الأولى: عموم النظر في عموم العمل.
الثانية: خصوص النظر في خصوص العمل.
قوله: «أو في أحدهما» نبدأ بالنظر، خصوص النظر في عموم العمل: أن يقول: وليتك الفرائض في منطقة الحجاز، فكل منطقة الحجاز ترجع إلى هذا الرجل في الفرائض فقط، وعموم النظر في خصوص العمل: أن يقول: ولّيتك جميع الأحكام في مكة، فيدخل فيها البيوع والإيجارات، والأوقاف، والأنكحة، والفرائض، والجنايات، والحدود وغير ذلك؛ لأنه قال له: وليتك عموم النظر في مكة، يعني جميع الأحكام في مكة، إذاً ينظر في جميع الأحكام لكن في مكة خاصة، فلو ذهب إلى جدة فما يكون حاكماً فيها، فكانت الصور أربعاً.
وهل يجوز أن يوليه خاصاً في الخاص، بمعنى أن يقول له: وليتك الحكم في المناسخات من علم الفرائض؟ يجوز، فيكون هذا الرجل مثلاً قد بلغ القمة في علم الفرائض، فيقول: وليتك النظر في المناسخات فقط، وهذا أكثر ما يكون في الانتدابات، تكون مسائل معقدة في أملاك موروثة من قديم وفيها مناسخات، فينتدب لها شخص معين ينظر فيها، أما على سبيل أنه ولي دائم، فهذا قليل، لكن مع ذلك يصح.
الآن هناك قضاة يولون خصوص النظر في خصوص العمل، مثل أن يقال: قاضي الأنكحة في الرياض، فيتولى الأنكحة عقدها وفسخها، لكن تأتيه مسألة في البيع يقول: ما لي فيها نظر.
والفائدة من ذكر هذه الصور الأربع أن من وُلي في صورة(15/270)
منها لم يملك غيرها، فمن وُلي في الأنكحة ونظر في الفرائض لم ينفذ حكمه ولو حكم بالشرع، وهذا يدلك على أن الإسلام ينظر إلى هذه المسائل على وجه الضبط؛ لأنه لو خلي الأمر متفلتاً، كلٌّ يتكلم ويحكم بما شاء، ضاعت الأمور، اللهم إلا في مسألة التحكيم، يعني لو أن رجلين رضيا أن يُحكما فلاناً في مسألة بينهما، وإن لم تكن مما وُلي فيه، فهذا لا بأس به، حتى ولو رضيا أن يحكِّما شخصاً غير قاضٍ كما سيأتي، لكن القضاء الذي يكون مستنداً إلى تولية ولي الأمر لا يمكن أن ينفذ حكمه إلا على حسب ما خط له.
وَيُشْتَرَطُ فِي القَاضِي عَشْرُ صِفَاتٍ، كَوْنُهُ بَالِغاً، عَاقِلاً، ذَكَراً، حُرّاً، مُسْلِماً، عَدْلاً، سَمِيعاً، بَصِيرَاً، مُتَكَلِّماً، مُجْتَهِداً، وَلَوْ فِي مَذْهَبِهِ،...........
قوله: «ويشترط في القاضي عشر صفات» قبل أن نتكلم عن هذه الصفات، يجب أن نعرف أن كل ولاية وعمل لا بد فيه من ركنين: القوة والأمانة، القوة، على ذلك العمل، والأمانة فيه، فالعمل الذي يتطلب العلم لا بد أن يكون المتولي له عالماً، والذي يعتمد قوة البدن لا بد أن يكون متوليه قوي البدن، ولا بد أن يكون أميناً؛ لأن من ليس بأمين لا يمكن أن ينفذ العمل على الوجه المرضي، ويدل على هذين الركنين قول العفريت من الجن لسليمان عليه السلام لما قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل] ، أيضاً قوله تعالى عن ابنة صاحب مدين: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] ، فكل عمل وكل ولاية لا بد فيها من هذين الركنين: القوة والأمانة، ومن الأعمال الهامة التي هي من أجَلِّ(15/271)
الأعمال في الإسلام القضاء، فلا بد أن يكون القاضي قوياً وأميناً، ولننظر في الأوصاف التي ذكرها المؤلف على أي الأمرين تنطبق؟ وهل هي وافية بالمقصود، أو زائدة عن المقصود؟ لأن الأصل يرجع إليه في الجزئيات.
الأولى: قوله: «كونه بالغاً» .
الثانية: قوله: «عاقلاً» .
الكمال البلوغ والعقل، والنقص في الصغر والجنون، فالصغير الذي دون البلوغ لا يكون قاضياً ولو بلغ من العلم ما بلغ، ولو بلغ من الذكاء ما بلغ، فلا يمكن أن يكون قاضياً أبداً، والناقص فيه القوة، فلا يقوى على الحكم بين الناس.
وقوله: «عاقلاً» ضده المجنون، فالمجنون لا يصلح أن يكون قاضياً؛ لأنه لا عقل له، وعلى أي الوصفين يدور هذا؟
على القوة إذاً لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً؛ لأن بفواتهما فوات القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، لأنهما يحتاجان إلى ولي هما بأنفسهما، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.
الثالثة: قوله: «ذكراً» ضد الذكر الأنثى والخنثى، فلا بد أن يكون القاضي ذكراً، والدليل على اشتراط الذكورة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة» (1) ، فكلمة «قوم» نكرة تشمل كل قوم، فكل قوم ولوا أمرهم امرأة فإنهم لن يفلحوا، وهذا الحديث له سبب وهو أنه لما مات كسرى ولت الفرس
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي/ باب كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى كسرى وقيصر (4425) عن أبي بكرة رضي الله عنه.(15/272)
عليهم ابنته، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» ، فقيل في الحديث: إنه عام؛ لأن كلمة «قوم» نكرة في سياق النفي فتكون عامة، والقوم هم الرجال؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] وإذا أطلق القوم وحدهم ربما يدخل فيه النساء كقول الرسل لأقوامهم: {يَاقَوْمِ} [نوح: 2] و {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ} [البقرة: 54] وما أشبه ذلك، ويرى آخرون أنه خاص، يعني كأنه قال: هؤلاء القوم لا خير فيهم ولن يفلحوا؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة، وبناء على هذا القول يقول مدعوه: إنه لا يلزم أن لا يفلح كل قوم ولوا أمرهم امرأة؛ لأننا نرى أقواماً ولوا أمرهم امرأة ونجحت! وهؤلاء هم الدعاة الذين يدعون إلى أن تكون المرأة وزيراً، ورئيساً، وما أشبه ذلك، ويقولون: هذا الحديث لا يمنع، فهو ورد في قوم معينين، يعني لن يفلح هؤلاء القوم؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة.
ولكن نحن نقول: إن هذا الحديث وإن تنازلنا وقلنا: إنه يراد به هؤلاء القوم الذين ولوا أمرهم امرأة، فإننا نقول: ومن سواهم مثلهم، يقاس عليهم، فأي: فرق بين الفرس وغيرهم؟! المقصود أن عدم الفلاح رتب على كون الوالي امرأة، ولا فرق فيه بين الفرس والعرب والروم وغيرهم، فإذا كان لا يشمل من سوى الفرس بمقتضى اللفظ فإنه يشمله بمقتضى المعنى، وكيف لا يفلح هؤلاء القوم لما ولوا أمرهم امرأة، ويفلح أقوام آخرون ولوا أمرهم امرأة؟!(15/273)
فإن قال قائل: بماذا تجيبون عن الواقع، فرئيسة وزراء بريطانيا امرأة، ورئيسة الفلبين امرأة، وغيرهم من الأمم الكافرة؟
قلنا: نحن نقول: إن هؤلاء إن كانوا قد أفلحوا فلأن الذين يديرون الحكم في الواقع رجال يساعدونها ويعينونها، ولم تستبد هي كما تستبد الملكة في عهد كسرى.
جواب آخر نقول: لعلهم لو ولوا أمرهم رجلاً لكانوا أفلح منهم الآن، وما يدرينا؟ فلعل تولية المرأة على هؤلاء القوم نقص من فلاحهم، ولم يفقد الفلاح مطلقاً ولكن نقص، أما الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه قال: «لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة» (1) .
إذاً في الإسلام لا يصح أن تتولى امرأة القضاء؛ لأنه يشترط في القاضي أن يكون ذكراً، والدليل هو ما سبق.
وأما التعليل فقالوا: لأن المرأة ضعيفة العقل والتدبير والتصرف، وضعيفة الإدراك، فلا تدرك الأمور على ما ينبغي، صحيح أنه يوجد من النساء من تدرك، لكن غالب النساء لا تدرك.
أيضاً فيها وصف ثالث وهو أن المرأة قريبة العاطفة، كل شيء يبعدها، وكل شيء يدنيها، يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك سوءاً لقالت: ما رأيت خيراً قط» (2) ، فهي سريعة العاطفة، تنعطف
__________
(1) سبق تخريجه ص (272) .
(2) أخرجه البخاري في الجمعة/ باب صلاة الكسوف جماعة ... (1052) ، مسلم في الكسوف/ باب ما عرض على النبي في صلاة الكسوف ... (907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(15/274)
بكل سهولة، ولهذا تخدع كثيراً، يأتي رجل من المتحاكمين إليها، يكون قوياً ومؤثراً، فيؤثر على هذه المرأة ويقلبها رأساً على عقب، وعقباً على رأس، فيتوجه الحكم إلى زيد، فإذا تكلم الثاني تحول الحكم إلى عمرو؛ فهي ضعيفة، والذي فات فيها القوة، فلا تتحمل أن تتولى أمور المسلمين.
فإن قيل: قد وُليت عائشة ـ رضي الله عنها ـ القضاء في معركة الجمل.
فالجواب: أن ذلك يحمل على أنه من خصائص أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وإذا شئنا قلنا: إنه انطبق عليها الحديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1) ، فقد حصل بذلك شيء عظيم، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ في مسألة التحكيم أنه لو حُكِّمت امرأة فلا بأس، لكن أن تولى منصباً عاماً فهذا لا يجوز.
وأما الخنثى فلأنه فقد شرط الذكورة، ولأنه لا يعلم أذكر هو أو أنثى؟ فلا نتحقق الفلاح الذي يكون بتولية الرجل.
وظاهر كلام المؤلف أن الأنثى لا تكون قاضية حتى في حق الإناث، وهو كذلك فلا تتولى القضاء بينهن، وأما سوى القضاء من الشهادات، أو أن تكون حَكَماً في صلح، أو أن تكون قايفة وتحكم بالقيافة التي تعرفها، وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به، لكن في القضاء لا يصح ولو كان القضاء بين نساء.
__________
(1) سبق تخريجه ص (272) .(15/275)
الرابعة: قوله: «حراً» وضده المملوك، ولا بد أن يكون حراً كامل الحرية، والتعليل:
أولاً: أن الرقيق غالباً يكون قاصراً؛ لأنه يشعر بأنه دون غيره فلا تجده يستوعب الأشياء، ولا ينظر إليه نظر الجد.
ثانياً: أن الرقيق مشغول بخدمة سيده، والقضاء يحتاج إلى تفرغ للنظر في الحكم بين الناس.
وليس هناك دليل من الكتاب، ولا من السنة يمنع أن يكون الرقيق قاضياً، ولهذا فالقول الراجح أن الرقيق يصح أن يكون قاضياً إذا توفرت فيه شروط القضاء، وهي القوة والأمانة، فإذا كان عنده علم، وعنده أمانة وصدق، فما المانع من أن يكون قاضياً؟!
أما التعليل بأنه مشغول بخدمة سيده، فإننا نقول: إذا أذن سيده أن يكون قاضياً فأين الشغل؟! نعم لو أبى سيده أن يكون قاضياً فله الحق، وحينئذٍ يمتنع أن يولى الرقيق، لا من جهة أنه غير صالح، لكن من جهة أنه مملوك لغيره.
إذاً هذا الوصف الصحيح أنه ليس بشرط، وأن الرق مانع لكونه مشغولاً بخدمة سيده فقط، وأما أنه يرى نفسه قاصراً عن غيره وما أشبه ذلك، فهذا تعليل لكن ليس مطرداً، فإن من الأرقاء من إذا آتاه الله العلم عرف مكانه بين الناس، وصار مفتياً ومعلماً ونافعاً لعباد الله.
الخامسة: قوله: «مسلماً» وضده الكافر، سواء كان من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب، فلا يصح أن يولى غير المسلم(15/276)
القضاء؛ لأن غير المسلم إذا تولى القضاء فبأي حكم يحكم؟ بغير ما أنزل الله، والله ـ عزّ وجل ـ أمر أن نحكم بين الناس بما أنزل، وهو الحق.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز أن يولى القضاء ولو على أمة كافرة، فمثلاً إذا كان أهل الذمة تحت ولاية المسلمين، فإنه لا يجوز لولي الأمر أن ينصب فيهم قاضياً منهم، بل ينصب قاضياً من المسلمين، أما إذا تحاكموا هم إلى واحد منهم، ونصبوا حكماً بينهم فإننا لا نتعرض لهم، لكن كوننا نولي عليهم قاضياً باسم خليفة المسلمين، فهذا لا يجوز.
السادسة: قوله: «عدلاً» وضده الفاسق، وهو من أصر على صغيرة، أو فعل كبيرة، ولم يتب منها، فإذا وجدنا شخصاً يحلق لحيته لكنه عالم وقوي، فإننا لا نوليه لفسقه، وإذا وجدنا شخصاً مسبلاً ثوبه فإننا لا نوليه القضاء؛ لأنه فاسق، وإذا وجدنا شخصاً يغتاب الناس، ويأكل لحومهم فلا نوليه القضاء، وإن كان عالماً وقوياً؛ وذلك لفسقه، والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فأمر الله ـ عزّ وجل ـ أن نتبين خبر الفاسق، وهذا يدل على أن خبره لا يقبل على سبيل الإطلاق، وإنما يُتَبين فيه، ومعلوم أن القضاء يتضمن الخبر؛ لأن القاضي يقول للمدعي والمدعى عليه: هذا حكم الله، فحكمه متضمن الخبر، فلا يقبل.
وأما التعليل؛ فلأن الفاسق لا يؤمن أن يحيف لفسقه، وأضرار المعاصي على القلب والاتجاه والسلوك ظاهرة جداً، فلا(15/277)
يصح أن يكون قاضياً، ولكن يجب أن نعلم أن هذا الشرط يطبق، أو يعمل به بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا حاكماً فاسقاً فإننا نوليه، ولكن نختار أخف الفاسقين فسقاً، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وإلا فلو نظرنا لمجتمعنا اليوم لم نجد أحداً يسلم من خصلة يفسق بها، إلا مَنْ شاء الله، فالغِيبة فسق وموجودة بكثرة، والتغيب عن العمل، والإصرار على ذلك، وكونه لا يأتي إلا بعد بداية الدوام بساعة، ويخرج قبيل نهاية الدوام بساعة مثلاً، فالإصرار على ذلك فسق؛ لأنه ضد الأمانة، وخيانةٌ، وأكلٌ للمال بالباطل؛ لأن كل راتب تأخذه في غير عمل، فهو من أكل المال بالباطل، ولو نظرنا ـ أيضاً ـ لمجتمعنا لوجدنا كثيراً من الناس يتهاون في إسبال الثوب، ولا يهمه إذا أسبل، ونجد ـ أيضاً ـ كثيراً من الناس يتهاون بالنيل من لحيته، إما حلقاً أو تقصيراً، فإذا كنا لا نجد في الناس من يتصف بصفات العدالة، فإننا نولي أخف الفاسقين فسقاً.
والمعصية وإن كانت تفسق فهل تزيل الولاية، أو نقول: إن الولاية شيء والفسق شيء آخر؛ لأن من الناس من يكون فاسقاً، لكن ولايته من أتم ما يكون من الولايات؟
السابعة: قوله: «سميعاً» وضده الأصم الذي لا يسمع، فلو وقع عند أذنه أقوى صوت في الدنيا ما سمعه، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً، قالوا: لأنه لا يسمع كلام الخصمين، وظاهر كلامهم أنه لا يصح أن يكون قاضياً ولو أمكن إيصال كلام الخصمين إليه عن طريق الكتابة، أو الإشارة، وقد أدركت رجلاً(15/278)
كان لا يسمع أبداً، ولو أطلقت الرصاص جنب أذنه ما سمع، لكنه يكتب، ويعرف الإشارة معرفة عظيمة، وكان عنده لوح من حجر صغير يضعه في مِخباته، فإذا لاقاك أشار أَنِ السلام عليكم، ثم أخرج اللوح وقال: اكتب، يعني إن جاءك أخبار ونحو ذلك، ولهذا كان من أعلم الناس بالأخبار، حتى أخبار الدول وغيرها يعلمها؛ لأنه حريص على تلقي الأخبار.
إذاً كلام الفقهاء يقتضي أن الأصم لا يصح أن يكون قاضياً، ولو فهم كلام الخصمين بالإشارة، أو بالكتابة، أما بالإشارة فقالوا: إنه لو فهم بالإشارة فقد لا يحسن الخصم الإشارة، قد يشير بشيء يتصوره القاضي شيئاً آخر، والإشارات تختلف، لكن الكتابة بحروف واضحة مقروءة، يكتب الخصم ثم يعرض على القاضي، ويطلب من المدعى عليه الدفاع، أو الإقرار، فهذا ممكن، فإذا كانت العلة في منع نصب الأصم قاضياً هي عدم سماع الخصمين، فإننا نقول: إذا أمكن أن تصل حجة الخصمين إلى هذا القاضي بأي وسيلة، زالت العلة، وإذا زالت العلة زال الحكم.
الثامنة: قوله: «بصيراً» يعني غير أعمى، فالأعمى لا يصلح أن يكون قاضياً؛ قالوا: لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، فربما يتكلم أحدهما مقلداً للآخر، فيحسب أنه هو ذلك المُقلَّد؛ لأنه لا يميز الأشياء إلا بالصوت، والصوت يمكن تقليده، فيمكن أن يقول المدعي: أنا أدعي على فلان بعشرة آلاف ريال، فيقول القاضي: ماذا تقول؟ فيقلد ذاك صوت المدعى عليه يقول: نعم،(15/279)
عندي له عشرة آلاف ريال، فبناء عليه يحكم القاضي، ولذلك قالوا: إنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه، وتشتبه عليه الأصوات، فربما يحكم لمن ليس له الحق بسبب ذلك.
ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأننا نشاهد أن الأعمى يدرك بحسه السمعي، أكثر مما يدرك البصير بحسه السمعي، فعنده إدراك قوي بحاسة السمع، ويعرف الأصوات، وأما معرفة من هو المدعي من المدعى عليه، فهذا حاصل لكل أحد، فالمدعي من إذا سكت تُرك، والمدعى عليه إذا سكت لم يُترك، فالصحيح أنه لا يشترط أن يكون بصيراً، وأن الأعمى يصح أن يكون قاضياً، صحيح أن البصير أكمل، لكن كونه شرطاً، بحيث إذا لم نجد إلا أعمى فإننا لا نوليه، فهذا غير صحيح.
التاسعة: قوله: «متكلماً» لأن الأخرس إذا كان قاضياً فكيف يكلم الخصمين؟! فلا بد أن ينطق؛ لأن المسألة تحتاج إلى تصريح مفهوم، والإشارة قد تكون مفهومة، وقد تكون غير مفهومة، ولكن إذا كان يكتب فإنه يزول المانع في الواقع؛ لأن الكتابة تعبر عما في القلب، كما يعبر اللسان عما في القلب، فإذا كان يستطيع أن يكتب فلا شك أنه يجوز أن يكون قاضياً، صحيح أن النطق أسرع من الكتابة، لكن إذا وجدنا هذا الرجل أهلاً للقضاء، ولم يبقَ عليه إلا النطق، فلا يمكن أن نمنعه القضاء من أجل أنه لا ينطق، ونقول: يكتب ويشير، والإنسان الملازم للشخص يعرف إشارته كما يعرف نطقه بلسانه، فالعارف بالإشارة إذا كان إلى جانب القاضي يكون كالمترجم عنه، فالمترجم يترجم(15/280)
العبارة وهذا يترجم الإشارة ولا فرق، إذاً نقول: إن اشتراط كون القاضي متكلماً فيه نظر، وأنه يجوز أن يولى الأخرس بشرط أن تكون إشارته معلومة، أو كتابته مقروءة فإذا حصل هذا أو هذا صح أن يكون قاضياً.
العاشرة: قوله: «مجتهداً ولو في مذهبه» فلا بد أن يكون القاضي مجتهداً، والاجتهاد نوعان:
الأول: اجتهاد مطلق، وهو الاجتهاد في أقوال العلماء كلهم، بحيث يطبق هذه الأقوال على النصوص، ويختار ما هو الصواب.
الثاني: اجتهاد في المذهب، فهو لا يخرج عن المذهب ولا يطالع أقوالاً سوى المذهب، لكنه في المذهب مجتهد يقارن بين الأقوال، ويعرضها على الكتاب والسنة، ويعرف الراجح من المرجوح، بل ظاهر كلامهم أنه إذا عرف الراجح من المرجوح، ولو باعتبار كلام فقهاء المذهب فإنه يسمى مجتهداً في مذهبه، فالمجتهد في مذهبه، إما أن يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على الكتاب والسنة ويعرف الراجح، أو يكون ممن يعرض أقوال أصحاب المذهب على أئمة المذهب، وينظر ما عليه الأئمة فيختاره.
وقوله: «مجتهداً» خرج بذلك المقلد الذي لا يجتهد أبداً، يأخذ مثلاً: «الروض المربع» أو «منتهى الإرادات» أو «الإقناع» ويمشي عليه، ولا ينظر في الأقوال ولا يقارن بينها، فهذا لا يصح أن يكون قاضياً؛ لأنه مقلد غير مجتهد، فلا يقارن بين(15/281)
الأقوال ويختار الأرجح، والمقلد، قال ابن عبد البر: إنه ليس من العلماء بإجماع العلماء، وصدق؛ لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] فمن احتاج إلى الرجوع إلى غيره فليس من أهل الذكر، وليس من أهل العلم، وعلى هذا نقول: يشترط في القاضي أن يكون مجتهداً.
وأما المقلد فلا حظَّ له في القضاء، ولا يجوز أن يولى القضاء؛ كما أنه لا يجوز له أن يفتي، وإنما إذا أراد أن يفتي، ودعت الضرورة لسؤاله، يقول: قال الإمام أحمد، أو صاحب الكافي، أو صاحب الإقناع، فينسب القول إلى قائله، كما أن العامي إذا سمع عالماً من العلماء يتكلم بشيء فإنه لا يفتي به، وإنما يقول: قال العالم الفلاني: كذا وكذا؛ لأنه لم يصل إلى درجة الفتوى حتى يصدر القول من عند نفسه، ولكن ينسب القول إلى قائله، كالصحابي يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كذا وكذا، فينسب الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا الشرط الأخير الاجتهاد ولو في المذهب، نقول: هو شرط لكن بحسب الإمكان، فإذا لم نجد إلا قاضياً مقلداً فإنه خير من العامي المحض؛ لأن العامي المحض ما يستفيد شيئاً ولا يفيد، والمقلد معتمد على بعض كتب المذهب الذي يقلده، فعنده شيء من العلم، ولكن يقدم المجتهد في النصوص على المجتهد في أقوال الأئمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا(15/282)
يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعَدَمٍ أنفعُ الفاسقين، وأقلُّهم شراً، وأعدلُ المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في الفروع: «وهو كما قال» أي: كما قال الشيخ، وصدق الشيخ ـ رحمه الله ـ فهذه الشروط العشرة شروط إذا أمكن تطبيقها، فإذا لم يمكن، يُولى الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام الله عزّ وجل، قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، فإذا لم نجد أحداً يتصف بهذه الصفات وإنما يتصف ببعضها أخذنا بقدر الإمكان.
مسائل: هل يجوز تولية أهل البدع القضاء؟
أهل البدع ينقسمون إلى قسمين: أهل بدع مكفرة، فهؤلاء انتفى عنهم شرط الإسلام، وأهل بدع مفسقة انتفى عنهم شرط العدالة، فإذا كانت البدعة مفسقة فلا يولى، ولو على أهل بدعته، وكل بدعة تكفر المجتهد فهي تفسق المقلد. ولو ترك الرجل الوتر فهل يولى القضاء؟ قال الإمام أحمد رحمه الله من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة. قال لأن تهاونه بالوتر يدل على تهاونه بالشهادة فأتي من عدم الأمانة.
وهل المتعصب لأقوال إمامه يولى القضاء؟ إن كان يوجد مجتهد في النصوص والعمل بالأدلة فلا يولى المجتهد في أقوال الأئمة فقط وهو الذي يهمه تطبيق أقوال إمامه دون الالتفات للأدلة، لكن إذا لم يوجد مجتهد في النصوص فإنه يولى المجتهد في المذهب.(15/283)
وَإِذَا حَكَّمَ اثْنَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلاً يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي الْمَالِ وَالْحُدُودِ وَاللِّعَانِ وَغَيْرِهَا.
قوله: «وإذا حَكَّم اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء» «إذا حكم» أي: جعلاه حكماً، وتحكيم غير القاضي ثابت في القرآن، قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] فأصل التحكيم ثابت في القرآن، كذلك عمر وأبي بن كعب ـ رضي الله عنهما ـ تحاكما إلى زيد بن ثابت (1) ـ رضي الله عنه ـ فحكم بينهما.
وقوله: «وإذا حكَّم اثنان» هذا على سبيل المثال، فلو حَكَّم أربعةٌ رجلاً جاز.
وقوله: «رجلاً» وصف طردي وليس بقيد، فلو حُكمت امرأةٌ، أو حكمت امرأتان امرأةً فإن ذلك لا بأس به، وهو جائز، فلو فرض أن امرأةً عندها علم وأمانة وثقة ومعرفة، فتحاكم إليها رجلان فحكمت بينهما فلا بأس، ولا مانع؛ لأن هذه الولاية ليست ولاية عامة حتى نقول: لا بد فيه من الذكورية، إنما هو رجلان أو خصمان اتفقا على أن يكون الحكم بينهما هذه المرأة، وهذا التحكيم يشبه المصالحة من بعض الوجوه.
وقوله: «إذا حكم اثنان بينهما رجلاً» لو حَكَّم أحدُ الخصمين صاحبه أي: لو أن أحد المدعيين حَكَّم الآخر، أيجوز ذلك أو لا؟
الصحيح: أنه يجوز، وإن كان ظاهر كلام المؤلف عدم الجواز، فلو أن رجلاً ادعى على شخص شيئاً ما، وقال له هذا
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/145) .(15/284)
الشخص: حكم نفسك، أنا أرضى أن تحكم لي أو عليّ، فلا مانع.
فإذا قال قائل: إن فيه مانعاً؛ لأن المدعي قد حكم لنفسه بالحق؛ لأنه ادعاه، قلنا: إن الإنسان قد تختلف حاله عند التحكيم عن حاله عند الدعوى، فيدعي على إنسان شيئاً، فإذا قال له: أنا أحكمك، لا شك أنه سيتراجع عن دعواه، إما لكونه يخجل ويستحيي، أو لكونه يخاف الله عزّ وجل، ويهاب الحكم بغير الحق، بخلاف الدعوى، فعلى كل حال لا مانع من أن أحد الخصمين يقول للآخر: أنت الحكم، وإذا جعله حكماً لنفسه أو عليها فلا بأس.
وقوله: «يصلح للقضاء» أي: تتوافر فيه صفات القاضي العشر، فلا يصلح للقضاء إلا من اتصف بتلك الصفات، وهذا الشرط الذي اشترطه المؤلف فيه نظر ظاهر، والفرق بين المُحكَّم والمنصوبِ من قِبل ولي الأمر ظاهر؛ لأن المُحكَّم إنما يحكم في قضية معينة لخصم معين، ليست ولايته عامة حتى نقول: لا بد فيه من توافر الشروط السابقة، أما القاضي المنصوب من قبل ولي الأمر فحكمه عام، يتحاكم الناس إليه سواء حكَّموه أم لم يحكِّموه، فكيف نشترط الشروط العشرة؟! فإذا قال رجلان: نحن نرضى هذا الإنسان وإن كان عبداً، فكيف نقول: لا يصلح للحكم؟!
وإذا قال الخصمان: نحن نرضى أن نحكِّمه، وإن كان أعمى، فما المانع؟!(15/285)
وإذا قال الخصمان: نحن نرضى أن نحكِّمه ولو كان مقلداً فما المانع؟! لأن غاية ما فيه أنهما رضياه مصلحاً بينهما، أو كالمصلح بينهما، ولهذا نص على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إنه لا يشترط في المُحكَّم ما يشترط في القاضي، والفرق بينهما كما ذكرنا: أن الحاكم منصوب من قِبل ولي الأمر فحكومته ولاية، وأما هذا فهو مُحكَّم من قبل خصم معين في قضية معينة، فهو يشبه المُصلح بين خصمين.
قوله: «نفذ حكمه في المال» مثل أن يقول شخص لآخر: في ذمتك لي مائة درهم، والثاني يقول: ليس لك عندي شيء، فرضيا أن يحكم بينهما فلان، فذهبا إليه وحكم بينهما بما تقتضيه الشريعة، فهذا يجوز ويَنْفُذُ الحكم، فإن اتفقا على أن يحكم بينهما فلان، ثم رجع أحدهما عن ذلك وامتنع، وقال: أنا تراجعت عن ذلك، وأريد أن يحكم بيننا القاضي، فهل له ذلك؟
نقول: ينظر في هذا، إن كان المُحكَّم قد شرع في الحكم فإنه لا يحق لأحدهما أن يملك الرجوع؛ لأنه ربما يتراجع إذا تبين له من كلام المُحكَّم أن الحق عليه، أما إذا كان قبل أن يتحاكما، أي: قبل أن يصلا إلى مجلس الحكم فلا بأس في هذا.
قوله: «والحدود» هل هناك حد يكون بين المتخاصمين؟ الجواب: نعم، مثل حد القذف، فإن حد القذف يكون بين المتخاصمين، كرجل قذف رجلاً فادعى عليه المقذوف أنه قذفه، فقال: ما قذفتك، قال: من يحكم بيننا؟ قال: فلان، فذهبا إلى(15/286)
فلان وحكم بحد القذف، وأن القاذف يجلد ثمانين جلدة إذا كان المقذوف محصناً، أو يُعزر إن كان المقذوف غير محصن، فينفذ، ونفس المُحكَّم يقوم بتنفيذه، سواء كان في بيت المقذوف، أو في بيت القاذف، إنما لا يمكن أن يقيمه علناً؛ لأن هذا يحصل فيه تلاعب وفوضى.
قوله: «واللعان» اللعان حقيقته أن الرجل يقذف زوجته بالزنا، والعياذ بالله، فيقول: إنها زنت، فهذا لا يخلو من أحوال:
الأولى: أن تقر.
الثانية: أن تنكر ويأتي بالشهود.
الثالثة: تنكر ولا يأتي بالشهود.
الرابعة: أن تسكت، فلا تقر ولا تنكر.
في الحال الأولى: إذا أقرت نقيم عليها حد الزنا.
في الحال الثانية: إذا أنكرت، ولكن أتي بشهود يقام عليها الحد.
في الحال الثالثة: إذا أنكرت ولم يأت بالشهود نقول له: إما أن تُلاعن، أو تُحَدَّ حد القذف ثمانين جلدة.
في الحال الرابعة: إذا سكتت، على القول الراجح نقيم عليها الحد؛ لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ... } إلخ [النور: 8] ، وقيل: تحبس إلى أن تُقر، أو تلاعن، أو يأتي ببينة.
على كل حال في الحال الثالثة لو أن رجلاً قذف امرأته(15/287)
بالزنا، فطلبت أن تحاكمه، فقال: إلى أي أحدٍ تريدين أن نرجع؟ فقالت: نرجع إلى فلان، فتحاكما عنده وقضى باللعان بينهما فإن هذا يجوز.
قوله: «وغيرها» كالحقوق الزوجية، والميراث، والودائع، والرهون، والأوقاف، كل شيء، المهم أنهما إذا حَكَّما رجلاً صار هذا المُحكم كالقاضي المنصوب من قبل ولي الأمر، ينفذ حكمه في كل شيء.(15/288)
بَابُ آدَابِ القَاضِي
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيّاً مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، لَيِّناً مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَلِيماً ذَا أَنَاةٍ وَفِطْنَةٍ، وَلْيَكُنْ مَجْلِسُهُ فِي وَسْطِ الْبَلَدِ فَسِيحَاً، وَيَعْدِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي لَحْظِهِ، وَلَفْظِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ،......
قوله: «آداب القاضي» يعني أخلاقه التي يطالب أن يكون عليها، إما وجوباً وإما استحباباً، والقاضي هو المنصوب من قبل ولي الأمر ليقضي بين الناس، ولا يزال يسمى بهذا الاسم إلى يومنا هذا.
قوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» كلمة «ينبغي» إذا جاءت بصيغة النفي في كلام الله، أو في كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمعناها الممتنع، مثاله قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92] ، يعني أنه يمتنع غاية الامتناع، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي أن ينام» (1) ، يعني يمتنع عليه النوم.
أما في كلام الفقهاء، فهي بمعنى يستحب فإذا قالوا: لا ينبغي، يعني لا يستحب، وإذا قالوا ينبغي فمعناه: يستحب لكن هذا في اصطلاح الفقهاء على سبيل العموم، أما الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فأصحابه يقولون: إذا قال: لا ينبغي، فهو للكراهة، وقد يكون للتحريم.
وقوله: «ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف» هذان وصفان أحدهما: ثبوتي، والثاني: سلبي، الثبوتي أن يكون قوياً، يعني له
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب في قوله عليه السلام: «إن الله لا ينام ... » (179) عن أبي موسى رضي الله عنه.(15/289)
شخصية وله سلطان، فلا يكون ضعيفاً أمام الخصوم.
والسلبي «من غير عنف» يعني لا يكون بقوته عنيفاً؛ لأنه إذا كان ضعيفاً ضاعت الحقوق، وإن كان عنيفاً هابه صاحب الحق، ولم يستطع أن يدلي بحجته، ولهذا قال بعدها:
«ليناً من غير ضعف» فينبغي أن يكون ليناً؛ لأنه لو كان غليظ القلب فظاً لهابه صاحب الحق، وتلعثم وعجز عن إظهار حجته، ولو كان ضعيفاً لضاعت الحقوق، ولعب عليه أهل الباطل، وصار الخصوم عنده يتناقرون كما تتناقر الديكة، فإذا حضرت مجلسه، وإذا الصخب، واللغط، والشتم، والسب، وهو ساكت يتفرج، فهذا ضعيف، ولا ينبغي أن يكون القاضي على هذا الوجه، وإذا كان عنيفاً فالأمر مشكل؛ لأن العنيف يهابه صاحب الحق، ولا يستطيع أن يتكلم، فيكون الإنسان بين بين، قوياً من غير عنف، وليناً من غير ضعف.
فإن قال قائل: هذه صفات يجبل الله العبد عليها، وليست أمراً مكتسباً، بل هي أمر غريزي، فكيف تطالبونه بأمر غريزي لا يستطيع أن يتخلق به؟!
فالجواب: أن جميع الأخلاق والصفات الغريزية يمكن أن تتغير بالاكتساب، فكثير من الناس يكون شديداً عنيفاً، ثم يصاحب رجلاً ليناً فيأخذ من أخلاقه ويلين، وكثير من الناس يكون ضعيف الشخصية، ولكنه يتمرن على تقوية شخصيته حتى تكون قوية، فالفقهاء لم يطلبوا شيئاً مستحيلاً، وإنما طلبوا أمراً، إن كان الإنسان قد جُبل عليه فذلك المطلوب، وإن لم يكن(15/290)
قد جبل عليه فإنه يحاول اكتسابه، وعلى هذا يحمل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمن قال له: أوصني، قال: «لا تغضب» (1) ، فهل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهاه عن أمر جِبِلِّي مطبوع عليه الإنسان؟
الجواب: لا؛ لأن النهي عما لا يمكن تنفيذه طلب محال، وتكليف بما لا يستطاع، ولكن معنى قوله: «لا تغضب» أي: لا تعوِّد نفسك الغضب، فأيضاً هذا القاضي الذي طلبنا منه أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، إذا قال: هذه جبلَّتي، أنا غضوب وعنيف، نقول له: عَوِّدْ نفسك، والضعيف نقول له: عوِّد نفسك القوة، واجعل لك هيبة عند الخصم، حتى يكون مجلسك محترماً غير ملعوب فيه.
قوله: «حليماً» أي: بعيد الغضب وبطيء الغضب، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تغضب» وأحق الناس بهذه الوصية القضاة؛ لأنه إذا كان سريع الغضب، فإن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم، فتنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره، فلا يستطيع أن يتصور المسألة، ولا تطبيق الأحكام الشرعية عليها، ولذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (2) ، فالذي ينبغي أن يكون حليماً، ولكن يكون حليماً في موضع الحلم، ومعاقباً
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب الحذر من الغضب لقول الله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} ... } (6116) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الأحكام/ باب يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (7158) ، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.(15/291)
في موضع العقوبة؛ لأنه إذا قلنا: كن حليماً في كل شيء، فمعناه أنا قيدناه فلا يتحرك، فينبغي أن يكون حليماً في الموضع الذي يكون فيه الحلم من الحكمة.
فإذا كان الإنسان حليماً في موضع الحلم، وأخاذاً بالعقوبة في موضع الأخذ، فهذا هو الكمال، ولهذا قال ربنا ـ عزّ وجل ـ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98] .
قوله: «ذا أناة» الأناة هي التؤدة وعدم التسرع، فيكون القاضي متأنياً فلا يتعجل في الحكم، بل يدرس القضية من جميع الجوانب وخصوصاً في القضايا المعقدة كالمواريث من زمن طويل ومسائل الدماء، وضد ذلك المتسرع في الحكم؛ لأن المقام يحتاج إلى تأنٍ وعدم تسرع ليتصور المسألة من كل الجوانب، ثم يطبقها على الأدلة الشرعية.
وهذه الصفة نقول فيها ما قلنا في الحلم: فإذا كان التأني يفوِّت الفرصة فلا ينبغي أن يتأنى في بعض الأحوال، لأنه سيضيع الحزم، قال الشاعر:
وربما فات قوماً جُلُّ أمرهم
مع التأني وكان الرأي لو عجلوا
فقد يكون الحزم والرأي أن يبادر الإنسان.
قوله: «وفطنة» فلا بد أن يكون ذا فطنة ونباهة، وفراسة، وهذه من الآداب المستحبة على ما قال المؤلف، وانظر إلى سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما تحاكمت إليه المرأتان في ابن إحداهما وكان داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ قضى به للكبرى، فدعا بالسكين لكي يشقه، فقالت الكبرى: نعم، يا(15/292)
نبي الله أرضى بهذا الحكم، وقالت الصغرى: لا، هو ولدها يا نبي الله، ولا تشقه! فقضى به للصغرى (1) ، وهذا من الانتباه والفطنة، وقد ذكر ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية» قضايا كثيرة من هذا النوع، تدل على فطنة بعض القضاة وذكائهم، ومنها أن رجلين اختصما في أرض، فقال أحدهما للقاضي: إنه قد أعطاني الأرض مزارعة بالنصف، وقال صاحبه: ما أعطيتها إياه، فرأى القاضي بفراسته أن الصواب مع المدعي، فقال للمدعي: هل لك عليه بينة؟ قال: لا، فقال القاضي: ما دام ليس لك بينة فلا حقَّ لك عليه، ثم إن الرجل حتى لو ثبت أنه قد عقد لك المزارعة فهذه الأرض وقف، والرجل اختار للوقف ما هو أنفع، فهو أعطاك إياها بالنصف، وجاء آخر وقال: أنا يكفيني الثلث، فالأحسن لصاحب الوقف الثلثان لأنه خير له من النصف، والرجل ناظر على الوقف فهو يحتاط له، فقال القاضي لصاحب الأرض: أليس الأمر كذلك؟ فقال الرجل: بلى، فقال القاضي: إذاً أعط الأرض للمزارع، فمثل هذه الأشياء من الفطنة التي ينبغي أن يكون القاضي متصفاً بها.
قوله: «وليكن مجلسه في وَسْط البلد» «وسط» بمعنى متوسط الشيء، والوسَط بالفتح الخيار، فيكون مجلسه في وسط البلد؛ لأنه قاضٍ لأهل البلد كلهم، فلو كان في جانب منه، لشق على أهل الجانب الآخر، وعلى هذا فينظر إلى قصبة البلد، يعني وسطها، فيكون مجلس القاضي فيه سواء في بيت القاضي، أو مكتب آخر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (257 ـ 258) .(15/293)
قوله: «فسيحاً» خبر آخر لـ «يكن» ، يعني ليكن مجلسه فسيحاً، لأنه قد تكثر الخصوم فيضيق بهم، ولأن المكان الفسيح أوسع للصدر وأشرح، فكلما كان المكان فسيحاً كان انبساط الإنسان فيه أكثر، وصدره أرحب وأوسع.
فإن قيل: وهل يجوز للقاضي أن يطلب أجرة من الخصمين؟
فالجواب: إن كان له رزق من بيت المال فإنه يحرم عليه لأنه يشبه هدايا الغلول، وإن لم يكن له شيء من بيت المال فقال الفقهاء يجوز أن يسأل ما يدفع به حاجته فقط. والصحيح أنه لا يجوز حتى هذا لأنه يفتح باب المفاسد والشرور.
ثم بدأ المؤلف بذكر الآداب الواجبة، فقال:
«ويعدل» الجملة استئنافية، وهي خبر بمعنى الأمر، يعني يجب عليه أن يعدل بين الخصمين، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا} [النساء: 58] ، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (1) ، فأمر بالعدل بين الأولاد، ومثلهم غيرهم ممن يتساوون في الحقوق.
قوله: «بين الخصمين» يشمل ما إذا كانا كافرين أو مسلمين، أو أحدهما كافراً والآخر مسلماً، فيجب أن يعدل
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة/ باب الإشهاد في الهبة (2587) ، ومسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(15/294)
بينهما؛ لأن المقام مقام حكم يستوي فيه جميع الأفراد المحكوم عليهم، أو لهم، فيجب أن يعدل بين الخصمين أياً كانت ديانتهما.
قوله: «في لحظه» أي: يجب أن يعدل بينهما في النظر إليهما، فلا ينظر إلى أحدهما نظرة رضا وإلى الآخر نظرة غضب، بل يجب عليه أن ينظر إليهما نظرة واحدة، سواء اقتضت الحال أن ينظر إليهما نظر غضب، أو نظر رضا، المهم أن لا يختلف نظره للخصمين.
قوله: «ولفظه» كذلك يجب عليه العدل في لفظه، فلا يلينه لأحدهما، ويغلظه للآخر، فلا يقول لأحدهما إذا سلم: أهلاً، وعليكم السلام، مرحباً، كيف الأولاد والأهل؟ وما أشبه ذلك، والآخر إذا سلم رد بقوله: وعليكم السلام بصوت لا يكاد يسمع، أو يتأفف وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز، وأيضاً لا يجوز أن يحتفي بأحدهما، فيسأله عن أصله وولده وماله، والثاني لا يسأله، حتى لو كان قريباً له ولم يره من زمن بعيد، فلا يجوز؛ لأنه يمكن أن يسأله في مكان آخر، أما هنا فالناس سواء لا يجوز أن يفضل أحدهما على الآخر في اللفظ، كذلك ـ أيضاً ـ يجب عليه أن يعدل بينهما حتى في نبرات الصوت، فلا يكلم أحدهما برفق ولين، والآخر بغلظة وشدة، بل يجب عليه العدل في اللفظ من حيث عدد الكلمات، ومن حيث كيفية اللفظ، ونبرات الصوت.
لكن إذا أساء أحد الخصمين الأدب في مجلس الحكم(15/295)
فللقاضي أن يوبخه، وأن يطلب ـ مثلاً ـ من الشرطي أن يعاقبه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «ومجلسه» يعني يكون مجلس الخصمين واحداً في الدنو منه، وفي نوع ما يجلسان عليه، فلا يفضل أحدهما على الآخر، فلا يجوز أن يدني أحدهما دون الآخر، أو يجلس أحدهما على فراش وثير والآخر على بساط عادي.
قوله: «ودخولهما عليه» فلا يقدم أحدهما على الآخر، بل يدخلان جميعاً، فلا يقل لأحدهما إذا وقف عند الباب: تفضل يا فلان، إلا إذا قدم أحدهما الآخر، أما أن يدخل القاضي أحدهما قبل الآخر فهذا لا يجوز؛ لأن هذا خلاف العدل، ولا شك أن المقام مقام عدل، وأنه إذا خولف العدل في هذا المكان لأفضى إلى بطلان حجة من له حجة، وانتصار من ليس له حجة، فالواجب العدل.
فإن كان الباب لا يسع إلا واحداً فيقرع بينهما، إلا إذا اختار أحدهما أن يقدم صاحبه فالحق لهما.
فإن قيل: ألا نقدم الأكبر؟ قلنا: لا، المقام مقام عدل، فلا نقدم الأكبر، ولا الأقرب، ولا الأشرف، ولا الأوضع، بل نقول: الحق لكما أن تدخلا جميعاً، أو تختصما فيما بينكما.
مسألة: لو سبق أحدهما بالسلام على القاضي، فهل يرد السلام أو ينتظر حتى يسلم الآخر؟
الجواب: لا ينتظر، بل يرد السلام؛ لأن هذا الذي سلّم سبق حقه بفعله لا بفعل القاضي، والأولى للقاضي أن يباشرهما(15/296)
بالسؤال بعد دخولهما عليه قائلاً: ما قضيتكما؟ حتى لا يضيع عليه الوقت أو يحرج نفسه بإسكات المتكلم. فصار يجب العدل في هذه الأمور الأربعة، وفي غيرها أيضاً، وإنما نص المؤلف على هذه الأربعة لأنها دقيقة، وربما لا يلقي لها بعض القضاة بالاً، ولا يهتم بها، وأما العدل في كيفية الحكم، وفي تلقي الحجة، وفي المحاجة، فهذا أمر لا شك في وجوبه، ولكنه ذكر هذه الأشياء؛ لأنه إذا وجب العدل فيها وجب فيما هو أولى منها.
قوله: «وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما يشكل عليه» فإذا كان في البلد عدة مذاهب فينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، فإذا كان في البلد خمسة مذاهب، حنفي، ومالكي، وشافعي، وحنبلي، وظاهري، أحضر من كل مذهب فقيهاً، حتى إذا أشكل عليه شيء شاورهم، هكذا قال المؤلف تبعاً لغيره من فقهاء المذهب، والصحيح أن هذا ليس بمستحب، بل تركه هو المستحب؛ لأن إحضار الفقهاء فيه عدة محاذير:
الأول: أن من القضايا ما يحب الخصمان أن يكون سراً، لا يطلع عليه أحد، فإذا أحضر القاضي أناساً، وقد لا يحتاج إليهم فإن الخصمين يخجلان من ذلك.
الثاني: أنه قد يكون بعض الفقهاء من الثرثارين المتكلمين، فتنتشر قضايا المسلمين بين الناس.(15/297)
الثالث: أن في ذلك إضعافاً لجانب القاضي؛ لأن الناس يقولون: إن هذا القاضي لا يقضي إلا والفقهاء عنده، ومعنى ذلك أنه لا علم عنده، وإذا ضعف جانب القاضي أمام الناس أصبحت أحكامه مهلهلة، وكل إنسان يستطيع أن يعترض عليه.
الرابع: أن في ذلك إظهاراً للفرقة بين الناس؛ لأن المطلوب تقليل الخلاف ما استطعنا، وأن لا نقول: ما مذهب فلان؟ وأنت على أي مذهب؟ وما أشبه هذا، فإن الواجب أن يحشر الناس كلهم بقدر الاستطاعة على قول واحد، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أما أن نظهر الفرقة بين الناس بالفِرَق وتعدد المذاهب فهذا أمر لا ينبغي.
وواحد من هذه المحاذير يكفي في أن نقول: لا ينبغي أن يحضر في جملة الفقهاء، وأما ما يشكل عليه فإنه يرجئ النظر فيه، ويقول للخصمين: اذهبا وارجعا بعد يوم، أو يومين، أو ثلاثة، حسب ما يظن أن المسألة تتطلبه من وقت، ثم يراجعها بنفسه، ويشاور العلماء الذين في بلده، أو خارج بلده كما في وقتنا الحاضر، إذ يستطيع القاضي وهو في مجلس الحكم أن يتصل بأي عالم يثق بعلمه، فيشاوره ويحكم. والحاصل أن ما قاله المؤلف رحمه الله من إحضار فقهاء المذاهب فيه نظر بل هو ضعيف.
وَيَحْرُمُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيراً، أَوْ حَاقِنٌ، أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ،.............................
قوله: «ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً» هذا من الآداب الواجبة، وهو تجنب القضاء في حال الغضب الشديد، فالقضاء في حال الغضب الشديد محرم.(15/298)
والغضب انفعال يحدث للنفس بسبب ما يثير من مخالفة الهوى، فتجد الرجل تنتفخ أوداجه، وتحمر عيناه ووجهه، ويقف شعره، ويفقد وعيه أحياناً، إذ تصل الحال بالغضبان أحياناً حتى لا يدري أفي السماء هو أم في الأرض؟ ولا يدري ما يتكلم به.
والغضب ثلاثة أقسام: غاية، وابتداء، ووسط، فالابتداء لا يضر؛ لأنه ما من إنسان يخلو منه إلا نادراً، والغاية لا حكم لمن اتصف به في أي قول يقوله، والوسط محل خلاف بين العلماء.
ولنضرب لذلك مثلاً برجل طلق وهو غضبان، فإن كان من أول الغضب فطلاقه واقع نافذ، وإن كان في غايته، فطلاقه غير واقع، ولا نافذ، وهذان موضعان متفق عليهما، وإن كان في وسط الغضب فللعلماء في ذلك قولان مشهوران، أصحهما أن الطلاق لا يقع؛ لأن هذا الرجل الغضبان يجد في نفسه شيئاً يرغمه، ويضطره إلى أن يطلق، مع أنه يدري ما يقول، وقد جاء الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق في إغلاق» (1) .
فالغضب الذي يحرم على القاضي أن يقضي فيه هو الغاية والوسط، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» (2) ، والتعليل أن الغضبان لا يتصور القضية تصوراً تاماً،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/276) ، وأبو داود في الطلاق/ باب في الطلاق على غلط (2193) ، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2046) عن عائشة رضي الله عنها.
انظر: التلخيص (1598) ، والإرواء (2047) .
(2) أخرجه البخاري في الأحكام/ باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ (7158) ، ومسلم في الأقضية/ باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) عن أبي بكرة رضي الله عنه.(15/299)
ولا يتصور تطبيقها على النصوص الشرعية تطبيقاً تاماً، والحكم لا بد فيه من تصور القضية، ثم تصور انطباق الأدلة عليها؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والحكم على الشيء لا بد فيه من معرفة الموجِب للحكم، والغضبان لا يتصور ذلك، لا القضية ولا انطباق الأحكام عليها، ولذلك نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان (1) .
وأيضاً فإنه إذا كان أحد الخصمين هو الذي أثار غضب القاضي فهنا محذور ثالث، وهو أنه قد يحمله غضبه على هذا الخصم أن يحكم عليه مع أن الحق له.
وقوله: «وهو غضبان كثيراً» يفيد أنه إذا كان الغضب يسيراً في ابتدائه فلا يحرم القضاء، وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو غضبان في قصة الأنصاري مع الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ في المسيل الذي تنازعا فيه عند النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ كان المسيل يأتي على حائط الزبير قبل حائط الأنصاري، فكان الزبير ـ رضي الله عنه ـ يسقي منه ويدع البقية لجاره الأنصاري، فاشتكى الأنصاري إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» .
فقوله: «اسق» أمر مطلق يقتضي أنه يسقي زرعه مجرد سقي، ثم يرسل الماء لجاره، فقال الأنصاري ـ عفا الله عنه ـ: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فأخذته العزة بالاثم، والإنسان
__________
(1) سبق تخريجه ص (291) .(15/300)
بشر، وإلا فمن يتهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذا الاتهام؟! فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم انتقاماً لله؛ لأنه يحكم بأمر الله وشرعه، ثم قال: «يا زبير، اسق حتى يصل إلى الجَدْر، ثم أرسله إلى جارك» (1) ، فاحتفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم بحق الزبير لما أغضبه الأنصاري، لكن هذا الغضب يسير لا يمنع تصور القضية، وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو حاقن» يعني لا يقضي وهو حاقن، وهو المحصور بالبول، وأما الحاقب فهو المحصور بالغائط، فلا يقضين بين اثنين في هذه الحال؛ لأن هذه الحال تشبه حال الغضب في عدم تصور القضية وانطباق الحكم الشرعي عليها.
قوله: «أو في شدة جوع» أي: يحرم عليه القضاء في شدة جوع، حتى وإن كان سببه الصيام، فلو جاءا يتحاكمان إليه في آخر النهار وهو جائع جوعاً شديداً، نقول: لا تقضِ بينهما، فإذا صرفهما، فهل يستفيد من ذلك بأن يأكل؟ لا يستفيد ذلك؛ لأنه لن يأكل حتى تغرب الشمس، ولكنه يستفيد أن لا يخطئ في الحكم، بخلاف المصلي إذا أراد أن يصلي وهو جائع فلا نقول له: لا تصل حتى تفطر وتأكل؛ لأن الصلاة يفوت وقتها، أما الحكم بين اثنين فلا يفوت وقته.
قوله: «أو عطش» كذلك لا يقضي في شدة العطش؛ لأن ذهنه مُشوش، حتى يشرب ثم يقضي بينهما.
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب سكر الأنهار (2360) ، ومسلم في الفضائل/ باب وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلّم (2357) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.(15/301)
قوله: «أو هَمٍّ» أي: شدة هَمٍّ، وهذا أمر خفي، لأن الإنسان بشر تعتريه هموم في بعض الأحيان، لأسباب خارجية، أو أهلية، أو داخلية في نفسه، فإذا كان في شدة همٍّ وجاءه اثنان يريدان أن يقضي بينهما، فيقول: أنا فكري مشغول، وعندي هموم كثيرة، فلا يقضي بينهما، ومثل ذلك لو كان شخص من أهله مريضاً مرضاً مدنفاً، أو سمع بانتصار بعض الكفار، فانشغل ذهنه بذلك، فحينئذ ينتظر حتى يزول ذلك الهم. فمن كان مهموماً هما خارجياً أو داخلياً فلا يحل له القضاء في هذه الحال.
قوله: «أو ملل» أي: لا يقضي في شدة ملل، كأن يكون من الساعة السابعة صباحاً وهو يقضي بين الناس، وصابر على أذاهم وأصواتهم وصخبهم، فلما وصلت الساعة الثانية إلا ربعاً مساء جاءه خصمان ليقضي بينهما، فقال: أنا مللت، ولا أستطيع أن أقضي بينكما، فله ذلك، بل يجب عليه أن يعتذر؛ لأن الإنسان بشر، ويحرم عليه القضاء، والعلة هي علة تحريم القضاء في حال الغضب.
قوله: «أو كسل» أي: شدة كسل، كأن يكون به نوم أو نعاس، فلا يجوز له أن يقضي بين الخصوم في هذه الحال، ولو رضي الخصوم؛ لأن هذا حق لله تبارك وتعالى.
قوله: «أو نعاس» أي: شدة نعاس، فلا يجوز أن يقضي في شدة نعاس حتى يزول.
قوله: «أو برد مؤلم» أي: يحرم عليه القضاء في برد مؤلم، كأن يأتيه الخصوم زمن شتاء بارد ليقضي بينهم، فيقول: لا أقضي(15/302)
بينكم، بل أذهب وأتدفأ، أو ألبس ثياباً أكثر، ثم أقضي بينكم.
قوله: «أو حر مزعج» أي: يحرم عليه القضاء في حر مزعج، فإذا كان في حر شديد جداً ليس عنده مكيف ولا مروحة، يقول للخصوم: انتظروا إلى آخر النهار، أو حتى أغتسل وأتبرد؛ لأن الحر مزعج لا يجوز معه القضاء.
كل هذه الأحوال التي ذكرها المؤلف مقيسة على قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يقضي أحد بين اثنين وهو غضبان» (1) ، إذاً كل حال تعتري القاضي تكون حائلاً بينه وبين تصور القضية، أو انطباق الأحكام الشرعية عليها، فإنه يحرم عليه القضاء فيها حتى يزول هذا السبب، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وَإِنْ خَالَفَ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ، وَيَحْرُمُ قَبُولُ رَشْوَةٍ وَكَذَا هَدِيَّةٍ، إِلاَّ مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلاَيَتِهِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةٌ،..............
قوله: «وإن خالف» أي: القاضي، وحكم في هذه الأحوال التي لا يحل له فيها الحكم.
قوله: «فأصاب الحق نفذ» أي: حكمه، فإن قال قائل: كيف ينفذ وهو محرم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ، أفليست القاعدة أن مثل هذا يوجب بطلان الحكم، كما لو عقد على امرأة عقداً محرماً فإن العقد يبطل؟
فالجواب: أن يقال: إنه إنما نهي عن ذلك خوفاً من مخالفة الصواب، فإذا وقعت الإصابة فهذا هو المطلوب، إذاً هنا نقول: هذا لم يخرج عن القاعدة، وهي أن الشيء المحرم لا ينفذ ولا
__________
(1) سبق تخريجه ص (291) .
(2) سبق تخريجه ص (67) .(15/303)
يصح؛ لأن العلة التي من أجلها حرم انتفت، حيث إنه أصاب الصواب، فإن لم يصب الحق فإنه لا ينفذ؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فهذا الرجل أساء فحكم في حال الغضب، أو الجوع أو ما أشبه ذلك، ولم يصب الحق، فهو ليس مصيباً لا في إقدامه على الحكم ولا في حكمه، فيكون حكمه باطلاً. وهل لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل؟
نقول: ليس لأحد الخصمين أن يطالب القاضي بالدليل لأنه لو فتح هذا الباب لم ينفذ أي حكم من الأحكام.
قوله: «ويحرم قبول رشوة» وهي مثلثة الراء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، وهي مأخوذة من الرشاء وهو الحبل الذي يعقد به الدلو لاستخراج الماء، والرشاء يتوصل به الإنسان إلى مقصوده وهو الماء، والرِّشوة بذل شيء يتوصل به الإنسان إلى المقصود، فكل من بذل شيئاً يتوصل به إلى المقصود فهو راشٍ، لكن الرشوة في الحكم لا تجوز، وهي أن يبذل الخصم للقاضي شيئاً يتوصل به إلى أن يحكم له القاضي بما ادعاه، أو يرفع عنه الحكم فيما كان عليه؛ لأن الراشي ـ الذي يعطي الرشوة ـ تارة يريد أن يُحكم له بما ادعاه، وتارة يريد أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وبينهما فرق، إذا كان الخصم يدعي أنه يطلب فلاناً مائة ألف، ودفع إلى القاضي رشوة، فهذا يريد من القاضي أن يحكم له بما ادعاه، وإذا كان الخصم قد ادعي عليه بمائة ألف وأعطى القاضي دراهم، فهذا يريد من القاضي أن يرفع عنه ما ادعي عليه، وفي كلتا الصورتين الرشوة محرمة للتالي:(15/304)
أولاً: للحديث الصحيح: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لعن الراشي والمرتشي (1) ، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يقتضي أن تكون الرشوة من كبائر الذنوب.
ثانياً: أن فيها فساد الخلق؛ فإن الناس إذا كانوا يُحكم لهم بحسب الرشوة فسد الناس، وصاروا يتباهون فيها أيهم أكثر رشوة، فإذا كان الخصم إذا أعطى ألفاً حكم له، وإذا أعطى ثمانمائة لم يحكم له، فسيعطي ألفاً، وإذا ظن أن خصمه سيعطي ألفاً أعطى ألفين، وهكذا فيفسد الناس.
ثالثاً: أنها سبب لتغيير حكم الله عزّ وجل؛ لأنه بطبيعة الحال النفس حيّافة ميّالة، تميل إلى من أحسن إليها، فإذا أعطي القاضي رشوة حكم بغير ما أنزل الله، فكان في هذا تغيير لحكم الله ـ عزّ وجل ـ.
رابعاً: أن فيها ظلماً وجَوراً؛ لأنه إذا حكم للراشي على خصمه بغير حق فقد ظلم الخصم، ولا شك أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن الجور من أسباب البلايا العامة، كالقحط وغيره.
خامساً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل، أو تسليطاً على أكل
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/164) ، وأبو داود في الأقضية/ باب في كراهية الرشوة (3580) ، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (1336) ، وابن ماجه في الأحكام/ باب التغليظ في الحيف والرشوة (2313) ، وابن حبان (11/467) ، والحاكم (4/115) ، والبيهقي (10/138) . قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» ، وصححه الحاكم.(15/305)
المال بالباطل، لأنه ليس من حق القاضي أن يأخذ شيئاً على حكمه؛ لأننا نقول: هذا الذي أخذه القاضي إما أن يحمله على الحكم بالحق، والحكم بالحق لا يجوز أن يأخذ عليه عوضاً دنيوياً، وإما أن يحمله على الحكم بخلاف الحق، وهذا أشد وأشد، فكان أخذ الرشوة أكلاً للمال بالباطل، وبذلها أعانةً لأكل المال بالباطل.
سادساً: أن فيها ضياع الأمانات، وأن الإنسان لا يؤتمن، والإنسان لا يدري أيحكم له بما معه من الحق، أو يحكم عليه؟ وهذا فساد عظيم، ولذلك استحق الراشي والمرتشي لعنة الله ـ والعياذ بالله ـ.
ولكن لو تعذر إعطاء المستحق حقه إلا ببذل الدراهم، فهل يدخل هذا في الرشوة أو لا؟ نقول: نعم، هي رشوة، لكن إثمها على الآخذ دون المعطي؛ لأن المعطي إنما بذلها ليستخرج حقه؛ لأن حقه يضيع إذا لم يبذل ذلك، ويكون اللعن على المرتشي ـ الآخذ ـ وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، وبينوا أن من بذل شيئاً للوصول إلى حقه فليس عليه شيء، ويوجد الآن من يقول للإنسان المطالب بحقه: إما أن تعطيني كذا وكذا ـ صراحةً ـ وإلا فاصبر، وهكذا حتى يمل ويعطيه غصباً عليه، وهذا في الحقيقة أمرٌ مُرٌّ ومفسد للخلق، لأديانهم وأبدانهم؛ لأنهم يأكلون السحت ـ والعياذ بالله ـ.
فإن كان القاضي ليس له رزق ـ أي: راتب ـ من بيت المال، من الدولة، وهو إنسان ليس له مال، وقال للخصمين:(15/306)
لا أقضي بينكما إلا بكذا وكذا، حسب القضية إن كانت كبيرة قال: أقضي بينكما بشيء كثير، وإذا كانت صغيرة بشيء قليل، فهل يجوز ذلك أو لا؟
في ذلك خلاف، المشهور من المذهب أنه يجوز، والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا أخذُ عوض على أمر واجب عليه، فإن الحكم بين الناس واجب، وهو إذا عود نفسه هذا، هل سيقتصر على مقدار الكفاية؟ أبداً سيطمع، وإذا جعل الجُعل مثلاً على الألف خمسة في اليوم الأول، جعل على الألف في اليوم الثاني عشرة وازداد طمعاً، فالصواب أن هذا لا يجوز، ويقال له: اتق الله بقدر ما تستطيع، اعمل في السوق، واقض بين الناس في وقت آخر، لكن هذه المسألة نادرة الوقوع جداً، وفي زماننا هذا ـ ولله الحمد ـ القضاة لهم أرزاق من بيت المال أكثر من كفايتهم.
قوله: «وكذا هدية، إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، إذا لم تكن له حكومةٌ» يعني يحرم على القاضي أن يقبل هدية، فإذا أهدى له إنسان فلا يجوز أن يقبلها، سواء كان لهذا المُهدي حكومة أم لم يكن، وعلى هذا فإذا انتصب رجل للقضاء اليوم الثلاثاء، ففي يوم الاثنين ـ أمس ـ يجوز أن يقبلها، أما اليوم فلا يجوز أن يقبلها إلا بشرطين:
الأول: أن يكون لهذا المُهدي عادة أن يُهدي إلى هذا القاضي قبل أن يتولى القضاء.(15/307)
الثاني: أن لا يكون له حكومة، فإن كان له حكومة فلا يجوز أن يقبل هديته، ولو كان ممن يهاديه قبل ولايته.
فعندنا أربع مراتب:
الأولى: هدية من شخص يهاديه قبل ولايته، وليس له حكومة، يعني جرت العادة أنه إذا قدم من سفر أهدى إليه هدية، وإذا حصلت عنده مناسبة أهدى إليه هدية، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به لبعده بعداً تاماً عن الرشوة، والأصل الحل.
الثانية: رجل أهدى عليه هدية، وليس ممن عادته أن يهاديه، وليس له حكومة، فالمذهب لا يجوز كما صرح به المؤلف؛ لأنه ليس له عادة، والقول الثاني: أنه يجوز.
الثالثة: أن يهاديه وله حكومة ولم تكن عادته أن يهاديه، فهذا حرام ولا يجوز.
الرابعة: أن يكون له حكومة، ويهاديه وهو ممن جرت عادته بمهاداته من قبل، فهذا أيضاً لا يجوز.
فالمراتب إذاً أربعة، واحدة تجوز وهي أن يكون ممن يهاديه قبل ولايته وليس له حكومة، والثلاثة الباقية على المذهب لا تجوز، والصحيح أن الهدية إذا لم تكن ممن له حكومة، وإن لم يهاده من قبل فلا بأس بها.
بقي علينا إذا كان هذا الرجل ممن يهاديه قبل ولايته، وأهدى له هدية، وكان له حكومة، لكن ما علم بها القاضي، ثم علم بعد ذلك، فهل يجب على القاضي أن يردها؟
الجواب: نعم.(15/308)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَحْكُمَ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ، وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ لِمَنْ لاَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَمَنِ ادَّعَى عَلَى غَيْرِ بَرْزَةٍ لَمْ تَحْضُرْ وَأُمِرَتْ بِالتَّوْكِيلِ، وَإِنْ لَزِمَهَا يَمِينٌ أَرْسَلَ مَنْ يُحَلِّفُهَا وَكَذَا الْمَرِيضُ.
قوله: «ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود» يستحب للقاضي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود، ويجوز أن يحكم في غيبتهم، فإذا أدوا الشهادة وحكم في غيبتهم فلا بأس، لكن الأفضل أن لا يحكم إلا بحضرتهم؛ لأن الشهود هم الطريق التي توصل للحكم ويستخرج بهم الحق، فلولا شهادتهم ما حكم، فينبغي أن يكون حكمه في حال حضورهم، ولأن هذا أضبط؛ حتى لا يميل يميناً أو شمالاً؛ لأنه ربما ينسى بعض فقرات الشهادة، ولأن هذا ـ أيضاً ـ أقرب إلى ثبوت الشهود؛ إذ إن الشهود قد يكون بعضهم شهد بزور، فإذا رأى أن الحكم سيثبت بناء على شهادته فربما يتراجع.
فهذه ثلاث علل لاستحباب حضور الشهود لحكم القاضي.
قوله: «ولا ينفذ حكمه لنفسه» حكم القاضي لنفسه لا يقبل، وكيف يحكم القاضي لنفسه؟!
الجواب: مثل أن يكون بينه وبين شخص خُصومة، فيقول: نتحاكم أنا وأنت لنفسي عند نفسي، فلا يصلح هذا، فإن رضي الخصم وقال: أنت الحَكَمُ وفيك الخصومة، فإن ذلك يجوز؛ لأن الحق له، وهذه أحياناً ترد، يعني يكون خصمُ القاضي واثقاً من القاضي، فيقول: أنت الحكم، وأنا أثق بأمانتك ودينك وعلمك، فإذا رضي بذلك فلا حرج.
قوله: «ولا لمن لا تقبل شهادته له» مثل أبيه، وولده، وزوجته، فلا يقبل أن يحكم لهم؛ لأن الحكم ـ كما سبق ـ(15/309)
يتضمن الشهادة؛ لأن الحاكم كأنه يقول: أشهد أن الحق لفلان على فلان، فإذا حكم لأبيه، أو أمه، أو زوجته، أو غيرهم ممن لا تقبل شهادته لهم، فإن هذا كالشهادة لهم، فلا ينفذ حكمه، وهل ينفذ حكمه على نفسه؟
الجواب: نعم؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] .
وهل ينفذ حكمه على من لا تقبل شهادته له؟
الجواب: نعم، كما تقبل شهادته عليهم، فيقبل حكمه عليهم.
قوله: «ومن ادعى على غير برزة لم تحضر» يعني من ادعى على امرأة غير برزة، وهي التي لا تبرز للرجال، والنساء بعضهن صاحبة خباء، لا تبرز للرجال، وبعضهن تبرز للرجال، وتتكلم مع الناس، فمن ادعى على برزة فإنها تُحضر كالرجل، ومن ادعي على غير برزة فإنها لا تحضر؛ لأن ذلك يشق عليها، ولأنها ربما مع الحياء والخجل لا تستطيع أن تعبر عما في نفسها من الحجة.
قوله: «وأُمرت بالتوكيل» يعني أن القاضي يرسل لها، وفي عصرنا يكلمها بالهاتف أن توكل شخصاً يخاصم عنها.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يجوز التوكيل في الخصومة، وقد سبق ذلك في باب الوكالة.
وهل لها أن تختار رجلاً ألحن من خصمها؟
الجواب: نعم؛ لأنها تريد أن تدافع عن نفسها ما ادعى عليها، أو تثبت لنفسها ما ادعته، فلها أن تختار رجلاً ألحن من(15/310)
خصمها وأقوى حجة، بشرط أن تعتقد أنها على حق، أما إذا كانت تعلم أنها على باطل، فلا تجوز الخصومة أصلاً.
قوله: «وإن لزمها يمين أرسل من يحلفها» أي: غير البرزة إن وكلت، وحضر الوكيل، وتخاصم مع خصمها، فقال خصمها: أدعي على فلانة بعشرة آلاف ريال، فقال له القاضي: أين البينة؟ قال: ما عندي بينة، فتبقى اليمين، فهل يُحَلَّف الوكيل؟ لا؛ لأن الأيمان لا تدخلها النيابة والوكالة، لكن يرسل القاضي إنساناً ثقةً يُحلِّف المرأةَ، ولا بد أن يكون هذا الرسول ممن تقبل شهادته عليها ولها، فلا يرسل والدها؛ لأن والدها متهم، فربما يقول والدها: إنها حلفت وهي لم تحلف، فإذا حلفت يحكم ببراءتها، فيقول: حضر عندي فلان وكيلاً لفلانة، وفلان أصيلاً عن نفسه، وادعى الثاني على موكلة الأول كذا وكذا، ولم يأت ببينة، وأَرْسَلْتُ من يُحلفها فحَلفت أمامه، وبناء على ذلك أحكم ببراءتها.
قوله: «وكذا المريض» يعني أن المريض لو لزمه يمين، ولا يستطيع أن يحضر بنفسه إلى مجلس الحكم فإن القاضي يُرسل من يُحلفه، وليس كل مريض يُفعل به هكذا، بل المريض الذي لا يستطيع الحضور إلى مجلس الحكم، فالمرض إذاً نوعان:
الأول: يستطيع معه أن يحضر إلى مجلس الحكم، فيلزمه الحضور.
الثاني: لا يستطيع معه الحضور فلا يلزمه، ويقال له: وُكِّل، فإذا لزمه اليمين أرسل إليه من يحلفه.(15/311)
بَابُ طَرِيقِ الحُكْمِ وَصِفَتِهِ
إِذَا حَضَرَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ قَالَ: أَيُّكُمَا الْمُدَّعِي، فَإِنْ سَكَتَ حَتَّى يُبْدَأَ جَازَ، فَمَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى قَدَّمَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ حَكَمَ لَهُ عَلَيْهِ،....
قوله: «طريق» طريق الشيء ما يوصل إليه، ومنه طريق البلد؛ لأنه يوصل للبلد.
قوله: «الحكم» وهو الفصل في الخصومات، يعني باب الطريق الذي نتوصل به إلى الحكم بين الناس.
سبق لنا أن الخصمين يدخلان على القاضي، وأنه يجب أن يعدل بينهما، في لفظه، ولحظه، ودخولهما عليه، ومجلسه، أي: في أربعة أشياء، فإذا دخلا عليه على هذه الصفة، فكيف يتوصل إلى الحكم بينهما؟ يقول المؤلف:
«إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يُبدأ جاز» إذا حضر الخصمان وجلسا يبن يدي القاضي، فهو يُخير إن شاء قال: أيكما المدعي؟ ولو قال إيش عندكما؟ يجوز؛ لأن هذه الألفاظ ليست للتعبد، المهم أن يسألهما أيكما المدعي؟ فإن قال كلمة سواها تؤدي معناها فلا بأس، أو يسكت حتى يبدأ أحدهما، فصار إذا حضر إليه الخصمان يخير القاضي بين أن يسألهما أو يسكت، لكن إذا سكتوا، فإلى متى الانتظار؟ لأن القاضي قد يكون عنده معاملات ينظر فيها، فإن خاف أن يظن المدعيان أنه مشغول عنهما فليترك النظر؛ ليفسح لهما المجال في(15/312)
الكلام، المهم إذا سكت فلا بأس، ولكن لا شك أن المؤلف لا يريد من القاضي أن يسكت إلى ما لا نهاية له؛ لأن هذا ضياع لوقته ولوقتهما، لكن يسكت مدة يرى أنهما لو أرادا أن يتكلَّما تكلَّما، فإذا مضت مدة إذا أرادا أن يتكلَّما تكلَّما ولم يتكلَّما، قال لهما: ماذا عندكما؟ لأنهما قد يسكتان هيبة للمقام، لا سيما إذا كان القاضي مهيباً.
قوله: «فمن سبق بالدعوى قدمه» وهذا إذا ما كانت الدعوى من الجانبين، أي: أن كل واحد منهما يدعي على الآخر، فإن من سبق بالدعوى يقدمه، والغالب أن الدعوى تكون من جانب واحد، فأحد الخصمين مدعٍ والآخر مدعى عليه، وفي هذه الحال معلوم أن المدعي هو الذي سيتكلم.
قوله: «فإن أقر له حكمَ له عليه» «إن أقر» الفاعل يعود على المدعى عليه، «له» الضمير يعود على المدعي، أي: فإن أقر المدعى عليه للمدعي حكم القاضي للمدعي على المدعى عليه.
مثال ذلك: حضر إلى القاضي زيد وعمرو، فقال: أيكما المدعي؟ أو سكت حتى بدأ أحدهما، فقال زيد: أدعي على عمرو بمائة ألف ريال، فقال القاضي: ما تقول يا عمرو؟ قال: نعم، صحيح، له علي مائة ألف ريال، فإنه يحكم له عليه، وهذا ما يقع إلا نادراً؛ لأنه لو كان يريد أن يقر ما احتاج إلى أن يأتي إلى القاضي، إلا في مسألة ذكرها ابن القيم في «الطرق الحكمية» ، وهي أن شخصاً كلما ادُّعِيَ عليه عند القاضي أقر، وقال: أنا ما أقدر، ما عندي شيء، ثم يؤمر به فيحبس، ثم(15/313)
[*] يجيء أبوه ويفديه، ويعطي المدعي ما ادعاه، ويخرج الولد من السجن ويفعل ذلك مراراً، فجاء شخص ذات يوم إلى قاضٍ من القضاة وادعى عليه بدراهم كثيرة، وأقر، لكن القاضي اشتبه عليه الأمر، كيف يقر بهذه السرعة بهذه الدعوى؟! فما لبث أن جاء أبوه يشكو، يقول: هذا ابني، أنفد مالي، يقيم من يدعي عليه بدعوى كبيرة، ثم يقر، ثم يحبس ليسلم المدعى به، فأفتديه ويأخذ المال، نصفه له ونصفه للمدعي، فأتعبني، فقال: الحمد لله، إذاً فراستي ما خابت.
على كل حال، نقول: هذا الأمر نادر الوقوع، اللَّهم إلا لحيلة، لكن قد يقول إنسان: يمكن أن يقع هذا، مثل أن يكون الرجل في أول أمره يريد أن يأكل المال بالباطل، فلما حضر للقاضي تذكر حضوره بين يدي الله مع خصمه، فَلاَنَ قلبُهُ، وقال: إذاً أقر بالحق هنا؛ ليؤخذ مني قبل أن يؤخذ من عملي الصالح، وربما يكون هذا المدعى عليه قد نسي فأنكر، أو ادعى الوفاء مثلاً، ثم أثناء جلوسه عند القاضي تذكر، المهم على كل حال، إذا أقر حكم القاضي للمدعي على المدعى عليه بإقراره.
وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي: إِنْ كَانَ لَكَ بَيِّنَةٌ فَأحْضِرْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنْ أَحْضَرَهَا سَمِعَهَا وَحَكَمَ بِهَا، وَلاَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ،..........
قوله: «وإن أنكر» أي: المدعى عليه.
قوله: «قال للمدعي» أي: قال الحاكم للمدعي:
«إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت» إذا أنكر المدعى عليه، يقول القاضي للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت، وانظر إلى التلطف مع الخصوم لا يقول: أحضر بينتك، بل يقول:(15/314)
أحضرها إن شئت؛ لئلا يكون في ذلك إلزام للمدعي، بل يقول: إن شئت، وإن قال كلمة غير هذه، بأن قال: يا فلان إن كان عندك بينة فهاتها، فلا بأس؛ لأن المقصود المعنى، إذ إن هذه ألفاظ ليست للتعبد، فأي لفظ حصل به المعنى كفى.
قوله: «فإن أحضرها» أي: المدعي.
قوله: «سمعها» أي: القاضي، بمعنى أنه يقبل الكلام، ويقول: شهادتكما صحيحة.
قوله: «وحكم بها» يعني يقول: ثبت لدي أن لفلان على فلان كذا وكذا. فالسماع سابق على الحكم.
وقوله: «فإن أحضرها سمعها» ظاهره أنه يسمعها مطلقاً، ولكنه مقيد بما إذا كانت البينة ذات عدل، فإن كان القاضي يعلم أن هذه البينة ليست ذات عدل، فإنه لا يسمعها أصلاً، وإذا لم يسمعها لم يحكم بها، وهنا هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه، أو يعتمد على علمه في عدالة الشهود إذا كان يعرفهما، أو لا يعتمد على علمه ويطلب تزكيتهما؟
الجواب: يعتمد على علمه، فإذا كان يعرف الشاهدين، وأنهما عدلان فلا يحتاج إلى طلب تزكيتهما من المدعي، أما إذا كان يعلم أنهما غير عدلين فإنه لا يسمعهما، بل يردهما.
وهل يجوز أن يمتحنهما، بأن يكرر عليهما السؤال؟ مثل أن يقول: كيف باع عليه؟ وفي أي وقت؟ وفي أي مكان؟ وهل هو غضبان؟ أو راضٍ؟ وما أشبه ذلك.
نقول: لا يجوز أن يعنت الشاهدين؛ لأن هذا يؤدي إلى(15/315)
كراهة الناس الشهادة، ولأنه إذا عنتهما فإن بعض الناس ليس عنده تلك القوة، فربما يتضعضع، ويضعف في أداء الشهادة، فلا يجوز تعنيتهما، ولا انتهارهما، ولا امتحانهما، إلا إذا صار عنده شك، فلا بأس أن يفرق الشهود، ويطلب من كل واحد شهادة، وينظر هل تتناقض الشهادة أو لا؟
وقوله: «وحكم بها» أي: بعد تمام شروط الحكم، بعد أن يتضح له الحكم الشرعي، وإلا فلينتظر.
قوله: «ولا يحكم بعلمه» يعني لو تخاصم إليه اثنان، وهو يعلم أن المدعي صادق فيما ادعاه، فهل يحكم بعلمه؟ المؤلف يقول: لا يحكم بعلمه، ولو كان يعلم مثل الشمس أنه صادق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» (1) ، ولم يقل: بنحو ما أعلم، فجعل الحكم مبنياً على الأمور الحسية الظاهرة؛ لئلا يكون القاضي محل تهمة؛ لأنه إذا حكم بعلمه قال الناس: حكم لفلان على فلان، وهو مدعٍ بدون شهود فيتهمونه.
ثم لو فتحنا الباب وقلنا: إن هذا القاضي من أعدل عباد الله ولا يحكم إلا بالحق، يأتي قاضٍ آخر ويحكم بالباطل، ويقول: هذا الذي أعلمه! وهذا ممكن، فلو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فَسدُّ الباب هو الأولى.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحيل/ باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت ... (6967) ، ومسلم في الأقضية/ باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) عن أم سلمة رضي الله عنها.(15/316)
فإذا تحاكم إليَّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين؛ لأن المدعى عليه جاء عندي البارحة وأقر، فماذا أعمل؟ أحوِّل القضية إلى قاضٍ آخر، وأكون شاهداً.
وظاهر كلام المؤلف أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً، ولكن هنا ثلاث مسائل استثناها العلماء، قالوا: إنه يحكم بعلمه فيها:
الأولى: عدالة الشهود وجرح الشهود، فإذا كان يعلم عدالة الشاهدين حكم بشهادتهما بدون طلب تزكية، وإذا كان يعلم جرحهما رد شهادتهما بدون جارح؛ لأن هذا ليس حكماً مباشراً حتى يتهم القاضي فيه، وإنما هو حكم بسبب الحكم، أو حكم بالذي ينبني عليه الحكم.
الثانية: ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به، مثل أن يتحاكم إليه اثنان، وفي أول الجلسة أقر المدعى عليه بالحق، ثم بعد ذلك أنكر، فيحكم عليه؛ لأنه ما زال في مجلس الحكم، وقد سمع من المدعى عليه الإقرار فوجب عليه أن يحكم به، حتى لو أنكر بعد ذلك ما يقبل.
الثالثة: إذا كان الأمر مشتهراً واضحاً بيناً، يستوي في علمه الخاص والعام، القاضي وغيره، فهنا يحكم بعلمه، مثال ذلك: اشتهر في البلد أن هذا الملْك وَقْفٌ على الفقراء من أزمان طويلة، فجاءت ذرية الواقف، وقالوا: هذا لنا، هذا لأبينا ولجدنا، وكان القاضي يعلم كما يعلم سائر الناس أن هذا الملْك وقف، فهنا يحكم بعلمه؛ لأنه مشتهر والاتهام منتفٍ، ودخول من لا يوثق فيه ـ أيضاً ـ منتفٍ.(15/317)
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: مَا لِي بَيِّنَةٌ، أَعْلَمَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ لَهُ الْيَمِينَ عَلَى خَصْمِهِ، عَلَى صِفَةِ جَوَابِهِ، فَإِنْ سَأَلَ إِحْلاَفَهُ أَحْلَفَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِيَمِينِهِ قَبْلَ مَسْأَلَةِ الْمُدَّعِي، وَإِنْ نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ المُنْكِرُ ثُمَّ أَحْضَرَ المُدَّعِي بَيِّنَةً حَكَمَ بِهَا، وَلَم تَكُنِ الْيَمِينُ مُزِيْلَةً لِلْحَقِّ.
قوله: «وإن قال المدعي: ما لي بينة» «ما» نافية، يعني ليس لي بينة، والبينة سيأتي ـ إن شاء الله ـ أنها تختلف باختلاف المشهود به، فقد تكون رجلاً وامرأتين، وقد تكون رجلين، وقد تكون امرأةً واحدةً، حسب المشهود به كما سيأتي إن شاء الله.
وقوله: «ما لي بينة» هنا نقول: إنه ينبغي للمدعي أن يقول: لا أعلم لي بينة؛ لأنه قد يكون هناك بينة لم يعلم بها، أو نسيها، ثم إذا أقامها بعد أن قال: ما لي بينة، فإنها لا تسمع على المشهور من المذهب كما سيأتي إن شاء الله، فالأحسن أن يقول: لا أعلم لي بينة.
قوله: «أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه» لا على حسب دعوى المدعي، فإذا لم يكن لك بينة وأنكر المدعى عليه نقول: إن لك اليمين على خصمك على صفة جوابه، لا على ما ادعيت، فمثلاً إذا قال: أدعي بمائة، وقال الخصم: إنه لا يستحق عليَّ إلا خمسين فكيف يحلف؟ يقول: والله لا يستحق عليَّ إلا خمسين، ولا حاجة إلى أن يقول: والله لا يطلبني مائةً؛ لأنه ما يُلزم باليمين إلا على صفة ما أجاب به، فيُحلّف على صفة ما أجاب به، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، والتعليل أن اليمين في
__________
(1) أخرجه البيهقي (10/252) ، وأخرجه الترمذي والدارقطني بلفظ: «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» . وأصله في الصحيحين بدون قوله: «البينة على المدعي» .(15/318)
الخصومات تكون في جانب أقوى المتداعيين، وهنا لدينا مدعٍ ومدعى عليه، وجانب المدعى عليه أقوى؛ لأن الأصل معه، فالأصل عدم ثبوت ما ادعى به المدعي، إذاً ترجح جانب المدعى عليه لكون الأصل معه، فكانت اليمين في حقه لا في حق المدعي.
وهذه القاعدة لها فروع تؤيدها، فمثلاً: إذا ادعى شخص بشيء على آخر، وأتى بشاهد وحلف مع الشاهد، حُكم له بذلك؛ لأن الشاهد الواحد لا يكفي لكن يقوى جانبه به، فتشرع اليمين في حقه، فإذا حلف حُكم له.
في باب القسامة جانب المدعي أقوى من جانب المدعى عليه.
كذلك ـ أيضاً ـ لو ادعت المرأة بعد أن فارقها زوجها أن الثياب التي في الغرفة لها، وهي ثياب امرأة، وقال الزوج: بل هي لي، فهنا جانب المرأة أقوى، فتأخذ ذلك بيمينها.
ومثله ـ أيضاً ـ رجل أصلع، يركض وراء رجل هارب، وعليه غترة وبيده غترة، والأصلع يقول: هذه غترتي، فالأصلع مدعٍ، فتكون الغترة له بيمينه؛ لأن جانبه أقوى.
قوله: «فإن سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله» «إن سأل» الفاعل المدعي، «إحلافه» الضمير يعود على المدعى عليه، والمسؤول إحلافه القاضي، يعني إن سأل المدعي القاضي إحلاف المدعى عليه، فقال له القاضي: احلف، فحلف، فإنه يخلي سبيله وتنتهي القضية، وتنفك الخصومة.(15/319)
قوله: «ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي» أي: لا يعتد بيمين المنكر قبل سؤال المدعي الحاكمَ أن يحلفه، فلو أن الحاكم تعجل لما رأى المدعى عليه أنكر، قال: احلف، قبل أن يقول خصمه: حلِّفه، فإن اليمين هنا لا يعتد بها؛ لأن هذه اليمين صارت قبل وجود السبب، وتقدم الشيء على سببه لا يعتد به، كما قرره ابن رجب ـ رحمه الله ـ في القواعد، فالحق للمدعي، فإذا حلّفه قبل سؤاله، فقد حلفه قبل وجود السبب، فلا يعتد بهذه اليمين.
ولكن إذا جرى عرف القضاة بأنه لا يحتاج إلى مسألة المدعي، وحَلَّفوه بدون مسألته، فإن الطلب العرفي كالطلب اللفظي.
قوله: «وإن نكل قضى عليه» «إن نكل» يعني امتنع المدعى عليه عن اليمين، قضي عليه القاضي.
لكن هل يقضي عليه فوراً؟ لا، يقول المؤلف.
«فيقول: إن حلفت وإلا قضيت عليك» «إن حلفت» فعل الشرط وجواب الشرط محذوف تقديره خليت سبيلك، وإلا تحلف قضيت عليك، فربما إذا قال له هذا القول يخاف فيحلف، ولهذا لا بد أن يقول له القاضي هذا القول، ولا يكتفي بمجرد نكوله.
قوله: «فإن لم يحلف قضى عليه» وإن حلف خلى سبيله.(15/320)
وظاهر كلام المؤلف أن اليمين لا ترد على المدعي، بل يُحكم للمدعي بمجرد نكول المدعى عليه، فمثلاً ادعى زيد على عمرو بمائة ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بينة، وطلب أن يحلف المُنكر ـ الذي هو عمرو ـ فقال عمرو: لا أحلف، فظاهر كلام المؤلف أنه يحكم عليه ولا نقول لزيد ـ المدعي ـ: احلف أنك تطلبه كذا وكذا؛ لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة، وجعل اليمين في جانب المنكر، إذاً لا نرد اليمين؛ لأن المدعي إذا قلنا له: احلف، قال: لا أحلف، أنا ما علي إلا البينة وما عندي بينة، فبيِّنتي نُكُولُ هذا الرجل، وهذا هو المشهور من المذهب.
القول الثاني: أن اليمين ترد على المدعي؛ لأنه لما نكل المدعى عليه قوي جانب المدعي، والمدعي إذا كان صادقاً في دعواه فالحلف لا يضره، وإن كان كاذباً فقد يهاب الحلف ولا يحلف، فعلى القول بالرد إذا نكل المدعي نقول: إذاً لا شيء لك، ما الذي يجعلك تأبى أن تحلف وأنت محق؟ لو كنت محقاً حقيقة لحلفت، والحلف على الحق لا يضر.
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إذا كان المدعي يحيط بالشيء دون المدعى عليه، فترد عليه اليمين، وإن كان العكس فلا ترد عليه اليمين، مثلاً إذا جاء رجل إلى ورثة ميت، وقال: أنا أدعي على مورثكم ألف ريال، فتكون ألف الريال في التركة، وإذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/321)
أخذت من التركة نقص حق الورثة، والورثة قالوا: ليس لك حق أبداً، فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: ما عندي بينة، وليحلف الورثة أنه ليس في ذمة مورثهم لي شيء، فقال الورثة: لا نحلف، ولا ندري عن مورثنا، فقد يكون اشترى منك شيئاً، ولا أوفاك، ويمكن أنه مستقرض شيئاً ولا أوفاك فلا نحلف، أنت أعلم بذلك منا.
فظاهر كلام المؤلف أنه يحكم عليهم، ويقال: احلفوا على الأقل على نفي العلم، فإن أبوا يحكم عليهم، وعلى القول الثالث يقال للمدعي: هذا الشيء أنت تحيط به علماً، والمدعى عليهم لا يحيطون به علماً، فعليك اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه إذا كان المدعي يحيط علماً بالمدعى به دون المدعى عليه، فإن اليمين ترد عليه، وإن كانا جميعاً يحيطان به علماً فلا ترد، وإن كان كلُّ منهما لا يحيط به علماً فلا ترد أيضاً، كما لو ادعى ورثة زيد على ورثة عمرو بأن لمورثهم على مورث الآخرين كذا وكذا.
ولو قال قائل بأن هذا يرجع إلى نظر الحاكم واجتهاده، لا إلى ما يحيط به المدعي أو المدعى عليه علماً، ولا إلى ما لا يحيطان به علماً، لكان له وجه قوي؛ لأن القاضي قد يعلم من قرائن الأحوال أن المدعي مبطل، فيرى أن رد اليمين عليه متأكد؛ والمدعى عليه رجل بريء، وهَابَ أن يقول: واللهِ ما عندي له شيء؛ خشية أن يكون ناسياً، فهنا يمكن للقاضي أن يرد اليمين على هذا المدعي؛ لأنه يترجح عنده كذب المدعي، وصدق المدعى عليه.(15/322)
وهذا القول عندي هو الأرجح، وإن كنت لم أطلع على قائلٍ به، ولكن ما دام قولاً مفصلاً يأخذ بقول من يقول بالرد من وجه، وبقول من لا يقول بالرد من وجه، فيكون بعضَ قول هؤلاء، وبعضَ قولِ هؤلاء.
وهو لا ينافي قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان المدعي يحيط بالشيء دون المدعى عليه، فإنه يترجح أن نرد اليمين عليه؛ لأن هذا المنكر إنما امتنع من اليمين تورعاً، وهذا يمكنه الإحاطة، فلماذا لا نرده عليه؟!
فهذه المسألة فيها أربعة أقوال:
الأول: أنها لا ترد مطلقاً، وهذا هو المذهب.
الثاني: أنها ترد مطلقاً، وهو قول آخر في المذهب.
الثالث: أنها ترد على من كان محيطاً بالشيء دون من لم يكن محيطاً به، وهذا اختيار شيخ الإسلام.
الرابع: وهو احتمال أن يقال: يرجع هذا إلى اجتهاد القاضي، فإن رأى أن ترد اليمين على المدعي فعل، وإن لم يرَ لم يفعل.
قوله: «وإن حلف المنكرُ ثم أحضر المدعي بينةً حكم بها» يعني عقب ما حلف المدعى عليه عند القاضي، وخلى سبيله، جاء المدعي ببينة عند القاضي، وقال: وجدت شاهدين مُزكَّيين فيحكم القاضي بالبينة؛ لأن اليمين يُقصد بها فكُّ الخصومة، بحيث لا يتعرض المدعي للمدعى عليه، فما تبرئ الإنسان إبراء تاماً، والبينة تثبت الحق، ولهذا قال المؤلف:(15/323)
«ولم تكن اليمين مزيلةً للحق» فاليمين لا تزيل الحق، لكنها ترفع الخصومة فقط.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا قال المدعي: ما لي بينة، ثم أحلفنا خصمه وحلف، ثم أتي بالبينة فإنها تقبل، وهذا القول الذي ذهب إليه المؤلف هو الحق في هذه المسألة، أما المذهب فيقولون: لا تقبل البينة؛ لأنه هو نفسه يكذب البينة؛ لأنه قال: ما لي بينة، فما دام ما لك بينة، فكيف جاءت البينة؟! فأنت أول من يشهد بكذبها، فكيف تدعي بما تشهد أنه كذب؟! هذا هو تعليلهم وهو ضعيف.
لكن الذي مشى عليه المؤلف ـ وهو القول الثاني، في المسألة ـ يقولون: إن قول المدعي: (ما لي بينة) قد يكون بحسب اعتقاده، ويكون له بينة لم يعلم بها، أو يكون له بينة لكن نسيها، أو يكون له بينة ظن أنها ماتت، فقوله: ما لي بينة، ثم إتيانه بعد ببينة لا يستلزم تكذيب البينة أبداً، وليس هنالك لزوم عقلي ولا لزوم شرعي.
ثم لو تنازلنا وقلنا: إن هذا الكلام وهو احتمال النسيان أو الموت مجرد احتمال، فهل العامي يفرق بين قوله: ما لي بينة، وقوله: وما أعلم لي بينة؟!
أبداً، العامي لا يفرق، ولو قيل له: ألست طلقت امرأتك، فقال: نعم، تطلق، ولو كان لغوياً لم تطلق؛ لأنه يفهم «نعم» بمعنى «بلى» ، فالعامي في الواقع لا يفرق بين قوله: ما لي بينة، وبين قوله: ما أعلم لي بينة، اللَّهم إلا إذا كان المدعي رجلاً(15/324)
متمرساً في الدعاوى، كالذي يسمونه المحامي، فإن المحامين يدرسون الدعاوى على أنها فن من الفنون، كالمهندس يدرس الهندسة على أنها فن، فهو مهندس دعاوى، فتجد المحامي يأتي بحجج أكبر من الجبال، ولو كان مبطلاً وكاذباً؛ لأنه يكسب بهذا أمرين:
الأول: المال المجعول له.
الثاني: مهارته في المحاماة وقدرته عليها.
فما ذهب إليه المؤلف هو الصواب، وهو أنه إذا قال: ما لي بينة، ثم أحضر بينة فإنها تقبل.
وإذا لزم الأخرس يمين فكيف يحلف؟
يحلف بالإشارة، والأخرس له إشارة يعرفها الناس، فإشارته تقوم مقام عبارته.
ويتخوف الناس من اليمين في الخصومة إذا كان صاحبها كاذباً فإن العقوبة أسرع إليه من ظله، وقد حكيت حالات تؤيد هذا التخوف، وكما قال بعض السلف: اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع يعني خالية من الناس.
* * *(15/325)
فَصْلٌ
وَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ مُحَرَّرَةً، مَعْلُومَةَ المُدَّعَى بِهِ إِلاَّ مَا نُصَحِّحُهُ مَجْهُولاً كَالْوَصِيَّةِ وَبِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ مَهْراً وَنَحْوِهِ،...........
قوله: «ولا تصح الدعوى» وهي ادعاء الإنسان على غيره حقاً، أو براءة من حق، كأن يدعي على غيره حقاً، فيقول: أنا أطلب فلاناً كذا وكذا، أو براءة منه بأن يُدعى عليه فينكر، فهذه ـ أيضاً ـ نوع من الدعوى، وإن كانت تسمى إنكاراً.
فالدعوى أولاً ينظر إليها من ناحية الجواز، فهل يجوز للإنسان أن يدعي على غيره حقاً؟
الجواب: نعم، إذا كان ثابتاً فله أن يدعي عليه الحق، وأما إذا كان ظلماً فإن النصوص كثيرة في عقوبة من ادعى على غيره شيئاً باطلاً، يقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه غضبان» (1) ، فإذا جازت الدعوى فلا بد لها من شروط:
الأول: ذكره المؤلف بقوله:
«إلا محررةً» وتحرير الشيء بمعنى تنقيته عن كل الشوائب، وذلك بأن يذكر جنس المُدعى به، ونوعه، وصفته، وقدره، حتى يبقى متميزاً، ظاهراً، محرراً، مخلصاً من شوائب الجهل، وهذا معنى قوله:
«معلومة المدعى به» فلا يكفي أن يقول المدعي: أنا أدعي عليه طعاماً، فهذه دعوى غير مسموعة ولا تصح حتى يحررها،
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد/ باب قول الله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *} ... (7445) ، ومسلم في الإيمان/ باب وعيد من اقتطع حق مسلم ... (138) عن ابن مسعود رضي الله عنه.(15/326)
فيقول: بُرّاً، أو رزاً، أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي هذا ـ أيضاً ـ حتى يقول: إن قدره كذا وكذا، مائة صاع، مائتا صاع، وما أشبه ذلك، ولا يكفي هذا ـ أيضاً ـ حتى يضيف إليه ذكر الوصف، الجودة، والرداءة، وما أشبه ذلك، فالمهم لا بد أن تكون محررة من جميع الجوانب، ومن كل وجه، فلو ادعى عليه بعيراً لم تثبت؛ لأنها مبهمة حتى يبين، فيقول: بعيراً رباعية، ثنياً وما أشبه ذلك، صفتها كذا وكذا، جنسها كذا وكذا، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وقيل: تصح الدعوى غير محررة ويسمعها القاضي، ويطلب من المدعي تحريرها، فإذا قال: أدعي عليه بعيراً، يسمع، ولكن يقول: صفها، اذكر نوعها، جنسها، وما أشبه ذلك، وهذا أصح، لا سيما في الأمور التي تحتاج إلى دقة وصف، مثل لو قال: أنا أدعي عليه أرضاً، أدعي أن هذا الملك الذي بيده يتصرف فيه لي، فتسمع الدعوى، ثم بعد ذلك يطلب من المدعي أن يحررها ويميزها؛ لأنه لا يمكن الحكم إلا بتحريرها.
واستدل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على ذلك بقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» (1) ، والقضاء لا يمكن إلا بعد معرفة المقضي به، وإلا فإنه لا يمكن القضاء بشيء مبهم.
قوله: «إلا ما نصحِّحه مجهولاً كالوصية» فتصح الدعوى به، ويحكم القاضي بها، ثم يُعطى ما يترتب على ذلك، فالوصية
__________
(1) سبق تخريجه ص (316) .(15/327)
بالمجهول تصح، مثل لو أوصى له من ماله بشيء، فشيء مجهول، فتصح.
لكن ماذا نعطيه من المال؟ قالوا: يعطيه الوارث ما شاء مما يطلق عليه أنه مال، فلو أعطاه درهماً من مائة مليون درهم صح، لأنه يطلق عليه شيء، ولو أعطاه ثوباً من ثيابه صح؛ لأنه يطلق عليه أنه شيء.
فلو قال: أنا أدعي على الورثة بأن مورثهم أوصى لي بشيء، فلا يقول القاضي: لا نسمع الدعوى، بل يقول: نسمعها، وإذا أتيت بشهود حكمنا لك بأن لك وصية في ماله بشيء، فلو أوصى له بسهم من ماله فإنه يصح لكن الفقهاء قالوا: إنه يعطى السدس بناءً على آثار وردت في ذلك.
قوله: «وبعبدٍ من عبيده مهراً ونحوه» بأن تدعي المرأة بأن زوجها أمهرها عبداً من عبيده، فهذه الدعوى تصح؛ لأن المهر يصح بالمبهم، إذاً ما صح أن يكون عوضاً أو أن يكون مُستحقاً صحت الدعوى به؛ لأن الدعوى فرع على صحة العقد.
وإذا خالعت على عبد من عبيدها، أو شاة من قطيعها، فادعى الزوج بأن الزوجة خالعته على ذلك، صحت دعواه، وتُلزم المرأة بإعطائه عبداً من عبيدها، وحينئذ يرجع في ذلك إلى ما ذكره أهل العلم.
الشرط الثاني: أن تكون الدعوى منفكة عما يكذبها، وهذا الشرط مجمع عليه، فلو ادعى على شخص أنه سرق منذ عشرين سنة، وعُمْرُ هذا المدعى عليه سبع عشرة سنة فإن الدعوى لا(15/328)
تصح؛ لأننا لو سمعناها لكان معنى ذلك أننا حكمنا على هذا الإنسان بأنه سرق قبل أن يولد بثلاث سنين، وهذا شيء مستحيل! فإن قرن بها ما يكذبها لم تسمع ولا تصح.
الشرط الثالث: أن تمكن المطالبة بالحق حالاً، فلو ادعى عليه بمؤجل من أجل إثباته، قال: أنا أدعي عليه بمائة تحل بعد سنة، فإن ذلك لا يصح؛ لأن المدعي لا يمكن أن يطالب بذلك، حتى لو ثبت له ما أمكنه المطالبة؛ لأنه مؤجل، فيقال له: اصبر حتى يحل، ثم بعد ذلك ادعِ عليه وطالب، أما قبل أن يحل فإننا لا نسمع منك هذه الدعوى.
وهذا الشرط فيه خلاف، والصحيح أنه تجوز الدعوى بالمؤجل لإثباته؛ لأن هذا المدعي يقول للقاضي: أثبته لي، وأنا ما أطالبه الآن، ولكني أريد بالمطالبة إثباته؛ خوفاً من أن يموت الشهود، أو ينسوا، أو ما أشبه ذلك، وهذه لا شك أنها وجهة نظر صائبة، فإن المدعي له وجهة نظر، وله حق في ذلك.
الشرط الرابع: ذكر سبب الاستحقاق، فلا تصح الدعوى بدون ذكر السبب، وهذا ـ أيضاً ـ محل وفاق، فلو ادعى الإرث، وقال: أنا وارث هذا الرجل الميت، قلنا: ما علاقتك به؟ ما صلتك به؟ فإن لم يذكر السبب لم تصح الدعوى.
ولو قال قائل: اسمعوها واطلبوا السبب، لكان وجيهاً؛ لأننا نقول: صحيح أنه لا بد من ذكر السبب، ولا يستحق إلا بذكر السبب، لكن جَعْلُنا ذلك شرطاً في سماع الدعوى فيه نظر، وإن كان بعض الفقهاء قالوا: هذا لا نزاع فيه، لكن ينبغي أن(15/329)
يكون فيه نزاع؛ لأننا نقول: نسمع الدعوى ثم نطالبه بالسبب.
الشرط الخامس: ذكر الشروط، فلو ادعى عقد بيع، أو إجارة، أو نكاح، أو وقف، أو غير ذلك، فلا بد من ذكر الشروط، وأشار إليه المؤلف بقوله:
وَإِنِ ادَّعَى عَقْدَ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ، وَإِن ادَّعَتِ امْرأَةٌ نِكَاحَ رَجُلٍ لِطَلَبِ نَفَقَةٍ، أَوْ مَهْرٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا سُمِعَتْ دَعْوَاهَا، وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ سِوَى النِّكَاحِ لَمْ تُقْبَلْ،......
«وإن ادعى عقد نكاح، أو بيع، أو غيرهما، فلا بد من ذكر شروطه» فلا يكفي أن يقول: أدعي أن هذا الرجل باع عليَّ ملكه، حتى يبين شروط صحة البيع، فيقول: باعه علي وهو مالك له، بثمن معلوم، ويذكر بقية الشروط؛ لأن الحكم بالشيء فرع عن تصوره، وإذا لم نتصور هذا الشيء كيف وقع فإننا لا نحكم به، وكيف نحكم بالبيع بدون أن تذكر شروطه؟! وهذا هو المذهب.
والصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح الدعوى بالعقد بدون ذكر الشروط، فيقول: أنا أدعي عليه أنه باع عليَّ، ثم يأتي بالشهود ويحكم له بالبيع، ولا حاجة أن يذكر الشروط.
ولو ادعى المدعى عليه اختلال شرط من الشروط، أو وجود شيء من الموانع، فحينئذ تكون دعوى جديدة، والأصل الصحة، وأن هذا العقد جارٍ على مقتضى الشرع، وأنه لا مانع، فنطالب المدعي ـ بعد أن نحكم بصحة البيع ـ بما يدعيه من انتفاء شرط، أو وجود مانع.
مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بأنه باع عليه الأرض الفلانية، وأتى بالشهود، وحكم القاضي بصحة البيع، فعلى(15/330)
المذهب الحكم غير صحيح، فلا بد أن يعرف أن هذا البيع وقع من أهله بشروطه، والصحيح أنه يصح، لكن للمحكوم عليه ـ صاحب الأرض ـ أن يدعي انتفاء شرط من الشروط، أو وجود مانع، فله ـ مثلاً ـ أن يقول: نعم، أنا بعت هذه الأرض، لكن لم يكن قد رآها، ومن شروط صحة البيع في الأرض ونحوها رؤية المبيع، فهنا نقول: هذه دعوى جديدة، والأصل الصحة حتى يقوم دليل الفساد، فنقول: البيع تم، والأصل فيه الصحة، ولا يمكن أن ينقض.
كذلك لو ادعى وجود مانع، بأن قال: نعم، أنا بعت عليه، لكن بعد أذان الجمعة الثاني، والبيع بعد أذان الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة لا يصح.
نقول: هذه دعوى جديدة، والأصل الصحة وعدم وجود المانع.
المهم أن هذا الشرط الخامس في الدعوى مختلف فيه فالمذهب أنه لا بد من ذكر الشروط، والصحيح أنه ليس بشرط، وهذا اختيار صاحب أصل هذا الكتاب ـ أي: المقنع ـ وهو الموفق أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة ـ رحمه الله ـ من أئمة المذهب، وكذلك شارح المقنع.
وفصل بعض العلماء فقال: يشترط في النكاح ذكر الشروط، وفي غيره كالبيع، والإجارة، والرهن، وغيرها لا يشترط، والصحيح أنه لا فرق، وأن من ادعى عقداً فأقام بينة حكم له بمقتضى هذه البينة، والأصل الصحة والسلامة.(15/331)
قوله: «وإن ادعت امرأةٌ نكاحَ رجلٍ لطلبِ نفقة، أو مهر، أو نحوهما سُمعت دعواها، وإن لم تدعِ سوى النكاح لم تقبل» «لم تقبل» هنا بمعنى لم تسمع، أي: لم تسمع دعواها.
وفرق بين القبول والسماع، السماع معناه أن يتقبل القاضي الدعوى، وينظر فيها، والقبول أن يقبل قول الخصم، كامرأة ادعت على رجل أنه زوجها، فقال: أبداً ما أعرفك ولا تعرفيني، قالت بل أنت زوجي فحضرا عند القاضي، فقال القاضي: لماذا ادعيتِ أنك زوجته؟ قالت: لأطالبه بالمهر، فيسمع الدعوى وينظر فيها، ولكن لا يقبل قولها إلا بشهود؛ لأنها مدعية.
كذلك في النفقة، قال القاضي: لماذا ادعيت عليه النكاح؟ قالت: لأني منذ تزوجته ما أنفق عليّ، فتسمع الدعوى.
وقوله: «أو نحوهما» أي: من الأمور المالية كالسكنى وغير ذلك، فإننا نقبل دعواها، قالت مثلاً: أنا أدعي عليه النكاح؛ لأجل أن يستأجر لي بيتاً، أو ما أشبه ذلك، نقول: هذه الدعوى مسموعة، فإن أتت ببينة حكمنا بما تدعي، وإلا قلنا للزوج المدعى عليه: احلف، فإذا حلف خُلِّيَ سبيله كما سبق.
أما إذا لم تدعِ إلا النكاح أحضرته عند القاضي وادعت أنها زوجته، أو أنه تزوجها، فقال القاضي: لماذا تدَّعين عليه؟ هل تريدين المهر؟ قالت: أنا لا أريد نفقةً ولا مهراً، لكن أدعي على هذا الرجل أنه زوجي، يقول المؤلف: فلا تسمع دعواها؛ لأن(15/332)
الحق في النكاح للزوج، فهو الذي يطالب به، وهو الذي يختار المرأة، ويُعقد له عليها.
ولكن في هذه الصورة لو قالت: أنا أدعي عليه ليفارقني، أنا ما أريد منه نفقة، ولا مهراً، ولا غيرهما لكن أنا زوجته، أدعي بذلك لأجل أن يفارقني، فهل تسمع الدعوى أو لا؟
الجواب: نعم، تسمع، وهذه غريبة!! ادعت شيئاً لتفر منه، ادعت الزواج من أجل الفراق؛ لأنها تقول: هذا الرجل لا يقر بأني زوجته، لكن أنا أريد أن يطلقني؛ لأني أعتقد أني زوجته، وإذا كنت أعتقد أني زوجته، فلا يمكن أن أتزوج، وأنا امرأة أريد الزواج.
فنقول: في هذه الحال تسمع الدعوى، ويؤمر الزوج بالطلاق، فيقال للزوج: طلق، وأنت لا يضرك شيء، فلن يؤخذ منك لا مهر، ولا نفقة، ولا شيء، لكن طلق بناء على دعواها، فيقولون: لا بد أن يطلق في هذه الحال ليفك أسرها.
والحقيقة أن هذا الكلام ذكروه في باب الإقرار، ولا شك أن فيه راحة للمرأة، لكن فيه مشكلة أخرى، وهي أن كل امرأة تريد إيذاء شخص تدعي عليه أنها زوجته؛ من أجل أن توصله إلى القاضي، وتجره إلى المحاكم لتتعبه عند المحاكم! فهي من وجه تقوي القول بأنه لا بأس أن تسمع الدعوى، ويؤمر الرجل بالفراق، ومن وجه آخر يقال: إن عدم سماع الدعوى أولى، ويقال: أنت الآن لست مزوجة، بحسب الحكم الظاهر عند الله، فلك أن تتزوجي، فأيهما أولى، أن نعتبر هذه المسألة وأن بعض(15/333)
النساء قد يتخذ من هذا القول وسيلة إلى الإضرار بالرجال؟ أو أن نعتبر الجهة الأخرى، وهي أن هذه المرأة جاءت معترفة بأنها زوجة فلان، تريد أن تبرئ ذمتها وأن تتخلص منه؛ لتتمكن من الزواج؟ إذا قارنا بين الجهتين، فإننا نرى أن الأقرب أن يلزم الزوج في هذه الحال بالفراق، واحتمال أن يكون قصدها الأذى وارداً، لكن احتمال أن تكون زوجته حقاً وارد أيضاً، ودفع هذه المضرة أعظم من دفع الأولى التي هي الأذية، وهذا الرجل نقول له: إذا كانت هذه المرأة قصدها الأذية فإنها لا شك سوف تجد عقابها، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أما أنت ففك خلاصها؛ لأن احتمال صدقها وارد.
والخلاصة: أنه إذا ادعت المرأة أن فلاناً زوجها ففي ذلك تفصيل، إن كان لأمر مالي كالمهر، والنفقة والسكنى وغير ذلك سمعت دعواها، وإن كان لمجرد أنها زوجته فإنها لا تسمع دعواها، ولكن لو طلبت أن يلزم بالطلاق فلها ذلك من أجل أن تتخلص من هذا الأمر، وللقاضي في مثل هذا إذا علم من قرائن الأحوال أن المرأة كاذبة، أن يصرف النظر عن هذه الدعوى، ويقول: ما دام لم يثبت عندي أنه قد تزوجها فلا أحكم عليه بإلزامه بطلاقها.
وَإِنِ ادَّعَى الإِرْثَ ذَكَرَ سَبَبَهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْبَيِّنَةِ ظَاهِراً وَبَاطِناً،.......
قوله: «وإن ادعى الإرث ذكر سببه» يعني قال: أنا وارث فلان، فلا بد من ذكر السبب، وأسباب الإرث ثلاثة: القرابة، والنكاح، والولاء، فلا بد أن يقول: أنا وارثه؛ لأنني قريبه، ولا بد أن يذكر جهة القرابة إن كان هناك مدعٍ آخر، يعني لو كان(15/334)
رجلان كل منهما يقول: أنا قريب فلان، فلا بد في الدعوى أن يذكر جهة القرابة، فيقول: أنا عم، أخ، ابن أخ، وما أشبه ذلك، وإن لم يكن له منازع يكفي أن يقول: أنا قريبه، ولكن هذا شرط لسماع الدعوى؛ لأن ذكر السبب من تحرير الدعوى، لا لثبوت الإرث؛ لأنه لا بد أن نطالبه ببينة تشهد بأنه قريب لهذا الرجل.
ولو ماتت امرأة فجاء رجل وقال: أنا وارثها بالزوجية سمعت دعواه، فإن قال: أنا وارثها فقط، فإننا لا نسمع دعواه حتى يعين السبب.
ولو مات عبد مملوك مولى لبعض الناس، فجاء رجل فقال: أنا وارثه، نقول له: بيِّن السبب، فإن قال: أنا مولى له، فإننا نسمع دعواه، ثم نطلب البينة.
وهل يشترط ذكر الشروط وانتفاء الموانع؟ هذا ينبني على ما سبق، والصحيح أنه لا يشترط.
قوله: «وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً» سبق لنا أنه إذا ادعى شخص على شخص بشيء طولب بالبينة، والبينة في الشرع كل ما أبان الحق وأظهره، ولهذا تسمى الكتب النازلة من السماء بينات؛ لأنها تظهر الحق وتبينه، كذلك ـ أيضاً ـ في باب القسامة في كتاب الجنايات تسمى العداوة الظاهرة لوثاً وبينة، ولهذا يكتفى فيها بيمين المُدَّعِين، لكن البينة في دعوى الأموال رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، وثبت بالسنة الصحيحة الصريحة أن(15/335)
النبي صلّى الله عليه وسلّم «قضى بالشاهد ويمين المدعي» (1) .
فهذه البينة وهي الرجلان، أو الرجل والمرأتان، يعتبر فيها العدالة ظاهراً وباطناً، فظاهراً فيما يظهر للناس، بحيث لا يظهر على الإنسان ريبة، ولا تهمة، كرجل يصلي، ومتستر، وما تجد عليه الكذب، وأما باطناً أي: في باطن حاله، وأمره الخفي، وهذا لا يعرف إلا بمعاملته معاملةٍ يَخبُر بها المعاملُ باطن هذا الرجل؛ لأنه يوجد كثير من الناس ظاهرهم الاستقامة، لكن عند المعاملة تجدهم ظلمة، غششة، كذبة، يحلفون الأيمان الكاذبة من أجل الدنيا، وهذا كثير، فلا بد من العدالة ظاهراً وباطناً، ولا يكتفى بالظاهر، فهذا دليل من النظر.
وأما الدليل من الأثر فقالوا: إن الأصل في المسلم عدم العدالة؛ لأن الله قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، ولم يقل: أشهدوا اثنين منكم، فتخصيص الشاهدين بذوي العدل، يدل على أن هذا وصف زائد على مطلق الإسلام، فلا بد من ثبوت العدالة؛ لأن عندنا إسلام، وعندنا عدالة، والعدالة وصف زائد على الإسلام، والأصل في الوصف عدمه لا وجوده؛ ولهذا قال أكثر أهل العلم: إن الأصل في المسلم عدم العدالة، وهذا قد نقول: إنه لا شك فيه بالنسبة لحق الآدمي، فلا نستبيح أموال الآدميين إلا بمن عرف بالعدالة ظاهراً وباطناً، أما فيما يتعلق بحق الله فإنه ينبغي أن يكتفى بالعدالة ظاهراً.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب القضاء باليمين والشاهد (1712) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(15/336)
وقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ اعتبار العدالة ظاهراً في عدة مسائل، منها: ولاية النكاح، والأذان؛ لأن هذا يغلب فيه جانب حق الله، فلو تقدم لنا إنسان ليكون إماماً، وظاهره الصلاح، فإننا لا نحتاج أن نقول: لا بد من إقامة بينة على عدالته باطناً، بل تكفي العدالة ظاهراً في حق الله، لكن في حقوق الآدميين المبنية على التحري والمشاحة، نقول: الأصل عدم العدالة حتى يتبين أنه عدل، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الأصل في بني آدم الظلم والجهل؛ لقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] ، والظلم والجهل هما السببان المنافيان للعدالة؛ لأن الإنسان لا يخالف الاستقامة، ولا يخرج عنها، إلا لظلمه، أو لجهله، فإن كان عالماً وخرج عن حد الاستقامة فهو ظالم، وإن كان جاهلاً وخرج عن حد الاستقامة فهو جاهل، فالمهم أن المذهب أنه لا بد من عدالة البينة ظاهراً وباطناً، واستدلوا بالنص وبالنظر.
وعن أحمد رواية أن المسلم عدل ما لم تظهر عليه الريبة، وهذه الرواية تومئ إلى أن الأصل في المسلمين العدالة، حتى يتبين ما يجرحهم، ولهذا قال العلماء: إن الخصم إذا جرح الشهود كُلِّف البينة به، ولو كان الأصل عدم العدالة لكان جرحه لا يحتاج إلى إقامة بينة، لكن سيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله.
ولشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ رأي آخر في الموضوع، يقول: إن العدالة الشرعية التي يشترط فيها فعل الطاعات وترك المحرمات، ليست شرطاً في الشهود، بل من رضيه الناس في(15/337)
الشهادة فهو مقبول الشهادة، ويُفرَّقُ بين التحمل والأداء، فعند التحمل لا نشهد إلا من هو عدل شرعاً وعُرفاً، حتى لا نقع في ورطة فيما بعد، وعند الأداء نقبل من يرضاه الناس، وإن لم يكن عدلاً في دينه.
فعلى رأي الشيخ تقبل شهادة الرجل المعروف بالغيبة، إذا كان مأموناً في شهادته غير متهم، وعلى المذهب لا تقبل.
وعلى رأي الشيخ تقبل شهادة حالق اللحية إذا كان غير متهمٍ في شهادته، وعلى المذهب لا تقبل.
وعلى رأي الشيخ تقبل شهادة من يأكل بالسوق، في بلد لم تجرِ العادة فيه بالأكل في السوق، وعلى المذهب لا تقبل؛ لأنه خالف المروءة، فخرج عن العدالة.
وعلى كل حال، كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ جيد عند الضرورة؛ وإلا ضاعت حقوق كثير من الناس، فاليوم من الذي لا يغتاب أحداً؟! إلا من رحم الله، فالغيبة في الناس كثيرة جداً! حتى في الناس الذين هم أهل خير، ويتقدمون إلى المساجد ويصلون الجمعات، ويتهجدون في الليل، تجدهم يغتابون الناس! فأقول: إن المسألة عظيمة، لو اعتبرنا العدالة التي حددها الفقهاء؛ إذ لا يخلو أحد من الناس من خدش في عدالته. والحاصل أن العدالة معتبرة ظاهراً وباطناً على المذهب إلا في مسائل محدودة كعقد النكاح والأذان، وعلى القول الثاني العدالة معتبرة ظاهراً فقط إذا لم يكن متهماً في ريبة فلا تقبل شهادته حتى يتبين زوال هذا الاتهام.(15/338)
وَمَنْ جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ سُئِلَ عَنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ عَدَالَتَهُ عَمِلَ بِهَا، وَإِنْ جَرَحَ الْخَصْمُ الشُّهُودَ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ بِهِ وَأُنْظِرَ لَهُ ثَلاَثاً إِنْ طَلَبَهُ، وَلِلْمُدَّعِي مُلاَزَمَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ حَكَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَ الْبَيِّنَةِ طَلَبَ مِنَ الْمُدَّعِي تَزْكيَتَهُمْ،...............
قوله: «ومن جُهلت عدالته سئل عنه، وإن عَلِم عدالته عمل بها» أحوال الشهود عند القاضي ثلاث:
الأولى: أن يجهل عدالة الشهود، وإلى هذا أشار المؤلف بقوله: «ومن جهلت عدالته سئل عنه» فإذا كان الشهود غير معلومي العدالة فإنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادتهم، ولا أن يرد شهادتهم، وماذا يصنع؟ يسأل ويبحث، وقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أنه ينبغي للحاكم أن يرتب من يسألون عن حال الشهود، يعني يجعل له لجنة همهم وشأنهم البحث عن حال الشهود، ليكون هذا أيسر وأسرع في الحكم، وفي عهدنا لا يوجد هذا، لكن يمكن للقاضي بطرقه الخاصة أن يسأل عن حال الشهود إذا جهل عدالتهم.
الثانية: أن يعلم عدالته، قال المؤلف: «وإن علم عدالته عمل بها» ولا يحتاج إلى تزكية، ولهذا من اللغو أن يشهد رجلان يعرف القاضي عدالتهما، ثم يقول: شهد فلان وفلان بكذا وكذا، وزكاهما فلان وفلان، وربما يكون المزكون أجهل وأظلم وأفسق عند القاضي من الشاهدين، لكن أصبح هذا عملاً إجرائياً.
الثالثة: أن يعلم القاضي فسقه فلا يعمل بشهادته، بل يردها، ولا حاجة إلى أن يطلب شهود الجرح؛ لأنه يعلم فسقه. فإن قيل وما حكم شهادة الذين يشربون الدخان؟
فعلى المذهب ترد شهادتهم، وأما على القول الثاني القائل: بأن العبرة بما يرضاه الناس فإنهم يقبلون إذا رضيهم الخصم.(15/339)
قوله: «وإن جَرحَ الخصمُ الشهود» أي: وصفهم بما ترد به شهادتهم، بأن قال: هذا يشرب الخمر، هذا يسرق، هذا يزني، وما أشبه ذلك مما ترد به الشهادة.
قوله: «كُلِّفَ البينة به» أي: ألزم بإقامة البينة؛ لسببين:
الأول: حمايةً لأعراض الناس، حتى لا يستطيل أحد على أحد بالجرح والسب.
الثاني: من أجل منع الحكم بشهادة هؤلاء الشهود.
وهل بينة الجرح لا بد أن تشاهد ما يجرح الشهود، بأن تقول: أشهد أني رأيته يفعل كذا وكذا، أو تقول: كذا وكذا، أو تكفي الاستفاضة؟ نقول: إما أن يشهد الجارح عن رؤية، أو سماع، أو مباشرة، أو عن استفاضة، ولهذا كثير من الناس ما نعلم عن فسقهم بما فعلوا بعينه، لكن يستفيض عند الناس أنهم فسقة، فللجارح أن يشهد بالاستفاضة، فإذا أتى بشهود الجرح قبلت شهادتهم، ولم يحكم بشهادة الشهود في الدعوى التي ادعاها الخصم؛ لانتفاء العدالة في حقهم؛ لأنه لما ثبت جرحهم انتفت عدالتهم.
قوله: «وأنظِرَ له» أي: لإثبات الجرح.
قوله: «ثلاثاً إن طلبه» إذا قال المدعى عليه، وهو الخصم: أنا أجرح هؤلاء بأنهم فسقة يشربون الخمر، يسرقون، يزنون، وما أشبه ذلك، يطالب بالبينة، ونقول: لك ثلاثة أيام، إن طلب الإنظار، وإن لم يطلب الإنظار، فإننا نطالبه بإحضارهم فوراً، وإن(15/340)
طلب أكثر من ثلاثة أيام فإنه لا يقبل ولا يطاع؛ لما في ذلك من الإضرار بخصمه، إلا إذا رضي خصمه فالحق له.
قوله: «وللمدعي ملازمته» أي: للمدعي ملازمة الخصم الذي جرح الشهود، بمعنى أن يبقى معه لا ينفك عنه، يروح معه ويتابعه، إذا خرج للمسجد يمشي معه، ويصلي بجنبه، وإذا راح للبيع والشراء يروح معه، وإذا راح الجامعة يروح معه، ويجلس إلى جنبه، وإذا دخل بيته يقف عند الباب، لماذا؟ قالوا: لئلا يهرب؛ لأنه يمكن أن يدعي الجرح ويقول: هؤلاء مجروحون، فيهم كذا وكذا من الفسق، ثم إذا خرج من المحكمة يختفي، فللمدعي أن يلازمه.
والملازمة في الحقيقة صعبة جداً إذا كان الحق يسيراً، كعشرة ريالات مثلاً، فقد لا يلازمه، لكن إذا كان الشيء كبيراً فإنه يلازمه، إما بنفسه، وإما بمن يقيمه مقام نفسه.
قوله: «فإن لم يأت ببينة حَكَمَ عليه» إذا لم يأتِ ببينة تشهد بما ادعاه من الجرح فإنه يُحكم عليه؛ لأن الحكم تمَّت شروطه، وانتفت موانعه، فلا بد من إقامته، ولا يجوز للقاضي أن يتخلف.
قوله: «وإن جَهِلَ حالَ البينة طلبَ من المدعي تزكيتهم» لتثبت عدالتهم فيحكم له، وقد سبق الكلام على هذا عند قول المؤلف: «ومن جهلت عدالته سُئل عنه» فإما أن يسأل بنفسه، وإما أن يطلب من المدعي تزكيتهم.
وَيَكْفِي فِيهَا عَدْلاَنِ يَشْهَدَانِ بِعَدَالَتِهِ، وَلاَ يُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ والتَّزْكِيَةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ إِلاَّ قَوْلُ عَدْلَيْنِ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْغَائِبِ إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَإِنِ ادَّعَى عَلَى حَاضِرٍ بِالْبَلَدِ غَائِبٍ عَنْ مَجْلِسِ الحُكْمِ، وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعِ الدَّعْوَى، وَلاَ الْبَيِّنَةُ.
قوله: «ويكفي فيها» أي: في التزكية.(15/341)
قوله: «عدلان يشهدان بعدالته» يعني أنه لا بد أن يكونا رجلين، فلا يقبل في التزكية رجل وامرأتان، أو أربع نساء مثلاً، ولا بد أن يكونا عدلين؛ لأن الفاسقين لا يقبل تعديلهما ولا تزكيتهما؛ لأنهما نفسهما يحتاجان إلى تزكية.
قوله: «ولا يقبل في الترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، إلا قول عدلين» هذه خمس مسائل: الترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، لا يقبل فيها إلا قول عدلين.
أما الترجمة فهي نقل معنى الكلام من لغة إلى لغة أخرى، ويشترط فيها ثلاثة شروط:
الأول: علم المترجم باللغتين جميعاً، بأن يعلم معنى المنقول منها، والمنقول إليها.
الثاني: علمه بالموضوع؛ لأن العلم بالموضوع مهم بالنسبة للترجمة، فمن لم يكن عنده علم بالموضوع ربما يترجم اللفظ على غير المراد وهذا غير العلم بالمعنى.
الثالث: أن يكون أميناً، والأمانة تؤخذ من قول المؤلف: «عدلين» فإن كان غير أمين فلا تقبل ترجمته.
فإذا تخاصم إلى القاضي رجلان، أحدهما يعرف القاضي لغته، والثاني لا يعرف لغته، فيحتاج القاضي إذاً إلى مترجم، فهل يكفي مترجم واحد؟ يقول المؤلف: لا بد من مترجمين؛ لأن الترجمة شهادة، فإن المترجم يشهد بأن هذا المتكلم أراد كذا وكذا، والشهادة لا بد فيها من عدلين.(15/342)
قلنا: إذا قلت كذلك فاجعل الترجمة مبنية على الشهادة، وقل: إذا كانت الترجمة في أمر يحتاج إلى أربعة رجال كالزنا، فقل: لا يقبل إلا أربعة.
قال أصحابنا ـ أهل المذهب ـ: نعم، نلتزم بذلك، ونقول: الترجمة فيما يشترط فيه أربعة لا بد فيها من أربعة؛ لأنها مبنية على الشهادة، فالإقرار بالزنا مثلاً، إذا كان المقر لا يعرف القاضي لغته لا بد فيه من أربعة مترجمين يترجمون إقراره؛ ليثبت عند القاضي، كما أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود، وهذا هو المشهور من المذهب.
والذي مشى عليه المؤلف قول على خلاف المذهب؛ لأن المؤلف ـ رحمه الله ـ مشى على أن الترجمة يكفي فيها قول عدلين مطلقاً، حتى فيما لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة؛ لأن الترجمة شهادة ليست على الفعل الذي لا بد فيه من أربعة، بل شهادة على ثبوت هذا القول، وثبوت هذا القول يحصل بشهادة اثنين.
وما ذهب إليه المؤلف أقرب من المذهب، وهناك قول ثالث لبحر العلوم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: يكفي في الترجمة واحد فقط، لكن بالشروط الثلاثة التي ذكرناها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اتخذ مترجماً واحداً في أمور عظيمة هامة، فقد اتخذ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ مترجماً للكتب الواردة من اليهود والصادرة إليهم، فإن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن يتعلم لغة اليهود، فتعلمها في(15/343)
ستة عشر يوماً (1) ، إلا أن شيخ الإسلام يقول: سبب ذلك أن اللغة العبرية قريبة من اللغة العربية، فلذلك سهلت على زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ، على كل حال، يرى شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه يكفي في الترجمة قول عدل واحد، وهذا هو الصحيح.
وأفادنا المؤلف أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم لغة غيره، مما تدعو الحاجة إلى تعلمه، فالقاضي إذا كان في أمة فيهم أناس كثيرون لغتهم غير عربية، وهو عربي، ينبغي له أن يتعلم لغتهم ليعرف خطابهم بنفسه؛ لأنه مهما كان الإنسان ثقة فلا يمكن أن تكون ثقتك به كثقتك بنفسك.
أما تعلمها بدون حاجة فهو من إضاعة الوقت، كما أنه يترتب عليه الميل إلى أصحاب هذه اللغة، وأما إذا اعتاد التخاطب بها وأغفل اللغة العربية، فهذا إما مكروه، وإما محرم، فتعلم اللغات غير العربية إذا كان لحاجة لا بأس به، وإذا كان لغير حاجة فهو لغو وإضاعة وقت، ويخشى منه محبة أصحاب هذه اللغة، وإذا كان ليستبدل به اللغة العربية، فهذا إما مكروه، وإما محرم.
والأول المباح قد يجب أحياناً، كما إذا كان تعلم هذه اللغة
__________
(1) أخرجه أحمد (5/182) ، وأبو داود في العلم/ باب رواية حديث أهل الكتاب (3645) ، والترمذي في الاستئذان في الآداب/ باب ما جاء في تعليم السريانية (2715) ، والبخاري في التاريخ الكبير (3/380) ، والحاكم (1/147) ، والبيهقي (10/127) ، والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(15/344)
وسيلة إلى إبلاغهم دين الله؛ فإن التعلم حينئذٍ يكون واجباً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقوله: «والتزكية» نسبة الشيء إلى الزكاء، فالتزكية معناها أن ينسب الإنسان إلى الزكاء، فيقال: هذا زكي والزكاء هو العدالة.
ولا بد فيها من عدلين على كلام المؤلف، وعلى المذهب حسب الشهادة، فإن كان شهد في أمر لا بد فيه من أربعة، فلا بد في التزكية من أربعة، وعلى القول الثالث وهو اختيار شيخ الإسلام أنه يكفي فيها واحد؛ لأن التزكية تعريف بحال المُزكى، وليست شهادة، فإذا زُكي كفى في ذلك واحد، ثم يُحكم بشهادته.
والتزكية مثل أن يقول: فلان عدل، فلان ثقة، وما أشبه ذلك، فإن قال: لا أعلم عليه إلا خيراً، ففي كون هذا تزكية قولان لأهل العلم، منهم من قال: إن هذا ليس بتزكية؛ لأنه نفى علم الشر، ونفيُ العلم لا يدل على العدم، فقد يكون يعمل شراً لا يطلع عليه هذا الذي قال: لا نعلم عليه إلا خيراً.
وقال بعض العلماء: إنها تزكية، اعتباراً بظاهر الحال، ولعل هذا الخلاف يومئ إلى الخلاف في هل الأصل في المسلم العدالة، أو الأصل عدم العدالة؟ وقد سبق الخلاف في هذا.
أما إذا قال: ثقة، أو مقبول الشهادة، أو عدل، أو ثبت، أو ما أشبه ذلك، فهذه تزكية بلا شك.
ويشترط في المزكي شروط منها:(15/345)
الأول: أن يكون أميناً، فإن لم يكن أميناً فإن تزكيته لا تقبل؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يزكيه.
الثاني: أن يكون ذا خبرة بباطن حال المُزكى، بحيث نعلم أن بينه وبينه رابطة، إما صحبة، وإما جوار، وإما معاملة طويلة، يعرف بها حال المُزكى.
وهل يزكي بالاستفاضة؟ الجواب: نعم، له أن يزكي بالاستفاضة، مثل أن يستفيض عند الناس أن هذا الرجل رجل مستقيم الخلق والدين، فيشهد هو بعدالته بناء على الاستفاضة.
ولا بد من القول بجواز التزكية بالاستفاضة؛ لأننا نزكي الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والإمام أبا حنيفة، والإمام مالكاً ـ رحمهم الله ـ فهل نحن عاشرناهم؟ لا، ولا صاحبناهم، ولكن بالاستفاضة، حتى لو لم نرجع إلى كلام الناس فيهم فإنهم عندنا ثقات عدول؛ بناء على الاستفاضة، فلا بد ـ أيضاً ـ في الجرح من عدلين يشهدان بجرحه.
والجرح نوعان: نوع مُفَسَّر، ونوع مُجمل مبهم، فالجرح المبهم أن يقول: فلان فاسق، فلان غير مقبول الشهادة، وما أشبه ذلك، والجرح المفسر أن يقول: فلان يشرب الخمر، أو فلان يزني، أو فلان يغش الناس، أو فلان يغتاب الناس، فالجرح بنوعيه لا يقبل إلا من ثقة، فلا بد أن يكون أميناً، وأن يكون عالماً بحال المجروح، أي: ذا خبرة بحاله، أو شاهداً بما اشتهر من جرح، يعني أن الشهادة بالجرح كالشهادة بالتزكية، فلا بد فيها من عدلين، والخلاف في التزكية كالخلاف في الترجمة؛ لأن كلاً(15/346)
منهما شاهد بما يقول، لأن المترجم يشهد أن هذا المتكلم أراد كذا وكذا باللغة المترجم بها عن المترجم عنها، والمزكي والجارح كذلك يخبران بحال هذا الشيء فهما مُعرِّفان في الواقع، ولهذا اختار شيخ الإسلام في هذه المسائل كلها أن الواحد العدل يكفي.
وقوله: «والتعريف» أي: يكفي في التعريف أيضاً ـ على كلام المؤلف ـ شاهدان.
وقوله: «والتعريف» أي: التعريف بأن هذا فلان بن فلان، وهو في الحقيقة تعريف عند الحاكم بالمحكوم له، والمحكوم عليه، والمحكوم به.
المحكوم له هو الذي يثبت له الحق، والمحكوم عليه هو من عليه الحق، والمحكوم به أي: المدعى به، فمثلاً: تخاصم رجلان في كتاب، فالمحكوم له هو الذي يستحق هذا الكتاب، والمحكوم عليه الذي لا يستحقه، والمحكوم به هذا الكتاب.
وكيف سيكون التعريف؟ أن يقول الحاكم: كيف أكتب تخاصم عندي فلان وفلان، وأنا ما أعرفكم؟! فيأتون بمن يعرفهم يقول: هذا المدعي اسمه فلان ابن فلان، والمدعى عليه اسمه فلان ابن فلان، والمدعى به يقول مثلاً: هذا الكتاب هو الذي حصل النزاع بينهما عليه.
فصار التعريف عند الحاكم له ثلاثة أطراف: محكوم له، وعليه، وبه، وكل هذه تحتاج إلى تعريف، فإذا عرفها واحد على رأي شيخ الإسلام كفى، وعلى ما مشى عليه المؤلف لا بد من(15/347)
اثنين، وعلى المذهب ينبني على الشهادة، فإن كان التعريف فيما يشترط فيه أربعة من الشهود فلا بد من أربعة، إلى آخره.
وقوله: «والرسالة» لها عدة صور منها ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب كتاب القاضي إلى القاضي، أن يرسل أحد القضاة كتاباً إلى قاضٍ آخر، فلا بد فيها من عدلين يحملان الكتاب ويوصلانه إلى المكتوب إليه، ويشهدان به.
وهذا فيما سبق لما لم يكن بريد، فإذا أراد القاضي أن يكتب إلى قاضٍ آخر، كتب الكتاب، ثم أتى باثنين وقرأه عليهما وأشهدهما على ما فيه، ثم يقول: خذوه لفلان القاضي، فإذا وصلا إليه يشهدان بأن هذا كتاب فلان القاضي الأول إلى القاضي الثاني.
صورة ثانية للرسالة، إذا بعث الحاكم من يبحث عن حال الشهود، فإنه لا بد فيه من عدلين، وسبق لنا أن القاضي إذا جهل حال الشهود أنه يسأل عنهم، فإذا بعث من يسأل عنهم فلا بد أن يكون المبعوث رجلين على ما مشى عليه المؤلف، واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه يكفي واحد.
فالترجمة، والتزكية، والجرح، والتعريف، والرسالة، هذه خمسة أشياء، المذهب أن حكمها في التعدد حكم الشهادة، والذي مشى عليه المؤلف أنه يكفي فيها رجلان، والذي اختاره شيخ الإسلام أنه يكفي فيها واحد؛ لأن المقصود فيها البيان والتعريف، فهي خبر وليست بشهادة، ولهذا تصح حتى بالكتابة، وعلى القول بأنها شهادة لا بد من المشافهة، يعني أنه لو كتب(15/348)
أحد معروف الخط إلى القاضي، بأني أزكي فلاناً كفى عند شيخ الإسلام، وعلى المذهب لا يكفي؛ لأن الشهادة لا بد فيها من المشافهة.
وقوله: «إلا قول» قول: نائب فاعل، فالاستثناء مفرغ.
وقوله: «عدلين» العدل في اللغة: الاستقامة، ويطلق على المستقيم نفسه؛ لأنه مصدر، والمصدر يصح أن ينعت به، ويوصف به، كما قال ابن مالك:
ونعتوا بمصدرٍ كثيرا
فالتزموا الإفرادَ والتذكيرا
وكذلك يخبر به مفرداً ولو عن جماعة.
وأما المراد بالعدل في الاصطلاح: فهو من استقام في دينه ومروءته، أما في دينه فأن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر والإصرارَ على الصغائر فهو شامل لثلاثة أمور.
فلو فعل كبيرة واحدة ولم يتب منها لم يكن عدلاً، وإن فعل صغيرة فقط ولم يصِرَّ فهو عدل، فإن أصر فليس بعدل، وإن ترك شيئاً من الفرائض فليس بعدل، والفرائض، كبِرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، والصلوات الخمس، فإذا ترك واحدة وقلنا بأنه لا يكفر فإنه ليس بعدل.
وبناءً على هذا القول في تعريف العدل يكون الذي يحلق لحيته ليس بعدل، فإذا شهد فلا تقبل شهادته؛ لأنه مصِرٌّ على صغيرة، والذي يشرب الدخان ليس بعدل؛ لأنه مُصِرٌّ على صغيرة، والذي يغتاب الناس ـ ولو مرة واحدة ولم يتب ـ ليس بعدل؛ لأنه فعل كبيرة.(15/349)
وإذا طبقنا هذا التعريف في العدالة على حال الناس اليوم فأظنك لا تكاد تجد إلا واحداً في المائة، يعني عشرة في الألف! المهم أنه نادر أن يوجد من يتصف بالعدالة على هذا التفسير، ولكن الذي يقلد المذهب لا بد أن يمشي على هذا.
والاستقامة في المروءة ألا يفعل ما يخل بالمروءة، يعني بالشرف والعادات، فإن فَعَلَ ما يخل بذلك فليس بعدل، ولو كان مستقيم الدين، ومثَّلوا له بالذي يأكل في السوق، ويشرب في السوق، ويمشي جاعلاً مشلحه على طرف، يسحبه من طرف ويرفعه من طرف آخر، والذي لا يكون عليه غترة ولا طاقية، لكن طبعاً في بلد هذا عُرفهم، فكل هؤلاء مخالفون للمروءة، ومنه ـ أيضاً ـ الذي يمضغ اللبان في مجالس ذوي الهيئات والمروءة.
وعلى كل حال، إذا كانت المروءة مقيدة بالعادات، فإنها سوف تتغير بتغير العادات، بخلاف المعلق بالشرع فإنه لا يتغير، فهو ثابت إلى يوم القيامة.
قوله: «ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق» الغائب إما أن يكون في البلد، أو خارج البلد، والذي في البلد، إما أن يكون مستتراً مختفياً، أو غير مستتر، يعني يخرج ويأتي مع الناس، فالأقسام ثلاثة:
الأول: غائب في البلد غير مستتر، يعني ليس حاضراً في مجلس الحكم لكنه غير مستتر.
الثاني: غائب في البلد، لكنه مستتر متخفٍّ عن الناس.
الثالث: غائب عن البلد خارج البلد.(15/350)
وقوله: «ويحكم على الغائب» المراد بالغائب هنا، الغائب عن البلد، أو الذي في البلد لكنه مستتر متخفٍّ، لا يمكن الوصول إليه، ففي هذين الحالين يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق، فإذا جاء رجل إلى القاضي، وقال: أنا أدعي على فلان ابن فلان بمائة ريال مثلاً، فقال: أين هو؟ قال: في مكة، فإنه يحكم عليه إذا جاء المدعي بشاهدين، لأن الغَيْبة هنا بعيدة، مسافة قصر، وإذا كانت بعيدة مسافة قصر حُكم عليه إذا ثبت عليه الحق.
فإن ادعى على هذا الغائب بمائة ريال، فقال القاضي: أين الشهود؟ فقال: ما عندي شهود، لكن حلِّفْه، يقول القاضي: أَحْضِرْهُ وأُحَلِّفْهُ، فلا يحكم عليه إلا إذا ثبت عليه الحق.
فإذا كان المدعى به عيناً بأن قال: أنا أدعي على فلان أنه باع عليَّ بيته، فقال القاضي: إيت بالشهود، فقال: هؤلاء الشهود قد حضروا، فيحكم عليه؛ لأن الحق ثبت، وقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «البينة على المدعي» (1) .
وهذا الذي ذكر المؤلف حكمٌ يحتاج إلى دليل، والدليل قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكم لهند بنت عتبة ـ رضي الله عنها ـ أن تأخذ من مال أبي سفيان رضي الله عنه ما يكفيها وولدها بالمعروف، حيث جاءت إليه تقول: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «خذي ما يكفيك
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/351)
وولدك بالمعروف» (1) ، فحكم عليه وهو غائب، قالوا: فهذا دليل على أنه يحكم على الغائب.
أما التعليل فلأننا لو لم نحكم له لضاع حقه؛ لأن هذا غائب، ما ندري هل يحضر، أو لا يحضر، أو يموت؟
وكذلك إذا كان في البلد، لكنه مستتر ومتخفٍّ عن الناس، فإن استتاره يدل على أنه مبطل، فلهذا لا نضيِّع حق هذا الرجل الذي ثبت له الحق، بل نحكم له به، وهذا هو المذهب.
وفي المسألة خلاف، فهناك من يقول: إنه لا يقضى على الغائب لدليل من القرآن، ومن السنة، ومن النظر، فزادوا على الأولين بدليل القرآن، أما القرآن فقالوا: إن الظاهر من قصة داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لاَمَهُ حيث حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع حجة الآخر، في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ *} [ص] ، ثم قال المدعي {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *} [ص] هذه صورة الدعوى، الحكم: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] ، ولم يسمع حجة الخصم.
ففي هذ القصة أن داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ احتجب
__________
(1) أخرجه البخاري في النفقات/ باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ... (5364) ، ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند (1714) عن عائشة رضي الله عنها.(15/352)
عن رعيته بعبادته الخاصة، بدليل قوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ، مع أن الله ـ تعالى ـ جعله خليفة يحكم بين الناس، والموظف لا يشتغل بما يشغله عن وظيفته، فإذا كان الله ـ عزّ وجل ـ قد كلفه أن يقوم بهذه المهمة، فلا ينبغي أن يختص الوقت لنفسه، ولهذا لما جاؤوا ووجدوا المحراب مغلقاً تسوَّروه؛ لأنهم أصحاب حاجة، كما أن داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكم قبل أن يدلي الخصم بحجته التي يدافع بها عن نفسه، فبمجرد ما قال المدعي: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} إلى آخره، قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} ، وهذا يدل على أنه لا يحكم لأحد إلا بسماع حجة صاحبه.
ولكن قد يقول القائلون بالحكم على الغائب: إن هذا حاضر، فسماع حجته سهل، بخلاف الغائب، لكن قد ورد في حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي» قال علي: فما زلت قاضياً بعد (1) ، وهذا الحديث فيه مقال، لكن بعضهم حسَّنه.
أما النظر فقالوا: إنه لا يمكن أن يحكم لهذا الحاضر على الغائب؛ لاحتمال أن يكون قد قضاه حقه، فإذا قال: أنا أدعي عليه بمائة ريال، وأتى بالشهود، فمن الجائز أن يكون المدعى
__________
(1) أخرجه أحمد (1/143) ، وأبو داود في الأقضية/ باب كيف القضاء (3582) ، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين ... (1331) ، وحسنه، والحاكم (4/105) ، والبيهقي (10/137) والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(15/353)
عليه قد أوفى هذه المائة، وإذا كان جائزاً فإنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، فهذه البينة صادقة فيما شهدت به، لكن احتمال القضاء وارد، إذاً يجب الانتظار في الحكم حتى ننظر ما عنده.
والحقيقة أن القولين كليهما له وجهة نظر، والذي أرى أن يرجع إلى رأي الحاكم في هذه المسألة، فقد يجد الحاكم من القرائن ما يقتضي الحكم على الغائب؛ لكون هذا المدعي رجلاً ثقة عدلاً، لا يمكن أن يدعي ما ليس له، والمدعى عليه بخلاف ذلك، فإذا كان عنده من القرائن ما يدل على صحة دعوى المدعي فليحكم بذلك، وإذا لم يكن عنده قرائن فالواجب أن يمسك ولا يحكم حتى ينظر حجة الخصم؛ لاحتمال أنه قضاه.
فإن قلت: نحتاج إلى الجواب عن حديث هند بنت عتبة رضي الله عنها، فالجواب عن ذلك سهل جداً، وهو أن يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أفتاها ولم يحكم لها، والفتوى غير الحكم، ويدل على أن ذلك ليس بحكم التالي:
أولاً: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يطالبها بالبينة، ولو كان من باب الحكم لطالبها بالبينة؛ لأن البينة على المدعي، فلما لم يطالبها علم أنه أفتاها بمقتضى قولها.
ثانياً: أن ذلك كان في مكة، وكان أبو سفيان ـ رضي الله عنه ـ حاضراً في مكة ولم يكن مختفياً، فلو كان قضاء لأحضره النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبهذا أجاب النووي ـ رحمه الله ـ وهو جواب صحيح.
ولا يقال: لعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم حكم بعلمه في قضية أبي(15/354)
سفيان؛ لأنه كان مشهوراً في قومه بالبخل؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» (1) ، فحديث هند ليس فيه دليل على القضاء على الغائب.
فإذا قال قائل: كيف يستدل هؤلاء العلماء بهذا الحديث، وعدم الدلالة فيه واضحة؟
فالجواب: أن هذه المسألة ليست أول مسألة يكون فيها الدليل واضحاً، ويحصل فيها الخلاف، فما أكثر المسائل التي فيها الخلاف، والأدلة فيها واضحة، وما أكثر المسائل التي يستدل بها قائلوها بأدلة من الكتاب والسنة وليس فيها دليل؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يؤتي فضله من يشاء، فكما أن هذا غني وهذا فقير، وهذا حسن الخلق وهذا سيء الخلق، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا جميل وهذا قبيح، فكذلك في الفهم، وإلا فإن الإنسان بأدنى تأمل يتبين له أن قصة هند رضي الله عنها لا تدل على الحكم بظاهرها، لا سيما أن الصورة التي وقعت لا يحكم فيها على الغائب من استدل بها؛ لأنهم لا يحكمون على الغائب إلا ببينة؛ لأنه لا يمكن ثبوت الحق مع غيبة المدعى عليه إلا ببينة؛ لأن الإقرار متعذر، فالمدعى عليه ليس حاضراً، فكان لا بد من البينة والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يطلبها.
وإذا قلنا بجواز القضاء على الغائب، سواء مطلقاً كما هو المذهب، أو بحسب القرائن كما هو المختار عندي، فإنه يجب أن نحتاط للمدعى عليه، وكيف نحتاط؟ نقول للمدعي: احلف أنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (316) .(15/355)
ما قضاك؛ لاحتمال القضاء، نعم، الشهود شهدوا بأصل الحق، لكن هناك احتمال أنه قضاك من غير علم الشهود، فاحتياطاً لحق الغائب نقول: احلف أنه لم يقضك.
وإذا كان المدعى به عيناً نحتاط أيضاً، ونقول للمدعي: نحن نحكم لك، لكن نريد منك كفيلاً مليئاً، أو رهناً محرزاً، ثم نسلمك العين، فائت بواحد غني يضمنك أنه إذا تبين أن العين ليست لك، فإما أن تسلمها أو تسلم بدلها، وإذا لم تجد كفيلاً أعطنا رهناً من مالك يُحرز العين، ويكفي لإيجاد بدلها، ونسلمك إياها، وفي هذا حماية لحق المدعى عليه؛ لاحتمال أن تكون الدعوى غير صحيحة.
قوله: «وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة» يعني إن ادعى شخص على حاضر في البلد لكنه غائبٌ عن مجلس الحكم، كرجل في أطراف البلد، فقال: أنا أطلب فلاناً ألف درهم وأتى ببينة، وفلان في طرف البلد الآخر، فهنا لا نسمع الدعوى، ولا نسمع البينة، فيقول القاضي للمدعي: لا أسمع دعواك، أحضر خصمك لأنظر في الدعوى؛ لأن المدعى عليه لا يصعب إحضاره، فإما أن يذهب إليه ويقول: أنا وأنت إلى الحاكم، أو يستدعي عليه الشُّرَطَ، أو ما أشبه ذلك.
المهم أن إحضار المدعى عليه في هذه الصورة غير متعذر ولا متعسر، فلهذا لا تسمع الدعوى ولا البينة؛ لأن سماع(15/356)
الدعوى ليس فيه إلا إضاعة الوقت، وشغل القاضي بما لا فائدة فيه، فالقاضي لو سمع الدعوى ماذا يستفيد؟ وهل يمكن أن يقضي عليه؟!
ما يمكن؛ لأنه حاضر في البلد، إلا إذا كان مستتراً ومختفياً، بأن ذهبنا إلى بيته فلم نجده، ذهبنا إلى مكان عمله فلم نجده، ذهبنا إلى مسجده فلم نجده، فالمستتر في حكم الغائب، فتسمع الدعوى والبينة ويحكم عليه؛ لأن غيابه يدل على أن الدعوى عليه صحيحة، وأنه تغيب لئلا يدركه الحق، وهذا يرد كثيراً فيما إذا كسدت الأسواق، وضرَّت ببعض الناس، تجدهم لكثرة ديونهم لا يستطيعون مقابلة الناس، يهربون من مكان إلى مكان، فمثل هؤلاء ما نقول: إنهم حاضرون، فلا نحكم عليهم، ولا نسمع الدعوى عليهم إلا بحضورهم فهذا إضاعة للوقت.
وقوله: «وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة» وكلام المؤلف رحمه الله هنا واضح بأن إخضاره ليس بصعب ولا متعذر.(15/357)
بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي
.................................................
قوله: «كتاب القاضي إلى القاضي» أي: كتاب القاضي إلى القاضي فيما يتعلق بالقضاء، وتسمى في عرف المتأخرين استخلافاً، يعني أن القاضي الكاتب استخلف القاضي المكتوب إليه، كما يستخلف الإمام في الصلاة من يتم الصلاة بدلاً عنه، وله صورتان:
الأولى: أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه.
الثانية: أن يكتب إلى القاضي فيما حكم به لينفذه المكتوب إليه.
وهذا في الغالب لا تدعو الحاجة إليه، إلا إذا كانت العين المدعى بها عقاراً، وكانت في بلد المكتوب إليه مثلاً، فإن القاضي قد يحتاج إلى ذلك، أو يكون أحد المدعيين في بلد القاضي المكتوب إليه، فيثبت عند القاضي دعوى المدعي، ويحكم بالثبوت إلى القاضي الآخر ليحكم بذلك.
فإذا قال قائل: ما فائدة شَغْل القاضي الكاتب بالكتابة؟ لماذا لا نقول: حولهم على المكتوب إليه من الأصل، قبل أن تثبت الحكم.
نقول: الفائدة أنه قد يكون القاضي المكتوب إليه أكثر عملاً(15/358)
من الكاتب، ويكون هذا أكثر فراغاً، فيطلب الشهود ويحرر الدعوى، ويكتب كل ما تحتاج إليه القضية؛ لأجل أن تقدم إلى القاضي المكتوب إليه، وما بقي عليها إلا الحكم، وهذا لا شك أن فيه مصلحة للمكتوب إليه ظاهرة، وفيه ـ أيضاً ـ راحة للخصوم، فبدلاً من أن يذهبوا إلى القاضي المكتوب إليه، وتبقى معاملتهم أسبوعاً أو أسبوعين، أو شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فقد تنتهي في ساعة أو ساعتين، وهذا أسهل للناس.
يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ حَتَّى القَذْفِ، لاَ فِي حُدُودِ اللهِ، كَحَدِّ الزِّنَا وَنَحْوِهِ،............
ولكن لكتابة القاضي إلى القاضي شروط، يقول المؤلف رحمه الله: «يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق» يعني في كل حق لآدمي.
مثال ذلك: تداعى فلان وفلان في عين، وادعى أحدهما أنه باعها على الآخر، وذاك منكِر، فأتى المدعي ببينة، فثبتت الدعوى عند القاضي، وحررها، وكتب الشهود، ثم دفع الخصمين إلى القاضي المكتوب إليه، فيقبل؛ لأن هذا حق آدمي، فإذا وصلت القضية إلى القاضي المكتوب إليه نظر فيها، والخصمان بين يديه، ثم حكم بما تقتضيه الحال.
مثال آخر: تداعيا عيناً، وأتى المدعي ببينة أنها له، ولكن العين لم تُحضر في مجلس الحكم، فحكم القاضي بأن العين للمدعي بمقتضى البينة، ولكن ليست العين حاضرة حتى يلزم المدعى عليه بتسليمها للمدعي، فكتب إلى القاضي بأنه تداعى عندي فلان وفلان بكذا وكذا، وأن البينة قامت للمدعي بما ادعى به، وحَكَمْتُ بأن العين للمدعي فنفِّذْ حكمي هذا، فإذا وصلت(15/359)
إلى القاضي ينفذ، وليس له الحق أن ينظر في القضية، وتكون على ذمة القاضي الأول.
قوله: «حتى القذف» هذا إشارة خلاف، لكن ذكر بعض المتأخرين أن العلماء إذا قالوا: «حتى» فالخلاف ضعيف، وإذا قالوا: «إن» فالخلاف قوي، وإذا قالوا: «لو» فالخلاف أقوى، وهذا اصطلاح أغلبي وليس دائماً.
وقوله: «القذف» هل هو حق لله، أو للآدمي؟ اختلف فيه العلماء، فقيل: إنه حق للآدمي، وقيل: إنه حق لله عزّ وجل، فمن قال: إنه حق لآدمي، قال: هو كسائر الحقوق، يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ومن قال: هو حق لله، قال: لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ولكن المؤلف يقول: إنه يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن فيه شائبتين: شائبة حق الله، وشائبة حق الآدمي، وهي في حق الآدمي أظهر؛ لأن الذي يتلطخ بالقذف وتساء سمعته هو الآدمي.
مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو بأنه قذفه، فطلب القاضي من المدعي البينة، فأتى بشاهدين يشهدان بأنه قذفه، ولكنه كره أن يحكم عليه؛ لأن المدعى عليه ابن عمه، وقال: لو أحكم عليه لصار بيني وبينه قطيعة رحم، فأنا أرفع القضية إلى القاضي الثاني، بأنه ثبت عندي كذا وكذا فاحكم، فإذا وصلت إلى القاضي المكتوب إليه، ينظر فيها، فإذا اقتضى نظره أن يحكم حكم، هذه الصورة الأولى.
الصورة الثانية: فيما حكم له لينفذه القاضي المكتوب إليه،(15/360)
بأن ثبت الحكم عنده، وحكم على فلان بأنه يجب عليه ثمانون جلدة، حد القذف، لكن لا يحب أن ينفذه هو، أو يخشى أن ينفذه من سطوة المحكوم عليه، فكتب إلى القاضي الثاني: قد ثبت عندي كذا كذا، وحكمت به، فنفِّذْه، فينفذه القاضي الثاني، ويشبه هذا من بعض الوجوه كتابة القضاة اليوم إلى الأمراء، أو إلى الشُّرَط، لتنفيذ ما حكموا به.
قوله: «لا في حدود الله، كحد الزنا، ونحوه» فهذا لا يقبل فيه كتاب القاضي للقاضي، فلو ثبت عند القاضي لا يكتب به إلى القاضي الثاني؛ لأن في هذا نشراً للفواحش، فبدلاً ما كانت القضية لا يعلمها إلا القاضي الكاتب، فإنها ستصل إلى القاضي الثاني، وتكتب في سجلاته، فيكون في هذا نشر للجرائم، وإشاعة للفاحشة، وحينئذٍ فلا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي فيما هو من حق الله عزّ وجل، كحد الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك.
وظاهر كلام المؤلف أن التعزيرات يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي، والحقيقة أن الذي يوجب التعزير فيه ـ أيضاً ـ إشاعة، فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير، ترك صلاة الجماعة يوجب التعزير، وما أشبه ذلك، وإذا نشرناها بين الناس انتشرت، ولهذا كان القول الثاني في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ومذهب مالك أن كتابة القاضي إلى القاضي تجوز حتى في حقوق الله، حتى في حد الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وترك الصلاة، وغير ذلك مما يوجب التعزير، وأجابوا عن القول(15/361)
بأن الحدود ينبغي فيها الستر: أن هذا الرجل الذي فعل ما يقتضي الحكم عليه هو الذي فضح نفسه، وإقامة الحد عليه أمام الناس فيه نشر لجريمته.
والحاجة إلى كتابة القاضي إلى القاضي فيما هو من حقوق الله واقعة، كما هي في حقوق الآدميين، وقد يكون هذا الذي شرب الخمر ابن عم للقاضي، وثبت عليه شرب الخمر، ولا يستطيع أن يحكم هو على ابن عمه بالجلد، أو يستطيع أن يحكم لكن لا يستطيع أن ينفذ، فيرفع الأمر إلى قاضٍ أقوى منه مركزاً وسلطة، فالصواب ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أن كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في كل ما ينفذ فيه حكم القاضي من الحقوق التي لله، والتي لعباد الله.
وَيُقْبَلُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ لِيُنَفِّذَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يُقْبَلُ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيَحْكُمَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُما مَسَافَةُ قَصْرٍ،.............
قوله: «ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان في بلد واحد، ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة القصر» ذكرنا فيما سبق أن كتاب القاضي إلى القاضي له صورتان:
الأولى: أن يكتب فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه.
الثانية: أن يكتب فيما حكم به لينفذه.
فيشترط في الكتابة فيما ثبت عنده ليحكم به القاضي المكتوب إليه، أن يكون بين القاضي الكاتب والمكتوب إليه مسافة(15/362)
قصر، فلا تقبل كتابة القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به إذا كانا في بلد واحد، أو في بلدين متقاربين ليس بينهما مسافة قصر، وفيما حكم به لينفذه تقبل الكتابة ولو لم يكن بينهما مسافة القصر، ولو كانا في بلد واحد، ولو كان أحدهما في المحكمة الكبرى، والثاني في المحكمة المستعجلة مثلاً، فصار بين الصورتين فرق.
مثال ذلك: قاضٍ كتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به، يعني سمع القضية وأثبتها ولم يبق إلا الحكم، فكتب بالثبوت إلى قاض آخر في طرف البلد، فلا يصح ولا يقبل؛ لماذا؟ قالوا: لإمكان الخصمين أن يذهبا إلى القاضي المكتوب إليه ويحتكمان عنده.
ولو كتب إلى قاضٍ في الرياض فيما ثبت عنده ليحكم به وهو في عنيزة فإنه يقبل؛ لأن بينهما مسافة قصر، وذهاب المتخاصمين إلى ذاك قد يكون فيه مشقة وتعطيل.
فإذا قال قائل: هذا التعليل يصدق ـ أيضاً ـ على ما إذا كتب فيما حكم به لينفذه.
فالجواب عن ذلك: قالوا: لأنه إذا كتب فيما حكم به صار هذا من باب حكم القاضي، وحكم القاضي يجب تنفيذه على القريب والبعيد، والقضية منتهية، فلم يبقَ إلا التنفيذ، فلا فرق بين القريب والبعيد.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: يجوز أن يكتب فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن كانا في بلد واحد، وقال: إن العلة في(15/363)
جواز الكتابة هي التخفيف على القاضي المكتوب إليه، وعلى الخصمين، ثم فيه ـ أيضاً ـ دفع إحراج بالنسبة للقاضي الكاتب؛ لأنه كما أشرنا قد يتحرج أن يحكم على ابن عمه، أو على أخيه، أو على أبيه، أو ما أشبه ذلك، فيكتب القضية ويدفعها إلى قاضٍ آخر يحكم بها، فكيف نقول: إنه لا يصح ذلك إذا كانا في بلد واحد، أو في بلدين متقاربين ليس بينهما مسافة قصر؟! وهذا هو الصحيح، وأنه لا فرق بين الصورتين، وأن كتابة القاضي إلى القاضي جائزة، وإن كانا في بلد واحد مطلقاً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعيَّنٍ، وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ كِتَابُهُ مِنْ قُضَاةِ المُسْلِمِينَ، وَلاَ يُقْبَلُ إِلاَّ أَنْ يُشْهِدَ بِهِ الْقَاضِي الْكَاتِبُ شَاهِدَيْنِ، فَيَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يَقُولُ: اشْهَدَا أَنَّ هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلاَنٍ ابْنِ فُلاَنٍ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِمَا.
قوله: «ويجوز أن يكتب إلى قاض معين، وإلى كل من يصل إليه كتابُه من قضاة المسلمين» يعني أن كتابة القاضي إلى القاضي قد تكون عامة، فيكتب من فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية إلى كل من يصل إليه كتابي من قضاة المسلمين، أو يكتب من فلان ابن فلان القاضي من المحكمة الفلانية إلى فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية، وهذه خاصة أي: إلى قاضٍ معين، والتعيين قد يكون بالاسم وقد يكون بالوصف، فإذا قال: للقاضي في المحكمة الفلانية، وهذا تعيين بالوصف، فإن القاضي الذي فيها ينفذ الحكم، أو يحكم كما في الصورتين السابقتين، وقد يكون معيناً بشخصه، فيقول: إلى فلان ابن فلان القاضي في المحكمة الفلانية، فإذا قدر أن في المحكمة المكتوب إليها عدة قضاة، وقد قال القاضي الكاتب: فلان ابن فلان القاضي بالمحكمة الفلانية فإنه يختص به، أما إذا قال: إلى القاضي في(15/364)
المحكمة الفلانية وفيها عدة قضاة، فإن أي قاضٍ منهم يصل إليه الكتاب يجب عليه العمل به، ونظير هذا في الحديث إجازة الرواية عن الشخص، تكون عامة وتكون خاصة، فالعامة أن يقول: أجزت كل من سمع مروياتي أن يرويها عني، والخاصة أن يقول: أجزت لفلان ابن فلان أن يروي عني جميع مسموعاتي، فالمهم أن هذا شيء معمول به لدى القضاة الحكام، ولدى الرواة، أي أنه قد يكون الشيء عاماً، وقد يكون خاصاً.
وإذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي فإنه يجب عليه أن ينفذه؛ لأنه كالقضية التي وصلت إليه فلا يجوز أن يتخلف عنها، ولأنه لو جاز أن يرفض لتعطلت أحكام الناس، وصار هذا يكتب وهذا يرفض، ولأنه لو جاز أن يرفض لساءت ظنون الناس بالقضاة، فقالوا: إن القضاة لا يثق بعضهم ببعض، ولهذا يرفض كل واحد منهم كتابة الآخر إليه، فلهذا إذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي لزمه العمل به، لكن لو فرض أن القاضي المكتوب إليه عجز عن ذلك فله أن يحيلها ويردها على صاحبها.
قوله: «ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين، فيقرؤه عليهما، ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان، ثم يدفعه إليهما» يعني أن القاضي إذا كتب الكتاب إلى القاضي الآخر، فلا بد من اعتبار هذه الأمور:(15/365)
أولاً: أن يشهد عليه شاهدين، فيأتي برجلين ويقرؤه عليهما حتى يضبطا معناه، فإن أشكلت عليهما كلمة فيه وجب عليهما الاستفسار، فيقولان للقاضي: ما معنى هذه الكلمة؟ فإذا ضبطا الكتاب ومعناه، قال: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان، فيشهدان بذلك ثم يدفعه إليهما، ويقول: اذهبا به، والأولى ألا يدفعه إلا مختوماً؛ لأنه أولى وأسلم من التغيير، فإذا غلفه ووضع عليه الختم كان هذا أسلم من التغيير؛ إذ من الجائز أن هذين الشاهدين يغيران فيه، فالاحتياط أن يختمه ويسلمه إليهما.
فإن بعث به واحداً فقط فإنه لا يصح، إلا على قول سبق أن ذكرناه، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يكفي إرسال واحد، كذلك لو أعطاهما إياه مختوماً ولم يقرأه عليهما، وقال: خذا هذا الكتاب إلى فلان ابن فلان، فإنه لا يصح على المذهب، ولا يقبل حتى يقرأه عليهما؛ لأنهما بمنزلة الشاهدين، والشاهد لا بد أن يعلم بما شهد به.
ولكن الصحيح بلا شك أنه يكفي أن يعطيهما إياه مختوماً، بل لو قيل: إن هذا أولى لكان أولى؛ لأجل ألا يطلع على ما فيه، فإن بعض الناس إذا اطلع على شيء من مثل هذه الأمور يذهب يتزين به في المجالس، ويقول: كتب القاضي فلان إلى القاضي فلان بكذا وكذا، يعني اسمعوا يا ناس بأنني أتصل بالقضاة، وأعرف أحوالهم! المهم أنه لو قيل: لا يقرأ عليهما الكتاب، لكان ذلك أولى.
ثم إن هذه الأمور التي ذكرها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ الظاهر(15/366)
أنه عفا عليها الدهر، وأصبحت الكتب ترسل بطريق البريد المسجل تسجيلاً رسمياً، بعددٍ وتاريخ، وهذا من أحفظ ما يكون، وأسلم من الضياع، وأسلم من التعديل أو التبديل، وأسرع، والحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فالآن أصبحت الأمور ـ ولله الحمد ـ فيها سهولة في كل شيء، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ إنما قالوا هذه الأمور والتحرزات بناء على الزمن الذي كانوا فيه ولكل زمان رجال ودولة.(15/367)
بَابُ القِسْمَةِ
لاَ تَجُوزُ قِسْمَةُ الأَمْلاَكِ الَّتِي لاَ تَنْقَسِمُ إِلاَّ بِضَرَرٍ، أَوْ رَدِّ عِوَضٍ، إِلاَّ بِرِضَا الشُّرَكَاءِ، كَالدُّورِ الصِّغَارِ، وَالْحَمَّامِ، وَالطَّاحُونِ الصَّغِيرَيْنِ،...............
قوله: «القسمة» اسم من قسمت الشيء، إذا جعلته أقساماً، فالواحد يمكن أن يجعل اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، المهم إذا جعلت الشيء أقساماً فهذه هي القسمة، وهي تنقسم إلى أقسام كما سيذكر المؤلف، ولكن هنا سؤال: لماذا جعل المؤلف باب القسمة هنا؟ أليس من الأجدر أن تجعل في باب الشركة، لمناسبة قسم الشريكين ما بينهما، أو أن يجعل في باب الأضحية؛ لأنه قد يشترك اثنان في بقرة، أو في بعير ويحتاجان إلى القسم، أو في باب الفرائض، أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: الواقع أن له مناسبة في عدة أبواب، في الأضحية، والفرائض، والوصايا، والأوقاف، والشركات، فله مناسبات في كثير من أبواب الفقه، لكن ذكروه هنا؛ لأن القسمة تحتاج إلى قاسم في الغالب، وهذا القاسم إما أن يكون منصوباً من قبل الشريكين، فيكون كالرجل الذي يحكمه الخصمان، وقد سبق لنا في كتاب القضاء، في أوله، أنه إذا حكّم اثنان رجلاً بينهما يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه، وإما أن يكون القاسم عن طريق القاضي، هو الذي ينصبه، فتكون المسألة لها علاقة بالقضاء، ولهذا غالب الفقهاء جعلوا باب القسمة في طي كتاب القضاء؛ لأن مناسبته فيه ظاهرة، وليست الأبواب التي لها مساس(15/368)
بالقسمة، بعضها أولى من بعض، فلذلك نقلوه إلى هذا المكان.
إذاً المناسبة أن القسمة بين المشتركين، كالقضاء بين الخصمين؛ لأنه فُصِل بينهما، ومُيِّزَ حق كل واحد من الآخر، ثم إن كانت بقاسم منصوب من قبلهما، فهي كالرجل يُحكِّمه الخصمان، وإن كانت بقاسم منصوب من قبل القاضي، فلها ارتباط بالقضاء.
يقول المؤلف: إنها تنقسم إلى قسمين:
الأول: قسمة تراضٍ، وهي القسمة التي لا تنفذ إلا برضا الشركاء كلهم.
الثاني: قسمة إجبار، وهي القسمة التي لا يشترط فيها التراضي، بل من امتنع من الشركاء أجبر.
بدأ المؤلف بقسمة التراضي فقال:
«لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر، أو ردِّ عوض إلا برضا الشركاء» هذا الضابط لما قسمته قسمة تراضٍ، فكل مشترك بين شخصين فأكثر لا ينقسم إلا بضرر أو برد عوض فإنه لا ينفذ إلا برضا الشركاء كلهم؛ لأنه إذا كان فيها ضرر فلا يمكن أن يضار أحد إلا إذا رضي بالضرر على نفسه، وهو عاقل بالغ رشيد، ولأنها إذا احتاجت إلى رد عوض صارت بمنزلة البيع، لأن فيها عوضاً ومعوضاً، والبيع لا بد فيه من التراضي.
فإذا قال قائل: ما هو الضرر؟ هل هو الضرر البدني أو الضرر المالي؟ اختلف الفقهاء في الضرر المانع من القسمة، فقال(15/369)
بعضهم ـ وعليه كلام المؤلف ـ: الضرر هو أن لا ينتفع أحدهم بنصيبه إذا قسم، سواء اختلفت القيمة أم لم تختلف، وقال بعضهم: بل الضرر هو نقص القيمة بالقسمة.
مثال ذلك: أرض مشتركة بين شخصين، مساحتها أربعة وعشرون متراً، وقيمتها ستة آلاف، لأحدهما سدس وللآخر خمسة أسداس، إذا قسمناها أسداساً فإن صاحب السدس لا ينتفع بسدسه؛ لأن السدس عبارة عن أربعة أمتار، فهل هذه قسمة إجبار أو تراضٍ؟ هي قسمة تراضٍ عند من يقول: إن الضرر هو ألا ينتفع أحدهم بنصيبه إذا قسم، وقسمة إجبار عند من يقول: إن الضرر نقص القيمة بالقسمة، وهذه لم تنقص قيمتها، فهذا السدس الذي قسم لو بيع يساوي ألفاً، ولو بيعت الأرض جميعاً تساوي ستة آلاف، ولو فرض أن هذه الأرض ستمائة متر، فصاحب السدس إذا قسم له نصيبه يكون له مائة متر، فيمكن أن ينتفع بها، لكن القسمة أنقصت قيمتها، فلما كانت ستمائة متر كانت تساوي ستين ألفاً، ولما قسمت صار هذا السدس لا يساوي إلا خمسة آلاف، فنقص النصف.
فعلى الرأي الذي يقول: إن الضرر هو ألا ينتفع أحدهم بنصيبه بعد القسمة تكون القسمة هنا إجباراً؛ لأنه ينتفع بنصيبه، وعلى القول الثاني الذي يقول: إن الضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسمة، نقول: القسمة هنا من باب قسمة التراضي، إن رضي صاحب السدس أن يخرج له مائة متر فإننا نقسم له، وإن لم يرضَ فلا قسمة، وإذا كان السدس مائة متر ولا تنقص القيمة بذلك، فهي قسمة إجبار على القولين جميعاً، والمذهب أن الضرر(15/370)
المانع من الإجبار هو نقص القيمة بالقسمة، ولا يلتفتون إلى الانتفاع وعدم الانتفاع.
وقوله: «أو رد عوض» مثال ذلك: أرض بين شريكين لا يمكن أن تتعدل بأجزاء ولا قيمة، إلا برد عوض، يعني مثلاً فيها جبال، فيها أودية، فيها أشجار، ما يمكن أن نعدلها أبداً بالسهام، إن قسمناها نصفين صارت هذه الأرض أحسن من هذه، وإن قسمناها ثلثين، وقلنا: نعطي الرديئة ثلثين ما تعدلت أيضاً، فما تتعدل إلا إذا جعلنا للناقص عوضاً عن الكامل، فهذه ـ أيضاً ـ قسمتها قسمة تراضٍ، إذا رضي الطرفان وإلا تبقى وتباع جميعاً، فلا يمكن أن تتعدل إلا إذا أضفنا للناقص دراهم، فهي شبيهة بالبيع؛ لأن فيها عوضاً ومعوضاً، ولا يجوز البيع إلا بالتراضي.
قوله: «كالدور الصغار» الدور الصغار ما تنقسم بلا ضرر، فإذا كان بيت فيه حجرة نوم، وحجرة أكل، ومطبخ، والشريكان اثنان، وغرفة النوم عرضها متران، والطول متران ونصف، والمطبخ متر في متر، وغرفة الطعام متران في مترين! فهذه الدار صغيرة لا يمكن قسمها أبداً.
قوله: «والحمام» أيضاً لا يمكن قسمه، كحمام مشترك بين دارين؛ لأن الغالب أن الحمام صغير.
قوله: «والطاحون» الطاحون صغير، فلا يمكن أن يقسم لكن المؤلف يقول:
«الصغيرين» فإذا كان الطاحون والحمام كبيرين فيمكن قسمهما.(15/371)
وَالأَرْضِ الَّتِي لاَ تَتَعَدَّلُ بِأَجْزَاءٍ، وَلاَ قِيمَةٍ، كَبِنَاءٍ، أَوْ بِئْرٍ فِي بَعْضِهَا، فَهَذِهِ القِسْمَةُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَلاَ يُجْبَرُ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ قِسْمَتِهَا، وأَمَّا مَا لاَ ضَرَرَ، وَلاَ رَدَّ عِوَضٍ فِي قِسْمَتِهِ، كَالقَرْيَةِ، وَالبُسْتَانِ، وَالدَّارِ الكَبِيرَةِ، وَالأَرْضِ، وَالدَّكَاكِينِ الوَاسِعَةِ، وَالمَكِيلِ، والْمَوْزُونِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالأَدْهَانِ، وَالأَلْبَانِ وَنَحْوِهَا، إِذَا طَلَبَ الشَّرِيكُ قِسْمَتَهَا أُجْبِرَ الآخَرُ عَلَيْهَا.
قوله: «والأرض التي لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة» يعني ما تتعدل إلا بعوض، وأفادنا المؤلف أن تعديل السهام في الأرض، تارة يكون بالأجزاء، وتارة يكون بالقيمة.
يكون التعديل بالأجزاء، بأن يكون كل واحد منهما له جزء معين منها، ويمكن قسمها على حسب الأجزاء.
ويكون التعديل بالقيمة بأن يقال مثلاً: جانب الأرض هذا طيب، وجانب الأرض هذا رديء، وهي أنصاف بيننا، ولو عدلناها بالأجزاء لم نتمكن، ولا يمكن أن نعدلها إلا إذا أضفنا إلى أحد السهام شيئاً من المال، فقسمته قسمة تراضٍ.
مثال التعديل بالقيمة: أرض مساحتها ستمائة متر، وهي بيننا نصفان، لو عدلناها بالأجزاء كان لكل واحد ثلاثمائة، ولكنها ما تتعدل؛ لأن بعضها طيب وبعضها غير طيب، بعضها فيه بئر وبعضها ليس فيه بئر، فنعدلها بالقيمة، قالوا: الأرض الطيبة نجعلها ثلثاً والرديئة ثلثين، التي فيها البئر نجعلها ثلثاً، والتي ليس فيها بئر نجعلها ثلثين.
قوله: «كبناء أو بئر في بعضها» الكاف هنا الظاهر أنها للتعليل، قال ابن مالك:
شَبِّهْ بكافٍ وبها التعليلُ قد *** يعنى................
فقوله: «لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة» كأنه قيل: لماذا؟ قال: «لبناء أو بئر في بعضها» يعني هذه الأرض مشتركة بيننا، بنينا في طرف منها مما يلي الشارع داراً، فلا يمكن أن نعدلها إلا بإضافة(15/372)
دراهم على الجزء الثاني الذي ليس فيه الدار، فهذه قسمتها قسمة تراضٍ.
كذلك إذا كان في بعضها بئر، ولا يمكن أن تتعدل بالأجزاء بأن نقسم البئر، ويكون لكل واحد منا النصف، فهذه ـ أيضاً ـ قسمتها قسمة تراضٍ، والحاصل أن كل شيء يحتاج إلى زيادة عوض فقسمته قسمة تراضٍ، ولهذا قال المؤلف:
«فهذه القسمة في حكم البيع، ولا يجبر من امتنع من قسمتها» .
ثم انتقل المؤلف إلى القسم الثاني وهو قسمة الإجبار فقال:
«وأما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية، والبستان، والدار الكبيرة، والأرض، والدكاكين الواسعة، والمكيل، والموزون من جنس واحد، كالأدهان، والألبان، ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها» وسميت قسمة الإجبار؛ لأنها لا تتوقف على رضا الشركاء، بل يُجبر من امتنع، وضابطها كل قسمة ليس فيها ضرر ولا رد عوض.(15/373)
وضرب المؤلف لهذا أمثلة فقال: «كالقرية» وهل يمكن أن تكون القرية بين شركاء؟ نعم، يمكن أن يجتمع جماعة، ويشتروا أرضاً، ويخططوها، ويبنوها ثم يسكنها الناس، فتكون قرية بين شركاء، فهذه القرية كبيرة يمكن أن يقول الشريك لشريكه: لك النصف، ولي النصف.
وقوله: «والبستان» أي: البستان الكبير الذي إذا قسم لا يتضرر أحد بقسمته؛ بحيث لو قسمناه ما تنقص قيمته على القول بأن الضرر هو نقص القيمة، أو بحيث إذا قسمناه لم يفت الانتفاع بما قسم، على القول الثاني الذي يقول: إن الضرر هو فوت الانتفاع.
وقوله: «والدار الكبيرة» فهذه تنقسم بلا ضرر، لكن بشرط أن تكون حجراتها متساوية، أما إن كانت حجراتها غير متساوية، مثل أن يكون بعضها مجلساً للرجال، وبعضها مطعماً، وبعضها مطبخاً، أو بعضها صالة للنساء، فهذه لو قسمت لحصل الضرر، ولو جُعل أحدهما للآخر لاحتاجت إلى رد عوض، فهنا نقول: القسمة قسمة تراضٍ، إنما لو كانت دار كبيرة يمكن أن نقسمها، وفي كل جانب منها منافعه، فالقسمة قسمة إجبار.
وقوله: «والأرض، والدكاكين الواسعة» كذلك يمكن قسمتها بلا ضرر.
وقوله: «والمكيل، والموزون من جنس واحد، كالأدهان، والألبان» الأدهان والألبان مكيلة، فمثلاً: بيني وبينك كمية من السمن، وأردنا أن نقسمها فإنه يجبر الممتنع على القسمة؛ لأن(15/374)
هذه يمكن تعديلها بالكيل، فيؤتى بإناء ويغرف لك غرفة ولي غرفة حتى تنتهي، والألبان مثلها، فلو كان بيننا سطل لبن فإنه يمكن قسمته، يؤخذ إناء لي وإناء لك، وهكذا حتى تنتهي.
وقوله: «ونحوها» مثل البر، والرز، والقهوة، والسكر، واللحم، كل هذه يمكن قسمتها بالكيل إن كانت مكيلة، وبالوزن إن كانت موزونة.
ولو كان بينهما سيارة فلا يجبر الممتنع على القسمة؛ لأن القسمة ولو رضيا بقسمتها فما نوافقهما؛ لأنه لا يمكن قسمة السيارة إلا بإتلافها، وهذا سفه! فما الطريق إلى فك الشركة؟ الطريق إلى فك الشركة أن تباع.
ولو كان بينهما سيارات متعددة، نقول: هذه السيارات إذا كانت من جنس واحد، وليس فيها عيب، وكلها جديدة، فقسمتها إجبار؛ لأنه لا ضرر على أحدهما، وإن كانت مختلفة الأجناس أو بعضها معيباً وبعضها سليماً، ولا يمكن قسمتها بالإفراز فإنها تراضٍ.
وَهَذِهِ القِسْمَةُ إِفْرَازٌ لاَ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ لِلشُّرَكَاءِ أَنْ يَتَقَاسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِقَاسِمٍ يَنْصِبُونَهُ، أَوْ يَسْأَلُوا الْحَاكِمَ نَصْبَهُ، وَأُجْرَتُهُ عَلَى قَدْرِ الأَمْلاَكِ، فَإِذَا اقْتَسَمُوا، أَوِ اقْتَرَعُوا لَزِمَتِ القِسْمَةُ، وَكَيْفَ اقْتَرَعُوا جَازَ.
قوله: «وهذه القسمة إفراز لا بيع» الإشارة تعود إلى أقرب مذكور، وهو قسمة الإجبار.
فقوله: «إفراز» يعني تمييز لحق كل شريك من حق شريكه.
وقوله: «لا بيع» ولهذا لم نشترط فيها التراضي، ولا يثبت لها أحكام البيع، فليس فيها خيار مجلس، وتجوز بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأنها ليست ببيع ما دامت لا تشغله، وتجوز في المسجد مثل لو كان بيني وبينك كيس من الرز، وقسمناه في(15/375)
المسجد فلا مانع؛ لأن هذه ليست بيعاً، وإنما إفراز نصيب كل واحد من الآخر، ويجوز قسم لحم الأضاحي والهدايا مع أن بيع لحم الأضاحي والهدايا لا يجوز، لكن هنا تجوز القسمة؛ لأن هذه ليست بيعاً.
قوله: «ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم» لكن بشرط أن يكون لديهم معرفة بالقسمة لتخرج عن شبه القمار؛ لأنه لو لم يكن عندهما معرفة بالقسمة لاحتمل احتمالاً كبيراً أن تكون الأرض بينهما نصفين، ثم يقسمانها أثلاثاً؛ لأنهم ما يعرفون القسمة وحينئذٍ عندما نقرع للتمييز يكون أحدهما إما غانماً وإما غارماً، فإن حصل له الثلثان فهو غانم، وإن حصل له الثلث فهو غارم.
فإن قالا: نحن راضيان بذلك، قلنا: هذا لا يجوز حتى لو رضيتما، حتى المتسابقان فيما لا يجوز فيه السبق يقولان: نحن متراضيان، والمتبايعان بيعاً ربوياً يقولان: نحن متراضيان، ونحن لا يمكن أن يكون رضانا مخالفاً لرضا الشرع، بل لا بد أن يكون تابعاً له.
قوله: «وبقاسم ينصبونه» يعني ويجوز ـ أيضاً ـ أن يتقاسموا بقاسم ينصبونه.
قوله: «أو يسألوا الحاكم نصبه» في كلام المؤلف لحن في قوله: «يسألوا» حيث حذف النون بدون سبب؛ لأنها صفة لـ «قاسم» والتقدير «وبقاسم ينصبونه أو بقاسم يسألون الحاكم(15/376)
نصبه» ، ولكن سبق لنا أن الأفعال الخمسة يجوز حذف تنوينها للتخفيف، ولو بدون ناصب أو جازم، ومنه قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» (1) ، ولو كانت على الأصل لقال: «لا تدخلون» «ولا تؤمنون» ، وأما «تؤمنوا» الأولى و «تحابوا» فحذف النون فيهما على الأصل؛ لأنهما منصوبتان بأن مضمرة بعد حتى. فيجوز حذف النون تخفيفا.
وقوله: «وبقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه» يعني يجوز أن يختاروا قاسماً ينصبونه هم بأنفسهم، فيذهبون إلى القاسم المعروف ـ والغالب أن القسامين يكونون معروفين ـ ويقولون: تعالَ اقسم لنا هذه الأرض، اقسم لنا هذا البيت، اقسم لنا كذا وكذا، أو يسألون الحاكم نفسه، ويذهبون إلى القاضي ويقولون: نحن بيننا شركة في أرض، أرسل لنا قاسماً يقسم لنا.
فإذا قال قائل: أين الدليل على هذا؟
قلنا: لدينا قاعدة (لا يطالب المبيح في المعاملات بالدليل) فكل من قال: هذا مباح في معاملة، ما نقول: ما دليلك؟ لأن هذا هو الأصل، فالأصل في المعاملات، والمأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، والمنتفع بها، الأصل
__________
(1) أخرجه أحمد (2/512) ، وأبو داود في الأدب/ باب في إفشاء السلام (5193) ، والترمذي في الاستئذان والآداب/ باب ذكر في فضل السلام (2688) ، وابن ماجه في المقدمة/ باب في الإيمان (68) قال الترمذي: حسن صحيح، والحديث صححه الألباني كما في صحيح ابن ماجه (2/300) .(15/377)
فيها الحل حتى يقوم دليل التحريم، بخلاف العبادات، فالعبادات الأصل فيها الحظر حتى يقوم دليل التشريع، ولهذا من تعبد لله بعبادة وقال: هذا مسنون، هذا مشروع، نقول له: هات الدليل وإلا فهي مردودة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) .
وقوله: «قاسم» يقتضي أن يكون له نوع من الحكم، ولهذا لا بد أن يكون عالماً بالقسمة وأميناً، أما الإنسان الجاهل فلا يصلح للقسمة وكذلك لا يصلح من ليس أميناً ولو كان عالماٌ لأنه قد يحابي بعض المتقاسمين على بعض.
قوله: «وأجرته على قدر الأملاك» مطلقاً، أو على قدر المُلاَّك، أو على الشرط، أقوال ثلاثة، المذهب ـ كما قال المؤلف ـ على قدر الأملاك، فمثلاً: إذا استأجرنا هذا القاسم بستمائة، وكان المال أرضاً مشتركة، لواحد سهمان، وللآخر أربعة، فعلى صاحب الأربعة أربعمائة، وعلى صاحب السهمين مائتان؛ لأن صاحب السهمين له ثلث، وصاحب الأربعة له ثلثان، فلهذا صارت الأجرة على قدر الأملاك، ثم يقرع.
وعلى قول من يقول: على قدر المُلاَّك في المثال الذي ذكرنا لأحدهما ثلثا الأرض، وللآخر الثلث، والأجرة ستمائة نوزعها مناصفة؛ لأن المالكين اثنان.
والقول الثالث على الشرط، وبدون الشرط على قدر
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .(15/378)
الأملاك، فإذا قال أحدهما للآخر: الأجرة أنصاف؛ لأننا اثنان، فرضي بذلك جاز، وإلا فعلى قدر الأملاك، وهذا القول أصح، أما قوله على قدر الأملاك فقد سبق بيان وجهه، وأما كونها على حسب الشرط فلعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ، وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (1) ، وقوله: «المسلمون على شروطهم» (2) ، وقوله: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (3) ، فهذا يدل على أن الشروط يوفى بها.
قوله: «فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة، وكيف اقترعوا جاز» إذا كانت القسمة قسمة إجبار، واقتسموا ورضي كل واحد منهم بها لزمت القسمة، ولا خيار ولو كانوا في مجلس القسمة؛
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطاً لا تحل (2168) ، ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) (8) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، وقد وصله أبو داود في القضاء/ باب في الصلح (3594) ، والحاكم (2/92) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» وقال: «حسن صحيح» انظر: المجموع (9/464) ، والإرواء (5/142) .
(3) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقد النكاح (2721) ، ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.(15/379)
لأنها إفراز لا بيع، أما إذا كانت قسمة تراضٍ فإنها لا تلزم بمجرد القسمة، بل لهم الخيار ما داموا في المجلس؛ لأنها بيع، والبيع فيه الخيار، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» (1) .
وإذا اقتسموا وتمت القسمة فلتمييز نصيب أحدهما طريقان: إحداهما: التخيير، والثانية: القرعة.
التخيير مثاله: لما قسمنا الأرض المشتركة قلت لك: اختر، فتخيرت، فالمسألة هنا واضحة، فإذا أبى كل واحد منا أن يخير الآخر نلجأ إلى القرعة، وكيفما اقترعنا على أي صفة جاز، فإذا اقترعنا لزمت القرعة، وهذا في قسمة الإجبار، وأما في قسمة التراضي فكما سبق لكلٍّ منا الخيار ما دمنا في المجلس.
فلو قسمنا بيننا ثمر نخل خرصاً على رؤوس النخل، فإنه يجوز؛ لأن هذا إفراز وليس ببيع، ولو كان بيعاً ما جاز؛ لأنه لا يجوز أن يبيع عليك ثمر نخل على رؤوس النخل خرصاً، فإذا قسمناه خَيَّر أحدنا الآخر، فاختار المخير نصيبه، ثم بعد ذلك رجع وقال: القسمة فيها خطأ فلا يقبل.
وهنا قصة غريبة وقعت هنا في البلد، اقتسم رجلان ثمر نخل بينهما، وكان ذلك في شهر رمضان، فقال أحدهما للآخر: اختر، فتمشى المخير بين النخل وقال: أختار هذا الجانب، فقال: خذه، ثم قال للذين يصرمون الثمرة: أحب أن تأتوا إليّ
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا بيَّن البيعان ولم يكتما (2079) ، ومسلم في البيوع/ باب الصدق في البيع (1532) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.(15/380)
في النهار؛ لئلا يأتي المساكين فيأكلوا، فجاءوا في النهار وصرموا التمر وأدخلوه إلى بيته.
وأما الآخر فأعلن عند باب المسجد وقال: إنه سيصرم نخله بعد عيد الفطر في النهار، فمن أحب أن يأتي فنحن نتشرف بذلك، أو قال: حياه الله، ولما أفطر الناس، وكان الناس في ذلك الوقت في جوع شديد، فالفقراء لما أفطروا من رمضان وصار اليوم الثاني ذهبوا إلى هذا الرجل وجعلوا يصرمون ثمر النخل ويأكلون ويشبعون.
وسبحان الله العظيم! أدخل أكثر من حمولة شريكه الذي صرم في النهار في رمضان، فادعى الشريك الأول المُخَيَّر الغبن، والخطأ في القسمة، فقال الثاني: نحن قسمنا جميعاً وخيرتك واخترت، فتحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: ما القصة؟ فأخبروه بالقصة، فقال للذي صرم تمره في رمضان: الحمد لله أن تمرك ما صار حشفاً، وهذه مثل قصة أصحاب الجنة.(15/381)
بَابُ الدَّعَاوَى وَالبَيِّنَاتِ
الْمُدَّعِي مَنْ إِذَا سَكَتْ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عليه مَنْ إِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ،
وَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى وَالإِنْكَارُ إِلاَّ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ.
قوله: «الدعاوى» أو الدعاوي جمع دعوى، وهي في اللغة الطلب، قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: ما يطلبون، وأما في الاصطلاح فهي إضافة الإنسان لنفسه شيئاً على غيره، سواء كان هذا الشيء عيناً، أو منفعة، أو حقاً، أو ديناً.
والإضافة ثلاثة أقسام:
الأول: أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، وهذه دعوى. كأن يقول: لي على فلان كذا، سواء كان عيناً أو منفعة، أو حقاً أو ديناً أربعة أشياء.
الثاني: أن يضيف الإنسان شيئاً لغيره على نفسه، وهذا إقرار.
الثالث: أن يضيف الإنسان شيئاً لغيره على غيره، وهذه شهادة. فهذه أنواع الإضافات
ونحن في النوع الأول، وهو أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، وهذا الشيء، إما عين، وإما منفعة، وإما دين، وإما حق.
مثال العين: أن يقول: أدعي على فلان أن هذا الذي بيده من كتاب، أو حقيبة، أو غيرهما لي.
مثال المنفعة: أدعي عليه أنني أجرته بيتاً لمدة شهر.
مثال الدين: أن يقول: أدعي عليه أن في ذمته لي مائة ريال.(15/382)
مثال الحق: أن يدعي فلان على فلان أنه قذفه، وكذلك لو قال: أدعي عليه استحقاق شفعة أو ما أشبه ذلك.
قوله: «والبينات» جمع بينة، وهي ما أبان الشيء وأظهره، وهي أنواع، وفي كل موضع بحسبه، فبينات الرسل آياتهم التي تدل على رسالتهم، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] ، وبينة اللقطة أن يصفها مدعيها، وبينة القسامة أن يحلف المدعون خمسين يميناً، وهكذا، فالبينة كل ما أبان الشيء وأظهره، سواء كان قرينة يباح الأخذ بها، أم حجة شرعية يجب قبولها كالشهادة.
وسليمان بن داود ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لما تخاصمت إليه المرأتان في ولد إحداهما دعا بالسكين ليشقه بينهما نصفين، فرضيت الكبيرة، وقالت الصغيرة: لا تشقه، هو ولدها، فقضى به للصغيرة (1) ، فهذه القرينة القوية بينة، فلهذا حكم به للصغيرة بدون يمين، وبدون أي شيء؛ لأن امتناعها من أن يشق الولد نصفين دليل على أنها أمه.
ثم فسر المؤلف المدعي والمدعى عليه فقال:
«المدعي من إذا سكت ترك، والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك» مثال ذلك: ادعيت عليك مائة ريال، فأنا إذا سكت عن
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قوله الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} ... } (3427) ، ومسلم في الأقضية/ باب بيان اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/383)
الدعوى تتركني أنت، ولكن أنت إذا سكت هل أتركك؟ لا أتركك، هكذا يقول المؤلف، والمسألة فيها شيء من النظر؛ لأن المدعى عليه قد يترك لزهادة المدعى به، كعشرة ريالات، فلا تستحق أن يطالبه ويذهب إلى المحكمة، وإلى الشرطة، وما أشبه ذلك.
لكن أضاف بعض العلماء إلى هذا قيداً وقالوا: المدعى عليه إذا سكت لم يترك بعد المطالبة؛ لأن المدعى عليه إذا كان المدعى به شيئاً زهيداً يمكن أن يتركه ولا يطالبه.
وقال بعضهم: المدعي من يضيف الشيء إلى نفسه، والمدعى عليه من ينكره، سواء ترك أم لم يترك، فإذا أضفت شيئاً لنفسك على غيرك وأنكر، فأنت المدعي وهو المدعى عليه، وهذا هو الذي يوافق الحديث: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» (1) ، وعليه فيكون هذا التعريف أقرب من تعريف المؤلف؛ لما يرد على تعريف المؤلف من الانتقاض من أن المدعى عليه قد يُترك.
قوله: «ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف» جائز التصرف هو: البالغ، العاقل، الحر، الرشيد.
فضد البالغ الصغير، فهذا لا تصح منه الدعوى ولا الإنكار، إلا فيما يجوز له التصرف فيه؛ لأنه سبق لنا في البيع أنه يجوز تصرف الصبي والصغير بإذن وليهما في الشيء الزهيد
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/384)
اليسير، لكن الشيء الذي لا يصح تصرفه فيه لا تصح الدعوى منه، ولا الإنكار، فمن يدعي عنه ومن ينكر؟
الجواب: وليه هو الذي يقيم الدعوى على من عليه حق لهذا الصغير، ووليه ـ أيضاً ـ هو الذي يتولى الإنكار فيما لو ادعي عليه.
والعاقل ضده المجنون، فالمجنون لا يصح منه دعوى ولا إنكار، لكن الدعوى منه تصح كالصغير، ويتولى ذلك وليه.
والحر ضده العبد الرقيق، فلا تصح منه دعوى ولا إنكار فيما لا يصح تصرفه فيه، أما ما يصح تصرفه فيه كطلاق امرأته مثلاً، فتصح الدعوى منه والإنكار، لكن الأمور المالية لا يصح منه دعوى ولا إنكار؛ لأن العبد لا يملك، والمال الذي بيده لسيده، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) فإذا كان المال الذي بيده ليس له، وإنما هو لوليه فإنه لا يصح منه دعوى ولا إنكار؛ لأنه لا يملك هذا المال.
والرشيد في هذا الموضع هو الذي يحسن التصرف في ماله، وضده السفيه الذي يبذل ماله في المحرم، أو في غير فائدة، فالمحرم كالدخان، وفي غير فائدة مثَّل له العلماء بأن يشتري نفطاً ويشعله، فهذا ليس برشيد؛ لأنه يبذل ماله فيما لا فائدة فيه، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهى عن إضاعة المال (2) ، وإضاعة المال صرفه في محرم، أو فيما لا فائدة فيه.
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (2379) ، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) (80) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله عزّ وجل: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477) ، ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل (1715) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(15/385)
إذاً لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، وكذلك الإنكار، وغير جائز التصرف يقوم وليه مقامه.
وَإِذَا تَدَاعَيَا عَيْناً بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلاَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلاَ يَحْلِفُ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، قُضِيَ لِلْخَارِجِ بِبَيِّنَتِهِ، وَلَغَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ.
قوله: «وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه، إلا أن تكون له بينة فلا يحلف» مثال ذلك: رجلان تداعيا عيناً كل واحد منهما يقول: هي لي، وهي بيد أحدهما فهي له بيمينه، إلا إذا كان له بينة فإنه لا يحلف اكتفاء بالبينة، مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو أن المسجل الذي معه له، فقال: عمرو ليس لك، والعين بيد عمرو، فنقول: هي لك بيمينك، فإذا حلف وقال: والله إن هذا المسجل لي وليس لفلان فهو له، إلا إذا كان عنده بينة فلا حاجة لليمين؛ لأن البينة أقوى من اليمين، ولا يرد الأضعف على الأقوى بل يدخل فيه، وحينئذٍ يكتفى بالبينة.
وقد يقول قائل: كيف يعمل بالبينة وهو مدعى عليه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، فجعل البينة في جانب المدعي وجعل اليمين في جانب المدعى عليه؟
فالجواب أن يقال: الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال هذا اكتفاءً بأدنى موجب ومثبت وهو اليمين؛ لأنه لما كانت العين بيده ترجح جانبه فاكتفي فيه باليمين، فإذا وجد ما هو أعلى وهو البينة اكتفي بها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/386)
فإن أقام المدعي بينة فالعين له ولو حلف المدعى عليه، ولم يعتد بيمينه.
قوله: «وإن أقام كل واحد بينة أنها له قضي للخارج ببيِّنته، ولغت بينة الداخل» أقام المدعي البينة أنها له، وأقام المدعى عليه بينة أنها له، يقولون: يقضى ببينة الخارج دون بينة الداخل.
والداخل من هي بيده والخارج المدعي، فيقضى للخارج ببينته وتلغى بينة الداخل، مثال ذلك: ادعى زيد على عمرو بأن هذا المال الذي بيد عمرو له، فقال عمرو: هو لي، وكل منهما جاء ببينة، فيقضى به للمدعي أي: لزيد؛ لأنه هو الخارج لدليل وتعليل، أما الدليل فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل البينة في جانب المدعي فقال: «البينة على المدعي» (1) ، وقد أتى بها فيحكم له بها، وأما التعليل قالوا: لأن بينة الخارج قد تكون أقرب لانتقال الملك، وبينة الداخل ربما تشهد بناءً على ملكه السابق، وانتقال الملك كثير، والشهود ربما شهدوا بأنها عند الداخل؛ لأنها كانت في يده بالأول، ثم باعها على الخارج فانتقل الملك له، فتكون بينة المدعي كأن معها زيادة علم فقدمت.
وقال بعض العلماء: بل تكون للداخل مع يمينه، بناءً على أن البيِّنتين تعارضتا، وليست إحداهما بأولى من الأخرى، فتساقطتا، كما لو اختلف الجماعة على الإمام فقال بعضهم:
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/387)
سبحان الله، يريدون أن يقوم، وقال آخرون: سبحان الله، يريدون أن يجلس، قال العلماء: يسقط قولهما جميعاً، ويرجع الإمام إلى ما في نفسه، وهنا لما تعارضت البينتان تساقطتا، فقلنا للخارج: نلغي بينتك وللداخل نلغي بينتك، ويبقى اليمين على من أنكر، فيحلف المدعى عليه بأنها له ولم ينتقل ملكه عنها، وتكون له.
وأجابوا عن قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» أن هذا يقتضي أنه ليس للمدعى عليه بينة، ولو أخذنا بظاهر الحديث لقلنا في المسألة التي ذكرتم: إنه إذا كان للمدعى عليه بينة سقطت اليمين.
نقول: هذا لا يصح؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل اليمين على المدعى عليه، وأنتم تقولون: إذا كان له بينة لا حاجة لليمين، فتبين أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أراد دعوى فيها بينة للمدعي، وليس فيها بينة للمدعى عليه، وحينئذٍ ما يبقى إلا اليمين إذا لم يكن لديه بينة. ولم يُرد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا تعارضت البينتان، فإن مقتضى الشرع القيام بالعدل، والقيام بالعدل أن نقول: كل بينة عارضت الأخرى أسقطتها، فيبقى كأن الرجلين ليس معهما بينة، وحينئذٍ نرجع إلى الأصل، ونقول للمدعى عليه وهو الداخل: احلف، فإذا حلف قُضي بأن العين التي بيده له، وألغيت الدعوى.
وهذا القول عليه كثير من أهل العلم، وهو أقرب في النظر من الأول، بقي أن يقال في دعوى أنه انتقل الملك: الأصل عدم الانتقال، وحينئذٍ تبقى العين في يد المدعى عليه مع اليمين.(15/388)
كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
..........................................................................
قوله: «الشهادات» جمع شهادة، وأصلها من شهد يشهد الشيء إذا حضره، ونظر إليه بعينه، قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فلا بد من علم.
واصطلاحاً: إخبار الإنسان بما على غيره لغيره بلفظ أشهد ونحوها، فيرون أنه لا بد من إخبار بلفظ أشهد، وقد يكون الإخبار بما علمه مطلقاً، كشاهد الهلال ـ مثلاً ـ بلفظ أشهد.
وقيل: إن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلمه مطلقاً، سواء بلفظ أشهد أو بدونه؛ ولهذا لما قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن علي بن المديني ـ فيما أظن ـ يقول: أقول: إن العشرة بالجنة ولا أشهد، قال: إذا قال ذلك فقد شهد، فالصحيح أن الشهادة أن يخبر الإنسان بما يعلمه، سواء بلفظ أشهد أو بغيره.
والشهادة أمرها عظيم وخطرها جسيم؛ ولهذا لما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» فذكر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» ، وكررها حتى قالوا: ليته سكت (1) ، وهي خطيرة في التحمل وفي الأداء، أما التحمل
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب ما قيل في شهادة الزور ... (2654) ، ومسلم في الإيمان/ باب بيان الكبائر وأكبرها (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.(15/389)
فيجب ألا يتحمل الإنسان شهادة إلا وقد علمها علم اليقين، حتى إنه روي عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أنه قال لرجل: «ترى الشمس؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» (1) ، أي: على مثل الشمس، حتى لو وَجَدْتَ قرائن تدل على الأمر، لا تشهد به، لكن اشهد بالقرائن التي رأيت، أما أن تشهد بما تقتضيه هذه القرائن فهذا لا يجوز؛ لأن الشهادة لا بد أن تكون عن علم، ومع الأسف أن شهادة الزور كثرت في هذا الزمن، حتى أصبحت رخيصة، يجد الإنسان في السوق من يشهد له بعشرة ريالات، بل بأقل، وأحياناً ربما يقول: كم مقدار الدعوى التي تدعي؟ فإن قال: أدعي مليون ريال، قال: مليون ريال كثيرة، أشهد بألف ريال، وإذا قال: مائة ألف، قال: يكفيني مائة ريال، على حسب الدعوى، كِبَرها من صغرها، وكل هذا ـ والعياذ بالله ـ تلاعب، وظلم، وعدوان.
والشهادة نوعان: تحمُّل، وأداء، التحمُّل معناه التزام الإنسان بالشهادة، والأداء أن يشهد بها عند الحاكم، وكل منهما صعب؛ لأن التحمل لا بد أن يكون عن علم، وتأتي ـ إن شاء الله ـ أنواع طرق العلم، والأداء لا بد أن يكون عن ذكر مع العلم،
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/110) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/455) ، وضعفه، وعزاه الحافظ إلى أبي نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل، وفي إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف، يرويه عن عبيد الله بن سلمة وهو ضعيف أيضاً، قال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، والحديث صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو ـ يعني محمد بن سليمان ـ واهي الحديث. انظر: التلخيص الحبير (4/198) ، وخلاصة البدر المنير (2/439) .(15/390)
والذي يرد على التحمل الجهل، والذي يرد على الأداء النسيان، وكلاهما يجب على الإنسان أن يحترز منه، أما تحملها فيقول المؤلف:
تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَنْ يَكْفِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَهَا، مَتَى دُعِيَ إِلَيْهِ،..........................................
«تحمل الشهادة في غير حق الله فرض كفاية» تحمل الشهادة الالتزام بها، وهو في غير حق الله فرض كفاية، فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار زيد بحق له فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عنه وإلا وجب عليه؛ ولهذا قال:
«وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه» دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك فيجب أن تجيب؛ لأنه لا يوجد من يقوم بالكفاية، أو دعوته إلى أن يشهد معك وليس معك إلا شاهد واحد، فيجب عليه، فالفرق بين تحمل الشهادة وأدائها أن التحمل لم يلتزم به الإنسان ولا يلزم به إلا إذا لم يوجد سواه، أما الأداء فقد التزم بها الإنسان أوّلاً وتحملها فيلزمه الأداء. فإذا قال: معك شاهد، فقل: نعم، لكن الشاهد ما يكفي، فإذا قال لك: الشاهد مع يمينك كافٍ، فماذا تقول؟ فقل:
أولاً: هذه مسألة فيها خلاف، وأخشى أن نتحاكم إلى قاضٍ لا يرى هذا الرأي فيضيع حقي.
الثاني: أن اليمين الذي يُحكم به لا يكون إلا عند الضرورة، فإذا وجد من يشهد فلا حاجة لليمين.
أو دعاك لتشهد له، فقلت: هذا أبوك عندك، يشهد لك، نقول: ما تقبل شهادته له.(15/391)
إذن يتعين عليك هذا في حقوق الآدميين.
أما في حقوق الله فلا يتعين التحمل، فلو دعاك شخص وقال: تعال اشهد على فلان أنه يشرب الخمر، فإنه لا يجب عليك أن تتحمل الشهادة؛ لأن هذا حق لله ـ عزّ وجل ـ وبإمكانك أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تَشْهد، لكن لو فرض أن امتناعك يتضمن ضرراً على هذا الذي دعاك، فربما نقول: يجب؛ دفعاً للضرر، أما إذا لم يكن ضرر فإن تحملها في حق الله ليس بواجب؛ لأن هذا لا يضيع حق آدمي، إنما هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسِّتر على فاعل المحرم أو على العاصي قد يكون أفضل من إظهاره وإعلانه، وهذا يختلف بحسب الحال.
وقوله: «وإن لم يوجد إلا من يكفي تعيَّن عليه» لقول الله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وهذه الآية قد يعارض فيها معارض يقول: هذا في الأداء واضح؛ لأن الرجل المدعو شاهد لا شك، ولكن قد يقول قائل ـ كما استدل به الأصحاب ـ: إن الشهيد هنا يشمل من شهد بالفعل، ومن دعي ليشهد؛ لأنه دعي للشهادة، ولنا أن نثبت هذا ـ أيضاً ـ بالقياس؛ لأن الله تعالى قال: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] ، وأيهما أشد الكاتب أم الشاهد؟ الكاتب؛ لأنه يحتاج إلى تعب وعمل، وهذا ما يحتاج إلى تعب ولا عمل، بل غاية ما هنالك أن يطلع فيضبط الشهادة.
قوله: «وأداؤها فرضُ عينٍ على من تحملها متى دعي إليه»(15/392)
الأداء إثبات الشهادة عند القاضي، فإذا تحمل الشهادة وجب عليه أن يشهد لقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، فحكم الله ـ عزّ وجل ـ بإثم قلب الإنسان الذي كتم، وأضاف الإثم إلى القلب؛ لأن شهادته لا يعلمها إلا الله عزّ وجل؛ إذ من الجائز أن ينكر، فلما كان إنكار الشهادة ـ وهو يعلم أنه شاهد ـ محله القلب قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . فلما كانت الشهادة محفوظة في القلب، والكتمان إنما يكون في القلب أضاف الله تعالى الإثم إلى القلب الذي هو محل حفظ الشهادة.
وقال بعض العلماء: أداؤها فرض كفاية، ويظهر أثر الخلاف فيما لو أشهد عشرة وتحملوا الشهادة وتحاكم مع خصمه للقاضي، فذهب إلى اثنين من العشرة وقال: إني حاكمت خصمي، فاذهبا معي لأداء الشهادة، على رأي المؤلف يتعين أن يذهبا معه، وعلى القول بأنه فرض كفاية لا يتعين، لأنهما يقولان له: اذهب إلى الثمانية الآخرين، واطلب اثنين منهم، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف، أنه إذا دُعي إليها وجب عليه عيناً أن يشهد؛ لأننا لو قلنا بجواز أن يحوِّل الشهادة إلى الآخرين، وذهب إلى اثنين من الثمانية قالا: معنا ستة باقون، فذهب لاثنين قالا: الباقي أربعة، فذهب لاثنين فقالا: الباقي اثنان فذهب للاثنين، فقالا: ولماذا تسلطت علينا؟! فيضيع حق المسكين!
فالصواب أنه إذا تحمل ودعي وجب عليه عيناً أن يؤدي الشهادة، ولو لم يكن فيها إلا قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] .(15/393)
مسألة: وهل تتساقط البيِّنتان إذا كانت إحداهما مؤرخة أو كانتا مؤرختين؟ نعم إذا كانتا مؤرختين وعرفنا تأخر تاريخ إحداهما على الأخرى فإنه يحكم بآخرهما تأريخا والحكم بتساقطهما فيما إذا كان تعارضهما من كل وجه.
وقوله: «وأداؤها فرض عين على من تحملها» لكن بشروط، قال:
قوله: «متى دعي إليها» هذا هو الشرط الأول، أن يدعى إلى أدائها فإن لم يدعَ إليها لم يلزمه الأداء، ولكن لو أدى بدون أن يدعى إليها، فهل هذا محمود أو هو مذموم؟
اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إنه مذموم لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يُستشهدون» (1) ، وفي رواية: «يشهدون قبل أن يستشهدوا» (2) ، فقالوا: إن هذا ذم لمن يشهد قبل أن يستشهد؛ وعللوا ذلك ـ أيضاً ـ بأن الإنسان الذي يبادر إلى الشهادة قبل أن يستشهد قد يتهم، ويظن أن معه تحيُّزاً للمشهود له، أو للمشهود عليه، وإلا فما الذي جعله يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة؟!
وقال بعض العلماء: بل الأفضل أن يشهد، وإن لم يستشهد
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2651) ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ... (2533) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة/ باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ... (2534) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/394)
لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» (1) ، وهذا يدل على فضيلة من شهد قبل أن يستشهد.
والصحيح أن في ذلك تفصيلاً: فإن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، مثل أن يكون الشاهد قد استمع إلى إقرار المشهود عليه، من غير أن يعلم به المشهود له، فيكون قد أقر عنده في مجلس بأن فلاناً يطلبني كذا وكذا، أو بأن العين التي في يدي لفلان، أو ما أشبه ذلك، والمشهود له لم يعلم، فهنا إذا علم الإنسان أن المسألة وصلت إلى المحكمة، فالواجب عليه أن يشهد ويبلغ؛ لئلا يفوت حق المشهود له، أما إذا كان المشهود له عالماً وذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة؛ لأنه إذا تعجل فقد يتهم في شدة محاباته للمشهود له، أو معاداته للمشهود عليه، وأما الحديث في ذم قوم يشهدون ولا يستشهدون، فإنه لا يتعين أن يكون المراد به أداء الشهادة، إذ يحتمل أن المعنى يشهدون دون أن يتحملوا الشهادة، فيكون هذا وصفاً لهم بشهادة الزور، ولا شك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، وهذا هو المتعين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون ولا يستشهدون» ، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون قبل أن يستشهدوا» فتحمل على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يشهدون ولا يستشهدون» ، فالتفصيل الذي ذكرنا هو المتعين.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب بيان خير الشهود (1719) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.(15/395)
وَقَدِرَ بِلاَ ضَرَرٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَهْلِهِ، وَكَذَا فِي التَّحَمُّلِ، وَلاَ يَحِلُّ كِتْمَانُهَا،.......
قوله: «وقدر» هذا هو الشرط الثاني: أن يكون قادراً على الأداء، فإن كان عاجزاً فإنه لا يلزمه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، ومن القواعد المقررة المأخوذة من هذه الآية أنه لا واجب مع عجز، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عن أدائها فإنه لا يلزمه للعجز.
الشرط الثالث: انتفاء الضرر، ولهذا قال:
«بلا ضرر في بدنه» بأن خاف أن يضرب حتى يتضرر.
قوله: «أو عرضه» بأن خاف أن يغتابه المشهود عليه، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو ماله» بأن خاف أن يحرق دكانه، أو يكسر زجاج سيارته، أو ما أشبه ذلك.
قوله: «أو أهله» بأن خاف أن يؤذى ولده أو زوجته، أو أباه، أو ما أشبه ذلك.
فإذا خاف الضرر فإنه لا يلزمه لا التحمل ولا الأداء في ظاهر كلام المؤلف، ونحن نقول: أما في البدن والمال والأهل فمسلَّم أنه إذا خاف الضرر في هذه الأشياء الثلاثة فإنه يسقط عنه واجب الشهادة تحملاً أو أداء؛ لما أشرنا إليه من الآية وهي: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وأما العِرْض، فينظر إذا كان الضرر من المشهود عليه حاصلاً أو غير حاصل؛ فإن الغالب أنه لا يتضرر به، حتى إذا اغتابه(15/396)
عند الناس فإن الناس لا يقيمون وزناً لغيبته؛ لأنه مشهود عليه فيقال: ما اغتابه إلا لأنه شهد عليه، أما إذا كان الضرر كبيراً بحيث يتأثر عرضه، وتسقط عدالته عند الناس، وما أشبه ذلك، فقد يسلم كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ فالعرض إذاً فيه تفصيل: إذا كان الضرر محققاً وكبيراً، فهذا قد يسقط الواجب من أداء الشهادة أو تحملها، وإذا كان الضرر ليس كبيراً، أو قد لا يوجد ضرر أبداً، مثل أن يكون انتهاك العرض من المشهود عليه، فإن ذلك لا يمنع من وجوب الشهادة تحملاً أو أداء.
فالشروط إذاً ثلاثة: أن يدعى إليها، وأن يكون قادراً، وانتفاء الضرر.
قوله: «وكذا في التحمل» يعني أنه يشترط انتفاء الضرر، وهل يشترط القدرة في التحمل؟ نعم، يشترط فلو دعاك شخص لتشهد له وأنت لا تستطيع، أو أنت مريض، أو تخشى إن ذهبت أن يضيع مالك، أو ما أشبه ذلك، فلا يلزمك، لكن هل يشترط أن يدعى إليها في التحمل أو لا يشترط؟ يعني هل يشترط أن أدعوك وأقول: تعالَ اشهد على نطق فلان، أو على فعل فلان، أو لا يشترط، بحيث إنك إذا سمعت أو رأيت وجب عليك أن تتحمل؟ الظاهر الثاني، فالإنسان متى رأى أو سمع وجب عليه أن يحفظ ما سمعه أو شهده؛ من أجل أن يؤديه إذا دعي إلى ذلك.
قوله: «ولا يحل كتمانها» أي: الشهادة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] .
فإن لم يمكن أداء الحق بدونها فإنه لا يحل كتمانها، مثل(15/397)
لو شهد شاهدان على زيد بحق، ثم أدى شاهد الشهادة، وطُلب من الثاني أن يشهد، فقال لصاحب الحق: يكفي يمينك مع الشاهد؛ لأنه يُقضى في المال بالشاهد واليمين، فهل يحل للشاهد الثاني أن يقول لصاحب الحق: عندك شاهد، واحلف معه، وسيقضى لك بيمينك؟ نقول: لا يحل له أن يمتنع عن الشهادة؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] .
ويشترط ـ أيضاً ـ شرط لم يذكره المؤلف، وهو أن تكون الشهادة مقبولة لدى الحاكم، فإن لم تكن مقبولة لم يلزمه أن يشهد لا تحملاً ولا أداء، فلو طلب الأب من ابنه أن يشهد له بحق فإنه لا يلزمه أن يشهد له؛ لأن شهادته غير مقبولة عند الحاكم، فإن شهادة الولد لوالده لا تقبل، وكذلك العكس لو قال الولد لأبيه: تعال اشهد، فإنه لا يلزم الوالد أن يشهد؛ وذلك لأن شهادته غير مقبولة، فلا فائدة من الشهادة.
وكذلك لو كان معروفاً بالفسق، وأن القاضي سيرد شهادته، كحالق اللحية ـ مثلاً ـ بحيث يُعرف هذا القاضي بردِّ شهادة حالق اللحية، وجاء إنسان وقال: تعال اشهد، فهل يلزمه أو لا؟ لا يلزمه، فإذا قال له صاحب الحق: تعال اشهد، قال: ما يلزمني؛ لأنني لو شهدت عند القاضي ما قبلني؛ لأني حالق اللحية، فقال له صاحب الحق: اشهد لعل الله يتوب عليك وتوفر لحيتك، فهل يلزمه حينئذٍ؟ الجواب: الاحتمال وارد، ونقول: يلزمه الإعفاء، سواء قبلت شهادته أم لم تقبل، لكن هذا الرجل غير معفٍ لحيته، فربما نقول: إذا كانت الشهادة فورية بحيث لو تاب الإنسان لم(15/398)
يبق للحيته وقت تتوافر فيه، فإنه لا يلزمه، أما إذا كانت القضية ربما تتأخر فقد يقال: بلزومها.
ولو دعي كافر إلى شهادة فهل يلزمه؟ الجواب: يلزمه لحق الآدمي؛ أليست حقوق الجار تلزم الكافر؟! نعم تلزمه فله حق الشفعة ـ مثلاً ـ على رأي بعض العلماء، فلو قال له الطالب للشهادة: اشهد ربما تُسْلِم؛ لأن الإنسان إذا تحمل الشهادة وهو كافر وأداها وهو مسلم تقبل منه، نقول: العبرة بالحال، وأما المستقبل فلا يحكم به؛ لأنه غير معلوم، فلا يجبر على الشهادة.
وَلاَ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ بِرُؤْيَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوْ بِاسْتِفَاضَةٍ فِيْمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ بِدُونِهَا، كَنَسَبٍ، وَمَوْتٍ، وَمُلْكٍ مُطْلَقٍ، وَنِكَاحٍ، وَوقْفٍ، وَنَحْوِهَا، وَمَنْ شَهِدَ بِنِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ العُقُودِ فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُرُوطِهِ،........
قوله: «ولا أن يشهد إلا بما يعلمه» هذه معطوفة على قوله: «كتمانها» يعني ولا يحل أن يشهد إلا بما يعلمه، والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، فلا بد أن يكون قد أدرك ما شهد عليه، أو به إدراكاً جازماً.
وقوله: «إلا بما يعلمه» يعني ولمن يعلمه، وعلى من يعلمه، فبما يعلمه هذا المشهود به، ولمن يعلمه هذا المشهود له، وهو الطالب، وعلى من يعلمه هو المشهود عليه، وهو المطلوب، فهل يشترط العلم بالطالب أو لا يشترط؟ فلو شهد شخص بما يعلمه، ثم توفي وطالب الورثة، وقالوا: أنت تشهد لمورثنا، قال: أنا ما أعرف مورثكم، ولا أدري هل أنتم ورثته أم لا؟ لكن أنا أشهد لإنسان صفته، كَيْت، وكَيْت، فإنه تحصل الشهادة، ونقول: هذا علم بالوصف لا بالعين، والعلم بمن يشهد عليه يشترط باسمه، أو بوصفه إن كان يراه، أما أن يقال له ـ مثلاً ـ: اشهد على امرأة محجبة، وأتوا بامرأة وقالوا: هذه فلانة بنت فلان، فقال لها: هل(15/399)
أنت هي؟ قالت: نعم، فقال: هل عندك لفلان عشرة آلاف؟ قالت: نعم، قال: أشهد أن فلانة بنت فلان عندها لفلان عشرة آلاف ريال، فهذا لا يمكن؛ لأن أي إنسان يمكن أن يحضر امرأة محجبة، ويقول: هذه فلانة بنت فلان، ويشهدك عليها! إذن لا بد أن يكون عالماً بمن يشهد عليه، إما باسمه، أو وصفه.
كذلك ما يشهد به من المال أو الحق أو الدَّيْن، يعني كما سبق لنا في الدعاوي، لا يشهد إلا بما يعلمه، فلا يجوز أن يشهد بالقرينة، ولا يجوز أن يشهد بغلبة الظن، بل لا بد من العلم، فلو رأى شخصاً خرج من بيتٍ هارباً وآخر يلحقه يقول: هذا الرجل سرق مني، ردوا السارق، ردوا السارق، فهل يشهد بأن هذا الرجل سارق؟ لا يجوز أن تشهد بالسرقة؛ لأنك ما تعلم، ربما أن صاحب البيت دعاه، ولما دعاه أراد منه شيئاً فأبى، فهدده بالقتل، فهرب، إذن لا تشهد بأنه سارق، لكن هل تشهد بما رأيت، بأنك رأيته هارباً، وصاحب البيت وراءه، يقول: السارق السارق؟ نعم، هذا يجوز، ويبقى النظر للحاكم، فله أن يحكم بما تدل القرائن عليه.
قوله: «برؤية أو سماع» طرق العلم خمسة، ذكر المؤلف أكثرها وقوعاً، وهي الرؤية والسماع، وبقي من الحواس ثلاث: الشم، والذوق، واللمس، إذن قوله: «برؤية أو سماع» إنما خص هذين النوعين من الحواس؛ لأن الغالب هو هذا، وإلا فيجوز أن يشهد بما يعلمه عن طريق الشم، بأن يشهد بأن هذا طِيب طيِّب، أو طِيب رديء، أو أن هذا اللحم منتن متغير، أو غير متغير، مثلاً(15/400)
تخاصم البائع والمشتري في اللحم، فقال المشتري: هذا اللحم متغير مخنز، وقال البائع: لا، فشهد رجل عن طريق الشم بأنه متغير.
مثال الذوق: قال المشتري: هذا تمر عتيق متغير الطعم، وقال البائع: لا، بل هو تمر جديد غير متغير، فيمكن أن يشهد شخص عليه بالذوق، أو قال المشتري: هذا عنب لم ينضج فهو حامض، وقال البائع: بل هو ناضج حلو، بأي طريق نعلم؟ بالذوق. كما تجوز الشهادة باللمس أيضاً كأن يكون يابساً أو رطباً، ليناً أو خشناً.
على كل حال، لا يجوز أن يشهد إلا بما علمه بإحدى الحواس الخمسة، والدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع، فالشهادة خبر محض ليست حكماً حتى نقول: يجوز الحكم بالقرائن، فالحكم بالقرائن سبق لنا أنه يجوز، لكن الشهادة خبر محض، والخبر لا يجوز إلا إذا تيقن المخبر وقوع الخبر، أو صحة ما أخبر به
وهل يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد؟ ما يشترط، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكانه، وجعل شخصاً يشهد مختفياً فإنه يجوز؛ لأن هذا الذي عليه الحق، إذا كان منفرداً بصاحب الحق أقر له، وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيَّل صاحب الحق ودعاه ـ مثلاً ـ على قهوة، فلما حضر قال له: الآن لا نشاهد أحداً، أنت ما تذكر لما أقرضتك كذا وكذا، في يوم(15/401)
كذا وكذا، بالمكان الفلاني؟ قال: بلى، أذكر، ولكن اصبر علي، هذا بيني وبينك، قال له: لماذا إذا صار عندنا أحد تنكر؟ قال: أخاف أن تطالبني، ثم يسجنني القاضي فهذه الحيلة جائزة؛ لأن المقصود بها التوصل إلى الحق.
قوله: «أو باستفاضة» الاستفاضة من فاض الماء إذا ظهر، وبان، وانتشر في الأرض، فمعنى الاستفاضة أن يستفيض الخبر وينتشر، ولكن يقول المؤلف:
«فيما يتعذر علمه بدونها» فالاستفاضة خاصة في الأشياء التي يتعذر العلم بها بدون الاستفاضة في الغالب، أما ما يمكن العلم به مباشرة فلا يجوز تحمل الشهادة فيه بالاستفاضة.
قوله: «كنسب» فأنا مثلاً أشهد بأن فلان ابن فلان، فهل حضرت والده عند غشيان أمه، وأنها حملت به من هذا الوطء، وأنها ولدت به على فراشه؟!
الجواب: أبداً ما شهدت، لكن استفاض عند الناس أن هذا فلان ابن فلان، فأشهد أن هذا فلان ابن فلان، قال العلماء: ولا بد للاستفاضة أن تكون عن عدد يقع العلم بخبرهم، يعني بأن يشهد بها أربعة فأكثر، فلو أخبره شاهد بالاستفاضة فإنه لا يشهد بها، بل يكون فرعاً عن شهادة هذا الشاهد.
مثال ذلك: جاءني رجل وتكلم معي بكلام، ثم انصرف، وإلى جنبي رجل آخر، قلت: من هذا؟ قال: هذا فلان ابن فلان، الرجل الذي أخبرني بأن فلان ابن فلان شاهد بالاستفاضة، هل لي أنا أن أشهد بأن هذا الرجل فلان ابن فلان؟ على كلام(15/402)
المؤلف ما أشهد، لكني أشهد على شهادة الرجل، ولكن اختار شيخ الإسلام وجدّه المجد ـ رحمهما الله ـ: أنه يجوز أن يشهد بما طريقه الاستفاضة بخبر الواحد الثقة، فيقول: هذا فلان ابن فلان، وقد سبق لنا هذا في التعريف أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى جواز التعريف بواحد.
قوله: «وموت» مرت جنازة قلت: من هذا؟ قالوا: هذا فلان ابن فلان، هل لي أن أشهد أن فلان ابن فلان مات؟ يجوز، فهل أنا حضرت هذا الرجل وهو يُحتَضَر حين خرجت روحه؟ لا، لكن عرفت بالاستفاضة.
قوله: «وملك مطلق» الملك نوعان: ملك مقيد، وملك مطلق، الملك المقيد بأن أشهد أن هذا ملك فلان، اشتراه من فلان، هذا ما يكفي فيه الاستفاضة، والملك المطلق أن أشهد بأن هذا ملك فلان، ومشهور أن هذا بيته، فهل أنا شاهد يوم يشتريه؟ أبداً يوجد احتمال أنه مستأجر، لكن مشتهر عند الناس كلهم، عند أهل الحي، وربما غيرهم، أن هذا البيت ملك فلان، فأشهد به حتى في المحكمة.
وكذلك ـ أيضاً ـ اليد التي على هذا البيت، مثلاً: إنسان في هذا البيت، له مدة يتصرف فيه(15/403)
تصرف الملاك في أملاكهم، يفتح باباً ويغلق باباً، يفتح طاقة ويغلق طاقة، يأتي بالعمال يصلحون فيه أشياء، يؤجره أحياناً، هل أشهد بأنه ملكه؟ الصحيح أن لي أن أشهد بأنه ملكه، وإن كان بعض العلماء قالوا: لا يشهد؟ وإنما يشهد باليد، فيقول: أشهد أن يده عليه، وأنه يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، قالوا: لجواز أن يكون وكيلاً لا مالكاً، وأنت إذا شهدت باليد فهو أسلم وأبرأ لذمتك، لكن المذهب: يجوز أن تشهد بالملك.
قوله: «ونكاح» يشهد بالاستفاضة في النكاح، مررت بقصر من قصور الأفراح وإذا هو منار، قلت: من المتزوج الليلة؟ قالوا: فلان ابن فلان، فاشتهر أن فلان ابن فلان تزوج الليلة، هل أنت حضرت العقد؟ لا، لكن استفدت ذلك بالاستفاضة.
قوله: «ووقف» الوقف نوعان ـ أيضاً ـ:
الأول: وقف خاص، وهذا لا نشهد عليه بالاستفاضة، فلا أشهد بأن هذا البيت وقف على فلان؛ لأن هذا خاص.
الثاني: وقف مطلق بأن يعرف أن هذا البيت موقف لأعمال البر، موقف على تكفين الموتى، على أجرة القبور، على طلبة العلم، وما أشبه ذلك، فهذا الوقف يشهد الإنسان فيه بالاستفاضة.
كذلك ـ أيضاً ـ يشتهر بين الناس أن هذا المسجد بناه فلان ابن فلان، فأنا ما حضرت العقد الذي تم بين المقاول والرجل، لكن اشتهر عند الناس أن فلاناً هو الذي بنى هذا فيجوز أن أشهد، المهم ما كان طريق العلم به الاستفاضة فإنه يشهد فيه بالاستفاضة.
وهل إذا كان من عادات بعض القبائل أن القريب إذا شهد على قريبه حصلت قطيعة رحم، تكون الشهادة في هذه الحال واجبة عليه؟ أكثر العلماء أن الشهادة في هذه الحال غير واجبة(15/404)
عليه ولكن عندي فيها نظر، لأنه يجب عليه أداء الشهادة إذا كانت متعينة عليه؛ حتى لا تضيع الحقوق بامتناعه من الشهادة تحملاً وأداءاً.
وهل يعتبر التسجيل الصوتي بيِّنة على الخصم ضد إنكاره؟
إن كان صوته متميزاً فإنه يعد بينة وإقراراً، وإن كان غير متميز فلا يعد بينة ولا يحكم به ولكن يكون قرينة. وهذا التفصيل يكون أيضاً في الكتابة فما كان منها متميزاً فهو بينة وما كان منها غير متميز فلا يعمل بها إلا إذا أشهد عليها.
قوله: «ونحوها» (1) .
قوله: «ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه» هذه المسألة تكاد تكون مبنية على ما سبق في الدعوى، حيث ذكر المؤلف أنه إذا ادعى عقداً فلا بد من ذكر شروطه، وذكرنا هناك الخلاف في المسألة، فهذه تشبه تلك، فإذا شهد بعقد نكاح، يقول: أنا أشهد أن فلاناً عقد على بنت فلان، فلا بد أن يذكر الشروط، فيقول مثلاً: بولي، وشاهدين، ورضا معتبر، وتعيين، فلو قال: أشهد أن فلاناً عقد لفلان على ابنته فقط، ولم يذكر الشروط فإن الشهادة لا تقبل حتى يبين الشروط، لماذا؟ قالوا: لأنه قد يشهد بعقد نكاح يظنه صحيحاً، وهو فاسد، وعقد النكاح يحتاط له ولا يتهاون به، فلا بد من ذكر الشروط، كذلك
__________
(1) قال في الروض: كعتق وخلع وطلاق (7/587) .(15/405)
ـ أيضاً ـ البيع، قال: أنا أشهد أن فلاناً باع على فلان بيته، فما تكفي هذه الشهادة، فلا بد أن يذكر جميع شروط البيع وهي سبعة، فإن لم يذكر الشروط السبعة فإن شهادته لا تقبل، وكذلك ـ أيضاً ـ لو شهد بوقف، بأن فلاناً وقف بيته، فلا بد من ذكر شروط الوقف الخمسة السابقة، فكل عقد لا بد فيه من هذه الشروط.
وهل يشترط ذكر انتفاء الموانع؟ لا يشترط، ففي النكاح ـ مثلاً ـ لا يشترط أن يقول: وهي ممن تحل له؛ لأن الأصل في العقد الصحة وعدم المانع، كذلك في البيع لا يشترط أن يقول: وأن هذا البيع لم يقع بعد نداء الجمعة الثاني، ولا في مسجد، ولا بيعاً على بيع أخيه، وما أشبه ذلك، ولو أننا قلنا: لا بد للشاهد من ذكر الشروط والموانع، لكانت الشهادة أحياناً تستوعب مجلدات؛ لأنه لا بد أن يذكر الشروط، وقد تكون كثيرة، والموانع قد تكون كثيرة أيضاً، فإذا قلنا باشتراط هذا وهذا لصَعُبَ على الناس.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط ذكر الشروط، ولكن للمدعى عليه أن يبين إن كان هناك فوات شرط؛ وذلك لأن الأصل في العقود الصحة والسلامة، ويدل لهذا حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في البخاري: أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سموا أنتم وكلوا» (1) ، فحكم بحل الذبح مع عدم
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات (2057) عن عائشة رضي الله عنها.(15/406)
تحقق الشرط وهو التسمية؛ لأن الأصل صحة الفعل، فإن وجد فقد شرط، أو حصل مانع فإن للخصم أن يدعي ذلك وينظر فيه، فلو قال المدعى عليه البيع: إن البيع وقع على وجه مجهول في الثمن، أو المثمن، حينئذٍ نقول: ما نحكم بصحة البيع حتى ننظر في دعوى هذا المدعي أن هناك شرطاً من الشروط لم يتم، كذلك لو ادعى المدعى عليه أن البيع وقع بعد نداء الجمعة الثاني، ما نحكم بالشهادة حتى ننظر في دعوى المدعي، أنه وقع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تجب عليه الجمعة، وهذا القول هو الراجح، ويدل لرجحانه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي أشرنا إليه، والتعليل ـ أيضاً ـ وهو أن الأصل في العقود السلامة والصحة حتى يوجد دليل الفساد، من فوات شرط، أو وجود مانع وهناك من العقود التي لم تذكر ففيه عقد الرهن والهبة والإجارة والمساقاة والمزارعة والشركات وغيرها، والمهم أن هذه القاعدة التي أشرنا إليها سارية في جميع العقود.
وإِنْ شَهِدَ بِرَضَاعٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ شُرْبٍ، أَوْ قَذْفٍ فَإِنَّهُ يَصِفُهُ، وَيَصِفُ الزِّنَا بِذِكْرِ الزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَالْمَزْنِي بِهَا،.......................
قوله: «وإن شهد برضاع» فلا بد من ذكر شروطه ووصفه أيضاً، فيقول: إن هذا الطفل رضع من هذه المرأة خمس رضعات فأكثر، في زمن الإرضاع، فإن قال: أشهد أنه رضع من هذه المرأة فقط، ولم يذكر شيئاً سوى ذلك، فإن الشهادة لا تقبل، وقيل: بل تقبل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر له الرجل قول المرأة التي قالت عنه وعن زوجته: إني أرضعتكما، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كيف وقد قيل؟!» (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله (88) عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه.(15/407)
وفارقها الرجل وهي لم تزد على قولها: إني قد أرضعتكما، وعلى هذا فلا حاجة إلى ذكر الشروط إلا إذا علمنا أن هذا الإنسان يخفى عليه الشرط، أو غلب على ظننا أن الشروط تخفى عليه فإننا نستفصل، فإذا جاءت امرأة وقالت: إني أرضعت هذا الرجل وهذه المرأة، ونحن نعلم أو يغلب على ظننا أن مثل هذه المرأة يخفى عليها شروط الرضاعة فحينئذٍ لا بد أن نستفصل، وهذا لا ينافي ما سبق من قولنا: إن من شهد بعقد نكاح أو غيره فلا حاجة لذكر الشروط؛ وذلك لأنها إذا قالت: أرضعتكما، فالفعل يدل على مرة واحدة، فلهذا نقول: إذا علمنا، أو غلب على ظننا أن هذه المرأة لا تعرف شروط الرضاع المحرِّم، فلا بد من الاستفصال لما ذكرنا، وهو أن الأصل في الفعل الإفراد وعدم التعدد.
قوله: «أو سرقة» كذلك لو شهد بسرقة فلا بد أن يصفها، ويذكر الشروط، فيصف كيف سرق؟ ومتى سرق؟ ومن أي مكان سرق؟ وما الذي سرق؟ احتياطاً للحدود، والواقع أن هذا فيه ما يحتاط له من وجهين: من جهة الحدود، ومن جهة حقوق الآدمي؛ لأن السارق يترتب على سرقته شيئان: الأول: ضمان المال المسروق، الثاني: القطع، ولكن ينبغي أن يستفصل في هذا، فيقال: إذا شهد بالسرقة، بأن قال: أشهد أن فلاناً سرق من مال فلان كذا وكذا، أو سرق بعير فلان أو شاة فلان فإنه يحكم عليه بمجرد هذه الشهادة بدون أن يصف احتياطاً لحقوق الآدميين، ولكن لا نقيم عليه الحد حتى يصف هذه السرقة، وأنه سرقها من حرز ـ مثلاً ـ درءاً للحد بالشبهات.(15/408)
قوله: «أو شرب» لو شهد ـ أيضاً ـ بشرب خمر، قال: أشهد أن فلاناً شرب خمراً، يقول المؤلف: لا بد أن يصف ذلك الخمر، فيقول: شرب من النوع الفلاني، شرب في المكان الفلاني، في الوقت الفلاني، المهم يصف كل ما يتعلق بهذه الشهادة، ولا يكفي أن يقول: أشهد أنه شرب الخمر.
والصواب أنه يكفي ذلك؛ لأن العقوبة مرتبة على مجرد شرب الخمر، فإن كان هناك مانع من العقوبة، كإكراه ـ مثلاً ـ فليدع ما شهد عليه.
لو قال قائل: يحتمل أن هذا الشاهد رآه يشرب الخمر، لكنه مكره، أو غير عالم بأنه خمر، نقول: الإكراه مانع وعدم العلم بأنه خمر مانع، فنحن نحكم بأنه شرب الخمر، ونحكم بمقتضى هذا الشرب، فإن ادعى الشارب ما يمنع هذه العقوبة، وقال: إنه مكره، أو إنه شرب هذا الشراب ولم يعلم أنه خمر، فحينئذٍ نسقط عنه العقوبة.
قوله: «أو قذف فإنه يصفه» كذلك لو شهد بقذف فلا بد من أن يصفه، والقذف هو الرمي بالزنا أو اللواط نسأل الله العافية، فيترتب عليه ثلاثة أشياء ذكرها الله في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} هذا الأول، {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} هذا الثاني، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] هذا الثالث، فإذا شهد بقذف فلا بد أن يصفه؛ لأنه قد يظن ما ليس بقذف قذفاً، كأن يشهد أنه قال لفلان: أنت زانٍ، أنت لوطي، وما أشبه ذلك، أما إذا قال: إنه قذفه فقط فلا يكفي؛ لاحتمال(15/409)
أن يكون قذفه بغير الزنا، فلا بد من أن يذكر نوع القذف الذي وقع منه.
قوله: «ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها» فيشترط ذكر ثلاثة أشياء، ذكر الزمان بأن يقول: إنه في الليل، في أول الليل، في النهار، في آخر النهار، وما أشبه ذلك، والمكان يقول: في البيت الفلاني في الحجرة الفلانية، وإذا كان في البر يقول: في النقرة الفلانية، في الوادي الفلاني، وما أشبه ذلك، والمزني بها يذكرها، ولكن كيف يذكرها؟ فهل يذكرها باسمها أو بوصفها؟ إن كان لا يعلم اسمها، فيذكرها بوصفها، وإن كان يعلم اسمها فباسمها؛ لأنه قد يجامع امرأته، فيظن الرائي أنها أجنبية، فيشهد بأنه زنا.
وقال بعض أهل العلم: إن الزنا فاحشة يعاقب عليه بالحد الشرعي، ولا ضرورة إلى ذكر المزني بها، فمتى ثبت الزنا فقد ثبتت الفاحشة، وعلى هذا فلا يشترط ذكر المزني بها، ولأن العلم بالمزني بها قد يعسر أو يتعذر، بخلاف الزاني، فإن العلم بالرجال أكثر من العلم بالنساء، وهذا القول أرجح.
ولا بد ـ أيضاً ـ أن يصف الزنا؛ لأنه حد من الحدود، فيقول ـ مثلاً ـ: إنه رأى ذكره في فرجها داخلاً، كما يدخل الميل في المكحلة، فإن شهد بأنه فوقها، وأنه يهزها ـ مثلاً ـ فهل يكفي ذلك أو لا؟ لا يكفي؛ لأن مثل هذا لا يثبت به حد الزنى، فلو أن شخصاً رأى إنساناً على امرأة، ورأى منه حركة تدل على الجماع، فإنه لا يشهد بالجماع، ولكن إذا اعتبرنا هذا الشرط في(15/410)
الشهادة بالزنا، فلا أظن أن زناً يثبت بشهادة، فمتى يمكن أن يشهد الإنسان بأن ذكر الرجل في فرج المرأة؟! ولهذا لما قيل للذين شهدوا على رجل في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ بالزنا: هل رأيت ذكره في فرجها؟ قال: نعم، قال المشهود عليه: والله لو كنت بين أفخاذنا ما شهدت هذه الشهادة، وهذا صحيح؛ لأن هذا فيه صعوبة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتاب المنهاج في الرد على الرافضة، قال: لم يثبت في الإسلام الزنا بالشهادة على الفعل أبداً، إنما ثبت بالإقرار، لكن أن يأتي أربعة يشهدون بأن ذكره في فرجها بزناً واحد!! فهذا صعب جداً.
وعلى كل حال هذا القيد قد يكون فيه رحمة، وهو حفظ أعراض الناس حتى لا يجرؤ أحد على الشهادة بالزنا بدون أن يتحقق هذا التحقق العظيم.
وهل يجوز الوصف بالإشارة أو بالتصوير؟ الوصف بالإشارة، كأن يصف السرقة، فيغلق الباب، ويقف، ثم يقول: رأيت هذا، ثم يفتح الباب، ثم يدخل ويأخذ الدراهم، ويغلق الباب، ويخرج وما يتكلم؟ نقول: إذا كان من أخرس ربما تصلح بالإشارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا كان من غير أخرس فنقول: تكلم، يجب أن تصرح، وكذلك لو وصف هذا بالتصوير، فهل تمكن الشهادة عن طريق التصوير؟ أما في بعض الدول فيمكن، لكنه التصوير المتحرك الذي يحكي الفعل، مثل الفيديو، وقد ذكر لي منذ قرابة سبع سنوات أنه اختُرِعَ جهاز إذا سلط على مكان الحادث قبل مضي عشر دقائق صور ما وقع، فإذا جاؤوا(15/411)
إلى مكان الحادث قبل أن يمضي عشر دقائق ووجهوا هذه الآلات إلى هذا المكان التقطت صور ما وقع، وهذا مستعمل في البلاد الغربية، على كل حال، لو جاءت هذه الآلة وصورت الواقع تقبل؛ لأن هذا أمر حسي معلوم؛ لأن الناس يشاهدونها تعرض على القاضي مثلاً، أو على الحاكم الذي يريد النظر في القضية وتثبت.
وَيَذْكُرُ مَا يُعْتَبَرُ لِلحُكْمِ، وَيَخْتَلِفُ بِهِ فِي الْكُلِّ.
قوله: «ويذكر ما يعتبر للحكم، ويختلف به في الكل» أي: في كل ما يشهد به، فلا بد أن يذكر من الأوصاف والشروط وما يختلف الحكم به، ويذكر كذلك كل ما يعتبر للحكم، كل هذا ذكره العلماء ـ رحمهم الله ـ تحرياً للشهادة، ولكن سبق لنا أن الأصل في الأشياء الواقعة من أهلها الصحة، فيكتفى فيها بالشهادة على الوقوع، ثم إن ادعي فَقْدُ شرط أو وجود مانع، فحينئذٍ ينظر في القضية من جديد.
* * *(15/412)
فَصْلٌ
وشُرُوطُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ سِتَّةٌ: البُلُوغُ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ،......
قوله: «وشروط من تقبل شهادتُهُ ستة» الفصل الأول ذكر فيه المؤلف شروط الشهادة تحملاً، وأداء، ومتى يشهد؟ وماذا يعتبر للشهادة؟ أما هذا الفصل ففي شروط من تقبل شهادته؛ وذلك أن الشهادة لا بد فيها من أركان: شاهد، ومشهود به، ومشهود له، ومشهود عليه، وهنا نذكر شروط الشاهد:
قوله: «البلوغ» هذا الشرط الأول، لكنه شرط للأداء لا للتحمل، فلو تحمل وهو صغير وأدى وهو كبير قبلت شهادته، كما تقبل رواية الصغير إذا تحمل وهو صغير وأداها بعد البلوغ، قال محمود بن الربيع ـ رضي الله عنه ـ: «عقلت مجة مجها النبي صلّى الله عليه وسلّم في وجهي، وأنا ابن خمس سنين» (1) ، فالبلوغ شرط للأداء، ولهذا قال:
«فلا تقبل شهادة الصبيان» يعني إذا أدَّوْها، فلو شهد صبي له ثلاث عشرة سنة على صبي آخر أنه فعل كذا وكذا، فالشهادة لا تقبل حتى في المكان الذي لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً، مثل الأسواق، وملاعب الصبيان، فلو جاء صبيّ، بل لو جاء عشرة صبيان، وقالوا: نشهد أن هذا الصبي هو الذي جرح هذا الصبي، رماه بحصاة حتى انجرح، فلا نقبل، أو جاء كل الصبيان يشهدون وهم خمسون صبياً فشهد ثمانية وأربعون صبياً على أن
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب متى يصح سماع الصغير (77) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب الرخص في التخلف عن الجماعة بعذر (265) (33) واللفظ للبخاري.(15/413)
التاسع والأربعين رمى الخمسين بحصاة وشجه لا يقبل، قالوا: لأن الصبي لم يتم عقله بعد، وأيضاً هو عاطفي، فيمكن الثمانية والأربعون يهجرون الخمسين، والهجر عند الصبيان، يقول: أنا هاجرك، فيهجره حتى ما يذكر ولا اسمه، ويكونون كلهم مع التاسع والأربعين ويشهدون عليه.
وأيضاً ظاهر كلام المؤلف ولو في المكان نفسه قبل أن يتفرقوا؛ لأنهم إذا تفرقوا يمكن أن يلقنوا ويشهدوا، لكن إذا كانوا لم يتفرقوا بعد عن المكان الذي شهدوا فيه، يقول ـ أيضاً ـ: لا تقبل شهادة الصبيان.
وقال بعض أهل العلم: بل شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً مقبولة، إذا لم يتفرقوا، وما قاله هؤلاء أصح، كما قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إنه في المكان الذي لا يطلع عليه إلا النساء تقبل شهادة المرأة الواحدة، فهؤلاء الصبيان إذا كانوا في مكان لم يطلع عليه إلا الصبيان ولم يتفرقوا بعد، لماذا لا نقبل؟! واحتمال أن يكونوا قد هجروا المشهود عليه الأصل عدمه، ولو أننا عملنا بهذا الاحتمال لكان كل شاهد ولو بالغاً يمكن أن يكون عدواً للمشهود عليه، ونقول: لا تقبل شهادته، فإن تفرقوا فإنها لا تقبل لاحتمال أن يلقنوا، وهذا ـ أيضاً ـ محل نظر، فينبغي أن يقال: حتى وإن تفرقوا فإن بعض الصبيان يكون عنده من الذكاء، ومن الخوف من الله ـ عزّ وجل ـ ما لا يقبل معه التلقين، فلو كان صبي له أربع عشرة سنة، ومتدين، وعاقل، ولا يمكن أن يَدخُلَ ذمتَه شيءٌ، فإن هذا ـ وإن(15/414)
فارق مكان الحادث ـ يبعد جداً أن يفتري الكذب في شهادته، ومثل هذا ـ أيضاً ـ يمكن للقاضي أن يخوفه، فيقول: إذا شهدت شهادة زور فإنك تصاب بعذاب، وحينئذٍ يرتدع، فإذاً نقول: الأصل أن شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليها إلا الصبيان غالباً مقبولة ما لم يتفرقوا، فإن تفرقوا كان ذلك محل نظر، قد تقوم القرينة بصدق شهادتهم، وقد تقوم القرينة بعدم صدق الشهادة، وقد تكون الحال احتمالاً بدون ترجيح.
الثَّانِي: الْعَقْلُ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ، وَلاَ مَعْتُوهٍ، وَتُقْبَلُ مِمَّنْ يُخْنَقُ أَحْيَاناً فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ.
قوله: «الثاني: العقل» أي: الشرط الثاني: العقل، وهو مصدر عقل يعقل عقلاً، وعقل الشيء بمعنى حبسه وحجره حتى لا ينطلق، ومنه عقال الناقة؛ لأنه يعقلها، ومنها العقال الذي يوضع على الرأس، والعقل نوعان: عقل إدراك، وهو ما يحصل به التمييز بين الأشياء، وقد سبق لنا أنه غريزة ومكتسب، وعقل رشد، وهو ما يكون به حسن التصرف، فما هو العقل الذي نفاه الله ـ سبحانه وتعالى ـ عن المشركين، أهو عقل الإدراك، أم عقل الرشد؟ الجواب: عقل الرشد، أما عقل الإدراك فإنهم عقلاء من حيث الإدراك، ولهذا يطالبون بالإسلام وتقوم عليهم الحجة، ولو كانوا مجانين لم تقم عليهم الحجة.
والعقل هنا هل المراد به عقل الإدراك، أو عقل الرشد؟ المراد به هنا عقل الإدراك، ولهذا تقبل شهادة الإنسان ولو كان سفيهاً، وإنما اشترط العقل في الشهادة؛ لأنه لا يمكن إدراك الأشياء حفظاً، ولا إنهاء إلا بالعقل؛ لأنه هو الذي يحصل به الميز، وضده الجنون والعته؛ ولهذا قال:(15/415)
«فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه» المجنون مسلوب العقل، الذي ليس له عقل بالكلية، والمعتوه الذي له عقل، لكنه مغلوب عليه، ما يميز ذاك التمييز البين، فهو كالطفل الذي لا يميز، أو ربما نقول: كالطفل الذي يميز، لكن ليس عنده ذاك الإدراك الجيد، فلا تقبل شهادة المجنون الذي ليس له عقل بالكلية، ولا تقبل شهادة المعتوه الذي له شيء من العقل لكنه مختل، ما يستطيع أن يتصرف التصرف الكامل؛ وذلك لأنهم ليس عندهم ما يعقلون به الإدراك ولا الإنهاء، وهو الأداء؛ فلهذا لا تقبل شهادة المجانين ولا المعتوهين.
قوله: «وتقبل» الضمير يعود على الشهادة.
قوله: «ممن يخنق أحياناً» يعني يجن أحياناً.
قوله: «في حال إفاقته» أداءً وتحملاً؛ لأنه لا يمكن أن يتحمل وهو مجنون، ولا يمكن أن يؤدي وهو مجنون، لكن إذا تحمل في حال الصحو وأدَّى في حال الصحو فشهادته مقبولة؛ لزوال المانع الذي به ترد الشهادة.
والسكران لا تقبل شهادته؛ لأنه ليس له عقل لا تحملاً ولا أداءً، ولكن إذا أصحى فإنها تقبل شهادته إن تحمل وهو صاحٍ، والمسحور مثله، فما دام فاقد العقل بأي شيء من الأسباب فإنه لا تقبل شهادته، لا تحملاً ولا أداء.
الثَّالِثُ: الْكَلاَمُ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الأَخْرَسِ، وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ.
قوله: «الثالث: الكلام» هذا الشرط الثالث: الكلام، وهو(15/416)
النطق وضده الخرس، واشترط الكلام؛ لأن الشهادة تحتاج إليه في حال الأداء، وإذا لم يكن متكلماً كيف يؤدي؟! فإن قلت: يؤدي بالإشارة، قلنا: الإشارة لا تعطي الأمر اليقيني، والشهادة يشترط فيها اليقين، ولهذا قال المؤلف:
«فلا تقبل شهادة الأخرس» وهو الذي لا ينطق، والغالب أن الأخرس لا يسمع، وعلى هذا فلا يمكن أن يشهد بالمسموع، لكن يمكن أن يشهد بالمرئي، ومع ذلك قال المؤلف: «فلا تقبل شهادة الأخرس» .
«ولو فهمت إشارته» «لو» إشارة خلاف، فإن من أهل العلم من يقول: إذا فهمت إشارة الأخرس فإنها تقبل؛ لأن الشارع اعتبر الإشارة في الأمور كلها، كما ذكر ذلك البخاري في ترجمة له (1) ، فكل الأمور تدخل فيها الإشارة، العبادات والمعاملات، فإذا فهمت الإشارة حصل اليقين، أرأيت لو قيل للأخرس: أتشهد أن لهذا على هذا عشرة ريالات، فقال برأسه: نعم، فهذا يقين كما لو نطق هو، فالقول بأن اليقين يتعذر في شهادة الأخرس غير صحيح، بل يمكن أن يتيقن حتى في شهادة الأخرس، وحتى لو لم نقل: عنده عشرة، بل لو كان يشير لهذا على هذا، ثم قال بيده: عشرة عشر مرات، فنفهم مائة ريال، فيؤتى بريال ويشار له به وتفهم الإشارة، المهم أن القول الراجح المتعين أن شهادة الأخرس تقبل إذا فهمت إشارته، ويدل لذلك أننا لو قلنا: لا
__________
(1) فقال: باب الإشارة في الطلاق والأمور، صحيح البخاري/ كتاب الطلاق (946) ط. دار السلام.(15/417)
تفهم لضاع الحق، فنحن عندنا جانبان في الواقع، جانب المدعى عليه وجانب المدعي، فلو قال قائل: إذا عملت بشهادة الأخرس أضررت بالمدعى عليه؛ لأنك حكمت عليه بما لا يتيقن، نقول: وإذا لم نقبل شهادته أضررنا بجانب المدعي فأهملنا حقه، فعندنا جانبان، كلاهما لا بد من مراعاته، فإذا فهمت إشارة الأخرس فما المانع من قبولها؟! الحقيقة أنه لا مانع، وأنه يتعين على القاضي، وعلى غير القاضي ممن حكم بين الناس أن يحكم بشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته.
قوله: «إلا إذا أداها بخطه» فإنها تقبل؛ لأن الخط يفيد اليقين ويعمل به شرعاً، قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده» (1) ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقيم بالكتابة الحجة على ملوك الكفار، فكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي يدعوهم إلى الله تعالى (2) ، إذاً فالكتابة حجة شرعية بالقرآن والسنة، فهذا الأخرس إذا أدى شهادته بخطه نقبلها؛ لأن الخط يفيد اليقين، وهذا واضح فصار الأخرس له ثلاث مراتب:
الأولى: ألا يكون ممن تفهم إشارته ولا كتابته، فهذا لا تقبل قولاً واحداً للشك في مدلول هذه الشهادة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصايا (2738) ، ومسلم في الوصية/ باب وصية الرجل مكتوبة عنده (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد/ باب كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله (1774) عن أنس رضي الله عنه.(15/418)
الثانية: أن يكون ممن يعرف خطه ويؤدي الشهادة بخطه، فهذا يقبل قولاً واحداً.
الثالثة: أن يكون ممن تعرف إشارته وتفهم، فهذا محل خلاف بين العلماء، فالمشهور من المذهب أنها لا تقبل، والصحيح الذي لا شك فيه أنها تقبل.
الرَّابِعُ: الإِسْلاَمُ، الْخَامِسُ: الْحِفْظُ، السَّادِسُ: الْعَدَالَةُ: وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ: وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لاَ يَأْتِي كَبِيرَةً، وَلاَ يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَلاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَاسِقٍ.
قوله: «الرابع: الإسلام» أي: الشرط الرابع، فالإسلام شرط لقبول الشهادة؛ لأنه إذا كانت العدالة شرطاً فالإسلام أساس العدالة، ولهذا فإن الله تعالى دائماً يضيف الشهود إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون فيقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، وإذا كان الفاسق يجب علينا أن نتبين في خبره ولا نقبله، فما بالك بالكافر؟! فلا بد من أن يكون الشاهد مسلماً بدلالة القرآن والنظر الصحيح؛ لأن الكافر محل الخيانة، وهو غير مأمون قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ، {لاَ يَأْلُونَكُمْ} ، يعني لا يألونكم جهداً، {خَبَالاً} ، يعني أن تقعوا في الخبال، وهو التصرف بغير عقل، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} ما شق عليكم، فالكفار يسعون بكل جهد أن يكون عملنا خبالاً ضائعاً لا خير فيه.
فإذا كان الكافر مبرزاً في الصدق ـ والكافر قد يكون صدوقاً ـ فلا نقبل شهادته، فلو جاءت شهادة الكافر بواسطة التصوير، ككافر معه كاميرا وصوَّر المشهد، وأنا عندي أن(15/419)
التصوير في الواقع عرضٌ لصورة الحال، فلو أعطانا الصورة ولم يتكلم، فكأنه رفع لنا القضية برمتها، يعني رفع لنا صورة الواقع، فهنا لا نعتمد على خبره، بل نعتمد على الصورة التي أمامنا، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، ونحن إذا تبينا بواسطة الصورة فما المانع؟! فهذا كافر معه آلة فيديو، سلطها على هؤلاء القوم الذين يتقاتلون، وأعطانا الصورة، نراهم يتقاتلون بعضهم مع بعض، ونعرف وجوههم، ثم نقول: هذا غير مقبول؛ لأن الذي التقط الصورة كافر!! ونقول: هذا مقتضى دين الإسلام، أعوذ بالله لو نقول هذا الكلام صاحت علينا الأمم، ما هذا الدين الذي لا يقبل الحقائق المنقولة؟!
إذاً شهادة الكافر إذا كانت مستندة على مجرد خبره فهي غير مقبولة لا شك وليس مؤتمناً، لكن إذا كان يصور لنا الواقع صورة لا ارتياب فيها، فنحن لا نقبل خبره هو، لكن نقبل الذي أمامنا، ولهذا لو جاء صبي صغير له أربع عشرة سنة ولكن جسمه كبير، إلا أنه ما أنبت، ولا أنزل، وجاء يشهد ما نقبل شهادته، لكن لو صور لنا الواقع بالفيديو، وأحضره لنا نقبله، لكن ليس من أجل خبره، إنما من أجل أن الواقع أمامنا نشاهده، ولهذا في القرآن: {فَتَبَيَّنُوا} يعني اطلبوا البيان؛ حتى يتبين لكم الأمر، فإذا تبين الأمر فما المانع من القبول؟!
فإذا قال قائل: وجدنا في القرآن قبول شهادة غير المسلم قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ(15/420)
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني من المسلمين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: غير المسلمين، فقوله تعالى: {اثْنَانِ} خبر المبتدأ، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ} معطوف عليه يعني أو شهادة هذه الوصية {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} بشرط: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} يعني سافرتم {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] ، يعني جاءكم الموت، وهذان الآخران من غيركم موجودان عندكم فأشهدوهما على الوصية، مع أن الوصية فيها ضرر على الورثة؛ لأنه سيقتطع جزء من المال لهذه الوصية، كرجل كان في السفر ومات وكان معه اثنان غير مسلمين، فأوصاهم، وقال: إني أشهدكما أني أوصيت بثلث مالي يصرف في كذا وكذا، نقبل شهادتهما وهما كافران مع أنه يوجد إضرار بالورثة، لكن الآية فيها احتياطٌ: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ، لكن متى؟ {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] ، يعني فإن لم ترتابوا فلا حاجة إلى الحبس، وهذا يدل على أننا قد لا نرتاب في شهادة الكافر، فيكون في هذا تأييد لما أسلفنا من قبل في مسألة ما لو نقل الحادث بالصورة.
وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ} أي: من بعد صلاة العصر، والمراد بالحبس أن نأتي بهما ونوقفهما {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] ، يعني أننا ما شهدنا من أجل حظ من الدنيا، ولو كان أقرب قريب إلينا ولا نكتم شهادة الله: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] ، ففي هذه الآية دليل واضح على قبول شهادة غير(15/421)
المسلم في وصيةٍ في سفر لم يحضرها غيرهما من المسلمين، فهل نحكم بهذا؟
الجواب: نعم نحكم شرعاً، ويجب أن نرضى به شرعاً؛ لأن الذي قال ذلك هو الله عزّ وجل، وإذا حصل منا ارتياب نلجأ إلى الإقسام الذي ذكره الله ـ عزّ وجل ـ، فهذه المسألة مستثناة، ولكن القضية التي وقعت في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان الشاهد رجلين يهوديين، فهل يشترط أن يكون هذا الغير من أهل الكتاب؛ لأنه قال: من غيركم، أو لا يشترط؟ إذا نظرنا إلى القرآن الكريم وجدنا أنه لا يشترط، قال الله تعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} ، وأطلق ولم يقل: من أهل الكتاب، مع أن الله ـ عزّ وجل ـ إذا أراد تخصيص أهل الكتاب بالحكم خصص: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
قوله: «الخامس: الحفظ، السّادس: العدالة: ويعتبر لها شيئان: الصّلاح في الدّين: وهو أداء الفرائض بسننها الرّاتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرةً، ولا يدمن على صغيرةٍ» .
قوله: «فلا تقبل شهادة فاسق» الفاء للتفريع، والجملة مفرعة(15/422)
على ما سبق من قوله: «بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة» ، وسواء كان فسقه بالأفعال، أو بالأقوال، أو بالاعتقاد؛ لأن الفسق قد يكون بالأقوال كالقذف ـ مثلاً ـ فإن القذف من كبائر الذنوب كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النور] ، والفسق بالفعل كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة فهذه من الأفعال المفسقة، والفسق بالاعتقاد ذكر بعض العلماء ضابطاً في هذا، فقال: كل بدعة مكفرة للمجتهد فهي مفسقة للمقلد، وهذا ضابط واضح؛ لأن المجتهد يقولها ويناظر عليها وربما يدعو إليها، والمقلد لا يعلم فنقول: هو فاسق، هكذا أطلق بعض العلماء وهي كما ذكرت عبارة جميلة وخالف آخرون فقالوا: إن المقلد لا يخلو إما أن يعتقد أن ما قاله هذا المجتهد هو الحق؛ لأنه لا يعرف غيره فهذا لا يمكن أن نحكم بفسقه؛ لأنه اتقى الله ما استطاع، ولا يستطيع أكثر من ذلك، وليس عنده في بلده إلا هؤلاء العلماء، ولا يسمع قولاً يخالف قولهم، أو قولاً يُدَّعى أنه الحق وهو مخالف لقولهم، فكيف نفسقه، وهو قد اتقى الله ما استطاع؟! ولكن نقول: من تعصب لهم فحينئذٍ نفسقه، يعني لو قيل له: الحق كذا، قال: لا، مشايخي يقولون: كذا وكذا، فهذا لا شك أننا نفسقه، لأنه يشبه قول المشركين الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] ، والآية الثانية: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ، مثلاً: لو قال قائل بخلق القرآن، وأن القرآن مخلوق بائن من الله(15/423)
عزّ وجل، فإن كثيراً من السلف أطلق عليه القول بالكفر، وقال: إنه إذا قال: إن القرآن مخلوق فقد كذب قول الله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، فجعله ـ سبحانه وتعالى ـ نازلاً بالعلم لا مخلوقاً بالقدرة، وإذا كان نازلاً بالعلم لم يكن مخلوقاً بالقدرة وإذا قلنا: إنه مخلوق صار تكذيباً لقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ، وحينئذٍ يكون كافراً، كذلك من قال: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، فهذا كافر ولا شك في كفره، فيكون الذي يقلده في هذا فاسقاً بشرط أن يعرض عليه الحق، ولكنه يصر ويتعصب لرأي متبوعه، كذلك من قال: إن الله سبحانه وتعالى ليس فوقاً، ولا تحتاً، ولا يميناً، ولا شمالاً، ولا متصلاً، ولا منفصلاً، فهو ـ أيضاً ـ كافر؛ لأن هذا حقيقة العدم، المهم أننا نتتبع أقوال أهل العلم في البدعة المكفرة، فإذا صار الإنسان المجتهد أي: الذي نصب نفسه للفتوى والتعليم يقول بهذه البدعة المكفرة فالمقلد له بعد أن يعرض عليه الحق ويرده يكون فاسقاً.
الثَّانِي: اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يُجَمِّلُهُ، وَيَزِينُهُ، وَاجْتِنابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
قوله: «الثاني: استعمال المروءة» أي: الثاني مما يعتبر في العدالة استعمال المروءة، والمروءة التخلق بالأخلاق الفاضلة، وإن كان في الروض (1) يقول: المروءة هي الإنسانية، فيكون الإنسان متخلقاً بالأخلاق التي ليس عليه فيها مثلب، ولا أحد ينتقده، وهذه ترجع للعادة، وقد يكون بعضها ديناً، لكن أصلها العادة، فالمروءة هي ما تعارف الناس على حسنه، وما تعارفوا على قبحه فهو خلاف المروءة، وإذا كان هذا فإن مرجع المروءة
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/598) .(15/424)
إلى العادة في الواقع، فقد يكون هذا العمل ـ مثلاً ـ مخلاً بالمروءة عند قوم، غير مخلٍّ بالمروءة عند آخرين، وقد يكون مخلاً بالمروءة في زمن غير مخلٍّ بها في زمن آخر، فما دمنا أرجعنا المروءة إلى العادة، وهي ما تعارف الناس على حسنه، فحينئذٍ تكون المسألة بحسب عادات الناس، مثلاً قال العلماء: من الإخلال بالمروءة أن ينام الإنسان بين الجالسين، فإذا نام بين الجالسين سقطت مروءته؛ لأن هذا خلاف المعتاد، وإذا خرج عن مستوى الجالسين سقطت مروءته، مثلاً: تقدم أو تأخر عن الصف تسقط مروءته، وإذا مضغ العلك أمام الناس سقطت مروءته، وإذا أكل في السوق سقطت مروءته، وما دمنا عرفنا أن الضابط في المروءة هو ما تعارف الناس على حسنه فهو مروءة، وما تعارف الناس على قبحه فهو خلاف المروءة.
ولننظر في هذه الأمثلة هل هي مخالفة لما يعتاده الناس؟ فالواحد بين أصحابه في نزهة يمكن أن ينام، ولا يقال: هذا خلاف المروءة، لكن لو يأتي في مجلس علم وينام فإن هذا خلاف المروءة، فالمسألة تختلف، ويقولون: عند الأحباب تسقط الكلفة في الآداب، فقد تكون بين إخوانك وأصحابك وتمد رجلك، وقد تكون في مجلس موقر ما تمد رجلك، ولو مددت رجلك لكان كل الناس يعيبونك، فالمسألة تختلف، ويذكر أن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ كان يدرِّس، فجاء ذلك الرجل المهيب بهيئته، وكان الإمام قد مد رجله بين أصحابه فلما رآه كف رجله؛ ظناً منه أن ذلك الرجل من أكابر العلماء، وجعل يقرر في صيام رمضان،(15/425)
فقال هذا الذي يظن أنه شيخ: أرأيت لو طلعت الشمس قبل الفجر؟! يقولون: إنه مد رجله، وقال: إذاً يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي، الله أعلم هل هذا صحيح أو لا؟ على كل حال هذه المسألة ما دمنا ربطناها بالعرف فهي تختلف باختلاف الأعراف، وحد المؤلف المروءة فقال:
«وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه» فعل ما يجمله عند الناس ويزينه، مثل: الكرم، والجود بالنفس وهو الشجاعة، وطلاقة الوجه، والانبساط إلى الناس، وما أشبه ذلك، فكل ما يجمل فهو من المروءة بلا شك، ويختلف، فربما نقول لهذا الرجل: إذا لم يفعل هذا فقد فعل ما يشينه، والآخر لا نقول: فعل ما يشينه، كما لو رأينا رجلاً متصدراً للبلد، ومن أعيانه، ولكن لا يعطي البلد حقها من استقبال الزائرين ولا سيما الكبراء، نقول: هذا مخالف للمروءة، لكن لو يأتي شخص من عامة الناس، ولا يسلم على من قدم للبلد من الوجهاء والأعيان فإنه لا يعد مخالفاً للمروءة، المهم كل شيء يجمل الإنسان ويزينه بين الناس فهو من المروءة.
وقوله: «ما يجمله ويزينه» قال في الروض (1) : عادة، كالسخاء وحسن الخلق.
وقوله: «واجتناب ما يدنسه ويشينه» عادة من الأمور الدنيئة، فلا شهادة لمصافع، من الصفع، ومن ذلك الملاكمة فهي مثلها أو أشد منها، فهي خلاف المروءة.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/598) .(15/426)
قال في الروض: «ومتمسخر» أي: بالناس، يتمسخر بهم، ويحاكيهم بالقول أو بالفعل، فإن كان متمسخراً بالنساء يحاكيهن فهو مع مخالفة المروءة واقع في المحرم، في كبائر الذنوب.
قال في الروض: «ورقاص» وهو الذي يرقص، «ومغنٍّ» فالمغني قد سقطت مروءته، بل فيه شيء آخر من الناحية الدينية، أنه إذا كان الغناء محرماً فإنه لم يستقم دينه وفيه محذوران هما عدم الصلاح في الدين وعدم المروءة، أما إذا كان الغناء غير محرم، وغنى في موضع لا ينبغي أن يغني فيه، فهو خلاف المروءة، يعني لو جاء حادي الإبل الذي يحدو على الإبل، وصار يحدو في السفر فهذا جائز، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقره (1) ، ولو جاء عامل ينقل الحصى ويحفر الأرض ويغنِّي على عمله ليتقوى جاز أيضاً، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يحفرون الخندق وينشدون، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ معهم ينشد:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
حتى إنه يقول:
وإن أرادوا فتنة أبينا
ويمد بها صوته (2) ، وهم يقولون:
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما جاء في قول الرجل: ويلك (6161) ، ومسلم في الفضائل/ باب رحمة النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء ... (2323) عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب حفر الخندق (2837) ، ومسلم في الجهاد والسير/ باب غزوة الأحزاب وهي الخندق (1803) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.(15/427)
لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل
ينشدون بها، لكن لو جاء هذا المغني الحادي، أو العامل، وهو جالس مع الناس، ثم رفع صوته بالحداء وهم يتغدون ـ مثلاً ـ فهذا خلاف المروءة.
فتبين الآن أن قول صاحب الروض: «ومغنٍّ» ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وكذلك الأغنية إذا كانت محرمة من أجل موضوعها، كأن يكون موضوعاً ساقطاً هابطاً، فهذا مخالف للمروءة، ومخالف للدين، أما المغني غناء مباحاً، إذا استعمله في موضع لا يذم عليه فإنه لا يسقط المروءة، وإن كان في موضع غير مناسب فإنه يسقط المروءة.
قال في الروض: «وطفيلي» وهو الذي يدخل على الناس بدون دعوة، سمع أن فلاناً عنده وليمة فذهب إليه، هذا نسميه طفيلياً، فلا تقبل شهادته لمخالفة المروءة، لكن إذا علمت من صاحبك أنه يفرح بمجيئك فهذا ليس بطفيلي، بل هو من المروءة والتواضع، وكثيراً من الناس ـ كما قيل: رب صدفة خير من ميعاد ـ إذا جئت إليه بدون دعوة يكون أحب إليه ويفرح كثيراً، ويظهر عليه أثر الفرح، إذاً الطفيلي هو الذي يفاجئ القوم بدون دعوة.
ولا فرق بين أن يكونوا على الطعام أو على غير الطعام، فمثلاً: ناس في البر جالسون على الطعام، فإذا بالطفيلي يأتي، فهذا طفيلي وإن لم يكن هناك أبواب؛ لأنه يفاجئ القوم عند تقديم الطعام ليضيق عليهم.(15/428)
قال في الروض: «ومتزيٍّ بزيٍّ يسخر منه» هذا موجود وهو كثير، كرجل يضع قروناً على رأسه، أو جناحين على يمينه ويساره، ويوجد هذا أظن فيما يسمى بأفلام الكرتون.
قال: «ولا لمن يأكل بالسوق» إلا في المواضع المعدة للأكل مثل المطاعم، قال: «إلا شيئاً يسيراً كلقمة وتفاحة» ، هذا لا بأس به، مع أنه في الحقيقة بالنسبة لنا تسقط مروءته، فلو جئت تمشي إلى المسجد ومعك تفاحة تأكلها أمام الناس، يمكن يقال: هذا الرجل أصابه جنون، لكن لو في مطعم ما يعد هذا مخالفاً للمروءة.
قال: «ولا لمن يمد رجله بمجمع الناس، أو ينام بين الجالسين ونحوه» لكن في الكتب الأخرى يقولون: إن من خرج عن مستوى الجلوس فإنه تسقط مروءته.
وَمَتَى زَالَتِ الْمَوَانِعُ، فَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَعَقَلَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ.
قوله: «ومتى زالت الموانع، فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق قبلت شهادتهم» الشروط السابقة إنما تعتبر حال الأداء، فمتى بلغ الصبي وهو متحمل في حال الصغر قبلت شهادته، فالذي يشترط في التحمل في جانب هذا الشرط التمييز، فالبلوغ شرط للأداء، فهذا صبي تحمل وله عشر سنوات، وضبط القصة، ولم يؤدِّ إلا بعد أن بلغ وقد بلغ بإنبات العانة وله اثنتا عشرة سنة، تقبل شهادته.
وقوله: «وعقل المجنون» لكن العقل شرط في التحمل والأداء، إذاً كيف يقول: عقل المجنون؟(15/429)
نقول: هذا شخص تحمل وهو عاقل ثم جن ثم عقل، فلا نقول: إن هذا الجنون يبطل شهادته، بل نقول: إذا أدى بعد عقله قبلنا شهادته، ومثله رجل أصيب بحادث فاختل عقله ثم عافاه الله عزّ وجل، لا نقول: إن هذا الاختلال ينسخ الذاكرة السابقة ولا نقبل شهادته، بل نقول: إنها تقبل؛ لأن هذا الشاهد تحمل وهو عاقل، وأدَّى وهو عاقل.
وقوله: «وأسلم الكافر» تحمل وهو كافر وأدى وهو مسلم فتقبل شهادته، ولو تحمل وهو مسلم وأدى وهو كافر فإنها لا تقبل.
وقوله: «وتاب الفاسق» فإنها تقبل شهادته، يعني رجلاً تحمل وهو فاسق، لا يصلي مع الجماعة مثلاً، لكن هداه الله عزّ وجل، وصار يصلي مع الجماعة، تقبل شهادته، إذاً العدالة والإسلام والبلوغ شرط للأداء لا للتحمل، وشرط الكلام ينبغي أن نقول: هو ـ أيضاً ـ شرط للأداء فقط، أما التحمل فلو تحمل وهو أخرس، وأدى وهو ناطق فشهادته مقبولة، حتى على المذهب، أما على القول الصحيح فقد تقدم التفصيل في ذلك، فصار الكلام إذاً شرطاً للأداء فقط، إذاً فشروط التحمل أربعة من ستة، أما الأداء فكل الستة شروط له.
والخلاصة: أن من تحمل صغيراً وأدى بالغا قبلت شهادته، ومن تحمل فاسقاً وأدى عدلاً قبلت شهادته ولا تقبل شهادته إن تحمل عدلاً وأدى فاسقاً ومن تحمل عاقلاً فلا تقبل شهادته حال جنونه فإن عقل بعد جنونه قبلت شهادته التي تحملها قبل الجنون.(15/430)
وأهم شيء في هذا الباب مسألة العدالة، لأننا لو طبقنا ما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما يعتبر للعدالة لو طبقناه على مجتمع المسلمين اليوم لم نجد أحداً إلا نادراً، وحينئذٍ تضيع الحقوق، وإذا رجعنا إلى مستند الفقهاء في اشتراط العدالة وجدنا ذلك في آيتين أو أكثر، لكن معناهما واحد {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، وعند التأمل قد لا يكون في الآيتين دليل على ما اشترطه الفقهاء؛ لأن الله قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، أي: صاحبي عدل، ولا يلزم من كونهما صاحبي عدل أن يتصفا بالعدالة المطلقة، بل يمكن أن نقول: إن معنى الآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} في شهادته، فمتى كان ذا عدل في الشهادة فإنه يقبل، ودينه لله عزّ وجل؛ ولهذا لو كان الإنسان مخالفاً للعدالة في الكذب فإننا لا نقبله بلا شك؛ لأن الشهادة تعتمد اعتماداً كلياً على الصدق في النقل، وإذا كان هذا الإنسان معروفاً بالكذب فهذا لا نقبل شهادته؛ لأن هذا الوصف ـ وهو الكذب ـ مخلٌّ بأصل الشهادة، فإن الشهادة مبنية على الصدق في الخبر، وهي خبر في الواقع، فإذا كان كاذباً فلا شك أن هذا يخل بشهادته ولا نقبلها، أما لو كان الرجل يحلق لحيته لكن نعلم أنه في باب الأخبار صدوق لا يمكن أن يكذب، وقد ماشيناه وتتبعنا أخباره، فكيف نرد خبره؟! أو رجل يغتاب الناس، والغيبة من كبائر الذنوب تخدش العدالة ولو مرة واحدة، لكن مع كونه يغتاب الناس صدوق الخبر لا يمكن أن يكذب، فعلى المذهب ترد(15/431)
شهادته، ولكن على القول الراجح: تقبل، وحينئذٍ نقول: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: في الشهادة.
على أنه يمكن أن يقال ـ وهو وجه آخر رد به من رد على كلام الفقهاء ـ قال: إن الله يقول: « {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، هذا في ابتداء الشهادة، أي: التحمل، فلا تختر إلا عدلاً، لكن عند الأداء نقبل كل من قامت القرينة على صدقه، وفرق بين التحمل الذي يريد أن يختار شهوداً يعتمد عليهم، وبين إنسان أتى بشهود فيما بعد ليثبت بهم الحق، فيفرق هؤلاء العلماء بين التحمل والأداء، فالتحمل لا بد أن يختار ذوي العدل لئلا يقع إشكال في المستقبل، أو ردٌّ للشهادة، لكن عند الأداء فينظر في القضية المعينة.
أما بالنسبة للفاسق، فالفاسق لم يأمر الله بردِّ خبره، لكن قال: {فَتَبَيَّنُوا} ، فإذا شهد الفاسق بما دلت القرينة على صدقه، فقد تبينا وتبين لنا أنه صادق، وإذا شهد فاسقان يقوى خبرهما، إذ لم يكن بينهما مواطأة، بأن كان كل واحد منهما بعيداً عن الآخر، فشهدا في قضية معينة، فلا شك أن خبرهما يقوي بعضه بعضاً، ولهذا حتى عند علماء المصطلح إذا روى اثنان ضعيفان فإنه يقوى الحديث.
فالحاصل أن الآيتين ليس فيهما دليل على أن العدالة في الشهادة هي ما ذكره الفقهاء رحمهم الله، أما العدالة في الولاية فهي شيء آخر؛ لأن الولي منفذ وآمر، والشاهد طريق إلى الحق فقط، وليس عنده التنفيذ، فيجب أن نشترط في الولي أكثر مما نشترط في الشاهد.(15/432)
مسألة: وهل هذه الشروط عامة في جميع أبواب الشهادات؟
لا تشترط العدالة ظاهراً وباطناً في جميع المواضع، يعني أن في بعضها تشترط العدالة ظاهراً فقط، كولاية النكاح، والشهادة به، والأذان والشهادة بثبوت رمضان، وغير ذلك من المواضع التي قد تبلغ سبع أو ثمان صور، يكتفى فيها بالعدالة الظاهرة فقط.
وإن قيل: لماذا وضع الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ القسمة في باب القضاء؟ نقول: لأن القاسم يعين من قبل القاضي، ولأن القاسم كالحاكم.(15/433)
صفحة فارغة(15/434)
بَابُ مَوَانِعِ الشَّهَادَةِ وَعَدَدِ الشُّهُودِ
لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَمُودَيِ النَّسَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلاَ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَتُقْبَلُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ مَنْ يَجُرُّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعاً، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَراً، وَلاَ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ،........
هذا الباب تضمن مسألتين: المسألة الأولى: موانع الشهادة، الثانية: عدد الشهود، أما موانع الشهادة، فيعني الموانع التي تمنع من قبول شهادة الشاهد مع استكمال الشروط، والموانع في اللغة جمع مانع، وهو الشيء الحائل دون الشيء.
وأما في الاصطلاح فإن المانع هو الذي يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه العدم، عكس الشرط؛ فالشرط يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، فإذا تمت شروط الشاهد السابقة الستة بقي شيء آخر، وهو انتفاء الموانع، فإذا انتفت الموانع قبلنا شهادته وحكمنا بها، وإن وجد مانع من الموانع رددنا شهادته.
وهل الأصل وجود المانع أو عدم المانع؟ الأصل عدم المانع، وعندنا نصوص عامة للشروط التي تجب في الشاهد، وننظر في هذه الموانع التي ذكرها المؤلف هل هي وجيهة بحيث يمكن أن نخصص بها تلك العمومات أو لا؟ يقول المؤلف:
«لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض» يريد بعمودي النسب الأصول والفروع، الأصول من الأمهات، والآباء، والأجداد، والجدات، وسموا أصولاً؛ لأن الإنسان يتفرع منهم، والعمود الثاني الفروع وهذا هو العمود النازل، والأول العمود(15/435)
الصاعد، هذا العمود النازل هم الفروع، يعني الأبناء، والبنات، وأولاد الأبناء، وأولاد البنات وإن نزلوا، هؤلاء لا تقبل شهادة بعضهم لبعض وإن كانوا عدولاً، وإن تمت فيهم الشروط الستة السابقة، فلو شهد أب لابنه لم تقبل شهادته، أو ابن لأبيه لم تقبل شهادته، أو شهد ولد لأمه لم تقبل شهادته، أو أم لولدها لم تقبل شهادتها، المهم أن هذا مانع، فما الدليل على كونه مانعاً؟
الدليل قوة التهمة؛ لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله، أو شهد لفرعه، فإذا كان متهماً فإن ذلك يمنع من قبول شهادته لاحتمال أن يكون قد حابى أصوله أو فروعه، فالدليل على أن هذا مانع تعليل، وليس دليلاً من الكتاب والسنة، بل هو قوة التهمة، فإذا علمنا أن التهمة معدومة لكون الأب أو الأم مبرزاً في العدالة لا يمكن أن تلحقه تهمة، فهل نقبل الشهادة أو لا؟ المؤلف يقول: لا نقبل الشهادة حتى لو كان الأب من أعدل عباد الله، أو الابن من أعدل عباد الله؛ لأن كونه في هذه المرتبة من العدالة أمر نادر، والنادر لا حكم له، فالعبرة بالأغلب، والأغلب أن الإنسان تلحقه التهمة فيما إذا شهد لأصوله أو فروعه، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي غلبت فيه العاطفة على جانب العقل والدين عند كثير من الناس.
وهناك قول آخر في المسألة: أنها تقبل شهادة الأصول لفروعهم، والفروع لأصولهم إذا انتفت التهمة، وأن العبرة في كل قضية بعينها؛ وجه ذلك أن العمومات الدالة على قبول شهادة العدل لا يستثنى منها شيء، إلا بدليل واضح بيِّن يمكننا أن نقابل(15/436)
به عند السؤال، وإلا فإن الله ـ جلَّ وعلا ـ يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وهؤلاء من رجالنا، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وهؤلاء من ذوي العدل، سواء قلنا: إن العدل استقامة الدين والمروءة مطلقاً، أو قلنا: إن العدل هو العدل في تلك الشهادة المعينة كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فنقول: إذا كان هذا الأب مبرزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد لابنه إلا بشيء هو الواقع، ونعلم هذا من حاله، فنقول: هذا الرجل ذو عدل في هذه الشهادة؛ لأنه غير متهم، فننظر إلى كل قضية بعينها، لا سيما إذا وجدت قرائن تؤيد ما شهدوا به فإن هذا يكون نوراً على نور، فعلى هذا القول نقول: هل الأصل القبول أو الأصل المنع؟ إذا قلنا: الأصل القبول صرنا لا نرد شهادتهم حتى نعلم التهمة، وإذا قلنا: الأصل المنع صرنا نمنع شهادتهم حتى توجد قرينة قوية، وهي بروزه في العدالة بحيث لا يشهد إلا بما هو حق، والظاهر أن الأصل التهمة لا سيما في زمننا هذا، وبناءً على ذلك نقول: إذا ثبت أنه مبرز في العدالة، وأنه لا يمكن أن يشهد إلا بحق فحينئذٍ تقبل الشهادة.
وهل تقبل الشهادة على الأصول والفروع؟ نعم، تقبل الشهادة عليهم بنص القرآن قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ، وليس في هذا إشكال ولأن التهمة منتفية غالباً، وإلا فيمكن أن يشهد شخص على ابنه بالزور، كأن يكون بينه وبين ولده سوء تفاهم ـ مثلاً ـ وخصام، وعداوة شديدة، ويشهد عليه.(15/437)
إذن شهادة الأصول للفروع وبالعكس على القول الراجح، أنه إذا صار الأصل أو الفرع مبرِّزاً في العدالة لا تلحقه تهمة فإن الواجب قبول شهادته إذا تمت الشروط؛ لأنه لا يوجد إلا التعليل، والتعليل إذا انتفى انتفى الحكم ولا يوجد دليل على رد الشهادة في عمودي النسب مطلقاً.
قوله: «ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه» الزوجة لا تشهد لزوجها، والزوج لا يشهد لزوجته، فالزوج رجل ذو عدل، والمرأة امرأة ذات عدل، نقول: لا تقبل؛ للتهمة لأن شهادة الزوج لزوجته متهم بها، وشهادة الزوجة لزوجها متهمة بها، وهذا هو الغالب، وغلبته أقل من غلبة الأصول والفروع؛ لأن العداوة بين الأزواج كثيرة أكثر من العداوة بين القرابات، فهي كثيرة جداً، فإذا شهد أحد الزوجين لصاحبه لم يقبل، ونقول في هذه المسألة كما قلنا في المسألة الأولى، بل أولى: إنه إذا كان الزوج أو الزوجة مبرزاً في العدالة فإن الشهادة تقبل، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يمكن أن يشهد لزوجته إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادته لها، أو علمنا أن هذه الزوجة لا يمكن أن تشهد لزوجها إلا بما هو الحق فإننا نقبل شهادتها له.
وهل الأصل المنع أو عدمه؟ نقول: كما سبق؛ الأصل عدم المنع، حتى يوجد دليل يدل على امتناع شهادة الزوج لزوجته بغير الحق وبالعكس.
وقوله: «أحد الزوجين» هل يشترط الدخول، أو وإن كان قبل الدخول؟(15/438)
الجواب: وإن كان قبل الدخول، فإذا شهد لها وقد عقد عليها فإنها لا تقبل، والمخطوبة هل يقبل أن يشهد لها وهي ليست زوجة؟ ربما تكون التهمة أقوى، فقد يشهد لها من أجل أن تمضي في القبول، نقول: ولو كان هذا أمراً واقعاً فإننا نقبله، نعم، لو وجدت قرائن تكذبه فهذا شيء آخر، لكن من حيث هو خاطب فإن ذلك لا يمنع قبول شهادته لمخطوبته ولا شهادتها له ـ أيضاً ـ.
والمطلقة إن كانت قد انتهت عدتها فلا شك في قبول شهادته لها؛ لأنه لا علاقة بينه وبينها، وإن كانت في العدة فإن كانت رجعية فحكمها كالزوجة لا تقبل شهادته لها، وإن كانت بائناً فمحل نظر؛ لأنك إن نظرت إلى أنها معتدة له قلت: إنها مشتغلة ببعض متعلقات النكاح، ولها نوع صلة بالزوج، وإن قلت: إنها بائن قلت: انقطعت العلاقة بينهما.
فإذا كانت الزوجة قد ماتت فهل تقبل شهادته لها؟ يوجد تهمة من جهة الإرث، إذا كان سيشهد بمال فإنه سيجرُّ إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً.
قوله: «وتقبل عليهم» أي: على الأصول، والفروع، والزوجين، فتقبل شهادة الزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، مثل أن يشهد على زوجته أنها اعْتَدَتْ على فلان وأتلفت ماله، أو ما أشبه ذلك، نقول: هذا جائز؛ وهل يشهد أنها باعت ملكها على فلان؟ لا يشهد؛ لأن البيع قد يكون للإنسان، وقد يكون عليه؛ فهو له حيث سيطالب المشتري بالثمن، وعليه حيث سيطالبه المشتري بالسلعة.(15/439)
قوله: «ولا من يجر إلى نفسه نفعاً» فلا تقبل شهادته، كشريكين في مال، فباع أحدهما المال المشترك، ثم إن الأسعار نزلت فادعى المشتري أنه ما اشترى، والشريك يدعي أنه باع على هذا الذي أنكر، فشهد الشريك لشريكه فلا يقبل؛ لأنه يجر إلى نفسه نفعاً؛ لأنه إذا تم البيع استفاد هو؛ لأنه شريك فلا تقبل شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، كذلك لو شهد الورثة بجُرْح الموروث قبل اندماله يعني برئه، ثم مات المجروح من الجرح فإن شهادتهم لا تقبل؛ لأنهم سيجرون إلى أنفسهم نفعاً بهذه الشهادة وهو الدية، فستكون لهم، أو شهدوا أن زيداً هو الذي جرح مورثهم جرحاً مميتاً، ومات المشهود له، نقول: شهادتكم لا تقبل؛ لأنهم لما شهدوا فهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً، إذ سيلزم الجارح دية الميت، وإذا لزمته الدية سيرثها هؤلاء الذين شهدوا، فلا تقبل شهادتهم؛ لأنهم يجرون إلى أنفسهم نفعاً.
قوله: «أو يدفع عنها ضرراً» فلو شهد إنسان شهادة تستلزم أن يدفع ضرراً عن نفسه فما تقبل؛ لأنه متهم، وكل الموانع العلة فيها التهمة، مثاله: جَرْحُ العاقلةِ شهودَ قتلِ الخطأ، كإنسان قتل شخصاً خطأ، يريد أن يرمي صيداً ورماه فأصاب إنساناً ومات، فالجناية الآن خطأ، فالدية على العاقلة، رفعت الدعوى عند الحاكم فأنكر القاتل، فجاء أولياء المقتول بشهود يشهدون بأن فلاناً هو الذي قتله خطأ، فقالت عاقلة القاتل: هؤلاء الشهود فسقة، فما تقبل شهادتهم؛ لأنهم يشهدون بهذه الشهادة لئلا يثبت(15/440)
القتل فتلزمهم الدية، فشهادتهم هذه تتضمن دفع ضرر عنهم فلا تقبل. والمراد بالعاقلة هنا هم عصبة القاتل خطأ، يعني أبناءه وآباءه وإخوانه وأعمامه وبنوهم.
قوله: «ولا عدوٍّ على عدوه» فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، لكن المراد بالعداوة هنا عداوة الدنيا لا عداوة الدين؛ لأنها لو كانت عداوة الدين لم نقبل شهادة السني على البدعي؛ لأن السني عدو للبدعي ومع ذلك تقبل شهادته عليه، فالمراد العداوة لغير الدين فلا تقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأنه متهم، فكل إنسان عدو لشخص يحب أن يلحقه الضرر؛ فلهذا لا نقبل شهادته، وإذا كان السبب في ذلك التهمة فإننا نرجع إلى ما قلنا في الأصول والفروع، وهو إذا كان هذا العدو مبرِّزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد على أي إنسان إلا بحق حتى ولو كان عدوه فإننا نقبل شهادته؛ لعمومات الكتاب والسنة.
وهل تقبل شهادة العدو لعدوه؟ تقبل لزوال التهمة، وقال بعض أهل العلم: لا تقبل شهادة العدو لعدوه؛ لأنه يخشى أن يحابيه ليسلم من شره، وما قول الشاعر عنا ببعيد:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا
فمن أساء إليهم أحسنوا إليه، ومن ظَلَمَهُم غفروا له، فإن قال قائل: أليست الشريعة المطهرة قد أتت بدفع الأموال للأعداء الذين يخاف شرهم من الزكاة؟(15/441)
فالجواب: بلى، إذن يمكن للإنسان أن يشهد لعدوه بقصد دفع شره، لهذا لا تقبل لعدوه ولا على عدوه.
ولكن على كل حال هذا التعليل وإن كان مليحاً، لكن فيه شيء من النظر؛ لأننا نقول: احتمال أن يشهد لعدوه من باب المحاباة ودفع الضرر هذا شيء بعيد، وإن كان يقع، والأشياء والاحتمالات العقلية لا تأتي في مثل المسائل العلمية والعملية، فلو أردنا أن نأتي بالاحتمالات العقلية كنا نقول: حتى الشهود العدول الذين ليس فيهم موانع يمكن أن يخطئوا، يمكن أن ينسوا، يمكن أن تحدث عداوة بينهم وبين المشهود عليه.
ولو شهد الصديق لصديقه هل تقبل؟ إن قلنا: لا تقبل شهادة الصديق لصديقه، قلنا للناس: لا يكن بعضكم صديقاً لبعض؛ لأن الصديق لا تقبل شهادته لصديقه! وهذا مشكل؛ لأن معناه أننا نحث الناس على ألا يتصادقوا، وهذا لا يمكن أن يقوله قائل؛ ولذلك ذهب بعض العلماء، ومنهم ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إلى أنه إذا كانت الصداقة صداقة قوية تصل إلى حد العشق أو ما أشبه ذلك، فإنها لا تقبل شهادته له، قياساً عكسياً على شهادة العدو على عدوه، فالعدو مع عدوه ليس بينهما صلة، والصديق الحميم الشديد الصداقة بينه وبين صديقه صلة قوية؛ لأن بعض الناس مع صديقه ينسى كل شيء، ولا يبالي أن يشهد له بالباطل ولا يهمه، لا سيما إذا وصل الأمر إلى حد العشق، وهذا القياس قوي جداً، أما مطلق الصداقة السائدة بين الناس فلا شك أنها ليست بمانع.(15/442)
ثم اعلم أن هذا الباب كما قلنا سابقاً: مستثنى من عمومات بعللٍ لا بمسموعات، وهذه العلل قد تقوى على تخصيص العموم، وقد تضعف، وقد تتوسط، فهي مع قوة التخصيص مُخصِّصة، ومع ضعف التخصيص لا تُخصِّص قطعاً، ومع التساوي محل نظر، والقاضي في القضية المعينة يمكنه أن يحكم بقبول الشهادة، أو ردها بهذه الأمور.
وقوله: «ولا عدو على عدوه» فلا تقبل للتهمة، لكن إذا كان مبرزاً في العدالة في جميع الموانع المذكورة فإنها تقبل لزوال التهمة، ودليل ذلك في العدو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وشنآن بمعنى بغض وعداوة، فلا تحملكم العداوة والبغض على ترك العدل {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، فإذا علمنا أن هذا الرجل عادل فإنه إذا شهد على عدوه تكون شهادته مقبولة، كما إذا حكم عليه.
كَمَنْ شَهِدَ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ شَخْصٍ، أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ.
قوله: «كمن شهد على من قذفه، أو قطع الطريقَ عليه» هذان مثالان للعداوة، فما ذكره المؤلف مثالاً لا حصر، رجل مقذوف والمقذوف هو الذي رُمِيَ بزنا أو لواط، ومعروف أن الزنا واللواط يخدشان كرامة الإنسان، ويسقطانه من أعين الناس، ويستبيحان عرضه، فإن الناس يتكلمون فيه، فإذا قذف رجل شخصاً بالزنا، ثم في يوم من الأيام شهد المقذوف على من قذفه بالزنا، فإن الشهادة لا تقبل؛ لأن قذفه إياه بالزنا سببٌ للعداوة، أما من شهد بأن فلاناً قذفه فليس هذا مراد المؤلف؛ لأن هذا ليس بشاهد ولكنه مدعٍ.(15/443)
وقوله: «أو قطع الطريق عليه» قطع الطريق أن يتعرض الإنسان للناس بالسلاح، سواء في البر أو في البلد؛ لأجل أخذ المال منهم غصباً ومجاهرة لا سرقة فهؤلاء هم قطاع الطريق، كما كان في البادية في الزمن السابق يقفون للناس على الطرقات ثم يغصبونهم المال غصباً مجاهرة، وإذا مانع أحد فإنهم ربما يقتلونه، وقد سبق لنا بيان حدهم الذي أوجب الله ـ تعالى ـ عليهم، فإذا شهد رجل على من قطع الطريق عليه، نقول: إن شهادته لا تقبل؛ من أجل التهمة، ولكن كما أسلفنا إذا كان الإنسان عدلاً مبرزاً في العدالة لا يمكن أن يشهد إلا بالحق فإن شهادته تقبل. وقول المؤلف رحمه الله (كمن شهد) الكاف للتشبيه وعلى هذا فما ذكره مثال لا حصر.
ثم قال مبيناً حد العداوة: «ومن سره مساءةُ شخص أو غَمَّه فرحُه فهو عدوه» هذه العبارة تعتبر ضابطاً في تعريف العداوة، لكن بشرط أن يكون هذا الشيء لشخص معين إذا أتاه ما يسره أساء الآخر، وإذا فرح فإنه يغتم، وليس المراد إذا كان هذا عادة الإنسان مع جميع الناس؛ لأنه لو كان كذلك لكان الحاسد لا تقبل شهادته؛ لأن الحاسد ـ نعوذ بالله من الحسد ـ يسره مساءة الناس، ويغمه فرحهم، كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] ، وقال تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] ، فكثير من الناس ـ والعياذ بالله ـ قلبه مملوءٌ من الحسد، إذا أتى الناس ما يسوؤهم ـ وإن كان لا علاقة له بهم ـ فإنه يُسَرُّ، وإذا حصل لهم فرح فإنه(15/444)
يساء ويغتم، فهذا ليس مراد المؤلف، بل مراده إذا كان شخصاً معيناً؛ ولهذا قال: «مساءة شخص» ولم يقل: مساءة الشخص على سبيل العموم، إذاً إذا علمنا أن هذا الرجل إذا أصاب فلاناً ما يسوؤه فرح وسُرَّ بذلك وصار يتحدث للناس: أفرأيتم ما حصل لفلان، وما حصل لفلان، وما حصل لفلان، وإذا حصل له سرور وفرح اغتم، فهذا عدو؛ لأن الصديق يفرح لفرحك ويغتم لغمك.
على كل حال هذه المسألة في الحقيقة لو أنها وكلت إلى القضاة وقيل: إن الحاكم بإمكانه أن يعرف الأمور بالقرائن لكان هذا له وجه؛ لأن الضابط هنا مشكل، فإذا قلنا: إن التهمة هي المانع فالتهمة قد تقوى وقد تضعف وضبطها مشكل، لكن لو قلنا: إن القاضي ينظر في كل مسألة وفي كل قضية بعينها ويحكم بما أراه الله ـ عزّ وجل ـ لكان هذا له وجه.
قال في الروض (1) : «ولا ـ أي: لا تقبل ـ شهادة من عرف بعصبية، وإفراط في حمية، كتعصب قبيلة على قبيلة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة» ، هذه كثيراً ما تقع خصوصاً في البادية، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ عنده عصبية وحمية لقبيلته، وعصبية وحمية على قبيلة آخرين، فتجده يشهد لقبيلته سواء كان عالماً بما شهد به أم لم يعلم، ويشهد على قبيلة أخرى سواء كان عالماً أو لم يعلم، هذا يقول المؤلف: لا تقبل شهادته، فإذا عرف أن هذا الرجل متعصب لقبيلته يشهد لها بالحق، وبالباطل، ومتعصب على قبيلة أخرى يشهد عليها بالحق وبالباطل، فإن شهادته لا تقبل.
* * *
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/605) .(15/445)
فَصْلٌ
وَلاَ يُقْبَلُ فِي الزِّنَا وَالإِقْرَارِ بِهِ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ، وَيَكْفِي عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً رَجُلاَنِ، وَيُقْبَلُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلاَ مَالٍ، وَلاَ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِباً، كَنِكَاحٍ، وَطَلاَقٍ، وَرَجْعَةٍ، وَخُلْعٍ، وَنَسَبٍ، وَوَلاَءٍ، وَإِيْصَاءٍ إِلَيْهِ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلاَنِ،................
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان عدد الشهود، وعدد الشهود إما أن يكون أربعة، أو ثلاثة، أو اثنين، أو واحداً، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً واحداً ويمين المدعي، كل هذا سيذكره المؤلف، فالذي لا بد فيه من أربعة هو الزنا، قال رحمه الله:
«ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة» قوله: «أربعة» مؤنثة فيكون المعدود مذكراً، يعني إلا أربعة رجال، فالزنا لا يقبل فيه إلا أربعة رجال، دليل ذلك قوله تعالى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} ، أي: الأربعة، {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، فلو شهد ثلاثة وتوقف الرابع فإن الشهادة لا تتم، ونجلد أولئك الشهود الثلاثة حد القذف، أما المتوقف فإننا لا نجلده ولكن لنا أن نعزره، فلو جاء أربعة يريدون أن يشهدوا على رجل بزنا، وسبق أنه لا بد من التصريح بالزنا، فصرح ثلاثة، قالوا: رأينا ذكر الرجل في فرج هذه المرأة، أما الرابع فتوقف، فإن الثلاثة الأولين قذفة يجلدون كل واحد ثمانين جلدة، والرابع يعزر؛ لأنه لم يصرح بالزنا.
ولو شهدت ثماني نساء لا تقبل شهادتهن؛ لأنه لا مدخل للنساء في الحدود، فالحدود لا يقبل فيها إلا شهادة الرجال فقط، ولو شهد أربعة غير بالغين فلا تقبل شهادتهم لفوات الشرط وهو البلوغ.
وقوله: «والإقرار به» الإقرار بالزنا لا بد فيه من أربعة رجال يشهدون بأن فلاناً أقر بالزنا عندهم، فلا يقبل رجلان ولا ثلاثة؛(15/446)
لأن الإقرار بالزنا موجب للحد، والشهادة تثبت الإقرار، وإذا كانت الشهادة هي التي تثبت الإقرار ـ وهو موجب للزنا ـ فلا بد من أربعة رجال يشهدون به.
قوله: «ويكفي على مَنْ أتى بهيمةً رجلان» يعني لو شهد رجلان على شخص بأنه أتى بهيمة كفى، وماذا نصنع بهذا الشخص؟ يعزر وتقتل البهيمة، فإن كانت له فقد فاتت عليه، وإن كانت لغيره لزمه ضمانها لصاحبها.
قوله: «ويقبل في بقية الحدود، والقصاص، وما ليس بعقوبة، ولا مال، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كنكاح، وطلاق، ورجعة، وخلع، ونسب، وولاء، وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان» العدد المطلوب في هذه الأشياء رجلان اثنان، فالنساء لا مدخل لهن فيه، لكن انتبه للشروط، يقول: «الحدود والقصاص» هذان اثنان «وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال» وهذه ثلاثة «ما ليس بعقوبة» لأن العقوبة سبق أنها إن كانت زنا يشترط أربعة رجال «ولا مال» لأن المال سيأتي ما يكفي فيه من الشهود «ولا يقصد به المال» كذلك سيأتي ما يكفي فيه، «ويطلع عليه الرجال» ؛ وسيأتي ما يكفي فيه، فالمال وما(15/447)
يقصد به يكفي فيه رجلان أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، وسيأتي، والذي يطلع عليه النساء غالباً يكفي فيه امرأة واحدة، كالطلاق والرجعة، وبعضهم يقول: الطلاق والرجعة لا بد من شهود وسيأتي في كلام المؤلف أيضاً، ولا بد أن نعرف محترزات هذه القيود.
فقوله: «ما ليس بعقوبة» خرج به ما كان عقوبة، وبينته رجلان، كالحدود، والقصاص.
وقوله: «ولا مال» خرج به ما كان مالاً.
وقوله: «لا يقصد به المال» أيضاً خرج به ما يقصد به المال فبينته بينة المال وسيأتي.
وقوله: «ويطلع عليه الرجال غالباً» خرج به ما يطلع عليه النساء غالباً، وستأتي بينته في كلام المؤلف.
وقوله: «كنكاح» النكاح لا بد فيه من رجلين، فلو شهد به أربعة نساء، وقالوا: نشهد أن فلاناً عقد له على فلانة، فإن ذلك لا يقبل، وكذلك رجل وامرأتان لا يقبل.
وقوله: «وطلاق» فلا بد فيه من رجلين فلو شهد به امرأتان لم يحكم به، حتى وإن كانت المرأتان في البيت، فلو شهدت امرأتان بأن فلاناً طلق زوجته وليس عنده إلا المرأتان، فإن الطلاق لا يقع إذا أنكره الزوج؛ لأنه لا بد فيه من رجلين، قالوا: الدليل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وأما النساء فيقال ذواتي كما قال الله تعالى: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} [سبأ: 16] ، فهذا يدل على أن لا بد فيه من الرجال.(15/448)
وقوله: «ورجعة» كذلك ـ أيضاً ـ الرجعة، وهي إعادة المطلقة إلى النكاح تكون في الطلاق الأول وفي الثاني، لا في الثالث، ولا في الطلاق على عوض، ولا في الفسخ لعيب، فلا تكون إلا في الطلاق الذي لم يتم به العدد.
وقوله: «وخلع» وهو مفارقة الزوجة بعوض منها أو من غيرها فيكفي فيه رجلان.
وقوله: «كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه» يعني في غير مال يقبل فيه رجلان، وأكثر المؤلف من الأمثلة للأهمية، فالنكاح ليس عقوبة، ولا مالاً، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال، والطلاق كذلك، والرجعة كذلك، والخلع كذلك، وهذا ما مشى عليه المؤلف، على أن بعض أهل العلم يقول: إن الطلاق والرجعة مما يطلع عليه النساء غالباً.
وقوله: «ونسب» النسب يعني القرابة وهي الصلة بين إنسانين بولادة، فالأخوة نسب، والأبوة نسب، والأمومة نسب، والعمومة نسب، فإذا قال رجل: إن هذا ولدي، أي: ادعى أنه ولده وليس للولد نسب معروف، فلا تقبل دعوى هذا الرجل إلا برجلين شاهدين؛ لأن النسب ليس مالاً، ولا عقوبة، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً.
وقوله: «وولاء» الولاء سببه العتق، فإذا أعتق الإنسان عبداً مملوكاً صار ولاؤه له، فإذا ادعى شخص أن هذا العتيق ولاؤه له، فقال: ولاء هذا العتيق لي، وليس له مولى معروف، ماذا نقول لهذا المدعي؟ نقول: ائتِ برجلين يشهدان بأن الولاء لك، ويكون لك.(15/449)
وقوله: «وإيصاء إليه» المؤلف ـ رحمه الله ـ أطلق الإيصاء، وصاحب الروض قيدها في غير مال (1) ، وهذا القيد قد ندعي أنه معلوم من كلام المؤلف؛ لأنه قال: «ليس بمال ولا يقصد به المال» وعلى هذا يكون إيصاء في غير المال، مثل أن يوصي إليه بالنظر في حق أولاده الصغار، قال: أوصيت إلى فلان يلاحظ أولادي الصغار ويقوم بتربيتهم، أو يوصي إليه بتزويجه بناته على القول بأن ولاية النكاح تستفاد بالوصاية، والمسألة سبق لنا أن فيها خلافاً، وأن الصحيح أن الولي في النكاح إذا مات سقطت ولايته أصلاً وفرعاً، وأن ولاية النكاح لا تستفاد بالوصاية، فيكون قول المؤلف «إيصاء» يعني في غير المال، مثل إيصاء في النكاح، إيصاء في النظر على الأولاد، فلا بد فيه من رجلين، فإذا جاءنا إنسان بعد الموت، وقال: إن ميتكم أوصى إلي بأن أزوج أخواتكم ـ أي: بناته ـ فإذا طلبنا البينة منه نطلب رجلين، فلو أتى برجل واحد ما نقبل.
وَيُقْبَلُ فِي الْمَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ كَالْبَيْعِ، وَالأَجَلِ، وَالْخِيَارِ فِيهِ، وَنَحْوِهِ رَجُلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي،.......
قوله: «ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع، والأجل، والخيار فيه ونحوه» يعني وشبهه مثل القرض، والرهن، والغصب، والإجارة، والوقف، والمساقاة، والمزارعة، والشركة، كل المعاملات المالية، أو ما يتعلق بها من شروط، أو أوصاف كلها تسمى مالاً، أو يقصد بها المال، فهذه بينتها أوسع البينات؛
__________
(1) الروض المربع من حاشية ابن قاسم (7/609) .(15/450)
والحكمة أن التعامل بها أكثر المعاملات، ولو نسبت المعاملات في الأنكحة إلى المعاملات في البيوع لوجدت البيوع أكثر بلا شك، ولهذا من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ ورحمته أنه وسع البيِّنة في الأموال لكثرة تلبس الناس بها.
قوله: «رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي» ثلاثة أنواع من البينات: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، والدليل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] أما رجل ويمين المدعي فلحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشاهد ويمين المدعي (1) ، وحكم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حكم ودليل؛ لأنه مشرِّع ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
وهل يقدم الشاهد أو تقدم اليمين؟ يقدم الشاهد فنقول للمدعي: أحضر الشاهد، فإذا شهد نقول: احلف، فلو حلف قبل إحضار الشاهد لم يجزئ، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنه إذا أتى بشاهد فنصاب الشهادة لم يتم، لكن ترجح جانب المدعي بإحضار هذا الشاهد، ولما ترجح جانبه صارت اليمين في جانبه؛ لأن اليمين إنما تشرع في جانب أقوى المتداعيين، ولهذا سبق في القسامة أن اليمين تكون في جانب المدعي؛ لأن معه قرينة ظاهرة تدل على صدقه، فهذه ثلاثة أنواع من البينات كلها تثبت الدعوى في المال.
__________
(1) سبق تخريجه ص (336) .(15/451)
ولننظر أمثلة المؤلف:
البيع: ادعى شخص أن فلاناً باع عليه سيارته وأنكر فلان أنه باع، نقول للمدعي: هات البينة، وهي رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، فإن أتى برجلين يشهدان على وقوع البيع يحكم له بذلك، أو أتى برجل وامرأتين يحكم له بذلك.
فإذا قال قائل: كيف تشهد المرأتان؟ كيف تتكلم المرأة عند القاضي؟ فالجواب: تتكلم عند القاضي؛ لأن صوتها ليس بعورة.
فإذا لم يأتِ لا برجلين، ولا برجل وامرأتين، لكن أتى برجل واحد، وقال: ما عندي غير هذا الرجل، نقول: يحتاج هذا الرجل إلى تقوية وهي اليمين، دعه يشهد وأنت تقوي شهادته بيمينك؛ لأن اليمين ـ كما قررنا سابقاً ـ تكون في جانب أقوى المتداعيين، والمدعي الآن جانبه صار أقوى من المنكر؛ لأن المنكر ليس معه إلا الأصل وهو عدم البيع، لكن المدعي صار معه شاهد، والشاهد أقوى من الأصل، فلما قوي جانبه بالشاهد قلنا له: احلف، ولهذا لو حلف قبل إقامة الشاهد ما نفع، فلا بد أن يأتي أولاً بالشاهد ويشهد ثم يحلف.
وهل يلزمه أن يحلف أن شاهده صادق، فيقول: والله لقد باع عليَّ فلان كذا وكذا، ووالله إن شاهدي لصادق؟ الجواب: لا يلزم؛ لأن تصديق الشاهد، أو عدمه يرجع إلى القاضي وليس إليه.
فصارت البينات في المال وما يقصد به ثلاثاً، فلو أتى(15/452)
بأربع نساء فإنه لا يقبل على المشهور من المذهب، ولو أتى بامرأتين ويمين فإنه لا يقبل، ولو أتى بامرأة ويمين من باب أولى ألا يقبل، وقال بعض أهل العلم: بل إن المرأتين تقومان مقام الرجل إلا في الحدود؛ من أجل الاحتياط لها، واستدل هؤلاء بعموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل» (1) وأطلق ولم يفصل، ثم إن الله ـ تعالى ـ ذكر العلة في اشتراط العدد في النساء، وهي أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، ولم يذكر أن العلة المال، بل العلة أن تقوى المرأة بالمرأة فتذكِّرَها إذا نسيت، وهذا يكون في الشهادة في الأموال وفي غير الأموال، إلا ما سُلِكَ فيه طريق الاحتياط، ويكون كذلك في المرأة معها رجل أو ليس معها رجل، وهذا القول هو الراجح، فالقول الصحيح أن المرأتين تقومان مقام الرجل مطلقاً، إلا في الحدود للاحتياط لها؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فهو نص صريح في وجوب الذكورية، إذاً المال يثبت برجلين، وأربع نساء، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين المدعي، وامرأتين ويمين المدعي، واختار شيخ الإسلام ـ أيضاً ـ وامرأة ويمين المدعي، فقال: إن المرأة إذا كانت ذاكرة للشهادة ومتيقنة، فالعلة التي ذكرها الله عزّ وجل وهي أن تضل إحداهما انتفت، فتكون طرق إثبات المال ستة، والسابعة القرائن الظاهرة،
__________
(1) أخرجه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض الصوم (304) ، ومسلم في الإيمان/ باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات ... (80) وهذا لفظ البخاري.(15/453)
وسبق لنا منها أمثلة: كرجل هارب بيده غترة وعلى رأسه غترة، وآخر يلحقه يرفع صوته وليس على رأسه شيء، يقول: أعطني غترتي، فهنا الظاهر مع المدعي فيحلف مع القرينة الظاهرة، أو تنازع الرجل والمرأة في أواني البيت، فقال الرجل: الدلال لي، وقالت المرأة: بل هي لي، فالظاهر مع الرجل، فهو صاحب الدلال، لكن لو تنازع في أمر يحتمل أن يكون مما تأتي به النساء، ومما يأتي به الرجال، كالفرش فأحياناً يحضرها الرجل، وأحياناً تحضرها المرأة، تحب أن يكون مجلسها أمام النساء جيداً وطيباً، فإذا تنازع الرجل والمرأة فيها، فهنا إذا كان يغلب على الظن أنها للمرأة تحلف وتأخذه، فتبين أن المال أوسع الأشياء في البينات.
وقوله: «والأجل» الأجل في البيع إما أن يدعيه البائع أو المشتري، كما لو اشترى شخص من فلان بيتاً، وادعى أن الثمن مؤجل إلى سنة وأنكر البائع، فالمدعي هنا المشتري، نقول: هات بينة، وبينتك كما ذكر المؤلف، وقد يكون الذي يدعي التأجيلَ البائعُ، كما في السلم ـ مثلاً ـ وهو تعجيل الثمن وتأخير المثمن، فالذي يدعي الزيادة في الأجل ـ مثلاً ـ البائع، ويقول المشتري: إن أجل السلم إلى سنة، ويقول البائع: بل أجل السلم إلى سنتين، وعلى كلٍّ، فمدعي الأجل سواء البائع، أو المشتري، أو المستأجر، أو المؤجر بينته أحد ثلاثة الأمور التي ذكرها المؤلف؛ لأنه مما يقصد به المال.
مثال آخر: القرض: ادعى زيد أنه أقرض شاكراً مائة ريال(15/454)
وأنكر شاكر، فنقول للمدعي: هات البينة، وهي أحد ثلاثة الأمور التي ذكرها المؤلف: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي.
وقوله: «والخيار فيه» أي: في البيع، يعني بأن يدعي المشتري أو البائع أنه شرط الخيار ليفسخ فينكر صاحبه، فهنا تكون البينة إما رجلين، أو رجلاً وامرأتين، أو رجلاً ويمين المدعي؛ لأن الخيار مما يقصد به المال.
وقوله: «ونحوه» يعني نحو هذه الأشياء التي تتعلق بالمال، كالقرض، والسلم، والإجارة، والرهن، والوقف، وغير ذلك، فكل ما يتعلق بالمال بينته واحد من أمور ثلاثة، وهي: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي، وسبق لنا هل تجزئ المرأتان عن الرجل فيما إذا كان هناك يمين للمدعي؟ ذكرنا أن شيخ الإسلام يرى أنها تجزئ، وكذلك لو كان أربع نساء، هل تجزئ شهادتهن بدل الرجلين؟ ذكرنا أن في ذلك خلافاً وأن الراجح قبول ذلك، وأنها تجزئ وهل تقبل دعوى المدعي إذا أتى بشاهدين بكل حال؟
نقول: لا تقبل بكل حال وقد سبق أن ذكرنا أن لدعوى المدعي شروطاً ستة منها: إمكان صحة الدعوى، فإذا لم يمكن فلا تقبل كما لو قال رجل: إن فلاناً باع علي بيته منذ أربعين سنة والبائع ليس له من العمر إلا عشرين سنة، فهذه الدعوى لا تسمع.
وهل الحالف في القسامة آثم؟(15/455)
لا يأثم لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعل القرينة الظاهرة مجوزة لليمين.
ومَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، كَعُيُوبِ النِّسَاءِ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالْوِلاَدَةِ، وَالرَّضَاعِ، وَالاِسْتِهْلاَلِ وَنَحْوِهِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَدْلٍ. وَالرَّجُلُ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ، وَمَنْ أَتَى بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِيْمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ قَوَدٌ وَلاَ مَالٌ، وَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ فِي سَرِقَةٍ ثَبَتَ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ، وَإِنْ أَتَى بِذَلِكَ فِي خُلْعٍ ثَبَتَ لَهُ الْعِوَضُ، وَتَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
قوله: «وما لا يطلع عليه الرجال» أي: غالباً؛ لأن الرجال قد يطلعون على ما ذكره، لكن الغالب أن الذي يطلع على هذه الأمور النساء، وقوله: «ما» اسم موصول خبره قوله: «تقبل فيه شهادة امرأة» .
قوله: «كعيوب النساء تحت الثياب» مثل برص أو نحوه، فعيوب النساء تحت الثياب لا يطلع عليها إلا النساء غالباً، فإذا شهدت امرأة أن هذه الزوجة التي تزوجها الرجل فيها برص تحت ثيابها حكم بثبوته، وحينئذٍ يكون للزوج الفسخ، ويرجع بالمهر على من غرَّه كما سبق.
قوله: «والبكارة، والثيوبة» قد يحصل نزاع بين الزوج والزوجة في كونها بكراً أو ثيباً، فشهدت امرأة بوجود البكارة فتقبل شهادتها في ذلك؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، أو شهدت بأنها ثيب فإنها تقبل شهادتها؛ لأن هذا لا يطلع عليه إلا النساء غالباً، فلو ادعت المرأة أن زوجها لا يقدر على الجماع، فقال الزوج: إنه يقدر وأنه جامع فعلاً، نأتي بامرأة تطلع على المرأة، فإذا وجدتها ثيباً نحكم بأنها موطوءة، كذلك العكس لو ادعى الرجل أن المرأة ليست بكراً وقد اشترط أنها بكر، فقالت هي: بل هي بكر، فأتت بامرأة تشهد فإننا نقبل شهادتها.
قوله: «والحيض» فالحيض لا يطلع عليه إلا النساء غالباً،(15/456)
ولهذا الإنسان لا يعرف أن أمه حائض، ولا أن أخته حائض، ولا عمته ولا جدته، فالذي يطلع هن النساء، تجد المرأة تعرف أن هذه المرأة حائض.
فالحيض نحتاج إلى الشهادة فيه عندما تدعي المرأة أن عدتها انقضت في وقت قصير يبعد أن تنقضي العدة بمثله، فهنا نحتاج إلى بينة تشهد بأن عدتها انقضت بالحيض.
قوله: «والولادة» أيضاً لا يطلع على الولادة إلا النساء غالباً، مثل أن تدعي المرأة أنها ولدت وأسقطت، والزوج يقول: لا، وتأتي بامرأة تشهد بأنها أسقطت ولداً، فتقبل شهادة امرأة واحدة.
قوله: «والرضاع» بأن تشهد امرأة على أن هذا الطفل رضع من فلانة خمس رضعات، فتقبل شهادة المرأة الواحدة، حتى وإن كان على فعلها، فلو شهدت امرأة بأنها أرضعت فلاناً فإنها تقبل شهادتها.
قوله: «والاستهلال» أي صُراخ المولود، فإذا ادعت أن الولد استهل وأنكر غيرها، وأتت بامرأة تشهد بذلك قبلت شهادتها، مثاله: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل، ولزوجها أخ شقيق فولدت هذه المرأة ذكراً، وإن استهل حجب الأخ الشقيق، فإن لم يستهل فإن التعصيب للأخ الشقيق، وإذا استهل يكون للزوجة الثمن، وللمولود الباقي ثم ترجع ترث منه؛ لأنها أمه، وإن لم يستهل فللزوجة الربع والباقي للأخ الشقيق الذي هو عم الجنين، فأتت بامرأة تشهد بأن هذا الطفل لما نزل من بطن أمه صرخ، فتقبل الشهادة ويرث الطفل.(15/457)
قوله: «ونحوه» مثل عيوب النساء كالقرن، والعفل، والفتق، والاستحاضة، وغير ذلك مما لا يطلع عليه إلا النساء.
قوله: «تقبل فيه» أي: في هذا الذي لا يطلع عليه إلا النساء غالباً.
قوله: «شهادة امرأة عدل» ولماذا لم يقل: عدلة؟ لأن «عدل» مصدر، والمصدر لا يؤنث، قال ابن مالك ـ رحمه الله تعالى ـ:
ونعتوا بمصدرٍ كثيرا
فالتزموا الإفراد والتذكيرا
وكذلك: الجراحة، أو الضرب، أو العدوان في حفل عرس ليس فيه إلا النساء تقبل فيه شهادة امرأة.
ودليل هذه المسألة: قصة المرأة التي شهدت أنها أرضعت المرأةَ وزوجَها، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بفراقها، وقال: «كيف وقد قيل» (1) ؟!
قوله: «والرجل فيه كالمرأة» إذا شهد الرجل في هذه الأشياء قُبِل من باب أولى؛ لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، وإنما سومح بشهادة المرأة؛ لأن الغالب أن الرجال لا يطلعون على ذلك، فإذا قُدِّر أن رجلاً اطلع على هذا فإنه يقبل.
ثم ذكر المؤلف ثلاث مسائل: واحدة يتبعض فيها الحكم بمقتضى الشهادة، والثانية يتبعض بمقتضى الإقرار والشهادة أيضاً، والثالثة لا يتبعض، فقال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (407) .(15/458)
«ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهدٍ ويمينٍ فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال» كشخص أتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً قاتِلُ هذا الرجل عمداً، فهنا لا نقبل شهادتهم، ولا يثبت المال؛ لأن هذا من باب القصاص الذي لا يقبل فيه إلا رجلان، والمال فرع عن القصاص، فالأصل في العمد القصاص، فلو أتى برجل وامرأتين في موضِحة وهي الشجة في الرأس، أو في الوجه التي تبرز العظم؛ أي: توضحه، ففيها قصاص؛ لأنه يمكن أن نقتص من الجاني فلا تقبل شهادتهم لأن الموضحة فها قصاص والقصاص ليس بمال.
لكن لو أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين المدعي في دامغة وهي التي توضح العظم، وتهشمه، وتكسره حتى تصل إلى أم الدماغ، فهذه ليس فيها قصاص، فإن الشهادة تقبل، وهذا من الغرائب، فلو قيل لك: أيهما أعظم الموضحة، أو المأمومة؟ الجواب: المأمومة أشد، ومع ذلك المأمومة تقبل الشهادة فيها والموضحة لا تقبل.
قوله: «وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع» هنا تبعَّض الحكم «إن أتى بذلك» أي برجل وامرأتين، أو رجل ويمين المدعي ثبت المال دون القطع، قال: إن فلاناً سرق مني مائة درهم، قلنا له: هات الشهود، فأتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً سرق منه مائة درهم، والسرقة توجب شيئين: الحد وهو قطع(15/459)
اليد، وضمان المال للمسروق منه، فهذا الرجل المسروق منه أتى برجل وامرأتين يشهدون بأن فلاناً سرق منه، نقول: يثبت المال دون القطع، يعني أننا لا نقطع السارق ونضمِّنه المال، كيف يكون فعل واحد يوجب شيئين فنثبت أحدهما دون الآخر؟! الجواب: لأن هذا الفعل يوجب الحد لله، والضمان للمسروق منه، وهنا قلنا: إنه يثبت المال ولا يثبت القطع؛ لأن المال وجد فيه نصاب البينة وهي رجل وامرأتان، فثبت، وأما القطع فهو حد لا يثبت إلا برجلين ولم يوجد رجلان، وعلى هذا فنصاب الشهادة لم يتم فيتبعض الحكم، وهكذا القواعد الشرعية فإن الأحكام قد تتبعض، فما وجد سببه ثبت وما لم يوجد لم يثبت.
قوله: «وإن أتى بذلك في خلعٍ ثبت له العوض، وتثبت البينونة بمجرد دعواه» كرجل ادعى أن زوجته خالعته بعشرة آلاف، قلنا له: هات البينة، فأتى برجل وامرأتين، نقول: يثبت المال ولا يثبت الخلع، فيثبت المال لوجود بينة المال، وهي رجل وامرأتان، ولا يثبت الخلع؛ لأن الخلع لا بد فيه من رجلين، ولكن يثبت بطريق آخر وهو إقراره به؛ لأنه ادعى أنها خالعته فيكون مقراً بذلك، ولهذا قال: «تثبت البينونة بمجرد دعواه» ؛ لأنه لما قال: إنها خالعته اقتضى البينونة، وأنها لا تحل له إلا بعقد، فهنا الحكم ثبت لكن بسببين: المال ثبت بسبب الشهود، الرجل والمرأتين، والبينونة ثبتت بإقراره؛ لأن دعواه إقرار، فلو ادعى أنها خالعته بعشرة آلاف ريال، وليس عنده إلا(15/460)
امرأتان وأتى بهما، فلا يثبت المال؛ لأنه لم تتم بينته، وعلى المذهب المرأتان لا تكفيان مع اليمين، والخلع يثبت بإقراره؛ لأنه أقر أن المرأة مخالعة، وأنها لا تحل له، انظر الدقة في الأحكام؛ لأنه يمكن لأحد أن يقول: كيف تقولون: يثبت الخلع وهو ما أُعطي شيئاً؟! نقول: دعواه الخلع تتضمن شيئين: تتضمن إقراراً على نفسه بالبينونة، ودعوى على المرأة بالعوض، الدعوى على المرأة بالعوض ما وجدنا لها بينة، والإقرار بأنها بانت منه نحكم به لأن دعواه بأنها خالعته هو إقرار على نفسه.
ولو ادعت أن زوجها خالعها بعشرة آلاف ريال، وأتت برجل وامرأتين فلا يقبل ولا يثبت الخلع ولا المال؛ لأن ثبوت المال عليها فرع عن ثبوت الخلع، والخلع هنا لم يثبت.
* * *(15/461)
فَصْلٌ
هذا الفصل عقده المؤلف ـ رحمه الله ـ للشهادة على الشهادة، ولا يبعد عن ذهنك تذكر كتاب القاضي إلى القاضي، فهنا فرعان: فرع في الحكم في كتاب القاضي إلى القاضي، وفرع في الشهادة وهو الشهادة على الشهادة.
والشهادة على الشهادة نحتاج إليها للأمور الآتية:
أولاً: لنفرض أن الشهود في مكان بعيد عن مكان القضاء، في بادية، والشهود لا يتمكنون من أن يذهبوا إلى القاضي.
ثانياً: ربما يكون الشهود في البلد لكنهم مرضى لا يستطيعون الحضور، فنحتاج إلى الشهادة على الشهادة.
ثالثاً: ربما يكون الشهود الأصل يخافون على أنفسهم إذا شهدوا، فنحتاج إلى الشهادة على الشهادة.
رابعاً: ربما يكون المشهود عليه من أقارب الشاهد الأصلي، ولا يحب أن يظهر أمام الناس أنه شاهد عليه، فيحمِّلُ الشهادةَ غيرَهُ.
هذه أربعة أسباب وربما يكون هناك أسباب أخر، المهم أن الحاجة بل الضرورة أحياناً تدعو إلى الشهادة على الشهادة.
مثال الشهادة على الشهادة: أنا أشهد أن زيداً يطلب عمراً مائة ريال، فقلت لآخر: اشهد على أني أشهد أن لزيد على عمرو مائة ريال، أو اشهد على شهادتي على عمرو؛ لأن المقصود المعنى، والصيغة لا تهم، وهل الشهادة على الشهادة تجوز في كل شيء؟ الجواب: لا، بل لا بد فيها من شروط، ولهذا يقول المؤلف:(15/462)
وَلاَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، إِلاَّ فِي حَقٍّ يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَلاَ يُحْكَمُ بِهَا إِلاَّ أَنْ تَتَعَذَّرَ شَهَادَةُ الأَصْلِ بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْبَةٍ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَلاَ يَجُوزُ لِشَاهِدِ الْفَرْعِ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ شَاهِدُ الأَصْلِ،............
«ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يُقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي» هذا الشرط الأول، فيشترط للشهادة على الشهادة أن تكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وقد سبق أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يكون إلا في حقوق الآدميين، أما حقوق الله كالحدود فلا يقبل أن يكتب القاضي إلى القاضي، وسبق ـ أيضاً ـ هناك أن القول الراجح صحة كتاب القاضي إلى القاضي حتى في الحدود، وأن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان هذا فرعاً على ذاك فيكون الصحيح هنا صحة الشهادة على الشهادة في الحدود وغيرها، فلو أن رجلاً شهد بقذف، شهد أن فلاناً قذف فلاناً فقال: أنت زانٍ، وأراد أن يحمل غيره هذه الشهادة فلا تقبل على المذهب؛ لأنه لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، ودليل ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» (1) ، ولكن سبق في كتاب الحدود أن هذا الحديث فيه مقال، وأن الشبهات التي أمر بدرء الحدود فيها هي التي يشتبه في ثبوت مقتضى الحد، وأما أنها كل شبهة فلا.
__________
(1) عزاه بهذا اللفظ في الخلاصة إلى البيهقي في المعرفة، وعزاه في الإرواء إلى تاريخ دمشق، ورواه الترمذي والحاكم والبيهقي بلفظ: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله» ورواه ابن ماجه بلفظ: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً» والحديث في إسناده مقال. انظر: الخلاصة (2/302) ، والتلخيص (4/56) ، والإرواء (7/343 ـ 344) .(15/463)
قوله: «ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبةٍ مسافةَ قصر» هذا الشرط الثاني أن تتعذر شهادة الأصل، فإن أمكن أن يشهد فلا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لسببين:
الأول: التطويل؛ لأنك في الشهادة على الشهادة ستحتاج إلى تعديل الأصل والفرع، بينما في الشهادة الأصلية تحتاج إلى تعديل الأصل فقط، مثلاً: زيد وعمرو يشهدان ويريدان أن يحمِّلا الشهادة بكراً وخالداً، فعند الحكم سنحتاج إلى تعديل الأصل وهما زيد وعمرو، والفرع وهما بكر وخالد، فتطول المسألة، ومعلوم أنه إذا أمكن الاختصار فلا حاجة للتطويل.
الثاني: أنه في التحمل ربما يزاد في الشهادة أو ينقص، فاحتمال السهو من أربعة أقرب من احتماله من اثنين؛ فلهذا يكون مع التطويل احتمال تغيير الشهادة؛ لأن الاثنين اللذين حُمِّلا الشهادة قد يخطئان؛ ولهذا لا يعدل إلى الفرع مع وجود الأصل، فلا بد من أن تتعذر شهادة الأصل، ويمكن أن نشبه هذا بالماء والتراب في الطهارة، فنقول: إذا وجد الماء فلا تيمم.
قوله: «ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهدُ الأصل» هذا الشرط الثالث أن يسترعيه شاهد الأصل، والاسترعاء مأخوذ من الرعاية، ومعناه أن يطلب منه أن يشهد(15/464)
على شهادته، وهو مأخوذ من قولهم: أرعني سمعك، فلا بد أن يسترعي شاهدُ الأصل شاهدَ الفرع؛ بأن يقول: اشهد على شهادتي على فلان بكذا، فإن سمعه يتحدث بالشهادة دون أن يقول: اشهد على شهادتي فإنها لا تقبل، ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد على شاهد الأصل؛ لأنه من الجائز أن يكون قد تحدث عن شهادته، ولكنه يتحدث عن أمر مضى وانقضى، وصاحب الحق استوفى حقه وما أشبه ذلك، وما دام هذا الاحتمال موجوداً فإنه يمنع القطع بالشهادة، فلا يجوز أن يشهد على شهادته.
وقال بعض أهل العلم: لا يشترط أن يسترعيه، وأنه إذا سمع شخصاً يقول: أشهد أن فلاناً له عند فلان كذا وكذا، ثم مات هذا القائل وقد سمعه بعض الناس، فللسامع أن يشهد مع أنه لم يسترعِه، وردوا التعليل الأول بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وما دام سمع هذا الرجلُ فلاناً يشهد بحقٍّ على فلان فله أن يشهد عليه، فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد بأن على فلان كذا وكذا، ولا يقول: أَشْهَدَني؛ لأنه لم يشهده، فإن استرعاه غير الأصل، بأن قال صاحب الحق لشخص: اسمع شهادة فلان بحقي على فلان، ثم جاء وشهد الشاهد بحق فلان على فلان، وتوفي أو غاب، فعلى المذهب ليس له أن يشهد؛ لأن شاهد الأصل لم يسترعه، وعلى القول الثاني له أن يشهد، بل القول هنا أقوى من القول بما إذا لم يسترعِه أحد، فصارت الصور ثلاثاً:
الأولى: أن يسترعيه شاهد الأصل، وفي هذه الصورة له أن يشهد قولاً واحداً.(15/465)
الثانية: أن يسترعيه صاحب الحق ليس الشاهد، وهذه على المذهب لا تجوز، وعلى ما اختار صاحب المغني، والشرح تجوز، يعني الموفق وابن أخيه عبد الرحمن أبي عمر تجوز.
الثالثة: ألا يسترعيه أحد لكنه يسمع أن فلاناً يشهد، فهذه الحال فيها خلاف، لكن الخلاف فيها أضعف من الخلاف في المسألة الثانية، والذي يظهر في المسألة الأخيرة أنه يجوز أن يشهد، لكن لا يقل: أَشْهَدَني فلان، وإنما يقول: أشهد على شهادة فلان بكذا وكذا؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا لم يشهد بباطل، وأحياناً ربما لا نجد ما يثبت الحق إلا هذه الشهادة.
فَيَقُولُ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِكَذَا، أَوْ يَسْمَعُهُ يُقِرُّ بِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ يَعْزُوهَا إلَى سَبَبٍ، مِنْ قَرْضٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْمَالِ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يُنْقَضْ، وَيَلْزَمُهُمُ الْضَّمَانُ دُوْنَ منْ زَكَّاهُمْ، وَإِنْ حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدُ غَرِمَ الْمَالَ كُلَّهُ.
قوله: «فيقول: اشهد على شهادتي بكذا» أي: أن شاهد الأصل يقول: اشهد على شهادتي، أو يقول: اشهد أني أشهد على أن لفلان على فلان كذا، أو ما أشبه ذلك من العبارات، المهم أن يأتي بلفظ يدل على أن شاهد الأصل حمَّل شاهد الفرع الشهادة، وهل يشترط أن يكون الفرع رجلين فأكثر على أصل واحد، أو يكفي على كل أصل فرع؟
نقول: يكفي على كل أصل فرع، فزيد وعمرو أصلان، يشهد على زيدٍ بكرٌ، وعلى عمرٍو خالدٌ فيجوز، ويجوز أن يكون لكل أصل فرعان من باب أولى، ويجوز أن يشهد الفرعان على كل أصل، بمعنى أن حجَّاجاً وياسراً يشهدان على عبد الرحمن ويشهدان على خليل، هاتان صورتان، وهل يجوز أن يشهد على الأصلين فرع واحد؟ الجواب: لا، فلا يكتفى بشهادة واحدة(15/466)
متحملة عن أصلين، مثل أن يشهد حجاج على عبد الرحمن وخليل، فهنا ما نحكم بالشهادة؛ لأنه واحد، وقيل: يجوز، لأن شهادة الفرع خبر وليست أصلاً، فحجاج ـ مثلاً ـ يقول: أخبرني عبد الرحمن وأخبرني خليل؛ بأنهما يشهدان على فلان بكذا، قالوا: فيحكم بها، لكن في النفس من هذا شيء.
فتكون الصور أربعاً: الأولى: فرعان على أصلين، على كل أصل فرع، الثانية: فرعان على أصلين على كل واحد منهما، الثالثة: فرع على أصلين فيها خلاف، والمذهب لا يجوز وهو أقرب، الرابعة: فرعان على كل أصل فيجوز من باب أولى.
قوله: «أو يسمعه يقر بها عند الحاكم» يعني ينوب عن الاسترعاء إذا سمع الفرعُ شاهدَ الأصل يشهد بها عند القاضي، فيشهد وإن لم يسترعه، وهذا ممكن، كأن يدعي زيد على عمرو دعوى، فيطلب القاضي من زيد بينة فأتى بشاهد عند القاضي، وشهد بأن لزيد على عمرو كذا وكذا، وهناك رجل حاضر، ولم يحكم القاضي، وتفرق الخصمان، ومات الشاهد أو تغيب، فهل لمن سمعه يشهد بها عند القاضي أن يشهد؟ يقول المؤلف: نعم، إذا سمعه يقر بها عند الحاكم فليشهد؛ لأن احتمال أن يكون المشهود عليه قد برئ بعيد؛ لأنهما وصلا إلى القاضي.
قوله: «أو يعزوها إلى سبب» يعني يسمع شاهدُ الفرع شاهدَ الأصل يشهد بأن لفلان على فلان مائة ريال، ثمن ناقة، إذن الأصل شهد وعزا شهادته إلى سبب وهو أنه ثمن شراء الناقة، إذن يجوز أن يشهد؛ لأنه لما عزاها إلى سبب ثبتت بهذا السبب،(15/467)
والأصل بقاء السبب وعدم زواله، فصار هذا الشرط لا بد فيه من أحد أمور ثلاثة: الاسترعاء، أو السماع عند القاضي، أو أن يعزوها إلى سبب.
قوله: «من قرض» بأن يسمع شاهدُ الفرع شاهدَ الأصل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم قرضاً ثم مات الشاهد، فهل لمن سمعه أن يشهد بشهادته؟ الجواب: نعم؛ لأنه عزاها إلى سبب، قال: قرضاً.
قوله: «أو بيع» كما إذا قال: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ثمن بعير، فيجوز؛ لأنه عزاها إلى سبب.
قوله: «أو نحوه» كما إذا قال: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم أجرة بيت فيجوز.
قوله: «وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض، ويلزمهم الضمان دون من زكاهم» إذا رجع شهود المال يعني الذين شهدوا بمال لشخص على آخر، رجعوا بعد أن شهدوا، فلا يخلو إما أن يكون قبل الحكم، أو بعد الحكم، وهناك حال ثالثة بعد الاستيفاء، فهنا ثلاثة أحوال:
الأولى: إذا رجعوا قبل الحكم، فهؤلاء لا ضمان عليهم ولا يحكم بشهادتهم، مثل أن يدعي زيد على عمرو عشرة آلاف ريال وأتى بالشاهدين عند القاضي، ولما أراد القاضي أن يكتب شهادتهما رجعا، كأنهما كانا شاهدي زور، ثم لما رأيا أن الأمر خطير رجعا عن الشهادة قبل حكم القاضي، فقالا، مثلاً:(15/468)
توهمنا، أو نسينا أنه قد أوفاه، أو ما أشبه ذلك فهنا لا يجوز للقاضي أن يحكم بشهادتهما، ولكن هل يعزر هذان الشاهدان الراجعان؟ ينظر؛ لأنهما قد يتوهمان، وقد ينسيان، المهم إذا لم يعلم أنهما شهدا بزور فلا يعزَّران.
الثانية: إذا شهدا بالمال وحكم القاضي بشهادتهما، وقال للمدعي: حَكمت لك على خصمك بكذا وكذا، ثم رجع الشاهدان، فهنا لا ينقض؛ لأنه تم، ولو أننا نقضنا أحكام الحكام بمثل هذا لصارت أحكام الحكام لعبة، لا سيما في زمننا الحاضر، ولكان كُلُّ من حُكِمَ عليه يذهب إلى الشاهدين، ويقول: هل أعطاكما شيئاً؟ قالوا: ما أعطانا شيئاً لكن شهدنا بالحق، قال: أنا سأعطيكما كذا وكذا من الدراهم، فلما قال هذا الكلام تراجعا عن الشهادة، فكما يمكن لشهداء الزور أن يشهدوا بما لم يكن، يمكن أن يرجعوا عما شهدوا به، فلو أننا نقضنا الحكم برجوع الشهود لصارت أحكام القضاة ألعوبة بيد الشهود، فلا ينقض الحكم.
الثالثة: إذا كان بعد الاستيفاء، يعني شهد الشاهدان وحكم القاضي واستوفى المحكوم له حقه فلا ينقض من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا ينقض بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فألا ينقض بعد الاستيفاء من باب أولى.
لكن قال الفقهاء: لو رجع الشاهدان بقصاص بعد الحكم وقبل الاستيفاء لم يقتص من المشهود عليه؛ لأن القصاص خطير، لكن تجب الدية، فصار هنا ينقض من وجه ولا ينقض من وجه(15/469)
آخر، فمن جهة القصاص ينقض لعظمه وخطره، ومن جهة المال التي هي الدية لا ينقض، وهذا هو الذي جعلني أقول: إن الرجوع إما أن يكون قبل الحكم، أو بعده، وقبل الاستيفاء، أو بعد الاستيفاء، والذي يختلف فيه الحكم فيما إذا رجعا بعد الحكم وقبل استيفاء القصاص، فإذا شهدا بما يوجب القصاص ثم رجعا ولو بعد الحكم فلا قصاص، لكن تلزم دية ذلك العضو الذي شهدا بأنه مستحق في القصاص.
وقوله: «ويلزمهم الضمان» يعني يلزم الشاهدين الضمان في الحال التي يحكم فيها، إن كان مالاً فمال، وإن كان غير مال فغير مال، لكن إذا رجعا قبل الحكم في القصاص فإنه لا ضمان، وإذا رجعا بعد الاستيفاء في القصاص فإنه يقتص منهما، لكن بشرط أن يقولا: عَمَدْنا ذلك لتقص يد هذا الرجل، فحينئذٍ يقتص منهما، فتقص أيديهما.
إذاً إذا رجع شهود المال قبل الحكم فلا حكم ولا ضمان، وإذا رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء ثبت الحكم وعليهم الضمان، وصاحب الحق يأخذ منهم، لا ممن حكم عليه، وإذا رجعوا بعد الحكم والاستيفاء فالحكم لا ينقض، وعليهم الضمان والذي يضمِّنهم في هذه الحال المحكوم عليه؛ لأن صاحب الحق استوفى حقه.
وقوله: «دون من زكاهم» يعني أما من زكى الشهود فلا يضمن؛ لأن المباشر للتلف أو الغرم الشهود، ولهذا فالمزكون يقولون: نحن لا نشهد بهذا لكن نزكي الشهود، مثاله: ادعى زيد(15/470)
على عمرو بألف ريال، وتحاكما عند القاضي، وشهد شاهدان بأن زيداً له على عمرو ألف ريال، ولما أدلى الشاهدان بشهادتهما قال القاضي: من يزكيكما؟ فجاء رجلان فزكياهما، ثم حكم القاضي، ثم رجع الشهود، فالذي يُضمَّن الشهود، وأما المزكون فلا يضُمَّنون؛ لأن الحكم إنما حصل مباشرة بشهادة الشهود، أما المزكون فيقولون: كيف تضمنوننا، ونحن ما شهدنا؟! نحن مزكون فقط، وحينئذٍ يكون الضمان على الشهود دون من زكاهم.
لكن لو فرض أن المشهود له صَدَّق الشهود، فهل يرجع عليهم؟ يعني مثلاً لما شهد الرجلان للمشهود له، وحكم له، ثم رجعا، وصدقهما المشهود له في الرجوع، فالمال الذي حكم له به يكون حراماً عليه بإقراره، وحينئذٍ فلا يرجع، فلو قال: أنا أشهد أن شهادتكما ليست صحيحة، نقول: إذاً لا ترجع عليهما؛ لأنك الآن صدقتهما بالرجوع.
كذلك لو فرض أنه حين حُكم لفلان على فلان، جاء المحكوم له فأبرأه، ثم بعد ذلك رجع الشهود فلا يرجع المبرَأ؛ لأن صاحب الحق أبرأه، ولا يضمن شيئاً، ولا يرجع عليهما؛ لأنه هو الذي أسقطه ولم يخسر المشهود عليه شيئاً.
إذاً إذا رجع الشهود بعد الحكم، سواء قبل الاستيفاء أو بعده، لم ينقض الحكم ويبقى كما هو، ولكن الضمان يكون على الشهود إلا في صورتين:
الأولى: إذا صدقهم المشهود له بالرجوع، فلا يجوز أن يأخذ شيئاً يعتقد أنه ليس له.(15/471)
الثانية: إذا أبرئ المشهود عليه فإنه لا يرجع عليهما؛ لأننا نقول: أنت لم تضمن شيئاً حتى تضمنهما وما دمت لم تضمن شيئاً لغيرك فلا شيء لك.
قوله: «وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كلَّه» إن حكم القاضي بشاهد ويمين، فالشاهد إن رجع قبل الحكم فعلى ما سبق لا يحكم به أصلاً، وبعد الحكم لا ينقض الحكم، ويكون الضمان كله على الشاهد، ولا يتوهم واهِمٌ أن الضمان يكون نصفين؛ لأن الحكم ثبت بالشاهد واليمين فنقول: بينهما فرق، فالشهود يلزمهم الضمان كل واحد يأخذ حصته، لكن هنا يكون الضمان كله على الشاهد؛ لأن يمين المدعي لا يثبت بها شيء، فلو يحلف المدعي ألف يمين بدون شاهد ما ثبت بها شيء، إذن الثبوت إنما كان للشاهد، واليمين تقوي جانبه فقط، وليست هي التي توجب الحق، لهذا قالوا: إنه يضمن المال كله.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يضمن النصف فقط بناءً على جعل اليمين كالشاهد الثاني، ولكن المذهب أَقْيسَ أن الشاهد يضمن المال كله.(15/472)
بَابُ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى
لاَ يُسْتَحْلَفُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَلاَ فِي حُدُودِ اللهِ، وَيُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ فِي كُلِّ حَقٍّ لآدَمِيٍّ، إِلاَّ النِّكَاحَ، وَالطَّلاَقَ، وَالرَّجْعَةَ، وَالإِيْلاَءَ، وَأَصْلَ الرِّقِّ، وَالْوَلاَءَ، وَالاِسْتِيْلاَدَ، وَالنَّسَبَ، وَالْقَوَدَ، وَالْقَذْفَ،......
قوله: «اليمين» اليمين سبق لنا أنها تأكيد الشيء بذكر معظَّم بلفظ مخصوص، فاليمين، والحلف، والقَسَم، والإيلاء، وما أشبه ذلك كلها معناها واحد وهو تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة، هي: والله وما أشبهها.
قوله: «الدعاوى» جمع دعوى، وهي إضافة الإنسان إلى نفسه شيئاً على غيره، عكس الإقرار؛ لأن الإقرار إضافة الإنسان لغيره شيئاً على نفسه، والشهادة إضافة الإنسان شيئاً لغيره على غيره، فالدعوى أن يضيف الإنسان شيئاً لنفسه على غيره، فيقول: لي على فلان كذا وكذا.
والمراد بهذا الباب بيان الدعاوى التي يُحلف فيها، والتي لا يُحلف، والقاعدة العامة أن ما كان من حقوق الآدميين فإنه يحلف فيه، وما كان من حقوق الله فإنه لا يحلف فيه؛ لأن حقوق الآدميين فيها خصم وهو الآدمي، فيحتاج إلى التبرئة إن كان مدعًى عليه وهو ينكر. أو التقوية إن كان مدعي ومعه شاهد فيحتاج إلى التبرئة أو التقوية باليمين، أما إذا كان الحق لغير الآدمي فهذا لا يستحلف فيه ولا نتعرض له؛ لأن هذا الحق بين الإنسان وبين ربه، لكن نأمره، فإذا قال: إنه فعل، أو إنه ترك فلا نستحلفه؛ لأن حق الآدمي يقضى فيه بالنكول، وحق الله لا يقضى فيه بالنكول، فلو قيل للإنسان: احلف أنك أديت زكاتك، فقال:(15/473)
لا أحلف، فلا نقضي عليه، ولا نقول: يجب أن تعطي الزكاة؛ لأن هذا حق الله، والإنسان عبادته بينه وبين ربه، وهذه هي القاعدة العامة: أن ما كان من حقوق الله فلا استحلاف فيه وما كان من حقوق الآدميين ففيه استحلاف. وهناك شيء متردد بين حق الله وحق الآدمي، وهذا فيه خلاف بين العلماء في الغالب.
واليمين في الدعاوى هل هي لفصل الخصومة، أو للبراءة من الحق؟ سبق لنا أنها لفصل الخصومة، وأن المنكر لو حلف ثم أقام المدعي بينة حكم له ببينته، ولم تكن اليمين مزيلة للحق، فهي إذن تقطع الخصومة فقط.
قوله: «لا يستحلف في العبادات» الأصل أن جميع العبادات لا يستحلف فيها، فلو قيل لشخص: أنت ما صليت، قال: صليت، فلا نحلِّفه؛ لأن هذا لحق الله، أو قيل لإنسان: أنت صمت؟ قال: نعم، قلنا: ما صمت، قال: بل صمت، فلا نحلِّفه، وفي الزكاة كذلك، قلنا: أديت الزكاة؟ قال: أديتها، فلا نحلفه، وهل نقول: إلى مَنْ أديت؟ الجواب: لا، لكن إن قال: أديتها إلى فلان، ونحن نعلم أنه غني في ذلك الوقت نقول: ردها منه.
قوله: «ولا في حدود الله» أيضاً ما يحلف الإنسان فيها، والمراد بحدود الله ما يوجب الحد، فلو قيل لشخص: أنت زنيت، فقال: ما زنيت، فلا نقول: احلف؛ لأنه لو لم يحلف لم نحُدَّه؛ لأننا لا نحده حتى يقر، ويبقى على إقراره إلى أن يقام عليه الحد.(15/474)
إذن كل ما يوجب الحدود لا نستحلفه فيه، وأما ما يوجب التعزير فإن كان حقاً لله فلا يستحلف، وإن كان حقاً لآدمي فربما نستحلفه، حق الله مثل لو قيل له: إنك أنت غازلت امرأة، ومغازلة المرأة توجب التعزير ولا توجب الحد، قال: ما غازلت أبداً، فهذا ما نحلفه، نعم لو ادعت عليه هي أنه فعل ذلك، فربما نحلفه من أجل أنه تعلق به حق آدمي.
قوله: «ويستحلف المنكِر في كل حق لآدمي» من بيع وشراء وإجارة ووقف ورهن وغير ذلك، كل حقوق الآدميين يستحلف فيها المنكر، ودليل ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، وفي الحديث إشارة إلى أن المراد حقوق الآدميين، لأنه ليس هناك مدعٍ ومدعى عليه إلا في حقوق الآدميين، واستثنى المؤلف فقال:
«إلا النكاح، والطلاق، والرجعة، والإيلاء، وأصل الرق، والولاء، والاستيلاد، والنسب، والقود، والقذف» هذه عشرة استثنوها على خلاف فيها بين أهل العلم، لكن المذهب أنها مستثناة.
أولاً: النكاح: من الذي يدَّعي النكاح؟ المرأة سبق أنها إن ادعت النكاح لمجرد النكاح لم تسمع دعواها أصلاً، وإن ادعته لطلب مهر أو نفقة سمعت دعواها، ولم تقبل إلا ببينة، فإذا ادعت
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/475)
على زوج النكاح؛ لأنها تريد المهر أو النفقة فلا يستحلف الزوج على المذهب، فإن ادعاه هو، قال: أنا زوج هذه المرأة، فقالت هي: لست بزوجتك، فذهبوا للقاضي، فطلب القاضي من المدعي الشهود فلم يأتِ بشهود، فهل يتوجه عليها اليمين؟ الجواب: لا يتوجه اليمين عليها؛ وعلة ذلك أنها لو نكلت لم يقضَ عليها بالنكول؛ لأن النكاح لا بد فيه من شهادة، ولا بد فيه من ولي، فلا يقضى فيه بالنكول، بل نقول: إما أن تأتي أيها الزوج بالشهود، وإلا فانصرف ولا نقبل دعواك.
ثانياً: الطلاق: مَنْ المدعي؟ كلاهما، فهي تريد أن تتخلص منه فتدعي أنه طلقها، أو هو يريد أن يتخلص منها فيدعي أنه طلقها منذ زمن، يريد أن ينفي النفقة، فالذي يدعي الطلاق، نقول له: عليك البينة، فإن لم يأتِ بالبينة فهل يحلف الآخر؟ الجواب: إذا ادعت هي أنه طلق، وقال: ما طلقت، ولم تأتِ ببينة فنقول للزوج: الزوجة زوجتك، وإذا ادعى هو أنه طلقها نقول: ائتِ بالشهود، فإن لم يكن عنده شهود فلا نحلفها أنه لم يطلقها؛ لأن الأصل بقاء النكاح.
ثالثاً: الرجعة: من مدعي الرجعة؟ يمكن أن يكون الزوج، ويمكن أن تكون الزوجة، فالزوج يدعي عليها أنه راجعها وهي تنكر، فهنا نقول: إما أن يقبل قوله، أو لا يقبل، لكن إذا لم يقبل فلا يمين، سواء كان هو المدعي أو هي المدعية.
رابعاً: الإيلاء: وهو أن يحلف الزوج على ترك وطء امرأته، فنقول: هذا الرجل آلى مني، اضربوا له مدة وهي أربعة(15/476)
أشهر فهي المدعية، فإذا قال: ما آليت، فلا نحلفه، لكن إذا لم يقم بالحق الواجب عليه فله حكم آخر، ويمكن أن يكون هو المدعي، لكن نقول: إذا قال: هو مولٍ، فهو ليس بمدعٍ بل مقرٌّ؛ لأن الحق له.
خامساً: أصل الرق: كإنسان التقط لقيطاً، وهو الطفل المنبوذ الذي لا يعرف نسبه، وقال: هذا مملوك لي، فادعى أصل الرق؛ لأن الأصل أن اللقيط حر، والآن هو يريد أن يثبت أنه رقيق، نقول: ما يمكن، الأصل الحرية، فإذا ادعى على هذا الشخص أنه رقيقه، وقال: أنا لست رقيقاً له، أنا ما زلت أعرف نفسي أني لقيط، فهو حر، ولا يحلف.
أما لو كان عبداً مملوكاً قد ثبت رقه، وادعى شخص أنه ملكه، وأنكر سيد العبد، فحينئذٍ يحلف المنكر ويكون العبد له؛ لأن النزاع هنا ليس في أصل الرق، فالرق هنا ثابت، لكن الخلاف في المالك من هو؟ هل هو هذا أو هذا؟.
سادساً: الولاء: أي: أصل الولاء؛ لأن الولاء متفرع عن الرق، فإذا ادعى شخص على إنسان معروف أنه حر، لم يملكه أحد، فقال: هذا ولاؤه لي، قيل: من أين جاءك؟ قال: لأن جدي معتق جده، فقال المدعى عليه: أبداً أنا حر، ولا لأحد علي ولاء، وليس هناك بينة، فلا يحلف.
سابعاً: الاستيلاد: يعني دعوى أن أمة السيد ولدت منه، فمن المدعي السيد أو الأمة؟ شيخ الإسلام يقول: هي المدعية، والقاضي أبو يعلى يقول: هو المدعي، والحقيقة أن الادعاء يكون(15/477)
منه ومنها، فهي المدعية؛ لأنها تريد أن تكون أم ولد فتعتق بعد موت سيدها، ولا يبيعها ـ أيضاً ـ على المشهور من المذهب، فإذا ادعت أن سيدها أولدها، فقال: ما أولدتُها، فهنا لا يحَلَّف السيد؛ لأن الأصل عدم الإيلاد، ولأن هذا فيه شائبة حق الله؛ لأن الحرية والرق فيهما شائبة حق لله، وقد يكون هو المدعي، فيدعي ذلك من أجل أن تعتق بعد موته ولا تباع في دَيْنه؛ لأنه إذا مات تعتق من رأس المال، لا من الثلث، فيقول: هكذا لتعتق، ولا تباع في دَيْنه، أو من أجل ألا يسلط عليها الغرماء فيبيعوها في حياته؛ لأن أمهات الأولاد لا يجوز بيعهن، فصار الادعاء قد يكون منه وقد يكون منها.
ثامناً: النسب: شخص نسبه مجهول، أمسكه آخر وقال: أنت ولدي، فقال: لست بولدك، فلا يحلف؛ لأن النسب فيه شائبة حق كبيرة لله عزّ وجل، ويقال لمن ادعى أنه ولده: هاتِ البينة على أنه ولدك، وإلا فلا شيء لك. والسبب في عدم تحليف المنكر أنه لا يقضى على المنكر بالنكول ويعللون بهذا في جميع المسائل.
تاسعاً: القود: وهو القصاص، يعني ادعى على شخص بقصاص قال: هذا لي عنده قصاص، مثلاً قطع يدي إن كان في القصاص فيما دون النفس، أو قتل أبي إن كان القصاص في النفس، وقال: أبداً ما علي قصاص، فهنا لا يُحلَّف أنه لا قصاص عليه، ولكن يبقى النظر هل يحلف على نفي الدية؟ هذا ينبني على الخلاف في الواجب بقتل العمد، هل هو القود عيناً أو(15/478)
القود والدية؟ إذا قلنا: القود والدية يحلف؛ لأنها حق مالي.
عاشراً: القذف: يعني ادعى شخص على آخر أنه قذفه، رماه بالزنا أو اللواط، فقال: ما قذفته، فالمدعي إن أتى ببينة حكم له بها، وإذا لم يأتِ ببينة، فلا نقول للقاذف: احلف.
وعلى كل حال هذه المسائل غالبها خلافية؛ لأن من أهل العلم من يقول بعموم حديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، وهذا المنكر إن كان صادقاً لم يضره اليمين، وإذا امتنع من اليمين كان ذلك قرينة على أن المدعي صادق، فحينئذٍ نرد اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له.
وَالْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ الْيَمِينُ بِاللهِ. وَلاَ تُغَلَّظُ إِلاَّ فِيْمَا لَهُ خَطَرٌ.
قوله: «واليمين المشروعة اليمين بالله» هذه هي اليمين المشروعة، وما عدا ذلك فليس بمشروع، ولا يعد الممتنع منه ناكلاً، فأنواع الأيمان: اليمين بالله، اليمين بالنذر، اليمين بالتحريم، اليمين بالطلاق، كل هذه تكون يميناً.
اليمين بالنذر: مثلاً يقول: إن فعلت هذا فللَّه عليَّ نذر أن أصوم سنة، واليمين بالطلاق: إن فعلت كذا فزوجتي طالق، واليمين بالتحريم: إن فعلت كذا فزوجتي حرام، اليمين بالله: والله لا أفعل كذا، فاليمين المشروعة هي اليمين بالله عزّ وجل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (2) ، فهذه هي اليمين المشروعة لدى الحالف والمحلِّف.
فالمحلِّف كالقاضي ـ مثلاً ـ لا يجوز له أن يحلِّف
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .
(2) سبق تخريجه ص (121) .(15/479)
بالطلاق، أو بالتحريم، أو ما أشبه ذلك؛ لأن اليمين المشروعة هي اليمين بالله، يوجد ـ والعياذ بالله ـ بعض الحكام أو بعض الأمراء، يحلفون الإنسان بالطلاق ولا يرضون أن يحلف بالله، يقولون: إذا قلنا: احلف بالله حلف، ولا يبالي، وإذا قلنا: احلف بالطلاق يقول: إن كان كذا وكذا فزوجتي طالق، فيخاف من طلاق زوجته، وهذا لا ننكر أن يكون واقعاً، وربما بعض الناس يهون عليه الحلف بالله، ولا يهون عليه اليمين بالطلاق، لكن مع ذلك لا يجوز للقاضي أن يحلِّف بالطلاق لا في الخصومات ولا غيرها لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (1) . فاليمين المشروعة هي اليمين بالله عزّ وجل.
قوله: «ولا تغلظ إلا فيما له خطر» لا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر، يعني فيما له شأن كبير، فالشيء البسيط لا يجوز أن تغلظ فيه، والذي يطلب التغليظ القاضي أو المدعي، فإذا طلب المدعي التغليظ ورأى القاضي أن الأمر خطير فله أن يغلظ، مثلاً ادعى عليه بمليون ريال، وهذا له خطر كبير، ولو ادعى عليه بعشرة ريالات فليس لها خطر، أو تداعى زيد وعمرو عند القاضي في نعل يساوي خمسة ريالات، فقال المدعى عليه: ليس عندي ولا رأيته، فقال القاضي للمدعي: هل لك بينة؟ قال: ما لي بينة، قال: إذن لك يمينه قال: لكن غلظ عليه اليمين، فلا يجيبه إلى طلبه؛ لأن هذا شيء يسير، فإذا قال المدعي: هو شيء يسير عليك، لكن أنا ليس يسيراً علي، نقول: العبرة بأوساط الناس
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .(15/480)
فالذي له خطر يعني المال الكثير، فالقصاص، والسرقة، وما أشبه ذلك، هذا الذي له خطر، أما الشيء اليسير فلا تغليظ فيه.
وقال بعض أهل العلم: حيث رأى القاضي التغليظ غلظ، وحيث لم يرَ التغليظ لم يغلظ، يعني أن المسألة ترجع إلى اجتهاد القاضي، فقد يرى التغليظ؛ لأن هذا المنكر رجل مبطل لا يهمه أن يقول: والله ليس له علي شيء، لكن لو غلظنا عليه ربما لا يحلف ويتراجع، وربما يرى القاضي عدم التغليظ؛ لأن المنكِر رجل صدوق، لا يمكن أن يقول: ليس عندي شيء حتى وإن لم يحلف إلا وهو صادق، والصحيح أن هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى التغليظ غلظ وإلا فلا.
والتغليظ يكون بالصيغة، والزمان، والمكان، والهيئة على القول الراجح.
بالزمان بعد العصر، وقيل: بين الأذان والإقامة، لكن الصحيح أنه بعد العصر لقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 106] ، أي: بعد صلاة العصر.
والتغليظ في المكان: في المسجد الحرام قالوا: بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس، قالوا: عند الصخرة، وفي بقية المساجد عند المنبر؛ لأنه المكان الذي يعلن فيه الذكر والدعوة إلى الله، ولكن شيخ الإسلام يقول في بيت المقدس: إنه كغيره يكون عند المنبر، وأن الصخرة ليس لها حرمة في حد ذاتها، وأن أصل تعظيمها من النصارى؛ لأن الذي احتله أساء فيه، فلما انتصر عليه الآخر ذهب يعظم هذه الصخرة، ويزيل عنها الأذى(15/481)
والقمامة التي كانت عليها؛ فمن أجل ذلك عظمت، وإلا فلا أصل لتعظيمها إطلاقاً، وعلى هذا فيكون التغليظ في المكان في بيت المقدس كغيره من المساجد عند المنبر.
والتغليظ في الصيغة أن يقول مثلاً: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الغالب الطالب، وما أشبه ذلك من الكلمات التي فيها زجر ووعيد.
والتغليظ في الهيئة: أن يكون قائماً لا جالساً فتغلظ اليمين في الأشياء التي فيها خطر، والصحيح أن التغليظ راجع إلى الإمام. وإذا أراد القاضي تغليظ اليمين على الحالف فأبى المنكر اليمين المغلظه فهل يقضى عليه بالنكول؟
المذهب لا يقضى عليه بالنكول وقالوا إذا أبى التغليظ فليس بناكل، والقول الثاني: يعد ناكلاً؛ لأن امتناعه عن التغليظ يدل على أن هناك ريبة، فامتناعه يكون قرينة على أنه كاذب في إنكاره وهذا القول أقوى.(15/482)
كِتَابُ الإِقْرَارِ
يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ، مُخْتَارٍ، غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى وَزْنِ مَالٍ فَبَاعَ مُلْكَهُ لِذَلِكَ صَحَّ، وَمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِشَيْءٍ فَكَإِقْرَارِهِ فِي صِحَّتِهِ، إِلاَّ فِي إِقْرَارِهِ بِالْمَالِ لِوَارِثٍ فَلاَ يُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَرَّ لاِمْرَأَتِهِ بِالصَّدَاقِ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالزَّوْجِيَّةِ لاَ بِإِقْرَارِهِ،..............
قوله: «الإقرار» مصدر أقر يقر، وهو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق مالية، أو بدنية، أو غير ذلك، وأخَّر المؤلف الكلام على الإقرار وإن كان له علاقة بالبيع وغيره؛ تفاؤلاً بأن يختم له بالإقرار بالتوحيد، وسلك كثير من الفقهاء هذا المسلك، وبعضهم ختم كتاب الفقه بكتاب العتق تفاؤلاً بأن يعتقه الله تعالى من النار، ولكلٍّ وجه، لكن الإقرار أتم؛ لأن من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة (1) ، فمن كان أخر كلامه الإقرار بالتوحيد دخل الجنة، ودخول الجنة أبلغ من العتق من النار، وإن كان يلزم من العتق من النار دخول الجنة.
وللإقرار شروط أشار إليها المؤلف بقوله:
«يصح من مكلف» هذا الشرط الأول، فلا يصح إلا من مكلف، وهو البالغ العاقل، فالمجنون لا يصح إقراره؛ سواء أقر بمال، أو بعقد، أو بطلاق، أو بغير ذلك؛ لأنه لا حكم لقوله، إذ هو صادر بغير قصد، وكذلك الصغير لا يصح إقراره؛ لأنه غير مكلف إلا فيما يصح تصرفه فيه فإنه يصح إقراره ويؤاخذ به، فالضابط في إقرار الصغير أن ما صح منه إنشاؤه صح به إقراره
__________
(1) أخرجه أحمد (5/233) ، وأبو داود في الجنائز/ باب في التلقين (3116) عن معاذ رضي الله عنه.(15/483)
مثل: إذا أُعطي شيئاً يتصرف فيه ببيع من الأمور التي جرت العادة بأنه يتصرف فيها، كالتصرف في الدجاجة ـ مثلاً ـ، والبيضة، والشيء اليسير، فالإقرار هنا يصح؛ لأنه واقع ممن يصح منه العقد فصح الإقرار به، فإطلاق المؤلف ـ رحمه الله ـ كلمة «مكلف» فيه شيء من النظر، وقد يقال: إن صحة تصرف الصغير بما ذُكر لا يمنع من الإطلاق؛ وذلك لأنه مفهوم، والمفهوم كما يقولون: ليس له عموم؛ لأن قوله: «من مكلف» مراده مَنْ يصح منه، فمفهومه أن غير المكلف لا يصح، وحكم المخالفة يصدق بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يصدق عليها حكم المخالفة فلا ضرر، المهم أن هذا النقاش يتعلق بأصول الفقه، وهو أن يقال: مفهوم قول المؤلف «من مكلف» أن غير المكلف لا يصح إقراره، فيشمل المجنون والصغير، أما المجنون فلا استثناء فيه، وأما الصغير ففيه استثناء.
فإذا قال قائل: إذا كان فيه استثناء، فلماذا لم يستثنِ المؤلف؟ فالجواب من وجهين: إما أن يقال: بأن المفهوم لا عموم له، ويصدق حكمه بصورة واحدة، فإذا وجدت صورة واحدة يختلف فيها الحكم عن المنطوق كفى، أو يقال: إن المؤلف أطلق؛ لأن الأمر معلوم بأن من صح تصرفه في شيء صح إقراره به وعليه، وقد مَرَّ علينا في كتاب البيع أنه يصح البيع من صغير بما جرت به العادة كالأشياء اليسيرة.
قوله: «مختار» هذا الشرط الثاني، وضده المكره، فلا بد أن يكون المقر مختاراً لإقراره ولما أقر به، فإن كان أقر باختياره(15/484)
بمائة وأكره على أن يقر بمائتين، فالإقرار لا يصح بالمائتين لكن يصح بالمائة، وإن كان لا يقر بشيء فأكره على أن يقر بمائة لم يصح إقراره مطلقاً؛ لأنه لا بد أن يكون مختاراً، والدليل قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، فكل العقود لا بد فيها من التراضي، فالمكره لا يقع منه أي عقد أو إقرار.
قوله: «غير محجور عليه» هذا هو الشرط الثالث، والمحجور عليه هو الممنوع من التصرف، ثم هو قسمان: محجور عليه لحظ نفسه، وهم ثلاثة: الصغير، والمجنون، والسفيه، وقد سبق الكلام عليهم، الثاني: المحجور عليه لحظ غيره، وهو المفلس، الذي دَيْنُهُ أكثر من موجوداته، كرجل عليه مائة ألف درهم ديناً، وماله ثمانون ألف درهم يعني عنده أثاث وموجودات تساوي قيمتها ثمانون ألف درهم، وطلب الغرماء الحجر عليه من أجل توزيع موجوداته عليهم، فهذا يحجر عليه.
هذا المحجور عليه لا يصح إقراره في أعيان ماله؛ لأنه ممنوع من التصرف فيها، ويصح إقراره في ذمته؛ لأنه لا ضرر على الغرماء في هذا الإقرار.
فلو قال مثلاً بعد أن حجر عليه: هذه السيارة لفلان، لا نقبل منه؛ لأنها تعلق بها حق الغير، فالآن هي محبوسة لحق الغرماء، أما لو قال: في ذمتي لفلان، نقول: هي في ذمتك، وبعد الحجر يطالبك من أقررت بها له.
قوله: «ولا يصح من مكره» أي: لا يصح الإقرار من مكره،(15/485)
وهذا تصريح بمفهوم قوله: «مختار» فلا يصح من مكره؛ لما سبق من قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، ولأن الله رفع حكم الكفر عن المكره في قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] فكذلك نفوذ تصرفه مرفوع عنه؛ لأنه مكره.
ولكن لو أكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً فإنه يؤاخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه أراد المبالغة؛ فلو أكره على أن يقر بمائة فأقر بثمانين ثبت الإقرار؛ لأنه ما أكره على الثمانين، بل أكره على المائة، ولو أكره على أن يقر بمائة فأقر بمائتين أخذ بذلك؛ لأنه على خلاف ما أكره عليه، ولو أُكره على أن يقر بهذه السيارة لفلان فأقر بالسيارة الأخرى يؤْخذ بها، ولو أكره على أن يقر بمائة صاع بر رديء فأقر بمائة صاع بر نقي أخذ به، المهم إذا أُكره على شيء فأقر بخلافه عيناً أو وصفاً أخذ بإقراره، ما لم نعلم أنه يريد المبالغة، مثل أن يكرهوه على أن يقر بمائة ويضربوه، فإذا ضربوه وآلموه بالضرب قال: إن أردتم أقر لكم بأن في ذمتي له ألفاً، فهذا خلاف ما أكره عليه، لكن للمبالغة من أجل الفكاك والخلاص من هؤلاء الذين أكرهوه، وصاروا يؤلمونه بالضرب أقر بأكثر مما قالوا.
كذلك لو قالوا: هذه السيارة داتسون موديل سبعة وسبعين وأكرهوه على أن يقر بها لفلان، فقال: أنا أقر أن هذه السيارة «البيوك» لفلان، فإذا علمنا من قرينة الحال أنه أراد المبالغة فهذا لا يؤخذ به؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل(15/486)
امرئ ما نوى» (1) وقوله: «إنما أقضي بنحو ما أسمع» (2) ، والإنسان الذي يسمع مثل هذا ويعلم أن الرجل أراد المبالغة لا يمكن أن يقضى عليه.
وهل يصح الإقرار من السكران؟ المذهب أنه يصح، مع أنه غير مختار، لكنهم يقولون: إن الإقرار ناتج عن شرب محرم، ولا ينبغي أن نتساهل مع هذا الرجل، بل نعامله بأقسى المعاملتين، فإذا كان سكران وجاءه شخص يُضحكه، ويزيد في نشوته، قال: ألم أسلفك عشرة آلاف، قال: بلى أنت صاحبي، وسلفتني عشرة آلاف، فالمذهب يؤاخذ به، والصحيح أنه لا يؤاخذ بذلك؛ لأنه لا عقل له، ولهذا لم يؤاخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين قال له: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟! (3) .
قوله: «وإن أكره على وزنِ مالٍ فباعَ ملكَهُ لذلك صح» هذه مسألة فيها نوع شبه ممن أكره على إقرار بشيء، فقوله: «أكره على وزن مال» يعني على دراهم، وعبَّر عنها بالوزن؛ لأن الدراهم يتعامل بها وزناً وعدداً، فإذا أكره على وزن نقدٍ، ذهبٍ أو فضةٍ، بأن قالوا له: سلِّم لفلان خمسين أوقية من الفضة، قال: ما عندي شيء، قالوا: سلِّم وإلا حبسناك، فباع ملكه ليسدد ما أكره عليه، فهل يصح البيع؟ يقول المؤلف: يصح؛ لأنه ما أكره على البيع،
__________
(1) سبق تخريجه ص (153) .
(2) سبق تخريجه ص (316) .
(3) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب بيع الحطب والكلأ (2375) ، ومسلم في الأشربة/ باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ... (1979) عن علي رضي الله عنه.(15/487)
إنما أكره على مال، فباع لدفع الإكراه؛ ووجه ذلك أنه لو أتى بهذه الخمسين الأوقية من شخص قرضاً، ودفعها يجزئ، فهم يقولون: هو ما أكره على البيع، إنما أكره على أن يدفع خمسين أوقية من الفضة، سواء جاء بها من بيع، أم من قرض، أم من أي شيء.
ولكن هل يصح الشراء منه؟ نعم، إذا صح البيع صح الشراء.
وهل يكره الشراء منه؟ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون: إن الشراء منه مكروه؛ لأن بيعه بيع اضطرار، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المضطر (1) ، وهذا الرجل مضطر إلى بيعه، ولكن الصحيح أنه لا كراهة؛ لأننا لو كرهنا ذلك لكان هذا سبباً لزيادة العقوبة عليه، فإذا قلنا للناس: لا تشتروا منه، وهؤلاء يضربونه صباحاً ومساءً على أن يسدد لهم خمسين أوقية من الفضة، فستبقى عليه عقوبة الإكراه دائماً، فالصحيح أنه لا يكره الشراء منه، بل لو قيل باستحباب الشراء منه؛ من أجل فكاكه من هذا الألم لكان له وجه، وأما النهي عن بيع المضطر، فالمراد به أن يُضطر إنسانٌ لشيء يجب عليك بذله له، فلا تعطه إلا ببيع، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، لا من باب إضافة المصدر إلى فاعله.
قوله: «ومن أقرَّ في مرضه بشيء فكإقرارِهِ في صحته» المرض مرضان: مرض مخوف، ومرض غير مخوف، فالمرض المخوف ما لا يستغرب الناس الموتَ به، وغير المخوف عكس ذلك، فمثلاً: المرأة إذا أخذها الطلق فمرضها مخوف؛ لأنها لو ماتت من هذه الولادة ما استغرب الناس، والإنسان المصاب بذات الجنب، وبالكوليرا، وبالسرطان وما أشبهها، لو مات الإنسان بهذا المرض لقال الناس: هذا مرض يقتل عادة فلا يستغرب، أما مَنْ مرضه غير مخوف كصداع يسير، وزكام، ورشح، وما أشبه ذلك، فهذا تصرفه كتصرف الصحيح تماماً، في الإقرارات، في البيوع، في الوقف، في الرهن، في كل شيء؛ لأن هذا الإنسان المتصرف يتصرف وهو يشعر بأنه حي لا ميت أو قريب من الموت، أما الذي مرضه مخوف فهذا هو الذي تصرفه مقيد، فلا يتصرف بأزيد من الثلث على سبيل التبرع، ولا يعطي أحداً من الورثة؛ لأنه في حكم الميت، فهو المراد بقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (2) . فالمراد بقول المؤلف: «إذا أقر في مرضه» المرض المخوف بدليل الاستثناء الآتي.
__________
(1) أخرجه أحمد (1/116) ، وأبو داود في البيوع/ باب في بيع المضطر (3382) ، والبيهقي (6/17) عن علي رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419) ، ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (1032) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند البخاري «تأمل الغنى» بدل «تخشى الفقر» .(15/488)
وقوله: «فكإقراره في صحته» إذا أقر بدين عليه أثبتناه، وإذا أقر ببيع أثبتناه، وإذا أقر بإجارة أثبتناه، وإذا أقر برهن أثبتناه،(15/489)
هكذا كل ما يقر به، فإقراره كإقرار الصحيح، واستثنى المؤلف فقال:
«إلا في إقراره بالمال لوارث فلا يقبل» إذا أقر لوارثه بمال فإنه لا يقبل، سواء كان هذا الوارث يرث بفرض، أو تعصيب، أو رحم، وسواء كان بسبب الزوجية، أو القرابة، أو الولاء، فأي وارث لا يقبل إقراره له بالمال، مثاله: شخص مريض مرضاً مخوفاً، فقال: اشهدوا بأن في ذمتي لولدي فلان عشرة آلاف ريال، وله عدة أولاد، فإقراره هنا غير مقبول؛ لأنه متهم، ولأننا لو أثبتنا هذا الإقرار لكان في ذلك تعدٍّ لحدود الله ـ عزّ وجل ـ في قسمة المواريث؛ لأن هذا الابن سوف يزيد على إخوته بما أقر به والده.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان لسبب معلوم، مثل أن يُعلم بأن هذا الرجل اشترى من أحد ورثته سيارة بعشرة آلاف ريال، ونعلم ذلك باستمارتها، وشهودها، فظاهر كلام المؤلف أنه لو أقر لهذا الوارث بعشرة آلاف ريال فإنه لا يقبل، ولكن في هذا نظر؛ لأن إقراره هنا مبني على سبب معلوم، والأصل عدم التسليم، فنقول: هذا الإنسان أقر للوارث بشيء أحاله على سبب معلوم، والأصل بقاء الثمن في ذمته وعدم قبضه، فالصحيح هنا أنه يصح؛ لأن الأصل في علة منع الإقرار للوارث في مرض الموت المخوف التهمة، والتهمة هنا مفقودة.
وظاهر قوله: «فكإقراره في صحته» أنه لو أقر لأجنبي بما(15/490)
زاد على الثلث ثبت الإقرار، مثال ذلك: قال: أشهدكم بأن نصف مالي لفلان، وهو غير وارث، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك صحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أن إقراره بما زاد على الثلث لا يصح، كما أنه لو أقر لوارث لم يصح؛ وذلك بناء على أن الوصية بما زاد على الثلث لا تصح، وللوارث لا تصح، فالإنسان في مرض موته المخوف ممنوع من التصرف أو التبرع بما زاد على الثلث.
ولكن ما ذهب إليه المؤلف أولى؛ لأن الإنسان ربما يكون في حياته وفي صحته جاحداً لما يجب عليه لشخص من الناس، فإذا رأى أن الأجل قريب تاب إلى الله وأقر، ولنفرض أن هذا الرجل قد عقد مشاركة مع شخص مناصفة، ثم إن الرجل أنكر الشركة، ولما مُرِضَ مرض الموت ندم وتاب وأقر بشركة هذا الرجل، وهذا أمر واقع، فما ذهب إليه المؤلف من صحة الإقرار لغير الوارث مطلقاً صحيح، إلا إذا علمنا بقرينة قوية أن الرجل أراد حرمان ورثته، فحينئذٍ نقول: ما زاد على الثلث لا ينفذ، مثل أن يكون ورثته بني عمه، وبينه وبين بني عمه عداوة، وله صديق حميم، رجل طيب، وماله مائة ألف، فقال: أشهدكم بأن تسعة وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعين لفلان صديقي، فهذا الرجل يظهر من إقراره حرمان الورثة، أولاً: لأنه ما أبقى من المائة ألف إلا ريالاً واحداً، ثانياً: لأنه معروف أن بينه وبين بني عمه عداوة وشحناء وبغضاء، ففي هذه الحال نقول: لا يصح الإقرار إلا بالثلث فقط؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم منع سعد بن أبي وقاص(15/491)
رضي الله عنه أن يتصدق بما زاد على الثلث (1) .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ أَبَانَهَا فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ إِرْثُهَا. وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَجْنَبِيّاً لَمْ يَلْزَمْ إِقْرَارُهُ لا أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ، وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً،....
قوله: «وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره» «أقر» الفاعل يعود على الزوج المريض مرضاً مخوفاً، قال: أشهدكم بأن في ذمتي مهر زوجتي، فلها مهر المثل بالزوجية، لكن قوله: «مهر زوجتي» إن عيَّن بأن قال: في ذمتي خمسون ألفاً مهراً للزوجة، فإن كان أقل من مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن كان مثل مهر المثل وصدقت أعطيت الخمسين، وإن زاد على مهر المثل فليس لها إلا مهر المثل؛ لأن إقراره غير معتبر؛ لأن الزوجة وارثة، لكننا أوجبنا مهر المثل؛ لأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ، وإذا تزوجت امرأة ثبت لها ما عُيِّن وإن لم يثبت المعين ثبت مهر المثل، ولهذا قلنا: إن هذا الرجل إما أن يقول: أشهدكم بأن في ذمتي مهر امرأتي، أو يقول: في ذمتي كذا وكذا مهراً للمرأة، فعلى الأول يلزمه مهر المثل؛ لأنه لم يعين شيئاً، وعلى الثاني نقول: إن كان ما عيَّنه أقل من مهر المثل، أو مساوياً لمهر المثل أعطيته المرأة، وإن كان أكثر لم تعطه؛ لأنه إقرار بالمال لوارثه، وهذه المسألة تدل على ما سبق من قولنا: إنه إذا وجد لإقراره بالمال للوارث سبب يمكن إحالة الحكم عليه فإنه يقبل إقراره بالمال للوارث. كما لو عرف بأن هذه السيارة منتقلة من أحد ورثته.
__________
(1) سبق تخريجه ص (226) .(15/492)
قوله: «ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها» «ولو أقر» الفاعل يعود على المريض؛ لأنه قال: «ومن أقر في مرضه» يعني إن أقر المريض لامرأته أنه كان أبانها في صحته أي: قبل أن يُمْرَضَ، والبينونة أن يفارقها مفارقة تبين بها، إما أن يكون بطلاقٍ ثلاث، يعني آخر تطليقات ثلاث، وإما بفسخ، وإما بغير ذلك، فيقول المؤلف: «لم يسقط إرثها» ؛ لأنه متهم، بل يبقى إرثها في ماله إلا إذا صدَّقته، والأمر ظاهر؛ لأنه متهم، فهذا الرجل أقر بأنه أبان زوجته قبل أن يمرض من أجل أن يحرمها من الإرث، نقول: هذا الإقرار لا يقبل؛ لأنه متهم بقصد حرمانها، فكما أنه لو طلقها في هذه الحال طلاقاً بائناً لم يسقط إرثها، فكذلك إذا أقر بأنه أبانها في صحته لم يسقط إرثها، فإن أتى ببينة، أو أقرت هي بما أقر به الزوج فإن إرثها يسقط.
قوله: «وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره، لا أنه باطل» «إن أقر» الفاعل يعود على المريض مرض الموت المخوف، فإذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً، يعني غير وارث، فإن إقراره لا يلزم اعتباراً بحال الإقرار لا بحال الموت، مثاله: رجل مات عن زوجة وعم شقيق وأم، فللزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للعم الشقيق، فهذا المريض أقر لعمه الشقيق بمال، ثم إن أمه ولدت لهذا المريض أخاً شقيقاً، ثم مات المريض بعد أن ولد أخوه الشقيق، فالذي يرثه بالتعصيب(15/493)
الأخ الشقيق، فهل نقول في هذه الحال: إن العم يعطى ما أقر له به أو لا؟ يقول المؤلف: إنه لا يعطى اعتباراً بحال الإقرار؛ لأن حال الإقرار هي حال التهمة فإن بقي العم هو الوارث، فهل يعطى أو لا يعطى؟ لا يعطى من باب أولى؛ لأنه أقر لوارث، فالمهم إذا أقر المريض لوارث ثم صار عند الموت غير وارث فإن الإقرار لا يصح، لكن المؤلف يقول:
«لم يلزم إقراره لا أنه باطل» يعني لا يلزم أن يعطى ما أقر به، ولكنه ليس بباطل، بمعنى أن الورثة لو أجازوا له ذلك فإنه يجوز، ويعطى إياه بالإقرار، ولو قلنا: إنه باطل ما صح إقراره ولو بإجازة الورثة، ولهذا يجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: إن إقراره باطل، أو نقول: إن إقراره غير لازم؛ لأننا إذا قلنا: إنه غير لازم، صار موقوفاً على إجازة الورثة، فإن أجازوه أعطي، وإن قلنا: إنه باطل صار غير صحيح ولو أجازوه؛ لأنه بطل.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ أَعْطَاهُ صَحَّ وَإِنْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثاً» هاتان مسألتان:
الأولى: شخص أقر لأخيه وله ابن، ثم مات ابنه فصار الأخ وارثاً، فيصح هذا الإقرار ويعطى أخوه ما أقر به له.
الثانية: إذا أعطاه وهو غير وارث فصار عند الموت وارثاً، أعطاه يعني وهبه، لكن العلماء يسمون الهبة في مرض الموت المخوف عطية، مثاله: مُرض هذا الرجل مرض الموت فكلم أخاه وقال: خذ يا أخي هذه عشرة آلاف ريال، عطية، ثم إن ابنه مات(15/494)
فهل تصح هذه العطية أو لا؟ المؤلف يرى أنها تصح كالإقرار.
والقول الثاني ـ وهو المذهب ـ: أن العطية كالوصية، والمعتبر في الوصية حال الموت لا حال الإيصاء، وبناء على المذهب فإن عطيته لأخيه لا تلزم إلا بإجازة الورثة بناء على أن المعتبر في العطية حال الموت لا حال الإعطاء فالإقرار، إذا أقرَّ لغير وارث ثم صار عند الموت وارثا فحكمه: أنه صحيح ولازم ويعطى ما أقر به الميت، أما العطيه فهي كالإقرار على ما مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وإذا كانت كالإقرار فمقتضاه: أنها تصح وتسلم لهذا المعطى، والقول الثاني: أنها لا تلزم إلا بإجازة الورثة، مثاله: مريض مرض الموت دعا أخاه، وقال له: يا أخي بلغني أنك ستتزوج، خذ هذه عشرة الآلاف مساعدة، ثم إن المريض توفي ابنه فصار الوارثَ الأخُ فعلى ما مشى عليه المؤلف العطية صحيحة وتكون من رأس المال، وليس للورثة فيها تصرف كالإقرار؛ لأن المعتبر حال الإعطاء، أما المذهب فيقولون: لا، المعتبر حال الموت، وعلى هذا فنقول: لما مات ابن المعطي وصار الأخ وارثاً، فإن هذه العطية لا تلزم إلا بإجازة الورثة كالوصية.
فعندنا ثلاثة أشياء: إقرار، ووصية، وعطية، فالإقرار المعتبر به حال الإقرار قولاً واحداً؛ لأن الإقرار إنما ينسب الشيء إلى أمر سابق لا إلى أمر حدث في مرض موته، والوصية المعتبر بها حال الموت، قولاً واحداً؛ لأن الوصية ما تكون إلا بعد الموت، والعطية فيها خلاف، المذهب أنها ملحقة بالوصية، وكلام(15/495)
المؤلف أنها ملحقة بالإقرار؛ لأنها لمَّا كانت بَيْنَ بَيْنَ يحتمل أنه إنشاء عطية، ويحتمل أنه عطية لأمرٍ سابق، صار فيها الخلاف، والأرجح أنها كالوصية؛ لأنها يحتمل أنه أراد أن يبره بذلك الشيء، وقد يقول قائل: كيف ترجحون أنها كالوصية وهو حين الإعطاء غير وارث، فالتهمة منتفية في الواقع، أما الوصية فلا تكون وصية إلا بعد الموت والتهمة موجودة؟ وهذا يجعلنا نتوقف في ترجيح أن تكون العطية كالوصية، وكونها عطاء في مرض الموت يرجح أن نجعلها كالوصية.
إذاً القاعدة الأولى: إذا أقر المريض لوارث لم يقبل إقراره، وإن شئت فقل: لم يلزم إلا بإجازة الورثة، وقيل: لا يقبل مطلقاً.
ثانياً: إذا أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لا يتغير الحكم، فلا يصح إقراره اعتباراً بحال الإقرار.
ثالثاً: إذا أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح إقراره؛ لأن العبرة حال الإقرار.
فإن قال قائل: لماذا لا تعتبرون الحال بالموت؟ قلنا: لأن حال الإقرار هي حال التهمة، أما إذا تغيرت فالإنسان لا يعلم الغيب فلا يكون متهماً في عمل لم يوجد سببه.
وَإِنْ أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدَّعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ، وَإِنْ أَقَرَّ وَلِيُّهَا الْمُجْبِرُ بِالنِّكَاحِ، أَوِ الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَحَّ، وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَإِنْ كَانَ مَيْتاً وَرِثَهُ، وَإِذَا ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّت امْرَأَةٌ على نفسها بِنِكَاحٍ وَلَمْ يَدعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ» كإنسان أمسك امرأة وقال: هذه زوجتي، فقالت: نعم، فإنها تكون زوجته، ويقبل إقرارها؛ لأن النكاح حق على الزوجة، فإذا أقرت به قبل إقرارها، والدليل على أنه حق عليها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ(15/496)
تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} [الأحزاب] ، هذا إذا كان المدعي واحداً.
وقوله: «ولم يدعه اثنان» مفهومه أنه إذا ادعاه اثنان لم يقبل إقرارها؛ لأن في إقرارها إبطالاً لحق المدعي الثاني، فهذه امرأة أمسكها رجلان، كل واحد منهما يقول: هذه زوجتي، زيد يقول: هذه زوجتي، وعمرو يقول: هذه زوجتي، فذهبوا إلى القاضي فأقرت بأنها زوجة زيد، فعلى المذهب لا يقبل إقرارها لزيد؛ لأن في ذلك إبطالاً لحق المدعي الثاني.
ومعلوم أن هذا الحكم إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا وجدت بينة لإحداهما فهي لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد بينة بأنها زوجته، ينظر التاريخ فالسابق هو الزوج، ولهذا قال في الروض (1) : «إن أقاما بينتين قدم أسبق النكاحين فإن جهل فقول وليها فإن جهل الولي فسخا ولا ترجيح بيد» هذه ادعاها اثنان إن لم يكن لهما بينة فعلى كلام المؤلف لا يقبل، أما إن أقرت لهما جميعاً، أو لم تقر بشيء فلا بد من البينة على ما قاله صاحب الروض، ولا تستغرب هذا الأمر، فهذا ربما يقع، ويقال: إن بعض النساء ـ والعياذ بالله ـ تتزوج وهي ذات زوج.
قوله: «وَإِنْ أقَرَّ وَلِيُّهَا المجبر بِالنِّكَاحِ أَو الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ صَح» يعني ادعِيَ على امرأة أنها زوجة فلان، وقد سبق أنها إذا أقرت يقبل إقرارها، فإذا أقر وليها فالولي قسمان على المذهب ـ أيضاً ـ قسم مُجْبِر وهو أبو البكر، وقسم لا يُجْبِر وهو من سواه، فإذا
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم مع الروض المربع (7/637) .(15/497)
كانت من النساء اللاتي يجبَرن، وأقر وليها المجبِر فكإقرارها؛ وذلك لأنه يملك إنشاء العقد فَمَلَكَ الإقرارَ عليه؛ فالأب له أن يزوج ابنته وإن لم ترضَ وإن لم تعلم على المذهب، فإذا أقر أن فلانة زوجة فلان، فإن الزوجية تثبت، سواء أقرت ووافقت على هذا، أم لم تقر؛ لأنه يملك إنشاء العقد فملك الإقرار عليه.
أما إذا كان غير مجبِر وهو غير الأب، فننظر إن كانت قد أذنت له صح إقراره وإلا فلا، فإذا أقر هذا الولي كالأخ ـ مثلاً ـ بأنها زوجة فلان، زوَّجَها إياه، فإننا نسألها: هل أنت أذنتِ له؟ إن قالت: نعم، قلنا: إقراره صحيح، ونعلل بما عللنا من قبل؛ لأنه يملك إنشاء العقد لكونه قد أُذن له فملك الإقرار عليه، فإن قالت: ما أذنت له لم نقبل إقراره ـ يعني الولي ـ؛ لأنه لا يملك إنشاء العقد فلم يملك الإقرار عليه، فصار عندنا ثلاثة أشخاص: المرأة، والولي المجبِر، والولي غير المجبر، فالذي يصح إقراره بالنكاح من هؤلاء المرأة بكل حال إلا أن المؤلف اشترط ألا يدعيه اثنان، والولي المجبِر يقبل إقراره بكل حال سواء أذنت أم لم تأذن، والولي غير المجبر يقبل إقراره إن ثبت أنها أذنت له؛ وذلك لأنه لا يملك العقد عليها إلا بإذنها.
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ» «إن أقر» الفاعل «مُقِرٌّ» لأنه إذا لم يوجد مرجع بَيِّن أخذ اسم فاعل من مصدر الفعل، فنقول: إن أقر مُقِرٌّ بنسب صغير أو مجنون لحقه، كإنسان معه ولد صغير لم يبلغ، فقال:(15/498)
هذا ابني، يقول المؤلف: يلحقه النسب، أو قال: هذا أخي، يلحقه النسب، أو قال: هذا عمي، يلحقه النسب، لكن المؤلف يقول: «بنسبِ صغيرٍ أو مجنون» فإذا كان بنسب بالغ عاقل يختلف الحكم، ولذلك نقول في تقرير هذه المسألة: الإقرار بالنسب يثبت به النسب بشروط أربعة:
الأول: إمكان ذلك.
الثاني: ألا يدفع به نسباً معروفاً. يعني لا يمسك أحد من الناس فلان بن فلان المعروف نسبه ويقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المُقَرُّ بِهِ إن كان بالغاً عاقلاً، وإن لم يكن بالغاً عاقلاً فإنه لا يشترط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب.
فالشرط الأول: إمكان ذلك، فإن لم يمكن فإنه لا يقبل، فلو ادعى شخص قال: هذا ابني وعمره عشرون سنة، وعمر المُقِر خمس وعشرون سنة فلا يقبل؛ لأنه لا يمكن للذي له خمس سنين أن ينجب ولداً.
الثاني: ألا ينفي به نسباً معروفاً، وذلك بأن لا يعرف أن هذا الرجل فلان ابن فلان، فإن عرف بأنه فلان ابن فلان فإن المقر لا يمكن أن يقبل إقراره؛ لأن هذا يبطل نسباً معروفاً، ولو فتح الباب لكان كل واحد يعجبه شخص من الناس، يقول: هذا ابني.
الثالث: أن يصدقه المقَرُّ به بشرط أن يكون بالغاً عاقلاً، فإن كان غير بالغ ولا عاقل فإنه لا يشترط أن يصدقه، ولكن إذا(15/499)
أنكر الصغير أو المجنون بعد البلوغ والعقل فهل يقبل إنكارهما أو لا؟ فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: لا يقبل إنكارهما؛ لأن النسب ثبت والنسب لحمة لا يتغير، وإذا كان الولاء الذي يُلحق بالنسب لا يمكن أن ينقل إلى غير من هو له، فكذلك النسب لما ثبت لهذا الصغير أو المجنون لا يمكن رفعه.
ويرى بعض العلماء أنهما إذا أنكرا بعد البلوغ والعقل لم يثبت النسب؛ لأننا اشترطنا تصديق البالغ العاقل، وهذان لا يعتبر تصديقهما فإذا حصل البلوغ والعقل وجب التصديق، لكن المذهب أنه ليس بشرط.
الرابع: أن يكون مجهول النسب، فإن كان معلوم النسب، بأن عرف أن هذا الرجل من قبيلة كذا، والآخر من قبيلة أخرى، فإنه لا يصدق لأنه يدفع به نسباً معروفاً.
فإذا كان المقِرُّ حياً ولكن المقر به ميت فهل يرثه أو لا؟ يقول المؤلف:
«فَإِنْ كَانَ مَيِّتاً وَرِثَهُ» وإنما نَصَّ على ذلك مع أنه إذا ثبت النسب ثبت الإرث؛ لأن من العلماء من يقول: إنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، فهذا رجل مجهول النسب ولا يعرف له نسب مات وخَلَّفَ خمسين مليون ريال فجاء رجل بعد موته، وقال: هذا أخ شقيق لي، ما لي فيه منازع يقول المؤلف: يثبت النسب ويرثه، وهو متهم غاية الاتهام، أعتقد أن لو لم يخلف إلا الكفن، ما قال: إنه أخي يخشى أن ينقص الكفن ويلزم بتتميمه، لكن إذا خلف خمسين مليون ريال ففيه اتهام قوي، وهم يقولون ـ رحمهم الله ـ:(15/500)
الإرث هنا فرع عن النسب، والشارع يتشوف إلى ثبوت النسب وعدم ضياع الأنساب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (1) ، حتى لو كان الإنسان يغلب على ظنه أن هذا الولد من الزنا، وهي ذات زوج فهو لزوجها، حتى لا يكون الناس أولاد زنا وبغاء والشارع له تشوف إلى إلحاق الناس في أنساب معلومة.
والقول الثاني: أنه إذا كان ميتاً لا يرثه؛ لأنه متهم، لا سيما إذا كان يشاهده كل يوم وليلة، وربما لا يسلم عليه وليس بينهما صلة، ولا يعرف أحدهما الآخر، ثم لما مات جاء يقول: هذا أخي؛ لأننا نقول: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفته إلا لما مات، وخَلَّف هذا المال العظيم، جئت تقول: إنه أخي، وبناء على هذا ينبغي أن يتوسط بين القولين، ويقال: إن وجدت قرينة تدل على أن متهم فإنه لا يرثه، وإلا ورث، فلو كان هذا الإنسان غائباً في بلد، والشخص الذي ادعى أنه أخوه في بلد آخر، ولم يتصل به، ولكن لما مات أراد أن يأخذ نصيبه منه ولا يذهب المال إلى بيت المال، فهذا ربما يقال: إن هذا الإقرار صحيح، لكن لو أنه في البلد وربما كان قريباً منه في المكان، وفي الجوار، وفي المسجد وما أشبه ذلك، ولا يعرفه ولا يسلم أحدهما على الآخر، فإذا مات قال: هذا أخي!! فلا شك أن التهمة قوية جداً، فيقال له: أين أنت هذه المدة؟! ما عرفت أخاك؟ فيكون هذا قولاً وسطاً بين القولين.
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب القائف (6770) ، ومسلم في الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459) عن عائشة رضي الله عنها.(15/501)
فإذا قال قائل: هل يجوز إحداث مثل هذا القول؟
الجواب: نعم، يجوز إحداث مثل هذا القول، ولا يعتبر هذا خارجاً من الإجماع، يعني لو فرض أن هذه المسألة إجماعية، إما كذا وإما كذا، ولا يوجد قول ثالث، فإن التفصيل لا يعتبر خرقاً للإجماع؛ لأنه يوافق من أبطل الإقرار في وجه، ويوافق من أقر الإقرار من وجه آخر، وهذه الطريق يستعملها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أحياناً، فمثلاً يقول: الوِتْر اختلف فيه العلماء، هل هو واجب، أو سنة؟ ثم يقول: من كان له ورد من الليل فيجب عليه الوتر، ومن لم يكن له ورد فلا يجب، ثم قال: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً؛ لأنه لا يجب إلا في حال دون أخرى، فالمهم أنه إذا ورد خلاف بين العلماء، وتوسط أحد من الناس بتفصيل يوافق هؤلاء من وجه ويوافق الآخرين من وجه، فإن هذا ليس خرقاً للإجماع، ولا خروجاً عن أقوال أهل العلم.
قوله: «وإِذا ادَّعى عَلَى شَخْصٍ بِشَيْءٍ فَصَدَّقَهُ صَحَّ» هذه مسألة قد يقول قائل: إنها كقول الإنسان: السماء فوقنا والأرض تحتنا، أو قول الآخر:
كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولهم ماء
وهذا تحصيل حاصل يعني يأتي إنسان ويقول: أنت عندك لي عشرة دراهم، فقال: نعم.
يقول المؤلف إذا صار الأمر كهذا صح الإقرار، ولكن أراد المؤلف بذلك أن الإقرار يصح بأي لفظ كان، فسواء قلت: أقر أن لفلان عندي كذا وكذا، أو يأتي فلان ويقول: عندك لي كذا(15/502)
وكذا فتقول: نعم، وليس مراد المؤلف أن يبين أن الإنسان إذا ادُّعِيَ عليه فأقر بما ادعي عليه أنه تصح الدعوى ويعطى المدعي ما ادعاه؛ لأن هذا أمر واضح، ولا إشكال فيه. لكن قصده أنه يصح إقراراً.
مسألة: إذا ألحقت القافة الولد بأبوين فهل يلحق بهما؟
على المذهب يمكن أن يلحق بأبوين إن رأت القافة ذلك، لكن إن ألحقته بأحدهما لحقه.
وصورة المسألة أن يطأ المرأة رجلان بشبهة كل منهما يظنها زوجته فحملت من هذا الوطء فإذا ألحقته القافة بهما لحقهما.
وكيف يسمى الولد الذي ألحق بأبوين؟
إن كان اسم الأبوين واحداً مثل: محمد ومحمد فنسميه ـ مثلاً ـ عبد الله ابن المحمدين، وإن كان يختلف فلا بد من ذكر اسم كل أب منهما على حدة فنقول ـ مثلاً ـ عبد الله بن محمد وصالح، وهكذا.
* * *(15/503)
فَصْلٌ
إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لاَ تَلْزَمُنِي وَنَحْوُهُ لَزِمَهُ الأَلْفُ، وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ فَقَوْلُهُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الْحَقِّ، وإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ زُيُوفاً أَوْ مؤجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جيِّدَةٌ حالَّةٌ،......
قوله: «إِذَا وَصَلَ بِإِقْرَارِهِ مَا يُسْقِطُهُ» «إذا وصل» يعني ضم إلى إقراره ما يسقطه من الوصل، وهو وصل الشيء بالشيء وليس من الوصول، يعني إذا قرن بإقراره ما يسقطه، فهل يقبل أو لا يقبل؟
قال: «مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لا تَلْزَمُنِي وَنحوه لزمه الألف» لأن قوله: «له علي» إقرار، وقوله: «ولا تلزمني» رفع لهذا الإقرار، ولا يقبل أن يرفع ما أقر به، فلهذا نقول: يلزمه الألف.
ولكن لو أضاف الألف إلى شيء لا يثبت له عوض، مثل أن يقول: له علي ألف، ثمن ميتة، أو ثمن خمر، أو ثمن آلة لهو، وما أشبه ذلك، فهل هو كقوله: لا يلزمني، أو نقول: إن هذا ليس كقوله: لا يلزمني، لكن لا يلزم؛ لأن المعوض ليس له قيمة شرعاً؟
الجواب: الثاني، وهذا هو الأقرب أن يقال: إنه ليس كقوله: لا تلزمني؛ لإمكانه أن يبيع عليه خمراً، ثم يتوب ويقر قبل أن يسلم الثمن، وعليه فلو أضافه إلى خمر باعه عليه وهو ذمي فإنه يلزمه الألف؛ لأن هذا عوض عن شيء يصح التعويض عنه حيث كان في زمن الكفر.
فإن أقام بينة على أنه له عليه ألف، وأنه أوفاه إياه أو ما أشبه ذلك، بحيث يصح قوله: «لا تلزمني» ويكون قوله: «له علي ألف» باعتبار أول الأمر، وقوله: «لا تلزمني» باعتبار ثاني الحال فإذا أقام بينة بهذا فإنه يقبل.(15/504)
قوله: «وَإِنْ قَالَ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ» فهذا إقرار ودعوى، فالإقرار «كان له علي» والدعوى «وقضيته» فهل نقول: إن الرجل ثبت عليه الألف بإقراره ولم يثبت القضاء؛ لأنه ادعاه وعلى المدعي البينة؟ المؤلف يقول: لا يلزمه الألف؛ لأن هذا لا يتناقض فقد يكون له عليه وقضاه، فلما لم يكن قوله متناقضاً أخذنا بقوله.
قوله: «فقوله: بيمينه» أي: يحلف أنه قضاه ويبرأ، وهل يطالب بالبينة أنه قضى؟ لا يطالب؛ لأنه لم يلزم هذا الحق إلا بإقراره فوجب أن يكون على صفة ما أقر به، وهذا هو المذهب وهو الصحيح.
وقال بعض أهل العلم: بل إنه يكون مقراً مدعياً، فيلزمه ما أقر به ويطالب بالبينة بما ادعاه، يكون مقراً بالألف ومدعياً للقضاء، فيقال: أنت الآن لزمك الألف بإقرارك، هاتِ بينة على أنك قضيته، وهذا قول أبي الخطاب من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، ولكن المذهب في هذا أصح، وحجتهم ما سبق؛ ولهذا قال المؤلف:
«مَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ» فحينئذٍ يكون مدعياً للقضاء، فإن أتى ببينة عليه وإلا لزمه الألف؛ لأن الألف هنا ثبت ببينة، كما لو جاء شهود يشهدون بأن فلاناً استقرض من زيد ألف ريال، ثم قال زيد: كان له علي وقضيته، نقول: الآن لا نقبل قولك؛ لأن الأصل ثبت ببينة، فعليك البينة أنك قضيته، أما في الصورة الأولى فلم يثبت الأمر إلا من قِبَلك فلا يلزمك إلا ما أقررت به.(15/505)
قوله: «أَوْ يَعْتَرِفُ بِسَبَبِ الحَقِّ» فيقول: كان له علي ألف قرضاً، فنقول: إذا قلت: وقضيته، يلزمك الألف؛ لأنك أقررت بشيء يوجب الدين، وهو القرض، أو ثمن البيع، أو أجرة البيت أو ما أشبه ذلك، فصارت هذه المسألة لها ثلاث صور:
الأولى: أن يقول: كان له علي ألف فقضيته، ولا يثبت ببينة ولا يعزوه إلى سبب، فهنا القول قوله بيمينه أنه قضاه.
الثانية: أن يثبت أصل الألف ببينة ثم يدعي القضاء فلا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل ثبت بغير إقراره.
الثالثة: ألا يثبت ببينة، ولكن يعزوه إلى سبب، فيقول: له علي ألف قرضاً، أو ثمن مبيع، أو أجرة أو ما أشبه ذلك، فلما اعترف بسبب الحق اعترف أن في ذمته شيئاً لم يؤخذ عنه عوض، فالألف لزمته بإقراره بسبب الحق، وهو عوض عن شيء أخذه من المُقَرِّ له، بخلاف الذي هو مجرد إقرار فقط، فنقول في هذه الصورة: لا تقبل دعواه أنه قضى إلا ببينة، لأنه اعترف بسبب الحق، والسبب موجب بذاته كالبينة موجبة بذاتها، وحينئذٍ يلزمك أن تقيم بينة، أما في الأولى فإنه لم يعترف أن شيئاً دخل عليه، فقد يكون هذا هبة منه أو عدة أو غير ذلك.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتاً يُمْكِنُهُ الكَلاَمُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفاً أَوْ مُؤَجَّلَةً لَزِمَهُ مِائَةٌ جَيِّدَةٌ حَالَّةٌ» «زيوفاً» أي: معيبة؛ لأنها تقابل «جيدة» ، هذا رجل قال: له علي مائة درهم،(15/506)
وسكت سكوتاً يمكنه أن يتكلم، ثم قال: مؤجلة، أو قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: زيوفاً، يلزمه في المسألة الأولى مائة حالة، وفي المسألة الثانية مائة جيدة، فإن قال: له علي مائة ثم سكت، ثم قال: مؤجلة زيوفاً، يلزمه حالة جيدة، وكيف نلزمه بمائة حالة جيدة، والرجل وصف كلامه بضد ذلك، والمسألة لم تثبت إلا بإقراره، فلماذا لا نقول: إنه لا يلزمه إلا ما أقر به؟
فالجواب: أن يقال: إن الصفة يشترط لتخصيصها الموصوف أن تكون متصلة وهنا لم تتصل.
كذلك لو قال: له علي مائة، والمُقَرُّ له فقيه، ويعرف أنها مائة زيوف ومؤجلة لكن لما قال: له علي مائة، تكلم معه بكلام أجنبي، ثم قال: زيوف أو مؤجلة، فهل نقول هنا: إن الرجل تحيل عليه حتى جعله يفصل بين الموصوف والصفة؟ نقول: إذا علمنا أن الرجل تحيَّل عليه وتكلم معه بكلام أجنبي بهذا القصد، فإن هذه الصفة معتبرة وتخصص الموصوف.
ولو فرضنا أن الرجل عَيِيٌّ، إما تمتام، أو فأفاء، أو ما أشبه ذلك، وسكت، ونحن نشاهد أنه يريد أن يتكلم لكنه عجز فهنا الصفة معتبرة، لا يضرها هذا السكوت، ولهذا قال المؤلف: «يمكنه الكلام فيه» فعلم أنه إن لم يمكن فإن الصفة تقبل.
وهل إذا قال: «مائة مؤجلة أو مائة زيوف» ، هل هذا رافع لأصل المُقَرِّ به أو لوصفه؟
الجواب: لوصفه، ورفع الوصف ليس كإسقاط الأصل، ولهذا في المسألة الأولى في أول الفصل قلنا: لا يقبل قوله: «لا(15/507)
تلزمني» ؛ لأن ذلك رفع للأصل، أما هذا فهو رفع للوصف، ويسمى تخصيصاً لا رفعاً.
وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ أَوْ رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَجْحَدِ الإِقْرَارَ، وَسَأَلَ إِحْلاَفَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ،..............
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَأَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ الأَْجَلَ فَقَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ» إذا أقر مُقِرٌّ بدين مؤجل فأنكر المُقَر له الأجل، فعندنا أصلان متعارضان: أحدهما: أن الأصل الحلول دون التأجيل، والرجل أقر بدين وادعى أنه مؤجل، الثاني: أن المقِر غارم، والغارم قوله مقبول؛ لأنه مدعى عليه، فأي الأصلين نقدم؟ نقدم الثاني، وهو أن المُقِرَّ غارم، ويدل لصدقه أنه أقر، ولو شاء لأنكر؛ لأن المدعي ليس عنده بينة، فلو أن رجلاً قال: لي عند هذا الرجل مائة ريال، وقال: نعم، عندي لك مائة مؤجلة سنة أو إلى شهر، فهنا القول قول المُقِرِّ؛ لأن ذلك لم يثبت إلا بإقراره، وهو لم يقر إلا على هذه الصفة، فلم يلزمه أكثر مما أقر به، ثم هو في الواقع غارم، والغارم قوله مقبول، أما لو قال: بعت عليك شيئاً بمائة فقال: نعم، بعتنيه بمائة، ولكن الثمن مؤجل، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدم التأجيل، وهذا الرجل أقر بأنه باعه عليه، ولكنه ادعى أن الثمن مؤجل فلا يقبل.
وقوله: «فقول المقر مع يمينه» كل من قلنا: القول قوله فقوله بيمينه، لعموم الحديث: «البينة على المدعي واليمين على ما أنكر» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(15/508)
قوله: «وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَهَبَ، أَوْ رَهَنَ وَأَقْبَضَ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَجْحَدِ الإِْقْرَارَ، وَسَأَلَ إِحْلاَفَ خَصْمِهِ فَلَهُ ذَلِكَ» هنا عدة مسائل:
الأولى: إن أقر أنه وهب وأقبض، قال: إني وهبت هذا الكتاب زيداً وأقبضته إياه، وإنما أردف قوله: وأقبضته إياه؛ من أجل أن تكون الهبة لازمة؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، ولو قال: وهبته ولم يقل: وأقبضته، ما لزمت الهبة؛ لأن الواهب إذا لم يُقْبِض الهبة فله أن يرجع، فلو قال: يا فلان أنا وهبتك هذا الكتاب، ولكن ما أقبضه إياه فله أن يمنع الهبة، ولا يُقْبِضَها، ولكن إذا أقبضها صارت لازمة، فهذا الرجل أقر أنه وهب وأقبض، ثم بعد ذلك قال: ما أقبضت، وقال: حَلِّفوا الموهوب له أنه قبض؛ لأن الموهوب له يدعي أنه قابض من أجل أن تلزم الهبة، والمُقِر يدعي أنه لم يُقبض من أجل ألا تلزم، فقال المقِر: حلفوه أني أقبضته حتى تكون الهبة لازمة، يقول المؤلف: له ذلك، فإن قال الخصم: لا أحلف، كيف أحلف على شيء هو أقر به؟ ألم يقر أنه وهب وأقبض، إذن فلماذا تحلفونني على شيء أَقر به خصمي؟! فنقول: إن كان صادقاً أنه لم يُقْبضك فأنت حلفت واستحققت الموهوب له، وإن كنت صادقاً في أنه وهب وأقبض فاليمين لا يضرك؛ بل هو نافع لك على كل حال، فلماذا لا تحلف؟!(15/509)
والمسألة فيها خلاف لكن الكلام على المذهب يقولون: لأن العادة جرت بمثل هذا الأمر أن يقال: نكتب أنك وهبت وأقبضت؛ لئلا يبقى في المسألة تعلقات، فيقول: نعم اكتب أنني وهبت، وأقبضت، وهو ما أقبض، ولنفرض أنه وهبه بيته وهو ساكن فيه، وقال: أَقِرْ بأنك وهبت وأقبضت، فأقر أنه وهب وأقبض؛ لأجل أن تنتهي المسألة، ولا يكون فيها تعلقات، وهذه دائماً تقع، وتقع أيضاً في مسألة ثانية سيذكرها المؤلف إذا أقر أنه باع وقبض الثمن.
على كل حال يقول المؤلف: «إذا سأل إحلاف خصمه فله ذلك» ويحلفه القاضي، وإذا لم يحلف فقال بعض الأصحاب: يُقضى عليه بالنكول من غير رد اليمين على المُقِر، فيقال: ما دام أنك ما حلفت فليس لك شيء، ويحكم عليه بالنكول، ويقال للواهب: خذ ما وهبت ولا يلزمك شيء.
القول الثاني: أنها ترد اليمين على المُقِر، فيقال للمُقر: احلف أنك لم تُقْبِضه، وهذا القول أقيس، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أنه إذا نكل من عليه اليمين ردت على خصمه، وهذا من باب أولى؛ لأن خصمه ادعى أنه أقبض، ولا ترفع هذه الدعوى إلا إذا حلف الواهب بأنه لم يُقبض، ولا يضره شيء إذا حلف على شيء هو صادق فيه. فإن كان صادقاً فهو بار، وإن كان كاذباً فلن يحلف، فعلى كل حال: إذا حلف استحق، وإذا نكل فإنه لا يستحق الموهوب، أما رد اليمين على الواهب ففيها الخلاف المذكور، والراجح أن اليمين ترد على الواهب إذا تكل الموهوب له عن اليمين.(15/510)
الثانية: يقول: «رهن وأقبض» نقول فيها مثل الهبة، ولماذا أقر بالإقباض؟ لأن الرهن على المشهور من المذهب لا يلزم إلا بالقبض، يقبضه المرتهن، أو من يقوم مقامه، مثل لو اتفقا على أن يجعلاه عند رجل ـ وهو ما يعرف عند الفقهاء بالعدل ـ فالأمر ظاهر، المهم أقر بأنه رهن سيارته وأقبضها، إذن أقر برهن لازم، ثم إن المرتهن قال: أنا قابض السيارة والرهن لازم، فقال المقر: إنني لم أقبضك إياها، فقال: ألم تكن قد أقررت؟ قال: بلى، أقررت بأني رهنتك وأقبضتك، لكن الآن أنكرت الإقباض، فهل نقول: إن إنكاره غير مقبول؛ لأنه يرفع إقراره الأول، أو نقول: إنه مقبول؟ نقول: إنه مقبول؛ لأن الأمر ممكن، فقد يُقر بالرهن والإقباض من أجل أن يتم العقد، والإقباض لم يكن، وعلى كل حال، فالمرتهن يطالب بأن الرهن لازم؛ والراهن يقول: لم أقبضك فالرهن غير لازم، فإذا قال المقر: احلف أنني قد أقبضتك إياه فحلف، يلزم الرهن ويكون قابضاً، فإن أبى أن يحلف ترد اليمين على الراهن الذي ادعى أنه الذي أقر بأنه أقبض ثم أنكر، نقول: احلف أنك لم تقبضه فحلف، فلا يلزم الرهن؛ لأنه رهنٌ غير مقبوض، وقد سبق لنا أن القول الراجح: أن الرهن لا يشترط قبضه، وأنه يلزم بالتعيين، سواء قبض أم لم يقبض، وأن العمل عند القضاة منذ أزمنة على هذا، يرهن الإنسان سيارته لشخص وهو يستخدمها تحت يده، أو يرهن فلاحته وهو يشتغل فيها، أو يرهن بيته وهو ساكن فيه.
المسألة الثالثة: «أو أقر بقبض ثمن أو غيره» باع عليه بيته(15/511)
بعشرة آلاف ريال وذهب إلى كاتب العدل، وكان من عادة كاتب العدل ألا يكتب حتى يكون الثمن قد استلم؛ لئلا تبقى المسألة معلقة، فقال البائع: اكتب أنني بعت وقبضت الثمن كاملاً فكتب كاتب العدل، ثم بعد أسبوع أو عشرة أيام جاء البائع إلى المشتري وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، وبعد مدة جاء وقال: أعطني القيمة، قال: انتظر، ذهب وانتظر، وبعد مدة جاء قال: أعطني القيمة، فلما طالت المدة جاء إليه وقال: أعطني ثمن البيت عشرة آلاف، قال ـ أعوذ بالله ـ: ما تقول بهذا الصك، أتقدح بكاتب العدل؟! فبُهت الرجل؛ لأنه أقر بأنه استلم الثمن، ومن كاتب عدل ـ أي: من جهة مسؤولة ـ فسقط في يده، ماذا يصنع؟ قال: تعال أنا وأنت والقاضي، أو أحد الناس من أهل الخير والصلاح، احلف عندهم أنك أقبضتني، فله الحق أن يحلفه، فلما طلب تحليفه وقال: كيف أحلف على شيء وبيدي وثيقة من كاتب العدل أنك قابض الثمن، لو أحلف أنك قابض الثمن قالوا: هذا إنسان مجنون، يحلف على شيء ثابت لا يحتاج أن يحلف عليه!! قال: نعم، أنا أقررت بأنني قبضت الثمن ثقة بك، ولأجل أن ننهي المعاملة والإفراغ، والآن ما قبضت، فاحلف، فإذا أبى أن يحلف، فالقاضي يرد اليمين على البائع، ويقول: احلف أنك لم تقبض الثمن، فإذا حلف ألزم المشتري أن يدفع الثمن، وإن لم تحلف فإننا لا نحكم لك، ولولا أن العادة جرت بأن الإنسان يقر وهو ما قَبَضَ، لم نقبل رجوعك إطلاقاً؛ لأن هذا رجوع عن إقرار لآدمي، والرجوع عن الإقرار لآدمي غير مقبول.(15/512)
وهذه المسألة التي ذكرتُها واقعة، فقد كتب أحد أئمة المساجد ـ قبل أن تأتي كتابات العدل ـ بين بائع وامرأة باعت بيتها على هذا الرجل، وحضر الرجل، وقال للكاتب: إن شاء الله يأتي ولدها لديَّ في الدكان وأعطيه الثمن، اُكْتُب أن الثمن مقبوض، ولم يبقَ للبائع حق ولا عُلقة بالمبيع، وقال للمرأة: ما تقولين؟ قالت: نعم، إن شاء الله يفي، فكتب أنها باعت بيتها على فلان ابن فلان وقَبضَت الثمن تاماً، ولم يبقَ لها علقة بوجه من الوجوه، وهذه المرأة سليمة القلب، فلما كان العصر أرسلت ولدها إلى الرجل، قال: يا ولدي اليوم ما عندي شيء، ثم جاء ثانياً وثالثاً، وبعد مضي عدة أيام، قال: هذا كتاب فلان ابن فلان بأنكم قابضون الثمن، أبداً ما لكم شيء، فذهب الولد إلى أمه وأخبرها بالخبر، فالمسكينة سُقِط في يدها، فلما ترافعوا إلى القاضي وكان قاضياً حازماً ذا فراسة وعرف أن المرأة ضعيفة، وأن الإنسان مهما بلغ قد يغويه الشيطان، فقال للرجل: أعطني المكتوب، وإذا كتابة فلان ابن فلان وهو ثقة، ففكر وقال لهم: انصرفوا وتعالوا بعد يومين، وأخذ المكتوب ودعا الكاتب، وقال له: هذا خطك؟ قال: نعم، قال: هل رأيت الثمن معدوداً بيدها؟ قال: لا، لكن أقرت عندي، فلما أقرت كتبت: الثمن واصلاً، فقال: لا تَعُدْ، ولا تكتب أنه قبض الثمن إلا إذا شاهدت البائع قد قبضه، أما مجرد إقرار فلا، فصار في هذا مصلحة عامة، ولما جاء الغد قال للمشتري مباشرة: أما تخاف الله؟! تأكل حق هذه المرأة لما وثقت بك وأمنتك، اتق الله وخف من الله، فخوفه(15/513)
من الله، فقال: يا شيخ، الله يجزاك خيراً وينقذك من النار، الحقيقة أني ما أعطيتها شيئاً، فأخذ القاضي الورقة وقطعها أمامهم، وقال: اذهب أعطها حقها ويكتب الكاتب وهو يراك تَعُدُّ لها الثمن.
المهم أن هذه مسألة يمكن أن تقع، أن الإنسان يبيع ويقر بقبض الثمن وهو ما قبض شيئاً، فإذا طلب إحلاف المشتري فله ذلك، فإن نكل ردت على المقر وأخذ الثمن.
وقوله: «أو غيره» كصداق أو أجرة، فكل إنسان أقر بقبض شيء ثم أنكر القبض دون الإقرار فله إحلاف خصمه، فإن حلف استحق وإن لم يحلف ردت على المقر المنكر يعني المقر بالقبض، ثم أنكره، ثم انتقل المؤلف إلى مسألة أخرى فقال:
وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخِ الْبَيْعُ، وَلاَ غَيْرُهُ، وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ،.....
«وَإِنْ بَاعَ شَيْئاً، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَنْفَسِخ الْبَيْعُ، وَلاَ غَيْرُهُ وَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ» هذه ثلاث مسائل أيضاً:
الأولى: البيع: إذا باع شيئاً ثم قال: إن هذا ليس ملكاً لي، فلا يقبل قوله؛ لأن كل إنسان يستطيع أن يتحيل بعدما يبيع ملكه، ثم يقول: ليس ملكاً لي.
مثال ذلك: بعت على شخص سيارة وبعد أن بعت عليه، قلت: إن السيارة ليست ملكاً لي، وإنما قلت: هذا من أجل أن(15/514)
يبطل البيع؛ لأن من باع ملك غيره لم يصح البيع، فتعلق بالسيارة حقان: حق المشتري، وحق المُقَر له، فلو أننا قبلنا الإقرار وَفَيْنَا بحق المقَر له، لكن على حساب المشتري، ولو أننا أمضينا حق المشتري فإن حق المقَر له لا يضيع، ولهذا قال المؤلف: «ولم ينفسخ البيع» فيبقى البيع على ما هو عليه، ولكن يلزمني قيمة السيارة للمُقَر له؛ لأنني أقررت أن هذه السيارة له، وأنى تصرفت فيها، وليست ملكاً لي، فيلزمني ضمانها.
فإذا قال قائل: لماذا لا يفسخ البيع؟ فالجواب: لأنه إقرار على حق الغير، فإن المشتري ملك السيارة ظاهراً فلا يقبل إقراره عليه.
لكن إذا صدق المشتري البائعَ فحينئذٍ ينفسخ البيع؛ لأن المشتري أقر بأنه ليس له حق في السيارة، إذ إن البائع باع عليه ما لا يملك، وهذه الصورة الأولى التي ينفسخ فيها البيع.
والصورة الثانية: إذا أتى البائع ببينة قال: أنا آتي ببينة أنها ذلك اليوم الذي بعتها فيه عليك كانت لفلان فإنه ينفسخ البيع.
فصار الرجل إذا باع على غيره شيئاً ثم ادعى أنه كان ملكاً لغيره، فإن أتى ببينة قبلت البينة، وانفسخ البيع، وإن لم يأت ببينة فإن صدقه المشتري انفسخ البيع، وإن لم يصدقه لم ينفسخ، وبقي البيع على ما هو عليه، ولزم المُقِرَّ الضمانُ للمُقَرِّ له، وهذا لا شك أنه عين المصلحة؛ لأن بعض من لا يخاف الله ـ عزّ وجل ـ إذا باع شيئاً، وندم على بيعه، وعرف أنه لا طريق له إلى فسخ البيع، أتى برجل وقال: أريد أن أقر بأن المبيع لك؛ من أجل أن ينفسخ البيع، أو يقول له أكثر من هذا، يقول: ادَّعِ عليَّ أن السيارة التي(15/515)
بعتُها لك، وأتخاصم أنا وإياك أمام الناس وتذهب للقاضي، والقاضي إذا وَجَّهْتَ الدعوى إليَّ سوف يقول: ما جوابك؟ سأقول: جوابي: أن السيارة له، وأني معتدٍ، وبعتها على فلان، ولهذا نقول: لا يمكن أن نبطل حق هذا الرجل المشتري الذي سلم الثمن، وأنهى كل شيء لمجرد إقرار هذا الرجل، لكن إذا أتى ببينة قبلت وانفسخ البيع، وإذا صدق المشتري كذلك انفسخ البيع؛ مؤاخذة له بإقراره؛ لأنه هو الذي اعترف بأن البيع غير صحيح.
المسألة الثانية: الهبة: بعد أن وهب هذا الشيء وأقبض كأنه ندم على الهبة، وقال: إن رجعت في هبتي ما أتمكن؛ لأن الهبة مقبوضة، ولكن سأقر بأن هذه العين ملك لغيري، نقول: لا يقبل قولك إلا ببينة أو تصديق من الموهوب له.
المسألة الثالثة: العتق: كذلك بعد أن أعتق عبداً وكتب وثيقة بعتقه، قال: العبد ليس لي، العبد لفلان، فإن صَدَّقَ العبدُ فالعتق لا ينفذ، وإن كذَّب نفذ العتق، ولزمته غرامتُه للمُقَرِّ له، وإذا ثبت ببينة أنه ليس له كذلك لا ينفذ العتق بل يبطل العتق؛ لأنه ثبت أنه ليس ملكه.
وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُلْكُهُ، أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ.
قوله: «وَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ مُلْكِي ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ» لأنه يمكن أن يكون حين البيع ليس ملكاً له، ثم اشتراه من صاحبه بعد، فإذا أقام بينة بذلك قبلت.
قوله: «إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهَ مُلْكُهُ أَوْ أَنَّهُ قَبَضَ ثَمَنَ مُلْكِهِ لَمْ يُقْبَلْ»(15/516)
يعني ولو ببينة، فهذا رجل باع هذا الشيء، وبعد أن باعه قال: لم يكن ملكي حين البيع، وأقام بينة على ذلك فإنه يقبل، والبيع ينفسخ، إلا إذا كان قد أضافها لنفسه وقال للمشتري: أتشتري سيارتي؟ أو قال للناس: بعت على فلان سيارتي، أو قال: هذه ملك لي يا فلان أتشتريها؟ فهنا لا يقبل قوله أنها لغيره ولو أقام بينة؛ لأن قوله: «ملكي» يكذب البينة، فالبينة تقول: ليس ملكه، وهو يقول: هو ملكي، والبينة إنما تؤيد المدعي وليست تكذبه، فالآن هو نفسه يكذب البينة فلهذا لا تقبل، ولذلك إذا أراد أن يبيعها فإنه يقول للمشتري: تشتري هذه السيارة ولا يقول: سيارتي.
إذن حصراً لهذه المسألة نقول:
أولاً: الشيء الذي ينفسخ به البيع مطلقاً إذا صدق المشتري البائع؛ لأن المشتري يقر بأنه لا حق له في هذا المبيع.
ثانياً: لا يقبل مطلقاً إذا أضاف البائع المبيع لنفسه، بأن قال: هذا ملكي، أو هذه سيارتي، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يقبل ولو ببينة؛ لأنه هو نفسه يكذب البينة، هاتان حالان متقابلتان.
ثالثاً: إذا لم يضفه إلى نفسه، وأتى ببينة فالبينة مقبولة، ولكن كيف لا يضيفه إلى نفسه؟ يقول في عرضه للبيع: أتشتري هذه السيارة؟ من يشتري هذه السيارة؟ وما أشبه ذلك، فلا يقول: سيارتي أو ملكي، فحينئذٍ إذا ادعى أنها ملك غيره، فإن أقام بينة قبلت وانفسخ البيع، وإن لم يقم بينة لم يقبل قوله ولم ينفسخ البيع، لكن بقينا في المُقَرِّ له فيلزمه له غرامة هذا الشيء الذي باعه؛ لأنه فوَّته عليه.
* * *(15/517)
فَصْلٌ
إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، أَوْ كَذَا، قِيلَ لَهُ: فَسِّرْهُ، فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ، فإِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ أَوْ بِأَقَلِّ مَالٍ قُبِلَ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِمَيْتَةٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشْرِ جَوْزَةٍ لَمْ يُقْبَلْ،....
هذا الفصل عقده المؤلف للإقرار بالشيء المجمل المبهم، والتابع لغيره.
قوله: «إِذَا قَالَ لَهُ: عَلَيَّ شَيْءٌ» «شيءٌ» كلمة، مطلقة مجملة، غير مبينة، ما ندري هذا الشيء؟
قوله: «أو كذا» أي: قال: له عليَّ كذا، وكلمة «كذا» أو «كذا كذا» ـ أيضاً ـ مجملة غير مبينة، فهنا ثبت إقرار، ولم يُبِيَّن المُقَرُّ به، فماذا نصنع؟ قال المؤلف:
«قِيلَ لَهُ: فَسِّرْهُ» أي قيل للمقر: فسره، ما هذا الشيء الذي قلت: إنه لفلان عليك؟ قال: الشيء الذي له علي مائة درهم، فيلزمه مائة درهم، أو قال: له علي كذا، قيل: فسِّر هذا المبهم، قال: مائة دينار، فيلزمه مائة دينار، فإن ادعى المُقَر له أنه مائة دينار في المسألة الأولى، ومائتا دينار في المسألة الثانية، فإن أتى ببينة، وإلا فالقول قول المقر؛ لأنه غارم ولم يثبت الحق إلا من قِبَلِه، فكان مرجع تفسيره إليه.
قوله: «فَإِنْ أَبَى حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ» يعني منع من الذهاب والمجيء حتى يفسره؛ لأنه لما قال: له علي كذا، تعلق به حق للغير، وهذا الحق مبهم فيجب عليه أن يفسره.
فإذا فسره فتارة يقبل تفسيره، وتارة لا يقبل، فإن فسره بأمر يعتبر ويُقَرُّ به عادة ويلتزم به الإنسان لغيره قبل؛ ولهذا قال:(15/518)
«فَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ أَوْ بِأَقَلِّ مَالٍ قُبِلَ» إذا فسره بحق شفعة قبل، مثال ذلك: بعتُ نصيبي من هذه الأرض على زيد، وشريكي عمرو، فقال زيد الذي اشترى نصيبي لعمرو: لك علي شيء، قيل له: ما الشيء الذي لي عليك؟ قال: حق الشفعة، والشفعة أن عمرواً له الحق أن ينتزع ما بعته على زيد فإذا فسره بحق الشفعة قبل.
أو فسره بحق خيار قُبِل، مثاله: اشترى زيد من عمرو سلعة على أن للمشتري الخيار ثلاثة أيام، فقال البائع: له علي شيء، قلنا: فسره، قال: حق خيار، يصح؛ لأن هذه حقوق تتعلق بالأموال.
وإذا فسره بأقل مال قبل، قال: له علي شيء، قلنا: فسره، قال: خمس وعشرون هللة، يصح؛ لأنها تعتبر مالاً.
قوله: «وَإِنْ فَسَّرَه بِمَيْتَةٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشر جَوْزَةٍ لَمْ يُقْبَلْ» قال: له عندي شيء، أو له علي شيء، قلنا: ما هو؟ قال: جيفة شاة، لا يقبل هذا؛ لأنها غير متموَّلة فلا تثبت في الذمة، أو فسره بخمر فلا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، فليس بمال شرعي، أو فسره بقشرة جوزة، والجوز معروف، قال: له عندي شيء، ما هذا الشيء؟ قال: قشرة جوزة، هذا لا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، قال: عندي له شيء، فقيل: ما هو؟ فقال: حبة ذرة، فلا يقبل؛ لأنه غير متموَّل، مع أنه بالإمكان أنه يبذر هذه الحبة وتأتي بسبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، لكن نقول: هذه ما جرت العادة(15/519)
بأن الإنسان يلتزم لغيره بمثلها، ولو فسره بتمرة فالظاهر أن هذه يرجع فيها للحال الواقعة، فمثلاً إذا كنا في زمن مجاعة ـ نسأل الله السلامة ـ فالتمرة لا شك أنها شيء، وكم أنقذت من عاطب وهالك، أما إذا كان في زمن رخاء فإنها ليست بشيء، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (1) .
الخلاصة: إذا فسره بما يتمول قُبِل، وإذا فسر بما لا يتمول عادة كقشر الجوزة، أو شرعاً كالخمر، أو لخبثه والرغبة عنه كالميتة فإن ذلك لا يقبل، ولهذا نقول: الميتة غير متمولة من أجل خبثها والرغبة عنها، وإلا فمن الممكن دبغ جلدها، ويطهر بالدبغ، فيمكن أن تكون متمولة.
وكذلك إذا لم يكن من الحقوق المالية، ولا يتعلق بالمال فلا يقبل تفسيره به، فلو قال: له علي شيء، فقيل: فسره؟ قال: له علي إذا عطس فحمد الله أن أقول له: يرحمك الله، أو له علي إذا سلم أن أرد السلام، نقول: هذا لم تجرِ العادة بالإقرار به والتزام الإنسان إياه في ذمته، وعلى هذا فلا يقبل تفسيره بذلك، إنما يقبل في المال والحقوق المالية كحق الشفعة.
قوله: «وَيُقْبَلُ بِكَلْبٍ مُبَاحٍ نَفْعُهُ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ» فإذا قال: له علي شيء، قيل: فسره، قال: كلب صيد، أو كلب ماشية، أو كلب حراسة، فيقبل؛ لأنه يجب رده على صاحبه، فلو أن أحداً
__________
(1) أخرجه البخاري/ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة ... (1417) ، وأخرجه مسلم في الزكاة/ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ... (67) (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.(15/520)
غصب كلباً مباح النفع وجب عليه أن يرده إلى صاحبه، وإن كان لو أتلفه لم يضمن، لكن من أجل انتفاع صاحبه به يجب عليه رده.
كذلك يقبل بحد قذف؛ لأن هذا حق لآدمي فهو كالحق المالي، فإذا قال: له علي شيء، قيل: ما هو؟ قال: حد قذف؛ لأنني قذفته، وحقه عليَّ أن أجلد ثمانين جلدة، فهذا يقبل.
وقيل: إنه لا يقبل أي: في الأمرين جميعاً، قالوا: لأنه لا يتموَّل.
وإن ادعى المُقَر له شيئاً، قيل له: أثبت البينة، وإلا فلا شيء لك.
قوله: «وَإِن قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رجع في تفسير جنسه إليه» «ألف» عدد مبهم، لا يعرف جنسه، نقول: فسره، ألف درهم؟ ألف دينار؟ ألف ثوب؟ فنرجع في تفسيره إليه.
قوله: «فَإِن فَسَّرَهْ بِجِنْسٍ أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَ مِنْهُ» بجنس واحد بأن قال: ألف دينار، فإذا قال: ألف دينار ودرهم فهذان جنسان، لكن هل نقول: يلزمه في هذا المثال ألف دينار وزيادة درهم، أو نقول: ألف دينار ودرهم، يعني ألف من الدنانير والدراهم؟ الظاهر الأول ألف دينار ودرهم، لكن لو قال: ألف دنانير ودراهم، فحينئذ يلزمه من الجنسين ما لا يزيد على الألف، ولكن نقول: إذا لم يبين النسبة فهما أنصاف يعني مناصفة، فيلزمه خمسمائة دينار وخمسمائة درهم، ومثله ـ أيضاً ـ ألفٌ قمصٌ(15/521)
وسراويل، أما ألف قميص وسروال، فكالأولى، يعني يلزمه ألف قميص زائداً السروال.
وَيُقْبَلُ بِكَلْبٍ مُبَاحٍ نَفْعُهُ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ رُجِعَ فِي تَفْسِيرِ جِنْسِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِجِنْسٍ أَوْ أَجْنَاسٍ قُبِلَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةٍ لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ قَالَ: مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ،.....
قوله: «وإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ وَعَشَرةٍ لَزِمَهُ ثَمَانِيَةٌ» لأن الذي بين الواحد والعشرة ثمانية.
قوله: «وإن قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلى عَشَرَةٍ أو مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةً» هاتان صورتان ما بين درهم إلى عشرة هذه صورة، والثانية من درهم إلى عشرة يلزمه تسعة، الصورة الثانية الأمر فيها ظاهر؛ لأنه ذكر ابتداء الغاية وانتهاءها، وابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها، فالدرهم داخل والعشرة خارجة، فيلزمه تسعة.
لكن قوله: ما بين درهم إلى عشرة مشكل؛ لأنك إن قلت: إن انتهاء الغاية خارج أخرجت العشرة، والبينونة تقضي أن الطرفين خارجان، فإذا قال: ما بين درهم إلى عشرة، فعلى القاعدة يلزمه ثمانية، وهذا أحد القولين في هذه الصورة، أنه إذا قال: ما بين درهم إلى عشرة لا تلزمه إلا ثمانية؛ لأن «درهم» الأول خرج و «عشرة» خرجت؛ لأن «إلى» للغاية، وما بعدها غير داخل، لكن الذين يقولون بأنه تلزمه تسعة، يقولون: إن الغاية لا يدخل فيها المُغَيَّا إذا ذكر الابتداء، يعني إذا جاءت «من» ، أما إذا لم يذكر الابتداء فإن المُغَيَّا داخل، وعلى هذا نقول: «ما بين درهم» يخرج الدرهم وتدخل العشرة، فيلزمه تسعة، واستدل(15/522)
بعضهم بأن المرافق داخلة في الغسل في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] ؛ لأنها لم تذكر «من» ، فلما قال: إلى المرافق بدون ذكر ابتداء الغاية، صارت الغاية داخلة.
وينبغي أن يقال: إن مسألة الإقرارات يرجع فيها إلى العرف لا إلى ما تقتضيه اللغة؛ لأن الإقرارات مبنية على ما يتعارفه الناس في عاداتهم ونطقهم، وقد سبق لنا في كتاب الأيمان وفي كتاب الوصايا أن العرف مقدم على الحقيقة اللغوية، فإذا كان عرف الناس أنه إذا قال: له ما بين درهم إلى عشرة، يعني ثمانية، فإنه يلزمه ثمانية، وإذا قال: ما بين درهم إلى عشرة، يعني أنه لا يدري فهو من ريال إلى عشرة، فهنا لا يلزمه إلا ما عيَّنه المتكلم، وهذه تقع كثيراً، يقول: أنا لست متأكداً، فإنه يجب له علي شيء، لكنه من ريال إلى عشرة، فقد يكون ريالاً، ريالين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، أو عشرة، فيرجع في هذا إلى العرف، ولهذا لو أراد مجموع العدد في قوله: من درهم إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون، فصارت المسألة الآن مبنية على ما يراد، وعلى ما جرى به العرف، فعندنا ثلاث مراتب، ما أراده، وما جرى به العرف، ثم بعد ذلك الحقيقة اللغوية، وهذا هو الصحيح في هذه المسائل.
قوله: «وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ لَزِمَهُ أَحَدُهُما» لأن «أو» للشك لم تعين أحد الأمرين، فيرجع في التعيين إلى نفس المقر، مثاله: سئل رجل: ما الذي يطلبك فلان؟ قال: ما أدري، إما درهم أو دينار، نقول: يرجع في التعيين إلى المقر، ومن(15/523)
الناحية العملية لو قال المقر له: أنا متأكد أنه دينار، فالورع في هذا الباب أن يدفع له ديناراً؛ لأنه هو شاكٌّ وصاحبه متيقن، لا سيما إذا كان المقر له رجلاً صدوقاً ثقة وأميناً، فإنه يتأكد عليه حينئذ أن يدفع إليه الدينار.
وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَوْ دِيْنَارٌ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ، أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ، وَنَحْوُهُ فَهُوَ مُقِرٌّ بِالأَْوَّلِ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله: «وإن قَالَ: لَهُ عَلَيَّ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ، أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ، أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ ونَحْوُه فهُوَ مُقِرٌّ بِالأَوَّلِ» إذا قال: له علي تمر في جراب، والجراب وعاء يجعل فيه التمر، فهل هو مقر بالجراب، أو بالتمر وحده أو بهما جميعاً؟ يقول: بالأول أي: بالتمر، فإذا قال: له علي تمر في جراب، قلنا: ما عليك إلا التمر، ثم عيِّن التمر كثيراً أو قليلاً؛ لأنه كثيراً ما تجري العادة بأن يأتي الإنسان بتمر من شخص يسرقه أو يأخذه خطأ أو ما أشبه ذلك، ويضعه في جراب عنده، هو مالكه.
أو «سكين في قراب» يلزمه السكين فقط، أما القراب فلا؛ لأنه ربما يأخذ سكين شخص خطأ، أو سرقة، أو غصباً ثم يضعها في قراب عنده، وهذا كثير، فهو لا يقر إلا بالأول، بخلاف ما لو قال: سيف في قراب، فإنه مُقِرٌّ بهما جميعاً، والفرق أن القراب ملازم للسيف غالباً أو دائماً ولا تكاد تجد سيفاً صلتاً، لكن السكين غالباً أنه في غير قراب، مثل ما لو قال: سكين في كرتون، لا يدخل الكرتون، أو سكين في صندوق، فما يدخل الصندوق، إذن هناك فرق بين الملازم وغير الملازم.(15/524)
«أو فص في خاتم ونحوه فهو مقر بالأول» وهو الفص، والخاتم غير مقر به؛ لأنه ربما يسرق فصاً ويضعه في خاتمه، وهذا كثير، ولأن الفص تابع للخاتم ولا عكس، فلو قال: خاتم في فص، يمكن أن نجعل «في» بمعنى «مع» ، فيلزمه خاتم ذو فص، وإذا قال: خاتم فيه فص يلزمه الأمران، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *
انتهت بفضل الله تعالى وعونه وتوفيقه الدروس العلمية التي عقدها فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين المتوفى رحمه الله تعالى عام 1421هـ لشرح كتاب «زاد المستقنع في اختصار المقنع» لمؤلفه الشيخ الفقيه الفاضل شرف الدين أبو النجا الحجاوي المتوفى رحمه الله تعالى عام 960هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(15/525)