الآدمي لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه، ولحديث الحضرمي والكندي، وقال أبو بكر: تشرع في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق؛ لأن هذا مما لا يحل بدله فلم يستحلف فيه كحقوق الله سبحانه، ولأن الأبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول؛ لأنه ليس بحجة قوية؛ لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين، ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي، ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضي به فيما يحتاط له، قال أبو الخطاب: تشرع اليمين في كل حق إلا تسعة أشياء: النكاح، والرجعة، والطلاق، والرق، والولاء، والاستيلاد، والنسب، والقذف، والقصاص؛ لأن البدل لا يدخلها فلم يستحلف فيها كحقوق الله تعالى.
مسألة 47: (ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/697)
قضى بشاهد ويمين»
(48) والأيمان كلها على البت
(49) إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي العلم
(50) وإذا كان للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
قضى بشاهد ويمين) رواه سعيد في سننه من حديث أبي هريرة قال: "قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليمين مع الشاهد الواحد" وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد (صحيح) ، وقد سبق ذلك في أول باب الشهادات.
مسألة 48: (والأيمان كلها على البت) ؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلف رجلاً فقال: "قل والله والذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء» رواه أبو داود عن ابن عباس، ولأن له طريقاً إلى العلم فيلزمه القطع بنفيه.
مسألة 49: (إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي العلم) نص عليه وذكر حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون» وفي حديث الحضرمي أحلفه «والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبها» رواه أبو داود، ولأنه لا يمكن الإحاطة بنفي فعل غيره فلم يكلف ذلك، وذكر ابن أبي موسى عنه أنه قال: على كل حال اليمين على نفي العلم فيما يدعي عليه في نفسه أو فيما يدعي عليه في ميته، وعنه في من باع سلعة فظهر المشتري على عيب فأنكره البائع: هل اليمين على نفي علمه أو على البتات؟ على روايتين:
إحداهما على البت؛ لأنه يستحق الرد عليه بالعيب القديم سواء علمه أو لم يعلمه، فإذا حلف على نفي علمه لم يلزم منه انتفاء استحقاق الرد بالعيب.
والثانية: تجزيه اليمين على نفي العلم؛ لأنه من فعل غيره أو أمر في غيره فأشبه ما لو ادعى عليه فعلاً من موروثه، وروى الإمام أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكره ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى أن يحلف، فرد عليه العبد.
مسألة 50: (وإذا كانت للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة(1/698)
الميت ثبت
(51) وإن لم يحلف فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا
(52) وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين، وإن قال أنا أحلف يميناً واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا
(53) وإن ادعى واحد حقوقاً على واحد فعليه في كل حق يمين
(54) وتشرع اليمين في كل حق لآدمي، ولا تشرع في حقوق الله من الحدود والعبادات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
الميت معه ثبت) ؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشاهد واليمين» ، أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
مسألة 51: (وإن لم يحلفوا فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا) وللشافعي في القديم يحلفون معه؛ لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم. ولنا أنهم يثبتون ملكاً لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز، كما لم يجز للزوجة أن تحلف لإثبات ملك زوجها لتعلق نفقتها به، وفارق الورثة فإنهم يثبتون ملكاً لأنفسهم.
مسألة 52: (وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين) ؛ لأن لكل واحد منهم حقاً فيلزمه لكل واحد يمين كما لو انفردوا (وإن قال: أنا أحلف يميناً واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا بها) ؛ لأن الحق لهم لا يخرج عنهم.
مسألة 53: (وإن ادعى واحد حقوقاً على واحد فعليه في كل حق يمين) كما لو كانت الحقوق على جماعة فإن على كل واحد يميناً كذا هاهنا.
مسألة 54: (15229 وتشرع اليمين في كل حق لآدمي) بدليل ما سبق في أول الباب، (ولا تشرع في حقوق الله سبحانه من الحدود والعبادات) فما كان لله خالصاً لا تسمع فيه الدعوى كحد الزنا والخمر؛ لأن الدعوى في الشيء المستحق له، والله سبحانه هو المستحق لذلك فلا تسمع فيه دعوى ابن آدم، وأما العبادات كدعوى ساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم أو كمال النصاب فالقول قول رب المال من غير يمين؛ لأنه حق لله سبحانه أشبه الحد.
[باب الإقرار] 1(1/699)
باب الإقرار (56) وإذا أقر المكلف الحر الرشيد الصحيح المختار بحق أخذ به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
باب الإقرار مسألة 55: الأصل في الإقرار قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] والاعتراف الإقرار، وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وروي أن ماعزاً أقر بالزنا فرجمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك الغامدية، وقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وأجمعوا على صحة الإقرار، ولأن الإقرار إخبار على وجه تنتفي عنه التهمة والريبة، فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذباً يضرها، ولهذا كان آكد من الشهادة، فإن المدعى عليه إذا اعترف لم تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر.
مسألة 56: (وإذا أقر المكلف الرشيد الحر الصحيح المختار بحق أخذ به) فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما لا نعلم فيه خلافاً، ولأنه لا قول لهما إلا أن يكون الصبي مأذوناً له في البيع والشراء فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه كالبيع؛ لأنه صار فيه كالبالغ؛ لأنه عاقل مختار أشبه البالغ، ولا يصح فيما زاد؛ لأنه فيه كمن لم يؤذن له أصلاً، وكذلك العبد المأذون له في التجارة لما ذكرنا.
مسألة 57: ولا يصح إلا من (رشيد) ، فأما المحجور عليه لسفه إذا أقر بمال لم يلزمه في حال حجره؛ لأنه محجور عليه بحظ نفسه فلا يصح إقراره بالمال كالصبي، ولأنا لو قبلنا إقراره بالمال لبطل معنى الحجر، ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه أشبه إقرار الراهن على الرهن، فإن فك عنه الحجر لزمه ما أقر به؛ لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجناية ونحوها.
مسألة 58: ويعتبر في صحة الإقرار (الحرية) ، فإن أقر العبد غير المأذون له بمال لم(1/700)
(61) ومن أقر بدراهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال: زيوفاً أو صغاراً أو مؤجلة لزمته جياداً وافية حالة
(62) وإن وصفها بذلك متصلاً بإقراره لزمته كذلك
(63) وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلاً به صح استثناؤه
(64) وإن فصل بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
يقبل في الحال؛ لأنه تصرف فيما هو حق لسيده ويتبع به بعد العتق عملاً بإقراره على نفسه، وعنه يتعلق برقبته كجنايته.
مسألة 59: ويعتبر في صحة الإقرار (الصحة) ، فلو أقر المريض مرض الموت المخوف بمال لغير وارث لم يصح في إحدى الروايتين بزيادة على الثلث؛ لأن ما زاد على الثلث تعلق به حق الورثة فلم يصح إقراره به، وفي الأخرى يصح؛ لأنه غير متهم فيه، وإن أقر لوارث بدين لم يصح إقراره إلا ببينة، إلا أن يجيز الورثة؛ لأنه إيصال المال إلى الوارث فلم يصح كالوصية، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون فيصح؛ لأن سببه ثابت وهو النكاح.
مسألة 60: ويعتبر أن يكون (مختاراً) للإقرار، فأما المكره فلا يصح إقراره كما لا يصح طلاقه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، رواه سعيد.
مسألة61: (وإن أقر بدراهم ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفاً أو صغاراً أو مؤجلة لزمته جياداً وافية حالة) ؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك بدليل ما لو باعه بألف درهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك، فإذا سكت استقرت في ذمته كذلك فلا يتمكن من تغييرها.
مسألة 62: (وإن وصفها بذلك متصلاً بإقراره لزمته كذلك) ؛ لأنه أقر بها كذلك فلزمه حكم إقراره لا غير، ويحتمل أنه إذا أقر بها مؤجلة أن تلزمه حالة؛ لأن الأجل يمنع من استيفاء الحق في الحال، وإن فسر الزيوف بما لا فضة فيه لم يقبل؛ لأنه أثبت في ذمته شيئاً وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة، وإن فسره بمغشوشة قبل؛ لأنه يحتمل لفظه ذلك.
مسألة 63: (وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلاً صح استثناؤه) ؛ لأنه استثناء ما دون النصف وهو لغة العرب، قال الله سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] .
مسألة 64: (وإن فصل بينهما بسكوت يمكنه الكلام فيه أو بكلام أجنبي أو استثنى(1/701)
بسكوت يمكنه الكلام أو بكلام أجنبي أو استثنى أكثر من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله
(65) ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة، لم يقبل قوله ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها
(68) ومن أقر بشيء مجمل قبل تفسيره بما يحتمله
فصل: ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء، إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له
(69) وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ به وإن أقر بمال لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
أكثر من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله) ، أما إذا فصل بينهما بسكوت أو كلام فإنه يلزمه الكل؛ لأن الاستثناء بعد ذلك جحود بعد إقراره فلا يسمع، وأما إذا استثنى أكثر من النصف فلا يقبل؛ لأنه ليس من لسان العرب، قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلماً بالعربية فلا يقبل. وإن استثنى من غير جنسه كقوله: له عندي مائة إلا ثوباً لم يقبل أيضاً؛ لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه، من قولهم ثنيت عنان دابتي أي رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه، ولا يوجد هذا في غير الجنس، ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى لكن، والإقرار إثبات.
مسألة 65: (ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة، لم يقبل قوله) ؛ لأن ذلك على الإيجاب ويقتضي ذلك كونها في ذمته ولهذا لو قال: ما على فلان علي كان ضامناً.
1 -
مسألة 66: وإن قال: له عندي ثم قال: وديعة قبل؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال: له عندي دراهم ثم فسرها بدين ولا نعلم في ذلك خلافاً.
1 -
مسألة 67: (ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة) لأنها أقل الجمع (إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها) ؛ لأنه يقر على نفسه.
مسألة 68: (وإن أقر بشيء مجمل) كقوله: له علي شيء (قبل تفسيره بما يحتمله) فلو فسره بدرهم أو دونه صح؛ لأنه يحتمله.
[فصل في إقرار غير المكلف]
(فصل: ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء، إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له فيه) وقد سبق ذلك في أول الباب.
مسألة 69: (وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ به) ؛ لأنه غير متهم في(1/702)
يقبل إقراره، وكذلك الحكم في إقرار العبد إلا أنه يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا أن يكون مأذونا له في التجارة فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه، ويصح إقرار المريض بالدين لأجنبي، ولا يصح إقراره في مرض الموت لوارث إلا بتصديق سائر الورثة، ولو أقر لوارث فصار غير وارث لم يصح، وإن أقر له وهو غير وارث ثم صار وارثا صح إقراره
(70) ويصح إقراره بوارث
(71) وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه إلا إن خلف تركة فيتعلق دينه بها، فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة فلهم ذلك
(72) وإن أقر جميع الورثة بدين على مورثهم ثبت بإقرارهم، وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
ذلك، ولأنه غير محجور عليه في ذلك، (فإن أقر بمال لم يقبل إقراره، وكذلك العبد) وقد سبق ذلك أيضاً (وكذلك إقرار المريض بالدين لأجنبي) ولو أقر لوارث ثم صار غير وارث لم يصح؛ لأنه متهم حال الإقرار، وإن أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح؛ لأنه غير متهم نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلناه، يعني يصح في الأولى ويبطل في الثانية؛ لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فاعتبر بحال الموت كالوصية.
مسألة 70: (ويصح إقراره بوارث) ؛ لأنه عند الإقرار غير وارث. وعنه لا يصح؛ لأنه عند الموت وارث.
مسألة 71: (وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه) كما لا يلزمهم وفاؤه في حياته، (فإن خلف تركة تعلق دينه بها) بمنزلة المرتهن يتعلق دينه بالرهن فيقدم حقه على حق الراهن كذلك التركة يتعلق دين الميت بها فتقدم على الميراث، (فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة كان لهم ذلك) كالراهن مع المرتهن إذا قضى الدين خلص له الرهن، وإن لم يقضه بيع واستوفى المرتهن حقه كذا هاهنا.
مسألة 72: (وإن أقر جميع الورثة بدين على موروثهم ثبت بإقرارهم) لأنهم أقروا على أنفسهم وإقرار العاقل على نفسه لازم بغير خلاف نعلمه، ويلزمهم وفاؤه من التركة؛ لأنه تعلق بها. (وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه) كما لو أقر بوصية (فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهماً) ؛ لأنه مقر على أبيه بدين ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه؛ لأنه مقر على نفسه وأخيه فقبل إقراره على نفسه(1/703)
فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهماً، فإن كان عدلاً وشهد بها فللغريم أن يحلف مع شهادته ويأخذ باقيها من أخيه
(73) وإن خلف ابناً ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما، وإن كانا في مجلسين فهو للأول ولا شيء للثاني
(74) وإن كان الأول ادعاها فصدقه الابن، ثم ادعاها آخر فصدقه الابن، فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها لأنه فوتها عليه بإقراره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العُدَّة شرح العُمْدة]
دون أخيه، (إلا أن يكون عدلاً فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ مائة) وتكون المائة الباقية بين الابنين، وإنما لزم الآخر الخمسون؛ لأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين؛ لأنه بقدر ميراثه، ولو لزمه جميع الدين لم تقبل شهادته على أخيه لكونه يدفع بها عن نفسه ضرراً، ولأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين كما لو ثبت ببينة.
مسألة 73: (وإن خلف ابناً ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما) ؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد بدليل القبض فيما يعتبر فيه القبض وإن كان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار. (وإن كانا في مجلسين فهي للأول) ؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له فلا يقبل إقرار الورثة بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار بحق على غيره؛ لأنه يقر بتعلق حق الثاني بالتركة التي تعلق بها حق الأول واستحقاقه لمشاركته فيها ومزاحمته عليها، وإقراره على غيره لا يقبل.
مسألة 74: (وإن كان الأول ادعاها) وديعة (فصدقه الابن، ثم ادعاها آخر فصدقه الابن، فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها له؛ لأنه فوتها عليه بإقراره) للأول فقد حال بينه وبين ماله الذي أقر له به فلزمه غرمه كما لو أقر له به ثم أتلفه، وإن أقر بها لهما معاً فهي بينهما، وإن أقر بها لأحدهما وحده فهي له ويحلف للآخر أنه لا يعلم أنها له، وإن نكل قضى عليه بالغرم؛ لأن النكول كالإقرار في الحكم، ولو أقر لزمه الغرم فكذلك إذا نكل عن اليمين. والله تعالى أعلم بالصواب.(1/704)