فَصْلٌ
وَنَفَقَةُ المُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَكِسْوَتُهَا، وَسُكْنَاهَا، كَالزَّوْجَةِ، وَلاَ قَسْمَ لَهَا،.....
قسّم المؤلف المعتدات إلى ثلاثة أقسام: قسم كالزوجة وهي الرجعية، وقسم على ضدها من كل وجه، وهي المتوفى عنها، وقسم فيه تفصيل، وهي البائن بفسخ أو طلاق، فالرجعية كالزوجة لها النفقة، والبائن بموت لا نفقة لها، والبائن بحياة لها النفقة إن كانت حاملاً وإلا فلا، وهذا التقسيم حاصر، لا يخرج عنه شيء.
والرجعية هي التي طلقها زوجها في نكاح صحيح، على غير عوض، بعد الدخول أو الخلوة، دون ما يملك من العدد، فشروطها خمسة، يقول المؤلف:
«ونفقة المطلقة الرجعية، وكسوتها، وسكناها كالزوجة» أي: أن نفقتها، وكسوتها، وسكناها، كالزوجة، والدليل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] .
وجه الدلالة من الآية أن الله سمى المطلقين بعولة، والأصل في الإضافة الحقيقة، فإذا قلت ـ مثلاً ـ: هذه دار زيد، فالأصل أن الدار له، إلاّ بدليل على أنها مستأجرة، أو مُعارة، أو غير ذلك، وعليه فالمطلقات الرجعيات في حكم الزوجات.
قوله: «ولا قسم لها» أي: أن الزوج إذا كان له زوجات أُخَر، وطلق واحدة منهن طلاقاً رجعياً، فإنه لا يجب لها عليه القسم.(13/463)
وهل تفارق غيرها في غير هذه المسألة؟ تقدم لنا أنها تفارق غيرها في مسائل منها:
الأولى: أنها لا تستحق من الوقف إذا كان موقوفاً على امرأة غير مزوجة، فإنها إذا طلقت لا نقول: إنها الآن تستحق؛ لأنها غير مزوجة.
الثانية: أنها إذا تزوجت من أجنبي فإنها تسقط حضانتها، فإذا طُلِّقت رجعت.
وَالْبَائِنُ بِفَسْخٍ، أَوْ طَلاَقٍ لَهَا ذلِكَ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً،....................
قوله: «والبائن بفسخ» أنواع الفسوخ كثيرة، منها: أن تفسخ لفوات شرط، مثاله: امرأة شرطت على زوجها ألاّ يتزوج عليها فهذا شرط صحيح، فإذا تزوج عليها فلها الحق أن تفسخ العقد، ولما قيل لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين: كيف تفسخ العقد؟ قال: مقاطع الحقوق عند الشروط (1) ، أي: ينقطع حقها عند شرطها، فإذا فسخت العقد تكون بائناً، لا يحل لزوجها أن يراجعها، إلا أن يعقد عليها عقداً جديداً.
مثال آخر: رجل اشترط لزوجته مهراً مؤجلاً إلى شهر، فمضى الشهر وأعسر الرجل بالمهر، فهل لها الفسخ؟ تقدم أن لها الفسخ، فإذا فسخت تكون بائناً، والحاصل أن كل فرقة بغير طلاق فهي فرقة بينونة.
__________
(1) علقه البخاري في الشروط، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/211) ، وابن أبي شيبة في المصنف (3/499) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/249) ، والأثر وصله الحافظ في تغليق التعليق (3/403) ، وصححه الألباني كما في الإرواء (6/302) .(13/464)
ومنها أن تفسخ لعيب الزوج، ومنها أن تفسخ لإعسار في صداق، وله أسباب أخر.
قوله: «أو طلاق» البائن بطلاق، كأن يكون بعوض، أو يكون آخر ما يملك من العدد، والفرق بين من طلقت على عوض وبين من طلق آخر العدد، أن من طلقت آخر العدد لا تحل للمُطلِّق إلاّ بعد زوج، ومن طُلقت على عوض تحل له بعقد جديد، وكلتاهما لا يحل لها التزين للزوج، ولا الخلوة به، ولا أن ينظر الزوج إليها، ولا أن يسافر بها.
قوله: «لها ذلك إن كانت حاملاً» أي: للبائن بفسخ أو طلاق النفقة إن كانت حاملاً، وإن لم تكن حاملاً فلا شيء لها، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وأما التعليل فلأنها تحمل للمُفارِق جنيناً يجب عليه أن ينفق عليه، ولا طريق إلى الإنفاق على الجنين إلاّ بالإنفاق على أمه، وليس لها كذلك سكنى إلا أن تكون حاملاً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
القول الثاني: أنَّ لها النفقة والسكنى بكل حال سواء كانت حاملاً أم حائلاً، وهو مذهب أبي حنيفة.
القول الثالث: أنَّ لها السكنى دون النفقة، إلاّ أن تكون حاملاً، وهذا مذهب مالك والشافعي.
أما من قال: إن لها النفقة والسكنى بكل حال، فاستدل بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، و «النساء» عام إلى أن قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ(13/465)
مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
ولكن هذا القول فيه نظر من حيث دلالة الكتاب، ومن حيث معارضته للسنة، وإن كان هذا القول ذهب إليه من ذهب كعمر رضي الله عنه.
أما من حيث دلالة الكتاب فإن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصَوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يُخْرَجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا *} [الطلاق] فهذه الجملة الأخيرة تمنع دخول البوائن في هذا العموم، ووجه المنع أن الأمر الذي يقول الله فيه: {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} هو الرجعة، والبائن ليس لها رجعة.
وأما مخالفته للسنَّة فلأن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، وأرسل إليها بشعير فسخطته، وأبت إلاّ أن يكون لها السكنى، فارتفع الأمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «إنه ليس لها نفقة ولا سكنى» (1) ، وفي رواية: «إنما السكنى والنفقة لمن كان لزوجها عليها رجعة» (2) ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق/ باب قصة فاطمة بنت قيس ... (5321) ، ومسلم في الطلاق/ باب المطلقة البائن لا نفقة لها (1480) (37) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه النسائي في الطلاق/ باب الرخصة في ذلك (6/144) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.(13/466)
وهذا واضح جداً، لكنهم أجابوا على هذا بأن الله إنما قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ} ؛ لأنه ربما يطول الحمل فلا ينفق الإنسان إلاّ مقدار ثلاث حيض فقط.
لكن هذا الجواب جواب بارد؛ لأن الحامل لا تزال في عدة حتى تضع الحمل، طالت العدة أم قصرت.
أما الذين قالوا: إن لها السكنى دون النفقة، إلاّ أن تكون حاملاً، فقالوا: إن الآية ظاهرة في ذلك، فأول الآيات لا شك أنه في الرجعية لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1، 2] ، وهذا التخيير لا يمكن في البائن.
ثم قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا *} [الطلاق] إلى هنا انتهى الكلام على الرجعية، ثم ذكر عدة الحوامل وعدة الآيسات فقال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق] وهذا(13/467)
في البائن، فلها السكنى بكل حال، والنفقةُ إن كانت حاملاً، ولا يدخل فيه الرجعيات هنا؛ لأن الرجعيات ما قال الله: {أَسْكِنُوهُنَّ} ، بل قال الله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} بل يبقين في بيوتهن، فإن النهي عن الشيء أمر بضده، فتكون دلالة وجوب السكنى للرجعية من قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أوضح من قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فإن قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} قد يكون لمن ليست في البيت، فيقال لها: تعالي واسكني، أما الرجعية فهي في البيت.
وقالوا: إنما أمر الله بإسكانها في البيت تحصيناً لِمَائِه، ولم يجعل عليه نفقة؛ لأنها بائن منه، فيكون الأمر بالإسكان لا لأنه حق لها، ولكن من أجل تحصين مائه، ولهذا قال العلماء في قوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} : «مِنْ» للتبعيض، و «حيث» : ظرف للمكان، يعني أسكنوهن بعض ما سكنتم، أي: عندكم في البيت، ولا تُكَلَّفُونَ أكثر من ذلك، بل من وُسعكم.
ودلالة القرآن على هذا القول قوية جداً، لكن يعكر عليه حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها حيث قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لك نفقة ولا سكنى» ، وهذا نص صريح.
لكن قد ورد في صحيح البخاري (1) أنها رضي الله عنها كانت في بيتٍ وحشٍ، فأرادت الانتقال عنه خوفاً على نفسها، وفي هذه الحال لا يلزم الزوج بأن يستأجر لها ما تسكنه، فيكون معنى قوله: «ليس لك عليه سكنى» ، أي: لا تلزمينه بأن يسكنك
__________
(1) في الطلاق/ باب قصة فاطمة بنت قيس.. (5325) عن عائشة رضي الله عنها.(13/468)
في بيت غير البيت الأول، وفي هذا جمع بين الآية الكريمة وبين الحديث، وهذا لا شك أنه ـ في نظري ـ أقرب الأقوال، لأنه ظاهر سياق القرآن، وإن كانت المسألة لم تتضح عندي بعد، ولم أجزم فيها برأي، وإن كان ابن القيم رحمه الله يلح على أن الآيات كلها في الرجعيات، لكنه بعيد جداً؛ إذ أن الرجعية ينفق عليها سواء كانت حاملاً أو حائلاً، والرجعية لا يقال: أسكنها حيث سكنت بل يقال: لا تخرجها من بيتها، فإن صح هذا التوفيق بين القرآن والسنة فالحمد لله، وهو المتبادِر ـ والعلم عند الله ـ وإن لم يصح فإن القول بأنه لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً أقرب من القول بأن لها النفقة والسكنى بكل حال؛ لأن القول بأن لها النفقة والسكنى بكل حال قول ضعيف جداً، وإن كان قد ذهب إليه من ذهب من أكابر السلف.
والعجيب أن أهل التفسير ـ رحمهم الله ـ يمرون على هذه المسألة ولا يذكرون سوى أقوال المذاهب فقط، أي: لا يأتون بالآية ومناقشاتها، وأحسن من رأيت تكلم عليها هو ابن القيم ـ رحمه الله ـ في «الزاد» ، لكنه يرجح ما ذهب إليه الإمام أحمد.
مسائل:
الأولى: هل ينفق الزاني على المزني بها إذا حملت من الزنا؟
الجواب: لا ينفق عليها، وهذا لا يستثنى من القاعدة؛ لأن الحمل لا ينسب إلى هذا الزاني.
الثانية: هل تدخل الكسوة في وجوب الإنفاق؟(13/469)
الجواب: نعم؛ لعموم قوله: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ، ولأنها في الحَرِّ والشتاء ستحتاج إلى الملابس، ولا يمكن أن تعيشَ عارية!
الثالثة: إذا أنفق عليها ثم تبين أنها ليست بحامل فما الحكم؟
الجواب: يرجع عليها بالنفقة.
وَالنَّفَقَةُ لِلْحَمْل لاَ لَهَا مِنْ أَجْلِهِ، وَمَنْ حُبِسَتْ وَلَوْ ظُلْماً، أَو نَشَزَتْ، أَوْ تَطَوَّعَتْ بِلاَ إِذْنِهِ بِصَوْمٍ،...............................
قوله: «والنفقة للحمل لا لها من أجله» هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فمنهم من يقول: إن النفقة للحامل من أجل الحمل.
ومنهم من يقول: إن النفقة للحمل، لا للحامل من أجله، وهل الخلاف معنوي أو لفظي؟ الخلاف معنوي، ولننظر أي القولين أسعد بالدليل؟
الذين قالوا: إن النفقة للحامل من أجل الحمل قالوا: إن الله يقول: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، ولم يقل: أنفقوا على الحمل وعلى هذا فتكون النفقة للحامل من أجل الحمل.
والذين قالوا: إنها للحمل، قالوا: إن ما كان علة للحكم يكون هو محل الحكم، وعلة الحكم ليست كونها مُطَلَّقة أو مفسوخةً، بل علة الحكم أن فيها حملاً، فيكون الحكم تابعاً لعلته؛ ولهذا قال تعالى: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} مع أنهن بعد الولادة مباشرة قد يَكُنَّ محبوسات على الحمل للتعب والوجع والإرضاع، ومع ذلك فإذا وضعت الحمل فلا نفقة، فدل هذا على أن النفقة للحمل، لا لها من أجله.(13/470)
ويدل على ذلك أيضاً أنها إذا لم تكن حاملاً فليس لها شيء، فالحمل الذي هو سبب الوجوب تكون النفقة له، وهذا القول أرجح، لكنه لما كان لا طريق لنا إلى إيصال النفقة إلى الحمل إلاّ عن طريق تغذيته بالأم، صار الواجب الإنفاق على هذه الأم من أجل الحمل، والقاعدة في ذلك أن كل إنسان ينسب إليه حمل امرأة يجب عليه الإنفاق عليها، سواء كانت زوجة أم غير زوجة، وبناء على ذلك لو وطئ امرأة بشبهة وحملت منه وجب عليه الإنفاق، ولو أنه أعتق أمته بعد أن حملت منه وجب عليه الإنفاق، مع أنه إذا أعتقها زال سبب وجوب النفقة؛ لأنها ليست زوجة ولا مملوكة، لكن من أجل أن الحمل الذي في بطنها له.
ويترتب على هذا الخلاف أمور، منها:
زكاة الفطر، مثاله: امرأة بائن حامل مر عليها رمضان وجاء العيد فالذي ينفق عليها الزوج، فهل يجب عليه فطرة الحامل؟
ينبني على الخلاف، إذا قلنا: إنَّ النفقة للحمل، لم تجب عليه الفطرة، وإذا قلنا: إن النفقة لها وجبت عليه الفطرة؛ لأن الحمل لا يجب إخراج الفطرة عنه، وإنما يستحب، على خلاف في ذلك، أما إن قلنا: إن النفقة للأم، فالأم حية تأكل وتشرب، فيجب عليه فطرتها.
ومنها لو كانت الزوجة ناشزاً وهي حامل فهل لها نفقة؟ ينبني على الخلاف، إن قلنا: النفقة للحمل وجب لها النفقة؛ لأن الحمل ليس بناشز، وإن قلنا: إن النفقة لها، سقطت نفقتها؛ لأنها ناشز.(13/471)
قوله: «ومن حبست ولو ظلماً» الحبس إما أن يكون بحق يمكنها الخلاص منه، أو لا، فإن كان بحق، وكانت ظالمة يمكنها أن تتخلص منه، فلا شك أن نفقتها تسقط، كأن تكون مدينة لشخص، وهي غنية وما طالت، فشكاها فحبست بحق، فهذه تسقط نفقتها؛ لأنها لو شاءت لتخلصت.
لكن لو حبست ظلماً، كأن تكون اتهمت بشيء ـ مثلاً ـ وهي بريئة، فالمذهب أنها تسقط نفقتها، والصحيح أنها لا تسقط؛ لأن تعذر استمتاعه بها ليس من قبلها، فيكون كما لو تعذر استمتاعه بها لمرض أو نحو ذلك.
قوله: «أو نشزت» النشوز لغة من النَّشَز هو الارتفاع، وفي الشرع: معصية الزوجة زوجها فيما يجب عليها، ومن ذلك إذا كانت تأبى إذا دعاها إلى فراشه، أو تأبى إذا منعها من الخروج، أو تأبى إذا ألزمها بالحجاب الشرعي الإسلامي، وهو أن تغطي المرأة جميع بدنها من وجه ورأس وكفين.
قوله: «أو تطوعت بلا إذنه بصوم» ولو كان هذا الصوم تابعاً لفريضة كصوم ست من شوال.
والصوم مطلق، ومقيد بزمن، ومقيد بفريضة، فالمقيد بفريضة مثل: صيام ست من شوال، والمقيد بزمن كيوم عرفة، ويوم عاشوراء، ويمكن أن نجعل منه صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والمطلق بقية الصيام غير المقيد، فالمرأة إذا تطوعت بأي شيء من هذه الأقسام بغير إذن الزوج فإنه ليس لها نفقة.(13/472)
وظاهر كلام المؤلف سواء كان في حضور الزوج أم في غيبته، أما إذا كان في حضوره فقد يقال: إن ما ذكره المؤلف وجيه؛ لأنها إذا صامت سوف تمنعه من كمال الاستمتاع، وإذا قدر أنها لا تمنعه؛ لأن له أن يستمتع بها ولا يفسد صومها، فإن ذلك قد يُلحقه حرجاً؛ إذ إنه قد يتحرج من أن يفسد عليها صومها، وإن كان له الحق في أن يفسده.
فأقول: إذا كان حاضراً، وتطوعت بالصوم بغير إذنه فإن سقوط نفقتها ظاهر، لكن إذا كان غائباً فإنه لا تسقط النفقة؛ لأنه في هذه الحال لا تفوت عليه مقصوده، فقد يقيد كلام المؤلف بذلك، فيقال: بحضوره، وقد يؤيد هذا التقييد قوله: «بلا إذنه» ؛ لأن الغالب أن الزوج إذا كان غائباً ألاّ تستأذنه، اللهم إلا إذناً عاماً إذا أراد أن يسافر قالت له: تسمح لي أن أصوم تطوعاً، فيُمْكِن.
والإذن نوعان:
الأول: لفظي، بأن يأذن لها لفظاً.
الثاني: عرفي، وهو الإقراري بأن يراها تصوم تطوعاً ولا يمنعها، فإن هذا دليل على أنه راضٍ بذلك، وإن كان الأفضل أن تستأذنه بلا شك؛ لأنه قد يرضى مجاملة وخجلاً.
أَوْ حَجٍّ، أَوْ أَحْرَمَتْ بِنَذْرِ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ، أَوْ صَامَتْ عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ مَعَ سِعَةِ وَقْتِهِ، أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا وَلَوْ بإِذْنِهِ سَقَطَتْ، وَلاَ نفَقَةَ وَلاَ سُكْنَى لِمُتَوفًّى عَنْهَا، وَلَهَا أَخْذُ نَفَقَةِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِهِ لاَ قِيمَتُهَا،......................
قوله: «أو حج» أي: كذلك إذا أحرمت بحج وهذا أشد من الصوم من عدة أوجه:
الأول: أنه يحتاج إلى سفر.
الثاني: أنه يلزم فيه الإتمام.(13/473)
الثالث: أنه لا يجوز فيه الجماع، ولا مقدماته، بخلاف الصوم، فإن مقدمات الجماع تجوز فيه، فهي إذاً ستمنع زوجها من أشياء كثيرة.
فإذا أحرمت بحج تطوع بغير إذنه فإنها تسقط نفقتها، لكن الغالب أن ذلك لا يقع، وأنها لن تسافر إلى مكة بدون إذنه، ولو تطوعت بعمرة فإنه مثله، والقاعدة أن المرأة إذا تلبست بعبادة تمنعه من كمال الاستمتاع فإنها تسقط نفقتها.
ولو تطوعت بصلاة بلا إذنه فهل نقول: تسقط نفقتها، أو نقول: إن زمنها قصير؟ ظاهر كلام المؤلف أن الصلاة ليست كالصوم والحج؛ وذلك لقصر وقتها.
وعُلم من قوله: «بلا إذنه» أنه لو فعلت ذلك بإذنه، لم تسقط النفقة؛ لأنه أذن لها، وفوّت على نفسه الاستمتاع.
قوله: «أو أحرمت بنذر حج» فتسقط نفقتها؛ لأنها هي السبب في إيجاب ذلك عليها.
مثاله: امرأة نذرت أن تحج فيلزمها أن توفي بنذرها، فقالت لزوجها: إني نذرت أن أحج هذا العام، فقال: لا تحجي، فحجَّتْ، فليس لها النفقة؛ لأنها هي السبب في وجوب ذلك عليها.
فإن أذن لها بالنذر فليس لها النفقة على المذهب، والصحيح أن لها النفقة، فمثلاً قالت: أنا إن شفاني الله من مرضي، أو شفى ولدي من مرضه أحب أن أنذر لله تعالى حجة، فقال: لا مانع، فهنا يجب عليه أن ينفق عليها؛ لأنه أذن لها بالنذر.(13/474)
وكل شيء يكون هو السبب في منع نفسه من الاستمتاع فإن هذا لا تسقط به النفقة.
وقال بعض العلماء: إذا تطوعت المرأة بالصوم فإنه يجب عليه الإنفاق، وعللوا ذلك بأنه يمكنه أن يُفَطِّرَها.
ولكن تقدم لنا أن الراجح أن نفقتها تسقط؛ لأن الزوج قد يتحرج من إفساد صومها إذا صامت، ولأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه» (1) ، يدل على أنها عاصية في هذا فلا ينبغي أن تقابل بالرخصة.
قوله: «أو صوم» «صوم» معطوفة على حج، فيكون المعنى أو أحرمت بنذر صوم، وهنا هل نقدر الفعل على حسب المعطوف عليه، ونقول: أحرمت بنذر صوم، أو نقدِّره بما يناسب؟
نقول: إن كان يصلح أن أقول: أحرمت بالصوم، أي: دخلت في حرماته وبما يحرم به، صح أن نجعلها معطوفة على كلمة (حج) ، والعامل واحد، وإن كان لا يصح فإنه لا بد أن نقدر لقوله: «أو صوم» فعلاً مناسباً، كأن نقول: أو شرعت بنذر صوم، ونظير هذا قول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً
أي: علّف بعيره أو ماشيته تبناً، والتبن يعلَّف، لكن الماء البارد لا يعلف فيكون التقدير: وسقيتها ماءً بارداً.
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد ... (5195) ، ومسلم في الزكاة/ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.(13/475)
قوله: «أو صامت عن كفارة» إذا صامت عن كفارة فإنها تسقط نفقتها؛ لأنها السبب في وجوب الكفارة عليها، وقال بعض أهل العلم: لا تسقط النفقة؛ لأن الكفارة حق واجب لله تعالى، ولا يخلو أحد من الخطأ، فربما تقتل صبيها خطأً فيجب عليها صيام شهرين متتابعين، وربما تحلف على يمين بناء على أنها ستبر بها ثم تحنث، وهذا أمر معتاد ويقع كثيراً، فكيف نقول بسقوط نفقتها؟! فالصواب أنه لا تسقط نفقتها بالكفارة، بخلاف النذر؛ لأن النذر هي التي عقدته، وهو منهي عنه في الأصل.
قوله: «أو قضاء رمضان مع سعة وقته» إذا صامت عن قضاء رمضان فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون الوقت متسعاً.
الثانية: أن يكون الوقت ضيقاً، وهذا إذا بقي من شعبان بمقدار ما عليها من رمضان، كأن يكون عليها صيام عشرة أيام من رمضان واليوم هو التاسع عشر من شعبان، ففي هذه الحال إذا صامت لا تسقط نفقتها؛ لأن الوقت مضيق.
أما في الوقت الموسع فتسقط نفقتها، فإن بقي من الأيام ضِعف ما عليها من الأيام سقطت نفقتها في جميع أيامها، وإن بقي عليها أقل سقطت نفقتها بمقدار الزائد.
مثاله: إذا كان بقي على رمضان خمسة عشر يوماً، وعليها صيام عشرة أيام، وصامت، فهنا يسقط من نفقتها خمسة أيام، وإن كان بقي عشرون يوماً، أو أكثر سقطت النفقة كلها، قالوا: لأنه بإمكانها أن تؤخر إلى أن يضيق الوقت.(13/476)
ولكن هذا تعليل عليل للآتي:
أولاً: أن قضاء رمضان أمر لا بد منه وكونه موسعاً فهو كالصلاة، فلو أنها قامت تصلي في أول الوقت فلا تسقط نفقتها، ولا نقول: تسقط نفقتها إلا إذا ضاق الوقت، فكذلك الصيام.
ثانياً: أن قضاء هذه الأيام لا بد منه، وإذا كان لابد منه فسواء فعلته في أوله أو آخره.
ثالثاً: أنَّ الأفضل في مثل هذه العبادة أن تبادر بها، وهذا أريح لها وأشد اطمئناناً لقلبها.
فالصواب أنه إذا صامت لقضاء رمضان لا تسقط نفقتها، سواء كان ذلك مع سعة الوقت أو ضيقه، وهذا قول في مذهب الإمام أحمد.
وكل ما سبق فيما لو كان بدون إذن الزوج، أما مع إذنه فإنه لا تسقط نفقتها؛ لأنه هو الذي رضي بنقص استمتاعه من زوجته، والحق له.
قوله: «أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت» إذا سافرت فلا تخلو من أحوال:
الأولى: أن يكون السفر لحاجته هو.
الثانية: أن يكون لحاجتها هي.
الثالثة: أن يكون لحاجتهما جميعاً.
الرابعة: أن يكون لحاجة غيرهما، كحاجة أبيها مثلاً.
الخامسة: أن يكون عبثاً، وهذا بعيد، لكن لا يمنعه العقل.
فإن سافرت لحاجته فنفقتها باقية؛ لأنها سافرت من أجله(13/477)
ومن مصلحته، أما إذا سافرت لحاجتها بغير إذنه سقطت النفقة؛ لأنها منعته من الاستمتاع، فإن قالت الزوجة: أنا لم أمنعه من السفر، إن شاء فليسافر معي، نقول: هو لا يريد السفر، وليس من العادة أن الزوج يتبع زوجته، فإذا سافرت سافر، وإذا أقامت أقام.
فإن سافرت لحاجتها بإذنه، كأن تقول له: أريد أن أراجع الطبيب، أو أذهب لأختبر في كلية أخرى في الرياض ـ مثلاً ـ فأذن لها الزوج، فكذلك تسقط نفقتها، وهذا قول ضعيف.
والصواب أنه إذا أذن فإن نفقتها باقية؛ لأنه هو الذي وافق.
وإذا كان السفر لحاجة غيرهما، كأن تريد السفر مع أمها لتمرضها فإن نفقتها تسقط، فإن أذن الزوج فالصحيح أنها لا تسقط.
والمهم أن الاستمتاع حق للزوج، فإذا أسقطه فحقوق الزوجة لا تسقط به؛ لأنه لو شاء لقال: لا، فإذا قال: لا، فحينئذٍ إما أن تطيعه، وإما أن تعصيه، فإن عصته فهي ناشز، ولا نفقة لها، وإن أطاعته بقيت نفقتها.
وإن كان السفر لحاجتهما فإنها لا تسقط النفقة؛ لأنه أذن بذلك ولأنه لم تتمحض المصلحة لها.
والخلاصة ـ على الأرجح ـ أن الأصل وجوب النفقة بمقتضى العقد، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (1) ، وهذا الأصل لا يمكن سقوطه إلا
__________
(1) سبق تخريجه ص (458) .(13/478)
بمقتضى دليل شرعي، والدليل الشرعي هو أن يقال: هذه النفقة في مقابل الاستمتاع، فمتى فوتت المرأة الاستمتاع أو كماله على الزوج بدون رضاً منه سقطت نفقتها، ومتى لم تفوته إلاّ بإذنه فإنها لا تسقط؛ لأنه راضٍ بذلك، هذه هي القاعدة التي هي مقتضى الأدلة الشرعية.
قوله: «ولا نفقة ولا سكنى لمتوفى عنها» هذا هو القسم الثالث الذي أشرنا إليه في أول الفصل حين قلنا: إن المعتدات ثلاثة أقسام: قسم لها السكنى والنفقة بكل حال وهي الرجعية، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى إلاّ إن كانت حاملاً، وهي البائن في الحياة، وقسم ليس لها نفقة ولا سكنى مطلقاً وهي المتوفى عنها، وهي البائن بالموت.
وهل نقول في الميت: «مُتَوَفًّى» اسم مفعول، أو نقول: «مُتَوفٍّ» اسم فاعل؟ الأصل أن يقال: متوفًّى؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وقوله: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] فالميت متوفًّى، ويمكن أن يقال: متوفٍّ، بمعنى أنه استوفى أجله ورزقه.
فالمتوفى عنها زوجها لا نفقة لها، ولا سكنى، ولو كانت حاملاً، أما إذا لم تكن حاملاً فالأمر ظاهر؛ لأنها بانت، وأما إن كانت حاملاً فلا نفقة لها أيضاً.
فإن قيل: أي فرق بينها وبين البائن في حال الحياة؟
الجواب: أن البائن في حال الحياة ـ إذا كانت حاملاً ـ أوجبنا الإنفاق على زوجها في ماله، وأمَّا المتوفى عنها زوجها(13/479)
فالمال انتقل للورثة فكيف نجعل النفقة في التركة؟! فنقول: لا نفقة لها وإن كانت حاملاً.
فإن قيل: ماذا نصنع فيما إذا حملت، وقد قلنا فيما سبق: إن النفقة للحمل، لا لها من أجله؟
يقولون: إن النفقة تجب في حصة هذا الجنين من التركة، فإن لم يكن تركة، كأن يموت أبوه ولا مال له، فإن النفقة تجب على من تلزمه نفقته من الأقارب، كأن يكون له إخوة أغنياء أو أعمام.
قوله: «ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله» «لها» الضمير يعود على الزوجة، والرجعية، والبائن في الحياة إن كانت حاملاً، فيكون المعنى أن لكل من لها النفقة من هؤلاء الثلاث نفقة كل يوم من أوله، فيأتيها بالفطور، والغداء، والعشاء، من أول اليوم، يعني إذا طلعت الشمس تقول لزوجها: أريد الفطور، والغداء، والعشاء، الآن!
لكن هذا قول بعيد من الصواب، بعيد من قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] لأنه ليس من المعروف أن تطلب المرأة الفطور والغداء والعشاء في أول النهار، ولهذا لو قال لها الزوج: سآتي بالفطور والغداء والعشاء في هذا الوقت، لقالت: لا؛ لأنه سيفسد علي، فإن أصرَّ على الإتيان بها أول النهار فعلى المذهب له ذلك، والصواب في هذه المسألة أنه يرجع في ذلك إلى العرف، فهذا الذي دل عليه القرآن والسنة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (458) .(13/480)
قوله: «لا قيمتها» يعني ليس لها قيمة النفقة، فلو قالت الزوجة: أريد القيمة، فثمن الفطور ريال ونصف، والغداء ريالان، والعشاء ريالان، فالجميع خمسة ريالات ونصف أعطنيها، فإنه ليس لها ذلك.
وَلاَ عَلَيْهَا أَخْذُهَا، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى تَأْخِيرِهَا، أَوْ تَعْجِيلِهَا مُدَّةً طَويلَةً أَوْ قَلِيلَةً جَازَ، وَلَها الْكِسْوَةُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ، وَإِذَا غَابَ وَلَمْ يُنْفِقْ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ مَا مَضَى، وَإِنْ أَنْفَقَتْ في غَيْبَتِهِ مِنْ مَالِهِ فَبَانَ مَيْتاً غَرَّمَهَا الْوَارِثُ مَا أَنْفَقَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
قوله: «ولا عليها أخذها» يعني لو أتى هو بالدراهم، وقال: أنا مشغول ولا أستطيع أن آتي بالفطور والغداء والعشاء، ولكن خذي الدراهم، فهل يجب عليها أن تأخذ المال؟ لا يجب عليها، بل ما لها إلا الطعام والشراب، وبهذا نعرف أن ما ذكر الله عزّ وجل من إطعام المساكين في كفارة الظهار، وكفارة اليمين، وفدية الصوم، أن الواجب الإطعام، وأن الدراهم لا تجزئ.
لكن لو جرى العرف بأن الرجل يعطي زوجته قيمة النفقة فهنا لا بأس، لكن المحظور أن يُلزِم الحاكمُ أو القاضي الزوجَ بالقيمة.
وقد أنكر ابن القيم هذا إنكاراً عظيماً، وقال: ليس في الكتاب ولا في السنة أن تلزم المرأة الزوج بالقيمة، إلاّ أن صاحب الفروع رحمه الله قال: يتوجه الجواز عند الشقاق، أي: عند الشقاق بين الزوجين، أي: فإذا اضطر الحاكم إلى أن يفرض النفقة بالقيمة؛ ليرفع الشقاق والنزاع بينهما فلا بأس؛ لأنه لو فرض النفقة خبزاً، وتمراً، ولحماً، وما أشبه ذلك، فإنه يستمر الشقاق؛ لأنه قد يأتيها بخبز من أحسن الخبز، وتقول: هذا لا أريده، هذا مخبوز منذ يومين، مع أنه لم يخبز إلاّ تلك الساعة، أو يأتيها بالتمر فتقول: أنا لا أريد تمراً مبرداً، أو يأتيها باللحم فتقول: لا أريد هذا اللحم، أنا لا آكل لحم الجمل، أريد لحم(13/481)
غنم، أو لحم دجاج، فهنا إذا اضطر الناس إلى أن يفرض الحاكم النفقة من الدراهم فما قاله صاحب الفروع رحمه الله متوجِّه؛ لأن فيه فضّاً للنزاع والشقاق، ولهذا قال في «الروض» : «ولا يملك الحاكم فرض غير الواجب ـ كدراهم ـ إلاّ بتراضيهما» (1) .
قوله: «فإن اتفقا عليه» أي: على أخذ القيمة.
قوله: «أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز» لأن الحق لا يعدوهما، فإذا رضيت بما تشاء ووافق فلا حرج، فلو اتفقا على أن يسلمها كل يوم عشرة ريالات بدلاً عن النفقة جاز، أو اتفقا على أنه يسلمها في أول كل شهر ثلاثمائة ريال، أو يسلمها آخر كل شهر ثلاثمائة ريال فإنه جائز ولو أسقطت النفقة عنه جاز؛ لأن الحق لها.
قوله: «ولها الكسوة كل عام مرة في أوله» أي: أول العام، فإذا دخلت السنة كساها، لكن ما المراد بأول العام هل هو شهر محرَّم؛ لأنه أول شهر في السنة، أو المراد أولُ عامٍ حصل فيه الزواج ووجوب النفقة؟ الظاهر أن المراد الأخير، لكن لو كان المراد الأول، وقد عقد عليها في نصف السنة فيعطيها في نصف السنة نصف الكسوة، فإذا جاء شهر محرَّم أعطاها كسوة كاملة للعام المقبل، لكن الصحيح الذي يظهر أننا نعتبر العام من حين العقد، كما أننا نعتبر عقد الأجرة فيما لو استأجر إنسانٌ بيتاً لمدة سنة فتبتدئ من العقد، سواء في نصف العام الهجري أو آخره.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/119) .(13/482)
وقوله: «الكسوة» ماذا يعطيها من الكسوة؟ إذا كنَّا في الصيف فيعطيها كسوة الصيف والشتاء، وإذا كنَّا في الشتاء يعطيها كسوة الشتاء والصيف جميعاً، ولها أن تلزمه بهذا، بمعنى أننا لو كنَّا في الصيف فقالت: أنا أريد ثلاثة أثواب للصيف، وعشرة أثواب للشتاء، وأريدها الآن، فإن لها أن تلزمه بذلك.
مسألة: لو دخل عام جديد وكسوتها للعام الماضي باقية، فهل تُلزِمه بكسوة جديدة؟
المذهب أنها تُلزِمه؛ لأن المؤلف يقول: «ولها الكسوة في كل عام مرة في أوله» ولم يقل: لها الكسوة إن صارت الأولى خلِقَة ولا تصلح للاستعمال، بل وأبلغ من ذلك يقول الأصحاب ـ رحمهم الله ـ: إن الغطاء والفراش وما أشبه ذلك يجدد لها كل سنة مع الكسوة.
ولكن هذا قول ضعيف، والصواب أن نرجع في ذلك إلى ما دل عليه الكتاب والسنة، وهو الإنفاق بالمعروف، وليس هذا من المعروف، فليس من المعروف أن يأتي الإنسان لزوجته بالثياب مع صلاحية الثياب الأولى للاستعمال، والعادة والعرف أنه كلما صارت الثياب لا تصلح للاستعمال جدَّدها الزوج؛ ولهذا لو أن هذه الثياب احترقت قبل أن تتم السنة فعلى المذهب لا يلزم الزوج بشراء كسوة جديدة إلاّ في بداية العام، وعلى القول الراجح يلزمه، اللهم إلاّ إذا كانت الزوجة قد تعدَّت أو فرَّطت، فقد نقول: لا يلزمه، أو كانت امرأة كلَّما ظهرت أثواب جديدة قالت لزوجها: أريد منها فهنا لا يلزمه.(13/483)
فالصحيح أن المرجع إلى العرف، وأنه متى كانت المرأة محتاجة إلى الكسوة أو النفقة تبذل لها.
إن استغنت بكسوة قديمة أو بغيرها، كأن يكون لها أقارب وأصحاب أعطَوْها كسوة ودخل العام وعندها هذه الكسوة، فلا يلزم الزوج بشراء كسوة جديدة، إلاّ إذا قالت: أنا أريد بيع ما جاءني من الهدايا، وأطالبك بكسوة جديدة، فلها ذلك.
قوله: «وَإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى» مثاله: رجل قال لزوجته: سأسافر لمدة شهر واحد، وأعطاها نفقة شهر، لكنه بقي في سفره شهرين أو ثلاثة، ثم رجع فلا تسقط النفقة بمضي الزمان، بل يلزمه نفقة ما مضى، فإذا أنفقت على نفسها فإنها ترجع على زوجها بما أنفقت؛ لأنه مطالب بالنفقة، إلاّ إذا أنفقت على نفسها تبرعاً، وقالت: أنا أسامحه فيما مضى، فهو حق لها، ولها أن تسقطه.
وهذا بخلاف نفقة الأقارب، فإنه لو غاب عن قريبه ولم ينفق لم يلزمه نفقة ما مضى، وفرقوا بينهما بأن نفقة الأقارب لدفع الحاجة، ونفقة الزوجة من باب المعاوضة، والمعاوضة لا تسقط بمضي الزمان، بخلاف ما كان لدفع الحاجة، فهذا القريب اندفعت حاجته وانتهى.
قوله: «وإن أنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرَّمها الوارث ما أنفقته بعد موته» مثاله: رجل غاب عن زوجته وتوفي، ولم(13/484)
تعلم الزوجة بوفاته، وبقيت بعد موته تنفق من المال، فللوارث أن يضمنها كل ما أنفقته بعد موته.
فإذا قالت: أنا لا أدري، والأصل بقاء حياته، قلنا: هذا صحيح، ولكنه لا يوجب سقوط الضمان عنك، وإنما يوجب سقوط الإثم من الإنفاق من مال الورثة بدون إذنهم؛ لأنك لا تعلمين، ولأن هذا حق آدمي، وحقوق الآدميين لا فرق فيها بين الجاهل والعالم إلاّ في الإثم فقط، وأما في الضمان فإنها تضمن.(13/485)
فَصْلٌ
وَمَنْ تَسَلَّمَ زَوْجَتَهُ، أَوْ بَذَلَتْ نَفْسَهَا، وَمِثْلُهَا يُوطأُ وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا، وَلَوْ مَعَ صِغَرِ زَوْجٍ، وَمَرَضِهِ، وَجَبِّهِ، وَعُنَّتِهِ، وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا الْحَالَّ، فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا طَوْعاً، ثُمَّ أَرَادَتِ الْمَنْعَ لَمْ تَمْلِكْهُ،..........................................
قوله: «ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت نفقتها» هذا الفصل أراد به المؤلف ـ رحمه الله ـ بيان متى تجب النفقة، هل هو بالخطبة أو بالعقد، أو بالدخول، أو بالتسليم؟
أما الخطبة فلا تجب بها النفقة؛ لأنه لم يتم العقد ولا تكون بها زوجته، وأما العقد فتكون به زوجته، ولكن لا تجب به النفقة؛ لأنه لم يستمتع بها، والنفقة تكون في مقابل الاستمتاع بالزوجة.
وأما الدخول فإنه لا عبرة به أيضاً؛ لأنه إذا حصل الدخول المسبوق بالتسليم والتمكين فإن العبرة تكون بالتمكين، فإذا تسلمها، أو بذلت نفسها، وقالت: نحن مستعدون متى شئت، فإنه تجب نفقتها، إلاّ أن المؤلف اشترط شرطاً، وهو أن يكون مثلها يوطأ، والتي مثلها يوطأ، قال العلماء: هي التي تم لها تسع سنوات، فما الدليل؟
الحقيقة أنه لا دليل على هذا، لكن العادة تقتضيه، والنبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين (1) ، لكن هذا لا يقتضي تحديد المدة بالتسع، إلاّ أن الغالب أن بنت التسع تتحمل الجماع فلهذا علقوها بالتسع.
وقال بعض أهل العلم: التي يوطأ مثلها هي من تتحمل
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب إنكاح الرجل ولده الصغار ... (5133) ، ومسلم في النكاح/ باب تزويج الأب البكر الصغيرة (1422) عن عائشة رضي الله عنها.(13/486)
الجماع، سواء كان عمرها تسع سنين أو عشراً أو إحدى عشرة؛ لأن النساء يختلفن، فبعض النساء يمكن في ثمان سنوات أن تتحمل الرجل، وبعضهن في عشر سنوات، أو إحدى عشرة سنة، ولا تتحمل الرجل، وعلى هذا فيكون التحديد بالتسع بناءً على الغالب.
ونظير ذلك من بعض الوجوه أن كثيراً من أهل العلم قيدوا التمييز بتمام سبع سنوات، مع أن بعض الناس قد يميز لأقل من ذلك، وبعض الناس قد لا يميز لأكثر من ذلك، ولكن الغالب أن التمييز يكون لسبع سنين، ومعلوم أن النوادر والشواذ لا تخرم القواعد، فإذا كان الغالب هو تسع سنين فليكن هو المقيد؛ لأنه الأقرب إلى ضبط الناس وعدم النزاع، فإذا تسلمها ولها تسع سنوات وجب عليه الإنفاق عليها؛ لأنه إذا تسلمها فقد تمكن من الاستمتاع منها غاية التمتع.
وقوله: «أو بذلت نفسها» يعني قالت: لا مانع لدينا من الدخول، ولكن الزوج قال: أنا لا أريدها الآن، عندي اختبارات لمدة شهر، وسآخذها بعد هذا الشهر، فمدة هذا الشهر تجب فيه النفقة على الزوج؛ لأن الامتناع من قِبله.
قوله: «ولو مع صغر زوج» مثاله: إنسان عمره سبع سنين ـ ومثله لا يطأ ـ تزوج ابنة عشر سنين، فإذا تسلَّمها وجب عليه نفقتها؛ لأن المانع من الاستمتاع من قبل الزوج، أما الزوجة فليس فيها موانع، وهي محل للاستمتاع فلما كان المانع من قِبله أوجبنا عليه النفقة.(13/487)
قوله: «ومرضه» أي: بعد أن عقد عليها مرض، ولم يعد في نفسه شيء من أمر الزواج، فإنه تجب عليه النفقة؛ لأن الامتناع من قِبَله.
قوله: «وجبِّه» الجب هو قطع الذكر، فإذا كان مقطوع الذكر وجبت عليه النفقة؛ لأن الامتناع من قبله.
قوله: «وعنته» والعُنَّة هي عدم القدرة على الجماع، فلا ينتصب ذكره، فتجب عليه النفقة؛ لأن الامتناع من قِبل الزوج.
فإذا كانت هي صغيرة لا يوطأ مثلها فلا تجب عليه النفقة؛ لعدم تمكنه من الاستمتاع، ولكننا إذا نظرنا إلى ظاهر الكتاب والسنة وقلنا: إن هذه زوجة، فالقرآن والسنة ليس فيهما تقييد بأنه يوطأ مثلها، نعم المهر قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لها المهر بما استحل من فرجها» (1) .
ثم إن هذا الزوج الذي عقد على هذه الصغيرة دخل على بصيرة، ويعرف أنه لن يستمتع بها، لكنه يريد أن يحجزها حتى لا تتزوج غيره، وهذا كله مبني على أنه يصح تزويج الصغيرة وقد سبق الخلاف في هذه المسألة، لكن على تقدير صحة تزويج الصغيرة في بعض الصور، فإن ظاهر الكتاب والسنة يدل على أنه يجب الإنفاق عليها؛ لأنه دخل على بصيرة وهي زوجة، وموجِب الإنفاق قائم وهو النكاح، إلاّ أن يمنع من ذلك إجماع من أهل العلم، فإن الإجماع يمنع ويخصص العموم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (450) .(13/488)
قوله: «ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحالَّ» أي: لها منع نفسها من التسليم حتى تقبض صداقها الحال، أي: غير المؤجل.
مثاله: رجل تزوج امرأة على مهر قدره عشرة آلاف ريال، ثم طلب الدخول، فقالت: لا دخول حتى تسلم المهر، فلها ذلك ولا تسقط نفقتها؛ لأن المانع من قبل الزوج؛ إذ لو شاء لأعطاها المهر ودخل.
وقوله: «الحال» فإذا كان المهر مؤجلاً ولم يحل فليس لها منع نفسها، وهذا ظاهر؛ لأنها دخلت على أن هذا المهر مؤجل.
وتأجيل المهر جائز؛ لأن جميع الحقوق التي للبشر لهم الحق فيها ما لم يمنع منها مانع، كما جاء في الحديث الصحيح الذي صححه كثير من الأئمة: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً» (1) .
قوله: «فإن سلَّمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملكه» لأن تسليمها نفسها إسقاط لحقها، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن تعود وتطالب بحقها.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يخدعها في ذلك أو لا؛ لأنه قد يخدعها ويقول: أنا سآتي بالمهر ـ إن شاء الله ـ بعد العصر، وبعض النساء قد تغتر بهذا، وتثق بوعده، فتمكنه من
__________
(1) سبق تخريجه ص (124) .(13/489)
نفسها، فظاهر كلام المؤلف أنها إذا مكنته ـ حتى لو خدعها ـ أنه لا حق لها، ولكن الصحيح أنه إذا خدعها فلها الحق، وهل الوعد يعتبر خديعة أو يعتبر تساهلاً منها؟
الخديعة المحققة هي أن يقول: أهلاً وسهلاً سأعطيك المهر، ثم يأخذ أوراقاً ويجعلها في ظرف ويعطيه إياها على أنها الفلوس، أو يكتب لها شيكاً على البنك وليس له رصيد، فهذه خديعة واضحة، أما كون وعده إياها يعتبر خديعة فهو عندي محل تردد، لكن النساء يختلفْن، فبعض النساء تكون سليمة القلب جداً جداً، بحيث تتصور كل الأشياء على حقيقة وصدق، فهذه قد نقول: إنها تمكَّن من المنع إذا لم يسلِّمها.
وسبق لنا في باب الشروط في النكاح أنها لو شرطت ألاّ يسافر بها ثم خدعها فسافر بها، ثم طالبت بالحق فلها ذلك، لكن الكلام على هل مجرد الوعد إذا أخلفه يعتبر خديعة أو لا؟ هذا هو مناط الحكم، فإن قلنا: إنه خديعة، فإن لها أن ترجع لحقها الأول، وإن قلنا: ليس بخديعة، ولكن هي فرطت، وكان عليها أن تقول: لا يمكن أن أقبل إلاّ إذا أعطيتني حقي، فليس لها ذلك.
وَإِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ الْقُوتِ، أَوِ الْكِسْوَةِ، أَوْ بِبَعْضِهَا، أَوِ المَسْكَنِ، فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ، فَإِنْ غَابَ وَلَمْ يَدَعْ لَهَا نَفَقَةً، وَتَعَذَّرَ أَخْذُهَا مِنْ مَالِهِ، وَاسْتِدَانَتُهَا عَلَيْهِ، فَلَهَا الفَسْخُ بِإِذْنِ الحَاكِمِ.
قوله: «وإذا أعسر بنفقة القوت، أو الكسوة، أو ببعضها، أو المسكن فلها فسخ النكاح» «إذا أعسر» أي: الزوج، فلها الفسخ، وظاهر قول المؤلف: «إذا أعسر» أي: بعد الإنكاح؛ لأنه لم يقل: «وإن كان معسراً» ، فظاهره أنه إذا كان موسراً ثم أعسر فإن(13/490)
لها أن تفسخ النكاح، قالوا: لأن نفقتها معاوضة لاستمتاعه بها وبقائها عنده، فإذا تعذر العوض فلها أن تمنع المُعوض.
مثال ذلك: رجل تزوج امرأة وهو غني، ثم أصيب بجوائح في ماله وافتقر، فللزوجة أن تفسخ النكاح، وتقول: أطعمني أو طلقني.
هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، أن لها الفسخ مطلقاً، سواء تزوجته وهو معسر عالمة بإعساره، أو تزوجته وهو معسر جاهلة بإعساره، أو تزوجته وهو موسر ثم أعسر، فالأحوال ثلاثة:
الحال الأولى: أن يكون معسراً ولم تعلم بإعساره، فالقول بأن لها فسخ النكاح قول قوي؛ لأنه غرَّها وخدعها وكان عليه حين تزوجها وهو معسر أن يبين لها؛ لتدخل على بصيرة، وهذا أمر واضح، وعلته واضحة، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم تبرأ ممن غش (1) ، فهذا من أغش الغش.
الحال الثانية: إذا تزوجها وهو معسر عالمة بعسرته، فلها أن تطالب بالنفقة على المذهب، وتقول: إما أن تطلق وإما أن تنفق؛ وعلة ذلك أن نفقتها تتجدد كل يوم، فإذا أسقطت نفقة غدٍ لم تسقط؛ لأنها لم تملكها بعد، وإسقاط الشيء قبل وجوبه لا عبرة به.
الحال الثالثة: تزوجته وهو موسر ثم افتقر بأمر الله لا بيده،
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا» (102) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(13/491)
فلها المطالبة بالنفقة للعلة السابقة، وهي أن الإنفاق عليها في مقابلة الاستمتاع، فإذا تعذر فلها أن تطالب بالفسخ، وهذا هو المشهور من المذهب.
واختار ابن القيم رحمه الله أنه لا فسخ لها إلاّ في الصورة الأولى، وهي إذا تزوجها معسراً جاهلة بإعساره، وقال: إنها في الصورة الثانية قد دخلت على بصيرة، فهي كما لو تزوجته وبه عيب من بخر، أو برص، أو غير ذلك من العيوب، فإنها لا تملك الفسخ بعد ذلك؛ لأنها رضيت به، وهي هنا رضيت به معيباً بالفقر، فلا تملك الفسخ.
وأما إذا كان غنياً ثم افتقر فإنه أيضاً لم يحصل منه جناية ولا عدوان، والله تعالى يقول: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ، وهذا لم يؤتَ شيئاً فلا يكلفه الله.
فتعاليل ابن القيم رحمه الله قوية جداً، لكن الذين قالوا: إن لها الفسخ استدلوا بآثار، منها ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» ، قال أبو هريرة: المرأة تقول: أنفق عليّ، أطعمني أو طلقني، فقيل لأبي هريرة: سمعت ذلك من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا، قالها أبو هريرة من كيسه (1) ، أي: استنبطها من الحديث، قالوا: وهذا قول صحابي، وأيضاً نحن لا
__________
(1) أخرجه البخاري في النفقات/ باب وجوب النفقة على الأهل والعيال (5355) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(13/492)
نكلفه ما لا يستطيع، لكن أيضاً لا نبقي هذه المرأة مع الضرر عليها؛ لأنها محبوسة على زوجها وليس لها ما تقيت به نفسها، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى قول جيد يجمع بين الحقوق، فقال: ليس لها الفسخ في الحالة الثالثة؛ لأن هذا ليس باختياره، وفي الحال الثانية ليس لها الفسخ؛ لأنها دخلت على بصيرة، ولكن لا يمنعها من التكسب؛ لأنه إذا كان ينفق عليها له الحق أن يمنعها من التكسب، فإذا كان لا ينفق فليرخص لها في التكسب، وهذا قولٌ قوي، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله.
وابن القيم رحمه الله استدل بأن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم يفتقرون ولم يحدث أن أحداً منهم فُسخت زوجته منه، ولكن زميله صاحب «الفروع» قال بعد نقله لكلامه: كذا قال، والعالم إذا نقل كلام أحد من أهل العلم، ثم قال: كذا قال فمعناه أنه لم يرتضه، ووجه عدم ارتضاء صاحب «الفروع» لكلام ابن القيم أنه قد يقال: إن الصحابة رضي الله عنهم ما عجزوا عجزاً مطلقاً، بحيث لا يتمكنون من بعض القوت، أو يقال: جواب آخر، من قال: إن الصحابيات الزوجات لم يطالبن بالفسخ؟! ونحن نقول: تملك الفسخ، ولا يجب عليها الفسخ، وبينهما فرق، فيجوز أن نساء الصحابة ـ رضي الله عنهن ـ اقتنعن بما حصل، ولم يطالبن بالفسخ.
وعلى كل حال فالقول الذي أطمئن إليه أنها لا تملك الفسخ، لكن لا يملك منعها من التكسب، وهذا في غير الصورة الأولى وهي ما إذا تزوجته ولم تعلم بإعساره.(13/493)
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أعسر الزوج بالنفقة وجب عليها هي ـ أي: الزوجة ـ أن تنفق عليه إذا كان عندها مال، واستدل بعموم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، والزوجة وارثة، فيجب عليها أن تنفق.
ولكن هذا قول ضعيف، وقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ} ، أي: على الوارث مثل ذلك للمرضع.
وقوله: «أو مسكن» المراد إذا أعسر عن المسكن مُلكاً أو استئجاراً، فإذا استأجر لها بيتاً فليس لها حق المطالبة ببيت ملك.
وقوله: «فلها الفسخ» أي: بإذن الحاكم، ولا بد أن يحكم القاضي بذلك.
وسبق لنا أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: كل فسخ يتوقف على الحاكم فإنما ذلك عند النزاع، فلو رضيا بالفسخ فيما بينهما فلهما ذلك، وهذا هو الصحيح.
قوله: «فإن غاب ولم يدع لها نفقة، وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم» صورة المسألة رجل موسر غاب عن البلد، أو تغيّب في البلد ولا يُدرَى مكانه، ولم يترك لزوجته نفقة، وليس له مال يمكن أن تأخذ منه، ولا يمكن أن تستدين على ذمته، فإن لها الفسخ؛ لأن هذا وإن كان موسراً فهو بمنزلة المعسر؛ لتعذر الإنفاق، بل إنه أشد من المعسر؛ لأن المعسر ليس له حول ولا قوة، وهذا له حول وقوة، فيمكن أن يجعل لها نفقة، أو يوكل من يعطيها النفقة، وما أشبه ذلك.(13/494)
وعلم من قوله: «ولم يدع لها نفقة» أنه لو ترك لها نفقة فلا فسخ، ولكن من حيث النفقة، وأما من حيث حضوره فقد سبق في باب عشرة النساء.
وعُلم من قوله: «وتعذر أخذها من ماله» أنه لو أمكن أن تأخذ من ماله فلها أن تأخذ، ولو لم يعلم، وليس لها الفسخ، والدليل على ذلك قصة هند بنت عتبة رضي الله عنها حين قالت للرسول صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خذي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف» (1) ، فلها أن تأخذ من ماله ما يكفي النفقة عليها وعلى ولدها، لكن بالمعروف، والمعروف هو الذي لا يخرج عن الحدود الشرعية والعادية.
فإن قيل: كيف يجوز لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه؟ وهل هذا إلاّ خيانة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخن من خانك» (2) ؟!
فالجواب: أن هذا ليس من باب الخيانة، ولكنه من باب أخذ الحق مع القدرة عليه، ولهذا جعل فقهاء الحنابلة لهذه
__________
(1) أخرجه البخاري في النفقات/ باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ... (5364) ، ومسلم في الأقضية/ باب قضية هند (1714) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه أحمد (3/414) ، وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535) ، والترمذي في البيوع/ باب أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك (1264) ، والدارمي في البيوع/ باب في أداء الأمانة ... (2484) ، والحاكم في المستدرك (2/53) قال الترمذي: حسن غريب. والحديث صححه الحافظ في التلخيص (3/97) ، وابن الملقن في الخلاصة (2/150) ، والألباني في الصحيحة (1/783) .(13/495)
المسألة ضابطاً فقالوا: إذا كان سبب الحق ظاهراً فلصاحبه أن يأخذ من المحقوق وإن لم يعلم، وإذا كان غير ظاهر فليس له أن يأخذ.
وهذه المسألة سببها ظاهر وهو الزوجية، أما إذا كان السبب غير ظاهر مثل ما لو أقرضتَ شخصاً دراهم ثم جحدك، وقدرت على أخذ شيء من ماله فإنك لا تأخذه؛ لأن سبب الحق غير ظاهر، من يعلم أنك أقرضته؟! حتى لو كان عندك بينة، ولهذا لو فتح الباب هنا لحصل بين الناس شر كبير وفوضى، بخلاف ما سببه ظاهر.
وهل نفقة الأقارب مثلها؟ نعم، مثاله: لو أن قريباً امتنع من الإنفاق على قريبه، وقدر على شيء من ماله، فله أن يأخذ بدون إذنه.
ومثله أيضاً عند فقهائنا ـ رحمهم الله ـ لو أن رجلاً نزل برجل ضيفاً، ولم يعطه ضيافته فله أن يأخذ من ماله بقدر ضيافته؛ لأن إكرام الضيف واجب، ولما نزل به صار السبب ظاهراً، لكن هذا حاله أقل من حال الزوجية والقرابة.
وقوله: «واستدانتها عليه» أي: تعذر عليها أن تستدين عليه، بأن ذهبت إلى بعض الناس، وقالت: زوجي غائب، ولم يترك نفقة، فاشترِ لي طعاماً وكسوةً، وقيدها على زوجي، فرفض، وذهبت إلى ثانٍ وثالث وكلهم رفض، فهنا لها الفسخ.
وظاهر كلام المؤلف أنها لا بد أن تحاول الاستدانة، وفي النفس من هذا شيء؛ لأن الاستدانة قد تكون بالنسبة لها صعبة(13/496)
وشاقة عليها، وربما يكون ذلك فتح باب لتهمتها، وربما يكون فتح باب لسبها عند زوجها، فالظاهر أنه إذا تعذر أخذها من ماله، ولم تمكن مراسلة الزوج، أو أُرْسِلَ إليه ولم يبعث بشيء، فإن لها الفسخ.
ولو اقترضت من شخص، ثم جاء زوجها الغائب فإنه يجبر على سداد القرض، إذا كانت الزوجة قد أخذت بالمعروف، كما أن المرأة لو كانت غنية وأنفقت من مالها فإنها ترجع عليه.(13/497)
بَابُ نَفَقَةِ الأَقَارِبِ وَالْمَمَالِيكِ وَالْبَهَائِمِ
تَجِبُ، أَوْ تَتِمَّتُهَا لأَبَوْيهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَلِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ حَتَّى ذَوِي الأَرْحَامِ مِنْهُمْ،.....
هذا الباب يذكر فيه نفقة الأقارب والمماليك، وبيان السببية؛ لأنه سبق لنا أن سبب وجوب النفقة ثلاثة:
الأول: الزوجية.
الثاني: القرابة.
الثالث: الملك.
والفرق بين هذه الأسباب أن سبب الزوجية معاوضة، فالنفقة في مقابلة الاستمتاع، ولهذا لا تسقط بإعسار الزوج، ولا تسقط بمضي الزمان، بخلاف نفقة الأقارب والمماليك.
الأقارب: أصول وفروع وحواشٍ، فالأصول مَنْ تفرعت منهم من آباء وأمهات، والفروع مَنْ تفرعوا منك من أبناء وبنات، والحواشي مَنْ تفرعوا مِنْ أصولك، فيدخل فيهم الأعمام والأخوال.
قوله: «تجب» أي: تجب كل النفقة إذا كان المُنْفَق عليه لا يجد شيئاً.
قوله: «أو تتمتها» وهذا إذا كان المُنْفَق عليه يجد البعض.
قوله: «لأبويه وإن علوَا» أي: الأصول.
قوله: «ولولده وإن سفل» أي: الفروع.(13/498)
واعلم أن هذا الباب كباب تحريم النكاح، لا يفرق فيه بين جهة الأبوة وجهة الأمومة، فالأصول والفروع سواء كانوا من ذوي الأرحام، أو عصبة، أو أصحاب فرض، تجب النفقة لهم لكن بشروط.
قوله: «حتى ذوي الأرحام منهم» «حتى» إشارة خلاف، وغالباً إذا قالوا: «ولو» فالخلاف قوي، وإذا قالوا: «وإن» فالخلاف وسط، وإذا قالوا: «حتى» فالخلاف ضعيف، لكن هذه غير مطَّردة.
وقوله: «ذوي الأرحام» وهم من الأصول كل ذكر بينه وبين المنفِق أنثى، أو من أدلى بهذا الذكر، فأبو الأم من ذوي الأرحام، وأم أبي الأم من ذوي الأرحام؛ لأنها أدلت بهذا الذكر، وأبو أبي الأم كذلك.
وذوو الأرحام من الفروع هم كل من بينه وبين المنفِق أنثى، فمثلاً: ابن البنت من ذوي الأرحام؛ لأن بينه وبين الميت أنثى، وكذلك بنت البنت.
فذوو الأرحام من الأصول والفروع تجب لهم النفقة، والدليل قالوا: لقوة صلتهم بالمنفق؛ لأن فروعه جزء منه، وأصوله هو جزء منهم، فهو بضعة من أصوله، وفروعه بضعة منه، وعلى هذا فابن بنتك إذا كان فقيراً وأنت غني فعليك أن تنفق عليه، فإن قلت: هو اسمه محمد بن علي آل مقبل، وأنا اسمي عبد الله بن صالح آل بسام، فنقول: لكنه ابن بنتك، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا(13/499)
سيد» (1) ، فسمَّاه ابناً.
حَجَبَهُ مُعْسِرٌ أَوْ لا، وَلِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ، أَوْ تَعْصِيبٍ لاَ بِرَحِمٍ، سِوَى عَمُودَيْ نَسَبِهِ، سَوَاءٌ وَرِثَهُ الآخَرُ، كَأَخٍ أَوْ لاَ، كَعَمَّةٍ وَعَتِيقٍ، بِمَعْرُوفٍ، مَعَ فَقْرِ مَنْ تَجِبُ لَهُ، وَعَجْزِهِ عَنْ تَكَسُّبٍ،.....
قوله: «حجبه معسرٌ أو لا» «حجبه» الضمير «الهاء» يعود على المنفق، يعني أنه لا يشترط التوارث، فحتى لو كان المنفق محجوباً بمعسر تجب النفقة.
مثاله: رجل عنده أب فقير، وجدٌّ فقير، فيجب أن ينفق على أبيه؛ لأنه ابنه ووارثه، ويجب أن ينفق على جده مع أنه لا يرثه في هذه الصورة.
وقوله: «أَوْ لا» أي: أو لم يحجبه معسر، مثاله: رجل له أبٌ رقيق، وجدٌّ حرٌّ، فهذا الأب لا يحجب الابن، بل ابن الابن يرث؛ لأن الأب رقيق لا يرث، والمحجوب بالوصف لا يَحجب، وعليه فيجب عليه الإنفاق على جده.
وكذلك لو فرض أن له جداً وليس له أب، فيجب عليه الإنفاق؛ لأنه ليس محجوباً.
قوله: «ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب» أي: وتجب النفقة أو تتمتها لكل من يرث بفرض أو تعصيب، والورثة إما ذو فرض، أو تعصيب، أو رحم، وقد يجمع الإنسان بين الفرض والتعصيب، إمّا بسببين مختلفين، أو بسبب ذي وجهين:
مثال السببين: كما لو تزوج ابنة عمه، وليس لها عاصب سواه، فهنا يرث بالفرض باعتبار الزوجية، وبالتعصيب باعتبار النسب.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن علي رضي الله عنهما: «ابني هذا سيد ... » (2704) عن أبي موسى رضي الله عنه.(13/500)
ومثال السبب الواحد ذي وجهين: كما لو مات عن أخيه من أمه وهو ابن عمه، يعني بعد أن مات أبوه تزوج عمُّه أمَّه، فأتت بولد، فهذا الولد ابن عم وأخ من أم، فإذا مات هذا الولد فيرثه بسبب واحد وهو النسب، وهو سبب ذو وجهين وهما: الفرض والتعصيب، والكلام هنا على نفقة الأقارب؛ حتى لا يقول قائل: هل تنفق الزوجة على زوجها إذا كان فقيراً؟ الجواب: لا، فكلامنا هنا على الذين تجب نفقتهم بسبب القرابة.
مثال الذي يرث بالفرض: أخوه من أمه، ومثال الذي يرث بالتعصيب: أخوه الشقيق، فإذا كان أخ من أمٍ غنياً، وأخوه فقير وجب على الغني الإنفاق على الفقير، وإذا كان أخٌ شقيق غنياً وأخوه فقير وجبت النفقة على الغني.
قوله: «لا برحم» يعني لا من يرثه برحم، أي: لا من كان من ذوي الأرحام، كالعمة بالنسبة لابن أخيها، والخالة، والخال، وما أشبه ذلك؛ فإنه لا نفقة لهم وإن ماتوا جوعاً، إلاّ على سبيل إنقاذ المعصوم من الهلاك، فخالك والرجل الذي لا صلة لك به على حد سواء، لا يجب عليك الإنفاق عليه؛ لأنه يرثه بالرحم، لا بالفرض ولا بالتعصيب، هذا المذهب.
قوله: «سوى عمودي نسبه» وهما الأصول والفروع، فهؤلاء تجب نفقتهما وإن كانوا يرثون بالرحم، فأبو الأم إذا كان غنياً وابن البنت فقيراً وجب عليه أن ينفق على ابن ابنته، كذلك العكس ابن البنت إذا كان غنياً يجب عليه أن ينفق على أبي أمه الفقير.(13/501)
فيشترط أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض أو تعصيب، إلاّ في عمودي النسب فلا يشترط، والدليل على اشتراط الإرث قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فلم يقل: وعلى القريب، فدل ذلك على اعتبار صفة الإرث، وأنه لا بد من أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه، لكن إذا قلنا: إنه لا يجب الإنفاق عليهم، فليس معنى ذلك أنه لا تجب صلتهم، فالصلة شي والإنفاق شيء آخر، فلا بد من صلتهم بما يعدُّه الناس صلة بالقول والفعل والمال.
وقوله: «لا برحم» الصواب أنها تجب النفقة حتى لمن يرثه بالرحم من غير عمودي النسب؛ لعموم الآية، وما دام أن القرآن قيد الحكم بعلة موجودة في ذي الرحم، فما الذي يخرج ذلك؟! فإذا كان يرثه بالرحم فإنه يجب عليه الإنفاق عليه لدخوله في عموم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
مثاله: ابن أختٍ غني له خال فقير، وهذا الخال ليس له أحد يرثه سوى ابن أخته، فهل تجب نفقته عليه؟ أما على المذهب فلا؛ لأنه من ذوي الأرحام، وأما على القول الصحيح فإنه يجب الإنفاق عليه.
أمثلة:
الأول: رجل غني، له أخ فقير له أبناء، فهل يجب على الأخ الغني النفقة على أخيه الفقير؟ لا يجب على المذهب؛ لأن هذا الأخ الغني لا يرث أخاه الفقير، بل يحجبه أبناؤه، وكذلك(13/502)
لا يجب عليه الإنفاق على أبناء أخيه؛ لأنه لا يرثهم إذ يحجبه أبوهم.
الثاني: رجل غني له ابن عمٍ فقير، وليس هناك غيرهما من القرابة فتجب عليه النفقة؛ لأنه يرثه بالتعصيب.
الثالث: أخ من أم غني، وأخوه من أمه فقير، وليس ثَمَّ غيرهما فتجب عليه النفقة؛ لأنه يرثه بالفرض.
الرابع: ابن أخت غني وخاله فقير، فعلى المذهب لا يجب عليه النفقة، وأما على الراجح تجب النفقة؛ لأن كلاًّ منهما يرث الآخر.
فصارت القاعدة عندنا: أنه يشترط أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض، أو تعصيب، أو رحم، إلاّ عمودي النسب فلا يشترط الإرث.
قوله: «سواء ورثه الآخر كأخ أو لا» أي: يجب على الوارث أن ينفِق سواء كان المنفق وارثاً أو لا؛ مثال ذلك: أخ شقيق مع أخ شقيق، فهذان الأخوان يتوارثان، فلو مات أحدهما عن الآخر لورثه، فلو وُجِد أخ شقيق غني وله أخ شقيق فقير والغني يرث أخاه، يعني ليس محجوباً بابنٍ ولا بأبٍ للأخ، فإنه يجب عليه أن ينفق عليه.
قوله: «كعمة» مثاله: ابن أخ غني، وعمة فقيرة، فهنا ابن الأخ يرثها بالتعصيب؛ لأنه ابن أخ، ولا ترثه هي بالتعصيب؛ لأنها عمة من ذوي الأرحام، فإذا وُجد ابن أخ غني وعمة فقيرة قلنا: يجب عليك أن تنفق عليها؛ لأنك ترثها، وإذا وجد عمة(13/503)
غنية وابن أخ فقير فإنه لا يجب عليها أن تنفق عليه؛ لأنها ترثه بالرحم، لا بفرض ولا تعصيب.
قوله: «وعتيق» العتيق يرثه المعتِق، وهو لا يرث المعتِق، كرجل عنده عبد، فأعتقه، ثم صار العبد يبيع ويشتري فأغناه الله، وكان سيده فقيراً، فهل يجب على العبد أن ينفق على سيده؟ لا؛ لأنه لا يرثه، ولو كان الأمر بالعكس، بأن افتقر العتيق، والسيد غني، فإنه يجب على السيد أن ينفق عليه؛ لأنه يرثه بالتعصيب.
قوله: «بمعروف» فالإنفاق يرجع في قدره إلى العرف؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ثم قال سبحانه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] .
قوله: «مع فقر من تجب له» هذا هو الشرط الثاني، أن يكون من تجب له النفقة فقيراً، والفقر معناه الخلو، وهو متفق مع القفر للمكان الخالي، في الاشتقاق الأكبر؛ لأن الحروف متفقة مع اختلاف الترتيب، وهو نوعان: فقر مالٍ، وفقر عمل، ففقر المال ألا يجد مالاً، وفقر العمل ألاّ يجد كسباً، إما لكونه ضعيفاً لا يستطيع العمل، وإما لكونه لا يجد عملاً، أمَّا إن كان غنياً بماله أو بكسبه فإنه لا نفقة له؛ لأنه إن كان غنياً بماله فالمال عنده، وإن كان غنياً بكسبه فإننا نلزمه بأن يكتسب.
قوله: «وعجزه عن تكسب» هذا داخل في الفقر، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجب الإنفاق على قادر على التكسب حتى ولو كان التكسب بالنسبة لمثله مزرياً، فلو فرض أن إنساناً غنياً(13/504)
وعنده أم فقيرة تستطيع أن تخدم عند الناس وتتكسب، فجاءت إلى ابنها، وقالت: أعطني نفقة، فقال لها: لا، أنت تستطيعين التكسب، بأن تشتغلي خادمة، فهل له ذلك؟
ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجب عليه الإنفاق عليها؛ لأنه اشترط في حاجة المنفَق عليه عجزه عن التكسب، لكن في هذا نظراً؛ لأن جميع الناس يقولون: إن مثل هذا الفعل ليس براً بالوالدة، فليس من البر بالوالدة أن تدعها تكنس عند الناس، وتخدم وتغسل ثيابهم، وتحلب مواشيهم، وأنت راكن في النعمة، هذا لا يقبله العقل السليم، فضلاً عن الصراط المستقيم!
إِذَا فَضَلَ عَنْ قُوتِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَرَقِيقِهِ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى مِنْ حَاصِلٍ أَوْ مُتَحَصِّلٍ، لاَ مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَثَمَنِ مُلْكٍ، وَآلَةِ صَنْعَةٍ، وَمَنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ أَبٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ، فَعَلَى الأُمِّ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثَانِ عَلَى الْجَدِّ،....................................
قوله: «إذا فضل عن قوت نفسه، وزوجته، ورقيقه يومه وليلته» هذا الشرط الثالث، وهو أن يكون المنفِق غنياً، والغنى يختلف باختلاف الأبواب، فالغني في باب الزكاة من ملك نصاباً، والغني هنا يقول المؤلف:
«إذا فضل عن قوت نفسه، وزوجته، ورقيقه، يومه وليلته» «نفسه» أي: المنفِق، «وزوجتِه» أي: زوجة المنفِق؛ لأنها من حاجاته، ولا بد أن تبقى عنده، و «رقيقه» أي: الرقيق الذي يستخدمه؛ لأن رقيقه الذي في البيت لخدمته لا يستغنى عنه، فإذا كان عنده ما يزيد على قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليله، فإنه يجب عليه أن ينفقه على قريبه؛ لأنه زائد.
قوله: «وكسوة، وسكنى» فلا بد أن يكون عنده فاضل عن(13/505)
كسوة نفسه، وزوجته، ورقيقه، وسكنى نفسه، وزوجته، ورقيقه. لكن من أين يكون هذا الفاضل؟ قال المؤلف:
«من حاصل» أي: شيء في يده الآن.
قوله: «متحصل» أي: يحصله بالصنعة، والحرفة، وما أشبه ذلك، مثاله: رجل يحترف ويكتسب ما يكفيه هو وزوجته، ورقيقه يومه وليلته، فعليه أن ينفق الفاضل.
قوله: «لا من رأس مال» المراد برأس المال هنا رأس المال الذي يحتاج إليه في التكسب لمعاشه، كرجل عنده عشرة آلاف ريال يكتسب بها ببيع وشراء، لكن نماؤها وربحها الذي يحصله يكفيه لقوته، وزوجته، ورقيقه يومه وليلته فقط، فهل لقريبه أن يطالبه بأن ينفق عليه من هذه عشرة الآلاف؟ الجواب: ليس له ذلك؛ لأنه سيقول: إذا أعطيته من رأس مالي نقص ربحي، وإذا نقص ربحي نقصت كفايتي فيحصل ضرر، والضرر لا يزال بالضرر.
قوله: «وثمن ملك» الملك يشمل الملك الذي يسكنه، فلو قال له قريبه: أنت عندك بيت، بِعْه وأنفق علي واستأجر لنفسك، فنقول: لا يلزمه؛ لأنه محتاج إلى هذا الملك، وكذلك لو كان شخص ليس عنده رأس مال لكن عنده ملك يُدِرُّ عليه، إما مزرعة، وإما بيت يؤجره فيكفي قوته وقوت زوجته ورقيقه، فهل نقول: بعِ الملك وأنفق على القريب؟ لا.
أو رجل عنده سيارة فخمة فقال له قريبه: بِعْها واشترِ سيارة قديمة، فهل نلزمه بذلك؟ لا، لاسيما إذا كان هذا الرجل ممن جرت عادته بركوب مثل هذه السيارة الفخمة.(13/506)
والحاصل أن كل ما يحتاجه الإنسان لنفسه فلا يلزم ببيعه.
قوله: «وآلة صنعة» كرجل صانع، عنده مكينة يشتغل فيها، نجارة أو حدادة، أو ما أشبه ذلك، فقال له قريبه: بعها وأنفق عليَّ، فهل يبيعها؟ لا؛ لأن هذا يضرُّه، والدليل على هذا كله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ابدأ بنفسك» (2) ، وهذا من حاجات نفسه.
قوله: «ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم» هذا إنما ينطبق على غير الأصول والفروع؛ لأن الأصول والفروع لا يشترط فيهم الإرث، فإذا وُجد أب أو جد أو ابن أو ابن ابن غني وجب عليه أن ينفق على أصله وفرعه بكل حال، لكن من له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم؛ لأن الله ـ تعالى ـ علق وجوب النفقة بالإرث، والحكم يدور مع علته، فبقدر الإرث يُلزم بالنفقة.
قوله: «فعلى الأم الثلث والثلثان على الجد» مثال ذلك: رجل فقير له أم موسرة، وجدٌّ موسر، فهنا يكون على الأم الثلث، وعلى الجد الباقي، وهو الثلثان؛ لأنه لو مات ميت عن أمه وجدِّه من قِبل أبيه لورثاه كذلك، وكيف ينفقان؟ نقول: إمَّا أن تنفق هي يوماً والجد يومين، وإما أن يجتمعا مدى الدهر، فتسلم هي
__________
(1) سبق تخريجه ص (233) .
(2) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) عن جابر رضي الله عنه.(13/507)
عشرة، وهو عشرين على حسب ما يكون أصلح وأنفع للمنفق عليه.
وقوله: «الجد» أي: الجد من أب، احترازاً من الجد من أم؛ لأنه لو كان له أم وجدٌّ من قبلها، أي: أبوها، وكلاهما غني، والولد فقير، فالنفقة هنا على الأم وحدها؛ لأنها هي التي ترثه فقط فرضاً وردّاً، أما أبو الأم فلا يرث شيئاً في هذه الصورة، فلا نفقة عليه.
ولو كانت الأم فقيرة وأبوها غنياً، فهل يجب عليه النفقة؟ نعم؛ لأن الأصول والفروع لا يشترط فيهما التوارث.
وَعَلَى الْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي عَلَى الأَخِ، وَالأَبُ يَنْفَرِدُ بِنَفَقَةِ وَلَدِهِ، وَمَنْ لَهُ ابْنٌ فَقِيرٌ وَأَخٌ مُوسِرٌ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا، وَمَنْ أُمُّهُ فَقِيرَةٌ، وَجَدَّتُهُ مُوسِرَةٌ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْجَدَّةِ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَيْدٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ كَظِئْرٍ لِحَوْلَيْنِ،............................
قوله: «وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ» لأنه مبني على الميراث، فلو هلك هالك عن جدة وأخ شقيق، فللجدة السدس والباقي للأخ، فنقول: على الجدة السدس، والباقي على الأخ.
ولو كان أخ لأم وجدة فعليهما الإنفاق بالسوية؛ لأن الأخ لأم يرث السدس، واحداً، وترث الجدة السدس، واحداً، فتكون المسألة من ستة ثم ترد إلى اثنين.
وقال بعض أصحابنا في هذه المسألة: لا يجب على الأخ لأم إلاّ السدس؛ لأنه لا يرث بالفرض إلاّ السدس، والرد ليس إرثاً بالفرض بل هو بالرد، وتكون خمسة الأسداس على الجدة؛ لأن الأصول لا يشترط فيهم التوارث، وأنا أتوقف في هذه المسألة لأن لكل منهما وجهاً.
قوله: «والأب ينفرد بنفقة ولده» المراد بالأب هنا الأب الأدنى، وليس المراد به الجد، فإذا وجد أم غنية وأب غني،(13/508)
ولهما ولد فالنفقة تكون على الأب، والدليل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ولم يجعل على الأم شيئاً، وقوله صلّى الله عليه وسلّم لهند رضي الله عنها: «خذي ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف» (1) ، فدل القرآن والسنة على أن الأب ينفرد بنفقة الولد.
ولكن هاهنا مسألة: لو كان رجل فقير، وله أب غني وابن غني، فهل ينفرد الأب بالنفقة؟ أو نقول: إنها على الابن، أو نقول: إن على الأب السدس والباقي على الابن؛ لأنهما يرثان كذلك؟
أمَّا المذهب فظاهر كلامهم في هذه الصورة أن النفقة على الأب، لعموم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
والقول الثاني: اختاره ابن عقيل من أصحابنا، أن النفقة على الابن.
والقول الثالث: أن على الأب السدس، والباقي على الابن.
ويمكن أن نجيب على القول الأول بأن الآية في الرضيع، والرضيع ليس له ولد، والله ـ تعالى ـ يقول في الرضيع: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} ، فالآية ليست شاملة، إنما هي حكم في صورة معيَّنة، وهي أمٌّ ترضع طفلاً لشخص، فعليه أن ينفق عليه، أما الصورة التي ذكرناها فلا تدخل في الآية.
__________
(1) سبق تخريجه ص (495) .(13/509)
والراجح في المسألة أن يقال: إنها تجب على الابن فقط؛ وذلك لأن الابن مأمورٌ بِبِرِّ أبيه أكثر من أمر الأب ببرِّ ابنه؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» (1) ، ويقول: «أنت ومالك لأبيك» (2) ، ويقول في فاطمة رضي الله عنها: «إنها بضعة مني» (3) ، فالإنسان جزء من أبيه.
فإن قلت: الآية تقول: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} ، فلماذا لا تعلِّقها بحسب الإرث؟ قلنا: إن هذا في إرضاع الطفل لا في النفقة.
قوله: «ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما» لا نفقة له على الأخ؛ لأن الأخ لا يرثه؛ لأنه محجوب بالابن، ولا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/41) ، وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2290) ، والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (1358) ، والنسائي في البيوع/ باب الحث على الكسب (4450) (7/240) عن عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (4261) ، وانظر: التلخيص (1665) ، والإرواء (1626) .
(2) أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2291) عن جابر رضي الله عنه، وصححه البوصيري على شرط البخاري، وصححه ابن حبان (410) إحسان عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214) ، وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530) ، وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسن إسناده في الإرواء (3/325) .
(3) أخرجه البخاري في المناقب/ باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... (3714) ، ومسلم في الفضائل/ باب من فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم (2449) عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.(13/510)
نفقة على الابن؛ لأنه فقير، فإن قال الابن لعمِّه: أنفق عليَّ، فهل له ذلك؟ لا؛ لأن العم لا يرثه بل هو محجوب بالأب، وهذا بناءً على القاعدة التي أصَّلها المؤلف بأنه يشترط في غير الأصول والفروع أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض أو تعصيب.
قوله: «ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على الجدة» لأنها غنية، وإن كانت غير وارثة؛ لأن الأصول والفروع لا يشترط فيهم التوارث، فإن كان له أم فقيرة وأم أب غنية، فتجب النفقة على أم الأب.
ومثله لو كان له جدة غنية وأب فقير، فتجب النفقة على الجدة وإن كانت لا ترثه؛ لأن نفقة الأصول والفروع لا يشترط فيها التوارث.
قوله: «ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته» لأن نفقة زوجته من الإنفاق عليه؛ لأن الزوجة إذا لم تجد النفقة فستقول لزوجها: أنفق، أو طلِّق، فإن قال: ما عندي شيء، نقول: يجب على من تلزمه نفقتك أن ينفق على زوجتك.
وهل يلزمه أن يزوِّجه؟ نعم؛ لأن الزواج من النفقة؛ ولهذا جاز أن نعطي الإنسان من الزكاة إذا كان محتاجاً إلى زواج، فإن زَوَّجَهُ امرأة، وقال: لا تكفيني واحدة، فهل يزوِّجه الثانية؟ نعم، فإن قال: لا تكفي، فثالثة، فإن قال: لا تكفي فرابعة.
قوله: «كظئر لحولين» الظئر المرضِع، أي: كما يجب الإنفاق على الظئر لمدة حولين.(13/511)
مثاله: رجل غني له أخ رضيع، وليس عند الرضيع مال، وهو يحتاج إلى مرضع، فيجب على الأخ الغني الإنفاق على هذا المرضع، بأن يدفع أجرة رضاعته، لكن قال المؤلف: «لحولين» .
وظاهر كلام المؤلف ولو احتاج الرضيع إلى أكثر، ودليله قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] .
والصحيح في هذه المسألة أن يقال: كظئر لحاجة الطفل، لا لحولين؛ لأن بعض الأطفال لا يكفيه الرضاع لمدة الحولين، وبعضهم يكفيه الرضاع لمدة حول ونصف، فيختلفون، فالصواب أن الحكم هنا منوط بحاجة الرضيع، فما دام الرضيع محتاجاً إلى ظئرٍ وجب على من تلزمه نفقته أن ينفق على هذا الطفل، إما بأجرة أو بإنفاق.
وَلاَ نَفَقَةَ مَعَ اخْتِلاَفِ دِينٍ إِلاَّ بِالْوَلاَءِ، وَعلَى الأَبِ أنْ يَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهِ وَيُؤَدِّيَ الأُجْرَةَ، وَلاَ يَمْنَعُ أُمَّهُ إِرْضَاعَهُ، وَلاَ يَلْزَمُهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفِ تَلَفِهِ، وَلَهَا طَلَبُ أُجْرَةِ المِثْلِ، وَلَوْ أَرضَعَهُ غَيْرُهَا مَجَّاناً، بَائِناً كَانَتْ أَوْ تَحْتَهُ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ آخَرَ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِ الأَوَّلِ مَا لَمْ يُضْطرَّ إِلَيْهَا.
قوله: «ولا نفقة» «لا» نافية للجنس «نفقة» اسمها، وخبرها محذوف، والتقدير: «لا نفقة واجبةٌ» .
قوله: «مع اختلاف دين» مثل أن يكون أحدهما كافراً والثاني مؤمناً، أو أن يكون أحدهما يهودياً والآخر نصرانياً فإنه لا نفقة؛ لفقد الموالاة والمناصرة بين المسلمين والكافرين؛ لأنه لا يجوز أن يكون المسلم ولياً للكافر، والكافر لن يكون ولياً للمسلم، وربما يستدل له بقوله تعالى: {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة: 9] ، فالإنفاق عليهم لا شك أنه من الولاية، وهذه المسألة مختلف فيها بين أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه لا نفقة لانقطاع الموالاة والمناصرة،(13/512)
ولعدم التوارث أيضاً، فإنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
ومنهم من قال: إنها تجب لعموم قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] ، ولقوله في الوالدين المشركين: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] والصحيح أنها لا تجب، ولكن تجب الصلة، والصلة شيء غير الإنفاق؛ لأن الصلة تحصل بما عدَّه الناس صلة، ولو بالهدايا وما أشبهها، وأما الإنفاق فإنه يلتزم بجميع مؤونة المنفَق عليه.
وقال بعض العلماء: إن اتفاق الدين شرط إلاّ في الأصول والفروع فإنه ليس بشرط، واستدلوا بالآية التي أشرنا إليها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ، ولأن قوة الصلة بين الأصول والفروع أقوى من صلة الحواشي بعضهم مع بعض، ولكن الأقرب ما ذكره المؤلف أنه لا نفقة مع اختلاف الدين، وأما الصلة بحسب ما تقتضيه تلك القرابة فإنها واجبة.
قوله: «إلاّ بالولاء» هذا الاستثناء هل هو متصل أم منقطع؟ منقطع؛ لأننا نتكلم عن نفقة الأقارب، والولاء ليس من القرابة، بل سبب مستقل، وقد يقول قائل: إن عموم قول المؤلف: «ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب» يشمل من يرثه بالقرابة والولاء، وحينئذٍ يكون الاستثناء متصلاً، وسواءٌ كان الاستثناء متصلاً أو منفصلاً، فإن اختلاف الدين لا يمنع من وجوب النفقة إذا كان سببها الولاء.
مثاله: أعتق رجلٌ عبداً له، ثم افتقر العبد، وكان العبد نصرانياً، فهل يجب على سيده أن ينفق عليه؟ على المذهب(13/513)
يجب؛ وعلة ذلك قالوا: إنه لا ينقطع التوارث باختلاف الدين في الولاء، وقد سبق أن هذا القول ضعيفٌ جداً، وأن اختلاف الدين حتى في الولاء يمنع من التوارث، واستدلالهم بعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الولاء لمن أعتق» (1) ، يمكن أن نقول أيضاً: وقد قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] ، وقال سبحانه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وما أشبه ذلك، فإذا استدلوا بعموم: «إنما الولاء لمن أعتق» استدللنا عليهم بعموم الميراث بالقرابة.
والصواب: أن العمومين، عموم الولاء، وعموم القرابة مخصوصان بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (2) ، وإذا كانوا هم مقرين أن الميراث بالولاء متأخر عن الميراث بالنسب، فلماذا يجعل أقوى منه في هذه المسألة؟! فهذا من التناقض أن نجعل الأدنى أقوى من الأعلى، فالصواب أنه مع اختلاف الدين لا نفقة لا بالولاء ولا بالقرابة، وأن اشتراط اتفاق الدين لا يستثنى منه شيء، فتكون شروط النفقة أربعة: اثنان لا استثناء فيهما، واثنان فيهما استثناء، وهي:
الأول: غنى المنفِق.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطاً لا تحل (2168) ، ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) (8) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) سبق تخريجه ص (204) .(13/514)
الثاني: حاجة المنفَق عليه.
الثالث: اتفاق الدين، إلاّ في الولاء.
الرابع: أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض أو تعصيب، إلاّ في عمودي النسب.
وسبق أن الراجح أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض، أو تعصيب، أو رحم.
قوله: «وعلى الأب» «على» تفيد الوجوب كما قال علماء أصول الفقه: إن «على» ظاهرة في الوجوب، وليست نصاً صريحاً فيه، فإذا قيل: عليك أن تفعل، فمعناه أنه واجب.
قوله: «أن يسترضع لولده» والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فالأب عليه أن يسترضع لولده؛ ووجه الدلالة من الآية أن الله جعل إرضاعهن لأب الولد فقال: « {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} » إذاً فهُنَّ قائمات عنهم بواجب، ومن جهة التعليل؛ لأن الإنفاق على الطفل يجب على أبيه: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] .
وقوله: «لولده» يشمل الذكر والأنثى؛ لأن «ولد» تشمل الذكر والأنثى.
قوله: «ويؤدي الأجرة» لأن الأجرة هي نفقة الأولاد، والدليل على ذلك أن الأم يزيد لبنها بالتغذي بهذا الرزق الذي يعطيها المولود له، وظاهر كلام المؤلف أن عليه أن يؤدي الأجرة سواء كانت الأم معه، أو بائناً منه، فإذا طلبت الأم من زوجها أن يؤدي الأجرة عن إرضاع الولد، ولو كانت تحته، فعليه أن يؤدي(13/515)
الأجرة، نأخذ ذلك من قول المؤلف: «وعلى الأب أن يسترضع لولده» ولم يقيده بما إذا كانت الأم بائناً، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وهذا الذي ذهب إليه المؤلف هو المشهور من المذهب، وأن الأجرة حق لها.
واختار شيخ الإسلام: أنه إذا كانت المرأة تحت الزوج فليس لها إلاّ الإنفاق فقط، وليس لها طلب الأجرة، وما قاله الشيخ أصح؛ لأن الله قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهذا في المطلقات، والمطلقة ليست مع الزوج، وأما التي مع زوجها فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فإن قلت: إذا كانت زوجة فعلى الزوج النفقة والكسوة بالزوجية، سواء أرضعت أم لم ترضع؟ قلنا: لا مانع من أن يكون للإنفاق سببان، فإذا تخلف أحدهما بقي الآخر، فلو كانت الزوجة في هذه الحال ناشزاً، فليس لها الإنفاق بمقتضى الزوجية، لكن بمقتضى الإرضاع لها نفقة، ومن المعلوم أنك لو استقرأت أحوال الناس من عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى اليوم ما وجدت امرأة من النساء تطالب زوجها بأجرة إرضاع الولد، وهذا هو القول الصحيح.
قوله: «ولا يمنع أمه إرضاعه» قوله: «ولا يمنع» يجوز الرفع على الاستئناف، ويجوز النصب عطفاً على قوله: «أن يسترضع» وعلى هذا التقدير يكون المعنى وعليه ألاّ يمنع أمه إرضاعه، وعلى كلِّ حال فإن الزوج لا يمنع الأم إرضاع الولد؛ لأن لبن الأم أنفع للولد من لبن غيره، ولأن الأم إذا أرضعت الطفل حنَّت(13/516)
عليه وألفها، وهو مأمور أن يبرَّها، فإذا لم ترضعه لم يحصل ذلك.
وقوله: «لا يمنع أمه إرضاعه» لا ينبغي أن يكون على الإطلاق، بل إذا كان في الأم مرض يخشى من تعديه إلى الولد، فإنه في هذه الحال يجب عليه أن يمنعها، كأن يكون في ثدييها جروح، لو رضع منهما لتأثر، ومثل أن يطرأ عليها مرض معدٍ كالسل ونحوه فإن عليه أن يمنعها من إرضاعه.
قوله: «ولا يلزمها إلاّ لضرورة كخوف تلفه» أي: أن الأم لا يلزمها إرضاع الولد إلاّ لضرورة.
وظاهر كلام المؤلف: أن الضرورة تنحصر بخوف التلف، وأما خوف الضرر فليس بضرورة، والصواب أن الضرورة لا تنحصر بخوف التلف، بل إما بخوف التلف أو بخوف الضرر.
مثال خوف التلف: لو لم نجد مرضعة، أو وجدناها ولكن الطفل لم يقبل ثديها.
مثال خوف الضرر: أن نجد مرضعة ويقبلها الصبي، لكن لبنها قليل يعيش به الولد لكنه لا يكفيه، فهنا يلزم الأم أن ترضعه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يلزمها سواء كانت في عصمة الزوج أو بائناً منه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل إذا كانت في عصمة الزوج فيجب عليها أن ترضعه، وما قاله الشيخ أصح، إلاّ إذا تراضت هي والوالد بأن يرضعه غيرها فلا حرج، أما إذا قال الزوج: لا يرضعه إلاّ أنت فإنه يلزمها، حتى وإن وجدنا من(13/517)
يرضعه، أو وجدنا له لبناً صناعياً يمكنه أن يتغذى به، وقال الزوج: لا بد أن ترضعيه فإنه يلزمها؛ لأن الزوج متكفل بالنفقة، والنفقة كما ذكرنا في مقابل الزوجية والرضاع.
ولو قال الزوج: أنا أحب أن أرضع ابني من اللبن الصناعي؛ لأنه أبعد عن الأمراض وشبهها، وقالت الزوجة: بل أنا سأرضعه، فالحق هنا للزوجة، وليس للزوج أن يمنعها.
قوله: «ولها طلب أجرة المثل» «ولها» الضمير يعود على الأم، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن لها أن تطلب أجرة المثل، سواء كانت مع الزوج أو لا، وسواء كان الولد ولدها أو ولد غيرها.
أما إذا كانت في غير حبال الزوج فهو ظاهر القرآن؛ لقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، أما إذا كانت مع الزوج، فإنه تقدم أن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا أجرة لها؛ ولأن لها على زوجها النفقة، وهي قائمة مقام الأجرة.
وقوله: «أجرة المثل» ظاهره أنه ليس لها أن تطلب أكثر من أجرة المثل، فما الدليل وهي حرة، وهذا عقد، إن شاءت طلبت أجرة المثل، وإن شاءت طلبت أكثر، وإن شاءت طلبت دون ذلك؟ ربما يستدل لذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ولم يقل: ما طلبنه، فما جرت العادة بأنه أجرها فتعطى إياه، وما كان زائداً فليس لها الحق في طلبه، فإذا طلبت أجرة المثل ألزم الزوج بدفعها، وإن طلبت أكثر وطالب هو بأجرة المثل، فإنه لا يلزمه حينئذٍ أن يدفع أكثر من أجرة المثل، وعلى(13/518)
هذا يتنزَّل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فإن طلبت دون أجرة المثل وأبى هو إلاّ أجرة المثل، فلا يلزم الزوج قبول التنازل؛ لأنه سيكون فيه مِنَّة عليه ولو في المستقبل، فربما في يوم من الأيام تقول: نعم هذا جزائي، الناس يرضعون بمائة ريال وأنا أرضعت بثمانين ريالاً.
قوله: «ولو أرضعه غيرها مجاناً» أي: أن أم الطفل، سواء قلنا: إنها في حباله على المذهب، أو إنها مطلقة على القول الراجح، إذا وجدنا من يرضعه مجاناً وأبت هي إلا بأجرة المثل، فهنا يجبر الزوج بأن ترضعه أمه ويدفع لها الأجرة؛ وعلة ذلك أن لبن الأم أنفع من لبن غيرها، ولأن حنوَّ الأم على ولدها أشد، ولأنه إذا ارتضع منها فإنه يألفها ويحبها، وكل هذه مصالح مقصودة للشرع.
قوله: «بائناً كانت أو تحته» «بائناً» خبر «لكانت» واسمها مستتر، أي سواء كانت في حبال الزوج أو تحته، وعبر المؤلف بقوله: «بائناً» دون قوله: مطلقة؛ لأن المطلقة الرجعية في حكم الزوجات، والبائن هي من كانت في عدة لا رجعة فيها، أو من انتهت عدتها.
وسبق أن شيخ الإسلام رحمه الله يخالف في هذه المسألة، ويقول: إنها إذا كانت تحته فليس لها أجرة.
قوله: «وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول» مثاله: امرأة طلقها زوجها وهي حامل فوضعت، وبعد انتهاء العدة(13/519)
تزوجت بآخر، وهي ترضع ولدها من الزوج الأول، فللزوج الثاني أن يمنعها من إرضاع الولد؛ لأنها إذا اشتغلت بإرضاعه اشتغلت عن حقوق الزوج الثاني، فهو يقول: أنا لا أريد أن تشتغل بهذا الطفل الذي ليس مني عن حقوقي، فله الحق في منعها إلا في حال ذكرها المؤلف، وحال لم يذكرها، الحال التي ذكرها قال:
«ما لم يضطر إليها» أصل يضطر ـ يضترَّ ـ فقلبت التاء طاءً، فصارت يضطر، فإن اضطر إليها بحيث لم يقبل ثدي غيرها، أو لم يوجد من يرضعه فليس للزوج الثاني أن يمنع؛ لأن هذا من باب إنقاذ المعصوم من الهلكة، وهو أمر واجب.
الحال الثانية: إذا اشترطته عليه عند العقد قالت: أشترط عليك أن أرضع ابني من زوجي الأول، فليس له منعها؛ لأن ذلك شُرِط عليه، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فأمر الله بالوفاء بالعقد، والوفاء بالعقد يشمل الوفاء بأصل العقد، والوفاء بصفة العقد، والشروط في العقود صفات فيها، والدليل الآخر: قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] والشروط عهد؛ لأن المشروط عليه متعهد بهذا الشرط، ودليله من السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (2) ، فإذا كانت هذه
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح (2721) بلفظ: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» ، ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (124) .(13/520)
الزوجة قد اشترطت على الزوج الثاني أن ترضع ولدها من الزوج الأول فليس للزوج الثاني أن يمنع.
تنبيه: هل نقول: «اضطَّر» أو «اضطُّر» ؟
الصواب بالضم اضطُّر، وقول بعض الطلبة: «اضطَّر إلى أكل الميتة» خطأ؛ لأن اضطَّر يعني اضطر غيره، أي: ألجأ غيره إلى كذا وكذا، لكن «اضطُّر» هو مُلجأ إلى هذا الشيء.(13/521)
فَصْلٌ
وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ طَعَاماً، وَكِسْوَةً، وَسُكْنَى، وَأَنْ لاَ يُكَلِّفَهُ مُشِقّاً كَثِيراً، وَإِنِ اِتَّفَقَا عَلَى المُخَارَجَةِ جَازَ، وَيُريحُهُ وَقْتَ الْقَائِلَةِ، وَالنَّوْمِ، وَالصَّلاَةِ، وَيُرْكِبُهُ في السَّفَر عُقْبَةً، وَإِنْ طَلَبَ نِكَاحاً زَوَّجَهُ، أَوْ بَاعَهُ، وَإِنْ طَلَبَتْهُ أَمَةٌ وَطِئَهَا، أَوْ زَوَّجَهَا، أَوْ بَاعَهَا.
قوله: «وعليه» أي: على المالك السيد.
قوله: «نفقة رقيقه» أي: المملوك من ذكر وأنثى، والرق له أسباب منها الكفر، فالكفار إذا حاربناهم وسبيناهم، فمن كان من أهل القتال خير الإمام فيه، ومن لم يكن من أهل القتال فهو رقيق.
وإذا تزوج الحر بالرقيقة صار أولاده أرقاء يباعون؛ ولهذا قال الإمام أحمد: إذا تزوج الحر رقيقة رَقَّ نصفُه؛ لأن الأولاد يكونون أرقاء، إلا إذا شرط أنهم أحرار فهم أحرار.
قوله: «طعاماً» عليه أن يوفر لرقيقه طعاماً مطبوخاً، وكذلك شراباً، ولم يذكره المؤلف؛ لأنه داخل في الطعام.
قوله: «وكسوة وسكنى» بالمعروف، أي: بما جرى به العرف، وليس بلازم أن يسكنه كما يسكن نفسه، أو يلبسه كما يلبس نفسه، وإنما الواجب بالمعروف، ولا شك أن الكمال أن يكون مما اكتسى، ومما سكن.
قوله: «وأن لا يكلفه» يعني وعليه ألاَّ يكلفه، وكيف نقدر «أن» المصدرية هنا؟ التقدير وعدمُ تكليفه؛ لأنهم يقولون: إن حرف النفي يقدر بـ (عدم) فإذا دخل حرف مصدري على حرف نفي، فإذا أردت أن تحوّله إلى مصدر فقدر بدلاً عن أداة النفي (عدم) أي: عدم تكليفه.(13/522)
قوله: «مشقاً» المُشق هو الذي يبلغ به المشقة والتعب، ولكن قال:
«كثيراً» وأما أصل المشقة فلا بد منها، لكن أن يكون مشقاً كثيراً لا يطيقه ويتعب منه، فهذا لا يجوز، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يكلف» يجوز الرفع على الاستئناف، ويجوز بالنصب بتقدير (أن) .
وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق» دليل على أنه يجوز أن يكلفه من العمل ما يطيق، فلو أمره أن يفعل شيئاً، كأن يكلفه أن يحرث مثلاً، فقال المملوك: لن أفعل، أنا لا أعرف إلاّ الخياطة، تريدني أن أخيط سأفعل، أما أن أحرث فلا، فهل له أن يلزمه؟ نعم، فإن قال له: خُطْ، وهو لا يعرف إلاّ الحراثة، فهنا يجب عليه أن يخيط، والمسؤولية على السيد، فإن خاط خياطة سيئة فلا شيء عليه.
قوله: «وإن اتفقا على المخارجة جاز» المخارجة مأخوذة من الخراج، ويقال: الخرج، وهو الرزق، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] ، والمخارجة هي أن يتفق السيد والرقيق على شيء معلوم، يدفعه الرقيق كل يوم، أو كل أسبوع، أو كل شهر لسيده، فهذا جائز، ولكن بشرط أن يكون ذلك القدر من كسبه فأقل، فإذا كان هذا الرقيق يكسب كل يوم
__________
(1) أخرجه مسلم في النذر/ باب إطعام المملوك مما يأكل.. (1662) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(13/523)
عشرة ريالات في الغالب، واتفقا على المخارجة بثمانية فإنه جائز، فإن كان من عادته أن يكتسب عشرة واتفقا على المخارجة باثني عشر فإنه لا يجوز؛ لأنه أكثر مما يتحمل، ويقال: إنه كان للزبير ألف رقيق، وقد اتفق معهم على المخارجة، كل يوم يأتي له كل واحد منهم بدرهم (1) ، فيأتيه كل يوم ألف درهم، وهو على فراشه.
فما فائدة المخارجة؟ اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن فائدتها أن الرقيق إذا حصَّل القدر الذي اتفق عليه فهو حُرٌّ في بقية وقته، إن شاء عمل، وإن شاء نام، وإن شاء ذهب مع إخوانه وزملائه، ولنفرض أنهما اتفقا على المخارجة كل يوم عشرة ريالات، وصار هذا الرقيق يحصل عشرة ريالات من الصبح إلى الظهر، فهنا الرقيق حر في بقية يومه من الظهر إلى العصر، إن شاء نام، أو طلب العلم، أو خرج للبَرِّ، ولنفرض أن هذا الرقيق حصَّل في آخر النهار خمسة ريالات، فقال السيد: أعطنيها، أنت ملكي وما ملكتَ، فأخذها منه، فهل يجوز؟
المذهب أنه يجوز، وعلى هذا ففائدة المخارجة على المذهب أنه إذا حصَّل القدر الذي اتفق عليه يرتاح، إن شاء عمل وإن شاء لم يعمل، بينما لو لم يكن بينهما مخارجة لكان السيد يملك أن يشغِّله من الصباح إلى آخر النهار.
وقال بعض أهل العلم: إن فائدة المخارجة أن ما اكتسبه العبد زائداً على القدر الذي اتفق عليه فهو له، وهو حر فيه،
__________
(1) ذكره ابن قدامة في المغني (8/203) .(13/524)
فمثلاً هذا العبد الذي اكتسب خمسة ريالات في آخر النهار، وقال السيد: أعطنيها، هي لي، فرفض المملوك، فالمذهب أن المملوك لا يملك ذلك، وأن للسيد أخذها.
والقول الصحيح أنه يملك ذلك، وأن ما كسبه زائداً على القدر المتفق عليه فهو له، ولا يرد على ذلك أن العبد لا يملك؛ لأن ملكه لسيده، فإذا وافق سيده على أن يكون ما ملكه له فإن الحق له وقد أسقطه، لكن لو شاء السيد فيما بعد وأبطل المخارجة فهل يجوز؟ نعم؛ لأنها عقد جائز، وليست عقداً لازماً والعبد مملوك.
قوله: «ويريحه وقت القائلة» القائلة التي تكون في منتصف النهار قبل الظهر، ولكن الظاهر أن مرادهم في الأيام الطويلة دون أيام الشتاء؛ لأن أيام الشتاء قصيرة، والراحة قد حصلت بنوم الليل، ثم ليس هناك تعب ولا مشقة، لكن في أيام الصيف تكون الحاجة ماسة إلى إراحته في وقت القائلة حتى وإن لم يشق عليه، فمثلاً لو كان يتمكن من الشغل في وقت القائلة بدون أن يشق عليه كثيراً فإنه يجب أن يريحه.
قوله: «والنوم» هل المراد نوم الليل أو النهار وقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم: 23] ؟ لكن سبق أن عماد النوم الليل بلا شك، فيريحه وقت النوم.
قوله: «والصلاة» أي: يريحه أيضاً وقت الصلاة، أي: المفروضة؛ لأن التطوع الحق للسيد، فإن قال: أنا سأصلي التراويح ـ قيام رمضان ـ فللسيد منعه وأمره بأن يشتغل.(13/525)
قوله: «ويركبه في السفر عقبة» الناس فيما مضى مراكبهم إبل، وحمير، وبغال، وخيل، وهذه الأشياء المركوبة قد لا تحتمل أن يركبها اثنان، فيجب عليه أن يركبه عقبة، والعُقبة أن يتعاقب معه فيركب السيد قليلاً، والعبد قليلاً.
وظاهر كلام المؤلف سواء كان ذلك يشق على الرقيق أو لا يشق، ولكننا إذا نظرنا إلى الحديث السابق: «ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق» (1) ، قلنا: إذا كان هذا الرقيق نشيطاً لا يهمه أن يمشي فإنه لا يلزمه أن يعقبه، ولكنه على سبيل الأفضل والتواضع.
قوله: «وإن طلب نكاحاً زوَّجه أو باعه» إذا طلب العبد نكاحاً وجب عليه أن يزوجه؛ لأن تزويجه من الإنفاق، أو يبيعه على من يغلب على ظنه أنه يزوجه، أما أن يبيعه على شخص لا يزوجه أو قد يكون أقسى من صاحبه الأول، فهذا لا فائدة في بيعه.
قوله: «وإن طلبته أمة وطئها أو زوَّجها أو باعها» إذا طلبت الأمة الزواج فإنه يتخلص من الواجب عليه في إعفافها بواحد من أمور ثلاثة: إما بأن يطأها، أو يزوجها، أو يبيعها.
وقوله: «أو باعها» ليس على إطلاقه، بل لا بد أن يبيعها على من يمكنه أن يعفها إما بوطئها أو بكونه صاحب تقوى، فعلم أنه إذا لم يقدر على وطئها فإنه لن يتركها هملاً، أما أن يبيعها على من لا يقوم بالواجب فهذا لا يجوز؛ لأنه لا فرق بين أن تبقى عنده مهجورة، أو تباع على رجل يهجرها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (523)(13/526)
فَصْلٌ
هذا الفصل في نفقة البهائم، والبهائم جمع بهيمة، وهي تقال مطلقة ومقيدة، فيقال: بهائم، ويقال: بهيمة الأنعام، فإذا قيدت ببهيمة الأنعام فتكون من الأصناف الأربعة التي ذكرها الله عزّ وجل في سورة الأنعام، فقال سبحانه: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 142، 143] الآية، ثم قال سبحانه: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] ، فبهيمة الأنعام عند الإضافة يراد به هذه الأصناف الأربعة.
وأما إذا أطلقت الأنعام فالمراد بها كل الدواب، وسميت بذلك من البُهم؛ لأن هذه البهائم لا تستطيع أن تعبِّر عما في نفسها، فإذا جاعت أو عطشت لا تتكلم، وتقول: أريد ماءً أو علفاً، بل غاية ما عندها أن تمد صوتها، لكن هل لها لغة معروفة فيما بينها؟ نعم، كل البهائم ـ بإذن الله ـ لها لغة معروفة فيما بينها من جنسها، ولهذا قال داود وسليمان عليهما السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] ، وسبب وجوب النفقة على البهائم هو الملك.
وَعَلَيْهِ عَلَفُ بَهَائِمِهِ، وَسَقْيُهَا، وَمَا يُصْلِحُهَا، وَأَنْ لاَ يُحَمِّلَهَا مَا تَعْجَزُ عَنْهُ وَلاَ يَحْلِبُ مِنْ لَبَنِهَا مَا يضُرُّ وَلَدَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا، أَوْ إِجَارَتِهَا، أَوْ ذَبْحِهَا، إِنْ أُكِلَتْ.
قوله: «وعليه علف بهائمه، وسقيها، وما يصلحها» أي: يجب عليه العلف والسقي وما يصلحها، ودليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» (1) ، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم: «أن امرأة دخلت النار
__________
(1) أخرجه أحمد (2/160) ، وأبو داود في الزكاة/ باب في صلة الرحم (1692) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الإرواء (3/406) .(13/527)
في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» (1) .
وقوله: «وما يصلحها» أي: ما يقيها الضرر، فيلزمه أن يجعلها تحت سقف يقيها من الحر أو البرد، إذا كانت تتأثر بالحر أو البرد، فإذا كانت لا تتأثر فإنه لا يلزمه.
وقوله: «ما يصلحها» يشمل أيضاً ما إذا كان فيها جرح أو شيء يؤلمها، ويمكنه أن يعالجها فإنه يلزمه، ومن ثم احتاج الناس إلى البياطرة؛ لأنه لا يمكن أن يدعها تتألم وهو يمكن أن يزيل ألمها، فإن حاجتها إلى إزالة ما يؤلمها قد تكون أشد من حاجتها إلى الأكل والشرب.
قوله: «وأن لا يحملها ما تعجز عنه» أي: وعليه أيضاً ألاَّ يحملها ما تعجز عنه؛ لأنه إذا حملها ما تعجز عنه شق عليها ذلك، ولكن كيف نعلم أن ذلك يشق عليها أو تعجز عنه؟ نعلم ذلك من حال البهيمة، فالضأن لا يمكن أن يحمل ما تحمله البقرة، والبقر لا يحمل ما تحمله الإبل، والضعيف منها لا يحمل ما يحمله القوي، وهذا شيء يعرف بظاهر الحال، فيجب عليه أن يرحمها.
وقوله: «ما تعجز عنه» لم يقل: «وألا يحملها ما لم تجرِ العادة بتحميلها إياه» ، وعلى هذا فيجوز أن يحمّلها ما لم تجر العادة تحميلها إياه، مثل أن يستعمل البقر في الحمل، ويستعمل الإبل في الحرث، والمعز في ركوب الأطفال، فهذا لا بأس به إذا لم يشق عليها.
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب فضل سقي الماء (2365) ، ومسلم في الحيوان/ باب تحريمه قتل الهرة (2242) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(13/528)
فإن قلت: كيف تقول ذلك، وقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم: «أن رجلاً كان يسوق بقرة وهو راكبها، فالتفتت إليه وقالت: إنا لم نخلق لهذا» (1) ؟ فإن هذا يدل على أنه لا يجوز أن تستعمل فيما لم تجرِ العادة به.
والجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *} [النحل] ، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} ، فهذا كله يدل على أنه يجوز لنا أن ننتفع بها بجميع وجوه الانتفاع، ويُحمل ما جاء في هذا الحديث على أن هذه البقرة قد شق عليها الركوب فلما شق عليها وليس من العادة قالت ذلك.
وقال بعض العلماء: إنه لا تستعمل هذه البهائم إلاّ فيما خلقت له، فيما جرت العادة باستعمالها فيه.
مسألة: هل يجوز أن نجري تجارب على هذه الحيوانات في عقاقير أو غيرها من الأدوية؟ نعم؛ لأنها خلقت لنا، فإذا كان هذا من مصلحتنا، ونحن لم نقصد التعذيب، فإنه لا بأس به، ولهذا فنحن نعذبها أكبر تعذيب، وذلك بذبحها لنأكلها، ومصلحة الأمة بمعرفة ما ينتج عن هذه العقاقير وما أشبه ذلك أكثر من مصلحة الأكل، ولكن يجب في هذه الحال أن يستعمل أقرب وسيلة لإراحتها.
قوله: «ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها» معنى «يضر» أي: ينقص تغذيته حتى لا يتغذى.
وقوله: «ولا يحلب» هذه جملة تحتمل الكراهة وتحتمل
__________
(1) أخرجه البخاري في المزارعة/ باب استعمال البقر للحراثة (2324) ، ومسلم في الفضائل/ باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2388) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(13/529)
التحريم، ولكن إذا نظرنا إلى المعنى قلنا: إنها على سبيل التحريم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، ولحديث المرأة التي عذبت في هِرَّة، لا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض (2) ، ومن الأفضل ما يفعله كثير من الناس، أن يبدأ أولاً بإرضاع الولد، ثم يأخذ اللبن حتى يجعل لنفسه ما فضل عن حاجة ولدها.
قوله: «فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن أكلت» أي: لكونه فقيراً عجز عن نفقتها، فإنه لا يمكن أن نبقي هذه البهيمة عنده تتعذب، بل يجبر على أحد هذه الأمور، والذي يتولى إجباره هو الحاكم أو القاضي، وفي عُرْفِنا الآن القاضي لا يملك إلاّ إصدار الحكم، والذي يلزم به الأمين.
وقوله: «على بيعها» بشرط أن يبيعها على شخص، يغلب على ظنه أنه يقوم بالواجب من النفقة، أما إذا باعها على شخص أفقر منه فإن الأمر لا يزول بهذا البيع، أو باعها على شخص معروف بإيذاء البهائم وعدم الإنفاق عليها، فإن هذا البيع لا فائدة منه.
وقوله: «أو إجارتها» لأن الأجير ربما ينفق عليها، أما إذا قال الأجير: لا نفقة عليَّ، وسأعطيك الأجرة، وهذا يأخذ الأجرة ولا ينفق، فإن الإجارة لا فائدة منها، وعلى هذا فإن القاضي يتدخل، ويخصم من الأجرة مقدار ما يحصل به الواجب.
وقوله: «أو ذبحها إن أكلت» يعني إذا كان يمكن أكلها فإنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (233) .
(2) سبق تخريجه ص (528) .(13/530)
يذبحها وجوباً، فلا يقتلها قتلاً؛ لأنه إذا قتلها لم ينتفع بها، فإذا ذبحها ذبحاً شرعياً انتُفع بها، ومعلوم أنه إذا أمكن الحفاظ على ماليتها فإنه واجب.
مسألة: إذا أصاب البهيمة عيب لا يمكن زواله، ولا يمكن الانتفاع بها، فهل نقول: إنه يبقيها ونجبره على أن ينفق عليها ويضيع هذا المال بدون فائدة، أو نقول في هذه الحال: يجوز أن يتلفها؛ لأنه إذا جاز إتلافها لأكلها وهو من الكماليات في الغالب، فإتلافها لدفع ضرر الإنفاق عليها من باب أولى، ونحن إذا أبقيناها ونحن ننفق عليها فهو إضاعة للمال؟ مثل لو أحييت هذه الناقة بكسور في قوائمها الأربعة، فهل يمكن أن تجبر؟ الغالب أنه لا يمكن.
فنقول في هذه الحال: يذبحها وجوباً إذا كان سيضيع ماله، وهي ستؤكل فلن تضيع ماليتها، فإن كان لا ينتفع بها لكونها مريضة أو هزيلة فإنه يذبحها ويرميها، وتسييب البهائم عند اليأس من الانتفاع بها جائز، كما في حديث جابر حين أعيى جمله فأراد أن يسيِّبه ويدعه (1) ، فإذا قدِّر أن حماراً انكسر، وهم يقولون: إن كسر الحمار لا يجبر، فهنا له أن يقتله، ولكن بأسهل طريقة تريح الحمار، وأسهل شيء كما يقول محمد رشيد رضا رحمه الله هو الصعق الكهربي.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة ... (2718) ، ومسلم في المساقاة/ باب بيع البعير واستثناء ركوبه (715) عن جابر رضي الله عنه.(13/531)
بَابُ الحَضَانَةِ
تَجِبُ لِحِفْظِ صَغِيرٍ، وَمَعْتُوهٍ، وَمَجْنُونٍ، وَالأَحَقُّ بِهَا أُمٌّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى، ثُمَّ أَبٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ، ثُمَّ جَدٌّ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلِكَ،................
قوله: «الحضانة» مأخوذة من الحضن، وهو ما بين اليدين من الصدر، وإنما سميت حضانة لأن الحاضن احتضن المحضون، وضمه إليه، ليقوم بما يجب.
وهي شرعاً: حفظ الطفل ونحوه عما يضره، والقيام بمصالحه.
قوله: «تجب لحفظ صغير» فحكم الحضانة أنها واجبة، والصغير هنا هو من لم يبلغ.
قوله: «ومعتوه» وهو مختل العقل اختلالاً لا يصل إلى حد الجنون.
قوله: «ومجنون» وهو مسلوب العقل بالكلية.
فالمعتوه في درجة بين العاقل والمجنون، فالحضانة تجب لهؤلاء الثلاثة، وإنما تجب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بأمر أبنائنا بالصلاة لسبع سنين، وضربهم عليها لعشر (1) ، وما ذلك إلا لتقويمهم، وإصلاحهم، وتعويدهم على طاعة الله، وإذا كنا مأمورين بذلك فإنا مأمورون بما لا يتم إلا به، والقاعدة
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/187) ، وأبو داود في الصلاة/ باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) ، والدارقطني (1/230) ، والحاكم (1/311) ، والبيهقي (2/229) ، وصححه الألباني (1/266) .(13/532)
المعروفة: «أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب» ، ولأن تركهم إضاعة لهم، وإلقاء بهم إلى التهلكة، وإذا كان يجب على الإنسان أن يحفظ ماله فوجوب حفظ أولاده من باب أولى.
قوله: «والأحق بها أم» لقوله صلّى الله عليه وسلّم للأم التي نازعت زوجها في حضانة ولدها: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (1) ، فهذا دليل على أن الأم أحق من الأب.
قوله: «ثم أمهاتها القربى فالقربى» فأمهات الأم مقدمات على الأب، وعلى أمهات الأب، فلو تنازعت جدة لأم مع الأب في حضانة الولد فإن هذه الجدة تقدم على الأب؛ لأنها مدلية بالأم، والأم أحق من الأب، فصارت هي أحق من الأب أيضاً، وإن كانت من حيث الدرجة أبعد.
قوله: «ثم أب» فإن لم يكن هناك أم، ولا أمهات للأم، انتقلت الحضانة إلى الأب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتِ أحق به» أي: منه، فيدل على أن درجته بعدها، ولأن الأب هو أصل النسب فكان أولى من غيره.
قوله: «ثم أمهاته كذلك» يعني القربى فالقربى، فإذا اجتمع عندنا أم أب، وأم أم أم، فتقدم أم أم الأم؛ لأنها أدلت بالأم.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/182) ، وأبو داود في الطلاق/ باب من أحق بالولد (2276) عبد الله عن ابن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/207) ، وحسنه في الإرواء (2187) .(13/533)
مثال آخر: أم الأب وأم أم الأب فالأَوْلى أم الأب؛ لأنها أقرب.
قوله: «ثم جد ثم أمهاته كذلك» هذا كسابقه.
ثُمَّ أُخْتٌ لأَبَوَيْنِ ثُمَّ لأَمٍّ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ خَالَةٌ لأَِبَوَيْنِ، ثُمَّ لأُِمٍّ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ عَمَّاتٌ كَذلِكَ، ثُمَّ خَالاَتُ أُمِّهِ، ثُمَّ خَالاَتُ أَبِيهِ، ثُمَّ عَمَّاتُ أَبِيهِ، ثُمَّ بَنَاتُ إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، ثُمَّ بَنَاتُ أَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ، ثُمَّ بَنَاتُ أَعْمَامِ أَبِيهِ، وَبَنَاتُ عَمَّاتِ أَبِيهِ، ثُمَّ لِبَاقِي الْعَصَبَةِ، الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ، فَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَمِنْ مَحَارِمِهَا، ثُمَّ لِذَوِي أَرْحَامِهِ، ثُمَّ لِحَاكِمٍ، وَإِنِ اِمْتَنَعَ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ،................
قوله: «ثم أخت لأبوين، ثم لأم، ثم لأب» انتقلت الحضانة إلى الحواشي، فتقدم الإناث على الذكور، فإذا كان عندنا أخت لأم وأخت لأب، فتقدم الأخت لأم؛ لأن جهة الأمومة في الحضانة مقدمة على جهة الأبوة؛ لأن الحضانة مبنية على الرقَّة والشفقة والرحمة.
قوله: «ثم خالة لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، ثم عمات كذلك» الخالة مقدمة على العمة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخالة بمنزلة الأم» (1) ، فهذا يدل على أنها تقدم على العمة؛ لأن الأم مقدمة على الأب، فمن كان بمنزلة الأم فهو مقدم على من كان بمنزلة الأب.
قوله: «ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه» أي: دون عمات أمه، فخالات أمه مقدمات على خالات أبيه؛ لأن الأم في باب الحضانة مقدمة على الأب.
قوله: «ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعماته، ثم
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان ... (2699) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.(13/534)
بنات أعمام أبيه، وبنات عمات أبيه، ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب» فبنات الأخت مقدمات على الإخوة.
وقوله: «ثم لباقي العصبة» والأخوة من العصبة «الأقرب فالأقرب» فيقدم الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم وهكذا.
قوله: «فإن كانت أنثى فمن محارمها» إذا كانت المحضونة أنثى، وتم لها سبع سنين، فلا بد أن يكون الحاضن لها من محارمها، فإن لم يكن من محارمها فلا حق له في الحضانة، كابن العم وابن الخال وما أشبه ذلك.
وهذا الترتيب الذي ذكره المؤلف ليس مبنياً على أصل من الدليل، ولا من التعليل، وفيه شيء من التناقض، والنفس لا تطمئن إليه، ولهذا اختلف العلماء في الترتيب في الحضانة على أقوال متعددة، ولكنها كلها ليس لها أصل يعتمد عليه، لذلك ذهب شيخ الإسلام رحمه الله: إلى تقديم الأقرب مطلقاً، سواء كان الأب، أو الأم، أو من جهة الأب، أو من جهة الأم، فإن تساويا قدمت الأنثى، فإن كانا ذكرين أو أنثيين فإنه يقرع بينهما في جهة واحدة، وإلاّ تقدم جهة الأبوة، وقد جُمِع هذا الضابط، في بيتين، هما:
وقدم الأقرب ثم الأنثى *** وإن يكون ذكراً أو أنثى
فأقرعن في جهة وقدمِ *** أبوة إن لجهات تنتمي
(وقدم الأقرب ثم الأنثى) أي: إذا كانا في درجة واحدة تقدم الأنثى (وإن يكون ذكراً أو أنثى) أي يكون الحاضنون كلهم(13/535)
ذكوراً أو كلهم إناثاً (فأقرعن في جهة) إن كانا في جهة واحدة فالقرعة، وإن كانا في جهتين (وقدم أبوة إن لجهات تنتمي) هذا الضابط هو الذي رجحه ابن القيم رحمه الله، وقال: إنه أقرب الضوابط، فعلى هذا أم وجد تقدم الأم؛ لأنها أقرب، أب وجدةٌ (أم أم) فيقدم الأب؛ لأنه أقرب، أم وأب تقدم الأم؛ لأنهما تساويا في القرب فتقدم الأنثى، جد وجدة تقدم الجدة، الخال والخالة تقدم الخالة، وعلى هذا فقس، جدة من جهة الأم وجدة من جهة الأب، فتقدم الجدة من جهة الأب على قاعدة شيخ الإسلام رحمه الله، خلافاً لما مشى عليه المؤلف.
والحضانة هنا حق للحاضن لا حق عليه، وعلى هذا فإذا أراد أن يتخلى عنها لمن دونه جاز له ذلك.
قوله: «ثم لذوي أرحامه ثم لحاكم» فإذا لم نجد أحداً من الأقارب انتقلت إلى الحاكم.
قوله: «وإن امتنع من له الحضانة» إذا قلنا: إن الحضانة حق للحاضن، كما يفيده قوله: «من له الحضانة» ولم يقل: من عليه، فإذا امتنع فإنها تنتقل إلى من بعده، فإن لم يُرِدْها من بعده انتقلت إلى من بعده، وهكذا إلى أن تصل إلى الحاكم،
ولكن ابن القيم ـ رحمه الله ـ أبى هذه الصورة، وقال: إنها حق للحاضن وحق عليه، فإن نازعه منازع فيها فهي له، وإن لم ينازعه منازع فهي عليه، فنقول للأول: أنت الذي تلزم بالحضانة إذا لم ينازعك أحد؛ لأننا لو قلنا: إذا امتنعت انتقلت لمن بعدك، وإذا امتنع فلمن بعده، وإذا امتنع فلمن بعده إلى أن تصل إلى الحاكم(13/536)
ضاعت حقوقه، وصار تحت الرعاية العامة، والواجب أن يكون تحت الرعاية الخاصة.
أَوْ كَانَ غَيْرَ أَهْلٍ انْتَقَلَتْ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلاَ حَضَانَةَ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، وَلاَ لِفَاسِقٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ وَلاَ لِمُزَوَّجَةٍ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ مِنْ حِينِ عَقْدٍ، فَإِنْ زَالَ الْمَانِعُ رَجَعَ إِلى حَقِّهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ سَفَراً طَوِيلاً إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لِيَسْكُنَهُ، وَهُوَ وطَريقُهُ آمِنَانِ فَحَضَانَتُهُ لأَِبِيهِ، وَإِنْ بَعُدَ السَّفَرُ لِحَاجَةٍ، أَوْ قَرُبَ لَهَا، أَوْ للسُّكْنَى فَلأُِمِّهِ.
قوله: «أو كان غير أهل انتقلت إلى من بعده» أي: إذا كان الحاضن غير أهل، والأهل أن يكون مسلماً، عدلاً، مَحْرماً لمن بلغت سبعاً، فإذا لم يكن مسلماً فإنه لا حضانة؛ لأنه لا يمكن أن يتولى تربية المسلم رجل كافر، كذلك إذا كان فاسقاً معروفاً بالفسق والمجون، فإنها تنتقل إلى من بعده، وإذا كان عدلاً، لكنه مهمل، لا يحسن الرعاية والولاية، فإنها تنقل إلى من بعده؛ لأنه غير أهل، وإذا لم يكن مَحرماً لمن بلغت سبعاً فإنه لا حضانة له.
قوله: «ولا حضانة لمن فيه رق» الرقيق ليس أهلاً للحضانة، فيشترط في الحاضن أن يكون حراً؛ وعللوا ذلك بأن الرقيق يحتاج إلى ولاية؛ لأنه مملوك فكيف يكون ولياً على غيره؟! ولأنه لو حضن أولاده أو أولاد أخيه أو ما أشبه ذلك لانشغل بالحضانة عن مصالح سيده، ولتضرر سيده بذلك، وإذا كانت المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها لئلا تنشغل عن الزوج، فكذلك الرقيق لا حضانة له.
وقال بعض أهل العلم: إن له الحضانة إذا وافق السيد، واستدل لذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى أن يفرق بين الوالدة وولدها» (1) ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين ... (1283) ، وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن التفريق بين السبي (2250) ، والدارمي في السير/ باب في النهي عن التفريق بين الوالدة وولدها (2368) ، والدارقطني (3/267) ، والحاكم في المستدرك (2/63) وألفاظه مختلفة، قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم.(13/537)
وقال: إن هذا فيه دليل على أن لها الحضانة، ولهذا نهي أن يفرق بينها وبين أولادها، فيبقوا عندها في حجرها وفي رعايتها.
قوله: «ولا لفاسق» نأخذ منه اشتراط عدالة الحاضن، فإن كان فاسقاً فلا حضانة له، وظاهر كلام الفقهاء سواء كان الفسق من جهة الاعتقاد، أو الأقوال، أو الأفعال، وفي هذا نظر ظاهر.
والصواب أن يقال: إن كان فسقه يؤدي إلى عدم قيامه بالحضانة فإنه يشترط أن يكون عدلاً، وإن كان لا يؤدي إلى ذلك فإنه ليس بشرط، فإذا كان هذا الرجل الذي له حق الحضانة يحلق لحيته، فحلق اللحية فسوق، لكنه على أولاده، أو أولاد أخيه، أو قريبه من أشد الناس حرصاً على رعايتهم، وتربيتهم، فهل نسلب هذا الرجل حقه؟ لا، أما إن كان فسقه يؤدي إلى الإخلال بالحضانة، كما لو كان فسقه من جهة الأخلاق، والآداب، فهذا نشترط أن يكون عدلاً، لكنه شرط على المذهب.
قوله: «ولا لكافر» لا حضانة لكافر على مسلم، فإذا كانت الأم كافرة والأب مسلماً وبينهما طفل، وتفارقا، وطلبت الأم أن يكون تحت حضانتها فإننا لا نمكنها من ذلك لأنها كافرة، ويخشى على الطفل من أن تدعوه إلى الكفر، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدَانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه» (1) ، فالكافر لا حضانة له على مسلم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين (1385) ، ومسلم في القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(13/538)
وهل للكافر الحضانة على الكافر؟ نعم، ولهذا لم يكن الناس في عهده صلّى الله عليه وسلّم ولا في عهد من بعده يأخذون أولاد الكفار الصغار، ويقولون: أنتم ليس لكم حضانة عليهم، فالكافر له حضانة على ابنه الكافر، أو بنته الكافرة، ولكن على ابنه المسلم لا.
فالشروط هي: الحرية، والعدالة، الإسلام إذا كان المحضون مسلماً، والبلوغ فيشترط أن يكون الحاضن بالغاً، فإذا كان شخص عمره أربع عشرة سنة، وله إخوة صغار، فليس له حق الحضانة؛ لأن غير البالغ يحتاج إلى ولي.
الشرط الخامس: أن يكون عاقلاً، فالمجنون لا ولاية له؛ لأنه يحتاج إلى ولاية.
الشرط السادس: أن يكون مَحْرَماً لمن بلغت سبعاً.
الشرط السابع: أن يكون قادراً على القيام بواجب الحضانة، فإن كان غير قادر، كرجل عاجز ليس له شخصية، ولا يمكن أن يربي أحداً، فإنه لا يصح كونه حاضناً.
الشرط الثامن: أن يكون قائماً بواجب الحضانة؛ لأن بعض الناس عنده القدرة على الحضانة، لكنه مهمل لا يبالي، سواء صلح هذا المحضون أم لم يصلح.
قوله: «ولا لمزوجة بأجنبي من محضون» أي: لا حضانة لمزوجة بأجنبي من محضون، وهو من ليس قريباً له، وهذا ليس بشرط لكنه وجود مانع.
مثاله: امرأة طلقها زوجها وكان له منها طفل، فهنا الأم أحق بالحضانة ما لم تتزوج، فإذا تزوجت الأم بزوج أجنبي من(13/539)
المحضون سقطت حضانتها لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت أحق به ما لم تَنكحي» (1) ، أما إذا كان الزوج من أقارب المحضون فإن حضانة الأم لا تسقط.
والدليل على أن التزوج بغير الأجنبي لا يسقط الحضانة قصة ابنة حمزة رضي الله عنهما حينما خرجت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم تنادي: يا عم يا عم، فأخذها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأعطاها فاطمة، فقال لها: دونك ابنة عمك، فنازعه في ذلك جعفر بن أبي طالب، ونازعهما زيد بن حارثة فقال علي: إنها ابنة عمي وأنا أحق بها، وقال جعفر: إنها ابنة عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد: إنها ابنة أخي، لأنه صلّى الله عليه وسلّم آخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فقضى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» فأخرجها عن كل الثلاثة، ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحسن خلقه طيَّب نفس كل واحد منهم، فقال لعلي بن أبي طالب: «أنت مني وأنا منك» ، وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي» ، وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» (2) .
وهذا لا يعارض قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت أحق به ما لم تنكحي» (3) ؛ لأن الجمع ممكن فيحمل حديث ابنة حمزة على أن الزوج ليس أجنبياً من المحضون، لأنه ابن عمها، وأما حديث: «أنت أحق به ما لم تنكحي» ، فهذا إذا كان الزوج أجنبياً من المحضون، وبهذا تجتمع الأدلة، وما أكثر ما تتأيم المرأة لأجل طفل واحدـ فلا تتزوج
__________
(1) سبق تخريجه ص (533) .
(2) سبق تخريجه ص (534) .
(3) سبق تخريجه ص (533) .(13/540)
خوفاً من أن يأخذه الأب، وهذا في الحقيقة من نقص عقل المرأة؛ لأن الذي ينبغي لها أن تتزوج، والذي أتى بالولد الأول يأتي بأولاد آخرين، وربما يلقي الله في قلبها من محبتهم أكثر من الطفل الثاني، وربما أن الأب لا يطالب بالولد، وربما يوجد من يتوسط بينهما.
ثم إن أهل العلم ـ رحمهم الله ـ اختلفوا في علة كون النكاح مسقطاً لحضانة الأم، فقال بعض العلماء: لما في ذلك من المنة على الطفل المحضون، إذا عاش تحت حضن هذا الزوج الجديد، وكل إنسان لا يرضى أن يكون ابنه تحت رجل أجنبي.
وقال آخرون: بل العلة في ذلك الحفاظ على حق الزوج الجديد، وبناءً على هذا التعليل الأخير لو أن الزوج الجديد وافق على أن يبقى الطفل محضوناً مع أمه لم يسقط حقها، ولكن ما ذكره فقهاؤنا رحمهم الله ـ وهو أقرب التعليلات ـ أن العلة كون هذا الزوج الجديد أجنبياً من المحضون، وإذا كان أجنبياً ربما لا يرحمه ولا يبالي به ضاع أم استقام.
قوله: «من حين عقد» أي: بمجرد عقد الزواج يسقط حق الأم، وإن لم يحصل دخول، حتى لو اشترط على الزوج الثاني أن لا دخول إلا بعد تمام الحضانة، فإن حقها يسقط؛ لأن العبرة بالعقد، ولو قيل: إن العبرة بالدخول، وأنها لو اشترطت على زوجها الجديد عدم الدخول حتى تنتهي الحضانة فلو قيل: إنه في هذه الحال لم تسقط الحضانة لم يكن بعيداً؛ لأن الزوج الجديد لا سلطة له على الزوجة في هذه الحال، ولا يملك تسلمها، ولا يملك أن تنشغل به عن ابنها.(13/541)
قوله: «فإن زال المانع رجع إلى حقه» فالرقيق إذا صار حراً عاد حقه، والكافر إذا أسلم عاد حقه، والفاسق إذا صار عدلاً عاد حقه، والمرأة المزوَّجة إذا طلّقت يعود حقها، والمذهب أنه يعود حقها والغريب أنهم يقولون: يعود حقها، ولو كان الطلاق رجعياً، مع أن الرجعية في حكم الزوجات، فأي فرق بين امرأة عُقد نكاحها واشترطت على الزوج ألاَّ يدخل عليها إلاّ بعد انتهاء مدة الحضانة، وبين امرأة طلقها زوجها طلاقاً رجعياً؟! فالمرأة إذا اشترطت على زوجها عدم الدخول حتى تنتهي مدة الحضانة، فالقول بأن حقها لا يسقط قول قوي جداً؛ لأن الحكم يدور مع علته.
قوله: «وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً إلى بلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه آمنان فحضانته لأبيه» السفر الطويل عندهم هو الذي يبلغ مسافة قصر، وهي على المذهب محددة بستة عشر فرسخاً، أي: بأربعة بُرَد، وهي واحد وثمانون كيلو، وثلاثمائة وبضعة عشر متراً.
وقوله: «سفراً طويلاً» ظاهره الإطلاق، ولكن يجب أن يقيد فيقال: لغير قصد الإضرار بالآخر؛ لأنه قد يسافر لأخذ الولد من الآخر إضراراً به، لا لمصلحة الطفل، فيقيد ذلك بغير الإضرار، كما قيده شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله.(13/542)
وقوله: «إلى بلد بعيد» وهو عندهم الذي يبلغ مسافة القصر، احترازاً مما دون ذلك، فيقول المؤلف: الحضانة لأبيه إذا كان لبلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه آمنان.
مثال ذلك: كان الزوج والزوجة في مكة فطلقها، وكان بينهما طفل فالحضانة للأم، فإن أراد الأب أن يضر بالأم، فسافر إلى المدينة ليسكنها من أجل أن يأخذ الطفل فنقول: لا حق له متى علمنا أن الرجل إنما سافر من أجل الإضرار بالأم، أما إذا علمنا أنه أراد أن يتحول من مكة إلى المدينة لغير غرض الإضرار فإن الحضانة تكون في هذه الحال للأب ويسقط حق الأم، وهذا من المسقطات؛ وعلة ذلك أن بقاءه بعيداً عن أبيه يؤدي إلى ضياعه؛ لأن الأم قد لا تقوم بواجب التأديب، فالأب أحق به حتى ولو كان رضيعاً فيأخذه، ويستأجر له من يرضعه، لكن كما سبق بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون سفره بعيداً.
الثاني: أن يكون سفره للسكنى، لا لحاجة تعرض، ثم يرجع.
الثالث: أن يكون البلد وطريقه آمنين، فإن كان مخوفاً فلا يجوز المخاطرة بالطفل.
والشرط الرابع على ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ألاّ يقصد بسفره الإضرار بالأم، فإن قصد الإضرار فلا حق له في الحضانة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من
__________
(1) سبق تخريجه ص (233) .(13/543)
ضار ضارَّ الله به» (1) ، ولا يمكن أن نوافق هذا الإنسان على إرادته السيئة.
فإن كانت الأم هي التي ستسافر فالحضانة هنا للأب من باب أولى.
لكن الصحيح في هذه المسألة: أننا إذا علمنا أن الولد بحاجة إلى الأم، أو أن الوالد سيضر بالولد، فإنه بلا ريب الأم أحق بالحضانة من الأب؛ لأن وجود الطفل مع أمه، يرضع من لبنها أنفع له من الرضاعة من لبن غيرها، والحضانة يُنظر فيها إلى ما هو أصلح للطفل.
قوله: «وإن بعد السفر لحاجة» فالحضانة لأمه على كلام المؤلف، والمذهب أنها للمقيم منهما، والأقرب أنها للأم.
قوله: «أو قَرُب لها» أي: كان السفر قريباً دون مسافة القصر لحاجة، فالحضانة هنا للأم؛ لأن السفر القريب في حكم الحاضر، فكأنه لم يحصل سفر، ومعلوم أن الأم أحق بالحضانة من الأب، سواء كانت هي المسافرة أو هي المقيمة؛ لأن هذا السفر لا يعد سفراً تثبت له أحكام السفر من القصر، والجمع، وغير ذلك، فيكون هذا المسافر كالمقيم، وتبقى المسألة على ما هي عليه من تقديم الأم بالحضانة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/453) ، وأبو داود في القضاء/ باب في القضاء (3635) ، والترمذي في البر والصلة/ باب ما جاء في الخيانة والغش (1940) ، وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2342) عن أبي صِرْمَةَ رضي الله عنه، وانظر: الإرواء (3/413) .(13/544)
قوله: «أو للسكنى فلأمه» يعني إن قَرُب السفر وكان للسكنى، فالحضانة هنا للأم؛ والتعليل ما سبق من أن البلد القريب في حكم الحاضر، فيبقى الأمر على ما كان عليه.
فالخلاصة:
أولاً: أن يكون السفر بعيداً للسكنى، فالحضانة للأب بالشروط السابقة.
ثانياً: أن يكون السفر قريباً للسكنى، فالحضانة للأم.
ثالثاً: أن يكون السفر بعيداً للحاجة، فالحضانة ـ على كلام المؤلف ـ للأم، وعلى المذهب أنها للمقيم منهما.
رابعاً: أن يكون قريباً لحاجة، فالحضانة للأم على كلام المؤلف، والمذهب أنها للمقيم منهما، والأقرب في هذه المسألة أنها للأم.
واعلم أن هذه المسائل يجب فيها مراعاة المحضون قبل كل شيء، فإذا كان لو ذهب مع أحدهما، أو بقي مع أحدهما، كان عليه ضرر في دينه، أو دنياه، فإنه لا يُقر في يد من لا يصونه ولا يصلحه؛ لأن الغرض الأساسي من الحضانة هو حماية الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه.(13/545)
فصل
وَإِذَا بَلَغَ الْغُلاَمُ سَبْعَ سِنِينَ عَاقِلاً خُيِّر بَيْنَ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ مَعَ مَنِ اخْتَارَ مِنْهُمَا، وَلاَ يُقَرُّ بِيَدِ مَنْ لاَ يَصُونُهُ وَيُصْلِحُهُ، وَأَبُو الأُنْثَى أَحَقُّ بِهَا بَعْدَ السَّبْعِ، وَيَكُونُ الذَّكَرُ بَعْدَ رُشْدِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَالأُنْثَى عِنْدَ أَبِيهَا حَتَّى يَتَسَلَّمَهَا زَوْجُهَا.
قوله: «وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خيِّر بين أبويه فكان مع من اختار منهما» المحضون قبل سبع سنين عند الأم، سواء كان ذكراً أم أنثى، وقال بعض العلماء: إن التخيير يكون بعد خمس سنين، وبعضهم قال: بعد تسع سنين، لكن الظاهر أنه بعد سبع سنين؛ لأن التمييز غالباً يكون في هذا السن، وهو قول وسط، أما بعد سبع سنين فيختلف الحكم، فإذا كان غلاماً عاقلاً فإنه يخيَّر، فإن لم يكن عاقلاً، فإنه مع أمه، فالبالغ العاقل يخيَّر، كما قضى بذلك عمر وعلي رضي الله عنهما (1) ، وروى سعيدٌ والشافعي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه» (2) ، فإذا اختار أُمَّه، وقال: أريد أمي: لأنها تتركني ألعب كما أشاء، أمّا أبي فيجبرني على الدراسة، فهنا نجعل الحضانة لأبيه؛ لأنه لا يقر بيد من لا يصونه ويحفظه، وكذلك العكس لو كان اختار أباه؛ لأنه لا يهتم به، وأمه ترعى مصالحه وتحفظه القرآن، فإنه يُرَد إلى أمه.
__________
(1) ذكره الجصاص في أحكام القرآن (2/108) ط/ دار إحياء التراث، قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، انظر: جامع الترمذي (1357) .
(2) أخرجه أحمد (2/447) ، والنسائي في الطلاق/ باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد (3439) ، وأبو داود في الطلاق/ باب من أحق بالولد (2277) ، وابن ماجه في الأحكام/ باب تخيير الصبي بين أبويه (2351) ، والدارمي في الطلاق/ باب في تخيير الصبي بين أبويه (2191) ، والشافعي في مسنده (288) ، وسعيد بن منصور في السنن (2/140) ، وانظر: التلخيص (4/12) ، والخلاصة (2/258) ، وصححه الألباني كما في الإرواء (7/249) .(13/546)
فإن لم يختر واحداً منهما، وقال: أنا أحب الجميع أبي وأمي، فهنا يقرع بينهما؛ لأنه لا سبيل إلى تعيين أحدهما إلا بذلك.
مسألة: وإن اختار الأم فإنه يكون عندها ليلاً، وعند أبيه نهاراً؛ من أجل أن يؤدبه، وإن اختار أباه فإنه يكون عنده ليلاً ونهاراً، ولكنه لا يمنع الأم من زيارته، ولا يحل له.
ولو اختار أمه ثم رجع، واختار أباه، فإنه يرجع إلى حضانة أبيه، وكذلك العكس.
قوله: «ولا يقر» أي: المحضون.
قوله: «بيد من لا يصونه ويصلحه» ولو اختاره، ولو كان هو أحق به من الآخر؛ لأن المقصود من الحضانة هو حماية الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه، وهذا المقصود يفوت إذا بقي عند شخص لا يصونه عن المفاسد، ولا يصلحه بالتربية الطيبة.
قوله: «وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع» فالأنثى لا تخيَّر بعد سبع سنين، بل أبوها أحق بها، لكن بشرط ألاّ يهملها فإن أخذها وتركها عند ضرة أمِّها، لا تقوم بمصالحها، بل تهملها، وتفضل أولادها، وتوبِّخها دائماً، وتضيق صدرها، فإنه في هذه الحال لا يمكَّن من الحضانة.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم ـ رحمهم الله ـ على عدة أقوال:
فمنهم من يرى أن الطفلة تخير كما يخيَّر الطِّفل، وقالوا: ورود ذلك في الذكر لا يمنع من الأنثى؛ لأن العلة واحدة، وهي(13/547)
رغبة الطفل هل يكون عند الأُم أَو الأب؟ والذكورة والأنوثة لا تؤثر في الحكم.
ومنهم من قال: تخيَّر بين أبيها وأمها إلى التسع، ثم بعد ذلك يأخذها أبوها.
ومنهم من قال: تبقى عند أمها حتى يتسلمها زوجها.
ومنهم من قال: تبقى عند أمها حتى يكون لها خمس عشرة سنة.
والراجح عندي أنها تبقى عند أمها حتى يتسلمها زوجها؛ لأن الأم أشفق بكثير من غيرها حتى من الأب، لأنه سيخرج ويقوم بمصالحه وكسبه، وتبقى هذه البنت في البيت، ولا نجد أحداً أشد شفقة وأشد حناناً من الأم، حتى جدتها أم أبيها ليست كأمها، إلاّ إذا خشينا عليها الضرر في بقائها عند أمها، كما لو كانت أمها تهملها، أو كان البلد مخوفاً يُخشى أن يسطو أحدٌ عليها وعلى أمها، ففي هذه الحال يتعين أن تكون عند الأب، ولا بد مع هذا أن يكون أبوها قائماً بما يجب.
قوله: «ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء» الذكر من سبع سنين حتى الرشد يكون عند من اختار، وبعد الرشد فإنه يملك نفسه فلا سيطرة لأحد عليه، لا أبوه ولا غيره، لكن مع ذلك إذا خيف عليه من الفساد يجب أن تُجعل الرعاية لأبيه، والذي يجعلها للأب هو الحاكم الشرعي، لكن الأصل أن الأب لا يلزمه بالبقاء عنده إن كان بالغاً رشيداً.
قوله: «والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها» وهذا على المذهب من تمام سبع سنين.(13/548)
والخلاصة على المذهب أنه قبل سبع سنين تكون الحضانة للأم للذكر والأنثى، وبعد سبع سنين يخيَّر الذكر، وتنتقل الأنثى إلى أبيها، وبعد الرشد يكون الذكر حيث شاء، وتكون الأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها.
وقبل هذا يجب أن نعرف أن أهم شيء هو رعاية مصالح المحضون، وأما من كان أحق لكنه يهمل ويضيع المحضون فإنها تسقط حضانته؛ لأن من شروط الحاضن أن يكون قادراً على القيام بواجب الحضانة، وقائماً بواجب الحضانة، فإن لم يكن كذلك فإنه لا حق له.
انتهى المجلد الثالث عشر ـ بفضل الله تعالى وتوفيقه ـ ويليه المجلد الرابع عشر ـ بمشيئة الله تعالى ـ وأوله كتاب الجنايات والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(13/549)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الرابع عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1428هـ(14/)
كِتَابُ الجِنَايَاتِ
.....................................................................
قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: «الجنايات» جمع جناية، وهي لغة: التعدي على البدن، أو المال، أو العرض.
واصطلاحاً: التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً، أو مالاً، فهي أخص من معناها لغة، فمن اغتابك فهو جانٍ لغة، ومن أخذ مالك فهو جانٍ لغة؛ فالتعدي على العرض أو المال لا يدخل في الجناية في هذا الباب، فالجناية اصطلاحاً إنما هي التعدي على البدن خاصة بما يوجب قصاصاً فيما إذا كان عمداً، أو مالاً فيما إذا كان خطأ.
وقد قسم العلماء الجناية إلى ثلاثة أضرب: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
وفي القرآن الكريم قسمها الله إلى قسمين: عمد، وخطأ، لكن جاءت السنَّة بإثبات شبه العمد، في قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وأن ديتها على العاقلة (1) .
فهذا القتل ليس عمداً ولا خطأً، ولكنه وسط بينهما؛ لأنك إن نظرت إلى تعمد الفعل ألحقته بالعمد، وإن نظرت إلى أن الجناية لا
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات/ باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد (6910) ، ومسلم
في القسامة/ باب دية الجنين (36/1681) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/5)
تقتل ألحقته بالخطأ، فجعله العلماء مرتبة بين مرتبتين، وسمَّوْه شبه العمد (1) ، قال في الروض: «روي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما» (2) ، أي: كون الجناية تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
وَهِيَ عَمْدٌ يَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِهِ بِشَرْطِ القَصْدِ، وَشِبْهُ عَمْدٍ،............
قوله: «وهي عمد يختص القود به» القود: القصاص، وسُمي بذلك؛ لأنه يقاد القاتل برُمَّته إلى أولياء المقتول بحبل ويقتل، والمعنى أنه لا قصاص إلا في العمد، أما الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيهما، ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] ، وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وهذا وإن كان مكتوباً على أهل التوراة، لكنَّه شرعٌ لنا، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم لأنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ حينما كسرت الربيِّعُ بنت النضر ـ رضي الله عنها ـ ثنيَّةَ امرأة من الأنصار، فطالبوا بالقصاص، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كتاب الله القصاص» (3) ،
__________
(1) وقد روى أبو داود (4547) ، والنسائي (4791) ، وابن ماجه (2627) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون
في بطونها أولادها» . وصححه الألباني في إرواء الغليل (7/256) .
(2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/166) . أما ما روي عن عمر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في
الديات/ باب في دية الخطأ شبه العمد (4550) وأعُلَّ بالانقطاع، كما في نصب الراية (4/357) ، وأما أثر علي فأخرجه
أبو داود في الديات/ باب دية الخطأ شبه العمد (4551) وفي إسناده عاصم بن ضمرة، قال في نصب الراية (4/357) :
فيه مقال، ولكن له شاهد أخرجه عبد الرزاق في المصنف (17222) عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علي به.
(3) أخرجه البخاري في التفسير/ باب تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (4500) ، ومسلم
في القسامة/ باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها (24/1675) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ واللفظ للبخاري.(14/6)
ومعلوم أن القصاص في السن إنما جاء بما شرع في التوراة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل ذلك شريعةً لنا.
والعمد فيه ثلاثة حقوق:
الأول: حق الله، وهذا يسقط بالتوبة.
الثاني: حق أولياء المقتول، ويسقط بتسليم نفسه لهم.
الثالث: حق المقتول، وهذا لا يسقط؛ لأن المقتول قد قُتل وذهب، ولكن هل يؤخذ من حسنات القاتل، أو أن الله تعالى بفضله يتحمَّل عنه؟ الصواب: أن الله بفضله يتحمل عنه إذا علم صدق توبة هذا القاتل.
وقوله: «يختص القود به» أي: العمد، ويختص أيضاً بأنه لا كفارة فيه؛ لأنه أعظم من أن تكفره الكفارة.
قوله: «بشرط القصد» أي: قصد الجناية، وقصد المجني عليه، فلا بُد من القصدين، فلو لم يقصد الجناية، بأن حرك سلاحاً معه فثار السلاح وقتله، فهنا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الجناية، ولو أنه قصد الرمي على شاخص فإذا هو إنسان، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد شخصاً يعلمه معصوماً فقتله.
قوله: «وشبه عمد» هذا النوع الثاني من أنواع الجناية، فهو ليس عمداً محضاً، ولا خطأً محضاً، لكنه بينهما؛ وذلك لأن الجاني قصد الجناية لكن بشيء لا يقتل غالباً، فشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً، مثل ما لو ضرب إنساناً بالمهفَّة (1)
__________
(1) المهفَّة: عصا صغيرةٌ من جريد النخل في طرفه ريش من الخوص يستخدم للترويح عن حرارة الجو.(14/7)
فمات، فهذا ليس بعمد محض؛ لأن الجناية لا تقتل، وليس بخطأ؛ لأنه قصد الجناية.
وَخَطَأٌ، فَالْعَمْدُ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيّاً مَعْصُوماً فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ،.....
قوله: «وخطأ» هذا النوع الثالث، وهو ألاّ يقصد الجناية، أو يقصد الجناية لكن لا يقصد المجني عليه، مثل أن تنقلب الأم على ابنها وهي نائمة فتقتله، أو يرى صيداً فيرميه فيصيب آدمياً.
قوله: «فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به» هذا تعريف العمد.
وأفادنا المؤلف بقوله: «أن يقصد» أنه لا بد أن يكون للقاتل قصد، فأما الصغير والمجنون فإن عمدهما خطأ؛ لأنه ليس لهما قصد صحيح، أما المجنون فظاهر، وأمَّا الصغير فهو وإن كان له قصد، لكنه قصد لا يكلف به.
وقوله: «من يعلمه آدمياً معصوماً» فإن قصد من يظنه غير آدمي، أو من يظنه آدمياً غير معصوم، فقتل معصوماً فليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الجناية على معصوم، مثل أن يرى شاخصاً من بعيد فظن أنه جذع نخلة فرماه، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم يقصد الآدمي.
مثال ثانٍ: رأى إنساناً وهو في أرض حرب، فظن أنه حربي فرماه فقتله، فإذا هو غير حربي، فهذا ليس بعمد؛ لأنه لم ينوِ قتل المعصوم.(14/8)
مثال ثالث: لو رمى شخصاً يظن أنه هو المرتد ردَّة لا تقبل معها التوبة، كردَّة من سب الله ـ على المشهور من المذهب ـ لكن تبين أنه غيرُه، فهذا ليس بعمد.
مثال رابع: لو رمى شخصاً يظنه الزاني المحصن، والزاني المحصن غير معصوم؛ لأنه يرجم حتى يموت، فتبين أنه ليس هو الزاني المحصن، فهذا ليس بعمد.
ويلاحظ أنَّ هذا إذا وافق أولياء المقتول على ذلك، أما لو قالوا: إنّك قصدتَه، فقال: لم أقصده، فالقول قول أولياء المقتول؛ لأن القصد نية خفية، والشرع لا يحكم إلا بالظاهر، والظاهر أنه قصد، ودعواه أنه لم يقصد، أو أنه ظنه غير آدمي دعوى غير مقبولة منه؛ لأننا لو قبلنا ما ادعاه لكان كل من قتل نفساً بغير حق يقول: أنا لم أقصد، أوْ لم أظنه آدمياً معصوماً، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: «فيقتله» فلو قصد الجناية بما يقتل غالباً لكن المجني عليه سَلِم، بأن ضَرَبه بالفأس على رأسه يريد قتله حتى انفلق، لكنه عُولج حتى برئ فهذا ليس بقتل عمد؛ لأنه لا بد أن يقتله.
وقوله: «بما يغلب على الظن موته به» هذا أهم، أي: أن تكون الجناية بما يغلب على الظن أنها تقتل، مثل أن يضربه بالساطور على رأسه، وقال: أنا ما ظننت أنه يموت! فهذا لا يقبل؛ لأن هذا يغلب على الظن أنه يموت به.
ولو ضربه بالمهفة، وقُدِّر أنه نائم ففزع ومات، فليس بعمد؛ لأن المهفة لا يغلب على الظن أن يموت بها، فانتبه للشروط التي(14/9)
هي الضابط في قتل العمد؛ لأجل أن تنزل عليها الصور التي ذكرها المؤلف؛ لأن من الصور التي ذكرها المؤلف صوراً لا تنطبق على هذه القاعدة، فينظر فيها، ثم ذكر المؤلف تسع صور فقال:
«مثل أن يجرحه بما له مَوْرٌ في البدن» هذه الصورة الأولى «أن يجرحه» الفاعل هو القاتل أو الجاني، والمفعول به هو المجني عليه، أي مثل أن يجرح الجاني المجني عليه.
مِثْلُ أَنْ يَجْرَحَهُ بِمَا لَهُ مَوْرٌ فِي الْبَدَنِ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ وَنَحْوِهِ،.........
وقوله: «بما له مور» ، فسَّره في الروض (1) فقال: أي: «نفوذ في البدن» مثل لو بطَّه برأس الدبوس فهذا له مور في البدن، وهو عند المؤلف عمد؛ لكنه على القاعدة لا ينطبق على العمد؛ لأن القاعدة: «أن يقتله بما يغلب على الظن موته به» وهذا لا يغلب على الظن موته به، اللهم إلاّ إذا بطَّه في مقتل، كما لو بطَّه في الفؤاد، أو في الوريد، أو ما أشبه ذلك، أما لو بطَّه في مكان متطرف من البدن، فليس هذا بعمد في الواقع، وما أكثر الجروح التي تصيب الرِّجل، من مسمار، أو زجاجة، أو نحو ذلك، ولا يقول الناس: إن هذا يقتل.
فلو قال قائل: هو لا يقتل، ولكنه تعفن وفسد شيئاً فشيئاً، حتى قضى عليه، فماذا نقول؟ نقول: العبرة بالأصل، وهنا ما مات من الجرح نفسه، ولكنه مات من التسمم وفساد الجرح، فإن جَرَحَهُ بما له مور في البدن، فقيل له: داوِ الجرح؛ حتى لا ينزل الدم، فقال المجني عليه: لا، بل سأدعه ينزل حتى يُقتل الرجل،
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/167) .(14/10)
فالمذهب أن هذا عمد من الجاني، ويقولون: «وإن لم يداوِ مجروحٌ جرحه» ، فإن قال الجاني: أنا سأداويك على نفقتي الخاصة، فقال المجني عليه: لا، بل دعه يثعب دماً حتى تُقتل، فهنا يرون أنه عمد، لكن الحقيقة أن هذا سفه من المجني عليه؛ لأن هناك أشياء نعلم أنها إذا عولجت برئت، فأنت الذي جنيت على نفسك، فهذا لا نُمكِّنه من أن يُبقي جرحه يثعب دماً حتى يموت.
الصورة الثانية: قوله: «أو يضربه بحجر كبير ونحوه» مثل ما لو ضربه بمطرقة كبيرة، وقال: أنا لا أدري أنها تقتل، فنقول: هذا غير صحيح، بل هذا مما يقتل غالباً فيُقْتل به، حتى لو ضربه بها في غير مقتل، ولهذا صرح في الروض (1) فقال: «ولو في غير مقتل» فمات فإنه عمد يُقتل به.
وأفادنا المؤلف بقوله: «أو يضربه بحجر كبير» أنه لو ضربه بحجر صغير فهو شبه عمد، إلا إذا قتله بحجر صغير في مقتل، مثل إن ضربه على الكِلى، أو على الكبد، أو ما أشبه ذلك مما يكون سبباً للقتل، فهنا يكون ذلك عمداً.
ومعرفة كون الحجر يقتل أو لا يقتل يرجع في ذلك إلى العرف، فمتى قالوا: إن هذا الحجر يقتل لو ضرب به الإنسان ولو في غير مقتل، فيكون القتل بهذا الحجر عمداً.
مسألة: لو قتله بسوط من كهرباء؟ فيُنظر إن كان من طاقة
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/168) .(14/11)
كبيرة تقتل غالباً فهو عمد، وإن كان من طاقة صغيرة لا تقتل غالباً فليست بعمد، والطاقة الصغيرة مثل مائة وعشرة، والطاقة الكبيرة مثل مائتين وعشرين، أو ثلاثمائة ونحوه.
أَوْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ حَائِطاً، أَوْ يُلْقِيَهُ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ فِي نَارٍ، أَوْ مَاءٍ يُغْرِقُهُ وَلاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُمَا، أَوْ يَخْنِقَهُ أَوْ يَحْبِسَهُ وَيَمْنَعَ عَنْهُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ فَيَمُوتَ مِنْ ذلِكَ فِي مُدَّةٍ يَمُوتُ فِيهَا غَالِباً،.....................
قوله: «أو يلقي عليه حائطاً» بأن قال له: اجلس تحت هذا الجدار واستظل به، فجاء وجلس، وذهب الآخر من وراء الجدار وألقاه عليه، فيكون هذا عمداً؛ لأنه يقتل غالباً.
ولو ألقى عليه سقفاً، فيُنظر فيه، فإن كان سقفاً مما يقتل غالباً فإنه عمد، وإن كان مما لا يقتل غالباً فليس بعمد.
قوله: «أو يلقيه من شاهق» أي: مرتفع، كأن يصعد شخصٌ وآخرُ على منارة، ثم يقول له: تعال وانظر إلى الأرض، أقريبة هي أم بعيدة؟ فلما نظر الآخر دفعه وألقاه إلى الأرض، فهذا عمد، فإن قال: أنا لا أدري أنه سيموت، قلنا: إنَّ هذا مما يقتل غالباً، فإن رماه من مكان أبعد فإنه عمدٌ من باب أولى، مع أنهم يقولون: إن الهر إذا سقط من مكان قريب مات، ولو سقط من مكان بعيد لم يمت، لكن الآدمي بخلاف الهر.
قال في الروض (1) : «الثالث من الصور أن يلقيه بجُحر أسد أو نحوه» ، جحر الأسد هو مكانه الذي يأوي إليه، فلو أن إنساناً ألقى شخصاً في جحر أسد فأكله، فإنه يكون عمداً.
فإن قال الذي ألقاه في الجحر: أليس إذا اجتمع متسبِّب ومباشر فالضمان على المباشر؟ فالجواب نعم، ولكن إذا تعذر
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/169) .(14/12)
إحالة الضمان على المباشر فيكون على المتسبب، وهنا يتعذر إحالة الضمان على المباشر، وهو الأسد فيكون الضمان على المتسبب.
قال في الروض (1) : «أو مكتوفاً بحضرته» ، أي: بحضرة الأسد، ومعنى مكتوفاً ـ أي: مربوطة يداه إلى كتفيه ـ فإنه في هذه الحال يكون عمداً، وقد ذكروا قصة جحدر بن مالك حين أخذه الحجاج بن يوسف الثقفي في جناية ـ زعم أنها جناية ـ فقال له: لن أقتلك، ولكن سآتي بأسد وأحبسه عن الطعام خمسة عشر يوماً، وسأعطيك سيفاً، وأقيد يدك الأخرى، فأجاع الأسد لمدة خمسة عشر يوماً، ثم أطلقه وأطلق جحدر بن مالك، فانقضّ الأسد على جحدر من شدة الجوع، لكن جحدر رفع السيف أثناء انقضاض الأسد، فوضعه في نحره ومات الأسد ولم يمت جحدر، ذكر هذا في حواشي مغني اللبيب، والقصة طويلة، والشاهد أنه إذا ألقاه مكتوفاً بحضرة الأسد فهو عمد.
لكن لو فعل مثل قصة جحدر، فهل يكون عمداً مع أنه أعطاه السيف؟ في الحقيقة لولا أنه كان قوياً، وشجاعاً، وقوي البدن أيضاً، لما قدر على الأسد الذي قد جُوِّع لمدة خمسة عشر يوماً، ثم أطلق.
الرابعة: قوله: «أو في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما» فإن ألقي في نارٍ أو ماءٍ ويمكنه التخلص منهما فهدر، وليس بعمد.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/169) .(14/13)
الخامسة: قوله: «أو يخنقه» أي: يكتم نفسه، سواء بحبل، أو بتثبيت مادة تكتم النفس، أو ما أشبه ذلك.
فالخنق يعتبر عمداً، والغريب أنه قال في الروض (1) : «أو يعصر خصيتيه» فهل هذا من الخنق؟ نعم.
ولو وضع يده على فمه دون أنفه فليس بخنق؛ لأنه يمكنه التنفس، وكذلك لو وضع يده على أنفه دون فمه فليس بخنق، لكن لو وضع يده على أنفه وفمه فهذا خنق.
السادسة: قوله: «أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً» فإذا حبسه ولم يعطه ماءً ولا طعاماً، حتى مات في مدة يموت فيها غالباً، فهذا عمد، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها حتى ماتت لا هي أطعمتها ولا هي سقتها ... » (2) فهذا من صور العمد.
والمدة التي يموت فيها غالباً تختلف في الحر والبرد، فيرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن بقاء الإنسان في هذا المكان، وفي هذا الزمان، يعتبر مدة يموت في مثلها غالباً قلنا: إنه عمد.
فإذا حبسه ومنعه عن الطعام والشراب في مدة يموت فيها غالباً، فهذا من صور العمد؛ لأن الإنسان إذا حبس عن الطعام
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/171) .
(2) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب فضل سقي الماء (2365) ، ومسلم في السلام/ باب تحريم قتل الهرة (
151/2242) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(14/14)
والشراب فإنه يموت، وقال بعض أهل العلم: «ومثله لو حبسه في الشمس في أيام الصيف حتى مات، أو حبسه في ليالي البرد في أيام الشتاء فمات، وهذا صحيح، وهذه الصورة وإن كانوا لم يقولوها لكننا ننزلها على الضابط.
قال في الروض (1) : «بشرط تعذر الطلب عليه وإلاّ فهدر» أي: بشرط أن يتعذر الطلب على المحبوس، فإن كان لا يتعذر عليه الطلب، بحيث لو طلب الطعام أو الشراب لوجده، فليس بعمد وهدر، كما قلنا فيما لو ألقاه في نارٍ أو ماءٍ يغرقه ويمكنه التخلص.
أَوْ يَقْتُلَهُ بِسِحْرٍ، أوْ بِسُمٍّ، أَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنةٌ بِمَا يُوجبُ قَتْلَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا، وَقَالُوا: عَمَدْنَا قَتْلَهُ، وَنَحْوَ ذلِكَ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً لاَ تَقْتُلُ غَالِباً وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِهَا، كَمَنْ ضَرَبَهُ فِي غَيْرِ مَقْتلٍ بِسَوْطٍ، أَوْ عَصَا صَغِيرَةٍ،................
السابعة: قوله: «أو يقتله بسحر» والسحر عبارة عن عزائم، وعقد، ورقى، وأدوية، يتوصل بها إلى ضرر المسحور في بدنه، أو عقله.
فإذا وضع رجل السحر لشخص حتى أثَّر فيه ومات، فإن هذا يكون قتلاً عمداً؛ لأن السحر يقتل مثله غالباً، ولكن تقدم لنا أن الساحر يجب أن يقتل حداً، فهذا الساحر وجب قتله لسببين: الأول: قتله لحقِّ الله ـ عزّ وجل ـ إذا لم نقل بكفره، الثاني: قتله لحق أولياء المقتول، فهنا تعارض عندنا حقان حق أولياء المقتول، وحق الله عزّ وجل، فأيهما يقدم؟
الجواب: يقدم حق أولياء المقتول، فإذا قال أولياء المقتول: ما دام أن الرجل سيقتل فنحن نريد الدية فلهم ذلك،
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (7/171) .(14/15)
وإن قالوا: نريد أن نقتله ونشفي صدورنا منه فلهم ذلك.
وعلى هذا فنقول لأولياء المقتول بالسحر: إن شئتم أعطيناكم هذا الساحر فاقتلوه أنتم قصاصاً، وإن شئتم قَتَلَه وليُّ الأمر حداً، ولكم الدية.
فإن سحره حتى ذهب بعقله فهنا عليه الدية، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في دية المنافع.
الثامنة: قوله: «أو بِسُمٍّ» أي: أو يقتله بسُمٍّ، وذلك بأن يضع له السُّم في ماء، أو في طعام ويسقيه إياه وهو لا يعلم، فإن علم أن فيه سُمّاً وأكله، أو شربه، فهو هدر، لكن إن كان لا يعلم فيكون الذي وضع له السم قاتلاً عمداً.
فإن قتله بزجاج وضعه داخل الطعام فإنه عمد؛ لأنه يقتل غالباً، حتى أن بعض الناس إذا لم يقتل الهرة بالسم قتلها بالزجاج؛ لأنه أحياناً إذا وُضع له السم وأكله تقيأه وسلم منه، لكن إن وضع له الزجاج، فإن تقيأه لم يسلم، وإن ابتلعه لم يَسْلم.
التاسعة: قوله: «أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله» لم يقل: بما يبيح قتله، وبينهما فرق.
قوله: «ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله» فإذا شهدوا بما يوجب قتله، كأن شهدوا بأنه زنا وهو محصن ـ وزِنا المحصن يوجب الرجم ـ فحَكَم القاضي بشهادتهم، ورُجم هذا المشهود عليه، ثم رجعوا وقالوا: نحن راجعون عن شهادتنا، ومتعمدون لقتله، فهنا يكون قتله عمداً.(14/16)
وأما لو شهدوا بما يبيح قتله ولا يوجبه فإنه ليس بعمد؛ لأنه يمكنه التخلص من ذلك، مثل أن يشهدوا عليه بردة تقبل فيها التوبة؛ لأنه من الممكن أن المشهود عليه يتخلص بالعودة إلى الإسلام.
مثال آخر: شهدوا عليه بأنه جحد فريضة الصلاة، فهذه ردة تبيح القتل ولا توجبه، فمن الجائز أن يقول الرجل: أنا تبت إلى الله، وأُقر إقراراً من قلبي بأن الصلوات الخمس واجبة، فهنا يرتفع القتل عنه.
قوله: «ونحو ذلك» الإشارة في «ذلك» إلى ما سبق، أي: ونحو هذه الصور، فالمسألة ليست محصورة، والواجب أن نرجع إلى الضابط، ونقول في العمد: «هو أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به» .
قوله: «وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً» فالعمد وشبه العمد يشتركان في القتل، لكنهما يختلفان في أن العمد تقتل الجناية فيه غالباً، وشبه العمد لا تقتل غالباً، لكن اشترط المؤلف شرطاً فقال:
«ولم يجرحه بها» وقيده بهذا القيد؛ لأنه إن جرحه بها ولو كانت لا تقتل غالباً صار عمداً، مثاله: قول المؤلف:
«كمن ضربه في غير مقتل بسوط، أو عصا صغيرة» فإن(14/17)
ضربه في غير مقتل، كأن ضربه في طرف، أو على رأسه بسوط، أو عصا صغيرة، فنقول: هذا ليس بعمد بل شبه عمد، ودليله قصة المرأتين من هذيل اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن دية المرأة على العاقلة، وقضى بدية الجنين غرة عبد أو أمة» (1) قال أهل العلم: هذا الحديث هو الأصل في إثبات شبه العمد؛ لأن الجناية متعمدة، لكن الآلة التي حصل بها القتل لا تقتل غالباً.
أَوْ لَكَزَهُ، وَنَحْوَهُ (2) ، وَالخَطَأُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ، مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ مَا يَظُنُّهُ صَيْداً، أَوْ غَرَضاً، أَوْ شَخْصاً، فَيُصِيبَ آدميّاً لَمْ يَقْصِدْهُ، وَعَمْدُ الْصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
قوله: «أو لكزه» إذا لكزه في مقتل فإنه عمد؛ لأنه يقتل غالباً، وموسى عليه السلام وكز القبطي فمات، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: 15] ، وكان موسى عليه السلام رجلاً شديداً قوياً، لمّا رأى الإسرائيلي يقاتل القبطي، وكزه فقضى عليه، ومات، ولهذا قال: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] .
والفرق بين العمد وشبه العمد:
أولاً: يشتركان في قصد الجناية، ويختلفان في الآلة التي حصلت الجناية بها.
ثانياً: العمد فيه قصاص، وشبه العمد ليس فيه قصاص.
ثالثاً: دية العمد على القاتل، ودية شبه العمد على العاقلة.
رابعاً: العمد ليس فيه كفارة، وشبه العمد فيه كفارة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (5) .
(2) قال في الروض: (أو ألقاه في ماء قليل ... إلخ) (7/175) .(14/18)
أما التغليظ في الدية فإن المشهور من مذهب الحنابلة أنهما سواء.
قوله: «والخطأ أن يفعل ما له فعله» (ما) اسم موصول بمعنى الذي، وإن شئت فقل: إنها نكرة موصوفة، أي: أن يفعل شيئاً له فعله.
قوله: «مثل أن يرمي ما يظنه صيداً» كرجل أراد أن يرمي الصيد فأصاب إنساناً، فَرَمْيُ الصَّيْدِ له فِعْلُهُ، لكن إن كانت الحكومة قد منعت ذلك فليس له فعله؛ لأن الله أوجب علينا طاعة ولي الأمر في غير المعصية، ومنع الصيد في زمنٍ معين أو مكان معين ليس بمعصية، فيجب علينا طاعته فيه، وأنا أعتبر أن منع الدولة من المنع الشرعي الواجب اتباعه إذا لم يكن معصية، فإذا رمى صيداً لم نُمنع منه شرعاً فأصاب إنساناً فإنه خطأ، والخطأ هنا في القتل لا في الآلة؛ لأن الآلة تقتل غالباً
قوله: «أو غرضاً» الغرض هو الهدف، فلو نصب غرضاً يرمي إليه، فلما أطلق الرصاص أصاب إنساناً ولم يقصده، فإنه يكون خطأ، وتوجد مراماة بالأحجار، بأن ينصبوا لهم نِيشاناً أي: خشبة يغرزونها في الأرض، ثم يترامون عليها، وقد وقعت قصة في ذلك، وهي أن أحدهم لمَّا أطلق الحجر، فإذا بالثاني قريب مما يُسمَّى بالنِّيشان، فضربه على رأسه وتوفي، فهذا القتل خطأ، حتى لو كان الحجر الذي رُمي به كبيراً فإنه خطأ؛ لأنه لم يقصد.(14/19)
وعلم من قوله: «أن يفعل ما له فعله» أنه لو فعل ما ليس له فعله بجناية تقتل غالباً فهو عمد، مثال ذلك: أن يرمي شاة فلان فيصيبه هو، فعلى رأي المؤلف يكون عمداً.
مثال آخر: أراد أن يرمي الرطب على النخلة فأصاب صاحب الثمرة، فيكون عمداً على ظاهر كلام المؤلف.
لكن هذا الظاهر فيه نظر، بل نقول: إذا فعل ما ليس له فعله فأصاب آدمياً، فإما أن يكون ما قصده مساوياً للآدمي أو دونه، فإن كان مساوياً للآدمي فهو عمد بلا شك، مثل أن يرمي شخصاً يظنه فلاناً معصوم الدم، فأصاب شخصاً آخر، وقال: أنا ما علمت أن هذا فلان، كما لو أصاب أخاه ـ أي: أخا القاتل ـ فإنه سيندم؛ لأنه لم يُرِد قتله، لكنه أراد قتل معصوم مساوٍ للمقتول، فالحرمة واحدة، فنقول: هذا أراد قتل مسلم فأصاب مسلماً، فهو قتل عمد؛ لأنه أراد هتك حرمة المؤمن.
ولو أن رجلاً رمى الرطب على النخلة ليأكل منها فأصاب إنساناً نقول: القتل عمد على المذهب! لكن الصحيح أنه ليس بعمد؛ لأنه لا شك أن هذا الرجل لو علم أن على النخلة شخصاً معصوماً لم يقتله، وحرمة التمر ليست كحرمة الآدمي، ولو أراد قتل شاة فقتل صاحبها فالقتل على كلام المؤلف عمد، والصواب أنه ليس بعمد؛ لأن حرمة الشاة ليست كحرمة الآدمي.
فالصواب أن يقال: أن يفعل ما له فعله فيصيب آدمياً، أو يفعل ما ليس له فعله فيصيب من حرمته دون حرمة الآدمي.(14/20)
فإن رمى معصوماً غير مسلمٍ فأصاب مسلماً فالظاهر أنه يعتبر عمداً، صحيحٌ أنه لا يقتل به؛ لأنه لا يقتل مسلم بكافر، لكن الحرمة والاحترام للمعصوم كالاحترام للمسلم.
وقد يقال ليس بعمد؛ لأن حرمة غير المسلم ليست كحرمة المسلم.
قوله: «أو شخصاً» أي: شخصاً مباح الدم، كزانٍ محصن وحربي، وما أشبه ذلك.
قوله: «فيصيب آدمياً لم يقصده» وقد سبق.
قوله: «وعمد الصبي والمجنون» هذا النوع الثاني من الخطأ، فإذا تعمد الصبي أو المجنون القتل فهو خطأ، أما المجنون فظاهر؛ لأن من شروط العمد القصد، والمجنون لا قصد له.
وأما الصبي ـ والمراد به هنا من دون البلوغ، كمن عمره أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكمن عمره خمس عشرة سنة إلاّ ثلاثة أيام ـ فعمده خطأ؛ لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (1) .
والنائم يمكن أن يقتل، فبعضهم يمشي وهو نائم، وذُكر لنا أن بعض الناس وهو نائم يخرج إلى الوادي شمال البلد، وهو
__________
(1) أخرجه أبو داود في الحدود/ باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4398) ، والنسائي في الطلاق/ باب من لا يقع
طلاقه من الأزواج (6/156) ، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041) ، وصححه ابن حبان
(142) ، والحاكم (2/59) ووافقه الذهبي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(14/21)
واضع رأسه على كتفه، وبعضهم يقوم يشرب ثم يرجع وهو لا يعلم، فعمد النائم ـ أيضاً ـ يعتبر من الخطأ؛ لأنه لم يقصد، ومن شروط العمد القصد.
وعمد السكران على المذهب عمد؛ لأنه لا يعذر به، وكل أقوال السكران وأفعاله معتبرة، ولهذا يقع طلاقه، ويصح إقراره، وعتقه، وإيقافه، فلو أن سكراناً قال: جميع زوجاتي طوالق، وجميع عبيدي أحرار، وجميع أملاكي وقف، وفي ذمتي لفلان ألف مليون! فالمذهب أنه يصح، فتطلق جميع زوجاته، ويصبح عبيده كلهم أحراراً، وماله كله وقفاً، ويلزمه لفلان ألف مليون.
لكن الصحيح أن السكران لا يؤاخذ بأقواله فلا يقع عتقه، ولا طلاقه، ولا وقفه، ولا إقراره.
كذلك أفعال السكران موضع خلاف، فمن العلماء من قال: يؤاخذ بأفعاله؛ لأن الفعل أقوى من القول؛ إذ إن كون السكران يجترئ على الفعل معناه أن هناك إرادة بخلاف القول، وعلى هذا القول يكون قتله عمداً.
لكن الصحيح أنه لا يؤاخذ بفعله أيضاً، إلاّ إذا قال: إنه سيسكر لأجل أن يقتل، يعني أنه عرف أنه لو ذهب إلى فلان وقتله وهو صاحٍ أنه سيقتل به، فأراد أن يسكر لأجل أن يقتل هذا الرجل، فهذا لا شك أنه عمد؛ لأنه قصد الجناية قبل أن يسكر.
والفرق بين الخطأ وقسيميه:
يشترك الخطأ وشبه العمد في أمور، ويفترقان في أمور، فيشتركان في التالي:(14/22)
أولاً: أنه لا قصاص فيهما.
ثانياً: أن فيهما الدية.
ثالثاً: أن الدية على العاقلة.
ويختلفان في التالي:
أولاً: أن شبه العمد قصد، والخطأ ليس بقصد.
ثانياً: أن دية شبه العمد مغلظة، ودية الخطأ غير مغلظة.
ثالثاً: أن شبه العمد فيه إثم، والخطأ لا إثم فيه.
ويفارق الخطأ العمد في التالي:
أولاً: أن العمد فيه قصاص، والخطأ لا قصاص فيه.
ثانياً: العمد ديته مغلظة، والخطأ مخففة
ثالثاً: العمد ديته على القاتل، والخطأ على العاقلة.
رابعاً: العمد لا كفارة فيه، والخطأ فيه كفارة.
خامساً: العمد فيه إثم عظيم، والخطأ لا إثم فيه.
وأنا أدعو إلى معرفة الفوارق والجوامع؛ لأن من أهم ما يكون أن يعرف الإنسان الفروق بين مسائل العلم، والوجوه التي تجتمع فيه، حتى يميز ويفرق.
* * *(14/23)
فَصْلٌ
تُقْتَلُ الجَمَاعَةُ بِالوَاحِدِ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ أَدَّوْا دِيَةً وَاحِدَةً،..................
قوله: «تقتل الجماعة بالواحد» أي: إذا اجتمع جماعة على قتل إنسان فإنهم يقتلون جميعاً، مثاله: خمسة اجتمعوا على قتل رجل، فيُقتلون جميعاً، فإن قيل: ما الدليل، وما التعليل؟ لأن ظاهر الحكم في هذه المسألة أنه حكم جائر، فكيف نقتل خمسة بواحد؟!
أما الدليل فهو ما ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ في جماعة اشتركوا في قتل رجل من أهل اليمن، فأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يقتلوا جميعاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به (1) ، أي: لو اتفق أهل بلد كامل على قتله لقتلتهم به، وعمر ـ رضي الله عنه ـ ممن اشتهر بالعدالة، ومع ذلك قتلهم جميعاً به، فالحُكْم ليس بجَور.
أما من حيث النظر، فلأن هؤلاء الجماعة قتلوا نفساً عمداً، وتجزئة القتل عليهم مُحال؛ إذ لا يمكن أن نقتل كل واحد خمس قتلة، والقتل لا يمكن أن يتبعَّض، ورفع القتل عنهم ظلم للمقتول؛ لأنهم أعدموه وأزهقوا نفسه، فكيف لا تزهق أنفسهم؟!
فلهذا كان النظر والأثر موجبين لقتل الجماعة بالواحد، لكن لا بد من شرط، وهو أن يتمالؤوا على قتله، أو يصلح فعل كل واحد للقتل لو انفرد.
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات/ باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟ (6896) عن ابن عمر
رضي الله عنهما.(14/24)
مثال التمالؤ: قالوا: هذا الرجل عنده مال كثير، سنقتله ونأخذ ماله، فقال أحدهم: اجلس أنت في هذا المكان مراقباً، وأنت في هذا المكان الآخر مراقباً، وأحدنا يشحذ السكين، وأحدنا يقتله، فهنا تمالؤوا على قتله.
مثال ما لم يتمالؤوا، لكن فِعْل كل واحد يصلح لقتله: كأُناس أرادوا أن يهجموا على شخص لقتله وأخذ ماله، دون أن يطلع أحدهم على الآخر، ولم يعلم أحدهم بالآخر، لكن قدَّر الله ـ تعالى ـ أن يأتوا جميعاً ليلاً، وكل شخص رمى هذا الرجل، فأحدهم أصابه في بطنه، والآخر في صدره، والآخر في ظهره، فمات الرجل فهنا يقتلون جميعاً؛ لأن فعل كل واحد منهم يصلح للقود لو انفرد.
ولو جرحه أربعة بدون اتفاق وخامس لكزه، فهنا يقتل الأربعة، والخامس الذي لكزه لا يُقتل؛ لأن فعله لا يصلح للقتل لو انفرد.
قوله: «وإن سقط القود» أي: سقط القصاص لأي سبب من الأسباب.
قوله: «أدوا دية واحدة» مثل أن قال أولياء المقتول: نحن لا نريد قتل هؤلاء، لكن نريد الدية، فيلزمهم دية واحدة، فإذا كانوا عشرة والدية مائة من الإبل فعلى كل واحد منهم عشر من الإبل، والفرق بين الدية والقتل أن الدية تتجزأ، فيمكن أن نُحمِّل كل واحد جزءاً منها، لكن القتل لا يتجزأ.
ثم ذكر المؤلف مسائل تشبه الاشتراك، وليست اشتراكاً، فقال:(14/25)
وَمَنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفاً عَلَى قَتْلِ مُكَافِئِهِ فَقَتَلَهُ فَالقَتْلُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا،..........
«ومن أكره مكلفاً على قتل مكافئه فقتله فالقتل أو الدية عليهما» «مَنْ» مِن صيغ العموم؛ لأنها اسم شرط، لكنها ليست على عمومها، وإنما المراد بها من أَكره ممن يُقاد لو تعمد؛ ليخرج بذلك إكراه الصبي والمجنون؛ لأن الصبي أو المجنون لو أكره أحدهما مكلفاً على قتل مكافئ لم يكن عليه شيء؛ لأن عمده هو بنفسه خطأ، فَعَلِمنا أن قول المؤلف: «مَنْ أكره» ليس على عمومه، وإنما هو من باب العام الذي أريد به الخصوص، وهل لذلك نظير في اللغة العربية، أو في الشرع؟
الجواب: نعم، وهو كثير، قال الله تعالى عن عادٍ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} ومعلوم أنها ما دمرت السماء، ولا الأرض، ولا المساكن، قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] ، ومعلوم أن القائل واحد، وأن الجامعين لهم ليسوا كل الناس.
وقوله: «مكلفاً» هو البالغ العاقل.
وقوله: «على قتل مكافئه» أي: على قتل شخص مكافئ للقاتل المُكرَه، وستأتي إن شاء الله المكافأة في باب شروط القصاص.
وقوله: «فقتله» أي: المكرَه قَتَلَ من أكرِه على قتله.(14/26)
وقوله: «فالقتل أو الدية عليهما» القتل أي: القصاص، و «أو» للتنويع لا للتخيير.
فالقتل إذا اختير، أو الدية إن عفي عنه.
وقوله: «عليهما» أي: على القاتل ومن أكرهه؛ لأن المكرِه ملجئ، والمكرَه أراد قتل غيره لاستبقاء نفسه، فكل منهما ظالم، فصار القود أو الدية عليهما.
وقيل: الضمان على المكرَه وحده؛ لأنه ليس له الحق في أن يقتل غيره لاستبقاء نفسه، فيقول للذي أكرَهه مثلاً: لا أقتله أبداً، وافعل ما شئت، ولو أن تقتلني، أما أن أتعمد أن أقتل نفساً محرّمة لمجرّد أنك أكرهتني فهذا لا يمكن، وليس هذا من حق الله الذي عفا الله عنه عند الإكراه، فهذا حق آدمي، ولهذا فهذا القول قوي جداً.
وقيل: إن الضمان على المكرِه؛ لأن المكرِه ملجئ، والمكرَه مضطر، ولولا إكراه ذلك ما قتله، ولكن هذا التعليل بالنسبة إلى تعليل القول بأنه على المكرَه ضعيف جداً لا يقابله.
فالصواب: أنه إما على المكرَه، أو عليهما جميعاً، وحينئذٍ ينظر القاضي إلى ما هو أصلح للناس في هذه المسألة، فإن قتلهما جميعاً، ورأى أن المصلحة تقتضي ذلك فليفعل.
وهذا ما لم يكن المكرَه كآلة، فإن كان المكره كآلة فإن الدية أو القود على المكرِه، ومعنى قولنا: «كآلة» مثل أن يأخذ الرجلُ رجلاً نشيطاً، فيمسكه، ويضرب به رجلاً آخر، فمات فهنا القود أو الدية على القاتل؛ لأن هذا صار كالآلة لا يستطيع أن يتخلّص.(14/27)
مسألة: إذا قال شخص لآخر: اقتل نفسك وإلاّ قتلتك، فما الحكم؟
الجواب: قال فقهاء الحنابلة: إنه إكراه، وعلى هذا فالضمان على المكرِه، وقيل ليس بإكراه؛ لأن هذا الذي قتل نفسه لا يستفيد استبقاء نفسه لو تركها، فلا يستفيد من قتل نفسه شيئاً، وما دام أنه مقتول فليكن القتل بيد غيره، فهذا ليس من باب الإكراه.
وعلى كل حال فهذه المسائل الخلافية التي ليس فيها دليل واضح يفصل بين الأقوال، ينبغي أن يعطى الحاكم فيها سعةً في الحكم بما يرى أنه أصلح للخلق؛ لأن هذه المسائل ما دام أن فيها سعة في أقوال المجتهدين من أهل العلم، والناس يحتاجون إلى سياسة تصلحهم، فلا حرج على القاضي إذا اختار أحد الأقوال لإصلاح الخلق.
ولذلك يذكر عن بعض السلف أنه قال لابنه مرة: افعل كذا وكذا في حكم من الأحكام، فلم يفعل، فقال الوالد: افعل وإلاّ أفتيتك بقول فلان، وهو قول أصعب وأشق.
فهذه المسائل التي مصدرها الاجتهاد، وليس فيها نص يلزم الإنسان بأن يأخذ به فلينظر إلى ما يصلح الخلق.
وقوله: «على قتل مكافئه» يحتاج إلى قيد، وهو أن يكون مكرهاً على قتل معين، بأن يقول له: اقتل فلاناً وإلاّ قتلتك، وأما لو قال: اخرج إلى السوق، وأتني برأس رجلٍ من المارَّة، فإن لم تفعل قتلتك، فذهب وقتل شخصاً في السوق، فهذا غير معين،(14/28)
فالقصاص هنا ـ على المذهب ـ يكون على القاتل؛ لأنه لم يكرهه على قتل معين، والفرق أن المكرَه في قتل المعين مُلْزَم بهذا الشخص بعينه، أما ذاك فما ألزم بهذا الشخص المعين، فهو الذي اختار أن يقتل فلاناً دون فلان.
وَإِنْ أَمَرَ بِالْقَتْلِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَوْ مُكَلَّفاً يَجْهَلُ تَحْرِيمَهُ،.............
قوله: «وإن أمر بالقتل غير مكلف» لو قال للصغير: اذهب إلى ذلك الرجل النائم واقتله، ففعل ذلك الصغير ما أُمِر به وقتل الشخص، فهنا الضمان على الآمر؛ لأن عندنا متسبباً ومباشراً، والمباشر غير مكلف، ومثله لو أمر مجنوناً بقتل شخص فقتله، فالضمان على الآمر.
قوله: «أو مكلفاً يجهل تحريمه» أي: أمر شخصاً بالغاً عاقلاً، لكنه لا يدري أن القتل حرام، وليس المعنى أنه يجهل تحريم القتل بالنسبة إلى هذا المعين، لكنه يجهل تحريم القتل مطلقاً، مثل أن يكون رجلاً أسلم قريباً.
مثاله: رجل جاء بخادمٍ من بلدٍ بعيد، لا يدري عن الإسلام شيئاً، وتعطلت عليهم السيارة في الصحراء، وكادا يهلكان من الجوع، فوجدا رجلاً سميناً، فقال له هذا الرجل الذي يعلم تحريم القتل: نحن الآن جُعْنا، وهذا رجل شاب سمين، ولحمه سيكون طرياً، اذهب فاذبحه حتى نأكله، فذهب الآخر الذي لا يعلم تحريم القتل فذبحه وأتى بأعضائه، فهنا الضمان على الآمر؛ لأن المباشر لا يعلم تحريم القتل، ويظن أن القتل لا بأس به.
وهذا فيما يظهر في زماننا الآن بعيد جداً لكننا نقوله فرضاً.(14/29)
أما لو كان يجهل تحريم القتل بالنسبة لشخص معين فالضمان على القاتل؛ لأنه لا يجوز أن يُقدم على قتل إنسان حتى يعلم أنه مباح الدم.
أَوْ أَمَرَ بِهِ السُّلْطَانُ ظُلْماً مَنْ لاَ يَعْرِفُ ظُلْمَهُ فِيهِ فَقَتَلَ، فَالقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الآمِرِ، وَإِنْ قَتَلَ الْمَأْمُورُ الْمُكَلَّفُ عَالِماً بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الآمِر، وَإِنِ اشْتَرَكَ فِيهِ اِثْنَانِ لاَ يَجِبُ القَوَدُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُنْفَرِداً لأُِبُوَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَالْقَوَدُ عَلَى الشَّرِيكِ،.....................
قوله: «أو أمر به السلطان» وهو الرئيس الأعلى في الدولة.
قوله: «ظلماً» أي: أمر بالقتل ظلماً، بأن قال: يا جنود اقتلوا فلاناً، فقتلوه.
قوله: «من لا يعرف ظلمه فيه» أي: وهم لا يعلمون أنه ظالم.
قوله: «فقتل، فالقود أو الدية على الآمر» وهو السلطان، لا على المأمور، ولكن هذا القول فيه نظر، لا سيَّما إذا كان هذا السلطان معروفاً بالظلم؛ لأنه لا يجوز للمأمور أن يقدم على قتل من أمره السلطان بقتله حتى يغلب على ظنه، أو يعلم أنه مباح الدم، أما مجرَّد أن يقال له: اقتل فلاناً، فيقتله، فهذا فيه نظر؛ لأن الأصل تحريم الدماء، فلا يجوز الإقدام عليه إلا حيث يعلم الإنسان، أو يغلب على ظنه أن هذا التحريم قد زال، ولا سيما إذا كان السلطان معروفاً بالظلم، فإنه يتعين أن يتريَّث المأمور حتى يعرف أسباب الأمر، وهذه المسألة لها ثلاثة أقسام:
الأول: أن نعلم أن السلطان غير ظالم، فهنا يجوز الإقدام على القتل.(14/30)
الثاني: نعلم أنه ظالم، فهنا لا يجوز تنفيذ أمره؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
الثالث: أن نجهل الأمر، ولا ندري هل هو مباح الدم، أو محترم الدم، فهذه المسألة فيها خلاف، فالمذهب: أنه يجوز تنفيذ أمر السلطان؛ لأن الأصل في السلطان المسلم أنه لا يستبيح قتل مسلم إلاّ بحقه.
والقول الثاني: لا يجوز، حتى نعلم أنه مباح الدم.
قوله: «وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لأبوة أو غيرها، فالقود على الشريك» لو اشترك في القتل شخصان بحيث لو انفرد أحدهما لم يجب القتل عليه، فالقود على الشريك، وعلى الثاني نصف الدية.
وقوله: «لأبوة أو غيرها» مثاله: لو اشترك أب وأجنبي في قتل الولد، فالأجنبي يقتل بالولد، والأب لا يقتل بولده كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في القصاص، فالقتل هنا اجتمع فيه سببان: أحدهما: يثبت به القود، والثاني: لا يثبت به القود، فيكون القود على الشريك، والثاني لا قود عليه؛ لوجود المانع وهو الأبوة، وأما الأجنبي فلا مانع في حقه فينفذ فيه القود، فإذا نفَّذنا القصاص على الأجنبي فإن الأب يكون عليه نصف الدية؛ لأن الدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض.
وقوله: «أو غيرها» كالإسلام في قتل الكافر، فلو اشترك(14/31)
مسلم وكافر في قتل كافر، فمعلوم أنه لا يقتل المسلم بالكافر، فالكافر يجب قتله، والمسلم عليه نصف الدية.
وكذلك رقيق وحر اشتركا في قتل رقيق، فالحر لا يقتل بالرقيق، والرقيق يقتل به، ففي هذه الحال يقتل الرقيق ولا يقتل الحر، ولكن عليه نصف ديته، أي: نصف قيمته.
وكذلك لو اشترك عامد ومخطئ في قتل إنسان، فعلى العامد القتل، وعلى المخطئ نصف الدية، مثال ذلك: رجل تعمد قتل إنسانٍ، وآخر رمى صيداً، فأصاب هذا الإنسان فمات بهما، فهنا يقتل العامد، ولا يُقتل المخطئ، هذا ما مشى عليه الماتن.
وأما المذهب فإنه إذا اشترك عامد ومخطئ، فإنه لا قصاص عليهما؛ لأن جناية أحدهما لا تصلح للقصاص وهي الخطأ، ولا نعلم هل مات بالخطأ أو بالعمد، وحينئذٍ نرفع حكم القصاص، أما لو اشترك أجنبي وأب في قتل ولده، فإن الجناية صالحة للقصاص، وامتنع القتل في الأب لمعنى يختص به، وهو الأبوة؛ فلهذا نقتص من الأجنبي دون الأب.
والماتن رحمه الله لم يفرق بين الصورتين، فالصواب لأن القتل في كلا الصورتين لم يتعين فيمن يثبت عليه القصاص، فانتفى القصاص فيه.
فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
الأول: تبعض الحكم، فيجب القصاص على الشريك الذي تمت فيه شروط القصاص، دون من لم تتم فيه شروط القصاص، وهو ما مشى عليه الماتن.(14/32)
الثاني: التفصيل بين ما إذا كان ذلك لقصور في السبب، أو لمعنى يختص بالقاتل، فإن كان لمعنى يختص بالقاتل وجب القصاص على الشريك، وإن كان لمعنى يختص بالسبب لم يجب على الشريك، وإنما تجب الدية وهو المذهب.
الثالث: أنه لا قصاص مطلقاً حتى على من شارك؛ لأن القتل اشتبهنا فيه، هل وقع ممن يمكن القصاص منه، أو ممن لا يمكن القصاص منه؟
فَإِنْ عَدَلَ إِلَى طَلَبِ المَالِ لَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ.
قوله: «فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية» أي: لو اشترك اثنان في قتل شخص، أحدهما يجب عليه القصاص، والآخر لا يجب عليه القصاص، ولكن أولياء المقتول قالوا: لا نريد القصاص، فهنا الذي كان عليه القصاص يؤدي نصف الدية.
فإن قال قائل: لماذا لا يؤدي الدية كاملة؛ لأنه لو لم يؤد الدية يُقتل، فهذه الدية عوض عن نفسه، فما الجواب؟
الجواب: أن نقول: لا؛ لأننا إنما قتلناه من أجل تعذر تبعض القتل؛ لا لأن نفسه كلها مستحقَّة، لهذا إذا عدل إلى المال لزمه نصف الدية.(14/33)
بَابُ شُرُوطِ القِصَاصِ
................................
قوله: «شروط القصاص» أي: شروط ثبوت القصاص.
واعلم أن القصاص لغة: تتبع الأثر كالقصص.
وأما في الشرع فهو أن يفعل بالجاني كما فعل، إن قَتَل قُتِل، وإن قطع طرفاً قُطِع طرفه، وهكذا.
وقد رخص الله لهذه الأمة ثلاث مراتب: القصاص، وأخذ الدية، والعفو، فأيهما أفضل؟ ينظر للمصلحة، إذا كانت المصلحة تقتضي القصاص فالقصاص أفضل، وإذا كانت المصلحة تقتضي أخذ الدية فأخذ الدية أفضل، وإذا كانت المصلحة تقتضي العفو فالعفو أفضل.
وهذا يجب على الإنسان فيه أن يأخذ بالعقل، لا بالعاطفة؛ لأن بعض الناس تأخذهم العاطفة فيعفون، وهذا ليس بصحيح؛ لأننا لسنا أحق بالعفو من الله تعالى، والله قد أوجب القصاص فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وكذلك أوجب حد الزاني، وقطع السارق، وما أشبه ذلك.
وكان اليهود من شريعتهم ـ حسب ما ذكره أهل العلم ـ أنه لا بد من القصاص، وأنه لا سبيل إلى العفو، ولا إلى أخذ الدية، والنصارى شريعتهم عدم القصاص، وجاءت هذه الشريعة وسطاً بين الشريعتين، فجمعت بين الحزم والفضل؛ لأن ترك(14/34)
القاتل دون أن يقتل يفتح علينا مفسدة عظيمة، وهي التجرؤ على القتل وعدم المبالاة به، وقد تقتضي المصلحة عدم القصاص، فجاءت هذه الشريعة بين الحزم والفضل، كاملة عادلة.
والقصاص ليس كما يزعم أهل الإلحاد والزندقة، حينما يقولون: إن القصاص زيادة في القتل؛ لأنه إذا قتل القاتل شخصاً، ثم قتلنا القاتل يكون فات شخصان، وإذا لم نقتل القاتل لم يفت إلاّ شخص واحد، إذاً فالقصاص خطأ.
لكن نقول لهؤلاء الجماعة: هذا مما أعمى الله به بصائركم، فإن القصاص حياة، كما قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ؛ لأن القاتل إذا علم أنه سيُقتل فإنه لن يقدم على القتل، فإذا اقتصصنا من زيد لقتله عمراً؛ فإن خالداً لا يقتل بكراً، لكن لو تركناه تعدد القتل.
وقد اشتهر في الجاهلية عبارة يكتبونها ـ كما يقولون ـ بماء الذهب، وهي قولهم: القتل أنفى للقتل، أي: أنك إذا قتلت انتفى القتل، فهذه عبارة جيدة وبليغة، لكن عبارة القرآن أعظم بكثير، ونحن لا نريد أن نقارن بين كلام الله تعالى وكلام البشر، لكن نريد أن نبين أن القرآن في غاية ما يكون من البلاغة، ففي القرآن إثبات وفي هذه العبارة نفي، والإثبات أحق بالقبول من النفي، أيضاً الآية تشير إلى العدل في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ} ، وفي عبارة العرب لا توجد إشارة للعدل، أيضاً الآية ليس فيها ذكر للقتل بل فيها ذكر القصاص وهو العدل والحياة،(14/35)
وهي ضد الموت، وهذه العبارة فيها ذكر القتل مرتين، أيضاً الآية فيها إثبات أن القاتل يُقتل بمثل ما قتل به؛ لأنه تعالى جعلها قصاصاً، وعبارة العرب لا تدل على هذا، أيضاً في الآية قوله: {لَكُمُ} أي: إثبات أن هذا من مصلحتنا ومنفعتنا، وعبارة العرب لا يوجد فيها نسبة لأحد.
والحاصل أن الآية الكريمة تفيد معاني عظيمة، كلها تدل على أن القصاص خير للأمة، فما هي شروط القصاص؟
الجواب:
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: عِصْمَةُ المَقْتُولِ، فَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ حَرْبِيّاً أَوْ مُرْتَدّاً لَمْ يَضْمَنْهُ بِقِصَاصٍ وَلاَ دِيَةٍ،..............................
قوله: «وهي أربعة: عصمة المقتول» أي: شروط القصاص أربعة: الأول: عصمة المقتول، أي أن يكون المقتول معصوماً، أي: معصوم الدم، لا معصوماً في رأيه، إذا قال شيئاً لم يخطئ، كما يقول أئمة الروافض.
والمعصومون أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن.
فالمسلم واضح، والذمي هو الذي عقد له ذمة، يعيش بين المسلمين ويبذل الجزية، والمعاهد الذي بيننا وبينهم عهد وهم في بلادهم، والمستأمِن الذي أمَّناه في بلادنا لتجارةٍ، سواء كانت جلباً أو أخذاً، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] .
قوله: «فلو قتل مسلم أو ذمي حربياً أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية» الحربي هو الكافر الذي بيننا وبينه حرب، وليس(14/36)
بيننا وبينه عهد، مثل اليهود الذين احتلوا فلسطين، فهؤلاء ليس بيننا وبينهم عهد.
فإن قال قائل: إن بيننا وبينهم عهداً، وهو العهد العام في هيئة الأمم المتَّحدة، فنقول: هم نقضوا العهد؛ لأنهم يعتدون علينا.
وقوله: «أو مرتداً» أي: إن قتل مرتداً لم يضمنه ولا يقتل به؛ لأنه غير معصوم الدم، لكنه يعاقب على قتله، فيعزره الإمام؛ لأنه ليس لأحد أن يفتات على الإمام، أو نائبه.
والرّدة أسبابها كثيرة، منها: أن يستهزئ بالله، أو برسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو يجحد فريضة معلومة من فرائض الإسلام، أو يترك الصلاة تركاً مطلقاً، أو ما أشبه ذلك، والمرتد غير معصوم الدم، بل يجب على ولي أمر المسلمين أن يدعوه إلى الإسلام، فإن تاب وإلاّ وجب عليه أن يقتله؛ لأن وجود المرتدين بين المسلمين إفساد كبير في الأرض، فهو أعظم من ذنوب كثيرة، ولهذا لو أن ولاة أمور المسلمين قضوا على المرتدين، إما بتوبة منهم، وإما بإعدام، لقلَّ المرتدون.
ولو أن شخصاً قتل زانياً محصناً لم يضمنه؛ لأن الزاني المحصن غير معصوم الدم.
الثَّانِي: التَّكْلِيفُ، فَلاَ قِصَاصَ عَلَى صغِيرٍ وَلاَ مَجْنُونٍ،............
قوله: «الثاني: التكليف» أي: تكليف القاتل.
قوله: «فلا قصاص على صغير ولا مجنون» لأنه لا يتصور منهما عمد، وقد سبق لنا أن عمد الصبي والمجنون خطأ، فلمّا(14/37)
لم يتصور العمد منهما صار لا قصاص عليهما، قال في المغني: «بلا خلاف بين أهل العلم» .
وحد الصِّغر هو ما دون البلوغ، فلو أن رجلاً ولد في الساعة الثانية عشرة عند منتصف النهار، وقتل شخصاً في أول النهار وهو في الرابعة عشرة من عمره، وقتل آخَرَ آخِر النهار، فالأول لا يقتل به؛ لأنه لم يبلغ بعد، ويُقتل بالآخر؛ لأنه قتله بعد بلوغه، وإذا كان الرجل يُجَنُّ أحياناً ويعقل أحياناً، فإن قتل في حال جنونه لا يقتل، وإن قتل في حال عقله يقتل.
ولو زال عقله بغير الجنون كالكِبَر وهو الهرم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه، وخرج يوماً من بيته، وسيفه بيده، فرأى شخصاً فضربه على رأسه، فلا يُقتل به.
ولو أن رجلاً خرج من بيته سكراناً ـ والعياذ بالله ـ ومعه السيف، فقابله رجل فجبَّ رأسه، فهذا على المذهب يقتل؛ لأنه زال عقله بأمر لا يعذر به، بل بأمر محرم.
الثَّالِثُ: الْمُكَافَأَةُ، بِأَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الدِّينِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالرِّقِّ، فَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلاَ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَعَكْسُهُ يُقْتَلُ، وَيُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالأُنْثَى، وَالأُنْثَى بِالذَّكَرِ،............
قوله: «الثالث: المكافأة، بأن يساويه في الدين، والحرية، والرق» أي: يساوي القاتلُ المقتولَ في هذه الأمور.
فقوله: «في الدين» بأن يكون مسلماً يقتل مسلماً.
وقوله: «والحرية» بأن يكون حراً يقتل حراً.
وقوله: «والرق» المراد بالرق في كلام المؤلف الملك؛ لأن الرق داخل في كلمة الحرية؛ لأنه عند التساوي في الحرية يكون حر مع حر، وعند عدم التساوي يكون حر مع عبد، أو العكس.(14/38)
والمراد بالمساواة في كلام المؤلف ألاّ يكون القاتل أفضل من المقتول.
وكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ في المساواة فيه نظر، والصواب: أن يقال: أَلاَّ يفضل القاتلُ المقتول في الدين، والحرية، والملك.
فلا يقتل مسلم بكافر؛ لأن القاتل أفضل من المقتول في الدين، ولا يقتل حر بعبد؛ لأن القاتل أفضل من المقتول في الحرية، ولا يقتل مكاتَب بعبده، مع أن كليهما عبد، لكن المكاتب أفضل؛ لأنه مالك له؛ ولهذا قلنا: إن صواب العبارة «في الحرية والملك» .
والمكاتب هو الذي اشترى نفسه من سيده، وإذا اشترى نفسه من سيده فقد ملك الكسب.
قوله: «فلا يقتل مسلم بكافر» دليله ما في الصحيح من حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وأن لا يقتل مسلم بكافر» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» (2) ، فيدل هذا على أن غير المؤمنين لا يكافئ المؤمنين في الدماء، ومن جهة المعنى أن المسلم أعلى وأكرم عند الله من
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات/ باب العاقلة (6903) .
(2) أخرجه أحمد (1/119) ، والنسائي في القسامة/ باب سقوط القود من المسلم للكافر (8/23) عن علي رضي الله
عنه، وأخرجه أبو داود في الجهاد/ باب في السرية ترد على العسكر (2751) ، وابن ماجه في الديات/ باب المسلمون تتكافأ
دماؤهم (2685) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وصححه الألباني في الإرواء (7/265) .(14/39)
الكافر، والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فهذه أدلة أثرية ونظرية في أن المسلم لا يقتل بالكافر.
قوله: «ولا حر بعبد» أي: لا يقتل الحر بالعبد، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فالمذهب أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لأن الحر أكمل من العبد، إذ إن العبد يباع ويشترى، وديته قيمته، فلا يمكن أن يكون ما يباع ويشترى مكافئاً للحر، ولهم أحاديث لكنها ضعيفة منها: «لا يقتل حر بعبد» (1) .
ولهذا ذهب أبو حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن أحمد، إلى أن الحر يقتل بالعبد؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (2) وهذا القول هو الصواب.
قوله: «وعكسه يقتل» فيقتل الكافر بالمسلم؛ لعموم الأدلة الدالة على ثبوت القصاص، وكذلك يقتل العبد بالحر؛ لعموم الأدلة، وإذا كان العبد يقتل بالعبد بنص القرآن: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فقتله بالحر من باب أولى، وكذلك يقتل المملوك بالمالك، فالعبد المملوك للمكاتَب إذا قتل سيده فإنه يقتل به؛ لأنه دونه.
قوله: «ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر» لعموم قوله
__________
(1) أخرجه الدارقطني (3300) ، والبيهقي (8/35) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأخرجه الدارقطني (
3302) ، والبيهقي (8/34) عن علي ـ رضي الله عنه ـ بلفظ: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» وضعفهما الحافظ في
التلخيص (1686) ، والألباني في الإرواء (2211) .
(2) تقدم تخريجه ص (39) .(14/40)
تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس» (1) ، وعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» (2) ، وخصوص قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهودي بالمرأة، فإنه صلّى الله عليه وسلّم قتل يهودياً بامرأة، رضَّ اليهودي رأسها بين حجرين، على أوضاح لها، فقيل لها: من قتلك؟ أهو فلان أم فلان؟ حتى ذكر لها اليهودي، فأومأت برأسها أن نعم، فأُتي باليهودي فاعترف، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يُرضَّ رأسه بين حجرين (3) .
فإن قلت: ألا يحتمل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتله لنقضه العهد؟ فالجواب: لا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو كان قتله لنقضه للعهد لقتله بالسيف، ولكنه قتله قصاصاً؛ لأنه رضَّ رأسه بين حجرين.
فإن قلت: ألا يقال: إن فضل هذا الرجل في الرجولة نَقَصَ لكونه كافراً، والأنثى مسلمةً، وأنه لو كان مسلماً ما قتل بها؟
فالجواب: أنه ما دام قُتِل من باب القصاص، فإنه يقتضي أن العلة هي المقاصة، فمجرّد أنه قتل عمداً فإنه يقتل.
فإن قلت: أليس الذكر أفضل؟
فالجواب: بلى، لكن هذه الفضيلة لم يعتبرها الشرع.
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات/ باب قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (6878) ، ومسلم في القسامة/ باب
ما يباح به دم المسلم (25/1676) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) تقدم تخريجه ص (39) .
(3) أخرجه البخاري في الخصومات/ باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود (2413) ، ومسلم في
القسامة والمحاربين والقصاص والديات/ باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره ... (1672) عن أنس ـ رضي الله
عنه ـ.(14/41)
فإن قلت: أليست دية الرجل ضعف دية المرأة، فكيف يُقتل بها وهو أكثر منها دية؟!
فالجواب: أن الدية ليست من باب التقويم حتى نقول: إنه فَضَلها، بل هي من باب التقدير الشرعي، الذي لا مناص لنا عنه.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقتل الذكر بالأنثى؛ لأنه أشرف.
وذهب آخرون إلى أنه يقتل بها، ولكن يدفع إلى ورثته نصف الدية، فجعلوا ذلك من باب التقويم، وكل هذا ليس بصحيح، والصواب أنه يقتل مطلقاً.
فإن قلت: ما الجواب عن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} فإن مفهومها أن الذكر لا يقتل بالأنثى؟
فالجواب: أن هذا من باب دلالة المفهوم، وجاءت السنة بقتل الذكر بالأنثى، فدل هذا على أن المفهوم لا عبرة به، وأن الذكر يقتل بالأنثى.
وهل تقتل الأنثى بالذكر؟ نعم؛ لأنه إذا كانت الأنثى تقتل بالأنثى فقتلها بالذكر من باب أولى.
الرَّابِعُ: عَدَمُ الْوِلاَدَةِ، فَلاَ يُقْتَلُ أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ وَإِنْ عَلاَ بِالْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَيُقْتَلُ الْوَلَدُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
قوله: «الرابع: عدم الولادة» أي: بأن لا يكون القاتل والداً للمقتول، سواء كان من جهة الأبوة، أم من جهة الأمومة، فإنه لا يقتل به، ولهذا قال المؤلف:
«فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل» المراد بالأبوين الأب والأم، وغلب الأب؛ لأنه ذكر، والذكر أفضل.(14/42)
وهل يمكننا أن نجعلها من باب التركيب فنقول: الأَبَمَان؟ لا؛ لأن العرب ما قالوها، ولم يقولوا في الشمس والقمر: قمشان، بل قالوا: القمران، وقالوا في أبي بكر وعمر: العمران.
فلا يقتل الأب أو الأم وإن علوا بالولد وإن نزل.
مثاله: رجل ـ والعياذ بالله ـ حنق على ولده، وصار في قلبه حقد عليه، فجاء يوماً من الأيام وقتله عمداً فهل يقتل؟ لا.
مثال آخر: أبو أم «جد» قال لابن ابنته: أعطني ألف ريال؛ لأنني محتاج، فرفض ابن البنت، فغضب الجد فقتله، فهل يقتل؟ لا.
والدليل الحديث المشهور: «لا يقتل والد بولده» (1) هذا من الأثر، ومن النظر أن الوالد سببٌ في إيجاد الولد، فلا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إعدامه.
ولننظر في هذه الأدلة، أما الحديث فقد ضعفه كثير من أهل العلم، فلا يقاوم العمومات الدالة على وجوب القصاص، وأما تعليلهم النظري فالجواب عنه أن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل الوالد هو السبب في إعدام نفسه بفعله جناية القتل.
والصواب: أنه يقتل بالولد، والإمام مالك ـ رحمه الله ـ اختار ذلك، إلاّ أنه قيده بما إذا كان عمداً، لا شبهة فيه إطلاقاً،
__________
(1) أخرجه أحمد (1/22) ، والترمذي في الديات/ باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا؟ (1400) ، وابن ماجه
في الديات/ باب لا يقتل والد بولده (2662) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر: نصب الراية (4/339) ،
والتلخيص (1687) ، والإرواء (2214) .(14/43)
بأن جاء بالولد وأضجعه وأخذ سكيناً وذبحه، فهذا أمر لا يتطرق إليه الاحتمال، بخلاف ما إذا كان الأمر يتطرق إليه الاحتمال فإنه لا يقتص منه، قال: لأن قتل الوالد ولده أمر بعيد، فلا يمكن أن نقتص منه إلاّ إذا علمنا علم اليقين أنه أراد قتله.
والراجح في هذه المسألة: أن الوالد يقتل بالولد، والأدلة التي استدلوا بها ضعيفة لا تقاوم النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على العموم، ثم إنه لو تهاون الناس بهذا لكان كل واحد يحمل على ولده، لا سيما إذا كان والداً بعيداً، كالجد من الأم، أو ما أشبه ذلك ويقتله ما دام أنه لن يقتص منه.
قوله: «ويقتل الولد بكل منهما» يعني لو قتل الولد والده فإنه يقتل لعمومات الأدلة، ولأن هذا قطع رحمه بالقتل فيقطع بالقتل، وابن البنت هل يقتل بجده من أمِّه؟ نعم.
فهذه أربعة شروط، وهناك شرط خامس وهو أن تكون الجناية عمداً وعدواناً.
واشترط بعضهم شرطاً آخر، وهو ألا يكون القاتل هو السلطان، فإن كان القاتل هو السلطان فإنه لا يقتل؛ لأن قتل السلطان فيه مفسدة عظيمة، وهي الفوضى وضياع الأمة، وإنما يقال لهذا السلطان الذي قتل عمداً وعدواناً: إن جزاءك جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليك، ولعنك، وأعد لك جهنم وساءت مصيراً، أما ما يتعلق بدنيانا فإننا لا نفسد دنيانا من أجل فرد من الناس.
وهذا التعليل قد يكون فيه حكمة؛ ولأن من ولاة الأمور(14/44)
فيما سبق من الزمان من يقتلون الناس عمداً، ومع ذلك ما قُتلوا، وما أظن أن أحداً سكت عن المطالبة بالقصاص لو حصل له، ولكني أرى أن تعليلهم عليل؛ لأن النصوص الواردة عامة، ولو فتح الباب للسلاطين الظلمة لاعتدوا على الناس يقتلونهم عمداً وعدواناً، وبدون أي سبب، وبكل جرأة على الله وعلى خلقه والعياذ بالله، والمسألة تحتاج إلى نظر دقيق.(14/45)
بَابُ اسْتِيفَاءِ القِصَاصِ
يُشْتَرَطُ لَهُ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: كَوْنُ مُسْتَحِقِّهِ مُكَلَّفاً، فَإِنْ كَانَ صَبِيّاً، أَوْ مَجْنُوناً لَمْ يُسْتَوْفَ، وَحُبِسَ الْجَانِي إِلَى البُلُوغِ وَالإِفَاقَةِ.
عندنا شروط القصاص، وشروط استيفاء القصاص، فشروط القصاص، أي: شروط ثبوته، وشروط استيفاء القصاص شروط تنفيذه واستيفائه، فأيهما يسأل عنها أولاً؟ يسأل عن شروط الثبوت، فإذا قيل: تمت، نسأل عن شروط استيفاء القصاص وتنفيذه، وهو قتل القاتل.
قوله: «يشترط له ثلاثة شروط» أي: يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط.
قوله: «أحدها: كون مستحقه مكلفاً» أي: بالغاً عاقلاً، والذي يستحق القصاص هم ورثة المقتول، فعلى هذا يشترط أن يكون ورثة المقتول مكلفين، سواء كانوا يرثونه بالسبب، أو بالنسب، أو بالرحم بالفرض، أو بالتعصيب.
فالسبب كالزوجية والولاء، والنسب القرابة، وعلى هذا فللزوجة والزوج حق استيفاء القصاص.
قوله: «فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يُستوفَ» أي: فإن كان المستحق للقصاص صبياً أو مجنوناً لم يستوف؛ وذلك لعدم التكليف، ولكن ماذا يصنع بالجاني؟ بيَّنه المؤلف فقال:
«وحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة» فلو كان المستحِق(14/46)
للقصاص صغيراً وله أب، كما لو قتل رجل، وورثه أبوه وابنه الصغير، فليس للأب أن يستوفي القصاص؛ لأن أحد مستحقيه صغير لم يبلغ، والعلة أن القصاص إنما وجب للتشفي من القاتل، وليذهب الإنسان ما في قلبه من الغيظ على هذا القاتل الذي قتل مورِّثه، وهذا لا يمكن أن يقوم به أحد عن أحد؛ لأن التشفي معنى يقوم بالنفس، فأبو الرجل لا يتشفّى عن ابن ابنه، ولهذا يحبس حتى البلوغ أو الإفاقة، وقال في الروض (1) : «ولأن معاوية ـ رضي الله عنه ـ حبس هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل (2) ، وكان ذلك في عصر الصحابة ولم ينكر» ، فعندنا هنا دليل وتعليل.
واستثنى بعض العلماء من هذه المسألة ما إذا كان القتل غيلة ـ أي: أن يقتله على غِرَّة ـ فإنه يقتل القاتل بكل حال، سواء اختار أولياء المقتول القتل أم الدية، فإنه لا خيار لهم في ذلك، وهذا مذهب الإمام مالك، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وبناءً على هذا القول فإنه لا يحبس الجاني حتى يبلغ أولياء المقتول.
وإنما اختار ذلك مالك وشيخ الإسلام؛ لأن قتل الغيلة فيه مفسدة عظيمة، ولأنه لا يمكن التحرز منه، إلاّ أن يكون مَلِكاً أو أميراً له جنود وحاشية يحرسونه فيمكنه التحرز منه، لكن عامة الناس لا يمكنهم التحرز منه.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/196) .
(2) قال في الإرواء (2218) : «لم أره» ، والقصة استدل بها الموفق كما في المغني (11/577) ت: التركي.(14/47)
الثَّانِي: اِتِّفاقُ الأَوْلِياءِ المُشْتَرِكينَ فِيهِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ بَقِيَ غَائِباً، أَوْ صَغِيراً، أَوْ مَجْنُوناً، انْتُظِرَ القُدُومُ، وَالبُلُوغُ، وَالعَقْلُ، الثَّالِثُ: أَنْ يُؤْمَنَ فِي الاسْتِيفَاءِ أَنْ يَتَعَدَّى الْجَانِيَ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى حَامِلٍ أَوْ حَائِلٍ فَحَمَلَتْ لَمْ تُقْتَلْ حَتَّى تَضَعَ الوَلَدَ وَتُسْقِيَهُ اللَّبَأَ،........................
قوله «الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه» فإن عفا بعضهم سقط القصاص، حتى لو فرض أن هذا الذي عفا لا يرث إلاّ واحداً من مليون سهم فإنه لا يمكن القصاص؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] {عُفِيَ لَهُ} أي: القاتل، {مِنْ أَخِيهِ} المقتول، و {شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط، فتعم أي جزء، فإذا عفي عن القاتل ولو جزءاً يسيراً فإنه لا قصاص؛ لقوله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فيُتبَع القاتلُ بالمعروف ولا يؤذى، وقوله: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} أي: إلى العافي {بِإِحْسَانٍ} فالأداء وصف من أوصاف الدية.
وأما التعليل فلأنه إذا عفي عن القاتل جزء من دمه فإن القتل لا يتبعض، فإذا كان الورثة ستة، وعفا واحد منهم، فلا يمكن أن نقتل القاتل خمسة من ستة من القتل، ونبقي واحداً من ستة! فلمَّا كان جزء من القاتل لا بد أن يبقى حياً، وكان لا يمكن حياة هذا الجزء إلاّ بحياة الباقي، كان عفو بعض الورثة مانعاً من القتل.
قوله: «وليس لبعضهم أن ينفرد به» فلو كان المستحقون للقصاص ثلاثة إخوة، فقال أكبرهم: أنا الكبير، وانفرد به وقتل القاتل، فهذا حرام عليه، ولا يجوز، ويجب أن يعزر، فإن قال أولياء المقتول الأول: نحن لا ننتفع بتعزيره، بل نريد الدية، فلهم ذلك، ويرجعون على تركة الجاني بالدية، وورثة الجاني يرجعون على الأخ القاتل بما أُخذ منهم؛ لأنه هو الذي فوَّته عليهم.(14/48)
قوله: «وإن كان من بقي غائباً أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم، والبلوغ، والعقل» هذا في البلاغة يسمى لفاً ونشراً مرتباً، فلو قال: «انتظر البلوغ والعقل والقدوم» فهذا يسمى لفاً ونشراً غير مرتب أو مشوشاً.
فإذا كان بعض الورثة المستحقين للقصاص صغيراً، فليس للبالغين أن يختصوا بالقصاص، بل يجب أن يحبس الجاني إلى بلوغ الصغير، ثم الصغير إن اختار القصاص نفِّذ، وإن اختار الدية سقط القصاص.
قوله: «الثالث» أي: الشرط الثالث.
قوله: «أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى» أي: الاستيفاءُ.
قوله: «الجاني» مفعول به منصوب.
قوله: «فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ» إذا وجب القصاص على حامل فلو اقتصصنا منها قتلناها وما في بطنها، والجنين بريء، فينتظر ولا تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ.
وظاهر كلام المؤلف سواء كان ذلك في ابتداء الحمل، أو بعد نفخ الروح فيه؛ لأنه في ابتداء الحمل سيتكون، ويتطور من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى إنسان، ولأنَّ لأبيه حقاً في(14/49)
بقائه، فلا يمكن أن يهدر حقه، فإذا وجب على حامل ولو في أول الحمل فإنها تترك حتى تضع.
وقوله: «أو على حائل فحملت» مثاله: امرأة ليست حاملاً، قتلت إنساناً عمداً عدواناً، ولكن قبل أن يحكم عليها بالقصاص حملت، فتترك حتى تضع.
فإن قلت: كيف تترك مع أن الحق سابق على الحمل، والقاعدة أنه يقدم الأسبق فالأسبق؟
فالجواب: أن هذا التأخير لا يُضيع الحق، وغاية ما هنالك أنه يؤجل حتى يزول هذا المانع، فالقصاص يثبت، لكن نظراً إلى أنه سيتعدى لغير الجاني فيجب أن يؤخر.
وقوله: «لم تقتل حتى تضع الولد» هذا باعتبار ما سيكون، وإلاّ فإن الجنين في البطن لا يسمى ولداً حتى يولد.
وقوله: «الولد» يشمل الواحد والأكثر، فالمعنى حتى تضع كل ما في بطنها.
وقوله: «وتسقيه اللبأ» وهو اللبن الذي يكون من الحوامل عند الوضع، وهو ـ بإذن الله ـ من أنفع ما يكون للطفل، ويقولون: إنه لمعدة الطفل كالدباغ للجلد، ففيه نفع عظيم، وهذا اللبأ هو الذي يؤخذ منه الأنفِحَّة التي يكون منها تجبين الأشياء.
ثُمَّ إِنْ وُجِدَ مَنْ يُرْضِعُهُ، وِإِلاَّ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ، وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهَا فِي الطَّرَفِ حَتَّى تَضَعَ، وَالْحَدُّ فِي ذلِكَ كَالقِصَاصِ.
قوله: «ثم إن وجد من يرضعه، وإلاّ تركت حتى تفطمه» إن وجد من يرضعه أقيم عليها القصاص، وإلاّ تُركت حتى تفطمه.
و «من» للعاقل، أي: إن وجد امرأة ترضعه، وفي وقتنا(14/50)
يمكن أن نعبر فنقول: «إن وجد ما يرضعه» حتى يشمل العاقل وغير العاقل، فإذا كان يتغذى بلبن العلب فإنه يقام عليها الحد، إلاّ إذا قيل: إن غذاءه بلبن أمه أفضل، فهنا يجب مراعاة مصلحة الطفل.
وقوله: «وإلاّ تركت حتى تفطمه» دليل ذلك قصة الغامدية ـ رضي الله عنها ـ التي حصل منها الزنا، فحملت فأجّلها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى وضعت الولد، فلما وضعته جاءت به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تريد أن يقيم عليها الحد، فأجّلها حتى تفطمه، فلما فطمته جاءت به وفي يده كسرة من الخبز يأكلها، فلما رآها عليه الصلاة والسلام أمر بإقامة الحد عليها، فانظر كيف جادت بنفسها ـ رضي الله عنها ـ وجاءت بالطفل ومعه الخبز حتى يتيقن النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، ويرى بعينه أنه قد فطم، فلما أقيم عليها الحد كان ممن ضربها خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ فنضح دم من دمها في وجهه، فسبَّها رضي الله عنه، لكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبَّخه، وقال: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وَجَدْتَ أفضل من أن جادت بنفسها لله عزّ وجل؟!» (1) .
فهذا دليل على أن من وجب عليها حَدٌّ يؤدي إلى أن يتلف ما في بطنها، أو أنه يحتاج إلى لبن ولم يرضع، فإنه يُنتظر إلى أن يرضع، ويكون هذا من باب دفع أعلى المفسدتين بأدناهما، وارتكاب أدنى المفسدتين؛ لأن تأجيل القصاص،
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1696) (24) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.(14/51)
وتأجيل الحد لا شك أن فيه مضرَّة، لكن هذه المضرَّة أهون من مضرة تلف نفس بغير حق.
قوله: «ولا يقتص منها» أي: من الحامل.
قوله: «في الطرف» كاليد، والرِّجْل، والعين، والأنف، واللسان، وما أشبه ذلك، فلا يقتص فيه من الحامل.
قوله: «حتى تضع» لأنه إذا اقتص منها في الطرف يمكن أن ينزف الجرح حتى تموت، أو يتعفن الجرح حتى تموت، وربما يحصل منها فزع عندما تقطع يدها، أو رجلها، أو ما أشبه ذلك، فيسقط الحمل فلهذا لا يقتص منها حتى تضع.
وهل يقتص منها في غير الطرف، كما لو كان في جراح؛ لأن القصاص في الجروح ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ يثبت في كل جرح ينتهي إلى عظم، وعلى القول الراجح في كل جرح يمكن المماثلة فيه؟
فالجواب: أن ظاهر قول المؤلف «في الطرف» أنه يقتص منها في الجراح؛ لأن الجراح أهون من الطرف، وأما مجرَّد الفزع، فالفزع قد يكون حتى لو استدعيت للحق المالي، فلو أرسلنا إليها الشُّرَط، وقلنا لهم: أحضروا فلانة في حق مالي، فيمكن أن تفزع، فمجرد الفزع لا يمكن أن يكون مقياساً، فالظاهر أنه يقتص منها في الجروح، إلاّ إذا كان جرحاً كبيراً واسعاً، كما لو كان يغطي ثلثي الرأس، فهذا ربما نقول: إنه ينتظر فيه.
قوله: «والحد في ذلك كالقصاص» يوجد حد في إتلاف(14/52)
الطرف، وحد في إتلاف الكل، وكلاهما ينتظر فيه حتى تضع الحمل فقط، ولا يشترط الانتظار حتى تسقيه اللبأ، أو تفطمه، بخلاف القصاص في النفس، فهذا ينتظر حتى تسقيه اللبأ وتفطمه، وهذا هو الفرق بين القصاص في النفس، والقصاص في الطرف، فالقصاص في الطرف منتهاه الوضع، والقصاص في النفس منتهاه أن تسقيه اللبأ أو الفطام.
مثال الحد الذي يؤدي إلى قطع الطرف: السرقة تقطع فيها اليد، وقطع الطريق تقطع فيه اليد اليمنى والرجل اليسرى.
مثال الحد الذي فيه القتل: قطع الطريق في بعض الصور، وزنا المحصن.
* * *(14/53)
فَصْلٌ
وَلاَ يُسْتَوْفَى قِصَاصٌ إِلاَّ بِحَضْرَةِ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ، وآلَةٍ مَاضِيَةٍ، وَلاَ يُسْتَوْفَى فِي النَّفْسِ إِلاَّ بِضَرْبِ الْعُنُقِ بِسَيْفٍ، وَلَوْ كَانَ الجَانِي قَتَلَهُ بِغَيْرِهِ.
قوله: «لا يستوفى قصاص» أي: من الجاني.
قوله: «إلا بحضرة سلطان» السلطان هو الرئيس الأعلى للدولة.
قوله: «أو نائبه» أي: من ينوب عنه عادة في هذه الأمور، والذي ينوب عنه في عصرنا هو الأمير، فالأمير نائب عن أمير المنطقة، وأمير المنطقة نائب عن وزير الداخلية، ووزير الداخلية نائب عن الرئيس الأعلى للدولة.
فالنائب المباشر لا بد من حضوره، فإن اقتص بدون حضوره فإن القصاص نافذ، ولكن يعزر من اقتص؛ لافتياته على الإمام، وإنما منع القصاص إلاّ بحضرة السلطان، أو نائبه؛ خوفاً من العدوان؛ لأن أولياء المقتول قد امتلأت قلوبهم غيظاً على القاتل، فإذا قدّم للقتل بدون حضور السلطان أو نائبه فربما يعتدون عليه بالتمثيل، أو بسوء القتل، أو بغير ذلك، وهذا أمر لا يجوز.
وأفادنا قوله: «ولا يستوفى قصاص» أن الذي يستوفي القصاص ليس هو الإمام ولا نائبه، وإنما الذي يستوفيه من له الحق، وهم أولياء المقتول، بشرط أن يحسنوا القصاص، فإن لم يحسنوه وجب عليهم أن يَدَعُوا ذلك إما للإمام، أو يوكلوا من يحسن القصاص.
وقوله: «قصاص» عام يشمل القصاص في النفس فما دونها، فيدخل فيه القصاص في اليد، أو الرجل، أو اللسان، أو ما أشبه ذلك، فلا يستوفى إلاّ بحضرة الإمام أو نائبه.(14/54)
قوله: «وآلة ماضية» أي: لا يستوفى ـ أيضاً ـ إلا بآلة ماضية، أي: حادَّة، احترازاً من الآلة الكالَّة، فإنه لا يجوز أن يقتص بها؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (1) ، فإذا اقتصصنا من هذا الجاني بالآلة الكالَّة فإننا لم نحسن إليه، وهذا شرط في جميع الحدود.
قوله: «ولا يستوفى في النفس إلاّ بضرب العنق» دون غيره، فلو ضربه من وسطه فإنه لا يمكّن من ذلك، وكذلك لو ضربه على هامته فلا يمكّن، بل لا بد من ضرب العنق؛ لأنه مجمع العروق، وأريح للمقتول.
قوله: «بسيف» أي: لا بغيره، فلا بد من السيف؛ لأنه أمضى ما يكون من الآلات التي يقتل بها.
قوله: «ولو كان الجاني قتله بغيره» أي: بغير السيف، يعني لو أن الجاني قتله بالرصاص فلا نقتل الجاني بالرصاص، بل نقتله بالسيف، ولو قتله بحجر فلا نقتله بحجر، بل نقتله بالسيف، ولو قتله بصعق كهربائي فلا نقتله بذلك، بل نقتله بالسيف، ولو قتله بالعين أو بالسحر، فلا نقتله بذلك، بل بالسيف، ولو قتله بالسم، فلا نقتله بذلك، بل نقتله بالسيف.
وقوله: «ولو» إشارة خلاف، والخلاف في هذه المسألة أنه
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح/ باب الأمر بإحسان الذبح والقتل ... (1955) عن شداد بن أوس ـ رضي الله
عنه ـ.(14/55)
يقتل الجاني بمثل ما قتل به؛ لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، وتمام القصاص أن يفعل بالجاني كما فعل؛ لأنه من القص وهو تتبع الأثر، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ولقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، ولقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وما أشبه ذلك من الآيات، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رضَّ رأس الرجل اليهودي بين حجرين؛ لأنه قتل الجارية الأنصارية برض رأسها بين حجرين (1) ، وهذا دليل خاص، والآيات التي سقناها أدلة عامة، فهذه أدلة من الكتاب والسنة، ومن النظر أيضاً نقول: كيف يمثل هذا الجاني بالمقتول، ويقتله بأبشع قتلة ويمزقه تمزيقاً، ثم نقول له: سنضربك بالسيف؟! فهذا ليس بعدل، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، إلاّ إذا قتله بوسيلة محرّمة فإننا لا نقتله بها، مثل أن يقتله باللواط والعياذ بالله، أو بالسحر، أو أن يقتله بإسقاء الخمر حتى يموت فإنه لا يفعل به كذلك.
وقال بعضهم: بل يفعل به ولو كان محرماً، لكننا لا نفعل المحرَّم، فمثلاً لو قتله باللواط وما أشبه ذلك فإننا ندخل في دبره خشبة حتى يموت، وعلى كل حال هذه الصور النادرة يمكن أن تستثنى، أما إذا رض رأسه بين حجرين، أو ذبحه بسكين كالَّة، أو بالصعق الكهربائي، أو أحرقه بالنار، فإن الصواب ـ ولا شك ـ أن يفعل به كما فعل.
__________
(1) سبق تخريجه في ص (41) .(14/56)
بَابُ العَفْوِ عَنِ القِصَاصِ
يَجِبُ بالعَمْدِ القَوَدُ، أَوْ الدِّيَةُ، فَيُخَيَّرُ الوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، وَعَفْوُهُ مَجَّاناً أَفْضَلُ،
اعلم أن هذه الملة ـ ولله الحمد ـ ملة وسط بين ملتين: إحداهما غلت في القصاص، والثانية فرَّطت فيه، وليس معنى ذلك أننا نقول: إن هاتين الشريعتين خرجتا عما شرعه الله، ولكن الله بحكمته أوجب على هؤلاء كذا، وأوجب على هؤلاء كذا، فقد ذكروا أن شريعة اليهود وجوب القصاص، وأنه لا طريق إلى العفو عن الجاني، وأن شريعة النصارى وجوب العفو عن القصاص، وأنه لا سبيل إلى القصاص.
وجاءت هذه الشريعة وسطاً بين الملتين، فيجب القصاص ويجوز العفو، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الآية: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} باعتبار إيجاب القصاص، {وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] باعتبار العفو، أي: من رحمة الله تعالى أن يعطي لأولياء المقتول حظاً لأنفسهم يتشفون به من القاتل.
قوله: «يجب بالعمد» أي: العمد العدوان الذي بغير حق.
قوله: «القوّد أو الدية» «أو» هنا للتخيير؛ ولهذا قال:
«فيخير الولي بينهما» الولي، أي: ولي المقتول وهم ورثته، فالولي اسم جنس، فيشمل ما كان واحداً أو أكثر.
ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ(14/57)
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ، فقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ} علم منه أن لمن له القصاص أن يعفو ويأخذ الدية، ولهذا قال: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} هذا من القرآن، ومن السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فمن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقاد وإما أن يودى» (1) ، أي: إما أن يقاد للمقتول، وإما أن تؤدى ديته.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بخير النظرين» صريح بأن الخيار لأولياء المقتول؛ لقوله: «من قتل له قتيل» وعلى هذا فلا خيار للقاتل، فلو قال القاتل: اقتلوني، أنا أريد أن يكون المال لورثتي، فلا خيار له، بل الخيار لأولياء المقتول؛ وذلك لأن هذا الجاني معتدٍ ظالم فلا يناسب أن يعطى خياراً، وأما أولياء المقتول فقد اعتدي عليهم، وأهينت كرامتهم بقتل مورثهم، فكان لهم الخيار؛ ولهذا يقول المؤلف: «ويخير الولي بينهما» .
قوله: «وعفوه» أي: ولي المقتول.
قوله: «مجاناً» أي: بدون مقابل.
قوله: «أفضل» من القصاص، ومن الدية.
فالمراتب ثلاث: قصاص ودية وعفو مجاناً، فهذه الثلاث يخير فيها أولياء المقتول.
ويوجد شيء رابع اختلف فيه أهل العلم، وهو أن يصالح عن القصاص بأكثر من الدية، وسيأتي في كلام المؤلف إن شاء الله تعالى، ونبين ما هو الحق في ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات/ باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين (6880) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة
وصيدها (1355) (447) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/58)
وقوله: «وعفوه مجاناً أفضل» ظاهر كلامه أنه أفضل مطلقاً، سواءً كان هذا الجاني ممن عرف بالظلم والفساد، أم ممن لم يعرف بذلك؟ لكن الصواب بلا شك ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ حيث قال: إن العفو إحسان، والإحسان لا يكون إحساناً حتى يخلو من الظلم والشر والفساد؛ فإذا تضمن هذا الإحسان شراً وفساداً أو ظلماً، لم يكن إحساناً ولا عدلاً، وعلى هذا فإذا كان هذا القاتل ممن عرف بالشر والفساد فإن القصاص منه أفضل.
ويدل لما قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وهل العافي عن المجرم الظالم المعتدي، المعروف بالعدوان، مُصلح؟! لا؛ لأنه إذا عفي عنه اليوم، فقد يقتل واحداً أو عشرة غداً، فمثل هذا لا ينبغي أن يعفى عنه، وإن لم نقل بتحريم العفو، فإننا لا نقول بترجيحه.
ومن هنا نعرف خطأ بعض الناس الذين عندهم عاطفة أقوى من التعقل، والعاطفة إذا خلت من التعقل جرفت بالإنسان؛ لأن العاطفة عاصفة، فلهذا يجب على الإنسان أن يحكم العقل في أموره قبل العاطفة، وإلاّ عصفت به عاطفته حتى أودت به إلى الهلاك، فبعض الناس إذا حدثت من إنسان حادثة سير، وما أشبه ذلك، فإنه يعفو عن الدية سريعاً، وهذا خطأ عظيم، أمَّا إذا كان الميت عليه دين، أو كان الورثة قصّاراً فإن العفو حرام بلا شك، والعجب أن بعض الورثة يعفون ولا يسألون هل عليه دين أو لا؟ والدَّين مقدّم على حق الورثة.(14/59)
وأمَّا إذا لم يكن عليه دين، والورثة كلهم مرشدون، فإنه يجب علينا أن نتعقل وننظر، هل هذا الرجل من المتهورين الذين لا يبالون، والذين يُذكر عنهم أنهم يقولون: نحن لا نبالي، الدية في دُرْج السيارة!! فمثل هذا لا يقابل بالعفو، بل ينبغي أن يقابل بالشدة؛ حتى يكون رادعاً له، ولأمثاله من المتهورين.
ودليل المؤلف على أن العفو أفضل، قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وقوله في وصف المتقين: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] ، ولكنا نقول: إن الله تعالى يقول: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإذا كان في العفو مخالفة للتقوى، فكيف يكون أقرب للتقوى؟! وقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} أعقبه تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فإذا لم يكن العفو إحساناً فإن صاحبه لا يمدح.
فَإِنِ اخْتَارَ القَوَدَ، أَوْ عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَقَطْ فَلَهُ أَخْذُهَا وَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، ...
قوله: «فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط» دون القصاص «فله أخذها» أي: إن اختار القود فله أخذ الدية، وإن اختار الدية فليس له القود ـ أي: القصاص ـ مثاله: قيل لولي المقتول: أنت بالخيار، إن شئت فاقتص، وإن شئت فخذ الدية، فقال: أريد القصاص، ثم بعدئذٍ فكّر، وقال: أنا لن أستفيد من قتله، فرجع إلينا، وقال: أريد الدية، فله ذلك؛ لأنه نزل من الأشد إلى الأخف.
لكن لو قال الجاني: أنا لا أقبل تنازله، والقصاص أحب إلي، فظاهر كلام المؤلف أنه ليس له ذلك، وأن الخيار بيد أولياء المقتول.(14/60)
وقال بعض أهل العلم: بل له ذلك، لأنه أعلم بنفسه، وهذا رجل اختار القصاص، فإذا رجع إلى الدية فليس له أن يرجع إلاّ برضا الجاني، والجاني قد يختار القصاص على الدية؛ وذلك بأن يكون رجلاً بائساً، قد ملَّ من الدنيا وأتعبته، ويقول: لعلي إن قُتِلْتُ قصاصاً أن أستريح، كما يسأل بعضهم ويقول: أنا سئمت من الدنيا، ومللت منها وتعبتُ، ودائماً في قلق، وأرغب أن أذهب إلى جبهة القتال؛ لأجاهد فأُقْتَل، فهل أنال أجر الشهداء؟
الجواب: لا، بل هذا حرام عليه، أن يذهب للجهاد من أجل أن يقتل.
فقد يختار الجاني القصاص على الدية لمثل هذه الأمور، لكن مذهبنا خلاف مذهب مالك ـ رحمه الله ـ الذي يقول: إنه ليس له أن يرجع، فمذهبنا أن له الرجوع؛ لأنه نزول من الأشد إلى الأخف.
وقوله: «أو عفا عن الدية فقط» يعني أنه لمّا خُيِّر قال: أنا عفوت عن الدية، فهذا لا يكون عفواً عن القصاص؛ لأن عندنا شيئين، فإذا عفي عن أحدهما تعين الثاني، كما لو عفا عن القصاص فله الدية، فإذا عفا عن الدية فله القصاص.
قوله: «والصلح على أكثر منها» أي: أنه إذا اختار القصاص، ثم إن القاتل وأهله قالوا لولي المقتول: لا تقتله، ونحن نعطيك بدل الدية ديتين، أو ثلاث ديات، أو أربعاً، أو عشراً، أو ما أردت، فهذا جائز؛ لأنه لما اختار القصاص تعين له، فله أن يبيعه بما شاء.(14/61)
ورجَّح ابن القيم ـ رحمه الله ـ أنه ليس له إلاّ الدية فقط؛ لأنه ورد في حديث رواه الإمام أحمد، لكن في سنده محمد بن إسحاق وقد عنعن، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قال: القود، أو الدية، أو العفو، ثم قال: «فإن اختار الرابعة فخذوا على يديه» (1) ، أي: لا توافقوه، ولهذا رجَّح ابن القيم أنه ليس له أن يصالح بأكثر من الدية؛ لأن الشرع ما جعل له إلاّ هذا، أو هذا، فإمّا أن تقتص أو الدية، والغالب في هذا أنه إذا قيل له: ما لك إلاّ الدية، فإنه يختار القود.
وَإِنِ اخْتَارَهَا، أَوْ عَفَا مُطْلَقاً، أَوْ هَلَكَ الْجَانِي، فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا،.......
قوله: «وإن اختارها، أو عفا مطلقاً، أو هلك الجاني، فليس له غيرها» فتتعين الدية في ثلاث صور:
الأولى: إذا اختار الدية، فلو قال: رجعت إلى القصاص، نقول: لا قصاص؛ لأنك باختيارك الدية سقط القصاص.
الثانية: إن عفا مطلقاً، والعفو له ثلاث حالات: إما أن يكون مطلقاً، أو يقيد بالقصاص، أو يقيد بالدية، فإن قال: عفوت عن القصاص، فهذا عفو مقيد بالقصاص فتثبت له الدية، وإن قال: عفوت عن الدية، فهو عفو مقيد بالدية، فله القصاص
__________
(1) ولفظه: «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد
الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم» . أخرجه أحمد (4/31) ، وأبو داود في الديات/ باب الإمام
يأمر بالعفو في الدم (4496) ، وابن ماجه في الديات/ باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث (2623) ،
والدارمي في الديات/ باب الدية في قتل العمد (2351) ط. البغا، عن أبي شريح الخزاعي ـ رضي الله عنه ـ.(14/62)
وله أن يعود إلى الدية، فإن قال: عفوت، وأطلق، فالمذهب أن له الدية، والقول الثاني في المذهب: أنه ليس له قصاص ولا دية؛ لأنه عفو مطلق.
ودليل المذهب أن العفو المطلق ينصرف إلى الأشد، وهو القصاص، ويمكن أن نرد على هذا بأن نقول: إن العفو المطلق مقتضاه أن لا يجب على المعفوِّ عنه شيء، والناس يعرفون أنه إذا قال: عفوت عنه، أو سامحته، أو ما أشبه ذلك، أن المعنى أنني لا أطالبه بشيء، اللهم إلا إذا دلّت قرينة على أن المراد بالعفو العفو عن القصاص، كأن يُسأل: هل ستقتل فلاناً، فقال: لا، سامحته، فربما نقول: إذا وجِدت قرينة تدل على أن المراد العفو عن القصاص، لا مطلقاً عُمل بها، وأما إذا نظرنا إلى مجرَّد اللفظ، فإن مجرَّد اللفظ يقتضي العفو مطلقاً، فلا يستحق دية ولا قصاصاً.
الثالثة: إذا هلك الجاني أي: مات، فهنا تتعين الدية، ولا يمكن القصاص، وعليه فتتعين الدية في أربع صور:
الأولى: إذا اختار الدية.
الثانية: إذا عفا عن القصاص.
الثالثة: إذا عفا مطلقاً.
الرابعة: إذا هلك الجاني.
ومن ذلك لو قتل هذا الجاني أربعة أشخاص، تعلق به أربع رقاب، فإذا اختار أولياء المقتول الأول القصاص وقتل، فهنا يتعين للآخرين الدية، ولهذا لو قتل رجل أربعة أنفس فأولياء المقتولين كُلٌّ له حق، لكن نبدأ بالأول فالأول.(14/63)
وَإِذَا قَطَعَ إِصْبَعاً عَمْداً فَعَفَا عَنْها، ثُمَّ سَرَتْ إِلَى الْكَفِّ أَوِ النَّفْسِ، وَكَانَ العَفْوُ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَهَدَرٌ، وَإنْ كَانَ العَفْوُ عَلَى مَالٍ فَلَهُ تَمَامُ الدِّيَةِ،...........
قوله: «وإذا قطع إصبعاً عمداً» لفظ «أصبع» فيه عشر لغات مجموعة في قولك:
وهمزَ أنملة ثَلِّثْ وثالثَه
التسعُ في إصبع واختم بأصبوع
قوله: «فعفا عنها» الضمير في «عنها» يعود على المقطوع، يعني فعفا المقطوع عن هذه الإصبع.
قوله: «ثم سرت إلى الكف أو النفس» بمعنى أن الجرح تعفَّن، وسرى هذا التعفن إلى الكف حتى تساقطت الكف، وزالت كلها، أو صار الجرح يتعفن حتى مات الإنسان.
قوله: «وكان العفو على غير شيء فهدر، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية» أي: هل تضمن هذه السراية، أو لا تضمن؟ نقول: فيه تفصيل، إن كان العافي عفا على غير شيء، بأن قال: عفوت مجاناً، ثم سرت إلى الكف، أو النفس فهدر، ولا شيء له؛ لأن عفوه مجاناً دليل على أنه لا يريد أخذ عوض عن هذه الجناية، وأن الرجل متبرع، يريد ثواب الله تعالى، وإن كان العفو على مال، سواء كان هذا المال الدية أو غيرها، فإن له تمام الدية، بمعنى أننا نسقط ما يقابل دية الأصبع، أي: عُشْر الدية، وهو عشر من الإبل.
مثاله: قطع رجل إصبع رجل عمداً، فقال المجني عليه: أنا أريد أن أصالحك، فصالحه على الدية، أو على مالٍ فوق الدية، أو دونها، ثم سرت الجناية إلى الكف والنفس، فيقول المؤلف:(14/64)
«فله تمام الدية» والدية مائة من الإبل، فيسقط منها عشر من الإبل، ويبقى تسعون، هذا إذا سرت إلى النفس، وإذا سرت إلى الكف، فإن في الكف نصف الدية، فيجب عليه أربعون من الإبل، وتسقط عشر من الإبل، ولهذا قال المؤلف: «وله تمام الدية» أي: دية النفس فيما إذا سرت إلى النفس أو دية الكف فيما إذا سرت للكف.
وقيل: ليس له شيء مطلقاً، وتكون هدراً، سواء عفا على مال، أو على غير مال، وقالوا في توجيهه: إنه إذا عفا مطلقاً بدون عوض، فقد رضي بأن تكون الجناية هدراً، ويريد الثواب من الله عزّ وجل، وإن أخذ المال فقد اقتنع بما أوتي من المال، سواء كان الدية، أو أكثر، أو أقل، وأخذ عوض الجناية، فإذا سرت فليس له شيء، ويؤيد هذا ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من أنه لا يقتص من جرح قبل أن يبرأ، ولا تطلب له دية قبل أن يبرأ، فإن طلبت له دية ثم سرى فهدر، وعلى هذا فنقول للمجني عليه: انتظر حتى تنظر ماذا تكون النتيجة؛ لأن هذه الجناية ربما تسري إلى الكف، أو إلى النفس، وهي إلى الآن لم تستقر، فكونك تعفو وتصالح على مال فخطأ، فانتظر، أما إذا كنت تريد الأجر من الله، وتقول: أنا لا أريد شيئاً حتى لو سرت إلى كفي، أو نفسي، فهذا إليك.
والمذهب أن له تمام الدية، سواء عفا على مال أو على غير مال.
وما ذهب إليه المؤلف أصح، وهو أنه إذا عفا على مال فله تمام الدية، وإذا كان العفو مجاناً فليس له شيء.(14/65)
وَإِنْ وَكَّلَ مَنْ يَقْتَصُّ ثُمَّ عَفَا، فَاقْتَصَّ وَكِيلُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا،
وَإِنْ وَجَبَ لِرَقِيقٍ قَوَدٌ، أَوْ تَعْزِيرُ قَذْفٍ، فَطَلَبُهُ وَإِسْقَاطُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِسَيِّدِهِ.
قوله: «وإن وكَّل من يقتص ثم عفا، فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما» كإنسان وجب له قصاص، سواء كان في النفس أو فيما دونها، فوكَّل شخصاً ليقتص له، ثم إنه عفا قبل أن ينفّذ الوكيل، ولكن الوكيل لم يعلم ونفَّذ القصاص فلا شيء عليهما، لا على العافي ـ سواء كان المجني عليه، أو أولياءه إن كان قد مات ـ ولا على الوكيل؛ لأن الوكيل معذور، وهو في قصاصه مُستَنِدٌ إلى مُستَنَدٍ شرعي، وهو توكيل من له الحق، وأما العافي فإنه محسن، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
مثال ذلك: رجل جُني عليه وقطعت يده، فثبت له القصاص على قاطع يده، فوكَّل من يقتص، وقبل أن ينفّذ الوكيل القصاص، عفا المجني عليه، وقال: أشهدكم أني قد عفوت عن فلان، والوكيل لم يعلم فقطع يد الجاني استناداً إلى وكالة الرجل، فنقول: لا شيء على الوكيل؛ لأنه إنما قطع مستنداً إلى مستندٍ شرعي وهو التوكيل؛ ولا شيء على العافي؛ لأنه محسن، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
فإن اقتص الوكيل بعد علمه بالعفو فهو معتدٍ ظالم، وتقطع يده إذا كان التوكيل في قطع اليد، ويقتل إذا كان القصاص في النفس؛ لأنه لمَّا عفا صاحب الحق صار الجاني بعد ذلك معصوماً، فإذا جنى عليه الوكيل وقطع يده، أو قتله، فقد اعتدى على نفس معصومة، فأُلزم بما يقتضيه ذلك العدوان.
وفي هذا دليل على أن تصرف الوكيل بعد العزل إذا لم يعلم(14/66)
تصرف صحيح، والمشهور من المذهب أن تصرفه غير صحيح، إلاّ في هذه الصورة فإن تصرفه فيها صحيح، فلو وكَّلت شخصاً يبيع لك سيارة، وبعد أن ذهب عزلته، أو بعت أنت السيارة بنفسك على آخر، وبيعك لها عزل للوكيل بالفعل، ثم باع الوكيل السيارة قبل أن يعلم بالعزل، فالمذهب أن تصرف الوكيل في هذه الحال غير صحيح، وأن بيعه باطل، ويجب أن ترد السلعة إلى صاحبها، مع أنه لا فرق في الحقيقة؛ فإن هذا الرجل الذي وكِّل في القصاص عُزِل بالفعل، فالصحيح أن الوكيل إذا تصرف قبل أن يعلم بالعزل فإن تصرفه صحيح؛ لأنه مستندٌ إلى مستند شرعي وهو التوكيل، وأي فرق بين هذه المسألة، وبين المسائل الأخرى؟! وإذا كانت هذه المسألة مع عظم خطر الدماء إذا كان عزله لا يعتبر عزلاً، ويكون التصرف صحيحاً، فإن كون تصرفه صحيحاً في البيع، والرهن، والتأجير، وما أشبه ذلك، من باب أولى؛ لأنها أقل خطراً.
قوله: «وإن وجب لرقيق قود، أو تعزير قذف، فطلبُهُ وإسقاطُهُ إليه» فلو أن رقيقاً قطع يد رقيقٍ عمداً عدواناً فيجب القود للرقيق المقطوع، وطلب القود وإسقاطه إليه لا إلى سيده، فإن شاء طلب أن يقتص له من الجاني، فتقطع يد القاطع، وإن شاء قال: عفوت، لكن هل له أن يعفو مطلقاً، أو لا يعفو إلا على مال؟ إذا عفا مطلقاً كان في ذلك ضرر على السيد، حتى إذا وجب له القود وقال: أنا أريد القصاص، فسيقول السيد: وما ينفعني أن تقتص(14/67)
من الذي جنى عليك، أنا أريد أن آخذ الدية، نقول للسيد: ليس لك حق في أن تمنعه من القصاص؛ لأن القصاص فيه تشفٍّ للإنسان المعتدى عليه، فقد يقول: أنا لا يشفيني ولا يذهب ما في قلبي من الغم والغل إلاّ أن أقطع يده مثل ما قطع يدي.
فالخسارة المالية على السيد، ربما تكون اليد المقطوعة هي اليمنى، وهذا العبد كاتِبٌ فإذا قطعت يده صار بدلاً من أن يساوي عشرة آلاف، لا يساوي إلا ألف ريال، لكن نقول: الحق له، وليس له أن يعفو مجاناً، بل لا بد أن يكون عفوه على مال؛ لأننا إنما أبحنا له القصاص؛ لأجل التشفي، فإذا لم يرد التشفي فلا يمكن أن تضيع المالية على سيده.
وقوله: «أو تعزير قذف» القذف هو أن يرميه بالزنا، وقذف العبد لا يوجب الحد؛ لأن من شرط الإحصان أن يكون حراً، وهذا ليس بحر، وإنما يوجب التعزير؛ لئلا يتطاول الناس على الأرقاء، ولهذا قال المؤلف: «تعزير قذف» ولم يقل: حد قذف؛ لأنه لا حد.
فلو قُذِف هذا العبد نقول له: إن شئت فطالب، وإن شئت فلا تطالب، فإن قال السيد: الحق لي أنا؛ لأنه إن قُذِف ولم يطالب، قال الناس: إن قذفه بذلك صحيح، وإذا كان موصوفاً بالزنا فإن قيمته تنقص، فإذا قال هذا العبد: أنا أسقط تعزير القذف، قال السيد: أنا لا أسقطه، فهذه المسألة في النفس منها شيء، أي: كوننا نجعل للعبد الخيار بين إسقاط تعزير القذف، وعدم إسقاطه؛ ووجه ذلك أن الضرر ليس عليه وحده، بل الضرر(14/68)
عليه وعلى سيده؛ فإنه إذا قيل: إنه قد زنا، ولم يأخذ بحقه بتعزير القاذف، فإنه سيرخُص في أعين الناس ولا يريده أحد، إلاّ إنسان سيخاطر، فالصواب أن الحق للعبد ولكن ليس له إسقاطه.
قوله: «فإن مات فلسيده» أي: إن مات العبد فالحق لسيده، ولم نقل: لورثته؛ لأن الرقيق لا يورث، لوجود مانع من موانع الإرث، وهو الرق.(14/69)
بَابُ مَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
مَنْ أُقِيدَ بِأَحَدٍ فِي النَّفْسِ أُقيدَ بِهِ في الطَّرَفِ وَالجِرَاحِ، وَمَنْ لاَ فَلاَ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ القَوَدَ فِي النَّفْسِ،.................
أفادنا المؤلف بقوله: «فيما دون النفس» أن القصاص يكون في النفس، ويكون فيما دونها، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
قوله: «من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح، ومن لا فلا» هذه قاعدة مهمة.
فقوله: «من أقيد بأحد في النفس» أي: قتل به قصاصاً.
وقوله: «أقيد به في الطرف والجراح» يعني اقتص منه في الطرف والجراح.
وقوله: «ومن لا فلا» أي: من لا يقاد بأحد في النفس لا يقاد به في الطرف والجروح، إذاً فالقصاص في الطرف والجروح فرع عن القصاص في النفس، فلو أن حراً قطع يد عبد فهل يقطع به؟ لا؛ لأن الحر لا يقتل بالعبد على كلام المؤلف، ولو أن مسلماً قطع يد كافر، فلا يقطع به؛ لأن المسلم لا يقتل بكافر، فإذا لم يقتص به في كله لا يقتص به في جزئه، ولو أن كافراً قطع يد مسلم فإنه يقطع به؛ لأن الكافر يُقتل بالمسلم.
ولو أن امرأة قطعت يد رجل فتقطع يدها، لأن المرأة تُقتل(14/70)
بالرجل، ولو أن رجلاً قطع يد امرأة قطع بها أيضاً؛ لأن الرجل يقتل بالمرأة.
إذاً في هذه القاعدة لا بد أن نرجع إلى ما سبق، فننظر عندما يقطع أحد يد أحد هل يقتل به إذا قتله؟ فإن قيل: نعم، قطعناه به، وإلا فلا، ثم ذكر المؤلف قاعدة أخرى فقال:
«ولا يجب إلاّ بما يوجب القود في النفس» يعني لا يجب القود في الطرف والجروح إلاّ بما يوجب القود في النفس، والمراد هنا الإشارة إلى الجناية، أما الأولى فالمراد منها الإشارة إلى الجاني.
والذي يوجب القود في النفس من الجنايات هو العمد العدوان، فإن قطع أحدٌ يد أحد عمداً عدواناً، نظرنا في القاعدة السابقة، إذا كان يقتل به قطعنا يده، وإلاّ فلا، فإن قطع يده خطأ، كإنسان قال لآخر: امسك لي اللحم، وأخذ السكين ليقطع اللحم، فأخطأ وقطع أصبعاً من أصابعه، فهنا لا تقطع إصبعه، لأنها خطأ، وكما أن هذه الجناية لا توجب القود في النفس، فكذلك لا توجب القود فيما دون النفس.
والطرف: هو الأعضاء، والأجزاء من البدن، مثل اليد، والرجل، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والذكر، وما أشبه ذلك.
والجراح: هي الشقوق في البدن، مثل رجل جرح يد إنسان، أو ساقه، أو فخذه، أو صدره، أو رأسه، أو ظهره، أو ما أشبه ذلك.(14/71)
لكن القصاص في الطرف يزيد بأمور على القصاص في النفس، قال المؤلف:
وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الطَّرَفِ، فَتُؤْخَذُ الْعَيْنُ، وَالأَْنْفُ، وَالأُْذُنُ، وَالسِّنُّ، وَالْجَفْنُ، وَالشَّفَةُ، وَالْيَدُ، وَالرِّجْلُ، وَالإِْصْبَعُ، وَالْكَفُّ، وَالْمِرْفَقُ، وَالذَّكَرُ، وَالْخِصْيَةُ، وَالأَلْيَةُ، وَالشُّفْرُ، كُلُّ واحدٍ مِنْ ذلِكَ بِمِثْلِهِ.
«وهو نوعان» أي: القصاص فيما دون النفس نوعان: أحدهما: في الطرف، والثاني: في الجراح.
قوله: «أحدهما: في الطرف، فتؤخذ العين، والأنف، والأذن، والسن، والجفن، والشفة، واليد، والرجل، والإصبع، والكف، والمرفق، والذكر، والخصية، والألية، والشفر، كل واحد من ذلك بمثله» .
فقوله: «فتؤخذ العين» أي: بالعين، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والأنف» بالأنف.
وقوله: «والأذن» بالأذن، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والسن» بالسن، الثنية بالثنية، والرَّباعية بالرَّباعية، والعليا بالعليا، والسفلى بالسفلى، فلا بد من المماثلة.
وقوله: «والجفن» أي: غطاء العين وهو حساس جداً، إذا أقبل إليه شيء يؤذي العين انقفل بدون أي إرادة من صاحبه، وهذا من آيات الله عزّ وجل أن جعل فيه هذا الإحساس الغريب،(14/72)
والإنسان لديه أربعة جفون، فيؤخذ الأيمن بالأيمن، والأعلى بالأعلى، والأيسر بالأيسر.
وقوله: «والشفة» هي حافة الفم، وهي عليا وسفلى.
وقوله: «واليد» باليد، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والرجل» بالرجل، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والأصبع» بالإصبع، فالإبهام بالإبهام، والأيمن بالأيمن، وكذلك البقية.
وقوله: «والكف» بالكف، ولِمَ ذكر هنا الكف مع أنه سبق ذكر اليد؟ الجواب: نحمل كلام المؤلف الأول في قوله: «اليد» على اليد كلها من الكتف، أو من المرفق، وأما الكف فهو منبت الأصابع، فاليمين باليمين، واليسار باليسار.
وقوله: «والمرفق» بالمرفق، أي: تقطع اليد من مفصل الذراع من العضد.
وقوله: «والذكر» بالذكر.
وقوله: «والخصية» بالخصية، اليمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والألية» بالألية، اليُمنى باليمنى، واليسرى باليسرى.
وقوله: «والشُّفر» بالشفر، وهو اللحم المحيط بفرج المرأة، بمنزلة الشفتين للفم.
وقوله: «كل واحد من ذلك بمثله» وأصل هذا قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ(14/73)
وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
وَلِلْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ شُرُوطٌ: الأَْوَّلُ: الأَمْنُ مِنَ الْحَيْفِ بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، أَوْ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، كَمَارِنِ الأَنْفِ، وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ.
قوله: «وللقصاص في الطرف شروط» هذه شروط زائدة عما سبق من الشروط الأربعة.
قوله: «الأول: الأمن من الحيف» يعني إمكان الاستيفاء بلا حيف، وهذا شرط لتنفيذ القصاص، وقد مر علينا أنه لو وجب القصاص في الطرف على حامل تُركت حتى تضع، مع أن الاستيفاء ممكن، لكن نظراً إلى أنه يخشى أن يتعدى إلى غير الجاني وجب الانتظار، فالمقصود إمكان الاستيفاء بلا حيف؛ ولذلك قال المؤلف:
«بأن يكون القطع من مفصل» فمثلاً في الأصبع من مفصل الأنملة، وفي الكف من مفصل الرسغ، وفي الذراع من مفصل المرفق، وفي العضد من مفصل الكتف.
قوله: «أو له حَدٌّ ينتهي إليه» أي: له حدٌّ ينتهي إليه وإن لم يكن مفصل.
قوله: «كمارن الأنف وهو ما لان منه» أي: من الأنف؛ لأن الأنف له قصبة من عظام، يليها المارن، وهو جامع لثلاثة أشياء: للمنخرين وللحاجز بينهما، فلو أن أحداً قطع شخصاً من الحد اللين اقتص منه، لأنه يمكن الاستيفاء بلا حيف، ولو أن رجلاً قطع يد رجل من مفصل اليد تماماً فإنه يقتص منه، ولو قطعه من نصف(14/74)
الذراع فلا يقتص منه؛ لأن القطع ليس من مفصل، وعلى هذا فلو أراد أحد من الجناة الفقهاء أن يقطع كف إنسان، ولا يُقطع به، فإنه سيقطع من نصف الذراع بدلاً من مفصل الكف، ويكون زاد في الجناية وسلم من القصاص؛ لأن من الشروط أن يكون القطع من مفصل، وهذا ليس من مفصل، وإذا لم يكن من مفصل فلا نأمن أن نحيف عند القصاص، ربما يزيد أو ينقص، وقد يكون الكسر ليس مستقيماً فلا يتمكن، بخلاف المفصل هذا ما ذهب إليه المؤلف.
ويحتمل أن نقول: يقتص من المفصل الذي دونه ويؤخذ منه أرش الزائد، كما سيأتينا في الجراح ـ إن شاء الله ـ والأرش هو ما يسمَّى في باب الديات بالحكومة، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ لها بحث معين، وهذا إذا لم يمكن القصاص من مكان القطع، فإن أمكن القصاص من مكان القطع اقتص منه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وكلما أمكن القصاص وجب، فإذا وُجِدَ أطباء أكفاء، وقالوا: نحن يمكن أن نقدِّر هذه الجناية بدقة، بحيث نقتص من الجاني ولا نزيد أبداً، فما المانع من القصاص؟! لا مانع، بل لو قال المجني عليه: أنا أتنازل، فهو قطع يدي من نصف الذراع، وأنا أقطعها من ثلث الذراع، وأتنازل عن الزائد، فما المانع؟! لا مانع، فهذا رجل تنازل عن بعض حقه ليقتص من هذا الظالم المعتدي.
فعندنا ثلاثة احتمالات على خلاف كلام المؤلف:
الأول: أن يقتص من المفصل الذي دون القطع، ويأخذ أرش الزائد.(14/75)
الثاني: أن يقتص من مكان القطع إذا أمكن.
الثالث: أن يقتص من دون محل القطع، وفوق المفصل ويسقط المجني عليه الزائد.
وأما أن نقول: إذا قَطَعْتَ من مفصل قطعنا كفَّك، وإذا تجاوزت شيئاً أبقينا كفّك! فهذا بعيد، والصواب أن نقول: إن أمكن القصاص تماماً بدون حيف وجب، إن لم يمكن فلنا طريقان:
الأولى: أن يقتص من الكف ويأخذ أرش الزائد.
الثانية: أن يقتص من فوق الكف ودون القطع، ويسقط الزائد إذا أحب.
أما على رأي المؤلف فإنه لا قصاص وله الدية، وهي بالنسبة لليد نصف الدية.
مسألة: هل يمكن القصاص من السن إذا ذهب بعضه؟ نعم، وذلك بأن يبرد سن الجاني حتى نصل للغاية.
وهل نأخذ منه بالمقدار أو بالنسبة؟ نأخذ بالنسبة؛ لأنه قد يكون سن الجاني صغيراً، وسن المجني عليه كبيراً، فإذا أخذنا بالمقدار فنصف سن المجني عليه يبلغ سن الجاني كاملاً، فلو أخذنا من سنِّه بالمقدار لانتهى السن، وكذلك العكس لو كان سن المجني عليه صغيراً فنأخذ بالنسبة، فإذا كان هذا الجزء من سن المجني عليه يقابل النصف من سنِّك أخذنا من سنك النصف، كما نفعل في الكف فقد تكون كف الجاني قدر كف المجني عليه مرتين أو أكثر، كرجل جاء إلى طفل في المهد فأخذ يده وقطعها، فهنا تقطع يد الجاني كاملةً.(14/76)
مسألة: هل يجوز أن نبنِّج الجاني حتى لا يتألم؟ لا، لا يجوز؛ لأننا لو بنَّجناه ما تم القصاص، بل نقتص منه بدون تبنيج، لكن لو كان حداً لله كالسرقة، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف في قطاع الطريق، فهذا يجوز أن نبنِّجه؛ لأن المقصود إتلاف هذا العضو لا تعذيبه.
وهل يجوز إذا قطعنا يد السارق أن نلصقها مرة أخرى؟
لا يجوز؛ لأن المقصود ليس حصول الألم، بل المقصود إتلاف هذا العضو الذي حصلت منه السرقة، وإلاَّ لو كان المقصود هو إيلام الجاني، لأخذناه وضربناها حتى يتألم، وهو أحسن من القطع، لكن إذا نظرنا إلى مقاصد الشرع وجدنا أن المقصود إتلاف العضو، وإبقاء هذا الجاني شُهرة بين الناس، كما قال ـ تعالى ـ في أصحاب السبت: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] .
وقد قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: إذا قطع أذنه ثم أعادها وهي حارة فيمكن أن تلتصق، وكذلك الجرح إذا جرحت بسكين، أو غيره فأَلْصِقْهُ سريعاً واضغط عليه، فهنا يلتئم ويتوقف الدم، لكن بشرط أن تفعل ذلك، والدم حار، ولا تتركه حتى يبرد.
الثَّانِي: الْمُمَاثَلَةُ فِي الاسْمِ وَالْمَوْضِعِ،......................
قوله: «الثاني: المماثلة في الاسم والموضع» أي: الشرط الثاني من شروط القصاص في الطرف، بأن تكون يداً بيد، هذا الاسم، والموضع يمين بيمين مثلاً.
وكذلك خنصر بخنصر، هذا اسم، ويمين بيمين هذا موضع.(14/77)
وأنملة وسطى بأنملة وسطى، هذا اسم، لكن يجب أن تبين من أي الأصابع، خنصر، بنصر، من اليمين، أو اليسار.
فَلاَ تُؤْخَذُ يَمِينٌ بِيَسَارٍ، وَلاَ يَسَارٌ بِيَمِينٍ، وَلاَ خِنْصِرٌ بِبِنْصِرٍ، وَلاَ أَصْلِيٌّ بِزَائِدٍ، وَلاَ عَكْسُهُ، وَلَوْ تَرَاضَيَا لَمْ يَجُزْ،.......................
قوله: «فلا تؤخذ يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا خنصر ببنصر، ولا أصلي بزائد، ولا عكسه» أي: ولا يؤخذ عكسه؛ لأن الموضع مختلف.
قوله: «ولو تراضيا لم يجز» لو قال المجني عليه: هذا الجاني أخذ مني الخنصر الأصلي، وعنده خنصر زائد، وأنا أريد أخذ خنصره الزائد، وتراضيا على هذا، فإنه لا يجوز؛ لعدم المماثلة في الموضع.
ويؤخذ من كلام المؤلف: أنه لا يجوز لأحد أن يتبرع بشيء من أجزائه؛ لأن الحق في ذلك لله عزَّ وجل، فلا يجوز أن تتبرع لأحد بأي شيء، لا بعين، ولا بأذن، ولا بأصبع، ولا بكُلية؛ لأن الحق لله تعالى، أما التبرع بالدم فجائز؛ لأنه يتعوض، مثل اللبن في ثدي الأم فإنه يتعوض، أمَّا ما لا يتعوض فلا يجوز.
وقد نص الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ على أنه لا يجوز لأحد أن يتبرع لأحد بشيء من أعضائه، وذلك في كتاب الجنائز، فقالوا: لا يجوز للميت أن يتبرع لأحد بشيء من أعضائه، ولو أوصى به لم تنفذ وصيته؛ لأن بدنك أمانة عندك، لا يجوز أن تتحكم فيه.
وأقوى ما يعتمد عليه المجيزون أن ذلك من باب الإيثار.
والجواب: أن هذا بعيد عن الإيثار؛ لأن الإيثار أن تؤثر غيرك بشيء لم يكن فيك، فتؤثره مثلاً في أن يشرب قبلك، أو(14/78)
يأكل قبلك، فهذا لا بأس به، أما شيء من نفسك فلا يمكن؛ لأن غاية ما هنالك في باب الإيثار أنك آثرته بنفع شيء خارج، أما أن تؤثره بإعطائه شيئاً تنقصه من بدنك فلا.
الثَّالِثُ: اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الصِّحَّةِ وَالكَمَالِ، فَلاَ تُؤْخَذُ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ، وَلاَ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ بِنَاقِصَةٍ، وَلاَ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ بِقَائِمَةٍ، وَيُؤْخَذُ عَكْسُهُ وَلاَ أَرْشَ.
قوله: «الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاَّء» أي: الثالث من شروط القصاص في الطرف.
والمراد بالاستواء ألاّ يكون طرف الجاني أكمل من طرف المجني عليه، وعلى هذا فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون طرف الجاني أكمل، وهذا هو موضوع البحث.
الثانية: أن يكون طرف المجني عليه أكمل، فهنا يؤخذ طرف الجاني بطرف المجني عليه.
الثالثة: أن يكونا سواءً، بأن يكون طرف الجاني وطرف المجني عليه صحيحين أو معيبين، وعلى هذا فقول المؤلف ليس بدقيق، والتعبير الدقيق أن يقول: «أن لا يكون طرف الجاني أكمل من طرف المجني عليه» فإذا كان طرف الجاني أكمل فإنها لا تقطع بيد المجني عليه، فإذا كان المجني عليه يده مشلولة ويد الجاني سليمة، فإنه لا تؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه؛ وذلك لتفاوت ما بين اليدين، فيد المجني عليه معطلة المنفعة ويد الجاني سليمة المنفعة، فلم تستويا، فلا يثبت القصاص؛ لأن يد الجاني أكمل، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، ومنهم المذاهب الأربعة، وحكاه بعضهم إجماعاً.(14/79)
وقال داود الظاهري ـ رحمه الله ـ: إنها تؤخذ اليد السليمة بالشلاء؛ لعموم الآية {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم لأنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ: «كتاب الله القصاص» (1) ، والجاني هو الذي أراد ذلك لنفسه، وهو الذي جنى على نفسه في الواقع؛ لأنه فعل سبباً يقتضي قطع يده، فيكون هو المتسبب، وعلى نفسها جنت براقش، فعلى هذا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء، وكما أننا نقتل الرّجل العاقل، الشاب، الجلد، بالرجل الأشل، الكبير السن، المجنون، فهكذا هذه اليد نأخذها باليد الشلاء، فعنده دليل أثري ونظري، فالأثري عموم النصوص الدالة على القصاص، فهاتوا نصاً يستثني ذلك، أما النظري وهو القياس، وإن كان داود الظاهري لا يقول به، لكن الجمهور يقولون به، وقياسه جيِّد.
لكنَّ أولئك يقولون: إن اليد الشلاء بمنزلة البدن الميت، لأن منفعتها مفقودة نهائياً، فلا تتحرك، ولا تحس بلامس، ولا بشيء أبداً، ومن المعلوم لو أن رجلاً حياً ذبح ميتاً لم يقتل به، فهم يقولون: إن قياس داود منتقض بهذا.
أما استدلاله بعموم النصوص، فقالوا: صحيح أن العموم يقتضي أن تؤخذ الصحيحة بالشلاء؛ لعدم التفصيل وعدم التقييد، وإذا لم يكن تفصيل ولا تقييد بقي العموم على ظاهره، لكن كلمة القصاص تعني أنه لا بد أن تكون هناك مماثلة بين الجزء المقتص
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .(14/80)
منه والمقتص له، وإلاّ لم يتحقق القصاص، فهذا هو رأي الجمهور، والمسألة تحتاج إلى بحث؛ لأن دليل داود قوي جداً.
قوله: «ولا كاملة الأصابع بناقصة» فلو كان الجاني كامل الأصابع والمجني عليه أصابعه أربعة، فإننا لا نأخذ يد الجاني بيد المجني عليه؛ لأن أصابع يد المجني عليه ناقصة فلا يتم القصاص.
وظاهر كلام المؤلف سواء كانت ناقصة بأصل الخلقة، أي: خلقه الله ما له إلا أربع أصابع، أو نقصاً طارئاً فيما لو قطع أصبعه.
وهذه المسألة أضعف من المسألة السابقة؛ وذلك لأن أصابع اليد الناقصة فيها منفعة، كالحركة والإحساس، ومثل ما لو قتل شخص رجلاً مقطَّع الأربع، يعني قد قطعت يداه ورجلاه، فإن الجاني يُقتل، ولو كان كامل الأطراف، فهذه مثلها، والقول بأنه يقتص من كاملة الأصابع بالناقصة أقوى من الأول؛ لأن الشلل تعطل المنفعة بالكلية، أما هذا فإنه نقص.
قوله: «ولا عين صحيحة بقائمة» العين القائمة هي التي بقيت على حالتها، وصورتها، بحيث من رآها يظنها تبصر، لكنها لا تبصر، والصحيحة هي التي تبصر، فإذا كانت عين الجاني صحيحة، وعين المجني عليه قائمة، فلا قصاص؛ لأن القائمة لا فائدة منها، وقد يقول قائل: لعل هذا الحكم يختلف في هذا الزمن؛ لأن العين القائمة يمكن أن تجرى لها جراحة، ويركب لها قرنيَّة، وتصبح صحيحة، أمَّا إذا كان الخلل في أعصاب العين(14/81)
فالغالب أنه لا تنفعه العملية، وهذا إذا قاله الأطباء، فإن كانت منفعة العين قليلة فإنه يقتص لها، فتؤخذ عين الرجل القوي النظر بعين الأعمش ما دام أن فيها منفعة.
قوله: «ويؤخذ عكسه» أي: تؤخذ الشلاء بالصحيحة، وتؤخذ ناقصة الأصابع بكاملتها، وتؤخذ العين القائمة بالعين الصحيحة، لكن بشرط رضى من له الحق.
قوله: «ولا أرش» أي: أنَّنا لا نعطي المجني عليه الفرق بين الصحيح والأشل، وبين الزائد والناقص، وبين القائم والمبصر، وذلك لأن المأخوذ قصاصاً كالمتلف جناية من حيث الخلقة، لكنهما اختلفا في المنفعة؛ ولذلك لا نعتبر ذلك اختلافاً، فلا أرش له.
وهل تؤخذ الأذن السليمة بأذن الأصم؟ نعم، تؤخذ، يقولون: لأن السمع في الدماغ وليس في الأذن، ولذلك لو قُطعت أُذن الإنسان بقي سميعاً، وكذلك يؤخذ الأنف الصحيح بالأنف الذي لا يشم؛ لأن الشم حاسة في الدماغ وليس في الأنف؛ ولهذا مقطوع الأنف يشم.
وتؤخذ الأذن السليمة بالأذن الشلاء؛ لأن الصورة واحدة، لكن الحقيقة أن الشلاء ناقصة فلو مشت عليها ذرَّة لم تحس، وأُذن الجاني تحس، لكن لا عبرة بهذا، بل العبرة بالصورة.
* * *(14/82)
فَصْلٌ
النَّوْعُ الثَّانِي: الْجِرَاحُ، فَيُقْتَصُّ فِي كُلِّ جُرْحٍ يَنْتَهِي إِلَى عَظْمٍ، كَالْمُوضِحَةِ،
قوله: «النوع الثاني: الجراح» أي: النوع الثاني من القصاص فيما دون النفس، ويجب أن نتذكر القاعدتين السابقتين في أول الباب.
الأولى: من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الجراح، ومن لا فلا.
الثانية: إذا كانت الجناية موجبة للقصاص في النفس فهي موجبة له في الجراح، وإلاَّ فلا.
وعلى هذا فالجرح خطأ لا قصاص فيه، وجرح المسلم الكافر لا قصاص فيه، وجرح الوالد الولد ـ على المذهب ـ لا قصاص فيه.
قوله: «فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم» هذه قاعدة القصاص في الجروح، فإن كان الجرح لا ينتهي إلى عظم فلا قصاص؛ وذلك لأن الذي ينتهي إلى عظم يمكن الاستيفاء منه بلا حيف؛ لأنك ستأخذ اللحم حتى تصل إلى العظم، وأما ما لا ينتهي إلى عظم فلا يمكن القصاص منه، فهذا مبني على ما سبق وهو إمكان الاستيفاء بلا حيف، مثاله:
قوله: «كالموضحة» وهي التي توضح العظم في الرأس والوجه خاصة، وهذا ما تقتضيه اللغة العربية، فإن العرب إذا قالوا: الموضحة، فإنما يعنون بها الجرح في الرأس والوجه فقط،(14/83)
أما الجرح في الصدر ولو بيَّن العظم فلا يسمى موضحة.
فإذا جنى شخص على آخر عمداً، وكشط جلد رأسه ولحمه حتى وصل إلى العظم فإنه يقتص منه؛ لأنه جرح ينتهي إلى عظم، والاعتبار بالمساحة لا بالكثافة، أي بمساحة الجرح لا بكثافة عمقه؛ لأن بعض الناس يكون سميناً، وتكون طبقات اللحم فوق العظم أكثر، وبعض الناس بالعكس، فهذا لا عبرة به، بل العبرة بالمساحة، فيؤخذ من الجاني بمثل ما أخذ من المجني عليه.
وهل يؤخذ بالنسبة أو بالقدر؟ الظاهر أننا نأخذ بالنسبة، فإذا أوضح ربع رأسه نوضح ربع رأسه.
وَجُرْحِ العَضُدِ، وَالسَّاقِ، وَالفَخْذِ، وَالقَدَمِ، وَلاَ يُقْتَصُّ فِي غَيْرِ ذلِكَ مِنَ الشِّجَاجِ وَالجُرُوحِ غَيْرَ كَسْرِ سِنٍّ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ مِن المُوضِحَةِ، كَالهَاشِمَةِ، وَالمُنَقِّلَةِ، وَالمَأْمُومَةِ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ موضِحَةً، وَلَهُ أَرْشُ الزَّائِدِ،.............
قوله: «وجرح العضد، والساق، والفخذ، والقدم» والدليل قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فيقتص من كل جرح بمثله.
وقوله: «العضد» هو العظم الذي بين الكتف والمرفق.
وقوله: «والساق» وهو العظم بين الركبة والقدم.
وقوله: «والفخذ» وهو العظم الذي بين الورك والركبة.
وقوله: «والقدم» وهو العظم الذي بين الكعبين إلى نهاية الأصابع.
فالجروح في هذه المواضع تنتهي إلى عظم، والجرح في الصدر ينتهي إلى عظم إذا كان على الضلوع، أما إن كان بينهما فإنه لا ينتهي إلى عظم، والجرح في الرقبة ينتهي إلى عظم في مكان منه، وفي مكان آخر لا ينتهي إلى عظم، فالقاعدة أن كل جرح ينتهي إلى عظم ففيه قصاص.(14/84)
قوله: «ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجروح، غير كسر سن» الشجاج من الجراح، والجروح هنا ما سوى الشجاج، والشجاج: جمع شجَّة، وهي جرح الرأس والوجه خاصة، ففي الجبهة والرأس تسمى شجة، وفي الرقبة يسمى جرحاً.
وقوله: «في غير ذلك من الشجاج» سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ أن الشجاج عشرة أنواع عند العرب، فما قبل الموضحة ليس فيه قصاص إطلاقاً، كالدامية والبازلة، وما بعد الموضحة، يقول المؤلف:
«إلاَّ أن يكون أعظم من الموضحة، كالهاشمة، والمنقِّلة والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد» الهاشمة: هي الجرح الذي يبرز العظم ويهشمه، فهذه لا قصاص فيها.
والمنقِّلة: هي التي توضح العظم وتهشمه وتنقله، وهذه لا قصاص فيها.
والمأمومة هي التي تصل إلى أم الدماغ، بأن ضربه فانجرح وبان العظم، وانهشم، وانتقل، وبان الدماغ، فهذه لا يقتص فيها من الجاني؛ لأن المأمومة لا يمكن الاستيفاء فيها بدون حيف.
وقوله: «غير كسر سن» لو كسر سناً فإنه يقتص منه، وذلك بأن نحكّه بالمبرد، حتى يتحقق القصاص، ويكون القصاص(14/85)
بالنسبة لا بالقَدْر؛ لأن سن الجاني قد يكون قدر سن المجني عليه مرتين، فإذا كسر نصف سن المجني عليه، وقلنا: القصاص بالقدر، فإننا نأخذ ربع سن الجاني، لكننا إذا قلنا بالنسبة، فإننا نأخذ نصف سنِّ الجاني.
فالخلاصة: أنه لا قصاص في الجروح إلا في ثلاث حالات:
الأولى: في كل جرح ينتهي إلى عظم.
الثانية: في السن.
الثالثة: الجروح التي فيها قصاص وأرش الزائد، وذلك مذكور في قول المؤلف: «إلاَّ أن يكون أعظم من الموضحة، كالهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، فله أن يقتص موضحة، وله أرش الزائد» هذا ما ذهب إليه المؤلف.
والصحيح أنه يقتص من كل جرح؛ لعموم قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فمتى أمكن القصاص من جرح وجب إجراء القصاص فيه، وعلى هذا فإذا قال الأطباء: نحن الآن نقتص منه بالسنتيمتر بدون حيف فإنه يقتص منه، فلو أن رجلاً شق بطن رجلٍ فإنه لا يقتص منه على المذهب، والصحيح أنه يقتص منه.
وَإِذَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ طَرَفاً أَوْ جَرَحُوا جُرْحاً يُوجِبُ الْقَوَدَ فَعَلَيْهِمُ القَوَدُ،.....
قوله: «وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود» الطرف هو العضو، فلو قطعوا طرفاً، وذلك بأن يأتوا بسكين ويتحاملوا عليها جميعاً حتى ينقطع العضو، فهؤلاء اشتركوا فيقتص منهم جميعاً لعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ(14/86)
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وقياساً على ما إذا اشتركوا في قتله، فإنه إذا وجب القصاص عليهم جميعاً فيما إذا اشتركوا في القتل، فلأن يجب القصاص عليهم فيما لو اشتركوا في قطع عضوٍ من باب أولى؛ لأن النفس أعظم حرمة، والقصاص في الأطراف مبني على القصاص في النفوس، وكذلك لو جرحوا جرحاً يوجب القود ـ وهو على المذهب كل جرح ينتهي إلى عظم ـ فإذا جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود، فإذا كانوا عشرة فإننا سنجرح عشرة رؤوس برأسٍ واحد، ونقول: كما أننا نقتل عشرة أنفس بنفس واحدة، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» (1) .
وقوله: «إذا قطع جماعة طرفاً أو جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود» ، لم يذكر حكم ما إذا تمالؤوا عليه، والصحيح أنهم لو تمالؤوا عليه فكما لو تشاركوا فيه، ومعنى تمالؤوا عليه أي: اتفقوا عليه؛ بأن قالوا: نريد قطع يد فلان، فقال أحدهم: اجلس أنت في مكان كذا، وأنت الآخر اجلس في مكان كذا، حتى إذا أقبل أحدٌ تخبرونني، واتفقوا على ذلك فقد تشاركوا في الإثم، ولولا أن هؤلاء حرسوا ما تجرأ هؤلاء على القطع، وهؤلاء يعلمون أنهم سيقطعون هذا الرجل، فإذا تمالؤوا عليه فقد تشاركوا فيه، وعمر ـ رضي الله عنه ـ قال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (24) .(14/87)
فإذا قطعوا طرفاً، وجرحوا جرحاً، سواء كان ذلك بالمشاركة الفعلية، أو كان بالممالأة والمواطأة على ذلك، فعليهم القود، فإذا اختار المجني عليه الدية فعليهم دية واحدة لذلك الطرف أو الجرح.
ثم ذكر المؤلف قاعدتين مهمتين في سراية الجناية، وسراية القود فقال ـ رحمه الله ـ:
وَسِرَايَةُ الجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ فِي النَّفْسِ فَمَا دُونَها وَسِرايَةُ الْقَوَدِ مَهْدُورَةٌ، وَلاَ يُقْتَصُّ مِنْ عُضْوٍ وَجُرْحٍ قَبْلَ بُرْئِهِ، كَمَا لاَ تُطْلَبُ لَهُ دِيَةٌ.
«وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها» ، «سراية» : مضاف، و «الجناية» : مضاف إليه، وهي من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: السراية التي سببها الجناية مضمونة، والسراية: هي أن ينتقل الشيء من مكان إلى آخر، فيسري الجرح من المكان الأول إلى مكان آخر ويتسع، وكذلك الأعضاء، كما لو قطع أصبعاً فتآكلت الكف كلها، أو قطع أنملة فتآكل الأصبع كله، أو جرح موضحة بقدر الظفر ثم اتسعت حتى صارت بقدر الكف.
يقول المؤلف: إذا كانت السراية من جناية فإنها مضمونة في النفس فما دونها، في النفس مثل لو قطع أصبع إنسانٍ عمداً فنزف الدم حتى مات، فهنا نقتل الجاني، فإذا قال الجاني: أنا لم أقطع إلاَّ الأصبع، فنقول له: لكن هذه الجناية سرت إلى النفس، وأنت السبب، وربما أنك لم تقصد أن تقتل هذا الشخص، لكنه مات بسببك فتكون ضامناً.
وهذا الضابط مبني على قاعدة معروفة عند أهل العلم، وهي: «ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون» فكل شيء ترتب على شيء لم يؤذن فيه، لا شرعاً ولا عرفاً، فإنه يكون مضموناً(14/88)
على صاحبه، ولها أمثلة كثيرة، ويستثنى من سراية الجناية ما سيأتي وهو ما إذا اقتص المجني عليه قبل البرء فهنا لا تضمن السراية، مثاله: قطع إصبع رجلٍ عمداً، فطلب المقطوع إصبعُه أن تقطع أصبع الجاني وأصر وألح، فإنها إذا قطعت في هذه الحال ثم سرت الجناية فإنها تكون هدراً، كما ستأتي المسألة قريباً إن شاء الله.
قوله: «وسراية القود مهدورة» ، القود أي: القصاص، فلو اقتصصنا من الجاني ثم سرت الجناية فإنها هدر، أي: لا شيء فيها؛ لأننا نقول: أنت المعتدي، فلا شيء لك.
وهذا الضابط مبني على قاعدة عند أهل العلم وهي «ما ترتب على المأذون فليس بمضمون» ، وهنا القود مأذون فيه، فإذا استقدنا من هذا الرجل، وقطعنا يده ثم سرى القود، فقد ترتب هذا على شيء مأذون فلا يكون مضموناً، ويستثنى من هذا الضابط ما إذا اقتص منه في حالٍ يخشى فيه من السراية، مثل أن يكون في شدة حر، أو في شدة برد، أو إنسان فيه داء السكري، فإن هذا في الغالب لا يبرأ، ويخشى فيه السراية، فإذا كان كذلك، قال أهل العلم: إن السراية في هذه الحال تكون مضمونة؛ لأنها مترتبة على شيء غير مأذون فيه، فإن قلت: هو مأذون فيه في الأصل؟ فالجواب: لكنه في هذه الحال ليس مأذوناً فيه، فيكون عليه الضمان.
قوله: «ولا يقتص من عضو وجرح قبل برئه» ، «من» بدلية، أي: ولا يقتص بدل عضو وجرح، و «من» تأتي للبدل، ومثالها قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] فـ {منكم} هنا بمعنى بدلكم.(14/89)
فلا يقتص من عضو الجاني بدل عضو المجني عليه حتى يبرأ عضو المجني عليه.
وقوله: «ولا يقتص» لم يبين ـ رحمه الله ـ هل هذا حرام، أو مكروه؟ فيحتمل أنه حرام ويحتمل أنه مكروه، والمشهور من المذهب أنه حرام، وأنه لا يجوز أن يقتص حتى يبرأ، ودليل ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رجلاً طعن رجلاً بقرنٍ في ركبته، فجاء المطعون وطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتص منه، ولكنَّه نهاه، فألح عليه، فاقتص منه، ثم جاء الرجل المجني عليه بعد مدة فقال: يا رسول الله، عرجت ـ أي: إن الجناية سرت ـ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك» ، ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه (1) .
والقول الثاني: أن النهي للكراهة والإرشاد؛ ووجه ذلك أننا نقول للمجني عليه: انتظر ربما تسري جنايتك، فالجناية لم تستقر بعد، فمن المصلحة لك أن تنتظر، وإذا كان النهي للإرشاد فإنه لا يحرم، وهذا أحد قولي الشافعي أنه يجوز أن يقتص قبل البرء، واستدل لقوله بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقاد الرجل، ولو كان حراماً ما أقاده.
ولكننا نقول في نفس الحديث: «ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتص من جرح حتى يبرأ» .
قوله: «كما لا تطلب له دية» ، أي: أن الجرح والعضو لا يقتص منه قبل برئه، ولا تطلب له دية، وذلك من أجل أن نعرف الجناية واستقرارها.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/217) ، والدارقطني (3114) ط/ الرسالة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الحافظ في
البلوغ (1083) : «أعل بالإرسال» ، وصححه الألباني في الإرواء (2237) .(14/90)
كِتَابُ الدِّيَاتِ
كُلُّ مَنْ أَتْلَفَ إِنْسَاناً بِمُبَاشَرَةٍ، أَوْ سَبَبٍ لَزِمَتْهُ دِيَتُهُ،
قوله: «الديات» جمع دية، وهي المال المؤدى إلى المجني عليه أو ورثته بسبب الجناية، أي: الجناية بالمعنى الاصطلاحي، وهي التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً، وبناءً على ذلك فإن الدية قد تكون للنفس، وقد تكون للأعضاء، وقد تكون للمنافع؛ والقاعدة العامة في وجوب الدية هي ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله:
«كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته» سواء كانت الدية للبدن، أو لجزء منه، أو للمنافع، فإن اجتمع مباشران فعليهما الدية، وإن اجتمع متسببان فعليهما الدية، وإن اجتمع متسبب ومباشر، فإن كان المباشر يمكن تضمينه فعلى المباشر وحده، وإن كان لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب وحده.
مثال المباشرة: أن يأخذ الإنسان آلة تقتل، فيقتل بها هذا الإنسان، سواء عمداً أو خطأ، أو يلقيه من شاهق.
ومثال السبب: أن يحفر حفرة في طريق الناس، فيقع فيها الناس، فهذا لم يباشر لكنه تسبب، فيكون الضمان عليه.
ومثال المباشرين: أن يشترك اثنان في قتل شخص، فعليهما الدية.(14/91)
ومثال المتسببين: أن يشترك اثنان في حفر حفرة في الطريق، فعليهما الدية.
ومثال اجتماع المباشر والمتسبب: شخص حفر حفرة، ووقف شخص آخر عليها، فجاء إنسان فدفعه فيها حتى سقط ومات، فالضمان على المباشر وهو الدافع؛ لأنه أقوى صلة بالجناية من المتسبب.
وكذلك لو أن شخصاً أعطى إنساناً سكيناً بدون مواطأة على القتل، فقتل بها إنساناً، فالضمان على المباشر، فإن كان المباشر لا يمكن تضمينه فعلى المتسبب، كما لو أن رجلاً ألقى إنساناً مكتوفاً بحضرة الأسد، فأكله الأسد، فعندنا مباشر ومتسبب، المباشر هو الأسد، والمتسبب هو الذي ألقى الرجل مكتوفاً بحضرة الأسد، فالضمان هنا على المتسبب؛ لأن المباشر لا يمكن تضمينه، كذلك إذا كان المباشر غير معتدٍ، وكان المتسبب هو المعتدي، وكانت المباشرة مبنية على ذلك السبب، فإن الضمان يكون على المتسبب، وذلك مثل لو شهد جماعة على شخص بما يوجب قتله، فقتله السلطان، ثم بعد ذلك رجعوا، وقالوا: عمدنا قتله، فهنا المباشر السلطان والمتسبب هم الشهود، لكن المباشر قد بنى مباشرته على مسوِّغ شرعي، وهو شهادة الشهود، ولا يمكنه أن يتخلص من هذه الشهادة الموجبة للقتل، وهذا السبب هو الذي أقر على نفسه بالجناية، فيكون الضمان على المتسبب، فهاتان حالتان.
والحال الثالثة: إذا كان المباشر لا يمكن تضمينه؛ لعدم تكليفه، فالضمان يكون على المتسبب، كمن أمر غير مكلف(14/92)
بالقتل، فالضمان على الآمر؛ لأنه هو السبب، وهنا المباشر غير مكلف فلا يمكن تضمينه؛ لأنه لا قصد له، ولولا أمر هذا الإنسان ما قتل.
فهذه ثلاث مسائل، وإن كانت المسألة الأولى والأخيرة داخلاً بعضها في بعض؛ لأن كلاًّ من المسألتين يقال فيها: لا يمكن إحالة الضمان على المباشر، إلاَّ أن الفرق بينهما هو أنَّ عدم إحالة الضمان على المباشر في المسألة الأخيرة، لا لقصور فيه، ولكن لأنه مبنيٌّ على سبب أقوى، بخلاف الأولى فإن المباشر فيها ـ وهو السبُع ـ لا يمكن تضمينه بحال من الأحوال، لكن غير المكلف، كالصبي، والمجنون يمكن تضمينهما؛ لأن عمدهما خطأ، لكن لما كان السبب قوياً مؤثراً في قصدهما صار العمل بالسبب.
والخلاصة أن القاعدة في موجب الدية، إما مباشرة أو سبب، وهذه القاعدة يتفرع عليها المسائل التالية:
الأولى: أن يجتمع مباشران، فعليهما الدية.
الثانية: أن يجتمع متسببان فعليهما الدية.
الثالثة: أن يجتمع متسبب ومباشر، فالضمان على المباشر، إلا في ثلاث مسائل:
الأولى: أن لا يمكن إحالة الضمان على المباشر بأي حال من الأحوال، بأن كان المباشر غير أهل للتضمين كالمثال الأول.
الثانية: إذا كانت المباشرة مبنية على سبب يسوغ شرعاً العمل به، كالمثال الثاني.(14/93)
الثالثة: إذا كانت المباشرة مبنية على السبب، وكان لهذا السبب تأثير قوي فيها، مع عدم صحة القصد منها، كالمثال الثالث.
فإن كان الذي قتل كالآلة، بأن أخذه إنسان وضرب به إنساناً آخر فمات، فالضمان على الإنسان الذي جعله كالآلة؛ لأن هذا الذي أُخِذ وضرب به الآخر حتى مات كالآلة، فكأنه عصا ليس له أي اختيار، وسبق لنا أنه لو أكره إنساناً على القتل فالضمان عليهما، على المذهب، وقيل: على المكرَه، وقيل: على المكرِه.
فَإِنْ كَانَتْ عَمْداً مَحْضاً فَفِي مَالِ الْجَانِي حَالَّةً. وَشِبْهُ العَمْدِ وَالخَطَأُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وإِنْ غَصَبَ حُرّاً صَغِيراً فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، أَوْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ، أَوْ مَاتَ بِمَرَضٍ، أَوْ غَلَّ حُرّاً مُكَلَّفاً وَقَيَّدَهُ، فَمَاتَ بالصَّاعِقَةِ، أَوِ الْحَيَّةِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ.
قوله: «فإن كانت» أي: الجناية.
قوله: «عمداً» خرج به الخطأ.
قوله: «محضاً» خرج به شبه العمد؛ لأن شبه العمد، وإن كان عمداً إلا أن صاحبه لا يقصد القتل؛ لأنه جنى بما لا يقتل غالباً.
ومراد المؤلف عمداً محضاً وعدواناً؛ لأن ما كان بحق فإنه لا قصاص فيه ولا دية.
قوله: «ففي مال الجاني» أي: أن الدية في مال الجاني.
قوله: «حالة» أي: غير مؤجلة، فتخالف دية شبه العمد والخطأ بأنها حالة في مال الجاني، فالعاقلة لا يجب عليها حمل شيء منها.
مثاله: رجل قتل إنساناً عمداً محضاً، واختار أولياء المقتول الدية، فوجبت الدية، فالذي يقوم بدفع الدية هو الجاني، ولا يلزم عاقلته أن يؤدوا عنه، فإن تبرعوا بالأداء عنه جاز ولا مانع.(14/94)
وقوله: «حالة» باعتبار وضعها، فإذا كان القاتل فقيراً فإنها تبقى في ذمته حتى يوسر الله عليه، كسائر ديونه.
وفي هذه الحال هل يجوز أن ندفع عنه من الزكاة؟
الجواب: نعم؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} وهو غارم، ولكن يجب أن يتوب إلى الله مما صنع، فإذا علمنا توبته فإننا نقضي دينه من الزكاة.
قوله: «وشبه العمد والخطأ» بالرفع، ويجوز أن نقول: «شبهِ» بالكسر بناءً على أن المضاف حُذف، وأن التقدير «ودية شبه العمد» ، ولكنَّ المشهور أنه إذا حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه، كما قال ابن مالك:
وما يَلِي المضافَ يأتي خَلَفا *** عنه في الإعراب إذ ما حُذِفا
وربَّما جَرُّوا الذي أبْقَوْا كما *** لو كان قَبلَ حَذْفِ ما تقدَّما
قوله: «على عاقلته» «العاقلة» اسم فاعل من العقل، والعقل الدية، وسُميت عقلاً؛ لأنه جرت العادة أن الإبل المؤداة يؤتى بها إلى مكان أولياء المقتول، وتُناخ وتعقل بعُقلها، ولهذا تسمى الدية عقلاً، والمؤدون لها يسمون عاقلة.
والدليل على أن دية شبه العمد والخطأ على العاقلة ما ثبت في الصحيحين «في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ديتها على العاقلة» (1) ، أي: عاقلة القاتلة، فهذا دليل أثري.
__________
(1) سبق تخريجه ص (5) .(14/95)
وأما الدليل النظري: فهو أنه لمَّا كان الخطأ بغير قصد من الفاعل، كان من المناسب أن يخفَّف عنه في أداء الدية، وهو يتحمل الكفَّارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ لأن الكفارة حق لله تعالى، فهي عبادة يُلزم بها المكلف، وأما الدية فهي عبارة عن غرم كغرامة الأموال، فخفِّف عن هذا القاتل الذي لم يقصد القتل بأن حُمِّلته العاقلة، وهذا ـ والله أعلم ـ هو سرُّ تعبير القرآن حيث قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ولم يقل: «يسلِّمها» بل قال: {مُسَلَّمَةٌ} بالبناء للمفعول؛ لأن الذي سيسلم هذه الدية هم العاقلة.
قوله: «وإن غصب حراً» هذا من باب التسامح والتساهل في العبارة؛ لأن الحر لا يغصب، حيث إن اليد لا تثبت عليه، ولا تثبت اليد إلاَّ على الأموال، والحر ليس بمالٍ، حتى لو غصب وباعه الغاصب، فلا يصح البيع، لكن العبد يغصب؛ لأنه مال، لكن المؤلف يريد أنه إذا قهر حراً.
قوله: «صغيراً» أي: لم يبلغ، ومثله المجنون؛ لأن كلاً منهما ليس له قصد، ولا يتمكن من الامتناع.
قوله: «فنهشته حية» يعني إذا أكره الحرَّ الصغيرَ، وجاء به إلى بيته، واستخدمه كرهاً، فنهشته في البيت حية، فعليه ديته؛ لعدوانه عليه بإكراهه على أن يبقى في هذا المكان.
أمَّا لو كانت الحية أمامه فالأمر ظاهر، لكن لو لم تكن أمامه، بأن جاءت من خارج البيت، ونهشت هذا الصبي، فمات فإنه(14/96)
يضمن؛ لأنه معتدٍ بقهره واستيلائه عليه، ولولا أنه قهر هذا الصبي، أو هذا المجنون، حتى كان في هذا المكان لما أصيب بهذه الحية.
قوله: «أو أصابته صاعقة» كذلك لو أصابته صاعقة، قال الجوهري: هي نار تنزل من السماء فيها رعدٌ شديد.
والآن العلم الحديث يشهد لذلك، فإن الصاعقة عبارة عن كتلة كهربائية شديدة الحرارة، تنزل على هذا المكان، وتحرقه في لحظة، حتى أني قرأت في بعض المجلات أن الطاقة في الصاعقة الواحدة، لو تجتمع جميع مولدات الأرض كلها بأعلى طاقاتها ما ساوت هذه الصاعقة التي يخلقها الله بلحظة.
وهذه الصاعقة كان الناس يقولون: إنها حديدة تنزل من السماء، ويقولون: نحن شاهدنا ذلك، ولكن هذا ليس بصحيح، وإنما هي نار محرقة؛ ولهذا أحياناً تسقط على الأشجار فتشتعل ناراً، وتسقط على الحيوان، ويشاهد فيه لسعات من هذه النار، ولكن يظهر لي ـ والله أعلم، إن صح ما نُقل من أنهم وجدوا حديداً ـ أنها لمَّا ضربت الأرض انصهر الحديد واجتمع وأخرجُوه، وليست الصاعقة هي البرق، بل إنها تنزل مع البرق، وقد يكون برقٌ بلا صاعقة.
فهذا الطفل لمَّا غصبه الرجل، وأكرهه على الجلوس في بيته أنزل الله عليه صاعقة، وأهلكته، فالضمان على هذا القاهِر الذي أكرهه على الجلوس في بيته، ولا يقول: هذا هلك بفعل الله بآفة سماوية، ليس لي فيها دخل! بل نقول له: أنت اعتديت على هذا وحبسته في هذا المكان.(14/97)
قوله: «أو مات بمرض» أي: الصغير الذي حبسه هذا الإنسان لو مرض ومات فإنه يضمنه، وهذا إذا كان عبداً فظاهر أنه يضمنه؛ لأنه غاصب، وضمان العبيد ضمان مالٍ يضمنه الغاصب بكل حال، لكنه حر، فإذا مات بمرض فإنَّه يضمنه، مع أنهم يقولون: إن اليد لا تستولي على الحر، ولا ضمان له، ولهذا قيده بعض أهل العلم بأن المراد مات بمرض يختص بتلك البقعة، وهذا صحيح، أما لو مات موتاً عادياً بغير سبب يختص بهذه البقعة، فلا وجه لضمانه؛ لأن اليد لا تثبت عليه، لكن إذا مات بمرض يختص بتلك البقعة، مثل لو قهره وذهب به إلى أرض وَبِيئة، فمرض ومات، فلا شك أنه هو السبب في جلبه إلى هذه الأرض التي مات فيها بسبب الوباء.
وعلى هذا فإطلاق كلام المؤلف مرجوح، والصواب إذا مات بمرض يختص بتلك البقعة؛ لأنه هو السبب في مجيئه لهذه البقعة الموبوءة، وهذا إذا كان حراً، أما إن كان عبداً فإنه يضمنه مطلقاً؛ لأن ضمان العبد ضمان أموال، فإذا استولى عليه ضمن منافعه، وضمن نقصه إن نقص بمرض، وضمن كل آفة تحدث عليه؛ لأن استيلاءه عليه محرم.
فإن شككنا في سبب موت الحر، هل مات بسبب كونه في هذه البقعة، أو بسبب آخر خارجي؟ فالأصل عدم الضمان.
قوله: «أو غلَّ حراً مكلفاً وقيده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية» الصغير تقدم أنه بمجرد قهره وحبسه يضمنه إذا مات(14/98)
بالحية، أو بالصاعقة، أو بمرض يختص بالبقعة، أمَّا المكلَّف فذكر أنه لا بدَّ من أمرين: الأول: أن يغلّه، الثاني: أن يقيده.
فالغل في اليد، والقيد في الرِّجل، فإذا أخذ حراً وغلَّه وقيَّده وحبسه، ثم جاءت حية ونهشته فإنه يضمنه، وكذلك إذا أصابته صاعقة فإنه يضمنه؛ لأن سبب الموت اختص بهذه البقعة، فإن مات بمرض فظاهر كلام المؤلف أنه لا ضمان؛ لأنه قال: «فمات بالصاعقة أو الحية» ولكن الصحيح أنه إن مات بمرض يختص بتلك البقعة فإنه يضمنه؛ لأنه لا فرق بين الصغير وبين المكلف الذي غلَّه وقيده؛ لأنه إذا غلَّه وقيده فإنه لا يستطيع أن يتخلص، ولا أن يدافع عن نفسه، فكان حكمه حكم الصغير.
وهذه الأمثلة في مسألة الصغير، أو المكلف هي من باب السبب، لا من باب المباشرة.
* * *(14/99)
فَصْلٌ
وَإِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ، أَوْ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَهُ، أَوْ مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ، وَلَمْ يُسْرِفْ لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْدِيبُ لِحَامِلٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِيناً ضَمِنَهُ المُؤَدِّبُ،................
هذا الفصل مبني على قاعدة وهي: «ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون» ، وهي من أحسن قواعد الفقه.
قوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلِّم صبيَّه، ولم يسرف لم يضمن ما تلف به» .
فقوله: «وإذا أدَّب الرجل ولده» هذه الجملة نفهم منها أربعة شروط:
فقوله: «أدَّب» ، التأديب بمعنى التقويم والتهذيب، تقول: أدَّبته، أي: قوَّمت أخلاقه وهذَّبتها، فكلمة «أدَّب» يؤخذ منها ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون هذا الولد مستحقاً للتأديب، أي فعل ما يستحق التأديب عليه، أما لو ضربه بدون سبب فإنه ضامن.
الثاني: أن يكون هذا الولد قابلاً للتأديب، فإن كان غير قابل، وهو الذي لم يميز، أو لا عقل له ـ أي: المجنون ـ فهذا لا ينفع فيه التأديب، بل تأديبه عدوان.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب التأديب لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام لنفسه لم يكن مؤدِّباً بل منتصراً، وحينئذٍ يضمن ما ترتب على فعله.
وكثير من الناس يضرب ولده ضرباً شديداً، لا لأنه ترك(14/100)
خلقاً فاضلاً أمره به، لكن لأنه عانده وخالفه، فيضربه انتقاماً لنفسه وغضباً.
الرابع: قوله: «ولده» وهذا يشمل الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ، وقال تعالى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] .
وقوله: «ولده» الإضافة تقتضي الاختصاص، فيؤخذ من هذا شرط أن يكون له عليه ولاية، فإن لم يكن عليه ولاية، فلا حق له في ضربه، وإذا ترتب على ضربه شيء فإنه ضامن، لأنه لا حق له في هذا، مثل أبي أمٍّ يؤدب أولاد ابنته، فأدَبُهم ليس إليه، ولكنه إلى أبيهم.
وقوله: «رعيته» و «صبيه» يؤخذ منه أنه لا بد أن يكون للمؤدب ولاية التأديب، وإلا كان ضامناً.
وقوله: «أو سلطانٌ رعيَّتَه» فلا ضمان، أيضاً تراعى فيه الشروط الأربعة السابقة، والسلطان عندما يطلقه العلماء فإنهم يريدون به الرئيس الأعلى في الدولة، وقد يُراد به من دون ذلك، وهو من له سُلطة، فيشمل الأمير، والمحتسب، وما أشبه ذلك؛ لأن هؤلاء لهم سلطان على من تحت ولايتهم.
فالأمير مثلاً سلطانه على بلدته التي أُمِّر فيها، والمحتسب كذلك على بلدته التي أمر فيها، فالأحسن أن نقول في المراد بالسلطان: ذو السلطة على من أدَّبه، سواء كان السلطان(14/101)
الأعلى أو من دونه، فإذا أدب رعيته، وتمت الشروط فلا ضمان عليه.
وقوله: «أو معلمٌ صبِيَّهُ» الإضافة هنا على أدنى ملابسة، يعني الصبي الذي ينتسب إليه ولو بالتعليم، فإذا أدَّب صبيه وتمَّت الشروط فلا ضمان.
واستفدنا من كلام المؤلف أن للمعلم أن يؤدِّب الصبيان بالضرب، والضرب لا شك أنه وسيلة من وسائل التعليم والتأديب، وقد قال أحكم المؤدِّبين، وأرحم المؤدِّبين من الناس صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» (1) .
والفوضويون الذين يدَّعون التقدم الآن يقولون: لا تضرب الصغار؛ لأن الضرب ينافي التربية الحديثة! وهذه لا شك أنها خطة يراد بها أن يصبح الأولاد فوضويين، لا يستفيدون شيئاً.
فطالب له عشر سنوات لن ينتفع حين يقول له المدرس: يا بني، إنّ التعليم طيب، فلا تضيِّع الوقت؛ لأن الوقت من ذهب، فاحرص وقم بالواجبات.
فيقول له الطالب: أنا حين وصلت إلى البيت، وضعت الكتب، وذهبت ألعب! فهذا لا ينفعه الكلام، لكن لو مسَّه بعذاب
__________
(1) رواه أحمد (2/180) ، وأبو داود في الصلاة/ باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده به مرفوعاً، وأخرجه الترمذي بلفظ مقارب في الصلاة/ باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة؟ (407)
وصححه.
قال النووي: «رواه أبو داود بإسناد حسن» ، «الخلاصة» (687) .
والحديث صححه: ابن خزيمة، والحاكم، وغيرهما.(14/102)
فإنه سيقوم بالواجب، ولذلك فأنا أعتقد أن هذه الخطة مع مخالفتها للشرع، ولحكمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا شك أنها لا تجدي.
وقوله: «وإذا أدب الرجل ولده» ظاهره العموم، وأنه ما دام تحت رعايته فإنه مسؤول عنه، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول في رعيته» (1) ، فما دام أنه في بيته فهو مسؤول عنه، أما إذا انفصل فليس بمسؤول عنه، إلا إن كانت ولايته عامة، كما لو كان ذا سلطان في مكانه فله أن يؤدِّبه.
وأمَّا تأديب المعلم صبيه فالظاهر لي أن المعلِّم كل من يدرس عنده فله أن يؤدِّبه، حتى لو كان أكبر منه.
وقوله: «ولم يسرف» هذا هو الشرط الخامس، والإسراف مجاوزة الحد بالكمية أو بالكيفية، فإذا قدَّرنا أنه يتأدَّب بضربتين، صارت الثالثة إسرافاً، وإن كان يتأدب بعشر صارت الحادية عشرة إسرافاً، وكذلك بالكيفية فإذا قدَّرنا أنَّه يتأدب بضرب بسيط فلا نضربه ضرباً شديداً، ولا نضربه ـ أيضاً ـ في أمكنة تضره، كالوجه، والمقاتل، وشبهها فإن هذا إسرافٌ، فالإسراف إذاً مجاوزة الحد كمية أو كيفية، ويدخل في الكيفية موضع الضرب، ويدخل فيه ـ أيضاً ـ أن الناس يختلفون، فتحمُّل الكبير للضرب ليس كتحمل الصغير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الجمعة في القرى والمدن (893) ، ومسلم في الإمارة/ باب فضيلة الإمام العادل
وعقوبة الجائر ... (1829) (20) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(14/103)
فصارت الشروط خمسة:
الأول: أن يكون المؤدَّب مستحقاً للتأديب.
الثاني: أن يكون المؤدَّب قابلاً للتأديب.
الثالث: أن يقصد المؤدِّب بذلك التأديب، لا الانتقام لنفسه.
الرابع: أن تكون له ولاية التأديب، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة.
الخامس: ألاَّ يسرف، فإن أسرف كان ضامناً؛ لأنه معتدٍ، والله تعالى يقول في النساء الناشزات: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ، والآية مطلقة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن أنه ضربٌ غير مبرِّح (1) .
قوله: «ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمِنه المؤدِّب» الزوج يُتَصَوَّر أن يؤدب امرأته بأن تكون ناشزة، والله تعالى قال: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} .
وكذلك المعلِّم قد يؤدِّب امرأة حاملاً؛ لأنه يجوز للمعلم الذكر أن يُعَلِّم النساء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم النساء، وجئن إليه مرة يطلبن منه وعظاً، وقلن له: إن الرجال غلبونا عليك، فاجعل لنا من نفسك يوماً تعلمنا فيه مما علمك الله، فوعدهن في بيت امرأة منهن، وأتى إليهن ـ عليه الصلاة والسلام ـ ووعظهن، وهذا
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) (147) عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما.(14/104)
ثابت في البخاري (1) ، وسواء كان المعلم أعمى أو مبصراً، لكن المبصر لا بد أن يكون بينه وبين النساء حجاب.
وكذلك السلطان يملك أن يؤدب امرأة حاملاً من رعيته، فإن كان التأديب لحامل، وهي لم تتضرر، ولكن أسقطت جنيناً فإن المؤدب يضمنه، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مقدار دية الجنين، ومتى يضمن.
وظاهر كلام المؤلف أن المؤدب يضمنه مطلقاً؛ لأن الجناية هنا تعدت إلى الغير، والجنين لم يفعل ما يستحق التأديب عليه حتى نقول: إنه تلف بتأديبه، فلما تعدى حكم التأديب إلى الغير صار مضموناً؛ لأن ضمان الآدمي لا يشترط فيه التحريم، فيضمن حتى لو فعل الإنسان ما يباح له، وقد سبق لنا أن الإنسان لو رمى صيداً فأصاب إنساناً ضمنه، فعلى هذا إذا أدب الرجل امرأة حاملاً فأسقطت جنيناً، فعليه ضمانه، وأما هي فإذا تمت الشروط الخمسة فلا ضمان.
وَإِنْ طَلَبَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً لِكَشْفِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، أَوِ اسْتَعْدَى عَلَيْهَا رَجُلٌ بالشُّرَطِ فِي دَعْوَى لَهُ فَأَسْقَطَتْ ضَمِنَهُ السُّلْطَانُ وَالْمُسْتَعْدِي، وَلَوْ مَاتَتْ فَزَعاً لَمْ يَضْمَنَا،................
قوله: «وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى» بأن اتُّهِمَت بشيء من حقوق الله عزّ وجل، فطلبها وأمرها أن تحضر، فأسقطت جنينها من الروعة، فإنه يضمنه؛ لأن هذا الأمر تعدى إلى الغير.
وظاهر كلام المؤلف سواء طلبها لحق الله عزّ وجل وهي ظالمة، أو طلبها وهو الظالم، أو طلبها قبل أن يتبين الأمر،
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ بابٌ هل يَجْعَلُ للنساء يوماً على حدة في العلم؟ (102) عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه.(14/105)
فيضمنها السلطان مطلقاً في الأحوال الثلاثة، ولكن بعض أصحابنا ـ رحمه الله ـ قيد هذا بما إذا لم تكن ظالمة، وقال: إن كانت ظالمة فهي الجانية على نفسها، وهذا القول له وجه قوي؛ لأن طلب السلطان إياها في حال الظلم مأمور به شرعاً، والقاعدة العظيمة النافعة «أن ما ترتب على المأذون فغير مضمون» لا سيما إذا كان السلطان لا يعلم عن حال المرأة، هل هي حامل أو لا؟ ولا يعلم هل هي من النساء اللاتي يفزعن بأدنى سبب، أو لا؟
ثم على القول بالضمان فظاهر كلام المؤلف أن السلطان يضمنها ضمان شخص، يعني ضماناً شخصياً، لا ضمان ولاية، بمعنى أن الدية تكون على عاقلته، وكأنما قتل شخصاً عادياً.
ولكن القول الراجح ـ على القول بالضمان ـ أن الدية في بيت المال؛ لأن السلطان يتصرف لحقوق المسلمين بالولاية، فلو أننا ضمنَّاه كل شيء يكون من تصرفه لاجتحنا ماله، ومال عاقلته، نعم لو تيقنَّا أن السلطان ظالم، فهنا يتوجَّه أن يكون الضمان عليه، أو على عاقلته، حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قوله: «أو استعدى عليها رجل بالشُّرَط في دعوى له فأسقطت» «استعدى» بمعنى أقام دعوى عليها، ولكنه استعان بالشرط، والشُّرط: جمع شُرْطة، كحجة جمعها حُجَج، والشرطة جمع شُرَطي.
مثاله: رجل أقام على حاملٍ دعوى، وذهب إلى الشرطة، وقال: أنا أدعي على فلانة كذا وكذا، فقال الضابط للشرط: اذهبوا وائتوا بها، فذهب رجلان من الشرطة بلباسهما الرسمي،(14/106)
وقالا للمرأة: تعالي معنا، ففزعت المرأة، وأسقطت الجنين.
قوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أي: ضمنه السلطان في المسألة الأولى، والمستعدي في المسألة الثانية؛ لأنه هو السبب في هلاك هذا الجنين، فكان عليه الضمان.
وظاهر كلام المؤلف ـ أيضاً ـ ولو كان المستعدي مستحقاً للاستعداء، وكانت هي ظالمة، فإن الضمان على المستعدي.
ولكن في هذا الظاهر نظر، فإنه إذا كان على حق، ولم يعلم عن حال المرأة، فكيف نضمِّنه؟! أما إذا كان يعلم أن هذه المرأة من النساء اللاتي يفزعن، وأنَّه يخشى على حملها، فربما يقال: إن تضمينه له وجه.
وقوله: «ضمنه السلطان والمستعدي» أفلا يكون هذا ناقِضاً لقاعدة: «إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر» ؟
فهنا عندنا متسبب وهو المستعدي، وعندنا مباشر وهم الشرط، وإنما جعلنا الضمان على المستعدي ـ أي: المتسبب ـ لأن المباشرة مبنية على السبب، وذلك أن الشُّرط مأمورون شرعاً بأن يستجيبوا لمثل هذه الدعاوى، فهو كحكم الحاكم بشهادة الشهود الذين قالوا: إنما تعمَّدنا قتله، ورجعوا عن شهادتهم فالضمان على الشهود، فكذلك هنا نجعل الضمان على المستعدي؛ لأن الشُّرَط عبارة عن آلة لهذا الرجل.
قوله: «ولو ماتت فزعاً لم يضمنا» هذه المرأة لما جاءها مندوب السلطان الذي طلبها لكشف حق الله، فزعت، وماتت سريعاً، فليس عليهما الضمان.(14/107)
فإن قيل: كيف لا يكون عليهما الضمان، مع أنه لولا مندوب السلطان لم تمُت؟
الجواب: أن مثل هذا لا يحصل به الموت عادة، وما لم يكن معتاداً فليس فيه ضمان، كما لو دخَلْتَ على شخص وسَلَّمْتَ عليه، وهو يهابُك هيبة عظيمة، فلما صافحته وهززت يده مات، فهنا لا تضمنه؛ لأنه لم تجرِ العادة بأن يموت الإنسان بمثل هذا العمل.
وهناك قول آخر ـ وهو المذهب ـ أنهما ضامنان؛ لأنها هلكت بسببهما، ولكن يجاب عنه بما سبق، من أن مثل هذا الفعل ليس سبباً للقتل إطلاقاً، وقد جرت عادة الناس بمثله.
وَمَنْ أَمَرَ شَخْصاً مُكلَّفاً أَنْ يَنْزِلَ بِئْراً، أَوْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَهَلَكَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ،......
قوله: «ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة، فهلك به لم يضمنه» .
فقوله: «شخصاً» أي: ذكراً أو أنثى.
وقوله: «مكلفاً» أي: بالغاً عاقلاً.
وقوله: «لم يضمنه» أي: الآمر.
فلو أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، فلما نزل زلَّت قدمه فسقط في البئر فمات، فلا ضمان على الآمر؛ لأن النازل بالغ عاقل يعرف الذي ينفعه، والذي لا ينفعه، وكان بإمكانه أن يقول: لست بنازل، إلاَّ إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سبباً للهلاك، ولم يخبره، كأن تكون البئر ملساء، لا يستطيع الإنسان النزول فيها، لكنه لم يُعلمه ذلك، فعليه الضمان؛ لأنه غرَّه،(14/108)
وكذلك لو كان في البئر حية، وإذا أحسَّت بإنسانٍ وشَّت عليه، فلما نزل هذا الرجل وشَّت عليه فارْتَبَكَ وسقط، فعليه الضمان؛ لأنه مفرِّط بعدم تنبيه هذا الرجل على ما في البئر من أسباب الهلاك.
وكذلك لو كانت البئر قديمة ولم يُخبره، فلما نزل انهدمت عليه، فعليه الضمان، وعلى هذا فكلام المؤلف يحتاج إلى قيد، وهو إذا لم يكن منه تفريط بإعلامه بما يكون سبباً لهلاكه، فإن كان منه تفريط في ذلك فعليه الضمان.
مسألة: لو تحدَّى رجُل آخر بشيء كان سبباً في هلاكه، فهل عليه الضمان؟
مثاله: رجل قال: من أكل هذا الخروف كاملاً فله كذا وكذا من المال، فلو أكله رجل حتى انتفخ بطنه ومات، فلا ضمان على المتحدي؛ لأن الرجل لم يجبره أحدٌ على أكل الخروف.
وكذلك لو أَمره أن يصعد شجرة نخلٍ مثلاً، وكان الرجل عاقلاً بالغاً، فصعدها، ثم سقط ومات، فهنا ليس على الآمر ضمان؛ لأن المأمور بالغ عاقل.
وعُلِم من قول المؤلف: «ومن أمر» أنه لو أكرهه على ذلك فعليه الضمان؛ لأنه تسبب في هلاكه بغير اختيار الهالك، فصار معتدياً، والمعتدي عليه الضمان.
وعُلم من قول المؤلف: «من أمر شخصاً مكلفاً» أنه لو أمر غير مكلَّف فعليه الضمان مطلقاً، وهذا هو المشهور من المذهب، لكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان المأمور مميزاً ـ أي:(14/109)
يفهم الخطاب ـ له سبع سنوات أو نحوها، وكان هذا الأمر مما جرت به العادة أن يؤمر مثله فإنه لا ضمان، مثال ذلك: قلتَ لصبي عمره عشر سنوات: اشترِ لي بهذا الدرهم خبزاً، فذهب الصبي، وقدر الله على هذا الصبي أن انزلق في الطريق ومات، أو حصل حريق في المخبز وتلف به هذا الصبي، فظاهر كلام المؤلف أنك ضامن؛ لأنه غير مكلَّف، ولكن بعض أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قالوا: لا ضمان إذا كان ذلك مما جرت به العادة؛ لأنه ما زال الناس منذ عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا يرسلون المميزين في مثل هذه الأشياء القليلة السهلة، ولا يعدون ذلك عدواناً، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وَلَوْ أَنَّ الآمِرَ سُلْطَانٌ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ سُلْطَانٌ أَوْ غَيْرُهُ.
قوله: «ولو أنَّ الآمر سلطان» «لو» إشارة خلاف، فإن بعض أهل العلم يقول: إذا كان الذي أمره أن ينزل البئر، أو يصعد الشجرة سلطان وهلك فعلى السلطان الضمان؛ لأن أمر السلطان لا يسع الإنسان مخالفته، لا سيما إذا كان السلطان من الظلمة الذين إذا خولفوا حبسوا، أو ضربوا، أو ما أشبه ذلك، أما إذا كان السلطان من السلاطين العابدين الذين إذا قلت لهم: لا أستطيع صعود الشجرة لم يُلزمك، فإنه هنا لا وجه لتضمين السلطان؛ لإمكان هذا المأمور أن يقول: لا أستطيع.
والصحيح في مسألة السلطان أنه إذا كان السلطان ممن يخشى شرُّه بحيث إذا أبيت حبسك، أو ضربك، أو هضمك مالاً، أو ظلمك في أهلك، فإن أمره مثل الإكراه، وعلى هذا فيكون ضامناً.(14/110)
وأما إذا كان السلطان من ذوي العدل والرحمة الذين إذا قلت: لا أستطيع قال: إذن نطلب غيرك، فإنه لا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه كسائر الناس، فلم يُكرهه.
فإذا كان الآمر هو الضابط في الجيش، أو الشرطة، وقال لأحد الجنود: اصعد عمود الكهرباء هذا وركِّب لنا المصباح، فقال الجندي: لا أستطيع، فقال له الضابط: حاول الصعود، ولم يُكرهه أو يضربه، فصعد الجندي ثم سقط فهنا يضمن الضابط؛ لأن أوامره عند الجنود واجبة الطاعة، ومخالفته توجب العقوبة، من حبسه أو توقيفه أمام الجنود، أو عزله، أو تنزيل رتبته، فالمهم أن هذا يكون كالإكراه.
قوله: «كما لو استأجره سلطان» يعني أن السلطان لو استأجر أحداً ليصعد شجرة، أو ينزل بئراً فهلك به لم يضمنه، وهذا واضح.
والمؤلف هنا قاس ما يشتبه فيه على ما هو واضح، فقال: «كما لو استأجره سلطان» ، ووجه ذلك أنَّ الأمر غير عقد الإجارة، لأن عقد الإجارة الرضى فيه واضح، وليس فيه آمِر ومأمور؛ إذ إنَّه عقد تام بين شخصين برضىً منهما، وليس أحدهما آمراً للآخر، وعدم الضمان فيه ظاهر جداً، فهو كما لو استأجره سلطان على أن يصعد شجرة، أو ينزل بئراً لهلك به فلا ضمان، فكذلك لو أمره، والجامع بينهما هو الرضا وعدم الإكراه في كل منهما، فهنا قاس ما يشتبه فيه على ما لا يشتبه فيه، وقد اشتهر عند العامة التفريق بين الاستئجار وغيره، فقالوا: إن استأجرته(14/111)
فديته أُجرته، وإن نزل تبرعاً فعليك ضمانه، ولكن هذا لا أصل له، ولا فرق بين الأمر وبين الاستئجار، إذا كان الأمر ليس فيه إكراه أو غيره.
قوله: «أو غيره» أي: لو استأجره غير السلطان، فلو استأجرت إنساناً أن يصعد لك شجرة، أو أن ينزل بئراً، فهلك فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه فعل ذلك برضاه واختياره.
وبهذا نعرف خطأ تلك القوانين التي قُنِّنَت في بعض الدول، أن العامل لدى الشركات يكون مضموناً بكل حال، حتى لو كان بالغاً عاقلاً مختاراً، وحتى لو كان غير مغرور، بأن عرف عمله وخطره إن كان فيه خطورة، فهذا حكم طاغوتي مخالف لحكم الشريعة، ولا يجوز العمل به، ويجب أن يحكم فيه بمقتضى شريعة الله، فيقال: إن هذا العامل غير مضمون؛ إلاَّ إذا كان مكرهاً على العمل فيكون مضموناً.
فإن قلت: أليس هذا قانوناً دولياً عاماً؟
الجواب: لا، بل القانون الدولي العام هو قانون الله ـ عزّ وجل ـ، وليس لأحد من عباد الله أن يُقنِّن في عباد الله ما ليس في شريعة الله، فالحكم لله ـ عزّ وجل ـ وحده، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [يوسف: 40] ، فأي إنسان يشرع قوانين تخالف شريعة الله فقد اتخذ لنفسه جانباً من الربوبية، وشارك الله ـ تعالى ـ فيما هو من خصائصه، فلا أحد يحكم في عباد الله إلاَّ بما اقتضاه شرع الله، وعلى هذا نقول: إن القانون الدولي العام، والشعبي الإفرادي هو قانون الله عزّ وجل، الذي شرعه لعباده،(14/112)
وكل القوانين سوى ذلك فإنها باطلة؛ لأنها ناقصة وقاصرة، حتى لو اجتمع أذكياء العالم على مشروعيتها فإنها ناقصة قاصرة، لا تفي بأي غرض من الأغراض، وإن وَفَتْ بغرض من جانب هدمت أغراضاً أخرى من جوانب أخرى، وإن قدر أنها تخدم غرضاً من جانب، فإنها لا تخدم هذا الغرض إلا في أناس معينين، وفي مكان معين، وفي زمان معين، أما الأحكام الصالحة لكل زمان ومكان فإنها أحكام الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وبهذا نعرف خطورة الذهاب هذا المذهب، وهي أن نسن القوانين الوضعية التي لم يضعها الشرع ونحكم بها عباد الله، ونجعل التحاكم إليها لا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد نوَّه الله ـ تعالى ـ عن أحوال هؤلاء فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] ، وتأمل كلمة {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} ، فهم في الحقيقة غير مؤمنين، بل هو زعم فقط، والزعم قد يوافق الواقع وقد لا يوافقه، فهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك بألسنتهم، لكن قلوبهم على العكس من ذلك لقوله: {يُرِيدُونَ} والإرادة محلها القلب {أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} ، ولو كانوا صادقين في إيمانهم لكفروا بهذا الطاغوت، ولم يريدوا أن يتحاكموا إليه، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} ، وعلى هذا فهم موافقون لمراد الشيطان لا لمراد الرحمن {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} أي: إلى الكتاب والسنَّة فلا يُصرِّحون بقولهم: لا،(14/113)
حتى لا يظهر كفرهم، ولكنهم {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} أي: يعرضون، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا *} ، أي: أردنا أن نحسن وأن نوفِّق بين الشريعة والوضيعة، وهل هم صادقون؟ قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا *} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 63 ـ 64] لا ليتلاعب بأحكامه وتترك، ويراد التحاكم إلى الطاغوت.
واعلم أنَّ الناس لو جعلوا التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحكَّموا الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيءٍ لصلحت أحوالهم، ولكنها تفسد بمقدار ما أبعدوا عن الدين، فيظنون أن هذا الفساد بسبب تمسكهم بما تمسكوا به من الدين، فَيُوغِلُون في الإعراض عن دين الله، وعن التحاكم إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الواقع، يظنون أن ما أصابهم من الخلل الاقتصادي، والمادي، والتخلف المعنوي، والعسكري، بسبب ما هم عليه من أحكام الشريعة، والحقيقة أنه بسبب ما قاموا به من مخالفة الشريعة، ولو أنهم وافقوا الشريعة، لكانت هذه شريعة الله العادلة القاهرة الغالبة، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9] {لِيُظْهِرَهُ} بمعنى لِيُعْليه، ولسنا بحاجة إلى بيان ذلك؛ لأن هذا معلوم بالتاريخ، فلمَّا كانت الأمة متمسكة بدين الله، لا تقاتل إلاَّ بكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم مستعينة بالله عزّ وجل، سقطت الأديان والإمبراطوريَّات أمامها،(14/114)
فسقطت النصارى بسقوط الروم «هرقل» ، وسقط دين المجوس بسقوط كسرى، وسقط دين المشركين بفتح مكة، فسقطت الأديان كلها، ومَلَكَ المسلمون مشارق الأرض ومغاربها، ولما حصل ما حصل من مخالفة الشريعة تفرَّقت الأمة، وتنازعت، وصار بأسها بينها، وتغلَّب عليها أعداؤها، فصاروا يأتون الأرض ينقصونها من أطرافها، فأخذوا الأندلس، وأخذوا الشام، ومصر، والعراق، وغير ذلك، وكل ذلك بسبب البعد عن شريعة الله، وإننا ندعو إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ونضمن لكل من رجع بصدق وإخلاص في ظاهره وباطنه، في روحه وقالبه، نضمن له أن ينتصر على أعدائه مهما كانت الظروف؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] بل أبلغ من ذلك أننا نضمن له أن يكون عدوه ـ ولو كان بينه وبينه مسافة شهر ـ راهباً وخائفاً منه، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم/ باب (335) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (
521) (3) عن جابر رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.(14/115)
بَابُ مَقَادِيرِ دِيَاتِ النَّفْسِ
دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ، أَوْ أَلْفُ مِثْقَالٍ ذَهَباً، أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً، أَوْ مِائَتَا بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفَا شَاةٍ،........
قوله: «مقادير ديات النفس» «مقادير» جمع مقدار، يعني القدر الذي تكون عليه الدية، والباب هنا بيان للمقادير والكيفيات أيضاً، فهو بيان للكمية والكيفية.
وأصل الدية ثابت في القرآن والسنة، لكن تفصيل الدية إنما جاء في السنة؛ لأن السنة تبين القرآن، وتفسِّره، وتعبِّر عنه.
قوله: «دية الحر المسلم» هذان شرطان: الأول: أن يكون حراً، الثاني: أن يكون مسلماً، فخرج بالحر العبد المملوك، وبالمسلم من ليس بمسلم.
وعموم قول المؤلف: «الحر المسلم» يشمل الكبير والصغير؛ لأنه لم يقيد، ويشمل العاقل والمجنون، ويشمل العالم والجاهل، ويشمل الذكر والأنثى، لكن الأنثى سيتبين فيما بعد إخراجها من هذا العموم، ويشمل المريض والصحيح، والأخرس والناطق، والأعمى والبصير، والأصم والسميع، والمريض مرضاً مخوفاً، وغير ذلك.
قوله: «مائة بعير» وسيأتي بيان أسمائها.
قوله: «أو ألف مثقال ذهباً» «ذهباً» تمييز لـ «ألف مثقال» ، يعني ألف مثقال من الذهب، وكان الدينار في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم يساوي مثقالاً من الذهب، ولهذا جاء في حديث عمرو بن حزم: «وعلى(14/116)
أهل الذهب ألف دينار» (1) ، وإذا كان الدينار مثقالاً، صار ألف دينار يساوي ألف مثقال، وإنما عدل المؤلف عن ألف دينار إلى ألف مثقال؛ لأن الدنانير قد تختلف، فمثلاً الدينار السعودي ثمانية مثاقيل، بينما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي صدر الإسلام مثقالاً واحداً.
قوله: «أو اثنا عشر ألف درهم فضة» «فضة» تمييز، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فيكون الدرهم الإسلامي أقل من الدينار الإسلامي، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، فالاثنا عشر ألفاً من الدراهم تساوي ثمانية آلاف وأربعمائة مثقال من الفضة.
وعندما نحوِّل الاثني عشر ألف درهم إلى الجنيهات الموجودة الآن، والجنيه يساوي ثمانية مثاقيل، تساوي ألفاً وخمسين جنيهاً.
وكل مائتي درهم تساوي ستة وخمسين ريالاً سعودياً، فتكون الدية ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين ريال فضة سعودياً.
قوله: «أو مائتا بقرة أو ألفا شاة» دية البعير تختلف قيمتها
__________
(1) هذه إحدى روايات حديث عمرو بن حزم، أخرجها النسائي في القسامة/ باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول
... (8/57 ـ 58) ، والدَّارمي في الديات/ باب كم الدية من الورق والذهب؟ (275) ، والحاكم (1/395 ـ 397) ،
والطبراني في الأحاديث الطوال (1/310) ، وابن حبان (6525) ط. الأفكار الدولية، والبيهقي (4/89) ، وأخرجه مختصراً
مالك (2/849) ، قال ابن عبد البر في كتاب عمرو بن حزم: «هو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل
العلم معرفة نستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في حجيته لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة. التمهيد (
17/338) ، وانظر: نصب الراية (2/339 ـ 341) .(14/117)
باختلاف الأزمان واختلاف الأمكنة، وكذلك مائتا بقرة وألفا شاة، فلا يمكن ضبطها بالدراهم والدنانير، والدراهم والدنانير ثابتة غالباً، الدراهم اثنا عشر ألف درهم، وبالمثاقيل ثمانية آلاف وأربعمائة مثقال، والدنانير ألف دينار، وهي ألف مثقال، والمثقال بالغرام يساوي أربعة غرامات وربعاً، وبهذا يمكن أن تقيس جميع دراهم العالم ودنانيره، وتعرف مقدار الدية بالذهب والفضة في أي مكان.
أما الإبل، والبقر، والغنم، فهذه خاضعة للقبول والعرض، والكثرة والقلة، وتختلف باختلاف الزمان والمكان.
هذِهِ أُصُولُ الدِّيَةِ، فأيَّهَا أَحْضَرَ مَنْ تَلْزَمُهُ لَزِمَ الْوَلِيَّ قَبُولُهُ، فَفِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَشِبْهِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً،....................
قوله: «هذه أصول الدية» «هذه» اسم إشارة، والمشار إليه خمسة الأصناف السابقة، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، فهذه هي أصول الدية، وهذا الذي مشى عليه المؤلف إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله.
والرواية الثانية أن هناك أصلاً سادساً وهو الحُلَل، جمع حلة، وهي إزار ورداء، والدية من الحلل مائتا حُلَّة.
والرواية الثالثة أنَّ الأصل الإبل فقط، وما عداها فهو مقوَّم بها، وليس أصلاً؛ وذلك لأنَّ جميع الأعضاء التي فيها مقادير تقدّر بالإبل، ففي الموضحة خمس من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الأصبع عشر من الإبل، فالشارع دائماً يقدر أجزاء الدية بالإبل، فدل هذا على أنه هو الأصل، وأن ما ذكر من الفضة، والذهب، والبقر، والغنم فهو من باب التقويم، وتابع(14/118)
لها، وليس أصلاً، وهذا هو ظاهر كلام الخرقي ـ رحمه الله ـ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من الأصحاب، وهذا هو الذي عليه العمل عندنا، فلا يزال الناس من قديم الزمان يحكمون بأن الأصل في الدية الإبل، والدية عندنا الآن تقدَّر بمائة ألف ريال، ولو كانت الفضة أصلاً لكانت دية الإنسان ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين ريال فضة.
قوله: «فأيها أحضر من تلزمه لزم الوليَّ قبوله» فـ «أيَّها» بالنصب، مفعول به مقدّم لـ «أحضر» ، و «من» فاعل.
وقوله: «تلزمه» لم يقل: القاتل؛ لأن الدية قد تكون على العاقلة لا على القاتل، فأتى بقوله: «من تلزمه» ليكون عاماً في القاتل والعاقلة.
وقوله: «لزم الوليَّ قبولُه» لم يقل: المجني عليه؛ لأنه قد يكون ميتاً، وقد يكون حياً؛ لأنه سيأتينا في دية الأعضاء أنه لو قطع يديه لزمه دية كاملة؛ ولهذا لو قال المؤلف: «لزم من هي له قبوله» لكان أعم.
على كل حال إذا أحضر الجاني مائة من الإبل، فقال الذي له الدية: أنا أريد ألف مثقالٍ ذهباً، نقول له: الأمرُ ليس لك، بل للجاني.
وكذلك لو أحضر الجاني ثمانية آلاف، وأربعمائة مثقال فضة، فقال من له الدية: أنا أريدها من الإبل، نقول له: الأمر ليس إليك.
ومن هذا الحكم نعرف أنه لوحظ في رفع الدية التخفيف(14/119)
على من تلزمه؛ لأن الخيار له، أما إذا قلنا بأن الأصل هو الإبل، فإنه إذا أحضر ما سواها فلا بد من موافقة من هي له، وعلى هذا القول لو أحضر الجاني الدية اثني عشر ألفاً من الفضة، فقال من هي له: أنا أريد إبلاً، فهنا يُلزم الجاني بإحضار الإبل، حتى لو كانت الاثنا عشر تعادل مائة من الإبل، أو أكثر منها، لكن إذا رأى ولي الأمر أن تؤخذ الديات من صنف من هذه الأصناف، وأنه من المصلحة، حتى لا يحصل النزاع، فله ذلك.
قوله: «ففي قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة» فقوله: «ففي قتل العمد» يجوز أن نقدر المبتدأ محذوفاً تقديره: «الواجب خمس وعشرون» .
ولنا أن نقول: «ففي قتل العمد» خبر مقدم، و «خمس وعشرون» مبتدأ مؤخر.
وعلم من قوله: «ففي قتل العمد وشبهه» أن العمد وشبهه متفقان في أسنان الإبل.
وقوله: «خمس وعشرون بنت مخاض» بنت المخاض هي بكرة لها سنة، سميت بذلك؛ لأن أمها تكون ماخضاً في الغالب، أي: حاملاً.(14/120)
وقوله: «وخمس وعشرون بنت لبون» أي: بكرة لها سنتان؛ لأن أمها صارت ذات لبن غالباً.
وقوله: «وخمس وعشرون حقة» وهي بكرة لها ثلاث سنوات، سميت حقة؛ لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
وقوله: «خمس وعشرون جذعة» هي بكرة تم لها أربع سنوات.
فلو أن من تلزمه الدية جاء بخمس وعشرين بنت لبون، وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين جذعة، وخمس وعشرين ثنية.
فقال من له الدية: لا أقبل، فهل يلزمه قبولها؟
هذه المسألة سبقت في باب السلم عند قول المؤلف: «فإن جاء بما شرط، أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله، ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه» وأن المذهب يرون لزوم قبول الصفات دون الأعيان، فإذا جاءه قبل مَحلِّه أو جاءه بأجود، أو أبرأه من الدَّيْن لزمه القبول، وسبق أن الأصح في ذلك التفصيل، فإذا خاف أن هذا الذي أعطاه أجود أن يمنَّ عليه فلا نُلزمه بالقبول، أما إذا كان لا يتضرر المدفوع إليه بهذه الزيادة، لا حالاً ولا مستقبلاً فإنه يجب عليه القبول، ولنا في ذلك أصل وهي قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ مع محمد بن مسلمة وجاره حينما امتنع أن يجري الماء من ملكه إلى ملك الآخر، فقال له عمر ـ رضي الله عنه ـ: «لأجرينَّه ولو على بطنك» (1) .
__________
(1) أخرجه مالك في الأقضية/ باب القضاء في المرفق (1463) ، ومن طريقه أخرجه الشافعي في مسنده (1098) ،
والبيهقي في سننه (11662) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه به، وصححه الحافظ في الفتح (5/133) .(14/121)
وأبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حينما كان أميراً على المدينة قال: «والله لأرمين بها بين أكتافكم» (1) فيمن منع جاره مِن وضع الأخشاب فوق جداره.
وَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ أَخْمَاساً، ثَمَانُونَ مِنَ الأَْرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعِشْرُونَ مِنْ بَنِي مَخَاضٍ،.........
قوله: «وفي الخطأ تجب أخماساً، ثمانون من الأربعة المذكورة وعشرون من بني مخاض» «أخماساً» حال.
هذه الدية فيها تخفيف؛ لأننا أدخلنا فيها الذكور، والذكور عند الناس أقل رغبة من الإناث، فتكون دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بنت لبون، وعشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بني مخاض، يعني ذكوراً لكل واحد سنة.
وهذا التقسيم إذا كان الواجب دية كاملة، أما إذا كان الواجب بعض الدية فهل نعامل هذا البعض معاملة الكل؟ نعم، فمثلاً إذا كانت الموضحة عمداً ففيها خمس من الإبل، واحدة بنت مخاض، والثانية بنت لبون، والثالثة حقة، والرابعة جذعة، والخامسة وسطاً على قدر القيمة.
أما إذا كانت الموضحة خطأ فهي أخماس، واحدة بنت مخاض، والثانية بنت لبون، والثالثة حقة، والرابعة جذعة، والخامسة ابن مخاض.
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبةً في جداره (2463) ، ومسلم في المساقاة/ باب
غرز الخشب في جدار الجار (1609) (136) .(14/122)
والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الدية (1) على نحوٍ مما ذكره المؤلف.
وهناك سُنَّة أخرى في هذه المسألة، وهي أن الدية تجب أثلاثاً، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفَة ـ أي: حاملاً ـ في بطونها أولاد (2) .
وكلتاهما صح فيها الحديث، فمن العلماء من أخذ بهذا، ومنهم من أخذ بهذا، والأخير أغلظ من الأول، فإن قيل: أي القولين نسلك؟
فالجواب: يمكن أن نرد ذلك إلى رأي الحاكم الشرعي، فإذا رأى أن يجعلها هكذا فعل، وإذا رأى أن يجعلها هكذا فعل، حسب ما تقتضيه الأحوال، وأما المذهب فإنها متعيِّنة في الأسنان الأربعة، في العمد وشبهه، وفي الخطأ في الأسنان
__________
(1) أخرجه أحمد (1/450) ، وأبو داود في الديات/ باب الدية كم هي؟ (4545) ، والنسائي في القسامة/ باب ذكر أسنان
دية الخطأ (8/43) ، والترمذي في الديات/ باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟ (1386) ، وابن ماجه في الديات/ باب
دية الخطأ (2631) .
قال الترمذي: «لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد الله موقوفاً» ، وضعفه الدارقطني من عدة وجوه،
انظر: السنن (3364) ط. الرسالة وصحح الموقوف، ونصب الراية (4/357) ، وخلاصة البدر المنير (2235) ،
والتلخيص (1695) .
(2) أخرجه الترمذي في الديات/ باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل؟ (1387) ، وابن ماجه في الديات/ باب من قتل
عمداً فرضوا بالدية (2626) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال الترمذي: «حديث حسن غريب» .(14/123)
الخمسة، وبهذا نعرف أن العمد وشبه العمد من ناحية الدية يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء، فيشتركان في تغليظ الدية، فكلاهما الدية فيه مغلظة، ويختلفان في التحميل والتأجيل، فشبه العمد على العاقلة مؤجلاً ثلاث سنوات، والعمد على الجاني حالًّا.
ويشترك الخطأ وشبه العمد من ناحية الدية في أنها على العاقلة، ومؤجلة بثلاث سنوات، ويختلفان في التغليظ.
والحكمة في هذا الاختلاف، قالوا: لأننا إذا نظرنا إلى القصد في شبه العمد ألحقناه بالعمد، وإذا نظرنا إلى عدم قصد القتل ألحقناه بالخطأ، فروعي فيه الأمران، فبالنظر إلى أنه عمد غلَّظناه، وبالنظر إلى أن القاتل لم يقصد القتل خففناه، وجعلنا الدية على العاقلة مؤجلة ثلاث سنوات.
واعلم أن التغليظ خاص بالإبل فقط، أما سائر الأصناف فلا تغلظ، فلا يلزم ـ مثلاً ـ أن يدفع ذهباً عيار أربعة وعشرين، فما دام أنه ذهب فإنه يجزئ بشرط عدم كونه معيباً.
وكذلك لا تغليظ في البقر، بل تدفع نصفها مسنَّات، ونصفها أتبعة، وفي الغنم نصفها ثنايا، ونصفها أجذعة، إذا كانت من الضأن، أما إذا كانت من المعز فكلها ثنايا، وليس فيها تغليظ، فلا فرق بين العمد، وشبه العمد، والخطأ، وهذا مما يدل على أن دية الإبل هي الأصل.
وهل هناك تغليظ بزمان أو مكان؟(14/124)
في ذلك خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى أنه لا تغليظ في الزمان، ولا في المكان؛ لأن الأدلة عامة، وليس فيها تفصيل.
ومنهم من يرى أن هناك تغليظاً في الزمان، أو المكان، أو الحال، فقالوا: تغلظ إذا كانت في الحَرم، أو كانت في الإحرام، أو كانت في الأشهر الحرم، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومُحَرَّم، فكل صفة تغلظ إلى ثلث الدية، فإذا قتل شخصاً في ذي القعدة غير مُحْرِم، ولم يكن بالحرم فعليه دية وثلث الدية، وإن قتله، وهو مُحْرِم، في مكة، في غير أشهر الحرم، فيلزمه دية وثلثا دية، أي: مائة وستة وستون بعيراً وثلثا بعير، فإذا اجتمعت الثلاثة بأن قتله في الحرم، وهو مُحرِم، وفي الأشهر الحرم فعليه ديتان.
وبعضهم قال: لا تغليظ في الإحرام، إنما التغليظ في المقتول إذا كان ذا محرَمٍ منه، فإنه تغلظ عليه الدية.
والقول الراجح أنه لا تغليظ، لا في حرم، ولا في إحرام، ولا في الأشهر الحرم؛ لعموم الأدلة وعدم التفصيل، وعلى هذا تكون الدية مائة من الإبل في كل حال، والراجح ـ أيضاً ـ أن الدية مائة من الإبل، وليس الذهب، ولا الفضة، ولا البقر، ولا الغنم أصلاً فيها.
وَلاَ تُعْتَبرُ الْقِيمَةُ في ذلِكَ، بَلِ السَّلاَمَةُ، وَدِيَةُ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ،.......
قوله: «ولا تعتبر القيمة في ذلك» المشار إليه ما سبق، يعني لا يُعتبر أن يكون كل واحد من الأصول مثل الآخر؛ لأن ذلك غير ممكن غالباً، فلا يشترط أن تكون قيمة مائة الإبل هي مائتي بقرة، وألفي شاة، واثني عشر ألف فضة، وألف مثقال ذهباً.(14/125)
فلو فرض أن الإبل رخصت حتى صارت مائة بعير تساوي خمسمائة مثقال من الذهب، فهل نقول: نرفع دية الإبل إلى مائتين؟ لا.
ولو فرض أن ألف مثقال ذهباً لا تساوي إلا خمسين من الإبل، فإننا لا نرفع الذهب إلى ألفي مثقال.
قوله: «بل السلامة» أي: المعتبر هو السلامة لا القيمة، ومعنى السلامة، أي: أن تكون سالمة من العيوب، وهل المراد العيوب الشرعية، أو العيوب العرفية؟
الظاهر أن المراد العيوب العرفية؛ لأن الدية حق للآدمي، فإذا كان حقاً لآدمي فإن المعتبر في العيوب ما ينقصها في حق الآدمي، أو لا ينقصها.
والفرق بين العيوب الشرعية والعيوب العرفية، أن العيوب الشرعية هي ما لا يقبل معه الشيء عند الله، والعيوب العرفية ما لا يقبل معه عند الخلق.
مثال ذلك: إذا كانت الإبل عرجاء عرجاً غير بَيِّن، فهي عند الله غير معيبة، وعند الناس معيبة، وإذا كانت عوراء عوراً غير بيِّن فهي عند الله غير معيبة، وعند الناس معيبة.
فالمعتبر هو السلامة من العيوب العرفية، حتى لو كانت شرعاً غير معيبة، وعرفاً معيبة، فلا يلزم الولي أن يقبلها؛ لأنها حق للآدمي، ولهذا لو تنازل من تجب له الدية، وقال: يكفيني أن تعطيني مائة من الإبل، كلها بنت مخاض، فإنه يجوز.(14/126)
قوله: «ودية الكتابي نصف دية المسلم» «الكتابي» هو اليهودي والنصراني، وسمي كتابياً؛ لأنهم أهل كتاب، والكتب التي بقيت ينتسب إليها هي التوراة، والإنجيل، فسمي من انتسب إليها كتابياً.
وقوله: «ودية الكتابي» يشمل المعاهد، والذمِّي، والمستأمِن، ولا يشمل الحربي؛ لأنه غير معصوم فلا دية له، فهؤلاء ديتهم نصف دية المسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «قضى بأنّ عقْل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين» رواه أحمد (1) ، ولو قرأ هذا عامي لقال: سبحان الله عقول الكفار ناقصة عن المسلمين، وهذا من المحاذير التي قالها بعض الناس من اعتماد الإنسان على مجرَّد الكتب؛ لأنه قد يقرأ المكتوب ويفهمه على غير مراده، فيَضل ويُضل، والمراد بالعقل في الحديث الدية، وسميت عقلاً باسم المصدر؛ لأنها من عقلت البعير أعقِلُه عقلاً، فسميت عقلاً لأنه من عادتهم أن دافع الدية يأتي بالإبل إلى بيت من هي له، وينيخها ويعقلها.
وفي لفظ آخر للحديث: «عقل الكفار نصف عقل المسلمين» (2) ، وفرقٌ بين قوله: «عقل الكفار» وبين قوله: «عقل
__________
(1) رواه أحمد (2/224) ، والنسائي في القسامة/ باب كم دية الكافر؟ (8/45) ، وابن ماجه في الديات/ باب دية الكافر
(2644) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) رواه الترمذي في الديات/ باب ما جاء في دية الكفار (1413) ، والنسائي في القسامة/ باب كم دية الكافر؟ (8/45)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن» ، وقال الترمذي في روايته: «دية عقل
الكافر نصف دية عقل المؤمن» ، ورواه أحمد (2/180) من طريقه ولفظه: «دية الكافر نصف دية المسلم» .(14/127)
الكتابي» ، لأن «عقل الكفار» عام، و «عقل الكتابي» خاص، فتكون دية الواحد من أهل الكتاب خمسين بعيراً، ومائة بقرة، وألف شاة، وخمسمائة دينار أو مثقال، ستة آلاف درهم.
وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ كَالْمُسْلِمِينَ،.........
قوله: «ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم» المجوسي هو الذي يعبد النار، والوثني هو الذي يعبد الأصنام، وعلى هذا فالمجوس نوع من الوثنيين، لكن خصه المؤلف بالذكر؛ لأن لهم أحكاماً خاصة كأخذ الجزية منهم دون غيرهم من المشركين، على رأي أكثر أهل العلم، والصحيح أن المشركين ولو كانوا غير مجوس تؤخذ منهم الجزية.
وقوله: «ثمانمائة درهم» إذا جعلنا كل مائتي درهم ستة وخمسين ريالاً، فتكون ثمانمائة الدرهم مائتين وأربعة وعشرين ريال فضة، فدية المجوسي، والوثني، ومن لا دِين له، والشيوعي ومن أشبههم مائتان وأربعة وعشرون ريال فضة سعودي فقط، وهذا مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ (1) .
ولكن هل هذا القول توقيفي أو تقدير؟
قال بعض العلماء: إنه توقيف، وأنه نص في ثمانمائة درهم.
وقال آخرون: إنه تقدير، وأنه ورد حديث ـ وإن كان
__________
(1) أخرجه عن عمر ـ رضي الله عنه ـ الشافعي في الأم (7/324) ، وعبد الرزاق (10214، 10215) ، وابن أبي
شيبة (5/407) ط. الحوت، والدارقطني (3247) ، والبيهقي (8/100) .
قال في خلاصة البدر المنير (2296) : إسناده صحيح.
أما عثمان: فعزاه الحافظ في التلخيص لابن حزم في الإيصال، انظر: التلخيص (4/34) .
أما ابن مسعود فأخرجه عنه البيهقي (8/101) .(14/128)
ضعيفاً ـ «أن ديتهم ثلثا عشر دية المسلم» (1) وأنه قدِّر بثمانمائة درهم.
وذهب بعض العلماء إلى أن دية الكتابي وغيره كدية المسلم، وقال: إن الأحاديث المفرِّقة في صحتها نظر، والآية الكريمة قال الله فيها: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] ، فقال: «دية» في الموضعين، والأصل عدم الفرق حتى يقوم دليل صحيح على ذلك.
ولأنَّ كلًّا منهما آدمي، ومن الممكن أن يهدي الله هذا الكافر حتى يكون كالمسلم، وإذا كنا لا نفرِّق بين أَعْبَدِ الناس وأطوعهم لله، وبين أفسق الناس وأفجرهم، فكذلك لا نفرق بين الكافر والمسلم، وهذا يدل على أن الدِّين لا دخل له في الدية ولا يعطي تقويماً فيها، وعلى هذا تكون دية المسلم والكافر ـ أياً كان نوعه ـ سواء.
وذهب آخرون إلى قول وسط، وهو أنَّ الكفار كلهم على النصف من دية المسلم، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عقل الكفار نصف عقل المسلمين» (2) وهذا عام، قالوا: وتخصيص الكتابي ببعض الألفاظ لا يقتضي تخصيص الحكم أو تقييده؛ لأن القاعدة في العام والخاص: «أن
__________
(1) أخرجه البيهقي (8/101) عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ وضعفه.
(2) سبق تخريجه ص (127) .(14/129)
ذكر بعض أفراد العام بحكم يطابق العام لا يقتضي التخصيص» كما لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم زيداً، وزيد منهم، فهل معنى ذلك أن الكلام الثاني يخصص الأول؟ لا، لكن لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم زيداً، وهو منهم، فهنا صار في العموم تخصيص، وهو أننا أخرجنا زيداً من العموم، بخلاف ما لو ذكرناه بحكم يطابق العام فإن ذلك لا يقتضي التخصيص.
وأما قول بعضهم في حديث «عقل الكتابي نصف عقل المسلم» : إنه مفهوم لقب، ومفهوم اللقب عند جمهور أهل العلم غير معتبر؛ لأن المفهوم المخصص عندهم هو الذي يتضمن معنى يكون من أجله التخصيص، وأما مجرد اسم زيد، وعمرو، وبكر، أو ثوب، وحجر، أو أسد مما ليس فيه معنى يقتضي التخصيص فإنه يُسمى مفهوم لقب، ولا عبرة به.
فجوابنا على هذا: أن مفهوم أهل الكتاب ليس من باب مفهوم اللقب؛ لأن «أهل الكتاب» المفهوم فيه مفهوم وصف؛ لأن معنى أهل الكتاب المنتسبون لليهود والنصارى، وهذا وصف وله معنى.
وكما أنه بإجماع المسلمين لا يحل نكاح المرأة الكافرة، سوى التي من أهل الكتاب، فإن كل حكم خصص بأهل الكتاب يجب ألاَّ نعتبره مفهوم لقب، بل نجعله مفهوم وصف، ونحن لا نستدل على جواز نكاح الكافرة اليهودية، أو النصرانية، إلا بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للإنسان أن يتزوج مجوسية،(14/130)
أو وثنية، أو ملحدة، واعتبروا هذا مفهوم وصف.
وعلى كل حال، فالقول الثالث هو أرجح الأقوال عندي، وهو أن دية الكافر على النصف من دية المسلم؛ ووجه ذلك أن نقول: إن أهل الكتاب كفار، وهم في نار جهنم خالدون فيها، فأي فرقٍ بين أن ينتسب إلى اليهودية، أو النصرانية، وهي أديان نسخت بدين الإسلام، وبين أن ينتسب لغير دين؟! لا فرق عند الله، فأهل الكتاب لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة، بل هم بحسب ما كان منهم من العدوان والظلم كغيرهم.
وأما الجواب عمَّن استدل بالآية فنقول: إنَّ الأحاديث صحت، وهي أحاديث جياد حسنة جداً، على أن عقل الكافر نصف عقل المسلم.
قوله: «ونساؤهم على النصف» فتكون دية المجوسية أربعمائة درهم، يعني مائة واثني عشر ريالاً، فلو قتل إنسان امرأةً شيوعية عمداً فديتها مائة واثنا عشر ريالاً، ولكنه يأثم إن كان عهد، أو ذمة، أو أمان، فإن قتل امرأة لا تصلي عمداً فليس لها دية؛ لأن قتل المرتد ليس فيه دية؛ فهو غير معصوم، ولكن يعاقب القاتل تعزيراً وتأديباً؛ لافتياته على ولي الأمر.
قوله: «كالمسلمين» أي: كما أنَّ نساء المسلمين على النصف فهؤلاء مثلهم، فدية المرأة المسلمة على النصف من دية المسلم، وهي خمسون بعيراً، ومائة بقرة، وألف شاة، وخمسمائة دينار، وستة آلاف درهم، إلاَّ فيما دون الثلث فإنها مثل الرجل، أي: أنَّ الجناية التي توجب ثلث الدية تكون هي والرجل سواء،(14/131)
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، والمسألة خلافية.
وعلى هذا فإذا قطع الإنسان أصبع امرأة ففيه عَشْرٌ من الإبل، وإن قطع أصبعين ففيه عشرون من الإبل، وإن قطع ثلاثة ففيها ثلاثون من الإبل، وإن قطع أربعة ففيها عشرون من الإبل، سبحان الله! لما عظمت المصيبة قلَّت الدية.
فلو أن رجلاً قطع ثلاثة أصابع من امرأة، فقالوا له: عليك ثلاثون بعيراً، ولو قطعت أربعاً لم يكن عليك إلاَّ عشرون فذهب وقطع الإصبع الرابع، فهنا نقول له: سنقطع أصبعك المماثل؛ قصاصاً؛ لأنك قطعت إصبعها عمداً، وتؤخذ منك ثلاثون بعيراً، فهنا حيلته ضَرَّتَهُ، مع ما وقع فيه من الإثم.
إذاً المرأة على النصف من دية الرجل، إلاَّ فيما دون الثلث فإنهما يتساويان، وقيل: هما سواء مطلقاً، وقيل: هي على النصف مطلقاً، وهذه المسألة لم أحرِّرها تماماً.
وَدِيَةُ قِنٍّ قِيمَتُهُ، وَفِي جِرَاحِهِ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ البُرْءِ، وَيَجِبُ فِي الْجَنِينِ ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ غُرَّةٌ،.........
قوله: «ودية قِن قيمته» القن هو العبد المملوك الذي يباع ويشترى، ويُسمَّى رقيقاً، فدية القن قيمته بالغةً ما بلغت، وعلى هذا فتختلف الدية في الأرقاء.
فلو أن أحداً قتل رقيقاً شاباً قوياً عالماً صناعياً ماهراً في كل الميادين، فهذا قيمته غالية جداً، بل يكون كدية الحر أو أكثر، ولو قتل قناً كبيراً أعمى العينين أشَل، فهذا ديته قليلة جداً.
إذاً فالمعتبر القيمة؛ لأن العبد بمنزلة ما يباع ويشترى ويُقوَّم، والدليل على ذلك ما تضافرت به السنة من بيع الرقيق، فهذه بريرة ـ رضي الله عنها ـ كاتبت أهلها على تسع أواقٍ من(14/132)
الفضة، وأقرَّها الرسول صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وهذا الرجل الذي أعتق غلاماً له عن دُبُر ـ أي: أعتقه بعد حياته ـ وكان عليه دين، فباعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في دَيْنِهِ (2) ، والأدلة في هذا كثيرة على أن الرقيق حكمه حكم ما يباع ويشترى، لأنه متموَّل، فهو مال.
قوله: «وفي جراحه ما نقصه بعد البرء» أي: في جراح الرقيق ما نقصه بعد البرء، وجراح الحرِّ غالبها مقدَّر، وأما الرقيق فإنه ما نقصه بعد البرء، بمعنى أننا نُقوِّم هذا الرقيق سليماً من الجرح، ثم نقوِّمه بعد البرء معيباً بالجرح، فالفرق بين القيمتين هو الدية.
مثال ذلك: رجل جنى على رقيق، فقطع إبهام يده اليسرى وبرئ، فكيف نعرف دية هذه الأصبع؟
نقول: يُقوَّم الرقيق سليماً، ويقوَّم بعد البرء، فإذا كانت قيمته سليماً عشرة آلاف درهم، وقيمته مقطوع الإبهام تسعة آلاف درهم، فتكون دية الإبهام ألف درهم.
وما ذكره المؤلف من أنَّ في جراحِه ما نقصه بعد البرء هو الصحيح، والمذهب أن ديته في الجراح، إنْ كان مقدراً من حر فبنسبته من القيمة، وإن كان غير مقدر من حر فبما نقصه بعد البرء، مثاله: عبد قطعت يده اليمنى خطأ، وكان يساوي قبل قطع
__________
(1) أخرجه البخاري في المكاتب باب استعانة المكاتَب وسؤاله الناسَ (2563) ، ومسلم في العتق باب إنما الولاء لمن
أعتق (1504) (8) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في البيوع باب بيع المزايدة (2141) ، ومسلم في الزكاة باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) (41)
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(14/133)
اليد عشرة آلاف ريال، وبعد قطع يده صار يساوي ألفي ريال فقط، فتكون دية يده اليمنى ثمانية آلاف، لكن لو قطعت يده اليسرى لكان يساوي بعد قطعها ستة آلاف، فهنا تكون دية يده اليسرى أربعة آلاف، فتختلف دية يده اليمنى عن دية يده اليسرى.
فإن لم ينقصه شيئاً أو زادته حسناً فلا دية.
وعدم نقصان قيمته مثل أن يجرحه بموضحة فبرئت ولم يكن لها أثر، ولم تُنقِص قيمته فلا دية عليه، وأما إن زادته حسناً فكأن يكون للعبد إصبع زائدة، فهذه إذا زالت تزيده حسناً وجمالاً.
فالمذهب في هذه المسألة يوافق قول المؤلف بشرط ألاَّ يكون فيه مقدَّر من حُرٍّ، فإن كان فيه مقدَّر من حر ففيه نسبته من الدية، ودية القن قيمته.
مثاله: اليد فيها مقدر من الحر وهو نصف الدية، فهذا رجل قطع يد قن خطأ، وقيمته عشرة آلاف، ونقص بقطع يده بعد البرء ستة آلاف، فديته على ما مشى عليه المؤلف ستة آلاف، ولكن على المذهب ديته خمسة آلاف؛ لأن اليد فيها في الحر نصف الدية فتكون في العبد نصف القيمة.
ولو قطع يده اليسرى ونقص أربعة آلاف فقط، ففيها على ما مشى عليه المؤلف أربعة آلاف، وعلى المذهب خمسة آلاف؛ لأنها نصف الدية، وعلى هذا فقس.
مثال آخر: هذا العبد يساوي عشرة آلاف درهم، فقطع أصبعه الإبهام، فنقص ألفي درهم، فدية هذا العبد على ما مشى عليه المؤلف ألفا درهم.(14/134)
أما على المذهب فديته ألف درهم فقط؛ لأن الأصبع فيه عُشْر الدية من الحر، فيكون فيه عشر الدية من العبد، وعشر دية العبد عشر قيمته؛ لأن دية العبد قيمته.
ولا شك أن ما ذهب إليه المؤلف هو الصواب؛ لأننا ما دُمنا اعتبرنا القيمة في العبد، وجعلناه كسلعة من السِّلع، فإن الجناية على السلع تضمن بنقصها، بقطع النظر عن كونها مقدرة من حر أو غير مقدَّرة.
مثال الجرح غير المقدر: أن يجرحه في بطنه ولم يصل إلى الجوف، فهذا فيه حكومة، أو مثلاً جرحه حتى تعطّلت يده بعض الشيء، ولكنَّه لم يفقد الحركة مطلقاً، فهذا أيضاً غير مقدر، فعلى المذهب، وعلى ما مشى عليه المؤلف تكون دية هذه الجناية ما نقص العبد بعد برئه.
قوله: «ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عُشْر دية أمه غرة» الجنين الحمل ما دام في البطن، فإن سقط ميتاً فهو سِقط، مأخوذ من الاجتنان وهو الاستتار، ومادة الجيم والنون كلها تدل على الاستتار، فالجنَّة هي البستان كثير الأشجار، والجِنَّة من الجن؛ لأنهم مستترون، والجُنَّة بالضم ما يستتر به الإنسان كالترس ونحوه، والجنين فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه مستور.
فالجنين إذا جَنى الإنسان عليه، أو على أمه وسقط ميتاً فإن ديته غُرة، عشر دية أمه.(14/135)
فإن كانت أمه حرة مسلِمة فديتها خمسون من الإبل، وعُشْرُها خمس من الإبل.
وإن كانت كتابية فديتها خمس وعشرون من الإبل، وعشرها بعيران ونصف، والنصف يقدَّر بالقيمة.
وإن كانت كافرة من غير الكتابين فديتها أربعمائة وعُشْرُها أربعون درهماً.
والدليل على ذلك: «قصة المرأتين اللتين اقتتلتا من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن دية جنينها غُرَّة» (1) ، والغُرَّة هي العبد، أو الأمة التي قيمتها خمس من الإبل.
واعتبر العلماء القيمة؛ لأن الغرَّة قد تزيد وقد تنقص، لا سيَّما وأن بعض المحدثين قال: إن قوله: «عبد أو وليدة» شك من الراوي، وأن الغرَّة ليست خاصة بالعبيد، بل كل ما يرغب فيه من المال فهو غرَّة؛ لأن غرَّة الشيء مقدَّمه، كغرَّة الشهر مثلاً، وغرَّة الإنسان لوجهه.
وعلى كل حال فالذي جرى عليه الحنابلة رحمهم الله أن دية الجنين عشر دية أمه، يعني خمساً من الإبل، وهذا ما لم يسقط حياً ثم يموت، فإن سقط حياً ثم مات ففيه دية كاملة، ولكن لو مات في بطنها ثم سقط ففيه عشر دية أمه، غرَّة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (5) .(14/136)
وَعُشْرُ قِيمَتِهَا إِنْ كَانَ مَمْلُوكاً وَتُقَدَّرُ الحُرَّةُ أَمَةً، وَإِنْ جَنَى رَقِيقٌ خَطَأً أَوْ عَمْداً لاَ قَوَدَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ قَوَدٌ وَاخْتِيرَ فِيهِ الْمَالُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالاً بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ تَعَلَّقَ ذلِكَ بِرَقَبَتِهِ، فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكَهُ، أَوْ يَبِيعَهُ وَيَدْفَعَ ثَمَنَهُ.
قوله: «وعشر قيمتها إن كان مملوكاً» هذا بناء على أن دية القن قيمته، فتكون الدية عُشْر قيمتها إن كان مملوكاً، ويُملك الجنين إذا كانت أمه رقيقة وهو لغير سيدها، فإن كانت أمه رقيقة وهو لسيدها فهو حر.
وكذلك لو كانت أمه رقيقة ووطئها حر بشبهة فإنه يكون حراً.
وكذلك لو كانت أمه رقيقة، واشتُرط على مالكها أن أولادها أحرار فإنه يكون حراً.
وعلى هذا فولد الأمة يكون حراً في ثلاث مسائل:
الأولى: إن كان من سيدها.
الثانية: إذا كان من وطء شبهة من حر.
الثالثة: إذا اشترط أنه حر.
وإذا كان الجنين رقيقاً ففيه عشر دية أمه، أي: عشر قيمتها، مثاله: هذه المرأة التي قُتل جنينها تساوي عشرة آلاف ريال، فدية جنينها ألف ريال.
وذهب بعض العلماء إلى أن دية جنين الأمة ما نقصها، بمعنى أن تقدَّر حاملاً وحائلاً، وما بين القيمتين فهو دية الجنين.
وهذا القول أقرب إلى القياس، كما لو أن أحداً جنى على بهيمة حامل، وأسقطت البهيمة، فإن الشاة مثلاً تقدر حاملاً وحائلاً فما بين القيمتين فهو قيمة الجنين.
وهذا القول أقرب إلى كلام المؤلف حيث قال في دية جراح العبد: «ما نقصه بعد البرء» .
قوله: «وتقدَّر الحرة أمةً» يعني لو فرضنا أن حرة كانت(14/137)
حاملاً برقيق، فإنها تقدَّر أمة، ويكون ذلك بأن تحمل الأمة من سيدها، ثم يعتقها ويستثني حملها، فإذا جُني عليها بعد تحريرها، ثم مات الجنين فإنها تقدَّر أمة عند التقويم، ولا حرج في ذلك، ولا يقال: إننا كذبنا مثلاً، ولكن هذا من أجل أن نعرف دية هذا الجنين.
قوله: «وإن جنى رقيق خطأ أو عمداً لا قود فيه، أو فيه قود واختير فيه المال، أو أتلف مالاً بغير إذن سيده تعلق ذلك برقبته» .
هذه أربع مسائل:
الأولى: قوله: «وإن جنى رقيق خطأ» إذا جنى الرقيق خطأ، فليس هناك قود وإنما الدية.
مثاله: رجل له عبد مملوك، وهذا العبد أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، فالجناية خطأ، فتجب الدية ويتعلق ذلك برقبته، أي: أن موجَب الجناية يتعلق برقبة العبد.
الثانية: قوله: «أو عمداً لا قود فيه» مثل أن يقتل هذا الرقيق المسلم كافراً عمداً، فلا قود؛ لأنه أفضل منه في الدين، ومن شروط القصاص أن لا يفضل القاتل المقتول في الدين.
الثالثة: قوله: «أو فيه قود واختير فيه المال» يعني أن شروط القصاص تامة، ولكنَّ أولياء المقتول اختاروا المال.
الرابعة: قوله: «أو أتلف مالاً بغير إذن سيده» يعني أن هذا(14/138)
الرقيق وجد سيارة لشخص وأحرقها، أو وجد كتاباً فأحرقه أو وجد خبزاً فأكله.
وقوله: «بغير إذن سيده» فإن أذن سيدهُ، وقال له: أتلف السيارة، أو خذ الخبز من الغير، فهذا له حكم آخر سنذكره إن شاء الله.
وقوله: «تعلق ذلك برقبته» أي: يتعلق برقبة العبد، وهل هناك تعلق آخر؟ نعم، وهو أنه يتعلق بذمة سيده، وذلك فيما إذا أتلف مالاً بإذن سيده، فإن الضمان يتعلق بذمة السيد.
والفرق بينهما أنه إذا تعلق بذمة السيد طولب به السيد مطلقاً، ولا ينظر للعبد، فلو كان الذي أتلف يساوي مليون درهم والعبد لو بِعْناه لا يساوي إلاَّ ألف درهم فإننا نُطالب السيد؛ لأنه يتعلق بذمته، وحينئذٍ لا ننظر لقيمة العبد إطلاقاً، وإنما نأخذ الضمان من السيد.
وأما إذا تعلق برقبته ففيه أحكام ذكرها المؤلف بقوله:
«فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته، أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملِكَه، أو يبيعه ويدفع ثمنه» فيُخير السيد بين هذه الأمور الثلاثة:
الأول: قوله: «بين أن يفديه» سماه فداءً؛ لأن الجناية تعلقت برقبته، فكأن السيد إذا دفع موجب الجناية فداه.
الثاني: قوله: «أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه» أي:(14/139)
أن السيد يسلم هذا الرقيق إلى ولي الجناية فيملكه.
الثالث: قوله: «أو يبيعه ويدفع ثمنه» أي: أن السيد يبيع هذا الرقيق ويسلم ثمنه لولي الجناية، فإذا قُدِّر أن ثمنه لا يبلغ قيمة الجناية، فإننا نقول لولي الجناية: ليس لك إلا هذا، حتى لو كان السيد غنياً؛ لأن هذه الجناية حصلت بغير إذن من السيد؛ فليس مسؤولاً عنها، نعم لو فرض أنَّ هذا السيد يعلم أنَّ هذا العبد شرير، متلف للأموال والأنفس، فهنا قد نقول: إنَّ الضمان يتعلق بذمة السيد، كما قالوا فيمن عنده كلب عقور: إنه يضمن ما تلف به.
فأي هذه الأمور الثلاثة يختار السيد؟
الجواب: على حسب الأحوال، إن كان عنده مال والعبد غير رخيص عنده فسيختار الفدية، وإن كان ليس عنده شيء، أو يُحب أن يتخلص من هذا العبد، وولي الجناية ما منه خطر على العبد بإيذاء أو غيره فسوف يسلمه، ويَسْلم منه ومن العناء ببيعه وتسليم الثمن، وإن كان يخشى على العبد من ولي الجناية بإيذاء، أو هتك عرض، أو غير ذلك فإنه سيختار أن يبيعه، ويسلم ثمنه إلى ولي الجناية.
فإن مات العبد قبل هذه الأشياء الثلاثة، فما الحكم؟
الجواب: لا شيء لولي الجناية؛ لأنه تعلق برقبته، والسيد بريء منه.(14/140)
بَابُ دِيَاتِ الأَعْضَاءِ وَمَنَافِعِهَا
مَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيءٌ وَاحِدٌ، كَالأَْنْفِ، وَاللِّسَانِ، وَالذَّكَرِ، فَفِيهِ دِيَةُ النَّفْسِ....
الأعضاء جمع عضو، وهو الجزء المستقل من الإنسان، مثل: اليد، والرجل، والأصبع، والعين، والأنف، وما أشبه ذلك.
واعلم أن هاهنا قاعدتين:
الأولى: كل عضو أشل فليس فيه دية، بل فيه حكومة، إلا عضوين وهما الأذن والأنف.
الثانية: كل من جنى على عضو فأشلَّه فعليه دية ذلك العضو، إلاّ الأنف والأذن؛ لأن الأنف والأذن جمالهما باقٍ ولو شُلاَّ.
قوله: «من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف، واللسان، والذكر، ففيه دية النفس» «من» شرطية، وجواب الشرط جملة «ففيه دية النفس» ووجب اقترانها بالفاء؛ لأنها جملة اسمية.
وقوله: «ففيه دية النفس» أي: فإنَّ عليه دية النفس، إن كانت أنثى فخمسون بعيراً، وإن كان ذكراً فمائة بعير.
مسألة: لو أن هذا الرجل الذي أُذهب أنفه أجرى عملية وركَّب أنفاً، ونجحت العملية، فهل تجب الدية؟
ظاهر كلام العلماء أنّ الدية تجب، وقد ذكروا أنَّ من أتلف(14/141)
شعراً ثم نبت فإنه تسقط ديته، فهل نقول: إن هذا مثل الشعر لما أعاده بعملية فلا شيء له؟
الجواب: إن أعاد نفس الأنف وبقي فهذا ديته تسقط بلا شك، وأما إذا أعاد أنفاً غيره فهذا محل نظر وتأمل.
وقوله: «كالأنف» لو كان الأنف من إنسان أخشم، أي: لا يشم، أو أشل ففيه دية.
وقوله: «واللسان» أيضاً فيه دية النفس، إن كان من امرأة ففيه دية امرأة، وإن كان من رجل ففيه دية رجل، مع أنه إذا قطع لسانه سوف يفوِّت عليه منفعتين: منفعة الكلام، ومنفعة الذوق، ولكن لا عبرة بالمنافع إذا كان المتلف عضواً، كما أن الإنسان لو أتلف رَجُلاً سيتلف منافع متعددة.
وقوله: «والذكر» أي: فيه دية النفس؛ لأنه ليس في الإنسان منه إلاّ شيء واحد.
والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث: «وفي الذَّكَر الدية، وفي الأنف إذا أُوْعب جَدْعُه الدية، وفي اللسان الدية» (1) .
وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ، كَالْعَيْنَيْنِ، وَالأُْذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ، وَاللَّحْيَيْنِ، وَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ، وَثَنْدُؤَتَيِ الرَّجُلِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالأَلْيَتَيْنِ، وَالأُْنْثَيَيْنِ، وَإِسْكَتَيِ المَرْأَةِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، ...
قوله: «وما فيه منه شيئان، كالعينين، والأذنين، والشفتين، واللحيين» ففيهما الدية، وفي أحدهما نصفها، فما فيه منه شيئان وأتلفا جميعاً ففيهما الدية، وفي أحدهما نصف الدية.
__________
(1) أخرجه النسائي في القسامة باب عقل الأصابع 8/58 عن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، والدارمي (2366) ،
وانظر: الإرواء (2267) .
وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ آخر (4/217، 224) ، وكذا أبو داود في الديات/ باب
دية الأعضاء (4564) وانظر: التلخيص (4/27، 29) ، ونصب الراية (2/141) .(14/142)
وقوله: «كالعينين» ففيهما الدية ولو مع ضعف النظر، ولو مع عَمَشٍ، ولو مع حَوَلٍ؛ لأن هذا مثل ما لو أتلف الإنسان المريض، ففيه دية كاملة، فكذلك إذا أتلف هذه العين، ففيها دية كاملة، ولو كانت قاصرة النظر، أو فيها حول، أو ما أشبه ذلك.
وأما إذا كانت العينان لا تريان فليس فيهما دية كاملة؛ لأنه ليس فيهما منفعة.
وقوله: «والأذنين» أي: فيهما دية النفس، ولو كان لا يسمع بهما.
وقوله: «والشفتين» أي: إذا أذهب الشفتين جميعاً ففيهما الدية.
وقوله: «واللحيين» وهما العظمان النابت عليهما الأسنان، فإذا أتلفهما ففيهما دية النفس، وفي أحدهما نصف الدية.
قوله: «وثديي المرأة» وهذا واضح.
قوله: «وثندؤتي الرجل» وهما للرجل بمنزلة الثديين من المرأة.
قوله: «واليدين والرجلين» أي: فيهما الدية؛ لأن في الإنسان منهما شيئين، وفي كل واحد منهما النصف.
ولا فرق بين أن يقطع اليد من مفصل الكف، أو من مفصل المرفق، أو من مفصل الكتف، فكل هذه تسمى يداً، مع العلم أنه إذا قطع مع مفصل الكف فهو أهون؛ لأنه سينتفع بما بقي من الذراع والعضد، ولكن يقولون: إن الأصل الكف، فإذا قطع(14/143)
الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المرفق ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المنكب ففيه نصف الدية.
وقال بعض العلماء: إنه إذا قطع من الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطع من المرفق أو المنكب ففيه مع نصف الدية حكومة، وهذا إذا كان القطع واحداً، بمعنى أنه أمسك رجلاً وقطع يده من الكتف ففيه الدية، وأما إذا قطع أولاً من الكف، ثم من المرفق، ثم من الكتف، فكل واحد جناية مستقلة.
والحاصل أن هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم:
الأول: لا فرق بين أن يقطعها من مفصل الكف، أو المرفق، أو الكتف.
الثاني: إذا قطعها مما فوق مفصل الكف ففي الزائد حكومة.
ولكن القول الأول أصح؛ لأن هذا يكون تابعاً، كما لو قلع اللحيين، مع أن اللحيين يكون عليهما أسنان، ويكون فيهما لِحية، ومع ذلك ما عليه إلاَّ دية اللحيين فقط، فهذا تابع.
قوله: «والأليتين» مثنى «ألية» وهي المقعدة التي يقعد عليها الإنسان، فإذا جنى عليهما شخص ففيهما الدية، وفي الواحدة نصف الدية.
قوله: «والأنثيين» هما خصيتا الرجل، فإن قطعتا جميعاً ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
قوله: «وإسكتي المرأة ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها»(14/144)
«إسكتي المرأة» بفتح الهمزة وكسرها، وهما حافتا فرج المرأة، فلو جنى عليهما إنسان وقطعهما ففيهما الدية، وفي إحداهما نصف الدية.
وكذلك الكليتان من أخذ إحداهما ففيها نصف الدية، وفي كلتيهما الدية كاملة، جرياً على القاعدة؛ والفقهاء ما تكلموا على هذا العضو؛ لأنه في الباطن، وأرى أنه يجب أن نتكلم عليه؛ لأن الناس أصبحوا يجعلون هذا العضو الباطن كالعضو الظاهر.
وَفِي الْمِنْخَرَيْنِ ثُلُثَا الدِّيَةِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُهَا، وَفِي الأَْجْفَانِ الأَْرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ جَفْنٍ رُبْعُهَا، وَفِي أَصَابِعِ اليَدَيْنِ الدِّيَةُ كَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي كُلِّ أُصْبَعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ أَنْمُلَةٍ ثُلُثُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالإِْبْهَامُ مَفْصِلاَنِ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ كَدِيَةِ السِّنِّ.
قوله: «وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها» المنخران سمِّيا بذلك؛ لأنه يخرج منهما النَّخَر، والحاجز بينهما معلوم، والجميع يُسمَّى مارناً، ومارن الأنف ما لان منه.
فالمارن يشتمل على ثلاثة أشياء: المنخرين، والحاجز بينهما.
فإذا قطع منخراً فعليه ثلث الدية، ثلاثة وثلاثون بعيراً وثلث بعير، وإن قطع المنخر الثاني فعليه ستة وستون بعيراً وثلثا بعير، وإن قطع الحاجز بينهما فعليه مائة بعير، وإن قطع الحاجز وحده فعليه ثلث الدية.
وهذا بناءً على القاعدة السابقة أن ما في الإنسان منه واحد ففيه الدية كاملة، كما جاء في حديث عمرو بن حزم: «وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية» (1) ، وهذا كله مجمع عليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (142) .(14/145)
والعلماء ـ رحمهم الله ـ استنتجوا من ذلك أن ما في الإنسان منه واحد ففيه دية، وما فيه شيئان ففيه نصف دية، وما فيه ثلاثة ففي الواحد ثلث الدية، وفي الجميع دية كاملة.
قوله: «وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن ربعها» الأجفان هما غطاء العينين، وفي كل عين غطاءان، أحدهما فوق والآخر تحت، ففي كل جفن ربع الدية، وفي الجميع الدية كاملة، وفي الثلاثة ثلاثة أرباع الدية، ولا فرق في الدية بين الأعلى والأسفل.
وهذا مما في الإنسان منه أربعة، ولم يذكر المؤلف ما في الإنسان منه خمسة؛ لأن هذه لا تأتي في الأعضاء، وإنما تأتي في المنافع، قالوا: إن المذاقات خمسة: حلاوة، ومرارة، وعذوبة، وملوحة، وحموضة، فإذا جنى على إنسان وأذهب مذاقاته الخمس، فعليه الدية كاملة، وإن أذهب واحدة منها فعليه خمس الدية.
قوله: «وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين» يعني كما أن أصابع الرجلين فيهما الدية، فكذلك أصابع اليدين، وإن لم يقطع الكف، وإن لم يقطع القدم؛ لأن هذه أعضاء يوجد في الإنسان منها كذا وكذا، فيكون لكل عضو حصته من الدية.
قوله: «وفي كل أصبع عشر الدية» فلو فرض أن أصابع(14/146)
يديه، أو رجليه اثنا عشر أصبعاً، فإن الدية لا توزَّع عليها جميعاً؛ لأن الزائد عيب.
قوله: «وفي كل أنملة ثلث عشر الدية» يعني أن كل أنملة فيها ثلاث من الإبل وثلث.
وكل أصبع من الأصابع فيه ثلاثة أنامل ما عدا الإبهام، ففيه أنملتان.
قوله: «والإبهام مفصلان، وفي كل مفصل نصف عشر الدية» إذا كان مفصلان فإن الدية تقسم على الاثنين، فيكون في كل مفصل نصف عشر الدية، يعني خمساً من الإبل.
ولا فرق في ذلك بين الأنملة العليا والسفلى، فإذا قطع العليا ففيها خمس من الإبل، وإذا قطع السفلى فالدية عشر من الإبل؛ لأنه إذا قطع السفلى انقطعت العليا.
قوله: «كدية السن» يعني كما أن في السن خمساً من الإبل، كما جاء في الحديث: «وفي السن خمس من الإبل» (1) .
ولا فرق بين السن والضرس، وعلى هذا فدية الأسنان جميعاً مائة وستون بعيراً، فالعلماء يعتبرون دية الأسنان أفراداً.
أما إذا كان بجنايات متعددة فكل سن له حكمه، فلو جنى عليه مرة واحدة، وأتلف جميع أسنانه فإن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون فيه بعدد الأسنان.
__________
(1) سبق تخريجه من حديث عمرو بن حزم ص (117) .(14/147)
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا كانت بجناية واحدة فهي منفعة واحدة فعليه دية واحدة.
ولكن ظاهر الحديث العموم فيؤخذ به، وعلى هذا فإذا جنى عليه حتى ذهبت كل أسنانه، فعليه مائة وستون بعيراً.
وهذا الحكم في الإنسان الذي نبتت أسنانه مرةً ثانية، وأما الذي كان في النبات الأول فَيُنْظَر؛ لأن هذه الأسنان ـ وهي ما يسمى بأسنان اللبن ـ إذا سقطت نبتت مرة أخرى، فإذا نبتت سقط موجبها، ولم يجب فيها شيء، لكن إذا كان الإنسان قد أسقط الأسنان الأولى، ثم نبتت الثانية، فإنها إذا أتلفت فعلى الجاني ديتها.
* * *(14/148)
فَصْلٌ
وَفِي كُلِّ حَاسَّةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَهِيَ السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ وَكَذَا فِي الكَلاَمِ وَالْعَقْلِ، وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ، وَالأَْكْلِ، وَالنِّكَاحِ، وَعَدَمِ استِمْسَاكِ الْبَوْلِ، أَوِ الْغَائِطِ،.........
هذا الفصل يتكلم فيه المؤلف عن المنافع؛ والمنافع هي الحواس.
قوله: «وفي كل حاسة دية كاملة، وهي السمع والبصر، والشم، والذوق» المؤلف لم يعد من الحواس إلا أربعاً، والمعروف أن الحواس خمس، فأسقط اللمس.
وقوله: «السمع» بمعنى أن يجني عليه حتى يصير لا يسمع، وإن بقيت الأذن، فتجب الدية كاملة، وورد حديث لكنه ضعيف: «في السمع الدية» (1) ، فإن نقص السمع فحكومة؛ لأنه لا يمكن تقدير السمع.
ولكن لو ادعى المجني عليه زواله، وأنكر الجاني، فإنه يُتَحايل عليه، فيأتيه أحدٌ بغتة، ويطلق عنده أشياء لها صوت مزعج، فإن تحرك، أو التفت فهو يسمع، وإلا فلا.
وقوله: «والبصر» إذا جنى على البصر حتى أذهبه ففيه الدية، وسواء كان ذلك عن طريق العين، أو عن طريق الدماغ، فإن أذهب البصر في عين فعليه دية العين، وإن كان في العينين فعليه دية كاملة، فإن أضعف البصر فحكومة.
وهذا يقال فيه ما قيل في السمع: فإذا ادعى المجني عليه أنه لا يبصر وأنكر الجاني، فيُتحايل عليه، قال بعضهم: نفتح عينه
__________
(1) أخرجه البيهقي وضعفه (8/85) من حديث معاذ رضي الله عنه، وانظر: الإرواء (7/321) .(14/149)
بالشمس فإن أدمعت عينه، أو أغضى فهو يبصر، وإلا فلا.
وقال بعضهم: نستغفله، ثم نحذف شيئاً أمام عينه، فإن أحس فهو دليل على أنه يبصر وإلا فلا، والآن الطب الحديث يمكنه تحديد ذلك فنرجع إليه، ولا حاجة لهذه الأشياء.
وقوله: «والشم» وأصله في الدماغ، وطريقه الأنف، فإذا جنى عليه حتى أذهب شمه، فعليه دية كاملة، وإذا ادعى المجني عليه أنه قد ذهب شمه وأنكر الجاني، فقال العلماء: يُؤتى له بأخبث رائحة وتوضع عنده، فإن اقشعرَّ منها علمنا أنه يشم، وإلا فلا.
وقوله: «والذوق» إذا جنى عليه فأذهب ذوقه ففيه الدية كاملة؛ لأن الذوق نعمة من الله ـ عزّ وجل ـ فالإنسان يتلذذ بالطعام، أو الشراب قبل أن ينتفع به من الناحية الجسمية.
وإذا ادعى المجني عليه أن ذوقه قد ذهب وأنكر الجاني فإنه يُختبر بالأشياء التي لا يمكن أن يصبر عنها لو كان ذوقه باقياً.
فإذا جنى عليه فأذهب حاسة اللمس من يده فصارت لا تحس بالخشن واللين فعليه دية اليد، حتى لو كانت تتحرك، فهناك فرق بين زوال اللمس والشلل، فزوال اللمس في الجلد، والشلل في الأعصاب.
وقال بعض العلماء: إن جنى على عضو فأذهب إحساسه فعليه حكومة؛ لأنه فرق بين الشلل واللمس، اللمس يستطيع أن يحرك يده، ويأخذ ويعطي بها، لكنه ما يحس، والشلل لا يحركها فَقَدْ فَقَدَ منفعتها بالكلية.(14/150)
وأما إذا جنى عليه فأذهب لمسه من جميع بدنه، وصار جميع بدنه ليس له لمس فعليه الدية كاملة؛ لأنه أفقد البدن نفعاً مستقلاً، بخلاف ما إذا أذهب لمس شيء معين من البدن، فإن فيه حكومة، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في أن المؤلف لم يذكره، وهو أن فيه هذا الخلاف، وهذا التفصيل.
والأقرب عندي أن يقال: إن أذهب لَمْسَه بالكلية من جميع البدن فعليه الدية كاملة، وإلاّ فعليه حكومة، ولا يصح أن يقاس إذهاب اللمس على الشلل، لأن بينهما فرقاً عظيماً.
قوله: «وكذا في الكلام» الكلام إذا أذهبه بالكلية حتى صار أخرسَ فعليه دية كاملة، وأمّا إن أذهب بعض الحروف ففيه قسطه من الدية، فتقسم على ثمانية وعشرين حرفاً، فإذا أذهب الراء مثلاً فيجب عليه قسطه من الدية، وإن أذهب حرفين فبقسطهما وهكذا، فإن أذهب أربعة عشر حرفاً فنصف الدية.
وأما إذا لم يُذهب الحروف، ولكنه صار يتأتِئُ أو يفأفِئُ، فالواجب حكومة؛ لأن تقدير هذا بالنسبة للدية صعب، ولا يمكن الإحاطة به فعليه حكومة.
قوله: «والعقل» أي: إذا جنى عليه حتى أذهب عقله فعليه دية كاملة، وهذا أشد شيء، فإذا ادعى المجني عليه زوال عقله، وأنكر الجاني فإن المجني عليه يُراقَب.
وأما إذا فقد الذاكرة فالظاهر أن عليه دية كاملة.
فإذا نقص عقله، بأن كان من قبل مِن أذكى الناس، ثم خفَّ ذكاؤه ففيه حكومة.(14/151)
قوله: «ومنفعة المشي» أي: لو جني عليه حتى أذهب منفعة مشيه، كأن شُلَّت رجلاه فأصبح لا يمشي، وهذا يقع كثيراً كما لو ضرب صلبه مثلاً، وفصل المخ حتى صار لا يتصل بالأسفل فعليه دية كاملة؛ لأنه أذهب منفعة لا نظير لها في الجسم.
قوله: «والأكل» إذا أذهب منفعة الأكل فعليه دية كاملة، وهي ذات شُعَب، فقد يذهب اشتهاؤه الأكل، أو صار يأكل ولكنه لا ينتفع بالأكل، أو صار يأكل ولكنه لا يهضم، فيبقى الطعام في معدته لا ينزل أبداً، ففي هذه الأحوال دية كاملة؛ لأن الأكل ينتفع به في مذاقه، وفي اشتهائه، وفي هضمه، وفي منفعة الجسم به، فإن أفقده أكل بعض المأكولات كمرض السكري مثلاً، فهذا فيه حكومة.
قوله: «والنكاح» أي: جني عليه حتى صار لا يشتهي النساء، أو يشتهي ولكنه لا يستطيع الجماع، كأن يصير عنيناً، أو يجامع ولكن لا ينزل، أو ينزل ولكنه لا يلقح، فإذا أفسد واحدة من هذه الأربع ففيه الدية كاملة.
قوله: «وعدم استمساك البول» فإذا جنى عليه حتى صار لا يستطيع إمساك البول فعليه دية كاملة؛ لأنه أتلف منه منفعة ليس في جسمه منها إلا شيء واحد.
قوله: «أو الغائط» أي: لا يستمسك الغائط، كأن يضربه على صلبه ويرتخي، فلا يستطيع إمساك الغائط، فعليه دية كاملة، وكذلك إذا جنى عليه حتى صار لا يمسك الريح فعليه دية كاملة.(14/152)
وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّعُورِ الأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ، وَهِيَ شَعْرُ الرَّأْسِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالْحَاجِبَيْنِ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ فَإِنْ عَادَ فَنَبَتَ سَقَطَ مُوجَبُهُ، وَفِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ الدِّيَةُ كَامِلَةً،........
قوله: «وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية، وهي شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين» فقوله: «شعر الرأس» أي: إذا جنى على شخص جناية حتى أذهب شعر رأسه وصار لا ينبت فإن فيه الدية كاملة؛ لأن شعر الرأس لا شك أنه جمال ووقاية، وفي فقده عيب وقذر عند الناس، ففيه ثلاثة أمور: الجمال، والوقاية، وأن فقده عيب وقذر عند الناس، ولهذا في قصة الثلاثة الذين ابتلوا، كان أحدهم أقرع يقذره الناس (1) .
وقوله: «واللحية» فإذا جنى عليه جناية حتى صارت لحيته لا تنبت فعليه دية كاملة، حتى لو كان هذا المجني عليه ممن اعتاد حلق لحيته، فظاهر كلام المؤلف أنَّ له الدية؛ وذلك لأنه أذهب شيئاً ليس في الإنسان منه إلا واحد، وأيضاً فيها جمال، فإن جمال الرجل باللحية أمر ظاهر.
وقوله: «والحاجبين» وهما العظمان الناتئان فوق العينين، وفي شعرهما الدية كاملة، وفي الواحد نصف الدية، والحاجبان من نعم الله على الإنسان؛ لأنهما يحميان العين من نزول ما يضرها من ناحية الجبهة من عرق أو غيره، وأيضاً يظللانها من أشعة الشمس، ولهما فوائد أكثر من هذا.
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل (3464) ، ومسلم في الزهد
باب الدنيا سجن للمؤمن وجنة للكافر (2964) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/153)
وقوله: «وأهداب العينين» ففيها الدية كاملة، وفي الواحد ربع الدية، ولو جنى عليه حتى أذهب شعر شاربه فما الذي عليه؟ عليه حكومة، والعنفقة فيها حكومة؛ لأنها ليست من اللحية، وأما شعر الإبطين فإنه يُنظر، فإذا قال الأطباء: إن وجود هذا الشعر خير وأن إزالته بالنتف فيه مصلحة للبدن، فإن هذا المجني عليه يعطى حكومة، وإن قالوا: هذا إحسان إليه فلا شيء في إزالته، وشعر العانة كالإبط، فيقال فيه ما قيل في شعر الإبط.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الشعور الأربعة لا تجب فيها الدية، وقالوا: إنه لا منفعة منها إلا الجمال، فهي كاليد الشلاء، والعين القائمة، وعلى هذا ففيها حكومة، كما لو جنى عليه فخدش وجهه حتى ذهب جماله ففيه حكومة، وهذا رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الشافعي، ومالك رحمهم الله.
ولكن المشهور من المذهب أنه يجب فيها الدية، بخلاف الشعور الأخرى فإنه يجب فيها حكومة، والظاهر أن المذهب أصح، لا سيما شعر الرأس واللحية.
قوله: «فإن عاد فنبت سقط موجَبه» «موجَبه» بفتح الجيم وهذا متعين؛ لأن موجِب الشيء ما كان سبباً لوجوبه، وموجَب الشيء ما وجب بسببه، فبينهما فرق، ونظير ذلك المقتضي والمقتضى، فمقتضي الشيء ما كان سبباً لوجوده، ومقتضاه ما وجد بسببه.
وقوله: «فإن عاد فنبت سقط موجبه» فإن كان هذا الرجل قد(14/154)
سلَّم الدية، مثل أن يجني عليه حتى ذهب شعر رأسه، وأعطاه الدية، مائة بعير، ثم بعد ذلك نبت، فإن المجني عليه يردّ الدية على الجاني.
فإن مات قبل أن يرجع ثبتت الدية، فإن طالب المجني عليه بالدية، وقال الجاني: انتظر ربما يرجع الشعر، يُرجع إلى أهل الخبرة، فيمهل مدةً يُعلم أن الشعر إن لم يُنبت فيها فليس بنابت.
والحاصل أنَّ عندنا حالات:
أولاً: إذا نبت الشعر ولو بعد مدة يسقط موجَبه، فإن كان المجني عليه قد قبض الدية فإنه يردها.
ثانياً: إذا مات قبل أن ينبت، استقر وجوب الدية.
ثالثاً: إذا طالب الجاني بالإمهال، فإنه يرجع إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إن هذه الجناية لا يمكن أن يرجع معها الشعر أبداً ثبت الموجَب، وإن قالوا: يمكن في خلال ستة أشهر، أُنْظِرَ ستة أشهر، حسب ما يقرِّره أهل الخبرة.
فإن قلع سنه، وقال الجاني: ننتظر ربما يعود، نقول: إن كان سن اللبن، فإنه يعود، وينتظر، وإن كان غيره فإنه لا ينتظر؛ لأن الأصل عدم نباته.
وَإِنْ قَلَعَ الأَْعْوَرُ عَيْنَ الصَّحِيحِ المُمَاثِلَةَ لِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ عَمْداً فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَلاَ قِصَاصَ. وَفِي قَطْعِ يَدِ الأَْقْطَعِ نِصْفُ الدِّيَةِ كَغَيْرِهِ.
قوله: «وفي عين الأعور الدية كاملة» لماذا جعل دية كاملة وهي عين واحدة؛ قالوا: من أجل إذهاب المنفعة؛ لأن الأعور ينظر بالواحدة نَظَره بالثنتين، وإن كان نظره قاصراً؛ لأن الذي ينظر بالثنتين ينظر من كل الجوانب، والذي ينظر بعين واحدة ينظر من جانب واحد.(14/155)
فلو أن إنساناً فقع عين أعور حتى فقد بصره فعليه دية كاملة؛ لأنه أفقده منفعة البصر، صحيح أن العين الواحدة ليست فيها إلاَّ نصف الدية، ولكن هذا ليس من أجل أنها عين واحدة، ولكن من أجل أنه أفقده منفعة البصر فوجبت الدية كاملة، وهذا القول هو الصحيح، وإن كان بعض العلماء أخذ بالعموم، وأن في العين الواحدة نصف الدية، وكونه أفقده البصر كله هذا تابع للعين.
مسألة: لو أن رجلاً لا يسمع إلا من جانب واحد فجني عليه حتى ذهب السمع كله، فما الواجب؟
المذهب يقولون: عليه نصف الدية، ولكن عند التأمل تجد أنه لا فرق بين هذه المسألة وبين عين الأعور.
فإن قالوا: الفرق أن الذي يسمع من أذن واحدة إذا كنت تتكلم بجانبه لا يسمعك، ولهذا إذا أراد أن يسمع منك يلوي عنقه، أو يقول: تعال من الجانب الآخر، وهذا بخلاف الأعور.
والجواب: أن نقول: وكذلك الأعور لو يأتي أحد عن يساره، وعينه اليسرى لا تبصر فإنه لا يشعر به، إذاً لا فرق بين المسألتين.
واستدل بعض أهل العلم لذلك بأن من نظر من خَصاص البيت فإنها تفقأ عينه بدون إنذار، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين أن رجلاً اطلع في حجر في باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع رسول الله مِدرىً يحك به رأسه، فلما رآه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أعلم أنك(14/156)
تنتظرني لطعنت به في عينك» (1) .
وكذلك قال العلماء: إذا تسمَّعَ فلك أن تطعن أُذُنه، وهذه المسألة خلافية؛ لأن النص إنما ورد في العين، ولكن ما دمنا ألحقنا السمع بالبصر في مسألة الذي ينظر من خصاص البيت، فإننا نقول: إذن نلحق السمع في مسألة الدية بالبصر.
فالقول بأنه إذا أذهب سمعه من جانب واحد يلزمه دية كاملة لا شك أنه هو القياس والعدل، ولا فرق بينه وبين البصر.
قوله: «وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص» رجل عنده العين اليمنى سليمة، والعين اليسرى عوراء، فقلع من رجلٍ صحيح العينين عينه اليمنى، فلو قلعنا عين الأعور صار أعمى، مع أن هذا الأعور لما قلع عين الصحيح صار أعور لا أعمى، فلا قصاص على هذا الرجل الأعور، مع أن ظاهر القرآن {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] القصاص، وإذا تلف بصر هذا الأعور فهو الذي جنى على نفسه وتعمد، فلماذا لم يَتَعمد أن يفقأ عينه اليسرى لأجل أن تبقى عينه؟!
قالوا: نعم، الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} ، والباء تدل على العوض، وعين هذا قيمتها ليست كقيمة عين
__________
(1) أخرجه البخاري في الديات باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية (6901) ، ومسلم في الآداب باب تحريم
النظر في بيت غيره (2157) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ واللفظ للبخاري.(14/157)
الأعور، فعين الأعور أغلى فهو أفضل منه، وزيادة على كونها عيناً فهي محتفظة بالبصر كله، ولهذا لا يمكن أن تتحقق المماثلة حتى يثبت القصاص.
وقال بعضهم: إنه لا قصاص، وعليه نصف الدية، وهؤلاء اعتبروا عين المجني عليه، وقالوا: المجني عليه لم يذهب منه إلاّ نصف البصر فله نصف الدية، فالأقوال إذاً ثلاثة:
الأول: القصاص.
الثاني: لا قصاص، وعليه الدية كاملة.
الثالث: لا قصاص، وعليه نصف الدية اعتباراً بحال المجني عليه، فإنه لم يفت في حقه إلا نصف البصر، فكيف نوجب عليه دية كاملة؟!
وحُجّة المذهب أنه مروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما (1) ، ولا يعرف لهما مخالف، ولأننا أسقطنا عنه القصاص لمصلحته وأبقينا له حاسة كاملة، فلزمه ديةٌ كاملة.
مسألة: إذا قلع الصحيح عين الأعور الصحيحة فعليه الدية كاملة، وإن كان عمداً فعليه القصاص، وهل يُلزَم الجاني مع القصاص بأن يدفع نصف الدية؟ المذهب أنه يلزم بذلك؛ لأنه أفقده حاسة كاملة، وهي البصر.
والقول الثاني: أنه لا يلزم بنصف الدية؛ لأنها عين بعين كما قال تعالى، وكون الصحيح تبقى له عين ثانية فهذا ليس من
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9/333) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/94) .(14/158)
جهة المجني عليه، وهذه المسألة تحتاج إلى تأمل ونظر؛ لأن كلا القولين قوي.
ولو قلع الأعور عين الصحيح التي لا تماثل عينه، فلا يقتص منه؛ لعدم المماثلة.
قوله: «وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره» الأقطع الذي ليس له إلاّ يد واحدة، فجاء إنسان وقطع اليد الأخرى فعليه نصف الدية فقط، والفرق بينه وبين العين أنه في العين أذهب البصر كلّه، أما اليد التي بقيت فإنه لا ينتفع بها إلا نصف انتفاع، ولهذا من أمثلة العامة «اليد الواحدة لا تصفق» ، فلما كانت نصف المنفعة مفقودة في الأول صار الواجب نصف الدية.
وقوله: «كغيره» أي: كغير الأقطع، فإن غير الأقطع ليس في يده إلاّ نصف الدية.
مسألة: أقطع الرِّجْل، ما الحكم فيمن قطع رِجْله الثانية؟
كلام المؤلف يدل على أنه ليس له إلاّ نصف الدية؛ لأنه لمَّا قطعت رجله الأولى زال عنه نصف المشي، ففُقد من المنفعة نصفها، فليس من له إلاّ رِجْل واحدة كمن له رجلان.
فإن قيل: الأقطع كان يمشي على عصا، أما بعد الجناية فلا يستطيع المشي مطلقاً؟ الجواب: هذا صحيح، لكن الجاني لم يُذهب إلاّ نصف المنفعة فقط، فعليه نصف الدية فقط.(14/159)
بَابُ الشِّجَاجِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ
الشَّجَّةُ: الْجُرْحُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً، وَهِيَ عَشْرٌ: الْحَارِصَةُ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ، أَيْ: تَشُقُّهُ قَليلاً وَلاَ تُدْمِيهِ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ الدَّامِيَةُ الدَّامِعَةُ وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ وَهِيَ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْمُتَلاَحِمَةُ وَهِيَ الْغَائِصَةُ فِي اللَّحْمِ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ وَهِيَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ، فَهذِهِ الْخَمْسُ لاَ مُقَدَّرَ فِيهَا، بَلْ حُكُومَةٌ،.....
قوله: «الشجاج» : جمع شجة، و «كسر العظام» معروف.
قوله: «الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة» هذا هو تعريف الشجة، وإنما يتلقى معناها ومدلولها من العرب، والعرب لا يسمون شجة ما كان جرحاً في ساق، أو فخذ، أو صدر وغيره.
والشجة عند العرب مراتب، بدأ المؤلف فيها بالأسهل فالأسهل، فقال: «وهي عشر: الحارصة التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه» ، فهي سهلة جداً كحكة الظفر.
قوله: «ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم» «البازلة» من البزل وهو الشق، ومنه البزول التي يفعلونها في النخيل، فيشققون في النخيل شقاً لأجل أن يتسرب عنه الماء المالح، فالبازلة سميت دامية؛ لأنه ظهر منها الدم.
وسميت دامعة؛ لأنه يسيل منها الدم تشبيهاً بدمع العين، حتى لو كان الدم قليلاً كنطفة فهي بازلة ما دام أن الدم قد سال.(14/160)
قوله: «ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم» أي: تجاوزت الجلد إلى اللحم وبضعته، أي: شقته.
قوله: «ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم» سميت بذلك لغوصها في اللحم، فكأنها صارت جزءاً منه.
قوله: «ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة» السمحاق أصلها القشرة التي بين اللحم والعظم، وهي القشرة البيضاء، فسميت الشجة باسم هذه القشرة؛ لأنها وصلت إليها.
وهذه الشجاج يرجع فيها إلى أهل الخبرة، وأهل الخبرة عندهم مسبار، وهي آلة يسبرون بها مقدار الجرح ويعرفونه تماماً.
قوله: «فهذه الخمس لا مقدّر فيها بل حكومة» أي: ليس فيها شيء مقدر من الدية، بل فيها حكومة، فإذا طالب المجني عليه بدية، فليس له إلا حكومة.
والحكومة: أن نقدر هذا الذي جُني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم نقدره كأنه عبد بريء منها، فما بين القيمتين له مثل نسبته من الدية.
فإذ قدّرنا أن قيمته عشرة الآف ريال لو كان عبداً بدون جناية، وهو بالجناية وقد برئت يساوي تسعة الآف وخمسمائة، فديته نصف العشر ـ أي: خمس من الإبل ـ فيكون في الجناية خمس من الإبل.(14/161)
ولكنهم يقولون: إنه إذا كانت في موضع له مقدَّر فإنه لا يبلغ بها المقدر، وهنا في موضع له مقدر؛ لأن غالب الشجاج فيها شيء مقدر، وعلى هذا فإذا قالوا: إنَّ الحكومة تبلغ خمساً من الإبل نقول: لا نعطيه خمساً من الإبل، لأن في الموضحة وهي أعظم من هذه خمساً من الإبل، ولكن نعطيه خمساً من الإبل إلا قليلاً.
وَفِي الْمُوضِحَةِ وَهِيَ مَا تُوضِحُ اللَّحْمَ وَتُبْرِزُهُ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتُهْشِمُهُ وَفِيهَا عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ، ثُمَّ الْمُنْقِلَةُ وَهِيَ مَا تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ وَتَنْقُلُ عِظَامَهَا، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِلِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَالدَّامِغَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ،
قوله: «وفي الموضحة وهي ما توضح اللحم وتبرزه» هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ، لكن قال في الروض (1) : «الصواب العظم» ، لكن يقولون: إن النقل أمانة، فانقل الكتاب على ما هو عليه، لا سيما إذا كان بخط المؤلف، ثم تعقبه إذا كان فيه شيء من الخطأ.
فهنا نقول: هي بخط المؤلف «ما توضح اللحم» وهو خطأ بلا شك، فلعلّه سبق قلمٍ من المؤلف، والصواب أنها توضح العظم.
وسميت بهذا الاسم؛ لأنها أوضحته وبيَّنته، فالموضحة وصف لموصوف محذوف، والتقدير شجة موضحة للعظم.
قوله: «خمسة أبعرة» جناية الموضحة إذا كانت خطأ فله خمسة أبعرة، واحدة لها سنة، والثانية سنتان، والثالثة ثلاث سنوات، والرابعة أربع سنوات، والخامسة ذكر من بني مخاض له سنة.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/270) .(14/162)
وإذا كانت الجناية شبه عمد أو عمداً ولم يختر القصاص فتكون أرباعاً، ونجعل الخامسة من الوسط.
قوله: «ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة» اشترط المؤلف شرطين، وهما إيضاح العظم وهشمه، فإن هشمته بدون إيضاح فحكومة، ولا تكون هاشمة؛ لأن الهاشمة لا بد أن توضح العظم وتهشمه، وفيها عشرة أبعرة.
قوله: «ثم المنقلة وهي ما توضح العظم، وتهشمه، وتنقل عظامها، وفيها خمس عشرة من الإبل» هذه أشد من التي قبلها، وفيها خمسة عشر من الإبل، وكل هذه ورد فيها النص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
قوله: «وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية» المأمومة: هي التي توضح وتهشم وتكسر العظام، وتنقلها وتصل إلى أم الدماغ، وأم الدماغ هي الوعاء الذي فيه المخ، فيها ثلث الدية كما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «في المأمومة ثلث الدية» (2) .
وقوله: «والدامغة» وهي التي تخرق جلدة الدماغ، وهي أشد من المأمومة وفيها ثلث الدية.
__________
(1) سبق تخريجه ص (117) .
(2) سبق تخريجه ص (117) .(14/163)
وقال بعض العلماء: في الدامغة ثلث الدية وأرش؛ لأنها أعظم من المأمومة، فإذا كانت أعظم فيجب أن تكون أكثر.
والمذهب يقولون: إن هذه مثل ما لو قطع الكف، أو الكف والمرفق، فإذا قطع الكف ففيه نصف الدية، وإذا قطعه مع المرفق فكذلك نصف الدية، فإذا وصل إلى أم الدماغ وهي أعظم الشجاج استوى ما خرق الدماغ وما لم يخرقه، والذين يقولون بالأرش قالوا بالتفريق، وأما القياس على اليد ففيه نظر؛ لأن اليد عضو واحد، فهي يد سواء قطعتها من الكتف، أو من المرفق، أو من العضد، وأما الدامغة فهي أكثر خطراً من المأمومة التي تصل إلى أم الدماغ ولا تخرقه، فلا يمكن أن نسوي بين مختلفين، وهذا القول قوي جداً، وهو أنه إذا خرقت الدماغ فيعطى المأمومة والأرش.
وأيضاً يقولون: نحن لدينا نص يفرق بين هذه الشجاج، فالهاشمة ليست كالمنقلة، مع أن الموضع واحد، والهاشمة ليست كالموضحة فبينها فرق، وإذا كان الشرع فرَّق بينهما والمحلّ واحد عُلِمَ أنه لا بدّ من التفريق، ولذلك فالقول الراجح في المسألة أن الدامغة تجب فيها ثلث الدية مع الأرش.
ولكن يبقى عندنا الحق العام وهو التعدي، فهو لولي الأمر يعزره إن شاء لتعديه.
وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إِلى بَاطِنِ الْجَوْفِ، وَفِي الضِّلَعِ وَكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ التَّرْقُوَتَيْنِ بَعِيرٌ، وَفِي كَسْرِ الذِّرَاعِ وَهُوَ السَّاعِدُ الْجَامِعُ لِعَظْمَيِ الزِّنْدِ، وَالْعَضُدِ، وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ إِذَا جَبَرَ ذلِكَ مُسْتَقِيماً بَعِيرَانِ،..........
قوله: «وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف» كل ما لا يرى من المجوف فهو جوف، كالبطن،(14/164)
والصدر، وما بين الأنثيين، والحلق، وما أشبهها، وفيها ثلث الدية، وكل هذه المقادير التي نذكرها ما لم تصل إلى الموت، فإن مات المجني عليه ففيها دية كاملة؛ لأن سراية الجناية مضمونة.
قوله: «وفي الضّلع وكل واحدةٍ من الترقوتين بعير» الضِّلع فيه بعير من جنس أسنان الدية السابقة.
وقوله: «الترقوتين» وهما العظمان المحيطان بالعُنُق، وفي كل ترقوة بعير، وفي الثنتين بعيران.
قوله: «وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند» الذراع فيه بعيران.
وقوله: «وهو الساعد الجامع لعظمي الزند» كل يد فيها زندان، أحدهما متصل بالكوع، والثاني بالكرسوع، قال الناظم:
وعظم يلي الإبهام كُوع وما يلي
لخنصره الكرسوع والرُّسغ ما وسط
وعظم يلي إبهام رِجْلٍ ملقب
ببُوع فخُذ بالعلم واحذر من الغلط
ومراد المؤلف بقوله: «وفي كسر الذراع» إذا كسر ولم ينفصل، أما إذا انفصل ففيه دية اليد كاملة، أي: نصف الدية.
قوله: «والعضُد» معطوفة على الذراع، وليس معطوفاً على الزند، وهو العظم الذي بين الكتف والمِرفق، وفيه بعيران.
قوله: «والفخذ» وهو ما بين الركبة والورك، فإذا كسره ففيه بعيران.(14/165)
قوله: «والساق» أي: أن في الساق بعيرين، وهذا له شرط وهو ما ذكره المؤلف بقوله:
«إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران» فإن جبر غير مستقيم ففيه حكومة.
فمثلاً: لو جبر الساق معوجّاً، أو العضد، أو الذراع، أو الزند أو ما أشبه ذلك ففيه حكومة، ولا بد أن ترجع حركة العضو على ما كانت عليه، فإن نقصت ففيه حكومة.
فمثلاً بعد أن كسر انشلَّت يده بعض الشيء، فإن فيه حكومة، وإن جبر مستقيماً؛ لأنه فوَّته بعض المنفعة.
وأما الأدلة على ما سبق، فالضلع والترقوة والزند فيها آثار عن الصحابة رضي الله عنهم (1) ، وأما البقية فإنها بالقياس، فالترقوة والضلع جنس واحد تقريباً؛ لأنهما في الصدر، وأما الذراع فإنه قد ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أثر أن في الزند الواحد بعيرين (2) ، وفي كل يد زندان، ففي الزندين أربعة أبعرة، فإذا كان الزند إذا كسر فيه بعيران، فالذراع من باب أولى؛ لأن الذراع جامع لهما، وإذا كان الذراع فيه بعيران، فالساق من باب أولى، وإذا كان الساق فيه بعيران، فالفخذ من باب أولى، ولهذا فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ قاسوا هذه المسألة بعضها على بعض،
__________
(1) أخرجها مالك في الموطأ (2/861) ، والشافعي في الأم (7/234) ، وعبد الرزاق (17578) ، وابن أبي شيبة (
26955) ، وابن حزم في المحلى (10/453) ط. إحياء التراث.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (27779) .(14/166)
وقالوا: الآثار وردت في ثلاثة، وقيس الباقي عليه؛ لأنه مثله، أو أولى منه.
وقال بعض فقهائنا: إنه لا تقدير إلا فيما ورد به الأثر؛ أي: الضلع، والترقوة، والزند، والباقي حكومة.
وذهب أكثر أهل العلم: إلى أن الجميع فيه حكومة، وحملوا ما ورد عن عمر في ذلك على أنه من باب التقويم، وإذا كان من باب التقويم صار حكومة، وقالوا: إن الحكومة أقرب إلى العدل، ما دامت المسألة ليس فيها نص من الشارع يجب العمل به، فإنه ليس كسر الزند الواحد ككسر الذراع، والزند الواحد فيه بعيران، والزندان فيهما أربعة، فإذا كان الفرعان فيهما أربعة أبعرة، فكيف لا يكون الأصل وهو الذراع فيه أربعة أبعرة؟! أو العضد أيضاً؟! ولهذا فالقول بالحكومة في هذه الأعضاء أقرب إلى العدل، وحمل ما ورد عن أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ على أنه من باب التقويم له وجه، فربما رأى عمر أن الحكومة تساوي بعيرين في ذلك الوقت، فقال: فيه بعيران.
ثم على فرض أنه ليس تقويماً، وأنه توقيف فإن هذا الفعل من عمر ـ رضي الله عنه ـ يدل على أن له أصلاً في السنة، فيقتصر على ما ورد به النص، ويبقى الباقي على أنه حكومة، وأما أن نقول: إن كسر الفخذ ككسر واحد من الزندين، ليس فيه إلا بعيران، فالمسألة فيها نظر ظاهر.
والراجح عندي في هذه المسألة أن نقول: إن فيها حكومة في الجميع، ويحمل ما ورد عن عمر على أنه من باب التقويم،(14/167)
وما دام الأمر فيه احتمال أن يكون هذا من عمر ـ رضي الله عنه ـ على سبيل التوقيف، أو على سبيل التقويم، فالأصل عدم الإلزام بهذا التقدير حتى يثبت أنه تشريع، وليس تقويماً، ثم إذا تنازلنا، نقول: نجري ما جاء به النص عن أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ، والباقي يكون حكومة، وقد فسرها المؤلف بقوله:
وَمَا عَدَا ذلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَالْحُكُومَةُ: أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لاَ جِنَايَةَ بِهِ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرِئَتْ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْقِيمَةِ فَلَهُ مِثْلُ نِسْبَتِهِ مِنَ الدِّيَةِ.
«والحكومة: أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية» فقوله: «أن يقوَّم» أي: تقدَّر قيمته، ومصدر قَوَّمَ تقويم، وبهذا نعرف الخطأ الشائع عند الناس، يقولون: تقييم، مأخوذ من القيمة، فيقال لهم: أصل القيمة القيومة، ولكن حوِّلت «الواو» إلى «ياء» لعلة تصريفية، وعلى هذا نقول: مصدر قوَّم تقويم.
وقوله: «لا جناية به» أي: أنه سليم، و «الباء» هنا بمعنى «في» .
وقوله: «ثم يقوم وهي به» الواو هنا للحال، والحال أن الجناية به، ولكن بشرط، وهو قوله: «قد برئت» وبهذا نعرف أن التقويم لا يكون إلا بعد البرء.
وهل يلزم من هذا التقويم أن ننادي عليه في السوق،(14/168)
ونقول: من يسوم هذا العبد؟ لا، بل يسأل أهل الخبرة، فإن لم يوجد أهل خبرة نأتِ باثنين، أو ثلاثة ممن يوثق بهم، ونقول لهم: قدِّروه لنا.
كَأَنَّ قِيمَتَهُ عَبْداً سَلِيماً سِتُّونَ، وَقِيمَتَهُ بِالْجِنَايَةِ خَمْسُونَ، فَفِيهِ سُدُسُ دِيَتِهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْحُكُومَةُ فِي مَحَلٍّ لَهُ مُقَدَّرٌ فَلاَ يُبْلَغُ بِهَا الْمُقَدَّرُ.
قوله: «كأن قيمته عبداً سليماً ستون وقيمته بالجناية خمسون، ففيه سدس ديته» .
قوله: «كأن» في نسخة أخرى «فإن كان» .
وقوله: «عبداً» حال مؤولة أي: مملوكاً، وهي مثل قولهم: بعه مداً.
مثاله: رجل جُني عليه جناية غير مقدَّرة شرعاً، ففيها حكومة، فنقول: قوِّموا هذا الرجل عبداً سليماً، وقوموه عبداً قد جُني عليه وبرئت جنايته، وما بين القيمتين هو ديته، فيعطى مثل نسبته من الدية، فلو قدّرنا هذا الرجل عبداً سليماً قيمته ستون ألفاً، ثم قدرناه عبداً قد جُني عليه بجناية برئت بخمسين ألفاً، فالفرق بينهما عشرة من ستين، أي: السدس، فيُعطى سدس الدية، ولو قدِّر أن قيمته عبداً سليماً مائة، وقيمته بالجناية خمسون، فنصف الدية، وهكذا.
قوله: «إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدَّر فلا يبلغ بها المقدَّر» مثال ذلك: السمحاق ليس فيها مقدَّر، والواجب فيها حكومة، فإذا قدرناها بالحكومة فكانت تستوعب عشرة من الإبل،(14/169)
فلا نُعطيه عشرة من الإبل؛ لأن الموضحة وهي أعظم منها قدَّرها الشرع بخمسة، فلا نزيد على الشرع بل نعطيه خمسة إلا قليلاً؛ لأننا لسنا أحكم من الشرع، وإذا كنا كذلك فإن ما حدده الشرع لا يبلغ به ما كان من جنسه.
ونظير ذلك لو أن رجلاً خلا بامرأة ونام معها، واستمتع معها ما بين الفخذين، كل الليل، ثم أردنا أن نعاقبه فلا نجلده مائة جلدة؛ لأننا إذا جلدناه مائة جلدة بلغنا الحد، وهذا الفعل أقل مما يوجب الحد، فلا نعزِّره بتعزير يبلغ الحد؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون عملنا أحكم من عمل الشرع.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن نبلغ المقدر، أو أكثر في هذه المسألة، قال: لأن ما ورد به الشرع لا يمكننا مجاوزته لورود الشرع به، وما لم يقدره الشرع فقد جعل تقديره إلينا، وإذا جعل تقديره إلينا، فالواجب أن نتبع ما حصل فيه من نقص، فالشرع لمَّا سكت عنه فمعناه أنه يريد أن يكون الأمر إلينا، ونحن نقدر الأمر وننظر فيه.
ولكن المشهور من المذهب أنه إذا كانت في موضع له مقدر فلا يبلغ بها المقدر.(14/170)
بَابُ العَاقِلَةِ وَمَا تَحْمِلُ
هذا الباب يشتمل على موضوعين: الموضوع الأول العاقلة، والموضوع الثاني ما تحمله العاقلة.
العاقلة: اسم فاعل على الأصل من العقل، وليس مصدراً بمعنى اسم الفاعل؛ لأننا لا نلجأ إلى جعل اسم الفاعل بمعنى المصدر، إلا إذا لم يصح أن يكون اسم فاعل، مثل العاقبة، والعافية وما أشبههما.
وهل العقل مأخوذ من الدية؛ لأنهم يؤدونها عن قريبهم؟ أو من العقل وهو المنع؛ لأن العاقلة يمنعون قريبهم من أن يعتدى عليه، أو أن يذهب مذهباً يسيء إلى سمعتهم؟
الجواب: أنه شامل للجميع؛ لأن هذه المعاني لا تتناقض.
عَاقِلَةُ الإِنْسَانِ عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالوَلاَءِ، قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ حَاضِرُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، حَتَّى عَمُودَيْ نَسَبِهِ، ...
قوله: «عاقلة الإنسان عصباته كلهم من النسب» عصباته من النسب كل ذكر لم يدلِ بأنثى، فخرج به الزوج فليس منهم؛ لأنه ليس بعاصب، والأخ من الأم كذلك ليس منهم؛ لأنه مدلٍ بأم، وأيضاً ليس بعاصب، ودخل فيه الإخوة، والأعمام، وأبناء الإخوة، وأبناء الأعمام، وما أشبه ذلك.
قوله: «والولاء» العصبات من الولاء كالمعتِق، وأبناء المعتِق، وآباء المعتِق، وإخوة المعتِق؛ لأن الولاء كما جاء في(14/171)
الحديث «لُحمة كلُحمة النسب» (1) ، يورث به.
فلو فرض أن عبداً أُعتق، وجنى خطأ، وليس له أقارب من النسب، فالذي يحمل عقله سيده إن كان موجوداً، أو عصباته.
قوله: «قريبهم وبعيدهم» يحتمل أن المعنى أن القريب والبعيد يشتركون في العقل، ولا نظر إلى الحجب.
ويحتمل أن المعنى أن العصبات وإن بعدوا فإنهم من العاقلة، وتحميلهم على حسب إرثهم.
ولكن المعنى الأول هو المراد، وهو أن قريبهم وبعيدهم كلهم عاقلة، يعقلون ويؤدُّون، ولكن لا يحمّل البعيد إذا أمكن تحميل القريب، وهذا هو الفرق بينه وبين الإرث؛ لأن الإرث لا يرث البعيد مع القريب، ولكن هذا لا يحمَّل إذا أمكن تحميل القريب، فإن لم يمكن حُمِّل، كما لو كان له أعمام فقراء، وأبناء عم أغنياء، فأبناء العم لا يرثون، ولكن يحمَّلون مع العاقلة؛ لأنهم عصبة من حيث الجملة.
قوله: «حاضرهم وغائبهم» أي: حتى الغائب يراسل ويطلب منه أن يؤدي ما حمِّل من الدية، وإلا لكان كلٌّ يغيب ويدع الحمل.
قوله: «حتى عمودي نسبه» الصواب «عمودا» لأنها معطوفة
__________
(1) أخرجه الشافعي في «المسند» (237) ، وابن حبان (4950) إحسان، والحاكم (4/341) ، والبيهقي (10/292) عن
ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (10/292) ، والحافظ
في «التلخيص» (2151) ، والألباني في «الإرواء» (5/109) .(14/172)
على «عصباته» وهي خبر مبتدأ، وليست «حتى» هنا غائية حتى تكون جارَّة، بل هي عاطفة، ولا تصلح أن تكون غائية؛ لأن ما بعدها ليس غاية لما قبلها، أو يقدر لها عامل مناسب، والتقدير: حتى من عمودي نسبه، فتكون منصوبة بنزع الخافض.
وعمودا نسبه من ينتسبون إليه، أو يُنسب إليهم، فالذين ينتسبون إليه: فروعه، والذين ينتسب إليهم: أصوله.
وإنما نصَّ المؤلف على عمودي النسب مع دخولهم في عموم قوله: «عصباته كلهم» ؛ لأن في المسألة خلافاً، وأهل العلم لا ينصُّون على شيء داخلٍ في عموم إلا لوجود خلافٍ، أو لرفع توهُّمٍ، أو ما أشبه ذلك، فلا بد أن يكون له فائدة، وهنا الفائدة الإشارة إلى الخلاف.
فالقول الثاني: أن عمودي النسب لا عقل عليهم، وإنما العقل على الكلالة ـ أي: الحواشي ـ من الإخوة والأعمام ومن تفرع منهم.
والقول الثالث: أن الفرع لا عقل عليه، بخلاف الأصل
والقول الرابع: أن الأصول والفروع يعقلون، إلا أن الفرع لا عقل عليه إن كان من قبيلة أخرى، مثل أبناء المرأة، فإذا كانت المرأة من آل فلان، وتزوجها رجل من آل فلان، صار أبناؤها من غير قبيلتها، فذهب بعض أهل العلم إلى أنهم لا يؤدُّون شيئاً من العقل؛ لأن العقل مبني على النصرة، والدفاع، والحماية، ومن كان من قبيلة أخرى فليس من أهل النصرة، والدفاع، والحماية.
والمشهور من المذهب: أن عمودي النسب يعقلون؛ وذلك(14/173)
أنه كما أنهم غانمون بالإرث، فهم غارمون بالعقل.
وكيف نجعلهم غانمين ونورِّثهم، ثم لا يساعدون مورِّثهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك بالعقل؟!
إذاً فالأقوال في عمودي النسب أربعة:
القول الأول: أنهم كغيرهم من العصبات.
القول الثاني: أنهم لا يعقلون مطلقاً.
القول الثالث: أنه يعقل الأصول دون الفروع.
القول الرابع: أنه يعقل الأصول والفروع، إلا من كان من الفروع من غير القبيلة، مثل أبناء المرأة إذا كانوا من غير قبيلتها.
والصحيح العموم؛ لأن أولادها وإن كانوا من غير قبيلتها فقد وجب عليهم نصرها.
فإذا قال قائل: العاقلة ماذا عليهم؟
الجواب: عليهم أن يؤدُّوا الدية عن القاتل، وهذا بالنص والإجماع في الخطأ، واختلف العلماء في شبه العمد والصحيح أنه كالخطأ، أي: أن العاقلة تحمله.
وَلاَ عَقْلَ عَلَى رَقِيقٍ وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ، وَلاَ فَقِيرٍ، وَلاَ أُنْثَى، وَلاَ مُخَالِفٍ لِدِينِ الْجَانِي، وَلاَ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْداً مَحْضاً، وَلاَ عَبْداً، وَلاَ صُلْحاً، وَلاَ اعْتِرَافاً لَمْ تُصَدِّقْهُ بِهِ، وَلاَ مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ التَّامَّةِ.
قوله: «ولا عقل على رقيق» يعني لو كان للجاني قريب رقيق فإنه لا عقل عليه؛ لوجهين:
الأول: أنه ليس من أهل النصرة في العادة؛ لأنه مملوك.
الثاني: أنه لا مال له؛ لأن مال المملوك لسيده، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه، إلاّ أن(14/174)
يشترط المبتاع» (1) فجعل المال للذي باع.
فيؤخذ من قول المؤلف: «ولا عقل على رقيق» أنه يشترط لتحميل العاقلة أن يكون العاقل حراً.
قوله: «وغير مكلف» أي: لا عقل على غير مكلف، وغير المكلف الصغير والمجنون؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (2) ، فلا يُحمّل الصغير ولو كان عنده مال كثير، ولا يحمَّل المجنون ولو كان عنده مال كثير؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة غالباً، ويؤخذ من هذا الشرط الثاني وهو التكليف.
قوله: «ولا فقير» هذه الكلمة مأخوذة من الفقر وهو الخلو؛ وهو موافق للقفر أي: المكان الخالي، وهذا يسمى الاشتقاق الأصغر، يعني أن الكلمتين تتوافقان في الحروف، وتختلفان في الترتيب.
فالفقير وهو الذي لا يجد شيئاً، ولو كان قريباً من الجاني لا يحمَّل شيئاً؛ لأنه ليس عنده مال، ولا يقال: إنه يجب في ذمته حتى يغنيه الله؛ لأن المسألة مبنية على النصرة والحماية، ومن كان فقيراً مُعدماً كيف نلزمه بالمال؟!
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379) ، ومسلم في البيوع باب من باع
نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) سبق تخريجه ص (21) .(14/175)
ويؤخذ منه الشرط الثالث وهو أن يكون غنياً.
وما هو الفقر المانع، وما هو الغِنَى؟
يجب أن نعرف أنَّ الفقر في كل موضع بحسبه، فمثلاً في باب إيجاب الزكاة الغَنِيُّ من يملك نصاباً، وفي باب إعطاء الزكاة الغني مَنْ عنده قوته وقوت عائلته لمدة سنة.
وفي باب النفقات الفقير من يعجز عن التكسب، وليس عنده مال.
وفي هذا الباب يقول في الروض في تعريف الفقير (1) : «لا يملك نصاب زكاة عند حلول الحول فاضلاً عنه» .
ومعنى هذا أن الفقير هو الذي لا يملك نصاباً عند وجوب دفع الدية، فاضلاً عن كفايته وكفاية عياله.
قوله: «ولا أنثى» أي: لا يجب العقل على أنثى، ولو كانت عاصبة، فلو وُجد أنثى عندها مال كثير جداً، وقَتَل أخوها رجلاً خطأ، فلا نحملها من الدية، حتى لو كانت أمه أو ابنته أو أخته؛ لأن الأنثى ليست من أهل النصرة، ويؤخذ من هذا الشرط الرابع وهو أن يكون العاقل ذكراً.
قوله: «ولا مخالفٍ لدين الجاني» بأن يكون الجاني مسلماً والآخر كافراً، أو العكس؛ لأنه ليس من أهل النصرة؛ لأن الفصل بين المسلم والكافر ـ ولو كان أقرب قريب ـ ثابت شرعاً وعقلاً، قال تعالى لنوح لمَّا قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/282) .(14/176)
له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45، 46] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» (1) ، وإذا انقطع التوارث انقطع التعاون والتناصر، فلا يحمل المخالف في الدين شيئاً من العقل، ويؤخذ من هذا الشرط الخامس وهو اتفاق الدين.
وظاهر كلام المؤلف حتى في الولاء، خلافاً لما قالوه في باب الفرائض حيث قالوا: إن اختلاف الدين لا يمنع التوارث في الولاء، والصواب أن اختلاف الدين يمنع التوارث حتى في الولاء.
قوله: «ولا تَحْمِل العاقلة عمداً محضاً» هذا هو الشرط السادس، وهو أن تكون الجناية خطأ، أو شبه عمد.
فبقوله: «عمداً» خرج الخطأ.
وبقوله: «محضاً» خرج شبه العمد.
والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الدية في المرأتين اللتين اقتتلتا من هذيل على العاقلة، وهذا في شبه العمد، وفيه خلاف، والصحيح أنها تحمله، وأما الخطأ فبإجماع العلماء أن العاقلة تحمله.
فإن قلت: لماذا نحمل العاقلة الدية مع أن الجاني غيرها؟
فالجواب على ذلك من وجهين:
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر ... (6764) ، ومسلم في الفرائض باب لا يرث المسلم
الكافر ... (1614) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ.(14/177)
الأول: أن هذا حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيجب علينا الاستسلام له؛ لأن حقيقة الإسلام لا تتم إلا بالاستسلام لما حكم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال الله ـ عزّ وجل ـ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
فإن قال قائل: سلَّمنا لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن كيف نجيب عن قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]
والجواب: أن هذا في الذنوب والآثام، وأما في النصرة والمساعدة والمعاونة فذاك شيء آخر، فإيجاب الدية على العاقلة من باب النصرة والمعاونة، كما أوجبنا على الغني الإنفاق على قريبه الفقير.
وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] ، وقد أجمع العلماء على أنَّ الرَّجل لو وهب لإنسان شيئاً من ماله الذي حصله بكسبه وكدِّه فذلك جائز، وهو ليس من سعي المُعطى، فدل ذلك على أن المراد بالآية أنه ليس للإنسان من الثواب، إلا ثواب ما سعى وما عمل.
الثاني: أن الخطأ يقع كثيراً من الإنسان، ولو حمّلناه كل خطأ يقع منه لاستنفدنا ماله، فكان من الحكمة أن يُناصر ويعاون.
فإن قلت: هذه الحكمة موجودة في عهد الصحابة، وفي زمن مضى، لكن لها عاقبة سلبية في وقتنا الحاضر، وهو أن الإنسان إذا علم أن عاقلته سوف تحمل الدية عنه صار يتهور، ولا(14/178)
يبالي، أقتل نفساً أم لم يقتل، فما الجواب عن هذا؟
الجواب: أن الواجب أن نتمشى على الشرع، والذي يظهر منه أمارة التهوُّر وعدم المبالاة فإنه يُعزر بما يراه الإمام، فقد يكون تعزيره ـ مثلاً ـ بسحب رخصته، أو سيارته.
مسألة: إذا لم يكن للجاني عاقلة تحمل لكونهم إناثاً، أو فقراء، أو ما أشبه ذلك فعلى من تجب الدية؟
قالوا: على بيت المال، وإن كان غير مسلم ففي مال الجاني.
قال العلماء: وإذا تعذر بيت المال سقطت الدية.
والصحيح أنه إذا لم يكن له عاقلة فعليه، فإن لم يكن هو واجداً أخذنا من بيت المال؛ وذلك لأن الأصل أن الجناية على الجاني، وحُمِّلَت العاقلة من باب المعاونة والمساعدة.
قوله: «ولا عبداً» فلو أن شخصاً قتل عبداً خطأً، أو شبه عمد فإن العاقلة لا تحمله؛ لأن ضمان العبد يجري مجرى ضمان الأموال، ودية العبد قيمته بالغة ما بلغت، وإذا كان كذلك فإن ضمانه يكون على القاتل، كما لو قتل الإنسان بهيمة، وكما لو رمى شخص صيداً فأصاب بعيراً فإن ضمانها على القاتل، فكذلك العبد.
وقال بعض العلماء: إن دية العبد مضمونة على العاقلة؛ لأنه إنسان، ولأنه تجب الكفارة في قتله، فإذا وجبت الكفارة وجبت الدية، وإذا وجبت الدية فهي على العاقلة.
ولكن القول الأول أصح؛ لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة أن تكون الدية على العاقلة.(14/179)
إذاً يضاف شرط إلى الشروط السابقة، وهو ألاّ يكون ضمان المقتول جارياً مجرى الأموال كالعبد، فإذا كان جارياً مجرى الأموال فإن العاقلة لا تحمله.
قوله: «ولا صُلحاً» أي: لا تحمل العاقلة صلحاً؛ أي: صلحاً عن دعوى قتل أنكره المدعى عليه.
مثاله: ادعى جماعة على شخص أنه قتل مورثهم، وهو لم يقتله، فقالوا: إما أن تسلم الدية، وإما أن نشكوك، فصالحهم عن هذه الدعوى بمبلغ من المال، فهل تحمل العاقلة هذا الصلح؟
الجواب: لا؛ لأنه لم يثبت لا ببينة، ولا باعتراف الذي ادُّعِيَ عليه القتل، وإنما هو صلح عن دعوى لا دخل للعاقلة بها.
فإن قيل: إن هذا قد صالح؟ قلنا: هذا الرجل صالح عن دعوى عليه، وبإمكانه أن يُصرَّ على الإنكار، ثم يحاكم إلى القاضي، وإذا حوكم إلى القاضي تبين الحق.
قوله: «ولا اعترافاً» أي: لا تحمل العاقلة اعترافاً من المدعى عليه.
قوله: «لم تصدقه به» أي: بهذا الاعتراف.
مثاله: أن يُدَّعى على شخص أنه قاتِل، فيعترف بأنه هو القاتل، ولكن العاقلة قالوا: لا نصدِّق، فهل نلزمهم؟
الجواب: لا نلزمهم؛ لأنه ما ثبت ببينة، والدية تكون على الجاني الذي أقر، وعلى هذا فلا يلزم العاقلة ما لم تصدق به أو يثبت ببينة.
ولأننا لو ألزمنا العاقلة بذلك لفتحنا باباً لأهل الحيل،(14/180)
فيتفقون مع شخص على أنهم هم الجناة، ويحملون العاقلة الدية، وتكون الدية بينهم أنصافاً.
فإن قال قائل: هل الأولى للعاقلة أن تصدق، أو الأولى أن تُنكر؟ وهل إنكارها مقبول؟
الجواب: أنه يجب أن تنظر العاقلة إلى القرائن، فإن دلَّت القرائن على صدق المقر وجب عليها أن تصدق؛ لتبرئ ذمتها مما يجب عليها، وإن لم يغلب على ظنها صدقه فلها أن تنكر.
وإذا اعترف ولم تصدقه العاقلة ثبتت الدية عليه، وعليه الكفارة، ولكن بينه وبين الله، إن كان صادقاً في اعترافه وأنه هو القاتل لزمته، وإلا فلا.
قوله: «ولا ما دون ثلث الدية التامة» أي: لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية التامة، وهي دية الحر الذكر المسلم، وهي مائة بعير.
فلو أن رجلاً قطع ثلاث أصابع من ذكر مسلم حر خطأ، فلا تحمل العاقلة الدية، وإذا قطع أربعة حملته العاقلة؛ لأن الأربعة فيها أربعون وهي فوق الثلث.
والمأمومة الجائفة فيها ثلث الدية فتحملها العاقلة، وأما الموضحة والهاشمة والمنقلة فلا تحملهما العاقلة؛ لأن ديتها دون الثلث، والدليل أن ذلك هو المروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه (1) ـ ولا ريب أن عمر ـ رضي الله عنه ـ
__________
(1) أخرجه ابن حزم في المحلى معلقاً من طريق ابن وهب (11/51) .
وانظر: المصنف لابن أبي شيبة (6/408) .
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن عبيد الله بن عمر قال: إنهم مجتمعون، أو قال: كدنا أن نجتمع أن ما دون
الثلث في ماله خاصة. المصنف (9/410) .(14/181)
أحد الخلفاء الذين أمرنا باتباعهم، وهذا في الغالب لا يصدر عن اجتهاد، فقد يكون فيها نص حكم به ـ رضي الله عنه ـ ولم يروِهِ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما التعليل فلأن ما دون الثلث قليل لا يشق على الجاني أن يقوم به، ولا يحتاج أن يحمَّل غيره إياه للمواساة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث والثلث كثير» (1) ، وعلى هذا فما دون الثلث لا تحمله، والثلث فما فوق تحمله.
مسألة: لو أن مسلماً قتل مجوسياً فهل تحمل العاقلة الدية؟
الجواب: لا تحملها العاقلة؛ لأنها أقل من ثلث الدية؛ لأن ديته ثمانمائة درهم.
وقال بعض العلماء: إن العاقلة تحملها؛ لأنها دية كاملة، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تحملها؛ لأنها قليلة، ولا تحتاج إلى المساعدة والمساندة.
* * *
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا باب الوصية بالثلث (2744) ، ومسلم في الوصية باب الوصية بالثلث (1628) عن
سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ.(14/182)
فَصْلٌ
مَنْ قَتَلَ نَفْساً مُحَرَّمَةً خَطَأً مُبَاشَرَةً، أَوْ تَسَبُّباً بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
هذا الفصل في كفارة القتل، واعلم أن كفارة القتل من الكفارات المغلظة، ويشاركها في ذلك نوعان من الجريمة وهما: الظهار، والوطء في نهار رمضان لمن يلزمه الصوم، إلا أن هاتين الجريمتين تخالف كفارتهما كفارة القتل بأن فيهما إطعاماً، وليس في كفارة القتل إطعام.
ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النساء:92] .
قوله: «من قتل نفساً محرمة خطأ مباشرة، أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة» .
قوله: «من» اسم شرط، وأسماء الشرط للعموم، فيشمل كل قاتل، حتى الصغير، والمجنون، والحر، والعبد، والذكر، والأنثى.
أما إذا كان بالغاً عاقلاً فلا ريب أن الكفارة تلزمه؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ... } إلخ.
وإما إذا كان غير بالغ ولا عاقل فإن في المسألة خلافاً بين أهل العلم.(14/183)
فذهب أبو حنيفة وجماعة من العلماء: إلى أنه لا كفارة على الصغير والمجنون، قالوا: لأن الكفارة حق لله، وليست حقاً مالياً محضاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة» (1) ومنهم الصغير والمجنون، فلا تلزمهما الكفارة؛ لأنهما ليسا من أهل التكليف.
وهل النائم مثل الصغير والمجنون؟ بمعنى أنه لو نامت امرأة على طفلها، ولم تشعر به فمات، فهل عليها كفارة؟
الجواب: نعم، عليها الكفارة، وإن كانت مرفوعاً عنها القلم؛ لأنها من أهل التكليف، والنوم مانع، وليس فوات شرط، بخلاف الصغير والمجنون فإن الصفة فيهما فوات شرط، وأما الصفة في النائمة فهي وجود مانع، وإلا فهي من أهل التكليف.
وما ذهب إليه أبو حنيفة أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإن كان قولهم له حظ من النظر؛ لأنهم يقولون: إن الله أوجب الكفارة في الخطأ فدل ذلك على عدم اشتراط القصد، وإنما يشترط التكليف في العبادات من أجل القصد الصحيح، والصغير والمجنون لا قصد لهما فلا تجب عليهما العبادات، ووجوب الكفارة في القتل ليس من شرطها القصد بدليل وجوبها على المخطئ.
وهذا القول وجيه جداً، ولكن يُقال: إن أصل التكليف ليس بلازم لمن ليس بمكلف، وهذا التعليل عندي أقوى من تعليل الجمهور.
__________
(1) سبق تخريجه ص (21) .(14/184)
وهل نقول: من لزمته دية إنسان وجبت عليه كفارته؟
والجواب: نقول كما قال المؤلف: «من قتل» لأن الدية قد تجب بدون قتل، ففي ذهاب السمع دية كاملة، وكذلك البصر، فالتعبير بالقتل لا بد منه، ودليله القرآن قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً} .
وقوله: «نفساً» هذه نكرة في سياق الشرط فتكون عامة، لكنها خصصت بأوصاف تمنع القول بالعموم.
وقوله: «من قتل نفساً» هذا يشمل حتى لو قتل نفسه، فلو أن شخصاً كان يعبث بسلاح ثم ثار به وقتله فإنّ عليه الكفارة، وليس عليه الدية، لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} وهو مؤمن ويسمَّى قاتلاً؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل نفسه بحديدة عذب بها» (1) فهو قاتل لنفس مؤمنة فيلزمه الكفارة، وهذا هو المشهور من المذهب، وجزموا به، وقالوا: إنه يجب أن تؤدَّى الكفارة مِنْ تَرِكَتِه، لعموم الآية.
والقول الثاني: أن الكفارة لا تجب على من قتل نفسه، واستدلوا بقصة عامر بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ في غزوة خيبر حين تقدم عامر ليبارز مَرْحَبا اليهودي، فلما أراد عامر أن يطعنه من الأسفل، كان سيفه قصيراً فعاد السيف وضرب عين ركبة عامر فنزف الدم ومات، فلما مات شك الناس فيه، وقالوا: بطل أجر عامر، حتى إن بعضهم توقف عن الدعاء له، قال سلمة بن
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز باب ما جاء في قاتل النفس (1363) ، ومسلم في الإيمان باب غلظ قتل الإنسان نفسه
... (110) عن ثابت بن الضحاك ـ رضي الله عنه ـ.(14/185)
الأكوع ـ رضي الله عنه ـ: فبينما أنا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجدني ساكتاً، شاحباً ـ كأنه مغموم ـ فقال له: ما لَكَ؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يقولون: بطل أجر عامر، قتل نفسه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذب من قاله، إن له الأجر مرتين، إنه لجَاهِدٌ مجاهد، قلَّ عربي مشى بها مثله» (1) .
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور:
أولاً: كذب من قال: إنه بطل أجره، قال العلماء: والكذب هنا بمعنى الخطأ؛ لأن قولهم لم يطابق الواقع؛ لأنهم لم يخبروا عن شيء حدث، إنما قالوا شيئاً ظنُّوه، فكلامهم هذا إنشاء وليس خبراً، وهذا أحد المواضع التي يستشهد بها على أن الكذب يأتي بمعنى الخطأ.
ثانياً: قوله: «إنه لجاهد مجاهد» قيل: إن الكلمتين من باب التوكيد، كما يقال: شعرٌ شاعر، أي: شعر جيد جداً، وجاهد مجاهد، يعني أنه جاهد جداً.
وقيل: بل معنى «الجاهد» الجاد في الأمور، و «المجاهد» أي في سبيل الله، وهذا التفسير أحسن؛ لأنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً حُمِلَ على أنه تأسيس؛ لأننا إذا حملناه على التوكيد ألغينا مدلول الكلمتين، وإذا حملناه على التأسيس عملنا بمدلول الكلمتين، ويكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أثنى عليه من جهتين: من جهة العمل والجد فيه، ومن جهة الإخلاص.
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة خيبر (4196) ، ومسلم في المغازي باب غزوة خيبر (1802) عن سلمة
بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ.(14/186)
ثالثاً: قوله: «له الأجر مرتين» ، لأن الرجل بارز، وهذا أجر، وقتل نفسه في سبيل الله، وهذا أجر آخر.
ودعا له الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل: إن عليه الكفارة، ولو كانت الكفارة واجبة عليه لبيَّنها النبي صلّى الله عليه وسلّم لدعاء الحاجة إلى بيانها.
ثم إنك إذا قرأت الآية ظهر لك أنَّ المراد غير قاتل نفسه؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، ولا تجتمع الدية مع الكفارة إلا فيما إذا كان المقتول غير نفسه، أما إذا قتل نفسه فإنه لا تجب الدية بالاتفاق، فسياق الآية يدل على أن المراد من قتل غيره، وهذا القول أرجح، لكن ليس من جهة الآية؛ لأن الآية قد ينازع فيها منازع، ولكن من جهة قصة عامر بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ.
وقوله: «محرمة» أي: محرَّم قتلها، وهي المعصومة، والمعصوم أربعة أصناف من الناس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، فلو قتل حربياً فليس بمضمون لا بِكفارة ولا دِية؛ لأنه غير معصوم.
وقوله: «بغير حق» احترازاً مما إذا قتلها بحق.
وقوله: «مباشرة أو تسبباً» أي: أن يقتلها بمباشرة أو تسبب، فالمباشرة أن يباشر القتل هو بنفسه، مثل ما إذا أراد أن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، أو ضربه بعصا صغيرة فمات.
والتسبب مثل أن يحفر بئراً في محل، لا يجوز له حفره(14/187)
فيه، فيسقط فيه إنسان، فهو لم يباشر القتل، ولكنه فعل ما يكون سبباً في القتل، فعليه الكفارة؛ لأن المتسبب كالمباشر في الضمان، فلزم أن يكون كالمباشر في وجوب الكفارة، وهذا هو القول الراجح.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنَّ المتسبب لا كفارة عليه، وأن الكفارة إنما هي على المباشر؛ لأن المتسبب لا يسمى قاتلاً، ولكن الصحيح أن المتسبب كالمباشر، فكل من تسبب بقتل شخص فعليه الكفارة.
قال في الروض (1) : «أو شارك في قتلها» إذا شارك في القتل فعليه الكفارة، وعليه وعلى شريكه دية واحدة، فالدية واحدة والكفارة متعددة.
فإذا اشترك اثنان في قتل شخص فعليهما دية واحدة، وعلى كل واحد منهما كفارة، وهذا كثير، يصطدم اثنان بسيارتيهما وكلاهما مخطئ، ويموت رجل بينهما، فعليهما دية واحدة وكفارتان، ولو مات شخصان فعليهما ديتان وأربع كفارات، فإذا قال أحدهما: لماذا لا أكفر أنا عن شخص، والآخر يكفر عن الشخص الثاني؟ قلنا: لا؛ لأن الكفارة لا تتبعض، وكل واحد منكما شارك في قتل كل واحد منهما.
وإذا كان التعليل أن الكفارة لا تتبعض، فإنه يقال: إذا كان التكفير بالعتق فيمكن تبعضه، بأن يشتركا في شراء رقبة ويعتقاها،
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/289) .(14/188)
وهذا ممكن، ولكنه في نظر من قال: إن الكفارة لا تتبعض يقول: هذا غير ممكن؛ لأن حقيقة الأمر أن كل واحد منهما أعتق نصف رقبة فقط، وكل واحد منهما قاتِل بالمشاركة.
فالمذهب: أنه إذا شارك ولو في جزء واحد من مائة جزء فعليه كفارة، ولهذا لو اجتمع مائة على قتل شخص فعليهم مائة كفارة، على كل واحد كفارة.
وهناك وجه آخر لأصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنهم يشتركون في الكفارة.
وهذا القول في الحقيقة بالنسبة للعتق قد يقال: إنه ممكن، ولكن بالنسبة للصيام فغير ممكن؛ لأنه إذا صام شهراً، والآخر شهراً، لم يكن كل واحد منهما صام شهرين كفارة القتل.
وأما العتق فقد يقول قائل: إن مبناه على التحرير، ويعتمد على المال أكثر، بخلاف الصوم فهو عبادة بدنية محضة.
وعلى كل حال الاحتياط هو المذهب في هذه المسألة، وأنه يلزم كل واحد كفارة، ولو كثر المشتركون.
والكفارة عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ودليلها قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [النساء:92] .(14/189)
ذكر الله في الآية ثلاثة أصناف: مؤمن، ومعاهَد، ومِنْ قوم عدو لنا وهو مؤمن، فالمؤمن قال الله فيه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، فيجب فيه أمران: تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله.
والثاني: مؤمن من قوم عدوٍّ لنا، فيه الكفارة دون الدية.
لكن مَنْ هذا الرجل الذي مِنْ قوم عدو لنا، وهو مؤمن؟
قال بعض العلماء صورة ذلك: أن يقف رجُل من المؤمنين في صف الكفار فنقتله، ففي هذه الحال لا تجب له دية؛ لأنه هو الذي فرَّط في نفسه، ولكن علينا الكفارة.
وقال بعض العلماء: صورته أن يكون الرجل مؤمناً، لكن ورثته كفار، وهذا هو الصحيح وهو المتعين، فهو رجل مؤمن وورثته كفار أعداء لنا، فهذا يجب فيه الكفارة؛ لأنه مؤمن، ولا تجب الدية؛ لأننا إذا دفعناها لأهله صاروا يستعينون بها على قتال المسلمين، فلا ندفعها إليهم.
والثالث: من ذكره الله في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي: إذا كان المقتول كافراً معَاهَداً، ففيه الدية والكفارة، وهذا موجودٌ في عهدنا، فهؤلاء العمال الكفار لو أن أحداً قتل أحدهم خطأ، وجب فيه الدية والكفارة.
مسألة: هل في قتل العمد كفارة؟
قال بعض العلماء: في العمد كفارة؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فالعمد من باب أولى؛ لأن العمد أشد إثماً،(14/190)
فإذا أوجب الله ـ عزّ وجل ـ الكفارة في الخطأ، فهو إشارة وإيماءٌ إلى وجوب الكفارة في العمد.
وقال بعض العلماء: إنه لا كفارة في العمد، واستدلوا بأن الله تعالى شرط لوجوب الكفارة أن يكون خطأ فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} ثم أتى بعد ذلك بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] فلم يجعل له شيئاً يقيه من النار.
وقالوا أيضاً: إن العمد أعظم جرماً من أن تدخله الكفارة، وليس فيه إلا هذا الوعيد الشديد، وهذا القول أصح.(14/191)
بَابُ الْقَسَامَةِ
وَهِيَ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ فِي دَعْوَى قَتْلِ مَعْصُومٍ. مِنْ شَرْطِهَا اللَّوْثُ،....
قوله: «القسامة» : مأخوذة من القسم وهو اليمين.
وأصل القسامة أن عبد الله بن سهل بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ خرج هو ومُحَيِّصة بن مسعود بن زيد الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ في جماعة إلى خيبر بعد أن فتحت، يمتارون ـ أي: يشترون ـ التمر، فتفرقوا وكلٌّ ذهب إلى حائط ونخل، فوجد محيصةُ عبدَ الله بن سهل يتشحَّط في دمه قتيلاً، فقال لليهود: قتلتم صاحبنا، فقالوا: ما قتلناه، فرفع الأمر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟
وفي رواية: تحلفون على رجل منهم أنه قتله، فقالوا: يا رسول الله كيف نحلف ونحن لم نر ولم نشهد؟! فأخبرهم أن اليهود يحلفون خمسين يميناً، فقالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فوداه النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده (1) ، وهذا دليل على أنهم لو حلفوا لملكوا قتله.
وقد كانت القسامة معروفة في الجاهلية، فأقرها النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما كانت عليه في الجاهلية (2) ، وهذا دليل على أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية والموادعة باب إذا قالوا: صبأنا ... (3173) ، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص
والديات باب القسامة (1669) عن سهل بن أبي حثمة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الحدود باب القسامة (1670) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم.(14/192)
المعاملات التي عند الكفار إذا كانت موافقة للشرع فإنه يؤخذ بها، كما أن المضاربة في الأموال كانت معروفة في الجاهلية وأقرها الإسلام.
قوله: «وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم» صفة القسامة أن يدعي قومٌ أن مورِّثَهم قتله فلان، ويحلفون على أنه هو القاتل، ويكررون الأيمان، فإذا فعلوا ذلك وتمت شروط القسامة أُعطي المدَّعَى عليه لهؤلاء يقتلونه، فليس فيها بيِّنة، وإنما فيها هذه الأيمان فقط.
ويظهر تعريفها بالمثال:
ادعى ورثة زيد على شخص بأنه هو الذي قتل مورثهم، فقال الشخص: لم أقتله، وقالوا: بل أنت القاتل، ثم تحاكموا إلى القاضي، فقال لهم: أتحلفون على هذا أنّه قتل مُورِّثكم؟ قالوا: نعم، نحلف، فإذا حلفوا خمسين يميناً على هذا الرجل أنه قاتل مورثهم، أُخذ وقتل.
والقسامة في الحقيقة فيها مخالفة لغيرها من الدعاوِي من وجوه ثلاثة:
الأول: قبول قول المدَّعِي فيها وجعل اليمين في جانبه.
الثاني: تكرار الأيمان فيها.
الثالث: حَلِفُ المدَّعِي على شيء لم يره، ومع ذلك فإنها حكم شرعي.
أما الوجه الأول وهو أنه أخذ فيه بقول المُدَّعِي وجعل اليمين في جانبه، فإنها لم تخالف الأصول عند التأمل؛ لأنّك(14/193)
إذا تأملت الأصول وجدت أن اليمين إنما تشرع في الجانب الأقوى، يعني في جانب أقوى المتداعيين، فليست دائماً في جانب المدَّعَى عليه، فأحياناً تكون في جانب المدَّعَى عليه، وأحياناً تكون في جانب المدَّعِي، فينظر للأقوى من الجانبين وتشرع في حقه، بدليل أن أهل العلم قالوا: لو تنازع الرجل والمرأة في أواني البيت، فقالت المرأة: هذه لي، وقال الرجل: هذه لي، فالذي يصلح للرجل يكون له بيمينه، فمثلاً دلة القهوة لو قال الرجل: هي لي، وقالت المرأة: هي لي، فإنه يقبل قول الرجل «المدعي» حتى لو كانت الدلّة في يد المرأة، فنقول للرجل: احلف أنها لك وخذها؛ لأن جانبه أقوى.
مثال آخر: لو أنّ رجلاً ذا وقارٍ وهيئة، وعليه مشلح، وثوب، وغترة، وبيده مسحاة عاملٍ، وإلى جانبه عامل رافع ثوبه متحزِّم، وعليه ثوب غير نظيف، ويظهر من مظهره أنه عامل، ويقول: المسحاة لي، فقال الآخر: بل لي وهي بيدي، فهنا المدعي هو العامل، لكن في هذه الحال نغلب جانب العامل، فنقول له: احلف أنها لك وخذها.
مثال ثالث: لو كان رجلان ببلدٍ من عادتهم أن يستروا رؤوسهم بالشماغ، فوجدنا رجلاً حاسر الرأس ليس عليه شماغ، ورجلاً آخر عليه شماغ، وبيده شماغ، والرجل الحاسر يقول لهذا الذي بيده الشماغ: أعطني شماغي، هذا لي، والرجل الثاني يقول: هذا بيدي فهو لي، وأنت مدعٍ، فهنا الرجل المدعي الذي ليس عليه شيء أقوى جانباً، فنقول له: احلف وخذه.(14/194)
فتبين أن القسامة ليست شاذة عن أصول الدعاوي؛ لأن في الدعاوي ما يشهد لها، والقسامة فيها قرائن ترجح جانب المدعين، وهو اللَّوْث، أي: العداوة الظاهرة، كما سيأتي في كلام المؤلف.
وأما الوجه الثاني من المخالفة: وهو تكرار الأيمان، وغيرُها من الدعاوي يمين واحد تكفي، فالقسامة إنما تكرر فيها الأيمان لعظم شأن الدماء، حيث إذا أقدم هؤلاء على اليمين وحلفوا خمسين يميناً أُعطوا الرجل وقتلوه، وهذا أبلغ ما يكون من الخطر؛ فمن أجل ذلك كررت بخمسين يميناً.
وأما كونها خمسين يميناً، ولم تجعل عشرة مثلاً، فهذا ليس إلينا، كما أن هذا لا يرِد على أن صلاة الظهر أربع ركعات، ولم تجعل ثماني ركعات مثلاً.
وأما الوجه الثالث: وهو حلف الإنسان على شيء لم يره، فنقول: للإنسان أن يحلف على شيء لم يره اعتماداً على القرائن، وغلبة الظن، والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقرَّ الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان، حين قال: «والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني» (1) ، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن عنده غلبة ظن، ولم يقل له: لا تحلف، فإنك لا تدري.
وقوله: «في دعوى» فُهِمَ منه أن الذي يحلف هو المدعِي؛
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936) ، ومسلم في
الصيام باب تحريم الجماع في شهر رمضان ... (1111) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(14/195)
لأنه لم يقل: في رفع دعوى، ولا قال: في قتل، بل قال: في دعوى، ولذلك كانت في جانب المدعي.
وقوله: «في دعوى قتل» أفادنا المؤلف أن القسامة لا تكون في دعوى جَرح، ولا في دعوى مال، وإنما تكون في دعوى قتل فقط، فالمال وما دون القتل ليس فيه قسامة كالجروح والأعضاء وما أشبه ذلك.
فلو أن رجلاً ادعى على عدوِّه أنه قَطَعَ يدَه، والعداوة بينهما ظاهرة بيِّنة، فإنَّنا لا نجري القسامة في ذلك؛ لأن القسامة إنما جاءت في القتل، وأما الأعضاء، والأطراف، والجروح فليس فيها قسامة، ولكننا نقول لهذا المدعي: هل لك بيِّنة؟ أو يُقر المدًّعَى عليه، أو يحلف، وينتهي الأمر.
والدليل على امتناع القسامة في دعوى الأعضاء والجروح تعليل، وهو أن القسامة إنما وردت في دعوى القتل، وهي خارجة عن الأصول والقياس، وما خرج عن الأصول والقياس فلا يقاس عليه، وإنما يقتصر فيه على ما ورد؛ لأنه لا مدخل للعقل فيه، وهذا هو المذهب.
وقال بعض أهل العلم: بل تجرى القسامة في دعوى قطع الأعضاء، والجروح، وعللوا ذلك بأنه لمَّا جرت القسامة في القتل، وهو أعظم من قطع العضو أو الجرح، كان جريانها فيما دون ذلك من باب أولى.
وليست القسامة خارجة عن الأصول، بل الأصول تشهد لها؛ لأننا لو لم نعمل بالقسامة لضاعت الدماء، وهتكت(14/196)
النفوس، فالأصول تشهد لها؛ لأن لدينا لَوْثاً، وهو القرينة الظاهرة التي تؤيِّد دعوى المدَّعِي، فلا فرق إذاً بين النفس وما دونها.
وقوله: «معصوم» علم منه أن دعوى قتل غير المعصوم لا تُسمع أصلاً، فلو أن أحداً من الكفار الحربيين ادعى أن مورِّثه الحربي قتله المسلمون فلا تسمع الدعوى؛ لأنه وإن ثبت أنهم قاتِلوه فلا شيء عليهم؛ لأنه حربي غير معصوم.
وكذلك لو كان مباح الدم لردَّتِه، أو مباح الدم لزناه وهو محصَن، أو لوجوب قتله في حد قطع الطريق مثلاً، فإن هذا غير معصوم، فلا تسمع الدعوى في قتله؛ لأنه وإن ثبت القتل فهو غير مضمون، فيكون تشكيل الدعوى وسماعها من باب اللغو الذي لا فائدة فيه.
قوله: «من شرطها اللوث» كلمة «من شرطها» قد تشكل على الطالب، فهل المعنى أن اللوث بعض شرط؛ لأن «من» للتبعيض؟
والجواب على هذا: أن «شرط» مفرد مضاف فيفيد العموم، فكأنه قال: من شروطها.
وَهُوَ العَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ، كَالْقَبَائِلِ الَّتِي يَطْلُبُ بَعْضُهَا بَعْضاً بِالثَّأْرِ، فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ لَوْثٍ حَلَفَ يَمِيناً وَاحِدَةً وَبَرِئَ،....
وقوله: «اللوث» مصدر لاث يلوث، وبينه المؤلف بقوله:
«وهو العداوة الظاهرة» أي: بين القاتل والمقتول، سواء كانت بين القبائل، أو بين الأفراد، ولكن لا بد أن تكون العداوة ظاهرة؛ بخلاف العداوة الخفية فهذه لا تكون لوثاً، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال:(14/197)
«كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر» أي: إذا وُجد قتيل من قبيلة عند قبيلة أخرى معادية لها، فإن هذا يسمى لوثاً.
وقال بعض العلماء: إن اللوث كل ما يغلب على الظن القتل به، أي: بسببه، فكل شيء يَغْلُب على الظن وقوع القتل به فإنه من اللوث، سواء ما كان بين القبائل، أو لو وجدنا قتيلاً وعنده رجل بيده سيف مُلطّخ بالدم، فهذا قرينة ظاهرة على أنه هو القاتل، مع احتمال أنه غيره.
وكذلك لو كان القتيل فيه رمق، وقال: إن قاتله فلان فإنه قرينة تدل على أنه هو القاتل فيؤخذ بذلك، وتجرى القسامة بهذه الصورة؛ لأن لدينا ما يغلب على الظنّ أنه قتله.
ومن الغرائب أن بعض العلماء استدل على هذه الصورة بقصة البقرة، ولكن ليس في القصة دليل، والاستدلال بها بعيد؛ لأن قصة البقرة لما ضربوا القتيل ببعضها، قام وقال: الذي قتلني فلان، فإذا وُجِد آية على هذا النحو لا تجرى فيها القسامة، ولهذا ما أجري فيها قسامة.
وعلى كل حال الرأي الذي يقول: إن اللَّوْث كل ما يَغْلُب على الظن القتل بسببه هو الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ؛ لأن علة القسامة معلومة، وهي غلبة الظن بوقوع القتل، وما دام أنه قد ثبتت غلبة الظن بالقتل فإنه يؤخذ بها.
وأولياء المقتول هل يجوز لهم أن يحلفوا، وهم لم يشهدوا ولم يروا؟(14/198)
الجواب: إذا غلب على ظنهم ذلك فلهم أن يشهدوا، ولكن يجب عليهم التثبت حتى لا يقعوا في اليمين الغموس؛ لأن اليمين الغموس هي التي يحلف الإنسان وهو فاجر فيها؛ يقتطع بها مال امرئ مسلم، فكيف بمن يقتطع بها نفس امرئ مسلم؟! ولذلك على أولياء المقتول أن يتثبتوا غاية التثبت، حتى إذا كانت القرينة عندهم مثل الشمس حلفوا.
قوله: «فمن ادعي عليه القتلُ من غير لوث حلف يميناً واحدة وبرئ» كسائر الدعاوي، مثاله: رجل ادعى أن فلاناً قتل مورِّثه، وليس هناك لوث، فقال المدعى عليه: ما قتلت، فنقول للمدعي: هل لك بينة؟ فإن قال: نعم، قلنا: أحضرها، وعملنا بما تقتضيه البينة، وإن قال: لا، قلنا للمدعى عليه: احلف مرة واحدة، والله ما قتلت هذا الرجل، ثم يبرأ، فإن أبى المدَّعَى عليه أن يحلف فهل يُحكم عليه، أو لا يُحكم؟
الجواب: إن كان موجَب الجناية المال قُضي عليه بالنكول، وإن كان موجَب الجناية قصاصاً لم يُقْضَ عليه بالنكول.
فإذا قال: إنه قتله عمداً، فالجناية عمداً توجب القصاص، وقال المدعى عليه: لم أقتله، قلنا له: احلف، قال: لا أحلف فنقول: لا نقضي عليك بشيء؛ لأن الجناية توجب القصاص، والقصاص لا يقضى فيه بالنكول؛ لأننا لو قضينا فيه بالنكول لقتلنا هذا الناكل؛ لأن معنى القضاء عليه بالنكول أننا نأخذ منه المدَّعَى به، فهنا لو قضينا عليه بالنكول لقتلناه، والنفس محترمة عظيمة لا(14/199)
وَيُبْدَأُ بِأَيْمَانِ الرِّجَالِ مِنْ وَرَثَةِ الدَّمِ، فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً، فَإِنْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ، أَوْ كَانُوا نِسَاءً حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِيناً وَبَرِئَ.
يمكن أن تقتل بالنكول، لا سيما أن بعض الناس قد تأخذه العزة بالإثم، فيقول: لا أحلف، إما أن يأتي ببينة وإلا لن أحلف، ويكون صادقاً في نفي الدعوى، فلو قتلناه لاقترفنا جرماً عظيماً، ولكن هل نخلي سبيله ونتركه؟ الفقهاء يقولون: يُخلى سبيله، ولكن الصحيح أننا نلزمه بالدية؛ لأن الدية مال، وأَمَّا أن يذهب هكذا فالمسألة خطيرة.
وأما إذا كانت الجناية لا توجب القصاص، وإنما توجب المال فإنه إذا نكل حكمنا عليه بالنكول.
مثال ذلك: رجل ادعى أن صاحب السيارة هو الذي دعس مورِّثه، وهذا في الغالب خطأ، فقال صاحب السيارة: الذي دعسه شخص آخر، وليس أنا، فنقول لصاحب السيارة: احلف؛ لأن المدَّعِي ليس عنده بينة، فقال: لا أحلف؛ فنقول له: نقضي عليك بالنكول، فنُلزمك بالدية؛ لأن الدعوى هنا توجب مالاً، فإذا كانت توجب مالاً فإن المال يُقضى فيه بالنكول.
قوله: «ويُبدأ بأيمان الرجال من ورثة الدم فيحلفون خمسين يميناً» هل المعتبر عدد الأيمان أو عدد الحالفين؟ يعني هل نلزم أولياء المقتول بأن يحلف منهم خمسون رجلاً، أو أن المقصود خمسون يميناً ولو من رجل واحد؟
المؤلف يرى ـ وهو المذهب ـ أن المقصود خمسون يميناً، ولو من رجلٍ واحدٍ، فإذا كان لا يرث المقتول إلا هذا الرجل، فيحلف خمسين يميناً ويستحق.(14/200)
وقوله: «ويبدأ بأيمان الرجال» هذه العبارة موهمة جداً؛ لأن ظاهرها أن الرجال والنساء يحلفون، لكن يبدأ بأيمان الرجال، والأمر ليس كذلك، فالنساء لا مدخل لهن في القسامة، وينفي هذا الوهم قوله: «فيحلفون خمسين يميناً» والضمير ضمير ذكور.
فمثلاً: إذا كان الميت المقتول يرثه ابنان وبنت، فمسألتهم من خمسة، عليها عشرة أيمان، وعليهما أربعون، فهل نقول: يحلف كل ابن خمساً وعشرين يميناً، أو يحلف كل ابن عشرين يميناً؟
الجواب: الأول، ولهذا قال: «فيحلفون» أي: الذكور، وأما النساء فلا مدخل لهن.
ولو كان المقتول له ابن وعشر بنات، فيحلف الابن فقط خمسين يميناً، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحلف خمسون رجلاً منكم» (1) .
وإذا كان المقتول له ثلاثة أبناء فيحلف كل منهم ست عشرة يميناً ويجبر الكسر إذ لا يمكن تبعُّض اليمين، وعلى هذا فيكون مجموع أيمانهم إحدى وخمسين يميناً، ولا حرج.
فإن قال قائل: لماذا لا تحلِّفون اثنين منهم بالقرعة؟
فالجواب: أن الأيمان لا تدخلها القرعة، فلا مناص من جبر الكسر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (192) .(14/201)
هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو المذهب، أن الأيمان الخمسين توزَّع على الذكور من الورثة، وأنه لو لم يكن إلا واحد حلف الخمسين كلها.
والقول الثاني في المسألة: إنه لا بد من خمسين رجلاً، يحلف كل واحد يميناً واحدة؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يحلف خمسون رجلاً منكم» ولم يقل: تحلفون خمسين يميناً؛ ولأن هذا أحوط وأبلغ، لأن هؤلاء الجماعة، أو القبيلة إذا علموا أنه لا بد أن يحلف خمسون منهم، قد ينصح بعضهم بعضاً، ويقول: اتق الله ولا تؤثمنا مثلاً، وحينئذٍ يكون فيه فائدة ومصلحة.
وهذا القول أقرب إلى ظاهر الأدلة، أنه لا بد من حَلِف خمسين رجلاً.
ولكن كيف يكون حلف هؤلاء الرجال؟ نقول: ننظُر للأقرب فالأقرب، فيبدأ بالورثة، ثم بمن يكون وارثاً بعدهم، ثم بمن يكون وارثاً بعد الآخرين، الأول فالأول.
فمثلاً لو كان عندنا أبناء، وأب، وإخوة، وبنو إخوة، وأعمام، وكانت الخمسون يميناً تكمل بأبناء الإخوة، فهنا لا نحلِّف الأعمام.
قوله: «فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ» أي: قال الورثة: لا نحلف على شيء لم نره، فتوجه اليمين إلى المدّعى عليه، كما في الحديث، ويقال: احلف خمسين يميناً.(14/202)
فإذا قال الورثة: نحن لا نرضى بأيمان من ادعينا عليه؛ لأن الذي يتجرأ على القتل يتجرأ على اليمين، ولا يبالي.
نقول: إنه في هذه الحال تؤدَّى ديته من بيت المال، كما فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمَّا قال أولياء المقتول: لا نرضى بأيمان اليهود، وهم كفار، فوداه النبي صلّى الله عليه وسلّم من عنده (1) ، فإن حلف المدعى عليه ورضي المدعون فإنه يبرأ.
وقوله: «حلف المدعى عليه» هل المدعى عليه هنا عام يشمل الواحد، والمتعدد؟ نعم، هو كذلك، لكنه عام أريد به الخاص؛ لأن القسامة لا تصح إلا على واحد، فلا يمكن أن ندعي على اثنين، ونقول: هذان قتلا مورثنا؛ لأن لفظ الحديث: «على رجل منهم» فالقسامة لا تجرى إلا إذا كان المدعى عليه واحداً.
والعجيب أن بعض أهل العلم قالوا: لا تجرى القسامة إلا إذا كان المدعى عليه أكثر من واحد، عكس هذه المسألة، قالوا: لأن القسامة بين القبائل، فإذا ادعى على واحد، قلنا: لا قسامة كسائر الدعاوى.
ولو قال قائل: نجعلها كغيرها من الدعاوِي، بمعنى إن ادعى على واحد أجرينا عليه القسامة، وإن ادعى على اثنين فأكثر أجرينا عليهم القسامة؛ لأنه من الممكن أن يدعي المدعون أن شخصين قتلاه مع التواطؤ.
__________
(1) سبق تخريجه ص (192) .(14/203)
وقوله: «أو كانوا نساءً» أي: فإن كان الورثة نساء، كأن يهلك هالك عن بنت وأخت شقيقة، وادعيا أن مورثهما قتله فلان، فلا تجرى القسامة؛ لأنه لا مدخل للنساء في القسامة، حتى لو ادعى العصبة الآخرون، وقالوا: إذا كنتم لا تقبلون دعوى النساء فنحن ندعي، كما لو ادعى عم البنت وأخو الأخت فلا يقبل؛ لأنه لا يرث.
وهذه المسأله تحتاج إلى تحرير؛ لأن في قصة عبد الله بن سهل ـ رضي الله عنه ـ لما جاء أخوه وابنا عمه حويصة ومحيِّصة، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كبِّرْ» فبدأ حويصة بالكلام، وهذا يدل على أن العصبة لهم حق؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاطبهم، وقال: «تحلفون» (1) ، والحاصل أن هذه المسألة تحتاج إلى تحرير؛ لأنه ربما تكون البنت والأخت الشقيقة لا مدخل لهما في القسامة، لكن العار يلحق هؤلاء بين الناس، فيقال: قُتِلَ صاحبكم، ولا أخذتم بالثأر.
فهذا شيء لو تُرك لحصل فيه مفسدة عظيمة، فيمكن أن يقتلوا بهذا الواحد عشرة، لا سيما إذا كانت هذه القبيلة أقوى من تلك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (192) .(14/204)
كِتَابُ الْحُدُودِ
قوله: «الحدود» جمع حد، وهو في اللغة المنع، ويطلق على معانٍ كثيرة، ففي كتاب الله تطلق الحدود على المحرمات، وعلى الواجبات، في المحرمات، يقول الله ـ تعالى ـ: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وفي الواجبات: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] لما ذكر الله ما يحرم على الصائم قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ، ولما ذكر ما يجب في المطلقات قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} .
ويطلق الحد على المراسيم التي تفصل بين جارين، فيقال: هذه حدود الأرض.
ويطلق الحد على ما يحصل به التعريف، وهذا الموجود عند المناطقة، وعرفوا الحد بأنه الوصف المحيط بموصوفه المميزُ له عن غيره، قال السَّفَّاريني:
الحد وهو أصلُ كلِّ عِلْمِ
وصفٌ محيطٌ كاشفٌ فافتهِمِ
«وصف محيط» يعني بموصوفه، «كاشف» يعني مميزاً له عن غيره.
هذا الحد عند أهل المنطق، فلا بد أن يكون جامعاً مانعاً.
مثال ذلك: لو قلت: ما هي الطهارة؟ فقلت: الطهارة هي استعمال الماء في الأعضاء الأربعة، فهذا لا يحيط بالموصوف؛ لأنه يبقى عندنا الغسل والتيمم، فليس بحدٍّ.
ولو قلت: إن الطهارة أن يطهر الإنسان ثوبه، ويغسل وجهه بعد النوم، وما أشبه ذلك، صار غير صحيح؛ لأنه أدخل غير المحدود، فلا بد أن يكون الحد جامعاً مانعاً، فإن لم يكن جامعاً مانعاً فليس بحد.(14/205)
ولو قلت في تعريف حد الواجب: هو ما أمر به.
فهذا غير مانع، والسبب أنه يدخل فيه غيره، فيدخل فيه المستحب، فهنا ما ميزه عن غيره.
ولو قلت: إن الواجب ما صدَّره الله تعالى بقوله: يجب عليك، لكان كذلك غير صحيح؛ لأنه ما أحاط بالموصوف؛ لأن الواجب يجب، ولو بغير هذه الصيغة.
ويطلق الحد ـ وهو المراد هنا ـ على العقوبة المقدرة شرعاً في معصية؛ لتمنع من الوقوع في مثلها، وتكفر ذنب صاحبها.
وهذا القيد الأخير ليس بلازم، ولكن أتينا به حتى تتبين الحكمة من العقوبة، فإن المقصود منها ليس مجرد العقوبة فقط، بل لها حكمة، وهي المنع من الوقوع في مثلها، سواء من الفاعل، أو من غيره، والثاني تكفير ذنب صاحبها.
مثال ذلك: رجل زنا، فيجب أن نجلده مائة جلدة، فهذا الجلد عقوبة مقدرة من الله ـ عزّ وجل ـ.
والحكمة في ذلك:
أولاً: الردع لأجل ألا يفعلها هو، أو غيره مرة ثانية.
ثانياً: التطهير والكفارة، فإن الإنسان إذا فعل ذنباً وحُدَّ عليه كفر الله عنه، فلا يجمع الله عليه بين عقوبة الدنيا والآخرة.(14/206)
فخرج بقولنا: «العقوبة المقدرة» العقوبة غير المقدرة، مثل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «واضربوهم عليها لعشر» (1) ، فهنا ما حدد، إذاً هذا الضرب ليس بحد، لكنه تعزير.
وقولنا: «المقدرة شرعاً» : خرج به العقوبة التي يقدرها القاضي، فإن قال القاضي: حكمت على فلان بأن يجلد خمسين جلدة، فليس هذا حداً؛ لأن قائلها هو القاضي.
وقولنا: «في معصية» : هذا بيان للواقع، أن هذه العقوبات تكون على معاصٍ، وليس هناك عقوبة من الشرع على غير معصية، فليس هناك عقوبة على ترك واجب أو ترك مباح، لكن ترك الواجب لا شك أنه يتضمن فعل المحرم، إلا أنه ليس فيه عقوبة، إلا إذا كانت ردة ففيه القتل، لكن القتل بالردة والقتل بالقصاص ليسا من الحدود، خلافاً للمتأخرين الذين يجعلون القتل بالردة والقتل بالقصاص من الحدود، وهذا غلط بلا شك؛ لأن الحد لا بد من تنفيذه، والقصاص يسقط بالعفو، والردة القتل فيها يسقط بالرجوع إلى الإسلام، لكن الزاني ـ مثلاً ـ لو زنى، وثبت عليه الزنا فلا يمكن أن يسقط، حتى لو تاب إذا كانت الجريمة قد ثبتت ببينة فإنه لو تاب ما يقبل، بل لا بد أن يقام عليه الحد.
وهل الحد واجب تنفيذه أو لا؟ يقول المؤلف:
لاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى بَالِغٍ،..................................
«لا يجب الحد إلا على بالغ» وليت المؤلف قال: «يجب الحدّ على كل بالغ» لأن الإثبات أحسن من النفي؛ لأنه إذا قال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (102) .(14/207)
لا يجب الحد إلا على كذا، كأن الأصل عدم وجوب الحد، لكن لو قال: «يجب الحد على كل بالغ عاقل ملتزم عالم بالتحريم» صار أبلغ؛ لأن الحد إقامته واجبة بالكتاب، وبالسنة، والإجماع.
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ، والأمر للوجوب {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} حتى لا يجترئ أحد على السرقة بعد ذلك {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ختمها بالعزة حتى يكون له السلطان ـ عزّ وجل ـ {حَكِيمٌ} [المائدة: 38] حتى لا يقال: إن هذا سفه، لماذا تقطع يده من أجل ربع دينار؟! ولو قطعها جانٍ لكانت الدية خمسمائة دينار؟ قلنا: نعم، إذا سرقت قطعت في ربع دينار، وإن قُطعت في جناية سُلِّمت خمسمائة دينار، حماية للأموال في قطعها بربع دينار، وحمايةً للنفوس في وجوب خمسمائة دينار في قطعها.
وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] فإياك أن تقول: هذا شيخ كبير، نجلده مائة جلدة!! وهذا إن لم يتزوج، وأما إذا تزوج فالحجارة، فلا تقل: أرحمُهُ، بل قل: لا أرحمُهُ؛ لأن من هو أرحم مني أمر بجلده، ونهاني أن أرأف به، فقال: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] .
فإذا قال: اجلدوه في بيته حتى لا يطلع عليه أحد، قلنا: قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، والذي شرع هذه الحدود الله، وهو أرحم من الخلق جميعاً، فهو أرحم من الوالدة بولدها؛ لأن في إقامة الحدود مصالح عظيمة لا تحصى، ففيها ردع وتطهير.(14/208)
يقول بعض الملحدين والزنادقة: إننا لو قطعنا يد السارق لأصبح نصف الشعب مقطوعاً، نقول: لو قطع واحد لارتدع الآلاف، ولَمَا كان هناك سرقة، لكن ابن آدم ـ لقصور نظره ـ ينظر إلى الحاضر، ولا ينظر إلى المستقبل.
وقال تعالى في قطاع الطريق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ} [المائدة: 33] «إنما» أداة حصر، يعني ما جزاؤهم إلا هذا.
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو يخطب الناس على منبر الرسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «وإني أخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله» (1) ، وما أنكر عليه الناس أبداً بل أقروه؛ لأنها فريضة من فرائض الله يجب أن تنفذ.
ولو أن إنساناً كريماً، وشريفاً، وطيباً، ومن عائلة طيبة، سوَّلت له نفسه أن يسرق ربع دينار، وثبت عليه ذلك، فالواجب أن يقام عليه الحد، فيقام الحد على الشريف، وعلى الوضيع، وعلى الغني، والفقير، والذكر، والأنثى، والحر، والعبد، لا فرق؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ لم يفرق، فما دام سرق فهذا جزاؤه؛ بل لو قال قائل: إن سرقة هذا الشريف لولا أن الله حدَّ حداً، لقلنا: تقطع يده ورجله؛ لأنه شريف، فتدنُّسُهُ بالسرقة أعظم من
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود باب الاعتراف بالزنا (1829) ، ومسلم في الحدود باب رجم الثيب في الزنا (1691)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(14/209)
تدنُّس الوضيع، ولهذا فَزِنا الأشيمط واستكبار الفقير أشد من زنا الشاب، واستكبار الغني، فهذا الرجل الشريف كيف يسرق، أو كيف يزني؟!
وقوله: «لا يجب الحد إلا على بالغ» لا يجب الحد إلا بشروط:
أولاً: يجب أن يكون بالغاً، فلا يجب الحد على من دون البلوغ، والبلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة: إما بإنزال المني، وإما بإنبات العانة، وإما بتمام خمس عشرة سنة، وقد سبق لنا أدلة ذلك في باب الحجر.
فإذا بلغ الإنسان فإنه ينظر في بقية الشروط حتى يقام عليه الحد، وأما من دون البلوغ فلا حد عليه، ولو زنا أو سرق لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة..» (1) والتعليل؛ لأنه ليس أهلاً للعقوبة لعدم صحة القصد التام منه؛ لأنه ناقص في التصور، وناقص في التصرف، ولهذا منع الله من إتيانهم أموالهم حتى لا يضيعوها، ولكن لا يعني ذلك أن الصغير لا يُعزَّر، بل يعزر، والتعزير غير الحد، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» (2) فأمر بضربهم قبل البلوغ، فالتعزير شيء وإقامة الحد شيء آخر، وعلى هذا فلو أن صغيراً فعل الفاحشة فلا نقول: هذا صغير، لا يجب عليه الحد، اتركوه، بل لا بد أن يعزر بما يردعه وأمثالَه عن هذه الفِعلة، وكذلك ـ أيضاً ـ لو سرق فإنه لا يُترك، بل لو أفسد شيئاً دون ذلك فإنه لا يُترك بدون تعزير.
__________
(1) سبق تخريجه ص (21) .
(2) سبق تخريجه ص (102) .(14/210)
عَاقِلٍ، مُلْتَزِمٍ، عَالِمٍ بالتَّحْرِيمِ، فَيُقِيمُهُ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ،.....
ثانياً: قوله: «عاقل» وضده المجنون، فالمجنون لا يجب عليه الحد؛ لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة ... » (1) ، ولأنه ليس له قصد تام يعرف به ما ينفعه ويضره، فيُقْدِم أو يحجم، وهل يعزَّر؟
الجواب: لا يعزر؛ لأنه لو عزر ما انتفع، لكن لا نتركه يفسد أموال الناس، ويحرق الدكاكين، بل لا بد أن يمنع ولو بالحبس، إما عند وليه، وإما في الحبس العام، فالمهم أنه لا يترك والفساد؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] ، ويقول: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، فالذي لا يحبه الله لا يجوز لنا أن نمكن منه أبداً.
فكل فساد للدين أو للدنيا فإنه يجب على ولاة الأمور، ومن قدر من غير ولاة الأمور أن يمنع منه؛ لأن الله لا يحبه، فإذا كان لا يحبه الله فكيف نمكن منه؟!
ثالثاً: قوله: «ملتزم» يعني ملتزماً لأحكام الإسلام، سواء كان مسلماً أم كافراً، والملتزم هو المسلم والذمي فقط، وهو غير المعصوم، فالمعصوم تقدم أنهم أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمستأمِن، أما الملتزم فصنفان فقط، وهما المسلم والذمي؛ لأن الذمي ملتزم بأحكام الإسلام، لكنه لا يقام عليه الحد إلا فيما يعتقد تحريمه، أما ما يعتقد حله فلا يقام عليه الحد، ولو كان حراماً عند المسلمين، ولهذا لا نقيم عليهم الحد في شرب الخمر، ونقيم عليهم الحد في الزنا؛ لأن الزنا محرم
__________
(1) سبق تخريجه ص (21) .(14/211)
بكل شريعة، فليس في الشرائع شيء يبيح الزنا أبداً، وعلى هذا فإذا زنا الذمي بامرأة مثله ليست من المسلمين، يهودية، أو نصرانية، فإننا نقيم عليه الحد؛ لأن الحد فيه علتان: المنع من الوقوع في مثلها، والتكفير، فإذا كان هذا ليس أهلاً للتكفير، فهناك العلة الثانية وهي المنع، ولهذا أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم الحد على اليهوديين اللذين زنيا (1) ؛ لأنهم يعتقدون تحريمه.
لكن لو فرض أن هذا الذنب محرم عندهم، موجب للحد في الإسلام، غير موجب للحد في شريعتهم، فهل نقيم عليهم الحد بمقتضى الإسلام، أو لا؟
الجواب: لا نقيم عليهم الحد بمقتضى الإسلام، كما لا نقيم عليهم الحد بمقتضى الإسلام فيما يعتقدون حلّه، فإذا كانت شريعتهم لا توجب الحد في مثل هذه المعصية، فإننا لا نقيمه عليهم، لكن نعزرهم؛ لأن التعزير واجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة.
رابعاً: قوله: «عالمٍ بالتحريم» خرج به الجاهل بالتحريم، فهذا لا حد عليه، ولكن كيف نعلم أنه جاهل، أو عالم بالتحريم؟ لأننا إذا قلنا: يشترط أن يكون عالماً بالتحريم، صار كل واحد من الناس يقول: إنه ليس عالماً بالتحريم، ويقول: ما علمت أن السرقة حرام، وما علمت أن الزنا حرام، فهنا يُنْظَر، إن كان قد
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} (3635) ، ومسلم في الحدود باب رجم اليهود وأهل الذمة في الزنا (1699) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما
ـ.(14/212)
عاش في بلاد الإسلام، فإن دعواه الجهل بالأمور الظاهرة لا تقبل، ولا تسمع منه، وأما إذا كان حديث عهد بالإسلام، أو كان ناشئاً في بادية بعيدة، لا يعرف شيئاً عن أحوال المسلمين، فإننا نقبل منه دعوى الجهل، فإذا كان مثله يجهله قبلنا دعواه بالجهل، ورفعنا عنه الحد، فإن شككنا في هذا الأمر، هل هو ممن يجهل مثل ذلك، أو لا؟ فالأصل عدم العلم، فلا نقيم عليه الحد؛ لأنه لا بد أن يتحقق الشرط، وهو أن يكون عالماً بالتحريم.
وهل يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة؟
لا يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة، فلو قال الرجل المحصن الذي زنا: إنه لو علم أن حده الرجم ما زنا أبداً، لكنه ظن أن المسألة جلد فقط، وهو يصبر على الجلد فإننا نرجمه؛ لأنه لا يشترط العلم بالعقوبة، فإذا كان عالماً بالتحريم فمعنى ذلك أنه رضي بأن ينتهك حرمات الله، والله ـ عزّ وجل ـ قد أوجب العقوبة على هذا الفاعل لهذه المعصية، ولا عذر له.
وإذا ثبت الحد، فمَنِ المخاطب بإقامته؟ وهل لكل إنسان أن يقيمه؟ قال المؤلف:
«فيقيمه الإمام أو نائبه» .
وعلم من قوله: «فيقيمه» أنه لا بد من النية، فلو غضب الإمام على شخص في مسألة غير الفاحشة، مثلاً سمعه يسب الإمام، فقال: هذا الرجل يسبني، اجلدوه مائة جلدة، فلما انتهوا منه، قال لهم: إنه قد زنا وتكون الجلدات هذه عن زناه، فلا ينفع؛ لأنه لا بد من نية، ولهذا قال: «فيقيمه» والإقامة لا بد أن يكون لها نية.(14/213)
ومن الآداب أن ينوي الإمام بإقامة الحد أموراً ثلاثة:
أولاً: الامتثال لأمر الله ـ عزّ وجل ـ في إقامة الحدود؛ لأن هذا مما أوجب اللهُ على العباد، ولا ينوي بذلك التشفي أو الانتصار.
ثانياً: ينوي دفع الفساد؛ لأن هذه المعاصي لا شك أنها فساد، والله تعالى ما أمر بإقامة الحدود على فاعلها إلا لدفع فسادهم وفساد غيرهم المنتظر، إذا لم يُقَم عليهم الحد.
ثالثاً: إصلاح الخلق، ومن بين الخلق الذين يصلحهم، هذا المجرم الذي يقيم عليه الحد، فينوي إصلاحه، وأن الله ـ تعالى ـ يغفر له ما سلف.
فهذه الأمور الثلاثة يجب على ولي الأمر أن تكون منه على بالٍ، لكن بعض الولاة يريد بذلك الانتقام فقط.
وهل تسري هذه الآداب الثلاثة على المعلم؟
الجواب: نعم، ينوي بذلك دفع الفساد بلا شك، وإصلاح هذا الطالب وغيره أيضاً، لكن هل هذه إقامة لفريضة الله؟ قد نقول: إنه من هذا، وإن كنا لا نتجاسر أن نقول: يصل إلى حد الفريضة، لكن نقول: إنه مما يشرع، فصار من المشروع أن ندفع الفساد بكل وسيلة.
وقوله: «الإمام» الإمام في كل موضع بحسبه، فعندما نتكلم عن الجنايات والحدود وما أشبهها، يكون المراد بالإمام من له السلطة العليا في الدولة، وعندما نتكلم في باب الجماعة نقول: المراد بالإمام في الصلاة إمام المسجد ونحو ذلك، فالإمام(14/214)
هنا من له السلطة العليا في الدولة، المدبر لشؤونها.
وقوله: «أو نائبه» نائب الإمام هو القاضي، الوزير، الأمير، هذا يرجع إلى العرف في هذه الأمور، فمثلاً إذا كان من عادة الإمام أن يقيم عنه الأمراءَ في تنفيذ الحدود صار نائب الإمام الأمير، وإذا كان الذي يقيمها شيوخ القبائل صار من ينوب عنه شيخ القبيلة، وإذا كان ينوب عنه القضاة صار الذي ينوب عنه القاضي وهكذا، فالمهم أن هذا يرجع إلى العرف والنظام الخاص، وهذا يختلف في كل مكان بحسبه.
قوله: «في غير مسجد» يشمل كل مكان إلا المسجد، فيجوز أن يقيمه في البيت على ظاهر كلام المؤلف، لكن بشرط أن يشهده طائفة من المؤمنين، ويجوز في مكان العمل، كما لو كانوا في دائرة وأقام الحد عليه في الدائرة، لكن لا بد أن يشهده طائفة من المؤمنين، ولكن الأفضل والأولى أن يكون في مكان عام، بمعنى أنه يأتي إليه كل أحد، كالسوق، ومجالس الناس، وما أشبه هذا.
ولهذا فإن ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اذهبوا به فارجموه» فرجمه الناس علناً ظاهراً (1) ، وكان شارب الخمر يؤتى به، والناس يضربونه باليد، والجريد، والنعل، وبالرداء (2) ، فيكون ظاهراً؛ لأننا ما دمنا نقول: إنَّ المراد رَدْعٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود باب لا يرجم المجنون والمجنونة (6815) ، ومسلم في الحدود باب من اعترف على
نفسه بالزنا (1691) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) ولفظه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. أخرجه البخاري
في الحدود باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6773) ، ومسلم في الحدود باب حد الخمر (1706) (37) عن أنس ـ
رضي الله عنه ـ.(14/215)
لهذا وغيره، فإنه إذا كان في دائرته، أو مدرسته، أو ما أشبه ذلك، فيقل هذا بالنسبة لغيره، ولكن كلام المؤلف يدل على الجواز، لكن في المسجد لا يجوز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأعرابي الذي بال في المسجد: «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والصلاة» (1) ، فالمساجد مبنية للذكر، والطاعة، وليست لإقامة الحدود، وأيضاً لأنه إذا أقيم عليه الحد في المسجد فربما يحصل منه أذى، مثل أن يرتاع ثم يحدث، وأيضاً ربما يحصل منه صراخ وكلام لا ينبغي ولا يليق بالمسجد؛ فلهذا يمتنع إقامة الحد في المسجد بالدليل والتعليل.
وإذا أردنا أن نقيم الحد فكيف نقيمه، وبم نقيمه؟
وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ فِي الْحَدِّ قَائِماً بِسَوْطٍ لاَ جَدِيدٍ وَلاَ خَلَقٍ، وَلاَ يُمَدُّ، وَلاَ يُرْبَطُ، وَلاَ يُجَرَّدُ، بَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ، أَوْ قَمِيصَانِ،...........
قال المؤلف: «ويضرب الرجل في الحد قائماً» أي: لا قاعداً ولا مضطجعاً، بل يضرب وهو قائم، ولكن لا بد أن يضرب هو، لا ثوبه، أما لو دفع ثوبُه الضربَ، فهذا ليس بضرب ولا ينفع، بل لا بد أن يقام ويضرب.
قوله: «بسوط» لا بمطرقة، والسوط هو خيزرانة أو عصا أو ما أشبه ذلك، ولا يكون بشيء قاسٍ كالحديد.
قوله: «لا جديد ولا خَلَق» الجديد يكون صلباً، والخلَقَ القديم يكون هشاً، ربما ينكسر، وربما يتفتت ولا يقع منه ضرب، وإنما يكون سوطاً بين سوطين، لا جديد ولا خلق.
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد ... (585) عن أنس
ـ رضي الله عنه ـ.(14/216)
قوله: «ولا يُمد» أي: عندما نضرب الرجل لا نمده على الأرض؛ لأننا إذا مددناه على الأرض فإن الضربة تكون ضربتين، وقع السوط، ثم الأرض أيضاً تصطدم به.
قوله: «ولا يربط» العلة نفس الشيء؛ لأنك إذا ربطته على عمود أو على خشبة فإن الضربة ستكون ضربتين.
وأيضاً ذكروا أثراً عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد» (1) .
قوله: «ولا يجرد» يعني لا تخلع ثيابه، ولا إزاره، ولا رداؤه، بل تبقى عليه ثيابه، إلا إذا جعل فيها ما يمنع الضرب، فيجب أن يجرد مما يمنعه، فلو جعل عليه فروة، أو جلداً، أو بلاستيك، أو ما أشبه ذلك فإننا لا نمكنه.
وقد قُدمت جارية لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لتضرب في الحد فأمر بتجريدها، فإذا عليها درع من حديد؛ حتى لا يؤثر عليها، فإذا علمنا أن عليه شيئاً مانعاً وجب علينا إزالته، ولا يجوز أن نحابي أحداً في ذلك.
قوله: «بل يكون عليه قميص أو قميصان» «أو» للتنويع، يعني اللباس الذي عليه إن كان قميصاً أو قميصين يترك، فإن كان عليه ثلاثة فالظاهر أننا نخلع الثالث، فإن كان هناك برد ننظر إن كانت
__________
(1) أخرجه البيهقي (8/326) ولفظه: «ليس في هذه الأمة تجريد ولا مد ولا غل ولا صفد» ، وضعفه في الإرواء (
2330) .(14/217)
الثلاثة خفيفة لا تمنع الضرب فإننا نتركها، والمهم أن يصل ألم الضرب إلى بدنه.
وَلاَ يُبَالَغُ بِضَرْبِهِ بِحَيْثُ يَشُقُّ الْجِلْدَ، وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى بَدَنِهِ، وَيُتَّقى الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ وَالْفَرْجُ وَالْمَقَاتِلُ،.................
قوله: «ولا يبالغ بضربه بحيث يَشُقُّ الجِلد» المبالغة نوعان:
الأول: مبالغة تشق الجلد وهذا حرام؛ لأنه ليس المقصود من ذلك أن يجرح الرجل، ويمزق جلده، إنما المقصود أن يذوق ألم الجلد حتى يتأدب.
الثاني: المبالغة على وجه لا يشق الجلد فلا بأس به، بل سيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ أنه هو الواجب.
قوله: «ويفرق الضرب على بدنه» هذا ـ أيضاً ـ من آداب إقامة الحد، أن يُفرِّقَ الضرب على جسده؛ لأمرين:
أولاً: أنه إذا كان في مكان واحد اختص الألم بهذا المكان، وبقيت بقية المواضع غير متألمة.
ثانياً: أنه إذا كان الضرب على موضع واحد تألم هذا المكان شديداً، وربما يفسد الدم فيه، وربما يتجرح في المستقبل، فلهذا نقول: فرّق الضرب على الظهر، على الأكتاف، على الأفخاذ، على الساقين، على القدمين، حسب ما يوافق، وأما أن يكون في موضع واحد، فإن هذا خلاف الآداب في إقامة الحد، لكن هناك مواضع لا يجوز أن يقام فيها الحد، قال:
«ويُتقى الرأسُ والوجْهُ والفَرْجُ والمقَاتِلُ» هذه أربعة أشياء، ويُتقى بمعنى يجتنب، فيجتنب الوجه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن(14/218)
ضرب الوجه (1) ، ونهى عن تقبيح الوجه (2) ؛ لأن الله تعالى خلق آدم على صورته، وإذا كان الله خلقه على صورته التي اعتنى بها، وأتمها وأحسنها، فإن ضربها يوجب أن تنخدش، وأن تتغير مع أن الله تعالى جعل أجمل ما في الإنسان وجهه، ولهذا خلقه على الصورة التي اختارها وأرادها من بين سائر الجسد فلا تُقبح، فلا يقال: قبح الله وجهك.
ويُتقى ـ أيضاً ـ الرأس، يعني ما يضرب الرأس في الجَلْد؛ وذلك لأن الرأس ألمه شديد، حيث إنه ليس عليه لحم يقي الضرب، وحينئذٍ يصل الضرب إلى العظم، فيتألم، وربما يتأخر برؤه.
ويُتقى ـ أيضاً ـ الفرج أي: ذكر الرجل، وفرج المرأة؛ لأن ذلك يضرُّ به، وربما يَقتل الرجل إذا وقع الضرب على الخصيتين، فقد يموت الإنسان.
ويتقي ـ أيضاً ـ المقاتِل، مثل الكبد، أو على موضع القلب، أو على موضع الكليتين، فتتقى هذه المواضع؛ لأنه ليس المقصود من ذلك إتلاف الذي أقيم عليه الحد.
ولكن إذا كان الضرب تعزيراً ليس حداً فلا حرج أن يضرب
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه (2559) ، ومسلم في الأدب باب النهي عن ضرب
الوجه (2612) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه عبد الرزاق (17952) ، وأحمد (2/251) ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وصححه ابن حبان (
5680) ط. الأفكار الدولية، والألباني في تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم (519) .(14/219)
الإنسان على رأسه، كما لو أن إنساناً مثلاً صفع ابنه على رأسه، وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه ضرب رجلاً على رأسه حتى أدماه (1) ، فهذا يدل على أن الضرب على الرأس في غير الحد لا بأس به، أما في الحد فإن جلده شديد ومُضِرٌّ.
فالذي يتقى في الضرب أربعة أشياء: الوجه، والرأس، والفرج، والمقاتل، أما الوجه ففيه دليل وفيه تعليل، والبقية فيها تعليلات.
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهَا تُضْرَبُ جَالِسَةً، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ،........
قوله: «والمرأة كالرجل فيه» يعني المرأة في إقامة الحد كالرجل؛ لأن الأصل أن ما ثبت للرجال ثبت للنساء، وما ثبت للنساء ثبت للرجال إلا بدليل، سواء في العبادات، أو في العقوبات، أو في المعاملات، أو في العادات.
فإذا دل الدليل على أن هذا خاص بالرجل تخصص به، وإذا دل على أنه خاص بالمرأة تخصصت به، وإلا فالأصل التساوي، وعلى هذا فتضرب كما يضرب الرجل بسوط لا جديد ولا خَلَق، ولا يضرب رأسها، ولا وجهها، ولا فرجها، ولا مقاتلها، ولا يبالغ بضربها بحيث يشق الجلد، إلا أنها تخالفه في مسألة، وهي قوله:
«إلاَّ أَنَّهَا تُضْرَبُ جَالِسَةً وتُشدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا وتُمْسَكُ يَدَاهَا لئلا تنكشف» ثلاثة أمور:
__________
(1) أخرجه الدارمي (1/66) .(14/220)
أولاً: تضرب جالسة؛ لأن ذلك أستر لها.
ثانياً: تشد عليها ثيابها أي: تربط؛ لأنه ربما مع الضرب تضطرب، وتتحرك، وتنحل ثيابها.
ثالثاً: تمسك يداها حتى لا تنكشف؛ لأنها ربما تفرج ثيابها بيديها فتنكشف.
فهذا هو الذي يفرق فيها بينها وبين الرجل؛ لأن الحاجة داعية له، وإلا فالأصل أنها كالرجل.
أما ما يفعله بعض الولاة فيما سبق، كانوا إذا جلدوا الرجل مدوه على الأرض، وأتوا له بجريد النخل ليس أطراف النخيل، بل الجريد القريب من أصل العسيب، ثم يضربونه ضرباً شديداً حتى يغمى عليه في بعض الأحيان، أما المرأة فيضعونها في عِدْل، وهو كيس من الصوف يجعل فيه العيش، ويسمى عِدْلاً؛ لأنه يعادل به على البعير؛ لأنه لا يحمل إلا كيسين، أحدهما على اليمين، والآخر على اليسار، فتبقى هكذا المرأة مُخَيَّشَة بهذا الصوف والصوف حار، ثم يضربونها ـ والعياذ بالله ـ بما تهيأ نسأل الله العافية، هذا لا شك أنه حرام، وأنه من ظلم الولاة، ولا يجوز أن يفعل ذلك، على أن الغالب أن ما يحصل من هذه الأمور إنما يكون على سبيل التعزير؛ لأنه لا يثبت عليهم الزنا ثبوتاً شرعياً بأربعة شهود، أو بإقرار تام، ومع هذا يفعلون بها ذلك، ويقولون: إن هذا أبلغ في النِّكَاية والنَّكال، وما كان أبلغ فإنه يجب أن يتَّبع، وهذا تعزير وليس بحد، ولكن نقول: يجب أن نلاحظ النكال والنكاية، ونلاحظ معهما الرحمة، أما هذا(14/221)
الأمر الذي يؤدي أحياناً إلى الموت والهلاك، فهذا لا يجوز.
وَأَشَدُّ الْجَلْدِ جَلْدُ الزِّنَا، ثُمَّ الْقَذْفُ، ثُمَّ الشُّرْبُ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ، وَمَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ فَالْحَقُّ قَتَلَهُ، وَلاَ يُحْفَرُ لِلْمَرْجُومِ فِي الزِّنَا.
قوله: «وَأَشَدُّ الجَلْدِ جَلْدُ الزِّنا» «أشد» يعني أقوى، فالشدة هنا قوة الضرب، فأشده جلد الزنا؛ والدليل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] وهذا يدل على أننا نشتد في ذلك، ولأنه أكثر عدداً، وإذا كان الشارع قد راعى كثرة العدد، فإن الصفة تتبع العدد، فلولا أنه يجب أن يكون أقوى في الصفة ما كان أكثر عدداً.
قوله: «ثُمَّ القَذْفُ» القذف هو الرمي بزنا أو لواط، فإذا رمى محصناً بزنا أو لواط فهذا هو القذف، فيقال لهذا القاذف: إما أن تأتي ببينة، وإما أن يقر المقذوف، وإما أن تجلد الحد ثمانين جلدة، وإما أن تُسقط ذلك بالملاعنة إذا كانت المقذوفة هي الزوجة، فالقذف أشد مما بعده؛ لأن جلده أكثر؛ إذ إن القاذف يجلد ثمانين جلدة، يعني مائة إلا عشرين، فهو الذي يلي جلد الزنا في الكمية، فينبغي أن يكون تالياً له في الكيفية.
قوله: «ثُمَّ الشُّرْبُ» يعني شرب المسكر، وكل مسكر فهو خمر من أي نوع كان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (1) ، وعلى هذا فنقول: الذي يلي جلدَ القذف جلدُ شرب المسكر، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ ذكر الخلاف، هل جلد شارب المسكر حدٌّ أو تعزيرٌ؟
__________
(1) أخرجه مسلم في الأشربة/ باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (2003) (75) عن ابن عمر ـ رضي
الله عنهما ـ.(14/222)
قوله: «ثُمَّ التَّعْزِيرُ» يعني ثم جلد التعزير، وكم جلد التعزير؟
المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في مسائل يأتي ذكرها ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب التعزير، وعلى هذا فيكون التعزير من عشر جلدات فأقل، يعني لو وجدنا رجلاً قد سهر مع امرأة طول الليل، وهو يقبلها ويضمها، ويجامعها فيما دون الفرج، مستمتعاً معها غاية التمتع، إلا أنه لم يجامعها، وعثرنا عليهما في الصباح، وأقرَّا بذلك، فنجلدهما عشر جلدات، ومن أهون الجلد!! لكن سيأتينا أن هذا القول ضعيف جداً، ولا تقوم مصالح الناس، ولا تدرأ المفاسد بمثل هذا القول أبداً.
إذاً شدة الجلد مرتبة على كثرته؛ لأن الكيفية تابعة للكمية، فأشد الجلد جلد الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزير.
قوله: «وَمَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ فَالحَقُّ قَتَلَهُ» «من» شرطية، وجواب الشرط «فالحق قتله» وهذه العبارة عبارة أثرية، بمعنى أنها قيلت من زمان سابق، واتبع الناس فيها الأول، والمعنى أنه قُتل بحق، ومن قُتِل بحق فليس بمضمون.
وقد سبق لنا في الجنايات قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي ما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وقوله: «من مات في حد» «في» للظرفية، فلا بد أن يكون ذلك في نفس الحد، فلو زاد الإنسان على الحد كمية أو كيفية فإنه يكون ضامناً، فلو جلد بسوط صلب قوي جديد، لكن لم يتجاوز العدد ومات المجلود فيضمن؛ لأنه ليس في إطار الحد بل تجاوز، وكذلك لو جلده مائة جلدةٍ وجلدةً يضمن؛ لأنه زاد،(14/223)
وكذلك لو تجاوز في شدة الضرب حتى مات فإنه يضمن؛ لأنه تجاوز المأذون، وما ترتب على غير مأذون فهو مضمون.
فإذا قال قائل: إذا جلده مائة وواحدة، فلم يمت من الواحدة، لكن مات من الجميع لا شك، فهل توزع الدية على عدد الضربات، أو يضمنه كاملاً؟
نقول: بل يضمنه كاملاً؛ لأنه تعدى، وجائزٌ أنه لولا هذه الواحدة لم يمت، وعليه فنقول: إنه يضمن إذا زاد في العدد، وكذلك لو ضربه في الوجه، أو في الرأس، أو في الفرج ونحوه من المواضع التي لا يجوز الجلد فيها.
وما حد قوة الضرب؟
الجواب: لا يمكن ضبطها في الواقع، لكنها في القدر الذي يتحمله المجلود، ولهذا لو فُرض أنه لا يتحمل لضعف بدنه، أو مرضه الذي لا يرجى برؤه فإنه يضرب بسوط مناسب، حتى أنه ربما نقول: اضربه بعثكول النخل، أي: اجمع شماريخ على عدد الجلدات واضربه بها، فالجلد إذاً على حسب تحمل المجلود، ولا يمكن ضبطه؛ لأن هذا شيء بالصفة، والصفة صعب ضبطها؛ لأنها لا ترى.
قوله: «ولا يحفر للمرجوم في الزنا» يعني لا يحفر لمن رجم في الزنا، ونائب الفاعل هو الجار والمجرور؛ لأنه ليس عندنا مفعول به ينوب عن الفاعل، ولهذا قال ابن مالك:
وَقَابلٌ مِنْ ظرفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ *** أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِي
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ *** فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِه وَقَدْ يَرِدْ(14/224)
وقوله: «ولا يحفر للمرجوم في الزنا» هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، أنه لا يسن الحفر له، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على حسب اختلاف الروايات فيها، فالروايات الواردة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مختلفة، فمنها ما يدل دلالة صريحة على أنه لا يُحفر للمرجوم حيث ذُكر نفي الحفر، ومنها ما يدل على أنه يُحفر له، ومنها ما هو محتمل، لم يذكر فيه هذا ولا هذا، ومن ثَمَّ اختلف العلماء.
فالذين قالوا: لا يحفر، قالوا: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحفر للمرأة التي زنا بها أجير زوجها، بل قال لأنيس: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (1) ولم يأمره بالحفر لها، وعدم الأمر في وقت الحاجة يدل على عدم الوجوب؛ لأن الحاجة داعية إلى ذكره لو كان واجباً، فلم يقل: اغد إليها فإن اعترفت فاحفر لها وارجمها، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يحفر لليهوديين اللذين زنيا، حيث زنا رجل يهودي بامرأة يهودية، ثم ارتفعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، وكان الحد الرجمَ في التوراة، لكن لما كثر الزنا في أشرافهم، قالوا: لا يمكن أن نرجم أشرافنا، إذاً ماذا نصنع؟ قالوا: نسوِّد وجوههما، ونطوف بهما على القبائل، أو ما أشبه ذلك مما يؤدي إلى الخزي والعار، فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة ووقع الزنا من رجل منهم وامرأة، قالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل ـ يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ لعلكم تجدون عنده شيئاً، فأمر
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2695) ، ومسلم في الحدود/ باب
من اعترف على نفسه بالزنا (1697) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(14/225)
النبي صلّى الله عليه وسلّم برجمهما، وقال: إن هذا هو حكم التوراة، قالوا: لا نجد ذلك في التوراة قال: فأتوا بالتوراة فإذا هي موجودة واضحة، فأمر بهما فرُجما، قال الراوي: فرأيت الرجل يقيها الحجارة منكباً عليها (1) ، وهذا دليل على أنه لم يُحفر لهما.
أما حديث ماعز ـ رضي الله عنه ـ فاختلفت الروايات فيه في مسلم نفسه، ففي بعضها: «أنه لم يحفر له» (2) نصاً صريحاً، وفي بعضها: «أنه حفر له» (3) ، وجمع بعض العلماء بينهما، بأن نفي الحفر، يعني لم يحفر له حفرة عميقة، وإثباته أنه حفر له حفرة يتمكن من أن يهرب منها؛ لأنه هرب، ولكن بعض ألفاظ الصحيح تدل بصراحة على أنه ما حفر له إطلاقاً.
فيأتي الترجيح بين المثبت والنافي، فإذا تساوى الحديثان في الصحة فإننا نقدم المثبت؛ لأن معه زيادة علم، والظاهر لي أن هذا يرجع إلى رأي الإمام، إن رأى أن المصلحة تقتضي أن يحفر حفر، وإلا ترك، أما أقوال أهل العلم فهي كالتالي:
أولاً: لا يحفر مطلقاً، وهذا هو المذهب.
ثانياً: يحفر مطلقاً، وهذا قول مقابل له.
ثالثاً: يحفر للمرأة، ولا يحفر للرجل.
رابعاً: يحفر له إن ثبت ببينة، ولا يحفر له إن ثبت بإقرار؛
__________
(1) سبق تخريجه ص (212) .
(2) أخرجه مسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1694) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه مسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (23) (1695) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ.(14/226)
لأجل أن يمكّن من الهرب، بخلاف البينة فإنه لا يُمَكَّن.
ولكن الذي يظهر لي أن الأمر راجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى من المصلحة الحفر حفر وإلا فلا.
ثم على القول بالحفر فإننا نحفر له ولا ندفنه؛ لأنه لو دفناه قد لا يموت، لكنه ما يتحرك أبداً، ويتعب فهو إذا بقي ربما ـ مثلاً ـ يلتفت إلى جهة، ويتحرك بعض الشيء ليهون عليه الأمر.
فالخلاصة أن الشروط العامة هي: البلوغ، والعقل، والالتزام، والعلم بالتحريم، فهذه شروط في كل حد، وهناك شروط أخرى تذكر في كل باب على حدة.(14/227)
بَابُ حَدِّ الزِّنَا
إِذَا زَنَا الْمُحْصَنُ رُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ،.....................
قوله: «باب حد الزنا» يعني باب عقوبته، والزنا فعل الفاحشة في قبل أو دبر، والفاحشة كل جماع محرم؛ لأن الجماع المحرم فاحشة مستفحشة في جميع العقول، فما من أحد من بني آدم إلا ويستفحش عقلُه هذا الفعل المنكر، إلا من سلب الله عقله، ومسخ طبيعته، فإنه قد يستسيغ هذا المنكر، كالجُعَل يستسيغ رائحة العذرة، ولكنه في رائحة الورد قد يموت، قال ابن وردي ـ رحمه الله ـ:
إن ريح الورد مؤذٍ في الجُعَل.
فالورد الذي هو من أحسن ما يكون إذا شمَّه الجُعَل يكرهه، لكن شمه للعذرة قوي جداً.
قوله: «إذَا زَنَا المُحْصَنُ رُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ» «زنا» فعل الشرط، «ورُجم» جواب الشرط، أي: رجم بالحجارة، ويجب أن تكون الحجارة لا كبيرة تقتله فوراً، ولا صغيرة لا يتألم ولا يتأذى بها، بل تكون كالبيضة أو أقل، وقد علمنا أنه يُتقى الرأس، والوجه، والفرج، والمقاتل، فيضرب بالحجارة إلى أن يموت، فما هو الدليل على هذه القتلة التي قد يستبشعها بعض الناس؟
الدليل من كتاب الله، وسنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعمل الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين.(14/228)
أما كتاب الله ـ عزّ وجل ـ فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن الله أنزل على نبيه القرآن، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها، ورجم النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقولوا: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق ثابت في كتاب الله على من زنا إذا أَحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف» (1) .
فهذه شهادة من عمر ـ رضي الله عنه ـ على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحضور الصحابة ولم ينكره أحد، على أن آية الرجم نزلت في القرآن، قُرئت، ووُعيت، وعُمِل بها في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وفي عهد خلفائه الراشدين، فما لفظ هذه الآية؟
لفظ هذه الآية لا بد أن يكون مطابقاً للحكم الثابت.
وأما من قال: إن لفظ الآية: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم» (2) ، فهذا لا يصح لأمور:
أولاً: أن من قرأه لم يجد فيه مُسْحَة القرآن الكريم، وكلام رب العالمين.
ثانياً: أن الحكم فيه مخالف للحكم الثابت، فالحكم في هذا اللفظ معلق على الكبر، على الشيخوخة، سواءٌ كان هذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .
(2) أخرجه أحمد (5/183) ، والدارمي (2220) ، والطبراني في الكبير (24/350) ، والحاكم في المستدرك (
4/401) ، وانظر: مجمع الزوائد (6/265) .(14/229)
الشيخ ثيباً أم بِكراً، مع أن الحكم الثابت معلق على الثيوبة سواء أكان شيخاً أم شاباً.
ونحن لا يهمنا أن نعرف لفظه ما دام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شهد به على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسمعون ولم ينكروا، فإننا نعلم أن هذا النص كان قد وُجد ثم نسخ.
فإن قال قائل: ما هي الحكمة في نسخ لفظه دون معناه؟
فالجواب: أن الحكمة ـ والله أعلم ـ أن هذه الأمة إذا عملت بالرجم ـ مع أنه لا يوجد نص ظاهر في القرآن ـ كان في ذلك دليل على نبلها وفضلها، خلافاً لليهود الذين كان الرجم موجوداً في كتابهم نصاً، ومع ذلك تركوا العمل به.
والله أعلم إذا كان هناك حكمة أخرى، لكن هذا هو الذي توصلنا إليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسبق رجمَه جلدٌ، فيرجم بدون جلد، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إنه يجلد أولاً ثم يرجم، ومنهم من قال: إنه يرجم بلا جلد.
واحتج القائلون بأنه يجمع له بين الجلد والرجم، بأن الجلد ثابت بالقرآن المحكم لفظاً ومعنى لكل زانٍ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ، وهذا عام يشمل المحصن وغير المحصن.
واستدلوا ـ أيضاً ـ بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام،(14/230)
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (1) ، وهذا الحديث صحيح، فجمع النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الرجم والجلد.
وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (2) .
واستدل من قال بأنه لا يجمع بين الرجم والجلد بأن هذا آخر الأمرين من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه رجم الغامدية ولم يجلدها (3) ، وقال لامرأة الرجل التي زنا بها أجيره: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (4) ، ولم يذكر جلداً.
ورجم ماعز بن مالك ولم يجلده (5) ، ولأن الجلد لا داعي له مع وجود الرجم إلا مجرد التعذيب؛ لأن هذا الرجل الذي استحق الرجم إذا رُجم انتهى من حياته، فلا حاجة إلى أن نعذبه أولاً، ثم نرجمه، وهذا القول هو الراجح، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وأما أدلة القول الأول فأجيب عنها بأن الجلد نسخ.
وقوله: «رُجم حتى يموت» «حتى» هنا للغاية وليست للتعليل، فيرجم حتى يموت ونتحقق موته، وإذا مات فهل نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه مع المسلمين؟ الجواب: نعم؛ لأنه
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود/ باب حد الزنا (1690) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/93) ، وأخرجه البخاري في الحدود/ باب رجم المحصن ... (6812) دون قوله: «أجلدها
بكتاب الله» .
(3) سبق تخريجه ص (51) .
(4) سبق تخريجه ص (225) .
(5) أخرجه البخاري في الحدود/ باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت (6824) ، ومسلم في الحدود/
باب من اعترف على نفسه بالزنا (1692) .(14/231)
مسلم كَفَّر الله عنه الذنب بالحد الذي أقيم عليه، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلَّى على من رجم، وهذا هو الأصل.
والْمُحْصَنُ: مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ الْمُسْلِمَةَ أَوْ الذِّمِّيَّةَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهُمَا بَالِغَانِ، عَاقِلاَنِ، حُرَّانِ، فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا فِي أَحَدِهِمَا فَلاَ إِحْصَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا،.......
قوله: «والمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ المُسْلِمَةَ أَوِ الذِّمِّيَّةَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُمَا بَالِغَانِ عَاقِلاَنَ حُرَّانِ» ، هذه هي شروط الإحصان.
وقوله: «امرأته» ، أي: زوجته.
وقوله: «أو الذمية» هذا التعبير فيه نظر، والصواب أن يقول: أو الكتابية؛ لأن الكتابية سواء كانت ذمية، أو معاهدة يجوز للإنسان أن يتزوجها.
وقوله: «في نكاح صحيح» هذا متعلق بقوله: «وطئ» ، وذلك احترازاً من النكاح الفاسد، والنكاح الباطل، والفرق بين الباطل والفاسد، أن الباطل ما أجمع العلماء على فساده، والفاسد هو ما اختلف فيه العلماء، فالأنكحة إذاً صحيح، وفاسد، وباطل.
مثال الفاسد: أن يتزوج الإنسان امرأة بدون ولي، فهذا نكاح فاسد؛ لأن العلماء اختلفوا في ذلك.
مثال الباطل: أن يتزوج الإنسان أخت زوجته فهو باطل؛ لأنه بالإجماع.
وقوله: «وهما» الضمير يعود على الزوجين.
وقوله: «بالغان» البلوغ بالنسبة للرجل يحصل بواحد من أمورٍ ثلاثة، تمام خمس عشرة سنة، والإنبات، والإنزال، والمرأة تزيد واحداً وهو الحيض.(14/232)
وقوله: «عاقلان» ضد المجنونين، «حران» ضد الرقيقين. فالإحصان شروطه خمسة:
أولاً: الجماع.
ثانياً: النكاح الصحيح.
ثالثاً: البلوغ لكلٍّ منهما.
رابعاً: العقل.
خامساً: الحرية.
قوله: «فَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهَا فِي أَحَدِهِمَا فَلاَ إِحْصَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا» فلو عقد رجل على امرأة وباشرها إلا أنه لم يجامعها، ثم زنا فإنه لا يرجم، وهي لو زنت فإنها لا ترجم، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج قبله، وحصل الجماع فإنها ترجم؛ لأن الحكم يتبعض، ولو جامع امرأته وقد تزوجها بدون ولي، وهو ممن يرى أن ذلك لا يصح فإنه لا يرجم؛ لأنه نكاح غير صحيح.
ولو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها فإنه لا يرجم؛ لأنه ليس بمحصن؛ لأنها لم تبلغ.
ولو تزوج مجنونة بالغة وجامعها لا يرجم؛ لأنه ليس بمحصن.
كذا لو تزوج أمة وهو حر فإنه لا يرجم؛ لأنه ليس بمحصن.
ولو كان الأمر بالعكس، فلو تزوج العبد حرة فلا إحصان، لا له ولا لها.
والدليل على هذه الشروط يقولون: لأن تمام النعمة لا(14/233)
يكون إلا إذا اجتمعت هذه الشروط، فالإنسان لا يتلذذ تلذذاً كاملاً إذا كانت زوجته مجنونة، فربما وهو يجامعها يخشى على نفسه منها، أو صغيرة فهي لا تروي غليله ولا تشفي عليله، وكذلك الأمة فهي ناقصة.
وعلى هذا فنقول: ليس هناك شيء بيِّن في الأدلة، اللهم إلا اشتراط النكاح والوطء؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «الثيب بالثيب» (1) وأما البقية فإنها مأخوذة من التعليل.
وهل يشترط بقاء ذلك إلى الزنا، أو لا يشترط؟ بمعنى أنه لو فرض أنه فارق زوجته، أو ماتت زوجته، ثم زنا بعد ذلك، فهل هو محصن يرجم أو لا؟
الجواب: هو محصن يرجم، فهذه الشروط لا يشترط استمرارها، فما دامت هذه الشروط وجدت في حال الزواج فإنه يكون محصناً، فإن تزوج صغيرة، وبقيت معه، وماتت قبل البلوغ، فلا يكون محصناً.
وذهب بعض المتأخرين ـ ولكني لا أجد لهم مستنداً ـ إلى أنه يشترط استمرار هذه الشروط حتى يزني، قال: لأنه إذا ماتت زوجته عنه أو فارقها بحياة فقد احتاج إلى جماع، ويكون حينئذٍ معذوراً بعض العذر؛ لأنه ليس عنده أحد يستمتع به بوطء حلال.
ولكن هذا القول مخالف لما تقتضيه الأدلة؛ لأن الأدلة أن
__________
(1) سبق تخريجه ص (230) .(14/234)
الثيب بالثيب، وهذا الوصف يحصل بأول جماع، فما دام الوصف حاصلاً فإنه لا يشترط أن تبقى الزوجة معه.
وَإِذَا زَنَا الحُرُّ غَيْرُ الْمُحْصَنِ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَغُرِّبَ عَاماً
قوله: «وَإِذَا زَنَا الحُرُّ غَيْرُ المُحْصَنِ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَغُرِّبَ عَامَاً» إذا زنا الحر غير المحصن، بأن يكون حراً لم يتزوج، أو تزوج ولم يجامع، أو جامع في نكاح فاسد، أو باطل، أو جامع وهو صغير، أو جامع وهو مجنون، فإن حده أن يجلد مائة جلدة، والدليل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابن الرجل الذي زنا بامرأة من استأجره أنه قال له: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» (1) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد وغرَّب، وأن أبا بكر جلد وغرَّب، وأن عمر جلد وغرَّب (2) ، وهذا القول هو الصحيح أنه يجمع بين الجلد والتغريب.
وقال بعض العلماء: إنه لا يغرب؛ لأن التغريب لم يوجد في القرآن، وقد قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *} [النور] ولم يذكر التغريب.
__________
(1) سبق تخريجه ص (225) .
(2) أخرجه الترمذي في الحدود/ باب ما جاء في النفي (1438) ، والنسائي في الكبرى (7342) ط. الكتب العلمية،
والحاكم (4/369) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وقال الحافظ
في البلوغ (1130) : «رجاله ثقات إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه» .(14/235)
ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن ما ثبت بالسنة وجب العمل به، كما يجب العمل بما في القرآن؛ لقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، ولقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36] ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
فيجب أن نأخذ بما جاءت به السنة، وإن كان زائداً عما في القرآن، بل إن ما جاءت به السنة هو مما جاء به القرآن، كما استدل بذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مجيباً للمرأة التي قالت له: إنني لا أجد اللعن ـ أي لعن النامصة والمتنمصة ـ في كتاب الله، فقال: هو في كتاب الله، ثم تلا عليها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
والتغريب معناه أن ينفى عن بلده لمدة سنة كاملة، والحكمة منه أنه إذا غرب عن هذا المكان الذي وقع فيه الزنا فإنه ربما ينسى ذلك، وأيضاً فإن الغربة توجب أن يشتغل الإنسان بنفسه دون أن يتطلب الشهوة واللذة؛ لأنه غريب، ولا سيما إذا عُلِمَ أنه غُرِّب من أجل الحدّ، فإنه لن يكون لديه فرصة أن يعود إلى هذه المسألة مرة ثانية، ولكن يشترط في البلد الذي يغرب إليه ألا يوجد فيه إباحة الزنا ـ والعياذ بالله ـ فلا يغرب إلى بلاد يمارس أهلها الزنا؛ لأننا إذا غربناه إلى مثل هذه البلاد فقد أغريناه بذلك، فيغرب إلى بلاد عُرف أهلها بالعِفَّة.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (4886) ، ومسلم في اللباس/ باب تحريم فعل
الواصلة والمستوصلة (2125) .(14/236)
وإن زنا في غير وطنه، فهل يصح أن نغربه إلى وطنه؟
الجواب: لا، بل لبلد آخر؛ لأنه يقول: «غُرِّب» ، وإذا رددناه لبلده فليس هذا تغريباً؛ لأننا رجَّعناه إلى وطنه، فلا بد أن يكون هناك غربة حتى ينسى بها ما كان يفعله.
وَلَوِ امْرَأَةً، والرَّقِيقُ خَمْسِينَ جَلْدَةً وَلاَ يُغَرَّبُ، وَحَدُّ لُوطِيٍّ كَزَانٍ،..........
قوله: «ولو امْرَأَةً» فتُغرب لمدة سنة، ويشترط أن يوجد لها محرم، وأن تغرب إلى مكان آمن.
وفقهاء المذاهب يرون أنها تغرب ولو بدون محرم.
والقول الثاني وهو الأصح: أنها لا تغرب إذا كانت وحدها؛ لأن المقصود من تغريبها إبعادها عن الفتنة، وإذا غربناها وحدها كان ذلك أدعى للفتنة والشر؛ لأنه ليس معها أحد يردعها، ولأنها إذا غربت بدون محرم ـ ولا سيما إن احتاجت إلى المال ـ فربما تبيع عرضها؛ لأجل أن تأكل وتشرب.
والصواب: أنه إذا لم يوجد محرم فلا يجوز أن تغرب، ولكن ماذا نصنع؟ يقول بعض أهل العلم: تخرج إلى بلد قريب لا يبلغ مسافة القصر، ويُؤمر وليها بملاحظتها، والصحيح أنه لا داعي لذلك، وأنها تبقى في البلد.
وقيل: تُحبس في مكان آمن، والحبس هنا يقوم مقام التغريب؛ لأنها لن تتصل بأحد، ولن يتصل بها أحد، وهذا القول وجيه.
وقال بعض العلماء: إذا تعذر التغريب سقط كسائر الواجبات، فإن الواجبات إذا تعذر القيام بها فإنها تسقط، ولكن لا مانع من أن نقول: إنه إذا تعذر التغريب قمنا بما يقوم بدلاً(14/237)
منه، أو قريباً منه وهو أن نحبسها في مكان آمن لمدة عام.
وقوله: «وغُرب عاماً» هل المعتبر السنة الهلالية، أو السنة الشمسية؟ المعتبر السنة الهلالية؛ وذلك لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، ولقوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] ، ولقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [التوبة: 36] ، وقد بَيَّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذه الاثني عشر بأنها محرم وبقية الشهور العربية (1) ، وعلى هذا فكل عام أو سنة يذكر في القرآن والسنة فالمراد به السنة الهلالية القمرية.
قوله: «والرَّقِيقُ خَمْسِينَ جَلْدَةً» الرقيق هو المملوك، وضده الحر، فإذا زنا الرقيق فإننا نجلده خمسين جلدة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} يعني الإماء {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والعذاب الذي يتنصَّف على المحصنات هو الجلد؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف، والجلد مائة جلدة فيكون عليها خمسون جلدة، فالمرأة واضح أن عليها خمسين جلدة؛ لأنه نصُّ القرآن، لكن الرجل إذا كان رقيقاً وزنا، فما هو الدليل على أنه يجلد خمسين جلدة؟
قالوا: الدليل على ذلك قياس الرجل على المرأة؛ لأنه لا
__________
(1) أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب من قال: الأضحى يوم النحر (5550) ، ومسلم في الحدود/ باب تغليظ
تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/238)
فرق، والشريعة لا تأتي بالتفريق بين المتماثلين، وكيف يتم القياس؟
قالوا: لأن كلًّا منهما رقيق، والرقيق ليس في نفسه من الشرف والمروءة كما في نفس الحر، وإذا لم يكن عنده من الشرف والمروءة كما عند الحر، فإنه لا يبالي إذا زنا، وهذا تعليل صحيح، ولكن قد يقول قائل: إنَّ زنا الرجل الرقيق ليس كزنا المرأة الرقيقة؛ لأن المرأة الرقيقة قد تزني لكون سيدها يستأجرها ـ والعياذ بالله ـ في البغاء، وتعتاد ذلك فيهون عليها الأمر؛ لأن الله نصّ على أن ذلك واقع من الأسياد بالنسبة للإماء، فقال تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] ، فإذا كانت المرأة بهذه الحال فإن العبد ليس هكذا، فالقياس غير صحيح، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن حد الزاني الرقيق إذا كان ذكراً كحد الحر لعموم الآية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} .
فالمسألة فيها خلاف، فالأمة لا إشكال في أن عليها خمسين جلدة؛ لأن النص فيها واضح، ولكن الإشكال في العبد، فإن تخصيص العموم في سورة النور بالقياس ليس بواضح لظهور الفرق بين الأمة وبين العبد، مما يجعل في النفس شيئاً منه، وأنا إلى الآن ما تبين لي أي القولين أصح، لكن جمهور أهل العلم أن الجلد بالنسبة للرقيق ينصف مطلقاً.
قوله: «وَلاَ يُغَرَّبُ» لأن التغريب فيه إضرار بالسيد؛ لأننا إذا غربناه منعنا سيده من الانتفاع به مدة التغريب، والسيد لا جناية منه، ولأننا إذا غربناه ربما يهرب، ويكون في ذلك إضرار أكثر، هذا هو تعليلهم في هذه المسألة.(14/239)
واختار كثير من أصحابنا ـ رحمهم الله ـ أنه يغرَّب بنصف عام بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الزاني: «جلد مائة وتغريب عام» (1) ، وعموم قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وهذا يشمل التغريب؛ ولأن التغريب يمكن تنصيفه.
وقولهم: إن في هذا إضراراً بسيده، نقول: حتى الجلد أمام الناس فيه إضرار بالسيد، بأن تنقص قيمته، ولا يشتريه الناس، ويحذر الناس منه ولا يأتمنونه، فهذه المصائب التي تحصل للسيد بسبب فعل العبد، لا يمكن أن تمنع حدّاً من حدود الله ـ عزّ وجل ـ، ويكون زنا رقيقه من باب المصائب التي أصيب بها.
وقولهم: إنه يخشى أن يهرب، نقول: إن سيده إذا خاف عليه أن يهرب، يمكنه أن يستأجر من يلازمه في بلد الغربة، أو نحو ذلك من الأشياء التي يمكنه أن يحفظ بها رقيقه، وهذا القول أصح أنه يغرب نصف سنة.
قوله: «وَحَدُّ لُوطِيٍّ» حد مبتدأ، و «كزان» الجار والمجرور خبر المبتدأ.
وقوله: «لوطي» هو من فعل الفاحشة في دُبُرِ ذَكَرٍ، وسمي لوطياً نسبة إلى قوم لوط؛ لأن قوم لوط ـ والعياذ بالله ـ هم أول من سن هذه الفاحشة في العالمين، قال لهم نبيهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] ، واللواط أعظم من الزنا وأقبح؛ لأن الزنا فعل فاحشة في فرج يباح في بعض الأحيان، لكن اللواط فعل فاحشة في دبرٍ لا يباح
__________
(1) سبق تخريجه ص (231) .(14/240)
أبداً، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ في الزنا: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، وقال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وأقره الله على ذلك، وحكى قولَه مرتضياً له، و «ال» تدل على أن هذه الفعلة الخبيثة قد جمعت الفحش كله، تلك الفاحشة العظيمة التي ليس فوقها فاحشة، وهذا أمر متفق عليه بين الناس، أن قُبح اللواط أعظم من قُبح الزنا، فما حده؟
قال المؤلف: «كزان» فحدُّه حَدُّ الزاني، فإن كان محصناً رجم حتى يموت، وإن كان غير محصن جلد وغُرِّب، وحجتهم في أن حده كزانٍ، يقولون: لأن هذه فاحشة، والزنا سماه الله تعالى فاحشة، وإذا كان كذلك فإننا نُجري هذا مجرى الثاني، ويكون حده حد الزاني.
وقال بعض العلماء: حده أن يُقتل، وهذا أعلى ما قيل فيه، ثم اختلفوا كيف يقتل؟
وقال آخرون: بل يعزر تعزيراً لا يُبْلَغُ به الحد.
وقال آخرون: لا يعزر ولا شيء عليه، ليس بمعنى أنه حلال، لكن ليس فيه عقوبة اكتفاءً بالرادع النفسي؛ لأن النفوس تكرهه، فلو أن أحداً قدم غداءه من عذرة وبول، يأكل العذرة، ويشرب عليها البول! فهم يقولون: لا يعزر؛ لأن النفس كافية في ردع هذا، ولا شك أن هذا القول من أبطل الأقوال، ولولا أنه ذُكر ما ذكرناه، ولكن ذكرناه لنعلم أن بعض أهل العلم يذهب مذهباً سيئاً جداً فيما يقوله.
أَنَسِيَ أن الله تعالى دمر بلادهم، وأرسل عليهم حجارة من(14/241)
سجيل، وطحنهم؟ ألم يذكر أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (1) ؟! وهو صحيح على شرط البخاري، وإن كان قد يُعَارَض في صحة الحديث.
والصواب من هذه الأقوال: أن حده القتل بكل حال، سواء أكان محصناً، أم كان غير محصن، لكن لا بد من شروط الحد السابقة الأربعة: «عاقل، بالغ، ملتزم، عالم بالتحريم» ، فإذا تمت شروط الحد الأربعة العامة فإنه يقتل، والدليل على هذا:
أولاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
ثانياً: أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعوا على قتله، كما حكاه غير واحد من أهل العلم، لكن اختلفوا فمنهم من قال: إنه يُحرّق، وهذا القول مروي عن أبي بكر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك (2) .
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: بل ينظر إلى أعلى
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/300) ، وأبو داود في الحدود باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4462) ، والترمذي في
الحدود باب ما جاء في حد اللوطي (1456) ، وابن ماجه في الحدود باب من عمل عمل قوم لوط (2561) عن ابن عباس
ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه الحاكم (4/355) ووافقه الذهبي، وصححه ابن عبد الهادي في المحرر (1152) ،
والألباني في الإرواء (2350) .
(2) رواه البيهقي (8/232) عن أبي بكر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ، وانظر: الدراية (2/103) ورواه ابن حزم
عن ابن الزبير ـ رضي الله عنه ـ وهشام بن عبد الملك. انظر: المحلى (11/381، 384) .(14/242)
مكان في البلد ويُرمى منه مُنكساً على رأسه، ويُتبع بالحجارة (1) ؛ لأن الله فعل ذلك بقوم لوط، على ما في ذلك من نظر.
وقال بعض العلماء: بل يرجم حتى يموت؛ لأن الله تعالى أرسل على قوم لوط حجارة من سجيل، وكونه رفع بلادهم ثم قلبها، هذا خبر إسرائيلي، لا يُصدق ولا يُكذب، لكن الثابت أن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجيل، وجعل عاليها سافلها، يعني لما جاءت الحجارة تهدمت، وصار العالي هو السافل، فيرجمون رجماً بالحجارة، فهذه ثلاثة أقوال في وصف إعدام اللوطي.
أما الدليل النظري على وجوب قتله؛ فلأن هذا مفسدة اجتماعية عظيمة، تجعل الرجال محل النساء، ولا يمكن التحرز منها؛ لأن الذكور بعضهم مع بعض دائماً، فلو وجدنا رجلاً مثلاً مع فتى، فلا يمكن أن نقول له: اترك الفتى، ما الذي أتى بك إليه؟ لكن لو وجدنا رجلاً مع امرأة، وشككنا هل هو من محارمها أم لا؟ يمكن أن نسأل ونبحث، فلما كان هذا الأمر أمراً فظيعاً مفسداً للمجتمع، وأمراً لا يمكن التحرز منه، صار جزاؤه القتل بكل حال، وهذا القول هو الصحيح.
فإذا قال قائل: هل نحرقهم، أو نرميهم من أعلى الشاهق، أو نرجمهم رجماً؟
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (28337) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/232) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
وإسناده صحيح، وانظر: نصب الراية (3/342) .(14/243)
أقول: الأولى في ذلك أن يفعل ولي الأمر ما هو أنكى وأردع، فإن رأى أنهم يحرقون، بأن يجمع الحطب أمام الناس، ثم يأتي بهم، ويرموا في النار فعل، وإن رأى أنه ينظر أطول منارة في البلد، ويلقون منها، ويتبعون بالحجارة، وأن هذا أنكى وأردع فعل، وإن رأى أنهم يرجمون، فيقامون أمام الناس، ويرجمهم الصغار والكبار بالحجارة فعل، فالمهم أن يفعل ما هو أنكى وأردع؛ لأن هذه ـ والعياذ بالله ـ فاحشة قبيحة جداً، وإذا ترك الحبل على الغارب انتشرت بسرعة في الناس حتى أهلكتهم.
وَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: تَغْيِيبُ حَشَفَتِهِ الأَصْلِيَّةِ كُلِّهَا فِي قُبُلٍ، أَوْ دُبُرٍ أَصْلِيَّيْنِ حَرَاماً مَحْضاً من آدَمِيٍّ حَيٍّ،..............
قوله: «وَلاَ يَجِبُ الحَدُّ إِلاَّ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ» وهذه الشروط زائدة على الشروط السابقة العامة.
قوله: «أَحَدُهَا: تَغْيِيبُ حَشَفَتِه الأَصْلِيَّةِ كُلِّهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أَصْلِيَّيْنِ حَرَاماً مَحْضَاً مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ» .
فقوله: «تغييب حشفته» أي: الزاني، والحشفة معروفة.
وقوله: «كلها» احترازاً من البعض، وإذا لم يكن له حشفة كما لو كان مقطوع الحشفة، فإن قدرها يكون بمنزلتها.
وقوله: «في قبل» أي: الفرج «أو دبر» أي: مخرج الغائط.
وقوله: «أصليين» صفة للقبل أو الدبر، وضدهما غير الأصليين، كالخنثى فهو بالنسبة للقبل واضح، لكن بالنسبة للدبر ربما يكون إنسان ـ نسأل الله العافية ـ ليس له دبر، وقد ذكر ابن قدامة(14/244)
ـ رحمه الله ـ في المغني أنه ذكر له أن في الشام ثلاثة أشخاص:
الأول: له خرق بين مخرج البول والغائط، يخرج منه البول والغائط، ليس له دبر، وليس له فرج، ولا ذكر.
الثاني: ليس له فرج ولا ذكر، لكن فيه ورمة يرشح منها البول رشحاً.
الثالث: ليس له من الأسفل شيء، وإنما يأكل الطعام فإذا بقي ما شاء الله تقيأه، وكان هذا التقيؤ بمنزلة الغائط والبول، وهؤلاء نقول: يُحكم لهم حكم الخنثى المشكل بالنسبة للميراث.
على كل حال لا بد أن يكون القبل والدبر أصليين، احترازاً من غير الأصليين كفرج الخنثى، ودبرٍ في غير موضعه.
قوله: «حراماً محضاً» سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الكلام عليه في الشرط الثاني وهو انتفاء الشبهة.
وقوله: «من آدمي» يعني أن يكون هذا القبل، أو الدبر من آدمي، فإن كان من غير آدمي لم يجب حد الزنا، لكن يجب التعزير بما يراه الإمام، فلو أولج الإنسان في بهيمة عُزِّر، وقُتلت البهيمة على أنها حرام جيفة، فإن كانت البهيمة له فاتت عليه، وإن كانت لغيره وجب عليه أن يضمنها لصاحبها.
وقيل: إن من أتى بهيمة قتل لحديث ورد في ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» (1) ، وهذا عام، أخذ به بعض أهل العلم، وقالوا: إن
__________
(1) أخرجه أحمد (1/269) ، وأبو داود في الحدود باب فيمن أتى بهيمة (4464) ، والترمذي في الحدود باب ما جاء
فيمن يقع على بهيمة (1455) ، وابن ماجه في الحدود باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة (2564) عن ابن عباس ـ
رضي الله عنهما ـ، وضعفه أبو داود وغيره، انظر: التلخيص (1753) .(14/245)
فرج البهيمة لا يحل بحال، فيكون كاللواط، ولكن الحديث ضعيف؛ ولهذا عدل أهل العلم لمَّا ضَعُف الحديث عندهم إلى أخف الأمرين، وهو قتل البهيمة، وأما الآدمي فلا يقتل؛ لأن حرمته أعظم، ولكن يعزر؛ لأن ذلك معصية، والقاعدة العامة أن التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن إتيان البهيمة معصية؟
قلنا: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *} [المؤمنون:7] ، فأيُّ شيء وراء الأزواج وملك اليمين، يعتبر عدواناً وظلماً.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين الزنا بذوات المحارم وغيرهم، ولكن الصحيح أن الزنا بذوات المحارم فيه القتل بكل حال لحديث صحيح ورد في ذلك (1) ، وهو رواية عن أحمد وهي الصحيحة، واختار ذلك ابن القيم في كتاب الجواب الكافي أن الذي يزني بذات محرم منه فإنه يقتل بكل حال، مثل ما لو زنا
__________
(1) ولفظه: «إذا قال الرجل للرجل: يا يهودي فاضربوه عشرين، وإذا قال: يا مخنث فاضربوه عشرين، ومن وقع
على ذات محرم فاقتلوه» ، أخرجه أحمد (1/300) ، والترمذي في الحدود باب ما جاء فيمن يقول لآخر: يا مخنث (1462) ،
وابن ماجه في الحدود باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة (2564) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وصححه
الحاكم (4/356) ، انظر: نصب الراية (3/343) ، والإرواء (2352) .(14/246)
بأخته والعياذ بالله، أو بعمته، أو خالته، أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا الفرج لا يحل بأي حال من الأحوال، لا بعقد ولا بغيره؛ ولأن هذه فاحشة عظيمة.
وقوله: «آدمي حي» احترازاً من الميت، يعني لو زنا بميِّتة ـ وهذا يحصل ـ فإنه لا يحد، قالوا: لأن النفس تعافها وتكرهها، فاكتفي بالرادع الطبيعي عن الحد، ولكن لا بد أن يعزر.
وقيل: إن الذي يأتي الميتة، يزني بها، عليه حدان، مرة للزنا، ومرة لانتهاك حرمة الميتة؛ لأن الحية قد يكون منها شهوة وتلذذ بخلاف الميتة، والإمام أحمد ـ رحمه الله في إحدى الروايات إن لم تكن الأخيرة ـ يميل إلى هذا، أنه يجب عليه حدان لبشاعة هذا الأمر، وهو لا شك أمر مستبشع غاية الاستبشاع، ولا أقل من أن نلحق الميتة بالحية لعموم الأدلة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فإن النصوص عامة، فهذا الرجل زانٍ، وإن كانت المرأة ليست بزانية، لكن ليس بشرط، ولهذا لو زنا بامرأة مجنونة وجب عليه الحد ولم يجب عليها؛ فليس الحدان متلازمين.
ولو زنا محصن ببكر رجم وجلدت، فليس بشرط لإقامة الحد في الزنا أن يكون الزانيان عقوبتهما سواء.
فالشروط إذاً:
أولاً: تغييب الحشفة الأصلية كلِّها.(14/247)
ثانياً: أن يكون في قبل، أو دبر.
ثالثاً: أن يكون القبل أو الدبر أصليين.
رابعاً: أن يكون القبل والدبر من آدمي.
خامساً: أن يكون الآدمي حياً.
فهذه الشروط الخمسة إذا لم تتم فإن الحد لا يجب على الفاعل، ولكن يجب عليه التعزير.
فلو أن رجلاً بات مع امرأة وصار يقبلها، ويضمها، ويجامعها بين الفخذين، ويفعل كل شيء، إلا أنه لم يولج الحشفة فلا حَدَّ، ولكن عليه التعزير، إلا أن يجيء تائباً إلى الإمام فإن الحاكم بالخيار، إن شاء أقام عليه التعزير، وإن شاء لم يقم عليه التعزير؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح: أن رجلاً جاء إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخبره بأنه فعل بامرأة كل شيء إلا النكاح، فأنزل الله قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (1) ، ولم يقم عليه التعزير، فإذا جاء نادماً تائباً من فعله فإننا في هذه الحال إن طلب منا أن نقيم عليه التعزير، وألح في ذلك أقمنا عليه، وإلا أخبرناه بأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها.
الثَّانِي: انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، فَلاَ يُحَدُّ بِوَطْءِ أَمَةٍ لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ، أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ سُرِّيَّتَهُ، أَوْ فِي نِكَاحٍ بَاطِلٍ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مُلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَنَحْوِهِ، أَوْ أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا.
قوله: «الثاني انتفاء الشبهة» لأن الحد عقوبة على معصية، فلا بد من أن تتحقق هذه المعصية لنطبق هذه العقوبة،
__________
(1) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة باب الصلاة كفارة (526) ، ومسلم في التوبة باب قوله تعالى: {إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2763) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.(14/248)
أما أن نعاقب من نشك في ارتكابه الجريمة فإن هذا لا يجوز، فمعناه أننا حققنا شيئاً لأمر محتمل، غير محقق، وهذا يكون حكماً بالظن، والله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] لا سيما أن مثل هذه العقوبة بالنسبة للشخص سوف تحط من سمعته بين الناس، ومن عدالته، فالمسألة ليست بالهينة، وعلى هذا فإذا وُجدت أي شبهة تكون عذراً لهذا الزاني، فإنه لا يجوز لنا أن نقيم عليه الحد.
وأما حديث: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم» (1) فحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، وما أكثر ما يعتمد عليه المتهاونون في إقامة الحدود، كلما جاءت حدود قد تكون مثل الشمس، قالوا: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» حتى يجعلوا ما ليس شبهة شبهة، ونحن في اعتمادنا على الحديث نحتاج إلى أمرين:
الأول: ثبوت الحديث، الثاني: تحقيق المناط، هل هذا شبهة، أو غير شبهة؟
ولكن العلة التي ذكرناها علة واضحة، أنه لا يجوز أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في الحدود باب ما جاء في درء الحد (1424) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/238) عن
عائشة ـ رضي الله عنها ـ، قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي،
وهو ضعيف في الحديث، والحديث ضعفه البيهقي، وصححه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (
4/426) ، وانظر: نصب الراية (3/333) ، وخلاصة البدر المنير (2383) ، والتلخيص (1755) ، والإرواء (2355) .(14/249)
نوقع عقوبة على جريمة نشك في كونها جريمة؛ لأن هذا حكم بالظن، وإضرار بالمسلم، وحَطٌّ من قدره وسمعته، ومثل هذا لا يجوز إلا بشيء واضح نعتمد عليه، ثم ضرب المؤلف أمثلة للشبهة فقال:
«فَلا يُحَدُّ بِوَطْءِ أَمَةٍ لَهُ فِيهَا شِرْكٌ» هذا رجل بينه وبين رجل آخر أمة مشتركة، اشترياها بعشرة آلاف، كل واحد قدم في ثمنها خمسة آلاف ريال، فهل تحل لواحد منهما؟ لا تحل لأحدهما، لا بالتسري، ولا بالنكاح، وإن وافق أحدهما، لكن تحل لغيرهما بالنكاح، فلو اتفقا على أن يزوجاها شخصاً حل ذلك، فإن وطئها أحدهما فلا حد عليه؛ لأن له بعضها، ففيه شبهة مُلك، حتى لو كان يعلم أنها لا تحل له، وأن هذا الجماع محرم، نقول: لأن شبهة الملك تمنع من إقامة الحد.
قوله: «أو لولده» هذه أبعد، فلو زنا بأمةٍ لولده فيها شِرك، فالأب لا يملكها، لكن يملك أن يتملك ما يملكه ولده من هذه الأمة، فلما كان له أن يتملك صار زناه بهذه الأمة التي لولده فيها شرك فيه شبهة، فلا يقام عليه الحد، ولو لم يكن للولد فيها إلا واحد من عشرة آلاف سهم، لعموم قوله: «له فيها شرك أو لولده» ، أما لأخيه أو لأبيه فليست شبهة، يعني لو أنه زنا بأمة أبيه أقيم عليه الحد؛ لأن ذلك ليس بشبهة؛ لأن الولد لا يتملك من مال أبيه، بخلاف العكس.
قوله: «أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ سُرِّيَّتَهُ» الزوجة من(14/250)
ملكها بعقد النكاح، والسرية من ملكها بعقد التملك، مثاله: رجل جامع امرأة ظنها زوجته، كما لو أتى فراشه، فوجد امرأة ظنها زوجته، وكذلك لو ظنها سريته، المهم إذا ظن ذلك فالأمر ظاهر، ولكن إن ادّعى الظن فهل نقبل منه؟ الجواب: لا بد أن ينظر للقرائن، فمثلاً لو أمسك امرأة بالسوق وفعل بها، وهي تصيح: لست بزوجتك، ولا بيني وبينك ارتباط، فلا يقبل قوله، فلا بد أن يكون هناك قرينة تؤيد دعواه، مثلما قلنا في أول شروط الحدود: أن يكون عالماً بالتحريم، فإن ادعى جهل التحريم لم يقبل منه إلا بقرينة؛ لأنه يمكن لكل أحد أن يقول: أنا ما علمت أن الزنا حرام أو أن السرقة حرام، فلا بد من أن يكون هناك قرائن تشهد بصحة ما قال.
قوله: «أَوْ فِي نِكَاحٍ بَاطِلٍ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ» النكاح الباطل هو الذي أجمع العلماء على فساده، مثل أن يتزوج أخته من الرضاع وهو لا يعلم، فهذا النكاح باطل؛ لأنه محرم بإجماع المسلمين، فإن وطئها فيه فلا حَدَّ عليه.
قوله: «أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مُلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ» النكاح المختلف فيه له أمثلة كثيرة، منها أن يكون الخلاف في العقد، ومنها أن يكون الخلاف في شروط العقد، ومنها أن يكون الخلاف في المعقود عليه.
فمثلاً تزوج رجل بامرأة رضعت من أمه ثلاث مرات، فالخلاف هنا في المعقود عليه، هل هو حرام، أو غير حرام؟ فعلى رأي من يقول: إن الثلاث محرِّمة يكون النكاح باطلاً،(14/251)
وعلى رأي من يقول: لا يُحرِّم إلا الخمس يكون النكاح صحيحاً.
وقد يكون الخلاف في شرط العقد، مثل من تزوج بكراً أجبرها أبوها، فهي تحل له، وليس فيها موانع، فعلى رأي من يشترط رضا البكر ولو زوَّجَهَا أبوها يكون النكاح فاسداً، وعلى رأي من لا يشترط الرضا في هذه الصورة يكون النكاح صحيحاً، والصحيح أنه يشترط.
وقد يكون الخلاف في نفس العقد، كمن عقد على امرأة في عدة اختلف العلماء في وجوبها، كامرأة مختَلَعة، فعدتها على القول الراجح حيضة واحدة، وعدتها على المذهب ثلاث حيض، فهنا إذا عقدنا عليها بعد الحيضة الأولى، فالنكاح صحيح على قول من يرى أن عدتها حيضة واحدة، وغير صحيح على رأي من يرى أن عدتها ثلاث حيض.
إذاً كل نكاح مختلف فيه، إذا جامع فيه الإنسان فإنه لا يحد حد الزنا، أما إذا كان يعتقد صحته فالأمر واضح في أنه لا يحد؛ لأنه يطأ فرجاً حلالاً، ويعتقد أنه حلال، وليس فيه إشكال، وهذا لا نتعرض له ولا نلزمه بفسخ العقد ولا شيء.
وأما إذا كان يعتقد فساده، ولكنه أقدم عليه لهوى في نفسه، كامرأة أعجبته في خلقها، ودينها، وجمالها، ويكون العقد عليها مختلفاً فيه، وقال: المسألة خلافية فسأتزوجها على رأي من يرى أن ذلك جائز، فهذا حرام، ولكن لا يُحدُّ للشبهة، وهي خلاف العلماء؛ لأنه قد يكون أخطأ في هذا الاعتقاد، وقد يكون الصواب مع من يرى أن النكاح جائز، وهو يعتقد أن النكاح غير(14/252)
صحيح؛ فمن أجل هذا الاحتمال صار هذا الوطء شبهة، يدرأ الحدَّ عنه.
فالنكاح المختلف فيه إن كان يعتقد صحته فلا حد، ولا شيء عليه، ويبقى على نكاحه، وإن كان يعتقد فساده، فنحن نفرق بينهما اتباعاً لما يعتقد، ولكن لا نَحُدُّه للشبهة.
وقيل: إن اعتقد بطلانه فإنه يحد بناء على عقيدته، لأنه يرى أنه يطأ فرجاً حراماً، وأن هذا العقد لا أثر له، فلماذا لا نأخذه باعتقاده؟!
وينبغي في هذه الحال أن ينظر القاضي، أو الحاكم لما تقتضيه الحال.
وقوله: «أو ملك مختلف فيه» كإنسان وطئ أمة في ملك مختلف فيه، وله صور أيضاً متعددة، منها: لو اشترى أمة بعد نداء الجمعة الثاني وهو ممن تجب عليه الجمعة، فالبيع والشراء محرم وباطل، ويرى بعض العلماء أن العقد محرم وليس بباطل.
فهذا الرجل الذي اشتراها وجامعها، هل عليه حد؟ الجواب: لا حد عليه مطلقاً؛ لأن فيه خلافاً، لكن إن كان يعتقد الصحة أبقيناها معه، وإن كان يعتقد الفساد أرجعناها إلى بائعها الأول، وليس له فيها حق.
مثال آخر: رجل قال له شخص يصلي إلى جواره في المسجد: لقد اشتريت جارية من أحسن الجواري، جميلة، شابة، متعلمة، فقال: بعها لي، فباعها له في المسجد، ثم سلم له هذه المرأة وجامعها، فالعلماء اختلفوا في صحة البيع في المسجد مع(14/253)
أنه حرام، فلا يحد للخلاف فيه، فهو شبهة، والصحيح أنه لا يصح.
وكذلك تصرف الفضولي، وهو أن يبيع الإنسان ملك غيره بغير إذنه، فهذا التصرف قد يجيزه من له الحق، وقد لا يجيزه.
فإن لم يجزه فالتصرف غير صحيح، وإن أجازه فالتصرف فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من أجازه، ومنهم من منعه، فهذا رجل جاءه إنسان يسأله فقال: أنا عليَّ عتق رقبة، فهل عندك رقبة؟ قال: نعم، كم تبذل؟ قال: عشرة آلاف ريال، والثاني يعرف أن عند جاره جارية، يريد فيها خمسة آلاف ريال، فقال: هذه غبطة فباعها له، فلما باعها له وسلمه العشرة أعجبته فجامعها، فهذا التصرف على المذهب باطل؛ لأنه ليس من مالك، ولا من وكيل، فإذا أجازه مالك الأمَة فالمذهب لا يصح، ولو أجيز؛ لأنه ليس من مالك، ولا ممن يقوم مقام المالك، والقول الثاني: أنه إذا أجيز يصح العقد من أصله، لا من الإجازة، وعلى هذا يكون وطء هذا الرجل لهذه المرأة في ملك مختلف فيه، فلا يحد حد الزنا.
قوله: «ونحوه» (1) .
قوله: «أَوْ أُكْرِهَتِ المَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا» أي: إنها لا تحد، فإن أكرهها حتى زنا بها ـ والعياذ بالله ـ فليس عليها حد، لكن المُكْرِهَ يحد بلا شك، بل لو قيل بالحد والتعزير لكان أولى، فيحد للزنا
__________
(1) قال في الروض: «أي نحو ما ذكر كجهل تحريم الزنا من قريب عهد بالإسلام، أو ناشئ ببادية بعيدة» (7/322
) .(14/254)
ويعزر للاعتداء، ولا مانع من أن يكون أحد الزانيين يقام عليه الحد والثاني لا يقام عليه، كمن زنا بامرأة دون البلوغ فهي لا تحد والرجل يحد.
وقوله: «أو أكرهت المرأة على الزنا» علم من كلامه أنه لو أكره الرجل أقيم عليه الحد، كإنسان عنده أمة، ورأى هذا الرجل اللبيب، الشاب، الجميل، وقال: أريد أن يزني بها، لينجب ولداً مثله، وأكرهه على الزنا، فالمذهب أنه يحد.
قالوا: لأن الإكراه في حق الرجل لا يتصور؛ لأنه لا جماع إلا بانتشار، ولا انتشار إلا بإرادة، والإرادة رضا وليست إكراهاً، فلما لم يتصور الإكراه في حقه صار الحد واجباً عليه، ولا يعارض هذا الحديثَ: «وما استكرهوا عليه» (1) ؛ لأنهم يقولون: هذا الرجل ما استكره، بل رضي.
ولكن القول الراجح بلا شك أنه لا حد عليه، وأن الإكراه موجود، الرجل يقال له: افعل بهذه المرأة وإلا قتلناك، وتأتي أمامه بثياب جميلة، وهي شابة وجميلة، فهذا من أبلغ ما يكون من الإكراه، ومهما كان فالإنسان بشر، فالصواب بلا شك أنه لا حد عليه، وإذا لم تكن مثل هذه الصورة من الشبهة، فأين الشبهة؟! هذه هي الشبهة الحقيقية، فرجل معروف بأنه إنسان
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، ولفظه: «
إن الله تجاوز لي عن أمتي ... » ، وأخرجه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (2045) ، ولفظه: «إنَّ الله وضع عن
أمتي ... » ، وصححه ابن حبان (7219) ، وصححه الحاكم (2/198) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(14/255)
تقي، وبعيد عن الشر، وعفيف، ولا أحد يمكن أن يجرحه بشيء، ويأتيه شخص من شياطين الإنس، يكرهه على أن يزني بامرأة، ويهدده بالقتل وهو قادر أن يقتله، ثم يزني لدفع الإكراه، لا لرغبة في الزنا، ونقول: هذا يجب أن يقام عليه الحد!!
فالصواب بلا شك أن الإكراه في حق الرجل ممكن، وأنه لا حد عليه، ولكن المُكْرِه يعزر، ولا يحد حد الزنا؛ لأنه ما زنا.
فإن قلت: مر علينا في القصاص أنه إذا أكره الإنسان رجلاً آخر على قتل إنسان، فالضمان عليهما جميعاً، المُكْرِه والمُكْرَه، نقول: هذا قصاص، ولهذا لو تمالأ جماعة على قتل إنسان قُتلوا جميعاً.
لكن لو تمالأ رجال على أن يزنوا بامرأة فزنا واحد فقط، أقيم الحد على الزاني فقط، ففرق بين هذا وهذا.
الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الزِّنَا، وَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُما: أَنْ يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ، أَوْ مَجَالِسَ، وَيُصَرِّحَ بِذِكْرِ حَقِيقَةِ الوَطْءِ، وَلاَ يَنْزِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
قوله: «الثَّالِثُ: ثُبُوتُ الزِّنَا، وَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أحدهما: أن يقر به أربع مرات» فالأول: الإقرار، والثاني: البينة (الشهود) ، والقول الراجح أن لثبوت الزنا ثلاثة طرق هذان الطريقان، والثالث الحمل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ البحث فيه.
أما الإقرار فدليله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] والشهادة على النفس هي الإقرار، فأمر الله ـ عزّ وجل ـ الإنسان أن يقر بما عليه، ولو كان على نفسه.
ودليله من السنة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم بالإقرار، وجلد(14/256)
بالإقرار (1) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: ولم يثبت الزنا بطريق الشهادة من فجر الإسلام إلى وقتهِ، وإنما ثبت بطريق الإقرار؛ لأن الشهادة صعبة، كما سيتبين إن شاء الله.
وأما المعنى فلأن الإنسان لا يمكن أن يقر على نفسه بما يدنس عرضه، ويوجب عقوبته، إلا والأمر كذلك.
فثبوت الزنا بالإقرار له أدلة ثلاثة: الكتاب، والسنة، والنظر الصحيح.
قوله: «أَنْ يُقِرَّ بِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» هذه شروط الإقرار، فلا بد أن يقر أربع مرات، فيقول: إنه زنا، ثم يقول: إنه زنا، ثم يقول: إنه زنا، ثم يقول: إنه زنا، والدليل على ذلك النص والقياس، أما النص فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقم الحد على ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ حتى أقر أربع مرات، فكان يأتي ويقر، فيعرض عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى أقر أربع مرات، فلما أقر أربع مرات، قال: «ارجموه» (2) .
وأما القياس: فلأن الزنا لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال، كما قال الله تعالى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ *} [النور] ، فإذا لم يثبت إلا بأربعة شهداء، فإنه يقاس عليه الإقرار، فلا يثبت إلا بإقرارٍ أربع مرات.
وأما النظر: فلأن الزنا فاحشة وأمر عظيم، ولا ينبغي أن يوصف به الإنسان إلا بزيادة تثَبُّت، وذلك بأن يكرر أربع مرات؛
__________
(1) سبق تخريجه ص (225) .
(2) سبق تخريجه ص (231) .(14/257)
لأن الزنا أمره عظيم، وفاحشة مدنسة للعرض، ثم إنه يخشى إذا حصلت أن تهون في نفوس المجتمع، فيؤدي ذلك إلى فساده، ولهذا فإن المنكرات إذا قل وقوعها في الناس ثم فعلت، تجد الناس يستنكرونها، وينفرون من فاعلها، فإذا فعلها آخر، وثالث، ورابع، وخامس، هانت عند الناس، ولهذا من الأمثال المضروبة: كثرة الإمساس يقل الإحساس، وهذا أمر مشاهد، كنا قبل زمان نستنكر غاية الاستنكار أن نسمع العُود والربابة، وهذه الأشياء التي هي من آلات اللهو، ولا يفعلها أحد إلا مختفياً، وفي حجرة بعيدة، أو في فلاة بعيدة من البر، وأصبحت اليوم أمراً مألوفاً؛ لأنها كثرت، وكذلك شرب الخمر، فإذا قيل: فلان شرب الخمر انتشر خبره في جميع أنحاء المملكة، ورأوا ذلك أمراً عظيماً، والآن يذكر لنا أنه هان الأمر عند بعض الناس، والعياذ بالله، كل هذا مع كثرة الوقوع، فإذا أقر إنسان بالزنا ورجمناه مثلاً، أو أقمنا عليه الجلد، فهذا ربما يسري في الناس ويتساهلون به، فلهذا احتطنا في الإقرار، فقلنا: لا بد أن يكون أربعاً، حتى إذا جاء وقال: زنيت، نقول: ما زنيت؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لماعز ـ رضي الله عنه ـ: «لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت» ولكنه يقول: إنه زنا (1) .
فصار عندنا دليل من السنة، والثاني من القياس على الشهادة، والثالث الاحتياط.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت (6824) عن ابن عباس ـ
رضي الله عنهما ـ.(14/258)
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشترط الإقرار أربعاً، وأن الإقرار بالزنا كغيره، إذا أقر به مرة واحدة، وتمت شروط الإقرار، بأن كان بالغاً عاقلاً ليس فيه بأس فإنه يثبت الزنا، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وهذا شاهد.
واستدلوا من السنة بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأُنيس ـ رجلٍ من الأنصار ـ: «واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (1) .
واستدلوا بالنظر بأنه إذا أقر على نفسه فإنه بالمرة الواحدة يثبت؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يقر على نفسه بأمر يدنس عرضه، ويوجب عقوبته، إلا وهو صادق فيه، فإذا صدق بإقراره مرة انطبق عليه وصف الزنا، وإذا انطبق عليه وصف الزنا، فقد قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] .
وأما مسألة الإشاعة، فالإشاعة لا تزول بتكراره أربعاً؛ لأن الرجل إذا أقر أربعاً وصمَّم عليه بان الأمر واتضح.
بقي علينا أن نجيب عن أدلة القائلين بالتكرار، وأقوى حديث لهم هو حديث ماعز رضي الله عنه، فنقول: يظهر من سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم له أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يستثبت الخبر؛ لأنه سأله: «هل بك جنون؟» ، قال: لا، فأرسل إلى قومه وقال لهم:
__________
(1) سبق تخريجه ص (225) .(14/259)
«هل ماعز فيه جنون؟» ، قالوا: لا، إنه من صالِح رجالنا في العقل، ثم قال: «هل شربتَ الخمر؟» ، فقال: لا، حتى إنه أمر رجلاً أن يستنكهه (1) ، أي: يشم رائحته، وهذا يدل على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان عنده بعض الشك في إقرار هذا الرجل، وأراد أن يستثبت، ويؤيد هذا أن قصة العسيف ليس فيها إلا أنه قال: «إن اعترفت فارجمها» (2) ، والفعل المطلق يصدق بالواحد، وكذلك قصة اليهوديين اللَّذَيْنِ زنيا، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر برجمهما (3) ولم يذكر أنهما كرَّرا الإقرار، وكذلك الغامدية أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم برجمها ولم يذكر أنها كرَّرت الإقرار، حتى إنها قالت: يا رسول الله، تريد أن تُرَدِّدَنِي كما رددت ماعزاً؟! (4) .
وهذا القول أرجح أن تكرار الإقرار أربعاً ليس بشرط، لا سيما إذا كان الأمر قد اشتهر كما في قصة العسيف؛ لأن هذه القصة قد اشتهرت؛ لأن أبا العسيف ذهب يسأل الناس ما الذي عليه؟ فقيل له: إن على ابنك مائة شاة ووليدة، فافتداه بذلك حتى حصلت المخاصمة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقضى بينهما بكتاب الله، فعندنا قولان في المسألة:
الأول: أنه شرط.
الثاني: أنه لا يشترط التكرار في الإقرار.
ولكن القولين يتفقان في أنه إذا قام عند الحاكم شبهة، فإن الواجب التأكد والاستثبات.
__________
(1) سبق تخريجه ص (231) .
(2) سبق تخريجه ص (225) .
(3) سبق تخريجه ص (212) .
(4) سبق تخريجه ص (51) .(14/260)
ولو قال قائل بقول وسط بأنه إذا اشتهر الأمر واتضح فإنه يُكتفى فيه بالإقرار مرة واحدة، بخلاف ما لم يشتهر فإنه لا بد فيه من تكرار الإقرار أربعاً، وعلى هذا يكون هذا القول آخذاً بالقولين، فيشترط التكرار في حال، ولا يشترط في حال أخرى.
قوله: «فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ» هذا هو الشرط الثاني، وأشار المؤلف إلى مجلس أو مجالس؛ لأن بعض أهل العلم يقول: لا بد أن يكون ذلك في مجلس واحد، وأما إذا كان في مجالس فلا يصح، كما سيأتي في الشهادة.
قوله: «وَيُصَرِّحَ بِذِكْرِ حَقِيقَةِ الوَطْءِ» فيصرح المُقِر بذكر حقيقة الوطء، لا كناية الوطء، فيقول: إنه ناكها بهذا اللفظ، ولا يكفي أن يقول: أتيتها، أو جامعتها، أو زنيت بها؛ لأن قوله: «أتيتها» يمكن أتاها زائراً، ففيه احتمال، و «جامعتها» يعني اجتمعت معها في مكان، ولهذا يقال: التنوين لا يجامع الإضافة، والمعنى أنه لا يصاحبها ولا يجتمع معها، كذلك «زنى بها» لا يكفي، فربما يظن أن ما ليس بزنا زنا، مثل أن يظن التقبيل زنا، والنظر زنا، والاستمتاع بما دون الفرج، وما أشبه ذلك، ولهذا لا بد أن يصرح، ولما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لماعز: «لعلك قبَّلت، أو نظرت، أو غمزت» ، قال: لا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنكتها؟» (1) بهذا اللفظ لا يكني، فالرسول ما كنَّى، مع أنه ما عُهد عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم تكلم بصريح الوطء، إلا في هذه المسألة، فقال له: «أتدري ما
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت (6824) ، عن ابن عباس رضي
الله عنهما، وقد مر تخريجه ص (258) .(14/261)
الزنا؟» قال: نعم، أتيت منها حراماً، ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً (1) .
وفي رواية لأبي داود: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها، قال: نعم، فقال: كما يغيب الرشاء في البئر، والمِرْوَد في المكحلة؟ قال: نعم» (2) ، فهذا واضح صريح باللفظ وضرب المثل، فكل هذا يدل على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يستثبت من هذا الرجل، ويتأكد منه، وهل هو يعرف الزنا، أو لا يعرفه، فلا بد من أن يصرح بذكر حقيقة الوطء.
وأما التعليل فظاهر؛ لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً، موجباً للحد، فاشترط فيه التصريح.
قوله: «ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد» هذا هو الشرط الثالث، ألاَّ ينزع عن إقراره، أي: لا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحد؛ فإن رجع عن إقراره حرم إقامة الحد عليه، حتى ولو كان في أثناء الحد، وقال: إنه ما زنا، يجب أن يرفع عنه الحد، حتى لو كتب الإقرار بيده أربع مرات ورجع، فإنه يقبل رجوعه، ولا يجوز أن يقام عليه الحد.
والدليل على ذلك:
أولاً: أن ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ لما بدأوا
__________
(1) أبو داود (3843) في الحدود/ باب رجم ماعز بن مالك، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أبو داود في الحدود باب رجم ماعز بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (4428) ، وصححه ابن حبان (
4383) ط. الأفكار الدولية.(14/262)
يرجمونه، وأزلقته الحجارة، وذاق مسها هرب، حتى أدركوه فأتموا رجمه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما علم بهذا: «هلا تركتموه يتوب فيتوبَ الله عليه؟» (1) .
قال أهل العلم: وهذا دليل على جواز رجوع المقِر، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه، حتى ولو كان قد شُرِع في ذلك، وحتى لو أنه لُقن أن يرجع فرجع فإنه يترك، ولا يقام عليه الحد.
ثانياً: قالوا: إن هذا هو ما قضى به الخلفاء الراشدون (2) رضي الله عنهم، ومعلوم أن للخلفاء الراشدين سنة متبعة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (3) ، فإذا قضوا بأن رجوع المقر عن الإقرار موجب لرفع الحد عنه وجب علينا أن لا نقيم عليه الحد، وحرم علينا إقامة الحد.
ثالثاً: قالوا: إن المعنى يقتضي رفع الحد عنه؛ لأنه إذا رجع وقال: إنه لم يزنِ، فكيف نقيم الحد على رجل يصرخ بأعلى
__________
(1) أخرجه أحمد (5/216) ، وأبو داود في الحدود باب رجم ماعز بن مالك (4419) عن نعيم بن هزال ـ رضي
الله عنه ـ قال الحافظ في التلخيص (4/58) : «إسناده حسن» .
(2) جاء ذلك عن عمر وأبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ فيما رواه عبد الرزاق (18919) ، ورواه ابن أبي شيبة عن
عمر ـ رضي الله عنه ـ (28579) ط. الحوت، وجاء عن علي رضي الله عنه، كما في مسند أبي يعلى (328) ط،
حسين سليم أسد.
(3) أخرجه الإمام أحمد (4/126) ، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة (4606) ، والترمذي في العلم باب ما جاء
في الأخذ بالسنة (1676) ، وابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية ـ
رضي الله عنه ـ قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5) ، والحاكم (1/96) .(14/263)
صوته إنه لم يزنِ؟! فنحن نقيم عليه الحد بأمر هو ينكره، والأمر جاء من قِبَله هو، فلا يمكن أن نحده وهو ينكره.
رابعاً: القياس على رجوع البينة؛ لأنه لو شهد عليه أربعة رجال بالزنا، وحكم الحاكم بإقامة الحد بمقتضى هذه الشهادة ثم رجعوا، قالوا: شهدنا ولكن نستغفر الله ونتوب إليه، رجعنا عن شهادتنا، فإنه لا يجوز إقامة الحد عليه؛ لأن رجوع هؤلاء الشهود قدح فيهم؛ لأنهم كاذبون في إحدى الشهادتين، إن كان في الأول فهم كاذبون فلا تقبل، وإن كان في الثاني فهم كاذبون فلا تقبل شهادتهم.
فقالوا: إن هذا يقاس عليه، أي: أن رجوع المقر عن إقراره يرفع عند الحد، كرجوع الشهود عن شهادتهم.
وهذا هو مذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي، ومالك في بعض الأحوال.
وقالت الظاهرية: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، ويجب إقامة الحد عليه، وبيننا وبينكم كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: إن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، فإذا شهد على نفسه بالزنا فقد قام بالقسط، وصَدَقَ عليه وصف الزاني، وقد قال الله ـ عزّ وجل ـ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، فكيف نرفع هذا الحكم الذي أمر الله به مُعَلَّقاً على وصف ثبت بإقرار من اتصف به؟! هذا لا يمكن؛ لأن هذا حكم معلق على وصف ثبت بإقرار، فبمجرد ما ثبت الإقرار ثبت الحد، فما الذي يرفعه؟!(14/264)
وأما السنة قالوا: لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لأنيس ـ رضي الله عنه ـ: «واغدُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (1) ، ولم يقل: ما لم ترجع، وإذا كان لم يقله مع أن الحاجة تدعو إليه عُلم أنه ليس بشرط ألاَّ يرجع في إقراره حتى يتم عليه الحد؛ لأن الشرط لا بد أن يتم، وإلا لا يمكن أن يطبق الحكم بغير تمام الشرط.
قالوا: وأما قولكم: إن ماعزاً ـ رضي الله عنه ـ رجع عن إقراره، فهذا قول بلا علم، وماعز ـ رضي الله عنه ـ ما رجع عن إقراره أبداً، وهربُهُ لا يدل على رجوعه عن إقراره إطلاقاً، ومن ادعى أن ذلك رجوع عن إقراره فقد قال قولاً بلا علم، وقد حرَّم الله ـ عزّ وجل ـ علينا أن نقول بلا علم في قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، نعم، ماعز هربه قد يكون رجوعاً عن طلب إقامة الحد عليه، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد، وفي الثاني أراد ألاَّ يقام عليه الحد، وتكون التوبة بينه وبين الله، ولهذا قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» (2) ، فدل هذا على أن حكم الإقرار باقٍ؛ لأنه لا توبة إلا من زنا، ما قال الرسول: هلا تركتموه؛ لأنه ارتفع إقراره، بل قال: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» .
وحينئذٍ لا يكون في الحديث دليل على ما زعتمم، بل إن
__________
(1) سبق تخريجه ص (225) .
(2) أخرجه أبو داود في الحدود/ باب رجم ماعز بن مالك (3836) ، وأحمد (5/216 ـ 217) عن نعيم بن هزال
رضي الله عنه.
ورواه الترمذي مختصراً في الحدود/ باب ما جاء في درء الحد ... (1348) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسّنه.(14/265)
لم يكن دليلاً عليكم، لم يكن دليلاً لكم، وكونه دليلاً عليهم أقرب من كونه دليلاً لهم؛ لأن إقرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه يتوب دليل على ثبوت الذنب في حقه، ولو كان ذلك يرفع مقتضى إقراره لارتفع عنه حكم الذنب.
ولهذا لو جاءنا رجل يقر بأنه زنا ويطلب إقامة الحد، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد، وأتينا بالحصى لأجل أن نرجمه، ونظر إلى الحصى، فقال: دعوني أتوب إلى الله؛ ماذا نقول له؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه» ، وحينئذٍ ندعه يتوب، فيتوب الله عليه.
أما لو قال: ما زنيت، فلا يقبل؛ لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره، ولو أننا قلنا بقبول رجوع الجاني عن إقراره لما أقيم حدٌّ في الدنيا؛ لأن كل من يعرف أنه سيحد ربما يرجع، إلا أن يشاء الله، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في الفتاوى، فكل إنسان يخشى من العقوبة، وكان في الأول عنده عزم أن يطهر نفسه بالعقوبة، ولكن تأخر، فسيقول: ما حصل منه هذا الشيء، فهناك فرق بين الرجوع عن الإقرار، والرجوع عن طلب إقامة الحد، وهو ظاهر جداً.
وأما قولكم: إنه يقاس على الشهادة فهذا قياس في غاية الضعف؛ لأن الشهود خطؤهم أو عدوانهم ممكن، خطؤهم بحيث يظنون أن هذا الرجل هو الذي زنا وهو غيره، لكنه شبيه به، فيعتقدون اعتقاداً جازماً أن هذا هو الرجل، فيشهدون على ما اعتقدوه، والواقع أنه غيره، وهذا يمكن، لكن هل يمكن للإنسان(14/266)
أن يخطئ في نفسه، ويظن أنه زنا وهو ما زنا؟! لا يمكن هذا، أيضاً قد يكون الشهود ما عندهم خطأ، لكن عندهم عدوان، أرادوا أن يورطوا هذا المشهود عليه، فشهدوا عليه بالزنا، وهو ما زنا أصلاً، وهذا يمكن، لكن عدوان الإنسان على نفسه بعيد، فبعيد أن يشهد على نفسه، ويلطخ نفسه بالزنا ويرضى العقوبة وهو كاذب، هذا من أبعد ما يكون، لكن كذب الشهود ممكن فيكذبون ويشهدون، ثم بعد ذلك يندمون، ويقولون: كيف نشهد، نلطخ عرضه، ونعرضه للعقوبة، وربما تكون رجماً، فيرجعون، فقياس هذا على هذا من أبعد ما يكون.
وأما قولهم: إن المعنى يقتضيه، فكيف نقيم الحد على رجل يصرخ بأعلى صوته: إنه ما فعل؟!
فنقول: نحن ما جنينا عليه، نحن أقمنا عليه الحد باعترافه، وكونه يكذب في الرجوع، أقرب من كونه يكذب في الإقرار؛ لأنه بعيد أن يقر الإنسان على نفسه أنه زنا وهو ما زنا، لكن قريب أن يرجع عن إقراره إذا رأى أنه سيقام عليه الحد وهو قد اعترف.
وأما قضاء الخلفاء الراشدين، فأنا ما اطلعت على نصوصهم، فربما يكون هناك أشياء تشبه ما وقع لماعز فحكموا بها، فظن أهل العلم القائلون بهذا القول أنها من باب الرجوع عن الإقرار، وليست كذلك، فنحتاج أن نقف على النصوص الواردة عن الخلفاء الراشدين؛ لأن مخالفة الخلفاء الراشدين ليست بالأمر الهين، ونحن نتهم رأينا في مقابل قولهم، أما من حيث النظر بالأدلة فلا شك أن الراجح هو قول الظاهرية،(14/267)
ولا سيما إذا وجد قرائن، فمثلاً لو أن رجلاً سرق، وأمسكناه فأقر بالسرقة وأخبر أن الأشياء التي سرقها عنده، فلما أعطاهم الأشياء المسروقة، قال: أنا لم أسرق، فهنا الصحيح أنه ليس له الرجوع عن إقراره، بل يقام عليه الحد.
فإن قيل: المال موجود عنده، قالوا: يمكن أن السارق جاء ووضعها في بيته، أو أنه اشتراها، أما المذهب فإنه يقبل رجوعه في الإقرار ما دام أن الحد لم يقم عليه، لكن لا يقبل رجوعه بالنسبة لحق الآدمي، وهذا مما شنع به ابن حزم على أهل الفقه، قال: سبحان الله!! إقرار واحد، تقولون: يلزمك في هذا، ولا يلزمك في هذا!! إما أن تبطلوهما وإلا أثبتوهما.
والمهم على كل حال أن درء الحدود بمثل هذه الشبهات البعيدة بعيد عن الصواب، والواجب أن تُساس الأمة بما يمنع من الفساد، ولهذا كان القول الراجح كما سيأتينا ـ إن شاء الله ـ أن شارب الخمر إذا جلد ثلاث مرات ولم ينته فإنه يقتل، إما مطلقاً على رأي الظاهرية، وإما إذا لم ينته الناس بدون القتل على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
الثَّانِي: أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِزِنَا وَاحِدٍ يَصِفُونَهُ أَرْبَعَةٌ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ، سَوَاءٌ أَتَوْا الحَاكِمَ جُمْلَةً، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، وَإِنْ حَمَلَتِ امْرَأَةٌ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ سَيِّدَ لَمْ تُحَدَّ بِمُجَرَّدِ ذلِكَ.
قوله: «الثَّانِي» : أي: الطريق الثاني مما يثبت به الزنا.
قوله: «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي مجلسٍ واحدٍ بزنا واحد يصفونه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه، سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين» .
فالشروط خمسة أن يأتي هؤلاء الشهود إلى الحاكم الذي يثبت(14/268)
الزنا في مجلس واحد، سواء جاؤوا جميعاً، أو متفرقين، فالقاضي ـ مثلاً ـ له جلسة من الساعة الثامنة صباحاً إلى الساعة الثانية عشرة، أربع ساعات، فجاء الأول في الساعة الأولى وأثبت شهادته ومضى، وجاء الثاني في الساعة التاسعة فأثبت شهادته ومضى، وجاء الثالث في العاشرة فأثبت شهادته ومضى، وجاء الرابع في الحادية عشرة فأثبت شهادته ومضى، فهنا المجلس واحد، ولكنهم متفرقون.
أو جاؤوا مجتمعين، يعني جاؤوا جميعاً، كل واحد ممسك بيد الآخر، وشهدوا عند القاضي في نفس اللحظة، فإنه يكفي.
فإن جاؤوا في مجلسين، مثل أن جاء اثنان منهم في جلسة الصباح، واثنان في جلسة المساء، فإنهم قَذَفَةٌ، ولا تقبل شهادتهم، ويجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة، فإن قالوا: نحن نشهد على زنا واحد؟ قلنا: لا، أنتم لم تأتوا في مجلس واحد، وهذا هو مذهب الإمام أحمد، وأبي حنيفة، ومالك.
وأما الشافعي وجماعة من أهل الحديث، فقالوا: لا يشترط المجلس الواحد.
ودليل الأولين قالوا: لو قبلنا شهادتهم وهم يأتون في مجالس، لكان في ذلك تهمة، ربما أن الشاهدين الأولين يذهبان إلى رجلين آخرين ويغرونهما بالمال، أو ما أشبه ذلك، ويصفون لهم ما شهدوا به، ويقولون: اشهدوا على هذا النحو، ويأتون إلى القاضي في الجلسة الأخرى؛ لأنهم إذا أغروا هؤلاء بالمال وشهدوا مثل شهادتهم سلموا من أن يكونوا قذفة فيجلدوا، وأيضاً(14/269)
حصل لهم ما يريدون من تدنيس عرض المشهود عليه.
أما الذين قالوا: لا يشترط أن يكونوا في مجلس واحد، فقالوا: إن الآية عامة {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ، وهؤلاء الشهداء الأربعة أتوا إلى القاضي، وأثبتوا شهادتهم، فأين في كتاب الله، أو في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اشتراط أن يكون في مجلس واحد؟
وقولكم: إنه يُخشى من التمالؤ ينتقض عليكم بقولكم: إنهم يُقبلون، سواء أتوا الحاكم جملة، أو متفرقين؛ لأنه ربما يتمالأ هؤلاء الذين شهدوا في الساعة الأولى مع الذين شهدوا في الساعة الثالثة، أو الرابعة مثلاً، ولو أنكم قلتم كما قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم: إنه لا بد أن يأتوا الحاكم ويدلوا بشهادتهم مجتمعين في مجلس واحد، يعني أنهم إذا جاؤوا متفرقين فإنهم قَذَفَة، فعندنا ثلاثة أقوال:
الأول: اشتراط المجلس الواحد وحضورهم جميعاً.
الثاني: عدم اشتراط المجلس.
الثالث: اشتراط المجلس الواحد دون الحضور، وهذا هو المذهب عندنا، ولكن القولين الآخرين أقرب للقاعدة، إما أن نشترط أن يأتوا جميعاً ويشهدوا، وإما ألا نشترط ذلك، والأقرب إلى النصوص أنه لا يشترط؛ لأنها عامة.
وعلى هذا فيكون قوله: «في مجلس واحد» على القول الراجح ليس بشرط.
وقوله: «بزنا واحد» يعني لا بد أن يشهدوا على زنا واحد،(14/270)
فلو شهد رجلان على أنه زنا في الصباح، ورجلان أنه زنا في المساء، فهذان فعلان فلا تقبل الشهادة، ويجلد الشهود للقذف؛ لأن الزنا متعدد، ولو شهد اثنان أنه زنا في زاوية، واثنان أنه زنا في زاوية أخرى، فهل هذا زنا واحد أم لا؟
فيه تفصيل؛ إن كانت الحجرة صغيرة كملت الشهادة، وإن كانت كبيرة لم تكمل؛ والسبب أنها ممكن أن تتدحرج معه من زاوية إلى أخرى نسأل الله العافية، أما إذا كانت كبيرة فهذا يمتنع في العادة، فيعتبر الزنا فعلين.
وهل يشترط ذكر المزني بها؟ لا يشترط؛ لأن المزني بها قد تكون غير معلومة للشهود؛ ولهذا لم يذكر المؤلف هذا الشرط، وهو كذلك.
وقوله: «يصفونه» يعني يصفون الزنا بلفظ صريح، بأن يقولوا: رأينا ذكره في فرجها، فلو قالوا: رأيناه عليها متجردَيْن، فإن ذلك لا يقبل حتى لو قالوا: نشهد بأنه قد كان منها كما يكون الرجل من امرأته، فإنها لا تكفي الشهادة، بل لا بد أن يقولوا: نشهد أن ذكره في فرجها، وهذا صعب جداً، مثلما قال الرجل الذي شُهد عليه في عهد عمر: لو كنت بين أفخاذنا لم تشهد هذه الشهادة، وأظن هذا لا يمكن، ولكن لا أدري هل يمكن بالوسائل الحديثة أم لا كالتصوير؟ الظاهر أنه لا يمكن أيضاً؛ لأن الذي تدركه الصورة تدركه العين، فإذا لم تدركه العين لم تدركه الصورة، ولهذا يقول شيخ الإسلام: إنه لم يثبت الزنا عن طريق الشهادة من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عهده، وإذا لم يثبت من هذا(14/271)
الوقت إلى ذاك الوقت، فكذلك لا نعلم أنه ثبت بطريق الشهادة إلى يومنا هذا؛ لأنه صعب جداً.
فلو شهد الأربعة بأنهم رأوه كما يكون الرجل على امرأته، فإنه لا يحد للزنا، وهل يحدون للقذف؟ لا يحدون للقذف؛ لأنهم ما قذفوا، ما قالوا: زنا، بل قالوا: إننا رأيناه كما يكون الرجل على امرأته فقط.
ولكن هل نقول: إن هذه تهمة قوية بشهادة هؤلاء الشهود العدول، فيعزر؟ نعم، فإذا لم يثبت الزنا الذي يثبت به الحد الشرعي، فإنه يعزر لأجل التهمة؛ لأننا بين أمرين، إما أن نعزره، وإما أن نعزر الشهود، فأحدهما لا شك مخطئ، وهنا يثبت أن الشهود ثبت بشهادتهم التهمة.
وقوله: «أربعة» فاعل «يشهد» لكنه تأخر عن عامله لأجل ذكر الشروط متوالية، وكلمة «أربعة» عدد يكون للمذكر، وعلى هذا فلا بد أن يكونوا رجالاً، فإن «أربعة» بمعنى أربعة رجال لقوله تعالى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ، وشهداء ـ أيضاً ـ للمذكر، جمع شاهد أو شهيد، فلو شهد ثمان نسوة لا يقبل، وكذلك ثلاثة وامرأتان لا يقبل.
وقوله: «ممن تقبل شهادتهم فيه» أي: في الزنا، فلا بد أن يكون هؤلاء ممن تقبل شهادتهم في نفس الزنا، وبعض الناس يقبلون في الزنا، ولا يقبلون في غيره، أو يقبلون في غيره، ولا يقبلون في الزنا، كما لو كان أعمى، فالأعمى لو شهد بما يسمع قبلت شهادته، لكن بما يرى لا تقبل، فلو جاء ثلاثة يشهدون(14/272)
بالزنا، وجاؤوا بالرابع أعمى، لا يقبل، فإن قال: أشهد أنه زنا، قلنا: أنت كاذب، فإن قال: أشهد بشهادة هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم عدول عندي، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (1) ، وهؤلاء ثلاثة أشهد على شهادتهم، بل آكل على شهادتهم الميتة!! نقول: نعم، ولكن لا بد من وصف الزنا، فصفه لنا، فيقول: كما قال الثلاثة، فنسأله: هل رأيته؟ فيقول: إنه لم يره، وهذا فعل، والفعل مما يُشهد عليه بالبصر؛ ولهذا لا تقبل شهادة الأعمى في باب الزنا، ولا في كل فعل.
ولا بد أن يكونوا من غير أعداءِ المشهود عليه، فإن كانوا من أعدائه فلا تقبل شهادتهم؛ لأن العدو يفرح أن يصاب عدوه بهذه الفاحشة، وعدو الإنسان من سرَّهُ مساءتُهُ وغَمَّه فرحُهُ، هذا ضابط العداوة عند أهل الفقه، فإذا قيل له: إن فلاناً نجح، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإن قيل له: إن فلاناً أصيب بحادث وتكسرت سيارته، قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فهذا عدو؛ لأنه في الأول ساءه مسرة هذا الشخص، وفي الثاني فرح بما يغم هذا الشخص.
وقوله: «سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين» ، سبق الكلام على هذا، وأن بعض العلماء يقول: لا بد أن يأتوا الحاكم في
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/321) ، والنسائي في الصوم باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (
4/133) ، والدارقطني (2/167) عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصححه
في الإرواء (909) .(14/273)
مجلس واحد جملة، والصواب أنه لا يشترط المجلس الواحد.
قوله: «وَإِنْ حَمَلَتِ امْرَأَةٌ لا زَوْجَ لَهَا وَلاَ سَيِّدَ لَمْ تُحَدَّ بمجَرَّدِ ذَلِكَ» «امرأة» نكرة في سياق الشرط فتعم، سواء كانت حرة أم أمة، صغيرة أم كبيرة «لا زوج لها ولا سيد» ، والتي ليس لها زوج، ولا سيد لا تحمل إلا من وطء محرم، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *} {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] ، {أَزْوَاجِهِمْ} هذه ذات الزوج، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ذات السيد، فإذا حملت امرأة ليس لها زوج، وليس لها سيد، فإننا لا نتعرض لها، ولا نقول: من أين جاءك الحمل؟ ولا نسألها؛ لأن في سؤالها إشاعة للفاحشة، وقد قال الله ـ عزّ وجل ـ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19] ، فإذا كان هذا الوعيد فيمن يحب أن تشيع الفاحشة، فكيف بمن تسبب لشيوع الفاحشة؟!
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» (1) ، وهذا الحديث كما سبق حديث ضعيف.
فعلى هذا فلا تُسأل، ولا تُحد، حتى لو كانت تحمل كل سنة، وتأتي بولد وصار لها عشرة أولاد بدون زوج، ولا سيد، فإننا لا نتعرض لها!! وهذا الذي ذكر المؤلف هو المذهب، وهو أحد أقوال ثلاثة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .(14/274)
القول الثاني: أنه يجب عليها الحد ما لم تدعِ شبهة، مثل أن تدعي أنها اغتصبت، أو تدعي أنها وجدت شيئاً فأدخلته في فرجها، فكان مَنِيَّ رَجُلٍ فحملت به، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي تُعذر فيها فإذا ادعت شبهة ممكنة فلا تحد.
القول الثالث: يجب عليها الحد وإن ادعت شبهة.
وحجة القول الثاني، يقولون: إن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ خطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال فيما قال: «إن الرجم حق ثابت على من زنا إذا أَحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف» (1) ، فذكر لثبوته ثلاثة أشياء:
الأول: أن تقوم البينة، أربعة رجال بالشروط المعروفة.
الثاني: الحبل.
الثالث: الاعتراف.
وهذا قاله أمير المؤمنين عمر على منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبمحضرٍ من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، ولم يذكر أن أحداً نازعه في ذلك، أو خالفه، ومثل هذا يكون من أقوى الأدلة إن لم يُدَّعَ فيه الإجماع فهو كالإجماع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الحق بلا ريب.
فالولد في الأصل من الجماع، وأما كون المرأة ربما وجدت شيئاً فيه ماء رجل فأدخلته في فرجها، ثم دبت هذه النطفة إلى رحمها، وحبلت، فهذا شيء بعيد!! ولو أننا قلنا بعدم الحد
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .(14/275)
لانتشر الشر والفساد، ولكانت كل امرأة بغي تلد كل سنة، ويقال: لا تسألوها ودعوها، حتى تأتي هي وتقر بالزنا، وحينئذٍ أقيموا عليها الحد.
وأما قول الفقهاء رحمهم الله: إن هذا من باب الشبهات، والحدود تدرأ بالشبهات، فنقول:
أولاً: نمنع المقدمة الأولى، وهي أنه من الشبهات، فنقول: أين الشبهة في امرأة حملت؟! الأصل أنها ما حملت إلا من جماع، وإذا لم تكن ذات زوج ولا سيد، فليس عندنا إلا الجماع المحرَّم، إلا إذا ادعت الشبهة.
ثانياً: الحديث الذي استدلوا به ضعيف، ولو أننا أخذنا بكل شبهة ـ ولو كانت شبهة ضئيلة كالشررة في وسط الرماد ـ لَكُنَّا وافقنا قول من يقول: إن الرجل إذا استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها فلا حد عليه، وهذا قول لبعض العلماء، قالوا: لأن الاستئجار شبهة لإباحة جماعها في مقابل الأجرة.
وما من إنسان يريد الزنا إلا توصل إلى الزنا بمثل هذه الطريقة، بكل سهولة، فالقصد أن مجرد الشبهة ولو كشرارة في وسط الرماد ليس بصحيح، ولا يمكن أن ترتفع بها الأحكام، وإلا فسدت أحوال الناس.
وأما القول الثالث الذي يقول: إنها تحد ولو ادعت الشبهة، فيقولون: إنها بحملها ثبت زناها بمقتضى حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ، والأصل عدم الإكراه فلتأتِ ببينة على ما ادعته من الشبهة، وإلا وجب الأخذ بظاهر الحال، وهذا تعليله أقوى(14/276)
من تعليل القول الأول، الذي يقول بأنها لا تحد، ومع ذلك فهو تعليل عليل لا تقوم به الحجة، ولا يمكن أن نتلف به الأنفس، ولا سيما إذا كانت ثيباً فإنها سترجم بمجرد ذلك.
بقي أن يقال: إن تعليل الفقهاء بأن سؤالها من باب إشاعة الفاحشة، نقول: إننا لن نسألها، بل نقيم عليها الحد بدون سؤال، حتى تدعي ما يرتفع به الحد.
إذاً طرق ثبوت الزنا بهذا التقرير أربعة:
أولاً: الشهادة.
ثانياً: الإقرار.
ثالثاً: حمل من لا زوج لها ولا سيد.
رابعاً: اللعان بين الزوجين، فإذا تم لعان الزوج ولم تدافعه.(14/277)
بَابُ حَدِّ القَذْفِ
إِذَا قَذَفَ الْمُكَلَّفُ مُحْصَناً جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرّاً، وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ.
قوله: «حد القذف» «حد» مضاف و «القذف» مضاف إليه، والإضافة هنا من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني باب الحد الذي سببه القذف.
والقذف في الأصل: هو الرمي، والمراد به هنا رمي شخص بالزنا، أو اللواط، فيقول: يا زانٍ، يا لوطي، أو أنت زانٍ، أو أنت لوطي، وما أشبه ذلك.
وحكم القذف محرم، بل من كبائر الذنوب إذا كان المقذوف محصناً، والحكمة من تحريمه صيانة أعراض الناس عن الانتهاك، وحماية سمعتهم عن التدنيس، وهذا من أحكم الحكم؛ لأن الناس لو سُلط بعضهم على بعض في التدنيس، والسب، والشتم حصلت عداوات، وبغضاء، وربما حروب طواحن من أجل هذه الأمور، لكن حفظاً لأعراض الناس، وحماية لها، ولسمعة المسلمين جاء الشرع محرماً للقذف، وموجباً للعقوبة الدنيوية فيه، يقول الله ـ عزّ وجل ـ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النور:23] ، فرتب على ذلك أمرين عظيمين:
الأول: اللعنة في الدنيا والآخرة، والعياذ بالله.
الثاني: العذاب العظيم.(14/278)
ثم قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 24، 25] ، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من الكبائر الموبقة قذفَ المحصنات المؤمنات الغافلات (1) .
إذاً فهو من كبائر الذنوب بدلالة الكتاب والسنة، والحكمة فيه ما أشرنا إليه من قبل.
والقذف تختلف عقوبته باختلاف القاذف، وباختلاف المقذوف، ويعلم ذلك من الشروط.
قوله: «إِذَا قَذَفَ المُكَلَّفُ مُحْصَناً جُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إِنْ كَانَ حُرّاً وَإِنْ كَانَ عَبْداً أَرْبَعِينَ» «المكلف» البالغ العاقل، سواء كان هذا البالغ العاقل ذكراً أو أنثى، حتى المرأة لو أنها قذفت رجلاً يقام عليها حد القذف.
وكلمة: «المكلف» جاء بها ـ رحمه الله ـ من باب التبيين، وإلا فإنه قد سبق لنا في الشروط العامة في الحدود أنه يشترط أن يكون المحدود بالغاً عاقلاً.
وقوله: «محصناً» المحصن هنا غير المحصن في باب الزنا، فالمحصن هنا سيذكره المؤلف بقوله: «الحر المسلم العاقل العفيف الملتزم الذي يجامع مثله» بخلاف ما في باب الزنا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} ... } (2766) ، ومسلم في
الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (89) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/279)
وقوله: «محصناً» نكرة في سياق الشرط، فتعم ما إذا كان المحصن امرأة أو رجلاً، فتكون كلمة محصن بمعنى شخصاً محصناً، وقدَّرنا ذلك من أجل الشمول والعموم.
وقوله: «محصناً» ظاهره أن ذلك شامل لقذف الولد والده، فيجلد ثمانين جلدة، فإذا قذف والده فقال: يا زانٍ ـ والعياذ بالله ـ فإنه يجلد حد القذف؛ لأن قذف الولد الوالد شنيع جداً.
ويشمل كلام المؤلف: قذف الوالد ولده، فالوالد إذا قذف ولده، قال له: أنت لوطي، أنت زانٍ، أنت فاعل لشيء من هذه الخبائث، وما أشبه ذلك، فعلى كلام المؤلف يجلد الوالد؛ لأنه أطلق فقال: «محصناً» وهذا خلاف المذهب، فالمذهب أن الوالد إذا قذف ولده فإنه لا يجلد به، كما أنه لو قتله لا يقتص به، وقد سبق لنا أن هذه المسألة فيها خلاف.
والصواب أن قذف الوالد لولده يجب فيه الحد، سواء قلنا: إنه حق لله، أو للآدمي؛ لأننا إذا قلنا: إنه حق لله، فالأمر فيه ظاهر؛ لأنه لا سُلْطَة للوالد على ولده فيه، وإذا قلنا: إنه حق للآدمي، فإننا نقول: إن الولد إذا لم يرضَ بإسقاط حقه فإن له المطالبة به، فكما أن له أن يطالب والده بالنفقة، فهذا مثله، فلمَّا أهدر كرامة ولده، وأهانه أمام الناس، فليقم عليه الحد، والآية عامة.
ويدخل في كلام المؤلف من قذف نبياً، وقد قيل: إن من قذف نبياً فليس عليه إلا الحد، ولكن هذا القول ضعيف، والصحيح أن من قذف نبياً فإنه يكفر ويقتل كفراً، فإن تاب فإنه يقتل حداً، وليس كفراً؟ والفرق بين القِتْلتين:(14/280)
أننا إذا قتلناه كفراً فإنه لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإذا قتلناه حداً صار الأمر بالعكس.
وظاهره أيضاً ولو قذف أم نبي ـ نسأل الله العافية ـ مثل أن يقول: إن مريم ـ والعياذ بالله ـ بغي، فهل يقتل أو لا؟
الجواب: لا بد أن يقتل؛ لأنه حتى لو فرضنا أنه ليس من باب القذف، فهو من باب تكذيب القرآن؛ لأن الله تعالى قال في مريم: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] وأما أم نبي غير مريم، فالصحيح أنه يقتل كفراً، لما في ذلك من الشناعة العظيمة؛ حيث يوهم أن الأنبياء ـ وحاشاهم من ذلك ـ أولاد بغايا.
وظاهر كلامه أيضاً حتى لو قذف زوجة نبي فإنه يحد ثمانين؛ لأنه داخل في عموم «محصناً» ، ولكن هذا فيه خلاف إلا في عائشة ـ رضي الله عنها ـ فإن من رماها بما برأها الله منه فهو كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، لكن لو رماها بغيره، أو رمى إحدى زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أي نبي كان، فالصحيح أنه يكفر ـ أيضاً ـ ويقتل، قال شيخ الإسلام: لأن في هذا من الغضاضة، وإذلال النبي شيئاً لا يتهاون به، وهو أعظم من تحريم نكاح زوجاته بعده، فإذا كان الله قد نهانا أن نتزوج نساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعده؛ إكراماً له، وحماية لفراشه، فكيف يدنس بهذا؟! وهل قذف زوجات الأنبياء إلا استهزاءٌ بالأنبياء، وسخرية بهم، ولهذا فالصحيح أنه لا يدخل في كلام المؤلف، والظاهر أن هذه العمومات غير مرادة للمؤلف.(14/281)
وقوله: «جلد ثمانين جلدة إن كان حراً» «جُلد» فعل ماضٍ مبني للمجهول، فمن الجالد؟ سبق لنا أنه لا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو الحق.
وقال بعض أهل العلم: إن حد القذف يقيمه المقذوف على القاذف، إذا جعلناه حقاً للمقذوف، وإذا جعلناه حقّاً لله فالذي يقيمه هو الإمام وسيأتي الخلاف فيه.
وقوله: «جلد ثمانين جلدة إن كان حراً» أي: إن كان القاذف حراً فإنه يجلد ثمانين، وهذا هو القسم الأول من عقوبة القاذف، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [النور:4] ، فقوله تعالى: {الْمُحْصَنَاتِ} جمع مؤنث سالم، فهل هي خاصة بالنساء أو عامة؟ وهل العموم باللفظ أو بالمعنى؟ ظاهر الآية الكريمة أنها خاصة بالنساء، ولكن بعض أهل العلم يقول: إن المحصنات صفة لموصوف محذوف، واختلفوا في تقديره، فقال بعضهم: الأنفس المحصنات، وقال آخرون: الفروج المحصنات، فيكون عاماً يشمل الرجال والنساء، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فالفرج إذاً محصن، لكن لا شك أن هذا تأويل مخالف لظاهر الآية، وأن الظاهر أن المراد بها النساء، ولكن الرجال في هذا مثل النساء بالإجماع، فيكون عمومها عموماً معنوياً؛ وذلك لعدم الفارق بين الرجال والنساء في هذا.
في هذه الآية رتب الله على القذف ثلاثة أمور:
الأول: الجلد.(14/282)
الثاني: عدم قبول الشهادة.
الثالث: الفسق.
ثم قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ، فهل هذا الاستثناء يرفع الأحكام الثلاثة، أو يرفع الحكم الأخير، أو يرفع الحكم الأخير والذي قبله؟ أما الأخير فهو بلا شك، فإذا تابوا من القذف زال عنهم وصف الفسق إلى العدالة، وهذا لا شك فيه؛ لأن الاستثناء من أقرب مذكور وقد حصل.
وقال بعض العلماء: إنه عائد إلى الأخير، وما قبله، وأنه إذا تاب ورجع قبلت شهادته، أما الحكم الأول فإنه لا يعود إليه بالاتفاق، إلا أن بعضهم قال: إذا جعلناه حقاً لله وتاب قبل القدرة عليه فإنه يسقط، فجعله عائداً للثلاثة.
وقوله: «وإن كان عبداً أربعين» يعني وإن كان عبداً جلد أربعين، وهذا هو القسم الثاني من عقوبة القاذف، قالوا: لأن العبد يتنصف الحد عليه، وقد سبق دليل ذلك، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، والقذف حَدٌّ، فيتنصف كما يتنصف حد الزنا، إذاً كون العبد يجلد أربعين، هذا من باب القياس.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان حراً أو عبداً فإنه يجلد ثمانين جلدة؛ لأن الآية عامة، والحق للمقذوف، والمقذوف بالزنا سيتدنس عِرضُه، سواء كان القاذف حراً أو عبداً فالأمر فيه ظاهر، وحد الزنا لله، وبشاعة الزنا وشناعته بالنسبة للحر والعبد تختلف، فاختلف جزاؤه، أما هنا فالمضرة على المقذوف،(14/283)
والمقذوف يقول: إن عرضي تدنس، سواء كان القاذف حراً أو عبداً.
فالصحيح عندي القول الثاني أنه يجلد ثمانين جلدة، سواء كان حراً أو عبداً، والدليل عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
ولأنه لا معنى لتنصيف العقوبة على العبد، والحكم يتعلق بغيره، بخلاف الزنا، فالقياس إذاً لا يصح.
وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ بِحِسَابِهِ، وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، وَهُوَ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ،.....
قوله: «وَالمُعْتَقُ بَعْضُهُ بِحِسَابِهِ» أي: إذا وُجد إنسان بعضه حر وبعضه رقيق، فإنه يجلد بحسابه من الأربعين، فإذا كان نصفه حراً جُلِدَ ـ على رأي المؤلف ـ أربعين على أنه حر، وعشرين على أنه رقيق، يعني ستين، فيزيد ما بين الحدَّين بنسبة حرِّيَّتِهِ.
لكن كيف يتصور أن يكون الإنسان نصفه حراً ونصفه رقيقاً؟ يتصور إذا كان عبدٌ بين شركاء، فَأعَتَقَ أحدُهم نصيبه، وكان الشركاء الآخرون فقراء، وكذلك المعتِق فقيراً، ففي هذه الحال يعتق منه ما عتق.
قوله: «وَقَذْفُ غَيْرِ المُحْصَنِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ» هذا هو القسم الثالث من عقوبة القاذف، فإذا قذف غير محصن فإن يعزر، والتعزير بمعنى التأديب، وليس له قدر معين، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف هل يزاد على عشر جلدات، أو لا يزاد؟ وما هو الصحيح من ذلك؟
قوله: «وَهُوَ حَقٌّ لِلْمَقْذُوفِ» «وهو» ـ أي حد القذف ـ «حق(14/284)
للمقذوف» وليس حقاً لله، وقال أبو حنيفة: إنه حق لله عزّ وجل.
وبناءً على أنه حق للمقذوف يسقط بعفوه، فلو عفا بعد أن قذفه بالزنا فإن حد القذف يسقط؛ لأنه حق له، كما لو كان عليه دراهم فعفا عنها فإنها تسقط عنه، ولا يُستوفى بدون طلبه، فما دام المقذوف ساكتاً فلا نقول للقاذف شيئاً، حتى لو بلغت الإمام فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه حق للمقذوف، وإذا كان حقّاً للمقذوف فإننا لا نتعرض له، حتى يأتي صاحبُ الحق ويطالب.
ويترتب على ذلك أنه إذا كان المقذوف ولداً للقاذف فإنه لا يُحد، بناءً على أن الولد لا يثبت له حقٌّ على أبيه، إلا ما أوجبه الله له من النفقة، فالوالد لو قذف ولده فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأنه حق للولد، والولد لا يثبت له حق على والده.
وهل يترتب على هذا الخلاف أنه يتنصف على العبد، أو يبقى كاملاً؟ بعضهم بناه على هذا، وقال: ينبني على هذا الخلاف أنه إذا كان حقاً للمقذوف فإن العبد يُحَدُّ حداً كاملاً، وإن كان حقاً لله فإن العبد يُحَدُّ على النصف كالزنا.
إذاً يترتب على كون حد القذف حقاً للمقذوف أربعة أمور:
أولاً: أنه يسقط بعفوه.
الثاني: أنه لا يقام حتى يُطَالَب به.
الثالث: أنه لا يقام للولد على والده.
الرابع: أن العبد يُحَدُّ كاملاً.
فإن قلنا: إنه حق لله انعكست الأحكام، فيقام عليه الحد بدون طلب، ولا يسقط بالعفو إذا بلغ الإمام، كحد السرقة،(14/285)
ويجب للولد على والده، ويتنصف كالزنا؛ لأنه حق لله.
لكن الغريب أن الفرع الرابع ثابت حتى على القول بأنه حق للمقذوف، كما هو المذهب.
وعلى هذا فيكون فيه شيء من التناقض؛ لأنك إذا جعلته حقاً للمقذوف، فإنه لا فرق بين أن يكون القاذف له حراً أو عبداً.
والراجح أنه حق للمقذوف، لكن مسألة التنصف هي المشكلة، وإن كان عليها جمهور أهل العلم، لكن ظاهر الآية العموم.
وَالْمُحْصَنُ هُنَا: الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْعَفِيفُ الْمُلْتَزِمُ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ،..........
قوله: «والمُحْصَنُ هُنَا» أي: في باب القذف، وقيده بقوله: «هنا» احترازاً من المحصن في باب الزنا، وسبق، وهو مَنْ وطئ امرأته في نكاح صحيح، وهما بالغان، عاقلان، حُرَّان.
قوله: «الحر» هل هو موافق لهناك؟
الجواب: نعم؛ لأنه يقول: وهما بالغان، عاقلان، حرَّان، فالحرية شرط هنا وهناك.
قوله: «المسلم» هذا شرط هنا، وهناك ليس بشرط، ولهذا رجم النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهوديين (1) .
قوله: «العاقل» هذا شرط هنا وهناك.
قوله: «العفيف» هذا هنا شرط، وهناك ليس بشرط، فهناك لو كان من أفجر الناس، بل هو في الواقع غير عفيف؛ لأنه زنا فإنه يكون محصناً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (212) .(14/286)
قوله: «الملتزم» هذه في الحقيقة لا داعي لها، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها سهو من المؤلف؛ لأن قيد الإسلام يُغني عن قيد الالتزام؛ لأن الملتزم أعم من المسلم، فالملتزم يدخل فيه المسلم والذمي كما سبق، وهنا خرج الذمي بقوله: «المسلم» ، ولهذا ما ذكره في الإقناع، ولا في المنتهى، ولا في المقنع الذي هو أصل الكتاب.
قوله: «الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ» قال في الروض (1) : وهو ابن عشر سنين، وبنت تسع سنين، فلو قذف صغيراً لم يبلغ عشراً فإنه لا يُحَدُّ، ولو قذف صغيرة لم يتم لها تسع فلا حد؛ لأنه لا يجامع مثله، فلا يلحقه العار بذلك، وهذا يختلف عن هناك.
قوله: «وَلاَ يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ» وهناك «وهما بالغان» فيشترط هناك البلوغ، وهنا لا يشترط.
وهناك يشترط أن يكون قد جامع زوجته في نكاح صحيح، وهنا لا يشترط، إذاً هناك شروط تعتبر، لا تعتبر هنا، وهنا شروط تعتبر، لا تعتبر هناك.
فالذي يتفقان فيه: الحرية، والعقل.
وينفرد المحصن هنا باشتراط الإسلام، والعفة، وينفرد هناك بأنه لا بد أن يكون بالغاً، وأن يكون قد جامع في نكاح صحيح.
إذاً هذا يمتاز باثنين، وهذا يمتاز باثنين.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/333) .(14/287)
قالوا: وقذف غير المحصن يوجب التعزير، فلو كان القاذف حراً والمقذوف عبداً يعزر.
ولو قذف كافراً ـ ولو ذمياً ـ يعزر، ولو قذف شخصاً متهماً بالزنا يعزر، فلا يقام عليه الحد؛ لأنه ليس بعفيف.
ولو قذف صغيراً لا يجامع مثلُهُ يعزر، فلو قال قائل: الآية عامة {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قلنا: لكن العبد لا يسمى محصناً في عُرف الشرع، وعلى هذا فيكون خارجاً من القيد ليس داخلاً، فلا يحتاج إلى دليل على إخراجه.
وما الدليل على اشتراط أن يكون مسلماً؟
الجواب: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] ، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (1) .
واشتراط أن يجامع مثلُه؛ لأن من لا يجامع مثله لا يلحقه العار أبداً، ولا يتصور الناس منه غالباً الزنا، ولأن من كان بهذه السن فإنه لا يدنسه القذف، حتى لو ثبت أنه زنا.
وَصَرِيحُ الْقَذْفِ: يَا زَانٍ، يَا لُوطِيُّ ونَحْوُهُ، وَكِنَايَتُهُ: يَا قَحْبَةُ، يَا فَاجِرَةُ، يَا خَبِيثَةُ، فَضَحْتِ زَوْجَكِ، أَوْ نَكَّسْتِ رَأْسَهُ، أَوْ جَعَلْتِ لَهُ قُرُوناً وَنَحْوُهُ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ قُبِلَ، وَإِنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلَدٍ، أَوْ جَمَاعَةً لاَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الزِّنَا عَادَةً عُزِّرَ، وَيَسْقُطُ حَدُّ الْقَذْفِ بِالْعَفْوِ، وَلاَ يُسْتَوْفَى بِدُونِ الطَّلَبِ.
قوله: «وَصَرِيحُ القَذْفِ» القذف له صريح وكناية، والطلاق له صريح وكناية، والوقف له صريح وكناية، فما هو الصريح من كل لفظ؟ يقولون: إن الصريح من كل لفظ ما لا يحتمل غير معناه الذي وضع له، وإذا كان يحتمل المعنى هذا وهذا فإنه كناية.
قوله: «يا زَانٍ، يَا لُوطِيُّ» فصريحه أن يناديه بهذا الوصف، أو يقول: أنت زانٍ، أنت لوطي.
__________
(1) سبق تخريجه ص (279) .(14/288)
فإن قال قائل: أليست كلمة «لوطي» يحتمل أن المعنى أنك من قوم لوط؟
الجواب: لا يحتمل؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله.
قوله: «ونحوه» مثل: يا مَنْ جامعتَ جماعاً محرَّماً، يا من تطأ النساء بدون عقد، وما أشبه ذلك مما يدل على الزنا صريحاً.
قوله: «وكنايته: يا قَحْبَة» هذه كناية؛ لأن القحبة تطلق على المرأة العجوز، وتطلق على الكُحَّة ـ السعال ـ يقال: فيك قحبة، أي: كُحَّة، ومنه سميت الزانية قحبة؛ لأنها تكحكح تشير إلى نفسها ـ والعياذ بالله ـ فهذا سبب تسميتها قحبة، وهي عند الفقهاء كناية، لكن في عرفنا صريحة جداً.
قوله: «يَا فَاجِرَةُ» أو يقول للرجل: يا فاجر، أو: أنت فاجر، أو ما أشبه ذلك، فهذا كناية؛ لأن الفُجْرَ والفجور أصله الانبعاث، ومنه الفَجْر، ومنه تَفَجَّر الماء إذا انبعث، والفجور يطلق ـ أيضاً ـ على الكفر {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] .
قوله: «يَا خَبِيثَةُ» كناية أيضاً؛ لأن الخُبْثَ قد يراد به الرديء، أو خبيث الأفعال.
قوله: «فَضَحتِ زَوْجكِ» هذا كناية؛ لأن المتبادر من «فضحت زوجك» أي: أبديت أسراره عند الناس، إلا إذا أراد كنتِ بغياً، ودنست عِرْضَه.
قوله: «أو نَكَّسْتِ رَأْسَهُ» لأن الزوج ـ والعياذ بالله ـ إذا زنت(14/289)
زوجته يخجل، ويخفي نفسه عن الناس، ولا يحب أن يروه، والاحتمال الثاني حملته ونكست رأسه إلى الأرض.
قوله: «أو جَعَلْتِ لَهُ قُرُوناً» هذا ـ أيضاً ـ كناية؛ لأنه يحتمل أن المعنى ظفَّرتِ رأسه، وجعلت له قروناً وجدايل، لكنهم لا يريدون ذلك، فالقرون يقولون: إنها مأخوذة من القِرْن، يعني الأقران، فالمشارِك للإنسان يسمى قرناً، أو قروناً أي: شُعَباً، كأنه ـ والعياذ بالله ـ اشترك فيها غير الزوج.
قوله: «وَإِنْ فَسَّرَه» الضمير يعود للكناية.
قوله: «بغير القذف قُبِلَ» ظاهر كلام المؤلف أنه يقبل بدون يمين؛ لأنه لو نكل لم يقضَ عليه بالنكول، فإذا قال: أنا ما أردت الزنا، وإنما أردت بالقحبة العجوز أو كثيرة الكحة، أو قال: أردت بالخبيثة، أي: خبيثة العمل، أو الرديئة، أو ما أشبه ذلك، أو أردت: بـ «فضحت زوجَك» أي: أبحتِ سرَّه، أو بُحت بسِرِّه، وبـ «نكست رأسه» أي: نكساً حسياً، فجعلته لأسفل، أو «جعلت له قروناً» أي: جعلت له قروناً من الشَّعر، أو نحو ذلك ففي هذه الحال يقبل، وإذا قبل فإنه لا يقام عليه حد القذف، لكن يعزر لإساءته إلى المخاطب.
قوله: «وَإِنْ قَذَفَ أَهْلَ بَلَدٍ أَوْ جَمَاعةً لا يُتَصَوَّرُ منهُمُ الزِّنَا عَادةً عُزِّرَ» كرجل وقف على باب القرية، وقال: كلكم يا أهل هذا(14/290)
البلد زناة فلا يحد للقذف؛ لأن هذا عار عليه هو؛ لأن الناس لا يتصور أن يتهموا أهل القرية بما رماهم به، فهو لم يدنس أعراضهم، ولا يهتمون بذلك، بل إنه لو فعل هذا لعدوه مجنوناً، ولكن يعزر، وكذلك لو قذف جماعة لا يتصور الزنا منهم عادة، مثل ما لو قذف مائة رجل فلا يحد؛ لأنهم لا يلحقهم العار، ولكن يعزر، أما إذا كان يتصور منهم الزنا أو اللواط عادة فإنه يحد حد القذف؛ لأن الغضاضة تلحق بهم.
فلو كان أهل البلد قليلين، كثلاثة رجال وزوجاتهم فقط؛ لأنهم رحلوا عنه فقذفهم، فهل يحد؟ نعم، يحد، فمراد الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في ذلك أهل البلد الذين هم كثرة لا يلحقهم العار بقذفهم.
قوله: «وَيَسْقُطُ حَدُّ القَذْفِ بِالْعَفْوِ، ولاَ يُسْتَوْفَى بِدُونِ الطَّلَبِ» لأنه حق للمقذوف، وإذا كان حقاً للمقذوف فلم يطالب به لم يحد القاذف، وهل يعزر؟ ظاهر كلامهم لا يعزر؛ لأنه حق للمقذوف، والمقذوف ما طالب، لكن إن رأى ولي الأمر أن يعزره فَعَلَ باعتبار إصلاح المجتمع على سبيل العموم، وعدم إلقاء مثل هذه العبارات عندهم.
وقوله: «ويسقط حد القذف بالعفو» ظاهر كلامه ولو كان بعد رفعه إلى الإمام أو الحاكم؛ لأنه حق محض للمقذوف، بخلاف السرقة فإن الرجل لو سُرق ماله فإن له أن لا يطالب السارق، والإمام لا يتعرض للسارق ما دام المسروق منه لم يطالبه، ولكن إذا رفع الأمر إلى وليّ الأمر فإنه لا يملك إسقاطه،(14/291)
والفرق بينهما ظاهر؛ لأن السرقة فيها شائبتان: شائبة حق الآدمي وهو ضمان المال، وشائبة قطع اليد وهو حق الله عزّ وجل، فلهذا صار بَيْنَ بَيْنَ، فإن رُفع إلى القاضي لم يملك المسروق منه إسقاطه، وإن لم يُرفع فله أن لا يطالب.(14/292)
بَابُ حَدِّ المُسْكِرِ
قوله: «حد المسكر» أي: عقوبة المسكر، وعلم من ذلك أن عقوبة السكران حدٌّ، لا يُتَجَاوز ولا يُنقص؛ لأن جميع الحدود التي رتبها الشارع على الجرائم لا تزاد ولا تنقص، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، بل المشهور من المذاهب الأربعة.
ودليل ذلك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قدرها بثمانين، وأن أبا بكر ضرب في عهده أربعين (1) ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لهما سُنَّة متبعةٌ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (2) ، وهما في قمة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فيكون لهما سنة واجبة الاتباع بنص الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن هل هي أربعون، أو ثمانون، أو أربعون وجوباً، وما بين الأربعين إلى الثمانين راجع إلى نظر الإمام، فإن أكْثَرَ الناسُ منها بلغ الثمانين، وإن أقلوا لم يتجاوز الأربعين؟ في هذا ـ أيضاً ـ خلاف.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1707) ، عن علي رضي الله عنه، والحديث أخرجه البخاري في الحدود/
باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6773) ولم يذكر فيه أن عمر رضي الله عنه قدرها بثمانين.
(2) سبق تخريجه ص (263) .(14/293)
والقول الثاني: أن عقوبة شارب المسكر من باب التعزير، الذي لا يُنْقص عن أربعين جلدة؛ لأن هذا أقل ما روي فيه، ولكن للحاكم أن يزيد عليه إذا رأى المصلحة في ذلك، واستدلوا بالتالي:
أولاً: أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يذكر حده في القرآن.
ثانياً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر حدَّه في السنة، بل قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه» (1) ولم يحدَّه.
ثالثاً: أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا أُتِي بالشارب قاموا إليه يضربونه بالجريد، والنعال، وطرف الرداء، والأيدي (2) ، وما أشبه ذلك، ولو كان هذا حدّاً لا يُتجاوز لوجب ضبطه، وألا يكون كل من جاء ضَرَبَ.
رابعاً: أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما تشاوروا في عهد عمر رضي الله عنه حين أكثر الناس من شربه، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أخف الحدود
__________
(1) أخرجه أحمد (4/96) ، وأبو داود في الحدود باب إذا تتابع في شرب الخمر (4482) ، والترمذي في الحدود باب ما
جاء في شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه (1444) ، وابن ماجه في الحدود باب من شرب الخمر مراراً (
2573) عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ وصححه الحاكم على شرط مسلم (4/371) وقال ابن عبد الهادي في المحرر (
1165) : «رواته ثقات» ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (61) .
(2) سبق تخريجه ص (291) .(14/294)
ثمانون، فوافق على ذلك الصحابة (1) ؛ وجه الدلالة من هذا الحديث أنه قال: «أخف الحدود ثمانون» ، ونحن نعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ضُرِبَ الشارب في عهده نحو أربعين (2) ، وفي عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أربعين (3) ، ولو كان حدّاً لكان أخف الحدود أربعين، ثم لو كان حدّاً ما استطاع عمر ولا غيره أن يتجاوزه، فالحد لا يمكن أن يزيده أحد، كما لا تزاد صلاة الظهر عن أربع، وصلاة المغرب عن ثلاث، وصلاة الفجر على اثنتين، أيضاً الحدود التي قدرها الله أو رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وأيضاً قوله: أخف الحدود ثمانون، يدل على أنه يجوز أن نتجاوز ما كان الشارب يُجْلَد إيَّاه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان حدّاً ما جازت مجاوزته، ولا استشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في الزيادة، مع أنه كان ـ رضي الله عنه ـ معروفاً بالوقوف عند حدود الله سبحانه وتعالى.
خامساً: ما صح الحديث به عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: «إذا شرب فاجلدوه» ، وذكر ذلك ثلاثاً، ثم قال: «فإن شرب الرابعة فاقتلوه» (4) ، وهذا دليل على أنه عقوبة تتدرج حتى تصل إلى القتل، ولو كان حدّاً محدوداً لكان الحد فيه لا يتغير.
وهذا هو الراجح عندي، وهو ظاهر كلام ابن القيم في إعلام الموقعين، وهو أنه تعزير لكن لا ينقص عن أقل تقدير وردت به السنة، وأما الزيادة فلا حرج في الزيادة إذا رأى الحاكم المصلحة في ذلك.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود باب حد الخمر (1706) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (293) .
(3) أخرجه البخاري في الحدود/ باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6773) ، ومسلم في الحدود/ باب حد الخمر (
1706) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(4) سبق تخريجه ص (294) .(14/295)
وقوله: «المسكر» اسم فاعل من أسكر، أي: غطى العقل على سبيل اللذة والطرب، وتغطية العقل لها وجوه متعددة، فإذا كان على وجه اللذة والطرب، والنشوة، والارتقاء، والتعالي، فذلك هو السَّكَرُ، فالمسكر هو الذي إذا تناوله الإنسان غطى عقله على سبيل اللذة والطرب، وهو حرام.
كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ. وَهُوَ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَلاَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلَذَّةٍ وَلاَ لِتَدَاوٍ وَلاَ عَطَشٍ وَلاَ غَيْرِهِ، إِلاَّ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا وَلَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ،......
قوله: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» هذه قاعدة مأخوذة من الحديث، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (1) ، وقال: «ما أسكر منه الفَرَقُ فملء الكفِّ منه حرام» (2) ، والفَرَق يسع ستة عشر رطلاً.
فقوله: «كل شراب أسكر» هذا مبتدأ، خبره: الجملة المقرونة بالفاء «فقليله حرام» ، وقرن الخبر بالفاء؛ لأن المبتدأ يشبه الشرط في العموم؛ ووجه العموم الذي فيه «كل شراب» .
وقوله: «كل شراب» هذا على سبيل الأغلبية، أن يكون الخمر مشروباً، وإلا فقد يكون مأكولاً، فيعجن، ويؤكل، وقد يكون معجوناً من جهة أخرى بحيث يبل به العجين، ويؤكل ـ أي: يُعْجَن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/343) ، وأبو داود في الأشربة باب النهي عن المسكر (3681) ، والنسائي في الأشربة باب
تحريم كل شراب أسكر كثيره (8/300) ، والترمذي في الأشربة باب ما جاء ما أسكر كثيره ... (1865) ، وابن ماجه في
الأشربة باب ما أسكر كثيره ... (3392) ، وابن حبان (5358) ، قال الترمذي: «حديث حسن غريب» ، وصححه الألباني
كما في الإرواء (8/42) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (6/71، 131) ، وأبو داود في الأشربة باب النهي عن المسكر (3687) ، والترمذي في الأشربة
باب ما جاء ما أسكر كثيره ... (1866) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقال الترمذي: «حديث حسن» وصححه الألباني
كما في الإرواء (8/44) .(14/296)
العجين بماء خمر ـ فيأكله الإنسان لقيمات، فيحصل السكر، ولهذا الأحسن أن نقول: «كل ما أسكر كثيرُهُ» كما جاء في الحديث، سواء كان شراباً، أو معجوناً، أو مطحوناً، فكل ما أسكر فإنه حرام.
وإذا أسكر كثيره فظاهر أنه حرام؛ وأما القليل فحرام بدليل الحديث؛ ولأنه ذريعة إلى شُرب الكثير المسكر، فلهذا منع الشرع منه.
ويجب أن نعرف الفرق بين أن نقول: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، وبين أن نقول: «ما كان مسكراً وخلط بغيره فهو حرام» ، لأن ما أسكر كثيره بمعنى هذا الشراب بعينه، إن أكثرت منه سكرت، وإن أقللت لم تسكر، فيكون القليل حراماً؛ لأنه ذريعة.
وأما خلط الخمر بغيره على وجه لا يظهر فيه أثره، فإن هذا لا يؤثر، فهو كما لو وقعت نجاسة بماء فلم تغيره.
ففي هذه الحال لا يكون الماء نجساً؛ فإذا عَجَن عجيناً بخمر فإنه يكون حراماً، وهذا بشرط أن يسكر، ومعلوم أنك إذا عجنت العجين بخمر فإنه سوف يؤثر عليه بلا شك، أما إذا لم يؤثر، أي: يكون خلطاً قليلاً يتضاءل ويذهب أثره فلا عبرة به.
قوله: «وَهُوَ خَمْرٌ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ» «وهو» أي: المسكر، «خمر» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر» (1) ؛ ووجه التسمية بيَّنها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال: الخمر ما خامر العقل (2) ، أي: غطاه، ومنه سمي خمار المرأة؛ لأنه يغطي
__________
(1) سبق تخريجه ص (222) .
(2) أخرجه البخاري في التفسير باب قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (
4619) ، ومسلم في التفسير باب في نزول تحريم الخمر (3032) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(14/297)
رأسها، وعلى هذا فنقول: كل ما غطى العقل على سبيل اللذة والطرب فهو خمر من أي نوع كان، وإنما قال: «من أي نوع كان» رداً على من قال: إن الخمر لا يكون إلا من العنب، فإن هذا القول ضعيف جداً، ومردود على قائله؛ لأن أفصح من نطق بالضاد محمداً صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر خمر» (1) ، وما قال: من العنب، فكل مسكر من العنب، أو الرُّطب، أو الشعير، أو الذرة، أو البرِّ، أو أي شيء كان فإنه خمر، وداخل في التحريم، وهو محرم بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين.
فدليله من الكتاب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] .
ووجه الدلالة من الآية قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} ، والأصل في الأمر الوجوب، ولأنه أضافه إلى الشيطان، فقال: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، وما كان من عمل الشيطان فإنه حرام لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] ، ولأن فيه إثماً زائداً على منفعته، والإثم محرم؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33] .
وأما السنة فهي صريحة في أنه حرام، في عدة أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّ بيعه حرام أيضاً، كما في حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في مكة عام الفتح، وقال: «إن الله حرَّم بيع الخمر،
__________
(1) سبق تخريجه ص (222) .(14/298)
والميتة، والخنزير، والأصنام» (1) ، وقال لصاحب الراوية: «إن الله إذا حرَّم شيئاً حرم ثمنه» (2) .
فما الحِكَمُ من تحريمه؟
الجواب: الحكم من تحريمه كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وكل ذي فطرة سليمة فإنه لا يقبل الرجس من عمل الشيطان.
ومنها أنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس، لقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ} [المائدة: 91] .
ومنها أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ لأن السكران ـ والعياذ بالله ـ إذا سكر غفل، وبقي مدة لا يذكر الله، ولا يصلي إذا جاء وقت الصلاة؛ لأنه منهي عنها: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] .
ومنها أنه جماع الإثم، أي: جامع للإثم كله، ومفتاح لكل شر.
وهذا ـ أيضاً ـ ظاهر؛ لأن الإنسان ـ والعياذ بالله ـ إذا سكر فقد وعيه، فقد يقتل نفسه، وقد يقتل ابنه، وقد يقتل أمه، وقد يزني ببنته ـ والعياذ بالله ـ، وكم من قضايا نسمع عنها، أن الرجل إذا سكر قرع بابه، وطلب من زوجته أن تمكنه من ابنته، وهذا شيء واقع.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الميتة والأصنام (2236) ، ومسلم في البيوع باب تحريم بيع الخمر والميتة
والخنزير والأصنام (1581) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/247، 322) ، وأبو داود في البيوع بابٌ في ثمن الخمر والميتة (3488) عن ابن عباس ـ
رضي الله عنهما ـ، وصححه ابن حبان (4938) ، والنووي في «المجموع» (9/273) ، وابن القيم في «الهدي» (5/746
) .(14/299)
وقد نشر في إحدى الصحف في البلاد التي ظهر فيها غضب الله، ونقمته، أن شاباً دخل على أمه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقال لها: إنه يريد أن يفعل بها، فنهته، ووبخته، فذهب وأتى بالسكين، وقال: إن لم تمكنيني فسأقتل نفسي، فأدركها حنان الأم ورحمتها، فمكنته من نفسها، فزنا بأمه، فلما أتى الصباح كأنه أحس أنه فعل هذه الجريمة العظيمة مع أمه، فدخل الحمام ومعه بنزين فصبه على نفسه، ثم أحرق نفسه والعياذ بالله، ومن تأمل ما حصل من الشرور والمفاسد في شرب الخمر عرف بذلك حكمة الله عزّ وجل، ورحمته بعباده، حيث حرم ذلك عليهم، فالحكمة تقتضي تحريمه، والإنسان العاقل يبعد عنه بعقله، دون أن يعرف شرع الله فيه.
قوله: «وَلاَ يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلَذَّةٍ» فلو قال إنسان: سأشرب الخمر من أجل أن يتلذذ به، يقول عن نفسه: أنا تعبان، وأرهقتني الهموم، ويريد أن يشرب هذا الكأس من الخمر حتى يرتاح، ويتلذذ، ويرى نفسه أنه ليس أمامه هم، ولا غم، ولا دنيا، ولا أهل، ولا ولد، وإنما هو ملك من ملوك الدنيا، ويقول: ارحموني قد مللت من حياتي، ولا يطيب لي الزمان حتى أشرب كأساً من الخمر، فهل يجوز أن يشربه لهذا الغرض؟
نقول: لا يجوز، ونرحمك بمنعك؛ لأنك إذا فعلت هذا فإنه يحصل لك النشوة، والطرب، والذهول، والنسيان في لحظات، ولكن يعقبها همٌّ وغمٌّ أكثر من الأول، فهي أم الخبائث.(14/300)
قوله: «ولاَ لِتداوٍ» أي: لا يباح لتداوٍ؛ لأننا نعلم علم اليقين أنه لا دواء فيه، وإنما هو كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» (1) ، ولو كانت دواءً ما حرمها الله ـ عزّ وجل ـ على عباده، فإن الله لا يحرم على عباده ما كان نافعاً لهم.
قوله: «وَلاَ عَطَشٍ» كرجل هالك من العطش إلى آخر رمق، وعنده كأس من الخمر، فقال: إنه يريد أن يشربها من العطش فلا يجوز؛ لأنه يزيد العطش، فلا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً.
قوله: «وَلاَ غَيْرِهِ» كالمفاخرة، والاختبار، وما أشبه ذلك، إلا في حالة واحدة قد تكون نادرة، ولكن قد تقع، قال المؤلف:
«إِلاَّ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا وَلَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ» مسألة غريبة، انظر العلماء كيف تذهب أفكارهم إلى هذا الأمر البعيد، مثل ما يذهب بعض الشعراء إلى خيال بعيد، كقول بعضهم:
بَلِيت بِلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في التُّربِ خَاتمُهُ
بليت بلى الأطلال أي: أطلال محبوبه، فهو يحب امرأة، وأطلالها ما تخلَّف من بيوتها ودارها، «إن لم أقف بها» أي بهذه الأطلال (وقوف شحيح) وهو البخيل بالمال، الممسك له،
__________
(1) أخرجه مسلم في الأشربة/ باب تحريم التداوي بالخمر وبيان أنها ليست بدواء (1984) عن وائل بن حجر ـ
رضي الله عنه ـ.(14/301)
الحريص عليه (ضاع في التُّرب خاتمه) خاتم الشحيح غالٍ عليه جداً، فإذا ضاع في التراب، فسيظل يبحث فيه أبد الآبدين، لعله يجده.
فهذه الصورة التي ذكرها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ مما يدل على أنهم يتعمقون في تصوير المسائل حتى النادرة، فمن يتصور أن رجلاً يأكل، ويُكبِّر اللقمة، ثم بعد ذلك يغص، ثم بعد ذلك لا يوجد عنده إلا كأس خمر، في بلد الإسلام!! هذا شيء بعيد لكن قد يكون.
ففي هذه الحال إذا غَصَّ ـ فقد يموت إذا لم تندفع اللقمة ـ وعنده كأس خمر، فيشرب بقدر ما تندفع به اللقمة، أي: بقدر الضرورة فقط، فإذا اندفعت أمسك.
ولماذا جازت هذه الصورة مع أن الخمر حرام؟ الجواب: لأن اندفاع الضرورة بالمحرم هنا حاصلة، فالضرورة هنا تندفع بما إذا شرب الخمر قطعاً، لكن الضرورة في العطش لا تندفع بشرب الخمر، ولا في التداوي أيضاً.
مسألة: يوجد في بعض الأدوية والعقاقير نسبة من الكحول، تعطى للمرضى في بعض الأحيان عند الضرورة، فما حكم هذا؟
الجواب: هذه لا تُسكر، ولكنها يحصل بها شيء من التخدير، وتخفيف الآلام على المريض، أما أن يسكر سكر شارب الخمر فلا، فهي تشبه البنج الذي يحصل به تعطيل الإحساس بدون أن يشعر المريض باللذة والطرب، ومعلوم أن الحكم المعلق بعلة إذا تخلفت العلة تخلف الحكم، فما دام(14/302)
الحكم معلقاً بالإسكار، وهنا لا إسكار فلا تحريم.
مسألة: ما حكم الحشيش؟
الجواب: الحشيش يراه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أخبث من الخمر، وهو كذلك، فإن الحشيشة تسكر، وهي شر منه؛ لأنها تؤثر على المخ أكثر مما يؤثر الخمر، ومثل ذلك ـ أيضاً ـ فيما يظهر الحبوب المخدرة؛ لأن مضرتها عظيمة، وهي أشد من مضرة الخمر، وفي بعض الدول غير الإسلامية يوجبون القتل على مروِّجها، ولكنها لا تسمى خمراً، وفيها التعزير، ويرجع فيه إلى اجتهاد الإمام.
، وَإِذَا شَرِبَهُ الْمُسْلِمُ مُخْتَاراً عَالِماً أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، ثَمَانُونَ جَلْدَةً مَعَ الْحُرِّيَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مَعَ الرِّقِّ.
قوله: «وَإَذا شَرِبَهُ المُسْلِمُ» هذا الشرط الأول، وخرج به من ليس بمسلم، حتى وإن كان ملتزماً كالذمي فإنه لا يحد؛ لأن المسلم هو الذي يعتقد تحريمه، أما غير المسلم فهم لا يعتقدون تحريمه؛ ولهذا لا يقام عليهم الحد إذا شربوا الخمر، ولكنهم يمنعون من إظهاره في بلاد المسلمين.
قوله: «مُخْتَاراً» هذا الشرط الثاني، فإن كان مكرهاً فإنه لا حد عليه؛ لقوله تعالى في الكفر، وهو أعظم الذنوب: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] ، ولكن المكره على فعل المعصية، تارة يفعلها لدفع الإكراه، وتارة يفعلها لذاتها، فهل الآية عامة والأحكام عامة؟ أو خاصة بمن فعله لدفع الإكراه؟
الجواب: اختلف في هذا أهل العلم؛ فمنهم من قال: إنه(14/303)
إذا وُجِدَ الإكراه فإن الإنسان ـ وإن اختار الفعل ـ لا يعاقب عليه.
ومنهم من قال: يشترط لعدم العقوبة أن ينوي دفع الإكراه، لا ذات الفعل، فلو أن رجلاً أكره على شرب الخمر، كأن قيل له: إما أن تشرب هذه الكأس، وإما أن نقتلك؟ قال: ما دمتم أكرهتموني فهاتوها، فشربها اختياراً لا لدفع الإكراه، فهل يحد؟ ينبني على القولين، إن قلنا: إنه لا يشترط أن ينوي دفع الإكراه فإنه لا يحدُّ؛ لأن الإنسان قد لا يكون في نفسه قبل تلك اللحظة إرادة دفع الإكراه، وإنما يقول: أكرهت على هذا الفعل، فسأفعله، وهذا هو الأقرب، بدليل أنه لولا أنه أكره ما شَرِبَ، وإن قلنا: إنه لا بد أن ينوي دفع الإكراه فإنه يُحَدُّ، والصحيح أنه لا يُحَدُّ.
قوله: «عَالماً أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ» هذا الشرط الثالث، فيشترط أن يعلم أنه خمر، وأن يعلم أن كثيره يسكر، فإن لم يعلم أنه خمر، أي: ظن أنه شراب من سائر المشروبات، ثم لما شربه سَكِر فليس عليه حدٌّ؛ لأنه جاهل بالحال.
كذلك لو علم أنه مسكر، لكن لم يظن أن كثيره يسكر، فإنه لا يحد؛ لأنه يشترط أن يعلم أن كثيره يسكر، فإن علم أن قليله يسكر فإنه يحد من باب أولى.
ويشترط مع ذلك الشروط العامة، أن يكون عالماً بالتحريم، بالغاً، عاقلاً.
قوله: «فعليه الحد» ظاهره أنه سواء سكر منه، أو لم يسكر، فإذا علم أن كثيره يسكر فشرب ـ وإن لم يسكر ـ فعليه(14/304)
الحد؛ لأنه محرم، والنصوص عامة في التحريم، وعامة في وجوب عقوبته، وليس فيها اشتراط أن يسكر.
قوله: «ثَمَانُونَ جَلْدَةً مَعَ الحُرِّيَّةِ» هذا بناءً على قضاء عمر ـ رضي الله عنه ـ حيث رفع العدد إلى ثمانين جلدة (1) ، وعمر ـ رضي الله عنه ـ له سنة متبعة (2) ، وهذا نظير أخذ أهل العلم برأي عمر في الطلاق الثلاث أنه يكون طلاقاً بائناً، مع أنه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، كان الطلاق الثلاث واحدة (3) ، فأخذوا بالأخير من فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ، وهو أنه يُجلد شارب الخمر ثمانين جلدة.
واختار كثير من أهل العلم أن ما بين الأربعين إلى الثمانين راجع إلى نظر الحاكم، فإن رأى من المصلحة أن يبلغ الثمانين بلغ، وإلا فأربعون.
قوله: «وَأَرْبَعُونَ مَعَ الرِّقِّ» بناءً على القاعدة التي سبقت، وهي أن الرقيق عقوبته على النصف من عقوبة الحر.
وهنا مسألة ما ذكرها الماتن ـ رحمه الله ـ، والناس يحتاجون إليها، وهي هل يَحْرُم عصير العنب، وعصير البرتقال، وما أشبه ذلك، أم لا؟
الجواب: هذا حلال ليس فيه شك، إلا إذا غلا ـ أي: تخمر ـ بأن يكون فيه زَبَد صار حراماً، أو إذا أتى عليه ثلاثة أيام
__________
(1) سبق تخريجه ص (294) .
(2) سبق تخريجه ص (293) .
(3) أخرجه مسلم في الطلاق/ باب طلاق الثلاث (1472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(14/305)
على المشهور من المذهب، وإن لم يغلِ فإنه يكون حراماً؛ قالوا: لأن ثلاثة الأيام يغلي فيها العصير غالباً، ولما كان الغليان قد يخفى أنيط الحكم بالغالب لظهوره، وهو ثلاثة أيام.
والصحيح خلاف ذلك، فالصحيح أنه لا يحرم إذا أتى عليه ثلاثة أيام، لا سيما في البلاد الباردة، أما إذا كان في البلاد الحارة فإنه بعد ثلاثة أيام ينبغي أن ينظر فيه، والاحتياط أن يتجنب، وأن يعطى البهائم، أو ما أشبه ذلك؛ لأنه يخشى أن يكون قد تخمر وأنت لا تعلم به.(14/306)
بَابُ التَّعْزِيرِ
وَهُوَ التَّأْدِيبُ، وَهُوَ وَاجِبٌ.................
قوله: «التعزير» لغة: المنع، ومنه قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: 9] ، أي: تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، وأولادكم.
أما في الاصطلاح فقال المؤلف: «وَهُوَ التَّأْدِيبُ» ووجه مناسبته للغة أن التأديب يمنع المؤدَّب من ارتكاب ما لا ينبغي.
والمؤلف رحمه الله لم يعين جنسه ولا نوعه، وعليه فيختلف باختلاف الناس، وباختلاف المعصية، وباختلاف الزمن، وباختلاف المكان، فمن الناس من نعزره بالتوبيخ أمام قومه، ويكون هذا أشد عليه من كل شيء، وقد يكون بعض الناس عكس ذلك، يهون عليه ما يتعلق ببدنه، ولكن ماله لا يريد أن يؤخذ منه شيء، وبعض الناس يكون تأديبه بفصله عن الوظيفة، أو بتوقيفه أو ما أشبه ذلك.
المهم أن المؤلف أفادنا بقوله: «وهو التأديب» أن التعزير كل ما يحصل به الأدب، والأدب هو تقويم الأخلاق، أو فعل ما يحصل به التقويم.
قوله: «وَهُوَ وَاجِبٌ» هذا حكم التأديب، فهو واجب على من له حقُّ التأديب، فقد يكون على الإمام، أو نائبه، أو(14/307)
الحاكم، أو الأب، أو الأم، أو ما أشبه ذلك، فكل من له حق التأديب فالتعزير واجب عليه، والأدلة على وجوب التعزير عامة، وخاصة:
أما الأدلة العامة: فهي أن الشريعة جاءت مبنية على تحصيل المصالح، وتقليل المفاسد، وهذه القاعدة متفق عليها، ومن المعلوم أن في التعزير تحصيلاً للمصالح، وتقليلاً للمفاسد، يقول الله ـ عزّ وجل ـ مقرراً هذه القاعدة: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] ، ويقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] .
وأما الأدلة الخاصة فإنها أدلة متناثرة، كقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» (1) ، ومثل تحريق رَحْل الغالّ من الغنيمة (2) ـ أي: الذي يكتم شيئاً مما غنم ـ فإن هذا تعزير، ومثل كاتم الضالة ـ أي: البعير إذا ضاعت وكتمها ـ فإنه يضمَّن قيمتها مرتين (3) ، ومثل من عطس، ولم يحمد الله فإنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (102) .
(2) روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما
ـ حرقوا متاع الغال» . أخرجه أبو داود في الجهاد باب في عقوبة الغال (2715) ، والحاكم (2/131) ، والبيهقي (9/102
) ، قال الحاكم: «غريب صحيح» ، وقال الحافظ في التغليق: «زهير بن محمد ضعيف الحديث والمحفوظ عن عمرو بن
شعيب قوله: «وروي عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذ وجدتم الرجل قد غل
فاحرقوا متاعه واضربوه» . أخرجه أبو داود (2713) ، والحاكم (1/127) ، والبيهقي (9/102) وضعفه أبو داود والبيهقي
والحافظ كما في «التغليق» (3/264) .
(3) أخرجه أبو داود في اللقطة/ باب التعريف باللقطة (1718) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ولفظه: «ضالة
الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها» .(14/308)
يُعَزَّر، فلا نقول له: يرحمك الله، فنحرمه من شيء يُحبُّه؛ ولهذا كان اليهود عند الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتعاطسون، ويحمدون الله؛ حتى يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يرحمكم الله، لكن لا يقول ذلك، ويقول: «يهديكم الله» (1) .
وهكذا الكافر إذا عطس وحمد الله، لا تقل: يرحمك الله، بل قل له: يهديك الله، فإذا هداه الله رحمه.
وقوله: «وهو واجب» هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، وقال بعض أهل العلم: إنه ليس بواجب على الإطلاق، ولا يُتْرك على الإطلاق، وأن ذلك يرجع إلى اجتهاد الحاكم، بشرط أن يكون أميناً؛ وعلل ذلك بأمور كثيرة وقعت في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وترك التأديب عليها، وبأن المقصود التأديب، وكثير من الناس إذا مننت عليه وأطلقته يكون هذا الإطلاق عنده أكبر من التأديب، ويرى لهذا الإطلاق محلاً، ويمتنع عن المعصية أشد مما لو تضربه، ولهذا سبق في الأسرى في الجهاد أنه يجوز للإمام أن يمن عليهم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] حسبما تقتضيه المصلحة، فهذا الرجل إذا أتينا به وقلنا: يا أخي، هذا ما ينبغي من مثلك، وأنت ممن يشق علينا أن نؤدبه أمام الناس، ولكن نظراً لمقامك فإننا نريد أن ننصحك أن لا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/400) ، وأبو داود في الأدب/ باب كيف يشمت الذمي؟ (5038) ، والترمذي في الأدب/ باب
ما جاء كيف تشميت العاطس؟ (2739) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حديث حسن
صحيح» .(14/309)
تعود لمثل هذا، فهذا قد يكون في نفسه أنفع مما لو ضربناه أسواطاً في السوق، وهذا هو الصحيح أنه ليس بواجب على الإطلاق، وأن للإمام أو لمن له التأديب أن يسقطه إذا رأى غيره أنفع منه وأحسن.
فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ.
قوله: «في كل معصية» إن أراد بالمعصية ما يقابل الطاعة ففيه نظر؛ لأن الإنسان قد يعزر على ترك الطاعات، وإن أراد بالمعصية المخالفة مطلقاً، فيشمل فعل المعصية وترك الطاعة فهذا صحيح؛ لأنه ثبت التأديب على ترك الواجب؛ كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» (1) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس» إلى أن قال: «ثم أنطلق برجال معهم حِزَمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (2) .
فالصحيح أن التأديب ـ ولعله مراد المؤلف ـ واجب في كل معصية، سواء كانت تلك المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم.
لكن لاحظ أن التأديب على فعل المحرم لا يتكرر، وأما التأديب على ترك الواجب فيتكرر حتى يقوم بالواجب، فمثلاً إنسان قلنا له: صَلِّ قبل أن يخرج الوقت، فتهاون، فضربناه، ثم
__________
(1) سبق تخريجه ص (102) .
(2) أخرجه البخاري في الأذان باب وجوب صلاة الجماعة (644) ، ومسلم في الصلاة باب فضل صلاة الجماعة ... (
651) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه.(14/310)
تهاون، فنضربه حتى يصلي، ولو تكرر؛ لأن المراد تقويمه، فلا نوقف ضربه حتى يتقوم، أما معصية فعلت وذهبت، فهذه يعاقب عليها مرة واحدة، فإن عاد عاقبناه بعقوبة جديدة لمعصية جديدة.
قوله: «لا حد فيها ولا كفارة» فإن كان فيها حدٌّ فالحد كافٍ عن التعزير، وإن كان فيها كفارة فالكفارة كافية عن التعزير.
مثال الذي فيها الحد: لو أن رجلاً زنا بامرأة وهو غير محصن نجلده مائة جلدة، ولكن هل نعزره مع ذلك؟ لا، اكتفاء بالحد.
وكذلك المعصية التي فيها كفارة ليس فيها تعزير؛ لأن الكفارة نوع تعزير، فهي إلزام له، إما بعمل شاق، وإما بمال يفدي به نفسه.
مثاله: رجل جامع امرأته في نهار رمضان مع وجوب الصوم عليه، فهل عليه كفارة؟
الجواب: نعم؛ عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، هذا نوع تعزير؛ لأن عتق الرقبة معناه أنه سيبذل شيئاً كثيراً من ماله، وكذلك صيام شهرين متتابعين عمل شاق، وإطعام ستين مسكيناً كذلك؛ لأنه إذا لم يجد عتق رقبة، ولم يستطع الصيام فسيطعم ستين مسكيناً، فيكتفى بالكفارة عن التعزير.
ولو قال المؤلف: ولا قصاص، أو: ولا قود، لكان أجود؛ لأن المعصية التي فيها قود يكتفى بالقود عن التعزير، فلو أن رجلاً قتل رجلاً، أو قطع طرفه على وجه يثبت به القصاص(14/311)
فإنه يقتص منه، ويكتفى؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر شيئاً سوى المقاصة.
وكذلك نقول: ولا دية، ونكتفي بالدية عن التعزير، فلو جنى جناية ليس فيها كفارة، ولا قصاص، ولا حد، لكن فيها دية، فهل نقول: ديتها كفارتها، أو لا؟
الجواب: ظاهر كلام المؤلف: لا؛ لأن الدية حق للآدمي، والتعزير حق لله، بدليل أن الذي يجني على شخص جناية ليس فيها قصاص قد فعل أمرين: الأول: اعتدى على حق الله؛ لأن الله حرم علينا أن نعتدي على من له حرمة، الثاني: حق الآدمي.
وإذا كان كذلك فنقول: حق الآدمي له، وحق الله لله، ولهذا أوجب الله في قتل الخطأ كفارة ودية، الكفارة لله والدية للآدمي، وهذا محل نظر، فقد يقال: إننا نؤدبه مراعاة للحق العام، حتى لا تنتشر الفوضى، ولا يقتل الناس بعضهم بعضاً، وقد يقال: إننا نكتفي بالدية عن التأديب؛ لأنها نوع من التعزير.
والرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قال: كل معصية لا حد فيها ولا كفارة فأدبوا فيها، لكن نرى قضايا متعددة فيها التعزير، ويمكن أن نأخذ من هذه الأفراد هذه القاعدة التي ذكرها المؤلف بقوله: «وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة» .
ولكن ما ورد به النص من التعزير لا يكون للإمام الخيار فيه، كالخمر، وكتم الضالة، وتحريق رحل الغال، ولا يقال: راجع لاجتهاد الإمام، بل لا بد أن ينفذ.
كَاسْتِمْتَاعٍ لاَ حَدَّ فِيهِ، وَسَرِقَةٍ لاَ قَطْعَ فِيهَا، وَجِنَايَةٍ لاَ قَوَدَ فِيهَا، وَإِتْيَانِ المَرْأَةِ المَرْأَةَ، وَالْقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ،.....
قوله: «كاسْتِمَتاعٍ لاَ حَدَّ فِيهِ» أي: كاستمتاع محرم لا حدّ(14/312)
فيه، مثل أن يقبل الإنسان امرأة أجنبية، أو يضمها، أو يمسها بشهوة، أو ما أشبه ذلك، فهذا استمتاع محرم ولا حدَّ فيه، فالواجب فيه التعزير.
قوله: «وَسَرِقَةٍ لاَ قَطْعَ فِيهَا» بأن يكون اختل فيها شرط من شروط وجوب القطع الآتية إن شاء الله، مثل أن يسرق درهماً، فهذه سرقة لا قطع فيها فيعزر، أو أن يسرق من غير حرز، يجد ـ مثلاً ـ دراهم على عتبة فيسرقها، فهذا ـ أيضاً ـ ليس فيه قطع، ولكن فيه تعزير.
فالضابط للسرقة التي لا قطع فيها: هي التي لم يتم فيها شروط القطع، وسيأتي بيانها إن شاء الله.
قوله: «وجناية لا قود فيها» أفادنا المؤلف بهذا فائدتين:
الأولى: أن الجناية التي فيها قَوَد ليس فيها تعزير؛ استغناءً بالقود.
الثانية: أن الجناية التي فيها دية فيها تعزير؛ لأنه قال: «لا قود فيها» ، وهو أحد القولين، والقول الثاني: أنه لا تعزير فيها اكتفاءً بالدية.
فإذا كانت الجناية ليس فيها قود، ولا دية، ولا كفارة، كما لو جرحه جرحاً ليس فيه قود وبرئ ولم يؤثر فيه شيئاً، فقد سبق لنا أن هذا فيه الحكومة، وأنها إذا لم تنقصه فليس فيها شيء.
كرجل جرح إنساناً في جبهته جرحاً لم يصل إلى العظم، وبرئ الجرح وتلاءم، ولم يؤثر شيئاً، فهل عليه شيء؟ ليس فيه(14/313)
قود، وليس فيه دية، ولا حكومة؛ لأنه لم يؤثر شيئاً، ولكن هذا فيه تعزير؛ لأنه ليس فيه قود، ولا دية.
والجناية على المال، هل فيها تعزير، أو يكتفى بالضمان؟ قد نقول: إن الجناية على المال فيها حقان: حق عام، وحق خاص، فالحق الخاص فيه الضمان، والحق العام، وهو منع الفوضى والفساد والشر بين الناس يجب فيه التعزير، فإذا وصل الأمر إلى القاضي، ورأى أن يعزر هذا الشخص بالضمان للمجني عليه وبالتعزير في الحق العام، فهذا لا بأس به.
والجناية على العِرض كالسب والشتم وما أشبه ذلك فيها الحد، وفيها التعزير، فالذي فيه الحد هو القذف، وما لا يوجب الحد من القذف والسب ففيه التعزير.
قوله: «وإِتْيَانِ الْمَرْأَةِ المَرْأَةَ» أي: السِّحاق، فالمرأة تحتك بالمرأة الأخرى وتنزل، وربما تستعمل شيئاً كالآلة، وتستمتع بالمرأة الأخرى، فهذا لا يوجب الحد؛ لأنه ليس زنا، ولكنه يوجب التعزير لكلتا المرأتين.
قوله: «والقَذْفِ بِغَيْرِ الزِّنَا» أي: السب والشتم بغير الزنا، مثل: يا حمار، يا كلب، يا بخيل، يا سيء الخلق، وما أشبه ذلك، فهذا فيه التعزير، وليس فيه الحد.
فإن أسقط المجني عليه حقه سقط، ولكن إذا وصل إلى الإمام أو القاضي فإنه يبقى عندنا الحق العام؛ لأن كوننا نجعل الناس في فوضى، كُلُّ من شاء سب، وشتم، وقذف، ونتركهم!! فهذا لا يليق.(14/314)
قوله: «وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُزَادُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ» الذي يتولى التعزير الحاكم، أو نائبه، أو الذي له ولاية التأديب مطلقاً، وهذا أعم، فالأب يعزِّر ابنه، والمعلم يعزر تلاميذه، والأمير يعزر رعيته، فكل مسؤول عن أحد في تأديبه فله حق التأديب.
وقوله: «ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات» بسوط لا جديد، ولا خَلق، ولا مدٍّ؛ ولا تجريد، ولا برفع المعزر يده بحيث يتبين الإبط؛ لأنه سيرِدُ السوط على المضروب وروداً قوياً، وليس المقصود تعذيبه، إنما المقصود تأديبه.
فلو وجدنا رجلاً عند امرأة بات عندها ليلة كاملة، يستمتع بها جميع الاستمتاعات، إلا أنه لم يصل إلى حد الزنا، فيجلد عشر جلدات ولا نزيد!! والحقيقة أن قولهم: لا يزاد على عشر جلدات لا بد أن يكون له مستند، وإلاّ لكان معارضاً لقولهم فيما سبق: «وهو التأديب وهو واجب» ؛ لأن عشر جلدات في مثل هذا المنكر العظيم الذي لم يصل إلى الحد لا يحصل به تأديب، لكن مستندهم أنه ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» (1) .
قالوا: والحد هنا بمعنى العقوبة؛ لأن الحديث في سياق العقوبات، لأنه قال: «لا يجلد» ، وإذا كان في سياق العقوبات وجب أن نحمل الحد على العقوبة، أي: لا يعاقَب أحدٌ جلداً
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود باب كم التعزير والأدب (6850) ، ومسلم في الحدود باب قدر أسواط التعزير (1708)
عن أبي بردة الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ.(14/315)
فوق عشرِ جلدات إلا في حد، والحد أدناه ثمانون، وهو حد القذف، وعلى هذا فلا يجوز أن نزيد على عشر جلدات.
وقال بعض أهل العلم: بل يجوز الزيادة على عشر جلدات، وعشرين، وثلاثين، وأربعين، ومائة، ومائتين، وألف، وألفين، بقدر ما يحصل به التأديب؛ لأن المقصود تقويم الاعوجاج، والتأديب، وإزالة الشر والفساد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ونحن رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزر بما هو أعظم من عشر جلدات، وإذا كان كذلك فإنه يجب أن يحمل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إلا في حد من حدود الله» أي: في محرم من محارمه؛ لأن حدود الله تطلق على الواجبات، وعلى المحرمات، وعلى العقوبات، فقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] هذه الواجبات، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] هذه المحرمات، وتطلق أيضاً على العقوبات المقدرة شرعاً وهو واضح.
وإذا كان التعزير والتأديب، وكان لا يتأدب هذا الفاعل للمعصية إلا بأكثر من عشر جلدات، فحينئذٍ إما أن نقول: لا نزيد، وتكون هذه الجلدات عبثاً؛ لأنها جلدات لا تفيد، والشرع لا يأمر بالعبث، بل لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والحكمة، وإذا كان هكذا فإنه يجب أن يحمل كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما فيه المصلحة، وعلى ما له معنى مستقيم، ويحمل الحد في الحديث على الحدود الحُكْمية، التي هي إما ترك واجب، وإما فعل محرم، فيصير المعنى أننا لا نؤدب أحداً على ترك مروءة مثلاً فوق عشرة أسواط.(14/316)
فلو وجدنا رجلاً يأكل في مَجْمع مثل مجمعنا هذا، مجمع علم واحترام، فهذا خلاف المروءة، فنجلده، ولكن لا نزيد على عشر جلدات، أو رجل قال لابنه: اجلس صب القهوة للزوار، فذهب الابن ليلعب وترك الضيوف، فلوالده تأديبه، ولا يزيد عن عشر جلدات.
أو رجل كان يأمر ابنه الصغير بالصلاة، وله إحدى عشرة سنة، ولكن الابن يتمرد، فيجلده عشرة أسواط، فإن لم تنفع يزد، وإن لم تنفع يزد؛ لأن هذا ترك واجب، وهو حد من حدود الله، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من أهل العلم المحققين، وهو الذي يتعين العمل به.
وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أن التعزير ـ أيضاً ـ لا يقتصر على هذا النوع من التعزيرات، بمعنى أنه لا يقتصر على الجلد، فقد يكون بأنواع متعددة حتى على المذهب، مثل التوبيخ، والهجر، وأخذ المال، وإتلاف المال، والسجن وغير ذلك؛ لأن المقصود بالتعزير التقويم والتأديب، وهو مما يدل على أنه يجوز الزيادة على عشر جلدات.
مسألة: هل حلق اللحية يوجب التعزير؟
الجواب: يجب فيه التعزير؛ لأنه ترك واجب، قد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وفروا اللحى» (1) ، وهذا التعزير يكرر، فكلما حلق
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس باب تقليم الأظفار (5892) ، ومسلم في الطهارة باب خصال الفطرة (259) عن ابن
عمر ـ رضي الله عنهما ـ واللفظ للبخاري.(14/317)
كررناه، وأما حلق الشارب فالصحيح أنه لا يعزر فاعله، وقال بعض العلماء: يؤدب فاعله؛ لأن حلق الشارب مُثْلَة، وهو صحيح، لكن في النفس من هذا شيء.
وينبغي لطلبة العلم أن يوجهوا الناس دائماً في كل مناسبة إلى أن التعزيرات، والتأديبات، والحدود التي أمر الشرع بها، أنها رحمة بالخلق، وقد ورد في الحديث ـ وإن كان ضعيفاً ـ: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً» (1) ، وهذا لا شك أنه صحيح.
قوله: «وَمَنِ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ بغَيْرِ حَاجَةٍ عُزِّرَ» وهذه الجملة ربما نقول: إن لها مناسبة في باب حد الزنا، ولها مناسبة هنا، أما مناسبتها هنا فلأن العقوبة فيها من باب التعزير، وأما مناسبتها في الزنا فلأن هذا اعتداء من الفاعل في شيء لا يحل له.
وَمَنِ اسْتَمْنَى بِيَدِهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ عُزِّرَ.
فقوله: «ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر» أي: من حاول إخراج المني حتى خرج بيده، سواء كان ذكراً أو امرأة.
وقوله: «بغير حاجة» أي: من غير حاجة إلى ذلك، والحاجة نوعان:
أولاً: حاجة دينية.
ثانياً: حاجة بدنية.
أما الحاجة الدينية، فهو أن يخشى الإنسان على نفسه من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/402) ، والنسائي في الحدود باب الترغيب في إقامة الحد (8/75) ، وابن ماجه في الحدود
باب إقامة الحدود (2538) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4381) ، والألباني في الصحيحة (231) .(14/318)
الزنا، بأن يكون في بلد يتمكن من الزنا بسهولة، فإذا اشتدت به الشهوة، فإما أن يطفئها بهذا الفعل، وإما أن يذهب إلى أي مكان من دور البغايا ويزني، فنقول له: هذه حاجة شرعية؛ لأن القاعدة المقررة في الشرع أنه يجب أن ندفع أعلى المفسدتين بأدناهما، وهذا هو العقل؛ فإذا كان هذا الإنسان لابد أن يأتي شهوته، فإما هذا، وإما هذا، فإنا نقول حينئذٍ: يباح له هذا الفعل للضرورة.
أما الحاجة البدنية، فأن يخشى الإنسان على بدنه من الضرر إذا لم يُخرج هذا الفائض الذي عنده؛ لأن بعض الناس قد يكون قوي الشهوة، فإذا لم يخرج هذا الفائض الذي عنده فإنه يحصل به تعقد في نفسه، ويكره أن يعاشر الناس وأن يجلس معهم.
فإذا كان يخشى على نفسه من الضرر فإنه يجوز له أن يفعل هذا الفعل؛ لأنها حاجة بدنية.
فإن لم يكن بحاجة، وفعل ذلك فإنه يعزر، أي: يؤدب بما يردعه.
واستفدنا من كلام المؤلف أن الاستمناء باليد من غير حاجة حرام، مع أنه لم يصرح به، لكن إيجاب التعزير على فاعله يدل على أنه معصية؛ لأنه سبق لنا أن التعزير يجب في كل معصية، وعلى هذا فيكون حراماً، وإذا قلنا: إنه حرام فإنه يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل في غير العبادات الحل.
والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى(14/319)
وَرَاءَ ذَلِكَ} ـ أي: الأزواج وما ملكت اليمين، فمن طلب الوصول إلى اللذة ولم يحافظ على فرجه فابتغى وراء ذلك {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 ـ 7] ، والعادي معناه المتجاوز للحد، وهذا يدل على حرمته.
ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (1) ، ووجه الدلالة من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم» ؛ لأن هذه العادة ـ الاستمناء ـ لو كانت جائزة لأرشد إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنها أهون من الصوم، لا سيما عند الشباب؛ ولأنها أيسر؛ ولأن الإنسان ينال فيها شيئاً من المتعة، فهي جامعة بين سببين يقتضيان الحل لو كانت حلالاً، والسببان هما: السهولة واللذة، والصوم فيه مشقة وليس فيه لذة، فلو كان هذا جائزاً لاختاره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأرشد إليه؛ لأنه موافق لروح الدين الإسلامي لو كان جائزاً، وعلى هذا فيكون الحديث دليلاً على التحريم.
ويمكن أن نستدل بقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] ؛ بدلالة الأمر {وَلْيَسْتَعْفِفِ} على أنه قد ينازع هنا منازع فيقول: المراد يستعفف عن الزنا، وحينئذٍ لا يكون في الآية دليل.
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066) ، ومسلم في النكاح باب استحباب النكاح لمن
تاقت نفسه إليه (1400) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.(14/320)
أما من الناحية النظرية فإن هذا يهدم البدن، ويؤثر عليه، حتى على الغريزة الجنسية، والشاب في حاجة إلى هذه الغريزة التي خلقها الله ـ عزّ وجل ـ في المستقبل، فإذا تزوج وهذه الغريزة ضعيفة خسر خسراناً عظيماً.
وقد وجدت نشرات كثيرة في المجلات، وكتب مؤلفة تبين أضرار هذا الفعل، وهو ظاهر، ولهذا غالب مَن يفعله تجده مصفر الوجه، وتجد عنده خمولاً؛ لأن هذا ينهك البدن، فعلى هذا يكون دليل تحريمه من الكتاب، والسنة، والنظر الصحيح.
أما الإجماع فليس فيه إجماع؛ لأن من العلماء مَنْ أحله، ولكن المرجع عند النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا قال قائل: أليس قد ورد عن السلف أنهم كانوا يطلبون من أبنائهم إذا سافروا في الغزوات أن يستغنوا به (1) ؟
فنقول: نعم، لكن هذا محمول على الحاجة، لا على الإطلاق؛ لأنه ما دام عندنا دليل من الكتاب، والسنة، ومن النظر الصحيح، فإن السلف لا يمكن أن يفعلوا شيئاً محرماً، لكنه يحمل على الحال المباح.
ولو طلب استخراج المني بغير استمناء اليد، فهل يجوز أو لا؟
الجواب: لا يجوز؛ لأن العلة واحدة، سواء كان ذلك باليد، أو بأي وسيلة، لكن لو فكر فأنزل فليس عليه شيء، لكنه
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/391، 392) ، وانظر: المحلى (11/392) ط. دار الفكر.(14/321)
لا يفكر في امرأة معينة؛ لأن التفكير في امرأة معينة سبب للفتنة؛ لأنه مع تفكيره فيها ربما يملي له الشيطان فيتصل بها، أو تتعلق نفسه بها، أما إذا فكر في هذا العمل مطلقاً، فيتصور كأنه يجامع امرأة مثلاً، وحصل إنزال فلا بأس به، مع أننا ننصح بعدم التعرض له؛ لأن الشيء الذي ليس بطبيعي الغالب أنه يُحدِث من الضرر أكثر مما يكون فيه من النفع.(14/322)
بَابُ القَطْعِ فِي السَّرِقَةِ
السرقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن كل معصية أوجب الشارع فيها حدّاً فهي كبيرة من كبائر الذنوب، والمؤلف لم يتعرض لحكمها للعلم به، وهي محرمة بالكتاب، والسنة والإجماع.
أما الكتاب فظاهر، ومن أدلته قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، والذي يسرق آكل للمال بالباطل.
ومن أدلة الكتاب ـ أيضاً ـ إيجاب الحد على السارق.
أما السنة: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» (1) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وهو يخطب الناس: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم باب النُّهْبَى بغير إذن صاحبه (2475) ، ومسلم في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان
بالمعاصي ... (57) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في العلم باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رُبَّ مبلغ أوعى من سامع» (67) ، ومسلم في
القسامة باب تغليظ تحريم الدماء (1679) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/323)
وأما الإجماع فمعلوم.
والسرقة: أخذ المال على وجه الاختفاء من مالكه، أو نائبه.
فخرج بقولنا: «أخذ المال» أخذ ما ليس بمال، كما لو سرق الإنسان دخاناً، فليس هذا سرقة شرعاً؛ لأن هذا الدخان ليس له حرمة، ولهذا لو أتلفه متلف لم يكن عليه ضمان.
وكذلك لو سرق خمراً فإنها ليست بسرقة شرعاً؛ لأنه ليس بمال، فالمال هو العين المباحة النفع، وهذه عين محرمة.
وقولنا: «على وجه الاختفاء» خرج به ما كان على وجه العلانية، فلو أن أحداً أخذ منه شخص مالاً علناً، إما قصداً أو خطفه من يده، فإن هذا ليس بسرقة.
وقولنا: «من مالكه أو نائبه» دخل في قوله: «أو نائبه» المستعير، والمستأجر، والمودَع، والولي، وكل من كان مال غيره في يده بإذن الشرع، أو بإذن مالكه، فنائب المالك كل من كان ملك غيره بيده بإذن من الشرع أو المالك.
فخرج بذلك ما لو سرقه من غير مالكه، ولا نائبه، كما لو سرق مغصوباً من غاصب فإن هذا ليس بسرقة؛ لأنه عند الغاصب ليس له حرمة.
فلو أنك علمت أن هذا الرجل غصب من هذا الشخص مالاً، ثم سرقت المال، فإن ذلك ليس بسرقة، لأنه ليس من مالك ولا نائب المالك.
ولكن لا نقول ذلك مقررين للقاعدة الباطلة التي يقول بها(14/324)
عامة الناس: السارق من السارق كالوارث من أبيه، فالوارث من أبيه حلال ميراثه، أما السارق من السارق فحرام، ولكن العامة يحلونه، وهذا خطأ، صحيح أنه لا يعد سرقة شرعاً، ولكن فيه الضمان والإثم.
إِذَا أَخَذَ الْمُلْتَزِمُ نِصَاباً، مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، مِنْ مَالِ مَعْصُومٍ، لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الاْخْتِفَاءِ قُطِعَ،.........
قوله: «إِذَا أَخَذَ الْمُلْتَزِمُ نِصَاباً مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ مِنْ مَالِ مَعْصُومٍ لاَ شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ قُطِعَ» «إذا» شرطية، وفعل الشرط «أخذ» وجوابه «قطع» فكل ما جاء بعد أداة الشرط فهو شرط.
وقوله: «الملتزم» هو المسلم، والذمي، فهو اثنان فقط، بخلاف المعصوم فهو أربعة.
والمؤلف لم يقل: البالغ العاقل؛ لأنه سبق في الشروط العامة.
وقوله: «نصاباً» النصاب هنا غير النصاب في باب الزكاة، فهو هنا ربع دينار، أو ثلاثة دراهم إسلامية على المذهب، أو عَرَضٌ قيمته كأحدهما، فإذا أخذ الملتزم هذا المقدار فقد أخذ نصاباً.
وقوله: «من حرز مثله» «حرز» بمعنى حفظ، فالمُحرَز بمعنى المحفوظ، ومعنى «حرز مثله» ، أي: من مكان يحفظ فيه مثل هذا المال، وهذا يختلف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فحرز المال هو ما جرت العادة بحفظه فيه، فمثلاً الخشب والحديد جرت العادة بأن يحفظا في المستودعات، أو في(14/325)
الشوارع ويرون أنها محرزة، والذهب، والفضة، والماس، واللؤلؤ، وما أشبهه، فإنها تحفظ في الصناديق.
فلو أن رجلاً جاء ووجد صندوقاً من الخشب فيه جنيهاتٍ على عتبة دكان في الساعة الواحدة من الليل، وليس مغلقاً بإحكام، وأخذ الجنيهات وكل ما فيه، فهذا غير محرز، فليست هذه سرقة، ولا يقطع في ذلك.
وقوله: «من مال» خرج بها ما ليس بمال.
وقوله: «معصوم» هو المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمستأمِن، فهذا احتراز مما لو أخذه من مال غير معصوم كالحربي مثلاً، فهذا لا حرمة لماله، فلنا أن نأخذه بأي وسيلة.
وقوله: «لا شبهة له فيه» «له» أي: للآخذ، «فيه» أي: في المال، بأن لا يكون من مال ابنه، أو من مال أبيه، أو من مال زوجته، أو ما أشبه ذلك، ممن جرت العادة بأن يأخذ من ماله.
وقوله: «على وجه الاختفاء» خرج به ما كان على وجه العلانية فإنه لا يقطع به حتى لو أخذ مالاً كثيراً.
فهذه العبارة انتظمت غالب شروط القطع في السرقة:
الأول: أن يكون الآخذ ملتزماً.
الثاني: أن يكون المأخوذ نصاباً.
الثالث: أن يكون في حرز مثله.
الرابع: أن يكون مالاً.
الخامس: أن يكون المال من معصوم.(14/326)
السادس: ألا يكون له فيه شبهة.
السابع: أن يكون على وجه الخفية.
فَلاَ قَطْعَ عَلَى مُنْتَهِبٍ، وَلاَ مُخْتَلِسٍ، وَلاَ غَاصِبٍ، وَلاَ خَائِنٍ فِي وَدِيعَةٍ، أَوْ عَارِيَّةٍ.....
قوله: «فَلاَ قَطْعَ عَلَى مُنْتَهِبٍ» المنتهب هو الذي يأخذ المال على وجه العلانية، معتمداً على قوته، مثل أن يرى معك ساعة فيأخذها ولا يردها.
قوله: «ولا مختلسٍ» وهو الذي يأخذ المال خطفاً وهو يركض، فهذا أخذه علناً، لكن معتمداً على هربه وسرعته، نقول: هذا ـ أيضاً ـ ليس عليه قطع؛ لأن هذه ليست سرقة، فالسرقة اسمها يدل على أن الإنسان يأخذ المال خفية.
كذلك لو أنه وقف عند دكان، وقال لصاحب الدكان: هل عندك كذا وكذا؟ ثم قال له: أعطني كذا الذي بالداخل، فإذا دخل الرجل أخذ مما أمامه ما يريد ثم هرب، فهذا نسميه مختلساً.
قوله: «وَلاَ غَاصِبٍ» وهو الذي يأخذ المال قهراً بغير حق، فهذا ليس عليه القطع؛ لأنه ليس بسارق، والغصب أعم من الانتهاب؛ لأنه يشمل المنقول والعقار.
مثال ذلك: رجل غصب أرضاً، وغرس فيها وبنى، فنحن لا نقطعه؛ لأنه ليس على وجه الاختفاء.
وقوله: «وَلاَ خَائِنٍ» وهو الذي يغدر بك في موضع الائتمان، وهي صفة نقص بكل حال.(14/327)
وهل الغال من الغنيمة سارق؟
الجواب: لا؛ لأن له حكماً خاصاً، وهو أن يحرق رحله ومتاعه.
قوله: «في وديعة» وهي استحفاظ الغير على المال، فاستحفاظ الغير على المال يسمَّى استيداعاً، والمال المستحفظ عليه يسمى وديعة.
مثال ذلك: أعطيت رجلاً كتاباً وقلت له: هذا وديعة عندك إلى مدة شهر، فلما مضى الشهر وجئت إليه تطلبه منه، قال: ليس لك عندي شيء، ولا أعرفك، فهذا خان في الوديعة، فلا يقطع؛ لأنه لم يأخذ المال على وجه الاختفاء.
قوله: «أو عاريَّة» كذلك ـ أيضاً ـ الخائن في العارية، وهي المال المدفوع للغير لينتفع به ويرده.
مثل أن تعطيه هذا الكتاب وتقول: انتفع به لمدة شهر، أو لمدة أسبوع، أو لمدة سنة، فلما انقضت المدة وجئت تطلبه، قال: ما لك عندي شيء، فهذا خائن فلا يقطع؛ لأن ذلك ليس بسرقة.
وهذا ما مشى عليه رحمه الله، وهو قول جمهور أهل العلم، أن الخائن في العارية لا يقطع، ولكن المذهب خلاف ما ذهب إليه المؤلف، فالمذهب أن الخائن في العارية يقطع، واستدلوا بحديث المخزومية أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقطع يدها (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب (3475) ، ومسلم في الحدود باب قطع السارق الشريف وغيره (1688)
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(14/328)
وليست الخيانة في العارية كالخيانة في الوديعة؛ لأن قابض العارية قبضها لمصلحته، وأما الوديعة فلمصلحة المالك، فمن قاسها عليها فقد أخطأ؛ لأن الفرق بينهما ظاهر، ولأننا إذا قطعنا جاحد العارية امتنع الناس من جحدها، وإذا لم نقطعهم تجرأ الناس على جحدها، وفي هذا سد لباب المعروف؛ لأن المُعير محسن، فإذا كان المعير يُجْحَد، ولا يؤخذ له حقه، إلا بالضمان فقط فإن الناس قد يمتنعون من العارية، وهي واجبة في بعض الصور، وهذا يؤدي إلى عدم القيام بهذا الواجب.
ثم نقول أيضاً: هي قسم برأسها، افرض أنها لا تدخل في السرقة لغة، فما دام فيها نص فما موقفنا أمام الله ـ عزّ وجل ـ إذا كان يوم القيامة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قطع بها، وقال: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (1) ؟.
والإنسان حينما ينظر في الأحكام الشرعية وفي فتاويه، أو فيما يقول يجب أن ينظر أولاً كيف يقابل الله ـ عزّ وجل ـ بما قال قبل كل شيء؛ لأنه مسؤول، فالمفتي والقاضي مبلغ لرسالات الله عزّ وجل، لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني» (2) ، فيجب أن تعتبر نفسك مسؤولاً أمام الله عزّ وجل في كل شيء تحكم به، فلا بد أن تلاحظ سؤال الله عزّ وجل قبل كل أحد، فالصحيح المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن جاحد العارية يقطع، خلافاً لما ذهب إليه المؤلف؛ ولهذا كان الإمام أحمد يقول: ما أعلم شيئاً يدفعه، ماذا أقول؟!
__________
(1) سبق تخريجه ص (328) .
(2) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3461) عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله
عنهما ـ.(14/329)
فلو أعرت شخصاً كتاباً يقرأ فيه، ثم جحده، فأقمت بينة عليه أنه عنده، فتبين بذلك ثبوت العارية وثبوت جحدها، فحينئذٍ يتعين القطع.
َوْ غَيْرِها، وَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ الَّذِي يَبُطُّ الْجَيْبَ أَوْ غَيْرَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَماً،..
قوله: «أَوْ غَيْرِها» أي: غير العارية أو ما أشبه ذلك، مثل أن يكون في شيء أجرته إياه، كسيارة فخان فيها، كأن يأخذ منها شيئاً، فإن هذا ليس بسرقة، فلا يقطع.
قوله: «وَيُقْطَعُ الطَّرَّارُ الَّذِي يَبُطُّ الْجَيْبَ أَوْ غَيْرَهُ وَيَأْخُذُ مِنْهُ» والذي يتولى القطع هو الإمام أو نائبه كما سبق في أول كتاب الحدود.
وقوله: «الطرار» من الطر وهو القطع، ولهذا قال: «الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه» والبط ليس بشرط، فالطرار يبط الجيب بمبراة لطيفة ويأخذ المال، أو يشقه، وتسقط الدراهم ويأخذها من الأرض، أو يجلس إلى جنبك، ويدخل يده ويأخذ، فإنه يقطع؛ لأنه سرق من حرز.
وإنما نص عليه المؤلف؛ لأن بعض العلماء يقول: إن هذا لا قطع فيه؛ لإمكان التحرز منه باليقظة، فإن الغالب إذا كان الإنسان مستيقظاً أنه لا يمكن أن يسرق منه.
ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف؛ لأن الإنسان مهما كان في اليقظة فلا بد من غفلة، وكثيراً ما تكون سيما في محل الزحام، وللطرارين حيل؛ فإذا قلنا: إنهم لا يقطعون فإنه يفتح باب شر على الناس.(14/330)
وقوله: «أو غيره» أي: غير الجيب، مثل الذي في الجنب، والجيب أحفظ؛ لأنه في الصدر، ويعلم به، وكثيراً ما تحدث السرقة من الجنب.
قوله: «وَيُشْتَرطُ» أي: للقطع في السرقة شروط مع الشروط العامة السابقة.
قوله: «أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَالاً مُحْتَرَماً» شرط في المسروق شرطين: أحدهما: أن يكون مالاً، فأما ما ليس بمال فلا قطع فيه.
الثاني: أن يكون محترماً، فإن كان مالاً غير محترم فإنه لا يقطع.
مثال المال المحترم: الثياب، والطعام، والدراهم، والدنانير، والكتب ... إلخ.
والأموال التي في البنوك محترمة، وفرق بين المحرم لذاته، والمحرم لكسبه، فالمحرم لعينه حرام، ولا حرمة له، والمحرم لكسبه حرام من جهة الكاسب فقط، وأما مال البنك فهو محترم، ومحرز، وعليه حماية.
وأما ما ليس بمال فإنه لا يقطع، كسرقة الخمر مثلاً؛ لأنه ليس بمال أصلاً، ولو سرق حراً صغيراً فلا يقطع؛ لأنه ليس بمال، ولو سرق رقيقاً صغيراً فإنه يقطع به؛ لأن الرقيق مال.
ولو سرق طفلة عليها حليٌّ من الذهب، فهذا اجتمع فيه مال وغير مال، فالمذهب لا يقطع؛ لأنه اجتمع مبيح وحاظر، فالمبيح للقطع سرقة الحلي، والحاظر سرقة الطفلة؛ لأنها حرة.(14/331)
وقال بعض أهل العلم: إنه يقطع بسرقة الحلي، وبسرقة الطفلة التي عليها حليّ؛ لأن هذا الذي سرقه، سرقه على أنه مال، فهو لم يسرقه إلا ليبيعه فيعامل بقصده؛ حتى لا يعود لمثلها، والأحرار عند أهلهم أغلى من المماليك، ولو قيل لأب هذا الطفل الذي سُرق مع مملوكه: أيهما أحب إليك أن يسرق، ابنك أو مملوكك؟ يقول: المملوك.
ولكن القاعدة تؤيد المذهب؛ لأنه ليس بمال، لكنه يجب أن يعزر تعزيراً بليغاً يردعه وأمثاله عن هذا العمل، وربما يصل الحد إلى أبلغ من قطع اليد، فقد يكون من المفسدين في الأرض الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] .
فَلاَ قَطْعَ بِسَرِقَةِ آلَةِ لَهْوٍ وَلاَ مُحَرَّمٍ كَالْخَمْرِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نِصَاباً وَهُوَ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ رُبْعُ دِينَارٍ، أَوْ عَرَضٌ قِيمَتُهُ كَأَحَدِهِمَا،..............
قوله: «فَلاَ قَطْعَ بسَرِقَةِ آلَةِ لَهْوٍ» مع أنها مال، لكنها غير محترمة، وذلك كالمزمار، والكمان، والعود، والربابة، والطبل، وما أشبه ذلك.
وهل المسجل والراديو يدخلان في آلات اللهو؟
الأصل فيهما أنهما محترمان، ثم إن استخدمه صاحبه في صالح فهو صالح، وإن استخدمه في فساد فهو كذلك، لكن ما لا يستعمل إلا في محرم، فهذا لا قطع بسرقته، وأيضاً لا ضمان فيه.
فلو أخذته وكسَّرته قلنا: جزاك الله خيراً، ولا نضمنك، ولا نؤثمك؛ لأنه يجب إتلاف آلة اللهو وجوباً، ولا يحل لمالكه أن(14/332)
يبقيها عنده، بل يجب عليه إتلافها، ويجب على من قدر أن يغيرها بيده أن يتلفها، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن أسطو على صاحب آلة اللهو، وآخذها، وأكسرها؟
الجواب: فيه تفصيل، إذا كان لك سلطة فنعم، أما إذا لم يكن لك سلطة فلا تفعل؛ لأن ذلك يسبب فتنة أكبر من بقائها عنده، وقد تتمكن وقد لا تتمكن، فقد يدافع هو ولا تتمكن، ولكن إذا أخذتها خفية وسرّاً على وجه لم يعلم به، وكسرتها، فهذا طيب، ولا إثم عليك، وليس فيه فتنة.
قوله: «وَلاَ مَحَرَّمٍ كَالْخَمْرِ» أي: لا يقطع بسرقة محرم كالخمر؛ وذلك لأنه غير مال أصلاً، فليس فيه مالية إطلاقاً، بخلاف آلة اللهو ففيها مالية؛ لأنها لو غيرت عن آلة اللهو لأمكن أن ينتفع بها، لكن الخمر لا يمكن أن ينتفع به أبداً؛ لأنه حتى لو خلل فلا يجوز، إلا إذا تخلل بنفسه، وعليه فلو سرق خمراً فلا قطع عليه؛ لأنه ليس بمال.
ولكن كيف يسرق خمراً بلا إناء؟
يمكن أن يدخل الخمارة ـ مثلاً ـ ومعه إناء، ويملأ هذا الإناء من هذا الخمر، فليس عليه قطع.
أما إن سرق الخمر بإنائه، فالمذهب لا يقطع، والإناء يضمن؛ وذلك لأن السرقة اشتملت على مبيح وحاظر، فغلب جانب الحظر الذي يمنع القطع.(14/333)
ولكن يمكن أن يقال: إن في ذلك تفصيلاً، فإن كان قصده الإناء قطع، وإن كان قصده الخمر لم يقطع، ويعرف ذلك بأن يكون هذا الرجل لا يشرب الخمر، وأنه من حين أخرجه أراقه، فهذا أراد الإناء، وعلى هذا فيقطع، وكذلك لو صب الخمر قبل أن يخرجه من مكانه، ثم خرج بالإناء فعليه القطع؛ لأنه سرق الإناء.
مسألة: لو سرق الأطياب التي فيها كحول، تبلغ حد الإسكار، فهل يقطع أو لا؟
الجواب: إذا قلنا: إنه خمر فلا يقطع، وإذا قلنا: إنه ليس بخمر، وأنه مال يتمول، ويباع ويشترى فإنه يقطع.
وعلى هذا فيرجع إلى رأي الحاكم الشرعي في ذلك، فالقاضي هو الذي يتولى ذلك الأمر؛ لأن المسألة فيها نزاع بين العلماء.
قوله: «وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نِصَاباً» هذا هو الشرط الثالث، أي: يشترط للقطع أن يكون المسروق نصاباً، والنصاب في كل موضع بحسبه، ففي باب الزكاة نصاب الفضة مائتا درهم، والذهب عشرون ديناراً، وهنا يختلف.
قوله: «وهو ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ» الدراهم تكون من الفضة، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فتكون ثلاثة الدراهم واحداً وعشرين عُشراً، أي: مثقالين وعشر مثقال.
قوله: «أو رُبْعُ دِينَارٍ» وهو مثقال، والمثقال أربعة غرامات وربع، فيكون ربع الدينار واحد غرام، وواحد من ستة عشر، يعني(14/334)
ربع الربع، فإذا سرق الإنسان من الذهب ما يزن غراماً وربع الربع قطع؛ وذلك لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» ، وهو في الصحيحين (1) ، وعلى هذا فيكون هذا الحديث مخصصاً لعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فيكون ما دون النصاب لا قطع فيه.
قوله: «أَوْ عَرَضٌ قِيمَتُهُ كَأَحَدِهِمَا» العرض هو المتاع، كساعة، وراديو، وثوب، وما أشبه ذلك، فإذا كانت قيمته تساوي ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فإنه يقطع، وإلا فلا.
فإذا قال قائل: هناك فرق بين ربع الدينار، وبين ثلاثة الدراهم؛ لأن ثلاثة الدراهم لا تبلغ ربع الدينار، فإذا اختلفت قيمة ربع الدينار، أو قيمة ثلاثة الدراهم، فبأيهما نأخذ؟
نقول: أما المذهب فتأخذ بأقلهما، فإذا سرق الإنسان متاعاً يساوي ثلاثة دراهم، ويساوي ثُمْن دينار، فإنه يقطع على المذهب.
وإذا قدر أن الفضة أغلى من الذهب وسرق شيئاً يساوي ديناراً كاملاً، لكن لا يساوي ثلاثة دراهم فإنه يقطع.
إذاً النصاب متردد بين ربع الدينار وبين ثلاثة دراهم، ونعتبر الأقل.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (6789) ، ومسلم في الحدود
باب حد السرقة ونصاباً (1684) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(14/335)
والقول الثاني في المسألة: إن النصاب ربع دينار فقط، وليس ثلاثة دراهم، فإذا سرق شيئاً يساوي ثلاثة دراهم، لكن لا يساوي ربع دينار، فليس عليه القطع.
وإذا سرق ما يساوي ربع دينار فعليه القطع، وإن كان لا يساوي ثلاثة دراهم، وهذا القول أصح؛ لأن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ صريح فيه: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» (1) ، وأما الحديث الآخر أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم (2) ، فهذا محمول على أن ثلاثة الدراهم تساوي ربع دينار في ذلك الوقت، والدينار اثنا عشر درهماً من الفضة، وهذا القول أصح.
وأما حديث: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يدُه، ويسرق الحبل فتقطع يده» (3) .
فللعلماء فيه قولان: الأول: أن المراد بالبيضة ما يلبسه المقاتل في الرأس لاستقبال السهام، والحبل، أي: الذي له قيمة، كحبل السفن.
الثاني: أن يراد بذلك أن هذا السارق قد يسرق البيضة
__________
(1) سبق تخريجه ص (335) .
(2) أخرجه البخاري في الحدود باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ، ومسلم في الحدود باب حد
السرقة ونصابها (1686) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) أخرجه البخاري في الحدود باب لعن السارق إذا لم يسم (6783) ، ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها (
1687) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(14/336)
فتهون السرقة في نفسه، ثم يسرق ما يبلغ النصاب فيقطع؛ وذلك جمعاً بين الأحاديث.
وأما قول من قال: إن هذا على سبيل المبالغة فلا يستقيم؛ لأن الشارع أثبت حكماً، وهو أنه يقطع، فالصواب أنه يحمل على أحد معنيين، وعندي أن الثاني أقرب؛ لأن الأول فيه شيء من التكلف، والبعد والخروج عن الظاهر.
وَإِذَا نَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ، أَوْ مَلَكَهَا السَّارِقُ لَمْ يَسْقُطِ القَطْعُ،.........
قوله: «وَإِذَا نَقَصَتْ قِيمَةُ المَسْرُوقِ، أَوْ مَلَكَهَا السَّارِقُ لَمْ يَسْقُطِ القَطْعُ» يعني أن هذا السارق يسرق هذا الشيء، وهو يساوي ربع دينار، أو ثلاثة دراهم على المذهب، لكنه لما رُفِعَ إلى الحاكم، وإذا قيمته قد نزلت، فصار لا يساوي إلا أقل من ربع دينار، فهل العبرة بالترافع، أو العبرة بالسرقة؟
الجواب: الثاني، ولهذا قال: «وإذا نقصت» يعني عند الترافع إلى الحاكم فإنه لا يسقط القطع؛ لأنه حين سرق سرق نصاباً.
مثال ذلك: سرق قلماً يساوي ربع دينار، ولما رُفع إلى الحاكم صار القلم لا يساوي إلا ثُمْن دينار؛ لأن السعر نقص، أو لأن القلم انكسر، أو ما أشبه ذلك، فإنه هنا لا يسقط القطع، بل القطع ثابت.
وقوله: «ملكها» ظاهر كلامه أنه يعود إلى القيمة؛ لأنه قال: «وإذا نقصت قيمة المسروق، أو ملكها» أي: القيمة، وليس كذلك، بل المراد ملك العين المسروقة، فإن القطع لا يسقط.(14/337)
مثال ذلك: رجل سرق من شخص ثوباً يساوي ربع دينار، وبعد أن سرقه، ذهب إلى صاحبه فاشتراه فملكه، فهنا إذا كان صاحبه قد طالبه ورُفع إلى الحاكم فإن القطع لا يسقط، وإذا لم يكن قد رفع إلى الحاكم فإن القطع يسقط، لا لأنه ملكه، ولكن لأن من شرط القطع أن يطالب المسروق منه بماله، وإذا باعه أو وهبه فإن المطالبة تسقط حينئذٍ، ويسقط القطع.
الخلاصة:
أولاً: إذا نقصت قيمة المسروق بعد الترافع إلى الحاكم فإن القطع لا يسقط.
ثانياً: إذا ملك العين المسروقة فإن القطع لا يسقط أيضاً، لكن لو ملكها قبل الترافع فإن القطع يسقط، لا لأنه ملكها، ولكن لأن من شرط القطع أن يطالب المسروق منه بماله.
والدليل على ذلك حديث صفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ في قصة الرجل الذي سرق رداءه، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقطع يده، فقال صفوان: هو له يا رسول الله، قال: «فهلا قبل أن تأتيني به» (1) ، فدل هذا على أنه لو لم يطالب فلا قطع.
وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا وَقْتَ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْحِرْزِ، فَلَوْ ذَبَحَ فِيهِ كَبْشاً، أَوْ شَقَّ فِيهِ ثَوْباً فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ نِصَابٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، أَوْ أَتْلَفَ فِيهِ الْمَالَ لَمْ يُقْطَعْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، فَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلاَ قَطْعَ، وَحِرْزُ الْمَالِ مَا الْعَادَةُ حِفْظُهُ فِيهِ،.............
قوله: «وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا وَقْتَ إِخْرَاجِهَا مِنَ الحِرْزِ» أي: تعتبر قيمة العين المسروقة التي تبلغ النصاب وقت إخراجها من الحرز.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/104) ، وأبو داود في الحدود باب فيمن سرق من حرز (4394) ، والنسائي في قطع السارق
باب ما يكون حرزاً وما لا يكون (8/69) ، وابن ماجه في الحدود باب من سرق من حرز (2595) ، وصححه الحاكم (
4/380) ، ووافقه الذهبي، وانظر: الإرواء (2317) .(14/338)
قوله: «فَلَوْ ذَبَحَ فِيهِ كَبْشاً، أَوْ شَقَّ فِيهِ ثَوْباً فَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ نِصَابٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ أَوْ أَتْلَفَ فِيهِ المَالَ لَمْ يُقْطَعْ» القيمة التي هي النصاب تشترط وقت الإخراج، لا وقت السرقة، فلو أن رجلاً دخل على مراح غنم، وأراد أن يسرق شاة، فقال في نفسه: إن خرجت بها حية بلغت النصاب، وإن ذبحتها لم تبلغ النصاب، فأريد أن أذبحها، وأخرج بها مذبوحة، فهل عليه قطع؟
الجواب: ليس عليه قطع؛ لأنه نقصت قيمة هذا الشيء قبل أن يخرجه من حرزه، فهو كما لو أن رجلاً دخل على بيت، وفيه مال فأفسد هذا المال، وخرج من البيت فإنه لا يقطع؛ لأن هذا الرجل أتلف مالية هذا المال المسروق وهو في ملك صاحبه، ولكنه يعتبر متلفاً للمال فيضمنه بما يقتضيه الضمان.
وكذلك لو أن رجلاً دخل على مُتَّجَر، وفيه ثياب، فهتك الحرز، وقال: إن خرجت بالثوب مخيطاً سليماً بلغت قيمته النصاب، فقطعت به، وإن شققته قبل أن أخرج به نقص، فذهب فشقه ثم خرج به لابساً له، فليس عليه قطع؛ لأنه أتلف هذا الشيء قبل إخراجه، فهو كما لو أكل الطعام في محل صاحبه، أو أحرق الثوب، أو ما أشبه ذلك، فعليه ضمان غصب فقط، فهي حيلة تسقط القطع، كما لو أتلفه إتلافاً فإنه لا يقطع، وإذا كان حيلة، فلا يبعد أن يكون فيها خلاف.
وقوله: «أو أتلف فيه المال» أي: أنه أتلف المال في نفس(14/339)
الحرز، فإنه لا يقطع، مثاله: رجل دخل على مكتبة وفيها كتب، فأحرق هذه الكتب، وقيمتها غالية، لو سرق واحداً من هذه الكتب لقطعت يده، لكنه لم يسرق، وإنما أتلف المال، فنقول في هذه الحال: إنه لا قطع عليه، ولكنه يضمن المال، ويعزر بما يراه الإمام؛ لأن هذه معصية.
قوله: «وأَنْ يُخْرِجَهُ مِن الحِرْزِ» والصواب أن يقول: وأن يكون من حرز؛ لأن الإخراج قد سبق فيما قبل، وهذا هو الشرط الرابع، فيشترط لوجوب القطع أن تكون السرقة من حرز، والحرز هو ما يحصن به المال ويحفظ به.
قوله: «فَإِنْ سَرَقَهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلاَ قَطْعَ» والدليل على ذلك ما قاله النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الثمر: «ومن سرق شيئاً منه بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» (1) ؛ وذلك لأنه قبل أن يؤويه الجَرين ليس في حرز، والجرين هو الذي يُجمع فيه التمر لييبس، فإذا سرق من غير حرز فلا قطع لهذا الحديث، فيكون الحديث مخصصاً لعموم الآية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .
قوله: «وَحِرْزُ المَالِ مَا الْعَادَةُ حِفْظُهُ فِيهِ» «حرز» مبتدأ، و «ما» اسم موصول خبر المبتدأ، و «العادة» : مبتدأ، و «حفظه» : خبر
__________
(1) أخرجه أبو داود في الحدود باب ما لا قطع فيه (4390) ، والنسائي في قطع السارق باب التمر يسرق بعد أن يؤويه
الجرين (8518) ، والحاكم (4/423) .(14/340)
المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر صلة الموصول.
فحرز المال، أي: المكان الذي العادة حفظه فيه.
وقوله: «العادة» فيه دليل على أن المرجع في الحرز إلى العرف، وليس إلى الشرع؛ لأن الشرع أطلق ولم يقيد، وكل شيء يطلقه الشارع ولم يقيده فإنه يرجع فيه إلى العرف، إذا لم يكن له حقيقة شرعية.
وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْوَالِ، وَالْبُلْدَانِ، وَعَدْلِ السُّلْطَانِ، وَجَوْرِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَضَعْفِهِ، فَحِرْزُ الأَْمْوَالِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَالْقُمَاشِ فِي الدُّورِ، وَالدَّكَاكِينِ، وَالْعُمْرَانِ وَرَاءَ الأَْبْوَابِ، وَالأَْغْلاَقِ الْوَثِيقَةِ، وَحِرْزُ الْبَقْلِ وَقُدُورِ الْبَاقِلاَّءِ وَنَحْوِهِمَا وَراءَ الشَّرائِجِ إِذَا كَانَ فِي السُّوقِ حَارِسٌ،...............
قوله: «وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَمْوَالِ، وَالْبُلْدَانِ، وَعَدْلِ السُّلْطَانِ، وَجَوْرِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَضَعْفِهِ» ليس حرز الأموال واحداً، فلو أن رجلاً جاء إلى حوش غنم، وسرق منها شاة، فقد سرقها من الحرز، فلو قال السارق: أنا لم أسرقها من الحرز؛ لأن الأموال تحفظ في الصناديق الحديدية، مثل الذهب، قلنا: الحرز هو ما العادة حفظه فيه، ولم تجرِ العادة أن نضع الغنم في الصناديق!!
ويختلف ـ أيضاً ـ باختلاف البلدان، فهل نقول: المدن الكبيرة تحتاج إلى حرز أشد من القرى، أو نقول: القرى الصغيرة تحتاج إلى حرز أشد؟ أحياناً تحتاج المدن الكبيرة إلى حرز أشد؛ لا سيما إذا كان فيها أجناس مختلفة من الوافدين، وأحياناً تحتاج الصغيرة إلى حرز أشد؛ لأن أهلها قليلون، ويسطو عليها اللصوص أكثر.
على كل حال، هذه البلدان ترجع إلى ما يتعارف عليه الناس، وقد تكون هذه القرى أحرز لقلة أهلها، وإمكان ولاتها أن يضبطوها، وقد يكون الأمر بالعكس.(14/341)
كذلك يختلف باختلاف عدل السلطان وجوره، والظاهر أن العدل أقوى من الجور في الحرز؛ لأن العدل من الإيمان، وقد قال الله ـ عزّ وجل ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام: 82] ، والإمام العادل، أو السلطان العادل يعينه الله ـ عزّ وجل ـ في حفظ الأمن أكثر مما يعين الجائر، وأيضاً الجائر لا يترك الناس السرقة إلا خوفاً منه، فإذا كان في حال غيبة ملاحظته فإنهم يتجرؤون على السرقة، فَأَمْنُ الناس في حكم السلطان الجائر أقل، وليس الجور كما يتصوره بعض الناس الشدة في الحكم، فمن الجور ألا يعدل في الرعية، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لبشير بن سعد حين أعطى ابنه النعمان رضي الله عنهما ما لم يعطِ إخوته قال: «إني لا أشهد على جَوْر» (1) ، فمن جور السلطان ألا يعدل في الرعية، ولا شك أنه إذا لم يعدل في الرعية فإن الأمن يختل.
وأيضاً قوة السلطان وضعفه، فالأقرب إلى الإحراز ـ أيضاً ـ القوة، وهذا لا شك فيه أنه إذا كان السلطان قوياً فإن الأمن يستتب أكثر مما لو كان ضعيفاً، فإذا كان السلطان ضعيفاً، وجئنا نشتكي إليه سرقة الذهب من الصناديق، قال: المهم أنه ما جاءكم في الأعراض، الحمد لله!! فهذا ضعيف، وهو سبب للفوضى والسرقات.
إذاً كلما كان السلطان قوياً صار الحرز أقل، حتى إنه في
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2650) ، ومسلم في الهبات باب كراهة
تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ.(14/342)
بعض الأحيان إذا كان السلطان قوياً قد يوضع الشيء على الأرصفة، وهو من الأشياء الثمينة، ولا أحد يأتيه، وإذا كان ضعيفاً فإنها تكسر الأبواب وتسرق الأموال.
قوله: «فَحِرْزُ الأَْمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْقُمَاشِ فِي الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ وَالْعُمْرَانِ وَرَاءَ الأَْبْوَابِ وَالأَْغْلاَقِ الوَثِيقَةِ» «الأموال» هي النقود، و «الجواهر» مثل اللآلئ وغيرها، وكذلك القماش وهو الثياب، فهذه الأمور الثلاثة تحفظ في الدور، والدكاكين، والعمران فلا يمكن لإنسان أن يضع هذه الأموال في البر، حتى لو كانت في الصناديق، فلو أن رجلاً خرج بماله إلى البر، ووضعه في صندوق، فإنه لا يكون هذا إحرازاً؛ لأنه ليس حوله أحد، فيمكن أن يأخذ السارق الصندوق وما فيه.
ولا بد ـ أيضاً ـ أن يكون وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة، فلا يكفي أن تكون في الدور، والدكاكين، والعمران، حتى يكون فيها أبواب، وأغلاق وثيقة، وأظن أن هذه الأمور الثلاثة تختلف، حتى ولو كانت في الدكاكين وراء الأبواب المغلقة، فالذهب ـ مثلاً ـ أو النقود ليس حرزها كحرز القماش، فلو أن رجلاً هتك الدكان، وكسر الباب، وسرق من القماش قُطعت يده، ولو سرق من الدراهم، ولم تكن الدراهم في الصناديق فلا يقطع، فيقطع في الثياب، ولا يقطع في الدراهم؛ لأنه جرت العادة أن الدراهم لا تجعل هكذا على الطاولة في الدكان.
ويمكن أن نفرق بين الدراهم الكثيرة والقليلة، فالكثيرة لا(14/343)
توضع على الطاولة، والقليلة يتساهلون في وضعها.
إذاً نرجع إلى القاعدة: أن حرز المال ما جرت العادة بحفظه فيه، فلو أن رجلاً علق ثوبه في بيته، وفيه دراهم، وجاء السارق، ودخل البيت، وأخذ الدراهم من هذا الثوب، فإنه يقطع؛ لأنه جرت العادة في بلادنا أن مثل هذا يعتبر حرزاً، وأن الناس لا يأخذون الأموال من جيوبهم، ويضعونها في الصناديق، حتى ولو كانت كثيرة، فلو كان عنده فئة خمسمائة، عشرين ورقة، ووضعها في جيبه، فإنه لا يرى أن ذلك إخلال في الحرز.
قال: «وَحِرْزُ البَقْلِ وَقُدُورِ الْبَاقِلاَّءِ وَنَحْوِهِمَا وَرَاءَ الشَّرَائِجِ» البقل: كل نبات ليس له ساق، مثلاً الكراث، والبصل، والقرع، والبطيخ، وما أشبهه.
وقوله: «الباقلاء» يقولون: هو الفول، أو قريب من الفول.
وقوله: «ونحوهما» مثل البطيخ، والقرع، والبرتقال، والفواكه.
وقوله: «وراء الشرائج» هذا حرزها، والمؤلف في عهده يشدد في الحرز.
وقوله: «الشرائج» جمع شريجة، وهي مثل الشبك، هذا هو الحرز لكن بشرط، قال:
«إذا كان في السوق حارس» فإن لم يكن في السوق حارس، فإن ذلك ليس بحرز؛ لأنه يمكن أن تكسر هذه الشرائج ويسرق، فلا بد أن يكون في السوق حارس كثير اليقظة، وعلى كل حال، فإن المؤلف اشترط شرطين:(14/344)
الأول: أن تكون وراء الشرائج، أي: يحاط عليها.
الثاني: أن يكون في السوق حارس، فإن كان في السوق حارس وليس عليها شرائج فإنه ليس بحرز، أو كان عليها شرائج وليس في السوق حارس فليس بحرز.
ولكن كما قال هو ـ رحمه الله ـ: «ويختلف باختلاف الأموال، والبلدان، وعدل السلطان، وجوره، وقوته، وضعفه» فإذا كان السلطان قوياً فإنه قد يكتفى بالشرائج، أو بالحارس، ولهذا عندنا هنا يعتبر حرزاً، وفي بعض البلاد ربما تكون أبواب الزجاج حرزاً للذهب والدراهم.
وقد أخبرني بعض الناس أنه ذهب لبلد ما، فوجد أن دكاكين الصاغة ليس فيها إلا أبواب من الزجاج، إلا أنها تكون مجموعة في جهة واحدة، وهذه الجهة الواحدة عليها باب مغلق إغلاقاً وثيقاً.
وَحِرْزُ الْحَطَبِ وَالْخَشَبِ الْحَظَائِرُ، وَحِرْزُ الْمَوَاشِي الصِّيَرُ، وَحِرْزُهَا فِي الْمَرْعَى بِالرَّاعِي وَنَظَرِهِ إِلَيْهَا غَالِباً.
قوله: «وَحِرْزُ الحَطَبِ، وَالخَشَبِ الحَظَائِرُ» عندنا الحطب ـ والحمد لله ـ لا يحتاج إلى حرز، وحرزه أن يوضع في مكان البيع.
قوله: «وَحِرْزُ المَواشِي الصِّيَرُ» «الصِّيَر» جمع صِيرة، وهي مثل الحظار، والحظار عبارة عن خوص النخل بجريده، يركز في الأرض، ويركب بعضه في بعض، ويشد بالحبال.
قوله: «وَحِرْزُهَا فِي الْمَرْعَى بِالرَّاعِي وَنَظَرِهِ إِلَيْهَا غَالِباً» فحرز المواشي في المرعى بالراعي، ولا نضعها في الصير؛ لأنها(14/345)
ترعى، فلا بد أن يراعيها الراعي وينظر إليها، أما أن ترعى وحدها فهذا ليس بحرز، بل لا بد أن يكون معها راعٍ.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط فيه البلوغ والعقل، ولكن في هذا نظر؛ لأن الراعي الصغير ليس بحرز؛ لأن أدنى واحد يأتي ويستطيع أن يلعب بعقله، ويأخذ ما شاء، أو يأخذ ولا يستطيع الراعي لصغره أن يفعل شيئاً، فلا بد أن يكون راعٍ يحميها.
ولا بد أن ينظر إليها غالباً، فإن كان الراعي ينام فليس بحرز، أو يذهب إلى مكان، ويدع المواشي في مكان آخر، فهذا ليس بحرز أيضاً؛ لأنه لا ينظر إليها.
وقوله: «غالباً» أي: لا يشترط أن ينظر الراعي إليها دائماً؛ لأنه قد يحتاج إلى وضوء، وقد يحتاج إلى صلاة، وقد يحتاج إلى أكل، فلا ينظر إليها دائماً، لكن ينظر إليها غالباً، بحيث يكون حولها ويحيط بها، فإن ذلك يعتبر حرزاً.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط أن يكون مع الراعي كلب، وهو كذلك، مع أن كلب الماشية يحميها ويحرزها.
ولهذا رخص الشارع في اقتناء الكلب لأجل الماشية؛ لأن بعض الكلاب أشد من الرجل المسلح، ولكن كلام المؤلف يدل على أنه لا يشترط أن يكون مع الراعي كلب، وهو كذلك.
وَأَنْ تَنْتَفِيَ الشُّبْهَةُ، فَلاَ قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ وإِنْ عَلاَ، وَلاَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالأَْبُ وَالأُمُّ فِي هذَا سَوَاءٌ، وَيُقْطَعُ الأَْخُ وَكُلُّ قَرِيبٍ بِسَرِقَةِ مَالِ قَرِيبِهِ، وَلاَ يُقْطَعُ أَحَدٌ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الآخَرِ، وَلَوْ كَانَ مُحْرَزاً عَنْهُ،.....
قوله: «وَأَنْ تَنْتَفِيَ الشُّبْهَةُ» هذا هو الشرط الخامس، وهو شرط لجميع الحدود، فيشترط فيها انتفاء الشبهة، والشبهة هي كل ما يمكن أن يكون عذراً للسارق في الأخذ، وقد ذكرنا دليله فيما سبق، وهو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما(14/346)
استطعتم» (1) وقلنا: إن هذا الحديث فيه مقال، ولكن معناه صحيح؛ لأن الأصل في الأعراض والأبدان العصمة والحماية، فلا يمكن أن تنتهك إلا بيقين، فلا يمكن قطع يد السارق إلا بيقين، فإذا كان هناك شبهة فلا قطع، والشبهة أربعة أنواع: شبهة ملك، أو شبهة تملك، أو شبهة تبسط، أو شبهة إنفاق.
قوله: «فَلاَ قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ» أي: لو أن أحداً سرق من مال أبيه فإنه لا يقطع؛ لأنه يوجد شبهة، لا شبهة ملك ولا تملك؛ لأن الابن لا يتملك من مال أبيه، ولكن شبهة إنفاق وشبهة تبسط، أي: يتبسط بماله، وهو الذي نسميه بالعامية الميانة، ولا يرى بأساً بأخذ شيء من ماله، فإذا سرق الابن من مال أبيه ـ ولو كان المال محرزاً وراء الأغلاق الوثيقة ـ فإنه لا يقطع؛ لوجود الشبهة.
قوله: «وَإِنْ عَلاَ» حتى من جده، ومن أبي أمه، ومن أمه أيضاً، والشبهة من أمه ليست الإنفاق، ولكن التبسط، أي: يتبسط من مال أمه.
قوله: «وَلاَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ» أي: الأب والأم، فلو سرق الأب من مال ولده لم يقطع، والشبهة هنا قوية جداً، وهي شبهة التملك، والإنفاق، والتبسط؛ لأن الأب يقول: هذا مال ولدي، وأنا وولدي سواء، وكذلك الأم لا تقطع بالسرقة من مال ولدها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .(14/347)
فالأصول والفروع لا يقطع بعضهم بالسرقة من مال الآخر، والأصول هم الأب وإن علا، والأم وإن علت، والفروع هم الابن وإن نزل، والبنت وإن نزلت.
هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وفي المسألة أقوال نذكرها بعد ذلك إن شاء الله.
قوله: «والأب والأم في هذا سواء» كما قلنا: الأصول والفروع.
قوله: «وَيُقْطَعُ الأَخُ» أي: الشقيق، أو لأب، أو لأم، فيقطع بالسرقة من مال أخيه.
قوله: «وَكُلُّ قَريبٍ بِسَرِقَةِ مَالِ قَرِيبِهِ» فالعم يقطع، وابن الأخ يقطع، ولهذا ذكر عبارة عامة وهي: «كل قريب بسرقة مال قريبه» .
إذاً القرابة لا تمنع إلا في الأصول والفروع فقط، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال بعض العلماء: إنه يقطع كل قريب من قريبه ما عدا الأب فقط، واستدلوا بعموم الأدلة الدالة على وجوب القطع، وقالوا: إن كل مال بالنسبة إلى غير مالكه محترم، لا يجوز أن ننتهكه، أما الأب فلا يقطع؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» (1) ، وهذا أحد
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2291) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما
ـ، وصححه البوصيري على شرط البخاري، وصححه ابن حبان (410) إحسان، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214) ، وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530) ، وابن ماجه
في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسّن إسناده في الإرواء (
3/325) .(14/348)
القولين في مذهب الإمام أحمد، وهو مذهب الشافعي.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن كل ذي رحم مُحَرَّم، بحيث لو كان أحدهما ذكراً والآخر أنثى ما صح التزاوج بينهما، فإنه لا يقطع بالسرقة من مال رحمه، وعلى هذا القول فإن الأخ لا يقطع، ولا ابن الأخ، ولا العم، أما ابن العم فيقطع؛ لأنه ليس ذا رحم محرم، وهذا أوسع المذاهب في مسألة القريب.
وهناك قول رابع: إنه إن وجبت النفقة فلا قطع، وإن لم تجب قطع فيما عدا الأب، وهذا له حظ من النظر قوي، وهو أن وجوب النفقة له على هذا الرجل شبهة؛ لأن هذا الرجل الذي تجب عليه النفقة ربما يكون مقصراً في الإنفاق، فذلك يجعل هذا الرجل يسرق من ماله، فأصبحت الأقوال أربعة:
الأول: وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن السرقة من الأصول أو الفروع ليس فيها قطع.
الثاني: إن السرقة من جميع الأقارب فيها القطع، إلا الأب من مال ولده.
الثالث: السرقة من مال الأقارب فيها القطع، إلا إذا كان ذا رحم مُحَرِّم.
الرابع: أنه إن وجبت النفقة فلا قطع، وإن لم تجب قطع فيما عدا الأب.
ونحن إذا رجعنا إلى العمومات وجدنا أن أقرب الأقوال القول الثاني الذي يمنع القطع بالنسبة للأب، وما عدا ذلك فإنه يقطع، أو القول الرابع الذي يخصه بوجوب النفقة.(14/349)
ومع هذا فالمسألة عندي فيها شيء من الثقلِ؛ لأن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] فكل هؤلاء ليس علينا جناح أن نأكل من بيوتهم، وهذا يدل على أننا نتبسط في وجه هؤلاء، إلا أنه يقال: إن الآية الكريمة ليس علينا جناح أن نأكل من هذه البيوت إذا دخلناها، أما إذا كانت مغلقة عنا فإنها محترمة محرزة، فانتهاكها الأصل فيه القطع.
قوله: «وَلاَ يُقْطَعُ أحدٌ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ الآخَرِ وَلَوْ كَانَ مُحْرَزاً عَنْهُ» أي: لا يقطع الزوج بالسرقة من مال زوجته، ولا تقطع الزوجة بالسرقة من مال زوجها، أما سرقة الزوجة من مال زوجها فالشبهة قائمة، وهي وجوب النفقة لها على الزوج، فقد يكون الزوج مقصراً فيؤدي ذلك إلى أن تسرق من ماله، فتكسر الصندوق وتأخذ، أما إذا كان الصندوق مفتوحاً فلها أن تأخذ بفتوى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لهند امرأة أبي سفيان (1) ـ رضي الله عنهما ـ، ولكن في الحقيقة يجب أن نلاحظ
__________
(1) أخرجه البخاري في النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه (5364) ، ومسلم في الأقضية باب
قضية هند (1714) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(14/350)
مسألة أخرى، وهي الفرق بين أن يكون مال الزوج في نفس البيت، وبين أن يكون في الدكان وشبهه؛ لأن كونه في البيت فيه نوع ائتمان للزوجة، وإذا كان في الخارج فهي وغيرها سواء، فلا يظهر لي أن في ذلك شبهة إذا كان قد قام بما يلزم ولم يقصر في النفقة.
وأما سرقة الزوج من مال زوجته، فالشبهة قالوا: لأن الزوج قوَّام على المرأة، وله سيطرة، فقد يظن بهذه القوامة أن له الحق في أن يسطو على مالها، فيأخذ منه، أو لأن الزوج مع زوجته في الغالب يتبسط بمالها كما تتبسط بماله، وهذا إذا لم يكن محرزاً عنه فالتعليل له وجه، لكن إذا كان محرزاً عنه والمرأة متحفظة، وقد جعلت مالها في الصناديق خوفاً من الزوج، فهل يقطع أو لا؟
المؤلف يقول: «ولو كان محرزاً عنه» فعلى رأي المؤلف لا يقطع، والصحيح أن سرقة الزوج من مال زوجته المحرز توجب القطع.
ولكن هل يمكن للزوجة أن تطالب بقطع يد زوجها إذا سرق من مالها؟ الجواب: إن كانت العلاقة طيبة فلا، أما إذا لم تكن الأمور طيبة فإنها تطالب بقطع يده.
وقوله: «ولو كان محرزاً عنه» إشارة خلاف؛ لأن الغالب أن العلماء إذا أتوا بمثل هذه العبارة أنهم يشيرون إلى خلاف في المسألة، حتى إن بعضهم ـ لكنه غير مطرد ـ قال: إنهم إذا قالوا: «ولو» فالخلاف قوي، وإذا قالوا: «وإن» فالخلاف متوسط، وإذا(14/351)
قالوا: «حتى» فالخلاف ضعيف؛ ولكن هذه القاعدة ليست مطردة.
وَإِذَا سَرَقَ عَبْدٌ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، أَوْ سَيِّدٌ مِنْ مَالِ مُكَاتَبِهِ،...................
قوله: «وَإِذَا سَرَقَ عَبْدٌ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ» أَي: فإنه لا يقطع، والشبهة هي النفقة والتبسط، والكلام فيما إذا كان المال محرزاً، أما إذا كان غير محرز، كما لو كان هذا العبد بيده مفاتيح الخزائن، وسرق منها فإنه لا قطع؛ لأن لدينا شرطاً سابقاً وهو أن تكون السرقة من حرز، فإذا كان السيد قد أعطاه المفاتيح، فمعنى ذلك أنه سلطه على المال، لكن كلام المؤلف هنا فيما إذا كان محرزاً، هل يقطع أو لا؟
يقول المؤلف: إنه لا يقطع، والشبهة هنا أن العبد له نوع من التبسط في مال سيده، وأنه تجب نفقته على سيده، فقد يكون السيد مقصراً في الإنفاق عليه، فيلجأ ذلك العبد إلى أن يسرق.
وإذا سرق سَيِّدٌ من مال عبده فإنه لا يقطع، على أن المذهب عندنا أن العبد لا يملك ولو مُلِّك؛ لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» (1) ، قال: «فماله للذي باعه» ، إذاً العبد لا يملك، والمال الذي بيده يتصرف فيه، ليس تصرف مالك، ولكن تصرف اختصاص.
قوله: «أَوْ سَيِّدٌ مِنْ مَالِ مُكَاتَبِهِ» المكاتب هو العبد الذي
__________
(1) سبق تخريجه ص (175) .(14/352)
اشترى نفسه من سيده، مثاله: رجل له عبد، فقال له العبد: أعتقني، قال: ما أعتقك، أنا اشتريتك بألف درهم، قال: كاتبني أي: بع نفسي عليَّ، قال: كاتبتك على أن تعطيني ألف درهم، وأنت حر.
فهذه المكاتبة، وقد أشار الله تعالى إليها في القرآن في قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، أي: صلاحاً في الدين، وكسباً في المال، وهنا الصحيح أن الأمر على سبيل الوجوب، وأن العبد إذا طلب المكاتبة وجب على السيد أن يكاتبه؛ لأن الله أمر بذلك، والأصل في الأمر الوجوب، لكن بهذا الشرط، {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي: صلاحاً في دينهم ودنياهم، والصلاح في الدين معروف، والصلاح في الدنيا هو الكسب.
لكن لو جاء العبد يقول: كاتبني، وأنا أعرف أني إذا كاتبته ذهب إلى دور البغايا، ودور السينما، والملهيات وما إلى ذلك، أو ترك الصلاة، فإننا لا نكاتب هذا.
أو قال: كاتبني، وأنا أعرف أنني إذا كاتبته صار عالة على الناس؛ لأنه ليس بمكتسب، فهنا لا نكاتبه.
فالمكاتب يملك، ولهذا يملك التصرف، فإذا كاتبته وقلت: كاتبتك بكذا وكذا درهماً، فله أن يبيع، ويشتري، ويؤجر، ويستأجر، ويصبح كالحر، فإذا سرق السيد من مال مكاتبه، يقول المؤلف: إنه لا يقطع، والشبهة أنه لا زال ملكه عليه، كما جاء في الحديث الذي يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي(14/353)
عليه درهم» (1) فهذا المكاتب لا يعتق إلا إذا سَلَّمَ ما عليه.
أَوْ حُرٌّ مُسْلِمٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَنِيمَةٍ لَمْ تُخَمَّسْ، أَوْ فَقِيرٌ مِنْ غَلَّةِ وَقْفٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ شَخْصٌ مِنْ مَالٍ فِيهِ شَرِكَةٌ لَهُ، أَوْ لأَِحَدٍ مِمَّنْ لاَ يُقْطَعُ بالسَّرِقَةِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ، وَلاَ يُقْطَعُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ،.........
قوله: «أَوْ حُرٌّ مُسْلِمٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ» أي: إذا سرق فإنه لا يقطع لوجود الشبهة، وهي أن كل مسلم له حق في بيت المال، فإذا كان غنياً ولم يتولَّ مصلحة من مصالح المسلمين فليس له حق في بيت المال، بخلاف الفقير فله الحق في بيت المال، فالذي يتولى مصلحة من مصالح المسلمين، كالتعليم، والإمامة، والأذان، وما أشبهه له حق، لكن إذا كان غنياً ولم يقم بمصلحة من مصالح المسلمين، فما حقه؟!
يقولون: قد يكون في يوم من الأيام من ذوي الحقوق فله شبهة.
لكن هل معنى ذلك أنه يجوز للإنسان المسلم الحر أن يسرق من بيت المال؟
الجواب: لا، وهو حرام عليه، خلافاً لمن قال: إن بيت المال حلال، اكذبْ على الدولة، اسرق من العمل، اعمل ما شئت، فليس هذا حراماً؛ والسبب أنه بيت مال المسلمين، فنقول: بيت مال المسلمين أعظم من ملك واحد معين؛ وذلك لأن سرقته خيانة لكل مسلم، بخلاف سرقةِ أو خيانةِ رجلٍ معينٍ فإنه بإمكانك أن تتحلل منه وتسلم.
وقوله: «حر مسلم» فهم منه أنه لو سرق كافر من بيت المال
__________
(1) أخرجه أبو داود في العتق باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته ... (3926) ، والبيهقي (1/324) عن عبد الله بن
عمر ـ رضي الله عنهما ـ، انظر: «التلخيص» (2156) .(14/354)
فإنه يقطع؛ لأنه لا حق له في بيت مال المسلمين.
أو سرق مسلم عبد من بيت المال فإنه يقطع؛ ولكن سيأتينا في آخر العبارة أنه لا يقطع، لأن العبد سرق من مالٍ لا يُقْطَعُ منه سيدُه، فإذا كان العبد المسلم لمسلم وسرق من بيت المال فإنه لا يقطع؛ لأنه سرق من مالٍ لو سرق منه سيده لم يقطع.
الخلاصة في مسألة السرقة من بيت المال: أن الأصل فيها القطع، حتى توجد شبهة بينة، وهي إما فقره، أو قيامه بمصلحة من مصالح المسلمين، كالتدريس، والإمامة، وما أشبهها.
قوله: «أو من غنيمة لم تُخَمَّس» الغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بقتال وما ألحق به، فهذه الغنيمة تقسم خمسة أسهم، أربعة منها للغانمين، وواحد منها يقسم إلى خمسة أسهم أيضاً؛ خمس لبيت المال، وخمس لذوي القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] .
فإذا سرق من غنيمة لم تخمس فإنه لا يقطع؛ لأن له شبهة استحقاق، فإنه يستحق من خمس الخمس الذي يصرف في الفيء، وهو ما كان لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإن خمست الغنيمة، فإن سرق بعد تخميسها من الأخماس الأربعة التي للمقاتلين، فهل يقطع أو لا؟
الجواب: إن كان منهم لم يقطع؛ لأن له حقاً في الأربعة، وإن لم يكن منهم قطع؛ لأنه لا حق له فيها، ولا شبهة، ولا(14/355)
استحقاق، وإن سرق من الخمس الموزع على خمسة نظرنا، إن سرق مما لا حق له فيه قطع، مثل أن نخمس الخمس، ونأخذ ما لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وخمس اليتامى نجعله وحده، وذوي القربى وحده، وابن السبيل وحده، والمساكين وحده، فإن سرق من حق اليتامى، وهو بالغ عاقل فإنه يقطع؛ لأنه ليس له فيه شبهة، ولو سرق من الفيء الذي لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإنه لا يقطع؛ لأن له فيه حقاً؛ لأنه يصرف لبيت المال، وإن سرق من سهم ذوي القربى وهو ليس منهم يقطع.
قوله: «أَوْ فَقِيرٌ مِنْ غَلَّةِ وَقْفٍ عَلَى الفُقَرَاءِ» أي: فإنه لا يقطع، مثاله: عندنا نخل موقوف على الفقراء، جذذنا النخل، ووضعنا الجذاذ ـ المجذوذ ـ في حرزه، فجاء رجل من الفقراء وسرق منه فلا يقطع؛ لأن له شبهة استحقاق؛ فهو من جملة المستحقين.
مثال آخر: طعام معدٌّ للفقراء، فجاء فقير فسرق منه فلا يقطع؛ لأن له فيه شبهة استحقاق.
قوله: «أَوْ شَخْصٌ مِنْ مَالٍ فِيهِ شَرِكَةٌ لَهُ» أي: فإنه لا يقطع؛ لأن هذا الذي سرقه له فيه نصيب.
مثاله: شخص له مال بينه وبين آخر، مائة درهم مثلاً، فسرق من هذا المال المشترك خمسين درهماً فلا يقطع؛ لأن له من الخمسين نصفها.
مثال آخر: رجل له شركة في مال قدرها واحد من مليون،(14/356)
فسرق تسعمائة ألف فلا يقطع؛ لأن نصيبه مشاع، كل درهم اقسمه على مليون، فله منه واحد، فلما كان نصيبه مشاعاً فإنه مهما سرق من المال المشترك فإنه لا يقطع؛ لأن له في كل جزء منه ـ وإن قل ـ نصيباً.
قوله: «أَوْ لأَِحَدٍ مِمَّنْ لاَ يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ» إذا سرق شخص من شيء فيه شركة لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه فإنه لا يقطع، فإذا كان أبوه له مال مشترك بينه وبين عمه، فسرق من المال المشترك فلا يقطع، وإذا كان المال للعم منفرداً عن الشركة فسرق منه فإنه يقطع.
ولم يقطع في الأولى؛ لأن الأب له شركة في المال، وإذا سرق من مال فيه شركة لمن لا يقطع بالسرقة منه فإنه لا يقطع، والشبهة هنا المشاركة، فما دام هذا المال فيه سهم ـ ولو واحداً من مليون ـ لشخص لو سرقتُ من ماله لم أقطع، فإنني لا أقطع بالسرقة من هذا المال المشترك، كما قال المؤلف؛ لأن هذا المال الذي سرقته فيه جزءٌ لا تقطع بالسرقة به، وهو ما يملكه أبوك، وإذا كان فيه جزء لا يمكن أن تقطع به فإن القطع لا يتجزأ، فلو كان للأب خمساه، وللعم ثلاثة أخماسه، فسرق فهل نقطع ثلاثة أصابع؟ لا، ولا يمكن أن نجزئه.
قوله: «وَلاَ يُقْطَعُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ» هذا الشرط السادس، وهو ثبوت السرقة، ولثبوتها طريقان:
أولاً: الشهادة.(14/357)
ثانياً: الإقرار.
وهناك طريق ثالث مختلف فيه، وسيأتي.
الشهادة يقول المؤلف: «بشاهدين عدلين» ، والعدل هو من استقام دينه، واستقامت مروءته، فهو ذو دين، وذو مروءة لم يفعل ما يخل بالدين، ولم يفعل ما يخل بالشرف والمروءة، فلا بد في الشهادة من أن يكون الشاهدان اثنين عدلين.
ولا تقبل شهادة النساء في السرقة؛ لأن الحدود لا يقبل فيها إلا الرجال، فإن شهد رجل وامرأتان فلا تقطع اليد، أو أربعون امرأة لا تقطع اليد، أو رجل واحد لا تقطع اليد، أو رجل فاسق ورجل عدل لا تقطع اليد، أو رجلان فاسقان لا تقطع اليد؛ لأنه لا بد من رجلين عدلين.
أَوْ إِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ يَنْزِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ حَتَّى يُقْطَعَ،..............
قوله: «أَوْ إِقْرارٍ مَرَّتَيْنِ» هذا هو الطريق الثاني لثبوت السرقة، ويشترط فيه شرطان: التكرار، الاستمرار.
الأول: التكرار: يقول المؤلف: «مرتين» : فلو أقر مرة واحدة، وقال: إني سرقت فلا قطع؛ لأن السرقة لم تثبت شرعاً.
والدليل على أنه لا بد من التكرار أنه جيء بسارق إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأقر بأنه سرق فقال: «ما إخالك سرقت؟» قال: بلى يا رسول الله، فأمر بقطعه (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/293) ، أبو داود في الحدود باب في التلقين في الحد (4380) ، والنسائي في الحدود باب
تلقين السارق (8/67) ، وابن ماجه في الحدود باب تلقين السارق (2597) عن أبي أمية المخزومي ـ رضي الله عنه ـ،
وانظر: التلخيص (1776) ، والإرواء (2426) .(14/358)
والقياس: قالوا: لأن هذا حد يتضمن إتلافاً، فكان أحقَّ بالتكرار من الزنا الذي لا يتضمن الإتلاف إلا في المحصن.
ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم له: «ما إخالك سرقت» أراد بذلك الاستثبات، والقول يثبت على الإنسان بشهادته على نفسه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وقد سبق لنا بيان أن تكرار الإقرار ليس بشرط في باب حد الزنا، فهذا مثله وأولى؛ ولذلك كان اشتراط تكرار الإقرار هنا من مفردات مذهب الإمام أحمد، كما ذكره صاحب الإنصاف.
وقوله: «أو إقرار مرتين» مراده بيان الأقل أي: إقرار لا ينقص عن مرتين، فإن زاد كان أقوى.
الشرط الثاني: الاستمرار، وإليه أشار المؤلف بقوله:
«وَلاَ يَنْزِعَ عَنْ إِقْرَارِهِ حَتى يُقْطَعَ» ونصبت «ينزع» ؛ لأنه عطف على اسم خالص، قال ابن مالك:
وإن على اسمٍ خالصٍ فعلٌ عطفْ *** تنصبه أن ثابتاً أو منحذفْ
وشاهده قول الشاعر:
ولبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني *** أحبُّ إلي من لُبس الشفوف
والاسم الصريح هو «إقراره» ولا ينزع أي: وعدم نزعه، ويجوز الرفع على أنها استئنافية.
والمعنى أي: لا يرجع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، وقاسوا ذلك على الزنا، وقد سبق أن القول الراجح أنه لا(14/359)
يشترط، وأنه إذا أقر الإنسان على نفسه ثبت عليه الحكم بمقتضى إقراره، ولا يقبل رجوعه.
ولو أن رجلاً أقر بأنه سرق، وقال: إني سرقت من الدكان الفلاني الحاجة الفلانية، التي وصفها كذا، ورقمها كذا، وذكرها تماماً، ووصف كيف سرق، وقال: جئت من هنا، وفتحت هذا الباب، ووجدنا المسروق عنده كما وصف تماماً، ثم بعد ذلك قال: رجعت عن إقراري.
هل نقول: إن عموم كلامهم حيث قالوا: ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، يقتضي أن هذا الذي رجع عن إقراره ووجد المال عنده، ووصف هو نفسه السرقة، ولم يقل: سرقت فقط، فهل نقول: إن عموم كلام الأصحاب يقتضي أن يرفع عنه الحد؛ لأنه رجع، أو نقول: إن كلامهم فيما إذا كان ثبوت السرقة مجرد إقرار، أما مع وجود هذه القرائن التي ذكرها، فهل يصدق أو لا؟ هذا لا يصدق به أحد؛ لأنه من المستحيل أن رجلاً يدعي على نفسه هذه الدعوى، ثم يقول: ما فعلت، نعم، يوجد احتمال أنه لم يسرق، وأن السارق صديقه، وأن صديقه وصف له السرقة، ووضع المال عنده أمانة، فهذا احتمال عقلي وارد، لكن العادة تمنع هذا منعاً باتاً.
فالصواب إذاً أن الرجوع عن الإقرار غير مقبول مطلقاً، فكيف إذا احتفت به قرائن تدل على كذب الرجوع، وعلى أن السرقة واقعة تماماً.
وعلى هذا نقول: الصحيح أنه لا يشترط لثبوت السرقة(14/360)
تكرار الإقرار، ولا الاستمرار في الإقرار، وأنه إذا أقر ولو مرة واحدة أقيم عليه الحد إذا تمت شروط الإقرار، بأن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً.
وهل هناك طريق ثالث تثبت به السرقة؟
المذهب أنه ليس هناك طريق لثبوت السرقة سوى هذين الطريقين، وزاد بعض أهل العلم طريقاً ثالثاً، وهي أن يوجد المسروق عند السارق ما لم يدَّعِ شبهة تمنع الحد.
مثال ذلك: ادعى شخص على آخر بأنه سرق ماله، فسألناه: ما هو مالك؟ فقال: مالي هذا الشيء المعين وعيَّنه، وصفته كذا وكذا، ورقمه كذا وكذا، ولونه كذا وكذا، وفسّره تفسيراً بيناً واضحاً، فقلنا للمدعى عليه: هذا يقول أنك سرقت، فقال: ما سرقت، وليس له عندي شيء أبداً، ثم وجدنا هذا المسروق حسب وصف المدعي موجوداً عنده.
فهذه قرينة تدل على أنه سارق، فيقام عليه الحد وتقطع يده، وهذا اختيار جماعة كثيرة من أهل العلم، قالوا: إن هذا من جنس ما إذا تقيأ الرجل الخمر فإنه يحد كما مضى.
فإن ادعى السارق أنه أخذ هذا المال عارية، أو بيعاً، أو هبة، فهذه شبهة تمنع إقامة الحد، كما ذكرنا فيمن حملت وليس لها زوج ولا سيد، ثم ادعت أن غيرها أكرهها فإنها لا تحد.
الشرط السابع قوله:
وَأَنْ يُطَالِبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ بِمَالِهِ،..................
«وَأَنْ يُطَالِبَ المسْرُوقُ مِنْهُ بِمَالِهِ» فإن لم يطالب فإنه لا يقطع، ولو ثبتت السرقة، ما دام صاحبه لم يطالب، والدليل(14/361)
حديث صفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ حيث كان نائماً على ردائه في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجل فسرقه، فرفع صفوان الأمر إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقطعه، فقال صفوان: يا رسول الله، أتقطعه في رداء لا يساوي ثلاثين درهماً؟ إني قد وهبته له، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هلا كان قبل أن تأتيني به» (1) .
فإنه يدل على أنه لو وهبه له قبل أن يرفعه للحاكم سقط القطع، فهل يصح الاستدلال بهذا الدليل على هذه المسألة؟
إذا قدرنا أن السارق سرق، وثبت عند الحاكم أنه سرق، لكن لم يجئ أحد يقول له: إنه سرق مني، هل يقطع أم لا؟ المذهب أنه لا يقطع؛ لأنه ما جاء أحد يطالب، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أنه لا تشترط المطالبة، وأنه إذا ثبتت السرقة قطع؛ لأن القطع لحفظ الأموال، وليس حقاً خاصاً لهذا الرجل؛ حتى نقول: إنه إذا طالب قطع وإلا فلا، بخلاف القصاص، فإذا لم يطالب لا يقطع.
مسألة: هل البصمات طريق رابع لمعرفة المجرم؟
الجواب: تعتبر قرينة وليست بينة قطعية؛ لأنه قد يكون الذي لمس الباب لمسة قبل السرقة أو بعدها، لكن لو قلنا: ليس فيه بصمة سوى هذه، فيمكن أن نقول: حتى لو لم يوجد إلا هذه البصمة فإنه يوجد احتمال أن تكون قبل السرقة أو بعدها، وأن يكون السارق تحاشى أن يمس هذا الباب، بل مسه بحديدة وما أشبه ذلك.
__________
(1) سبق تخريجه ص (338) .(14/362)
مسألة: إذا رأوا رجلاً هارباً وأمسكوه ومعه المال، فهل يدل هذا على السرقة؟ الجواب: لا.
وَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ وَحُسِمَتْ، وَمَنْ سَرَقَ شَيْئاً مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ثَمَراً كَانَ أَوْ كَثَراً أَوْ غَيْرَهُمَا أُضْعِفَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلاَ قَطْعَ.
قال: «وَإِذَا وَجَبَ القَطْعُ» أي: ثَبَتَ، ويحتمل أن المعنى إذا وجب شرعاً؛ لأن قطع يد السارق واجب؛ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وهكذا جميع الحدود يجب إقامتها على كل أحد، على الشريف، والوضيع، والغني، والفقير، فكلمة «وجب» يحتمل أن يراد بها الوجوب الشرعي، أو الوجوب اللغوي، والوجوب اللغوي معناه ثبت، والشرعي بمعنى لزم، فإذا وجب القطع وذلك بعد تمام الشروط السابقة وهي ستة، بالإضافة إلى الشروط العامة لإقامة الحدود، قال:
«قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمْنَى» لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} ، وقد فسر هذا الإجمال القراءة الثانية: {فاقطعوا أيمانهما} (1) ، وكذلك السنة فسرت ذلك (2) .
قوله: «مِنْ مَفْصِلِ الكَفِّ» أي: دون الذراع، وإنما وجب قطعها من هنا لا إلى المرفق؛ لأن الله تعالى أطلق ولم يقيد، واليد عند الإطلاق تحمل على الكف، بدليل قوله تعالى في آية التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وقد ثبت
__________
(1) أخرجه البيهقي (8/270) ، وانظر: التلخيص الحبير (4/71) وخلاصة البدر المنير (2/317) .
(2) لم نقف عليه مرفوعاً، ولكن روي عن أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قالا: «إذا سرق السارق فاقطعوا
يمينه من الكوع» ذكره في المغني (9/106) قال في التلخيص: «لم أجده عنهما» (4/71) ، وانظر: الإرواء (8/81) .(14/363)
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التيمم خاص بالكف (1) ، وعلى هذا فيكون المراد بالأيدي في الآية الكف فقط.
وكيفية ذلك أنه يؤتى برجل قوي فيربط يد السارق بحبل بقوة ويسحبها حتى يتبين المفصل؛ لأن المفصل متداخل بعضه ببعض، فلا بد أن تفصل الكف عن الذراع حتى يقصها من المفصل؛ لأنه لو قصها هكذا تداخل بعضها ببعض.
قوله: «وَحُسِمَتْ» الحسم في اللغة القطع، والمراد حسم الدم ـ أي: قطعه ـ وذلك بأن يغلى زيت، أو دهن، أو نحوهما، ثم تغمس فيه وهو يغلي، فإذا غمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق، وإنما وجب حسمها؛ لأنها لو تركت لنزف الدم ومات، والحد لا يراد به موته وإتلافه، إنما يراد به تأديبه.
والحكمة من قطعها دون سائر الأعضاء هو أنه لما كانت اليد هي آلة الأخذ في الغالب صار القطع خاصاً بها؛ ولهذا اختص باليمين دون اليسار؛ لأنها هي التي يؤخذ بها غالباً، حتى لو فُرض أنه أعسر لا يعمل إلا باليد اليسرى.
وقد اعترض بعض الزنادقة على الشرع، وقال: كيف تقطع اليد اليمنى في ربع دينار، وإذا قطعها الجاني فإن ديتها خمسمائة دينار؟!
يَدٌ بخمس مئين عَسْجَدٍ وُدِيت *** ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له *** ونستجير بمولانا من النار
__________
(1) رواه البخاري في التيمم باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ (338) ، ومسلم في الحيض باب التيمم (368) عن عمار بن
ياسر ـ رضي الله عنهما ـ.(14/364)
وأجابه بعض العلماء بأنها قطعت في ربع دينار حماية للأموال، وكانت ديتها خمسمائة دينار حماية للنفوس والدماء.
حماية النفس أغلاها وأرخصها *** حماية المال فافهم حكمة الباري
وقال بعضهم وهو تعبير أدبي: لما خانت هانت، ولما كانت أمينة كانت ثمينة.
مسألة: هل يجوز رد اليد بعد قطعها؟ لا يجوز؛ لأن هذا خلاف مقصود الشارع، فليس مقصود الشارع الإيلام فقط حتى نقول: إنه حصل بقطعها، وإنما مقصود الشارع أن يبقى، وليس له يد.
فإن عاد فسرق فقال بعض العلماء: لا يقطع منه شيء، وإنما يحبس ويؤدب، وقال بعضهم: تقطع رجله اليسرى من مفصل العقب، فإن عاد فسرق تقطع يده اليسرى، فإن عاد فسرق قطعت رجله اليمنى، فإن عاد فسرق قال بعضهم: يقتل.
فإن قيل: إن قطعت أربعته فبماذا يسرق؟!
فالجواب: يمكن أن يسرق بفمه، كأن يحمل الكيس الذي فيه الذهب ويعض عليه بأسنانه ويمشي.
قوله: «وَمَنْ سَرَقَ شَيْئاً مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ثَمَراً كَانَ أَوْ كَثَراً أَوْ غَيْرَهُمَا أُضْعِفَتْ عَلَيْهِ القِيمَةُ وَلاَ قَطْعَ» أضعفت بمعنى زيدت بمثلها، وأما كونه لا قطع فظاهر؛ لأنه يشترط للقطع أن تكون السرقة من حرز.(14/365)
مثال ذلك: رجل سرق دراهم، أو دنانير من دكان مفتوح، فهنا سرق من غير حرز فليس عليه قطع؛ لأن من شروط القطع أن تكون السرقة من حرز، ولكن يقول المؤلف: إن القيمة تضاعف عليه، فإذا كان هذا المسروق يساوي مائة جعلناه بمائتين.
ودليل ذلك أنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من سرق ثمراً من غير حرز فإنه يضاعف عليه الغرم (1) .
والمؤلف ـ رحمه الله ـ يقول: إنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثمراً أو كَثَراً أو غيرها، فالثمر كالتمر، والكثر قيل: إنه جُمَّار النخل، وقيل: إنه طلع النخل، والذي جاءت به السنة الثمر والكثر، وما عداهما فإنها لم تأتِ به السنة، فألحق بعض العلماء ما عداهما بهما، كما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ، والمذهب أن غيرهما لا يلحق بهما، فإذا سرق من غير حرز فلا قطع، ولا يجب عليه إلا القيمة إن كان متقوماً، أو المثل إن كان مثلياً.
أما الذين قالوا بالتضعيف فقالوا: إنه ثبت في السنة تضعيف الغرم في الثمر والكثر، ولا نعلم لذلك أصلاً إلا لأنه سرق من غير حرز، وعلى هذا فتكون العلة أنه سرق من غير حرز، فكل ما سرق من غير حرز ضوعفت عليه القيمة، وأما الذين قالوا: لا تضاعف عليه القيمة، قالوا: لأن الأصل في الضمان ضمان الشيء بمثله، فخرج الثمر والكَثَر إذا سُرق بالنص، فبقي ما عداهما على الأصل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (340) .(14/366)
مثال ذلك: رجل صعد إلى نخلة فجذ منها قنواً أو قنوين وذهب به، وجب عليه أن يضمنه بمثله مرتين، وأما القطع فلا قطع.
مثال آخر: رجل سرق دراهم من غير حرز، وذهب بها فلا قطع عليه؛ لأنه من غير حرز، ولكن يجب أن يضمنه ـ على كلام المؤلف ـ بمثله مرتين فيضمن المائة بمائتين، والمذهب لا يضمنه إلا بمثله، فلا يضمن إلا المائة فقط.
وكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أقرب؛ لما في ذلك من الردع والزجر؛ ولأنه سقطت عنه العقوبة مراعاة لحاله ولمصلحته.(14/367)
بَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ الْبُنْيَانِ، فَيَغْصِبُونَهُمُ الْمَالَ مُجَاهَرَةً لاَ سَرِقَةً،..............................
قوله: «حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ» ، أفادنا المؤلف أن عقوبة قطاع الطريق من باب الحد، وأنها واجبة وهو كذلك؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فعقوبة قطاع الطريق من باب الحد الواجب إقامته.
وقوله: «قطاع الطريق» «قطاع» جمع قاطع، و «الطريق» ما يطرقه الناس بأقدامهم ويسلكونه، مثل سكك السيارات، وجواد الإبل، والحمر، ونحو ذلك، وقطاع الطريق الذين يقطعونه ـ أي: يمنعون الناس من السير فيه ـ وذلك لعدوانهم على من مَرَّ بهم.
قوله: «وهُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ في الصحراء أو البنيان فَيَغْصِبونَهُمُ المَالَ مُجاهَرَةً لا سرقة» فيقفون في الطرقات، ومعهم السلاح في الصحراء أو البنيان، وسواء كان السلاح فتاكاً أو لا، حتى لو كان عصاً تقتل فإنه سلاح.
وقوله: «في الصحراء أو البنيان» وأكثر ما يكونون في الصحراء؛ لأن البنيان فيها من يحمي الناس، وفيها أناس كثيرون يمنعون فساد هؤلاء، فأكثر ما يكونون في الصحراء(14/368)
وأكثر ما يكونون أيضاً في الصحراء غير المسلوكة.
وقوله «فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة» أي: أن أخذهم المال غصباً، فيعرض للمسافر، ويقول له: أَنْزِلِ المتاع الذي معك غصباً، حتى ينزعه ثيابه، وهذه وقعت، فهذا الأمر لا شك أنه فساد في الأرض؛ لأنه يمنع الناس من سلوك الطرقات التي هي محل أمنهم؛ ولأنه إيذاء وإخافة وترويع، فهو من أكبر الفساد.
وقوله: «لا سرقة» لأن السرقة أخذ المال على سبيل الخفية.
وعقوبة القاطع إن قتل وأخذ المال قُتل ثم صُلب، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يُصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن أخاف ولم يقتل ولم يأخذ مالاً نفي من الأرض، فالعقوبة إذاً أربعة أنواع: قتل وصلب، وقتل فقط، وقطع، ونفي، وهذه العقوبة تختلف بحسب الجريمة.
ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} هذه واحدة، {أَوْ يُصَلَّبُوا} هذه الثانية، لكن بعض أهل العلم ـ وهو المذهب ـ يقولون: إنه لا يصلب بدون قتل، وعلى هذا فيكون المعنى يقتلوا ويصلبوا، أو يقتلوا فقط بدون صلب، فتكون الآية دالة على نوعين من العقوبة {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] و «أو» هنا على ما مشى عليه المؤلف للتنويع، وليست للتخيير، ولكن بعض أهل العلم قال:(14/369)
إنها للتخيير، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان أيهما أصح.
فَمَنْ مِنْهُمْ قَتَلَ مُكَافِياً، أَوْ غَيْرَهُ، كَالْوَلَدِ، وَالْعَبْدِ، وَالذِّمِّيِّ، وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ حَتَّى يَشْتَهِرَ، وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ حَتْماً وَلَمْ يُصْلَبْ، وَإِنْ جَنَوْا بِمَا يُوجِبُ قَوَداً فِي الطَّرَفِ تَحَتَّمَ اسْتِيفَاؤُهُ،..............
قوله: «فَمَنْ مِنْهُمْ قَتَلَ مُكَافِياً أَوْ غَيْرَه كَالوَلَدِ وَالعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ وَأَخَذَ المَالَ قُتِلَ، ثُمَّ صُلِبَ حَتَّى يَشْتَهِرَ» إذا جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع لهم بين العقوبتين، وهما: القتل، والصلب، ويقول المؤلف: لا فرق بين أن يكون هذا القتل مما يجري فيه القصاص بين القاتل والمقتول، أو مما لا يجري فيه القصاص.
فمثلاً: الولد لا يجري القصاص بينه وبين أبيه، فإذا كان الأب هو القاتل فلا قصاص، ولهذا قال المؤلف: «مكافياً أو غيره كالولد» فالولد غير مكافئ للوالد في القصاص، بمعنى أن الولد إذا قتله أبوه فإنه لا يقتل، والحقيقة أن الولد مكافئ، لكن وجد فيه مانع وهو الولادة، لكن هنا في هذا الباب يقتل به، والعبد غير مكافئ للحر، فإذا كان قاطع الطريق حراً والمقطوع عبداً، فأخذ ماله وقتله فإن هذا الحر يقتل ويصلب.
والذمي غير مكافئ للمسلم، فلو أن مسلماً قاطع طريق قتل ذميّاً وأخذ ماله، وجب أن يقتل ثم يصلب؛ لأن هذا حد، وليس من باب القصاص حتى نقول: إنه يشترط فيه ما يشترط في ثبوت القصاص، فهذا حد شرعي المقصود به ردع الناس عن هذا العمل الذي سماه الله تعالى محاربة.
وقوله: «قتل ثم صلب» فيصلب بعد القتل، أي: نربطه على خشبة لها يدان معترضتان، وعود قائم، فنقيمه عليها، ونربطه، ونربط يديه على الخشبتين المعروضتين.(14/370)
وقوله: «حتى يشتهر» ويتضح أمره، ومثل هذا يشتهر بسرعة؛ لأنه خلاف المعتاد.
وظاهر كلام المؤلف بل صحيحه أنه يقتل قبل الصلب.
والقول الثاني: أنه يصلب قبل القتل، وفائدة هذ القول أنه إذا صلب وهو حي كان ذلك أشد في حزنه؛ لأن الميت ما يشعر بما يناله من الخزي والعار ـ والعياذ بالله ـ بخلاف الحي، قال المتنبي:
من يَهُن يَسهل الهوانُ عليه
ما لجُرحٍ بميت إيلامُ
فهذا الميت إذا صلب، ومر به الناس لا يشعر بذلك، لكن إذا صلب وهو حي، وصار الناس يمرون عليه وينظرون إليه وهو ينظر إليهم، كان ذلك أشد في عاره وخزيه.
وينبغي أن ينظر في هذا إلى المصلحة، فإذا رأى القاضي أن المصلحة أن يصلب قبل أن يقتل فعل.
ولم يذكر المؤلف هنا أي آلة يقتل بها، فيقتل بما يكون أسهل؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» (1) ، وليس هذا كالزاني إذا كان محصناً يرجم، بل المقصود بهذا إتلافه.
فإذا دار الأمر بين أن نقتله بالسيف، أو نقتله بالصعق بالكهرباء، فالسيف أولى من جهة أنه لا يصيب الإنسان بالصدمة القوية التي تقضي عليه، والصعق بالكهرباء أولى من جهة؛ لأنه أسرع، وهنا ينبغي أن نرجع إلى الأطباء، فإذا قالوا: إن قتله
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(14/371)
بالصعق أسهل وأكثر راحة فعلنا، وهو ـ أيضاً ـ بالنسبة للصلب أقل ترويعاً؛ لأن ذاك لو قتل بالسيف فستصيبه الدماء، ويتروع الناس بمجرد رؤيته، بخلاف ما إذا قتل بالصعق فإنه يكون كالميت ميتة طبيعية.
وهل يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين؟
نعم؛ يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، وندفنه في مقابر المسلمين، إلا على رأي طائفتين مبتدعتين، وهما الخوارج الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة يكفر ما لم يتب، والمعتزلة الذين يقولون: إنه مخلد في النار، فإن الصلاة عليه غير ممكنة؛ لأن المقصود بالصلاة عليه الدعاء له، وعندهم لا يجوز الدعاء لمثل هذا؛ لأنه لن يُرحم، فهو في النار.
قوله: «وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ المَالَ قُتِلَ حَتْماً وَلَمْ يُصْلَبْ» إن قتل قاطع الطريق ولم يأخذ المال فإنه يقتل ولا يصلب.
وقوله: «قُتِل حتماً» يعني أنه ليس فيه خيار لأولياء المقتول؛ لأن القتل هنا ليس قصاصاً، ولكنه حد، فإذا لم يكن قصاصاً، بل كان حداً فإنه يتحتم قتله؛ لأن الله قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة: 33] .
قوله: «وَإِنْ جَنَوْا بِمَا يُوجِبُ قَوَداً فِي الطَّرَفِ تَحَتَّمَ اسْتِيفَاؤُهُ» هذه المسألة تعتبر كجملة معترضة في المتن، والمراد الجناية بما دون القتل ـ أي: الجناية على الأطراف ـ فإذا جنوا على طرف، فإما أن تكون الجناية موجبة للقود، وسبق لنا ذلك في شروط(14/372)
القصاص فيما دون النفس، فإذا كان يوجب القود تحتم استيفاؤه، مثل: أن يقطعوا من مفصل، فإذا قطعوا اليد من مفصل فيجب القصاص، أي: يثبت، فهنا يتحتم استيفاؤه، فلو عفا المجني عليه لم يصح عفوه، والدليل: قالوا: قياساً على القتل، فإن القتل يتحتم استيفاؤه، كذلك القصاص فيما دون النفس يتحتم استيفاؤه.
وهذا الذي مشى عليه المؤلف خلاف المذهب، فالمذهب أنهم إذا جنوا بما يوجب قوداً في الطرف فإنه لا يتحتم استيفاؤه، ويكون الخيار للمجني عليه؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] ، فجعل للإنسان أن يتصدق بهذه الجناية ولا يقتص منها، وقالوا: إن القتل ورد به النص {أَنْ يُقَتَّلُوا} وهنا القتل منتفٍ، فيبقى على حكم الأصل التخيير، فيخير المجني عليه بين القصاص، وبين العفو مجاناً، وبين الدية.
وَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ مَا يُقْطَعُ بِأَخْذِهِ السَّارِقُ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَحُسِمَتَا، ثُمَّ خُلِّيَ، فَإِنْ لَمْ يُصِيبُوا نَفْساً وَلاَ مَالاً يَبْلُغُ نِصَابَ السَّرِقَةِ نُفُوا، بِأَنْ يَشَرَّدُوا فَلاَ يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ إِلى بَلَدٍ،........
قوله: «وَإِنْ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ المَالِ قَدْرَ مَا يُقْطَعُ بِأَخْذِهِ السَّارِقُ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ اليُمْنَى وَرِجْلُهُ اليُسْرىَ» إن أخذ كل واحد منهم من المال قدر ما يقطع به السارق، وهو على المذهب ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو عرض قيمته كأحدهما، والقول الثاني: أن النصاب ربع دينار؛ لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً» (1) ، وهذا هو الصحيح، فإذا أخذوا مالاً يبلغ نصاب قطع السرقة فإنهم تقطع أيديهم لأخذ المال، وأرجلهم لقطع الطريق؛ لأنهم يأخذون باليد ويمشون بالرِّجل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (335) .(14/373)
واشترط المؤلف ـ رحمه الله ـ في القطع أن يأخذوا من المال قدر ما يقطع به السارق، وظاهر كلامه أنهم لو أخذوا دون ذلك فلا قطع، وإنما يحكم لهم بحكم من لم يأخذ شيئاً، وهذا أحد القولين في المسألة.
والقول الثاني: أنهم إذا أخذوا المال ولو أقل مما يقطع به السارق، فإنه يتحتم قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ لأن هذا ليس بسرقة بل هذا جناية أعظم، ولا يقاس الأعظم على الأدنى، وأيضاً محل العقوبة في السرقة اليد، ومحل العقوبة هنا اليد والرجل، ولا يمكن أن يقاس الأغلظ عقوبة على الأهون عقوبة، وهذا مذهب مالك وهو الصحيح، وعموم الأثر الوارد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يدل على ذلك (1) .
وقياسها على السرقة غير صحيح؛ لأنه مخالف في الجناية ومخالف في العقوبة، وإذا كان مخالفاً في الجناية والعقوبة فلا يمكن أن يقاس الأغلظ على الأهون.
وتقطع اليد من مفصل الكف، والرِّجل من مفصل العقب، والعقب يبقى ولا يقطع؛ لأننا لو قطعنا العقب لأجحفنا به؛ ولقصرت الرجل، وتعثر المشي.
والعقب هو العرقوب أي: مؤخر القدم، الذي تحت الكعب.
وتقطع اليد اليمنى؛ إذ إن الأصل في الأخذ والإعطاء هو اليمين.
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده (1394) ، وعنه البيهقي في السنن الكبرى (8/283) ، وانظر: الإرواء (8/92) .(14/374)
ولماذا لا نقطع الرِّجْل اليمنى مع أنها أقوى من اليسرى؟ قالوا: لئلا يجتمع عليه عقوبتان في جهة واحدة، فيكون القطع من جانب في اليد، ومن جانب آخر في الرِّجل.
قوله: «فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ» أي: يجب أن يكون قطع اليد والرِّجل في مقام واحد؛ لأن الله تعالى قال: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} والواو للجمع والاشتراك، بمعنى أننا لا نقطع هذه اليد اليوم، ونقطع الرجل غداً؛ لأن هذا يشق عليه، فإن إجراء الحد عليه مرة واحدة أسهل، ولا نقول: نقطع اليد اليمنى فإذا برئت قطعنا الرجل اليسرى؛ لأن هذا خلاف ظاهر النص، فتقطعان في مقام واحد.
قوله: «وحسمتا» أي: غمستا في الزيت المغلي حتى تنسد أفواه العروق، ولا ينزف الدم.
قوله: «ثُمَّ خُلِّيَ» أي: ترك.
قوله: «فَإنْ لَمْ يُصِيبُوا نَفْساً وَلاَ مَالاً يَبْلُغُ نِصَابَ السَّرِقَةِ نُفوا» «إن» شرطية، وجواب الشرط «نفوا» ، وأتى المؤلف بكلمة «نفوا» اتباعاً للنص {أَوْ يُنْفَوْا(14/375)
مِنَ الأَرْضِ} ، ولم يُذكر النافي؛ ومعلوم أن النافي هو ولي الأمر، الذي له السلطة، فإن لم يفعل نفاه المسلمون، وهذا هو السر في بنائها للمجهول؛ وكيف ينفون؟
الجواب: قال المؤلف: «بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد» ، بل يشردون في البراري، ولا يسمح لهم بأن يرجعوا إلى البلاد، لا بلادهم، ولا بلاد غيرهم، فقوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} أي: ينفون من الأرض التي يقطعون بها الطريق، فننفيهم عن البلدان، وعن الأماكن التي يطرُقها الناس؛ لأن المقصود من النفي هو إزالة شرهم وإخافتهم للناس.
وقال بعض العلماء: إن النفي هو الحبس؛ لأن الحبس هو سجن الدنيا، وهو كذلك، والذي في الحبس ليس في الدنيا ولا في الآخرة، ليس في الدنيا مع الناس، وليس في الآخرة مع الأموات، فهو منفي من الأرض، ولأن حبسه أقرب إلى السلامة من شرِّه؛ لأننا لو نفيناهم عن البلدان وعن الطرقات، ربما يُغيرون في يوم من الأيام في غرة الناس ويقطعون الطريق، لكن إذا حبسوا أُمِنَ شرهم نهائياً، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وكما نعلم أن مذهب أبي حنيفة دائماً مبنيٌّ على المعقول، ولكن لا يسعفه ظاهر الآية {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، وإلا لقال الله: أو يحبسوا، فلما قال: {يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، فإننا نقول: ينفوا من الأرض، ولو قال قائل بأنه إذا لم يمكن اتقاء شرهم إلا بحبسهم حبسوا، وإن أمكن اتقاء شرهم بتشريدهم شردوا، لو قال قائل بهذا لكان له وجهٌ، وكان بعض قول من يقول: يحبسون مطلقاً، ومن يقول: يشردون مطلقاً، يعني نجعل المسألة على التفصيل، على اختلاف حالين، ونقول: إذا أمكن اتقاء شرهم بتشريدهم فعلنا اتباعاً لظاهر النص، وإذا لم يمكن فإننا نحبسهم؛ لأن هذا أقرب إلى دفع شرهم.
فتبين بذلك أن عقوبة قُطَّاع الطريق أربعة أنواع، ولكل نوع جريمة:(14/376)
قتل وصلب، قتل بلا صلب، قطع يد ورجل من خلاف، تشريد في الأرض، فإذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا بلا صلب، وإذا أخذوا المال بلا قتل قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا لم يأخذوا المال ولم يقتلوا شُرِّدُوا، فعندنا اجتماع الأمرين، وانفراد أحدهما، وانتفاؤهما، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] .
ومن أين أخذ هذا التقسيم، مع أن الآية الكريمة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} و (أو) إذا جاءت في القرآن فهي للتخيير، وعلى هذا فمن أين جاء هذا التقسيم؟ قالوا: هذا من أثر ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فإنه قال: «إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا الطريق نفوا» (1) ، وقالوا: إن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ترجمان القرآن، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (2) ، وقالوا أيضاً: إن المعتاد في القرآن أن الشيء إذا كان على سبيل التخيير بُدِئ بالأخف، وإذا كان على سبيل الترتيب بُدِئ بالأَغْلَظِ، فمراتب كفارة الظهار ترتيب؛ لأنه بدأ بالأغلظ بعتق رقبة،
__________
(1) سبق تخريجه ص (374) .
(2) أخرجه أحمد (1/266) ، وابن حبان في صحيحه (15/531) ، والطبراني في الكبير (10/263) ، وهو في
الصَحيحين بدون زيادة «وعلمه التأويل» .(14/377)
ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، وكذلك في كفارة القتل، ولكن كفارة اليمين للتخيير؛ لأنه بدأ بالأخف {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وانظر إلى فدية الأذى إذا كان الإنسان مُحْرماً، واحتاج إلى حلق رأسه فحَلَقَهُ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . فالنسك الأشد، ثم الصدقة، ثم الصيام، فهؤلاء يقولون: إن «أو» في الآية للتنويع، وأنها على حسب الجريمة؛ لأن عهدنا بالقرآن أن الشيء إذا كان على الترتيب بدأ بالأغلظ، وإذا كان على التخيير بدأ بالأخف، فصار الدليل عندهم أثراً ونظراً.
وذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ إلى أن (أو) في الآية للتخيير، وأن الإمام مخير، إن شاء قتل وصلب، وإن شاء قتل ولم يصلب، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، ولكن على مذهب الإمام مالك يجب على الإمام أن ينظر ما هو الأصلح، فإذا كان الأصلح القتل والصلب قَتَلَ وصَلَبَ، وإن كان في القتل فقط قتل فقط، وإن كان في القطع قطع، فمثلاً إذا انتهك الناس حرمة الحقوق، وصاروا لا يبالون بقطع الطريق فالمصلحة القتل والصلب، وإذا كان صلب هذا الرجل يؤدي إلى فتنة، بأن كان سيد قومه، وخفنا إذا صلبناه أن تثور هذه القبيلة وتحصل دماء ومفاسد نكتفي بالقتل.
ولكن القول الأول هو الراجح في تقديرنا، وأنه لا خيار، ولا سيما في وقتنا هذا؛ لأننا لو فتحنا للحكام باب الخيار لتلاعبوا، وصار هذا يُقتل ويُصلب في نظرهم، والآخر ينفى من(14/378)
الأرض، فالصواب القول الأول، وأن تكون هذه الحدود مُعَيَّنة، ليس للإمام فيها خيار، وتكون «أو» للتنويع لا للتخيير.
وهل يجوز أن «يبنّج» (1) السارق وقاطع الطريق عند قطع أعضائه أو لا يجوز؟
الجواب: يجوز أن «يبنّج» قاطع الطريق والسارق لقطع عضوه؛ لأن المقصود إتلاف العضو وليس الألم، بخلاف من وجب عليه القصاص، فإنه لا يجوز أن نبنجه؛ لأنه قصاص فيجب أن ينال من الألم مثل ما نال المجني عليه.
وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ مَا كَانَ للهِ، مِنْ نَفْيٍ، وَقَطْعٍ، وَصَلْبٍ، وَتَحَتُّمِ قَتْلٍ،......
قوله: «وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ مَا كَانَ لله، مِنْ نَفْيٍ، وَقَطْعٍ، وَصَلْبٍ، وَتَحتُّمِ قَتْلٍ» التوبة لغة: الرجوع، وفي الشرع: الرجوع من معصية الله إلى طاعته، فإن كان بترك واجب فبالقيام به إن أمكن استدراكه، أو بالقيام ببدله إن لم يمكن استدراكه، فإن لم يكن له بدل فإنه يكفي مجرد الندم على ما فوت.
فمثلاً: إذا قلنا بوجوب صلاة الكسوف، ولم يصلِّ الإنسان، فالتوبة من فواتها الندم؛ لأنه ليس لها بدل، ولا يمكن استدراكها لفوات سببها، وإذا تاب من تَرْك واجبٍ في الحج فله بدل، فيأتي به.
أما إذا كانت التوبة من فعل محرم فتكون بالإقلاع عنه، والنزع عنه فوراً، فإن لم ينزع عنه فإن توبته ـ مع إصراره على
__________
(1) أي: يعطى مادة مخدرة لتخفيف أو منع الشعور بالألم.(14/379)
فعله ـ استهزاء بالله عزّ وجل، فأنت لو قلت: اللهم إني أستغفرك من الربا، وأنت تمارس أكل الربا، فما هذا إلا نوع استهزاء بالله سبحانه وتعالى.
ولو أنك تقابل مَلِكاً من ملوك الدنيا نهى عن شيء، ثم تقول: يا أيها الملك إني تبت إليك، وأنت بيدك ما نهى عنه، ويراه، فإن هذا استهزاء منك به، فيعذبك أكثر.
ولهذا فإن شروط التوبة خمسة:
الإخلاص لله ـ عزّ وجل ـ، والندم على ما فعله، والإقلاع عنه، والعزم على ألا يعود، وأن يكون في الزمن الذي تقبل فيه التوبة.
أما الإخلاص لله ـ عزّ وجل ـ فظاهر، بألا يتوب الإنسان خوفاً من مخلوق، أو تزلفاً إليه، وإنما يتوب خوفاً من رب العالمين، وتقرباً إليه تبارك وتعالى.
وأما الندم فأن يشعر بقلبه أنه فعل أمراً يأسف له.
وأما الإقلاع فأن يبادر بتركه، وإذا كان لآدمي، فأن يبادر بإيصاله حقه، أو باستحلاله.
وأما العزم على ألا يعود فهو في القلب، يعزم على ألا يعود لهذا الذنب، وليس الشرط ألا يعود، بل العزم على ألا يعود، ولهذا لو عزم على ألا يعود، ثم عاد فإن التوبة الأولى لا تنتقض؛ لأنها تمت شروطها.
وأما أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة، وذلك بأن تكون قبل حلول الأجل، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ لأن التوبة بعد حضور الأجل ومعاينة العذاب، وبعد طلوع الشمس من مغربها(14/380)
غير مقبولة، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] ، وقال عزّ وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *} {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84، 85] .
والتوبة واجبة على الفور ـ أي: بدون تأخير ـ لأن الإصرار على الذنب ذنب، ولأن الإنسان لا يدري متى يفاجئه الأجل، فيُحرَم من التوبة.
فإن تاب قطاع الطرق، فإن كان بعد القدرة عليهم، فلا تقبل توبتهم، وإن كان قبل قُبِلَت، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] ، فوجه الدلالة من الآية أن ختمها باسمين كريمين، يدلان على العفو والمغفرة، وأن مقتضى رحمته ومغفرته ـ جل وعلا ـ أن يغفر لهؤلاء ويرحمهم.
وفهم من قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} أنهم لو تابوا بعد القدرة فإنه لا تسقط عنهم العقوبة؛ والحكمة من ذلك أنهم إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم فإنه دليل على أن توبتهم صادقة، فيتوب الله عليهم، أما إذا تابوا بعد القدرة عليهم فإن القرينة تدل على أن توبتهم خوفاً من النكال والعقوبة، فلذلك لا تقبل.
أما الكافر فتقبل توبته ولو بعد القدرة عليه، فإذا كان كافر حربي يظهر العداوة للمسلمين، فقدرنا عليه، فتاب بعد أن قدرنا(14/381)
عليه فإننا نرفع عنه القتل، لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وهذا عام، ولحديث أسامة ـ رضي الله عنه ـ في قصة المشرك الذي لحقه أسامة حتى أدركه، فلما علاه بالسيف قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقال له: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!» قال: نعم يا رسول الله، إنما قالها تعوُّذاً، قال: «قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!» قال: نعم، فما زال يرددها عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت بعد (1) ، مع أن الرجل حسب ما يظهر ـ والعلم عند الله ـ قالها تعوذاً، لكن فيه احتمال أنه قالها عن صدق، وأنه لما رأى الموت قالها، وهذا ليس كالذي حضره الأجل؛ لأنه من الممكن أن يمتنع القادر عن قتله، فلا يقال: إن هذا ينافي الآية: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] ؛ لأنه من الجائز أن هذا الذي شهر عليه السلاح أن يرحمه ويكف عنه، لكن إذا حضره الأجل لم يعد هناك وقت للتوبة.
فهؤلاء المحارِبون إذا تابوا قبل القدرة عليهم ارتفع عنهم الحد.
وهل مثل ذلك جميع الحدود؟ نعم؛ كل الحدود إذا تاب الإنسان منها قبل القدرة عليه سقطت عنه، فإن طَالَبَ بإقامتها
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم أسامة ... (4269) ، ومسلم في الإيمان باب
تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله (96) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ(14/382)
عليه، فإن للإمام أن يقيمها عليه، فإن رجع عن طلب الإقامة بالقول أو بالفعل ارتفعت العقوبة عنه، وهذا بخلاف ما إذا ثبتت ببينة فإنها تقام على كل حال.
ومن أين نعلم توبتهم؟ نعلم بها بأن يلقوا السلاح، ويجيئوا تائبين، إما جميعاً، وإما بإرسال رسول منهم إلى الإمام، ويقول: إن الجماعة كتبوا هذا العهد، وتعهدوا ألا يعودوا لما هم عليه، وحينئذٍ نعرف أنهم تابوا.
وقوله: «سقط عنهم ما كان لله من نفي» ؛ لأنه ليس عليهم حق لآدمي.
وقوله: «وقطع» أي: يسقط عنه بالتوبة قطع اليد والرجل من خلاف.
وقوله: «وصلب» أي: يسقط الصلب؛ لأنه من حقوق الله.
وقوله: «وتحتم قتل» أي: ويسقط عنهم تحتم القتل بالتوبة، ولم يقل المؤلف: وقتل؛ لأنهم إذا قتلوا مكافئاً، وطالَبَ أولياء المقتول بالقتل قتلوا ولو تابوا، لكن إذا لم يتوبوا كان قتلهم حتماً، سواء قتلوا مكافئاً أم غير مكافئ، فالذي يسقط عنهم ما كان لله، وهي أربعة أشياء: النفي، والقطع، والصلب، وتحتم قتل، وحينئذٍ أرأيت لو أنهم قتلوا رجلاً من المسلمين، وطالب أولياؤه بالقصاص، هل يقتص منه؟ نعم، يقتص منه؛ ولهذا قال المؤلف:
وَأُخِذَ بِمَا للآدَمِيِّيِنَ مِنْ نَفْسٍ وَطَرَفٍ وَمَالٍ، إِلاَّ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَا، وَمَنْ صَالَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ حُرْمَتِهِ، أَوْ مَالِهِ آدَمِيٌّ أَوْ بَهِيمَةٌ فَلَهُ الدَّفْعُ عَنْ ذلِكَ بِأَسْهَلِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ دَفْعُهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلَهُ ذلِكَ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ،.........
«وَأُخِذَ بِمَا لِلآدَميِّيِنَ مِنْ نَفْسٍ وَطَرَفٍ وَمَالٍ» كان على المؤلف ـ رحمه الله ـ أن يقول: وتحتم قطع؛ لأن المؤلف يرى أنهم إذا قطعوا قطعاً يوجب القصاص تحتم استيفاؤه خلافاً للمذهب.(14/383)
وقوله: «من نفس» إذا قتل مكافئاً.
وقوله: «وطرف» إذا قطعوا عضواً.
وقوله: «ومال» إذا أخذوا مالاً.
مثال ذلك: هؤلاء قوم من قطاع الطريق قتلوا شخصاً، وبعد أن قتلوه وأخذوا ماله، جاؤوا تائبين إلى الله ـ عزّ وجل ـ، فهنا يسقط عنهم الصلب، ويسقط عنهم تحتم القتل، فإن طالب أولياء المقتول بالقتل، وتمت شروط القصاص قتلوا قصاصاً لا حدّاً، وأما المال الذي أخذوه فإنهم يطالبون به؛ لأنه حق آدمي.
قوله: «إِلاَّ أَنْ يُعْفَى له عنها» فإن عفي له عنها سقطت؛ لأنها حق آدمي، وحق الآدمي يَرْجع إليه، ولكن هل الأفضل أن يعفى لهم، أو أن يطالبوا بالضمان؟
الصواب أن فيه تفصيلاً: فإن كانت المصلحة تقتضي أن يعفى عنهم عفي عنهم، وإن كانت المصلحة تقتضي أن يؤخذوا به أخذوا به؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، فاشترط في ثبوت الأجر على الله أن يكون مع العفو إصلاح، وهذا صحيح، أما إذا كان في العفو إفساد فإنه لا يجوز العفو حينئذٍ، وإن كان العفو متردداً بين الإفساد والإصلاح فيجب القول بتغليب جانب العفو لا الأخذ بذلك؛ لأن للإنسان الحق أن يعفو مطلقاً.
قوله: «وَمَنْ صَالَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ ماله آدَمِيٌّ أَوْ بَهِيمَةٌ» الصول معروف، وهو الاقتحام والتعدي، فمن صال على نفسه(14/384)
آدمي، أو صال على حرمته ـ أي: حريمه ـ أو صال على ماله آدمي، وسواء كان الصائل يريد القتل، أو يريد الفاحشة وانتهاك العرض والعياذ بالله، أو يريد الأذية التي دون القتل، ودون انتهاك العرض، وكذلك نقول في المال، وكذلك نقول في الحُرْمة والأهل.
وقوله: «آدمي» فاعل «صال» .
وقوله: «أو بهيمة» يعني حيواناً، وسمي الحيوان بهيمة؛ لانبهام أمره؛ حيث إنه لا ينطق ولا يفصح عما في نفسه، لكن ذكروا في آيات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن جملاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يشكو صاحبه بأنه يجيعه، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم صاحبه فأخبره، فأمره أن يحسن إليه (1) ، وهذا إنما يكون على سبيل الآيات، والآيات خوارق للعادة.
قوله: «فَلَهُ الدَّفْعُ عَنْ ذلِكَ بِأَسْهَلِ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ دَفْعُهُ بِهِ» «فله» اللام للإباحة، يعني لا يجب عليه أن يستسلم، بل له أن يدافع، ولكن يدافع بأسهل ما يغلب على الظن دفعه به، فإن كان يندفع بالتهديد فلا يضربه، وإن كان يندفع بالضرب باليد فلا يضربه بالعصا، وإن كان يندفع بربط إحدى يديه فلا يربط الاثنتين، وإن كان يندفع بربط اليدين دون الرجلين، فلا يربط الرجلين، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله، ولهذا قال المؤلف:
فَإِنْ قُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَيَلْزَمُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَحُرْمَتِهِ دُونَ مَالِهِ، وَمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَ رَجُلٍ مُتَلَصِّصاً فَحُكْمُهُ كَذلِكَ.
«فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلاَّ بالقَتْلِ فَلَهُ ذلِكَ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِلَ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد/ باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم (2549) ، وأحمد (1/204) ،
والحاكم (2440) ، وأبو يعلى (12/158) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.(14/385)
فَهُوَ شَهِيدٌ» ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الرجل يأتي إلى الرجل يريد أن يأخذ ماله، فقال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» (1) ، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتله» ، وعليه فإذا لم يندفع إلا بالقتل فليقاتل، وليس عليه ضمان ولا كفارة.
وأما بناؤه على القواعد فلأن ما ترتب على المأذون ليس بمضمون؛ وأنا مأذون لي أن أدافع عن نفسي.
مسألة: لو أني قاتلته دفاعاً عن نفسي، وأهلي، ومالي، ثم طالبني أولياؤه بالقصاص، وقالوا: أنت قتلته، فنحن نطلب أن تقتل، فقال: إني مدافع عن نفسي، قالوا: هات الشهود، قال: لو كان هناك شهود ما هاجمني، قالوا: ليس عندك إلا دعوى، أنت الذي دعوته إلى بيتك لتقتله، إذاً نطالب بأن تقتل، فماذا يصنع؟
الجواب: القضاء يحكم بقتله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم» (2) ، ولو أننا قبلنا مثل هذه الدعوى لكان لكل إنسان يمتلئ قلبه حقداً على شخص أن يدعوه إلى بيته، فإذا أتى إلى البيت قتله، وادعى أنه هو الذي اعتدى عليه وعلى حرمته، فلما كان ذلك ممكناً غير
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم ... (140)
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في التفسير باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ} ... } (4552) ، ومسلم في الأقضية باب اليمين
على المدعى عليه (1711) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(14/386)
ممتنع صار من ادعى خلافه فعليه البينة، وإلا فيقتل، ويوم القيامة يحكم بينهم الحكم العدل ـ عزّ وجل ـ، أما نحن في الدنيا فليس لنا إلا الظاهر فقط، وهذا لا شك أنه جارٍ على قواعد الشرع في ظاهر الأمر.
ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إنه يجب أن ينظر في القرائن؛ لأن وجود البينة في مثل هذه الحالات متعسر، أو متعذر، ولأن هذا يقع كثيراً، أن يصول الإنسان على أحد، ثم يدافع المصول عليه عن نفسه حتى يصل إلى درجة القتل، فينظر في هذا إلى القرائن، فإذا كان المقتول معروفاً بالشر والفساد، والقاتل معروفاً بالخير والصلاح فالقول قول القاتل، وحينئذٍ لا ضمان عليه؛ لأن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي» (1) هذا بالاتفاق، والبينة كل ما أبان الحق وأظهره، وإذا قامت القرينة القوية الظاهرة على صدق الدعوى فإنه يجب العمل بمقتضاها، كما قلنا في دعوى الرجل لباساً في يد غيره، وهو ليس عليه لباس؛ فإن القول قول المدعي، كما لو رأينا رجلاً ليس عليه غترة، وآخر يلبس على رأسه غترة وأخرى بيده، وهو هارب والآخر يركض وراءه، يقول: أعطني غترتي، فهذه قرينة ظاهرة تؤيد دعوى المدعي فيعمل بها، وكذلك في مسألة القسامة ففيها قتل، لكنها مبنية على القرينة، فجعلت الأيمان في جانب
__________
(1) أخرجه البيهقي (10/252) ، وقال الحافظ في البلوغ (1408) : «إسناده صحيح» وأصله في الصحيحين من
حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين
على المدعى عليه» .(14/387)
المدعي، فقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ هو الحق في هذه المسألة، ولا يمكن إصلاح الخلق إلا بهذا؛ لأنه ما أكثر الذين يعتدون على الناس الآمنين، الوادعين في بيوتهم، المعروفين بالصلاح وبعدم العدوان، فيصول هذا المجرم عليه، فإذا دافع المسكين عن نفسه فقتله؛ لأنه لم يندفع إلا بالقتل، ضمناه!!
أما إذا كان يمكن دفعه بدون القتل فَقَتَلَه فإنه يضمن؛ لأن هذا دفع صيالة، فيجب أن يكون بالأسهل فالأسهل.
وإذا خاف أن يبدره بالقتل؛ لأن معه السلاح، فهل له أن يبادر بالقتل؟ نعم، له أن يبادر، فلو كان هذا المجرم معه سلاح، وأشهره على المصول عليه، وقال: مكني من نفسك، أو من أهلك، وإلا قتلتك، وخاف إن امتنع أن يقتله، فله أن يبادر بقتله؛ لأن هذا غاية قدرته، ولا يمكن أن يستسلم لهذا ليقتله، فإن قلت: ألا يمكن أن يهدد فلا يفعل؟ فالجواب: بلى، يمكن، ولكن لا يأمن أن يقتله؛ لأنه يريد أن ينجو بنفسه؛ لأنه سيقتل بكل حال، إما من هذا الرجل، أو من السلطات، فسيقدم على القتل.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون المسدس الذي في يده لعبة صبيان؟ بلى يمكن، ولكن هو الآن في حال لا يتمكن من الاطلاع، ولا من التثبت، وهو خائف لو تأخر لحظة قضي عليه، فالمسألة ليست عقلية، بل تصرفية، فهذا أدنى ما يقدر على التصرف فيه، ولهذا قال العلماء: إن خاف أن يبدره بالقتل فله أن يبادر بالقتل، بخلاف ما إذا لم يخف، فلا بد أن يدفع بالأسهل فالأسهل.(14/388)
وقوله: «أو بهيمةٌ» كبعير صال على هذا الإنسان يريد أن يقتله، أو صال عليه ذئب يريد أن يأكل غنمه، ولم يندفع الجمل أو الذئب إلا بالقتل، فهل يضمن؟ الجواب: لا يضمن؛ لأن الصائل لا حرمة له؛ لأنه مؤذٍ، والمؤذي إن كان طبيعته الأذى قتل وإن لم يَصُل، كالفأرة، والحية، والعقرب، وما أشبهها، وإن لم يكن طبيعته الأذى فإنه يقتل حال أذيته، مثل الجمل، لكن لو ادعى صاحب الجمل أن الجمل لم يَصُل، فما الحكم؟ أما المذهب فيلزمه الضمان؛ لأن الأصل حرمة مال المسلم، فالأصل أن هذا الجمل محترم، إلا إذا قامت البينة على أنه صال عليه، ولم يندفع إلا بالقتل.
والصحيح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أنه يرجع في ذلك إلى القرائن، فإذا علم أن هذا القاتل الذي ادعى أنه صِيل عليه رجل صالح، ولا يمكن أن يعتدي على حق غيره إلا بموجب شرعي، فإن القول قوله، ولكن لا بد أن يحلف؛ لأن اليمين تكون في جانب أقوى المدعيين، وأما إذا كان غير معروف بالصلاح فإن الأصل ضمان مال الغير واحترامه.
وقوله: «وَيَلْزَمُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ» أي: يلزم من صال عليه آدمي أو بهيمة أن يدافع عن نفسه وجوباً، لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، ومن استسلم للصائل الذي يريد قتله فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، ووقع فيما نهى الله عنه، ولقوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، فأمر بقتلهم حتى عند المسجد الحرام مع(14/389)
حرمته وتعظيمه، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» (1) ، ولأن نفسه محترمة وأمانة عنده، ومسؤول عنها أمام الله، فوجب عليه أن يدافع عنها، ولأنها نفس محترمة، ونفس الصائل نفس معتدية، ليس لها حرمة، ومعلوم أنه يجب فداء النفس المحترمة بالنفس المعتدية، وأن تتلف النفس المعتدية لإبقاء النفس المحترمة، فهذه تدل على وجوب المدافعة عن النفس.
فالحاصل أنه يجب الدفاع عن نفسه، لكن هل يستثنى من هذا شيء؟ اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: يستثنى من ذلك حال الفتنة ـ نعوذ بالله من الفتنة ـ إذا اضطرب الناس، وافتتنوا، وصار بعضهم يقتل بعضاً، لا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا المقتول فيما قُتِل، فتنة مائجة، فإنه في هذه الحال لا يلزمه الدفع، واستدلوا بقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنها ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي» ، فقيل: يا رسول الله، أرأيت إن دخل بيتي، هل أقتله أم لا؟ قال: «لا تقتله» (2) وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «فإن بهرك شعاع السيف فألقِ رداءك على وجهك» (3) يعني: واستسلم،
__________
(1) سبق تخريجه ص (386) .
(2) أخرجه البخاري في المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (3601) ، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب
نزول الفتن كمواقع القطر (2886) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه الإمام أحمد (5/163) ، وأبو داود في الفتن والملاحم باب في النهي عن السعي في الفتنة (4261) ، وابن
ماجه في الفتن باب التثبت في الفتنة (3958) ، وابن حبان (13/293) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.(14/390)
واستدلوا أيضاً بفعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإن الصحابة طلبوا منه أن يدفعوا عنه الذين خرجوا عليه، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ أبى، وقال: لا تقاتلوا (1) ، فإذا كانت فتنة فلا تقاتل.
والصواب أن الفتنة إذا كان يترتب على المدافع فيها شَرٌّ أكبر، أو كانت المدافعة لا تجدي لكثرة الغوغاء، ففي هذه الحال لا يجب الدفع، وإلا وجب الدفع لما ذكرت فيما سبق، وتحمل النصوص الواردة في ذلك على هذه الحال، وكذلك ما ورد عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن عثمان رأى أن أهل المدينة لو دافعوا لالتهمهم هؤلاء الخارجون؛ لأنهم عدد كبير لا طاقة لأهل المدينة بمدافعتهم.
ويرى بعض العلماء أنه يلزم الدفع مطلقاً، وأن الأحاديث الواردة في ذلك فيما إن كان الإنسان لا يستطيع المدافعة؛ لأن مدافعته إذا كان لا يستطيع لا فائدة منها.
قوله: «وَحُرْمَتِهِ» يعني يلزمه الدفع عن حرمته، أي: أهله، كزوجته، وابنته، وأمه، وأخته، وما أشبه ذلك؛ لأن حماية النفوس ـ كما ذكرنا فيما سبق ـ واجبة، أما ماله فيقول المؤلف:
«دُونَ مَالِهِ» فلا يلزمه الدفاع عنه؛ لأن حرمة المال دون حرمة النفس، ولكن يجوز الدفاع عن ماله وإن قل، حتى وإن كان جرة حبر، أو ريشة قلم.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان المال يسيراً فإنه لا يجوز
__________
(1) البداية والنهاية (7/171) وما بعدها.(14/391)
أن يدافع عنه مدافعة تصل إلى القتل؛ لأن حرمة النفس أعظم من حرمة المال، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الأحاديث عامة «من قتل دون ماله فهو شهيد» (1) وهو عام، وقال الرجل: إن طلب مني مالي؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعطه» (2) وهذا عموم أيضاً، فالصواب العموم، وليست المسألة من باب المقابلة والمكافأة؛ لأنه لو كانت من باب المقابلة والمكافأة لقلنا: إنه لا يجوز المدافعة، إلا إذا كان المال الذي صيل عليه بقدر الدية، وهذا لم يقل به أحد، بل المقاتلة من أجل انتهاك حرمة المال.
مسألة: لو أن أحداً نظر إلى بيتك من خصاص الباب فهل هو كالصائل؟
الجواب: ليس كالصائل، بل هذا تفقأ عينه بدون مدافعة، هكذا جاء في الحديث عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام (3) ـ، وهذا يقول فيه شيخ الإسلام رحمه الله: إنه ليس من باب دفع الصائل، لكنه من باب عقوبة المعتدي.
أما لو كان الباب مفتوحاً، وجاء الرجل، ووقف عند هذا الباب المفتوح، وجعل يتفرج على البيت، فهل له أن يفقأه؟ لا؛ لأن الذي أضاع حرمة بيته صاحب البيت، أما إذا كان الباب موصداً فإن هذا الرجل قد حفظ حرمته.
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم والغصب باب من قاتل دون ماله (2480) ، ومسلم في الإيمان باب الدليل على أن
من قصد ... (141) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) سبق تخريجه ص (386) .
(3) سبق تخريجه ص (157) .(14/392)
مسألة: رجل وجد على امرأته رجلاً ـ والعياذ بالله ـ يزني بها، فهل عقوبته من باب دفع الصائل؟
الجواب: لا، لكنه من باب عقوبة المعتدي، فإذا وجده على أهله فله أن يذهب إلى السيف، ثم يقدَّه نصفين، بدون إنذار؛ لأن هذا ـ كما قال شيخ الإسلام أيضاً ـ من باب عقوبة المعتدي، وقد وقعت هذه القضية في عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فقد دخل رجل على أهله، فوجد عليها رجلاً، فأخذ بالسيف فقدَّه نصفين، فطالب أولياء المقتول بدمه، ثم ارتفعوا إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فقال الرجل: والله يا أمير المؤمنين إن كان أحد بين فخذي أهلي فأنا قد قتلته، فقال: ما تقولون؟ قالوا: نعم، فأخذ عمر ـ رضي الله عنه ـ السيف وهزه، وقال له: إن عادوا فعد (1) ؛ لأن هذا من باب عقوبة المعتدي، بمعنى أننا نعاقب هذا الفاعل بدون إنذار.
قوله: «وَمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَ رَجُلٍ مُتَلَصِّصاً» وإن كان ليس من اللصوص، لكنه دخل متلصصاً، يريد أن يأخذ من هذا البيت.
قوله: «فحُكْمُهُ كَذلِكَ» أي: كالصائل على المال، فيدافع بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل فإنه يقتل.
فإن قال: أنا دخلت أطلب كتاباً، أريد أن أراجع، ما أريد
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في سننه كما في المغني (9/153) وهو منقطع.
ورواه أبو نعيم في الحلية (4/321 ـ 322) بنحوه ببعض اختلاف عن الشعبي به وهو منقطع أيضاً.(14/393)
أن أسرق، أو دخلت أريد مُصحفاً، أو أريد شرب ماء، فماذا نقول؟
نقول: لا يجوز أن تدخل إلا بالاستئذان، فأنت أخطأت من هذه الناحية، ومستحق للتأديب، وكونك تطلب مصحفاً، أو كتاباً، أو ما أشبه ذلك، فهذا بعيد؛ لأن الذي يطلب هذا لا يأتي للبيوت، بل يأتي للمكاتب، وكونه يطلب ماءً فهذا ممكن، إذا لم يكن بالخارج ماء، كما أنه يوجد في بعض البلدان، تجد الباب مفتوحاً حتى بالليل، فإذا جاء غريب دخل هذا المكان يظنه سبيلاً، أو وقفاً للناس، فهذا ممكن.
فعلى كل حال، متى وجدت قرائن تدل على صدقه فإنه يسمح له ويعفى عنه، وإلا فإنه يؤاخذ بجريمته.(14/394)
بَابُ قِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ
إِذَا خَرَجَ قَوْمٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ عَلَى الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فَهُمْ بُغَاةٌ،.........
قوله: «أهل البغي» البغي مصدر بغى يبغي بغياً، والمراد بأهل البغي الخوارج الذين يخرجون على أئمة المسلمين.
قوله: «إِذَا خَرَجَ قَوْمٌ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ عَلَى الإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فَهُمْ بُغَاةٌ» القوم هم الرجال، والنساء الإناث، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] ، وقال الشاعر:
وما أدري ولست إخال أدري
أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساء
وهذا إذا قرن القوم مع النساء، وأما عند الإطلاق فيشمل الرجال والنساء، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] وما أشبهه.
فقوله: «إذا خرج قومٌ» يعني جماعة من الرجال؛ لأنهم هم الذين لهم الشوكة والمنعة.
وقوله: «شوكة» يعني قوة، وسميت القوة شوكة لنفوذها، كما تنفذ الشوكة في الجسم، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] .
وقوله: «منعة» أي: امتناع، أي: أنهم قوم كثيرون(14/395)
يمتنعون عن أن ينالهم الإنسان بسهولة، فهم جيشٌ.
وقوله: «على الإمام» وهو الذي نصبه المسلمون إماماً لهم، يعني الخليفة، أو أمير المؤمنين.
وهنا تكلم الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على شروط الإمامة؛ وبماذا تحصل؟ فتحصل الإمامة بأمور:
أولاً: بالنص عليه، أي: بأن ينص عليه الإمام الذي قبله، وهذا هو العهد كما حصل من أبي بكر لعمر (1) ـ رضي الله عنهما ـ.
ثانيًا: باجتماع أهل الحل والعقد عليه، يعني وجهاء البلاد، وشرفاء البلاد، وأعيان البلاد، يجتمعون على هذا الرجل المعين، وينصبونه إماماً، ومن ذلك الصورة المصغرة التي اختارها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فإن عمر لم يعهد إلى شخص معين، ولم يجعل الأمر عاماً بين المسلمين، ولكنه جعل الأمر بين ستة أشخاص، تخيرهم ـ رضي الله عنه ـ، وعلل تخيره إياهم بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي وهو عنهم راضٍ (2) ، فجعل الأمر بينهم، وهذا نوع من اختيار أهل الحل والعقد، ونوع من العهد بالخلافة إلى معين؛ لأن الخليفة لا يخرج عن هذه الدائرة الضيقة، وهم ستة فقط، يعني لو أن هؤلاء الستة اختاروا رجلاً من غير الستة فإنه لا يصح
__________
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (2/566) ، والخلال في السنة (1/275) ، والبيهقي في الاعتقاد (368) ط/
دار الآفاق الجديدة، والأثر صححه عبد الله بن أحمد.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب ما جاء في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ... (1392) ، ومسلم في المساجد
ومواضع الصلاة/ باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً ... (567) .(14/396)
اختيارهم؛ لأنه خلاف ما عهد به الخليفة السابق.
ثالثًا: بالقهر، بأن يخرج إمام على شخص فيقهره، ويقهر الناس، ويستولي، ويأخذ السلطة.
أما شروط الإمام فقد ذكرها أهل الفقه في كتب الفقهاء، واختلفوا ـ أيضاً ـ فيها، فلم يتفقوا على جميعها، لكن إذا كان الإمام منتصباً بأحد العوامل الثلاثة السابقة، النص، والإجماع، والقهر، فخرج عليه قوم لهم شوكة ومنعة، بتأويل سائغ، أي لم يخرجوا هكذا، بأن قالوا: لا نريد حكمك، بل قالوا: خرجنا عليك؛ لأنك فعلت كذا، وفعلت كذا، ونرى أن هذا يسوِّغ لنا الخروج عليك، فخرجوا على الإمام، يقول المؤلف في جواب الشرط: «فهم بغاة» أي: جائرون ظلمة، وهؤلاء هم المعروفون بالخوارج، الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ.
فالشروط أن يكونوا قوماً، لهم شوكة ومنعة، ويخرجون على الإمام، بتأويل سائغ.
فإن خرج رجل واحد على الإمام؛ وقال: تنازل عن الخلافة وإلا قتلتك، قال العلماء: إذا اختل شرط واحد فهم قطاع طريق، فهذا الرجل نعتبره قاطع طريق، ونعامله معاملة قاطع الطريق.
فإن خرج قوم ليس لهم شوكة، ولا منعة على الإمام، ومعهم عِصِي من جريد قديم، يريدون أن يزيلوا الإمام عن إمامته، فإنهم قطاع طريق؛ لأنه ليس لهم شوكة ولا منعة.
وهل الشوكة والمنعة نسبة إضافية، بمعنى أن هذه الشوكة والمنعة قد تكون شوكة ومنعة في زمان، ولا تكون شوكة ومنعة(14/397)
في زمان آخر؟ فالسيوف، والخناجر، والرماح في زمن من الأزمان تعتبر شوكة، لكن في زماننا هذا لا تعتبر شوكة فيما يظهر، اللهم إلا في بعض الحالات، أما في الأعم الأغلب فليست بشوكة، فكل هؤلاء الذين يبلغون عشرين ألفاً أو أكثر تكفيهم طائرة واحدة، تبيدهم عن آخرهم، فهنا يمكن أن نقول: إن الشوكة والمنعة تختلف باختلاف الأزمان والأحوال.
وقوله: «على الإمام» فلو خرجوا على أمير في قرية، ليس على الإمام، وهم قد بايعوا الإمام، ولكن لا يريدون هذا الأمير، فهؤلاء ليسوا بغاة؛ لأنهم ما نزعوا يداً عن طاعة، لكنهم لا يريدون هذ الرجل المعين، والمؤلف يقول: «على الإمام» .
وقوله: «بتأويل سائغ» خرج به ما إذا خرجوا بغير تأويل، أو بتأويل غير سائغ، مثال خروجهم بتأويل غير سائغ أن يقولوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه؟! فهذا تأويل لكن غير سائغ؛ لأن هذا لا يمنع أن يكون إماماً.
ومثال خروجهم بغير تأويل أن يقولوا: لا نريده، أو نفوسنا لا تقبل هذا الإمام أبداً، فهؤلاء قطاع طريق وليسوا بغاة، وتختلف معاملتنا لهم عن معاملتنا للبغاة؛ لأن قطاع الطريق نجري عليهم الحد السابق، أما البغاة فلا، بل يجب على الإمام أن يراسلهم، ولهذا قال المؤلف:
وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاسِلَهُم فَيَسْأَلَهُمْ مَا يَنْقِمُونَ مِنْهُ فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا، وَإِنِ ادَّعَوْا شُبْهَةً كَشَفَهَا، فَإِنْ فَاؤُوا، وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ،................
«وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاسِلَهُمْ فَيَسْأَلَهُمْ مَا يَنْقِمُونَ مِنْهُ» «ما» هنا استفهامية، معلِّقة لـ «يسألهم» عن العمل، فالجملة في محل نصب مفعول ثان لـ «يسألهم» .(14/398)
و «ينقمون» ، أي: ينكرون، كما قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج: 8] أي: ما أنكروا منهم إلا ذلك.
فعلى الإمام أن يراسلهم لا يقاتلهم ولا يقتلهم، فيرسل إليهم شخصاً موثوقاً مَرْضِيّاً عند الجميع، فيتفاهم معهم، ويسألهم ما ينقمون.
قوله: «فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا» لأن خروجهم من أجل إزالة المظالم خروج بتأويل سائغ، فالإنسان لا يجوز له أن يظلم الناس، وإن كان له السلطة العليا عليهم؛ لأن إزالة الظلم واجبة، سواء طولب به من جهة الشعب، أم لم يطالَب به، فإن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا» (1) ، هكذا جاء في الحديث القدسي الذي رواه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربه، فيجب عليه إزالتها، وأن يرد المظالم إلى أهلها، ويمنع الظلم المستقبل، وهذا وإن كان واجباً عليه من الأصل؛ لأن الظلم محرم، لكن إذا كان بعد طلب هؤلاء ازداد وجوباً؛ لحقن دماء المسلمين؛ لأنه لو أصر على أن يبقى على مظلمته لحاربه هؤلاء، وحصل الشر.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن تكون المظلمة عامة أو خاصة.
مثال العامة: أن يضع ضرائب على الناس في تجارتهم، أو أن يلزمهم بهدم بيوتهم، وبنائها على الشكل الذي يريد، أو
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم (2577) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.(14/399)
يلزمهم بإخراج شيء من بيوتهم إلى الشوارع بغير عوض، وما أشبه ذلك من المظالم التي تكون عامة لجميع الرعية.
مثال الخاصة: أن يظلم شخصاً معيناً في ماله، أو في نفسه.
قوله: «وَإِنِ ادَّعَوْا شُبْهَةً كَشَفَهَا» سواء في حكم، أو في حال، في حكم بأن قالوا: إنك منعت من كذا، وقلت: إنه حرام، ونحن لم يتبين لنا تحريمه، أو قالوا: إنك قلت هذا واجب، وألزمت الناس به، ونحن لم يتبين لنا وجه إيجابه، أو: أمرت بقتال هذه الفئة، ونحن لم يتبين لنا جواز قتالها، أو قالوا: أنت فعلت كذا وكذا، وهذا أمر مشتبه علينا، مثل لو عاهد المشركين معاهدة سلمية، وقالوا: نحن لا نقبل هذا، فالجهاد قائم إلى يوم القيامة، فهذه شبهة يجب عليه أن يبينها ويكشفها، ويقول لهم: أنا عاهدت هذه المعاهدة للضرورة؛ لأني رأيت أنه لا قِبَلَ لي بمقاتلة هذا العدو، فرأيت المعاهدة خيراً من عدمها، وأنا أستعد الآن ولن أدع قتال العدو، ولن أبطل الجهاد بهذه المعاهدة، لكني رأيت أن المعاهدة فيها مصلحة، ودرء مفسدة، وأنا أضمن لكم أن أقيم الجهاد، وأرفع علمه متى حانت الفرصة، فحينئذٍ يكون قد كشف لهم الشبهة وبينها.
كذلك ـ مثلاً ـ لو جعل ضريبة على أموال من أموال الناس، وقالوا: لماذا تجعل هذه الضريبة؟ نحن لا نقبل، هذا ظلم ومكس، وقال: أنا جعلت ضريبة من أجل أن أخفف من استيراد هذا الأمر الذي فيه ضرر على الناس، وهذه الضريبة التي أجعلها سأصرفها في مصالح المسلمين، فأنا أدفع بهذه الضريبة(14/400)
الضرر المتوقع من كثرة هذا الشيء بين أيدي الناس، وأصرفها إلى مصالح أخرى من مصالح المسلمين.
المهم أنهم إذا ذكروا شبهة وجب عليه أن يكشفها، فلو قال مثلاً: ارجعوا وراءكم أنا الإمام، ولا لأحد عليَّ اعتراض، لا أسأل عما أفعل، وأنتم تسألون، فماذا نقول؟ نقول: هذا لا يجوز، وحرام عليه أن يقول هذا القول.
فإن قال قائل: كيف يلزمه أن يبين الشبهة، وهو ولي الأمر، وليس لأحد أن يحاسبه؟
فالجواب: أنه يلزمه أن يبين ذلك درءاً للمفسدة، وليكون له عذر إذا قاتلهم؛ حتى لا يقول قائل: إنه قاتلهم قتالاً أعمى؛ لأنه إذا بَيَّن الحق، وأزال الشبهة، ثم أصروا على القتال، فله العذر في مقاتلتهم، فإذا أزال المظلمة، وكشف الشبهة، واستقام على ما ينبغي أن يكون عليه، ولكنهم أصروا أن يقاتلوا، قال المؤلف:
«فَإِنْ فَاؤُوا وَإِلاَّ قَاتَلَهُمْ» وجوباً، لا استحباباً، ولا إباحة، فإذا فاؤوا ورجعوا، وأغمدوا سيوفهم، وذهبوا إلى بيوتهم، فذلك هو المطلوب، وهو الذي به الأمن والاستقرار، وإن أبوا قاتلهم وجوباً لدفع شرهم، ولهذا قال المؤلف: «قاتلهم» ولم يقل: قتلهم، والفرق أنه في القتال إذا كف المقاتل وجب الكف عنه، ولا يجوز اتباعه، ولا الإجهاز على جريحه، ولا أن نغنم ماله، ولا سبي ذريته؛ لأنه يجوز قتاله فقط، ولا يجوز قتله، فإذا أدبروا وانهزموا فإننا لا نتبعهم، فليس كل من جاز قتاله جاز قتله، ولهذا يقاتل الناس إذا تركوا الأذان مثلاً، ولكن هل يجوز قتلهم؟ لا، فلو أن ناساً تركوا(14/401)
الأذان في قرية فيها مائة وخمسون نفراً، والإمام باستطاعته أن يبيدهم في ربع ساعة؛ فإنه لا يجوز أن يقتلهم، لكن يقاتلهم بمعنى يلزمهم بالأذان، وإن أدى إلى المقاتلة، ومن هنا يظهر السر في قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] ، لم يقل: فقاتلوهم، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: إن قاتلوكم فسيجعل الله لكم التمكين حتى تقتلوهم، فهو كقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن من قتل مظلوماً فسوف يظهر الله قاتله ويقتل، ولهذا قال: {فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، فيكون المعنى إن قاتلوكم فستكون الدولة لكم عليهم، فاقتلوهم.
الثاني: إن قاتلوكم فاقتلوهم وإن وضعوا السلاح؛ لأنهم بانتهاكهم حرمة المسجد الحرام كانوا مستحقين للقتل.
فالمهم أن هناك فرقاً بين القتال وبين القتل، فهؤلاء البغاة إذا لم يرجعوا فإن الإمام يجب عليه أن يقاتلهم، ويجب على رعيته أن يعينوه على قتالهم، فإن قالت الرعية: نحن لا نقاتل قوماً مسلمين، كيف نقاتلهم، وكيف نحمل السلاح عليهم؟! قلنا: لأنهم بغاة، فقتالهم من باب الإصلاح، وإذا لم يمكن الإصلاح إلا بقتالهم وجب، فيجب على الرعية طاعة الإمام إذا أمر بالخروج معه لقتال هؤلاء.
بقي أن يقال: هنا حال ثالثة؛ لأن المؤلف ذكر حالين:
الأولى: أن يكف هؤلاء عن القتال إذا بُيِّن لهم الأمر فنكف عنهم.(14/402)
الثانية: ألا يرجعوا، بل يستمروا في الخروج، فحينئذٍ يجب على الإمام أن يقاتلهم، ويجب على الرعية أن يساعدوا الإمام.
الثالثة: إذا لم يكشف الشبهة، ولم يزل المظلمة، بأن قالوا: نريد إزالة المظلمة الفلانية، قال: لا أزيلها، أو نريد أن تكشف لنا وجه ما فعلت، ووجه حكمه من الكتاب والسنة، قال: لا، ففي هذه الحال إن فاؤوا فالأمر واضح وانتهى الإشكال، لكن إن أبوا قالوا: ما دمت لم تزل المظلمة، ولم تكشف الشبهة لنا، فإننا سنقاتل، فليس لهم قتاله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في الأمير: «اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» (1) ، ونهى صلّى الله عليه وسلّم أن ينزع الإنسان يداً من طاعة، إلا أن يرى كفراً بواحاً عنده فيه من الله برهان (2) ، ومن أجل أنه لا يجوز لهم الخروج عليه، فهل يجوز له قتالهم درءاً للمفسدة أم لا؛ لأن السبب الذي قاموا من أجله لا يحل لهم القتال من أجله، إذاً فهم معتدون، ودفع اعتداء المعتدي واجب؟ فأنا أتوقف في هذا، هل يجب عليه أن يقاتلهم، ويجب على رعيته أن يعينوه أم لا؟ فتحتاج المسألة إلى مراجعة، أما كلام المؤلف فظاهر أنه إنما يقاتلهم إذا بين لهم الشبهة، وأزال المظلمة.
مسألة: وهل يقع التوارث بين هؤلاء وبين أقاربهم الذين مع الإمام؟
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ... (1847) عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله
عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الفتن باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سترون بعدي أموراً تنكرونها» (7056) ،
ومسلم في المغازي باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1709) (42) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه
ـ.(14/403)
الجواب: يقول العلماء: إن القتال الواقع بين هؤلاء غير مقصود في الحقيقة، ولذلك لا يمنع التوارث، وقد سبق في كتاب الفرائض أنه إذا قتل العادلُ الباغيَ، أو الباغي العادلَ فإنهم يتوارثون.
وذهب بعض العلماء إلى أنه إن كان القاتلُ العادلَ ورث من الباغي، وإن كان القاتلُ الباغيَ لم يرث من العادل؛ لأن قتال العادل بحق، وقتال الباغي بغير حق، وسبق لنا أن هذا قول قوي جدّاً، وأما المذهب فكل منهما يرث الآخر؛ لأن هذا قتال بتأويل.
وَإِنِ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ فَهُمَا ظَالِمَتانِ، وَتَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الأُْخْرَى.
قوله: «وَإِنِ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ فَهُمَا ظَالِمَتَانِ» إن اقتتلت طائفتان من المؤمنين لعصبية أو رئاسة، والفرق بينهما، أن العصبية يكون سببها التفاخر، لا يريد أحد أن يعلو على أحد، لكن تشاجروا فيما بينهم، فقالت كل طائفة للأخرى: أنت القبيلة الفلانية، فيك كذا وكذا، فحَمِيَ الأمر بين الطائفتين، فاقتتلتا.
أما الرئاسة، فكل طائفة تريد أن تكون لها الرئاسة على الأخرى، يعني يريدون أن يكتسحوهم، ويضموهم إليهم، فهما ظالمتان، ولكن هل تَكْفُران؟ لا؛ لأن قتال المؤمن ليس كفراً مخرجاً عن الملة، وقتله ـ أيضاً ـ ليس كفراً مخرجاً عن الملة، فماذا نعمل؟ يقول الله ـ عزّ وجل ـ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10] .(14/404)
قوله: «وَتَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الأُخْرَى» بخلاف ما سبق، فالقتال بين البغاة والإمام ليس فيه ضمان، لكن هذا فيه ضمان، فإن تساوت المتلفات تساقطت، وإذا زاد أحدهما فإنه يضمن له ما زاد.
مثال ذلك: اقتتلت طائفتان لعصبية، فهذه تلفت عليها سيارات، ومواشٍ، وبيوت، وخيام، والأخرى كذلك، فلما انتهى القتال وقَوَّمْنَا ما تلف، وجدنا أن هذه أتلفت على الأخرى ما قيمته مائة ألف، والثانية أتلفت على الأخرى ما قيمته مائة ألف، فماذا نصنع؟
الجواب: يتساقطان، إذ كل واحدة ليس لها شيء على الأخرى، ولو وجدنا أن إحدى الطائفتين أتلفت على الأخرى ما قيمته مائة ألف، والثانية أتلفت على الأخرى ما قيمته خمسمائة ألف، فالتي تلف عليها مائة ألف تضمن أربعمائة ألف للتي تلف عليها خمسمائة ألف.
وهنا إشكال فمعلوم أن هذه الطائفة لم يُتلف كل واحد منها هذا الشيء المعين، يعني قد يتلف بعضهم عشرين سيارة، وهو رجل واحد، وقد يكون بعضهم ما أتلف شيئاً أبداً، وقد يكون بعضهم أتلف دون ذلك، فكيف يكون الضمان على الجميع؟
نقول: لأن من لم يتلف مُعِين وموافق لمن أتلف، فأوجب العلماء الضمان هنا على مجموع الطائفتين، وإن لم يُعلم عين المتلِف؛ لأن بعضهم أولياء بعض، والله ـ عزّ وجل ـ يخاطب بني إسرائيل في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما فعلته في(14/405)
عهد موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ لأن القبيلة أو الطائفة من الناس إذا فعل أحد منهم فعلاً ووافقه الآخرون على ذلك، ولم ينكروه صح أن ينسب إلى الجميع.
وكيف توزع هذه القيمة؟ توزع بعدد الأفراد، فمثلاً إذا قدرنا أن الخسران مائة ألف، وأن عدد القبيلة ألف، فعلى كل واحد مائة.(14/406)
بَابُ حُكْمِ الْمُرْتَدِّ
وَهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ،........................
قوله: «حكم المرتد» المرتد عن الشيء هو الراجع عنه، هذا في اللغة العربية.
وفي الاصطلاح قال المؤلف:
«وَهُوَ الَّذِي يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ» فكل من كفر بعد إسلامه فإنه مرتد، لكن اعلم أن الكفر الوارد في الكتاب والسنة، ينقسم إلى قسمين:
الأول: كفر مخرج عن الملة، وهو الكفر الأكبر.
الثاني: كفر لا يخرج عن الملة، وهو الكفر الأصغر الذي سماه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كفراً دون كفر (1) ، يعني ليس هو الكفر الأكبر.
والمراد هنا في هذا الباب الكفر الأكبر، لا الكفر الأصغر، فقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (2) من القسم الأصغر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] ، مع أنهما طائفتان مقتتلتان، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» (3) ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ما جاء سباب المسلم فسوق (2635) ، والبيهقي في السنن الكبرى (15632) .
(2) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48) ، ومسلم في الإيمان/
باب بيان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (82) عن جابر بن عبد الله ـ رضي
الله عنهما ـ.(14/407)
المراد الكفر الأكبر، كما تدل عليه نصوص أخرى، فكل من كفر بعد إسلامه فإنه مرتد، فإذا أسلم من أجل الراتب، ولما نقص الراتب كفر فهو مرتد؛ لأنه يوجد من الوافدين من يسلمون من أجل أن يبقوا في البلاد، فإذا رجعوا إلى أهليهم ارتدوا، نقول: يعتبر ارتدادهم ردة عن الإسلام؛ لأننا نؤاخذهم بظاهر حالهم، والسرائر لا يعلمها إلا الله ـ عزّ وجل ـ، فما دام هذا الرجل أسلم، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فإنه يكون مسلماً، وإذا عاد إلى ملته الأولى اعتبرناه مرتداً.
وليعلم أن الردة تكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالفعل، وبالترك، هذه أربعة أنواع للردة، بالاعتقاد كأن يعتقد ما يقتضي الكفر وظاهره الإسلام، مثل حال المنافقين، وتكون بالقول كالاستهزاء بالله ـ عزّ وجل ـ والقدح فيه، أو في دينه، أو ما أشبه ذلك، وتكون بالفعل كالسجود للصنم، وتكون بالترك كترك الصلاة مثلاً، وكترك الحكم بما أنزل الله رغبة عنه، أما كراهة ما أنزل الله فهي بالاعتقاد؛ لأنها داخلة في عمل القلب.
قوله: «فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط «أشرك» وما عطف عليه، والجواب «كفر» .
فَمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ، أَوْ جَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ، أَوْ وَحْدَانِيَّتَهُ،...............
وقوله: «فمن أشرك بالله» ظاهره الإطلاق، وأن كل شرك فهو كفر، ولكنه ليس على إطلاقه؛ لأن من الشرك ما هو أصغر، ومن الشرك ما هو أكبر، وهذا الباب إنما يكون في الشرك الأكبر؛ لأنه في باب الردة، فالشرك الأصغر كالحلف بغير الله(14/408)
معتقداً أن تعظيم هذا المخلوق دون تعظيم الله، لكنه حلف به تعظيماً له، وكيسير الرياء، وما أشبه ذلك مما هو معروف، فهذا لا يدخل في الكفر، إلا أن يقال: إنه كفر دون كفر، لكن على كل حال فإنه لا يدخل في كلام المؤلف هنا؛ لأن كلام المؤلف هنا يراد به الشرك الذي يكون ردة، وهذا لا يكون إلا في الأكبر.
وإذا أشرك بالله فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، سواء كان باعتقاد، أو بقول، أو بفعل.
فالاعتقاد بأن يعتقد أن لله تعالى شريكاً في الخلق، أو في التدبير، أو في الملك، أو في العبادة، أو ما أشبه ذلك.
وبالفعل مثل أن يسجد للصنم.
وبالقول مثل أن يدعو غير الله، أو يستغيث به، أو يقول: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وما أشبه ذلك.
فالإشراك سواء كان بالقلب، أو بالقول، أو بالفعل يعتبر ردة عن الإسلام، ومن الإشراك بالله أن يشرك مع الله غيره في الحكم، بأن يعتقد أن لغير الله أن يشرع للناس قوانين، يُحِلِّونها محلٍ شريعة الله، لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] ، وكانوا يحلون ما حرم الله فيحلونه، ويحرمون ما أحل الله فيحرمونه، أما من سنَّ هذه القوانين فقد جعل نفسه في مقام الألوهية، أو في مقام الربوبية، يعني جعل نفسه رباً مشرعاً، ومن أطاعه في ذلك ووافقه عليه فهو مشرك؛ لأنه جعله بمنزلة الرب في التشريع.(14/409)
قوله: «أَوْ جَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ» الجحد غير الشرك؛ لأن الشرك فيه إثبات لشيئين، لكن هذا جحد، قال: إن الله تعالى ليس برب، وليس للناس رب، كالشيوعيين، والدهريين، وطائفة من العلمانيين، ومن أشبههم، فهؤلاء يجحدون الرب، ويقولون كما قال سلفهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] نسأل الله العافية، قد سلخ الله قلوبهم عن اليقين، وعن مشاهدة الآيات {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] ، {وَكَأَيِّن مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، وإلا كيف يمكن لعاقل أن يجحد ربوبية الله ـ عزّ وجل ـ؟! الجاحد لله جاحد لنفسه قبل أن يجحد الله؛ لأننا نقول له: من خلقك؟ هل خلقك أبوك؟! هل أبوك هو الذي خلق هذا الماء الدافق الذي يتكون منه الجنين؟! هل أمك خلقت هذه البويضات التي تحل فيها هذه الحيوانات فتكون بشراً؟! إما أن يقول: لا، وإما أن يقول: نعم، فإن قال: نعم، فنقول: في أي معمل صنعها أبوك أو أمك؟ فسينقطع، وإذا قال: لم يخلقها أبي، ولا أمي، نقول: من خلقها؟ خلقها رئيسك؟ قطعاً سيقول: لا، فمن خلقها؟ النتيجة، سيقول: الله، إلا أن يكابر فلا يجدي الكلام معه، فهذا فرعون يعلم أن الذي أنزل التوراة على موسى ـ عليه السلام ـ هو الله، ويخاطبه موسى بهذا الخطاب: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] ، ولم يقل فرعون: ما علمت، بل سكت، لكن مع ذلك يقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] ، وقال:(14/410)
{يَاأَيُّهَا الْمَلأَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، يقول ذلك عن مكابرة، فالمكابر لا فائدة فيه، وإلا فكيف يمكن لأي عاقل، يتدبر أدنى تدبر أن ينكر ربوبية الله عزّ وجل؟!
فهذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، ونجومه، وشمسه، وقمره، وبحاره، وأنهاره، وأشجاره، وجباله، ووهاده، أحد لا يخلقه؟! لو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا مثل أصغر نجمة وكوكب في السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو جاءت جميع معدات الخلق لتبعث هذا الهواء، الذي يعم المنطقة، ويأتي بهذه الريح العاصفة التي تقلع الأشجار، وتهدم الخيام ما يستطيعون، مَنْ الذي جاء بها إلا الله سبحانه وتعالى؟! ولكني أقول: المكابر المعاند لا فائدة من مجادلته؛ لأنه سيقول: لا أُسَلِّم، وينصرف، فالذي يجحد ربوبية الله لا شك أنه كافر، وهو أعظم من الذي يشرك مع الله؛ لأن المشرك أثبت بعض الحق، ولكن هذا أنكر كل الحق، فمن جحد ربوبية الله فلا شك في كفره.
قوله: «أو وحدانيته» كذلك من جحد وحدانيته، ولعل المؤلف يريد بالواحدنية هنا وحدانية الألوهية؛ لأنه لو أراد بجحد الواحدنية الشرك لكان تكراراً مع قوله: «فمن أشرك بالله» ، لكن لما ذكر الربوبية، ثم الوحدانية، ثم الصفات، فالظاهر أنه يريد بالوحدانية هنا وحدانية الألوهية، يعني من أنكر أن الإله هو الله وحده فقد كفر، مثل أن يعتقد، أو يقول، أو يفعل ما يدل على أنه يرى أن هناك معبوداً يستحق أن يعبد سوى الله، مثل الذين يعبدون اللات والعزى ومناة، يعبدونها يتقربون إليها بالذبح والركوع والسجود، أما الدعاء فهو من العبادة، وله تعلق بالربوبية.(14/411)
وإذا قال: إن هناك شيئاً من المخلوقات يستحق أن يُتأله له ويعبد فهو كافر ومرتد.
أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوِ اتَّخَذَ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَداً، أَوْ جَحَدَ بَعْضَ كُتُبِهِ....................
قوله: «أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ» إذا جحد صفة من صفاته، فظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يكفر مطلقاً؛ لأنه أطلق، لكن تمثيله في الشرح (1) يدل على أن المراد الصفات الذاتية التي لا ينفك عنها، كالعلم، والقدرة، ومع ذلك ففيه نظر، فالجاحد للصفات معناه المنكر لها، والمنكر للصفات يجب أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يجحدها تكذيباً.
الثاني: أن يجحدها تأويلاً.
فإذا جحدها تكذيباً فهو كافر بكل حال؛ لأنه مكذب لما ثبت لله ـ عزّ وجل ـ، والمكذب لشيء من كتاب الله، أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم الثابتة عنه، فهذا كافر.
مثال ذلك: أن يقول: ليس لله سمع، ليس لله وجه، ليس لله يَدٌ، لم يستوِ الله على العرش، وما أشبه ذلك، نقول: هذا كافر؛ لأنه مكذب، وتكذيب خبر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كفر، وسواء كانت الصفة ذاتية، أم فعلية، فلا فرق، حتى لو كذب أن الله ينزل إلى السماء الدنيا قلنا: إنه كافر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينزل» (2) ،
__________
(1) أي: الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/400) .
(2) أخرجه البخاري في الجمعة باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل (1145) ، ومسلم في صلاة المسافرين باب
الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(14/412)
وهذا يقول: لا ينزل، فكأنه يقول: يا محمد كذبت!!
أما القسم الثاني: وهو جحد التأويل، بأن يجحد صفة من صفاته على سبيل التأويل، ليس على سبيل التكذيب، يقول: نعم، إن الله استوى على العرش، لكن معنى استوى استولى، ويقول: إن لله يدين، لكن المراد بهما النعمة والقدرة، وما أشبه ذلك، فهذا على قسمين: إن كان هذا التأويل له وجه في اللغة العربية فإنه لا يكفر؛ لأن هذا هو الذي أداه إليه اجتهاده فلا نكفِّره، إلا إذا تضمن هذا التأويل نقصاً لله عزّ وجل، فإن تضمن نقصاً فإنه يكفر؛ لأن إثباته ما يستلزم النقص هو سب لله عزّ وجل، وعيب له، وسب الله تعالى وعيبه كفر.
وإن لم يكن له مساغ في اللغة العربية فهو كافر؛ لأن التأويل على هذا الوجه معناه الإنكار والتكذيب فلا يكون بذلك مقراً.
مثال ذلك: لو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] : المراد بيديه السماوات والأرض، فهو كفر؛ لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة فلا يكفر؛ لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة.
فصار كلام المؤلف هنا ليس على إطلاقه، نعم؛ لو أنه أصر بعد أن تبين له أن الحق في خلاف تأويله ولو كان له مساغ، فهذا قد يحكم بكفره وردته؛ لأنه أنكر حقيقة الكلام مع العلم بأن تأويله ليس بصواب.(14/413)
قوله: «أَوِ اتَّخَذَ لله صَاحِبَةً» الصاحبة الزوجة، يعني قال: إن الله تعالى له زوجة ـ والعياذ بالله ـ فهذا يكفر، وسواء قالها بلسانه، أو اعتقدها بقلبه فإنه يكون كافراً؛ لأن الصاحبة ما يتخذها إلا من كان محتاجاً إليها؛ لتكمل حياته، أو تبقي نسله، والله ـ عزّ وجل ـ منزه عن ذلك، فهو غني عن العالمين، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فليس بحاجة إلى أن يبقى له نسل، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] ، انظر إلى قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ، بقي قسم ثالث أن يكون هناك تولد؛ لأن بعض الأشياء تتولد ولا تتوالد، تتولد بالعفونات، ولا تتوالد، فنفى ذلك بما هو أعم منه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} ، وقال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] .
فالحاصل أن الذي يتخذ لله صاحبة يكون كافراً:
أولاً: لتكذيبه القرآن.
ثانياً: لتضمن إثباته الصاحبة لله تنقصاً لله ـ عزّ وجل ـ.
قوله: «أَوْ وَلَداً» كلمة «ولد» في اللغة العربية تشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ، يعني لا ذكر ولا أنثى، فقوله: «أو ولداً» ، كأن زعم أن لله ابناً، أو أن لله بنتاً، فهو كافر، ونقول في(14/414)
العلة: لأنه مكذب لله ـ عزّ وجل ـ، ولأنه واصف الله بما يقتضي النقص، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] ، وهذا يقول: إن لله ولداً، وهل أحد من الناس قال: إن لله ولداً؟ نعم، قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فصار اليهود والنصارى على حدٍّ سواء في اعتقادهم في ربهم، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، قال تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينِ} ، وقال: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ، ولهذا يجب علينا أن نبغض النصارى كما نبغض اليهود؛ لأن الكل أعداء الله عزّ وجل، الكل قال الله تعالى فيهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] ، ومن قال: إن النصراني، أو اليهودي أخ لي فهو مثلهم، يكون مرتداً عن الإسلام؛ لأن هؤلاء ليسوا إخوة لنا، الأُخوَّة تكون بين المؤمنين بعضهم لبعض {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، أما هؤلاء فليسوا إخوة لنا، فإذا قال قائل: إنهم إخوة لنا في الإنسانية، قلنا: لكن هؤلاء كفروا بالإنسانية، ولو كان عندهم إنسانية لكان أول من يعظمون خالقهم ـ عزّ وجل ـ، وربهم الذي بعث إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب، وحتى رسلهم بشرت بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] ، وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ في سورة(14/415)
الأعراف على هذا الموضع نصوصاً كثيرة، تدل على أن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ مكتوب في التوراة والإنجيل، وهي نصوص نافعة ملزمة لهؤلاء النصارى واليهود الذين أنكروا نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى عموم الناس، وقالوا: إن محمداً مرسل إلى العرب فقط، وهم كاذبون فيما قالوا، فهو مرسل إلى جميع الخلق، ونقول لهم: إذا أقررتم أنه رسول فقد قامت عليكم الحجة، وأقررتم بعموم رسالته، فأنتم إذا قلتم: إنه رسول إلى العرب فإنكم قد أقررتم بعموم رسالته إلى الخلق؛ وذلك لأنكم إذا قلتم: إنه رسول لزم من ذلك أن يكون صادقاً، وإلا لم يكن رسولاً، فإذا كان صادقاً فقد قال هو: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «وبعثت إلى الناس كافة» (1) .
قوله: «أَوْ جَحَدَ بَعْضَ كُتُبِهِ» سواء كان بعضاً من كتاب، أو بعضاً من كتب؛ مثلاً لو أنكر التوراة، وجحد أن الله أنزلها على موسى صلّى الله عليه وسلّم، كان كافراً؛ لأنه مكذب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإن أنكر أن الله أنزل الإنجيل على عيسى صلّى الله عليه وسلّم، نقول: هو كافر أيضاً، أو أنكر أن الله أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم نقول: هو كافر، أو أنكر أن شيئاً من القرآن نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر أيضاً، وإن أنكر شيئاً من الكتب السابقة بناء على أنه محرف، مثل أن يجد في الكتب التي في أيديهم أن محمداً رسول إلى العرب فقط، وقال:
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (438) ،
ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (523) ، واللفظ للبخاري.(14/416)
هذا ليس في التوراة، ولا في الإنجيل، فهذا لا يكفر؛ لأن هذا كذب قطعاً، فإنه ليس في التوراة، ولا في الإنجيل أن رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة بالعرب، بل كلها تدل على أنها عامة، فقوله: «بعض كتبه» أي: التي ثبت أنها من كتب الله عزّ وجل، فإذا أنكر بعضها فهو كافر.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقول: إن هذا يتبعض، فإذا أنكر بعض الكتاب وآمن بالبعض، قلنا: هو مؤمن بما آمن به، وكافر بما كفر به، كما تقولون فيما إذا عمل معصية لا تصل إلى الكفر: كان مؤمناً بإيمانه، فاسقاً بكبيرته؟
فالجواب: هذا إيمان وليس بعمل، فالعمل يمكن أن يتبعض، لكن الإيمان لا يتبعض، بمعنى أن من أنكر شيئاً من الكتب فهو كإنكار الجميع، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ منكراً على بني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً} [النساء:151] فهؤلاء كفار حقاً، فـ {حَقًّا} مصدر مؤكّد لمضمون الجملة، وعامله محذوف وجوباً؛ لأن هذه الجملة هي معنى «حقاً» ، ولا يمكن أن يجمع بين العوض والمعوض عنه، كما قال ابن مالك:
ومنه ما يدعونه مؤكداً *** لنفسه أو غيره فالمبتدا
نحو: له علي ألف عرفا *** والثانِ كابني أنت حقاً صرفا(14/417)
وقوله: «أو جحد بعض كتبه» والذي نعرف من الكتب التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، والقرآن، هذه نعرفها بأعيانها، ولكن مع ذلك نؤمن بأن كل رسول معه كتاب، كما قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] ، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] لكن منها ما لا نعلمه، وإن كنا نعلم الرسل لكن لا نعلم الكتب التي أرسلت معهم، فالمهم أن من أنكر شيئاً من الكتب، أو أنكر بعضها فهو كافر.
أَوْ رُسُلِهِ............
قوله: «أَوْ رُسُلِهِ» أي: جحد بعض رسله، وكذبهم فإنه يكون كافراً مرتداً عن الإسلام؛ لأن الواجب علينا أن نؤمن بجميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما علمنا منهم وما لم نعلم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، ومن لم يقصصهم الله علينا فإننا لا نعلمهم، فالواجب علينا أن نؤمن بالجميع {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] يعني من حيث الإيمان، فنؤمن بهم جميعاً.
والرسل أولهم نوح وآخرهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، أولهم نوح لقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى(14/418)
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء:163] ، وهؤلاء النبيون رسل لقوله في آخر الآيات: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
ودليل من السنة أن الناس يأتون نوحاً يوم القيامة لطلب الشفاعة فيقولون له في جملة ما يقولون: «أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض» (1) .
فالأدلة على أن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض هو نوح متعددة في القرآن، وفي السنة.
أما آخرهم فمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو آخر الرسل والأنبياء أيضاً، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، وتأمل لِمَ عدل عن أن يقول: وخاتم الرسل، مع أن الحديث في الرسل؛ بل قال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ليتبين أنه لن يأتي بعده لا نبي ولا رسول، فمن ادعى النبوة بعد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، ويدل على هذا ـ أيضاً ـ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، وقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه رسول إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أن الناس لا يحتاجون بعده إلى نبي ولا رسول؛ لأن شريعته ستبقى، ومن ثم قال الله ـ عزّ وجل ـ: {إِنَّا
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} ... } (3340) ، ومسلم في الإيمان باب
أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(14/419)
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فهؤلاء الرسل يجب علينا أن نؤمن بأعيانهم مَنْ علمنا منهم، ومَنْ لم نعلم، فإننا نؤمن بهم على سبيل الإجمال والعموم، ثم إن الإيمان بالكتب، والرسل ينقسم إلى قسمين:
الأول: الأمور الخبرية، فيجب الإيمان بها وتصديقها بدون تفصيل، كل ما جاء، أو كل ما صح من الكتب السابقة، أو عن الرسل السابقين من خبر فإنه يجب علينا أن نصدق به، جملةً وتفصيلاً؛ لأن الخبر لا يمكن أن ينسخ، فما أخبرت به الرسل من قبل، أو الكتب لا يمكن أن ينسخ؛ لأنه خبر عن الله عزّ وجل، وخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يمكن أن ينسخ؛ لأنه لو جاز نسخ الخبر لكان أحد الخبرين كذباً، والكذب محال، اللهم إلا أن يأتي طلب بلفظ الخبر فقد ينسخ؛ لأنه حينئذٍ يكون طلباً، ومعلوم أنه في بعض الأحيان تأتي الصيغة الخبرية مراداً بها الطلب.
الثاني: الأحكام التي في الكتب السابقة، وعند الرسل السابقين، فإن هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما جاءت شريعتنا بتقريره، فهذا يجب الإيمان به؛ لأن شريعتنا قررته وحكمت به فنؤمن به؛ لأن توجُّه الطلب به من جهتين: من جهة الشريعة الإسلامية، ومن جهة الشريعة السابقة.
الثاني: ما جاءت شريعتنا بخلافه، ونسخته، فلا يجوز العمل به؛ لأنه منسوخ، وما نسخه الله ـ عزّ وجل ـ فإنه قد انتهى حكمه، حتى المنسوخ في شريعتنا لا يجوز العمل به؛ لأن الله(14/420)
ـ تعالى ـ أنهاه، فلا يجوز أن نتعبد لله ـ تعالى ـ بما لم يرتضِ الله سبحانه وتعالى أن يبقى لنا شرعاً.
الثالث: ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا وفاقه، وهذا محل خلاف بين العلماء، هل هو شرع لنا أم لا؟ فمنهم من قال: إنه ليس بشرع؛ لأن الأصل أن شريعتنا نسخت ما سبقها، فلا يبقى ما سبقها شرعاً، إلا ما أيدته وقررته.
ومنهم من قال: إنه شرع لنا، وهذا القول هو الراجح، بل المتعين؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول لما ذكر الرسل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] ، وهذا عام، وقال ـ عزّ وجل ـ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] ، ولكن هل هو شرع بالتشريع السابق، أو بالتشريع اللاحق؟ الجواب: أنه شرع بالتشريع اللاحق؛ لأننا استدللنا على أنه مقرر بأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذٍ يكون الفرق بينه وبين القسم الأول، أن الأول نصت الشريعة عليه بعينه، وهذا ذكرته على سبيل الإجمال.
أَوْ سَبَّ اللهَ أَوْ رَسُولَهُ فَقَدْ كَفَرَ،......................
قوله: «أَوْ سَبَّ اللهَ» أي: وصفه بالعيب، وأعظم السب أن يلعن الله ـ والعياذ بالله ـ أو يعترض على أحكامه الكونية، أو الشرعية بالعيب، ولو على سبيل اللمز والتعريض، حتى لو كان تعريضاً فإنه يكفر؛ لأن هذا امتهان لمقام الربوبية، وهو أمر عظيم، فمن سب الله، سواء بالقول أم بالإشارة، وسواء كان جادّاً أم هازلاً، بل سَبُّ الله هازلاً أعظم وأكبر، فإنه يكون كافراً لقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ(14/421)
وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *} {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66] ، ولأن سب الله ـ عزّ وجل ـ تنقُّص له فيكون خسراناً، فكل من تنقَّص الله بقوله، أو فعله، أو قلبه فهو كافر؛ لأن الإيمان إيمان بالله عزّ وجل، وبما له من الصفات الكاملة، والربوبية التامة، فإذا سب الله فإنه يكون كافراً، حتى وإن قال: إنما قلت ذلك هازلاً لا جادّاً، نقول: هذا أقبح أن تجعل الله تعالى محل الهزء، والهزل، والسخرية.
قوله: «أَوْ رَسُولَهُ» كذلك إذا سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه كافر.
وقوله: «رسوله» ينبغي أن نجعلها من باب المفرد المضاف؛ حتى يشمل جميع الرسل، فمن سب أي رسول من الرسل فإنه كافر؛ لأن هذا ليس تنقُّصاً للرسول بشخصه، بل هو تنقُّص لرسالته، وهي الوحي، ويتضمن تنقصاً للذي أرسله؛ فسب الرسول سب لمن أرسله؛ لأنه لا شك أنه من النقص أن يُرسَل بشر إلى الخلق يستبيح دماءهم، وأموالهم، وذراريهم، وهو محل النقص، فهذا يعتبر سفهاً، ولهذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، فهو سبحانه وتعالى ما جعل الرسالة إلا فيمن هو أهل لها، وجدير بها؛ لما علم ـ سبحانه وتعالى ـ في سابق علمه أنه أهل لتحمل ما كلف به، وليس كل أحد يكون أهلاً للرسالة، ولهذا قال السفّاريني رحمه الله ـ أقوله مستشهداً لا مستدلاً ـ:
ولا تنال رتبة النبوة *** بالكسب والتهذيب والفتوة(14/422)
لكنها فضل من المولى الأجل *** لمن يشاء من خلقه إلى الأجل
فالحاصل أن سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سب لمن أرسله، ومنافٍ لحقه الذي هو أوجب الحقوق البشرية، وحقه التعظيم، والإجلال، والتوقير، حتى إن الله ـ عزّ وجل ـ جعل من أسباب الرسالة، ومن حكمة الرسالة أن نؤمن بالله ورسوله، ونعزره ونوقره: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8، 9] ، فهذا ركن وأساس وحكمة من حكم إرسال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا شك أن سبَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع كونه تنقصاً له ولمن أرسله، فهو أيضاً تنقص لشريعته؛ ولهذا إذا سب أحد من الناس رجلاً فإن سبه ينعكس على منهاجه الذي انتهجه، ويكون نفس المنهاج الذي انتهجه عند الناس منقوصاً؛ لأنه سب من قام بهذا المنهج، فسب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذاً تضمن ثلاثة أمور، كل واحد منها كفر: سب الله، وسب الرسول، وسب شريعته.
قوله: «فقد كَفَرَ» هذه الجملة جواب الشرط في قوله: «فمن أشرك بالله» والمراد كفر كفراً مخرجاً عن الملة، ولا نقول: إنه كفر كفراً دون كفر؛ لأن هذا الباب باب حكم المرتد، يعني الكافر كفراً مطلقاً.
ثم انتقل المؤلف لنوع آخر من أسباب الردة، وهو الجحد، ويدخل في الاعتقاد؛ لأن الجحد إن كان بالقلب فهو في الاعتقاد، وإن كان باللسان فهو من القول، فقال المؤلف:(14/423)
وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ.
قوله: «وَمَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ الزِّنَا، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الظاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا بِجَهْلٍ عُرِّفَ ذلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لاَ يَجْهَلُهُ كَفَرَ» إن جحد تحريم الزنا، بأن قال: الزنا حلال والعياذ بالله، فينظر إن كان جاهلاً لم يكفر، وإن كان عالماً كفر، لكن أي ميزان ندرك به أنه عالم، أو غير عالم؟ إذا كان ناشئاً بين المسلمين فإن هذا يقتضي أن يكون عالماً فيكفر، وإن كان حديث عهد بإسلام، أو ناشئاً ببادية بعيدة؛ لأن البادية والأعراب بعيدون عن معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن هذا لا يكفر إذا أنكر تحريمه وادعى أنه جاهل، لكن إذا عُلِّم فأصر فهذا يكفر.
وقوله: «أَوْ شَيئاً مِنَ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ المُجْمَعِ عَلَيْهَا» مثل تحريم الربا، فقال: الربا حلال، يعني ما جحد تحريم نوع معين مما يجري فيه الخلاف بين العلماء، فمثلاً تفاحة بتفاحتين ربا عند الشافعي، وليست ربا عند الإمام أحمد، فلو قال: أصحاب الإمام أحمد: إن تفاحة بتفاحتين حلال لا يكفرون، لكن مراد المؤلف إذا أنكر تحريم الربا جملة، فهذا كافر بلا شك؛ لأن تحريم الربا نص في القرآن: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فيكون جحد تحريمه تكذيباً لله ـ عزّ وجل ـ فيكون كافراً.
وتحريم الربا من حيث الجملة مجمع عليه إجماعاً قطعياً،(14/424)
فكل المسلمين يجمعون على أن الربا محرم، وأيضاً الخمر مجمع عليه إجماعاً قطعيّاً بين المسلمين، فإذا قال قائل: إن الخمر ليس بحرام فهو كافر، لكن بشرط أن يكون ناشئاً بين المسلمين، وعارفاً لأحكام الإسلام، أما لو فرض أنه أسلم حديثاً ولا يعلم، وهو في حال كفره يشرب الخمر، فوجدناه يشرب الخمر بعد إسلامه، فسألناه كيف تشرب الخمر؟! قال: الخمر حلال، فإن هذا لا يكفر؛ لأنه جاهل، وجاحد التحريم إذا كان جاهلاً به فإنه لا يكفر، ولهذا قيده المؤلف بقوله: «وإن كان مثله لا يجهله» .
وقوله: «المحرمات الظاهرة» احترازاً من المحرمات الخفية التي لا يطلع على تحريمها إلا العلماء، فإن هذه لا يكفر منكر تحريمها؛ لأن الناس عامتهم يجهلونها.
قال العلماء أيضاً: «أو أنكر تحليل المحللات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكون كافراً، مثل حل الخبز، أو بيض الدجاج.
قال صاحب الإقناع (1) : قال الشيخ ـ أي: شيخ الإسلام ابن تيمية ـ فصاحب الإقناع إذا قال: الشيخ، فهو شيخ الإسلام ابن تيمية، كما ذكر ذلك في أول كتابه، لكن إذا رأيت الشيخ في الإنصاف أو الفروع أو التنقيح فالمراد به الموفق (2) ، فقال
__________
(1) هو العلاّمة شرف الدين أبو النجا الحجاوي المتوفى عام 960هـ رحمه الله تعالى، وقد قرئ هذا الفصل من
كتاب الإقناع، من باب حكم المرتد (4/297 ـ 301) ط. مكتبة الرياض الحديثة.
(2) هو العلاّمة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى عام 620هـ رحمه الله تعالى.(14/425)
ـ رحمه الله ـ: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ولو مميزاً طوعاً، ولو هازلاً.
فقوله: «طوعاً» احترازاً مما إذا أكره، فإذا أكره على الكفر فكَفَر، فإن فعله لداعي الإكراه ـ أي: دفعاً للإكراه ـ فلا يكفر لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] ، وأما إذا فعله لا لداعي الإكراه، لكنه لما أكره كفر، وليس في قلبه تلك الساعة أنه يريد بذلك مدافعة الإكراه، فقد اختلف العلماء هل يكفر أو لا؟ والصحيح أنه لا يكفر؛ وذلك لأنه غير مريد لذلك، ولا مختار له، وعموم الآية يشمل هذا.
أما إذا فعله مطمئناً بذلك، وقال في نفسه: لما أكرهت على الكفر كفرت، فلا شك أنه يكفر؛ لأن قلبه حينئذٍ غير مطمئن بالإيمان.
فصار المكره له ثلاث حالات:
إما أن يفعل ذلك لدفع الإكراه، فهذا لا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعل ذلك مطمئناً بما أكره عليه، فهذا يكفر قولاً واحداً.
أو يفعله غير مطمئن، لكن لأنه مكره وهو لا يريد ذلك، فهذا فيه خلاف، والصحيح أنه لا يكفر.
وكذلك نقول في مسألة الإكراه على الطلاق وشبهه، وجامع ذلك أنه لا اختيار له، ولا إرادة له، وهو يحب أن تنطبق عليه السماء، ولا يكفر.
وقوله: «ولو هازلاً» يعني ولو مازحاً، بل قد يكون الهازل(14/426)
أعظم من الجاد؛ لأنه جمع بين الكفر والهزء بالله عزّ وجل، فمن سخر بالدين، وقال: أنا ما قصدت إلا المزح والضحك، قلنا: إنك كفرت، وإذا كنت صادقاً فتب إلى الله عزّ وجل، واغتسل وعد إلى الإسلام، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها.
قال صاحب الإقناع: «أو جحد الملائكة» لو جحد الملائكة فهو كافر، أو جحد الجن، فهو ـ أيضاً ـ كافر؛ لأنه مكذب للقرآن، فأما من جحد دخول الجني في الإنس فهو ضال، وليس بكافر فهو ضال؛ لأنه قال قولاً ينكره الواقع، وينكره الثابت بالأخبار عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وعن غيره، وفي حديث الصبي الذي جاءت به أمه إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يُصرَع، فقال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ للجن الذي فيه: «اخرج عدو الله، فإني رسول الله» ، فخرج الجني من هذا الصبي، فلما رجع ـ عليه الصلاة والسلام ـ من غزوته، وكان قد قال لأمه: أخبريني عن شأنه، وجد أمه قد أعدت للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ شاة، وسمناً، وأقِطاً، وأخبرته أن ولدها شُفي، ولم يعد إليه ذلك الجني، والحديث صحيح (1) ، والأخبار كثيرة عن أئمة المسلمين وعلمائهم في ذلك فلا تنكر، وكان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يؤتى إليه بالمصروع، فيضربه، ويخاطب الجني، ويعاهده، فيخرج ولا يعود، وحكى عنه تلميذه ابن القيم أنه ـ رحمه الله ـ جيء إليه برجل مصروع، فأُلقي بين يديه، فكلم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/172) ، والحاكم في المستدرك (2/617، 618) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي
عن يعلى بن مرة عن أبيه رضي الله عنه.(14/427)
الجنية التي صرعته، وقال لها: اخرجي، قالت: إني أحبه، قال: هو لا يحبك، قالت: إني أريد أن أحج به، قال: هو لا يحب أن يحج معك، ثم جعل يعظها، وأبت أن تخرج، فجعل يضرب الرجل على رقبته حتى كَلَّت يد شيخ الإسلام فخرجت، لكنها قالت: أخرج كرامة للشيخ، قال: لا، اخرجي طاعة لله ورسوله، فخرجت، فلما أفاق الرجل قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ، فقيل له: ما أحسست بهذا الضرب؟ قال: لا والله ما أحسست به!!
انظر كيف يقع الضرب من الصارع، ولا يحس المصروع!! وهذه المسألة لا ينكرها أحد أبداً؛ لأن الشيء المعلوم بالحس إنكاره يكون مكابرة، وضلالاً، وقد أنكر بعض الناس هذا الأمر خاصة من المعاصرين.
قال الشيخ: «أو كان مبغضاً لرسوله، أو لما جاء به، اتفاقاً، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم إجماعاً. اهـ» .
فالذي يجعل وسائط يتوكل عليهم من دون الله، أو مع الله، أو يدعوهم، أو يستغيث بهم، فهذا كافر بإجماع المسلمين، وسبحان الله أن يكون هذا بإجماع المسلمين ويوجد في الأمة الإسلامية الآن عامة كثيرة يدعون القبور، ومن يزعمونهم أولياء، ويستغيثون بهم، ويتوكلون عليهم أيضاً!!
قال صاحب الإقناع: «أو سجد لصنم، أو شمس، أو قمر، أو أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين» ، فلو أتى(14/428)
بفعل، أو قول غير صريح فإننا لا نكفره؛ لأن الأصل بقاء الإسلام، ولا نخرجه من الإسلام إلا بدليل بيِّن، فالذي يحتمل التأويل لا يكفر به، لكن إذا كان صريحاً في الاستهزاء، سواء كان بالفعل، بأن كان يحكي الصلاة بركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، متهكماً فهذا يكفر.
قال: «أو وُجِدَ منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو ادَّعى أنه مختلف، أو مختلَق، أو مقدور على مثله، أو إسقاط لحرمته» الذي يعلم منه امتهان القرآن، كما لو ألقاه في الزبالة، أو الكنيف، أو وطئ عليه ـ نسأل الله العافية ـ فهذا كفر؛ أو طلب تناقضه، أو ادعى أن فيه تناقضاً، أو اختلافَه، أو اختلاقَه ـ أي: أنه كذب ـ فكل هذا كفر؛ لأن القرآن كلام الله رب العالمين، فأي عيب تسلطه على هذا الكلام العظيم، فإنك مسلطه على من تكلم به، فيكون أيُّ عيب، أو امتهان، أو طلب تناقض، أو فساد، أو ما أشبه ذلك، مما يكون قدحاً في القرآن، فإنه يكون قدحاً في الله تعالى، وبهذا نعلم عظمة هذا القرآن العظيم الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ووالله لولا كثرة المصاحف عندنا لكان الإنسان يطلبه بآلاف الدنانير، كما يوجد الآن في بعض البلاد الإسلامية، فإن بعض الناس يتقاتلون على نسخة من المصحف مقاتلة، وبعضهم يأخذ المصحف وينسخه بيده، وحُقَّ أن يُفعل به ذلك، فإن هذا القرآن كلام الله رب العالمين، فلا كلام أعظم منه، ولا أشد منه حرمة في وجوب العمل به وتنفيذ أحكامه، والتصديق بأخباره.(14/429)
قال: «أو إسقاط لحرمته، أو أنكر الإسلام، أو الشهادتين، أو أحدهما كفر، لا من حكى كفراً سمعه، ولا يعتقده» فلو قال: قال فلان: كذا وكذا، فهذا لا يعتقده، فإن كان يعتقده لكن حكاه تستراً، مثل ما قيل: إن عبد الله بن أُبي كان يحكي الإفك لا ينسبه إلى نفسه، لكنه يعتقده، أي يحب أن يصدر منه، ولو أن أحداً جاء بكلمة كفرية، وليكن أمام شباب يشككهم في الدين الإسلامي، وقال: قال فلان ابن فلان ونسبه إلى غيره، لكن هو يعتقده، فهذا كافر بلا شك في الباطن، أما ظاهراً فلا نكفره؛ لأنه نسبه إلى غيره، وهذا يوجد ـ والعياذ بالله ـ من بعض الزنادقة الذين يتسمَّوْن بالإسلام، يأتون بأشياء تشكك، لكن لا يقولون: نقول، بل يقولون: لو قيل، أو قال فلان، أو أشكل عليَّ كذا.
قال: «أو نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، ولا من جرى على لسانه سبقاً من غير قصدٍ، لشدَّة فرح، أو دهش، أو غير ذلك» ودليل ذلك، الرجل الذي ضاعت ناقته، وبحث عنها، ولم يجدها، فنام تحت شجرة، فلما استيقظ إذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، ففرح فرحاً شديداً عظيماً، فأمسك بخطام الناقة وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك (1) .
فإذاً كما قال شيخ الإسلام: من قال كلمة الكفر لا يعتقد معناها، ولكن قالها لشدة الفرح، أو الذهول، أو ما أشبه ذلك،
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات باب التوبة ... (6308) ، ومسلم في التوبة باب في الحض على التوبة والفرح بها
(2747) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(14/430)
أو سبق لسان، كما يقع في بعض الأحيان، فإن هذا لا يضر، والحمد لله.
قال: «كقول من أراد أن يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ومن أطلق الشارع كفره فهو كفر دون كفر، لا يخرج به عن الإسلام، كدعواه لغير أبيه، وكمن أتى عرافاً فصدقه بما يقول، فهو تشديد وكفر، لا يخرج به عن الإسلام» هذا ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل؛ لأن هذا لا شك أنه عمل كفر، لكن ليس بكفر مخرج من الملة، اللهم إلا أن يقترن به ما يقتضي الكفر، كتصديق الكاهن بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما أشبه ذلك، فهذا يكون كفراً لا من هذه الناحية، لكن من ناحية أخرى.
قال: «وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريءٌ من الإسلام، أو القرآن، أو النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أو يعبد الصليب، ونحو ذلك على ما ذكروه في الأيمان» فمن قال شيئاً من ذلك فهو كافر مرتد، نأخذه بقوله هذا، فإن قال: ما أردت، فإن وجدت قرينة تدل على صدقه تركناه، وإن لم يوجد فإننا نقتله، إلا أن يتوب.
قال: «أو قذف النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أمَّه» وكذلك زوجاته على القول الراجح «أو اعتقد قِدَمَ العالَمِ» .
هذه المسألة فيها نزاع طويل، وهل العالَم قديم بالذات، أو قديم بالنوع، أو قديم بالجنس؟ فيه خلاف، وأحسن ما نقول في هذا الخلاف: إنه لغو من القول، وأن الذي أدخله على الأمة(14/431)
الإسلامية هم الفلاسفة، ومن ظاهرهم من المتفلسفة من علماء المسلمين، وإلا فالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه ما بحثوا في هذا، ولا تكلموا فيه، ونحن في غنى عن ذلك، فهذا لا يزيد الإنسان إلا خوضاً في الباطل، وربما يصل به إلى الشك والحيرة، كما وجد ذلك في كثير من العلماء الذين دخلوا في الفلسفة، وتورطوا فيها، فصاروا كالواقع في جُبٍّ، إن تحرك نزل وإن سكن نزل.
قال: «أو حدوث الصانع» فإذا قال: إن الله حادث بعد أن لم يكن ـ تعالى الله ـ فإنه يكفر؛ لأن الله يقول: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3] ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الحديد: 4] فهو خالق، وما سواه مخلوق.
قال: «أو سخر بوعد الله، أو بوعيده، أو لم يكفِّر من دان بغير الإسلام، كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم» .
هذه مسألة خطيرة، إذا لم يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، فهناك أناس جهال سفهاء، يقولون: إنه لا يجوز أن نكفر اليهود والنصارى، فكيف لا تكفرهم، وهم الذين يصفون ربك بكل عيب؟!
وكيف لا تكفر من قال: إن ربك ثالث ثلاثة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن ربك له أبناء؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن يدي ربك مغلولة؟!
ولماذا لا تكفر من يقول: إن الله فقير؟!(14/432)
إذا قالوا هذا، قلنا: أنتم كفار، ولا شك في كفر من شك في كفركم، ولا أحد يشك في أن اليهود والنصارى والمجوس والوثنيين كلهم كفار، ولو قالوا: آمنا بالله، نقول: كذبتم، أنتم كافرون بالله العظيم وبرسله، والواجب علينا أن نصيح بهم صيحة، تملأ آذانهم بأنهم كفار، وأن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم يوسف، أما أن نداهنهم، ونصانعهم، ونقول لهم: أنتم إخواننا في الدين، أنتم على دين سماوي، ونحن على دين سماوي، وما الخلاف بيننا وبينكم إلا كالخلاف بين الإمام أحمد والشافعي ـ نسأل الله العافية ـ فهذا عين الكفر، وقد حُدِّثتُ أن بعض القائمين على اتحادات في بلاد الغرب يقولون مثل هذا القول، وأنا أشهدكم أننا منهم بريئون ما داموا يقولون بهذا القول، بل إن دين الإسلام منهم بريء، وأنهم يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله ـ عزّ وجل ـ ويرجعوا إلى دينهم، ويقولوا قولاً يفخرون به، وهو: أننا نكفر كل من كفره الله عزّ وجل، والأمر ليس إلينا ولا إليهم، الأمر إلى الله، فمن كفَّره الله فهو كافر، ومن لم يكفره الله فليس بكافر، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: إن الذي لا يكفِّر من دان بغير الإسلام فهو كافر، وصدق رحمه الله؛ لأنه إذا لم يكفره فإن قوله يستلزم أن يقبل الله دينه، وهذا يستلزم تكذيب قول الله ـ عزّ وجل ـ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] فقط، لا غير.
قال: «أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير(14/433)
الصحابة فهو كافر» ، و «قال الشيخ (شيخ الإسلام) : من اعتقد أن الكنائس بيوت الله، وأن الله يُعبد فيها، وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له، ولرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها، وإقامة دينهم، وأن ذلك قربة، أو طاعة فهو كافر» وكثير من الناس مبتلى بهذا اليوم، يعتقدون أن الكنائس بيوت الله، وأنها محل عبادته وطاعته، وأن هؤلاء الذين يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بها هم متقربون إليه، وهذا كفر.
فالمسألة خطيرة؛ لأن دين الإسلام واحد، فالدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الدين الذي جاء به محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فما عدا ذلك فليس بدين، وإن اتخذه أصحابه ديناً، لكنه دين يعبد به الشيطان، أما الرحمن فكلا والله.
وقال في موضع آخر: «من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسَهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عُرّف ذلك، فإن أصر صار مرتداً، وقال: قول القائل: «ما ثَمَّ إلا الله» إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد، من أن ما ثَمَّ موجود إلا الله، ويقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، والخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، والعبد هو الرب، والرب هو العبد، ونحو ذلك من المعاني، وكذلك الذين يقولون: إن الله تعالى بذاته في كل مكان، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل» .
وقال: «من اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو لا يجب عليه اتباعه، وأن له، أو لغيره خروجاً(14/434)
عن اتباعه، وأَخْذِ ما بُعث به، أو قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر، دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من الأولياء من يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخَضِرَ الخروجُ عن شريعة موسى، أو إن هُدى غير النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من هديه فهو كافر» كل هذا قد قيل به، وشيخ الإسلام يرى أنه كافر، فمن زعم ذلك كان كافراً مرتداً، بل إن من زعم أن هناك هدياً مساوياً لهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر.
قال: «من ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} بمعنى قَدَّر، فإن الله ما قدَّر شيئاً إلا وقع، وجعل عُبَّادَ الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفراً بالكتب كلها» أي: قال: قضى ربك قضاء كونياً ألا نعبد إلا الله فلازم ذلك أن كل شيء نعبده فهو الله؛ لأن الله قضاه قضاء كونياً، والقضاء الكوني لا يتخلف، فمعنى ذلك أن كل ما عبدناه فهو مقضيٌّ، ونحن لا نعبد إلا الله، فيقول شيخ الإسلام: هذا أعظم ما يكون من الكفر، وهو صحيح، ونحن نقول: {وَقَضَى رَبُّكَ} يعني قضاءً شرعيّاً ألا نعبد إلا الله، والقضاء الشرعي قد يتخلف.
قال: «من استحل الحشيشة كفر بلا نزاع» الحشيشة شيء يؤكل ويسكر، فمن يقول: هو حلال يكفر بلا نزاع، مثل من استحل الخمر.
وقال: «لا يجوز أن يلعن التوراة، ومن أطلق لعنها يستتاب فإن تاب وإلا قتل» لأن التوراة كتاب منزل من عند الله، يجب علينا أن نؤمن به، لكن لا يجب علينا أن نؤمن أن ما في أيدي(14/435)
اليهود الآن هو التوراة التي أنزلت على موسى، لأن الله تعالى قال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] .
وأخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] فلا نثق بما في أيديهم من الكتب، ويدل لذلك ـ أيضاً ـ دلالة حسية أن هذه الكتب متناقضة، فالأناجيل والتلاميد التي في أيدي اليهود كلها متناقضة، ولو كانت من عند الله، فهل تتناقض؟! لا تتناقض، فكونها تتناقض تناقضاً جوهرياً يدل على أنها محرفة، مبدلة، لكننا نؤمن بأن الله أنزل على عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كتاباً هو الإنجيل، وعلى موسى كتاباً هو التوراة، فيجب علينا أن نؤمن بها، ونقول: كل ما كان فيها من أخبار فهو صدق، وكل ما كان فيها من أحكام فهو عدل وحق، لكن طرأ عليها التحريف، والتغيير، فنحن لا نثق بما في أيدي اليهود والنصارى منها اليوم.
قال: «وإن كان ممن يعرف أنها منزَّلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها، فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما من لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان، فلا بأس عليه في ذلك، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبيِّن أن قصده ذِكرُ تحريفها، مثل أن يقال: نُسَخُ هذه التوراة مبدلة، لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر، فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله» .
* * *(14/436)
فصل
قال: و «قال الشيخ: ومن سب الصحابة، أو أحداً منهم، واقترن بسبه دعوى أن علياً إله، أو نبي، وأن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره» .
وماذا عن سبّ الصحابة رضي الله عنهم على سبيل العموم؟
الجواب: أن من سبهم على سبيل العموم يكفر أيضاً؛ لأن سب الصحابة رضي الله عنهم قدحٌ في الشريعة الإسلامية، إذ إن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا من طريقهم، وسب الصحابة ـ أيضاً ـ سب للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ لأن رجلاً يكون أصحابه محل التنقص، والعيب، والسب لا خير فيه؛ لأن الإنسان على دين خليله، وكيف يمكن لرجل مؤمن أن يقول: إن محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ صحابته من أخس عباد الله، وأظلم عباد الله، وأنهم طواغيت، وما أشبه ذلك؟!
وسب الصحابة يتضمن بالإضافة إلى ذلك سب الله ـ عزّ وجل ـ حيث اختار لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الخلق عنده ـ مثل هؤلاء الرجال، ولأن الله أثنى عليهم فقال: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] . ولذلك فسب الصحابة يتضمن أربعة محاذير:
سبهم، وسب النبي عليه الصلاة والسلام، وسب الشريعة الإسلامية، وسب الله عزّ وجل.
قال: «وكذلك من زعم أن القرآن نقص منه شيءٌ أو كُتم،(14/437)
أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك» وهذا قول القرامطة، والباطنية، ومنهم الناسخية، ولا خلاف في كفر هؤلاء كلهم.
قال الشيخ: ومن قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برأها الله منه كفر بلا خلاف، ومن سب غيرها من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كَسَبِّ واحدٍ من الصحابة، والثاني وهو الصحيح: أنه كقذف عائشة رضي الله عنها» ، وعلى هذا فإن من سب واحدة من أمهات المؤمنين يكون كافراً؛ لأن سبها قدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما فيما يعود على دنس الفراش، وفساد الأخلاق، فإن هذا من أكبر الجرائم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فنقول: من سب عائشة ـ رضي الله عنها ـ أو غيرها من زوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه يكفر على القول الراجح.
وأما سب الصحابة جميعاً فظاهر كلام الشيخ أنه لا يكفر، إلا إذا اقترن به دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط، ولكن هذا فيما يظهر غير مراد؛ لأن دعوى أن علياً إله، أو نبي، أو أن جبريل غلط فأوصل الرسالة إلى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدلاً عن علي، فهذا بمجرده يكون كافراً، سواء سب الصحابة، أو لم يسبهم.
قال: «وأما من سبَّهم سبّاً لا يقدح في عدالتهم، ولا دينهم، مثل مَنْ وصف بعضهم ببخل، أو جبن، أو قلة علم، أو عدم زهد، ونحوه، فهذا يستحق التأديب، والتعزير، ولا يكفرُ، وأما من لعن وقبَّح مطلقاً فهذا محل خلاف، أعني هل يكفر، أو(14/438)
يفسق؟ توقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب، ويجلد ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك، وهذا المشهور من مذهب مالك، وقيل: يكفر إن استحله، والمذهب يعزر كما تقدم أول باب التعزير» .
قوله: «إن استحله» المعروف أن الذين يسبون الصحابة يستحلون ذلك، بل يرون أن سبهم دينٌ، وأنه يجب أن يسبهم إلا نفراً قليلاً، وعلى هذا فيكون هؤلاء كفاراً؛ لأنهم يستحلون سب أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل يرونه ديناً، وعبادة، يتقربون به إلى الله، نسأل الله العافية.
قال: «وفي الفتاوى المصرية يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين، وتنازعوا هل يعاقب بالقتل، أو ما دون القتل؟ فقال: أما من جاوز ذلك، كمن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا نفراً قليلاً، لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب ـ أيضاً ـ في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر ـ انتهى ملخصاً من الصارم المسلول ـ ومن أنكر أن يكون أبو بكر صَاحِبَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد كفر؛ لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] ، وإن جحد وجوب العبادات الخمس، أو شيئاً منها، ومنها الطهارة، أو حِلَّ الخبز، واللَّحم، والماء، أو أحل الزنا، ونحوه، أو ترك الصلاة، أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كلحم الخنزير، والخمر، وأشباه ذلك، أو شك فيه، ومثله لا يجهله كَفَر، وإن استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة، ولا تأويل كَفَر.(14/439)
وإن كان بتأويل كالخوارج لم يحكم بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى، وتقدم في المحاربين، ... ومن ترك شيئاً من العبادات الخمس تهاوناً، فإن عزم على ألا يفعله أبداً استتيب عارفٌ وجوباً كالمرتد، وإن كان جاهلاً عُرِّفَ، فإن أصرّ قُتل حدّاً، ولم يَكْفُر إلا بالصلاة إذا دعي إليها وامتنع، أو شرط، أو ركن مجمع عليه فيقتل كفراً وتقدم في كتاب الصلاة» .
الأركان الخمسة في الإسلام منها ما تركه كفر بالإجماع، مثل شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا لم يشهد فإنه كافر بإجماع المسلمين، وأما بقية الأركان ففيها خلاف، فعن أحمد رواية أنه يكفر بترك ركن منها، سواء كان الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج تهاوناً؛ لأنها كلها أركان، والشيء لا يتم بدون أركانه، ولكن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط ولو تهاوناً، وكسلاً.
واشتراط المؤلف أن يدعوه الإمام، أو أن يدعى إليها، هذا هو ما جرى عليه الفقهاء المتأخرون رحمهم الله، ولكن ليس في كتاب الله والسنة ما يدل على ذلك، بل هو كغيره يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً، ولا يشترط أن يدعوه الإمام، فإن فرض أنه مات قبل الاستتابة، فإنه فيما بينه وبين الله كافر مخلد في النار، أمَّا نحن فلا نحكم بكفره حتى يستتاب، ويصر على تركه للصلاة.
قال: «ومن شُفع عنده في رجل فقال: لو جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع فيه ما قبلت منه، إن تاب بعد القدرة عليه قتل لا قبلها» لأن قوله:(14/440)
«لو أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قبلت» صريح في أنه سيعصي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن إذا علمنا أنه قال ذلك من باب المبالغة، يعني أن أغلى ما عندي، وأوجب من يجب عليَّ قبول شفاعته من الناس هو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعلى ذلك لو جاء ما قبلت شفاعته، فإنه إذا قالها من باب المبالغة فإنه لا يحكم بأنه يجب أن يستتاب، فهناك فرق بين من يقصد معناها، ويقول: لو جاء الرسول ما قبلت، وبين من يريد المبالغة؛ ولكن لو جاء الرسول فعلاً لكان يقبل، فهذا لا يظهر أنه يستتاب؛ لأنه لم يُرِدْ رَدَّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل أراد تعظيم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قال: «ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء، وهو بالغ عاقل مختار دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه، وحبس، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف؛ إلا رسول الكفار، إذا كان مرتداً بدليل رسولي مسيلمة، ولا يقتله إلا الإمام، أو نائبه حراً كان المرتد، أو عبداً، ولا يجوز أخذ فداء عنه، وإن قتله غيره بلا إذنه أساء وعُزِّر، ولم يضمن، سواءٌ قتله قبل الاستتابة أو بعدها، إلا إن يلحق بدار حرب فلكُلٍّ قتلُهُ وأخذُ ما معه من مال» .
إذاً المرتد مباح الدم لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثَّيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (1) ، ولكن ليس كل أحد يتمكن من قتله، بل قَتْلُهُ إلى الإمام، وبهذا نعرف أن الأمور الموكولة إلى ولاة الأمور لا يجوز التعدي فيها؛ لأنه يحصل بذلك فتنة وشر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (41) .(14/441)
فلو أن أحداً رأى منكراً في السوق، وأراد أن يغيره بيده، فنقول: لا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده» (1) ، لكن إذا كان هذا مما يغيره ولاة الأمور، فإنه لا يجوز أن نفتات على ولي الأمر، ونعتدي على حقه، فنفعل نحن بأنفسنا؛ لأن هذا يترتب عليه مفاسد كثيرة أكبر من مصلحة تغييره، ويمكن أن يغير من طريق آخر، وهذه المسائل دقيقة ومهمة، فإن بعض الإخوة الغيورين على دين الله ـ عزّ وجل ـ قد يتجرؤون في مثل هذه الأمور، فيحصل من المفاسد أكثر مما يحصل من المصالح، فالأمور المنوطة بالمسؤولين ليس لنا أن نفتات عليهم، أما غير المنوطة بهم فنغير بأيدينا، وألسنتنا، وقلوبنا، فالمرتد كما قال المؤلف مباح الدم، ومع ذلك لو أن أحداً من الناس قتله فإن المؤلف يقول: يعزر القاتل مع أنه قتل شخصاً حلال الدم، لكن يعزر لافتياته على الإمام، إلا إذا لحق المرتد بدار الحرب، وهم الذين بيننا وبينهم حرب، فإنه حينئذٍ يجوز لكل واحد أن يقتله؛ لأنه صار في حكم هؤلاء المحاربين.
قال: «والطفل الذي لا يعقل، والمجنون، ومن زال عقله بنوم، أو إغماء، أو شرب دواء مباح لا تصح ردته، ولا إسلامه؛ لأنه لا حكم لكلامه، فإن ارتد وهو مجنون فقَتَلَهُ قاتل فعليه القود، وإن ارتد في صحته ثم جُنَّ لم يقتل في حال جنونه، فإذا أفاق
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... (49) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي
الله عنه ـ.(14/442)
استتيب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل» ؛ لأنه قتل معصوماً عمداً وعدواناً.
وقوله: «أو شرب دواء مباح» أفادنا أنه إذا زال عقله بشيء محرم، كما لو شرب مسكراً متعمداً فإنه يؤاخذ بأقواله، فحكمه حكم الذي معه عقله، فإذا طلق وقع الطلاق، وإذا أقر بمال ثبت عليه ما أقر به، وإذا ارتد ثبت عليه حكم المرتد وقتل، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والصحيح خلاف ذلك، وهو أن من شرب مسكراً مع التحريم فإنه لا يعزَّر بأكثر مما جاءت به الشريعة، وهو أن يجلد أربعين جلدة، أو ثمانين جلدة، أو أكثر حسب ما يكون به ردع الناس عن هذا الشراب المحرم، وأما أن نؤاخذه بأقواله، وأفعاله، وهو لا يعقل فلا يمكن.
واختلف العلماء في فعله، هل يؤاخذ به؟
والصواب أن فعله كفعل المخطئ، لا كفعل المتعمد، فلو قتل إنساناً لم يقتص منه؛ لأنه لا عقل له، ولكن تؤخذ منه الدية، إلا إذا علمنا أنه تناول المسكر لتنفيذ فعله فإنه يؤاخذ به، يعني لو فرضنا أن هذا الرجل يريد أن يقتل شخصاً، فقال: إن قتلته وأنا عاقل قتلوني به، ولكن أشرب مسكراً وأقتله، وأنا سكران، ففي هذه الحال نقول: إنه يقتل؛ لأنه سَكِرَ من أجل الوصول إلى العمل المحرم، والعبرة في الأمور بمقاصدها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
* * *
__________
(1) رواه البخاري في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ، ومسلم في
الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.(14/443)
فَصْل
فَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَهُوَ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ دُعِيَ إِلَيْهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،.........
وخلاصة الأمر: أن أقوال السكران غير معتبرة مطلقاً، سواء فيما يتعلق بنفسه، أو بغيره، وأفعاله كفعل المخطئ، فيؤاخذ بالأفعال التي يؤاخذ بها المخطئ، ما لم نعلم أنه أراد الوصول إلى هذا الفعل المحرم بتناول المسكر، فإننا في هذه الحال نعتبر فعله كفعل الصاحي، ويؤاخذ به.
أما إذا كان الذي شرب مسكراً معذوراً بجهل أو نسيان، أو إكراه فإن أفعاله وأقواله غير معتبرة، إلا أن الأفعال يؤاخذ بما يؤاخذ به المخطئ المعذور بجهله، الذي لم يعلم أن هذا الشراب مسكر فشربه، فهذا ليس عليه شيء، أو الناسي الذي يعلم أن هذا الشراب مسكر، ولكن نسي وشرب، أو المكره يكره على شرب المسكر، فهذا معذور لا يقع طلاقه، ولا ينفذ إقراره، ولا يؤاخذ بأفعاله، إلا فيما يؤاخذ به المخطئ (1) .
ثم قال صاحب الزاد مبيناً كيف نعامل من ارتد عن الإسلام:
«فمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلاَمِ وَهُوَ مُكَلَّفٌ مُخْتَارٌ رَجُلٌ أَو امْرَأَةٌ دُعِيَ إِلَيْهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ» «مَنْ» شرطية، جوابها: «دُعِيَ إليه ثلاثة أيام» .
وقوله: «عن الإسلام» المراد بالإسلام هنا الإسلام بالمعنى الخاص، وهو الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن للإسلام معنيين، معنى عام ويشمل كل من أسلم لله سبحانه وتعالى من
__________
(1) انتهى من الإقناع (4/301) .(14/444)
هذه الأمة ومن غيرها، فإن غير هذه الأمة فيهم مسلمون كثير، قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} ... } [المائدة: 44] ، وقال يعقوب لبنيه: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] ، وقال عن إبراهيم: {كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] ، وقالت بَلقيس: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، فهذا الإسلام العام يشمل كل من أسلم لله تعالى، بأن استسلم له ظاهراً وباطناً في كل ملة.
أما بعد بعثة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان الإسلام لا يتناول إلا معنى خاصاً، وهو الاستسلام لله بشريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقط.
لكن اشترط المؤلف فقال: «وهو مكلف» وهذا يتضمن شرطين: البلوغ، والعقل، فإن كان غير عاقل فلا حكم لقوله؛ لأنه مجنون، والمجنون لو قال: إن الله ثالث ثلاثة، أو إن الله اثنان، أو إن الله ليس بموجود، أو ما أشبه ذلك مما يكفر به العاقل فإنه لا يكفر؛ لأنه مجنون.
وفرق بين أن يكون فقد عقله بالجنون، أو بغير ذلك، فلو فقد عقله بآفة غير الجنون كالبرسام مثلاً، أو فقد عقله بحادث وصار يهذي، أو فقد عقله بكِبَر وصار يهذي، أو فقد عقله بشرب مسكر غير عالم به، أو فقد عقله بشرب مسكر معذوراً به، كمن شربه لدفع لقمة غَصَّ بها، لا كمن شربه لدفع عطش، أو ـ على القول الراجح ـ بشرب مسكر غير معذور به فإنه لا يكفر لفقدان العقل.
والبالغ ضد الصغير، فإنه إذا ارتد وهو صغير، فإن ظاهر(14/445)
كلام المؤلف أنه لا يكفر؛ لأنه غير مكلف، وقد رفع عنه القلم، فلو أنه أشرك بأن سجد لصنم، أو ما أشبه ذلك فإننا لا نكفره، كما أنه لو ترك الصلاة لا يكفر، وعلى هذا فلا تصح ردة غير البالغ، وهذا ظاهر كلام المؤلف، وهو الصحيح.
ولكن المذهب أن ردة الصغير المميز معتبرة، ولكنه لا يُدعَى إلى الإسلام إلا بعد بلوغه، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهناك قول ثالث في مسألة الصغير: أن ردته معتبرة، ويُدْعَى إلى الإسلام، فإن تاب وإلا قتل، فالأقوال إذاً ثلاثة، ولكن القول الصحيح أن ردته غير معتبرة لعموم الأدلة الدالة على رفع الجناح عن الصغير.
وقوله: «مختار» هذا هو الشرط الثالث وهو الاختيار، يعني أن تقع منه الردة مختاراً، وضد الاختيار الإكراه، فلو أكره على الردة لم يكفر، بشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، بمعنى أنه لا يريد الكفر، وأنه يكرهه غاية الكراهة لكن أكره عليه ففعل أو قال، فإنه لا يكفر لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] .
وهل يشترط أن يفعله دفعاً للإكراه؟ الصحيح أنه لا يشترط، وأنه لا يكفر، ولو كان لم يطرأ على باله أنه يريد دفع الإكراه؛ لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} ، ولأن العامة خصوصاً لا يشعرون بهذا المعنى ـ أي: لا يشعرون أنهم يريدون بذلك دفع الإكراه ـ لكن أكره على أن يكفر فكفر مع كراهته له، وهذا هو(14/446)
الواقع كثيراً، بل حتى غير العامي مع الذهول، وشدة الموقف ربما يعزب عن باله أن يريد دفع الإكراه.
الشرط الرابع: أن يكون مريداً للكفر، فلو جرى على لسانه بغير قصد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يرده، ويؤخذ هذا من قوله تعالى: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} ؛ لأن غير المريد لم يشرح بالكفر صدراً، مثل أن ينطق بالكفر لشدة فرح، أو غضب، أو ما أشبه ذلك.
ودليله ما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قصة الرجل الذي انفلتت دابته في فلاة من الأرض، وعليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، فأخذه، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح (1) ، فهذه الكلمة كلمة كفر، ولكنه لم يردها، وعليه فلا بد أن يكون مريداً للكفر، فإن كان غير مريد فلا، وبناء عليه نقول: لو أنه حكى كلمة الكفر ولم يقصد معناها، مثل أن يقول: ما تقول في رجل قال: كذا وكذا، ولكنه ما أراد المعنى، أو يحكي كفراً سمعه فإنه لا يكفر لأنه غير مريد.
الشرط الخامس: أن يكون عالماً بالحال والحكم، أما كونه عالماً بالحال، فأن يعلم أن هذا القول أو الفعل مُكفِّر، فإن لم يعلم أنه مُكَفِّر فلا يكفر، مثل أن يتكلم رجل بكلمة كفر، وهو لا يدري ما معناها، كأن يتكلم رجل عربي بكلمة الكفر في لسان العجم، وهو لا يدري أن معناها الكفر، فهذا لا يكفر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (430) .(14/447)
وكذلك أن يتكلم عجمي بكلمة الكفر في لسان العرب وهو لا يدري ما معناها فإنه لا يكفر.
فلو سجد لصنم ما يظن أن ذلك كفر فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يدري ما معناه، ولو علم أنه كفر لكان أشد الناس فراراً منه.
وأما كونه عالماً بالحكم الشرعي، أي: بأن هذا مكفر شرعاً، وهذا أمر خطير جداً.
فالعلم بالحال من باب تحقيق المناط، وهذا من باب العلم بالحكم الشرعي، الذي هو معرفة الدليل، فإنه لا بد من معرفة الدليل، وأن هذا مما يدخل في الدليل.
فلا بد أن يعلم أن هذا الفعل أو القول مكفر، فإن لم يعلم بأن لم يبلغه الشرع أن هذا مكفر فإنه لا يكفر؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول في كتابه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، فانظر إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} ، فمن لم يتبين له الهدى إذا شاق الرسول لا يستحق هذا الجزاء، وإذا ارتفع هذا الجزاء ارتفع سببه، وهو الكفر، وقال الله ـ عزّ وجل ـ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ، فلا بد أن يبين الله تعالى ما يُتقى حتى يتقيه العبد.
وقال ـ عزّ وجل ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، فإذا كان هذا في أصل الدين لم يعذب الإنسان عليه حتى يبعث الرسول، فكذلك في الفروع.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا(14/448)
رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] ، ولا ظلم مِمَّن أتى شيئاً لا يعلم أنه معصية، أو أنه كفر.
وقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» (1) ، والجهل بلا شك من الخطأ، فعلى هذا نقول: إذا فعل الإنسان ما يوجب الكفر، من قول، أو فعل جاهلاً بأنه كفر، أي: جاهلاً بدليله الشرعي، فإنه لا يكفر، ولكن يبقى النظر هل كل إنسان يعذر بالجهل؟
نقول: من أمكنه التعلم فلم يتعلم فقد يكون غير معذور بجهله، وحينئذٍ يخرج من القاعدة العامة، كمن قال: أنا لا أدري أن الصلاة واجبة، وهو يعيش في دار الإسلام، فيقال له: كيف لا تدري، وأنت تشاهد الناس يؤذنون، ويذهبون إلى المساجد ويصلون؟! فأنت غير معذور، فهذه المسألة محل تأمل، هل هذا الذي جهل الحكم معذور بترك التعلم أو لا؟
فيقال: قد يكون معذوراً، أو غير معذورٍ، فإذا فرضنا أنه قد عاش في بيئة تفعل الكفر، وعلماؤها موجودون وهم يُقرُّون ذلك ولا ينكرونه، ولم يتكلم أحد منهم عنده بأن هذا كفر، ككثير من العامة في البلاد الإسلامية الذين يدعون القبور، وأصحاب القبور، وما أشبه ذلك، فقد يقال: إن هذا الرجل معذور؛ وقد عاش في بلدٍ تعتبر بلاداً يظهر فيها الشرك، ولا سمع بأن هذا شرك، فهذا قد يعذر؛ لأنه ليس لديه سبب يوجب الانتباه، وطلب العلم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (255) .(14/449)
أما إذا كان في بلد يُبَيَّنُ فيها الحق، ويقال: إن هذا شرك، ولكنه يقول: أنا سأتبع الشيخ، كبير العمامة، واسع الهامة، طويل الأكمام، طويل المسواك، وأما غيره فلن أتبعه، فهذا غير معذور؛ لأنه مهما يكون الشيخ في إظهار التنسك، وأنه الشيخ الإمام، العالم، العلامة، فإن هذا ليس عذراً لك؛ لأن عندك من يبين الحق ببراهينه، فأنت غير معذور، فالمسألة تحتاج إلى أن ينتبه الإنسان، ويتحقق حتى يتحقق المناط في هذا الرجل بعينه أنه كافر، أو غير كافر.
وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في عدة مواضع من كلامه أن هناك فرقاً بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، وأن القول قد نطلق عليه أنه كفر مخرج عن الملة، لكن القائل لا نخرجه من الملة حتى تقوم عليه الحجة، وكذلك الفعل، فنقول: هذا فعل مخرج من الملة، ولكن الفاعل لا نخرجه عن الملة إلا إذا قامت عليه الحجة، ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إن الأئمة ـ رحمهم الله ـ ومنهم الإمام أحمد، وغيره لم يكفروا أهل البدع إلا الجهمية، فإنهم كفروهم مطلقاً؛ لأن بدعتهم ظاهر فيها الكفر، وأما الخوارج والقدرية ومن أشبههم فإن الإمام أحمد نصوصه صريحة بأنهم ليسوا بكفار.
وقد أنكر ـ رحمه الله ـ على من جعل الدين أصولاً وفروعاً، وأن الأصول يُكفَّر فيها، والفروع لا يُكفَّر، وقال: إن هذا القول إنما جاء من أهل الكلام، فهو قول مبتدَع، ولكن تبعهم على ذلك بعض الفقهاء، وقال لهم: فسروا الأصول ما(14/450)
هي؟ وأي تفسير يفسرونها فهو منقوض عليهم، فإذا فسروها بالأمور العلمية قلنا لهم: إن الأمور العلمية قد اختلف فيها الصحابة، كاختلافهم مثلاً: هل رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ربه أم لا؟ واختلافهم أيهما أفضل علي أو عثمان؟ وهذه من مسائل العلم العقدية، ومع ذلك هل كفَّر بعضهم بعضاً في ذلك؟!
وهناك أمور عملية يكفر من خالف فيها؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وما أشبه ذلك هي عندهم من الأمور الفرعية، ومع هذا فالمخالف فيها يكفر.
فالمهم أن نعرف الفرق بين القول والقائل، والفعل والفاعل؛ لأن هناك أناساً من أهل العلم الفضلاء قالوا أقوالاً مبتدعة، لا شك أنها ضلال، ومع ذلك لا يمكن أن نصفهم أنهم ضلاّل؛ لأنهم مهتدون من وجه، وضالون من وجه آخر؛ مهتدون من حيث الاجتهاد، وطلب الحق؛ لأنا نعرفهم أئمة في الدين، يريدون الحق، ويبحثون عنه، لكن لم يوفقوا له، فهم من هذه الناحية مأجورون مثابون عند الله عزّ وجل، لكن من ناحية إصابة الحق هم مخطئون ضالون عن الحق، فلا يطلق عليهم الضلال، ولا تطلق عليهم الهداية، بل يقال: إنهم مهتدون من جهة الاجتهاد في طلب الحق، ولكنهم ضالون من جهة إصابته، ولا تستغرب من كلمة «ضال» فإنها تقال حتى في المسائل التي يسمونها فرعية، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقد سئل عن مسألة أفتى فيها أبو موسى، وهي: بنت، وبنت ابن، وأخت، سئل عنها أبو موسى ـ رضي الله عنه ـ، فقال: للبنت النصف،(14/451)
وللأخت النصف، وبنت الابن تسقط، وهذا غير صحيح، فأبو موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» (1) يخطئ في مسألة من الفرائض!! ولكنه من توفيق الله أنه قال للسائل: ائت ابن مسعود، فسيوافقني على ذلك، فذهب الرجل لابن مسعود، فسأله، وأخبره بفتيا أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ فقال له ابن مسعود: قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ـ يعني إن وافقته ـ لأقضين فيها بقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت (2) .
فشروط الردة خمسة:
البلوغ، والعقل، والاختيار، والإرادة، والعلم بالحال والشرع، فإذا انتفى واحد منها فإن الردة لا تثبت.
ولكن ما هو الأصل في الإنسان أهو الكفر أو الإسلام؟
الجواب: إذا كان أبواه مسلمين، أو أحدهما فهو مسلم، فإن اختار غير الإسلام فهو مرتد، فولد اليهودية من المسلم مسلم، وولد الكافر من الكافرة كافر حكماً، فهذا الطفل إذا شب على الكفر لا نحكم أنه مرتد، وإلا لقتلنا أولاد الكفار، وقلنا: أنتم مرتدون.
وقوله: «رجل أو امرأة» أشار المؤلف إلى التفصيل هنا بقوله: «رجل أو امرأة» مع أن العموم في «من» مغنٍ عنها؛ لأن
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب حسن الصوت بالقراءة بالقرآن (5048) ، ومسلم في صلاة المسافرين
باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (793) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الفرائض باب ميراث ابنة ابن مع ابنة (6736) .(14/452)
«مَنْ» شرطية، تكون للعاقل من ذكر وأنثى، لكنه نص على المرأة؛ لأن بعض أهل العلم قال: إن المرأة المرتدة لا تقتل، فإنها تُدْعَى إلى الإسلام، ويضيق عليها حتى تُسلم، وإلا حبست، لعموم نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء (1) ، والصحيح أنها تقتل لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بَدَّلَ دينَهُ فاقتلوه» (2) ، وإنما نهى عن قتل النساء في باب الجهاد؛ لأن النساء إذا غُلِبَ الكفار صِرْنَ سبْياً للمسلمين، والسَّبي لا يجوز أن يقتل لإتلافه.
وقوله: «دعي إليه» الداعي الإمام أو نائبه، فإن لم يكن إمام ولا نائبه، فأمير القوم، أو رئيسهم كبيرهم، كما لو كان في بلد غير إسلامي، لا يوجد إمام، ولا نائب للإمام، فإنه إذا كان على هؤلاء الطائفة من المسلمين أمير أُمِّرَ، أو رئيس، أو ما أشبه ذلك صار الحكم متعلقاً به.
وقوله: «ثلاثة أيام» أي: بلياليهن، فيقال له: أسلم، وينظر إلى أن يتم له ثلاثة أيام.
وَضُيِّقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ،........................
قوله: «وَضُيِّقَ عَلَيْهِ» فيدعى إلى الإسلام ثلاثة أيام، ويضيق عليه، فيحبس ولا يُطعَم، ولا يُسقى إلا عند الضرورة، إذا أعطيناه في الصباح خبزة فلا نعطيه إلا بعد يومين أو ثلاثة، وإذا أسقيناه في الصباح في أيام الصيف فلا نسقيه إلا إذا عطش جداً،
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير باب قتل النساء في الحرب (3015) ، ومسلم في الجهاد والسير باب تحريم
قتل النساء والصبيان في الحرب (1744) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد باب لا يعذب بعذاب الله (3017) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(14/453)
فإذا ضيقنا عليه ثلاثة أيام فإن لم يسلم قُتل، ولكن هاتين المسألتين فيهما ثلاث روايات عن أحمد:
الأولى: أنه يقتل بلا تأجيل، ولا استتابة، فإذا كفر قتلناه مباشرة ما لم يسلم.
الثانية: أنه يدعى إلى الإسلام، لكن بدون تأجيل.
الثالثة: أن يستتاب مع التأجيل، وهذا هو المشهور من المذهب، ولكن يضيق عليه.
والنصوص تدل على أنه يقتل لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه (1) » ، ولقوله: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة» ، ومنها: «التارك لدينه المفارق للجماعة» (2) ، ولأنه كفر وارتد، لكن إن رأى الإمام المصلحة في تأجيله واستتابته فعل ذلك؛ لأنه قد يرى المصلحة في هذا، فقد يكون هذا الرجل سيداً في قومه، وقتلُهُ يثير فتنة عظيمة، وقد يكون هذا الرجل يحتاج إليه المسلمون لكونه ماهراً في صناعة شيء ما، أو قائداً محنكاً في الطائرات الحربية، أو ما أشبه ذلك، فيرى الإمام أن يستتاب، فالصحيح من هذه الروايات الثلاث أنه يقتل فوراً، إلا إذا رأى الإمام المصلحة في تأجيله ثلاثة أيام فإنه يستتاب، وأما الآثار الواردة عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وغيره في الاستتابة (3) ، فإنها تحمل على أنهم رأوا في ذلك مصلحة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (453) .
(2) سبق تخريجه ص (41) .
(3) أخرجه مالك في الموطأ (1445) ، والشافعي في مسنده (321) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/206) عن عمر
ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه عن علي ـ رضي الله عنه ـ البيهقي (8/206) وضعفه، وانظر: نصب الراية (3/56) .(14/454)
قوله: «فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ» هذه جملة شرطية، فعل الشرط «إن لم يسلم» وجوابه «قُتِلَ» قال العلماء: لا يقتله إلا الإمام أو نائبه، ونائب الإمام في هذا هو الأمير، وليس القاضي؛ لأن الأمير ينفذ، وهذا تنفيذ حكم، ولا يحل لأحدٍ قتله مع أنه مباح الدم؛ لأن في قتله افتياتاً على ولي الأمر، ولأن في قتله سبباً للفوضى بين الناس؛ فإن هذا ـ وإن قتله بحق؛ لأنه مهدر الدم ـ قد يسبب فتنة بين هذا القاتل وبين أولياء المقتول المرتد، فيحاولون أن يأخذوا بالثأر من هذا الذي قتل المرتد، ولهذا لا يتولى قتله إلا الإمام، أو نائبه، فإن قتله غيره فإنه لا يضمنه؛ لأنه غير معصوم لا بقصاص، ولا بدية، ولكن يؤدب ويعزر بما يراه الإمام.
قال العلماء: إلا إذا لحق بدار الحرب، يعني هذا المرتد ـ والعياذ بالله ـ لما ارتد خاف من السيف، فذهب إلى بلاد الكفار، قالوا: فلكل واحد من المسلمين أن يقتله؛ لأن بلاد الكفار ليس فيها حاكم إسلامي، وإنما تحكم بأحكام الكفر، ولا ولاية للكافر فيها على المسلمين.
وقوله: «قتل بالسيف» أدوات القتل متعددة، منها السيف والشنق، والصعق بالكهرباء، وهذا لا يجوز على المذهب، وإنما يقتل بالسيف، فلو قال قائل: لم لا نصعقه بالكهرباء؟ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» (1) ، فالجواب: إحسان الذبحة والقتلة أن تكون على وفق الشرع، ولهذا نحن نرجم الزاني المحصن بالحجارة حتى يموت،
__________
(1) سبق تخريجه (55) .(14/455)
وفي هذا تعذيب له، ولكن هذا هو القتل الحسن الذي أمرنا به.
والقتل بالسيف هو المعهود في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكان أولى من غيره، وهو أنكى؛ لأنه إذا رؤي هذا الرجل مُضْرَجاً بدمائه صار أهيب للناس، وأشد وقعاً في نفوسهم، مما لو سلَّطنا عليه سلكاً كهربائياً ومات في الحال، فإن الأول أنكى وأبلغ في التهييب والتحذير.
ثم استثنى المؤلف بعد أن ذكر أنه يستتاب أنواعاً من الردة لا تمكن فيها الاستتابة، بل يقتل فيها المرتد بدون استتابة لعدم قبول توبته، وهي أولاً: قوله:
وَلاَ تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ سَبَّ اللهَ، أَوْ رَسُولَهُ، وَلاَ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، بَلْ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ،.....
«وَلاَ تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ سَبَّ الله» وذلك بالطعن في حكمته، في شرعه، في صفة من صفاته، في فعل من أفعاله، في ذاته عزّ وجل، يقول: إنه مفتقر للولد، أو مفتقر للزوجة، وما أشبه ذلك من النقائص التي ينزه الله عنها، فكل من وصف الله تعالى بنقيصة فهو ساب له، فحقيقة السب أن تصف غيرك بما هو نقص في حقه، فإذا سب الله ـ عزّ وجل ـ فإنه يقتل كفراً، حتى لو تاب، وأعلن على الملأ أنه تائب، ووصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ بصفات الكمال، وقال: سبحانه لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فإنه لا يقبل منه، حتى ولو حسنت حاله، وظهرت عبادته، واستنار وجهه فإننا لا نقبل توبته، بل نقتله، وليت أننا نُعدمه فقط، بل نقتله، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا نصلي عليه، ولا يدفن مع المسلمين؛ لأن توبته غير مقبولة؛ وذلك لعظم ردته؛ لأن هذا أعظم ما يكون من الردة، أن يسب الخالق عزّ وجل، وهو المنزه عن(14/456)
كل عيب ونقص، وهذا فيما بيننا وبينه، فنجري عليه في الدنيا أحكام الكفر، أما فيما بينه وبين الله ـ عزّ وجل ـ فإنه على نيته، فإذا كان صادقاً في توبته فالله ـ عزّ وجل ـ يجزيه بما يستحق.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يكون الكافر أصلياً، أو مرتداً، أي: أن من سب الله، ولو كان كفره أصليّاً فإنه لا تقبل توبته، ولكن هذا الظاهر غير مراد؛ لأن كثيراً من الكفار الذين أسلموا كانوا يسبون الله، كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] ، ويدل لذلك أيضاً أن المؤلف ذكر هذا في باب أحكام المرتد، فالظاهر أنه أراد الذي ارتد بسب الله، بخلاف الكافر الأصلي فإننا نقبل توبته.
والصحيح أن من سب الله ـ عزّ وجل ـ إذا علمنا صدق توبته فإنه تقبل توبته، ويحكم بإسلامه، لعموم قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ، فهذه الآية أجمع العلماء على أنها في التائبين، فإذا علمنا صدق توبته فإننا نقبل توبته، ونقول: بارك الله فيك، ونشجعه على إسلامه، وعلى وصفه ربه ـ عزّ وجل ـ بما هو أهله من صفات الكمال، ويكون ذلك السب والعيب قد زال، ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *} {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 65، 66] ، ولا عفو على مثل(14/457)
هؤلاء إلا بالتوبة، فهذا يدل على أنهم إذا تابوا عفا الله عنهم، والاستهزاء من أعظم السب.
ثانياً: قوله: «أَوْ رَسُولَهُ» يعني من سب رسوله محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن وصفه بما هو نقص في حقه، نقص يعود على الرسالة، وقد يقال: وعلى شخصه، فلو وصفه بأنه كاذب، أو ساحر، أو يخدع الناس، أو ما أشبه ذلك فهو مرتد، ولا تقبل توبته؛ لأن ذنبه عظيم فلا تقبل التوبة منه.
ونقول كما قلنا في سَبِّ الله ـ عزّ وجل ـ: إن القول الراجح في هذه المسألة أننا إذا علمنا صدق توبته، وأن توبته حقيقية، ورأيناه يعظم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، ويدافع عن شرعه، فإننا نقبل توبته؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
ولكن إذا قبلنا توبته، فهل يسقط عنه القتل، أو لا يسقط؟ هذا محل خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من يقول: إذا قبلنا توبته رفعنا القتل عنه؛ لأنه إنما حل قتله بارتداده، فإذا تاب من الردة ارتفع حكم الكفر، وهو القتل فلا يقتل، ولأننا حكمنا بكفره بسب النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رسول الله لا لشخص النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا تاب رفعنا عنه القتل.
والقول الثاني في المسألة: إنه إذا تاب قبلنا توبته، ولكن يجب علينا أن نقتله، أي: أن توبته لا ترفع القتل عنه؛ لأن قتله حق له صلّى الله عليه وسلّم، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا نعلم هل عفا(14/458)
عن حقه، أو لم يعفُ؟ بخلاف من سب الله ـ عزّ وجل ـ فإن قتله حق لله، والله تعالى أعلمنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، فيسقط عمَّن سب الله القتل.
أما من سب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإننا نقبل توبته ولكن القتل واجب؛ لأن هذا من حق الرسول، ونقول: هو مسلم يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، ويرث من مات من أقاربه، ويورث، وفي هذا ألف شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كتاباً سمَّاه: «الصارم المسلول على شاتم الرسول» ، وأن من سبه صلّى الله عليه وسلّم فإنه يقتل بكل حال.
ولو قال قائل: إن هذا حكم يرجع إلى رأي الإمام، فإن رأى من المصلحة أن يقتل قتله؛ حتى لا يجترئ الناس على جناب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولو رأى من المصلحة ألا يقتله، وأن يؤلفه على الإسلام، ويؤلف أمثاله ـ أيضاً ـ لا يقتله، فلو قيل بهذا الرأي لكان رأياً جيداً، ويكون وسطاً بين الرأيين، ولا يعد هذا خارجاً عن القولين، وليس مخالفاً للإجماع، بل هو يوافق لأحد القولين من وجه، ويفارقه من وجه آخر، فإذا قتلناه للمصلحة أخذنا ببعض قول من يقول: يتحتم القتل، وإذا لم نقتله للمصلحة أخذنا ببعض قول من يقول: لا يقتل إذا تاب.
ثالثاً: قوله: «وَلاَ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ بل يُقْتَلُ بِكُلِّ حالٍ» من تكررت ردته فإنه يقتل، مثل من كفر، ثم تاب، ثم كفر، فتكررت ردته، فلا تقبل توبته في المرة الثانية، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ(14/459)
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137] ، وانتفاء المغفرة عنهم لعدم قبول توبتهم، ولو قبل الله توبتهم لغفر لهم؛ ولأنه لما كذب في التوبة الأولى يمكن أنه كذب في المرة الثانية، فقد يكون هذا الرجل متلاعباً يكفر اليوم، ثم يتوب غداً فلا تقبل.
والتكرار يحصل باثنتين وهو المذهب، وقيل: لا بد أن يكون ثلاثاً، وهو رواية عن أحمد.
وقال بعض العلماء: إذا علمنا صدق توبته قبلناها ولو تكررت، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل الذي أذنب ذنباً فتاب منه، ثم أذنب فتاب، ثم أذنب فتاب، فقال الله ـ عزّ وجل ـ: «علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء» (1) ، فهذا رجل يتكرر منه الذنب وقبل الله توبته، فإذا علمنا أنه صادق في التوبة فما المانع من القبول؟!.
وأجابوا عن دليل الأولين، فقالوا: إن الآية الكريمة ليس آخرها أن الرجل تاب، بل آخرها {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} ، فهؤلاء الذين ازدادوا كفراً {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} يعني لا يوفقهم الله للتوبة، فليس المعنى أنهم إذا تابوا لم يتب الله عليهم، ولكن لا يوفقون ما داموا ـ والعياذ بالله ـ غير مستقرين على أمر، والنهاية أنهم ازدادوا كفراً، فهؤلاء يبعد كل البعد أن يوفقوا للتوبة.
وأما قولهم: إنه قد يكون كاذباً في التوبة، فنقول: هذا غير
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا} ... } (5707) ، ومسلم في التوبة باب
قبول التوبة من الذنوب ... (2758) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(14/460)
مُسَلَّم، فإن الإنسان قد يتوب من الذنب توبة حقيقية، ولكن تُسوِّل له نفسه فيعود للذنب، وهذا أمر مجرب، فالمسلم قد يتوب من المعاصي توبة حقيقية صادقة، ولكن تأتي أسباب تكون مغرية له فيعود إلى الذنب، وهذا أمر مشاهد.
إذاً الصواب ـ أيضاً ـ أن من تكررت ردته فإن توبته تقبل.
وهناك مسألة رابعة، وهي المنافق وهو الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، يقول الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: إنه لا تقبل توبته.
قال السفاريني في عقيدته:
لأنه لم يبدُ من إيمانه *** إلا الذي أذاع من لسانه
وحينئذٍ لا نعلم أنه صادق في قوله: إنه تاب، فقد يكون هذا نفاقاً كما كان أولاً، ولكن الصحيح ـ أيضاً ـ أننا إذا علمنا صدق توبة المنافق فإننا نقبل توبته، والقرآن يدل على ذلك، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *} {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146] ، ولهذا يجب علينا في توبة المنافق أن ننتبه ونتحرى بدقة، وننظر العمل الحقيقي الذي يدل على أنه تاب.
فهذه أربع حالات لا تقبل فيها توبة المرتد، والصواب أنه ما من ذنب مهما عظم إذا تاب الإنسان منه توبة حقيقية إلا ويغفره الله ـ عزّ وجل ـ.(14/461)
وَتَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَكُلِّ كَافِرٍ إِسْلاَمُهُ، بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَمَنْ كَانَ كُفْرُهُ بِجَحْدِ فَرْضٍ وَنَحْوِهِ فَتَوْبَتُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ إِقْرَارُهُ بِالْمَجْحُودِ بِهِ، أَوْ قَوْلُهُ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الإِْسْلاَمَ.
قوله: «وتوبةُ المرتد» التوبة في اللغة: الرجوع، ولكن في الشرع فهي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، بترك المحظور، وفعل المأمور، ولها شروط خمسة ذكرناها سابقاً.
وقوله: «المرتد» أي: الراجع عن الإسلام.
قوله: «وَكُلِّ كافرٍ» يعني الكافر الأصلي؛ لأن الكفار قسمان: مرتد، وأصلي، فالأصلي هو الذي لم يزل على كفره، والمرتد هو الذي كان مؤمناً ثم خرج عن الإيمان إلى الكفر ـ والعياذ بالله ـ وهذا أشد وأعظم، ولهذا يقتل بكل حال.
قوله: «إسْلاَمُهُ» يعني أن يسلم، والإسلام معناه الاستسلام لله، فإن كان ظاهراً لا باطناً فهو نفاق، وإن كان ظاهراً وباطناً فهو حقيقة، فالمنافقون مسلمون ظاهراً، لكن باطناً كفار، والمؤمنون مسلمون ظاهراً وباطناً، والذي عليه مدار الثناء هو الإسلام ظاهراً وباطناً.
قوله: «بأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله» يشهد نطقاً باللسان، واعترافاً بالجَنان، فلا يكفي النطق، فالنطق وإن كفى بالنسبة لنا في أمر الدنيا فإنه لا يكفي بالنسبة لله ـ عزّ وجل ـ، ولهذا كان المنافقون يذكرون الله، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وكانوا يشهدون أن محمداً رسول الله، والله يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ، فالشهادة ظاهراً لا تنفع أمام الله عزّ وجل، لكن أمامنا تنفع، فتعصم ماله ودمه.(14/462)
وقوله: «يشهد أن لا إله إلاَّ الله» هذه الكلمة العظيمة هي مفتاح الإسلام، يدخل بها الإسلام من يقولها، ويخرج من الإسلام من ينكرها، فما معنى لا إله إلاَّ الله؟ الإله هو المعبود بحق أو بغير حق، لكن إن كان معبوداً بحق فألوهيته حق، وإن كان معبوداً بغير حق فألوهيته باطلة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] ، إذاً لا إله أي: لا معبود، ويجب أن نقدر الخبر، وتقديره لا إله حقّ، أي: لا إله حق في ألوهيته، وأنه أهل لها إلا الله عزّ وجل، وعلى هذا فيكون الخبر محذوفاً، ويكون لفظ الجلالة بدلاً من ذلك الخبر المحذوف، والبدل هو المقصود في الحكم، كما قال ابن مالك ـ رحمه الله ـ:
التابعُ المقصودُ بالحكم بلا *** واسطةٍ هو المسمَّى بدلاً
إذاً فالإله الحق هو الله عزّ وجل، فأنت عندما تقول: لا إله إلا الله، معناه أعتقد اعتقاداً جازماً لا شك فيه بأن جميع المعبودات التي تعبد من دون الله ألوهيتها باطلة، وأن الإله الحق هو الله ـ عزّ وجل ـ رب العالمين.
وقوله: «وأن محمداً رسول الله» فلا بد من انضمامها إلى الجملة الأولى، فيشهد بالشهادتين؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله ... » الحديث (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... (8) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه
ـ.(14/463)
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله» (1) ، فهذه الأدلة وأشباهها تدل على أنه لا يتم الإسلام إلا بالشهادتين، ولكن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادة الأولى فقط، وهي لا إله إلاَّ الله، ومن ذلك حديث أسامة ـ رضي الله عنه ـ في قصة المشرك الذي أرهقه أسامة، فلما أرهقه قال: لا إله إلاَّ الله فقتله، فأَخبرَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فقال: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلاَّ الله؟!» ، قال: نعم، إنما قالها تعوُّذاً، أي: ليعوذ بها من القتل، فقال: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلاَّ الله؟!» ، فما زال يكررها حتى قال أسامة: تمنيت لو لم أكن أسلمت بعد (2) ؛ لأنه إذا أسلم فإن الإسلام يهدم ما قبله.
وهذا يدل على أنه بقوله: «لا إله إلاَّ الله» دخل في الإسلام، وَعَصَم دمه، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حضر وفاة عمه أبي طالب، وكان يقول له: «يا عم قل: لا إله إلاَّ الله، كلمةً أحاجّ لك بها عند الله» (3) ، ولم يذكر الشهادة الثانية، وهي شهادة أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ} ... } (25) ، ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ... (22) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) سبق تخريجه ص (382) .
(3) أخرجه البخاري في الجنائز باب إذا قال المشرك ... (1360) ، ومسلم في الإيمان باب الدليل على صحة إسلام
من حضره الموت ما لم يشرع في النزع ... (24) عن المسيب بن حزن ـ رضي الله عنه ـ.(14/464)
محمداً رسول الله، ومن ثَمَّ اختلف العلماء، هل توبة المرتد والكافر بقول: لا إله إلاَّ الله فقط، ثم يطالب بشهادة أن محمداً رسول الله، فإن شهد وإلا قتل، أو لا يدخل في الإسلام حتى يشهد الشهادتين؟ وينبني على ذلك أننا إذا قلنا بالأول، ثم قال: لا إله إلا الله، فقد دخل في الإسلام، فإذا لم يقل: محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتلناه؛ لأنه مرتد.
وأما على الثاني: الذي يقول: إن الكافر ـ أي: الأصلي ـ لا يدخل في الإسلام إلا بالشهادتين، فإنه إذا قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ثم أبى أن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، فإننا لا نقتله؛ لأنه لم يكن مرتداً حيث إنه لا يدخل في الإسلام إلا إذا شهد الشهادتين، وإذا لم يوجد الشرط وهو شهادة الشهادتين، فإنه لا يوجد المشروط وهو الإسلام، وحينئذٍ يبقى على كفره الأصلي، ثم يعامل بما يقتضيه ذلك الكفر.
وقال بعض العلماء: إذا كان هذا الإنسان مقرّاً بأن محمداً رسول الله، ولكنه مشرك، فإنه يكفي في توبته أن يشهد أن لا إله إلاَّ الله؛ لأنه يشهد أن محمداً رسول الله، وبنوا ذلك على قصة أبي طالب، وقالوا: إن أبا طالب يشهد أن محمداً رسول الله ويقول:
قد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ *** لدينا ولا يُعنَى بقول الأباطل
فيشهد بأنه رسول لكنه مشرك، فلذلك يكتفى منه بشهادة(14/465)
أن لا إله إلاَّ الله، وهذا يوجد كثيراً فيمن ينتسب للإسلام وهو مشرك، يدعو الأموات، ويستغيث بهم، وما أشبه ذلك، فنقول في مثل هذا: يُكتفى لتوبته أن يقول: لا إله إلاَّ الله؛ لأن الكلمة الثانية كان يقر بها، ولا ينكرها، فإذا أتى بالأولى تم إسلامه، وكذلك أيضاً يقولون: من كان يقول: لا إله إلاَّ الله، ولا يشرك بالله، لا عيسى ولا غيره، لكن لا يشهد أن محمداً رسول الله، فإن أتى بشهادة أن محمداً رسول الله، فقد دخل في الإسلام؛ لأنه في الأول كان يشهد أن لا إله إلاَّ الله.
وفي الحقيقة أن هذين القولين لا يخرجان عما سبق؛ لأن لازمهما أن هذا الذي أسلم قد أتى بالشهادتين جميعاً.
والظاهر لي من الأدلة أنه إذا شهد أن لا إله إلاَّ الله فقد دخل في الإسلام، ثم يؤمر بشهادة أن محمداً رسول الله، فإن شهد، وإلا فهو مرتد، يحكم بردته ويقتل مرتداً، فتكون الأولى هي الأصل، والثانية شرطاً في عصمة دمه، وفي صحة الأولى أيضاً، فإن لم يقل: أشهد أن محمداً رسول الله فإنه يعتبر مرتداً عن الإسلام.
وأما المذهب فإن توبته بأن يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فإن قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ثم أُغمي عليه فمات، فهو غير مسلم، فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين.(14/466)
وعلى القول الثاني: الذي يقول: إن قوله: «أشهد أن لا إله إلاَّ الله» كافٍ للإسلام يكون مسلماً.
قوله: «وَمَنْ كَانَ كُفْرُهُ بِجَحْدِ فَرْضٍ وَنَحْوِهِ» كجحد تحريم الزنا مثلاً، وجحد تحليل الخبز، والبيض، وما أشبهه، فعندنا جَحْدُ واجبٍ، وجَحْدُ محرمٍ، وجَحْدُ حلالٍ، كلها قد تكون كفراً فإذا كان كفره بجحد هذا، يقول المؤلف:
«فَتَوْبَتُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ إِقْرَارُهُ بِالْمَجْحُودِ بِهِ» فهذا ينكر فرضية الصلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، فلا تصح توبته؛ لأن الشيء الذي حكمنا بردته من أجله لم يزل مصرّاً عليه، فلا بد أن يقر مع ذلك بما جحده من فرضية الصلاة، فمن لم يفعل فإنه لا يزال على ردته.
كذلك لو جحد تحريم الزنا، أو الخمر، وهو ممن عاش في الإسلام، وعرف أحكامه، ويقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فلا يكفي ذلك لتوبته؛ لأننا ما حكمنا بردته إلا من أجل إنكاره تحريم ذلك، وهو لا يزال مصرّاً عليه.
ومن كان كفره بسب الصحابة رضي الله عنهم، وقال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، ولكنه أصرَّ على سب الصحابة، فإنه لم يزل مرتداً حتى يقلع عن سب الصحابة، ويبدل هذا السبَّ بثناءٍ.(14/467)
وإذا كان كفره بترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وهو يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فلا تَكفيه الشهادتان، بل لا بد أن يصلي، فإن لم يفعل فهو لا يزال مرتداً يعامل معاملة المرتدين.
فالمهم أن القاعدة في هذا: أن الكافر الأصلي نكتفي بالشهادتين، أو على الأصح بالشهادة الأولى، ونلزمه بالثانية.
والكافر غير الأصلي لا بد أن يتوب مما كان سبباً في الحكم عليه بالردة، مع الشهادتين، سواء أكان جحد فرضٍ، أو جحد محرَّم، مجمع على تحريمه، أو جحد محلَّل مجمع على حله أو ترك الصلاة، وما أشبه ذلك.
قوله: «أَوْ قَوْلُهُ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الإِْسْلاَمَ» هذا طريق ثانٍ للتوبة فيمن كانت ردته بجحد فرض ونحوه.
وهذه الكلمة في الواقع كلمة مجملة، لا تدل على أنه تاب توبة حقيقية؛ لأنه قد يعتقد أن ما هو عليه هو الإسلام، وما أكثر الذين يدَّعون أنهم مسلمون، ويتبجحون بالإسلام وهم كفار، يسبون الصحابة، ويعتقدون أن جبريل أخطأ في الوحي، فنزل به على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد أُمِرَ أن ينزل به على عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ، وما أشبه ذلك، فإذا قال: أنا بريءٌ من كل دين يخالف الإسلام، فهل نجعل ذلك توبة يرتفع بها عنه حكم الردة أو لا؟ في الواقع أن هذه الكلمة من المؤلف فيها نظر ظاهر؛ لأنه قد يكون محكوماً بردته من أجل فعلٍ يعتقد هو أنه من الإسلام، وليس من الإسلام(14/468)
في شيء، فمثل هذا لا نقبل منه حتى يُصَرِّح بأنه رجع عما حكمنا عليه بكفره من أجله.
بفضل الله تعالى وتوفيقه تَمَّ المجلد الرابع عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل الخامس عشر وهو الأخير وأوله: «كتاب الأطعمة»
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(14/469)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الخامس عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1428هـ(15/)
كِتَابُ الأَْطْعِمَةِ
الأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ،..............
قوله: «الأطعمة» جمع طعام، وهو كل ما يؤكل أو يُشرب، أما كون ما يؤكل طعاماً فأمره ظاهرٌ؛ وأما كون ما يشرب طعاماً فلقوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ، فجعل الشرب طعْماً، ولأن الشارب يطعم الشيء المشروبَ، فهو في الواقع طعامٌ.
واعلم أن كون الإنسان يحتاج إلى الطعام دليلٌ على نقصه، ولهذا برهن الله عزّ وجل على أن عيسى وأمه ليسا بإلهين بقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] ، وتمدَّح سبحانه وتعالى بكونه يُطْعِم ولا يُطْعَم {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] ، فالحاجة إلى الطعام لا شك أنها نقص؛ لأن الإنسان لا يبقى بدونه، وكونه لا يأكل الطعام أيضاً نقص؛ لأن عدم أكله الطعام خروج عن الطبيعة التي خُلق عليها، والخروج عن الطبيعة يعتبر نقصاً.
إذاً فالإنسان إن أكل فهو ناقص، وإن لم يأكل فهو ناقص، وهذا يتبين به كمال الله عزّ وجل، ونقص ما سواه.
فالإنسان مضطر إلى الطعام، سواء كان مأكولاً أم مشروباً، والأصل فيه الحلّ كما قال المؤلف:
«الأصل فيها الحِل» «فيها» أي: في الأطعمة، وهذا أمر مجمع عليه، دل عليه القرآن قي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ(15/5)
لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، و «ما» اسم موصول، والاسم الموصول يفيد العموم، كما أنه أكَّد ذلك العموم بقوله: {جَمِيعًا} ، فكل ما في الأرض فهو حلالٌ لنا، أكلاً، وشرباً، ولُبساً، وانتفاعاً، ومَنِ ادَّعى خلاف ذلك فهو محجوج بهذا الدليل، إلا أن يقيم دليلاً على ما ادَّعاه، ولهذا أنكر الله ـ عزّ وجل ـ على الذين يُحرِّمون ما أحل الله من هذه الأمور فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
وقوله: «الأصل فيها الحل» وهذا الأصل ليس ثابتاً لكل إنسان، بل هو للمؤمن خاصة، أما الكافر فالأطعمة عليه حرام؛ لأن الله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، يُخرج غير الذين آمنوا، وكذلك قال ـ تعالى ـ في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، فمفهومها أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، ومع ذلك ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا بشرط ألا يستعينوا بذلك على المعصية، ولهذا قال الله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] .
ووالله ما ندري هل نحن مُطبقون لهذه الشروط، أو أننا نأكل الشيء وعلينا جناحٌ فيه؟ وهي سبعة شروط، مؤكدة بـ «ما» الزائدة، فإن «ما» من المتعارف عليه من حروف الزيادة، وقد قيل:(15/6)
يا طالباً خُذْ فائدة *** (ما) بعد (إذا) زائدة
وكل حروف الزيادة في القرآن، أو في السنَّة، أو في كلام العرب للتوكيد.
إذاً الأصل في الأطعمة الحل للمؤمنين، أما غيرهم فلا؛ فإن الكافر لن يرفع لقمة إلى فمه إلا عُوقب عليها يوم القيامة، ولن يبتلع جُرعة من ماء إلا عوقب عليها يوم القيامة، ولن يستتر، أو يدفئ نفسه بسلكٍ من قطن، إلا حوسب عليه يوم القيامة.
وهذه القاعدة العظيمة التي دل عليها الكتاب، ودلت عليها السنة، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (1) ، وقال: «ما سكت عنه فهو عفو» (2) ، فهذا الأصل الذي دل عليه الكتاب، والسنة، وأجمع عليه المسلمون في الجملة نستفيد منه فائدة، وهي أن كل إنسان يقول: إن هذا الشيء حرام، مما يؤكل، أو يشرب، أو
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير (22/589) ، والدارقطني (4/184) ، والحاكم (4/115) ، وعنه البيهقي (10/12) كلهم من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعاً، وأعله أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وابن رجب بعدم سماع مكحول من أبي ثعلبة الخشني.
(2) وابن أبي حاتم الرازي في تفسير ابن كثير (مريم: الآية 64) ، والحاكم (2/375) ، والبيهقي (10/12) بأسانيدهم عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء به مرفوعاً.
قال البزار: «إسناده صالح» وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي.
قال الهيثمي: «إسناده حسن ورجاله موثقون» المجمع (1/171) .(15/7)
يُلبس أيضاً، نقول له: هاتِ الدليل؛ لأن عندنا أدلة تدل على حله.
فلو قال قائل: الدخان حلال فلا نطالبه بالدليل؛ لأن الأصل الحل.
فإذا قال الثاني: بل هو حرام، نقول لهذا: هات الدليل، ولا شك أن من تأمَّل نصوص الكتاب، والسنة، ونظر نظراً صحيحاً تبيَّن له أن الدخان حرام، وليس هذا موضع ذكر أدلة تحريمه. وربما يأتي لاحقاً من كلام المؤلف نفسه.
قال المؤلف تفريعاً على هذه القاعدة:
فَيُبَاحُ كُلُّ طَاهِرٍ لاَ مَضَرَّةَ فِيهِ،.....................................
«فيباح» الفاء هنا للتفريع، يعني فبناءً على ذلك يباح كل طاهر لا مضرة فيه.
قوله: «كل طاهر» خرج به ما كان نجساً أو متنجِّساً، فالنَّجس نجاسته عينية، والمتنجِّس نجاسته حكمية.
فالنجس مثل: الميتة، والخنزير، والدم المسفوح، قال الله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] والضمير عائد على الثلاثة المذكورة، فإذا قال قائل: لو كان كذلك لقال: فإنها رجس. والمراد بالدم هنا الدم المسفوح وهو الذي يكون قبل موت البهيمة أما ما كان بعد الموت فإنه طاهر وحلال قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتان فالجراد والحوت وأما الدمان فالكبد والطحال» (1) .
والجواب: أن قوله: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة/ باب الكبد والطحال (3314) .(15/8)
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} ، معناه إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم على الطاعم الذي يطعمه {مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي: ذلك الشيء {رِجْسٌ} أي: نجس.
فإن قال قائل: النجس واضح تحريمه؛ لأنه نجس العين، وكل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً، وهذه القاعدة مرَّت علينا في الآنية (1) ، فما الدليل على أن المتنجِّس حرام؟
الجواب: لأن المتنجِّس متأثر بالنجاسة، مختلط بها، فالنجاسة لم تزل فيه، فإذا أكَلْتَهُ، أو شَرِبْتَه فقد باشرت النجاسة، أكلت النجاسة وشربتها، ولهذا نقول: المتنجس محرَّم؛ لأنه ليس بطاهر، وإذا كان الشرع يأمرنا بإزالة النجاسة من ظاهر أجسامنا، فكيف نُدخل النجاسة باطن أجسامنا؟!
قوله: «لا مضرة فيه» خرج بذلك الطاهر الذي فيه مضرة، فالطاهر الذي فيه مضرة لا يجوز، بل هو حرام، وسواء كانت المضرة في عينه، أو في غيره.
في عينه كالسُّم، فالسم ضرره في عينه، وكذلك الدخان فإنه ضارٌّ في عينه، وضرره مُجمعٌ عليه بين الأطباء اليوم، لا يختلف في ذلك اثنان منهم؛ لما يشتمل عليه من المواد السامة المفسدة للدم.
والضار في غيره مثل أن يكون هذا الطعام لا يلتئم مع هذا الطعام، بمعنى أنك إذا جمعت بين الطعامين حصل الضرر، وإذا
__________
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/86) .(15/9)
أكلتهما على انفرادٍ لم يحصل الضرر، ومن ذلك الحُمْية للمرضى، فإن المريض إذا حُمي عن نوع معينٍ من الطعام، وقيل له: إن تناوله يضرك، صار عليه حراماً، ومن ذلك على تمثيل النحويين: «لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن» بالفتح، ولكننا نقول للنحويين في هذه القاعدة، أو هذا الضابط: ما هذا عِشك فادرجي؛ فإن الأطباء الآن يقولون: إنه لا يضر، وقد رأينا أهل جدة يأكلون السمك، ويشربون اللبن، ولا يضرهم ذلك شيئاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وإذا خاف الإنسان من الأكل أذًى أو تخمة حَرُمَ عليه» .
فإذا قال الإنسان: أنا إذا ملأتُ بطني من هذا الطعام فإنه سيحتاج إلى ماء، فإذا أضفتُ إليه الماء فلا أكاد أمشي، وأتأذى، فإن جلست تأذيت، وإن ركعتُ تأذيت، وإن استلقيت على ظهري تأذيت، وإن انبطحت على بطني تأذيت، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: إذا خاف الأذية فإنه يحرم عليه الأكل، وما قاله ـ رحمه الله ـ صحيح؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يأكل ما يؤذيه، أو يلبس ما يؤذيه، أو يجلس على ما يؤذيه، حتى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في السجود، كانوا إذا أذاهم الحر يبسطون ثيابهم، ويسجدون عليها (1) ؛ لئلا يتأذوا، ولأجل أن يطمئنوا في صلاتهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب السجود على الثوب في شدة الحر (385) ، ومسلم في المساجد/ باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت (620) (191) .(15/10)
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام خوف الأذية والتُّخمة ممَّا ضرره في غيره، وهو الإكثار، يعني هو بنفسه ليس بضار، لكن الإكثار منه يكون ضاراً مؤذياً، حتى وإن لم يتضرر، لكن الظاهر لي من الناحية الطبية أنه يتضرر؛ لأن المعدة إذا ملأتها سوف تتأذى وتتعب. وهل الشِّرِّية في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» تعتبر شراً شرعياً أو أنه من الناحية العادية؟ هذا محل توقف وتأمل ولا شك أن الأحسن والأفضل هو ما أرشد إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وجرِّب تجد.
وقد قيل: إن من الأمور المهلكة إدخال الطعام على الطعام، فإذا صح ذلك كان ـ أيضاً ـ حراماً؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .
ولا يبعد أن يكون هذا صحيحاً، وهو أمر مجرَّب، وقد ضربوا له مثلاً، برجل أعطى عُمَّالاً عملاً يقومون به، وقبل أن يستكملوا العمل أضاف إليهم عملاً آخر، ومعلوم أنهم لا يمكن أن يشتغلوا بالعَمَلين إلاَّ على حساب أحدهما، فإذا بدؤوا بالشغل الجديد فالشغل القديم يختل، والمعدة إذا استقبلت الطعام الجديد اختل هضمها للطعام الأول، ولا سيما أن الهضم جعل الله له غدداً تفرز مواد بحسب بقائه في المعدة.
وللهضم عند الأطباء مراتب: النضج الأول، والثاني، والثالث، والرابع، فلا بد أن يكون هناك موازنة، حتى يَعرف الإنسان ما مرتبة، أو ما درجة الطعام الأول؟ وهل يمكن أن يضيف إليه طعاماً آخر أو لا؟(15/11)
مِنْ حَبٍّ وَثَمَرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ يَحِلُّ نَجِسٌ، كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلاَ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ كَالسُّمِّ وَنَحْوِهِ،........
قوله: «من حَبٍّ» هذا بيان لقوله: «كل طاهر» والحب مثل: البر، والأرز، والشعير، والعدس، والفول، وما أشبه ذلك.
قوله: «وثمر وغيرهما» : كالتمر، والتين، والعنب، والبرتقال، ونحوها، فتعداد الأنواع قد يصعب ولا نحيط بها، لكن عندنا القاعدة العامة «كل طاهر لا مضرة فيه» .
قوله: «ولا يحل نجس كالميتة والدم» ونضيف إليه ثالثاً: الخنزير؛ لقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ، والاستدلال بهذه الآية أولى من الاستدلال بالآية التي ذكرها صاحب «الروض» (1) وهي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} ... } إلى آخره؛ لأن هذه الآية ليس فيها التصريح بأنها نجسة.
قوله: «ولا ما فيه مضرة» الدليل على تحريم ما فيه مضرة من القرآن والسنة.
فمن القرآن: قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وقال عزّ وجل: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، والنهي عن قتل النفس نهيٌ عن أسبابه أيضاً، فكل ما يؤدي إلى الضرر فهو حرام، وقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا ضرر ولا ضرار» (2) ، وربما يستدل له أيضاً بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/417) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/326 ـ 327) ، وابن ماجه في الأحكام/ باب من بني في حقه ما يضر بجاره (2340) من حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
وروي أيضاً من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم. قال النووي: «حديث حسن وله طرق يقوى بعضها ببعض» قال ابن رجب تعقيباً على كلام النووي: «وهو كما قال» .
قال ابن الصلاح: «هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به» انظر: جامع العلوم والحكم (2/211) .(15/12)
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] ، ووجه ذلك أن الله تعالى أوجب التيمم على المريض حمايةً له عن الضرر. فعدل به عن الماء الذي قد يتضرر باستعماله في البرد والمرض ونحوهما إلى التيمم.
قوله: «كالسم ونحوه» السم يحرم، وليس بنجس، بل هو طاهر ولكنه حرام لضرره، وكذلك الخمر فإنه حرام لضرره العقلي، والبدني، والاجتماعي، لكنه طاهر على القول الراجح؛ لأنه ليس هناك دليل على نجاسته، وقد سبق ذلك مفصلاً بأدلته (1) .
والسم أحياناً يستعمل دواءً، فيوجد أنواع من السموم الخفيفة تخلط مع بعض الأدوية فتستعمل دواءً، فهذه نص العلماء على أنها جائزة، لكن بشرط أن نعلم انتفاء الضرر، فإذا خلطت بعض الأدوية بأشياء سامَّة، لكن على وجهٍ لا ضرر فيه فإنها تُباح؛ لأن لدينا قاعدة فقهية مهمة، وهي أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا استُعمل السم، أو شيء فيه سم على وجه لا
__________
(1) الشرح الممتع على زاد المستقنع (1/429) .(15/13)
ضرر فيه كان ذلك جائزاً، لكن لا يكثر الإنسان من هذا، أو مثلاً يوصف له هذا الدواء الذي فيه شيء من السم بقدرٍ معين، ثم لقوة الأَلَمِ فيه يقول: أنا آخذ بدل القرص عشرة أقراص، فربما إذا فعل ذلك يتضرر ويهلك، بل لا بد في مثل هذه الأمور أن تكون بمشورة أهل العلم بذلك، وهم الأطباء.
وَحَيَوَانَاتُ البَرِّ مُبَاحَةٌ إِلاَّ الْحُمُرَ الأَهْليَّةَ،...........................
قوله: «وحيوانات البر مباحة» كأن المؤلف قسَّم الموجودات إلى قسمين: حيوان وجماد، فالجماد تقدم الكلام عليه وأن الأصل فيه الحل، وكذلك الحيوان الأصل فيه الحل، لكن الحيوان ينقسم إلى قسمين: بحري، وبري.
أما البحري فكلُّه حلال، وليس فيه شيء حرام، فكل حيوانات البحر مباحة بدون استثناء، حيِّها وميِّتها، لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: صيد البحر، ما أُخذ حيّاً، وطعامه ما أُخذ ميتاً (1) ، يعني ما ألقاه البحر مثلاً، أو طفا على ظهره ميتاً.
يقال: إن في البحر ثلاثة أضعاف ما في البر من الحيوان، وأن في البحر من أجناس الحيوانات وأنواعها أشياء ليست موجودة في البر، وكلها حلال.
مسألة: هل يحل آدمي البحر؟ قد يوجد أسماك تشبه الآدميين، على شكل أجمل الرجال، وأجمل النساء، وقد قرأت
__________
(1) أخرجه الدارقطني (4/270) ، والبيهقي (9/255) ، بلفظ: صيده ما صيد، وطعامه ما قذف، وانظر: تفسير الطبري (7/65) .(15/14)
قديماً أنه موجود، وما يستبعد أنه كان موجوداً ثم انقرض، والله أعلم، فعلى كل حالٍ القاعدة العامة: أن كل حيوانات البحر حلال.
وقوله: «وحيوانات البر مباحة» الأصل في حيوانات البر الحل؛ لعموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فكل الحيوانات من طيور وغيرها الأصل فيها الحل.
فإذا قال قائل: هذا الطير حلال، لا نقول له: هات الدليل؛ لأن الأصل معه، وإذا قال: هذا حرام، قلنا: عليك الدليل.
وقوله: «وحيوانات البر مباحة» أي قد أباحها الله تعالى خرج به حيوانات البحر، وقد تقدم الكلام عليها. والإباحة بمعنى التحليل.
قوله: «إلا الحُمر الأهلية» وفي نسخة «الإنسية» والمعنى واحد و «الحُمُر» : جمع حمار، ولا يصح أن تنطق بها بسكون الميم، لأنك إذا قلت: «الحُمْرُ» فهي جمع أحمر أو حَمْراء، لكن يجب أن نقول: «الحُمُر» .
والحمر الأهلية هي الحمر التي يركبها الناس وهي معروفة، وهي حرام، وخرج بذلك الحمر الوحشية فهي حلال.
فالذي يقول: إن الحمر الوحشية حلال هل نطالبه بالدليل؟
الجواب: لا، لكن إن جاء بالدليل فقد زادنا خيراً، وأما الذي يقول: إن الحمر الأهلية حرام، فإننا نطالبه بالدليل.(15/15)
ودليل تحريم الحمر الأهلية ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر أبا طلحة فنادى: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس» (1) ، فثبت الحكمُ مقروناً بعلَّته وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنها رجس» .
والحُمُر الوحشية قلنا: لا يحتاج حلها إلى دليل؛ لأنه الأصل؛ لكن مع ذلك ثبت في «الصحيحين» أن الصعب بن جثَّامة ـ رضي الله عنه ـ أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حماراً وحشياً، وهو بالأبواء، سائراً إلى مكة في حجة الوداع، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم ردَّه، وعلل الردَّ قائلاً: «إنا لم نرده عليك إلاَّ إنا حُرُم» (2) أي: مُحرِمون، وأنت صِدْتَه لنا فلا نأكله.
مسألة: لو تأهَّل الحمار الوحشي فهل يحرم أكله؟ لا؛ لأن العبرة بالأصل.
فانتبه لعدّ الأشياء المحرمة من الحيوانات؛ لأن الأشياء المحرمة من الحيوانات أقل بكثير من الأشياء المحللة، فهي محصورة، فالأول: «الحمر الأهلية» .
وَمَا لَهُ نَابٌ يَفْتَرِسُ بِهِ غَيْرَ الضَّبُعِ...................................
الثاني: قوله: «وما له نابٌ يفترس به» يعني ما له ناب يفترس به من السِّباع، ومعنى «يفترس به» أي: يصطاد به، فينهش
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحوم الحمر الإنسية (5528) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب تحريم أكل الحمر الإنسية (1940) .
(2) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب إذا أهدى المحرم حماراً وحشياً (1825) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1193) .(15/16)
به الصيد ويأكله، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن كل ذي نابٍ من السباع (1) ، والأصل في النهي التحريم، فلا يحل أكل كل ذي ناب من السباع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه؛ ولأن الحكمة تقتضيه؛ لأن للغذاء تأثيراً على المُتَغَذِّي به، فالإنسان ربما إذا اعتاد التغذِّي على هذا النوع من اللحوم صار فيه محبة العدوان على الغير؛ لأن ذوات الناب من السباع تعتدي؛ فإن الذئب مثلاً إذا رأى الغنم عدى عليها، ومع ذلك فإن بعض الذئاب إذا دخل في القطيع ما يكتفي بقتل واحدة ويأكلها، بل يمر على القطيع كله فيقتله كله، ويأكل ما شاء ثم يخرج.
فإذا اعتاد الإنسان التغذي بهذه الأمور فربما يكون فيه محبة العدوان، وهذه من حكمة الشرع، بل إنه يقول بعض العامة ـ ولكنه قول خطأ ـ: إن الذي يأكل كبد الذئب لا يمكن أن يهاب شيئاً أبداً.
قوله: «غير الضَّبُع» هذا مستثنى، يعني أنه حلال، وكلام المؤلف يدل على أن الضبع من ذوات الناب التي تفترس بنابها، ولكن هذا غير مسلَّم، فإن كثيراً من ذوي الخبرة يقولون: إن الضبع لا تفترس بنابها، وليست بسَبُع، ولا تفترس إلا عند الضرورة، أو عند العدوان عليها، يعني إذا جاعت جداً ربما تفترس، وليس من طبيعتها العدوان، أو إذا اعتدى أحدٌ عليها
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب أكل كل ذي ناب من السباع (5530) ، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح/ باب تحريم أكل كل ذي ناب (1932) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.(15/17)
فربما تفترسه، مثل أن يأخذ أولادها من بين يديها، وما أشبه ذلك، وإلا فليست كذلك.
ولكن على كل حال فإن استثناء المؤلف إيّاها يجعلنا نطالبه بالدليل؛ لأن استثناءه إيّاها من ذلك يدل على أنه يرى أنها من السباع التي تفترس بنابها، والدليل على إخراجها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل فيها شاةً إذا قتلها المُحْرِم (1) ، وهذا يدل على أنها من الصيد؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ، وبهذا استدل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جَعَل فيها كبشاً، وذلك يدل على أنها حلال.
وتعتبر هذه الحيوانات الآن منقرضة، يعني نادراً أن تجدها في البلاد، وكانت قديماً كثيرة في الجزيرة العربية، ويقال: إن سبب انقراضها فتح قناة السويس؛ لأنها كانت تأتينا من أفريقيا، وذلك لمَّا كان بين الجزيرة العربية وأفريقيا يابس متصل، ثم لما فتحت القناة امتنعت، والله أعلم.
كَالأَْسَدِ، وَالنِّمْرِ، وَالذِّئْبِ، وَالْفِيلِ، وَالْفَهْدِ، وَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَابْنِ آوَى، وَابْنِ عِرْسٍ، وَالسِّنَّوْرِ، وَالنِّمْسِ، وَالْقِرْدِ، وَالدُّبِّ، وَمَا لَهُ مِخْلَبٌ مِنَ الطَّيْرِ يَصِيدُ بِهِ،......
قوله: «كالأسد» الأسد حيوان معروف يضرب به المثل في الشجاعة.
قوله: «والنمر» حيوان بين الكلب والأسد، وله جلد مخطط.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأطعمة/ باب في أكل الضبع (3801) ، وابن ماجه في الحج/ باب جزاء الصيد يصيبه المحرم (3085) ، وابن حبان (3964) إحسان، والدارقطني (2/246) ، والحاكم (1/452) ، والبيهقي (5/183) عن جابر رضي الله عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.(15/18)
قوله: «والذئب، والفيل، والفهد، والكلب، والخنزير» وهذه كلها حيوانات معروفة.
قوله: «وابن آوى» معروف، ويسمَّى في العامِّية الواوي؛ ولهذا إذا أرادوا أن يزجروا أحداً قالوا له: أنت الواوي.
قوله: «وابن عرس» حيوان معروف.
قوله: «والسنور» وهو القط.
قوله: «والنِّمس والقرد» وكل هذه أمثلة لما له ناب يفترس به، وليس بشرط أن يفترس الرجال، أو يفترس المواشي، فقد تفترس الأشياء الصغيرة، وكلنا يعرف أن هذه كلها تفترس وتأكل ما دونها من الحيوانات.
قوله: «والدب» معروف، والظاهر أنه حيوان بليد، ولذلك يضرب به المثل في الإنسان البليد يقال: «فلانٌ دُبٌّ» . إذاً: الحيوانات أصناف: الأول: الحمر الأهلية الثاني: ماله ناب من السباع يفترس به، والثالث: ما له مخلب من الطير يصيد به، الرابع: ما يأكل الجيف، الخامس: ما يستخبث، السادس: ما تولد من مأكول وغيره كالبغل.
الثالث: قوله: «وما له مخلب من الطير يصيد به» المخلب ما تُخلب به الأشياء، أي: تُجرح وتُشق، والمراد بها الأظفار التي يفترس بها، فإن هذه الطيور التي ذكرها المؤلف لها أظفار(15/19)
قوية تشق بها الجلود، حتى إنها تمر خاطفة الأرنب وهي طائرة، فتضربه بهذه الأظفار حتى تشق جلده، وليس المراد بالمخلب ذلك الشيء الذي يَخْرج في ساق الديك، فإن هذا مخلب لكنه لا يصيد به.
كَالْعُقَابِ، وَالْبَازِي، وَالصَّقْرِ، وَالشَّاهِينِ، وَالبَاشِقِ، وَالحِدَأَةِ، وَالْبُومَةِ، وَمَا يَأْكُلُ الجِيَفَ كَالنِّسْرِ، وَالرَّخْمِ، وَاللَّقْلَقِ، وَالْعَقْعَقِ، وَالْغُرَابِ الأَْبْقَعِ، وَالْغُدَافِ، وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ أَغْبَرُ، وَالْغُرَابِ الأَْسْوَدِ الْكَبِيرِ،...........
قوله: «كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومة» هذه أمثلة لطيور تصيد بمخلبها وهي طيور معروفة.
الصنف الرابع: قوله: «وما يأكل الجيف» توجد طيور تأكل الجيف، ولكنها لا تصيد، إذا رأَتِ الجيفة نزلت عليها وأكلت منها، ومثَّل لها المؤلف بقوله:
«كالنسر، والرخم، واللقلق، والعقعق» هذه طيور معروفة، والعقعق والبوم يتشاءم بها العرب، قال الشاعر:
إن مَن صاد عَقْعَقاً لمشوم كيف من صاد عقعقان وبوم؟
يعني: يصير أشد.
لكن الإسلام يقول: «لا عدوى ولا طيرة» (1) ، ومن فتح على نفسه باب الطيرة تعب.
قوله: «والغُراب الأبْقَع» يعني توجد فيه بقعة بيضاء، هذا أيضاً حرام، وهو احتراز من غراب صغير يشبه الحمامة، فهذا يقولون: إنه حلال؛ لأنه لا يأكل الجيف.
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب/ باب لا عدوى (5772) ، ومسلم في السلام/ باب لا عدوى ولا طيرة ... (2220) .(15/20)
قوله: «والغداف وهو أسود صغير أغبر» وهو معروف عند المؤلف لكن عندنا غير معروف.
قوله: «والغراب الأسود الكبير» هذا غير الأبقع، إذاً، الغِربان صارت ثلاثة أقسام: أبقع، وأسود كبير، وأسود صغير.
والأسود الصغير الذي يشبه الحمامة، ومنقاره أسود، فهذا حلال، والأسود الكبير والأبقع هذان حرام.
هذا الصنف الرابع يقول فيه شيخ الإسلام: «فيه روايتا الجلاَّلة» يعني أن فيه روايتين عن الإمام أحمد، رواية: أنها حرام، والثانية: أنها حلال.
وعند الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: جميع الطيور حلال لا يحرم منها شيء، وكأنه لم يبلغه حديث ابن عباس: (أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن كل ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) (1) .
والحكمة في تحريم ذوات المخالب التي تصيد بها ما أشرنا إليه في تحريم ما له ناب يفترس به، وهي أن الإنسان إذا تغذّى بهذا النوع من الطيور التي من طبيعتها العدوان والأذى، فإنه ربما يكتسب من طبائعها وصفاتها، ولهذا قال العلماء: لا ينبغي للإنسان أن يُرضِعَ ابنه امرأة حمقاء؛ لأنه ربما يتأثر بلبنها.
والصنف الرابع: ما يأكل الجيف كالجلاَّلة وهي التي أكثر علفها النجاسة، وفيها للعلماء قولان:
__________
(1) سبق تخريجه ص (17) .(15/21)
الأول: أنها حرام؛ لأنها تغذَّت بنجس، فأثَّر في لحمها.
الثاني: أنها حلال، وهو مبنيٌّ على طهارة النجس بالاستحالة، قالوا: إن هذه النجاسة التي أكلتها استحالت إلى دم ولحم وغير ذلك مما ينمو به الجسم، فيكون طاهراً، وحينئذٍ يكون ما يأكل الجيف حلالاً.
ونظير ذلك من بعض الوجوه، الشجر إذا سمُد بالعذرة، أي: بالنجاسة، هل يحرم ثمره، أو لا يحرم؟
جمهور العلماء على أنه لا يحرم ثمره؛ لأن النجاسة استحالت، إلا إذا ظهرت رائحة النجاسة، أو طعم النجاسة في الثمر فيكون حراماً، وهذا القول هو الصحيح بلا شك، أنه لا يحرم ما سمُد بالنجس ما لم يتغير.
وكان الناس يسمدُون بأرواث الحمير لما كانت هي التي تستخدم لإخراج الماء من الآبار، ولكن لو قلت لهم: سمدوا بعذرة الإنسان، قالوا: نعوذ بالله، هذا ما يجوز! مع أنهم يسمدون بأرواث الحمير، ولا فرق بينهما، فكلاهما نجس! لكن العادات تؤثر في العقائد، لمَّا كانوا لا يعتادون أن يسمدوا بعذرة الإنسان قالوا: هذا حرام، ولما كانوا يعتادون أن يسمدوا بأرواث الحمير قالوا: هذا لا بأس به.
ولكن الصحيح أنه لا بأس به في الموضعين، وأن ثمر النخيل، أو الأشجار التي تسمد بهذه النجاسات حلال وطاهر، ما لم يظهر على ثمرها أثر النجاسة.
وَمَا يُسْتَخْبَثُ كَالْقُنْفُذِ، والنِّيصِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا، وَالْوَطْوَاطِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ كَالْبَغْلِ.
الصنف الخامس: قوله: «وما يُستخبث» يعني وكل ما(15/22)
يُستخبث، ومن الذي يستخبثه؟ قال في الروض: «ذوو اليسار» (1) أي: ذوو الغِنى، يعني أن الشيء الذي يستخبثه الأغنياء من الحيوانات فهو حرام، والدليل قوله تعالى في وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] قالوا: إذاً كل ما عدَّه الناس خبيثاً فهو حرام، فهذا الدليل صحيح، ولكن الاستدلال به غير صحيح؛ لأن معنى الآية أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يحرم إلا ما كان خبيثاً، وأن ما حرمه الشرع لا تسأل عنه، فهو لا يحرم إلا الخبيث، وليس المعنى كل ما عددته خبيثاً فهو حرام؛ لأن بعض الناس قد يستخبث الطيب، ويستطيب الخبيث، فَيُعلنون عن الدخان ويقولون: طيب النكهة، لذيذ في طعمه، وطيب في رائحته، وطيب في لفافته، فيُلف لفاً طيباً، وطيب في عقبه، فتنتهي السيجارة قبل أن تشوي الفم، فيولونه من الأوصاف الطيبة ما يجعله من أطيب الطيبات، فهل ينقلب هذا الخبيث طيباً؟! لا. أبداً.
ورأينا من الناس من يستخبث الجراد ـ مثلاً ـ حتى إن زميلاً أذكره ـ كان يدرِّس معنا في المعهد ـ يقول: إني حاولت أكل جرادة فكادت نفسي تخرج معها، وعجزت أن أبلعها لكراهتي لها، ولولا أن الله لطف لمِتُّ، إلى هذه الحال يستخبثها!!
إذاً لو رجعنا إلى هذه الأمور لصار الحِلُّ والتحريم أمراً نسبياً، فيكون هذا الشيء عند قوم حلالاً، وعند آخرين حراماً؛
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/424) .(15/23)
لأن هؤلاء اعتادوه فاستطابوه، والآخرين لم يعتادوه فلم يستطيبوه، بل استخبثوه، ولكن لا يمكن أن يكون الشرع هكذا، فالشرع إذا حرَّم عيناً فهي حرام عند كل الناس، وليس مطلق كون الشيء خبيثاً يقتضي التحريم، بدليل قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا» يعني بها البصل، وقالوا: حُرِّمتْ حُرِّمتْ؟ فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس لي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها» (1) .
فإذاً نقول: لا أثر لاستخباث ذوي اليسار، وأن معنى الآية أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يحرم إلا ما كان خبيثاً، فيكون الوصف بالخبث علة لما حرَّمه الشرع، وأن الشرع لا يحرم إلا خبيثاً، فإذا حرم شيئاً فلا تبحث هل هو طيب؟ أو غير طيب؟ بل إذا حرمه فاعلم أنه خبيث، أما أن نقول: كل ما استخبثه الناس، أو ذوو اليسار منهم فهو حرام، فهذا أمر لا يمكن؛ لأن معنى ذلك أن نَردَّ الأحكام إلى أعراف الناس وعاداتهم.
وعليه، فإن هذا الصنف وهو الخامس الصوابُ خلافه وأن ما يُستخبث حلال، إلا إذا دخل في أحد الضوابط السابقة فيكون حراماً، مثاله:
قوله: «كالقنفذ» وهو حيوان معروف صغير، له شوك، إذا أحس بأحد انكمش ودخل في هذا الشوك، ولا يقدر عليه أحد
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب نهي من أكل ثوما أو بصلاً أو كراثاً ... (565) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(15/24)
حتى الحية، إلا الحدأة تمسكه بشوكه، وتطير به في السماء، ثم تطلقه، فإذا أطلقته ووصل للأرض مات وانفتح لها، فهذا القنفذ يقول المؤلف: إنه حرام؛ لأن العرب ذوي اليسار يستخبثونه، ولو وجدنا عرباً لا يستخبثونه صار عندهم حلالاً، وقد نزل بنا رجل من بلد عربي، وتسحَّر عندنا ذات يوم في رمضان، وخرج بعد صلاة الفجر على أن يأتي ليفطر معنا ويتعشى، ولما جاء إلى الإفطار، إذا معه خيشة فيها شيء يتحرك، فقلنا: ما هذه؟ قال: هذه قنافذ، فكأنه ـ والله أعلم ـ يريد أن يهديها لنا لنطبخها له في السحور، فقلنا له: هذا ما يحل في مذهبنا، قال: إنه في مذهبنا يحل، وإنه عندنا طعام طيب نتلذذ به، فهل في هذه الحال يجب علينا أن نفتح هذه الخيشة ونخرجها؟ لا؛ لأنه عنده مال محترمٌ.
قوله: «والنيص» وهو يشبه كبير القنافذ، حيوان كبير مثل الهر تقريباً، وله شوك، لكنه ليس كالقنفذ، إذا أحس بأحدٍ يلحقه، أو يريد أن يمسكه انتفض ثم انطلق عليه شوك من جسده وضربه.
قوله: «والفأرة» معروفة، وواضح أنها حرام، ولكن ليس لأجل أنها خبيثة، وإنما من أجل عدوانها؛ لأنها مجبولة على العدوان، ولهذا تسمى «الفُوَيسقة» ، ومثل الفأرة الجرذي، وهو فأرة البر، فلا يحل؛ لأنه يعتدي. ولذلك كان اليربوع حلالاً مع أنه قريب وشبيه بالفأرة واليربوع حيوان صغير رجلاه طويلتان ويداه قصيرتان وهو ذكي يحفر له جحراً ويجعل له أكثر من باب واحد، أحدها مخرجاً غير مرئي حتى يهرب منه عند الحاجة.
قوله: «والحية» الحية حرام، وهنا قاعدة للحية، والفأرة،(15/25)
وشبهها، ينبغي أن نجعلها بدل قاعدة المؤلف: «الاستخباث» ، وهي: (أن كل ما أمر الشارع بقتله، أو نهى عن قتله، فهو حرام) .
أما ما نهى عن قتله فالأمر فيه ظاهر أنه حرام؛ لأنك لو قتلته وقعت فيما نهى عنه الشارع، وأمَّا ما أمر بقتله فلأنه مؤذٍ معتدٍ.
فالذي أمر بقتله مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الدواب كلهن فواسق، يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور» (1) ، والحية أيضاً أمر بقتلها (2) ، والوزغ أمر بقتله (3) .
والذي نهي عن قتله أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد (4) ، والصرد طائر صغير مثل العصفور، له مِنْقَارٌ أحمر، قال بعضهم: إنه ما يُعرَف عند العامة «بالصبري» .
قوله: «والحشرات كلها» هذا مثال لما يستخبث، مثل: الصَّارُور، والخُنفساء، والجُعَل، والذباب، وما أشبه ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب ما يقتل المحرم من الدواب (1829) ، ومسلم في الحج/ ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1198) (71) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه مسلم في الحج/ باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1200) (75) .
(3) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ} ... } (3359) ، ومسلم في السلام/ باب استحباب قتل الوزغ (2238) عن أم شريك ـ رضي الله عنها ـ.
(4) أخرجه الإمام أحمد (6/332، 347) ، وأبو داود في الأدب/ باب في قتل الذر (5267) ، وابن ماجه في الصيد/ باب ما ينهى عن قتله (3224) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وصححه ابن حبان (5646) .(15/26)
قوله: «والوَطْواط» ويسمى عندنا الخُفَّاش، وهو الذي يطير في الليل.
الصنف السادس: قوله: «وما تَوَلَّد من مأكول وغيره كالبغل» كل حيوان تولد من مأكول وغيره فإنه حرام؛ لأنه اختلط مباح بحرام على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر فكان حراماً؛ إذ لا يمكن اجتناب الحرام حينئذٍ إلاَّ باجتناب الحلال، واجتناب الحرام واجب، فكان اجتناب الحلال واجباً.
فالبغل متولد من نزو الحمار على الفرس، ولهذا ورد في حديث رواه أبو داود ـ ولا بأس به ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أن يُنزى الحمار على الفرس (1) ، فالبغل حرام؛ والعلة في ذلك أن الله تعالى حرم الحمر، والبغل متولد من حمار وفرس، والفرس حلال، ولكن لا يمكن تمييز الحلال من الحرام فحرم الجميع؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والحاصل أننا إذا أضفنا ما ذكرتهُ إلى كلام المؤلف رحمه الله تكون الأصناف سبعة، وإذا حذفنا الخامس من كلام المؤلف صارت ستة وهي الأصناف المحرمة من حيوانات البر، أما حيوانات البحر فقد سبق أن قلنا: كلها حلال واستدللنا بقوله تعالى: { ... {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وقلنا: إن المراد بصيده ما أخذ حياً، ويطعامه ما أخذ ميتاً، هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما.
* * *
__________
(1) أخرجه أحمد (1/98) ، والنسائي في الطهارة/ باب الأمر بإسباغ الوضوء (1/89) ، وأبو داود في الصلاة/ باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (808) ، والبزار (2/259) ، والبيهقي (10/23) .(15/27)
فَصْلٌ
وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَحَلاَلٌ، كَالْخَيْلِ،.........................................
قوله: «وما عدا ذلك فحلال» «ما» موصولة، والمعنى والذي عدا ذلك، ويمكن أن نجعلها شرطية؛ لأن «عدا» فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدَّر على آخره، ولا يظهر عليه علامة الجزم، والأصل فيما ارتبط بالفاء أنه شرط؛ لأن «الفاء» الرابطة الأصل أن تأتي في الأدوات الشرطية؛ ولهذا إذا جاءت في خبر مبتدأ موصول نقول: شُبِّهَ الموصول بالشرط؛ لعمومه، وهذا يدل على أن الأصل هو الشرط، فإذا لم يكن في الكلام ما يُعيِّن أن تكون «ما» موصولة فلتجعل «ما» شرطية؛ لأن الأصل أن الربط بالفاء إنما يكون للشرط.
إذاً قوله: «وما عدا ذلك» يعني ما تجاوزه، أي: ما سوى ذلك.
وقوله: «فحلال» خبر لمبتدأ محذوف، أي: فهو حلال.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟
الجواب: الأصل، يعني أن الدليل هو عدم الدليل، أي: عدم الدليل على التحريم، مثاله:
قوله: «كالخيل» وهنا قد نحتاج إلى دليل يدل على إباحة الخيل؛ لأن بعض العلماء حرَّم الخيل كأبي حنيفة، وبعضهم كرهها كمالكٍ، وبعضهم أباحها كالإمام أحمد.
فلو قلنا: إن الخيل لا نحتاج إلى الاستدلال لحلّها؛ لأنه الأصل، قلنا: هذا صحيح، لكن ما دام قد عارَضَنَا بعض أهل(15/28)
العلم مستدلاً بدليل من القرآن، فلا بد أن نأتي بدليل واضح على حلها، فما الدليل؟
الدليل: حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحُمُر، وأذِنَ في لحوم الخيل» (1) ، فهذا واضح.
كذلك حديث أسماء في البخاري قالت: «نحرنا فرساً في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن في المدينة فأكلناه» (2) ، وقولها: «ونحن في المدينة» تعني أنه متأخر، وإنما نصَّت على أنه في المدينة؛ لأن سورة النحل التي فيها دليل من استدل على تحريمها مكية.
إذاً الخيل مباحة، ولها دليل إيجابي ودليل سلبي، فالسلبي عدم الدليل على التحريم فيكون الأصل الإباحة، والإيجابي حديث جابر وحديث أسماء ـ رضي الله عنهما ـ.
ولكن ذهب بعض العلماء إلى التحريم ـ كأبي حنيفة ـ واستدل بقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ *وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [النحل] .
فالأنعام قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة خيبر (4219) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب من أكل لحوم الخيل (1941) .
(2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحوم الخيل (5519) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب في أكل لحوم الخيل (1942) .(15/29)
تَأْكُلُونَ} ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} ، قال: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، فقسم الله سبحانه وتعالى هذه البهائم إلى قسمين: قسم له كذا، وقسم له كذا، وذكر الخيل فيما يحرم، وهي البغال، والحمير، فلتكن محرَّمة، وذكر الحكمة وهي الركوب والزينة، ولو كان الأكل سائغاً لذكره؛ لأنه غاية لمن اقتناه.
وهذا الاستدلال لولا الأحاديث لكان له وجه، ولكن إذا كانت الأحاديث مُصرِّحَة بأن الخيل حلال، فإنه لا يمكن أن يكون هذا الدليل قائماً؛ لأن السُّنَّة تفسِّر القرآن وتبينه.
فإن قلت: إذاً لماذا هذا التقسيم؟
قلنا: لأن أَعمَّ منافع الخيل هو الركوب، والزينة، وفيه أيضاً إشارة ـ والله أعلم ـ أنه لا ينبغي أن تُجعَل الخيل للأكل، وإنما تُجعل للركوب، وللزينة، وللجهاد في سبيل الله، أمَّا الأكل فهناك ما يكفي عنها وهي الأنعام، فالإبل أكبر منها أجساماً، وأكثر منها لحوماً، والبقر، والغنم، ولأنها لو اتخذت للأكل لفنيت، وبطل الانتفاع بها في الجهاد في سبيل الله.
فهذه هي الحكمة ـ والله أعلم ـ في أنها قرنت بالبغال والحمير.
وَبَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، وَالدَّجَاجِ، وَالْوَحْشِيِّ مِنَ الْحُمُرِ،........................
قوله: «وبهيمة الأنعام» وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وسُمِّيت بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، فأَمْرُها مُبْهَم عندنا، أرأيت الشاة في البيت هل إذا جاعت تقول: أعطني علفاً؟! لا، لكن ربما تثغو، فإذا ثغت هل يتعين أن يكون ثُغَاؤهَا لطلب العلف؟ لا،(15/30)
ربما لطلب الماء، وربما لطلب الفَحْل، وربما لمرض فيها، المهم لها أسباب لا نعرفها فحاجتها بالنسبة لنا مبهمة ولهذا سميت بهيمة.
فما الدليل على حل بهيمة الأنعام؟
الجواب: نقول: لا نحتاج إلى دليل؛ لأن هذا هو الأصل، ومع ذلك ـ والحمد لله ـ توجد أدلة كثيرة، قال الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] .
وقال عزّ وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:143] .
قوله: «والدجاج» وهو حلال بناءً على الأصل، وقد وردت فيه أحاديث أنها أكلت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام (1) . فيكون حل الدجاج ثابت بالنص وبالأصل.
قوله: «والوحشي من الحُمر» الحمار الوحشي حلال، والدليل الأصل، ثم نقول: عندنا دليل إيجابي، وهو حديث
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب لحم الدجاج (5518) ، ومسلم في الأيمان/ باب ندب من حلف يميناً ... (1649) عن أبي موسى رضي الله عنه.(15/31)
الصعب بن جثَّامة (1) ، وحديث أبي قتادة ـ رضي الله عنهما (2) ـ، وعندنا أيضاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمرُ الأهلية» (3) ، فإن مفهوم «الأهلية» يدل على حل الوحشية.
وَالْبَقَرِ وَالضبِ وَالظِّبَاءِ وَالنَّعَامَةِ وَالأَْرْنَبِ وَسَائِرِ الْوَحْشِ، وَيُبَاحُ حَيَوَانُ الْبَحْرِ كُلُّهُ..........
قوله: «والبقر» أي: الوحشي من البقر ـ أيضاً ـ حلال بناءً على الأصل.
قوله: «والضب» (4) وهو حيوان معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، وفيه ـ أيضاً ـ أحاديث صحيحة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأكله؛ لأنه لم يكن في أرض قومه (5) ، فكرهه كراهة نفسية لا شرعية.
قوله: «والظباء» جمع «ظبي» ، وهو معروف، وهو حلال، والدليل الأصل، ولأن في صيده في حال الإحرام فدية، وكل شيء فيه فدية فإنه حلال.
قوله: «والنعامة» معروفة، وهي حلال للأصل، ولأن
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب إذا أهدى المحرم حماراً وحشياً (1825) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1193) .
(2) أخرجه البخاري في الهبة/ باب من استوهب من أصحابه شيئاً ... (2570) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم الصيد للمحرم (1196) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه ص (16) .
موجودة في بعض النسخ.
(4) أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الشواء (5400) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة الضب (1945) عن ابن عباس وخالد بن الوليد ـ رضي الله عنهم ـ.
(5) أخرجه الشافعي في الأم (2/190) ، وعبد الرزاق في المصنف (4/398) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5/182) عن عمر وعثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم.(15/32)
الصحابة رضي الله عنهم قَضَوا فيها إذا صادها المحرم ببدنة (1) ، وهذا دليل على الحل.
قوله: «والأرنب» معروف، وهو حلال بناءً على الأصل.
قوله: «وسائر الوحش» والمراد بالوحش هنا غير المألوف من سائر جنس الحيوانات. أي: سائر الوحش غير ما استُثني فيما سبق من المحرمات فإنه حلال، يقول في الروض: «كالزرافة، والوبر، واليربوع، وكذا الطاووس، والببَّغاء» (2) ، فكل هذه حلال، بناءً على الأصل.
قوله: «ويباح حيوان البحر كله» «كل» من ألفاظ التوكيد، لكن هل هي توكيد للبحر، أو هي توكيد للحيوان؟
الجواب: هي توكيد للحيوان، والدليل الاستثناء؛ حيث قال: «إلا الضفدع» .
وقوله: «ويباح حيوان البحر كله» والدليل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، والدليل الخاص قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] ، قال ابن عباس: {صَيْدُ الْبَحْرِ} ما أخذ حياً، {وَطَعَامُهُ} ما أخذ ميتاً (3) .
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/428) .
(2) سبق تخريجه ص (14) .
(3) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/430) .(15/33)
فيباح حيوان البحر كله ولو كان على صفة الحمار، أو الكلب، أو الإنسان، إلا ثلاثة أشياء، قال:
إِلاَّ الضِّفْدِعَ، وَالتِّمْسَاحَ، وَالْحَيَّةَ، وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى مُحَرَّمٍ ـ غَيْرَ السُّمِّ ـ حَلَّ لَهُ مِنْهُ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ،...........
«إلا الضفدع، والتمساح، والحية» فهذه الثلاثة لا تُباح.
قوله: «الضفدع» قال في الروض: «لأنها مستخبثة» (1) ، مع أن الضفدع في الواقع بري بحري، إذاً ليس من حيوان البحر؛ لأن حيوان البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، وإذا كانت العلةُ الاستخباث فإننا نرجع إلى ما سبق، وهو هل الاستخباث يعتبر علة مؤثرة؟
وقوله: «والتمساح» فهذا ـ أيضاً ـ يحرم، ولو كان من حيوان البحر، قال في الروض: «لأنه ذو ناب يفترس به» (2) .
فهل هذا صحيح؟
الجواب: نعم، لكنه ليس من السباع، ولهذا ليس ما يحرم في البر يحرم نظيره في البحر، فالبحر شيء مستقل، حتى إنه يوجد غير التمساح مما له ناب يفترس به، مثل القرش، ويوجد ـ أيضاً ـ أشياء غريبة إذا شاهدت الإنسان ارتَقَت فوقه ـ كما حدثني الذين يغوصون في البحر ـ فتكون فوقه كالغمامة، ثم تنزل شيئاً فشيئاً حتى تكبس عليه، فإذا كبست عليه فإنه يموت، لكن يقول لي أحد البحَّارة: ـ سبحان الله ـ لها محل يخرج منه فضلات الطعام، إذا حكه الإنسان ارتفعت، فينجون.
والحاصل أنه توجد أشياء تقتل، ومع ذلك فإنها حلال،
__________
(1) المرجع السابق.
(2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/430) .(15/34)
وعليه فإننا نقول: الصحيح أنه لا يُستثنى التمساح، وأنه يؤكل.
وقوله: «والحيَّة» أي: أنها حرام، قال في الروض: «من المستخبثات» (1) ، وهذه العلة:
أولاً: فيها نظر كما سبق.
ثانياً: ليس ما يُستخبث في البر يكون نظيره في البحر مُستخبثاً.
وعليه فالصواب أنه لا يُستثنى من ذلك شيء، وأن جميع حيوانات البحر التي لا تعيش إلا في الماء حلال، حيُّها وميتها، لعموم الآية الكريمة التي ذكرناها من قبل.
وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى نَفْعِ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِدَفْعِ بَرْدٍ، أَوِ اسْتِسْقَاءِ مَاءٍ، وَنَحْوِهِ، وَجَبَ بَذْلُهُ لَهُ مَجَّاناً،.......
قوله: «ومن اضطُر» أصل اضطر في التصريف اضتر، ولا يصح أن نقول: اضْطَرَّ؛ لأن الإنسان مُلْجَأٌ وليس مُلجِئاً، نعم إن قلتَ: اضطَرَّ فلانٌ فلاناً أن يفعل كذا صَحَّ، أمَّا إذا كان وصفاً لمن وقعت به الضرورة فلا يجوز أن نقول: «اضْطَرَّ» ولهذا في القرآن: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] وانتبه، فبعض الطلبة يقول: «اضْطَرَّ» وهذا خطأ، والمعنى ألجأته الضرورة، أي: أصابته ضرورة إلى فعل هذا الشيء، ويلحقه الضرر إن لم يفعله.
قوله: «إلى محرم» أي: محرم من هذه الأشياء المحرمة من المأكولات.
قوله: «غير السم» استثنى المؤلف السم، وسيأتي.
قوله: «حلّ له منه ما يسدُّ رمقه» «يسد» أي: يكفي، «رمقه»
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب/ باب الحبة السوداء (5687) ، ومسلم في السلام/ باب التداوي بالحبة السوداء (2215) (88) .(15/35)
أي: بقية حياته، ولهذا الحيوان إذا وصل إلى حال الموت يقال: هذا ما فيه رمق، أي: ما فيه بقية حياة، فيحل للمضطر أن يأكل ما يسد رمقه، يعني ما تبقى معه الحياة فقط، ولا يشبع، والدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى أن قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .
وقال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] .
إذاً، إذا اضطُر الإنسان إلى هذه المحرمات جاز له أكلها، لكن الله ـ عزّ وجل ـ اشترط شرطين:
الأول: {فِي مَخْمَصَةٍ} أي: مجاعة.
الثاني: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} يعني غير مائل إلى الإثم، أي: ما ألجأه إلا الضرورة وما قصد الإثم.
في الآية الثانية: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قيل: إن الباغي هو الخارج على الإمام، والعادي الطالب للمحرَّم المعتدي.
وعلى هذا؛ فإذا كان السفر محرماً، واضطر إلى أكل الميتة قلنا: لا تأكل؛ لأنك باغٍ وعادٍ، والصواب أن الباغي والعادي وصفان للتناول، أي: غير باغٍ في تناوله، أي: لا يريد بذلك أن يتناول المحرم، ولا عادٍ أي: متجاوزٍ قدرَ الضرورة؛ لتُفسَّر الآية التي في سورة «البقرة» بالآية التي في سورة «المائدة» .(15/36)
وقوله: «حل له منه ما يسد رمقه» فهل له أن يشبع؟
الجواب: على كلام المؤلف ليس له أن يشبع؛ لأن هذا الأكل أكل ضرورة، فيتقيد بقدر الضرورة، لكن لو جاع مرة ثانية أكل ولا مانع.
وقيل: له أن يشبع إن خاف أن يجوع في المستقبل، ولكن الصواب: أنه ليس له أن يشبع، وأن هذا الأكل ضرورة، فيتقيد بقدرها، وإذا خاف أن يجوع قبل أن يصل إلى بلده مثلاً، فله أن يتزود من هذا اللحم بحمله معه، وإذا تزوَّد وحمل معه فليس عليه خطر، لكن إذا شبع من هذا اللحم الخبيث، فربَّما يكون عليه تخمة، ونتن في بطنه فيتضرر، فالصواب هنا ما ذكره المؤلف أنه لا يحل له إلا ما يسد رمقه، ويرد عليه قوَّته.
وقوله: «غير السم» استثنى السم، و «السم» مثلثة السين، فيصح أن تقول: «سَم» و «سُم» و «سِم» فالإنسان لا يغلط فيها، فالسم لو اضطر إليه الإنسان لا يأكل منه، لماذا؟
الجواب: لأنه إذا أكل من السم أسرع إلى نفسه القتل، وهذا أمر معلوم، وإذا لم يأكل ربما سهَّل الله له شيئاً يأكله، لكن إذا أكل السم فقد قتل نفسه فالسم لا يحل بأي حال من الأحوال.
مسائل:
الأولى: لو اضطُر إلى شرب لبن الأتان ـ أي: الحمارة ـ هل يحل؟
الجواب: يحل له ذلك، وكل المحرمات التي لا تضر بذاتها إذا اضطُرَّ إليها الإنسان أكل منها وشرب.(15/37)
وقد اشتهر عند العامة أن نوعاً من السعال (الكَحَّة) يُداوى بلبن الأتان، ويقولون: إذا حلّت الضرورة حلت المحرمات.
«حلت» الأولى بمعنى نزلت، و «حلت» الثانية بمعنى أُبيحت، ففيه جناس تام، وهذا غير صحيح وليس له أصل، لأمرين:
الأول: أن الله لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا.
الثاني: أن الضرورة التي تبيح المحرم يشترط لها شرطان:
الأول: أن يتعين دفع ضرورته بهذا الشيء لا بغيره.
الثاني: أن تندفع ضرورته به.
فهل الدواء ينطبق على هذا أو لا؟
الجواب: لا ينطبق، أولاً: لأن الإنسان قد يُشفى بدون تناول الدواء، وهذا شيء كثير، وكم شفينا ـ والحمد لله ـ من أمراض كثيرة بدون أن نتناول دواءً، وغالب الناس مر عليه هذا، إذاً لسنا في ضرورة لتناول الدواء.
ثانياً: ربما يكون هناك دواء غير هذا يغني عنه، فلسنا في ضرورة إلى هذا الدواء.
وقولنا: «أن تندفع ضرورته به» فهل الدواء تندفع به الضرورة؟
الجواب: قد تندفع وقد لا تندفع، يعني قد يُفيد، وقد لا يفيد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن الرسول عليه الصلاة(15/38)
والسلام: «الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» (1) ، يعني الموت، فإذا لم يرد الله ـ عزّ وجل ـ أن يشفي هذا المريض لم يُشفَ ولو بالدواء.
وإذا جاء الأمر بعد النهي فهو للإباحة، وإذا جاء الحل بعد التحريم فإنه يقصد به انتفاء التحريم، ولا ينفي أن يكون الشيء واجباً، فقول المؤلف: «حل له» أي: ارتفع التحريم؛ لأنه في هذه الحال إذا اضطر إلى أكل المحرم لا نقول: هو حلال، إن شئت فَكُل، وإن شئت فلا تأكل، بل يجب أن يأكل؛ لإنقاذ نفسه، وعليه فيكون التعبير هنا بالحل في مقابل التحريم، فلا ينافي الوجوب.
المسألة الثانية: لو اضطر إلى شرب ماء محرمٍ هل يشرب؟
الجواب: نعم يشرب، ولو اضطر إلى شرب الخمر فلا يشرب، يقول العلماء: إن الخمر لا يغني من العطش، بل يزيد العطش، ومع ذلك إذا اضطر إليه بحيث تندفع ضرورته بتناوله حل له الخمر، ومثَّلوا لذلك برجل غصَّ بلقمةٍ ولم يكن عنده إلا كأس خمر، فله أن يتناول ما يدفع اللقمة فقط ثم يمسك؛ لأنه هنا تندفع به الضرورة، أما غيرها فلا تندفع به الضرورة.
قوله: «ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد، أو استسقاء ماء، ونحوه وجب بذله له مجاناً» الاضطرار إلى مال الغير إما أن يكون إلى عينه، وإما أن يكون إلى نفعه.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.(15/39)
مثال الاضطرار إلى عينه: جاع إنسان وليس عنده إلا خبزٌ لغيره، ومثال الاضطرار إلى نفعه: بَرَدَ الإنسان واضطُر إلى لحاف غيره، فالاضطرار هنا إلى نفعه لا إلى عينه؛ لأن اللحاف سيبقى، والذي يُنتفع به هو التدفئة بهذا اللحاف.
والفرق بينه وبين الاضطرار إلى عين المال أنَّ المضطر إلى نفع المال ستبقى عين المال، والمضطر إلى عين المال سوف تفنى عين المال، فبينهما فرق واضح.
في المسألة الأولى: إذا اضطر إلى مال الغير، فإن صاحب المال إن كان مضطراً إليه فهو أحق به.
مثاله: رجل معه خبزة وهو جائع وصاحبه جائع، وليس معه خبز، فالصاحب محتاج إلى عين مال الغير، لكن الغير ـ أيضاً ـ محتاج إليه، ففي هذه الحال لا يحل للصاحب أن يأخذ مال الغير؛ لأن صاحبه أحق به منه، ولكن هل يجوز لصاحبه أن يؤثره أو لا؟
الجواب: المذهب أن الإيثار في هذه الحال لا يجوز، وقد سبق لنا قاعدة في ذلك، وهي أن الإيثار بالواجب غير جائز، ومن أمثلتها في باب التيمم إذا كان الإنسان ليس معه من الماء إلا ما يكفي لطهارته، ومعه آخر يحتاج إلى ماءٍ فلا يعطيه إياه والثاني يتيمَّم؛ لأن هذا إيثار بالواجب، والإيثار بالواجب حرام.
وعلى هذا فإذا كان صاحب الطعام محتاجاً إليه، يعني مضطراً إليه كضرورة الصاحب فإنه لا يجوز أن يؤثر به الصاحب؛ لأن هذا يجب عليه أن ينقذ نفسه، وقد قال النبي عليه الصلاة(15/40)
والسلام: «ابدأ بنفسك» (1) ، فلا يجوز أن يؤثر غيره؛ لوجوب إنقاذ نفسه من الهلكة قبل إنقاذ غيره، هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى أنه يجوز في هذه الحال أن يؤثر غيره بماله، ولكن المذهب في هذا أصح، وأنه لا يجوز، اللهم إلا إذا اقتضت المصلحة العامة للمسلمين أن يؤثره، فقد نقول: إن هذا لا بأس به، مثل لو كان هذا الصاحب المحتاج رجلاً يُنتفع به في الجهاد في سبيل الله، أو رجلاً عالماً ينفع الناس بعلمه، وصاحب الماء المالك له، أو صاحب الطعام رجل من عامة المسلمين، فهنا قد نقول: إنه في هذه الحال مراعاة للمصلحة العامة له أن يؤثره، وأما مع عدم المصلحة العامة فلا شك أنه يجب على الإنسان أن يختص بهذا الطعام الذي لا يمكن أن ينقذ به نفسه، وصاحبه.
وإذا كان طعام الإنسان كثيراً وَوَجَدَ مضطراً إليه فإنه يجب أن يبذله له وجوباً.
فالخلاصة: أنه إذا اضطر إلى عين مال الغير، فإن كان الغير مضطراً إليه فهو أحق به، ولا يؤثر غيره به، وإذا كان غير مضطر إليه وجب أن يبذله لهذا المضطر وجوباً، وهل يبذله مجاناً أو بالقيمة؟
الجواب: فيه خلاف بين العلماء، قال بعضهم: يجب أن
__________
(1) أخرجه أحمد (2/244) ، والنسائي في قطع السارق/ باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين (4/85) ، وأبو داود في اللقطة/ باب التعريف باللقطة (1710) ، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها (1289) ، وابن ماجه في الحدود/ باب من سرق من الحرز (2596) ، والحاكم (4/380) ، والبيهقي (4/344) ، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم.(15/41)
يبذله له مجاناً؛ لأن إطعام الجائع فرض كفاية، والفرض لا يجوز أن يتخذ عليه الإنسان أجراً.
وقال آخرون: يجب أن يبذله له، وعلى المنتفع به القيمة؛ لأنه أتلف عين مال الغير فلزمه عوضه، قيمته إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثلياً.
وهناك تفصيل أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه إن كان مع المضطر العوض وجب بذله، وإن كان فقيراً فليس عليه شيء؛ لأن الفقير من أين يوفي؟! وإطعام الجائع واجب، بخلاف الغني فإن عنده ما يعوض به صاحب المال، وهذا قول وسط وله وجهة من النظر.
فإن أبى صاحب المال، أو الطعام أن يعطيه، فهل لهذا المضطر أن يأخذه بالقوة؟
الجواب: نعم، له أن يأخذه بالقوة، وإذا لم يمكن أن يأخذه إلا بالقتال، فهل يقاتل؟
الجواب: قال العلماء: يقاتل، فإن قُتل صاحب المال فهو ظالم، وإن قُتل المضطر فهو شهيد.
فإذا قُدِّر أنه عجز، ولم يتمكَّن حتى مات، فهل يضمنه صاحب الطعام؟
الجواب: قال بعض العلماء: يضمنه؛ لأنه تعدَّى بترك القيام بالواجب.
وقال آخرون: إنه لا يضمن؛ لأنه لم يمت بسببه، والمشهور(15/42)
من مذهب الإمام أحمد أنه يضمنه إذا طلب الطعام ولم يعطه، أما لو مرَّ بشخص مضطر، ولكنه ما طلب فإنه لا يضمنه.
وهل مثل ذلك لو شاهدت إنساناً غريقاً بالماء، وهو يشير أنقذني يا رجل، أنقذني، وتركتَه حتى غرق، فهل تضمن أو لا؟
الجواب: المذهب: لا يضمن، والصحيح أنه يضمن لو كان قادراً على إنقاذه، أما لو كان عاجزاً فإنه لا يضمن، وفي هذه الحال أيضاً، لا ينبغي أن تنزل إلى الماء لإنقاذ غريقٍ، إلا إذا كان لديك قوة، وأنت واثق من نفسك؛ لأن عادة الغريق إذا أمسك بالمنقِذ أنه يغرقه، ويجعله تحته حتى يركب عليه، فإذا لم يكن عند الإنسان قوة بدنية، ومعرفة بالسباحة فسوف يغرق.
وغالب الناس لا يعرفون هذا الفن، وتأخذهم الشفقة والرحمة، ولكن يجب على الإنسان أن يحكِّم العقل دون العاطفة.
وإذا كان رجل في مفازةٍ ومررتُ به، ولكني خشيت منه، فهل يلزمني حمله أو لا؟
الجواب: إذا كان الخوف محققاً لم يلزمك أن تحمله، ولكن يلزمك أن تنقذه، فإذا كان معك فضل ماء، أو فضل طعام، فأعطه وامشِ، أما إذا كان الخوف غير محققٍ فيجب أن تحتاط لنفسك، وتنظر هل معه سلاح، أو ليس معه سلاح، وتركبه بعيداً عنك.
هنا حكم الاضطرار إلى عين مال الغير، أمّا الاضطرار إلى نفع مال الغير فيقول المؤلف:(15/43)
«ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد» كاللحاف أو النار وما أشبه ذلك.
«أو استسقاء ماء» مثل: الدلو والرشاء وما أشبه ذلك.
«ونحوه» كما لو اضطر إلى ماعون ليضع فيه الماء، أو ليدفِّئ به ماء، أو ليضع فيه الطعام، أو ما أشبه ذلك.
وهل مثل ذلك الاضطرار إلى ركوب السيارة، مثل أن يكون في مفازة، ومرَّ به صاحب سيارة، فهو الآن مضطر إلى الركوب، فهل هذا مثله؟
الجواب: نعم؛ لأن هذا اضطرار إلى نفع هذه السيارة مثلاً، أو البعير، أو الحمار.
وقوله: «وجب بذله له مجاناً» أي: بغير عوض. والفرق بين الاضطرار إلى نفع المال وبين الاضطرار إلى عين المال أن الأول ستبقى عين المال والثاني تغنى عين المال؛ لأن المضطر سيقول لصاحب المال: سيبقى لك مالك فلا تمنعني من الانتفاع به؛ لأن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ *} [الماعون] فمنع الماعون في هذه الحال داخل في الوعيد.
وَمَنْ مَرَّ بِثَمَرِ بُسْتَانٍ فِي شَجَرَةٍ، أَوْ مُتَسَاقِطٍ عَنْهُ، وَلاَ حَائِطَ عَلَيْهِ، وَلاَ نَاظِرَ، فَلَهُ الأَكْلُ مِنْهُ مَجَّاناً مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ،............................
قوله: «ومن مر بثمر بستان» «من» عامة تشمل الذكر والأنثى، والمسلم والذمي، كلَّ مَن مَرَّ، لكن اشترط المؤلف فقال:
«في شجرة» كأن مررت بالنخلة، وعليها ثمرها.
قوله: «متساقط عنه» كأن يكون سقط في حوض النخلة(15/44)
شيء من التمر، بخلاف المجموع، فلو أن صاحب الثمر جمعه، وجعله في البيدر ـ وهو المكان الذي ييبس فيه التمر ـ فليس له هذا الحكم.
قوله: «ولا حائط عليه» الحائط معروف، وهو الجدار المحيط بالبستان الذي يمنع من الدخول، إلا من الباب.
وقوله: «ولا ناظر فله الأكل منه مجَّاناً» وهو الحارس، فإذا كان عليه حارس وإن لم يكن عليه حائط فلا أكل، فاشترط المؤلف شروطاً:
الأول: أن يكون فيه الثمر، أو متساقطاً، لا مجنياً.
الثاني: ليس عليه حائط.
الثالث: ليس عليه ناظر.
فإن كان عليه حائط فإنه لا يأكل منه؛ لأن تحويط صاحبه عليه دليل على أنه لا يرضى أن يأكله أحد، فهو إذاً قرينة على عدم رضا صاحبه بالأكل منه، والإنسان لا يحل ماله إلا بطيب نفس منه.
كذلك إذا كان عليه ناظر فهو دليل على أن صاحبه لا يرضى أن يأكل منه أحد؛ لأنه لو رضي أن يأكل منه أحد لم يجعل عليه ناظراً يحرسه، فهو قرينة على أن صاحبه لا يرضى أن يأكل منه أحد.
فإذا جعل عليه شبكاً فهل له نفس الحكم، أو أن هذا الشبك عن البهائم؟
الجواب: الظاهر أن الشبك الذي فيه موانع شائكة عن(15/45)
البهائم فقط، والشبك الرفيع الطويل المربع، الظاهر أنه عن الجميع.
والدليل على هذا أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أذن لمن مر بالحائط أن يأكل منه غير متخذٍ خُبنة (1) ، والخبنة هي التي يجعلها الإنسان في طرف ثوبه، أي لا يحمل منه شيئاً، ولهذا قال المؤلف:
«من غير حمل» .
فشروط الأكل ثلاثة، وإن قلنا: شروط الأخذ فهي أربعة.
فإذا كنا نتكلم عن الأكل فهذه شروطه، وإذا كنا نتكلم عن الأخذ فنزيد شرطاً رابعاً وهو ألا يحمل، فإن حمل فهو حرام؛ لأن الأصل تحريم أكل المال.
ولكن في الحديث شرطاً لم يشر إليه المؤلف، وهو أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر من دخل حائطاً أن ينادي صاحبه ثلاثاً، فإذا أجابه استأذنه، وإن لم يجبه أكل (2) ، وهذا شرط لا بد منه؛ لأنه دل عليه الحديث، وما دل عليه الحديث
__________
(1) أخرجه أحمد (3/7) ، وأبو داود/ باب في ابن السبيل يأكل من الثمر ... (2619) ، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في احتلاب المواشي ... (1296) ، والبيهقي (9/359) ، قال الترمذي: «حديث حسن غريب صحيح» .
(2) أخرجه البخاري في الرقاق/ باب حفظ اللسان (6475) ، ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف ... (47) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(15/46)
وجب اعتباره، وعلى هذا فنزيد شرطاً رابعاً للأكل، وهو أن ينادي ثلاثاً، فإن أجيب استأذن، وإن لم يُجَب أكل.
أيضاً اشتراط انتفاء الحائط فيه نظر؛ لأن لفظ الحديث: «من دخل حائطاً» والحائط هو المحوطُ بشيء، وعلى هذا فلا فرق بين الشجر الذي ليس عليه حائط، وبين الشجر الذي عليه حائط.
فالذي تبين من السنة أن الشرط هو أن يأكل بدون حمل، وألا يرمي الشجر، بل يأخذ بيده منه، أو ما تساقط في الأرض، وأيضاً يشترط أن ينادي صاحبه ثلاثاً، إن أجابه استأذن، وإن لم يجبه أكل.
هذا الذي دل عليه الحديث هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك ليس بجائز، وحملوا الأحاديث على أول الإسلام، أو أول الهجرة، حين كان الناس فقراء محتاجين، وأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، ولكن الصحيح أنه عامٌّ.
فإذا قلت: هل لهذا القول حظ من النظر بعد أن كان له حظ من الأثر؟
فالجواب: نعم، وهو أن هذا مما جرت العادة في التسامح فيه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين كون الإنسان ابن سبيل، أو كان مقيماً، حتى في الحوائط التي في البلاد لا بأس(15/47)
إذا مررت أن تأخذ، ولكن جرت العادة عندنا هنا في القصيم أنهم قد يبيعون ثمرة النخل على رجلٍ آخر، فهل يبقى الحكم ثابتاً حتى ولو كان قد اشتراها رجل آخر؟ أو نقول: لما اشتراها مَلَكها، والسُّنة إنما جاءت بالنسبة لصاحب الحائط؟
هذا الثاني هو الأقرب، وأن اشتراء الرجل لها يكون بمنزلة حيازة صاحب الحائط لها، فإذا علمنا أن هذا النخل قد بيع ثمره فإننا لا نأكل منه.
ثم شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ هنا في بيان أحكام الضيافة، وإنما ذكرها المؤلف هنا من باب الاستطراد، لما ذكر ما حُرِّم لحق الله من الحيوانات وغيرها، ثم ذكر ما يتعلق باحترام مال المسلم، ذكر أيضاً الضيافة، فهذا وجه المناسبة من ذكرها هنا.
وَتَجِبُ ضِيَافَةُ المُسْلِمِ الْمُجْتَازِ بِهِ فِي الْقُرَى يَوْماً وَلَيْلَةً.
قوله: «وتجب ضيافة المسلم» «تجب» هذا بيان حكم الضيافة، والضيافة أن يتلقَّى الإنسان مَن قدم إليه، فيكرمه وينزله بيته، ويقدم له الأكل، وهي من محاسن الدين الإسلامي، وقد سبقنا إليها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ، كما قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] ، أي: الذين أكرمهم إبراهيم، ولا يمتنع أن يقال: والذين أكرمهم الله ـ عزّ وجل ـ بكونهم ملائكة.
فحكم الضيافة واجب، وإكرام الضيف ـ أيضاً ـ واجب، وهو أمر زائد على مطلق الضيافة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (1) ، أي: من كان يؤمن إيماناً كاملاً فليكرم ضيفه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (48) .(15/48)
وإكرام الضيف بما جرت به العادة يختلف باختلاف الضيف والمضيف، فأما المضيف فلقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فإذا نزل شخص ضيفاً على رجلٍ غني، فإنه يكرمه بما وسَّع الله عليه، وإذا نزل بإنسان فقير فيكرمه بما قدر عليه، فقد ينزل هذا الرجل على شخص غني، ويكون إكرامه بأن يذبح له ذبيحة، ويدعو مَنْ حوله، وقد ينزل على آخر ويكون إكرامه له أن يقدم له صحناً من التمر؛ لأن الأول عنده مال، وهذا فقير.
كذلك باعتبار الضيف، فالضيوف ليسوا على حد سواء، ينزل بك ضيف، صاحب لك، ليس بينك وبينه شيء من التكلف فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك ضيف كبير عند الناس في ماله، وفي علمه، أو في سلطانه، فتكرمه بما يليق به، وينزل عليك شخص من سِطَة الناس تكرمه ـ أيضاً ـ بما يليق به.
ومن الإكرام ـ أيضاً ـ أن لا تقدِّر عليه قِراه كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عليه السلام لما نزل به الملائكة راغ إلى أهله، قال العلماء: انطلق مسرعاً بخفية، حتى لا يقولوا شيئاً؛ لأنه جرت العادة أن الضيف إذا أراد المضيف أن يكرمه قام يحلف: والله لا تفعل كذا، ولا تفعل كذا، فإبراهيم ذهب مسرعاً بخفية، وجاء بعجل حنيذ سمين، وبعض الناس يكرم، ثم إذا قدم الغداء يقول: تفضل، والله ما وجدنا هذا اللحم اليوم إلا الكيلو بعشرة، أو اللحم غالٍ اليوم، لكن أنتم أهل لذلك! وهذا فيه مِنّةٌ.(15/49)
أو يقول: والله ما وجدت هذه الشاة إلا بمائتي ريال، وأخذ الذباح لها خمسين ريالاً، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يجوز، ولهذا قال العلماء: يكره تقويم الطعام أمام الضيف؛ لأنه مهما كان الأمر فسوف ينكسر خاطره، ولا يمكن أن يخرج وهو مسرور بهذا العمل.
وقوله: «المسلم» خرج به الكافر، وهو عامٌّ للكافر الذمي، والحربي، والمستأمِن، والمُعَاهَد، وهذا هو المشهور من المذهب، حيث اشترطوا أن يكون الضيف مسلماً، ولكن الصحيح أنه يعم المسلم وغير المسلم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (1) ، وهذا عامٌّ، ولم يقل: أخاه، فإذا نزل بك الذمي، وجب عليك أن تكرمه بضيافته.
قوله: «المجتاز به» يعني الذي مر بك وهو مسافر، وأما المقيم فإنه ليس له حق ضيافة، ولو كان المقيم له حق الضيافة لكان ما أكثر المقيمين الذين يقرعون الأبواب! فلا بد أن يكون مجتازاً، أي: مسافراً ومارّاً، حتى لو كان مسافراً مقيماً يومين، أو ثلاثة، أو أكثر، فلا حق له في ذلك، بل لا بد أن يكون مجتازاً.
قوله: «في القرى» دون الأمصار، والقرى البلاد الصغيرة، والأمصار البلاد الكبيرة، قالوا: لأن القرى هي مظنة الحاجة، والأمصار بلاد كبيرة فيها مطاعم وفنادق وأشياء يستغني بها
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/439) .(15/50)
الإنسان عن الضيافة، وهذا ـ أيضاً ـ خلاف القول الصحيح؛ لأن الحديث عامّ، وكم من إنسان يأتي إلى الأمصار، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم، وفيها كل شيء، لكن يكرهها ويربأ بنفسه أن يذهب إليها، فينزل ضيفاً على صديق، أو على إنسان معروف، فلو نزل بك ضيف ولو في الأمصار فالصحيح الوجوب.
قال في الروض: «ولا يجب إنزاله ببيته مع عدم مسجد ونحوه» (1) ، والصحيح أنه يجب أن ينزله في بيته ولو وجد مأوى ومساجد مفتوحة لأن هذا من إكرامه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطانا كلمة جامعة مانعة واضحة، وهي: «فليكرم ضيفه» (2) ، وليس من إكرامه أنه إذا تعشى، أو تغدَّى تقول له: انصرف! إذاً نقول: يجب إكرامه بما جرت به العادة في طعامه، وشرابه، ومنامه، والحديث عامٌّ.
ومناسبة ذكر الضيافة في كتاب الأطعمة: أن هذا من باب الاستطراد. لما ذكر ما حرم لحقَّ الله من الحيوانات ثم ذكر ما يتعلق باحترام مال المسلم ذكر أيضاً الضيافة فهذا وجه المناسبة.
قوله: «يوماً وليلةً» لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته» ؟ قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يوم وليلة» ، أو «يومه وليلته» ، وبعد
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره (6019) ، ومسلم في اللقطة/ باب الضيافة ونحوها (4513) (48) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الأدب/ باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه ... (6135) ، ومسلم في اللقطة/ باب الضيافة ونحوها (4513) (48) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.(15/51)
اليوم والليلة إلى ثلاث صدقة (1) ، وما عدا ذلك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يحل له أن يثوي فيحرجه» (2) «لا يحل له» أي: للضيف، «أن يثوي» أي: يبقى، إذاً الضيف إذا بقي ثلاثة أيام يغادر ولا يبقى، وقد علَّل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: «فيحرجه» فعُلم من هذا التعليل أنه إذا كان لا يحرجه فلا بأس؛ لأنه يوجد بعض الناس لو يبقى عندك أشهراً فأنت مسرور منه، ولا سيما إذا كان ضيفاً على العزاب، فالعزاب يحبون أن ينزل عليهم الضيف؛ لأنه يؤنسهم، وليس هناك نساء يخجلون، ويتعبون من الضيف.
فالمهم أن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فيحرجه» يفيد أنه إذا لم يكن فيه إحراج فلا بأس أن يبقى الضيف، ولو فوق ثلاثة أيام.
والحاصل: أن الضيافة واجبة بأربعة شروط:
الأول: أن يكون الضيف مسلماً.
الثاني: أن يكون مسافراً.
الثالث: أن يكون في القرى.
الرابع: المدة وهي يوم وليلة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه ... (6135) عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (2/97) ، وابن ماجه في الأطعمة/ باب الكبد والطحال (3314) ، والبيهقي (9/257) والحديث في إسناده مقال، انظر: الخلاصة (1/11) ، والتلخيص (1/25) .(15/52)
بَابُ الذَّكَاةِ
لاَ يُبَاحُ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، إِلاَّ الْجَرَادُ، وَالسَّمَكُ، وَكُلُّ مَا لاَ يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ،..................
قوله: «الذكاة» يعني الذبح، وأصلها من الذكاء، وهو الحدة والنفوذ، ووجه الارتباط أن الذبح يكون بآلة حادة ونافذة، ومنه الذكاء؛ لأن الذكي يكون حاد الذهن، ونافذ البصيرة.
أما في الشرع: فهو إنهار الدم من بهيمة تحل، إما في العنق إن كان مقدوراً عليها، أو في أي محل من بدنه إن كان غير مقدور عليها.
والذكاة شرط لحل الحيوان المباح، فكل حيوان مباح فإنه لا يحل إلا بذكاة.
وهل يشمل ذلك ما أبيح للضرورة، فلو أن إنساناً اضطُر إلى حمار فهل لا بد لحله من الذكاة؟
الجواب: نعم، فلا نقول: إن هذا في الأصل حرام فيحل سواء ذكيته، أم خنقته، أم أصبته في أي موضع من بدنه، بل نقول: إنه لما أبيح للضرورة صار حكمه حكم ما أحل لغير ضرورة.
قوله: «لا يباح شيء من الحيوان» أي: لا يحل.
قوله: «المقدور عليه بغير ذكاة» هذا فيه نظر؛ لأننا ذكرنا تعريف الذكاة الشامل للمقدور عليه، والمعجوز عنه، وأن الذكاة إنهار الدم من حيوان مأكول، إما في الرقبة، وإما في(15/53)
أي موضع كان من بدنه عند العجز، وحينئذٍ لا نحتاج إلى تقييد ذلك بقولنا: «المقدور عليه» ؛ لأن الذكاة تكون حتى في غير المقدور عليه، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام المؤلف.
فإن قلت: ما الدليل على أنه لا يحل؟ فالدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، فاشترط الله الذكاة، فإذا اشترط الله الذكاة لحل هذه التي أصابها سبب الموت، فكذلك غيرها من باب أولى؛ لأنا نقول: إذا كانت هذه التي أصيبت بسبب الموت لا تحل إلا بذكاة، فالتي لم تصب من باب أولى؛ لأنه إذا لم يُعفَ عن الذكاة في هذه التي أصيبت بسبب الموت، فألاَّ يعفى عنها فيما سواها من باب أولى، وحينئذٍ لا يحل إلا بذكاة.
أما التعليل فهو ما أجمع عليه الأطباء من أن احتقان الدم في الحيوان مضرٌّ جدّاً بالصحة، ويسبب أمراضاً عسيرة البرء، وحينئذٍ نعرف حكمة الشارع في إيجاب الذكاة، ولهذا فالمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، هذه الخمس أصيبت بما يُميتها، يعني ما ماتت حتف أنفها، ومع ذلك لم تحل؛ لاحتقان الدم فيها.
قوله: «إلا الجراد» فيحل بدون ذكاة، مع أن الجراد لا يعيش إلا في البر، لكنه يحل بغير ذكاة، لماذا؟
الجواب: أولاً: من حيث الدليل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحلت لنا(15/54)
ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت» (1) ، وهذا يروى من حديث ابن عمر موقوفاً عليه، ومرفوعاً بسندٍ ضعيف، لكن حتى لو كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع؛ لأن هذه الصيغة من الصحابي يحكم لها بالرفع.
ثانياً: من حيث التعليل والحكمة فالجراد ليس فيه دم حتى يحتاج إلى إنهاره؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ» (2) .
وقال بعض العلماء: لا بد أن يموت بسبب من الإنسان، ولو مات بدون سببٍ من الإنسان فإنه لا يحل، لكنه قول ضعيف.
قوله: «والسمك» السمك يعيش في الماء، وعلى هذا فقوله:
«وكل ما لا يعيش إلا في الماء» من باب عطف العامّ على الخاص، فكل شيء لا يعيش إلا في الماء فإنه يحل بدون ذكاة، والدليل من القرآن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] .
ومن السنة ما في حديث أبي عبيدة الطويل الذين بعثهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية، وأعطاهم تمراً، ونفد التمر، وجاعوا، حتى
__________
(1) أخرجه البخاري في الشركة/ باب قسمة الغنائم (2488) ، ومسلم في الأضاحي/ باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم (1968) عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيراً ... (4361) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة ميتات البحر (1935) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(15/55)
قيَّض الله لهم حوتاً كبيراً يسمى العنبر، وجدوه على الساحل، وكان عظيم الجسم، حتى إنه ليجلس النفر في قحف عينه فيسعهم من كبره، وحتى إنهم أخذوا ضلعاً من أضلاعه، ونصبوه، ورحلوا أكبر جمل عندهم فمر من تحت الضلع، فأكلوا، وشبعوا، وأتوا بشيء منه للنبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
وكذلك ـ أيضاً ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت» (2) ، فصار في حل السمك والحوت بغير ذكاة دليل من الكتاب، ومن السنة.
وهو حلال ولو كان فيه دم، ومعلوم أن السمك الكبير فيه دم.
فإن قلت: كيف يحل وفيه دم محتقن، وقد علَّلتَ تحريم الميتة، وشبهها بأن فيها دماً محتقناً ضاراً؟
قلنا: إن الضرر، وانتفاء الضرر، بيد من بيده النفع والضر، وهو الله عزّ وجل، وإذا أباح الله لعباده ميتة فإننا نجزم بأن دمها المحتقن لا يضر، وهذا من حكمة الله عزّ وجل؛ وذلك لأن الحصول على السمك حتى تذكيه أمر متعسِّر، أو متعذِّر، فلذلك كان من حكمة الله ـ عزّ وجل ـ ورحمته أنه أباح لعباده هذا السمك بدون ذكاة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .
(2) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الذبائح والصيد/ باب ذبائح أهل الكتاب، ووصله البيهقي (9/282) عن عليّ بن أبي طلحة عنه. وانظر: الإرواء (8/165) .(15/56)
إذاً كل حيوان مباح يشترط لحلِّه الذكاة، إلا حيوان البحر، والجراد، ولو وجدنا غير الجراد مما أباح الله وليس فيه دم، فحكمه حكم الجراد.
ويوجد الآن أشياء تطير في المزارع شبيهة بالجراد، فهذه ـ أيضاً ـ إذا أخذ منها شيء وجمع، وأُكل بعد أن يشوى بالنار، أو يُغلى بالماء صار حلالاً.
وَيُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَهْلِيَّةُ الْمُذَكِّي، بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، مُسْلِماً أَوْ كِتَابِيّاً، وَلَوْ مُرَاهِقاً، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ أَقْلَفَ، أَوْ أَعْمَى،................
قوله: «ويشترط للذكاة أربعة شروط» ظاهر كلام المؤلف الحصر، وأن الشروط أربعة، ولكن سيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ بعد الكلام عليها أن هناك شروطاً أكثر من أربعة تبلغ إلى عشرة.
قوله: «أهلية المذكي» وذلك بأن يجتمع فيه وصفان: العقل، والدين، أما العقل فقال المؤلف:
«بأن يكون عاقلاً» والعقل معروف، وهو ما يعقل به الإنسان الأشياء، وضد العاقل مَن لا عقل له، سواء كان مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو سَكراناً، أو دون التمييز، المهم أنه لا عقل له، ولا تمييز، فهذا لا تصح ذكاته.
فلو أن طفلاً دون التمييز أمسك عصفوراً وذبحه فإن هذا العصفور لا يحل؛ لأنه غير عاقل، ولو أن مجنوناً سطا على شاةٍ، وذبحها في رقبتها فإنها لا تحل؛ لأنه ليس له عقل.
ولماذا يشترط العقل؟
الجواب: قالوا: لأنه لا بد من قصد التذكية؛ لأن الله(15/57)
يقول: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، والفعل لا بد فيه من قصد، وغير العاقل ليس له قصد.
ومن هنا نأخذ شرطاً وهو قصد التذكية، يعني زيادة على العقل نشترط أن يقصد التذكية، فإن لم يقصدها، مثل لو أن إنساناً أمسك بسكينٍ ليقطع حبلاً، وكان الحبل مرتفعاً على رقبة شاةٍ، وهو بقوة اتكائه على الحبل انقطع الحبل بسرعة، ونزلت السكين على رقبة الشاة وقطعتها، فلا تحل؛ لأنه لم يقصد التذكية.
مسألة: هل يشترط مع ذلك قصد التذكية للأكل، أو إذا قصد التذكية لغرض غير الأكل حلت الذبيحة؟
الجواب: في هذا قولان لأهل العلم، منهم من قال: يشترط ذلك، وأنه لا بُد أن يقصد الأكل، فإن لم يقصد الأكل لم تحل الذبيحة؛ لأن الذبح إيلام وإتلاف، إيلام للحيوان، وإتلافٌ للمال، وإذا لم يقصد الإنسان الأكل فلا يحل له أن يؤذي الحيوان، ويتلف المال.
وفي أي صورة يمكن ألا يقصد الأكل؟
الجواب: مثل إنسان عنده شاة كثيرة الثغاء، وهو يريد أن ينام، وعجز أن ينام منها، فقال: هذه التي آذتني، لأذهبنَّ وأذبحها، فذهب وذبحها لا لقصد الأكل، أو رجل حصل نزاع بينه وبين آخر في شاةٍ فقال: هذه التي أدَّتْ بي إلى هذا النزاع والله لأذبحنَّها، فذبحها لقصد حَلِّ يمينه، وما قصد أكلها، فمن العلماء من قال: إنها لا تحل، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن(15/58)
تيمية رحمه الله، ومنهم من قال: إنها تحل؛ لأنه قَصَد التذكية، وقَصْد التذكية قصد صحيح، سواء قصد الانتفاع بها بالأكل، أو قصد حل يمينه، أو قصد اندفاع ضررها.
فتولد من هذا الشرط شرطان:
الأول: قصد التذكية.
الثاني: هل يشترط قصد الأكل أو لا يشترط؟
على الخلاف الذي سبق ذكره.
والظاهر لي من النصوص أنه إذا قصد التذكية فإنها تحل وإن لم يقصد الأكل، على أن لقائل أن يقول: إن عموم قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} مستثنى من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، ومعلوم أن التحريم هنا تحريم الأكل، فيكون المعنى إلا ما ذكيتم للأكل، فالمهم أن اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ له قوة من النظر بلا شك، لكن الذي يظهر أن الأخذ بالعموم أرفق بالناس.
مسألة: لو أن رجلاً صال عليه جمل، وكان معه سيف، فأراد أن يدافع عن نفسه فقال: بسم الله، وضربه دفاعاً عن النفس؛ حتى أصاب منحره، أو مذبحه، فهل يحل أو لا؟
الجواب: هذا لا يحل؛ لأنه ما قصد التذكية، بل قصد الدفاع عن نفسه، ولهذا لا يهمهم أن يضربه في رقبته، أو في رأسه، أو في ظهره، أما لو قصد التذكية، وقال: ما دام صال عليّ فسأذبحه ذبحاً، وقصد التذكية مع قصد دفع الصول، فهنا ينبني على الخلاف في اشتراط قصد الأكل أو لا.(15/59)
قلنا: إن أهلية المذكي تدور على أمرين: العقل والدين، فما هو الدين؟ قال المؤلف:
«مسلماً» المسلم هنا من دان بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن هذه الشريعة نسخت جميع الأديان، فكلُّ الأديان باطلة ما عدا شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومَن زعم أن ديناً غير الإسلام قائمٌ اليوم مقبول عند الله فهو كافر مرتد؛ لأنه كذَّب قول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] ، وهذه الجملة تُفيد الحصر؛ لتعريف طرفيها، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلا فرق بين اليهودي، والنصراني، والشيوعي، والمرتد، وغيرهم في أن دينهم لن يقبل، ولن ينفعهم عند الله.
مسألة: هل يمكن أن يُطلق الإسلام على غير المسلمين في حال قيام شرائعهم؟
الجواب: نعم، وهذا في القرآن كثير، قال تعالى عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قوله: «أو كتابيّاً» أي: يهوديّاً، أو نصرانيّاً، فإن اليهودي والنصراني تحل ذبيحتهما؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير الآية: طعامهم ذبائحهم (1) ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب/ باب ما يذكر في سُمِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم (5777) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(15/60)
وهذا أمر معلوم؛ لأننا لو فسَّرنا الطعام هنا بالخبز، والتمر، وما أشبهه لم يكن فرق بين الكتابيين وغير الكتابيين، فإن غير الكتابيين ـ أيضاً ـ يحل لنا أن نأكل خبزهم، وتمرهم، وما أشبه ذلك، فالمراد بطعامهم ذبائحهم، وإنما أضافه إليهم؛ لأنهم ذبحوه ليَطْعَموه.
ومن السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأكل ذبائح اليهود، فقد أهدت إليه امرأة شاةً في خيبر فقبلها (1) ، ودعاه يهودي إلى خبز شعير، وإهالةٍ سنخة وهي الشحم المتغير المنتن، فقبل (2) ، وأكل عليه الصلاة والسلام، وثبت ـ أيضاً ـ في الصحيح أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أخذ جراباً من شحم رُمي به في خيبر، فالتفت فإذا النبي صلّى الله عليه وسلّم وراءه يضحك (3) ، وهذه سنة إقرارية.
فإن قلت: أفلا يمكن أن يكون الذابح مسلماً؟
الجواب: نقول: هذا احتمال بعيد، وخلاف الظاهر، ولو كان لا يحل ما قدموه للرسول عليه الصلاة والسلام إلا بتذكية مسلم، ولكان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يسأل عنه حينئذٍ؛
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/210، 270) إلا أن الحافظ ابن حجر قد نقل هذا الحديث في «أطراف المسند» (1/472) بلفظ: «أن خياطاً» بدل «يهودياً» وهو الموافق لبقية روايات المسند (3/252، 289، 290) وهو الموافق لرواية البخاري (5379) غير أنه لم يذكر خبز الشعير والإهالة السنخة.
(2) أخرجه البخاري في فرض الخمس/ باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب (3153) ، ومسلم في الجهاد والسير/ باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب (1772) عن عبد الله بن مغفل ـ رضي الله عنه ـ، واللفظ لمسلم.
(3) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب ذبيحة المرأة والأَمَة (5504) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.(15/61)
لأن الأصل فيما بأيديهم أنهم هم الذين ذبحوه.
مسألة: هل نقول: طعام الذين أوتوا الكتاب كل ما اعتقدوه طعاماً، وإن لم يكن على الطريقة الإسلامية؟
الجواب: لا، وهو المشهور عند أهل العلم عامتهم، وذهب بعض العلماء ـ من الأقدمين والمتأخرين ـ إلى أن ما اعتقدوه طعاماً فهو حلال لنا؛ لأن الاختصاص في قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] لولا أنَّ له فائدة لم يكن لذكره فائدة، وهي أن طعامهم يتميَّز عن طعامنا باعتقادهم إياه طعاماً، فإن كانوا مثلاً يعتقدون أن المصعوق بالكهرباء ونحوه يعتبر طعاماً فهو حلٌّ لنا، كما لو أن أحداً من الفقهاء خالفنا في شرط من شروط الذكاة، وذكى الذبيحة على اعتقاده فإنها تكون حلالاً لنا، ولنفرض أن شافعياً ذبح ذبيحة ولم يسم الله؛ فهي حلال لنا وله؛ لأنه اعتقدها حلالاً، أما لو ذبحها من يعتقد التحريم فهي حرام.
فالمهم أن بعض العلماء قال: ما اعتقده أهل الكتاب طعاماً فإنه حلال، ولا نحتاج إلى قطع الحلقوم والمريء، ولا إلى التسمية، لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء خلاف ذلك، وأنه لا بد أن يذكى وينهَر الدم فيه، ولا بد أن يسمى الله عليه؛ كما سيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ في الشروط المستقبلة.
وقوله «كتابياً» هل يشترط أن يكون الكتابي أبواه كتابيان؟
الجواب: الصحيح أنه لا يشترط أن يكون أبواه كتابيين، وأن لكل إنسان حكم نفسه، فلو قُدِّر أن الأب شيوعي، أو وثني،(15/62)
وأن ابنه اعتنق دين اليهود مثلاً، أو دين النصارى، فإن ذبيحته ـ على القول الراجح ـ حلال؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
وقد شكك بعض الناس في عصرنا في حل ذبيحة اليهودي والنصراني، وقال: إنهم الآن لا يدينون بدين اليهود، ولا النصارى، وهذا ليس بصواب، نعم إن قالوا: نحن لا ندين بهذه الأديان، ولا نعتبرها ديناً، فإن ردتهم واضحة، أما إذا قالوا: إنهم يدينون بها، ولكن عندهم شركاً، فإن ذلك لا يمنع، بدليل أن الله ـ تعالى ـ أنزل سورة المائدة، وحكى فيها عن النصارى ما حكى من القول بالتثليث، وكفَّرهم بذلك، فقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] ، وفي نفس هذه السورة قال سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، فالقرآن نزل بعد أن غيَّروا وبدَّلوا، بل بعد أن كفروا، ومع ذلك أحل ذبائحهم ونساءهم، وعلى هذا، فما دام هؤلاء يقولون: إنهم يدينون بدين النصارى، أو بدين اليهود فإن لهم حكم اليهود والنصارى، ولو كان عندهم تبديل وتغيير، ما لم يقولوا: إنهم مرتدون.
قوله: «ولو مراهقاً» المراهق من قارب البلوغ، فظاهر كلام الماتن أن المميز ـ الذي دون المراهقة ـ لا تحل ذبيحته، ولكن المذهب خلاف ذلك، وأن المميز تحلّ ذبيحته؛ لأنه عاقل يصح منه القَصْد، فتحل ذبيحته.
والمميز قيل: مَن بلغ سبع سنين، وقيل: من فهم الخطاب(15/63)
وردَّ الجواب، وهذا القول هو الراجح، ولكن الغالب أن ذلك يحصل في تمام سبع سنواتٍ، ومَنْ ميَّز قبل ذلك فإنه يعتبر خارجاً عن الغالب، ومن تأخر تميزه عن ذلك فهو ـ أيضاً ـ خارج عن الغالب، فالغالب أن السبع وما قاربها نزولاً أو علوّاً يكون بها التمييز.
قوله: «أو امرأة» أي: فتحل ذبيحتها؛ لعموم قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، والخطاب يشمل الرجال والنساء.
ولأن جارية كانت ترعى غنماً للأنصار بسلع، فأصاب الموت واحدة من الغنم، فأخذت حجراً فذبحتها به، فأجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك (1) .
وقوله: «أو امرأة» هذا إن كان فيه خلاف فهو خلاف ضعيف، وإلاَّ فإنه رفع للتوهم.
وقوله: «أو امرأة» يشمل الطاهرة والحائض، فحتى لو كانت حائضاً فإن ذبيحتها تحل؛ لأن لها أن تذكر الله وتسمي، بل إن منعها من قراءة القرآن في النفس منه شيء؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام: ليس في منع الحائض من قراءة القرآن سنة صحيحة صريحة.
قوله: «أَوْ أَقْلَفَ» الأقلف هو الذي لم يختن، أي: لم تؤخذ قُلفته، فتحل ذبيحته، وأشار المؤلف إلى ذلك؛ لأن بعض العلماء قال: إن الأقلف لا تصح ذبيحته، ولا تؤكل، لكن هذا ليس
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة ... (1718) (18) عن عائشة رضي الله عنها.(15/64)
بصواب، والصواب أن ذبيحته حلال، وأنها لا تكره، ولا علاقة بين القُلفة وبين الذبح.
قوله: «أَوْ أَعْمَى» فتصح ذبيحته إذا عرف موضع الذبح، وأصابه.
وَلاَ تُبَاحُ ذَكَاةُ سَكْرَانَ، وَمَجْنُونٍ، وَوَثَنِيٍّ، وَمَجُوسِيٍّ، وَمُرْتَدٍّ.
قوله: «وَلاَ تُبَاحُ ذكاة سَكْرَانَ» لأنه غير عاقل، وليس له قصد.
قوله: «وَمَجْنُونٍ» فلا تباح ذكاته؛ لفقد العقل.
قوله: «وَوَثَنِيٍّ» وهو من يعبد الأوثان، فلا تصح ذكاته؛ لأنه ليس بمسلم ولا كتابي، فالذي يعبد وثناً، أو ملكاً، أو نبياً لا تصح ذكاته، والذي يعبد الله لكن يدعو النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضاً لا تصح ذكاته، وكذلك الذي يعبد الله ويدعو ولياً فإنه لا تحل ذبيحته، وهذه المسألة مشكلة؛ لأنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية قوم يدعون القبور والأموات، ويستغيثون بهم، حتى وإن كانوا بعيدين عنهم، تجده يدعو الولي، أو النبي، أو يدعو علياً، أو الحسن، أو الحسين، وما أشبه ذلك، وهذا شرك، فمن كان كذلك فإن ذبيحته لا تحل لأنه مشرك ولو كان يعبد الله بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] ، فالشرك لا يغفره الله لا حكماً ولا جزاءً، وبناء على ذلك فإن المشرك لا تصح منه عبادة، ولا يصح منه أي عمل يشترط له الإسلام.
قوله: «وَمَجُوسِيٍّ» وهو الذي يعبد النار، وعطفه على الوثني(15/65)
من باب عطف الخاص على العام؛ لأنه في الواقع يعبد الوثن لكن وثنه نار، فالمجوس الذين يعبدون النار لا تصح ذبيحتهم، وإنما نص عليه ـ رحمه الله ـ؛ لأن المجوس تؤخذ منهم الجزية كأهل الكتاب، لكن لا تحل ذبائحهم بإجماع العلماء، إلاَّ أنه يُروى عن أبي ثور أنه أباح ذبائح المجوس قياساً على أخذ الجزية منهم، والصواب أن أخذ الجزية منهم لا لأنهم مجوس، ولكن لأن جميع الكفار إذا بذلوا الجزية وجب الكف عن قتالهم، سواء كانوا من أهل كتاب، أو من المجوس، أو من الوثنيين، أو غيرهم لكن نص على المجوس لئلا يقول قائل إنهم أهل ذمة فتجوز ذبائحهم ولا تجوز مناكحتهم.
قوله: «وَمُرْتَدٍّ» أي: عن الإسلام، بأي نوع من أنواع الردَّة، فمن كذَّب خبراً من أخبار الله مع علمه أنه من خبر الله فهو مرتد، لا تحل ذبيحته، ومن جحد وجوب الفرائض الظاهرة المجمع عليها فهو مرتد، لا تحل ذبيحته، ومن سخر بشيء من الدين فهو مرتد، بل من كره ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو شيء منه فهو مرتد، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ *} [محمد] ، ولا يحبط العمل إلاَّ بالردة، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] ، وتارك الصلاة مرتد فلا تحل ذبيحته، وعلى قول من يقول: إنه لا يكفر تحل ذبيحته، فلو ذبح تارك الصلاة ذبيحة، ودعا إليها رجلين، أحدهما يقول: إن تارك الصلاة لا تحل ذبيحته؛ لأنه مرتد،(15/66)
والثاني يقول: تحل ذبيحته؛ لأنه غير مرتد، فهنا يأكلها من لا يكفِّره، ومن كفَّره لا يأكلها، نعم لو أن من يقول بعدم ردته يترك أكلها تعزيراً له وهجراً لما عمل لعله يرتدع، فلو فعل ذلك لكان خيراً.
الثَّانِي: الآلَةُ: فَتُبَاحُ الذَّكَاةُ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ وَلَوْ مَغْصُوباً مِنْ حَدِيدٍ وَحَجَرٍ وَقَصَبٍ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ السِّنَّ والظُّفُرَ.
قوله: «الثاني: الآلة» أي: الثاني من شروط حل الذكاة الآلة، فلا بد أن يكون الذبح بآلة، فلا يصح الخنق، ولا التردية ـ أي: أن يرديها من الجبل حتى تموت ـ ولا الحذف بأن يحذفها بشيء حتى تموت، ولا الضرب، فكل هذا لا تحل به الذبيحة، بل لا بد من آلة، ولا بد في هذه الآلة من أن تكون محدَّدة؛ ولهذا قال المؤلف:
«فتباح الذكاة بكل محدد» أي: له حد يقطع، أما إذا لم يكن له حد فلا تحل الذكاة به، فلو صعقها بالكهرباء فلا تحل؛ لأنها غير محددة، ولا تنهر الدم، ولا بد من آلة محدَّدة تنهر الدم، أي: تجعله يسيل.
قوله: «ولو مغصوباً» «لو» هذه إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: إن الآلة المغصوبة، أو المحرَّمة لحق الله كالذهب والفضة، لا تحل الذكاة بها؛ لأن ما ترتب على غير المأذون فهو فاسد؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، فإذا غصب إنسان سكيناً من شخص، أو سرقها ثم ذبح بها فعلى كلام المؤلف تحل الذبيحة، وعلى القول الثاني لا تحل، وحجة
__________
(1) أخرجه البخاري في الصيام/ باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/67)
المؤلف أن التحريم هنا ليس خاصاً بالذبح، فتحريم استعمال المغصوب عام، وعلى هذا فتصح الذكاة بالمغصوب؛ لأن الشرع لم يقل: لا تذكِّ بالمغصوب، حتى نقول: إنه إذا ذكَّى فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الشرع، بل الشرع قال: لا تغصب أموال الناس، ولا تستعملها في أي شيء، فالنهي عام، ولمَّا لم يكن النهي خاصاً لم يفسد الذبح.
ونظير ذلك، الغِيبة محرمة على الصائم وغير الصائم، فلو أن رجلاً اغتاب الناس وهو صائم لا يفسد صومه؛ لأن النهي عن الغيبة عام في الصيام، وغير الصيام، وإن كان في الصيام قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يدع قول الزور، والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (1) ، ولا شك أن الغيبة من قول الزور.
ولو صلى الإنسان بثوب مغصوب، فالمذهب يقولون: إنها لا تصح، فيحصل تناقض في كلامهم، والقول الثاني: أنها تصح؛ لأن النهي ليس عن الصلاة في الثوب المغصوب، بل عن غصب الثوب واستعماله، فالنهي عام.
قوله: «من حديد وحجر» (من) بيان لكل محدد، أي: سواء كان المحدد من حديد، أم حجر. فإذا كان الحجر محدداً ومررت به على الرقبة حتى ينهر الدم أصبحت الذكاة به.
قوله: «وقصب» كل قصب يكون محدداً تحل به الذكاة، ولو
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة (5484) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (6، 7) (1929) واللفظ له عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.(15/68)
جاء بآلة حدُّها يسير، لكنّه مَغَطَ رقبة الطائر حتى انقطعت بالمغط والذبح، فهنا لا تحل؛ لأنه اجتمع مبيح وحاظر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الصيد: «إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» (1) ، وهنا لا ندري هل انقطعت رقبة العصفور بالمغط، أو بالسكِّين؟
قوله: «وغيره» لأن القاعدة هي أن يكون محدداً ينهر الدم، فالخشب المحدد، وكل شيء محدد فإنه تباح التذكية به، وتحل الذبيحة.
مسألة: هل تحل الذكاة بالذهب؟ الصحيح أنها تصح مع الإثم؛ لأنه حرام.
قوله: «إلاَّ السن والظفر» المراد كل سِنٍّ وظفر، ولو كان محدداً، وعلى هذا فما يفعله الصبيان من قطع رقبة العصفور بأظفارهم، ثم يأكلونه حرام، حتى لو كان الظفر حادّاً، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ، إلاَّ السن والظفر، أما السن فعظم، وأمَّا الظفر فمُدى الحبشة» (2) ومُدى: جمع مدية، وهي السكين، والحبشة معروفون.
وتعليل النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه إشكال بالنسبة لقول المؤلف؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما السن فعظم» ، ولم يقل: «أما السِّنُّ فسنٌّ» ، ولو قال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .
(2) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن (450) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(15/69)
أما السن فسن، لقلنا: السن هو الذي لا تجوز الذبيحة به، لكنه قال: «أما السن فعظم» ، فالعلة أعم من المعلول؛ لأن كل سن عظم، وليس كل عظم سناً.
والعلماء مختلفون في هذا، فمنهم من قال: أما السن فعظم مع كونه سِنّاً، فإذا كان عظم وليس بسنٍّ فقد تخلَّف أحد جُزئي العلة وهي السن، فتحل الذبيحة به.
وقال بعض العلماء ـ ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ: إن الذكاة لا تصح بجميع العظام؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما السنُّ فعظم» والتعليل بكونه عظماً معقول المعنى؛ لأن العظم إن كان من ميتة فهو نجس، والنجس لا يصح أن يكون آلة للتطهير والتذكية، وإن كان العظم من مذكاة فإن الذبح به تنجيس له، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الاستنجاء بالعظام؛ لأنه ينجِّسه، والعظام زاد إخواننا من الجن؛ لأن الجن لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، يجدونه أوفر ما يكون لحماً (1) ، وعليه يكون تعليل عدم جواز التذكية بالعظم معقول المعنى.
وأولئك قالوا: إن العلة مركَّبة من جزئين: السن، والعظم، ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يريد العظام جميعاً لقال: «إلاَّ العظم والظفر» ، فلمّا لم يقل ذلك علمنا أنه أراد المعنيين.
لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام؛ لأن التعليل واضح، والقاعدة الشرعية أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/70)
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأما الظفر فمدى الحبشة» فيه إشكال؛ لأننا لو فرضنا أن للحبشة مدى وسكاكين خاصة بهم، لا يستعملها إلاَّ هم، فهل تصح التذكية بها؟ لأن غير الظفر وإن كان حديداً يصنعونه على صفة معيّنة لا يصنعها إلاّ هم، لا يقتضي أن يكون خاصاً بهم؛ لأن الناس يذبحون بالمحدد في كل مكان، لكن الذين جعلوا أظفارهم مدى هم الحبشة؛ ولهذا لا يقصون أظفارهم بل يتركونها تكبر حتى تطول، ويذبحون بها كل ما يمكن ذبحه بها، وبناءً على ذلك نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الظفر؛ لأنها مدى الحبشة، لأن فيه مفسدتين:
الأولى: أننا لو جعلنا الأظفار آلة للذبح لفاتنا مشروعية القص للأظفار، وفي ذلك مخالفةٌ للفطرة.
الثانية: أنه بذلك يشبه سباع الطير، ونحن نهينا أن نتشبَّه بالحيوانات.
ويمكن أن نقول أيضاً: إنه يتضمن مشابهة الكفار؛ لأن الحبشة في ذلك الوقت كانوا كفاراً، والتشبه بالكفار محرم وأهل الحبشة لا يظهر أنهم كلهم أهل كتاب وعلى فرض أنهم كلهم أهل كتاب فإن التشبه بأهل الكتاب فيما يختص بهم محرم منهي عنه.
وقوله: «الظفر» يشمل ظفر الآدمي، وغيره، والمتصل، والمنفصل، وتقدم الخلاف في العظام.
مسألة: ما حكم الذبح بالأسنان التركيبية؟ إن كانت من عظم فعلى الخلاف، وإن كانت من غير العظام فيجوز الذبح بها،(15/71)
هذا إذا كانت غير مركبة على الفم، فإن كانت مركبة على الفم فلا يجوز؛ لأنه يتلطخ بالدم النجس، ويكون متشبهاً بالسباع.
الثَّالِثُ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ، فَإِنْ أَبَانَ الرَّأْسَ بِالذَّبْحِ لَمْ يَحْرَمِ الْمَذْبُوحُ، وَذَكَاةُ مَا عُجِزَ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ، وَالنَّعَمِ الْمُتَوَحِّشَةِ، وَالْوَاقِعَةِ فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهَا، بِجَرْحِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَدَنِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ فَلاَ يُبَاحُ.
قوله: «الثالث: قطع الحلقوم والمريء» في الرقبة أربعة أشياء: ودجان، وحلقوم، ومريء.
«الودجان» : عرقان غليظان يحاذيان الحلقوم والمريء، ويسميان الشرايين.
«الحلقوم» : مجرى النفس.
«المريء» مجرى الطعام والشراب.
والحلقوم قصب مضلَّع، وهذا من حكمة الله ـ تعالى ـ أن جعله قصبة؛ لأن الحلقوم لو كان كالمريء لم يخرج النفس، ولو خرج لكان بمشقة شديدة، لهذا جعله الله قصبة، وجعله سبحانه ذا أضلاع، لأجل سهولة المضغ، وسهولة تنزيل الرأس ورفعه، والله ـ سبحانه وتعالى ـ حكيم ورحيم.
والحلقوم أعلى من المريء من جهة الجلد، أما من جهة الرقبة فالمريء أعلى.
فلا بد من قطع الحلقوم والمريء؛ لأن بقطعهما فقد الحياة، وأما الودجان فظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط قطعهما.
والدليل على اشتراط قطع الحلقوم والمريء أن هذا هو الذبح، وهو معروف عند العرب، أن الذابح يأتي على الرقبة فيقطع الحلقوم والمريء، وتعليل آخر أن بذهابهما ذهاب الحياة، فإذا انفتح الحلقوم مات الحيوان، إلا أن يبادر ويعالج فربما يعيش، وكذلك المريء مجرى الطعام والشراب، فإن الطعام مادة(15/72)
الحياة كما أن النفس مادة الحياة، فبقطعهما تزول الحياة، فكان قطعهما واجباً.
مسألة: هل يشترط إبانتهما؟ لا يشترط، فلو قطع نصف الحلقوم ثم أدخل السكين من تحته، وقطع نصف المريء حلت الذبيحة؛ لأن قطعهما وإبانتهما ليست بشرط، وهو محل خلاف.
أما حكم قطع الودجين ـ على ما ذهب إليه فقهاؤنا ـ فهو سنة، وليس بشرط لحل الذبيحة، ولمَّا لم يرد في هذا نص صريح اختلف العلماء في هذه المسألة؛ لأن النص الصريح الصحيح الوارد في هذا المقام هو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» (1) ، وكذلك ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم ـ وإن كان في سنده مقال ـ: «النحر في الحلق واللبَّة» (2) ، فالمشهور من المذهب أن الشرط قطع الحلقوم والمريء.
وقيل: إن الشرط قطع الودجين، وإن لم يقطع الحلقوم والمريء، واستدلَّ هؤلاء بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم» (3) ، ولم يقل: ما قطع النفس، أو قطع الطعام، ولا ريب عند كل عارف أنه لا يكون إنهار الدم إلا بقطع الودجين فقط أما الحلقوم والمرئ فمن كمال الذبح، واستدلوا ـ أيضاً ـ بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن شريطة الشيطان» (4) ، وهي التي تذبح ولا تُفرى أوداجها، وهذا رواه أبو
__________
(1) رواه الدارقطني (4/283) ، والبيهقي (9/278) وضعفه، انظر: نصب الراية (2/484) ، والإرواء (2541) .
(2) سبق تخريجه ص (55) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (1/289) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داود في الضحايا/ باب في المبالغة في الذبح (2826) ، وابن حبان (5888) إحسان، والحاكم (4/113) ، وابن عدي (5/1794) عن ابن عباس وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ، وضعفه ابن عدي وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (2133) .
(4) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم (3075) ، ومسلم في الأضاحي/ باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم ... (1968) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.(15/73)
داود وفيه ضعف، لكن يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» .
ومنهم من قال: لا بد من قطع الأربعة جميعاً: الحلقوم، والمريء، والودجان.
ومنهم من قال: لا بد من قطع ثلاثة من أربعة: ودج واحد والحلقوم، والمريء، أو الودجين، والمريء، أو الحلقوم.
والخلاف في هذا طويل متشعب؛ لأنه ليس هناك نص واضح يدل على الاشتراط، لكن أقرب الأقوال عندي: أن الشرط هو إنهار الدم فقط، وما عدا ذلك فهو مكمل، ولا شك أن الإنسان إذا قطع الأربعة فقد حلت بالإجماع.
فإن لم يقطع الودجين، ولا المريء، ولا الحلقوم تكون الذبيحة حراماً بإجماع العلماء؛ لأنه ما حصل المقصود من إنهار الدم. وقد اختلف في حكم الذكاة بالأظفار على قولين فمنهم من قال: جميع الأظفار لا يجوز الذكاة بها، حتى لو كان عند الإنسان ظفر حيوان من جنس المدية؛ أي: السكين وذكى به فلا يصح، لعموم النهي الموارد.
ومنهم من قال: المراد بذلك ظفر الإنسان؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «مدى الحبشة» وكانوا يذكون بأظفارهم والعموم أولى وحتى(15/74)
لو كان الظفر منفصلاً فإنه يحرم الذبح به وبعضهم قال. إذا كان ظفر الآدمي منفصلاً فإنه يحل ولكن الواجب العمل بعموم الحديث.
مسألة: ومن العلماء من قال إن الخرزة التي في الرقبة لا بد أن تكون تابعة للرأس عند الذبح وهي في طرف الحلقوم.
ومنهم من قال لا يشترط وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصحيح فإذا قطع من وراء الخرزة فإنه يجزئ.
قوله: «فإن أبان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح» وهذا واضح؛ لأنه قطع ما يجب قطعه.
قوله: «وذكاة ما عُجِز عنه من الصيد، والنعم المتوحشة، والواقعة في بئر، ونحوها بجرحه في أي موضع كان من بدنه» «ذكاة» مبتدأ، وقوله: «بجرحه» : خبر المبتدأ، يعني ذكاة هذا النوع تكون بجرحه في أي موضع من بدنه.
وقوله: «ما عجز عنه من الصيد» أي: فذكاته «بجرحه في أي موضع كان من بدنه» مثل أن يلحق الإنسانُ ظبياً، ويعجز عنه، فيرسل عليه السكين، فتضربه في بطنه حتى يموت، فإنه يحل، مع أن الذبح ليس في الرقبة، لكن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وأنا لم أستطع أكثر من ذلك.
وقوله: «والنعم» وهي: الإبل، والبقر، والغنم.(15/75)
وقوله: «المتوحشة» أحياناً تشرد الإبل حتى لا يستطيع الإنسان أن يمسكها، فماذا يصنع بهذه؟ نقول: حكمها حكم الصيد، تحل بجرحها في أي موضع من بدنها، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، ولأنه ندَّ بعيرٌ من إبل القوم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم معهم، فرماه رجل بسهمٍ فحبسه، فقال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن لهذه النعم أوابد كأوابد الوحش، فما ندَّ عليكم فاصنعوا به هكذا» (1) ، فقوله: «ما ندَّ عليكم» يعني شرد حتى لم تتمكنوا منه «فاصنعوا به هكذا» أي: ارموه بالسهام، ولأن الصيد بإجماع المسلمين يحل في أي موضع أصيب، وهذا مثله، كما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذه ثلاثة أدلة تدل على حكم هذه المسألة من القرآن، والسنة، والقياس الصحيح على ما أجمع عليه العلماء.
وقوله: «والواقعة في بئر ونحوها» كأن تقع في مكان سحيق لا يمكن الوصول إليها، كما لو تردَّت من جبل شاهق، فالغالب أننا لا يمكن أن نصل إليها قبل أن تموت، فإننا في هذه الحال نرميها بالسهم في أي موضع من بدنها، وتحل؛ وعلة ذلك العجز عن ذبحها على الوجه المعتاد.
فتكون أدلة هذه المسألة هي الأدلة السابقة، إلاَّ أن الأدلة
__________
(1) سبق تخريجه ص (69) .(15/76)
السابقة فيما عُجِزَ عنه عَدْواً، وهذه فيما عجز عنه بالنسبة إلينا، إلا أن المؤلف استثنى فقال:
«إلا أن يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح» إن كان رأسه في الماء فإنه لا يحل؛ لأننا لا ندري أمات بالماء أم بالسهم؟ كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الصيد: «إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك؟» (1) ، وهذه العلة تدل على أننا لو تيقنا أن الذي قتله السهم لحلَّ، وكيف أدري؟
الجواب: بأن يكون الماء قليلاً لا يغرقه، أو أراه قد رفع أنفه يتنفس، ويكون السهم قد أصابه في قلبه مثلاً، فهنا نعلم أن الذي قتله السهم دون الماء. وهل يلزم أن ينزل إليه في البئر ويذبحه كالمعتاد؟
والجواب: أنه قد لا يمكنه ذلك فلربما أنه بنزوله يموت الحيوان وحينئذٍ يفوت عليه.
وقوله: «ونحوه» مثلاً لو سقط في نار، ورميناه بسهم، فما ندري هل النار التي قتلته أم السهم؟ فإنه لا يحل؛ لأنه اجتمع عندنا مبيح وحاظر، فيُغلَّب جانب الحظر ـ أي: المنع ـ؛ لأننا لا ندري أيهما الذي حصل به الموت.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ اللهِ، لاَ يُجْزِيهِ غَيْرُهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا سَهْواً أُبِيحَتْ لاَ عَمْداً.
قوله: «الرابع: أن يقول» الضمير يعود على الذابح.
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/77)
قوله: «عند الذبح» أو النحر، فعند الذبح، فيما يُذبح، أو النحر فيما يُنحر لا بد أن يقول:
«باسم الله» والجملة هذه سبق إعرابها، وأنها متعلقة بمحذوف يُقدَّر فعلاً متأخراً مناسباً، فيقال: «باسم الله أذبح» في الذبح، وفي النحر: «باسم الله أنحر» .
ودليل ذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118] ، وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، وقوله عزّ وجل: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] .
ومن السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكُلْ» (1) . فقال: «ما أنهر الدم..» و «ما» شرطية.
ويمكن أن يستدل ـ أيضاً ـ بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي رواه البخاري أن قوماً قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سَمُّوا أنتم وكلُوا» (2) ، فإن هذا يدل على أنه كان من المستقر عندهم أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يؤكل، ولهذا قالوا: لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ يعني فهل نأكله أو لا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سموا أنتم وكُلوا» .
وقوله: «باسم الله» هل المراد هذا اللفظ، أو المراد باسمِ مُسمَّى هذا الاسمِ؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب ذبيحة الأعراب ونحوهم (5507) .
(2) أخرجه الحارث في مسنده (1/478) وعزاه في الدر المنثور إلى عبد بن حميد (3/349) وضعفه الألباني كما في الإرواء (2537) .(15/78)
الجواب: المذهب: الأول، يعني لا بد أن يقول: «باسم الله» بهذا اللفظ، فإن قال: «باسم الرحمن» أو «باسم رب العالمين» أو «باسم الخلاق العليم» ، وما أشبه ذلك فإنه لا يجزئ، ولكن الصحيح أن المراد باسمِ مُسمَّى هذا الاسمِ، وعلى هذا إذا قال: «باسم الرحمن» أو «باسم رب العالمين» أو ما أشبه ذلك، كان هذا جائزاً، وكانت الذبيحة حلالاً؛ لأن قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ... } ، {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ... } المراد الاسم المختص بهذا المسمَّى وهو الله ـ عزّ وجل ـ.
مسألة: هل يُشرع أن يذكر اسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم هنا؟
الجواب: لا يشرع؛ وعليه فلا تقل: «باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله» ؛ لأن هذا مقام إخلاص لله عزّ وجل، فلا ينبغي أن يُذكر مع اسمه اسمُ غيرِهِ.
قوله: «لا يجزيه غيرها» أي: غير هذا اللفظ «باسم الله» ، فلو قال: «باسم الرحمن» أو: «باسم رب العالمين» أو: «باسم الخلاق» ، أو ما أشبه ذلك مما يختص بالله فإنه لا يجزئ، والصحيح: أنه يجزئ.
قوله: «فإن تركها» أي: التسمية.
قوله: «سهواً أبيحت لا عمداً» والسهو معناه ذهول القلب عن شيء معلومٍ، أي: عن أمرٍ كان يعلمه، فإذا ترك التسمية سهواً فإن الذبيحة تحل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا تركها ذاكراً فإنها لا تحلّ، ولو(15/79)
كان جاهلاً، أي: لا يدري أن التسمية واجبة، وهو كذلك على المذهب، فيفرقون هنا بين الجهل والنسيان، فيقولون: إن ترك التسمية ناسياً فإنها تحل، وإن تركها جاهلاً فإنها لا تحل، وإن تركها عالماً ذاكراً فلا تحل من باب أولى، فالأحوال ثلاثة:
الأولى: أن يتركها عالماً بالحكم ذاكراً لها، فلا تحل.
الثانية: أن يتركها عالماً بالحكم ناسياً، فتحل.
الثالثة: أن يتركها جاهلاً بالحكم عامداً ذاكراً، فإنها لا تحل على المذهب فيفرقون بين الجهل والنسيان.
والدليل على أنها تسقط بالسهو قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وهذا نسيان، وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يُسمِّ إذا لم يتعمده» (1) ، قالوا: وهذا دليل واضح، صرَّح فيه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن ذبيحة المسلم حلال إذا لم يتعمد ترك التسمية، فعُلِم منه أنه إذا تعمد فليست بحلال ولو كان جاهلاً لعموم الحديث.
وهذه المسألة ـ أعني التسمية على الذبيحة ـ اختلف فيها أهل العلم على ثلاثة أقوال:
الأول: أن التسمية ليست بشرط، وإنما هي مستحبة، إن سمَّى فهو أفضل وإن لم يسمِّ فالذبيحة حلال، سواء تعمد ذلك أم لم يتعمده، وسواء كان ذاكراً أو ناسياً، وهذا مذهب الشافعي
__________
(1) أخرجه أبو داود في المراسيل (278) عن الصلت السدوسي وهو لا يعرف له حال فيكون في الحديث مع الإرسال جهالة الصلت، انظر: نصب الراية (4/183) ، والتلخيص الحبير (4/137) ، والإرواء (8/170) .(15/80)
ـ رحمه الله ـ، واستدل بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر» (1) .
الثاني: أنها شرط ولا تسقط بأي حال من الأحوال، لا سهواً ولا جهلاً ولا عمداً مع الذكر، وهذا مذهب أهل الظاهر، وهو رواية عن الإمام أحمد، وعن الإمام مالك رحمهما الله، واختاره جماعة من السلف، من الصحابة والتابعين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، واستدل هؤلاء بعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ... } [الأنعام: 121] ، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُلْ» (2) فَشَرط لحل الأكل التسمية، ومعلوم أنه إذا فُقد الشرط فُقد المشروط، فإذا فُقِدت التسمية فإنه يُفقد الحل، كسائر الشروط، فكل الشروط الثبوتية الوجودية لا تسقط بالسهو ولا بالجهل؛ ولهذا لو أن الإنسان صلَّى وهو ناسٍ أن يتوضأ وجبت عليه إعادة الصلاة، وكذلك لو صلى وهو جاهل أنه أحدث بحيث ظن أن الريح لا تنقض الوضوء، أو أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء مثلاً، فعليه الإعادة؛ لأن الشرط لا يصحُّ المشروطُ بدونه، وكما لو ذبحها ولم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً فإنها لا تحل، فكذلك إذا ترك التسمية؛ لأن الحديث واحد: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه
__________
(1) سبق تخريجه ص (78) .
(2) سبق تخريجه ص (80) .(15/81)
فكل» وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
الثالث: وهو المذهب، أنه إذا تركها ناسياً حلت الذبيحة، وإن تركها عامداً ولو جهلاً لم تحل الذبيحة، ففرقوا بين الجهل والنسيان، ودليل هذا حديث: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه إذا لم يتعمَّد» (1) كما في الروض (2) .
فإذا قلت: أنت ذكرت الأدلة على أن التسمية لا تسقط لا بالجهل ولا بالنسيان، فبماذا تجيب عن أدلة القائلين بالسقوط؟
الجواب: أن يقال: أدلة القائلين بالسقوط ضعيفة، لا تقوم بها حجة، وما دامت ضعيفة، فإنها لا يمكن أن تعارض القرآن والسنة، والقرآن والسنة قد دلاَّ على أن ذلك شرط، وأنها لا تؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها.
فإن قلت: إن القول الذي رجحته يرد عليه أمور:
الأمر الأول: قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وهذا الرجل ناسٍ أو مخطئ يعني جاهلاً، فهو غير مؤاخذ.
فالجواب: أننا نقول بذلك، ونقول: إن هذا الذي نسي أن يسمي لا يؤاخذ، وكذلك الجاهل الذي لم يعلم أن التسمية شرط ولم يسمِّ لا يؤاخذ أيضاً، لكنه لا يلزم من انتفاء المؤاخذة صحة العمل، بدليل أنك لو صليت ناسياً، وأنت مُحْدِث فلا إثم عليك، ولكن صلاتك لا تصح، ولو تعمَّدت الصلاة وأنت محدث
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/451) .
(2) سبق تخريجه ص (78) .(15/82)
لأثمت، حتى إن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ يقول: من صلَّى محدثاً فهو كافر؛ لأنه قد استهزأ بآيات الله.
فنحن نقول: نعم، نحن لا نؤثِّم هذا الذي نسي أو جهل، لكننا لا نأكل ما لم يُذكر اسم الله عليه؛ لأن الله قال: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ... } . ولهذا نقول: لو أكل مما لم يذكر اسم الله عليه ناسياً أو جاهلاً فليس عليه إثم؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
وبيان ذلك أن ههنا فعلين، فعل الذابح، وفعل الآكل، فهذا الذابح الذي ذبح ولم يسم ناسياً، ليس عليه إثم، فإذا جاء الآكل ليأكل قلنا: هذه الذبيحة لم يذكر اسم الله عليها، فلا تأكل؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ... } وأطلق، ولم يقل: إلا أن يكون الذابح ناسياً، لكن لو أن رجلاً أكل من هذه الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها وهو لا يدري أو ناسياً فلا إثم عليه؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} .
الأمر الثاني: قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين سئل عن اللحم الذي يأتي به من لم يُدرَ أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سمُّوا أنتم وكلوا» (1) ، ولو كانت التسمية شرطاً لكان لا بد من العلم به؛ إذ لا يمكن أن يحل شيء حتى نعلم وجود شرط حِلِّه.
فالجواب عن هذا الحديث: أن الذبح صدر من أهله،
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236) ، ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام (1581) عن جابر رضي الله عنه.(15/83)
والأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة حتى يقوم دليل الفساد، وهذه قاعدة معتبرة في الشرع، ولو أن الناس كُلِّفُوا أن يعلموا شرط الحل فيمن انتقل منه، لكان في ذلك من العسر والمشقة ما لا يعلمه إلا الله، ولكان الرجل إذا أراد أن يبيع الشيء عليَّ قلتُ له: من أين ملكت هذا الشيء؟! وبأي سببٍ ملكته؟! لأن من شرط حل البيع أن يكون البائع مالكاً للشيء، فلا بد إذاً أن أعلم.
ولو جاء رجل يريد أن يزوِّج ابنته فقال: زوجتك بنتي، فيقول له مثلاً: ومن يقول: إنها ابنتك؟! لا بد أن تأتيني بشهادةٍ تشهد أنها وُلدت على فراشك! وهذا فيه من العسر والمشقة ما لا يمكن، فالأصل في الفعل الصادر من أهله الصِّحَّة. ولو أننا قلنا إن الأصل عدم الصحة وأنه لا بد أنه يعلم شروط الصحة لشق ذلك على الناس مشقة لا تحتمل.
ولهذا لو جاءنا لحم من القصَّابين ـ الجزارين ـ المسلمين فهل يشترط أن نعلم أنهم سموا؟ لا، واحتمال أنهم لم يسموا واردٌ، ومع ذلك لا يشترط، بل نشتري ونأكل ولا نقول شيئاً، فهذه قاعدة مطَّردة: أن الأصل في الفعل الصادر من أهله الصحة، ما لم يقم دليل الفساد، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال: «سموا أنتم وكلوا» كأنه يشير إلى نقدٍ لاذع لهم، كأنه يقول: لستم مكلفين بفعل غيركم، والذبح ليس فعلكم بل فعل الغير، وأنتم غير مسؤولين عنه، ولكنكم مسؤولون عما تفعلون أنتم، فأنتم سموا وكلوا، وهذا واضح لمن تأمله.
وحينئذٍ فلا يكون في هذا الحديث دليل على سقوط التسمية(15/84)
لا نسياناً، ولا جهلاً، ولا عمداً، بل سبق لنا أن قلنا: إنه دليل على وجوب التسمية، وأن التسمية قد تقرَّر عندهم أنه لا بد منها، ولهذا سألوا عن حلِّ أكل هذا اللحم.
الأمر الثالث: إذا حرَّمتَ الذبيحة التي نُسي أن يذكر اسم الله عليها، فقد أضعتَ مالاً كثيراً على المسلمين؛ لأن النسيان يرد كثيراً عند الفعل، ولا سيما إذا كانت الذبيحة قوية، وأراد الإنسان أن يجهز عليها بسرعة، فتجده مع السرعة ينسى أن يقول: بسم الله، فإذا قلت: إن الذبيحة حرام، وأنه يجب أن تسحب إلى الكلاب، والذئاب، فقد أتلفت مالاً كثيراً على الناس، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهى عن إضاعة المال.
فالجواب: إذا كنا نخاطب المذهب نقول: أنتم تقولون: إن الرجل إذا نسي أن يُسمِّي على الصيد فالصيد حرام، ولو كان الصيد من أنفس ما يكون، وأغلى ما يكون، حتى لو كان من أحسن الظباء، وأكبر الظباء، وأغلى الظباء! مع أن الذهول عن التسمية في الصيد أكثر من الذهول عن التسمية على الذبيحة، وهذا واضح؛ لأن الصيد يأتي الإنسان بسرعة، ويخشى أن يفوته، لكن الذبيحة بين يديه يذبحها بهدوء، وأنتم تقولون: إنها تحل، فما الفرق؟!
وإذا كان المخاطب ممن يقول: بسقوط التسمية نسياناً في الصيد والذبيحة، وقال: إنكم إذا حرَّمتم ما نُسي أن يذكر اسم الله عليه فقد أضعتم أموالاً كثيرة للمسلمين.
فالجواب عن هذا: أن نقول بمنع أن يكون هذا مالاً، فالذي(15/85)
لم يُذكر اسم الله عليه ليس بمال؛ لأنه ميتة، والميتة ليست بمال، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم فتح مكة: «إن الله حرم بيع الميتة» (1) فتركه وإلقاؤه للسباع لا يعتبر إضاعة مال.
ثم نقول: ليس في هذا إضاعة مال على وجه الإطلاق؛ إذ من الممكن أن يؤخذ جِلْدُ هذه الميتة، ويُدبغ، ويكون طاهراً؛ لأن جلد الميتة يطهر بالدباغ، ويمكن أن نأخذ صوفها، ويمكن أن نأخذ شحمها ندهن به السفن، والجلود، وما أشبه ذلك، وفي استعماله في أمرٍ لا يتعدَّى.
ثم نقول ـ جواباً ثالثاً ـ: إننا إذا قلنا ذلك حفظنا المال في الواقع؛ لأن الإنسان متى ذكر أنه رمى شاته في ذلك اليوم الذي نسي أن يسمِّي عليها، فإنه في المرة الثانية لا يترك التسمية، بل قد يسمي مرتين أو ثلاثاً فحينئذٍ لا يكون في ذلك إضاعة مال.
وما إيراد إضاعة المال في مثل هذه المسألة، إلا كإيراد من قال: إنك إذا قطعت يد السارق قطعت نصف أيدي الشعب، وبقي نصف الشعب ليس له إلا يد واحدة!! نقول: هذا الذي يكون نصف الشعب فيه سارقاً هو الشعب الذي لا تُقطع فيه اليد، وأما الذي تقطع فيه اليد فإن السُّرَّاق يقلِّون بلا شك، أو يعدمون.
فالحاصل أنك كلما تأملت هذه المسألة وجدت أن الصواب ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وأن التسمية لا تسقط لا سهواً، ولا جهلاً، كما لا تسقط عمداً.
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب صيد المعراض (5476) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) من حديث عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ واللفظ له.(15/86)
وإذا كان كذلك، فإنه يبقى النظر هل يُشترط أن تكون التسمية واقعة من الفاعل أو لو سمى غيره ممن هو إلى جانبه كفى؟ مثال ذلك: جاء شخص عند الذابح وقال: باسم الله، وذبح الذابح، فهل يجزئ هذا أو لا؟
الجواب: لا يجزئ؛ لأن التسمية من غيره؛ ولهذا لو أن رجلاً كان قائماً عندك وقُدِّم الطعام لك، وقال الرجل: باسم الله، وأكلتَ أنت فلا تكون مسمياً.
ولو أنك عند الوضوء قال رجل: باسم الله وتوضأت أنت، فهذا لا ينفع.
ولو أن رجلاً عند زوجته فقال شخص: أنت طالق فلا تطلق.
فالحاصل إذاً أن القول لا بد أن يكون من الفاعل، ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الصيد: «إذا أرسلت كلبك وذكرتَ اسم الله عليه» (1) «أرسلت» و «ذكرت» ، فلا بد أن تكون التسمية من الفاعل.
فشروط حل الذبيحة ثمانية:
الأول: أهلية المذكي، ويتفرع عليه الثاني وهو قصد الذكاة.
الثالث: الآلة.
الرابع: قطع الحلقوم والمريء.
__________
(1) انظر: كتاب أحكام «الأضحية والذكاة» لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله.(15/87)
الخامس: التسمية.
السادس: ألا يذبح لغير الله، فإن ذبح لغير الله فهي حرام، لا تحل، حتى وإن سمى الله، بأن ذبح لصنم، أو لسلطان، أو لرئيس، أو لولي، أو لأي أحد، ذبحاً يتقرب إليه به، ويعظمه به، فإن الذبيحة حرام؛ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] يعني على الأصنام، فما ذبح عليها فهو حرام.
السابع: ألا يذكر اسم غير الله عليها، فإن ذكر غير اسم الله عليها فهي حرام، سواء ذكره مفرداً، أو مع اسم الله؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] ، وأصل الإهلال رفع الصوت، فإذا أهل لغير الله بشيء من الذبائح فهي حرام، مثل أن يقول: باسم المسيح، أو باسم الولي فلان، أو باسم النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو باسم الشعب، أو باسم الرئيس، أو ما أشبه ذلك، فإن الذبيحة حرام لا تحل؛ لأنه أهل لغير الله بها، فإذا انفرد بذكر غير الله فالأمر واضح، وإن شارك؛ فلأن الشرك إذا قارن العمل أحبطه قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، وعلى هذا فإذا ذُبحت الذبيحة على اسم غير الله منفرداً أو مشاركاً فإنها حرام لا تحل.
وهل تحل ذبيحة الناسي؟
لا تحل الذبيحة بترك التسمية ناسياً (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في المناسك/ باب لحوم الصيد للمحرم (1851) ، والترمذي في الحج/ باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم (775) ، والنسائي في مناسك الحج/ باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال (5/187) ، وابن حبان (3971) ، والحاكم (1/476) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وصححه ابن حبان، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(15/88)
الثامن: أن يكون الذبح مأذوناً فيه شرعاً، فإن كان غير مأذون فيه فلا يخلو من حالين: إما أن يكون غير مأذون فيه لحق الله، وإما أن يكون غير مأذون فيه لحق غير الله.
فالأول: الذي لا يؤذن فيه لحق الله، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد في الحرم، فإذا ذبح المُحْرِم صيداً فهو حرام، وإن تمت الشروط؛ لأنه لم يؤذن فيه شرعاً، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه، أو يُصدْ لكم» (1) ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام أهدى إليه الصعبُ بن جثامة رضي الله عنه حماراً وحشياً، فرده عليه، وقال: «إنا لم نرده عليك إلا أننا حرم» (2) ، أي: مُحْرِمون، وقد صاده الصعب بن جثامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما الثاني: وهو ما كان غير مأذون فيه لحق الغير، كالمغصوب، والمسروق، والمنهوب، وما أشبهه، ففيه للعلماء قولان، هما روايتان عن الإمام أحمد:
القول الأول: أنه لا يحل؛ لأنه غير مأذون فيه، مثل رجل غصب شاة وذبحها، فإنها لا تحل؛ لأن هذا الذبح غير مأذون
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .
(2) سبق تخريجه ص (67) .(15/89)
فيه، وكل ما لا يؤذن فيه وهو ينقسم إلى صحيح وفاسد، فإنه لا ينفذ، وهذه قاعدة شرعية، ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، وذبْح مُلكِ الغير ليس عليه أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فيكون فاسداً مردوداً.
وقولنا في هذه القاعدة: (وهو ينقسم إلى صحيح وفاسد) احترازاً مما لم يؤذن فيه، ولكنه لا يَرِدُ إلا على وجه محرم، فإن هذا ينفذ، مثل الظهار، فهو غير مأذون فيه، فينفذ وإن كان محرماً، ومنكراً، وزوراً؛ لأنه لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، فكله باطل.
القول الثاني: أن المحرم لحق الغير يحل؛ وذلك لأن هذا الذبح صادر من أهله، وهذا الحيوان ليس محترماً لعينه، ولا محرماً لعينه، لكنه لحق آدمي، فالتحريم والحرمة فيه لغيره، لا له، بخلاف الصيد في الإحرام، والصيد في الحرَم، فإنه محرم لذاته؛ ولذلك حَرُم صيده، وحرم أكله.
وهذا الأخير هو المذهب أنه حلال لكن مع الإثم، وهو الراجح، فإذا كان حلالاً فهل معناه أنه يحل أكله، أو لا يحل؟ لا يحل، لا من أجل أنه حرام من حيث الذبح، ولكن لأنه مال الغير، ولهذا لو غصب لحماً مذبوحاً، ذبحه صاحبه حرم أكله، إذاً لو أذن فيه صاحبه لصار حلالاً.
قوله: «ويكره أن يذبح بآلة كالَّة» أصل الكلل بمعنى التعب، والكالة معناها التي أنهكها الاستعمال، فلم تكن حادة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيد والذبائح/ باب الأمر بإحسان الذبح والقتل ... (1955) عن شداد بن أوس ـ رضي الله عنه ـ.(15/90)
وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَ بِآلَةٍ كَالَّةٍ. وَأَنْ يَحُدَّهَا وَالْحَيَوَانُ يُبْصِرُهُ، وَأَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَأَنْ يَكْسِرَ عُنُقَهُ، أَوْ يَسْلُخَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْرُدَ.
وقوله: «ويكره» الكراهة عند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ هي التي مَنْ فعلها لا يعاقب، ومن تركها لله أثيب، وعلى هذا فإذا ذبح بالآلة الكالة لم يأثم؛ لأنه مكروه، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (1) ، ولكنا إذا رجعنا إلى الدليل، وجدنا أن ظاهره يقتضي تحريم الذبح بآلة كالة من وجهين:
الوجه الأول: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب الإحسان» والكَتْب بمعنى الفرض؛ لأنه يطلق على الأمر الواقع اللازم، إما شرعاً، وإما قدراً، فلا يأتي الكَتْب في الشيء المستحب. بل يأتي على الشيء اللاّزم.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] ، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] .
فهذه كتابة قدرية، أما الكتابة الشرعية فمثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، و {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، و {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وأمثال ذلك.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كتب الله الإحسان على كل شيء» فإذا ارجعنا
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/91)
إلى الاصطلاح الشرعي وجدنا الكتابة لا تكون إلا في الشيء اللازم، وقوله: «كتب الإحسان على كل شيء ... » عام، ونص على شيء من أفراده يتعلق بما نحن فيه، فقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة» .
الوجه الثاني: قوله: «وليحد أحدكم شفرته» اللام هنا للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، وإذا وجب إحداد الشفرة صار الذبح بالكالة حراماً، ومن النظر: فلأن الذبح بالآلة الكالة فيه إيلام للحيوان بلا حاجة، وعلى هذا فالقول الراجح في هذه المسألة أن الذبح بالآلة الكالة حرام. ولكن لو ذبح بها فالذبيحة حلال؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» .
فإن قلت: كيف تحرم ذلك، وقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» (1) ، والكالة تنهر الدم؟
قلنا: الفعل حرام، والذبيحة حلال، ونحن لا نقول: إن الذبيحة تحرم به، لكن يحرم هذا الفعل، أما الذبيحة فقد أُنهر دمها وذكر اسم الله عليها؛ ولهذا لو لم يكن عنده إلا هذه الآلة فأُصيبت شاة بموت فإنه يذبح بها؛ لأن هذا ضرورة، ولا يتوصل إلى حل هذه الذبيحة إلا بهذه الآلة.
فإن قلت: لماذا لا يدع الحرام وتتلف عليه؟
قلنا: لأن مفسدة تركها أعظم من مفسدة تألمها يسيراً بهذه
__________
(1) سبق تخريجه ص (91) .(15/92)
الآلة الكالة، وتأليم الحيوان لمصلحة الإنسان وارد في الشرع، فهذا الرجل يكوي إبله يسمها، وغنمه يسمها أيضاً، مع أنها تتألم بهذا، لكن لمصلحته، خوفاً من ضياعها، أو اشتباهها بماشية غيره مثلاً، وهذا الرجل يُهدي الإبل، أو البقر فيشعرها، والإشعار هو أن يجرحها في سنامها حتى يسيل الدم؛ ليعرف أنها هدي، مع أن في هذا إيلاماً لها، لكنه للمصلحة الشرعية في ذلك.
قوله: «وأن يَحُدَّها والحيوان يبصره» أي: يحد الآلة، وجملة «والحيوان يبصره» هذه جملة حالية يعني والحال أنه يبصره؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أن تحد الشفار (1) ، وأن توارى عن البهائم (2) ، فأمر بأمرين:
الأول: حد الشفرة، يعني سنَّها.
الثاني: أن توارى عن البهائم حال حدها، وفي غير هذه الحال أيضاً، حتى إذا أتيت لتذبحها لا تُظْهِرْ لها السكين، بل وارها عنها إلا عند الذبح، كما نص على ذلك الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وهذا ظاهر الحديث «وأن توارى» ـ يعني الشفرة ـ عن البهائم؛ لأنها تعرف ربها ـ سبحانه وتعالى ـ، وتسبح بحمده، وتعرف الموت، ولهذا تهرب، حتى إن بعض الإبل إذا رأت بعيراً
__________
(1) أخرجه أحمد (2/108) ، وابن ماجه في الذبائح/ باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح (3172) ، والطبراني في الكبير (12/289) ، والبيهقي (9/280) . وانظر: نصب الراية (4/188) ، والدراية (2/208) .
(2) أخرجه الحاكم (4/257) ، والبيهقي (9/280) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي. انظر: نصب الراية (4/188) ، والتلخيص الحبير (4/143) .(15/93)
مذبوحاً هربت، ولا يستطيعون أن يمسكوها، فإذا أَتَيْتَ بالسكين ولا سيما إن حددتها أمامها، معناه أنك روَّعتها، وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلاً أضجع شاة وهو يحد الشفرة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «أتريد أن تميتها موتات؟!» (1) ، يعني أن هذا يزعجها، ويروعها ترويعاً عظيماً، حتى يكون كالموت.
فإذا كان المكان ضيقاً، ولا أتمكن من أن أواريها عنها، وأنا محتاج إلى سَنِّها فأغطي وجهها.
فإن قيل: إنها قد تسمع،، فقد نقول: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأن توارى عن البهائم» يشمل المواراة البصرية، والسمعية؛ لأنها قد تحس بهذا الشيء، فالمهم أنه ما أمكنك البعد عن ترويع البهيمة فهو الأولى.
قوله: «وأن يوجهه إلى غير القبلة» يعني يوجه الحيوان إلى غير القبلة، ولكن لو فعل فلا بأس، والذبيحة حلال، ولم يذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ دليلاً على ذلك، وغاية ما فيه ما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حين وجَّه أضحيته، قال: «بسم الله والله أكبر» (2) ، فقوله: «حين وجه أضحيته» يعني وجَّهها إلى القبلة، وهذا يدل على أن التوجيه سنة، ولا يلزم من ترك السنة
__________
(1) أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب من ذبح الأضاحي بيده (5558) ، ومسلم في الأضاحي/ باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل ... (1966) عن أنس رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(2) سبق تخريجه ص (73) ، حاشية (2) .(15/94)
الكراهة كما ذكره أهل العلم؛ لأنه لو لزم من ترك السنة الكراهة، لكان كل إنسان يترك مسنوناً يكون قد فعل مكروهاً، وليس كذلك، وإنما الكراهة حكم إيجابي لا بد له من دليل.
ثم إنه قد يقول قائل: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجَّه أضحيته؛ لأنه ذبح عبادة، وليس ذبح عادة، ومعلوم أن العبادة لها من الخصائص ما ليس للعادة، فلو أن أحداً قال: أنا أطالبكم بالدليل على استحباب توجيه الذبيحة إلى القبلة إذا لم تكن من الذبائح المشروعة، مثل الأضحية، والهدي، والعقيقة، والنذر لكان له وجه.
لكن نقول: هذا فعل واحد، فمن فرق فيه بين العبادة والعادة فعليه الدليل، وإذا ثبت أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجَّهها فليكن هذا هو المشروع، إنما القول بالكراهة يحتاج إلى دليل، ولا أعلم للفقهاء رحمهم الله في هذه المسألة دليلاً.
قوله: «وأن يكسر عنقه أو يسلخه قبل أن يبرد» المراد بقوله: «أن يبرد» أي: قبل أن تخرج روحه، وهو عائد على المسألتين جميعاً، وكسر العنق قبل أن يبرد ـ يعني قبل أن يموت ـ فيه إيلام له، ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق» (1) يعني قبل أن تخرج بنفسها، يعني لا تفعلوا شيئاً يؤدي إلى سرعة الموت، ما دمتم ذبحتموها ذبحاً يحصل به الموت فقفوا عند ذلك، هذا دليل، وأما التعليل فلأن فيه إيلاماً بلا حاجة، وتعليل آخر لأن فيه إسراعاً لموتها، وقد
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/95)
يكون بموتها توقف الدم، وعدم خروجه كله، ومعلوم أنه يشرع إخراج الدم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» (1) .
كذلك يكره أن يسلخه ـ أي: الحيوان ـ قبل أن يبرد؛ لعموم الحديث: «لا تعجلوا الأنفس قبل أن تزهق» ولأن فيه إيلاماً بلا حاجة، ولهذا فالصحيح أن كسر العنق والسلخ قبل الموت حرام لإنه إيلام بلا حاجة.
فإذا قال الجزار: أنا عندي أغنام كثيرة، وأحب أن أكسر العنق ليسرع الموت إليها.
نقول: اذبح هذه، ثم اذبح الأخرى، وهكذا، ولو لم تمت الأولى.
فإن قلت: هل الأفضل أن أمسك بأيديها وأرجلها، أو الأفضل أن أبقيها ترفس؟
الجواب: الثاني أفضل، خلافاً لما يعمله العامة الآن، فالعامة يرون أن إمساكها لازم، وهذا خطأ بل تركها ترفس أحسن، كما نص على ذلك أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وعللوا ذلك بأن فيه فائدة في استفراغ الدم.
وبعض الناس إذا أراد أن يذبح الذبيحة يمسك يدها اليسرى ويلويها على العنق، وهذا ـ أيضاً ـ لا يجوز؛ لأنه إيلام لها، فما هي السنة إذاً؟ السنة كما فعل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الأضاحي/ باب التكبير عند الذبح (5565) ، ومسلم في الأضاحي/ باب استحباب استحسان الضحية ... (1966) (17) عن أنس رضي الله عنه.(15/96)
تطأ برجلك على عنقها، وترفع رأسها وتذبحها (1) .
وهل تذبح على الأيمن، أو على الأيسر؟ على الأيسر، والأيسر اسم تفضيل، وليس المراد على الجنب الأيسر، وإنما المراد الأسهل، فالإنسان الذي يذبح باليمنى، الأيسر أن تكون هي على الأيسر، والذي يذبح باليسرى، الأيسر أن تكون هي على الأيمن.
وقالوا أيضاً: إنه يكره أن يذبحها والأخرى تنظر؛ لأن هذا يروعها بلا شك.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة/ باب فضل الرمي (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.(15/97)
بَابُ الصَّيْدِ
..................................................
قوله: «الصيد» الصيد مصدر يراد به الفعل، ويراد به المفعول، فيراد به الفعل مثل أن يقول القائل: إنني سأصيد صيداً، مثل: أكيد كيداً على أنه فعل، ويراد به المفعول كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيده.
فأما على الأول فالصيد يعرّف بأنه اقتناص حيوان، مأكول، متوحش.
فقولنا: «اقتناص» خرج به الذكاة، فإنها ليست اقتناصاً؛ لأن الإنسان يذكي الحيوان وهو مطمئن، وعلى سهولة ويسر.
وقولنا: «حيوان مأكول» احترازاً من غير المأكول، فإن الإنسان وإن صاده بالسلاح فليس بصيد شرعاً.
وقولنا: «متوحش» احترازاً من غير المتوحش، إلا أنه سبق لنا أن ما ندَّ من الأهلي فحكمه حكم الصيد، أي: حكم المتوحش.
وهل الصيد حلال أو حرام؟
نقول: الصيد يقع على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُصطاد للحاجة إليه والأكل، فهذا لا شك في جوازه، وهو مما أحله الله ـ عزّ وجل ـ في كتابه، وثبتت به السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأجمع عليه المسلمون.(15/98)
الثاني: أن يصطاد على سبيل اللهو والعبث، وليس بحاجة إلى الأكل، وإذا صاد الصيد تركه، فهذا مكروه، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه؛ لأنه عبث، وإضاعة مال، وإضاعة وقت.
الثالث: أن يصطاد على سبيل يؤذي الناس، مثل أن يستلزم صيدُهُ الدخولَ في مزارع الناس، وإيذاءَهم، وربما يكون فيه انتهاك لحرماتهم، كالتطلع إلى نسائهم في أماكنهم، فهذا يكون حراماً؛ لما يستلزمه من الأذية للمسلمين.
هذا بالنسبة للصيد من حيث هو صيد، أما آثار الصيد فإن الصيد يبهج النفس ويسرها، ويعطي الإنسان نشاطاً وحيوية لا يعرفها إلا أهل الصيد، فتجدهم يجدون لذةً، وسروراً، ومتعة، وإن كانوا يتعبون، ويطاردون الطيور، والحيوانات، ويخرجون إليها في الليالي القارسة، والأيام الحارة.
كذلك ـ أيضاً ـ في الصيد مصلحة تعلم الرمي، وتعلم الرمي من الأمور المشروعة، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (1) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة /باب فضل الرمي (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (4/144) ، والنسائي في الخيل/ باب تأديب الرجل فرسه (6/223) ، وأبو داود في الجهاد/ باب في الرمي (2513) ، والترمذي في فضائل الجهاد/ باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (1637) ، وابن ماجه في الجهاد/ باب الرمي في سبيل الله (2811) ، والدارمي في الجهاد/ باب فضل الرمي والأمر به (2298) ، والحاكم (2/104) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(15/99)
المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذا الباب لا يريد أن يتكلم على هذه الناحية، لكن يريد أن يتكلم على شرط حل الصيد، متى يحل الصيد إذا صاده الإنسان؟ فقال:
لاَ يَحِلُّ الصَّيْدُ الْمَقْتُولُ فِي الاصْطِيَادِ إِلاَّ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، الثَّانِي: الآلَةُ وَهِيَ نَوْعَانِ: مُحَدَّدٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي آلَةِ الذَّبْحِ، وَأَنْ يَجْرَحَ، فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يُبَحْ، وَمَا لَيْسَ بِمُحَدَّدٍ كَالْبُنْدُقِ، وَالْعَصَا، وَالشَّبَكَةِ، وَالْفَخِّ لاَ يَحِلُّ مَا قُتِلَ بِهِ.
«لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد إلا بأربعة شروط: أحدها: أن يكون الصائد من أهل الذكاة» هذا هو الشرط الأول، وهو أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وهو المميز العاقل المسلم، أو الكتابي، فصيد غير الكتابي من الكفار لا يحل، كما لا يحل ذبحه.
وصيد غير العاقل لا يحل، ويتفرع على هذا أن يكون قاصداً، فلو أن رجلاً يرمي على هدف، من خرق، أو عمود، أو ما أشبه ذلك، فإذا بصيد يمر فقتله، فلا يحل؛ لأنه ما قصده، لكن لو سمى على صيد فأصاب غيره حل؛ لأنه قصد الصيد، مثل أن يرى طيراً على غصن شجرة، فيرميه قاصداً هذا الطير، فإذا هو يصيد آخر على غصن آخر، فإنه يحل؛ ولهذا لو أنه رمى على فِرْق من الطير، وأصاب عشرة جميعاً تحل؛ لأنه قصد الصيد.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الجَارِحَةُ، فَيُبَاحُ مَا قَتَلَتْهُ إِذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً.
قوله: «الثاني: الآلة: وهي نوعان» أي: الشرط الثاني: الآلة، فلا بد أن يكون الصيد بآلة، وباب الصيد آلته أوسع من(15/100)
باب الذبح؛ لأن آلة الصيد هنا نوعان، بينما هي في الذبح نوع واحد فقط.
قوله: «محدد يشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح» فالنوع الأول آلة محددة، كالسهم، والرصاصة، فيشترط فيه ما يشترط في آلة الذبح، وسبق أن آلة الذبح يشترط فيها أن تكون غير سن، ولا ظفر، فلو أخذ سناً ورمى به وقتل بجرحه فإنه لا يحل؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمُدى الحبشة» (1) ، فعلى هذا يشترط ألا تكون الآلة سناً ولا ظفراً.
ولا يشترط أن تكون حلالاً، فلو جعل سهماً من الذهب حل، وكذلك لو غصب سهماً ورمى به حل، على ما سبق؛ لأن هذه الآلة جارحة.
قوله: «وأن يجرح» أي: ويشترط ـ أيضاً ـ أن يجرح الصيد، بحيث يكون قتله للصيد بالجرح، وضد ذلك أن يكون بالثِّقل، فإذا كان بالثقل فسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنه لا يحل، والدليل ما سبق: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» فإنه شامل للذبح والصيد، إلا أن الصيد يختلف عن الذبح بأنه في الذبح يشترط قطع الحلقوم والمريء، أو الودجين، على حسب الخلاف السابق، أما هنا فيكون في أي موضع، وهذا مما يوسع فيه في باب الصيد على باب الذبائح، أن محل إنهار
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/101)
الدم في الذبائح الرقبة، أما هذا فليس بمعين المكان.
قوله: «فإن قتله بثقله لم يُبح» يعني الذي ضُرب الصيد به لا يجرح، لكنه ثقيل، فمن أجل ثقله مات الصيد، فإن الصيد لا يحل؛ لأنه لا بد من الجرح، ويدل لذلك حديث عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصيد بالمعراض ـ يعني شيئاً مثل العصا ـ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن خزق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل» (1) ، وقوله: «خزق» يعني نفذ، وجرح، وشق، وعلى هذا فإذا كان مع الإنسان عصا لها رأس محدد فرماها على الصيد، فأصاب الصيد بهذا المحدد حل، وإن أصابه بالعرض لم يحل ولو مات، لكن لو أنه حبسه ثم أدركه وفيه حياة، يعني لما ضربه بعرضه انكسر مثلاً، أو انهارت قواه، حتى أدركه حياً فذبحه فإنه يكون حلالاً، والدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فاستثنى المذكى، فإذا أدركته وفيه حياة وذبحته فإنه يحل.
لكن ما علامة الحياة؟ قيل: علامة الحياة أنني إذا ذبحته تحرك، وقيل: علامة الحياة أن يجري منه الدم الأحمر الحار، فإذا سال منه الدم الأحمر الحار وإن لم يتحرك فهو حي فيحل،
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد/ باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (7397) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.(15/102)
وإن لم يسل منه، أو سال منه دم أسود بارد فإنه قد مات، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح؛ لأنه إذا خرج الدم الأحمر الحار فقد أنهر الدم فيكون حلالاً.
مسألة: إذا جرح لكنه لم يمت، ثم أدركته حياً ومات بعدما أدركته، فهنا ينظر: فإن كان الجرح مُوحياً ـ أي: قاتلاً له ـ كأن يكون الجرح في قلبه فهو حلال؛ لأن الحركة التي أدركته عليها حركة مذبوح، كما أن المذبوح إذا ذبحته فإنه يبقى مدة يتحرك.
أما إن كان الجرح غير موحٍ، بمعنى أنه أصابه في فخذه، أو أصابه في أي عضو من أعضائه، فهذا لا يحل إلاّ بذكاة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» (1) ، وإذا كان الجرح موحياً، والحركة حركة مذبوح فقد علمت أن الذي قتله سهمي فيحل.
قوله: «وما ليس بمحدد كالبندق، والعصا، والشبكة، والفخ لا يحل ما قُتل به» «ما ليس بمحدد» أي: من الآلة.
والبندق عبارة عن طين يُدور، وييبس، والغالب أنه يكون من الفخار، وهو يقتل بثقله؛ لأنه لا ينفُذ، فلو صدت طائراً بالبندق سواء حذفت باليد، أو حذفت بالمقلاع فقتلته لم يحل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنها، وقال: «إنها لا تنكأ عدواً ولا تصيد صيداً، وإنما تفقأ العين، وتكسر السن» (2) ، أي: أنه لا فائدة
__________
(1) سبق تخريجه ص (69) .
(2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/ باب الخذف والبندقة (5479) ، ومسلم في الصيد والذبائح/ باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد ... (1954) عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه.(15/103)
منها، فالعدو لا تدفعه، والصيد لا تصيده؛ لأنه لا يحل الصيد بها، إلاّ إذا أدركتَهُ حياً فذكَّيتَهُ.
وهل مثل البندق الرصاص؟ لا؛ لأن الرصاص نوعان: رصاص مدبب، فهذا كالسهم تماماً، ورصاص غير مدبب لكنه لا يقتل بثقله، وإنما يقتل بنفوذه فيكون جارحاً.
وقد اختلف العلماء أول ما ظهر بندق الرصاص، فمنهم من حرمه، وقال: إن الصيد به لا يجوز، ولا يحل، ولكنهم في آخر الأمر أجمعوا على حل صيده، قال الناظم:
وما ببندق الرصاص صِيدا
جواز أكله قد استفيدا
أفتى به والدنا الأوَّاه
وانعقد الإجماع من فتواه
وقوله: «والعصا» مثل: إنسان أقبل عليه طير ومعه عصا، فضربه فسقط الطائر ميتاً فلا يحل؛ لأنه ليس بجرح.
وقوله: «والشبكة» وعندنا نسميها شَرَكاً، يحفرون بالجدار حفرة صغيرة، ويضعون فيها تمرة، ويستحسن أن يكون فيها حب بر، ثم يضعون على فم الحفرة خيطاً أو حبلاً يكون تِكَّة، فإذا جاء العصفور وأدخل رأسه يأكل التمرة، أمسكه الحبل واشتد على رقبته، فأحياناً يدركه الإنسان قبل أن يموت فيأخذه ويذبحه، وأحياناً يموت قبل أن يدركه، فإذا مات فلا يحل؛ لأنه خُنِقَ خنقاً.
وقوله: «والفخ لا يحل ما قُتل به» فالفخ ـ حسب ما أعرف ـ(15/104)
عبارة عن قنو نخلة يكون مقوساً، ويوضع في طرفيه حبل، وهذا الحبل يُبرم، ويجعل في وسطه عود ثم يوضع قنو النخلة فوق هذا العود، بحيث إن أي شيء يحرك العود يجعل القنو يطبق عليه.
فالفخ إذا أصاب الصيد فإنه سيموت بغير جرح، فلا يحل ما قُتِل به؛ لأنه يكون خنقاً. والحاصل أنه يشترط في آلة الصيد شرطان:
الأول: ما يشترط في آلة الذبح وهو أن تكون محددة غير سن ولا ظفر.
الثاني: أن تجرح فإن أصابت الصيد بعرضها فلا يحل الصيد لأنه وقيد كما في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
قوله: «والنوع الثاني: الجارحة» أي: النوع الثاني من آلة الصيد الجارحة، وهي اسم فاعل من جَرَح، وجَرَح بمعنى كسب، قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] {الْجَوَارِحِ} يعني الكواسب، فالجارحة هي الكاسبة، وهي نوعان:
الأول: جارحة تعدو، يعني تكسب عن طريق العدو والجري بسرعة، وهذا النوع يصيد بنابه.
الثاني: جارحة تطير، يعني تكسب عن طريق الطيران، وهذا النوع يصيد بمخلبه.
فالأول كالكلب، والثاني كالصقر، والبازي، وما أشبه(15/105)
ذلك، أما الكلب فقد ثبت بالنص والإجماع، وأما الطير فالصواب حل ما قتله، كما سنذكر إن شاء الله.
قوله: «فيباح ما قتلته إذا كانت معلَّمة» المؤلف يقول: «ما قتلته» ولم يقل: ما جرحته، بشرط إن كانت معلمة، يعني إن كان صاحبها قد علمها، كما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] .
وكيف نعرف أنها معلمة؟ بالنسبة لما يصيد بنابه فنعرف أنه معلم بثلاثة أمور:
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا زُجر.
الثالث: إذا أمسك لم يأكل.
فقولنا: «يسترسل إذا أرسل» بمعنى أنه إذا رأى الصيد ما يذهب بنفسه، بل لا يذهب إلا إذا أرسلته، يعني أغريته بالصيد، وطريق الإغراء يختلف من جماعة إلى جماعة، فقد يكون طريق الإغراء أن تذكره باسمه الذي لقبته به وتغريه، وقد يكون بالصفير، وقد يكون بأي سبب، حسب اصطلاح المعلمين لهذه الجوارح.
وقولنا: «ينزجر إذا زجر» يعني إذا قلت: قف، باللغة التي علمته يقف.
وقولنا: «إذا أمسك لم يأكل» لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ؛ لأنه إذا أكل فإنما أمسك على نفسه، حتى ولو أكل شيئاً قليلاً. فلا يعد معلماً.(15/106)
وقال بعض العلماء: الذي يشترط أن يكون معلماً، وأما ألاَّ يأكل فهذا يرجع إلى العادة، فإذا أكل الشيء القليل الذي لا بد للسبع من أكله من فريسته فإن ذلك لا يضر، ولا ينافي أن يكون أمسك عليك؛ لأنه لو أمسك على نفسه لأكلها كلها، لا سيما إذا كانت صغيرة، ولكن الصواب القول الأول.
وفصَّل بعض العلماء فقال: إن كان جائعاً فأكل فإن ما بقي يحل، وإن كان غير جائع فإنه لا يحل، ونعرف أنه جائع أو غير جائع من إطعامه إياه، فإن كان أكله من الصيد بعد تناوله العشاء مثلاً فإنه شبعان، لكن إن كان له يومان لم يأكل وأكل من الصيد فإنه جائع، وهذا لا يسلم منه شيء من الجوارح، ولكن ظاهر الأحاديث يدل على أنه إذا أكل فلا تأكل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أمسك على نفسه» (1) ، وهناك أحاديث أخرى لكنها أقل صحة من هذا الحديث، قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: آكل مما أمسك؟ قال: «كُل» قال: أكل أو لم يأكل؟ قال: «أكل أو لم يأكل» (2) فمن العلماء من استدل بهذا الحديث على أنه لا يشترط ألاّ يأكل، ومن العلماء من فصل وجعل الحديثين يتنزلان على حالين، يكون أكل أم لم يأكل في حال الجوع، واشتراط ألا يأكل في حال الشبع، وهذا في الحقيقة جمع بين الدليلين.
وبعض العلماء جمع بينهما فقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب في الأول رجلاً غنياً، فقال: «فإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه» ، وفي الثاني يخاطب رجلاً فقيراً، لكن هذا
__________
(1) رواه الترمذي في أبواب الصيد/ باب في من يرمي الصيد فيجده في الماء (1496) .
(2) أخرجه البيهقي (9/237) .(15/107)
ليس بصواب؛ لأن المدار على هذه الآلة، وهل فعلت مفعولها أو لا؟ ولا فرق بين كون الآكل غنياً أو فقيراً، لكن تنزيله على حالين باعتبار الآلة لا شك أنه جمع قوي.
أما الثاني الذي يصيد بمخلبه فيقول العلماء: إنه يعرف أنه مُعلَّم بشيئين فقط:
الأول: أن يسترسل إذا أرسل.
الثاني: أن ينزجر إذا دعي.
ولا يشترط ألا يأكل؛ لأن هذا شيء لا يمكن بالنسبة لما يصيد بمخلبه إذ لا بد أن يأكل، وعلى هذا فإننا نقول: إن قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} مطلق، فيكون التعليم في كل شيء بحسبه، وهذا يرجع إلى أهل العرف.
وقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} ؟ قيل: معناه معلِّمينهن الكَلَب، يعني الأخذ والقتل، وقيل: معناه مُغْرين لهن.
فعلى الأول يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} حالاً مؤكدة لعاملها، وهو قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ} فكأنه قال: وما علمتم معلمين، والفائدة منها الإشارة إلى أن هذا المعلِّم لا بد أن يكون عنده علم وحذق في تعليم هذه الجوارح، فيكون مكلِّباً، يعني ذا علم بالتكليب.
الثَّالِثُ: إِرْسَالُ الآلَةِ قَاصِداً، فَإِنِ اسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبَحْ، إِلاَّ أَنْ يَزْجُرَهُ فَيَزِيدَ فِي عَدْوِهِ فِي طَلَبِهِ فَيَحِلُّ.
قوله: «الثالث: إرسال الآلة قاصداً» أي: الشرط الثالث إرسال الآلة بنوعيها، سواء كانت بالمحدَّد كالسهم، أم بالمعلَّم كالكلب والصقر.
وقوله: «إرسال الآلة» من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، يعني أن يرسل الصائد الآلة.(15/108)
وقوله: «قاصداً» هذه حال من الفاعل المحذوف، وعامله المصدر «إرسال» .
قلنا: إن الفاعل محذوف، ولم نقل: مستتر؛ لأن المصدر جامد، فلا يتحمل الضمير.
وقوله: «قاصداً» هل المعنى قاصداً الإرسال، أو قاصداً الصيد؟ كلا المعنيين، يعني يرسلهما قاصداً الإرسال، وقاصداً للصيد، وعلى هذا فكيفية ذلك إذا رأى الصيد رمى بسهم، وإذا رأى الصيد أرسل الكلب، وإذا رأى الصيد أرسل الصقر؛ لأنه لا بد من القصد.
قوله: «فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح، إلا أن يزجره فيزيد في عدوه في طلبه فيحل» إذا استرسل الكلب أو الصقر مثلاً بنفسه لم يحل؛ ولقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، فإن قوله: {مُكَلِّبِينَ} إذا قلنا: إن معناه مغرين، فهذا يدل على أنه لا بد من قصد الإرسال، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم رضي الله عنه: «إذا أرسلت كلبك» (1) .
مثال ذلك: رجل معه كلب صيد ويمشي ولم ينتبه للصيد إلا والكلب يعدو على الصيد، فهو ما أرسله، لكن كيف يحل؟ نقول: ازجره، يعني حُثَّه على الصيد، فإن زاد في عدوه في طلبه
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(15/109)
حلَّ؛ لأن زيادته في العدو تدل على أنه قصد أن يمسك عليك، فحينئذٍ يحل، وهذه حيلة سهلة.
فإن زجرتُهُ أريد أن يسرع في العدو، لكنه بقي على ما هو عليه لم يحل؛ لأن زجري إياه لم يؤثر عليه، وهو إنما انطلق أولاً لنفسه.
لو قال قائل: قد يكون هذا الكلب من كثرة تعليمه أنه تعود هذا، وأنه إنما ذهب بالنيابة عن صاحبه، وهذا ممكنٌ.
لكننا نقول: ويمكن ـ أيضاً ـ أنه إنما أراد أن يأخذ لنفسه، وإذا اجتمع سببان: مبيح وحاظر، غُلب جانب الحظر.
وهذا باعتبار تنزيل هذه المسألة على القواعد، أما باعتبار النص فالمسألة واضحة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا أرسلت كلبك» فما دام الكلب هو الذي ذهب، وراح بدون علم مني، ولا أمر مني، فأنا ما صدت في الحقيقة، وإنما الذي صاد الكلب.
لو وكلته وكالة عامة، وقلت: كلما رأيت صيداً فأنت وَكِيلي في الإرسال فهذا لا يصح؛ لأنه غير عاقل، ولا يصح تصرفه، والعجماء كما قال عليه الصلاة والسلام: «العجماء جُبار» (1) ، فإذا كانت لا تضمن فإنه يدل على أن تصرفاتها باطلة.
فإن قيل: وما حكم الصيد بالكلب الأسود البهيم؟ نقول:
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب في الركاز الخمس (1499) ، ومسلم في الحدود/ باب جرح العجماء والمعدن والبحر جبار (1710) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/110)
نذكر في الشروط أن يكون غير أسود، والعلماء مختلفون في هذه المسألة. فمنهم من قال لا يحل لأن الكلب الأسود شيطان ولأن الأسود لا يحل اقتناؤه فلا يرخص بحل صيده. ومنهم من قال: يحل صيده لعموم قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] والقول الأول هو الأقرب أنه لا يحل صيده ما دام ورد في الشرع النهي عن اقتنائه والله أعلم.
الرَّابِعُ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَوِ الْجَارِحَةِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَمْداً أَوْ سَهْواً لَمْ يُبَحْ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ مَعَهَا: اللهُ أَكْبَرُ، كَالذَّكَاةِ.
قوله: «الرابع: التسمية» أي: الشرط الرابع التسمية، بأن يقول: باسم الله، وسبق لنا في باب الذكاة أنه لا بد أن نضيف كلمة اسم إلى لفظ الجلالة الله، وأنه لو أضافها إلى «الرحمن» ، أو «العزيز» ، أو «الجبار» ، أو ما أشبه ذلك، مما لا يسمى به إلا الله، لم يصح، وذكرنا أن الصحيح جواز ذلك، وأن قوله: باسم الله، أي: باسم هذا المسمى، فإذا أضيفت كلمة «اسم» إلى ما يختص بالله ـ عزّ وجل ـ فلا فرق بين لفظ الجلالة وغيره.
قوله: «عند إرسال السهم أو الجارحة» عند إرساله لا عند تعبئته، فلو أن رجلاً عند تعبئة السهم سمَّى، وعند إرساله عند الرمي ما سمى، فإن ذلك لا يحل؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه» (1) أي: عند الإرسال، فالواو هنا تقتضي الاشتراك والاجتماع في الزمن، بل قد نقول: إن قوله: «وذكرت» لولا أن الواو لمطلق الجمع لقلنا: إنها تقتضي أن يكون الذكر بعد الإرسال، ولكن ليس الأمر كذلك، بل الذكر عند الإرسال.
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(15/111)
أما الذكر عند التعبئة فإنه لا يفيد، والدليل القياس، فلو أن الإنسان حد شفرته، وسمى الله عند حدها، وذبح بها، وكان بين الفعلين زمن طويل، فلا ينفع.
وكذلك نقول في رجل يكتب على مُديته، وعلى سهمه باسم الله، فلا ينفع؛ إذْ لا بد من النطق، فإن جعل عنده مسجلاً فيه التسمية وعند الذبح شغل المسجل، أو عند الإرسال فلا ينفع؛ لأن التسجيل حكاية صوت، وليس إنشاء صوت. ومثل ذلك عمل الذين يضعون مسجلاً قد سجلوا فيه الأذان، فإذا دخل وقت الصلاة وضعوه أمام مكبر الصوت فهذا لا يجزئ.
قوله: «فإن تركها عمداً أو سهواً لم يبح» أي: إن ترك التسمية سهواً، أو عمداً لم يبح؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه» ، فعلى هذا لو نسي هذا الصائد أن يقول: باسم الله عند إرسال السهم، أو عند إرسال الجارحة، فإنها لا تحل وتكون ميتة.
وقد مر علينا أن المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب الذكاة قال: «فإن تركها سهواً أبيحت» ، والحقيقة أنه لا فرق بين البابين كما سبق، فإن اشتراط التسمية موجود في الذكاة، كما هو موجود في الصيد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» (1) ، وأيضاً فإن الصيد قد يكون الصائد أعذر من الذابح في نسيان التسمية، فتجده عندما يرى الصيد ينفعل ويجد في نفسه
__________
(1) سبق تخريجه ص (55) .(15/112)
إشفاقاً عظيماً أن يفوته هذا الصيد، فيأخذ البندق بسرعة، أو يرسل الجارح بسرعة، ويذهل، ويغفل، فهو إلى النسيان أقرب من الذابح الذي يأتي بهدوء، ويضجع الذبيحة، أو يعلقها إذا كانت بعيراً ويذبح، فهذا يبعد النسيان في حقه بخلاف الصائد، ومع ذلك المؤلف ـ رحمه الله ـ لم يعذره.
والحقيقة أنه مصيب في عدم عذره؛ لأن الآية عامة: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله عليه فكل» (1) ، فكما أن الجارحة إذا استرسلت بنفسها لا يحل الصيد، فكذلك إذا لم يسم.
قوله: «ويسن أن يقول معها: الله أكبر كالذكاة» الواجب التسمية، أما التكبير فسنة، ودليل ذلك أنه ثبت من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في الصحيح، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يذبح أضحيته سمى وكبر (2) .
ولكن هل يقول: اللهم تقبل مني؟ لا؛ لأن هذا ليس ذبح عبادة. بل يقول: بسم الله والله أكبر.
مسألة: لو صلى على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد قال العلماء: إنه ليس بسنة؛ لأنه غير مناسب، كالذكاة.
وهل نشترط في الصيد ما اشترطناه في الذكاة، ألا يذكر اسم غير الله؟ نعم يشترط، ويكون هذا شرطاً خامساً.
وهل يشترط ألا يصيده لغير الله؟ نعم، يعني لو أنه صاد
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .
(2) سبق تخريجه ص (94) .(15/113)
تعظيماً لملك، أو رئيس، أو وزير، أو ما أشبه ذلك، فلا يحل؛ لأنه لغير الله، فيكون هذا شرطاً سادساً.
لو قال قائل: الصعب بن جثَّامة رضي الله عنه ذهب واصطاد الحمار الوحشي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
نقول: هذا تكريم للرسول عليه الصلاة والسلام، وليس من باب التعظيم له، أي: التقرب إليه بالتعظيم.
ومما يشترط في الصيد ـ أيضاً ـ أن يكون الصيد مأذوناً فيه، فإن صاد صيداً بمكة داخل حدود الحرم، أو صاده وهو محرم، فإنه لا يحل.
ولا يشترط أن يكون غير مملوك للغير، ويترتب على ذلك لو أن رجلاً ذهب يتتبع في البلد حمامَ عبادِ الله يصطاده، فإنه يحل من حيث الحكم العام، لكن حرام عليه ذلك يعني: يحل مع الإثم، إلا على القول الثاني في مسألة الذبح (1) فهو يجري هنا.
فإن قيل: ما حكم الاصطياد في الوقت الذي تمنع فيه الدولة الاصطياد؟
فالجواب: يجب علينا طاعة ولي الأمر، إلا في المعصية، فلا طاعة، وبناءً على هذا فلا يجوز الاصطياد في الزمان أو المكان الذي تمنع الدولة الاصطياد فيه، ولا يحل الصيد إذا صيد. والله أعلم.
__________
(1) انظر: الشرط الثامن من شروط الذكاة.(15/114)
كِتَابُ الأَيْمَانِ
............................................
قوله: «الأَيمان» جمع يمين، وهو القسم والحلف.
تعريفه: هو تأكيد الشيء بذكر مُعَظَّمٍ بصيغة مخصوصة.
ووجه كونه تأكيداً: أن هذا الحالف كأنه يقول: بمقدار ما في نفسي من تعظيم هذا المحلوف به، أنا أؤكد لك هذا الشيء.
وقولنا: «بصيغة مخصوصة» ، أي: لا بكل صيغة، فلو قلت مثلاً: الله أكبر قدم زيدٌ، فقد قرنته بذكر معظم، لكن ليست بصيغة القسم، فلا يكون قسماً.
واعلم أن اليمين ينقسم إلى خمسة أقسام، فقد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون محرماً، وقد يكون مباحاً، والأصل فيه أن تركه أولى.
وحروف القسم خمسة، والمشهور منها ثلاثة: الواو، والباء، والتاء، والأم هي الباء؛ ولهذا تدخل على المقسم به مقرونة بالفعل، أو ما ينوب منابه، ومفردة، وتدخل على المقسم به ظاهراً ومضمراً، وتدخل كذلك على جميع الأسماء.
فتقول مثلاً: أقسم بالله على كذا وكذا، فهذه ذكرت مع فعل القسم، ودخلت على اسم ظاهر، وتقول: بالله لأفعلن كذا، فهذه ذكرت مع حذف فعل القسم، ودخلت على اسم ظاهر، وتقول: أحلف به الله ربي، فدخلت على اسم مضمر مع وجود فعل(15/115)
القسم، وتقول: به الله لأفعلن كذا، فدخلت على اسم مضمر مع حذف فعل القسم، فهي إذاً أوسع أدوات القسم، وتدخل على كل محلوف به، سواء كان اسم «الله» ، أو «العزيز» ، أو «الرحمن» ، أو صفة من صفاته تعالى، أو أي شيء.
الثاني: «الواو» أكثر استعمالاً من الباء، ولكنها لا تقترن مع فعل القسم، ولا تدخل إلا على اسم ظاهر فقط، وتدخل على كل اسم مما يحلف به، فتقول: والله لأفعلن، والرحمن لأفعلن، لكن لا يأتي معها فعل القسم، فلا تقول: حلفت والله لأفعلن، ولا تدخل على الضمير، فهي إذاً أضيق من الباء من جهتين: أنه لا يذكر معها فعل القسم، وأنها لا تدخل إلا على الاسم الظاهر ولا تدخل على الضمير.
الثالث: «التاء» لا تدخل إلا على لفظ الجلالة فقط، ولا تدخل على غيره عند الفقهاء، وقال ابن مالك:
واخصُصْ بمُذْ ومُنْذُ وقتاً وبِرُبْ
مُنكَّراً والتَّاءُ لله وَرَبْ
فجعلها تدخل على لفظ الجلالة «الله» ، وعلى الرب.
قال الله تعالى: {وَتاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] ، ولا تقترن بفعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ولا على بقية الأسماء، إذاً هي أضيق حروف القسم لأنها لا يقترن بها فعل القسم ولا يحلف بها إلا باسم «الله» أو «رب» ؛ فلو قلت: «تالرحمن» لم يكن قسماً؛ لأنها لا تدخل على الرحمن، فهي صيغة غير صحيحة.
الرابع: «الهاء» الممدودة فإنه يقسم بها أحياناً، مثل: لاه اللهِ لأفعلن، لاه الله لا أفعل كذا وكذا.(15/116)
الخامس: «الهمزة الممدودة» مثل آللهِ لأفعلن، والهاء والهمزة الممدودة لا تدخلان إلا على اسم الجلالة فقط.
وأما حكم اليمين: فهل ينبغي للإنسان كلما ذكر شيئاً حلف عليه، أو ينبغي أن لا يكثر اليمين؟
نقول: الأصل أنه لا ينبغي إكثار اليمين؛ لقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . قال بعض العلماء في تفسيرها: أي: لا تكثروا الأيمان، ولا شك أن هذا أولى، وأسلم للإنسان، وأبرأ لذمته، ولكن مع ذلك قد تكون اليمين محرمة، أو واجبة، أو مستحبة أو مكروهة.
فتكون واجبة إذا كان المقصود بها إثبات الحق، فإنه يجب عليك أن تقسم إذا كان يتوقف إثبات الحق على اليمين؛ لذلك أمر الله تعالى نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم في ثلاثة أمور:
أن يقسم على أن البعث حق، وعلى أن القرآن حق، وعلى أن الساعة ستأتي.
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] .
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] .
وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ، فإذا كان يتوقف إثبات الحق وطمأنينة المخاطَب على اليمين، فاليمين واجبة.(15/117)
وكذلك تجب اليمين في دعوى عند الحاكم ليُدفع بها الظلم، مثل لو ادعى رجل على مال يتيم دعوى باطلة، وتوجه اليمين على الولي، فهنا تجب اليمين دفعاً للظلم الذي يحصل على مال هذا اليتيم.
وتكون اليمين محرمة إذا كانت على فعل محرم، أو ترك واجب، مثل لو قال رجل: والله لا أصلي مع الجماعة، ومثل لو قال: والله ليشربن الخمر.
وتكون مستحبة إذا توقف عليها فعل مستحب.
وكذلك تكون مكروهة إذا توقف عليها فعل مكروه، والأصل كما قلنا أولاً: إنه لا ينبغي للإنسان أن يحلف إلا لسبب يدعوه لذلك.
وَاليَمِينُ الَّتِي تَجِبُ بِهَا الكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ هِيَ اليَمِينُ بِاللهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ بِالقُرْآنِ، أَوْ بِالمُصْحَفِ، وَالحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ مُحَرَّمٌ، وَلاَ تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ،...........
قوله: «واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله» كلمة «كفارة» مأخوذة من الكَفْر، وهو الستر، وهي تدل على أن هناك ذنباً يحتاج إلى تكفير، وهذا الذنب هو انتهاك حرمة المقسم به بالحنث؛ لأنك إذا قلت: والله لا أفعل كذا، فمعناه بحق حرمة هذا المحلوف به وتعظيمه لا أفعل هذا الشيء، فإذا فعلته ففيه انتهاك، ولهذا سماها الله تعالى كفارة، لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن رخص لهم في الحنث من باب التخفيف، وإلا فإن الأصل وجوب البرِّ باليمين.
ولهذا قال: «إذا حنث» ، الحنث: الإثم، كما قال تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] .(15/118)
ومعنى حنث، أي: فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، كأن يقول رجل: والله لا أزور فلاناً، ثم زاره فإن هذا يسمى حنثاً؛ لأنه فعل ما حلف على تركه، أو قال: والله لأزورن فلاناً اليوم، فغابت الشمس ولم يزره، فإنه يحنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
وقوله: «واليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث هي اليمين بالله» أي: بهذا اللفظ، ويحتمل أن يكون المراد بأي اسم من أسمائه، وهذا أحسن؛ لأنه أشمل وأعم.
مثال ذلك: والله لأفعلن، والرحمن لأفعلن، وربِ العالمين لأفعلن، والخلاقِ العليمِ لأفعلن، والمنانِ لأفعلن، فكلها أيمان؛ لأنني حلفت باسم من أسماء الله عزّ وجل.
قوله: «أو صفة من صفاته» سواء أكانت هذه الصفة خبرية، أم ذاتيةً معنوية، أم فعلية، مثل أقسم بوجه الله لأفعلن، فيصح؛ لأن الوجه صفة من صفات الله عزّ وجل.
ولو قال: أقسم بعظمة الله لأفعلن يصح.
ولو قال: أقسم بمجيء الله للفصل بين عباده لأعدلن في القضاء بينكما، فيصح؛ لأنه قسم بصفة فعلية لله ـ عزّ وجل ـ.
وينبغي أن يكون القسم باسم مناسب للمقسم عليه، ولهذا تجد في الإقسامات الموجودة في القرآن بين المقسم به والمقسم عليه ارتباطاً من حيث المعنى، ومن أراد الاستزادة من ذلك فعليه مراجعة كتاب ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «التبيان في أقسام القرآن» .
قوله: «أو بالقرآن» الحلف بالقرآن تنعقد به اليمين؛ وذلك(15/119)
لأن القرآن كلام الله، وكلام الله ـ تعالى ـ صفة من صفاته.
ونص المؤلف ـ رحمه الله ـ على القرآن؛ لأن القرآن عند الجهمية والأشاعرة مخلوق من المخلوقات، فالأشاعرة قالوا كلاماً لا يقبله العقل، حيث قالوا: كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يُسمع فهو حروف وأصوات مخلوقة، خلقها الله ـ عزّ وجل ـ لتعبر عما في نفسه، فعلى زعمهم يكون القرآن مخلوقاً، وهذا هو السر في أنَّ المؤلف ـ رحمه الله ـ نصَّ على القرآن، وإلا فقد يقول قائل: لا حاجة للنص عليه؛ لأنه من صفات الله، ولكن نقول: لأن بعض أهل البدع يقولون بأن القرآن مخلوق، أما نحن فنقول: القرآن كلام الله غير مخلوق.
قوله: «أو بالمصحف» المصحف عبارة عن أوراق وحبر، لكن الحالف بالمصحف لا يقصد هذه الأوراق، لكن يقصد الكلام الذي في المصحف، وعليه فإذا قال قائل: إذاً يجب أن يقيد «أو بالمصحف» ناوياً ما فيه.
فالجواب: لا حاجة إلى هذا القيد؛ لأنه هو المتبادر، فالحالف بالمصحف لا يقصد الأوراق، والكتابة، وإنما يقصد ما تضمنته هذه الأوراق، وهو كلام الله عزّ وجل.
مسألة: هل يجوز القسم بآيات الله؟
الجواب: فيه تفصيل، فإن أراد بالآيات الآيات الكونية، مثل الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والإنسان، حرم القسم بها؛ لأنها مخلوقة، وإن أراد بآيات الله الآيات الشرعية التي هي وحيه المنزَّل على رسوله، فهي كلام الله تعالى، والحلف بها(15/120)
جائز؛ لأنها من صفاته، فماذا يريد العامة بقولهم: «قسماً بآيات الله» ؟ الظاهر لي ـ والله أعلم ـ أنهم يريدون الآيات الشرعية ـ أي: القرآن ـ وعلى هذا تكون اليمين منعقدة.
قوله: «والحلف بغير الله محرم» «غير» مضافة إلى الله، فيشمل كل من عدا الله عزّ وجل، حتى وإن كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولهذا نقول: الحلف برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرام بلا شك، وكذلك الحلف بجبريل، وميكائيل، وإسرافيل؛ لأنه حلف بغير الله، والدليل قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (1) . واللام في قوله: «ليصمت» لام الأمر، والأمر للوجوب، أي: ليصمت عن الحلف، وفي حديث آخر: «لا تحلفوا بآبائكم» (2) .
فإن قلت: الحلف بغير الله شرك، والشرك ينبغي أن يعبّر به المؤلف، لأنه أعظم وقعاً في النفوس من كلمة «محرم» .
فالجواب: المؤلف ـ رحمه الله ـ يؤلف في الفقه، وليس في التوحيد والعقائد التي يقال فيها: هذا شرك، وهذا توحيد، وإنما يؤلف فيما يجوز وما لا يجوز، أما نوع هذا المحرم، فالمؤلف لا يريد أن يتكلم فيه؛ لأن محلّه كتب العقائد، ولكن نقول نحن تكميلاً للفائدة: الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب كيف يستحلف؟ (2679) ، ومسلم في النذر/ باب النهي عن الحلف بغير الله (1646) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب لا تحلفوا بآبائكم (6648) ، ومسلم في النذر/ باب النهي عن الحلف بغير الله (1646) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(15/121)
الكبيرة، ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «لئن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً» (1) ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن سيئة الشرك وإن صغرت أعظم من سيئة المعصية وإن كبرت.
قوله: «ولا تجب به كفارة» لأنه يمين غير شرعي، وما ليس بشرعي لا يترتب عليه أثره، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ، وكل ما خالف الشرع فإنه لا أثر له.
فإن قلت: الحلف بغير الله محرم وشرك، ولكن فَعَلَهُ أتقى الناس لله، وهو محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه جاء إليه أعرابي وسأله عن شعائر الإسلام فأخبره، ثم قال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح وأَبِيهِ إن صدق» (3) ، فكيف نقول: إن الحلف بغير الله محرم أو شرك، والشرك ممتنع على الأنبياء؛ لأنه ينافي دعوتهم تماماً؛ لأنهم يدعون إلى التوحيد، والشرك ينافيه ولو كان صغيراً؛ لأنه إذا كان كبيراً فهو ينافي أصله، وإن كان صغيراً فهو ينافي كماله، فكيف يحلف الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغير الله في قوله: «أفلح وأبيه» ؟
الجواب: للعلماء على هذا عدة أجوبة:
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (8/469) ، وابن أبي شيبة (3/79) ، والطبراني في الكبير (9/183) .
(2) سبق تخريجه ص (67) .
(3) أخرجه مسلم في الأيمان/ باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11) (9) عن طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ.(15/122)
الأول: أن في هذا الحديث تصحيفاً، وأن أصله: «أفلح والله» ، لكن لما كانوا في الأول لا ينقِّطون، فإن «أبيه» مثل «الله» فيها نبرتان والهاء، لكن قصرت النبرتان وحذف الإعجام فصارت «وأبيه» ، وهذا غير صحيح؛ لأن الأصل عدم التصحيف، ولأن هذا يفتح علينا باباً خطيراً بالنسبة للرواة، إذ كل شيء لا تقبله نفوسنا نقول: هذا مصحَّف.
الثاني: أن هذا قبل النهي عن الحلف بالآباء، وأن هذا كان في الأول كثيراً شائعاً، والناس قد ألِفُوه، فتأخر النهي عنه، كما تأخر النهي عن الخمر، فإنها لم تحرم إلا في السنة السادسة من الهجرة، وكذلك الحجاب ما وجب إلا في السنة السادسة من الهجرة؛ لأن الشيء المألوف يصعب على النفس أن تدعه في أول الأمر، فقالوا: إن الشرع تركهم على هذا الشيء؛ لأنه مألوف عندهم، ولما استقر الإيمان في نفوسهم نهى عنه، ويكون قسم الرسول صلّى الله عليه وسلّم «بأبيه» قبل النهي، وحينئذٍ نقول: هو منسوخ.
ولكن النسخ من شروطه العلم بالتاريخ، ومجرد التعليل ليس حكماً بالتقدم أو التأخر، فهذا لا يكفي بل لا بد أن نعلم التأخر، وعلى هذا فالقول بالنسخ ـ أيضاً ـ ضعيف.
الثالث: أن هذا مما يجري على اللسان بغير قصد، فيكون من لغو اليمين، وقد قال الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ، ولو فرضنا أن الناس اعتادوا على هذا فإننا نتركهم، وعليه فالذين اعتادوا أن يحلفوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا ننهاهم، لأن هذا يجري على ألسنتهم، وقد جاءني رجل يريد أن يستفتيني(15/123)
فقال: والنبي تفتيني في هذه المسألة، فقلت له: الحلف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حرام، فسكت الرجل وقال: والنبي ما عمري أعود إلى هذا الشيء! فهذا القول غير وجيه، ولا يستقيم مع قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحلفوا بآبائكم» (1) ؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا بالذات، وما كان منهياً عنه بذاته، كيف نقول: إنه صلّى الله عليه وسلّم أقره، وأنه يبقى حكمه إلى الآن؟! هذا لا يمكن.
الرابع: أن النهي عن الحلف بغير الله خوفاً من أن يقع في قلب الحالف من تعظيم هذا المحلوف به، كما يكون في قلبه من تعظيم الله، وهذا بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ممتنع، فلا يمكن أن يقوم في قلبه تعظيم أبي هذا الأعرابي كتعظيم الله، وعلى هذا الوجه يكون هذا خاصاً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لعلمنا أن المحذور من الحلف بغير الله لا يتصور في حقه، وعلى هذا يكون الحلف بالأب ونحوه على من سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم ممنوعاً، أما في حقه صلّى الله عليه وسلّم فهو جائز.
لكن هذا يضعفه أنه صلّى الله عليه وسلّم أسوة أمته، ولا يمكن أن يحلف بغير الله وهو يعلم أن الأمة سوف تتأسَّى به، لكن قد يقال: إن الأمة قد أخبرها بالحكم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحلفوا بآبائكم» .
وهذا الوجه الرابع ينطبق تماماً على ما ذهب إليه الشوكاني وجماعة من العلماء من أن الفعل من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعارض القول مطلقاً.
فالأقرب من هذه الأوجه أن يكون منسوخاً، وهذا في
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .(15/124)
النفس منه شيء؛ لأننا لم نعلم تاريخه، أو أنه خاص برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعلى كل حال نقول: لدينا نص مشتبه ونص محكم، فالنص المشتبه هو حلفه صلّى الله عليه وسلّم بأبي هذا الرجل، والنص المحكم هو نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف بالآباء، والقاعدة الشرعية في طريق الراسخين في العلم أن يحملوا المتشابه على المحكم؛ ليكون الشيء كله محكماً، فما دام هذا الشيء فيه احتمالات، فإن لدينا نصاً محكماً لا يمكن أن نحيد عنه وهو النهي عن الحلف بالآباء. ويصلح أن يجاب بأن هذا على حذف مضاف والتقدير: ورب أبيه ولكن هذا ضعيف لأن الأصل عدم الإضافة والحذف.
الخامس: أن هذه اللفظة «وأبيه» شاذة، وغير محفوظة، فإذا صح هذا فقد كفينا، ولا حاجة لهذه الأجوبة، وإذا صحت فهذه أجوبتها.
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الكَفَّارَةِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
الأوَّلُ: أَنْ تَكُونَ اليَمِينُ مُنْعَقِدَةً، وَهِيَ الَّتِي قُصِدَ عَقْدُهَا عَلَى مُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ،.......
قوله: «ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط» الشرط لغة العلامة، وفي الشرع ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، يعني أنه إذا عُدِمَ عُدِمَ المشروط، وهو إما أن يعدم حساً إذا كان شرطاً حسياً، وإما أن يعدم شرعاً إذا كان شرطاً شرعياً، فمثلاً الصلاة بلا وضوء، فقد يصلي رجل بدون وضوء صلاة كاملة بقراءتها، وركوعها وسجودها، وأركانها، فهي الآن موجودة حساً، لكنها شرعاً غير موجودة.
وقوله: «لوجوب الكفارة» أفادنا ـ رحمه الله ـ أن الكفارة واجبة بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ(15/125)
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] .
فإن الأمر بحفظها يتناول الأمر بالكفارة؛ لأن ذلك من حفظها.
وكذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك» (1) ، فأمر بالتكفير، والأصل في الأمر الوجوب.
وقوله: «الكفارة» من الكفر وهي الستر؛ وذلك أن الأصل أن الإنسان إذا حلف وجب عليه إتمام الحلف؛ لأنه حلف بعظيم، ومن عظمته أن تقوم بما حلفت به عليه؛ لأن الحلف في الواقع تأكيد للشيء بعظمة المحلوف به، فإذا انتهكت هذا التأكيد فهو كالإشارة إلى انتهاك عظمة المحلوف به، فلهذا وجبت الكفارة، ولولا أن الله تعالى رحم العباد لكان من حلف على شيء وجب عليه أن يتمه بكل حال، إلا لضرورة.
قوله: «الأول: أن تكون اليمين منعقدة» وهي التي تثبت وتتأكد؛ لأن انعقاد الشيء معناه أن يكون كالعقدة ثابتة، ومثبِّتة للمعقود بها، لكن تعريفها شرعاً: يقول المؤلف:
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور/ باب قول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6622) ، ومسلم في النذر/ باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1652) عن عبد الرحمن بن سمرة ـ رضي الله عنه.(15/126)
«وهي التي قُصد عقدها على مستقبل ممكن» فجمعت ثلاثة شروط:
الأول: قصد عقدها.
الثاني: على مستقبل.
الثالث: على أمر ممكن.
فقوله: «قصد عقدها» يفيد أنه لا بد أن يكون الحالف ممن له قصد، فإن لم يكن له قصد فلا عبرة بيمينه، كالمجنون لو حلف ألف مرة لا تنعقد يمينه، لأنه ليس له قصد، وكذلك المخرِّف لا تنعقد يمينه؛ لأنه لا قصد له، وكذلك السكران، ومن اشتد غضبه لا تنعقد يمينهما؛ لأنه لا قصد لهما، وكذلك الصبي دون التمييز لا تنعقد يمينه، فإن كان فوق التمييز ودون البلوغ، فظاهر كلام المؤلف أن يمينه تنعقد؛ لأن له قصداً صحيحاً، ولهذا ذكر الفقهاء أن المميز تصح ذكاته؛ لأن له قصداً صحيحاً، وذكروا في باب الإيلاء أنه يصح من المميز، وهذا أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، والقول الثاني وهو المذهب: أنه لا يصح إلا من المكلف.
فأما الذين قالوا: إنه يكفي التمييز، فاستدلوا بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، فقالوا: هذا عام، وهذه يمين، وانعقادها والحنث فيها ليس من باب الأحكام التكليفية، ولكنه من باب الأحكام الوضعية، أي أنه سبب وُضع على مسبب. فالصبي لو قتل إنساناً وجبت عليه الكفارة وإذا حنث في اليمين تجب عليه الكفارة.(15/127)
وأما الذين قالوا: لا بد من البلوغ، فقالوا: إن الكفارة تكفير إثم متوقع لولا رحمة الله عزّ وجل، ومن كان دون البلوغ فإنه لا يكلف، فقد رفع عنه القلم فلا تنعقد يمينه، وبناء على هذا لو أقسم من له أربع عشرة سنة، وعشرة أشهر على شيء، فإن يمينه لا تنعقد، بل لو كان بلوغه في الساعة الثانية عشرة، وحلف في الساعة الحادية عشرة لم تنعقد، وفي الساعة الواحدة تنعقد؛ لأنه في الأول غير بالغ، وفي الثاني بالغ، والراجح أنها تنعقد؛ لأن هذا من باب الأحكام الوضعية المقرونة بأسبابها، صحيح أن غير المكلف لا يدري ولا يفهم، لكن له قصد صحيح، بدليل أن ذكاته تصح.
الشرط الثاني: أن تكون على مستقبل، فإن كانت على ماضٍ فإنها لا تنعقد، مثل لو قال: والله ما فعلت أمسِ كذا، وهو قد فعله، فهذا لا كفارة عليه؛ لأنها يمين على ماضٍ.
الشرط الثالث: أن تكون على أمر ممكن فإن كان غير ممكن لم تنعقد، والممكن ضده المستحيل، والمستحيل تارة يكون مستحيلاً لذاته، وتارة يكون مستحيلاً عادة، وكلاهما على حد سواء، فإذا أقسم على شيء مستحيل، فإن يمينه غير منعقدة، فلا كفارة عليه، سواء حلف على فعله أم على تركه؛ لأنه مستحيل، والمستحيل لا تتعلق به كفارة، لأن الحالف على المستحيل، إما أن يكون على عدمه وهذا لغو، وإما أن يكون على فعله، وهذا ـ أيضاً ـ لا تكون اليمين فيه منعقدة؛ لأنه من المعلوم أنه إذا حلف عليه فلن يكون، فيكون حلفه عليه تأكيداً له(15/128)
لا وجه له؛ لأن الحلف إنما يقصد به تأكيد فعل المحلوف عليه، وهذا أمر مستحيل، فتكون ـ أيضاً ـ لغواً.
مثال المستحيل لذاته: أن يقول: والله لأقتلن الميت؛ لأن الميت لا يرد عليه القتل، فهذا لا تنعقد يمينه على كلام المؤلف؛ لأن هذا لغوٍ، لأنه لن يقتل الميت أبداً، فقد حلف على نفي المستحيل، والمذهب أن عليه الكفارة في الحال؛ لأن تحقق حنثه معلوم، فيجب عليه أن يكفر في الحال ولا ينتظر.
ولو تأذّى بنباح كلب، فقال: والله لأقتلن هذا الكلب حياً، أو ميتاً، فهنا تنعقد يمينه؛ لأنه قد يكون حياً، وقوله: حياً أو ميتاً، فهو من باب تأكيد قتله.
ومثال المستحيل عادة: لو قال: والله لأطيرنَّ.
فالخلاصة أنه إذا حلف على أمر مستحيل، فعلى كلام المؤلف أنها لا تنعقد، والمذهب: إن كان على فعله فهو حانث في الحال، وتجب عليه الكفارة، وإن كان على عدمه فهي لغو غير منعقدة؛ لأنه حلف على أمر لا يمكن وجوده.
فإذا قال قائل: ما الدليل على اشتراط الاستقبال؟
فالجواب: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان» (1) .
ولم يقل: إن عليه الكفارة، إنما ذكر أن عليه هذا الإثم،
__________
(1) أخرجه البخاري في الخصومات/ باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2416 ـ 2417) ، ومسلم في الأيمان/ باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (138) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.(15/129)
والكفارة تستر الإثم والاقتطاع إما دعوى ما ليس له، وإما إنكار ما هو عليه، وهذا يكون أمراً ماضياً لا مستقبلاً.
فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ كَاذِباً عَالِماً فَهِيَ الْغَمُوسُ،................
قوله: «فإن حلف» الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، أي: الإنسان.
قوله: «على أمر ماض» احترازاً من المستقبل، فقد سبق أنه من اليمين المنعقدة.
قوله: «كاذباً» احترازاً من كونه صادقاً، فإن حلف على أمر ماضٍ صادقاً فلا شيء عليه.
قوله: «عالماً» احترازاً مما لو كان جاهلاً، مثل أن يقول: والله لقد حضر فلان أمس، وفلان هذا لم يحضر، بل حضر شخص آخر، ولكنه ظن أنه هو الحاضر، فهو هنا جاهل.
أو يقول: والله لقد حرم الله علينا كذا وكذا، والتحريم سابق ثم قلنا له ما هو الدليل، قال: الدليل كذا وكذا، ثم وجدنا أنه ليس كذلك، فيمينه ليست غموساً.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان ناسياً، وليس كذلك، بل إذا كان ناسياً فهو كالجاهل، مثل إنسان حلف على أمر ماضٍ ناسياً، كأن قال: والله ما أقرضني فلان شيئاً، ناسياً أنه أقرضه فلا تكون يمينه غموساً؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
قوله: «فهي الغموس» أي: فهي اليمين الغموس، و «غموس» على وزن فعول، وأصلها غامسة اسم فاعل، ولكن عُدل عن ذلك إلى غموس للمبالغة، وسميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في(15/130)
الإثم ثم في النار؛ لأن الحالف على أمر ماض كاذباً عالماً ـ والعياذ بالله ـ جمع بين أمرين: بين الكذب، وهو من صفات المنافقين، وبين الاستهانة باليمين بالله، وهو من صفات اليهود، فإن اليهود هم الذين ينتقصون ربهم، ويصفونه بالعيوب، فحينئذٍ تكون يمينه غموساً.
وظاهر كلام المؤلف: سواء تضمنت هذه اليمين اقتطاع مال امرئ مسلم أم لا، فالتي تتضمن اقتطاع مال امرئ مسلم هي التي يحلف بها الإنسان في الدعوى عند القاضي، بأن يدعي عليه رجل بمائة ريال، فيقول: ما عندي لك شيء، فيقول القاضي للمدعي: ألك بينة؟ فيقول: لا، فيقول للمدعى عليه: أتحلف؟ فإذا حلف، وقال: والله لا يطلبني شيئاً وهي عليه حقّاً، فهذه اليمين تكون غموساً؛ لأنه حلف فيها على أمر ماضٍ، كاذباً، عالماً، اقتطع بها مال امرئ مسلم.
وقد يكون الاقتطاع بادعاء ما ليس له ويحضر شاهداً، فإذا أتى بشاهد كفته اليمين، وحكم له بها فتكون يمينه غموساً؛ لأنه اقتطع بها مال امرئ مسلم في ادعاء ما ليس له، وهذا أشد من الذي قبله؛ لأنه يتضمن الكذب في اليمين، وأكل مال المسلم.
فاليمين الغموس هي التي يحلف صاحبها على فعل ماضٍ كاذباً عالماً، ليقتطع بها مال امرئ مسلم، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأول لا دليل عليه.
وَلَغْوُ اليَمِينِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: لاَ وَاللهِ، وَبَلَى وَاللهِ، وَكَذَا يَمِينٌ عَقَدَهَا يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ فَبَانَ بِخِلاَفِهِ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِي الْجَمِيعِ.
قوله: «ولغو اليمين الذي يجري على لسانه بغير قصد» «لغو» مبتدأ، «والذي» خبر المبتدأ، ولهذا يحسن هنا أن يأتي(15/131)
بضمير الفصل؛ ليتبيَّن أن قوله: «الذي» خبر، إذ إن القارئ قد يظن أن قوله: «الذي» صفة لـ «لغو» وينتظر الخبر، فلو قال: «هو الذي يجري ... » لكان أبين.
وقوله: «الذي يجري على لسانه بغير قصد» يعني يطلقه لسانه وهو لا يقصده، وهذا ليس فيه كفارة بنص القرآن، قال الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ، ولغو اليمين يخرج من القيد السابق في اليمين المنعقدة، وهو قوله: «قُصِد عقدها» ، ولغو اليمين لم يقصد عقدها، فلا تكون يميناً منعقدة.
قوله: «كقوله: لا والله، وبلى والله» والدليل على أن هذا من لغو اليمين قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، ولا تكسب القلوب إلا ما قصد؛ لأن ما لا يقصد ليس من كسب القلب.
وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا والله، بلى والله» (1) ، أي: إن الرجل عندما يقول ذلك لا يقصد القسم والعقد، فهذا نوع من لغو اليمين.
ونوع آخر على ما مشى عليه المؤلف فقال:
«وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه فلا كفارة في الجميع» أي إنه عقدها ونواها وهو يظن صدق نفسه، فتبين
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (4613) .(15/132)
الأمر بخلاف ذلك، مثاله: قال رجل: والله لقد جرى بالأمس كذا وكذا، ظناً منه أنه قد جرى، ولكنه في الواقع لم يجرِ، إذاً عقدها وهو يظن أنه صادق، ولكنه في الواقع غير صادق، يعني تبين أنه يخلافه.
مثال آخر: قال: والله لقد حضر فلان الدرس في الليلة الماضية، وأجمع الطلاب على أنه ما حضر، والواقع أنه لم يحضر، فلا كفارة فيها، يقول المؤلف: إن هذه من لغو اليمين، والذي فاتها من القيود أن تكون على مستقبل، وهو حلف على أمر ماضٍ.
فإذا قال قائل: هل يصح أن نسميها من لغو اليمين، مع أن الرجل قصد يمينه؟
الجواب: هذا ما رآه المؤلف، ولكن الصحيح أنها ليست من لغو اليمين، وأنها يمين منعقدة لكن لا حنث فيها؛ لأنه في الحقيقة بارٌّ لا حانث؛ وذلك لأنه حين قال: والله لقد حضر يعتقد حضوره، وهو إلى الآن يعتقد حضوره، ولكن لأن الشهود شهدوا بأنه لم يحضر فهم آكد مني.
وبناءً على هذا التعليل، فلو أن رجلاً حلف على أمر مستقبل أنه سيكون بناء على غلبة ظنه، ثم لم يكن، فعلى المذهب هي يمين منعقدة، تجب فيها الكفارة إذا تبين الأمر بخلافه؛ لأنها على مستقبل، فإذا قال بناء على ظنه: والله ليأتين زيدٌ غداً، على اعتبار أن زيداً سيأتي، وزيد رجل صادق، فمضى غد ولم يقدم زيد، فالمذهب أن عليه الكفارة؛ لأن هذه اليمين(15/133)
منعقدة على مستقبل ممكن، ولم يكن وعلى ما ذهبنا إليه فليس عليه كفارة؛ لأن هذا الرجل بار في يمينه؛ لأنه لم يزل ولا يزال يقول: حلفت على ما أعتقد، وهذا اعتقادي، وأما كونه يقع على خلاف اعتقادي فهذا ليس مني، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن من حلف على أمر مستقبل بناء على ظنه، ثم لم يكن، فليس عليه كفارة.
مسألة: هل الطلاق كاليمين في هذه المسألة؟
الجواب: الصحيح أنه كاليمين، والمذهب أنه ليس كاليمين في الصورتين، أي: إنه يقع مطلقاً، وكذلك العتق، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ الشرط الثاني لوجوب الكفارة.
الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَاراً، فَإِنْ حَلَفَ مُكْرَهاً لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ.
قوله: «الثاني: أن يحلف مختاراً» أي: الشرط الثاني لوجوب الكفارة أن يحلف مختاراً، يعني مريداً للحلف وضد المختار المكره، قال المؤلف:
«فإن حلف مكرهاً لم تنعقد يمينه» فلو أن رجلاً مجرماً عثر عليه إنسان فأمسك به، وقال: سأرفع أمرك لولي الأمر، فقال له المجرم: إذا رفعت بي سأقتلك، ثم قال المجرم: أَقْسِمْ بالله أنك لا تخبر بي، وإلا قتلتك، فأقسمَ بالله أن لا يخبر به، فهذه اليمين لا كفارة فيها؛ لأنه حلف مكرهاً، وعلى هذا فلو أخبر ولاةَ الأمور بصنيع هذا المجرم فليس عليه إثم، وليس عليه كفارة؛ لأنه حلف مكرهاً، والدليل من القرآن ومن السنة:
أما من القرآن فقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ(15/134)
إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] . فإذا كانت كلمة الكفر قد صدرت من مُكرَهٍ فلا أثر لها، فما سواها مثلها.
أما من السنة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ، وعلى هذا فإن حنث في يمينه في هذه الحال، فلا إثم عليه ولا كفارة.
ولكن هل يشترط أن ينوي في اليمين دفع الإكراه، فإن نوى اليمين انعقدت؟
الجواب: ظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط، لكنهم ذكروا في كتاب الطلاق أنه يشترط أن ينوي بذلك دفع الإكراه، لا حصول المكره عليه، والفرق بينهما أن نية دفع الإكراه أن يقول هذا من أجل أن يسلم من شر الذي أكرهه، وهو لا يريد ذلك.
أما نية الفعل، فأن يقول: والله لا أخبر بك، وهو ينوي فعلاً أن لا يخبر به، وليس قصده فقط أن يسلم منه، فقياس كلامهم في الطلاق أن هذه اليمين فيها الكفارة؛ لأن المكرَهَ على الشيء إن قاله دفعاً للإكراه فلا حكم له ولا يضره، وإن قاله يريده
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2045) ، والبيهقي (6/84) .
وأخرجه بلفظ: «تجاوز» ابن أبي شيبة (4/82) ، وابن حبان (16/202) ، والطبراني في الأوسط (8/161) ، والحاكم (2/216) ، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في المشكاة (3/372) ، وانظر: التلخيص (1/281، 282) ، ونصب الراية (2/64) .(15/135)
حين أكره عليه، فهذا على المذهب أحكامه ثابتة.
وسبق أن القول الراجح أنه لا يشترط أن ينوي دفع الإكراه، وأنه إذا أكره فلا حكم لكلامه لعموم الأدلة، ولأن كثيراً من العامة إذا أكرهوا فإنهم يقولون ذلك الشيء بنية ذلك الشيء، وليس كل عامي يعرف أنه لا بد أن ينوي دفع الإكراه.
مثاله: رجل أكره على طلاق زوجته، فقال: امرأتي طالق، يريد أن يدفع الإكراه، لا يريد طلاق زوجته، ورجل آخر أُكرِه على طلاق زوجته فطلق يريد الطلاق من أجل أنه أكره عليه، ففي الأولى إذا نوى دفع الإكراه، لا وقوع الطلاق فلا يقع طلاقه؛ لأنه لم يرده، وفي الثانية على المذهب يقع الطلاق؛ لأنه أراد الطلاق وإن كان مكرهاً عليه.
والصحيح أنه لا يقع الطلاق في الحالين لعموم الأدلة، ومسألة الحلف مثلها، كما لو أكره على الحلف أن لا يفعل، فإن حلف يريد دفع الإكراه فلا كفارة عليه، وإن حلف يريد اليمين لكن من أجل أنه أكره عليها فعلى المذهب عليه الكفارة والصحيح انه لا كفارة عليه، لعموم الأدلة ولأن كثيراً من العامة لا يفرقون بين دفع الإكراه وحصول المكره عليه.
الثَّالِثُ: الحِنْثُ فِي يَمِينِهِ، بِأَنْ يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ يَتْرُكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ مُخْتَاراً ذَاكِراً، فَإِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهاً أَوْ نَاسِياً فَلاَ كَفَّارَةَ، وَمَنْ قَالَ فِي يَمِينٍ مُكَفَّرَةٍ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَمْ يَحْنَثْ،............
قوله: «الثالث: الحنث في يمينه» أصل الحنث الإثم، ومنه قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ *} [الواقعة] ، أي: الإثم العظيم، ولكنه هنا ليس إثماً؛ لأن من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ بعباده أن رخص لهم في انتهاك القَسَم، وإلا فإن انتهاكه إثم وحرام.(15/136)
وفسر المؤلف الحنث اصطلاحاً فقال: «بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله» مثاله: يقول: والله لا ألبس هذا الثوب أبداً، ثم لبسه بعد ذلك، فقد حنث؛ لأنه فعل ما حلف على تركه، أو قال: والله لألبسن هذا الثوب اليوم، ثم انقضى اليوم ولم يلبسه فقد حنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
لكن متى نتحقق أن الرجل حنث في يمينه؟
نقول: إن قيده بزمن فبانتهائه، مثل أن يقول: والله لألبسنَّ اليوم هذا الثوب، فغابت الشمس ولم يلبسه لزمته كفارة؛ لأنه حنث، أمَّا إذا أطلق فإننا لا نعلم أنه يحنث حتى يتقطع الثوب ويتلف، أو يموت الرجل لأنه لم يقيده بزمن، ولهذا لمّا قال عمر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «أقلت: هذا العام؟» قال: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به» (1) ، وقال ذلك في صلح الحديبية قبل أن يأتيه بسنة.
قوله: «مختاراً» ضده المكره، فإن حنث مكرهاً فلا كفارة عليه، كأن يقول الولد: والله لا ألبس هذا الثوب، فقال الوالد: لتلبسنَّه، وإلاّ فعلتُ، وفعلتُ، وهدَّدَه، فلبسه الولد، فهنا لا شيء عليه؛ لأنه مكره والدليل ما سبق من الأدلة.
قوله: «ذاكراً» وضده الناسي، مثل قوله: والله لا أطالع في هذا الكتاب اليوم، ثم نسي وطالع فيه، فليس عليه شيء؛ لأنه
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2734) عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.(15/137)
ناسٍ، ولكن متى زال العذر، وهو الإكراه في المسألة الأولى والنسيان في الثانية، فإنه يجب عليه التخلي وإلاَّ حنث؛ لأن العذر إذا زال زال موجَبُه.
قوله: «فإن فعله مكرهاً أو ناسياً فلا كفارة» لكن متى زال العذر، وأقام بعده حنث.
وظاهر كلام المؤلف هنا أنه لو حنث جاهلاً فعليه الكفارة، مثل لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم لبسه ظاناً أنه ثوب آخر غير الذي حلف عليه، فظاهر كلام المؤلف أن عليه الكفارة؛ لأنه لم يذكر إلا شرطين: «مختاراً ذاكراً» ، ولم يقل: عالماً، لكن سبق لنا في مسائل متفرقة من أبواب الطلاق، أنه إذا كان جاهلاً فلا حنث عليه، حتى على المذهب، وهو الصحيح، وعلى هذا فنزيد شرطاً ثالثاً وهو «عالماً» ، فنقول: «الحنث في يمينه بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً ذاكراً عالماً، فإن كان مكرهاً، أو ناسياً، أو جاهلاً فلا كفارة عليه.
وهل يفرق في هذا الباب بين الطلاق والعتق واليمين، أو هي سواء؟ المذهب التفريق، فيقولون: إن الطلاق والعتق يعذر فيهما بالإكراه، لكن لا يعذر فيهما بالجهل والنسيان، فإذا قال رجل: إن كلمت فلاناً فزوجتي طالق، فكلم رجلاً لا يدري أنه فلان، فهذا جاهل، وعلى المذهب يقع طلاقه.
وإذا قال: والله إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، ثم لبسه ناسياً، فعلى المذهب يقع الطلاق، وكذلك في العتق، والصحيح أن هذا الباب واحد الطلاق، والعتق، والنذر،(15/138)
والظهار، والتحريم، كل هذه على حد سواء لا يحنث فيها الإنسان، إلا إذا كان عالماً، ذاكراً، مختاراً؛ لأن الحنث على اسمه إثمٌ، فإذا كنتَ جاهلاً، أو ناسياً، أو مكرهاً فلا شيء عليك، وهذا هو الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الذي تدل عليه الأدلة العامة.
قوله: «ومن قال في يمين مكفَّرة: إن شاء الله لم يحنث» «من» اسم شرط جازم، «لم يحنث» جواب الشرط، فتشمل «من» كل حالف، فأي إنسان يحلف، ويقول: إن شاء الله لم يحنث.
وقوله: «يمين مكفَّرة» أي: تدخلها الكفارة، مثل اليمين بالله، والنذر، والظهار، فهذه ثلاثة أشياء كلها فيها كفارة، وخرج بذلك الطلاق والعتق فلا كفارة فيهما.
فإن قال في اليمين المكفرة: إن شاء الله لم يحنث، أي: ليس عليه كفارة، وإن خالف ما حلف عليه.
مثال في اليمين بالله: قال: والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله، ثم لبسه فليس عليه شيء؛ لأنه قال: إن شاء الله، ولو قال: والله لألبسنَّ هذا الثوب اليوم إن شاء الله، فغابت الشمس ولم يلبسه، فليس عليه شيء.
والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه» (1) ، ودليل آخر: قصة سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ
__________
(1) أخرجه النسائي في الأيمان والنذور/ باب من حلف فاستثنى (7/12) ، والترمذي في النذور والأيمان/ باب ما جاء في الاستثناء في اليمين (1531) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وحسنه الترمذي.(15/139)
في الصحيحين حين قال: والله لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، اعتماداً على قوة عزيمته، فأراه الله ـ عزّ وجل ـ أن الأمر بيده، فطاف على تسعين امرأة، أي: جامعهن في ليلة واحدة، فأتت واحدة منهن بنصف إنسان، وليس إنساناً كاملاً ولو لم تأتِ واحدة منهن بشيء لكان هذا مما لا غرابة فيه، ولو جاءت كل واحدة منهن بولد لكان برَّ بيمينه، لكن أراد الله أن يُريه قدرته تعالى، وأن الأمر بيده جل وعلا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته» (1) ، أي: لو قال: إن شاء الله لأبرَّه الله في يمينه.
مثال النذر: لو قال: إن شفى الله مريضي فللَّه علي نذر إن شاء الله، فلا شيء عليه لو ترك، وكذلك لو قال: لله عليَّ نذرٌ أن لا أكلم فلاناً إن شاء الله، ثم كلَّمه فلا شيء عليه، لكن يشترط لها شروط:
الأول: أن يقولها باللفظ؛ لأن المؤلف قال: «ومن قال» فإن نواها بقلبه لم تُفِده. والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فقال إن شاء الله والقول يكون باللسان فلو نوى فلا عبرة بنيته» .
الثاني: أن تتصل بيمينه حقيقة أو حكماً، مثال الاتصال الحقيقي: أن يقول: والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه البخاري في كفارات الأيمان/ باب الاستثناء في الأيمان (6720) ، ومسلم في النذور/ باب الاستثناء في اليمين وغيرها (1654) (23) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(15/140)
مثال الاتصال الحكمي: لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم أخذه العطاس لمدة ربع ساعة، فلما هدأ عنه العطاس قال: إن شاء الله، فهذا اتصال حكمي؛ لأنه منعه مانع من اتصال الكلام، لكنه في الواقع متصل؛ لأنه لمّا زال المانع قال هذا الاستثناء.
الثالث: أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، يعني أن يقول إن شاء الله قبل تمام المستثنى منه فيقول: «والله لألبسنَّ هذا الثوب إن شاء الله» ، فلا بد أن ينوي إن شاء الله قبل أن ينطق بالباء من كلمة الثوب، فإن نوى بعد فلا عبرة به.
الرابع: أن يقصد التعليق بالمشيئة؛ لأن الذي يقول: «إن شاء الله» أحياناً يقولها للتبرك وهو عازم، أو التحقيق، وأحياناً يقولها للتعليق، وفرق بين من يقصد التعليق، ومن يقصد التبرك أو التحقيق، فإن قصد التبرك أو التحقيق فإنها لا تؤثر، ولنرجع إلى أدلة هذه الشروط:
فدليل الشرط الأول: وهو أنه لا بد أن ينطق بها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله» (1) ، والقول يكون باللسان، ولحديث سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال له الملك: «قل: إن شاء الله» (2) .
ودليل الشرط الثاني: وهو أن يكون متصلاً، قالوا: لأنه إذا انفصل فإنه يكون كلاماً أجنبياً، لا رابطة بينه وبين الكلام الأول،
__________
(1) سبق تخريجه ص (139) .
(2) سبق تخريجه ص (140) .(15/141)
فحينئذٍ لا يكون مقيِّداً للكلام الأول؛ لأنك إذا قلت مثلاً: والله لألبسن هذا الثوب، فهذا غير مقيد، فإذا قلت: إن شاء الله صار مقيَّداً، فيقولون: ما دام عندنا مُقيِّد ومُقيَّد، فلا بد أن يكون المقيِّد متصلاً بالمقيَّد، وإلا كان أجنبياً منه.
ودليل الشرط الثالث: وهو أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، قالوا: لأنك إذا قلت: والله لألبسن هذا الثوب، بدون نية، صار الكلام الذي دخل عليه الاستثناء حسب نيّتك كلاماً مطلقاً غير مقيد؛ لأنك لم تنوِ أن تدخل عليه التقييد، فإذا أدخلت عليه التقييد، فإن هذا التقييد لا ينسخ ما سبق، أي: لا يجعل الكلام الذي تم على أنه مطلق مقيَّداً.
ودليل الشرط الرابع: وهو أن يقصد التعليق؛ لأنه إذا قصد التحقيق، أو التبرك فإنه لم يرد به إلاّ تأكيد الشيء وتثبيته، والمقصود بالتعليق الذي يؤثر هو أن يرد الأمر إلى مشيئة الله عزّ وجل، فإذا كنت لم ترد بذلك رد الأمر إلى المشيئة، وإنما أردت بالمشيئة أن تقوي الأمر وتثبته، فهذا لا يكون مؤثراً، هذا ما ذهبوا إليه فبعضه فيه الدليل وبعضه فيه التعليل.
والصحيح أنه لا يشترط إلا النطق، ودليلنا على ذلك: أن الملَك قال لسليمان عليه الصلاة والسلام: قل: إن شاء الله، بعد أن أتم الجملة، وسليمان لم ينوِ الاستثناء قبل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو قالها لم يحنث وكان دركاً لحاجته» (1) ، وهذا نص كالصريح في أنه لا تشترط النية.
__________
(1) سبق تخريجه ص (139) .(15/142)
أما اشتراط الاتصال، فإن الاتصال ليس كما قالوا، بل الاتصال أن ينسب آخر الكلام إلى أوله عرفاً، فإذا كان ينسب آخر الكلام إلى أوله عرفاً فإنه يصح الاستثناء، وقد خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح، وذكر مكة وحرمتها، وأنه لا يختلى خَلاها، ولا يحش حشيشها، وذكر كلاماً، ثم بعد ذلك قال العباس رضي الله عنه: إلاّ الإذخر يا رسول الله، فإنه لبيوتهم وقبورهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إلا الإذخر» (1) .
وهذا بعد كلام منفصل عن الأول انفصالاً بغير ضرورة، وهو صلّى الله عليه وسلّم لم ينوِ الاستثناء، فدل ذلك على أنه ليس بشرط، وأن الرجل لو حلف عليك أن تفعل شيئاً فقلت له: قل: إن شاء الله، فقالها، فإنه ينفعه الاستثناء على القول الراجح، ولا ينفعه على المذهب.
مسألة: رجل حلف وشك، هل قال: إن شاء الله، أو لم يقلها؟ فنقول: الأصل عدم قول: إن شاء الله، ولكن يقول شيخ الإسلام: إذا كان من عادته أن يستثني فيحمل على العادة؛ لأن الظاهر هنا أقوى من الأصل، واستدل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لهذه المسألة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رد المستحاضة إلى عادتها (2) ، وقال: فهذا دليل على أن العادة مؤثرة، مع العلم أن المستحاضة قد
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب كتابة العلم (112) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الحيض/ باب الحيض (306) ، ومسلم في الحيض/ باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (334) من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(15/143)
تكون حيضتها قد تغير زمانها بسبب الاستحاضة، ومع ذلك ردّها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عادتها. ولو حلف وقال: والله لألبسن هذا الثوب وإذا أحد من الناس يدخل عليه ويسلم فقال: وعليكم السلام، إن شاء الله للأول فعلى المذهب لا يصح الاستثناء هنا، وعلى القول الثاني وهو الراجح يصح لا سيما إذا كان قد نوى الاستثناء من الأصل، لكن رد السلام هنا جملة معترضة.
وَيُسَنُّ الحِنْثُ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَ خَيْراً،................
قوله: «ويسن الحنث في اليمين إذا كان خيراً» الحنث هو ما أشار إليه من قبل، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله.
مثاله: رجل قال: والله لا أفعل هذا، ثم جاءنا وسألنا: هل الأفضل له أن يفعل هذا الشيء ويحنث، أو الأفضل ألاّ يفعله؟
نقول: إذا كان الحنث خيراً من عدمه فاحنث، وإذا كان عدم الحنث خيراً، أو تساوى الأمران فالأفضل حفظ اليمين، وعدم الحنث.
فالمسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الحنث خيراً.
الثانية: أن يكون عدم الحنث خيراً.
الثالثة: أن يتساوى الأمران.
فإن كان الحنث خيراً حنث، وإن كان عدمه خيراً فلا يحنث، وإن تساوى الأمران خيِّر، والأفضل أن لا يحنث؛ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] ، أي: اجعلوها محكمة محفوظة، ولا تحنثوا فيها.(15/144)
أما إذا كان الحنث خيراً فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلاّ كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» (1) .
وقال صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير» (2) .
فصار من قوله والتزامه صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا كان الحنث خيراً فأْتِهِ، والخيرية في الحنث تارة تكون خيرية واجب، وتارة تكون خيرية تطوع، فإن كانت خيرية واجب صار الحنث واجباً، وإن كانت خيرية تطوع صار الحنث تطوعاً، فمثال خيرية الواجب لو قال: والله لا أصلي اليوم مع الجماعة.
فهذا حلف على ترك واجب فالحنث هنا واجب، وعليه أن يصلي مع الجماعة ويكفر عن يمينه.
ومثال خيرية التطوع، لو قال شخص: والله لا أصلي الوتر، فهنا حلف على شيء تطوع فالحنث أفضل له من عدمه، فنقول له: أوتر وكفِّر عن يمينك.
ولو تعاند رجل مع عمِّه في شيء، فقال: والله لا أكلم عمي، فهنا حلف على أمر فيه هجر مؤمن، وقطيعة رحم،
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذر/ باب قول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (6623) ، ومسلم في النذر/ باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه (1649) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (126) .(15/145)
فالحنث هنا واجب، لأنه يتوقف عليه فعل الواجب، فإذا توقف على الحنث فعل الواجب صار واجباً.
ولو أن رجلاً غضب على شخص فقال: والله لأضربنَّه بالحجر حتى أجرحه، فهذا يجب عليه الحنث؛ لأن ترك المحرم يتوقف على حنثه، وإذا توقف ترك المحرم على الحنث صار الحنث واجباً.
وإذا كان عدم الحنث هو الخير فهنا نقول له: لا تحنث، وذلك فيما إذا حلف على ترك محرم، أو على فعل واجب، فالحنث هنا حرام، مثال ذلك إذا قال الأب لابنه: لا تصلى مع الجماعة فقال الابن: والله لأصلينَّ مع الجماعة فالحنث حرام، ويجب عليه الصلاة مع الجماعة.
ولو قال: والله لا أسرق اليوم، فالحنث حرام، ولو هَمَّ أن يسرق ولم يسرق فهذا محرم عليه، ولو سرق لزمته الكفارة مع الإثم، وقطع اليد إن تمت الشروط.
ومثال الحنث المكروه أن يحلف على ترك المكروه، مثل لو قال: والله لا ألتفت برأسي في الصلاة، والالتفات بالرأس في الصلاة مكروه، فنقول: الحنث هنا مكروه وهو الالتفات برأسه في صلاته.
ولو قال: والله لا آكل البصل، وسوف يصلي في جماعة، وقد بقي على الأذان ثلث ساعة فالحنث هنا مكروه؛ لأن بإمكانه أن يصبر حتى يصلي، فإن أكل لئلا يصلي صار حراماً.
ومثال الحنث المباح: قال: والله لا ألبس هذا الثوب،(15/146)
ولألبسن هذا الثوب، فهو مخير ولكن حفظها أولى.
وإن قال له والده: يا بني، اتقِ الله، لا تلبس ثوباً ينزل عن الكعبين، فقال: والله لألبسنَّ ثوباً يضرب إلى الأرض، فالحنث واجب؛ لأنه بحنثه يترك المحرم، والعكس بالعكس؛ لأن بعض الناس يعتبون على أولادهم لو رفعوا ثيابهم فوق الكعبين، ويقول أحدهم لابنه: يجب أن تنزل الملابس تحت الكعبين، وإلا فسوف أهجرك!
فقال: والله لا ألبس ثوباً نازلاً عن الكعبين، فيحرم عليه الحنث؛ لأنه إن حنث وقع في المحرم.
بقينا في إبرار القسم، وإبرار القسم غير الحنث؛ لأن الحنث واقع من المقسِم أي: الحالف، لكن إبرار القسم بمعنى أن يحلف عليَّ شخص، فهل الأفضل أن أبر بيمينه، أو ماذا؟
نقول: الأفضل أن تبر بيمينه، بل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه من حق المسلم على المسلم» (1) ، فإذا حلف عليك أخوك فإن من حقه عليك أن تبرَّ بيمنيه، وهذا ما لم يكن في ذلك ضرر عليك، أما إذا كان في ذلك ضرر عليك فإن ذلك لا يلزمك، فلو قال: والله لتخبرني كم مالك؟ وكم عيالك؟ وكيف معاشرتك لأهلك؟ ومتى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ أقسم عليك بالله العلي العظيم أن تخبرني، فلا يلزمه أن يخبره، بل ربما يحرم عليه؛ لأنه توجد
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب نصر المظلوم (2445) ، ومسلم في اللباس والزينة/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ... (2066) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.(15/147)
أشياء سرية لا يمكن أن يخبر بها أحداً، لكن الشيء الذي ليس عليك فيه ضرر فأنت مأمور أن تبر بيمينه، وأما ما فيه نفع لأخيك فإنه يكون أشدَّ توكيداً، وإن كان فيه دفع ضرر عنه فإنه يجب.
المهم أن إبرار المقسِم الأصل فيه أنه مشروع، وأنه من حقوق المسلم على المسلم، وقد يقترن به ما يجعله ممنوعاً، وما يجعله واجباً.
ولكن هل الكفارة تجب على الحانث أو على الحالف؟ الجواب: على الحالف، يعني لو أنك قطعت يمين الحالف، ولم تبرَّ يمينه فالكفارة عليه؛ لأنه هو الحالف، والكفارة تتعلق بالحالف.
فلو قال الحالف: أنت الذي قطعت اليمين، وتسببت في وجوب الكفارة عليَّ، فعليك الكفارة؛ لأن المتسبب كالمباشر.
يقول: بل أنت متسبب مباشر، فالذي حلف أنت، والذي فعل أنت، وأنا ما فعلت إلا ما هو شرط في وجوب الكفارة فقط، وهو الحنث، وأما المتسبب الأصلي فهو أنت.
وَمَنْ حَرَّمَ حَلاَلاً سِوَى زَوْجَتِهِ، مِنْ أَمَةٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ لِبَاسٍ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْرُمْ، وَتَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ.
قوله: «ومن حرم حلالاً سوى زوجته، من أمة، أو طعام، أو لباس، أو غيره، لم يحرم، وتلزمه كفارة يمين إن فعله» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط فيها «حرَّم» ، وجوابه «لم يحرم» فالمحرِّم لما أحل الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون منشئاً.
الثاني: أن يكون مخبراً.(15/148)
الثالث: أن يكون ممتنعاً.
الأول: إذا كان منشئاً فهذا قد يَكْفُر، فإذا قال: إن هذا الشيء الذي حرمه الله تعالى، أنا أقول: إنه حلال، ولا أوافق على أنه حرام! فهذا قد يكفر، وذلك إذا استباح ما حرم في الدين بالضرورة، مثل لو استباح الخمر، أو الزنا، أو السرقة، أو ما أشبه ذلك، وكما يُذكر عن المعري في الخمر يقول:
لئن حُرِّمت يوماً عَلَى دينِ أحمدِ
فخذها على دينِ المسيح ابن مريمِ
وإن حرم ما لم يُجمع على تحريمه، فهذا إن كان باجتهاد فله حكم المجتهدين، وإن كان بعِنادٍ فهو على خطر.
الثاني: المخبر بالتحريم، فهذا إما صادق، وإما كاذب، مثل لو قال: إن الله ـ تعالى ـ حرم هذا، لا يقول: أنا أحرمه، وأنشئ تحريمه، وإنما يخبر بأن الله ـ تعالى ـ حرمه، فهذا إما أن نقول: إنه صادق أو كاذب، وننظر إن كان الله قد حرمه، فنقول له: صدقت، وإن كان الله لم يحرمه نقول له: كذبت، ولهذا يروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن من قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، أنه يقال له: كذبت، وهذا محمول على أنه مخبِر، فنقول: هذا ليس بصحيح، وليست حراماً، بل الله قد أحلها لك.
الثالث: الممتنع، بأن يحرم الشيء مانعاً نفسه منه، أو ممتنعاً منه، واللفظان بمعنى واحد؛ أي: يقصد الامتناع فقط، وهذا الأخير هو الذي يريده المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذا الكلام.(15/149)
فإذا حرم الإنسان شيئاً حلالاً بقصد الامتناع فلا يحرم، مثل لو قال: حرام عليَّ أن آكل طعامك، فنقول: الطعام حلال لك، لم يحرم، وعليه كفارة يمين، إن فعله لأن قصده هنا أن يمتنع من أكله.
والدليل قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2] وهذه الآية نزلت لما حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفسه العسل في قصة مشهورة (1) ، تنظر في تفسير ابن كثير وغيره.
وسمي تحلة؛ لأن الإنسان تحلل منه حين كفَّر، فأنا مثلاً قبل أن أُكفِّر لا يحل لي أن أفعله، إلا إذا أديت الكفارة بعد أن أحنث، فإذا أديت الكفارة انحلت اليمين، ولم يعد هناك يمين إطلاقاً، ولهذا نقول: أداء الكفارة قبل الحنث تحلة، وبعد الحنث كفارة.
وقوله: «سوى زوجته» : «سوى» أداة استثناء، يعني من حرم حلالاً سوى الزوجة، فالزوجة حلال للإنسان لقوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} أي: نساؤهم.
يقول المؤلف: إن حكم الزوجة ليس كحكم غيرها، فتحريم الزوجة يكون ظهاراً على المشهور من المذهب، والظهار أغلظ من غيره؛ وذلك لأن الظهار وصفه الله ـ تعالى ـ بأنه منكر من
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير القرآن/ باب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ... } (4912) ، ومسلم في الطلاق/ باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ... (1474) عن عائشة رضي الله عنها.(15/150)
القول وزور فهو منكر لأنه حرام، وزور لأنه كذب.
وكيفية الظهار أن يقول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، وكانوا في الجاهلية يجعلونه طلاقاً بائناً كالطلاق الثلاث، فبيَّن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الحكم حكمٌ باطل، وجعل على المُظاهر الكفارة المغلظة، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكنياً، ومع ذلك لا يحل له أن يمس زوجته ـ أي: يجامعها ـ حتى يكفِّر؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] ، وقد صرح الله ـ تعالى ـ بهذا الشرط في العتق والصيام، وسكت عنه في الإطعام، فاختلف العلماء في الإطعام هل يجوز أن يمس الزوجة المظاهر منها قبل الإطعام، أو لا يجوز حتى يطعم؟
اختلفوا في ذلك على قولين، وسبق لنا أن المشهور من مذهب الحنابلة، وهو قول أكثر أهل العلم، أنه لا يمسها حتى يطعم.
فإذا قال الزوج لزوجته: أنتِ عليَّ حرامٌ صار مظاهراً، فالزوجة لا تحرُم، ولكن لا يجامعها حتى يكفِّر.
وإذا قال: إن فعلتُ كذا فزوجتي عليَّ حرام، فَفَعَلَه صار ظهاراً، فلا فرق ـ على المذهب ـ بين أن يجعله صيغة قسم، أو أن يبت التحريم، فكلاهما حكمه حكم الظهار، أي: سواء علق تحريمها على شرط، أو لم يعلق تحريمها على شرط.
والتعليق على الشرط تارة يجري مجرى اليمين، وتارة يكون شرطاً محضاً.(15/151)
فالشرط المحض هو الشرط الذي لا قصد للإنسان فيه، مثل أن يقول: إذا طلعت الشمس فزوجتي عليَّ حرام.
والجاري مجرى اليمين أن يقصد بذلك توكيد المنع، مثل أن يقول: إن كلمتُ فلاناً فزوجتي عليَّ حرام، فهذا ليس كقوله: إن طلعت الشمس فزوجتي عليَّ حرام؛ لأن قصده هنا ألاَّ يكلم هذا الرجل، فهذا التعليق جارٍ مجرى اليمين.
أما التحريم بلا شرط فأن يقول: أنت عليَّ حرام، والأقسام الثلاثة كلها على المذهب حكمها حكم الظهار.
والصحيح أن تحريم الزوجة كغيرها، وحكمه كحكم اليمين؛ لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
فإذا قال قائل: النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما حرم العسل؟ فالجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله ـ عزّ وجل ـ لم يقل للنبي: «يا أيها النبي لِم تحرم العسل؟» ، وإنما قال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} و (ما) من صيغ العموم فتشمل حتى الزوجة.
فإذا قال لزوجته: أنت علي حرام فهو يمين، إذا جامعها وجب عليه كفارة يمين فقط، وله أن يفعل الكفارة قبل وتكون تحلة، أو بعدُ وتكون كفارة.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226] ، والإيلاء في الواقع أن يحلف أن لا يطأ زوجته، وهذا في معنى التحريم، ومع ذلك فإن عليه الكفارة.
فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها علي حرام، الطلاقَ، قلنا:(15/152)
إذا أردت الطلاق، فإن هذا اللفظ قابل لهذه النية؛ لأن المطلقة حرام على زوجها، حتى وإن كانت رجعية فليست كالزوجات، فإذا أردت بهذا اللفظ ـ الصالحِ للفراقِ ـ طلاقاً صار طلاقاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
وإذا قال: أردتُ به الظهار، أي: أردت به «أنت علي حرام كحرمة أمي» قلنا: هو ظهار؛ لأن اللفظ مطلق والنية قيدته، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فإذا قال: أنا قلت: أنت علي حرام، ولم أنوِ الطلاق، ولا الظهار، ولا اليمين، فيُجعل يميناً؛ لأن هذا مقتضى اللفظ المطلق. فإذا أطلق كان يميناً.
فصار الذي يقول لزوجته أنت علي حرام له أربع حالات:
الأولى: أن ينوي الظهار.
الثانية: أن ينوي الطلاق.
الثالثة: أن ينوي اليمين.
الرابعة: أن لا ينوي شيئاً.
فإذا نوى الظهار فظهار، أو الطلاق فطلاق، أو اليمين فيمين، والعمدة عندنا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فإذا لم ينوِ شيئاً صار يميناً، والدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ، ومسلم في الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(15/153)
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [المجادلة:2,1] .
فإذا قال قائل: هل تجرون هذه الأحكام في لفظ الظهار، فتقولون: إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فإنه يقع ما نواه من طلاق، وظهار، ويمين، فإن لم ينوِ شيئاً فظهار؟
الجواب: لا؛ لأن اللفظ هنا صريح في الظهار، ولو جعلناه طلاقاً لكنَّا وافقنا حكم الجاهلية، وهذا لا يجوز؛ لأنه تغيير للحكم الشرعي، فنقول: إذا قلت: أنت عليَّ كظهر أمي، فهو ظهار بكل حال.
فإن قلت: وإذا أجراه مجرى اليمين، بأن قال: إن فعلتُ كذا فزوجتي علي كظهر أمي؟
الجواب: هذا حكمه حكم اليمين ما لم ينوِ الظهار؛ لأنه ظاهر فيه أن المقصود الامتناع.
وبهذا نعرف أن القول الراجح في مسألة التحريم أنه لا فرق بين الزوجة وغيرها.
ولو قال رجل لأمته التي يتسرَّاها: أنت عليَّ حرام، فهذه يمين وليست ظهاراً، حتى على المذهب لقول المؤلف: «ومن حرَّم حلالاً سوى زوجته من أمة» أو إطعام أو لباس فلا تكون الأمة كالزوجة بل يكون تحريم الأمة يميناً.
مسألة: لو قالت الزوجة لزوجها: أنت علي حرام؟ فعلى المذهب عليها كفارة يمين، وإذا قالت لزوجها: أنت علي كظهر ابني أو أبي؟ فعلى الراجح عليها كفارة يمين، ولا يكون ظهاراً؛ لأن(15/154)
الظهار بيد الرجل، والمذهب يقولون: عليها كفارة ظهار، وليس بظهار، فلزوجها أن يجامعها، ولكن الصحيح أن عليها كفارة يمين.
وقوله: «وتلزمه كفارة يمين إن فعله» فإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وإذا قال الرجل: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو شيوعي إن فعل كذا وكذا، فهل هذا حكمه حكم اليمين، أو هو تَقوُّلٌ فقط؟
بعض العلماء يقول: حكمه حكم اليمين؛ لأن هذه الأمور مكروهة عنده، ولهذا جعل فعل هذا الشيء وكراهته له ككراهته أن يكون يهودياً، أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا فيكون حكمه حكم التحريم، أي: تحريم المباح، فيلزمه كفارة يمين، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من السلف.
وقال بعض العلماء: إنه لا كفارة عليه؛ لأن هذا ليس يميناً، وليس في معنى ما ورد من اليمين، ولكن الصحيح أن حكمه حكم اليمين.
* * *(15/155)
فَصْلٌ
يُخَيَّرُ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بَيْنَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينِ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ، أَوْ عَتْقِ رَقَبَةٍ.
قوله: «يخير» أي: يفعل ما يشاء، أو خير الأمرين، وهل هو تخيير إرادة وتشهٍّ، أو هو تخيير مصلحة؟ فيه تفصيل: إذا كان المقصود به التيسير على المكلف فهو تخيير إرادة وتشهٍّ، وإذا كان المقصود به مراعاة المصلحة فهو تخيير مصلحة.
خيَّر الله ـ عزّ وجل ـ الحانث في يمينه بين أمور، فهل هو للمصلحة أو للتيسير والتسهيل؟
الجواب: للتيسير والتسهيل؛ بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} الآية، فإذا كان للتيسير والتسهيل فأنا أفعل ما هو أسهل وأيسر لي.
وقال ـ تعالى ـ في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، فهذا تخيير تشهٍّ وإرادة، حتى لو كانت المصلحة في ذبح الشاة فلا يلزمه ذلك، والأمر موكول إليه.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] ، فهذا التخيير تخيير مصلحة على القول بأن الآية للتخيير، وبعض العلماء يقول: الآية للتنويع، لكن على القول بأنها للتخيير، فهو تخيير مصلحة، يعني يتبع في ذلك ما هو أصلح وأردع.
وإذا قيل لولي اليتيم: أنت بالخيار بين أن تقرض ماله، أو تدفعه مضاربة، أو تحفظه عندك، فالتخيير هنا مصلحة، والدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] .(15/156)
فالقاعدة أنَّه إذا خير الإنسان بين شيئين، أو أشياء، فإن كان المقصود بالتخيير التيسير فالتخيير تشهٍّ وإرادة، وإذا كان المقصود المصلحة فهو تخيير مصلحة، بناءً على قاعدة أن كل من خُيِّر بين شيئين وهو متصرف لغيره، فتخييره مصلحة، وليس تخيير تشهٍّ.
قوله: «من لزمته كفارة يمين» تلزم الكفارة إذا تمت الشروط السابقة، وهي ثلاثة شروط على كلام المؤلف، وزدنا شرطاً رابعاً وهو أن يكون عالماً.
مثال ذلك: رجل قال: والله ليقدمن زيد غداً، فلم يقدم، فعلى المذهب تلزمه الكفارة، وعلى القول الراجح لا تلزمه؛ لأنه يُخبر عمَّا يغلب على ظنه.
ولو قال رجل لأخيه عند دخول الباب: والله لتدخلن، وقصد عقد اليمين، فقال أخوه: لا أدخل قبلك، بل ادخل أنت، فهل يحنث الحالف وتلزمه الكفارة؟
هذه المسألة فيها خلاف، فالمشهور من المذهب أن الكفارة تلزمه؛ لأنه قصد اليمين وحنث في يمينه.
والقول الثاني: لا تلزمه إذا كان قصده الإكرام؛ لأن الإكرام حصل بيمينه، فقوله: والله لتدخلن، كقوله: والله إني لأكرمك، فهذا هو المقصود؛ لأنه ليس هدفه من أن يدخل قبله إلا الإكرام، فكأنه حلف على الإكرام الحاصل.
قالوا: وعلى هذا تُخَرَّج قصة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، لما قدم الطعام للضيفان، فقال الضيفان له: كل، فقال: والله ما آكل، فقالوا لزوجته: كلي، فقالت: والله ما آكل، فقال الضيفان:(15/157)
والله ما نأكل، فحلفوا كلهم، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: هذا من الشيطان وأكل، وأكلوا بعد ذلك، فلما أصبحوا غدوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: «أنت أبرهم وخيرهم» (1) ، ولم يأمره بالكفارة.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء، فبعضهم قال: لم يأمره بها؛ لأن الكفارة معلومة، وفعل أبي بكر رضي الله عنه من باب الحنث في اليمين إذا كان خيراً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك، وائت الذي هو خير» (2) ، فهذا من باب الحنث للخير، والكفارة لا تسقط به.
وقال بعض العلماء: ليس هذا حنثاً في الواقع؛ لأن أبا بكر لم يقصد إلزامهم بذلك، وإنما قصد إكرامهم به، والإكرام حصل، ثم هؤلاء الذين أبوا أن يأكلوا قصدوا إكرامه أيضاً، فالإكرام حصل من الطرفين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن الحنث معناه الإثم، فأبو بكر ما قصد الإلزام، وهم ما قصدوا تحنيث أبي بكر، فكل منهم قصد الإكرام، والإكرام قد حصل، فحينئذ لا يكون هناك حنث، ولا شك أن دلالة حديث أبي بكر رضي الله عنه على ما اختاره شيخ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف (6140) ، ومسلم في الأشربة/ باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2057) عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وهذا لفظ مسلم.
(2) سبق تخريجه ص (126) .(15/158)
الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ واضحة، وهذا القول في الحقيقة فيه فرج للناس؛ لأن الناس دائماً يحلفون هذه الأيمان، أما إذا قصد الإلزام فواضح أنه يحنث.
تلخّص لنا أن بعض العلماء يقول: إذا لم يكن القصد باليمين الإلزام إنما قصده الإكرام فإنه لا يحنث بالمخالفة؛ لأن الإكرام حصل، فكأن صاحب اليمين يقول: والله إني أكرمك بهذا، وقد تم، وعندي أنه لا ينبغي الإكثار من الحلف للإكرام؛ لأن فيه إحراجاً، ولأنه عند الجمهور فيه كفارة بالحنث فيه.
والكفارة تجب على الفور؛ وقد بينا (1) في أصول الفقه أن الواجبات تجب على الفور. ولو قال رجل لآخر: إن فعلت كذا فزوجتي طالق فهل يقع به الطلاق؟
فالجواب: هذا يمين لأن هذا اللفظ جاء به المتكلم للتوكيد. يعني أن أغلى ما عندي زوجتي ومع ذلك سوف أرخصها من أجلك لتأكيد الإلزام، والحلف بالطلاق لم يكن في عهد الصحابة ولذلك لم ترد به الآثار ولكن كان في عهد الصحابة الإقسام بالنذر وقد جعل الفقهاء حكمه حكم اليمين. فكل من حلف قاصداً به الامتناع فهو يمين سواء حلف بالطلاق أو الظهار أو التحريم أو الوقف أو غير ذلك.
وقوله: «يخير من لزمته» احترازاً ممن لا تلزمه.
قوله: «بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة»
__________
(1) انظر: الأصول من علم الأصول وشرحه، ومنظومة أصول الفقه وقواعده لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله.(15/159)
انتقد النحويون على الفقهاء كلمة «أو» في هذا المكان؛ لأنها لا تستقيم مع التخيير، وكان عليهم أن يقولوا: يخير بين إطعام عشرة مساكين، وكسوتهم، وتحرير رقبة، ولا نستدل بالآية الكريمة؛ لأن الآية الكريمة فيها: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ليس فيها «يخيَّر» ، فـ (أو) لا حاجة لنا أن نأتي بها، لأنا إذا أتينا بها جمعنا بين الفعل الدال على التخيير، والحرف الدال على التخيير، وهذا لا حاجة إليه.
ولكن قال بعض النحويين: إن هذا جائز وسائغ، وتكون «أو» هنا بمعنى «الواو» ولا حرج.
وقوله: «بين إطعام عشرة مساكين» المسكين هنا يتناول الفقير، وهو من لا يجد كفايته وكفاية عائلته لمدة سنة.
والإطعام له كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً يكفي عشرة مساكين ـ غداء أو عشاءً ـ ثم يدعوهم؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ أطلق فقال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} فإذا صنع طعاماً وتغدّوا، أو تعشوا فقد أطعمهم.
الثانية: التقدير، وقد قدَّرناه بنحو كيلو من الأرز لكل واحد، فيكون عشرة كيلوات للجميع، ويحسن في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدِّمه من لحم أو نحوه، ليتم الإطعام؛ لأن الله تعالى يقول: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
فإن قيل: ما الدليل على تقديره بالكيلو؟ ولماذا لا نقول: نعطيه ما يسد كفايته؟(15/160)
في الحقيقة ليس هناك دليل واضح في الموضوع، إلا أن يقول قائل: إن دليلنا حديث كعب بن عُجرة ـ رضي الله عنه ـ، حين أذن له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحلق، ويطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع (1) ، فعيَّن لكل مسكين نصف صاع، فيقاس عليه البقية، والمسألة تقريبية، وليست حدّاً معروفاً.
وإذا تأملت وجدت أن الإطعام، والمطعم له ثلاث حالات:
تارة يقدَّر المعطى دون الآخذ، وتارة يقدر الآخذ دون المعطى، وتارة يقدر المعطى والآخذ:
مثال ما قُدر فيه المعطى دون الآخذ: زكاة الفطر، فهي مقدرة بصاع على كل شخص، لكن لم يقدر فيها من يدفع له، ولهذا يجوز أن توزع الفطرة على أكثر من مسكين، ويجوز أن تعطى عدة فطرات لمسكين واحد، فهذا قدر فيه المعطى دون الآخذ، وإن شئت قلت: قدر فيه المدفوع دون المدفوع إليه.
ومثال ما قدِّر فيه المدفوع والمدفوع إليه: فدية الأذى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (1) .
ومثال ما قدر فيه المدفوع إليه دون المدفوع: كفارة اليمين، ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: ما دام الشرع لم يقدر
__________
(1) أخرجه البخاري في المحصر/ باب قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} (1814) ، ومسلم في الحج/ باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى (1201) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.(15/161)
لنا، فإن ما يسمى إطعاماً يكون مجزئاً، حتى الغداء أو العشاء.
وقوله: «أو كسوتهم» : أي: كسوة العشرة، سواء كانوا صغاراً أم كباراً.
وكيف نكسوهم، هل بقميص، أو بقميص وسراويل، أو إزار ورداء، وهل مع ذلك عمامة، أو غترة وطاقية، أو مشلح، أو ماذا؟
فنقول: أما الإطعام فقد قال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، و «أوسط» بمعن وسط، وليس بمعنى الأعلى، استدلالاً بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن: «وإياك وكرائم أموالهم» (1) فلو أوجبنا الأعلى لكنا أخذنا من كرائم الأموال.
أما الكسوة فإن الله ـ تعالى ـ لم يقيدها بشيء، وعلى هذا فأي شيء يطلق عليه كسوة يحصل به المقصود، فمثلاً عندنا لو أن شخصاً كسا آخر إزاراً من السرة إلى الركبة فهذا لا يسمى كسوة، فهي في كل بلد بحسبه، ففي بلادنا الكسوة تكون درعاً، وهو الثوب، وغترة، وطاقية، أما السراويل فليست لازمة بل هي من كمال الكسوة.
وظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، مع أن كسوة الأنثى غالباً أكثر من كسوة الرجل.
وقوله: «أو عتق رقبة» العتق هو تحرير الرقبة وتخليصها من
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب وجوب الزكاة (1395) ، ومسلم في الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين (19) .(15/162)
الرق، وهو مطلق، فظاهره أن الرقبة تجزئ ولو كانت كافرة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة، وأصحابه، وابن المنذر، وجماعة من أهل العلم، قالوا: لأن الله ـ تعالى ـ قال: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وأطلق، بينما قال ـ سبحانه ـ في كفارة قتل الخطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، فقيدها الله ـ تعالى ـ بالإيمان، وفي كفارة اليمين والظهار أطلق، وليس لنا أن نقيد ما أطلقه الله، وإذا كنا نقول: إنه لا إطعام في كفارة القتل؛ لأنه لم يذكر، فكذلك نقول: إنه لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار، وكفارة الأيمان؛ لأنه لم يذكر.
ثم نقول: آية القتل اشترط الله فيها الإيمان في ثلاثة مواضع، فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] .
فقيدت الرقبة بالإيمان ثلاث مرات، مع أنه لو كنا نقول بحمل المطلق على المقيد لكان يكفي أن تقيد في الآية الكريمة مرة واحدة، ثم يحمل في الموضعين الآخرين عليها، فإذا كان الله ـ تعالى ـ كلما ذكر العتق يقيده بالإيمان، والسبب واحد وهو قتل النفس المحترمة، دل ذلك على أن الإيمان ليس شرطاً في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، لا سيما(15/163)
وأن الجماع في نهار رمضان جاء فيه قصة الرجل الذي جامع في نهار رمضان وجاء يسأل: فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل تجد ما تعتق رقبة» (1) ؟ ولم يقل له: مؤمنة، مع أن المقام يقتضي أن يقول له ذلك، ولهذا كان هذا القول قوياً جداً وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وابن المنذر وجماعة من العلماء.
أما الذين قالوا: باشتراط الإيمان فاستدلوا بالقاعدة المعروفة: «أنه يحمل المطلق على المقيد إذا كان الحكم واحداً» .
فإن لم يستقم الأمر فإن الإيمان شرط فيها من باب القياس، وذلك بأن يقال: رقبة وجب إعتاقها للخروج من الذنب، فاشترط فيها الإيمان، كالرقبة الواجبة في كفارة قتل الخطأ.
ولكن قد يُعارض ذلك، فأما الأول وهو حمل المطلق على المقيد، فقد نقول: إنه لا حمل هنا؛ لأن الحكم مختلف، ففي كفارة القتل عتق، وصيام بدون إطعام، وفي كفارة الظهار والجماع في نهار رمضان عتق، وصيام، وإطعام، وفي كفارة اليمين الاختلاف واضح، فهو إطعام، وكسوة، وعتق، وصيام، فيختلف اختلافاً بيناً عن كفارة القتل.
وأيضاً السبب مختلف، وإن كان اختلاف السبب لا يؤثر، لكن لا بد أنَّ مؤثراً أثَّر في الحكم.
وأما القول بالقياس، فإن القياس هنا قد يكون ممنوعاً؛
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر (1936) ، ومسلم في الصيام/ باب تحريم الجماع في شهر رمضان ... (1111) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/164)
وذلك لأن القتل أعظم ذنباً من كفارة اليمين، فكفارة اليمين الحنث فيها مباح، والقتل محرَّم ومغلظ، فلا يقاس هذا على هذا.
فإن قلت: بماذا تجيب عن حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه حين أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن له جارية غضب عليها، فصكَّها ـ أي: ضربها ـ وأنه يريد أن يعتقها، فدعاها النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» ، قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» (1) .
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعتقها فإنها مؤمنة» ، جملة تعليلية، أي: لإيمانها أعتقها، أفلا يدل هذا على أن غير المؤمن ليس محلاً للعتق؟ فالجواب: بلى، هو يدل على أن الإيمان شرط.
أيضاً لو أعتقنا الكافر فإنه يتحرر، ولا يُؤمَن أن يلحق بدار الكفر، فيكون في ذلك ضرر عليه وعلينا، أما الضرر عليه فلأنه إذا لحق بدار الكفر فيكون أبعد لإسلامه، والضرر الذي علينا فلأنه قد يعين الكفار على المسلمين في يوم من الأيام، لا سيما إذا كان فيه حنق على المسلمين وكان جلداً شجاعاً.
ولهذا نقول: لا تعتق الكافر مطلقاً، إلا إذا أسلم.
وهذا في الحقيقة هو الذي يمنع من أن يرجح الإنسان الإطلاق في كفارة اليمين والظهار.
فإذا أردنا أن نخرج من المتشابه فلا نعتق إلاّ مؤمنة؛ لأنك
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب تحريم الكلام في الصلاة ... (537) عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه.(15/165)
إذا أعتقت مؤمنة أبرأت ذمتك بلا خلاف، وإن أعتقت كافرة فقد أبرأت ذمتك على قولٍ من الأقوال، قد يكون هذا الصواب عند الله تعالى، وقد يكون الصواب خلافه، هذا إذا جاء يسألنا في ابتداء الأمر فنقول له: أعتق رقبة مؤمنة فهو أحوط لك، واتَّقِ الشبهات.
وأما رجل قد أعتق ورأى أنه قد أبرأ ذمته إما جهلاً، وإمَّا تقليداً لقول بعض العلماء، فهذا لا نأمره بإعادة العتق؛ لأن أمرنا إياه بإعادة العتق مقتضاه القضاء عليه بالغرم، وهو أمرٌ غير متيقن، فنكون ارتكبنا مفسدة التغريم بدون دليل بيِّن، وحينئذٍ يكون الحكم عليه بإبراء ذمته هو الاحتياط، ولهذا كثير من العلماء في مثل هذه الأمور المشتبهة التي تعارضت فيها الأدلة، أو تكافأت فيها أقوال العلماء إذا لم يكن هناك دليل، يفرقون بين الشيء إذا وقع، وبين الشيء قبل وقوعه، فيقولون: قبل الوقوع نأخذ بالأحوط، وبعد الوقوع نأخذ بالأحوط أيضاً، وهو عدم إفساد العبادة، أو عدم التغريم، أو ما أشبه ذلك.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ،............
قوله: «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام» وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] .
ثم قال «فمن لم يجد» هنا المفعول محذوف، وحَذْف المفعول يدل على العموم، وهذا من القواعد.
إذاً فمن لم يجد ما يُطعم به، أو يكسو، أو يعتق، ومن لم يجد من يطعمه، أو يكسوه، أو يعتقه، فكذلك، فمثلاً رجل عنده مال وغني، طلب رقبةً فما وَجد، وطلب مساكين فما وجد، فقيل(15/166)
له: إن هناك مساكين في أقصى ماليزيا، وهو في المغرب الأقصى، فهذا غير واجد.
إذاً من لم يجد شيئاً يشتري به طعاماً، أو كسوة، أو رقبة، أو عنده مال، ولكن لا يجد محلاً لهذا المال، بأن لم يجد رقبة في السوق، أو لا يجد فقراء يطعمهم ويكسوهم، وهذه المشكلة الآن قائمة عندنا ـ والحمد لله ـ فكثيراً إذا ما قلنا للناس: عليكم إطعام عشرة مساكين، يقولون: أأعطيك لتطعم لي؟ فما يجدون فقراء، ولذا أُفتي الناس وأقول: هؤلاء العمال غالبهم ذوو عائلات وفقراء، وإذا أعطيتهم من هذا الطعام ما يكفيهم غداءً، أو عشاء يوماً أو يومين، ويكونون عشرة مساكين مسلمين، فقد أجزأت الكفارة، ولا يُعطى الكافر.
والدليل على أن الكافر لا يعطى من الكفارة القياس على الزكاة، فإن الكافر لا يعطى من الزكاة إلا إذا كان مؤلَّفاً، ولذلك قاس العلماء الإطعام على الزكاة، وقالوا: إن الكفار ليسوا أهلاً، والمسألة فيها شيء من التأمل؛ لأنه قد يقال: حتى في الزكاة يعطى الكافر إذا لم يكن حربياً.
وقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} لاحظ أن الإطعام لا يقابل الصوم، فالإطعام عشرة، والصيام ثلاثة، وفي كفارة الظهار صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً وهو مقارب، وإن كان الصيام قد يكون ثمانية وخمسين يوماً والإطعام ستين مسكيناً، وفي فدية الأذى صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين فهو متقارب، فدل هذا على أن هناك حِكَماً لله ـ عزّ وجل ـ تخفى(15/167)
على الناس، ما نستطيع أن ندركها، وإلا لقال الإنسان: جعل الله إطعام المسكين في صيام رمضان عن يوم، وفي كفارة الظهار والجماع في نهار رمضان عن يوم تقريباً، فلماذا جعل هنا مختلفاً؟
نقول: هذه من الأمور التي لا ندركها، والله أعلم.
قوله: «متتابعة» أي: واحداً تلو الآخر، فإن صامها متفرقة لم تجزئ، فلو صام يوماً وأفطر يوماً، وصام يوماً وأفطر يوماً، وصام يوماً فيبقى عليه يومان؛ لأن اليومين السابقين أفطر بينهما فلم يصحَّا، فما الدليل، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} ، ولم يقل: متتابعة، والأصل عدم التتابع والله تعالى لما أراد التتابع قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] ، ولما أراد الإطلاق قال: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وهنا عين العدد، ولم يذكر التتابع؟
قال العلماء: الدليل على ذلك قراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعة» (1) ، وقراءة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حجة، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» (2) يعني ابن مسعود؛ إذاً فقراءته إذا صحت عنه تكون ثابتة وحجة، ويكون هذا هو الدليل، وإلا لوجب أن نطلق ما أطلقه الله.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (16103) ، والبيهقي (10/60) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/445) ، وابن ماجه في المقدمة/ باب في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (138) ، والحاكم (2/227) ، وقال: «صحيح الإسناد على شرط الشيخين» .(15/168)
وقال بعض العلماء: إن القراءة إذا لم تكن متواترة فليست بثابتة، وهذا غير صحيح، بل القراءة إذا صحت ولو لم تكن متواترة فهي كالحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن مثلاً ابن مسعود إذا كان يقرؤها، فمعناه أنه رواها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمعها منه، ونحن نقول: لا تُقرأ في الصلاة، مع أن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: تقرأ في الصلاة متى صحت، ولو لم تكن متواترة.
وَمَنْ لَزِمَتْهُ أَيْمَانٌ قَبْلَ التَّكْفِيرِ مُوجَبُهَا وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ،.......
قوله: «ومن لزمته أيمان قبل التكفير مُوجَبُها واحد فعليه كفارة واحدة» «من» اسم شرط جازم، وفعل الشرط «لزمته» ، وجوابه «فعليه كفارة واحدة» مثال ذلك: أن يقول: والله لا أكلم فلاناً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق، هذه أيمان ثلاث موجَبها ـ أي: ما يجب بسببها، أو ما توجبه ـ واحد، وهو إطعام، أو كسوة، أو عتق، فإن لم يجد فصيام، فكلها تتفق في الموجب ـ أي: إن كفارتها واحدة ـ فماذا يلزمه إذا حنث في الثلاث؟ يلزمه كفارة واحدة، قياساً على ما إذا تعددت الأحداث، فلا يلزمه إلا وضوء واحد، كرجل نام، وتغوط، وبال، وخرجت منه ريح، وأكل لحم إبل، فهذه خمسة أحداث، ويلزمه الوضوء مرة واحدة.
قالوا: فهذه أسباب متعددة، والمسبَّب واحد، فلا يلزمه إلا كفارة واحدة، وهذا إذا كان قبل التكفير.
أما إذا كان بعد التكفير، مثل ما لو قال: والله لا أكلم فلاناً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق فهذه ثلاثة(15/169)
أيمان، فكلم فلاناً، ثم كفّر عن تكليمه إياه، ثم دخل البيت، وذهب إلى السوق، فهنا لا تجزئه الكفارة الأولى؛ لأن كفارة اليمينين الآخرين لم تلزمه إلا بعدما كفَّر عن الأول.
ولو نوى بالكفارة عن الأول الكفارة عن الأول، والتحلة عن الثاني، والثالث، فيجزئه؛ لأن الموجَب واحد، وهذا ما مشى عليه المؤلف، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا تعدد المحلوف عليه، واليمين فعليه لكل واحدة كفارة، مثل لو قال: والله لا أكلم زيداً، والله لا أدخل البيت، والله لا أذهب إلى السوق، فالأيمان متعددة، والمحلوف عليه متعدد.
قالوا: فيلزمه كفارة لكل يمين، ففي هذه الحال يلزمه ثلاث كفارات، وعللوا ذلك بعموم الآية: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] ، وهذه أيمان متعددة فيلزمه كفارات بعددها، كما لو قتل المحرم صيداً كعشر حمامات، فالموجَب واحد وهو مثل ما قتل من النعم، فيلزمه عشر شياه، قالوا: فهذا مثله؛ لأن السبب متعدد، وكل يمين مستقلة بنفسها.
وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تتعدد اليمين والمحلوف عليه واحد، مثل لو قالت له أمه: البس ثوب الصوف، اليوم برد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أخوه فقال له: البس ثوب الصوف للبرد، فقال: والله ما ألبسه، ثم لقيه أبوه فقال: يا ولدي البس هذا الثوب للبرد، قال: والله لا ألبسه، فالأيمان متعددة، والمحلوف عليه(15/170)
شيء واحد، فهذا يجزئه كفارة واحدة قولاً واحداً، ولا إشكال فيه.
الثانية: أن تكون اليمين واحدة، والمحلوف عليه متعدداً، مثاله: قيل له: اذهب إلى صاحبك، قد دعاك إلى وليمة عرس، وكل من طعامه، وهنئه بالزواج، فقال: والله لا أذهب إليه، ولا أهنئه بالزواج، ولا آكل من طعامه.
فالمحلوف عليه ثلاثة أشياء، ولكن اليمين واحدة، فهذا ـ أيضاً ـ تجزئه كفارة واحدة، قولاً واحداً؛ لأن اليمين واحدة.
الثالثة: أن تتعدد الأيمان والمحلوفُ عليه، وهذا هو محل الخلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يجزئه كفارة واحدة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومنهم من قال: إنه لا بد لكل يمين من كفارة، وهذا مذهب الجمهور، والظاهر ما ذهب إليه الجمهور، أنه إذا كانت اليمين على أفعال فإن لكل فعل حكماً. ما لم يكن على الصفتين السابقتين.
وَإِنْ اخْتَلَفَ مُوجَبُهَا، كَظِهَارٍ، وَيَمِينٍ بِاللهِ لَزِمَاهُ، وَلَمْ يَتَدَاخَلاَ.
قوله: «وإن اختلف موجَبُها كظهار ويمين بالله لزماه ولم يتداخلا» معلوم أن كفارة الظهار غير كفارة اليمين، فإذا لزمته كفارة ظهار، وكفارة يمين، وجب عليه أن يكفر كفارة ظهار تامة، وكفارة يمين تامة؛ لاختلاف الموجَب.
مثال ذلك: رجل قال: والله لا أكلم زوجتي، وهي عليَّ كظهر أمي، ففي هذا يمين، وظهار، فإن أراد الرجل أن يعود نقول له: عليك كفارة يمين، وكفارة ظهار، فلو قال: أنا أريد أن أعتق رقبة واحدة عن الجميع، فلا يجزئه، ولا بد من رقبتين.(15/171)
فإن قال: الموجَب واحد، نقول: لكن المعتبر أصل الكفارة، وعلى هذا فلو أراد أن يعتق رقبة واحدة عن اثنين لم يصح.
ولو قال رجل: أنا عليَّ صيام شهرين متتابعين ـ ستين يوماً ـ عن الظهار، وأنوي ثلاثة أيام منها عن اليمين فلا يجزئه، ولا تتداخل الكفارتان.
ولو قال: أنا عليَّ إطعام ستين مسكيناً إذا لم أستطع الصوم عن الظهار، فأنوي إطعام عشرة مساكين من الستين عن اليمين، فهذا لا يجزئ، والعلة اختلاف الموجَب.
فإذا قيل: على أي شيء يقاس هذا؟ قالوا: كالحدث الأصغر، والحدث الأكبر، فالمذهب لا يرتفع الحدث الأصغر بنية ارتفاع الحدث الأكبر فقط، بل لا بد أن ينوي بغُسله رفع الحدثين، وعليه فنقول لهذا الرجل الذي قال: والله لا أكلم زوجتي، وهي عليَّ كظهر أمي، يلزمه إذا عاد كفارتان: كفارة لليمين، وكفارة للظهار.
ولو قال رجل: لله عليَّ نذر ألاَّ آكل من طعامكم، وقال: والله لا أخرج إلى السوق، وقال: إن كلمت فلاناً فزوجتي طالق يريد اليمين، ثم حنث في الثلاثة، فماذا يلزمه على المذهب؟
الجواب: عليه كفارة واحدة؛ لأن موجب هذه الأشياء الثلاثة واحد، فالنذر الذي يقصد به اليمين يمين، والطلاق الذي يقصد به اليمين يمين، فعلى المذهب يجزئه كفارة واحدة، ولكن تطلق الزوجة، والصحيح أنها لا تطلق.
وعلى القول الثاني ـ الذي هو قول الجمهور ـ يلزمه ثلاث كفارات؛ لأن الأفعال متعددة.(15/172)
بَابُ جَامِعِ الأَيْمَانِ
يُرْجَعُ فِي الأَْيْمَانِ إِلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إِذَا احْتَمَلَهَا اللَّفْظُ،..................
قوله: «باب جامع الأيمان» يعني باب جامع أحكام الأيمان، والأيمان جمع يمين، وهو القسم، وهذا الباب يبحث فيه على أي شيء ينزل القسم، هل على العرف، أو على اللغة، أو على النية، أو على السبب؟
قوله: «يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف» والدليل على ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ووجه الدلالة من الآية أنه إذا رُجِع إلى النية في أصل اليمين، هل هي يمين منعقدة أو غير منعقدة؟ فلأن يرجع إليها في المراد باليمين من باب أولى.
وأما من السنة فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) . وما أعظم هذا الحديث.
لكن اشترط المؤلف: «إذا احتملها اللفظ» يعني بأن كان هذا اللفظ يمكن أن يراد به ما نواه الحالف، فإن لم يمكن لم يقبل منه؛ لأن هذه النية معاندة للفظ مضادة له، فلا تقبل.
مثال النية التي يحتملها اللفظ: إذا قال: والله لا أنام الليلة إلا على فراش ليِّن، فخرج ونام في الصحراء على الرمل، فلما
__________
(1) سبق تخريجه ص (153) .(15/173)
أصبح قيل له: كفِّر، فقال: لا أكفِّر؛ لأني نويت بالفراش الأرض، فيصح هذا؛ لأن اللفظ يحتمله، قال الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] ، والرمل لين، فصار اللفظ يحتمل هذا وصالحاً له، وعليه فلا شيء عليه. أما إذا نوى شيئاً لا يحتمله اللفظ فإنه لا يقبل.
ولو قال: والله لأبيتن الليلة على وتد، فذهب إلى جبل وبات عليه، فقلنا له: كفِّر، فقال: لقد بت على الوتد، وقد أردت بالوتد الجبل، فلا شيء عليه؛ لأن اللفظ يحتمله.
ولو حلف ألا ينام إلا تحت سقف، ثم خرج إلى البر ووضع فراشه ونام وليس فوقه إلا السماء، فقيل له: عليك أن تكفر؛ لأنك لم تنم تحت سقف، فقال: أردت السماء، فهذا يصح؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] ، فاللفظ يحتمله.
مثال النية التي لا يحتملها اللفظ، إذا قال: والله لا أشتري اليوم خبزاً، فذهب إلى الفرَّان ووقف عنده واشترى، فقيل له: كفِّر عن يمينك، فقال: أنا أردت بقولي: والله لا أشتري اليوم خبزاً، والله لا أكلم فلاناً، فهذا لا يصح، واللفظ لا يحتمله إطلاقاً، فلا يقبل لأنه ليس هناك ارتباط بين اليمين والمحلوف عليه.
فَإِنْ عُدِمَتِ النِّيَّةُ رُجِعَ إِلَى سَبَبِ اليَمِينِ وَمَا هَيَّجَهَا،...............
قوله: «فإن عُدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها» هيجها يعني: أثارها أي: إذا لم يكن للحالف نية، نرجع إلى سبب اليمين فنحمل اليمين عليه.(15/174)
مثال ذلك: رجل قيل له: إن ابنك يصاحب الأشرار، فقال: والله لا أكلمه ما حييت، بناءً على أنه يصاحب الأشرار، فجاء إليه رجل، وقال له: لماذا لا تكلمه؟ فقال: لأنه يصاحب الأشرار، فلاناً، وفلاناً، فقال له: هؤلاء أناس طيبون جداً ومن أحسن الشباب، فكيف تمنعه؟! قال: قال لي فلان: إنهم أشرار، قال: نعم، هم أشرار عنده؛ لأنهم أخيار وهو شرٌّ، والشرُّ يرى الأخيارَ أشراراً، فهل إذا كلَّمه أبوه في هذه الحال عليه الكفارة؟ ليس عليه الكفارة؛ لأنه معروفٌ قصده، وسبب اليمين أن ابنه يصاحب الأشرار، فكأن هذا الحالف قال: إن كان ابني مصاحباً للأشرار فلا أكلمه، وهو وإن لم يقل هذا الشرط بلفظه فهو مضمر له في نفسه.
ولو قيل له: اذهب معنا، نريد أن نسافر إلى بلدٍ ما، فقال: البلد الفلاني؟ قالوا: نعم، قال: والله ما أسافر إليه؛ لأنه كان يعلم أنها بلد تشرب فيها الخمور، ويعصى فيها الله ـ عزّ وجل ـ علانية، ولا يُحكم فيها بما أنزل الله، فقيل له: الحكم تغير، تولاها رجل مؤمن صالح، فأزال الظلم وحكم بشريعة الله، واختفى الفُسَّاق، فلو سافر إليها أعليه كفارة؟ لا؛ لأننا علمنا أن سبب يمينه هذا البلاء الذي في هذا البلد، فكأنه قال: والله لا أسافر إليه ما دام كذلك، والآن زال هذا الأمر فله أن يسافر.
ولو قال: والله لا أكلم زيداً؛ بناءً على أنه سمع أن زيداً رجل وضيع، لا ينبغي لمثله أن يكلمه، فتبين له أن زيداً رجل شريف فكلمه، فهنا نقول: لا حنث عليه؛ لأن السبب الذي جعله يحلف تبين عدمه.(15/175)
ولو قال: يعلم الله أنني لا أكل هذا، فهل يُعد يميناً؟
الجواب: نعم، هذا يمين أو أبلغ من اليمين لأنه إذا قال هذا الكلام ثم أكل فإن كلامه يتضمن معنى باطلاً في حق الله جل وعلا وهو الجهل.
فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَى التَّعْيِينِ، فَإِذَا حَلَفَ لاَ لَبِسْتُ هَذَا الْقَمِيصَ، فَجَعَلَهُ سَرَاوِيلَ، أَوْ رِدَاءً، أَوْ عِمَامَةً، وَلَبِسَهُ، أَوْ لاَ كَلَّمْتُ هَذَا الصَّبِيَّ فَصَارَ شَيْخَاً، أَوْ زَوْجَةَ فُلاَنٍ هَذِهِ، أَوْ صَدِيقَهُ فُلاَناً، أَوْ مَمْلُوكَهُ سَعِيداً، فَزَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ وَالْمُلْكُ وَالصَّدَاقَةُ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ،.......
قوله: «فإن عُدم ذلك رُجع إلى التعيين» هذه المرتبة الثالثة، فإذا لم يكن له نية، ولم يكن لليمين سبب، رُجع إلى التعيين، أي: إلى عين المحلوف عليه، فإذا عين شيئاً تعلق الحكم به على أي صفةٍ كان.
قوله: «فإذا حلف لا لبستُ هذا القميص» هنا الحلف فيه تعيين، وطريقه الإشارة، قال: والله لا ألبس هذا القميص، وليس له نية، ولا سبب، فهنا تتعلق اليمين بعين ذلك القميص.
قوله: «فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه» «سراويل» مفرد، قال ابن مالك:
ولسراويل بهذا الجمعِ
شَبَهٌ اقتضى عمومَ المنعِ
وبعضهم يقول: إنها جمع سروال، وجمع سراويل سراويلات، كما جاء في الحديث: «لا يلبس السراويلات» (1) . فإذا شقق القميص وجعله سراويل ولبسه فإنه يحنث؛ لأنه عينه، فهذا المحلوف عليه هو عين هذا الشيء، أو شققه وجعله رداءً
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب (1542) ، ومسلم في الحج/ باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة (1177) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(15/176)
يرتديه، كرداء الإحرام فإنه يحنث؛ لأنه عينه، أو جعله عمامة ولبسه فإنه يحنث اعتباراً بالتعيين؛ لأن هذا الرجل ليس عنده نية ولا سبب، وقد عين هذا الشيء، وقال: لا ألبسه فتتعلق اليمين بهذا الشيء على أي صفة كان.
قوله: «أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً» «كلم» فعل ماضٍ لكن إذا دخلت عليها «لا» النافية في القسم قلبتها إلى مستقبل، وهذا أحد المواضع الذي ينقلب فيه الفعل الماضي مستقبلاً، فكما ينقلب بالشرط مثل: إن قام زيد قمت، كذلك ينقلب هنا في باب اليمين، فمعنى لا كلمت، أي: لا أكلم، فلو قال: والله لا كلمت هذا الصبي، ثم هذا الصبي كَبر، وصار شيخاً كبيراً، فكلمه فإنه يحنث بناءً على التعيين.
قوله: «أو» قال: لا كلمت «زوجة فلان هذه» فعينها.
قوله: «أو» قال: لا كلمت «صديقه فلاناً» أي: هذا.
قوله: «أو مملوكه سعيداً» أي: هذا.
قوله: «فزالت الزوجية، والملك، والصداقة ثم كلمهم» فزالت الزوجية بالطلاق، أو الموت وأصبحت غير زوجة له، فكلمها فإنه يحنث بناءً على التعيين، وكذلك صديقه إذا زالت الصداقة، بأن كان هذا الرجل صديقاً لفلان، فقال: والله لا أكلم صديق الرجل هذا، ثم صار غير صديق له وكلمه فإنه يحنث.(15/177)
وكذلك المُلْك، فلو أن هذا الرجل باع العبد الذي حلف أن لا يكلمه ثم كلمه فإنه يحنث.
أَوْ لاَ أَكَلْتُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ، فَصَارَ كَبْشاً، أَوْ هَذَا الرُّطَبَ فَصَارَ تَمْراً، أَوْ دِبْساً أَوْ خَلاًّ، أَوْ هَذَا اللَّبَنَ فَصَارَ جُبْناً، أَوْ كِشْكاً، أَوْ نَحْوَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ حَنِثَ فِي الْكُلِّ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.
قوله: «أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً» «الحمل» هو الصغير من أولاد الضأن؛ فإذا صار كبشاً زال وصف الحمل، لكنه عينه فيحنث.
قوله: «أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً» فإذا صار تمراً أو دبساً أي: ينعصر فيخرج منه الدبس، فأكل من دبسه فإنه يحنث.
وقوله: «أو صار خلاً» الخل أن يوضع الرطب في الماء ويبقى لمدة يوم أو يومين، ثم يُشرب فالماء يكتسب حلاوة من التمر، والتمر يمتص الرواسب غير الطيبة التي في الماء، وكان الناس يستعملونه قديماً، وكان طعمه من أطيب وأحسن ما يكون، فحل محله الشاي، فلو صار الرطب خلاًّ وشربه يحنث؛ لأن طعم الرطب موجود في الماء.
قوله: «أو هذا اللبنَ فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل» قال في الروض: «أو حلف لا أكلت» (1) هذا اللبن، فإن قال قائل: كيف يؤكل اللبن؟ قلنا: يجب أن يُقدر فعل يناسبه، ويكون التقدير لا شربت هذا اللبن، على حد قول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/483) .(15/178)
أي: سقيتها ماءً بارداً.
أو صار هذا اللبن جبناً، وأَكَلَ الجبن فإنه يحنث؛ لأنه عينه، أو صار كَشكاً وهو البُر المطبوخ باللبن، ويسمى عندنا جريشاً، وبعضهم يسميه برغلاً، فإذا قال: والله لا شربت هذا اللبن وجعله كشكاً وأكله يحنث؛ لأن طعم اللبن موجود مع أن الكشك لا يسمى لبناً، إلا أن طعمه موجود فيه.
وقوله: «ثم أكله حنث في الكل» أي: في المسائل الثماني التي سبقت، بناء على التعيين.
قوله: «إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة» فإذا نوى ما دام على تلك الصفة، فقد سبق أن النية هي المرجع الأول في الأيمان، فإذا قال: أنا قلت: والله ما ألبس هذا القميص، ما قصدي عين هذا القميص لكن قصدي صفته، أي: لا ألبسه ما دام قميصاً، فشقَّقه، وجعله سراويل، فلا حنث عليه.
ولو قال: لا كلمت هذا الصبي، وقال: لم أقصد عينه، لكن قصدت ما دام على صباه، ثم كلمه بعدما صار شيخاً فلا يحنث، أو قال: لا شربت هذا اللبن، ونيتي ما دام لبناً، أما إذا تغير فأنا ما نويت هذا، فلا يحنث، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، فما دمت قد نويت على تلك الصفة فلك نيتك؛ والتعليل أن المرجع في الأيمان قبل كل شيء إلى نية الحالف.
__________
(1) سبق تخريجه ص (153) .(15/179)
ولو قال: والله لا أكلم زوجة فلان هذه؛ لأني أعرف أن فلاناً ذو غيرةٍ شديدة، فلو يسمعني أكلم زوجته آذاني، وربما اتهمني، وربما قتلني، فإذا زالت الزوجية زالت هذه النية، ولم يحنث، ولم يذكر المؤلف السبب، لكن نقول أيضاً: ما لم ينوِ ما دام على تلك الصفة، أو يكن السبب يقتضي ما دام على تلك الصفة، كالمثال الذي ذكرته أخيراً، وإنما أضفنا: أو لم يكن السبب؛ لأن السبب مقدم على التعيين.
فالخلاصة: أن المراتب التي ذكرها المؤلف في هذا الفصل ثلاث:
النية، ثم السبب، ثم التعيين، فالتعيين يستمر مع هذا المعين، وإن تغيرت صفته، ما لم ينوِ ما دام على تلك الصفة، أو يكن السبب ما دام على تلك الصفة.
* * *(15/180)
فَصْلٌ
فَإِنْ عُدِمَ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الاسْمُ، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ: شَرْعِيٌّ، وَحَقِيقِيٌّ، وَعُرْفِيٌّ،....
قوله: «فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم» هذه المرتبة الرابعة، يعني إذا لم تكن نية، ولا سبب، ولا تعيين، نرجع إلى ما يتناوله الاسم، ومعنى ما يتناوله، أي: ما يدل عليه الاسم، والمراد بالاسم هنا ليس ما يقابل الحرف، بل المراد بالاسمِ المحلوفُ عليه، أي: اللفظ الذي وقع الحلف عليه، فيرجع إلى ما يتناوله الاسم في ذلك المحلوف عليه.
قوله: «وهو ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعُرفي» الاسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي، ولغوي، وعرفي، فالأسماء إما أن يكون لها مدلول شرعي، أو مدلول لغوي، أو مدلول عرفي.
وأحياناً تتفق المدلولات في الكلمة الواحدة، فتكون الكلمة معناها واحد، في اللغة، والشرع، والعرف، وأحياناً يكون معناها في اللغة غير معناها في الشرع، ومعناها في العرف غير معناها في الشرع واللغة.
والمراد باللغة هنا اللغة العربية، والمراد بالعرف اللغة العرفية.
وقوله: «وهو ثلاثة: شرعي، وحقيقي، وعرفي» إذا اتفقت هذه الثلاثة في مدلول الكلمة فلا إشكال، لكن الإشكال إذا اختلفت، فأيها يقدم؟ سيبيِّن ذلك المؤلف.
فالسماء مدلولها اللغوي، والشرعي، والعرفي واحد،(15/181)
والبيضة مدلولها الشرعي، واللغوي، والعرفي واحد، والأرض لها مدلول واحد، وأمثال هذا كثير، فهناك كلمات لا يختلف فيها الشرع، والعرف، واللغة، وهذه الأمر فيها واضح، فإذا حلف تحمل الكلمة على مدلولها وهو لا يختلف، ولكن إذا اختلف، فهل نقدم الشرعي، أو العرفي، أو اللغوي؟ سيأتي في كلام المؤلف.
فالشَّرْعِيُّ مَا لَهُ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ، وَمَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ،..............
قوله: «فالشرعي ما له موضوعٌ في الشرع وموضوع في اللغة» أي: ما له مدلول في الشرع، ومدلول في اللغة، فكأن المؤلف يقول: الشرعي ما اختلفت فيه اللغة والشرع، مثل البيع، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والوقف، وأشياء كثيرة، هذه يختلف فيها الشرع واللغة، ولهذا نقول: الطهارة لغة كذا، وشرعاً كذا، الصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، الزكاة لغة كذا، وشرعاً كذا، الحج لغة كذا، وشرعاً كذا، البيع لغة كذا، وشرعاً كذا، فهذه الأشياء التي اختلف فيها الشرع واللغة، ما دمنا مؤمنين فإن كلامنا يحمل على المعنى الشرعي عند إطلاقه، أي إن كان لا يوجد سبب ولا نية فهو يحمل على المعنى الشرعي، فإذا قال قائل: والله لأصلينَّ قبل أذان العشاء، ثم مدّ يديه إلى السماء وجعل يدعو حتى أذن العشاء، فقلنا له: يا رجل، لماذا لم تصلِّ؟ قال: أنا صليت، فهنا إن كان ليس له نية ولا سبب، فإنه يحنث؛ لأن كلامه يحمل على المعنى الشرعي، صحيح أن الصلاة في اللغة الدعاء، لكن نحن المسلمين يحمل كلامنا على الأمر الشرعي.(15/182)
وإذا قال: والله لأحجن اليوم، وكانت الليلة الرابعة عشرة من شهر جمادى الأولى، ثم ذهب إلى صديق له وغابت الشمس، فهذا لا يحنث لأن في كلامه ما يمنع حمله على المعنى الشرعي، وهو قوله: اليوم.
أما لو قال: والله لأحجّن، وأَطْلق، ثم ذهب إلى صديق له؛ وقال: هذا الحج، فالحج في اللغة القصد وأنا قصدت، فنقول له: لا يمكن؛ لأن الحج عند الإطلاق ـ ما دام ليس لك نية ولا يوجد سبب ـ يُحمل على المعنى الشرعي، فهنا يحنث؛ لأنه لم يحج، فإذا كانت الكلمة لها معنى شرعي، ومعنى لغوي، فإنها تحمل على المعنى الشرعي، ولهذا قال المؤلف:
فالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، فَإِذَا حَلَفَ لاَ يَبِيعُ أَوْ لاَ يَنْكِحُ، فَعَقَدَ عَقْداً فَاسِداً لَمْ يَحْنَثْ،.....................................
«فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح، فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث» فالاسم المطلق يحمل على المعنى الشرعي الصحيح؛ لأن الشرعي لمَّا شاع بين المسلمين صار كالعرفي، فالوضوء مثلاً في اللغة النظافة، وفي الشرع غسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة تعبداً لله عزّ وجل، فإذا قال إنسان: والله لا أتوضأ، ثم ذهب إلى الحمام ونظف جسمه كله، فهو من جهة الشرع لم يتوضأ فلا يحنث.
مثال آخر: رجل قال: والله لا أصلي قبل الظهر، فدعا، فقيل له: حنثت؛ لأن الصلاة في اللغة الدعاء، نقول: لا يحنث؛(15/183)
لأن الصلاة في الشرع التعبد لله ـ عزّ وجل ـ بالأقوال والأفعال المعلومة، وعلى هذا فنقول لهذا الرجل: أنت لم تحنث؛ لأن الشيء المطلق يحمل على الشرع.
كذلك ـ أيضاً ـ قال: والله لا أبيع شيئاً فأجَّر إنساناً سيارتَه؛ فإنه لا يحنث؛ لأن الأجرة ليست ببيع شرعاً، أو باع دخاناً فإنه لا يحنث؛ لأن هذا ليس بيعاً شرعيّاً، بل هو بيع فاسد باطل، أو باع خمراً، فإنه لا يحنث، أو باع حملاً في بطن فإنه لا يحنث، لأن هذا وإن سمي بيعاً في اللغة، لكنه في الشرع لا يسمى بيعاً فلا يحنث.
وَإِنْ قَيَّدَ يَمِينَهُ بِمَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَأَنْ حَلَفَ لاَ يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوِ الْحُرَّ حَنِثَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ،..........
قوله: «وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الحر حنث بصورة العقد» يعني إذا حلف أن لا يفعل شيئاً، وقيده بلفظ يدل على الفساد، فإنه يحنث وإن كان فاسداً، مثل أن يقول: والله لا أبيع الخمر، ثم باع، فهذا من الناحية الشرعية ليس ببيع؛ لأنه فاسد، لكن الرجل لم يأت به مطلقاً، بل قيده بأمر تنتفي معه الصحة، حيث قال: والله لا أبيع الخمر، فإذا باعه حنث.
فإن قال قائل: كيف تحنثونه وهذا التصرف ليس ببيع شرعي؟!
قلنا: إنه قيده بأمر معين، فبمجرد وجود ذلك الأمر المعين يحنث، ولهذا قال المؤلف: «حنث بصورة العقد» ؛ لأن هذا عقد صوري، والمؤلف قيد يمينه بأمر صوري، فكلمة «لا أبيع الخمر»(15/184)
لا يمكن أن توافق من الناحية الشرعية؛ لأن الخمر شرعاً لا يباع، فإذا تعذر حمله على الحقيقة والمعنى حملناه على الصورة، فنقول: بمجرد أن يبيع الخمر يحنث، وبناء عليه فالمثال الذي ذكرناه آنفاً وهو بيع الدخان، إذا قال: والله لا أبيع الدخان فباعه، فإنه يحنث، لا لأنه بيع، ولكن لأنه صورة ما حلف عليه، ولو قال: والله لا أبيع بربا، فذهب وباع بالربا فإنه يحنث؛ لأنه قيد اليمين بشيء يمنع الصحة، فيحمل على الصورة.
أما لو قال: والله لا أبيع، فباع ديناراً بدينارين، فإنه لا يحنث؛ لأنه أطلق والمطلق يطلق على الشرعي الصحيح.
وقال بعض العلماء: إنه لا يحنث إذا باع ما يحرم بيعه، ولو قيده بما يمنع الصحة؛ لوجود التناقض؛ لأن قوله: لا أبيع الخمر، كلمة (أبيع) تناقض الخمر، وعلى هذا فنقول: هذا وإن باع الخمر فليس ببيع، فمن نظر إلى الصورة حنَّثه، ومن نظر إلى الحقيقة لم يحنثه. والمسألة فيها قولان للعلماء وعلى المذهب إنه يحنث بصورة العقد.
ولو قال: والله لا أبيع حمل بعيري الذي في بطنها، ثم باعه فعلى المذهب يحنث؛ لأنه يحنث بصورة العقد؛ لأنه قيد يمينه بما يمنع الصحة، أي: قرنه بشيء لا يمكن أن يصح معه العقد، فيحمل على الصورة.
مثال آخر: تأجير الدكان لشخص ليعمل فيه محرماً، مثل أن يؤجره له ليتعامل فيه بالربا فهذا حرام، والعقد غير صحيح، فإذا قال: والله لا أؤجر دكاني لمن يتعامل فيه بالربا، ثم أجره، فعلى(15/185)
المذهب يحنث بصورة العقد؛ لأنه قيدها بما يمنع الصحة، وعلى القول الثاني: لا يحنث؛ لأن هذا ليس بإجارة فهو وإن سماه إجارة فإنه شرعاً لا يسمى إجارة، لكن المذهب يغلبون الصورة ويؤاخذونه بلفظه، وهذا القول الثاني يغلب المعنى ويقول: هذا ليس بإجارة شرعية.
وَالْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَغْلِبْ مَجَازُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَاللَّحْمِ، فَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ شَحْمَاً، أَوْ مُخًّا، أَوْ كَبِداً، أوَ نَحْوَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ أُدُماً، حَنِثَ بِأَكْلِ الْبَيْضِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ، وَالْخلِّ، وَالزَّيْتُونِ................
قوله: «والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته كاللحم» يجب أن نعرف أن العلماء ذكروا أن من العيب التعريف بالعدم، أو بالنفي؛ لأن التعريف بالعدم أو بالنفي ما يعطي الصورة؛ لأنه يقتضي رفع هذا المنفي، ولكن ما الذي يحل محله؟! فقوله: «لم يغلب مجازه على حقيقته» هذا تعريف بالنفي، وهو لا يحدد المُعرَّف، والمُعرَّف لا بد أن يكون عن طريق الإثبات والإيجاب، أما النفي فإنه كما قيل: نفي وعدم، ولهذا التعريف الصحيح للحقيقة أن يقال: هو اللفظ المستعمل في حقيقته اللغوية، أو إن شئت فقل: اللفظ الذي استعمل فيما وضع له لغة.
فإذا لم يكن لهذا اللفظ حقيقة شرعية حملناه على الحقيقة اللغوية، مثاله:
قوله: «كاللحم» وهي حقيقةً الهَبْرُ في اللغة، أما الكرش والكبد، والطحال، والشحم، والودك وما أشبه ذلك، فليس بلحم حسب اللغة العربية، ولهذا قال المؤلف:
«فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحماً، أو مخاً، أو كبداً أو(15/186)
نحوه لم يحنث» قال: والله لا آكل لحماً أبداً، فجاءوا إليه بسنام بعير فأكل حتى شبع، لم يحنث؛ لأن هذا في اللغة العربية ليس بلحم بل شحم، قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] ، وهذا يقتضي أن الشحوم غير اللحوم، وإنما هي بعض من الحيوان، كذلك لو قال: والله لا آكل لحماً فأكل مخاً، فإنه لا يحنث؛ لأن المخ لا يسمى لحماً، وكذلك لو أكل كبداً، فلا يحنث؛ لأن الكبد في اللغة العربية ليست بلحم.
وقوله: «أو نحوه» مثل الكلية، والكرش، والأمعاء، والطحال ونحو ذلك، فهذه لا تسمى لحماً فلا يحنث تغليباً للحقيقة اللغوية.
لكن لو علم أن غرضه من ذلك تجنب الدسم، أي: كانت نيته تجنب الدسم، فأكل من هذه الأشياء يحنث؛ لأن النية مقدمة.
مثال ذلك: رجل مريض قال له الطبيب: لا تأكل اللحم ليتجنب الدسم، فهذا إذا أكل الشحم صار أشد ضرراً من اللحم، أو المخ أو ما أشبه ذلك، فإذا علم أن المراد تجنب الدسم، فإنه يحنث بأكل هذه الأشياء.
قوله: «وإن حلف لا يأكل أُدُماً حنث بأكل البيض، والتمر، والملح، والخل، والزيتون» قال: والله لا آكل الأُدُم؛ يعني الإدام الذي يؤدم به الخبز، يحنث بهذه الأشياء، فلو قال: والله ما آكل(15/187)
إداماً فأكل بيضاً حنث؛ لأنه يؤتدم به، فالإنسان يغمس الخبز في البيض ويأكل، ولو أكل بيضاً لم يطبخ، ولم يُقلى حنث؛ لأنه يصطبغ به، وهو ظاهر كلام المؤلف؛ لأنه قال: «بأكل البيض» ولم يقل: مطبوخاً أو مقلياً.
ولو قال: والله ما آكل إداماً وأكل تمراً، يحنث؛ لأنه يؤتدم به، وكذلك يحنث بأكل الملح؛ لأنه يؤتدم به، وكذلك الخل وهذا واضح، وفي الحديث: «نعم الإدام الخل» (1) .
وكذلك الزيتون الصغير والكبير كلاهما يؤتدم به.
وَنَحْوِهِ، وَكُلِّ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ، وَلاَ يَلْبَسُ شَيْئاً فَلَبِسَ ثَوْباً، أَوْ دِرْعاً، أَوْ جوْشَناً، أَوْ نَعْلاً حَنِثَ،.............
قوله: «ونحوه» قال في الروض (2) : «كالجبن واللبن» وكلاهما يؤتدم به.
ثم قال المؤلف عبارة عامة:
«وكل ما يصطبغ به» أي: يؤتدم به، يعني يجعل إداماً، قال الله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20] .
وسُمي الإدام صبغاً؛ لأنه يصبغ الطعام، فإنك إذا غمسته في شيء أسود صار أسود، وفي شيء أحمر صار أحمر، وهكذا، فهو صبغ للطعام الذي يؤتدم به فيه.
ولننظر هل هناك أشياء غير هذه يصطبغ بها؟ نعم مثل: الزيت، والعسل، والأقط، والمربى، والقرع، وغيرها.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأشربة/ باب فضيلة الخل والتأدم به (2051) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (7/487) .(15/188)
قوله: «ولا يلبس شيئاً» «شيئاً» نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.
قوله: «فلبس ثوباً» أو لبس سروالاً أو تُبَّاناً يحنث والتُّبان بسروال قصير ليس له أكمام.
قوله: «أو درعاً» يحنث، والدرع يلبسونه في الحرب، قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] ، وقال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] يعني دروعاً سابغات، والدرع عبارة عن ثوب منسوج من حلق الحديد، يلبسه الإنسان ليتقي به الرماح والسكاكين، وغير ذلك.
قوله: «أو جوشناً» الجوشن نوع من الدروع، لكنه على صفة خاصة، كذلك لو لبس طاقية أو غترة حنث.
قوله: «أو نعلاً حنث» وكذلك الجوارب، إذن كل ما يلبس يحنث به.
مسألة: لو صلى على حصير فهل يحنث أو لا؟ وإذا كان لا يحنث، فكيف نجيب عن حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: «فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس» (1) ، وفي رواية: «لبث» (2) ؟ قال العلماء: إن اللباس هنا بمعنى الاستعمال، فلباس
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة على الحصير ... (380) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة/ باب جواز الجماعة في النافلة ... (658) .
(2) أخرجه البخاري في الأذان/ باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل ... (860) .(15/189)
كل شيء بحسبه، ولكنه في اللغة العربية لا يسمى لباساً.
وَإِنْ حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُ إِنْسَاناً حَنِثَ بِكَلاَمِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلاَ يَفْعَلُ شَيْئاً فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ حَنِثَ، إِلاَّ أنْ يَنْوِيَ مُبَاشَرَتَهَ بِنَفْسِهِ،.............................
قوله: «وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان» لننظر هل هذه الكلية عائدة على الإنسان، أو عائدة على الكلام؟ هل المعنى بكل كلام إنسان؟ أو المعنى بكلام كل إنسان؟
مراده الأول؛ لأنه قال: حلف لا يكلم إنساناً، فلا يحتاج أن يقول: كل إنسان، اللهم إلا أن يريد أن يبين أن «إنساناً» هنا نكرة في سياق النفي فتعم.
وقوله: «حنث بكلام كل إنسان» فيحنث بكل ما يسمى كلاماً، سواء كلم إنساناً كبيراً، أو صغيراً، أو ذكراً، أو أنثى، أو حراً، أو عبداً، فلو قال: يا فلان، حنث، ولو قال: فلان، حنث، ولو قال: قِ، فعل أمر من وقى يقي، حنث.
ولو قال: أح، لم يحنث، لأنه ليس كلاماً.
ولهذا لو قال هذا في الصلاة ما بطلت صلاته، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (1) ، وقد كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتنحنح لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إذا دخل عليه (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537) (33) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/77) ، والنسائي في السهو/ باب التنحنح في الصلاة (3/12) ، وابن ماجه في الأدب/ باب الاستئذان (3708) ، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «قال البيهقي: هذا مختلف في إسناده ومتنه» . «التلخيص» (452) .(15/190)
ولو أشار، لم يحنث؛ لأن الإشارة ليست كلاماً.
قوله: «ولا يفعل شيئاً فَوَكَّلَ من فعله حنث» لأن الوكيل قائم مقام المُوكل، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكّلَ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن ينحر إبله التي أهداها (1) ، فلو قال: والله لا أبيع بيتي، فوكل شخصاً يبيع البيت، فإنه يحنث؛ لأن الوكيل قائم مقام الموكل، ولو قال: والله لا أذبح بعيري، فوكل إنساناً يذبحه، حنث، ولو قال: والله لا أركب السيارة، فوكل شخصاً يركبها، لم يحنث؛ لأن هذا ليس بفعله، إلا إذا كان قصده: والله لا أركب السيارة زائراً فلاناً، فوكل شخصاً يركبها ليزور فلاناً، فهنا يحنث.
قوله: «إلا أن ينوي مباشرته بنفسه» قال: والله لا أبيع بيتي، ناوياً لا أباشر بيعه بنفسي، فهنا إذا وكل من يبيعه لا يحنث؛ لأن النية مقدمة كما سبق.
لكن قد يقول قائل: ما فائدته من هذا، إذا قال: نويت أن لا أباشر البيع بنفسي، فهل له غرض؟ نقول: نعم، ربما يكون له غرض، مثلاً يرى أنه لو باعه هو بنفسه لتهاون بعض الناس في إيفاء الثمن، ويقول: هذا رجل طيب، متى ما رزقني الله وفيته، لكن إذا وكل آخر يبيعه سيلحُّ عليه ويقول: أعطني القيمة.
كذلك لو قال: والله لا أشتري سيارة فلان، ووكل واحداً
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(15/191)
يشتريها، وقال: أنا نويت لا أباشر الشراء، نقول في هذه الحال: لا يحنث.
فإذا قال قائل: ما غرضه؟
نقول: قد يخشى أنه إذا ذهب إلى فلان وقال له: بع سيارتك عليَّ، يقول: خذها بدون ثمن، أو أنها تساوي عشرة ويقول: أبيعها عليك بثمانية، لكن إذا أخذها من طريق آخر، فإن البائع سوف يستوفي الثمن كاملاً.
المهم أنه إذا حلف أن لا يفعل شيئاً فوكل من يفعله حنث، إلا أن ينوي مباشرته بنفسه. ولو قال: والله لا أصلي الضحى ركعتين ثم وكل شخصاً يصلي عنه فهنا لم تصح الوكالة أصلاً ولو صلى هذا الرجل عنه لم يحنث لأنه لا يستفيد من هذه الصلاة شيئاً.
وَالْعُرْفِيُّ مَا اشْتَهَرَ مَجَازُهُ فَغَلَبَ الْحَقِيقَةَ، كَالرَّاوِيَةِ وَالْغَائِطِ، وَنَحْوِهِمَا، فَتَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعُرْفِ، فَإِذَا حَلَفَ عَلَى وَطْءِ زَوْجَتِهِ، أَوْ وَطْءِ دَارٍ، تَعَلَّقَتْ يَمِينُهُ بِجِمَاعِهَا، وَبِدُخُولِ الدَّارِ،........................................
قوله: «والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة، كالراوية والغائط ونحوهما، فتتعلق اليمين بالعرف» ليت المؤلف قدم العرف.
فقوله: «ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة» يعني الذي استعمله الناس في عرفهم، فتحمل اليمين على العرف مُقدماً على اللغة إذا اشتهر بين الناس، وغلب على الحقيقة، ومراد المؤلف بالحقيقة هنا الحقيقة اللغوية، فإذا اشتهر هذا المعنى بين الناس، وهجرت الحقيقة اللغوية، يقول المؤلف: «فتتعلق اليمين بالعرف» ، ويحمل اللفظ على معناه العرفي، حتى وإن كان له في اللغة معنى، ولكنه(15/192)
هجر واشتهر بين الناس المعنى العرفي فإنه يقدم.
إذاً يقدم الشرع، ثم العرف، ثم اللغة؛ لأن الناس يعاملون بنياتهم، ولا شك أن العامي إذا أطلق الكلمة فإنما يريد معناها العرفي، فالعامي لا يعرف اللغة العربية الفصحى، فيكون العرف مقدماً؛ لأنه هو المنوي ظاهراً، مثاله الرَّاوية، وتطلق في اللغة العربية على التي تحمل الماء، وهي البعير التي يسقى عليها، ومنه التسمية العامية «الرَّوَّاية» وهي المرأة التي تُرَوِّي الماء، لكنه في العرف تطلق الرَّاوِية على المَزَادَةِ، وهي عبارة عن جلد يشق، ويؤتى بجلد آخر مثله، ويخاط بعضهما ببعض، فبدل ما كان قربةً واحدة يكون قربتين.
فإذا قال: والله لا أشتري راوية، فذهب، واشترى الراوية التي هي القربة الكبيرة، يحنث؛ لأن هذا هو العرف، ولو اشترى بعيراً لم يحنث، إلا إن نوى فالنية مقدمة.
كذلك أيضاً «الغائط» وهو في اللغة المكان المطمئن يعني المنخفض، وعندنا الآن يقولون: ماء غويط، يعني عميق، وفي العرف الغائط هو الخارج المستقذر من الدبر.
فإذا قال قائل: والله لا أنظر إلى غائط، وذهب إلى مكان منخفض ينظر إليه، فلا يحنث؛ لأن العرف نقل الحقيقة إلى الخارج المستقذر.
وقوله: «ونحوهما» مثل الشاة، فالشاة عندنا في العرف هي الأنثى من الضأن، وفي اللغة العربية أعم من هذا، ولهذا لو جاء رجل بعَنْزٍ وقال: هذه شاة، لأنكر عليه العوام، لكن في اللغة(15/193)
يطلق عليها شاة، فإذا قال: والله لأشترين لضيوفي شاةً، ثم ذهب واشترى عنزاً، يحنث؛ لأنه ما بَرَّ بيمينه؛ لأن الشاة في العرف هي أنثى الضأن.
مثال ثانٍ: الدابة وهي في اللغة لكل ما دب على الأرض، سواء كان له رجلان أو أربعة، أو كان مما يمشي على بطنه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] ، فهذه الدابة تعم كل شيء، وقال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] .
فما هي الدابة في العرف؟
ذوات الأربع على عرف، وعلى عرف آخر الحمار خاصة، فإذا قال: أنت دابة، يعني أنت حمار.
إذن فتتعلق اليمين بالعرف؛ لأنه هو الغالب وهو المعروف عند العامة، وإذا كان هو الغالب المعروف عند العامة، فإن النية تنصرف إليه.
وقد تتفق اللغة، والعرف، والشرع، وإذا اتفقت فالأمر واضح، وإذا اختلفت قدم الشرع، ثم العرف، ثم اللغة.
قوله: «فإذا حلف على وطء زوجته، أو وطء دار، تعلقت يمينه بجماعها، وبدخول الدار» كرجل قال: والله لا أطأ زوجتي، فذهب وجامعها، نقول له: حنثت، فإذا قال: كيف أحنث، والوطء أن أطأها بقدمي؟! نقول: لكن العرف غلب على اللغة.(15/194)
ولو قال: والله لأطأن زوجتي، فقالت له زوجته: ما فعلت شيئاً، فقال: ألم أطأ على قدمك؟
نقول: ما بر بيمينه؛ لأن الحكم يتعلق بالجماع؛ إذ إن الحقيقة وهي الوطء بالقدم هُجِرت، وصار العرف أن وطء الزوجة جماعها.
ووطء الدار دخولها، والظاهر أنه كذلك حتى في اللغة العربية، فمتعذر أن يطأ الإنسان الدارَ كلها بقدمه؛ لأن الدار أكبر من القدم، فإذا قال: والله لا أطأ هذه الدار، ثم دخلها فإنه يحنث.
وإذا دخلها محمولاً فإنه يحنث، أما إذا كان له نية فهذا شيء آخر لكن إذا لم يكن له نيةً فنقول: إذا دخلتها، سواء دخلت برجلك، أو محمولاً، أو على أي وجه كنت فإنك تحنث؛ لأن هذا هو معنى وطء الدار، وهذا مشهور عند الناس، يقول أحدهم: والله ما أطأ هذا المحل، والله ما أطأ دار فلان، والله ما أطأ دكان فلان، فيتعلق بدخوله.
وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ شَيْئاً فَأَكَلَهُ مُسْتَهْلَكاً فِي غَيْرِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ سَمْناً فَأَكَلَ خَبِيصاً فِيهِ سَمْنٌ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ طَعْمُهُ، أَوْ لاَ يَأْكُلُ بَيْضاً فَأَكَلَ نَاطِفاً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ ظَهَرَ طَعْمُ شَيْءٍ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ حَنِثَ.
قوله: «وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مُسْتَهْلَكاً في غيره» لم يحنث، وهذا فيه فائدة عظيمة، قال: والله لا آكل شيئاً، فخُلِط هذا الشيء في شيء آخر، لكن اسْتَهْلَكَ واضمحل ولم يبقَ له أثر، ولا طعم، ولا ريح، ولا تأثير، فإنه لا يحنث، مثل أن يُجعل جزءاً من مائة جزء، أو جزأين من مائة، أو ثلاثة من مائة، أو ما أشبه ذلك، بحيث لا يؤثر فإنه لا يحنث، ولنفرض أنه قال: والله لا أشرب هذا الشيء، فخلطه بماء، واضمحل هذا(15/195)
الشيء في الماء؛ لأن الشيء قليل والماء كثير، فاضمحل ولم يصر له أثر إطلاقاً فلا يحنث؛ لأنه استهلك وزال أثره وطعمه ولونه، ودليل ذلك قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على طعمه، أو لونه، أو ريحه بنجاسة تحدث فيه» (1) . ومن هنا نعرف أن ما يقال عنه من الأطياب: إنه قد خُلط بكحول ـ بأشياء مسكرة ـ أنه إذا كان هذا الخلط جُزءاً يسيراً فإنه لا أثر له، فلا يجعله خمراً ولا نجساً ـ على رأي من ينجسه ـ وإن كان الصواب أن الخمر أصلاً ليس بنجس.
فإذا قال قائل في المسألة الأخيرة: ماذا نصنع بقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ما أسكر كثيرهُ فقليله حرام» (2) ، وقوله: «ما أسكر منه الفَرَقُ فملء الكف منه حرام» (3) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطهارة وسننها/ باب الحياض (521) ، والطبراني في الكبير (8/104) ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني من حديث ثوبان بدون «أو لونه» (1/28) ، انظر: التلخيص الحبير (1/15) ، والخلاصة (1/8) .
(2) أخرجه أحمد (2/91) ، والنسائي في الأشربة/ باب تحريم كل شراب أسكر كثيره (8/300، 301) ، وأبو داود في الأشربة/ باب النهي عن المسكر (3681) ، والترمذي في الأشربة/ باب ما جاء ما أسكر كثير فقليله حرام (1865) ، وابن ماجه في الأشربة/ باب ما أسكر كثيره فقليله حرام (3392) ، والحاكم (3/467) ، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5358) وكذا الألباني في الإرواء (2375) . وانظر: التلخيص (1787) .
(3) أخرجه أحمد (6/71) ، وأبو داود في الأشربة/ باب ما جاء في السكر (3687) ، والترمذي في الأشربة/ باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5359) ط/الدولية، وابن الملقن كما في الخلاصة (2444) ، وصححه في الإرواء (2376) .(15/196)
نقول: معنى الحديث: أنه لو كان هناك شراب، إن شربت قليلاً منه لم تَسكر، وإن شربت كثيراً سكرت، فإنه يحرم عليك القليل والكثير، حتى القليل الذي لا يسكرك يحرم عليك؛ لأن شرب هذا القليل الذي لا يسكر يتدرج به الإنسان إلى أن يشرب كثيراً فيسكر، وليس معنى الحديث ما اختلط فيه قليل من مسكر فإنه يحرم، ولا يمكن أن يفهم الحديث على هذا الوجه، بل معنى الحديث أن هذا الشراب إن كنت إذا أكثرت منه سكرت فقليله حرام، فإن كان إذا شربت منه القليل سكرت فمن باب أولى.
يقال: إن البيرة الموجودة بالسوق فيها خلط من الكحول، فنبنيها على هذه المسألة، إن كان الخلط يسيراً بحيث يستهلك في الشعير الذي فيها فإنه لا يؤثر، وإن كان كثيراً فإنه يحرم قليلها وكثيرها، ولو قال قائل: إن الإنسان لو شرب منها خمسة قوارير تسترخي أعصابه.
نقول: هذا ليس دليلاً على أنه يسكر؛ لأن الإنسان إذا شرب كثيراً حتى من الماء تسترخي أعصابه، وعلى كل حال الميزان لهذه المسألة هو أنه إذا اختلط شيء بآخر واستهلك فيه، ولم يظهر له أثر فوجوده كعدمه.
قوله: «كمن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه» خبيص بمعنى مخبوص، وهو شيء يخبص من القرصان أو شبهه يجعل فيه السمن، لكن لا يظهر فيه أثر السمن، فإن قال: والله لا آكل سمناً، فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، لم يحنث.(15/197)
قوله: «أو لا يأكل بيضاً فأكل نَاطِفاً لم يحنث» والناطف طعام أضيف إليه بيض، فإذا صار أكثره طحيناً وانغمس فيه البيض واستهلك فإنه لا يحنث؛ لأنه لا يسمى بيضاً، وأما إذا كان أكثره بيضاً، أو ظهر فيه أثره، فإنه يحنث.
قوله: «وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنِث» لأنه فعل ما حلف عليه فيكون حانثاً. وإذا حلف رجل أن لا يكلم فلاناً، فكلمه بغضب، ولم ينو؟ فإنه حسب نيته، إن كانت نيته أن لا يكلمه برضى فإن كلام التوبيخ لا يحنث به، ولهذا فإن أهل النار ـ نعوذ بالله من حالهم ـ يكلمهم الله عزّ وجل، يقول: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] مع أنه لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يعني لا يكلمهم كلام رحمة ورضى.
خلاصة هذا الفصل: أنه إذا لم توجد مرتبة من المراتب الثلاث السابقة في الفصل الأول، نرجع إلى ما يتناوله الاسم في حقيقته، وهو ثلاثة أقسام: شرعي، وعرفي، ولغوي، فيقدم الشرعي، ثم العرفي، ثم اللغوي.
* * *(15/198)
فَصْلٌ
وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَفْعَلُ شَيْئاً، كَكَلاَمِ زَيْدٍ، وَدُخُولِ دَارٍ وَنَحْوِهِ، فَفَعَلَهُ مُكْرَهاً لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْصُدُ مَنْعَهُ كَالزَّوْجَةِ، وَالْوَلَدِ، أَلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً، فَفَعَلَهُ نَاسِيَاً، أَوْ جَاهِلاً حَنِثَ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَقَطْ.
قوله: «وإن حلف لا يفعل شيئاً، ككلام زيد، ودخول دار، ونحوه ففعله مكرهاً لم يحنث» قال: والله لا أدخل هذه الدار، فأكره على دخولها، سواء حُمل فأدخل، أو قيل له: ادخل، وإلا حبسناك، أو قتلناك، أو أخذنا مالك، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يحنث؛ لأنه سبق أن من شروط وجوب الكفارة أن يحنث مختاراً، وهذا مبني على قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، فإذا كان هذا الذي أُكره على الكفر ففعله أو قاله، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يكفر، فكذلك هذا الذي أُكره على الحنث؛ لأن الحنث مبني على الإثم في الأصل، فإذا كان لا يأثم بالإكراه، فكذلك لا يحنث بالإكراه.
وقوله: «ودخول دار ونحوه» هذه أمثلة، مثل: حلف ألا يلبس ثوباً، حلف ألا يخرج إلى السوق، حلف ألا يذهب إلى المدرسة، وفُعل به هذا مكرهاً فلا حنث عليه، ولهذا قال: «لم يحنث» .
قوله: «وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه، كالزوجة والولد، ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً، أو جاهلاً حنث في الطلاق والعتاق فقط» إذا حلف على نفسه ألا يفعل شيئاً، ففعله(15/199)
ناسياً أو جاهلاً فلا حنث عليه؛ لأنه لو فعل المحرم ناسياً أو جاهلاً فلا إثم عليه، فكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً فلا حنث عليه؛ لأن الحنث مبني على التأثيم، فمتى كان الإنسان يأثم في الحكم الشرعي حَنِثَ في اليمين، وإذا كان لا يأثم لم يحنث، فهذا رجل حلف على نفسه، قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم جاء في الليل فلبسه وهو لا يدري أنه المحلوف عليه، فلا يحنث، فليس عليه كفارة؛ لأن من شروط وجوب الكفارة كما سبق أن يحنث عالماً ذاكراً مختاراً، وأصله قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] .
كذلك لو فعله ناسياً، كأن لبس الثوب الذي حلف أن لا يلبسه ناسياً أنه حلف، فإنه لا كفارة عليه ولم يحنث، والدليل قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} والحنث مبني على التأثيم بالفعل، ولأن من شرط وجوب الكفارة أن يحنث عالماً ذاكراً مختاراً.
وإذا حلف على نفسه في طلاق، بأن قال: إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، فهذا يمين، ثم لبسه ناسياً.
فعلى كلام المؤلف تطلق؛ لأنه قال: «حنث في الطلاق» .
أو قال: إن فعلت كذا فعبدي حر، وقصده أن يلزم نفسه بعدم الفعل، فهذا يمين، ففعله ناسياً فالعبد يعتق.
وكذلك لو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، فلبسه جاهلاً أنه الثوب الذي حلف عليه، فإنَّ العبد يعتق، وإن كان طلاقاً فالمرأة تطلق، يقولون: لأن هذا يتضمن حقاً لآدمي،(15/200)
وحقوق الآدميين لا تسقط لا بالجهل، ولا بالنسيان، وأما الإكراه ففيه تفصيل.
نقول: أما كون العتق حقاً للآدمي فهذا قد يُسلم؛ لأن العبد يحب أن يتحرر، ويعتق، ويسلم من الرق، لكن كون الطلاق حقاً لآدمي! فقد تقول المرأة: أنا لا أحب أن أطلق، وتبكي من الطلاق، ويكون الطلاق عندها أكره من كل شيء، فكيف نلزمه أن يفعل ما تكره؟! ولذلك كان القول الراجح أننا متى أجرينا الطلاق والعتاق مجرى اليمين صار لهما حكم اليمين، إذ كيف نجريهما مجرى اليمين في الكفارة، ثم لا نجريهما مُجرى اليمين في الحنث؟! فهذا تناقض، فالصواب أنه لا حنث عليه، لا في الطلاق، ولا في العتق، ولا في النذر ولا في اليمين، والمؤلف قد أسقطه لكن حكمه حكم اليمين، فلو قال: إن لبست هذا الثوب فزوجتي طالق، ثم لبسه ناسياً فلا حنث عليه، ولا تطلق الزوجة.
ولو قال: إن لبست هذا الثوب فعبدي حر، ثم لبسه ناسياً فالعبد لا يعتق؛ لأننا لما أجرينا هذا الأمر مجرى اليمين، فالواجب أن لا يحنث بالجهل والنسيان، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد، قال شيخ الإسلام: إن رواتها عن الإمام أحمد كرواة التفرقة، يعني أن الإمام أحمد تساوت عنه الروايات في ذلك.
فإذا حلف على نفسه يميناً، وحلف على نفسه بالطلاق، وحلف على نفسه بالعتق، فالمذهب يفرقون بين اليمين والطلاق(15/201)
والعتق، فيما إذا فعل الشيء المحلوف عليه ناسياً، أو جاهلاً، فيقولون «في الطلاق والعتق» : يحنث، فيقع الطلاق والعتق، ويقولون في اليمين بالله: لا يحنث، والصحيح أنه لا فرق، وأنه لا يحنث فيهما، كما لا يحنث في اليمين؛ هذا إذا حلف على نفسه.
فإذا حلف على غيره ألا يفعل شيئاً بيمين، أو طلاق، أو عتق أو نذر فلا يخلو ذلك الغير من حالين:
الأولى: أن يكون المحلوف عليه ممن جرت العادة أن يمتنع بيمينه أي إذا حلف عليه بَرَّ بيمينه؛ لقرابة، أو زوجية، أو صداقة.
الثانية: أن يكون هذا الغير ممن لا يمتنع بيمينه، ولا يهتم بها وسيأتي.
فإذا كان هذا الغير ممن يمتنع بيمينه ويبر بها، ولا يخالفه بسبب قرابة أو زوجية أو صداقة، كأن حلف على زوجته ألا تفعل شيئاً ففعلته ناسيةً، أو جاهلةً، أو حلف على ولده، ابن أو بنت، ألا يفعل شيئاً، ففعله ناسياً أو جاهلاً، فهذا الغير حكمه حكم نفس الحالف، يعني كأنه نفسه، فإذا فعله ناسياً أو جاهلاً في اليمين بالله لم يحنث، وأما في العتق والطلاق فيحنث.
أمثلة:
قال لابنه: إن فعلت كذا فأمك طالق، ففعله الولد ناسياً، فهل تطلق؟ نعم، تطلق على المذهب.
قال لولده: إن فعلت كذا فعبدي حر، ففعله ناسياً، يحنث ويعتق العبد، كما لو كان ذلك في نفسه.(15/202)
والصحيح أنه لا يحنث كما لو كان هذا يميناً بالله عزّ وجل.
وعَلَى مَنْ لاَ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ فَفَعَلَهُ حَنِثَ مُطْلَقاً،
وَإِنْ فَعَلَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ قَصَدَ مَنْعَهُ بَعْضَ مَا حَلَفَ عَلَى كُلِّهِ لَمْ يَحْنَثْ، مَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ.
قوله: «وعلى من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره ففعله حنِثَ مُطلقاً» هذه هي الحال الثانية، أن يحلف على شخص لا يمتنع بيمينه، ولا يهتم بها، ولا يحاول أن يرضيه بالبر بيمينه، ففعل المحلوف عليه، فإنه يحنث مطلقاً.
وقوله: «مطلقاً» يقول العلماء: إذا قيل: مطلقاً فإن الإطلاق يفهم معناه مما سبق، أو مما لحق، وهنا نفهمه مما سبق، يعني حنث مطلقاً في اليمين، والطلاق، والعتق، عالماً، أو جاهلاً، ذاكراً، أو ناسياً، ولا فرق.
مثال ذلك: رأى إنسان في السوق واحداً يريد أن يحمل على رأسه حزمة علف، فقال: والله لا تحملها، وكل واحد منهما لا يعرف الآخر، ثم إن الرجل المحلوف عليه نسي فحملها، فيحنث الحالف؛ لأن الأصل أن هذا الحالف ليس له إلزام هذا المحلوف عليه، فيكون اليمين بمنزلة الشرط المحض، فمتى وجد الشرط وجد المشروط؛ لأن حقيقة الأمر أن اليمين تشبه الشرط، فإذا قال له: والله لا تحمله، وهو ممن لا يمتنع بيمينه ولا يهتم بها فحمله ناسياً، قلنا للحالف: عليك الحنث والكفارة؛ لأنه ليس لك حق الإلزام، فصار يمينك بمنزلة الشرط المحض، فإذا وجد الشرط وهو حمله هذا العلف وجد المشروط وهو الكفارة.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحنث مطلقاً، سواء قصد الإلزام أو قصد الإكرام؛ لأنه أحياناً يقصد إكرامه، فيقول: والله ما(15/203)
تحمله أنا أحمله، فإذا حمله المحلوف عليه فإنه يحنث على المذهب، وإن كان قصدُه الإكرام.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه إذا قصد الإكرام فإنه لا يحنث بالمخالفة، بناءً على أن الحنث في اليمين مبني على الحنث في الحكم، وإذا قصد الإكرام وحصلت المخالفة، فإن المخالف لا يعد عاصياً؛ لأنه لم يقصد إلزامه، بل قصد إكرامه واحترامه، وهذا حصل بمجرد الحلف؛ لأن حلفه «أن لا يحمل» إكرام له، وقد حصل وظهر، ولأن أصل الحنث مبني على المخالفة في الحكم، فكما لا يكون عاصياً من خالف في باب الإكرام، لا يكون حانثاً من خالف في الإكرام في اليمين، واستدل لذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حين جاء وهو يصلي بالناس، وأراد أن يتأخر، فأمره أن يبقى، ولكنه تأخر (1) ، فهل كان أبو بكر عاصياً في هذه الحال؟ لا، فهو لا يريد أن يعصي الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل يريد أن يعظم النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن حلف على شخص لم تجر العادة أن يمتنع بيمينه لكونه لا سلطة عليه فإنه إذا فُعِل المحلوفُ عليه حنث الحالف، لأن من لا يمتنع باليمين لا يصح توجيه المنع إليه وأصل اليمين قد بنيت على المنع والحث أو التصديق أو التكذيب.
قوله: «وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام ... (684) ، ومسلم في الصلاة/ باب تقديم الجماعة من يصلي بهم ... (421) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.(15/204)
على كله لم يحنث، ما لم تكن له نية» إذا فعل بعض ما حلف عليه فلا حنث عليه، قال: والله لا آكل هذا الرغيف، فأكل بعضه، لا يحنث؛ لأنه لم يأكل الرغيف، إلا إذا كان له نية، يعني لو نوى أن لا يذوقه، فأكل بعضه، فإنه يحنث؛ لأنه سبق في أول باب الأيمان أنه يرجع أولَ ما يرجع إلى نية الحالف، إذا احتملها اللفظ، وهنا يحتملها اللفظ، مثال ذلك: أعطاك رجلٌ رغيفاً، وقال: كل هذا الرغيف، فقلت: والله لا آكله، ونيتك أنك لا تذوقه، فحينئذ إذا أكلت منه قليلاً أو كثيراً حنثت.
كذلك إذا كان هناك قرينة تدل على أنه أراد البعض، فإنه يحنث، مثل أن يقول: والله لا أشرب ماء هذا النهر، فأخذ بكأس صغيرة وشرب، يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك، ولا يمكن أن يريد بقوله: والله لا أشرب ماء هذا النهر، أنه يشرب كل ماء النهر! إذاً فالقرينة تدل على أنه لا يشرب منه، لا قليلاً ولا كثيراً.
ولو قال: والله لا أشرب هذه القربة، فصب منها كأساً وشرب لا يحنث؛ لأنه يمكن أن يشربها في أيام، بخلاف النهر فإنه لا يمكن أن يشربه، وعلى هذا فنقول: إذا كان له نية أنه لا يشرب أو لا يأكل الكل أو البعض فعلى نيته، وإذا كان هناك قرينة فعلى حسب القرينة.
قال: والله لا آكل خبز هذا البلد فأكل خبزة منه، فإنه يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك؛ لأنه من المعلوم أنه لن يأكل خبز البلد كله! فالقرينة تدل على أن المعنى لا يأكل منه.
ولو قال: والله لا آكل خبز هذا الخباز، كذلك إذا أكل(15/205)
خبزة واحدة يحنث؛ لأن القرينة تدل على ذلك؛ لأنه عين هذا الخباز؛ لأنه ما يجيد الخَبْز، فيجعله نِيّاً، أو لا يجعل فيه ملحاً، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي جعلته يحلف أن لا يأكل خبزه.
قال: والله لآكلن هذا الرغيف، فأكل بعضه فإنه يحنث؛ لأنه يمكن أكله.
وهذه المسألة في الحقيقة فرع عما سبق، وهي أنه يرجع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ، ثم إلى سبب اليمين، ثم إلى التعيين، ثم إلى ما يتناوله الاسم، فهذه أربع مراتب تنبني أيمان الحالفين كلها عليها.(15/206)
بَابُ النَّذْرِ
لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ وَلَوْ كَافِراً، والصَّحِيحُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ.
الْمُطْلَقُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: للهِ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً فَيَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
قوله: «النذر» لغة: الإيجاب، يقال: نذرت هذا على نفسي، أي: أوجبت، أما في الشرع فهو إيجاب خاص، وهو إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال.
وينعقد بالقول، وليس له صيغة معينة، بل كل ما دل على الالتزام فهو نذر، سواء قال: لله عليّ عهد، أو لله عليّ نذر، أو ما أشبه ذلك مما يدل على الالتزام، مثل: لله عليّ أن أفعل كذا، وإن لم يقل: نذر، أو عهد.
وحكم النذر مكروه، بل مال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى تحريمه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن النذر، وقال: «إنه لا يأتي بخير» (1) ، وأنه لا يرد قدراً، ولو شاء الله أن يفعل لفعل، سواء نذرت أم لم تنذر، وإذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهى عنه، وبيَّن أنه ليس فيه فائدة لا شرعية ولا قدرية، لا شرعية فهو لا يأتي بخير، ولا قدرية فهو لا يرد قدراً، فإن القول بتحريمه قوي.
فإن قيل: كيف يثني الله ـ عزّ وجل ـ على الموفين بالنذر وهم قد ارتكبوا مُحرَّماً؟
__________
(1) أخرجه البخاري في القدر/ باب إلقاء النذر العبد إلى القدر (6608) ، ومسلم في النذر/ باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً (1639) عن ابن عمر رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.(15/207)
فالجواب: أن الله لم يثنِ على الناذرين، وإنما أثنى على الموفين، وفرق بين الأمرين، فقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، معناه أنهم إذا نذروا لله شيئاً لم يهملوه، بل قاموا به، وفيها قول آخر: أن المراد بالنذر كل الواجبات، فهي نذر لقوله تعالى في الحج: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ، مع أنهم ما نذروا، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] ، والمعنى أوفيتم نذراً نذرتموه.
أما الوفاء به فإنه ينقسم إلى خمسة أقسام وسيأتي بيانها.
وقولنا: «إلزام المكلف» المكلف هو البالغ العاقل، فلو قال الصبي الذي لم يبلغ: لله علي نذر أن أفعل كذا، وكذا، فإنه لا ينعقد النذر؛ لأن الصغير ليس أهلاً للإيجاب شرعاً؛ لأنه قد رفع عنه القلم.
وقولنا: «شيئاً يملكه غير محال» فلو نذر شيئاً لا يملكه فإن النذر لا ينعقد؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك» (1) ، ولو نذر أن يعتق الحر، فإنه لا ينعقد؛ لأن هذا شيء لا يملكه، ولو نذر أن يطير فإنه لا ينعقد؛ لأنه محال.
قوله: «لا يصح إلا من بالغ عاقل» والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع
__________
(1) أخرجه أحمد (2/190) ، والنسائي في الأيمان والنذور/ باب كفارة النذر (7/29) ، والترمذي في الطلاق واللعان/ باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح (1181) ، وابن ماجه في الكفارات/ باب النذر في المعصية (2124) ، والحاكم (2/222) ، والطبراني في الكبير (18/179) . قال الترمذي: حسن صحيح.(15/208)
القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يكبر، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ» (1) .
قوله: «ولو كافراً» «لو» هذه إشارة خلاف وقد سبق شرحها يعني ولو كان الناذر كافراً فإن نذره ينعقد، فإن وفى به في حال كفره برئت ذمته، وإن لم يفِ به لزمه أن يوفي به بعد إسلامه؛ لأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية» فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أوفِ بنذرك» (2) ، والأمر هنا للوجوب، وإيجاب الوفاء عليه لنذره فرع عن صحته؛ لأنه لو كان غير صحيح ما وجب الوفاء به.
وقوله: «ولو كافراً» إشارة خلاف، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ لحديث عمر رضي الله عنه.
قوله: «والصحيح منه خمسة أقسام» مراده الذي ينعقد من النذر خمسة أقسام، وأما الذي لا ينعقد فهو ما عدا هذه الخمسة، وإن شئت فقل: هو ما لم تتم شروط انعقاده، فمثلاً لو قال قائل: لله علي نذر أن أصوم أمسِ، فهذا لا ينعقد؛ لأنه
__________
(1) أخرجه أبو داود في الحدود/ باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4398) ، والنسائي في الطلاق/ باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (6/156) ، وابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (2041) ، وصححه ابن حبان (142) ، والحاكم (2/59) ووافقه الذهبي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في الاعتكاف/ باب الاعتكاف ليلاً (2032) ، ومسلم في الأيمان/ باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم (1656) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(15/209)
محال، إذ إن صوم يوم أمس قد مضى، ولو قال صغير: لله علي نذر أن أصوم، لم ينعقد ـ أيضاً ـ فلا يدخل في الصحيح، فقول المؤلف: «والصحيح منه» يحترز به عما لم ينعقد؛ لأن ما لم ينعقد لا حكم له.
قوله: «المطلق مثل أن يقول: لله عليَّ نذر، ولم يسم شيئاً، فيلزمه كفارة يمين» هذا هو القسم الأول، المطلق يعني الذي لم يُعين فيه شيء، بأن يقول: لله علي نذر فقط، وسميناه مطلقاً؛ لأنه لم يعين فيه شيء.
كرجل قال: لله علي نذر، سواء هَمَّ أن يعين أم لم يهم؛ لأنه قد يقول: لله علي نذر، وفي نفسه أن يعين شيئاً ثم يتراجع ولا يتكلم، وقد لا يَهُم بشيء من الأصل، يقول: لله علي نذر، فقط، نقول: يلزمه كفارة يمين؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ: «كفارة النذر إذا لم يُسمَّ كفارة يمين» رواه ابن ماجه (1) ، وأخرجه مسلم بدون ذكر «إذا لم يسم» بلفظ: «كفارة النذر كفارة اليمين» (2) ، وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة.
__________
(1) أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في النذور والأيمان/ باب ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسمِّ (1528) وهو عند أبي داود وابن ماجه بلفظ «من نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين» . قال الترمذي: «حديث حسن صحيح غريب» .
(2) أخرجه مسلم في النذر/ باب في كفارة النذر (1645) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.(15/210)
الثَّانِي نَذْرُ اللِّجَاجِ وَالْغَضَبِ، وَهو تَعْلِيقُ نَذرِهِ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ الْمَنْعَ مِنْهُ، أَوِ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، أَوِ التَّصْدِيقَ أَوِ التَّكْذِيبَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ، وكَفَّارَةِ يَمِينٍ.
قوله: «الثاني نذر اللجاج والغضب» هذا النذر من باب إضافة الشيء إلى سببه، يعني النذر الذي سببه اللجاج، أي: الخصومة، أو المنازعة، أو ما يشبه ذلك، والغضب غليان دم القلب وفورانه، فينفعل الإنسان، وينذر، لكن ما تعريفه؟ قال:
«وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه» يعني أن يعلق الإنسان نذره بشرط يقصد المنع منه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فللَّه علي نذر أن أصوم سنة، وغرضه أن يمنع نفسه من ذلك؛ لأنه إذا تذكر صيام السنة امتنع.
أو يقول إنسان لمن يمتنع بيمينه ـ كابنه مثلاً ـ: إن فعلت كذا فلله علي نذرٌ أن أصوم سنة، فهذا ـ أيضاً ـ يسمى نذر اللجاج والغضب، فقصده بذلك المنع.
قوله: «أو الحمل عليه» عكس المنع منه، يعني ينذر ليحملَ نفسه على الفعل، مثل أن يقول: إن لم أفعل كذا فعبيدي أحرار، وأملاكي وقف، ونقودي هبة، والمقصود حمل نفسه على الفعل، فهذا يُسميه العلماء نذر اللجاج والغضب، وإن لم يكن فيه لجاج أو غضب، ولا مشاحة في الاصطلاح، فما دام سموه نذر اللجاج والغضب، فنحن نقول ما قالوا، ونسميه بما سموه.
قوله: «أو التصديق» بأن يحدثنا بحديث فقلنا: هذا ليس بصحيح، فقال: لله علي نذر إن كان كذباً أن أصوم سنة، لماذا قال هذا الكلام؟ قاله تصديقاً لقوله.(15/211)
قوله: «أو التكذيب» بالعكس، بأن يحدثه شخص بشيء، فيقول: أنت كذاب، إن كان ما تقوله صدقاً فعبيدي أحرار، فالمقصود التكذيب، يعني يؤكد أنه يكذِّب هذا الرجل بهذا القول.
قوله: «فَيُخَيَّرُ بين فعله وكفارة يمين» كاليمين، يعني كما لو حلفت على شيء، فإن فعلته فلا كفارة، وإن لم تفعله فعليك الكفارة، المهم نقول: هذا النذر إن شئت فافعل ما نذرت، وإن شئت فكفر كفارةَ يمين.
ودليل هذا الحديث الذي رواه سعيد في سننه (1) : «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» ، أما من جهة التعليل فقالوا: إن هذا بمعنى اليمين؛ لأنه لم يقصد بهذا النذر إلا المنع، أو الحمل، أو التصديق، أو التكذيب، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) ، ولنضرب مثالاً لذلك: رجل قال: لله عليَّ نذر إن فعلت كذا أن أصوم ثلاثة أيام، ففعل، فهل يلزمه صيام ثلاثة أيام أو كفارة يمين؟
الجواب: يخير، إن شاء صام ثلاثة أيام، وإن شاء كفر كفارة يمين؛ لأن هذا النذر حكمه حكم اليمين.
وإذا قلنا: إن حكمه حكم اليمين، فهل الأولى أن يفعل أو الأولى أن يكفِّر؟
__________
(1) أخرجه أحمد (4/433) ، والنسائي في الأيمان والنذور/ باب كفارة النذر (7/28) ، وعبد الرزاق (8/434) ، والبيهقي (10/70) ، وانظر: الإرواء (2587) .
(2) سبق تخريجه ص (153) .(15/212)
نقول: سبق أن المسألة بحسب المحلوف عليه، إن كان خيراً فالأفضل أن يفعل، وهنا في الغالب أنه خير؛ لأنه نذر، لكن مع ذلك لئلا نلزمه نقول: أنت مخير بين فعلك، وكفارة اليمين.
الثَّالِثُ نَذْرُ الْمُبَاحِ كَلُبْسِ ثَوْبِهِ، وَرُكُوبِ دَابَّتِهِ فَحُكْمُهُ كَالثَّانِي، وَإِنْ نَذَرَ مَكْرُوهاً مِنْ طَلاَقٍ أَوْ غَيْرِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يُكَفِّرَ وَلاَ يَفْعَلُهُ،..........
قوله: «الثالث نذر المباح، كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني» أي: يخير بين فعله وكفارة اليمين، مثاله: قال رجل: لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب، نقول له: أنت بالخيار، إن شئت البس الثوب، وإن شئت فكفر كفارة يمين.
ومن هذا النوع ما يفعله بعض الناس يقول: إذا نجحت فللَّه علي نذر أن أذبح شاة، فهل يلزمه أن يذبح الشاة، أو نقول: يخيَّر بين ذبحها وكفارة اليمين؟
في ذلك تفصيل، إذا كان قصد بذبح الشاة التصدق بها شكراً لله على النعمة فهذا طاعة، ويجب عليه أن يوفي به، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا قصد بذلك إظهار الفرح، ودعوة إخوانه وأصدقائه فهو يخير بين فعله وكفارة اليمين؛ لأن هذا من باب المباح وليس من باب الطاعة، أما لو قال: إن نجحت فللَّه علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام، فهذا طاعة؛ لأن الصوم قربة، لكن ذبح الشاة، وأكل لحمها، والعزيمة عليها، هذا من قسم المباح.
وقوله: «وركوب دابته» كذلك، قال: لله علي نذر أن أركب هذا البعير، أو أن أركب هذه السيارة، نقول: هذا نذر مباح، إن شئت فاركب، وإن شئت فلا تركب، وعليك كفارة يمين.(15/213)
والقاعدة أنه إذا نذر شيئاً مباحاً، فعلاً له أو تركاً له، فهو يخير بين أن يوفي بنذره، أو يكفر كفارة يمين.
قوله: «وإن نذر مكروهاً من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله» الأصل في الطلاق الكراهة، ولكنه قد يستحب، وقد يجب، وقد يحرم، وقد يباح، فتجري فيه الأحكام الخمسة، لكن الأصل فيه الكراهة، فإذا نذر إنسان أن يطلق زوجته، قال: لله علي نذر أن أطلق هذه الزوجة، نقول له: الأفضل أن تكفر كفارة يمين ولا تطلق.
وقوله: «أو غيره» أي: غير الطلاق، مثل لو قال: لله علي نذر أن آكل بصلاً، وأكل البصل مكروه، فنقول: الأفضل ألا تأكل وتكفِّر.
ولو قال: لله عليَّ نذر أن آكل ثوماً، فمثله.
الرَّابِعُ نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ كَشُرْبِ خَمْرٍ، وَصَوْمِ يَوْمِ الْحَيْضِ، وَالنَّحْرِ، فَلاَ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ وَيُكَفِّرُ.
قوله: «الرابع نذر المعصية» أن ينذر معصية لله ـ عزّ وجل ـ، مثل المؤلف لذلك بقوله:
«كشرب خمر» نذر إنسان أن يشرب الخمر ـ نعوذ بالله ـ فهذا نذر معصية، فجاء ليشرب الخمر فقلنا له: اتق الله! فهذا حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة (1) ، قال: إني نذرت، نقول له: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يعصي الله
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذر، باب النذر في الطاعة ... (6696) عن عائشة رضي الله عنها.(15/214)
فلا يعصه» (1) ، إذاً لا يجوز الوفاء به.
ولو قال: لله علي نذر أن أضرب فلاناً، بدون سبب، نقول: كَفِّرْ، ولا تفعل، فإن قال له فلان: اضربني، فيصير مباحاً، ويكون أسقط حقه، لكن في الأصل هو من نذر المعصية.
ولو نذر رجل أن يتعامل بالربا، قلنا: حرام عليه، وعليه كفارة يمين، حرام عليه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، وعليه كفارة يمين؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين» (2) .
قوله: «وصوم يوم الحيض» كامرأة قالت: لله علي نذر أن أصوم أول يوم من الحيض، نقول: هذا حرام؛ لأن الحائض يحرم عليها الصوم بإجماع المسلمين، استناداً إلى قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم» (3) ، فهذه المرأة لا يمكن أن تصوم يوم الحيض.
__________
(1) هذا لفظ حديث أخرجه البخاري في الأشربة/ باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ} ... } (5575) ، ومسلم في الأشربة/ باب بيان أن كل مسكر خمر ... (2003) بزيادة: «ثم لم يتب منها» عند البخاري «وإلاّ أن يتوب» عند مسلم، والحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (6/247) ، والنسائي في الأيمان والنذر/ باب كفارة النذر (7/26) ، وأبو داود في الأيمان والنذور/ باب من رأى عليه كفارة ... (3290) ، والترمذي في النذور والأيمان/ باب ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه لا نذر ... » (1525) ، وابن ماجه في الكفارات/ باب النذر في المعصية (2125) ، والحاكم (4/339) ، والطحاوي (3/42) ، وانظر: التلخيص الحبير (4/175، 176) ، وصححه الألباني كما في الإرواء (2590) .
(3) رواه البخاري في الحيض/ باب ترك الحائض للصوم (304) ، ومسلم في الإيمان/ باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري.(15/215)
قوله: «والنحر» قال: لله عليَّ نذر أن أصوم يوم النحر، نقول: هذا حرام ومعصية، وهل هناك عبارة أعم من قول المؤلف: «يوم النحر» ؟
الجواب: نعم، يوم العيدين؛ لأن يوم الفطر كيوم النحر، وهناك ـ أيضاً ـ أيام أخرى يحرم صومها، وهي أيام التشريق، المهم إذا نذر صوم يوم يحرم صومه، فهذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به.
ولو نذر أن لا يكلم عمه فهذا نذر معصية يحرم الوفاء به.
قوله: «فلا يجوز الوفاء به» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (1) ؛ ولأنه لو جاز أن يوفي بهذا النذر لكان كل من أراد أن يفعل معصية نذرها، وهذا يؤدي إلى انتهاك حرمات الله.
قوله: «ويكفِّر» أي: يكفر كفارة يمين؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» (2) ، وهذا الحديث احتج به الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وإسحاق بن راهويه، وصحَّحه الطحاوي، خلافاً لقول النووي ـ رحمه الله ـ: إنه ضعيف باتفاق المحدثين، لكن الإمام أحمد احتج به، واحتجاجه به يدل على صحته عنده، وكذلك صححه الطحاوي، وهو من الأئمة الذين يعتبر تصحيحهم، وعلى هذا فالحديث صحيح ويحتج به.
__________
(1) سبق تخريجه ص (215) .
سبق تخريجه ص (215) .
(2) سبق تخريجه ص (215) .(15/216)
لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن نذر المعصية لا كفارة فيه، ويحرم الوفاء به، واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، ولكن نقول: إنه ما دام قد ورد حديث فيه زيادة وهو صحيح، فإنه يجب الأخذ بهذه الزيادة، وهي كفارة اليمين.
والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن هذا الرجل نذر ولم يفعل، ونحن نقول: نذره انعقد؛ لأنه ألزم نفسه به، ولا يمكن أن يوفي به؛ لأنه معصية، وحينئذ يكون نذر نذراً لم يوفِه فعليه الكفارة، كما لو حلف أن يفعل معصيةً، فإننا نقول له: لا تفعلها، وعليك كفارة يمين، فما ذهب إليه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وإن كان من مفرداته أقرب إلى الصواب؛ أنه لا يفعل المعصية، وعليه كفارة يمين.
فلو نذر صيام يوم يحرم صومه، فهل يقضي ذلك اليوم ويكفر لفوات محله، أو لا يقضي؟ ظاهر الحديث أنه لا يقضي وأن عليه الكفارة فقط، فلو قال: والله لأصومن يوم العيد، وقلنا: لا يجوز أن تصوم، فهل يلزمه أن يصوم يوماً بدله مع الكفارة، كما هو المذهب، أو لا يلزمه؟ ظاهر النص أنه لا يلزمه؛ لأن أصل التعيين كان محرماً ومعصية.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ يفرقون فيقولون: إذا كان المنع لمعنى يتعلق بالفاعل فإنه لا قضاء، وإن كان لمعنى يتعلق بالزمان أو المكان فإن عليه القضاء.(15/217)
فلو نذرت امرأة أن تصوم يوم الحيض فنقول: لا تصوم، وعليها كفارة يمين، وهل تقضي؟ لا تقضي؛ لأنه لمعنى يتعلق بالفاعل فلا قضاء عليها.
أما لو نذرت أن تصوم يوم العيد فإنها لا تصوم لا لمعنى فيها، ولكن لمعنى يتعلق بالزمان.
المكان أيضاً، لو نذر إنسان أن يصلي في المقبرة، قلنا: لا تصلِّ؛ لأن هذا حرام، ولكن هل تقضي أو لا تقضي؟ فيه الخلاف، فعلى المذهب تقضي وعليك كفارة يمين؛ لأن هذا المعنى يتعلق بالمكان.
والراجح أنه لا يقضي، سواء تعلق بالزمان، أو المكان، أو الفاعل، وعليه كفارة يمين؛ لأن الأصل أن هذا النذر لم ينعقد.
الْخَامِسُ نَذْرُ التَّبَرُّرِ مُطْلَقاً أَوْ مُعَلَّقاً، كَفِعْلِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَ مَالِيَ الْغَائِبَ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا، فَوُجِدَ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الوَفاءُ بِهِ، إِلاَّ إِذَا نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، أَوْ بِمُسَمَّى مِنْهُ يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ قَدْرُ الثُّلْثِ.
قوله: «الخامس نذر التبرر مطلقاً أو معلقاً» التبرر فعل البر، كالتطوع فعل الطاعة، والتنسك فعل النسك، فنذر التبرر هو بمعنى قولنا: نذر الطاعة؛ لأن الطاعة بر.
قوله: «كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه» مثل: الصدقة، والعمرة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونحوها، فنذر الطاعة يجب الوفاء به؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) .
وظاهر كلام المؤلف أنه يشمل الواجب وغير الواجب،
__________
(1) سبق تخريجه ص (215) .(15/218)
فالصلاة منها فرض ومنها تطوع، فإذا قال: لله علي نذر أن أصلي الظهر، صارت واجبة عليه من وجهين: الواجب بأصل الشرع، والواجب بالنذر، ولو قال: لله علي نذر أن أؤدي زكاة مالي، كذلك، صار واجباً عليه من وجهين الشرع، والنذر، فإذا لم يزكِّ وجب عليه كفارة يمين مع الإثم، ولو لم ينذر لم يجب عليه كفارة اليمين، لكنه يأثم بترك الزكاة، هذا هو فائدة قولنا: إن النذر يتعلق بالواجب. وليس هذا تحصيل حاصل ولكن بالنسبة للصلاة يمكن أن يقال إنها لا ترد علينا لانه لو تركها كفر.
فالمهم أن نذر الواجب صحيح.
وقوله: «مطلقاً» المطلق مثل قوله: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، أو: لله علي نذر أن أقرأ جزءاً من القرآن.
وقوله: «أو معلقاً» مَثَّلَ له المؤلف بقوله:
«كقوله: إن شفى الله مريضي» أي: إن شفى الله مريضي فللَّه عليَّ نذر أن أتصدق بمائة ريال، فمتى شفي وجبت عليه، وإن مات لم يجب عليه شيء، وإن بقي مريضاً كذلك لم يجب عليه شيء، وإن شُفي بعد موت الناذر فليس عليه شيء؛ لأن الشرط لم يوجد في حياته، والأصل براءة الذمة.
لكن لو شفي، والناذر في حال جنون ـ نسأل الله العافية ـ فهل يلزمه شيء أو لا يلزمه؟ عندنا سبب وشرط، سبب وجوب الصدقة بهذه الدراهم وهو النذر، وشرط الوجوب وهو الشفاء، فسبب الوجوب وُجد من الإنسان في حال هو فيها مكلف، وشرط الوجوب وُجد في حال هو فيها غير مكلف، لكنه أهل للضمان،(15/219)
فالظاهر أنه يلزم وليه أن يتصدق بها عنه، كالزكاة تماماً، فإن الزكاة تجب على المجنون وتجب على الصغير.
ولو قال: لو شفى الله مريضي فللَّه علي نذر أن أصوم، ثم شُفي المريض في حال جنون الناذر، هذا هو محل الإشكال في الحقيقة.
فهذه تحتاج إلى نظر، فهل نقول: إن هذا الرجل لما أوجب على نفسه الصوم في حال عقله وجب أن يقضى عنه، أو يقال: إنه وجب عليه في حال ليس من أهل الصوم، بخلاف المال فإن المجنون تجب عليه الأموال إذا وجدت شروط الوجوب، كالزكاة، وضمان الأموال التي يتلفها، وما أشبهها؟
مسائل:
الأولى: هل الوفاء بالنذر على الفور؟ وهل حديث لا تدر في معصية يدل مفهومه على جواز النذر مع أنه قد صح النهي عنه؟
إذا كان مقروناً بشرط فهو على الفور، من حين يوجد الشرط يجب الوفاء به، وإذا كان مطلقاً ففيه خلاف، والصحيح وجوب الوفاء به فوراً.
والحديث يدل على انعقاده أو أن المعنى لا نذر يوفى.
الثانية: هل هناك فرق بين اليمين وبين النذر؟
نعم، بينهما فرق، لو نذر أن يصلي ركعتين وجب عليه أن يصلي ركعتين، ولو حلف أن يصلي ركعتين لم يجب عليه، واستحب أن يفعل.(15/220)
الثالثة: إذا عجز عن نذر الطاعة فإن كان له بدل فعل بدله، وإن لم يكن له بدل فإنه يبقى معلقاً في ذمته حتى يشفيه الله، فإن لم يكن يرجى زوال العجز فينظر فيه، إذا كان ـ مثلاً ـ صياماً يُكفر عنه، كالواجب بأصل الشرع، وإن كان صلاة فالعجز عنها فيما يظهر لا يتصور؛ لأنه يصلي على حسب حاله.
الرابعة: لو علق النذر بالمشيئة فقال: لله علي نذر أن أفعل كذا إن شاء الله.
ففي النذر الذي حكمه حكم اليمين ليس عليه حنث، وإذا كان فعلَ طاعة، نظرنا إذا كان قصده التعليق فلا شيء عليه، وإذا كان قصده التحقيق أو التبرك وجب عليه أن يفعل، حسب نيته.
فائدة: إذا قال صاحب الفروع: (على الأصح) يعني أن المسألة التي يتكلم عليها فيها روايتان عن الإمام أحمد، أصحهما هي التي قال فيها: (على الأصح) . ويعني أصحهما في المذهب وليس أصحتهما عن الإمام أحمد.
وإذا قال: (في الأصح) يعني الوجهين عن أئمة أصحاب الإمام أحمد.
الخامسة: إذا نذر الإنسان نذراً معيناً بيوم أو بشهر، ثم جن قبل أن يصل إلى ذلك اليوم، يعني صادف ذلك اليوم أنه مجنون، فلا قضاء عليه بالنسبة للعبادات البدنية، وأما بالنسبة للعبادات المالية، كأن يقول: إن قدم زيد فللَّه علي نذر أن أتصدق بكذا، فقدم وهو مجنون، ذكرنا فيما سبق أنه تلزمه الصدقة؛ لأن(15/221)
الواجب هنا في المال، فهو كالزكاة، تجب على المجنون، ولا تجب عليه الصلاة ولا الصيام.
أما لو مات الناذر قبل أن يوجد الشرط فليس عليه شيء لا عبادة مالية ولا بدنية يعني لا صدقة ولا صوم ولا يقضى عنه شيء.
السادسة: فلما آتاهم من فضله أخلفوا الأمرين كليهما الصدقة والصلاة فقوله: {بَخِلُوا بِهِ} هذا ضد الصدقة، وقوله: {بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] هذا ضد الصلاة {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *} نعوذ بالله إلى الموت {يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] يقال: إن هذه الآية نزلت في رجل من الصحابة يقال له ثعلبة بن حاطب لكن هذا ليس بصواب بل هو باطل وضعيف وقد كتب في هذا طالب من الجامعة الإسلامية رسالة علمية بَيَّنَ فيها أن هذا كذب وأن هذا الصحابي لم يقع منه هذا الأمر.
قوله: «أو سلَّم ماليَ الغائب فللَّه عليَّ كذا» أو يقول: إن نجحت فللَّه عليّ نذر كذا.
قوله: «فوجد الشرط لزمه الوفاء به» والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) ، وهذا يشمل الطاعة سواء كانت معلقة بشرط، أو مطلقة.
قوله: «إلا إذا نذر الصدقةَ بماله كله، أو بمسمَّى منه يزيد على
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي/ باب حديث كعب بن مالك وقول الله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (4418) ، ومسلم في التوبة/ باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (2769) عن كعب بن مالك رضي الله عنه.(15/222)
ثلث الكل، فإنه يجزئه قدر الثلث» استثنى المؤلف من قوله: «لزمه الوفاء به» إذا نذر الصدقة بماله كله فإنه يجزئه قدر الثلث، مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فللَّه عليّ نذر أن أتصدق بجميع مالي، وهذا نذر تبرر معلق، أو يقول: لله عليّ نذر أن أتصدق بجميع مالي، وهذا نذر تبرر مطلق، فيجزئه قدر الثلث، واستدل الأصحاب ـ رحمهم الله ـ لهذا بحديث كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ، وحديث أبي لبابة بن عبد المنذر ـ رضي الله عنه ـ.
أما كعب بن مالك فتخلف عن غزوة تبوك بدون عذر، ولما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من تبوك جاء المنافقون يعتذرون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان يعذرهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله، ويفرحون بهذا؛ لأنهم أهل ظاهر، فيفرحون بالظاهر، ويقولون: يكفينا استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لنا، وما علموا أن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]ـ والعياذ بالله ـ أما كعب بن مالك، ـ رضي الله عنه ـ وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم فصدقوا، وقالوا: ما لنا عذر، وكعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ تكلم بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلام فصيح عجيب؛ لأنه أشب القوم وأجلدهم، وقال: إني أوتيت جدلاً، يعني أقدر أن أخاصم، وأعرف أن أتخلص، ولكن لا يمكن أن أتقدم إليك بعذر اليوم فتعذرني، ثم يفضحني الله ـ تعالى ـ غداً ـ الله أكبر ـ انظر الإيمان واليقين، المنافقون قال الله فيهم: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا(15/223)
عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *} [التوبة] ، أما هذا فلإيمانه أعطى الصدق، وقال: ما لي عذر، وما ملكت راحلتين قط في غزوة كهذه، ولكن أخذه التسويف، لما خرج الناس أول يوم، قال: أنتظر غداً ألحقهم، في اليوم الثاني قال: غداً ألحقهم، حتى ذهب الوقت، فهجره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وصار لا يكلمه، حتى أنه يقول: آتي وأسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، وأقول: أَحَرَّكَ شفتيه بردِّ السلام أم لا؟ مع حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لكل مقام مقال، ومع ذلك كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يلاحظه، إذا كبَّر للصلاة لاحظه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونظر إليه، فإذا أقبل عليه كعب أعرض؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يراعي أصحابه خير رعاية، بقي على هذه الحال يخرج إلى السوق يكلم الناس وما يكلمونه، حتى أبو قتادة ابن عم كعب بن مالك وأحب الناس إليه، دخل عليه في بستانه وسلم عليه، فلم يرد عليه السلام، فقال له: أنشدك الله، أتعلم أني أحب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يتكلم، فلما ناشده الله لم يكلمه، ولكن قال: الله أعلم، وهذه كلمة تصلح خطاباً، وغير خطاب، فلما مضى عليهم أربعون ليلة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم أن يفارقوا زوجاتهم، فيتركونهن يذهبن لأهلهن، فقال كعب ـ لما جاءه رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك ـ قال: هل أطلقها أم أعتزلها؟ فلو قال: طلقها، لطلَّقَها، لكن قال: بل تعتزلها، فذهبت المرأة إلى أهلها، وبقوا خمسين(15/224)
ليلة، والناس هاجرون لهم، ولا يتكلمون معهم، وفي أثناء هذه المدة جاء خطاب من ملك غسان إلى كعب بن مالك ـ فتنة عظيمة ـ قال له: إنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وطلب حضوره إليه حتى يكرمه ويعزه، فلما قرأ الكتاب لم يحتفظ به، بل مباشرة جعله في التنور وأوقد به؛ لئلا تخدعه نفسه فيستجيب، فنزلت توبتهم من الله ـ عزّ وجل ـ في ليلة من الليالي وبعد خمسين ليلة، جاء الفرج من الله ـ عزّ وجل ـ الله أكبر {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *} [التوبة: 118] .
فلما أصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر الناس بتوبة الله عليهم ـ الله أكبر ـ وكان كعب لا يصلي مع الجماعة؛ لأنه مهجور، فذهب رجل من المسلمين إلى سلع ـ جبل في المدينة معروف ـ ونادى بأعلى صوته: أبشر يا كعب بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذ ولدتك أمك! أبشر بتوبة الله عليك! وذهب رجل على فرس يبشره، وانظر إلى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كيف فرحهم بتوبة الله تعالى على إخوانهم، وعلى أصحابهم، لكن كان صاحب الصوت أسرع، فصارت البشارة لصاحب الصوت، فأعطاه كعب بن مالك حلته، فلما جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ودخل المسجد قام إليه طلحة بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ يهنئه بتوبة الله عليه، قال: فكنت لا أنساها لطلحة أن كان أول الصحابة يهنئه ـ رضي الله عنهم ـ، أما النبي ـ عليه الصلاة والسلام فإنه لما رآه كعب وجد وجهه يتهلل، كأنه(15/225)
قطعة قمر فرحاً بنعمة الله عزّ وجل بتوبته على هؤلاء الثلاثة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ لا شك أنه أشفق الناس على أمته وأصحابه، وأشدهم حباً للخير لهم، فكانت هذه القضية مما نزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وانظر المحنة تعقبها المنحة! كل محنة من الله ـ عزّ وجل ـ إذا صبرت عليها فأبشر بعقباها منحة، فبعد هذا قال الله ـ عزّ وجل ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *} [التوبة] ، فجعلهم أسوة لغيرهم في الصدق، ولما تاب الله عليهم، قال كعب: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة، فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» متفق عليه (1) ، وعند أبي داود (2) «أنه يجزئه الثلث» ، وقد سمى النبي صلّى الله عليه وسلّم الثلث كثيراً، فقال لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «الثلث والثلث كثير» (3) .
وكذلك أيضاً: أبو لبابة بن عبد المنذر ـ رضي الله عنه ـ قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يجزئك منه الثلث» (4) وقصة أبي لبابة ذكرها
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور/ باب فيمن نذر أن يتصدق بماله (3321) .
(2) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2743) ، ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1629) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أخرجه أحمد (3/502) وعبد الرزاق (5/406) ، وسعيد في السنن (5/206) ، وابن حبان (8/164) ، والحاكم في المستدرك (3/733) ، والبيهقي (10/67) .
(4) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب في الرخصة في ذلك (1678) ، والترمذي في المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر (3675) ، والدارمي في الزكاة/ باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده (1601) ، والحاكم في المستدرك (1/574) ، والبيهقي (4/180) ، والحديث صححه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني كما في المشكاة (3/313) .(15/226)
بعض الناس في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وليس هذا بصحيح، والصحيح أنها كانت في قصة إشارته لحلفائه بني قريظة حين استشاروه: هل ينزلون على حكم النبي عليه الصلاة والسلام؟ فأشار إلى حلقه، يعني أنه الذبح، فعرف ـ رضي الله عنه ـ أن في ذلك خيانة، فربط نفسه بسارية المسجد، وقال: لا أطلقها حتى يحلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن يتوب الله عليه، فتاب الله عليه، وحلها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما عرف صدق توبته، ثم قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يجزئك الثلث» ، ففي هذا دليل على أنه إذا نذر الصدقة بماله فإنه يجزئه الثلث.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب عليه أن يتصدق بجميع ماله؛ لأن الصدقة بجميع المال لمن علم من نفسه التوكل جائزة، بل هي سنة فعلها أبو بكر رضي الله عنه (1) ، فتدخل في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (2) ، وأجابوا عن حديث كعب بن مالك وأبي لبابة رضي الله عنهما بأنه ليس فيهما التصريح بالنذر، بل قد يكون ذلك من باب شكر النعمة، وهي توبة الله عليهما، وليس فيه أن كلاًّ منهما قال: إن لله عليَّ نذراً، بل قال: إن من توبتي ـ أي: من شكر توبتي ـ أن أفعل كذا وكذا، فهو من
__________
(1) سبق تخريجه ص (227) .
(2) سبق تخريجه ص (215) .(15/227)
باب نية الخير شكراً لله عزّ وجل، وفرق بين من يلتزم بالنذر، وبين من يريد بدون التزام.
والحقيقة أن هذه المناقشة قوية، بمعنى أنه ليس في الحديثين دلالة صريحة على أنهما نذرا لله بذلك، فلا شك أن الإنسان إذا أوفى بنذره وتصدق بجميع ماله مع حسن ظنه بربه، وصدق اعتماده عليه، وأن له جهات يُمكن أن يقوم بواجب كفايته وكفاية عائلته، لا شك أن صدقته بجميع ماله أبرأ لذمته وأحوط، وأما الاقتصار على الثلث مطلقاً ففي النفس منه شيء.
وقوله: «أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل» (مسمى منه) يعني مُعَيَّناً من ماله يزيد على ثلث الكل.
وقوله: «فإنه يجزئه قدر الثلث» يعني ثلث الكل، مثال ذلك قال: لله عليَّ نذر أن أتصدق بهذه السيارة، فنظرنا ما عنده من المال فإذا السيارة تساوي عشرين ألفاً، وعنده عشرة آلاف فقط، فيجزئه ثلث الكل وهو عشرة آلاف، وتبقى السيارة له، أو نقول: بعها ثم تصدق بنصف قيمتها، ولا يلزمه أن يبيعها؛ لأنه لو باعها سوف يأخذ نصف القيمة، لكن إذا باعها فهو أحسن من جهة؛ لأنه أخرجها لله وطابت نفسه بها، فكونها لا تدخل ملكه أحسن.
وقوله: «أو بمسمى منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث» هذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، ولكن المذهب المشهور عند المتأخرين أنه يلزمه أن يتصدق بالمسمى، وإن زاد على الثلث، ففي مثالنا هذا يلزمه أن يتصدق بالسيارة كلها، ويقولون: إن الفرق بينه وبين الكل، أن الكل عبارة عن كل(15/228)
المال، وليس ذلك بالأمر المشروع؛ بخلاف الصدقة بشيء معين فإنه مشروع ولو كان أكثر من الثلث، فالمسألة فيها ثلاثة أشياء:
أولاً: أن ينذر الصدقة بجميع ماله، فمذهب الحنابلة يجزئه الثلث، وقول أكثر أهل العلم أنه لا بد أن يتصدق بماله كله.
ثانياً: أن ينذر الصدقة بشيء معين يزيد على الثلث، فالمذهب يلزمه أن يتصدق به ولو زاد على الثلث، والذي مشى عليه المؤلف أنه لا يلزمه أكثر من الثلث.
ثالثاً: أن ينذر الصدقة بشيء من ماله مشاع، مثل أن يقول: ثلث مالي، نصف مالي، وما أشبه ذلك، فيتعين ما قاله على ظاهر المذهب، وعلى كلام المؤلف لا يلزمه أكثر من الثلث.
وهل إذا تصدق بالثلث عليه كفارة؟
ليس عليه كفارة؛ لأنه يقول: «يجزئه» ، وما دام يجزئه فقد أوفى بنذره فلا كفارة عليه.
وَفِيمَا عَدَاهَا يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، وَإِنْ نَذَرَ أَيَّاماً مَعْدُودَةً لَمْ يَلْزمْهُ إِلاَّ بِشَرْطٍ أَوْ نِيَّةٍ.
قوله: «وفيما عداها يلزمه المسمى» أي: في ما عدا المسألة المذكورة، وهي إذا نذر الصدقة بماله كله، أو بمسمى منه يزيد على الثلث، فإنه يلزمه المسمى؛ أي: المعين ولو كثر، فلو فرضنا أن رجلاً عنده مليون ريال، وقال: لله عليّ نذر أن أتصدق بثلاث مائة ألف، فهل يلزمه أو لا؟
يلزمه؛ لأنه أقل من الثلث، ودليله عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (153) .(15/229)
قوله: «ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع» يعني لزمه أن يصوم متتابعاً، ونذر صوم الشهر على قسمين:
الأول: أن ينذر شهراً بعينه، كربيع الأول ـ مثلاً ـ فهذا يلزمه التتابع؛ لضرورة التعيين فما يمكن أن يصومه إلا متتابعاً.
الثاني: أن ينذر شهراً مطلقاً، فيقول: لله علي نذر أن أصوم شهراً، فالمؤلف يرى أنه يلزمه التتابع، وهو المذهب، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزمه التتابع، وهذه المسألة فيما إذا لم يكن له نية، أما إن كان له نية فعلى ما نوى، أو يكون له شرط، فعلى ما شرط، يعني لو قال: أنا من نيتي أن أصوم شهراً متتابعاً، قلنا: يلزمك التتابع، أو صرح بالشرط فقال: لله علي نذر أن أصوم شهراً متتابعاً، فيلزمه التتابع.
والصحيح في القسم الثاني أنه لا يلزمه التتابع، ودليل ذلك أنه لو كان الشهر عند الإطلاق يستلزم التتابع لكان اشتراط التتابع في قوله تعالى: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لغواً لا حاجة إليه، فلما اشترط الله التتابع في الشهرين علمنا بأن الشهر عند الإطلاق لا يستلزم التتابع، وهذا هو الصحيح، فإذا نذر قال: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أصوم شهراً، وشفى الله مريضه، فإننا نقول له: صم شهراً، فإذا سألنا: هل أتابع الصوم؟ قلنا: لا يلزمك إلا إن كنت نويت أو اشترطت.
وقوله: «لزمه التتابع» هل يلزمه أن يصوم ثلاثين يوماً، أو لا يلزمه إلا تسعة وعشرون يوماً؟ نقول: إن ابتدأ الصوم من أول يوم من الشهر لم يلزمه إلا الشهر، سواء كان تسعة وعشرين يوماً(15/230)
أم ثلاثين يوماً؛ لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، فسماه الله شهراً مع أنه قد يكون تسعة وعشرين، وقد يكون ثلاثين يوماً، وإن ابتدأه من أثنائه، مثل أن يبتدئ الصوم في الخامس عشر، فقيل: يلزمه ثلاثون يوماً؛ لتعذر البناء على الشهر، وقيل: بل يلزمه ما كان عليه الشهر ولا يلزمه ثلاثون يوماً، وعلى هذا القول فإذا ابتدأ الصوم في اليوم الخامس عشر من هذا الشهر انتهى في اليوم الرابع عشر من الشهر الذي يليه، فإذا فرضنا أن هذا الشهر الذي ابتدأ فيه الصوم كان ناقصاً فإنه يصوم تسعة وعشرين يوماً، وهذا القول هو الصحيح، أنه لا يلزمه إلا شهر هلالي، سواء ابتدأ من أثناء الشهر، أو من أول الشهر.
وإذا قلنا بلزوم التتابع، يعني في الحال التي يلزمه التتابع إذا قطع التتابع، بأن أفطر يوماً من الشهر، فهل يستأنف أو يتم؟
الجواب: فيه تفصيل، إن كان لعذر لم يستأنف وبنى على ما مضى، مثل رجل شرع في الصوم فصام عشرة أيام ثم مرض مرضاً يبيح له الفطر، فأفطر خمسة أيام، فيكمل على العشرة الأولى؛ لأنه أفطر لعذر، وكذلك لو سافر بعد أن صام عشرة أيام وأفطر في السفر، ثم عاد من السفر، فإنه يبني على ما مضى؛ لأن السفر عذر يبيح الفطر حتى في الصيام الواجب بأصل الشرع، وهو رمضان، فإن سافر ليفطر، نقول: يحرم عليك أن تفطر؛ لأنه يلزمك التتابع، ولا تتابع مع الفطر؛ فإذا أفطر يلزمه الاستئناف؛ لأنه أفطر لعذر لا يبيح الفطر.(15/231)
في مثل هذه الحال، لو أن أحداً استفتاك: هل يلزمك الاستفصال؟ أو تقول: ابنِ؟ أو تقول: استأنف؟
هنا يجب على المفتي الاستفصال؛ لأنه لا يتم الحكم إلا بمعرفة الحال، كما لو سألك سائل فقال: هلك هالك عن بنت، وأخ، وعم شقيق، فالبنت ما يحتاج أن نستفصل عنها، والأخ نستفصل، نقول: هل هو لأم أو لغير أم؟ والعم معروف أنه شقيق؛ لأنه إذا قال: الأخ لأم، قلنا: ليس له شيء، والذي أسقطه البنتُ، الفرعُ الوارثُ، والباقي للعم؛ لأنه عاصب وهو «أولى رجل ذكر» ، وإن قال: إن الأخ شقيق، أو لأب، قلنا: المال الباقي للأخ، والعم يسقط.
ولو سألني سائل قال: هلك هالك عن ابن وأب، فما يحتاج أن أستفصل: هل الابن رقيق، أو حر، أو قاتل، أو غير قاتل؟
إذن نأخذ من هذا قاعدة: أنه لا يلزمني السؤال عن وجود المانع، لكن يلزمني السؤال عن تحقق الشرط؛ لأن المانع الأصل عدمه، والشرط الأصل عدمه، ولهذا أتحقق من وجوده، وهذه مسألة في الحقيقة يحتاج إليها طالب العلم عند الفتوى، فنقول: السؤال عن وجود المانع ليس بواجب، والسؤال عن وجود الشرط واجب؛ لأن الأصل فيهما العدم.
قوله: «وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه» أي: التتابع «إلا بشرط أو نية» الدليل على أنه يلزمه إذا اشترط قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وإن لم يتضح(15/232)
لك ذلك، فقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، وهذا شيء عاهدت الله عليه أن يكون متتابعاً، فتابعه.
فإذا قال قائل: لماذا لا تجوِّزون لي التفريق؛ لأنه أسهل؟ ومن الذي قال لكم: إن التتابع من البر حتى تلزموني به؟
فالجواب: لو راعيت أيها الناذرُ الأسهلَ لم تنذر أصلاً، أنت الذي ألزمت به نفسك، وأما التتابع فإنه من البر؛ لأن الله تعالى اشترطه في الكفارة، ولولا أنه محبوب إلى الله ـ عزّ وجل ـ ما اشترطه، ثم على فرض أنه ليس من البر فأنت نذرت لله ـ عزّ وجل ـ عبادة موصوفة بصفة غير محرمة، فتكون الصفة تابعة للموصوف، فإذا نذرت شهرين متتابعين، والتتابع غير محرم، وصوم الشهرين مشروع بالنذر فالتتابع مشروع، فيلزمك الوفاء به على ما شرطت.
والدليل على أنه يلزمه التتابع إذا كان بنية الحديث الأصل الذي يعتبر عمدة وعماداً لكل الأعمال الصالحة، وهو قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه(15/233)
صفحة فارغة(15/234)
كِتَابُ القَضَاءِ
قوله: «القضاء» في اللغة إحكام الشيء والفراغ منه، ويطلق بمعنى التقدير، فإذا كان أمراً شرعياً فالقضاء بمعنى الإحكام، وإذا كان أمراً مُقدراً فإما أن يراد به التقدير الأزلي، أو الفراغ من الشيء، فقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ، أي: فرغ منهن، وقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] أي: قدرناه في الأزل، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، أي: شرع شرعاً محكماً، فرضاً على العباد.
أما في الشرع فالقضاء يتضمن ثلاثة أمور: تبيين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الحكومات أو الخصومات.
فقولنا: «تبيين الحكم الشرعي» جنس يدخل فيه الفتيا؛ لأن المفتي يبين الحكم الشرعي، ولهذا لو قلت: القضاء شرعاً تبيين الحكم الشرعي، ما صح الحد والتعريف؛ لأنه غير مانع فيدخل في المُعرَّف ما ليس منه كالفتيا، فإن المفتي يبين الحكم الشرعي.
وقولنا: «الإلزام به وفصل الخصومات» يخرج به الفتيا، فإن المفتي لا يُلزم، وهل يفصل الحكومات أو لا؟ لا يفصلها، لكن لو أن المفتي حُكِّمَ ـ أي: تحاكم إليه اثنان ـ وقالا: رضيناك حكماً بيننا، وحكم بينهما صار حكمه كحكم القاضي ملزماً،(15/235)
ولكنه إذا لم يُحكَّم، ولم ينصب من قبل ولي الأمر، فإنه مُبيِّن لا ملزم، هذا هو الفرق بين المفتي والقاضي.
وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَلْزَمُ الإِمَامَ أَنْ يَنْصِبَ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِياً،.......
قوله: «وهو فرض كفاية» أما كونه
فرضاً فلأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر به، فقال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، فأمرنا إذا حكمنا أن نحكم بالعدل، وأمر نبيه داود عليه الصلاة والسلام أن يحكم بين الناس، وهذا يدل على أنه فرض، وأما كونه فرض كفاية فلأن المقصود به الفعل دون الفاعل، وقد بيناه في نظم القواعد (1) ، وأنه إذا كان المقصود الفعل فهو فرض كفاية، وإن كان المقصود الفاعل فهو فرض عين، أو سنة كفاية وسنة عين، حسب الأمر، فالقضاء فرض كفاية؛ لأن المقصود إيجاد قاضٍ يحكم بين الناس، وليس المقصود أن كل واحد من الناس يكون قاضياً، فالمقصود به الفعل، أي: أن يوجد الحكم بين الناس، بقطع النظر عن عين الفاعل.
قوله: «يلزم الإمام» انتقل المؤلف إلى من يوجه إليه هذا الفرض، فيوجه إلى طائفتين: إلى الإمام، وإلى المأمور، يعني إلى الإمام الذي هو الآمر، وإلى المأمور الذي هو المُولَّى، فإذا قال الإمام لشخص: كن قاضياً في هذا البلد، صار القضاء في حق هذا الشخص فرض عين كما سيأتي.
__________
(1) منظومة أصول الفقه وقواعده ص (7) .(15/236)
وقوله: «يلزم الإمام» فمن الإمام؟
الإمام ولي الأمر، يعني السلطان الأعلى في الدولة، والآن الدول تختلف، بعضها السلطان الأعلى في الدولة يُسمى ملكاً، وبعضها يسمى رئيساً، وبعضها أميراً، وبعضها سلطاناً، وبعضها شيخاً، فالمهم المعاني، فإذا كان هذا هو السلطة العليا في الدولة فهو الإمام.
وقوله: «يلزم الإمام» لأن الإمام في الحقيقة خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واختلف العلماء، هل يجوز أن أقول: خليفة الله أو لا يجوز؟
فقال بعض العلماء: يجوز أن تقول: خليفة الله، لكنه من باب إضافة الشيء إلى فاعله، بمعنى مخلوف الله، يعني أن الله استخلفك في الأرض، وجعلك خليفةً، وليس المعنى أن الله ـ تعالى ـ وكَّلك على عباده؛ لأنه عاجز عن تدبيرهم، كلا، لكن المعنى أن الله جعلك خليفة في الأرض، تخلفه في عباده، بمعنى أن تقيم شرعه فيهم، وقد قال الله تعالى لداود عليه السلام: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] .
وقال الشاعر يخاطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
خليفة الله ثم اللَّه يحفظه
واللَّه يصحبك الرحمن في سفر
إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
من الخليفة ما نرجو من المطرِ
فقال: خليفة الله، وأقره ـ حسب الرواية ـ وما أنكره.
وقال بعض العلماء: لا يجوز؛ لأن خليفة الإنسان لا يكون إلا عند غيبة الإنسان المُخلِّف، ولهذا قال موسى لهارون ـ عليهما(15/237)
الصلاة والسلام ـ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ غاب لميقات ربه.
ولكن الصحيح الأول، وأنه يجوز أن نقول: خليفة الله، لأن الله استخلفه في عباده ليقوم بعدله، ولا يعني ذلك أن الله تعالى ليس بحاضر، فالله ـ عزّ وجل ـ فوق عرشه، ويعلم كل شيء، وفرق بين استخلاف موسى لهارون عليهما السلام، وبين استخلاف الله ـ تعالى ـ هذا الخليفة في الأرض.
والذين يقولون: لا يجوز، يقولون: إنك تقول: خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنك خلفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمته علماً، وعملاً، ودعوة، وسياسة، يعني أن الخليفة يجب أن يكون خالفاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الأمور الأربعة، العلم، والعمل، والدعوة، والسياسة، فمسؤولية الخليفة ليست هينة.
فالعلم بمعنى أن يكون عالماً بالشريعة، ولهذا كان الخلفاء في عهد السلف الصالح هم العلماء، فإن عجز فإنه يجب أن يكون له بطانة ذات علم بشريعة الله، ويجب أن تكون هذه البطانة عالمةً بأحوال العصر، وأن يكون لها قدرة على تطبيق الحوادث العصرية على الأصول الشرعية؛ لأن بعض الناس عالم، لكن لا يعلم أحوال الناس ومتطلبات العصر، فتجده يريد أن يفرض ما يعلمه دون النظر إلى الواقع، وهذا خطأ، بل الواجب على العالم أن يكون مع علمه مربياً، بمعنى أنه ينظر إلى الواقع ليطبقه على الأصول الشرعية، ولسنا نقول: ينظر إلى الواقع ليلوي أعناق الأصول الشرعية إليه، بل ليحمل الواقع على الأصول الشرعية،(15/238)
والحمد لله، فإن الدين الإسلامي لا يمكن أن تحدث أي حادثة إلى يوم القيامة إلا وفيها حَلٌّ في الدين الإسلامي، علمه من علمه، وجهله من جهله، لكن الذي يفوتنا إما القصور وإما التقصير، أما أن توجد حادثة إلى يوم القيامة لا يوجد لها حل في الشريعة! فهذا مستحيل؛ لأن الله جعل هذا الدين باقياً إلى قيام الساعة، فلا بد أن يكون فيه حلول لمشاكل العالم، وإلا ما صح أن يكون ديناً، أو شريعة إلى يوم القيامة.
وأما أن يخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمل، يعني أن يكون قدوة صالحة في عمله، وعباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، وسلوكه؛ ليكون أسوة؛ لأن اسمه خليفة وإمام، خليفة لمن سبقه، وإمام لمن لحقه.
وأما الدعوة فأن يكون إماماً في الدعوة إلى الإسلام، فيكاتب زعماء الكَفرة، يدعوهم إلى الإسلام، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكاتبهم يدعوهم إلى الإسلام.
فإنه كاتب الملوك والزعماء والأمراء في عهده، كتب إلى المقوقس في مصر، وإلى هرقل في الشام، وإلى كسرى في العراق (1) ، وإلى غيرهم، وهذا من وظائف الإمام، فإن لم يباشره بنفسه فليجعل من يباشره وينوب عنه، بأن يكوِّن لجنةً من أهل العلم يتولون هذا الأمر، ويكون لديهم العلم بالشرع والواقع، وسعة الأفق، وحسن الأسلوب، وعرض الدين
__________
(1) انظر: المصنف لابن أبي شيبة (7/347) ، والسيرة لابن هشام (4/253، 254) ، والطبقات الكبرى لابن سعد (1/134) ، والسيرة لابن حبان (292) .(15/239)
الإسلامي على الوجه الأكمل، الذي يجعل القلوب تميل إليه؛ لأنه دين الفطرة.
كذلك ـ أيضاً ـ مما يتصل بالدعوة حماية الإسلام، بالدفاع عنه بكل ما يستطيع، أولاً: بمنع ما ينقص الإسلام أو ينقضه، وذلك بمنع الحرب التي تقام بين حين وآخر، إن صح أن أقول: بين حين وآخر؛ لأن الصواب أن الحرب قائمة بين الإسلام والكفر منذ بدأ الإسلام.
والحرب التي حورب بها الإسلام تنقسم إلى قسمين: حرب مادية بالسلاح والعتاد، وهذا لا أعتقد أن أحداً من المسلمين يتقاعس عنه، بل لو رأوا العدو يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، لقاموا إليه وعرفوا عداوته، وهذا واجب على الإمام والخليفة أن يكوِّن جيشاً قادراً على دفاع العدو بقدر المستطاع؛ لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] .
وهناك حرب بسلاح أخفى وأنكى وأشد، وهي الحرب في الفكر والعقيدة والأخلاق، في الفكر يغزون المسلمين بأفكار هدامة يأخذونها، إما من ملحدين، وإما من منافقين.
في العقيدة ـ أيضاً ـ هناك عقائد تنتمي إلى الإسلام غير الأفكار التي ترد من الملاحدة والزنادقة، عقائد منحرفة كما ذكرها شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية في الأصول الخمسة التي كان أهل السنة وسطاً فيها بين طوائف هذه الأمة، فلا بد أن تحارب هذه العقائد الفاسدة.
الحرب بالأخلاق هذا ـ أيضاً ـ صعب؛ لأن النفوس ميالة(15/240)
إلى ما تدعو إليه هذه الفئة، التي تسلِّط شررها ـ ولا أقول: أضواءها ـ على أهل المروءة والأخلاق العالية؛ لتهدم مروءتهم وأخلاقهم، ويتمثل هذا في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، ولذلك تجد أعداء المسلمين يغزون المسلمين بمثل هذا، تأمَّل صحفهم، تأمَّل إذاعاتهم، وتأمَّل ـ أيضاً ـ ما ينشرونه بين المسلمين من المجلات التي فيها أزياء، لا أقول: إنها جديدة على أزيائنا، واستعمالها مخالف لعاداتنا، ولكني أقول: إنها أحياناً تخالف اللباس الشرعي، فيجب أن يحمى الإسلام من هذه الأشياء.
هناك ـ أيضاً ـ شيء آخر يغزون المسلمين به وهو الاكتساب، بحيث يغرون الناس على الميسر والربا وغير ذلك، بطرق كثيرة، فيدخل في حماية الدين الإسلامي أن نبين هذا القسم الثاني، الذي هو حرب الفكر والعقيدة والأخلاق والمعاملات، وذلك بأن نبين فساد هذه الأشياء؛ لأن بيان فسادها كسر لهذه الأسلحة، ثم نأتي بما هو أحسن منها فيما جاء به الإسلام؛ لأن كوننا نهاجم هذه الأسلحة بدون ذكر البديل خطأ؛ لأن الناس يقولون: أين البديل؟ ولهذا جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يرشد إلى هذه الطريق، وهي أنك إذا أبطلت منكراً فاذكر ما يحل محله من المعروف، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا} ، هذا منكر، والبديل: {وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ لمن جاءه بالتمر الجيد الذي كان يأخذ الصاع منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة ـ(15/241)
قال: «لا تفعل» ، وفي رواية: «عينُ الربا» (1) رده، ثم أرشده قال: بع التمر الجمع ـ أي: الرديء ـ بالدراهم، ثم اشتر «بالدراهم جنيباً» (2) ـ يعني تمراً طيباً ـ فهكذا ينبغي للداعية إذا سد على الناس باب الشر أن يفتح بدله من أبواب الخير، حتى لا يقع الناس في حيرة.
كذلك ـ أيضاً ـ مما يتصل بالدعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا من وظيفة الإمام، والمعروف كل ما أمر به الشرع، والمنكر كل ما نهى عنه الشرع، هذا هو الضابط، وسمي الأول معروفاً؛ لأن الشرع عرفه وأقره، والثاني منكراً؛ لأن الشرع أنكره، فإن لم يقم بذلك بنفسه وكله إلى من به الكفاية، فيكون نائباً عنه في ذلك، ولا يمكن أبداً أن تقوم الأمة الإسلامية، أو تتحد إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 104، 105] .
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب إذا باع الوكيل شيئاً فاسداً فبيعه مردود (2312) ، ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1594) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201) (2202) ، ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1593) (95) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.(15/242)
فأشار بقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} ، بعد قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ} ، إلى أنه إذا لم يكن ذلك تَفرَّق الناس، وهذا واضح، فإذا لم يكن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، كل واحد يسلك سبيلاً، حينئذ تتفرق الأمة، ولا يجمع الأمة إلا شريعة ربها عزّ وجل، وذلك لا يكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا بد أولاً: أن تكون الأمة أو الطائفة التي يقيمها الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها علم بأن هذا معروف وهذا منكر، وتعلم ذلك عن طريق الشرع.
ثانياً: أن يكون لديها علم بأن هذا الرجل ترك المعروف أو فعل المنكر، فإن لم تعلم فإنه لا يجوز أن تنكر لا أمراً ولا نهياً، فلو أنك رأيت رجلاً يمشي مع امرأة في السوق فقلت له: ألا تخاف الله؟ تمشي مع الحريم بالسوق! فهذا لا يسوغ ولا يجوز! اسأله أولاً: من هذه المرأة؟ ما علاقتك بها؟ فإذا قال: هذه أختي، هذه أمي، هذه بنتي، كُفْ وانتهِ، اللهم إلا أن يكون هناك قرائن قوية تخالف ما ادعاه، فهذا شيء آخر، ولهذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا ينكر الشيء إلا بعد أن يعلم أنه منكر، ولما دخل رجل والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة جلس، فهل قال له: قم صلِّ ركعتين؟ لا، بل قال: «أصليت؟» لأن فيه احتمالاً أنه صلى، والرسول صلّى الله عليه وسلّم ما رآه، فلما قال: لا، قال: «قم فصلِّ ركعتين» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة/ باب إذا رأى الإمام رجلاً وهو يخطب ... (930) ، ومسلم في الصلاة/ باب التحية والإمام يخطب (975) عن جابر رضي الله عنه.(15/243)
ولو خرجت من المسجد ووجدت شخصاً يمشي في السوق، هل تقول له: تعالَ، أنت ما تخاف الله، الناس يصلون بالمسجد، وأنت تمشي بالأسواق! هذا خطأ، بل تقول: أصليت يا أخي؟ فإذا قال: ما صليت! جئت الآن من العمل، تقول: يا أخي الصلاة مهمة، وتنصحه بلطف.
ثالثاً: لا بد أن يكون عند الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر حكمة، بأن يدفع الأشر بالشر، والشر بالخير؛ لأن دفع الأشر بالشر أهون، يعني ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وهذه قاعدة عند أهل العلم، مثل لو رأى رجلاً يشرب الدخان فنهاه عنه، فترك شرب الدخان وذهب يشرب خمراً، فهذا لو تُرك يشرب الدخان لكان أفضل من أن يشرب الخمر، فإذا علمت أنني إذا نهيته عن الدخان راح ليشرب الخمر، أتركُه يشرب الدخان، وإذا انتهى قلت له: هذا يا أخي حرام، ولا يجوز، ولعل الله أن يهديه، ولهذا يذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما دخل التتار الشام مرّ هو وصاحب له بقومٍ يشربون الخمر من التتار، ولم ينههم شيخ الإسلام، فقال له صاحبه في ذلك، فقال له: لو نهيناهم عن هذا تركوا الخمر، وراحوا يهتكون أعراض المسلمين؛ لأنهم قوم مفسدون، فدعهم يلهون بخمرهم التي هي عليهم ولا يتعدون، فانظر كيف الحكمة؟ فاستعمال الحكمة أمر ضروري للإنسان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
رابعاً: استعمال الرفق، وهو ـ أيضاً ـ كمال للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومرّ رجل يهودي على النبي صلّى الله عليه وسلّم(15/244)
وعنده عائشة رضي الله عنها، فقال: السام عليك يا محمد! فقالت عائشة رضي الله عنها ـ غيرةً لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ـ: عليك السام واللعنة! فقال الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق» (1) ، وقال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (2) ، فإن كانوا قالوا: السلام فهو عليهم، وإن كانوا قالوا: السام فهو عليهم، هذا هو العدل، وقال: «إن الله رفيق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» (3) ، الله أكبر! غيرتنا تأبى إلا أن نعنف ونستعمل العنف، ونظن أن هذا هو الذي يحل المشكلة! ولكن الأعلم منا والأنصح محمداً رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ـ وهو صادق بار ـ: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» .
ويذكر أن رجلاً مر على صاحب نخل وأذَّن المغرب، والعامل يغني على إبله؛ لأن الإبل تطرب للغناء فوقف عليه وقال: أما تستحي؟ كيف لا تصلي؟ فغضب العامل وشتمه، وقال له: لن أصلي، وصلاتي لي! فجاءه أحد العلماء ـ جزاه الله خيراً وغفر له ـ وكلمه بكلام لين هادئ، وقال: الصلاة خير من هذا
__________
(1) أخرجه البخاري في استتابة المرتدين/ باب إذا عرَّض الذمي وغيره بسب النبي صلّى الله عليه وسلّم ... (6927) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في الاستئذان/ باب كيف يرد على أهل الذمة السلام (6258) ، ومسلم في السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام ... (2163) عن أنس رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب/ باب فضل الرفق (2593) عن عائشة رضي الله عنها.(15/245)
العمل، وأنت تصلي ـ إن شاء الله ـ وترجع إلى عملك، فقال له العامل: جزاك الله خيراً، أنت الوجه المبارك، فترك عمله وراح وصلى، فهذا شاهد واقعي يصدق ذلك، وإن كان قول الرسول صدقاً بلا تصديق؛ لأنه الصادق المصدوق، لكن الواقع يزيدك إيماناً بأن الرفق خير من العنف، لكن ـ الله يعفو عنا ـ فالحقيقة أننا أحياناً تأخذنا الغيرة، ونعجز أن نملك أنفسنا، فنعنف ونغضب وتتوتر أعصابنا، ولكن الأولى لنا أن نهدأ وننظر.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» (1) مثال ذلك: رجل مر بصاحب عود يعزف به، فأول ما يجب عليه أن يكسره، فليغيره بيده، إذا لم يستطع فبلسانه، بمعنى أن يتكلم عند من يمكنه أن يكسره، فإن لم يستطع فبقلبه، يكرهه، وينكره، ولا يصاحبُ صاحبَه، وهذه المسألة تخفى على كثير من الناس، يظنون أنك إذا كرهت المنكر بقلبك فاجلس مع أهله! وهذا خطأ؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَىءُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} ، ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا} يعني إن قعدتم {مَثَلُهُمْ} [النساء: 140] فالمُنكِر بالقلب ما يقعد، وهل يُعقل أن إنساناً يكره شيئاً ويجلس عند من يفعله؟! ما يعقل أبداً.
هذه ثلاثة أمور: دعوة، وأمر، وتغيير، تشتبه على بعض
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(15/246)
طلبة العلم، يظنون أنها واحدة ولكنها مختلفة، فالدعوة عرض وترغيب وترهيب، والأمر توجيه الأمر أي: طلب الفعل، أو الكف على وجه الاستعلاء، والتغيير مباشرة إزالة المنكر باليد، فبينها فرق يجب على طالب العلم أن يعرفه؛ حتى لا تختلط عليه الأشياء.
وعلى الإمام أن يكون قائماً بالسياسة، وهي سلوك كل ما يصلح به الخلق، وهي إما داخلية، وإما خارجية.
أما الداخلية فأن يسوس رعيته بالعدل واجتناب الجَوْرِ، والعمل بالقرائن والبيِّنات وغير ذلك، فمثلاً لا يفرق بين القريب والبعيد، والغني والفقير، والشريف والوضيع، وما أشبه ذلك، إلا إذا اقتضت المصلحة أن يعفو ـ مثلاً ـ عن رجل له شرف وجاه، وهذا في غير الحدود، وأن يقيم التعزير على آخر مجرم يعتدي على الناس دائماً، ولا ينفع فيه أن يمن عليه بالعفو، ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] والسياسة انقسم الخلفاء فيها إلى ثلاثة أقسام:
قسم أخذ بسياسة الجور، وكان كلما قرأ أن هذا مما يصلح الناس عمل به ولو خالف الشرع، مثل أئمة الجور الذين يعتدون على الناس بالضرب والحبس في أمور بسيطة، لا يجيز الشرع أن يعزر فيها بهذا التعزير.
وقسم ثانٍ: أهمل السياسة نهائياً، ولم يعملوا بقرائن الأحوال، ولا عملوا بالمصالح العامة التي راعاها الشرع، فالأولون أفرطوا، وهؤلاء فرّطوا.(15/247)
وقسم ثالث: أخذ بالسياسة، وهي رعاية المصالح التي لا تخالف الشرع، مع أننا نقول: لا يمكن لأي شيء يسمى مصالح أن يخالف الشرع، بل كل ما خالف الشرع فهو مفسدة، لكننا نقول ذلك من حيث يتراءى للناظر أن هذا مصلحة، ويخفى عليه أنها داخلة في الشرع.
فالسياسة الداخلية يجب على الإمام أو الخليفة أن ينظر إلى ما فيه المصلحة فيتبعه.
أما السياسة الخارجية فهي معاملة غير المسلمين، وله معهم مقامات أربعة: عهد، وأمان، وذمة، وحرب.
أولاً: الحربيون وأمرهم ظاهر، يجب عليه أن يقاتلهم حتى يكون الدين لله عزّ وجل، بأن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولا فرق في ذلك على القول الراجح بين أهل الكتاب وغيرهم، فأما قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فإن هذا لا يمنع أن يتعدى الحكم إلى غيرهم، لا سيما أنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر (1) ، وثبت في صحيح مسلم (2) أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الجزية/ باب الجزية والموادعة (3157) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في الجهاد/ باب تأمير الإمام الأمراء على الجيوش (1731) عن بريدة رضي الله عنه.(15/248)
الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بمن معه من المسلمين خيراً، وذكر الحديث، وفيه أنه إذا لقي عدوه دعاه إلى الإسلام، فإن أبى أخذ منه الجزية، فإن أبى قاتله، وهذا عام، بل قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا لقيت عدوك من المشركين» ، وهذا هو الصحيح أن الجزية تؤخذ من كل كافر، فصار الحربيون ما لنا معهم إلا حالان: القتال، أو الاستسلام للجزية، إلا إذا أسلموا.
ثانياً: المعاهدون، وهم الذين نعقد بيننا وبينهم عهداً أن لا يعتدوا علينا، ولا نعتدي عليهم، وأن لا يعينوا علينا ولا نعين عليهم، وهؤلاء لا يخلو أمرهم من ثلاث حالات:
الأولى: أن يستقيموا على العهد وينفذوه تماماً، وفي هذه الحال يجب علينا أن نستقيم لهم؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ، والوفاء بعهدهم لا شك أنه من محاسن الإسلام.
الثانية: أن يخونوا وينقضوا العهد، وفي هذه الحال يكونون حربيين، يعني ينتقض عهدهم، ودليل ذلك ما جرى لقريش حين عاهدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديبية، ومن جملة شروط العهد أن لا يعينوا عليه وعلى حلفائه أحداً، فنقضوا العهد بأن أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
الثالثة: أن لا ينقضوا العهد، ولكننا لا نأمنهم، ونخاف
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (10/91) ط. دار إحياء، وتفسير ابن كثير (2/339) ط. دار الفكر.(15/249)
منهم نقض العهد، فهؤلاء نعاملهم معاملة وسطاً، بأن ننبذ إليهم عهدهم، فنقول: ليس بيننا وبينكم عهد، والعهد الذي بيننا وبينكم مفسوخ منبوذ، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ *} [الأنفال: 58] .
ثالثاً: أهل الذمة، وهم الذين عقدنا لهم الذمة التي تتضمن حمايتهم وإعطاءهم حقوقهم الشرعية على أن يبذلوا لنا الجزية، وهي شيء يجعله الإمام على كل واحد منهم، وتفصيلها معروف في كتب الفقه، فهؤلاء يجب علينا نحوهم أن نعطيهم كل الحق الذي يقتضيه عقد الذمة.
رابعاً: المستأمنون الذين طلبوا الأمان على أنفسهم وعلى أموالهم لمدة معينة، فهؤلاء دون المعاهدين، ودون أهل الذمة، وفوق الحربيين، ولهذا يصح الأمان حتى من غير الإمام؛ لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» (1) ، فيمكن لأي واحد من الناس أن يدخل أحداً من الكفار إلى بلاد الإسلام بأمان، وما دام مُؤمِّناً له فإنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، ودليل هذا قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] .
والمهم أن الإمام يقوم بهذه الأمور الأربعة: العلم، والعمل، والدعوة، والسياسة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به ... (357) ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها/ باب تستر المغتسل بثوب ونحوه (336) عن أم هانئ رضي الله عنها.(15/250)
ويكون نصب الإمام بواحد من أمور ثلاثة، إما أن يعهد به الخليفة السابق، وإما أن يجتمع عليه أهل الحلِّ والعقد، وإما أن يأخذ ذلك بالقوة والقهر.
مثال الأول: عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالخلافة (1) ، فإذا قال قائل: من خلّف أبا بكر رضي الله عنه؟
نقول: خلّف أبا بكر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن يشكل على هذا أن يقول قائل: أين النص من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟ وهل قال لأبي بكر: أنت خليفتي على أمتي بهذا اللفظ؟ لا، لكن قال بعضهم: خلّفه بالإشارة، يعني فعل أفعالاً تشير إلى أنه الخليفة من بعده، وقال آخرون: بل ثبتت خلافته بإجماع أهل الحل والعقد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك.
والصحيح أن خلافته ثبتت بالنص إما صريحاً، وإما إيماء وإشارة.
أولاً: خلّف النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر إماماً للناس في مرض موته في الصلاة، حتى أنه لما دعوا عمر رضي الله عنه غضب، وقال: «إنكن صواحبات يوسف» ، يعني زوجاته اللاتي دعون عمر، ثم أمر أن يدعى أبو بكر، فجاء فخلّفه على أمته في الصلاة (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام/ باب الاستخلاف (7218) ، ومسلم في الإمارة/ باب الاستخلاف وتركه (1823) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الأذان/ باب حدِّ المريض أن يشهد الجماعة (664) ومسلم في الصلاة/ باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ... (418) عن عائشة رضي الله عنها.(15/251)
ثانياً: خلّفه على الناس أميراً في الحج في السنة التاسعة من الهجرة (1) ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحج، وهذه إمامة أكبر من الإمامة الأولى وأوسع؛ لأنها إمامة لجميع المسلمين، كل من حج، ومعلوم أن الذين حجوا أكثر من الذين يصلون في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه إشارة إلى أنه الخليفة من بعده.
ثالثاً: قال في مرض موته: «لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر» (2) ، إشارةً إلى أنه الخليفة من بعده؛ ليكون بيته قريباً من المسجد الذي هو مثابة الناس.
رابعاً: أن امرأة أتته في حاجة لها فقال: «إيتيني في العام المقبل» ، فقالت: إن لم أجدك، قال: «إيتي أبا بكر» (3) ، وهذا كالنص الصريح على أنه الخليفة من بعده.
خامساً: أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (4)
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك (1622) ، ومسلم في الحج/ باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ... (1347) .
(2) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الخوخة والممر في المسجد (466) ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه (2382) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.
(3) أخرجه البخاري في المناقب/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذاً خليلاً» (3659) ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه (2386) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري في المرض/ باب قول المريض إني وجع ... (5666) ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2378) عن عائشة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.(15/252)
وهذا نص أو شبه نص على أنه سيكون الإجماع عليه، وعلى هذا فنقول: إن خلافة أبي بكر ثبتت بنص إيمائي أو صريح، حسب ما يفهمه العلماء من هذه النصوص.
فإن قال قائل: هذه النصوص يهدمها نص واحد، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أهله حين غزا تبوكاً، فقال: يا رسول الله تجعلني في النساء والصبيان؟ قال له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (1) ؟ وقد قال موسى لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142] ، وهذا يدل على أن الخليفة بعد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو علي بن أبي طالب، وأن أبا بكر رضي الله عنه ليس الخليفة.
فالجواب على هذا أن نقول: هذا نص من النصوص المتشابهة، والأدلة التي ذكرناها لأبي بكر من النصوص المحكمة، وأهل العلم الراسخون فيه، يردون المتشابه إلى المحكم؛ لتكون النصوص كلها محكمة، ولا يتبع المتشابه ويعرض عن المحكم إلا من كان في قلبه زيغ؛ لقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] .
فإذا قال قائل: كيف نزيل مشتبه هذا الحديث؟
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب/ باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي ... (3706) ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل علي بن أبي طالب (2404) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.(15/253)
فالجواب: أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يصرح بأن علياً هو الخليفة من بعده، بل قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، حين خلّفه على أهله، كما خلف موسى هارون على قومه في حياته، وهذا كالاستنابة والوكالة، يعني كما لو غاب إنسان إلى بلد، وقال لشخص آخر: اخلفني في أهلي، اقضِ حوائجهم، فإن هذا لا يعني أنه وصيٌّ من بعده، وإنما يدل على أنه نائبه في حياته لمدة محدودة، أما الخلافة فإنها تكون بعد موت الأول نهائياً ومفارقته الدنيا، ولا يمكنه أن يعزل الخليفة من بعده؛ لأنه ميت، أما هذا فيمكن أن يعزله، فيرسل له ويقول: رفعتُ خلافتك على أهلي.
وإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وإذا ثبتت خلافة عمر ثبتت خلافة عثمان ـ رضي الله عنهم ـ، ولذلك فالرافضة لا يقرون بخلافة أبي بكر؛ لأجل أن يهدموا خلافته، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، وينتهوا إلى خليفة لم يُخلَّف، إلى خليفة هو بنفسه ـ رضي الله عنه ـ بايع أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ، وكان يقول ـ رضي الله عنه ـ: «إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» (1) .
إذاً تثبت الخلافة بالنص، يعني نص الخليفة الأول على أن الخليفة بعده فلان.
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب/ باب قوله النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذاً خليلاً» (3671) عن محمد بن الحنفية، ولفظه: «قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين» .(15/254)
الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد، وهذا له صورتان:
الأولى: أن يعين الخليفةُ السابقُ أهلَ الحلِّ والعقدِ، فيقول مثلاً: فلان وفلان وفلان وفلان يتشاورون في الخليفة، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، فإن عمر انتخب من الصحابة الستة الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عنهم راضٍ (1) ، وجعل الخلافة دائرةً بينهم على أن يختاروا لأنفسهم من يختارونه من هؤلاء.
الثانية: أن يدع الخليفة الوصية بالخلافة لأحد، يعني لا يوصي لأحد بالخلافة، ولكن الناس بعده يجتمعون ويولون خليفة، وهذا جائز؛ لأن الأمر يرجع إلى الناس، فإذا اختاروا أحداً من بينهم يكون خليفة عليهم تمت خلافته.
الثالث: القهر، فإذا قهر إنسان خليفةً واستولى عليه وقتله أو حبسه، وزالت خلافته نهائياً، واستولى هذا على الخلافة صار خليفةً، ووجب على الناس أن يبايعوه ويطيعوه؛ لأنهم لو نابذوه في تلك الحال لحصل بذلك من الشر والفساد، وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض ما يربو على مبايعة هذا الرجل.
والإمام أو الخليفة عليه مسؤوليات عظيمة؛ لأنه مسؤول عن كل من ولاه الله عليهم في جميع أحوالهم العامة، أما الأحوال الخاصة فهذه ليست إليه، اللَّهم إلا إذا كانت من الأمور التي لا بد من النظر فيها كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومن
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم/ باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه (3700) .(15/255)
مسؤوليات الإمام العظيمة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى بقوله:
«أن ينصب في كل إقليم قاضياً» فيلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضياً، والأقاليم في الدنيا كلها سبعة، فيجب عليه أن ينصب في الدنيا كلها سبعة قضاة، في كل إقليم قاضٍ، والناس الآن يريدون في كل حي قاضياً! ولكن هؤلاء القضاة يجب أن يجعلوا لهم نواباً بمقدار الحاجة.
والعلماء ذهبوا هذا المذهب؛ لئلا تكون المسألة مركزية، ترجع إلى أصل واحد؛ لأن رجوعها إلى أصل واحد لا سيما في ذلك الزمن متعب وشاق، قالوا: فنجعل في كل إقليم قاضياً، هذا القاضي يجعل له نواباً في كل مدينة، أو في كل قرية، حسب الحاجة، فمثلاً إذا قدرنا أن الإقليم واسع، قد يحتاج إلى عشرة نواب، أو عشرين نائباً يرجعون إلى القاضي الإقليمي، والقاضي الإقليمي إن جرى مشكل يرفعه إلى الإمام؛ لأنه المسؤول، فحينئذ يزول الإشكال؛ لأننا لو قلنا: إنه لا يجب أن ينصب في كل إقليم إلا قاضياً ضاعت المصالح، لا سيما في الزمن الأول، فإذا كان بين اثنين خصومة، وكان بينهما وبين القاضي الإقليمي مسيرة شهر، لاحتاجوا إلى شهرين، وربما إذا وصلوا إليه وجدوه مشغولاً بقضايا قبلهما، انتظرا، ثم إذا كان الشهود فيهم نظر، وطلب تعديلهم، يرجعان شهراً يبحثان عمن يزكيهم في بلادهم؛ لأنهم في البلاد الأخرى لا يُعرفون، وهكذا، لكنهم قالوا: إنه يجب على هؤلاء القضاة الإقليميين أن يجعلوا لهم نواباً في كل قرية.(15/256)
وعمل الناس الآن يشبه هذا في الواقع، فهناك مثلاً فروع لوزارة العدل في كل منطقة، يرجع إليها، وهناك محاكم وكل محكمة لها رئيس، وهناك محكمة كبرى ومحكمة مستعجلة صغرى.
وَيُختَارَ أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُهُ عِلْماً، وَوَرَعاً، وَيَأْمُرُهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَأَنْ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ، وَيَجْتَهِدَ فِي إقَامَتِهِ فَيَقُولُ: وَلَّيْتُكَ الْحُكْمَ، أَوْ قَلَّدْتُكَ وَنَحْوَهُ، وَيُكَاتِبُهُ فِي الْبُعْدِ،.....
قوله: «ويختار» بالنصب، يعني ويلزمه أن يختار.
قوله: «أفضل من يجده علماً» أي: بالأحكام الشرعية، بل نقول: بالأحكام الشرعية وبأحوال الناس، بل ولنا أن نزيد الذكاء والفراسة؛ لأن الذكاء والفراسة مهمان في مسألة القضاء؛ لأن الناس فيهم المحق وفيهم المبطل، وفيهم من يعجز عن التعبير، وفيهم من هو فصيح بليغ، فيضيع الحق إذا لم يكن عند القاضي علمٌ بأحوال الناس، وفراسةٌ وذكاء، ولا يخفى ما في قصة سليمان وداود عليهما السلام في المرأتين اللتين خرجتا إلى البر ومعهما ابنان لهما، فأكل الذئب ابن الكبيرة، فجاءتا إلى داود ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحتكمان إليه، فحكم بالابن للكبيرة، لعله ظن ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنها أقرب إلى الصدق، أو قال: هذه صغيرة يمكن أن تلد فيما بعد، وهذه كبيرة قد تتوقف عن الولادة وهي أحق بالشفقة، ثم خرجتا من عنده وصادفهما سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ وسألهما فقالتا: كذا وكذا، فقال: لا، الحكم أن آتي بالسكين فأشقه نصفين فتأخذ الكبيرة نصفه، والصغيرة نصفه، فقالت الكبيرة: لا مانع، وأما الصغيرة فقالت له: يا رسول الله لا تشقه هو لها، فالفراسة تقضي أنه للصغيرة، والدليل الحنان والشفقة فحكم به(15/257)
للصغيرة (1) ، وقصص الذكاء في القضاة كثيرة، ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الطرق الحكمية جملةً صالحة منها في أقضية القضاة.
قوله: «وورعاً» الورع والزهد كلاهما ترك، لكن الورع ترك ما يضر في الآخرة، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، وبينهما فرق، فالورع أن يدع الإنسان كل ما يضره، فلا يأكل ما لا ينبغي بحق، ولا يظلم أحداً، ولا يضيع شيئاً من عمله، وما أشبه ذلك، والزهد ترك ما لا ينفع، فيدع المباحات من أجل أن يرتقي إلى الكمالات، وعلى هذا فيكون الزهد أعلى من الورع، يعني مقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأن الزهد ترك ما لا ينفع، مثال ذلك لدينا ثلاث حالات:
الأولى: رجل يأكل الحرام.
الثانية: رجل لا يأكل الحرام، لكنه لا يتورع من الأشياء التي ليس فيها خير ولا ضرر.
الثالث: رجل يدع كل شيء لا نفع فيه فلا يأكله.
فالأول ليس فيه ورع ولا زهد، والثاني فيه ورع لا زهد، والثالث فيه ورع وزهد؛ لأن من زهد فيما لا ينفع كان لتركه ما يضر من باب أولى، والشيء الذي يجب أن يكون في القاضي أن يكون ورعاً، أما الزهد فهو من الكمال، وأما الورع فإنه لا بد
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} (3427) ، ومسلم في الأقضية/ باب اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(15/258)
منه، فلا بد أن يكون القاضي ورعاً ـ أي: بعيداً عن أكل الحرام ـ كالرِّشوة، والمحاباة، وما أشبه ذلك.
وقوله: «علماً وورعاً» إكمالٌ لركني الولاية، بل لركني كل عمل، وهما: القوة، والأمانة؛ لأن جميع الأعمال تنبني على هذين الركنين: القوة على أداء العمل، والأمانة في أداء العمل، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] ، وقال: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *} [النمل] وفي تقديم القوة على الأمانة دليل على أنها أهم من الأمانة؛ لأنه كم من إنسان أمين ولا يخشى منه الخيانة أبداً، لكنه ضعيف لا ينتج ولا يثمر، وكم من إنسان قوي في أداء عمله لكنه ضعيف في أمانته، فالثاني أحسن لإقامة العمل، ولهذا تجد كثيراً من الناس الذين لديهم قوة وحزم وتصرف، تجدهم ينتجون من الأعمال أكثر بكثير من قوم ضعفاء، وعندهم أمانة، ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأبي ذر: «إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولين مال يتيم» (1) ، فالإنسان لا بد أن يكون قوياً، وأن يكون أميناً، ولهذا بدأ المؤلف هنا بالعلم؛ لأن به القوة على القضاء، ثم ثنَّى بالورع الذي هو الأمانة فقال:
«ويأمرُهُ بتقوى الله» «يأمرُهُ» بالضم على الاستئناف؛ لأنه لا يجب عليه أن يأمره، ولكنه ينبغي له أن يأمر القاضي بتقوى الله
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة/ باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1826) عن أبي ذر رضي الله عنه.(15/259)
ـ عزّ وجل ـ؛ لأن تقوى الله وصية الله ـ سبحانه وتعالى ـ للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] ؛ ولأن في تقوى القاضي لله عزّ وجل تيسيراً لأمره، وتسهيلاً لمهمته، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق] ؛ ولأن في تقوى القاضي لله ـ عزّ وجل ـ سبباً لمعرفة الحق، ومعرفة المحق لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الأنفال] والقاضي محتاج إلى ذلك، ولأن في تقوى القاضي لله ـ عزّ وجل ـ سبباً لأن يجعل الله له من كل همٍّ فرجاً، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] فمن ثَمَّ قلنا: إنه ينبغي للإمام أن يكتب في تسطير التولية، أو أن يصدر وثيقة التولية بالأمر بتقوى الله ـ عزّ وجل ـ.
قوله: «وأن يتحرى العدل» تحري العدل من تقوى الله ـ عزّ وجل ـ، لكن عطفه على التقوى من باب عطف الخاص على العام؛ لأهمية العدل في باب الحكومة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
قوله: «ويجتهدَ في إقامته» لأنه ليس كل من تحرى العدل وعرف العدل يقيم العدل، إذاً يأمره بأمرين: الأول: تحري العدل، الثاني: الاجتهاد في إقامته.
والعدل يشمل أمرين: العدل في الحكم، والعدل في المحكوم عليه.(15/260)
أولاً: العدل في الحكم بأن يحكم بما تقتضيه شريعة الله؛ لأن كل ما تقتضيه شريعة الله فهو عدل بلا شك، وبناء على ذلك يرفض جميع الأحكام القانونية التي تخالف شريعة الله، مهما كانت قوتها، فإنه يجب على القاضي رفضها وطرحها؛ لأنه خلاف العدل، فكل ما خالف شرع الله فإنه خلاف العدل.
ثانياً: العدل في المحكوم عليه، بأن لا يفرق بين صغير وكبير، وشريف ووضيع، وغني وفقير، وقريب وبعيد، وسيأتينا ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنه يجب أن يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه، فلا يكون القاضي ممن إذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد من أقاربه حاول أن يتخلص من الحكم عليه، وإذا رفعت إليه قضية تتعلق بأحد ممن بينه وبينهم عداوة شخصية حاول أن يحكم بها عليه، فإن نبينا محمداً صلّى الله عليه وسلّم حين رفع إليه أمر المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، أمر بقطع يدها، والمخزومية من بني مخزوم من أشراف قريش، فأَهَمَّ قريشاً شأنها، وقالوا: كيف تقطع يد امرأة من بني مخزوم، وتصبح أمام الناس عاراً؟! فطلبوا من يشفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاستقر رأيهم على ندب أسامة بن زيد، فانتدب لذلك وطلب من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرفع الحكم عنها، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتشفع في حد من حدود الله» ؟! والاستفهام هنا للإنكار، فأنكر، وأشار إلى العلة، أنكر في قوله: «أتشفع؟» ، وأشار إلى العلة في قوله: «في حد من حدود الله» ، كأنه يقول: أنا لا أملك أن أغير حدّاً من حدود الله، فلا شفاعة في حد من حدود الله؛ لأن الحكم كله لله ـ عزّ وجل ـ،(15/261)
ثم قام النبي صلّى الله عليه وسلّم فخطب وقال: «أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (1) ، اللهم صل وسلم عليه، أقسم وهو الصادق البار بدون قسم لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها، مع أنها سيدة نساء أهل الجنة، وأفضل النساء نسباً، وذكر فاطمة ـ رضي الله عنها ـ دون غيرها؛ لأن القضية في امرأة.
ثم بيَّن المؤلف صيغة التولية فقال:
«فيقول» أي: الإمام، أو من ينيبه الإمام، كوزير العدل ـ مثلاً ـ في زمننا هذا.
قوله: «ولَّيتك الحكم، أو قلدتك، ونحوه» أي: ما يشبهه مما يدل على التولية، فلو قال مثلاً: نصبتك قاضياً في المكان الفلاني، انعقدت الولاية، ولو قال: جعلتك حاكماً في البلد الفلاني، كذلك؛ وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فالألفاظ جُعلت قوالب للمعاني، فكل ما دل على المعنى فهو مما تنعقد به العقود، وليس هناك لفظ يتعبد به، بحيث لا يجزئ الناس إلا العقد به، حتى النكاح على القول الصحيح، فكل لفظ يدل على العقد فإن العقد ينعقد به.
قوله: «ويكاتبه في البعد» يعني إذا كان بعيداً يكتب إليه
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} ... (3475) ، ومسلم في الحدود/ باب قطع السارق الشريف وغيره ... (1688) عن عائشة رضي الله عنها.(15/262)
بالولاية: «من فلان إلى فلان، السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فقد وليتك كذا وكذا» ، والبرقية تقوم مقام الكتابة، والهاتف يقوم مقام اللفظ؛ لأنه يشافهه مشافهة.
واستفدنا من قول المؤلف: «يكاتبه في البعد» أنه لا يحتاج الإمام أن يُشهد على تولية القاضي، ولكن لا بد أن نعلم بأن هذا صادر من الإمام، ونعلم ذلك إما بالختم، أو التوقيع المعروف، أو ما أشبه ذلك.
إذاً ينعقد القضاء باللفظ والكتابة، واللفظ ليس له لفظ محدد شرعاً، بل كل ما دل على التولية فإنه تثبت به الولاية، أما الكتابة فيكتب له بما يدل على التولية.
والمؤلف ـ رحمه الله ـ هنا لم يذكر أنه يشترط فيها الإشهاد، وستأتي المسألة ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب كتاب القاضي إلى القاضي، هل يشترط الإشهاد أو لا؟ والصحيح أنه لا يشترط، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكتب الكتب إلى الملوك والرؤساء ولا يشهد شاهدين.
ثم انتقل المؤلف إلى بيان ما تفيده ولاية الحكم فقال:
وَتُفِيدُ وِلاَيَةُ الْحُكْمِ الْعَامَّةُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَأَخْذَ الْحَقِّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُرْشِدِينَ، وَالْحَجْرَ عَلَى مَنْ يَسْتَوْجِبُهُ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَالنَّظَرَ فِي وُقُوفِ عَمَلِهِ لِيَعْمَلَ بِشَرْطِهَا، وَتَنْفِيذَ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجَ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهَا، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِمَامَةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَالنَّظَرَ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، بِكَفِّ الأَذَى عَنِ الطُّرُقَاتِ، وَأَفْنِيَتِهَا، وَنَحْوِهِ،.0.........
«وتفيد ولاية الحكم العامة» احترز بقوله: «العامة» من الخاصة، فإن الخاصة تختص بما خصصت به، لكن العامة تفيد أولاً:
قوله: «الفصل بين الخصوم» ، و «الخصوم» جمع خصم، والمراد المتخاصمون، سواء كانوا اثنين أو أكثر.
والفصل بينهما أي التمييز بينهما، بأن الحق لفلان على فلان.(15/263)
ثانياً: قوله: «وأخذ الحق لبعضهم من بعض» فالذي يتولى التنفيذ هو القاضي، فيجبر المحكوم عليه بأن ينفذ الحكم، هذا من مسؤوليات القاضي في عهد المؤلف ـ رحمه الله ـ ومن سبقه، لكن في عهدنا صار التنفيذ للأمير، القاضي يفصل ويبين، وأما الذي ينفذ فهو الأمير، ثم أظنها الآن تحولت إلى الشرطة.
ثالثاً: قوله: «والنظر في أموال غير المرشدين» وغير المرشدين، إما لصغرهم أو جنونهم، أو سفههم؛ لأن الرشد يتضمن ثلاثة أمور: البلوغ، والعقل، وحسن التصرف، فغير المرشد إما الصغير، وإما المجنون، وإما السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، فالذي ينظر في ماله هو القاضي.
رابعاً: قوله: «والحجر على من يستوجبه لسفه، أو فلس» الحجر هو منع الإنسان من التصرف في ماله، وأشار المؤلف بقوله: «سفه أو فلس» إلى أن الحجر نوعان: حجر لسفه، وحجر لفلس، أما السفه فهو عدم الرشد، وأما الفلس فهو أن تكون ديون الإنسان أكثر مما عنده من المال، فإذا كان الإنسان مديناً وديونه أكثر من ماله، فإنه يحجر عليه لفلس، والفرق بينهما: أن الحجر للسفه لا يتصرف المحجور عليه لا في ماله ولا في ذمته، والحجر للفلس يتصرف في ذمته لا في ماله.
فمن لم يكن رشيداً فهو سفيه، فلا يصح تصرفه لا في ماله ولا في ذمته، يعني لا يصح أن يبيع شيئاً من ماله، ولا أن يشتري(15/264)
شيئاً في ذمته، كأن يشتري من شخص سلعة، ويقول: الثمن في الذمة، فهذا محجور عليه في ذمته وماله.
والذي لفلس محجور عليه في ماله لا في ذمته، فلا يصح أن يتصرف في أعيان ماله، أما في ذمته بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل يحل بعد فك الحجر عنه، فإن هذا جائز ولا بأس به.
خامساً: قوله: «والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها» «وقوف» جمع وقف، والوقف هو المال الذي حُبِس أصله وسبِّلت ثمرته ومَغله، مثاله: رجل قال: وقفت هذا البيت على الفقراء، فأصله محبوس ما يمكن أن يباع، وثمرته مسبَّلة تكون للفقراء يتصرفون فيها كما شاؤوا إذا ملكوها.
وقوله: «في وقوف عمله» المراد بعمل القاضي المكان الذي فيه ولايته، ولنفرض أنه قاضٍ في المدينة، فعمله ومحل ولايته المدينة، فينظر في أوقاف المدينة ليعمل بشرطها، سواء كانت هذه الأوقاف خاصة أم عامة، فالخاصة كما لو قال: هذا وقف على ذريته، والناظر فلان ومن بعده القاضي، فإذا مات الناظر الأول صار النظر للقاضي.
والعام مثل أن يقول: هذا وقف على المساجد، فالناظر القاضي، وله الحق أن يطلع على تصرف الناظر؛ لينظر هل هو يعمل بالشرط أو لا يعمل به؟ لأنه ليس كل ناظر على وقف يؤدي الأمانة، قد يخون، ويصرف الوقف إلى غير ما شرط له، فلهذا نقول: إن القاضي له النظر في الوقوف ليعمل بشرطها.
سادساً: قوله: «وتنفيذ الوصايا» كأن يوصي شخص بعشرة(15/265)
آلاف بعد موته يُبنى بها مسجد، فالذي ينظر في التنفيذ القاضي، إلا إذا كان لها وصي خاص، فالوصي الخاص هو الذي ينظر.
سابعاً: قوله: «وتزويج من لا ولي لها» أي: من النساء، أو لها ولي ليس أهلاً للولاية.
مثال الأول: امرأة ليس لها إلا أخوالها وإخوانها من الأم، وليس لها إخوان أشقاء، ولا لأب، ولا أعمام، ولا بنو أعمام، فالذي يزوجها القاضي؛ لأنها ليس لها ولي.
مثال الثاني: أن يكون لها عم، أو أخ لكن لا يصلي، فالذي لا يصلي ليس أهلاً لأن يزوج؛ لأنه كافر، ولا ولاية لكافر على مسلم، فإذاً يزوج القاضي من لا ولي لها، سواء كان الولي معدوماً أو ليس أهلاً.
ثامناً: قوله: «وإقامة الحدود» يعني الذي يتولى إقامة الحدود هو الحاكم الشرعي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كان يقيم الحد، وأحياناً يوكل، كما قال لأنيس: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» (1) ، وهنا يجوز أن يوكل القاضي من يقيم الحد عنه.
وقوله: «الحدود» هي عقوبات مقدرة شرعاً في معصية؛ لتمنع من الوقوع في مثلها وتُكفِّر عن صاحبها، والحدود هي حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد قطاع الطريق، والمهم معرفة الضابط.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب الوكالة في الحدود (2315) ، ومسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1698) عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.(15/266)
تاسعاً: قوله: «وإمامة الجمعة والعيد» يعني هو الذي يتولى إمامة الجمعة والعيد، إلا إذا كانا لهما إمام خاص، فإمامهما أولى من غيره، لكن إذا لم يكن لهما إمام فالذي يُخاطب بإمامة الجمعة والعيد هو القاضي، فإن تعددت الجُمَع يوكل.
عاشراً: قوله: «والنظر في مصالح عمله» أي: مصالح مكان عمله.
قوله: «بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه» يعني هو الذي يتولى ما تتولاه البلدية، فيكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها، فهو المسؤول، فإذا وجدنا شيئاً في السوق ذهبنا إلى القاضي، وقلنا له: في السوق الفلاني أذى فأزله.
وقوله: «الطرقات وأفنيتها» الطرقات معروفة، والأفنية هي المتسعات التي تكون في الطرقات تلقى فيها الكناسة، والقمامة، وما أشبه ذلك، فالذي ينظر فيها هو القاضي.
هذه عشرة أمور يستفيدها القاضي من ولايته، ولكن لاحِظ أن هذه الأمور العشرة التي ذكرها المؤلف ليست أموراً منصوصاً عليها من الشرع، بحيث لا نتجاوزها ولا نقصر عنها، لكنها أمور عُرفية، أي: جرى العرف أن القاضي يتولى هذه الأمور من قبل الإمام، فإذا تغيرت الأحوال وصار مقتضى أو موجَب عقد القضاء أن القاضي لا يُلزم أن يقوم بهذه الأعمال كلها، فعلى حسب العرف، فالآن الفصل بين الخصوم لا زال باقياً، وأما أخذ الحق لبعضهم من بعض ليس على القاضي، فليس عليه إلا أن يفصل(15/267)
بينهم، وأما أخذ الحق لبعضهم من بعض فعلى جهة أخرى، فالنظر في أموال غير المرشدين له إلى الآن، والحجر على من يستوجبه له وليس لوزارة التجارة، والنظر في وقوف عمله ليس له، فالآن هناك وزارة الأوقاف هي التي تتولى هذا، وتنفيذ الوصايا الظاهر أنه للأوقاف أيضاً، وليس للقاضي، وتزويج من لا ولي لها، الآن جعل مأذونون شرعيون، وهم على قسمين: مأذون يسمى قاضي أنكحة، هذا يتولى تزويج من لا ولي لها، ومأذون لمجرد العقد فهذا لا يتولى التزويج، وإقامة الحدود الآن ليس له، فهو يحكم ويقيم غيره، وإمامة الجمعة والعيد ليس له الآن، وبعض العلماء ما يجيزون غير القاضي، والنظر في مصالح العمل بكف الأذى عن الطرقات الآن ليس له، ولكن للبلدية.
إذاً موجَب ولاية القضاء ليس أمراً شرعياً متلقى من الشرع بحيث نُلزم القاضي به، لكنه أمر عرفي حسب ما تقتضيه الولاية في العرف.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ العَمَلِ،..........
قوله: «ويجوز أن يُولى» الذي يتولى تولية القاضي السلطان والوالي العام.
قوله: «عموم النظر» «النظر» أي: القضايا التي ينظر فيها، كأن يوليه جميع الأحكام في البيوع، والرهون، والإجارات، والأنكحة، والفرائض، وكل ما يتعلق بالخصومات.
قوله: «في عموم العمل» أي: المكان الذي يعمل فيه، وعموم العمل لا يمكن أن يكون عموماً مطلقاً؛ لأن العموم المطلق لا يتصور، لكنه عموم نسبي، فعموم العمل أن يقول:(15/268)
ولَّيتك الحكم في جميع أقطار الدنيا، وهذا لا يمكن؛ لأنه يتعذر الإحاطة به، إذاً عموم العمل عموم نسبي، مثل أن يقول: وليتك الحكم في منطقة القصيم، هذا عموم بالنسبة لكلِّ بلد على حدة، لكنه ليس عموماً مطلقاً، أعم منه أن يقول: ولَّيتك الحكم في نجد، هذا أعم، لكن هل هو عموم مطلق؟ لا.
وليتك الحكم في منطقة المدينة هذا عموم، أعم منه في منطقة الحجاز، أعم من ذلك كله وليتك الحكم في جميع الحجاز ونجد، فالمهم أن عموم العمل معناه المكان الذي يحكم فيه القاضي، فيجوز أن يولى العموم، وأن يولى الخصوص، فإذا قال: وليتك جميع الأحكام في عموم القصيم، فهذا عموم نظر في عموم عمل.
وَأَنْ يُوَلَّى خَاصّاً فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا،.......................
قوله: «وأن يُولّى خاصاً فيهما» الضمير في قوله: «فيهما» يعود على النظر والعمل، أي: خاصاً في النظر وفي العمل، النظر مثل أن يقول: وليتك الأنكحة والعمل في عنيزة، هذا خصوص نظر وعمل، خصوص النظر؛ لأنه خص القضاء في الأنكحة، وخصوص العمل؛ لأنه خصه في بلد معين.
أو يقول: وليتك الفرائض في بريدة، هذا خصوص نظر في خصوص عمل، خصوص نظر؛ لأنه في الفرائض فقط، فلو جاء اثنان يتحاكمان إلى هذا الذي ولي الفرائض في النكاح فإنه لا يقضي بينهما، بل لو قضى بينهما من غير تحكيم لم ينفذ حكمه؛ لأنه خص بالنظر في الفرائض، كما أنه لا يملك أن يقضي بين اثنين في مسألة فرضية في عنيزة؛ لأن العمل خاص في بريدة، هاتان صورتان متقابلتان:(15/269)