وَإنِ اسْتَأْجَرَهَا لِعَمَلٍ، كَدَابَّةٍ لِرُكُوبٍ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ؛ أَوْ بَقَرٍ لِحَرْثٍ، أَوْ دِيَاسِ زَرْعٍ، أَوْ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقٍ، اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَضَبْطُهُ بِمَا لاَ يَخْتَلِفُ.
قوله: «وإن استأجرها» أي: «العين» .
قوله: «لعمل كدابة لركوب إلى موضع معين، أو بقر لحرث أو دياس زرع، أو من يدله على طريق اشتُرط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف» أفادنا المؤلف بهذا أنه يجوز أن تستأجر العين لعمل، يعني يستأجر عيناً ليعمل بها، كسيارة ليسافر بها إلى مكة، وكـ «مولد» لتوليد كهرباء لمدة معينة، وكـ «محرك» لاستخراج الماء لمدة معينة، وما أشبه ذلك، كل هذا جائز؛ لأنه ليس فيه احتكار على الناس، لكن يقول المؤلف: لا بد على من استأجر الدابة لركوب أن يكون إلى موضع معين معلوم، فإن قال: استأجرت منك هذه الدابة لأطلب عليها ضالتي التي ضاعت مني فالإجارة لا تصح؛ لأنها مجهولة؛ لأننا لا ندري أيجدها قريباً أم بعيداً، فلا بد أن يكون إلى موضع معين، إذا قال: استأجرت منك هذا البعير إلى بلد ما، فلا يصح للجهالة، أو استأجرت منك هذا البعير إلى بلد معين لكن صاحب البعير لا يدري أين هذا البلد فلا يصح أيضاً؛ لأنه لا بد من علم المؤجر والمستأجر.
وهل يشترط أن يعلم الطريق أسهل هو أم وعر، آمن أم خائف؟ نعم؛ لأنه يختلف به القصد، فمثلاً إذا استأجر بعيراً إلى بلد والطريق آمن مُيَسَّر، فليس كما لو استأجرها إلى بلد طريقه خائف وغير ميسر، فبينهما فرق عظيم، فالمهم أنه لا بد أن يعرف كل ما تختلف به الأجرة.(10/48)
إذا استأجرها لحمل ليس لركوب فلا بد أن يعين المحمول؛ لأنه يختلف، مثلاً: هناك فرق بين أن يكون الحمل من القطن أو من الإسفنج وبين أن يكون من الرصاص فأيهما أشد؟ كل منهما أشد من الآخر فالإسفنج يكون كبيراً فيتعب البعير؛ لأنه سوف يستقبل الهواء، والهواء يعوق البعير ويتعبه، لكنه بالنسبة إلى ظهر البعير أيسر، والرصاص بالنسبة للهواء لا يضره، لكن بالنسبة لثقله على الظهر، ربما يجرحه ويكون فيه الدَّبَر، لذلك لا بد أن يعين نوع المحمول؛ لأن ذلك يختلف.
فصار لا بد أن يعين نوع المحمول والبلد وأن يعرف الطريق، ولو قال: استأجرت منك البعير لركوب رجل عليها إلى المدينة؛ فإنه يحتاج أن يعين الرجل؛ لأن من الركاب من هو خفيف على الدابة، لو تحرك عليها اشتدت به وصارت هملاجة، ومن الناس من لا تهتم به البعير، ثم يوجعها ضرباً وهي لا تمشي، ولهذا فالركاب الذين يعرفون الركوب سواء على الإبل أو على الخيل، يختلفون اختلافاً عظيماً، وسوف يأتي ـ إن شاء الله ـ في المسابقة أنه لا بد من تعيين الراكب؛ لأن الناس يختلفون.
ثم هناك فرق بين أن يكون الراكب كبير الجسم أو صغير الجسم، إذاً لا بد من تعيين الراكب، والقاعدة: (أنه لا بد من ذكر كل ما يختلف به القصد واستيفاء المنفعة) ، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: نهى عن بيع الغرر (1) ، والإجارة بيع منافع، وعلى هذا فلا بد أن لا يكون في هذه المنفعة شيء من الغرر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (7) .(10/49)
وقوله: «أو بقر لحرث» فيما سبق الحرث يكون على البقر؛ تجتمع عدة بقرات وتسير سيراً واحداً، ثم ترجع باتجاه آخر حتى تلين الأرض.
فإذا استأجر البقر للحرث، فلا بد أن تعرف الأرض؛ لاختلافها في الشدة والليونة، وفي الرطوبة واليبوسة، ولا بد أن تعرف المساحة طولاً وعرضاً، حتى يمكن استيفاء المنفعة على وجه معلوم لا نزاع فيه.
ولو استأجر بقراً للركوب، فإن الفقهاء يقولون: يجوز أن يستعمل الحيوان في غير ما جرت العادة به، فيجوز أن يركب البقرة والجاموسة، على كل حال إذا استأجرها لهذا وكان مما جرت به العادة فلا بأس.
وقوله: «أو دياس زرع» الزرع الآن يداس بالآليات، آلات تخلص الحب من جرابه ومن ساقه، لكن فيما سبق يجمع الحب بجرابه وساقه ثم تأتي البقر وتدوسه حتى ينقى الحب، فإذا استأجرها لدياس فلا بد من معرفة القدر أو معرفة الزمن؛ فإن معرفة الزمن تكفي عن معرفة القدر؛ لأن الزمن محدد بالساعات والدياس لا يختلف، غاية ما هنالك أن البقر تدور حتى تدق السنبلة.
لو استأجر بقراً لسقي، يعني لتغرف الماء من البئر وتسقي به الزرع، فإنه يجوز، لكن لا بد من معرفة الغرب الذي يسقى به؛ لأن الغرب الكبير يشق عليها أكثر، فلا بد من معرفته حتى لا يحصل خلاف.(10/50)
وقوله: «أو من يدله على طريق» يعني لو استأجر من يدله على طريق فلا بد من معرفة هذا الطريق، ولهذا قال: «اشترط معرفة ذلك وضبطه بما لا يختلف» .
فالطرق فيما سبق غير معبدة ويضل الناس فيها كثيراً ويهلكون كثيراً فيحتاجون إلى أدلاء، فإذا استأجر من يدله على الطريق كان ذلك جائزاً، وقد وقع هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم في هجرته من مكة إلى المدينة، حيث استأجر رجلاً يقال له: عبد الله بن أريقط وكان جيداً في الدلالة ماهراً خرّيتاً، وكان مشركاً فدلّهم على الطريق (1) ، فيجوز أن أستأجرَ شخصاً يدلني على الطريق لكن لا بد من ضبطه بما لا يختلف، فإذا كان البلد له طريقان فلا بد أن أقول: تدلني مع الطريق الفلاني، أعيّنه؛ لأنه قد يكون الإنسان له غرض في الطريق البعيد ليزور ما فيه من القرى أو ما أشبه ذلك.
وبمناسبة ذكرنا عبد الله بن أريقط الذي دل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الطريق في الهجرة، يؤخذ من ذلك أنه لا بأس في استئجار الكافر فيما يؤتمن عليه، سواء في دلالة الطريق أو في العلاج أو في الصنعة أو في البناء أو غير ذلك، لكن بشرط أن يكون أميناً، ويتفرع على ذلك أنه يجوز للمسلم أن يعمل بقول الطبيب الكافر في أن لا يصلي قائماً مثلاً، أو أن لا يركع، إذا كان العلاج مما يحتاج إلى عدم الركوع والسجود، وذلك ـ مثلاً ـ في مداواة الأعين، فإن كثيراً من الأطباء يقولون للمريض: لا تركع ولا
__________
(1) سبق تخريجه ص (5) .(10/51)
تسجد، فهذا يؤخذ بقوله، ولو كان كافراً ما دام أميناً، وكذلك في الإفطار.
وأما اشتراط بعضهم أنه لا بد أن يكون الطبيب مسلماً ففيه نظر، والصواب أنه لا بد أن يكون الطبيب أميناً سواء كان مسلماً أم غير مسلم، وكثير من الكفار يكون عنده أمانة، وإن كان لا يريد التقرب إلى الله ـ عزّ وجل ـ، لكنه يريد أن يعرف الناس صنعته وحذقه ونصحه فيتجهون إليه.
فإذا قال قائل: ما دليلكم على هذا؟ قلنا: دليلنا حديث الهجرة.
وهل يجوز أن نستأجر الكافر في بناء المساجد؟ الجواب: إذا أمنَّا ذلك، وكان القائم عليه مهندساً مسلماً فلا بأس، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز.
وَلاَ تَصِحُّ عَلَى عَمَلٍ يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مِنْ أَهْلِ القُرْبَةِ........
قوله: «ولا تصح على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة» هذه العبارة تداولها العلماء ـ رحمهم الله ـ وتلقوها ناشئاً عن سابق، ومعنى هذه العبارة أن كل عمل لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن يؤخذ عليه أجرة؛ ووجه ذلك أن ما كان لا يقع إلا قربة فإنه لا يجوز للإنسان أن يعتاض عن ثواب الآخرة شيئاً من ثواب الدنيا، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [هود] فحذَّر الله ـ عزّ وجل ـ أن يريد الإنسان بعبادته شيئاً من الدنيا، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ(10/52)
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ *} [الشورى] فما كان لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن تؤخذ الأجرة عليه.
مثال ذلك: الصلاة، لو قال رجل لابنه: صلِ يا بني، فقال الابن: لا أصلي إلا كل فرض بعشرة ريالات، ليستحق كل يوم خمسين ريالاً، فاستأجره، على أن يعطيه كل فرض عشرة ريالات فالأجرة هذه لا تصح؛ لأن الصلاة لا تقع إلا قربة.
وكذلك الأذان: لو أن إنساناً قيل له: أذن، فقال: ليس عندي مانع ولكن كل أذان بخمسة ريالات، فإنه لا يصح، ولو قيل لشخص: اقرأ القرآن ليكون ثوابه للميت، فقال: لا بأس، لكن لا أقرأ إلا الجزء بعشرة ريالات، فهذا لا يصح.
فكل شيء لا يقع إلا قربة فإنه لا يصح أن يقع عليه عقد الإجارة؛ والتعليل لأن هذا عمل يقصد به ثواب الآخرة ولا ينبغي أن يكون عمل الآخرة يراد به عمل الدنيا، ولهذا قال شيخ الإسلام فيمن حج ليأخذ: (ليس له في الآخرة من خلاق) أي ليس له نصيب، وأما من أخذ ليحج فقال: لا بأس به؛ لأنه استعان بالمال على طاعة الله، والاستعانة بالمال على طاعة الله أمر جائز ولا بأس به.
سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن رجل قيل له: أقم بنا في رمضان، يعني صل بنا القيام، فقال: لا أصلي بكم إلا بكذا وكذا، فقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: نعوذ بالله ومن يصلي خلف هذا؟! وهذا من الإمام أحمد يدل على أنه أبطل عبادته وبناءً على بطلان عبادته لا تصح الصلاة خلفه، وقد استعاذ الإمام(10/53)
أحمد ـ رحمه الله ـ من هذا الشرط، ولكن ما يقع قربة بالقصد وينتفع به الغير فلا بأس أن يأخذ الإنسان عليه أجرة من أجل نفع الغير، كالتعليم، إنسان قال لآخر: أريد أن تعلمني باب شروط الصلاة، فقال: ليس عندي مانع، لكن بشرط أن تعطيني أجرة، فنقول: هذا لا بأس به؛ لأن العوض هنا ليس عن التعبد بالعمل ولكن عن انتفاع الغير به.
لو أن شخصاً طُلب منه أن يعلم آخر سورة البقرة فقال: لا أعلمه إلا بأجرة فإنه يجوز؛ لأن هذا للتعليم لا للتلاوة، وفرق بين أن يكون للتعليم الذي يتعدى نفعه للغير وبين التلاوة.
ولو أن إنساناً قال لمريض: أنا لا أرقيك إلا بأجرة، وهو يريد أن يرقيه بالقرآن، فهذا يجوز؛ ولهذا لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية، فنزلوا على قوم ضيوفاً، فأبى القوم أن يضيفوهم، بعث الله على سيدهم عقرباً فلدغته ـ وكانت والله أعلم شديدة ـ فطلبوا من يعالجه، قالوا: لعل هؤلاء القوم فيهم من يرقي، يعنون بذلك الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين تنحوا عنهم لمَّا لم يضيفوهم، فجاؤوا إلى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وقالوا: إن سيدهم قد لُدغ، فهل منكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، منا من يرقيه، ولكن لا نرقيه إلا بطائفة من الغنم؛ لأنكم ما أكرمتمونا، ولا ضيفتمونا، فقالوا: لا بأس، فقرأ عليه القارئ، فقام كأنما نشط من عقال بإذن الله، ولم يقرأ عليه إلا سورة الفاتحة فقط، التي يقرأها بعض الناس اليوم ألف مرة ولا يستفيد المريض، فقرأ عليه سورة الفاتحة وبرأ بإذن الله، فأعطوهم الطائفة من الغنم ولكن أشكل(10/54)
عليهم الأمر، فقالوا: لا نأكل حتى نسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما قدموا المدينة وأخبروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بهذا قال: «نعم: كلوا واضربوا لي معكم بسهم» ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فأفتاهم بالقول وبالفعل من أجل أن تطمئن قلوبهم، وإلا فالفتوى القولية تكفي، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يسأل أحداً لكنه سأل هذا لمصلحتهم لا لمصلحته هو، فهو ليس بحاجة ولا ضرورة إلى لحمهم، لكنه فعل ذلك لمصلحتهم لتطيب قلوبهم قال: «خذوا واضربوا لي معكم بسهم فإن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (1) فدل هذا على أنه لا بأس إذا كانت العبادة ذات نفع متعدٍّ، وأراد الإنسان النفع المتعدي فلا بأس أن يأخذ عليه أجراً، ولو كانت من جنس الأشياء التي لا تقع إلا قربة؛ لأن هذا القارئ ما قصد التعبد لله بالقراءة بل قصد نفع الغير، إما التعليم أو الاستشفاء أو غير ذلك فهذا لا بأس به.
أشكل على بعض الإخوة المستقيمين ما يأخذه بعض الناس على الأذان والإقامة والتدريس والدعوة، وقالوا: إن هذا نقص وخلل في التوحيد؛ لأن هذا الذي يأخذ المكافأة لا شك أنه يجنح إليها، يعني ليس أخذها وعدمه عنده سواء، وأكثر الناس على هذا، بل ربما بعض الناس يصرِّح يقول: أنا أريد أن أكون إماماً لأني أريد أن أتزوج، أو لأني تزوجت وأحتاج إلى نفقة.
فيقول بعض الناس: إن هذا شرك؛ لأنه أراد بهذا العمل الصالح الدنيا، فيقال لهؤلاء: هذا الذي تأخذونه ليس أجرة،
__________
(1) سبق تخريجه ص (10) .(10/55)
ولكنه حق تستحقونه من بيت المال، وغاية ما عند الحكومة أن توزع بيت المال على المستحقين، فمثلاً: هذا مدرس فله ما يليق بعمله، وهذا مؤذن فله ما يليق بعمله، وهذا إمام فله ما يليق بعمله، وهذا داعية فله ما يليق بعمله، وهكذا، يعني ليس من الحكومة في هذا إلا التوزيع والتنظيم، أما أنت فلك حق، وكل من عمل عملاً متعدياً في المسلمين فله حق من بيت المال على حسب نتيجة هذا العمل وثمرته، وحتى من لم يعمل له حق من بيت المال، كالفقراء واليتامى ومن أشبههم، على كل حال هذه المسألة اشتبهت على بعض المستقيمين ولهذا يسألون عنها كثيراً، حتى إن بعضهم يكون أهلاً للإمامة تماماً، قارئاً وفقيهاً ولا يرغب؛ لأنه سوف يعطى مكافأة من بيت المال، فنقول: الحمد الله، أنت الآن لست مستأجراً ولكنك مستحق لهذا العمل الصالح ونفع المسلمين، فليس عليك أي بأس، فينبغي إذا أورد أحد هذا الإشكال أن يبيَّن له.
بقي علينا الحج، هل يجوز الاستئجار على الحج، مثل أن يستأجر شخصاً ليحج عنه أو لا؟
نقول: أولاً: إذا كان الحج فريضة والمستأجر قادر، فالإجارة لا تصح؛ لأن هذا يجب عليه أن يؤدي الفرض بنفسه؛ لأنه قادر بدنياً ومالياً، وإذا كان عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله وحجه فريضة، قد سبق لنا في الوكالة أنه يجوز أن ينيب عنه، واستدللنا لذلك بحديث الخثعمية التي قالت: إن أبي أدركته فريضة الله على عباده بالحج شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة،(10/56)
أفأحج عنه؟ فأذن لها (1) ، فهل تجوز الأجرة على ذلك أو نقول: اتفق مع الذي أراد أن ينيبك، ولا تبحث عن المقدار سواء أعطاك عشرة أو ألفاً؟
أما إذا كان الحج نفلاً فقد سبق لنا في الوكالة ـ أيضاً ـ أنه إن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه، فإنه يمكن أن يقال بالجواز قياساً على الفريضة، وإن كان صحيح البدن قوياً فالذي نرى أنه لا يصح؛ لأن العبادات مطلوب من الإنسان أن يشعر بأنه عابد لله ذليل، لا أن يعطي دراهم لشخص ويحج عنه، هل قال الذي أنابه: لبيك اللهم لبيك؟! لم يقل، هل طاف بالبيت أو سعى بين الصفا والمروة؟! هل وقف بعرفة؟! فأين الحج؟! كيف نقول: إن هذا حاج؟! وكيف نقول: إن له أجر الحج؟!
ولهذا قلنا: إن مثل هذا ينبغي أن يُعِينَ من يؤدي الحج عن نفسه أفضل له من أن يقول: حج عني، على كل حال، في الحال التي يجوز فيها أن يستنيب أحداً في الحج، هل يجوز أن يعقد عقد إجارة على هذه النيابة أو لا؟ المذهب لا يجوِّزون هذا ويقولون: الإجارة على الحج حرام؛ لأن الحج عبادة بدنية لا تقع إلا قربة، ليس كتعليم الفقه والحديث وما أشبه ذلك، فلا يجوز، وفيه وجه (2) أنه يجوز عقد الإجارة على الحج، وعمل الناس الآن على الثاني ولا يسع الناس إلا هذا، يعني لو قلنا: بأن
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب وجوب الحج (1513) ؛ ومسلم في الحج/ باب الحج عن العاجز (1334) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) الإنصاف (6/36) .(10/57)
الإجارة حرام سددنا باب النيابة نهائياً، من يُوفَّق فيقول: أنا أريد أن أقضي حاجة أخي وأقوم عنه بالحج وما أعطاني فأنا راضٍ به؟! هذا نادر أن يكون.
وقال بعض العلماء: إن ذلك جائز للحاجة فقط، وأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وجعل المدار على حاجة المستَأجَر ـ الذي أجر نفسه ـ إن كان محتاجاً جاز أخذ الأجرة، وإلا فلا.
وهل يجوز إعطاء الجائزة عليه؟ نعم يجوز، ولهذا يجوز أن تعطي من يحفظ عشرة أجزاء من القرآن ـ مثلاً ـ كذا وكذا ولا مانع.
والقاعدة: أن كل عمل لا يقع إلا قربة فلا يصح عقد الإجارة عليه، وما كان نفعه متعدياً من القرب صح عقد الإجارة عليه، بشرط أن يكون العاقد لا يريد التعبد لله ـ تعالى ـ بهذه القربة، وإنما يريد نفع الغير الذي استأجره لاستيفاء هذه المنفعة.
ما هو العمل الذي يشترط أن يكون فاعله من أهل القربة، ومن هم أهل القربة؟ أهل القربة يقولون: هو المسلم؛ لأن الكافر لا يكون من أهل القربة إطلاقاً، إذ إنه مهما عمل فإنه لا يقرِّبه عمله إلى الله، فكل عمل يصح إيقاعه من الكافر فعقد الإجارة عليه صحيح ولا بأس به حتى بناء المسجد، فلو أنك استأجرت إنساناً يبني لك مسجداً فلا بأس؛ لأن بناء المسجد يجوز أن يكون من الكافر، يعني يجوز أن يبني الكافر المسجد، إلا أننا نرى أنه لا بد أن يكون عليه قيم يراقب تنفيذه، البناء وأساسات البناء حتى لا يخون.(10/58)
فأهل القربة هم المسلمون؛ وذلك لأن الكفار مهما خشعوا وبكوا وذلوا أمام صنمهم فإن ذلك ليس بقربة، ولهذا يذكر أن النصارى في كنائسهم يخشعون خشوع المسلمين في مساجدهم، بكاء، ونياح، وعويل، لكن لا ينفعهم هذا، حتى قال بعضهم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *} [الغاشية] إن هؤلاء هم النصارى في كنائسهم، لكن هذا على كل حال غير صحيح؛ لأن الآية صريحة بأن ذلك يوم القيامة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *} {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [الغاشية: 1ـ 2] .
على كل حال الكافر لا يمكن أن يكون من أهل القربة، فإن قال قائل: أرأيتم لو أن كافراً بنى مسجداً للمسلمين أتجوز الصلاة فيه؟ هو لا يقبل منه ولا ينفعه حتى لو صلينا فيه ليس له أجر، لكن نحن لا نمتنع من الصلاة فيه؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «جعلت لي الأرض مسجداً» (1) نعم إن خفنا أن يريد هذا الكافر أن يصطاد بالماء العكر، أو أن يضفي مِنَّةً على المسلمين ويقول يوماً من الدهر: نحن الذين بنينا لكم المساجد، فهنا يجب علينا أن نهجر هذا المسجد، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا في هذا وأن لا يخون بعضهم بعضاً، أما إذا كان هذا الرجل الكافر معروفاً بالكرم وأنه يعطي هذا وهذا ولا يبالي ولا يمن، ولا يرى أن له فضلاً فلا بأس ولا مانع.
__________
(1) أخرجه البخاري في التيمم/ باب (335) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (521) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(10/59)
ومن ذلك ـ أيضاً ـ ما أشكل على بعض الناس يأتي إنسان يتعامل بالبنك أو يتعامل بأشياء أخرى محرم كسبها، ثم يبني مسجداً أو يصلح طريقاً فيقول: هل يجوز أن أصلي في هذا المسجد الذي أصلحه مَنْ مَالُهُ حرامٌ أو أمشي في الطريق؟ نرى أنه لا بأس أن يصلي في هذا المسجد ولو كان من مال ربوي أو من كسب محرم آخر؛ لأن إثمه على كاسبه، ثم نقول: هذا الرجل الذي بنى المسجد، لعله أحدث توبة وبنى هذا من أجل أن يتخلص من الإثم والكسب الحرام، فنكون إذا صلينا في ذلك وشجعناه نكون عوناً له على التوبة، والإنسان يجب أن ينظر إلى الأمور بمقياس الشرع والعقل لا بمقياس العاطفة العمياء؛ لأنه ما ضرَّ المسلمين حتى في عهد الصحابة ـ رضي الله عنه ـ إلا هذا، العاطفة العمياء، ما الذي أوجب للخوارج أن يخرجوا إلا العاطفة العمياء، ودعواهم أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قد خان وأنه يجب أن يقاتَل، وأنه كفر برضاه بالتحكيم وما أشبه ذلك.
ولو غصب أرضاً وبنى عليها مسجداً فلا نصلي فيها، أما على قول من قال: إن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة فلا نصلي فيه؛ لأننا لا نتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بشيء باطل، لكن على قول من يرى أن الصلاة في الأرض المغصوبة جائزة فنقول: أيضاً لا نصلي، ولا نقول: إن الصلاة لا تصح لكننا نقول: إن هذا تشجيع لهذا الغاصب الظالم أن يغصب أموال المسلمين، ثم يتبجح بأنه بنى عليها مسجداً.(10/60)
وَعَلَى المُؤَجِّرِ كُلُّ مَا يُتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ كَزِمَامِ الْجَمَلِ، وَرَحْلِهِ، وَحِزَامِهِ، وَالشَّدِّ عَلَيْهِ، وَشَدِّ الأَحْمَالِ وَالمَحَامِلِ، وَالرَّفْعِ وَالحَطِّ، وَلُزُومِ البَعِيرِ، وَمَفَاتِيحِ الدَّارِ وَعِمَارَتِهَا.
قوله: «وعلى المؤجر كل ما يتمكن به من النفع كزمام الجمل ورحله وحزامه والشد عليه وشد الأحمال والمحامل والرفع والحطِّ ولزوم البعير ومفاتيح الدار وعمارتها» ، إنسان أجر شخصاً بعيراً ليحج به، نقول: عليك كل ما يتمكن به المستأجر من النفع «كزمام الجمل» والزمام هو الحبل الذي تقاد به الناقة أو الجمل.
وقوله: «ورحله» وهو ما يقعد عليه الراكب.
وقوله: «وحزامه» وهو ما يشد به الرحل.
وقوله: «والشد عليه» يعني يشد هذا الرحل والحزام جيداً، ويحتمل أنه إذا نزلوا في مكان، ونزلوا الرحل عن البعير، أن المؤجر هو الذي يحمل الرحل ويشده على البعير.
وقوله: «وشد الأحمال والمحامل» الأحمال يعني الحمل الذي يكون على البعير كالأكياس والأواني وما أشبه ذلك، والمحامل هي التي تكون على جنب الرحل يركب عليها الناس وهذا شاهدناه قديماً، تكون البعير عليها من اليمين ومن الشمال مقاعد يقعد عليها الراكب وتسمى المحامل، والوسْط يسمى الشِّداد.
وقوله: «والرفع والحط» يعني يرفع المحامل وينزلها عند الاحتياج إليها، فلو أنه ـ مثلاً ـ أنزلها وبقوا في هذه الأرض لمدة يوم أو يومين، ولما أرادوا أن يسيروا قال المستأجر للمؤجر: ارفع الرحل وشده، قال: لا، أنت الذي ترفعه؛ لأن الحاجة لك(10/61)
أنت، فهذا لا يستقيم؛ لأن الحاجة له، لكن هذه الحاجة عُوِّضَ عنها بالأجرة فيقال للمؤجر: عليك هذا.
وقوله: «ولزوم البعير» أي: أن يكون ملازماً لها لئلا تشرد، أو يأتيها شيء يعيقها فيلزم المؤجر البعير.
وهذا فيما إذا كان المؤجر مع الرحل والإبل، أما إذا آجر البعير وحدها وقال: خذ هذه البعير سافر عليها وارجع بها، فمعلوم أن هذه الأشياء لا تلزم المؤجر؛ لأنه غير مصاحب لها، لكن مراد الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما جرت به العادة أن المؤجر يكون مع الإبل ويسمى عندنا الجمَّال نسبة إلى الجمل، فإذا كان الجَمَّال مع الجِمَال فإنه يلزمه ما قال المؤلف، أما إذا أجر الدابة فقط فلا يلزمه شيء من ذلك.
وقوله: «ومفاتيح الدار» مفاتيح الدار على المؤجر، وعلى هذا فإذا ضاعت من المستأجر بدون تعدٍّ ولا تفريط، وجب على المؤجر أن يصنع له بدلها، ويعطيها إياه؛ لأنها على المؤجر، وهي أمانة في يد المستأجر.
وقوله: «وعمارتها» بمعنى لو أن الدار تهدم منها شيء لا يتمكن به المستأجر من استيفاء المنفعة فإن على المؤجر عمارتها، وأما ما زاد على ذلك فإنه لا يلزمه إلا بشرط، كالذي يسمونه: (الديكور) فهذا لا يلزم المؤجر إلا إذا شُرِطَ عليه.
أما المراوح والمكيف فإنها على المؤجر، بخلاف الدفايات فإنها على المستأجر؛ وذلك لأن كل ما كان ثابتاً فإنه على المؤجر، وأما الشيء المتنقل فإنه يكون على المستأجر.(10/62)
فَأَمَّا تَفْرِيغُ البَالُوعَةِ وَالكَنِيفِ، فَيَلْزَمُ المُسْتَأْجِرَ إِذَا تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً.
قوله: «فأما تفريغ البالوعة والكنيف فيلزم المستأجر إذا تسلمها فارغة» ، «البالوعة» هي الحفرة التي يصب فيها الماء الفاضل من غسيل ونحوه وسمِّيت بالوعة؛ لأنها تبلع الماء، وأما الكنيف فهو مجمع العذرة، وكانوا فيما سبق يحفرون حفرة لتكون فيها العذرة، والبيت الذي يكون فيه هذه الحفرة يسمى الكنيف؛ لأن صاحبه يكتنف فيه أي يستتر عن الغير، والبالوعة والكنيف هل على المستأجر إفراغها أو على المؤجر؟ على المستأجر؛ لأنه هو الذي ملأها، ولهذا اشترط المؤلف وقال: «إذا تسلمها فارغة» تكون عليه؛ لأنه تسلمها فارغة فلزم أن يردها فارغة، فإن تسلمها وفيها النصف فعليه النصف وهلم جراً، يعني بحسب ما أدرك من ملئها فيكون عليه.
في الوقت الحاضر ليس هناك بالوعة ولا كنيف في أكثر البلاد، فيقال: على المؤجر إصلاح المواسير أي المجاري؛ لأن هذا يبقى، لكن لو تسددت هذه المجاري فإنها على المستأجر؛ لأنها تسددت بفعله، وكل هذا الذي قاله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يمكن أن يقال: إنه يرجع إلى العرف فيما جرت العادة أنه على المستأجر أو على المؤجر، فإن تنازع الناس فربما نرجع إلى كلام الفقهاء، وأما بدون تنازع وكون العرف مطرداً بأن هذا على المؤجر وهذا على المستأجر، فالواجب الرجوع إلى العرف لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا أمر بالوفاء بالعقد بأصله وصفاته وشرطه.(10/63)
فَصْلٌ
وَهِيَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَإِنْ آجَرَهُ شَيْئاً وَمَنَعَهُ كُلَّ المُدَّةِ أَوْ بَعْضَهَا فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
قوله: «وهي» الضمير يعود على الإجارة.
قوله: «عقد لازم» أي لا يمكن فسخه إلا لسبب؛ وذلك أن العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقود جائزة من الطرفين، وعقود لازمة من الطرفين، وعقود لازمة من طرف جائزة من طرف آخر، وذلك إذا كان العقد حقاً لأحدهما على أحدهما، فهو لمن هو له جائز، ولمن هو عليه لازم.
فالبيع لازم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فقد وجب البيع» (1) والوكالة عقد جائز من الطرفين لكل من الوكيل أو الموكل الفسخ، والكتابة أي: كتابة العبد وهو شراء نفسه من سيده عقد لازم من جهة السيد وجائز من جهة العبد، والرهن عقد جائز من جهة المرتهن، ولازم من جهة الراهن.
والإجارة عقد لازم؛ وذلك لأنها نوع من البيع، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» ثم ذكر أنهما إذا تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع.
ثم فرع على هذا الضابط وهو أن الإجارة عقد لازم بقوله:
«فإن آجره شيئاً ومنعه» أي: المؤجر، والضمير «الهاء» يعود على المستأجر، أي: منع المؤجرُ المستأجرَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112) ؛ ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531) (44) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/64)
قوله: «كل المدة أو بعضها فلا شيء له» ، أي: لا شيء للمؤجر.
مثال ذلك: أجره هذه الدار لمدة سنة، فجاء المستأجر يطلبها فمنعه، ومضت السنة كلها وهو قد منعها، فهل له أجرة؟ لا شيء له؛ لأنه هو الذي منعها، ولكن هل يلزمه الفرق بين الأجرتين أي: أجرة المثل والأجرة التي تم العقد عليها لو اختلفت، أو لا يلزمه؟ فمثلاً لو كان قد أجرها بعشرة آلاف وارتفعت الأجور حتى صارت تساوي في هذه السنة عشرين ألفاً، فهل يلزم المؤجر أن يسلم للمستأجر الفرق وهو عشرة آلاف؟
الجواب: على ما مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ نقول: الإجارة انتهت ولا شيء للمؤجر ولا شيء على المستأجر، وعلى القول الثاني يلزمه؛ لأن الإجارة لا تنفسخ، والمنفعة من حين العقد ملك للمستأجر فإذا منعه إياها يكون غاصباً، والغاصب عليه الضمان.
وإن كانت الأجرة نزلت فهل يلزمه النقص؟ لا؛ لأننا إذا قلنا بذلك صار فيه ضرر على المستأجر، فإن بقيت الأجرة كما هي فالأمر واضح.
ولو أجره إياها لمدة سنة باثني عشر ألفاً، ثم منعه ستة أشهر، ثم فَرَّغ البيت له وسكن المستأجر بقية المدة، فهل على المستأجر شيء؟ المؤلف يقول: لا شيء عليه؛ لأن المؤجر فوَّت على المستأجر منفعة الدار؛ إذ قد يكون من غرض المستأجر أن يبقى فيها مدة سنة كاملة.(10/65)
فإن قال قائل: لماذا لا تعطونه القسط من الأجرة إذا منعه بعض المدة؟
فالجواب: أن الإجارة وقعت على صفة معينة وهي سنة كاملة، وهذا الرجل لم يسلم له العين المؤجرة على هذه الصفة فلم يستحق الأجرة، هذا وجه.
الوجه الثاني: أنه ظالم معتدٍ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] .
الوجه الثالث: أن نقول للمؤجر: الأمر بيدك أنت الذي منعت وأنت الذي تمكن، فلما منعت كنت أنت الذي أسقطت حقك بنفسك فلا حق لك.
ومثل ذلك لو أجره البعير ليسافر عليها، ومنعه إياها، وفي أثناء الطريق سلمها له، فهل له أجرة فيما بقي؟ المؤلف يقول: ليس له أجرة؛ لأنه منع المستأجر حقه فسقط حقه، أي: المؤجر.
وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا فرق بين أن يمنعه بعض المدة
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في الحرث والمزارعة/ باب من أحيا أرضاً مواتاً، وأخرجه أبو داود في الخراج/ باب في إحياء الموات (3073) ؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1378) عن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه أبو داود في الموضع السابق (3074) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل من الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وحسنه الحافظ في البلوغ (897) وذكر له طرقاً أخرى في الفتح (5/19) ثم قال: وفي أسانيدها مقال لكن يتقوى بعضها ببعض، ومثله في الإرواء (1520) .(10/66)
لعذر أو لغير عذر؛ وذلك لأن حقوق الآدميين لا يفرق فيها بين العذر وغيره، وقد يقال: إنه إذا كان لعذر فإنه يلزم المستأجر أجرة بقية المدة، والعذر مثل أن يُمْنَعَ صاحبُ الدار من الاستيلاء عليها، فحينئذٍ نقول: له ما بقي من المدة، وللمستأجر أن يطالب الذي منعه بمقدار المدة التي منعه إياها.
مثال ذلك: رجل أجَّر شخصاً البيت لمدة سنة تبتدئ من الآن، لكن سُلط على هذا البيت جنود استحلُّوه غصباً، ولم يُسلَّمْ إلى صاحبه إلا بعد نصف سنة فصاحب البيت معذور، له نصف الأجرة؛ لأنه سُلِّم البيت عند انتصاف المدة، والمستأجر يطالب الجنود الذين منعوا صاحب البيت منه، فإن تعذر عليه طلبهم فلا يرجع على المؤجر؛ لأن المؤجر يقول: هذا حصل بغير اختياري.
وَإِنْ بَدَأَ الآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَعَلَيْهِ وتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ العَيْنِ المُؤْجَرَةِ، وَبِمَوْتِ المُرْتَضِعِ وَالرَّاكِبِ إِنْ لَمْ يُخَلِّفْ بَدَلاً، وَانْقِلاَعِ ضِرْسٍ أَوْ بُرْئِهِ وَنَحْوِهِ، ...
قوله: «وإن بدأ الآخر» أي: المستأجر.
قوله: «قبل انقضائها فعليه» يعني امتنع من سكناها فعليه الأجرة كاملة، ولا يقال: إنه ليس عليه إلا مقدار المدة؛ لأن المؤجر يقول: أنا الآن سلَّمتك البيت بأجرة فوجب لي في ذمتك الأجرة ووجب لك أنت النفع، وأنت قد استلمت النفع.
مثال ذلك: رجل استأجر بيتاً مدة الإجازة وهي ثلاثة شهور كل شهر بألف ريال، ثم إن المستأجر تأخر ولم يقدم البلد إلا بعد أن مضى شهرٌ، فيلزمه للمؤجر ثلاثة آلاف، يعني الأجرة كاملة؛ لأن المؤجر لم يحصل منه منع ولا غيره، فقد بذل العين المؤجرة ولكن التأخير من المستأجر، ولهذا قال: «وإن بدأ الآخر(10/67)
قبل انقضائها» أي: قبل انقضاء المدة «فعليه» أي: عليه الأجرة.
مثال آخر: استأجر هذا البيت لمدة ثلاثة أشهر وسكن فيه شهرين، ثم بدا له أن يرجع إلى بلده وقد بقي شهر، فهل عليه أجرة الشهر الباقي؟ نعم؛ لأن المؤجر يقول: أنا لا أمنعك استيفاء المنفعة.
فالإجارة عقد لازم، إن فسخت من قبل المؤجر فلا شيء له، وإن فسخت من قبل المستأجر فعليه الأجرة، وإن فُسِخت باختيارهما فعلى المستأجر مدة سكناه، ولا شيء عليه أكثر من ذلك، فإن استأجرها بألف لمدة ثلاثة شهور ولما مضى شهر اتفق هو والمؤجر على فسخ الإجارة، فهنا ليس عليه شيء، لكن عليه الشهر الذي سكنه، وأما الباقي فلا شيء عليه؛ لأنهما اتفقا على ذلك.
ثم قال المؤلف مبيِّناً ما تنفسخ به الإجارة:
«وتنفسخ» أي الإجارة.
قوله: «بتلف العين المؤجرة» لتعذر الاستيفاء، فلو آجره داراً فانهدمت فإن الإجارة تنفسخ، وعلى المستأجر أجرة ما سبق من المدة بالقسط، فلو استأجرها لمدة سنة بألف ومائتين، وانهدم البيت بعد تمام ستة أشهر يلزمه ستمائة، فإن قدر أن الزمن الذي انهدمت فيه زمن موسم تكون فيه العقارات أغلى، كأن تكون أربعة الأشهر الأخيرة تساوي ثلثي الأجرة، وهذا يوجد في بيوت مكة والمدينة، يكون قسط الأجرة باعتبار قيمة المنفعة لا باعتبار قيمة الزمن، فقد تكون ستة أشهر إذا وزعنا الأجرة عليها مع بقية(10/68)
السنة لا تساوي إلا ربع الأجرة، فنعطيه ثلاثمائة.
ولو استأجر سيارة فانحرقت، فإن الإجارة تنفسخ، وعلى المستأجر قسط المدة التي استأجرها لها.
قوله: «وبموت المرتضع» لو أن شخصاً استأجر امرأة لترضع ولده لمدة سنة فمات الولد، فإن الإجارة تنفسخ؛ لأن العين المعقود عليها ـ وهو الراضع ـ قد تلفت، فلا يمكن استيفاء المنفعة مع تلفها.
قوله: «والراكب إن لم يخلِّف بدلاً» مثال ذلك: لو استأجر شخص في النقل الجماعي من مكة إلى المدينة، وفي أثناء الطريق مات فهل تنفسخ الإجارة؟ المؤلف يقول: في ذلك تفصيل، إن خلف بدلاً ـ والبدل هو الوارث أو الموصى له ـ فلا تنفسخ، وإن لم يخلف بدلاً انفسخت؛ وذلك لأنه إذا خلف بدلاً فإنه يقوم مقامه، وإذا لم يخلف بدلاً فقد تعذر استيفاء المنفعة من قبل العاقد.
قوله: «وانقلاع ضرس» يعني تنفسخ ـ أيضاً ـ بانقلاع ضرس، فلو أن شخصاً استأجر طبيباً ليقلع ضرسه، فانقلع الضرس قبل أن يأتي الطبيب، فإن الإجارة تنفسخ، لتعذر الاستيفاء؛ لأن المعقود عليه ـ وهو الضرس الذي استؤجر لقلعه ـ انقلع، فلو أصرَّ الطبيب وقال: لا بد أن أقلع الضرس الثاني، فإنه لا يُمَكَّن من ذلك؛ لأنه استؤجر على قلع ضرس معين، والضرس المعين قد انقلع فلا شيء له.(10/69)
قوله: «أو برئه» يعني لو برئ الضرس فإن الإجارة تنفسخ، مثال ذلك: رجل التهب ضرسه وتورَّم، واستأجر طبيباً لقلعه، ثم إن الله ـ سبحانه ـ مَنَّ عليه بالشفاء وزال الورم وسكن الألم فإن الإجارة تنفسخ؛ لأنه قد استأجره لقلع ضرسه من أجل ألمه ومرضه، لا لأنه لا يريد الضرس، فتنفسخ، ولو وقع خلاف بين الطبيب الذي أتى بآلاته واستعد وفرغ زمناً من وقته لقلع هذا الضرس، فقال صاحب الضرس: إنه قد سكن الألم وبرئ، فقال الطبيب: لم يبرأ، فمن نصدق؟ صاحب الضرس بيمينه.
وإذا ادَّعى صاحب الضرس أن الألم قد سكن؛ لأنه علم أن الطبيب سيأخذ أجرة كثيرة، هذا فيه احتمال، لكن ولو كان وارداً فلا نقبله؛ لأن معرفة كونه برئ أو لم يبرأ لا يعلم إلا من جهته، فإذا قال الطبيب: أنا سوف أسقيه ماءً بارداً فإن تغير وجهه، أو شد لحييه عرفنا أنه لم يبرأ وإلا فهو بارئ، فإذا قيل: إن هذا الاختبار يؤدي إلى المقصود اختبرناه، كما قال العلماء في الجنايات فيمن جُني عليه فادعى أنه فقد السمع، ومعلوم أن الرجل إذا جُني عليه حتى فقد السمع، فعلى الجاني دية كاملة مائة بعير، والجاني يقول: أبداً ما فقد السمع وهو يقول: فقدتُ السمع، قالوا: يُختبر بأن يؤتى على غفلة ويصاح به فإن أحس فإنه كاذب في دعواه أنه ذهب السمع، وإن لم يحس فهو صادق، وهذا لا شك أنه من الأسباب التي تدل، ومثله البصر قالوا: إذا ادعى أن بصره فُقد في الجناية فإنه يُختبر، بأن يغتفله إنسان ثم يضع يده عند عينه فإن رمش فهو مبصر وإلا فلا.(10/70)
هذا الذي قاله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ لكن ربما يوجد الآن وسائل أدق من هذا يختبر بها ذلك.
قوله: «ونحوه» مثل أن يستأجر طبيب لمداواة مريض، فلما وصل لمداواة المريض وإذا المريض قد مات، فإن الإجارة تنفسخ، ولو كان في البيت مريض آخر فقال الطبيب: مات المريض الذي دعوتموني له فأنا أداوي الثاني ولا تنفسخ الأجرة، فلا يُوافَق؛ لأن المعقود عليه عين المريض وقد فاتت.
لاَ بِمَوْتِ المُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، وَلاَ بِضَيَاعِ نَفَقَةِ المُسْتَأْجِرِ وَنَحْوِهِ. وَإِنِ اكْتَرَى دَاراً فَانْهَدَمَتْ، أَوْ أَرْضاً لِزَرْعٍ فَانْقَطَعَ مَاؤُهَا، أَوْ غَرِقَتْ، انْفَسَخَتْ الإِجَارَةُ فِي البَاقِي.
قوله: «لا بموت المتعاقدين أو أحدهما» يعني لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما؛ وذلك لأن المعقود عليه باقٍ، فلو أجر بيته شخصاً ثم مات المؤجر أو المستأجر لم تنفسخ الإجارة؛ لأنها عقد لازم، وكما هو معلوم الناس يستأجرون البيوت وهذا يموت وهذا يولد له، وهكذا، وكذلك لو ماتا جميعاً لم تنفسخ أيضاً؛ لأنهما إذا ماتا انتقل إلى ورثتهما.
وسبق في كلام المؤلف أنه إذا مات الراكب ولم يخلف بدلاً فإنها تنفسخ، والراكب أحد المتعاقدين، فهل نقول: إن في كلامه تناقضاً، أو نقول: إنه مشى فيما سبق على قول، وفي الثانية على قول آخر؟ مشى صاحب الإنصاف على هذا، وقال: إن صاحب المقنع ـ رحمه الله ـ مشى في أول كلامه على قول، وفي الثاني على قول آخر، ولكن عندي أن الجمع بينهما هو أنه في الأول عُيِّن الراكب، قال: أنا أستأجر البعير إلى مكة ثم مات، وهنا المتعاقدان عقدا على شيء معين لا على شخص معين، وحينئذٍ لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين أو أحدهما.(10/71)
وسبق ـ أيضاً ـ أن مؤجر الوقف إذا مات فإن الإجارة تنفسخ إذا كان المؤجِّر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، وسبق لنا الخلاف في هذه المسألة، وأن عمل الناس على أن إجارة الوقف لا تنفسخ.
قوله: «ولا بضياع نفقة المستأجر ونحوه» إنسان ـ مثلاً ـ استأجر دكاناً من أجل أن يبيع فيه أموالاً، فاحترقت الأموال، المؤلف يقول: لا تنفسخ الإجارة، ويُلزم هذا الذي احترق ماله بدفع الأجرة؛ لأنه بإمكانه إذا لم ينتفع هو بالدكان أن يؤجره، وربما تكون الأسعار قد ارتفعت بعد، فلهذا لا تنفسخ باحتراق متاع مستأجر الدكان، واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنها تنفسخ؛ لأن هذا عذر لا حيلة فيه، والدكان قد يؤجر وقد لا يؤجر، وقاسه ـ رحمه الله ـ على وضع الجوائح، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» (1) وهذا الرجل الذي احترق متاعه لم يقبض المنفعة؛ لأن المنفعة في الإجارة تأتي شيئاً فشيئاً، وهو لم يقبضها وتعذر قبضه إياها بأمر لا قِبَلَ له به، فيكون كالثمر الذي أصابته جائحة، وما ذهب إليه الشيخ ـ رحمه الله ـ أولى، لا سيما إذا كان المؤجر يعلم أن هذا إنما استأجر البيت لبيع هذا المتاع الذي احترق، أما إذا كان لا يدري، مثل لو جاءه إنسان واستأجر منه الدكان ولم يقل له شيئاً، فهنا قد يتوجه ما قاله المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المؤجر لا يعلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(10/72)
مثله ـ أيضاً ـ ضياع نفقة المستأجر، مثل لو استأجر رجلٌ بعيراً ليحج عليه، فأراد الله ـ عزّ وجل ـ أن تضيع نفقته، وإذا ضاعت النفقة لا يمكن أن يحج، اللَّهم إلاّ بقرض، والقرض لا يلزمه، يقول المؤلف: إن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن العذر هنا لا يتعلق بنفس المعقود عليه، ونقول لهذا الذي ضاعت نفقته وترك الحج: بإمكانك أن تؤجر البعير.
والقول الراجح في هذه المسألة أن الإجارة تنفسخ؛ لأن صاحب البعير حيث علم أن الرجل استأجرها ليحج عليها، وأن نفقته ضاعت فالعذر هنا واضح ولا قِبَلَ له به، فهو كوضع الجوائح.
قوله: «وإن اكترى داراً فانهدمت أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها، أو غرقت انفسخت الإجارة في الباقي» إذا اكترى داراً فانهدمت إما بالسيول أو بزلزال ـ والعياذ بالله ـ أو بغير ذلك من أسباب الهدم أو أنها هدمت لصالح شارع للمسلمين، فإن الإجارة تنفسخ لتعذر استيفاء المنفعة في المعقود عليه، وما قبل ذلك لا ينفسخ، ولهذا قال: انفسخت الإجارة في الباقي، وأما ما استوفاه من قبل فهو على ما استوفاه، ولكن هل يؤخذ من الأجرة بقسط المدة أو بقسط المنفعة؟
إذا قلنا بقسط المدة معناه يلزمه ربع الأجرة؛ لأنه ذهب ثلاثة من اثني عشر، وإذا قلنا: إنه بقسط المنفعة قلنا: إن أجرتها في هذه الأشهر الثلاثة قد تقابل أجرتها كل السنة، انظر ـ مثلاً ـ(10/73)
إلى بيوت مكة، إجارتها في الحج أكثر من إجارتها بقية السنة، فنقول: لا نعتبر القسط بالمدة وإنما نعتبره بالمنفعة.
وقوله: «أو أرضاً لزرع فانقطع ماؤها أو غرقت» استأجر أرضاً لزرع وقد نص في عقد الإجارة أنها لزرع، وانقطع الماء يقول المؤلف: إن الإجارة تنفسخ؛ والسبب تعذر استيفاء المنفعة؛ لأن الزرع لا يمكن أن يقوم إلا بماء، وكذلك بالعكس لو غرقت الأرض، بأن كانت هذه الأرض روضة، وتداركت الأمطار عليها وصارت بحراً كل مدة الزرع، فهنا تنفسخ الإجارة؛ لتعذر استيفاء المنفعة من غير أحد الطرفين.
فإن قال قائل: ألا يؤيد هذا ما سبق ـ وقلنا: إنه الصحيح ـ فيما إذا استأجر دكاناً لبيع سلعة ثم تلفت فإن الإجارة تنفسخ؟
الجواب: إن هذا يؤيد ذلك من بعض الوجوه، ولكن الفرق أن هذا لخلل في المعقود عليه لا في المعقود له، في المسألة الأولى تعذر الانتفاع في المعقود له، وهنا تعذر الانتفاع في المعقود عليه وهو الأرض أو الدار، ومع ذلك فقد نقول: إن هذا الفرق غير مؤثر؛ لأن الانتفاع قد تعذر في هذا وفي هذا بغير إرادة الإنسان.
وَإِنْ وَجَدَ العَيْنَ مَعِيبَةً، أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ فَلَهُ الفَسْخُ، وَعَلَيْهِ أجْرَةُ مَا مَضَى. وَلاَ يَضْمَنُ أَجِيرٌ خَاصٌّ مَا جَنَتْ يَدُهُ خَطَأً،............
قوله: «وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى» .
إذا وجد عيناً معيبة، والعيب هنا ما تنقص به الأجرة، فليس كل عيبٍ يعتبر عيباً، وقد يقال: إن العيب ما يفوت به غرض(10/74)
المستأجر سواء نقصت الأجرة أم لم تنقص، لكن على قياس قولهم في عيب المبيع، أن العيب هو ما ينقص الأجرة، فإذا وجدها معيبة يقول المؤلف: «فله الفسخ وعليه أجرة ما مضى» (له) الضمير يعود على المستأجر، (الفسخ) يعني فسخ الإجارة «وعليه أجرة ما مضى» ؛ لأنه استوفى ما مضى من المنفعة فلزمه عوضها.
وهل له أن يبقيها بالأرش، بمعنى أن يقول: أنا أصبر على العيب الذي فيها، لكن أريد الفرق بين أجرتها سليمة وأجرتها معيبة، فهل له ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف: لا، وأنه لا يخير، ويقال له: إما أن تأخذها بما فيها من العيب وإلا فاتركها، وتنفسخ الإجارة وهو المذهب.
وقيل: له الأرش قياساً على العيب في المبيع، والأقرب أنه ليس له أرش، حتى العيب في المبيع سبق لنا أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: إن الأرش معاوضة جديدة لا يجبر عليه أحد إلا برضاه.
هذا فيما إذا كان المؤجر غير مدلس، فإن كان مدلساً، فإنه على الصحيح ليس له شيء من الأجرة؛ لأنه غاش، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غش فليس منا» (1) وهو ظالم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا» (101) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (66) .(10/75)
والقول الثالث: أنه إذا كان مدلساً ألزم بالأرش وإلا فلا.
مثال ذلك: استأجر بيتاً، فجاء المطر وأصاب البيت وخرَّ السقف وأفسد بعض ما فيها، فنقول: للمستأجر أن يفسخ، لكن لو قال المؤجر: أنا أزيل العيب الآن بدون ضرر عليك، فهنا نقول: ليس له الفسخ، ما دام العيب سيزال بدون ضرر عليه فإنه لا فسخ له؛ لأنه لن يفوته شيء.
مسألة: إذا اتفق رجل مع جمّال ليُرْكِبَه إلى مكة ليحج ويرجع ـ مثلاً ـ ثم هلك البعير في الطريق، فهل تنفسخ الإجارة، أو نقول: يلزم صاحب البعير أن يؤمن له بعيراً؟
الجواب: الثاني؛ لأن العقد ليس على عين البعير، وإنما على العمل فيلزم صاحب البعير أن يؤمن له بعيراً.
قوله: «ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الأجراء نوعان: أجير خاص، وأجير مشترك.
فما الفرق بينهما؟
ما كان مستأجراً بالزمن فهو أجير خاص، وما كان مستأجراً على عمل فهو أجير مشترك، ويظهر ذلك بالمثال:
استأجرتَ عاملاً يعمل عندك في البيت، أو في الدكان، أو في المزرعة، فهذا أجير خاص؛ لأن عمله مقدر بالزمن، فالشهر بكذا وكذا، والأسبوع بكذا وكذا، واليوم بكذا وكذا.
استأجرت خياطاً يخيط لك ثوباً، فهذا مشترك؛ لأن نفعه مقدَّر بالعمل، وإنما سُمِّي الأول خاصاً؛ لأن زمنه خاص(10/76)
بالمستأجر، لا يملك الأجير أن يتصرف فيه، فهو لا يملك أن يعمل عند رجل آخر في هذه المدة؛ لأن المدة خاصة بالمستأجر، والمشترك ليس خاصاً بالمستأجر، فقد فتح بابه لكل أحد، فتجد الخياط ـ مثلاً ـ يأتيه فلان وفلان وفلان، كل واحد منهم يريد أن يخيط له ثوباً.
إذاً الفرق بين الخاص والمشترك:
أن ما قدِّر نفعه بالزمن فهو خاص، وما قُدِّر بالعمل فهو مشترك.
فرق آخر: أن الأجير الخاص منفعته مملوكة مدة الأجرة، والأجير المشترك منفعته غير مملوكة.
هل يمكن أن يجتمعا، بمعنى أن أستخدم هذا الرجل عندي على عمل معين، أقول له مثلاً: أنا أريد أن أستأجرك لمدة خمسة أيام تخيط لي كذا وكذا ثوباً؟
الجواب: لا؛ لأن الخاص يقضي على العام، ما دمت قد قدَّرت مدته بالزمن فهو خاص، وإن كنت قد عيَّنت له عملاً معيناً، وتكون الإجارة فاسدة، هذا هو المذهب.
والصواب: أنه يجوز الجمع بين مدة العمل والعمل؛ لأن فيه مصلحة، ويستعمل هذا بعض الناس في المقاولات فيقول: تنفذ هذا البيت في خلال سنة، فإن تمت السنة فعليك لكل يوم خصم كذا وكذا، فالصحيح أنه جائز بشرط أن تكون المدة المقدرة معقولة، بحيث إن هذا البيت يبنى في هذه المدة، أما إذا كان يبنى في سنة وقال: في ستة شهور فإن هذا لا يجوز؛ لأنه غرر.(10/77)
وانتبه للفرق بينهما من حيث الحكم، فقوله: «ولا يضمن أجير خاص ما جنت يده خطأ» ؛ وذلك لأن الأجير الخاص يعمل كالوكيل عن المستأجر.
مثال ذلك: استأجرت عاملاً عندك شهراً بكذا وكذا ليعمل، وفي يوم من الأيام أخطأ في العمل وصار في هذا الخطأ ضرر عليك؟ يقول المؤلف: لا يضمن؛ لأنه يشتغل عندك بالوكالة عنك، والوكيل لا يضمن ما تلف من فعله بلا تعدٍّ ولا تفريط.
مثال آخر: استأجرت خياطاً عندك، وقلت له: أنا أريد أن أستأجرك لمدة شهر للخياطة ولم تعين له ثوباً معيناً ولا شيئاً، فأعطيته ثوباً أو أي شيء يخيطه، وأخطأ في التفصيل، فلا يضمن؛ لأنه لم يتعد، وهو يتصرف بالوكالة عنك، والوكيل لا يضمن ما لم يتعد أو يفرط.
وَلاَ حَجَّامٌ، وَطَبِيبٌ، وَبَيْطَارٌ لمْ تَجْنِ أَيْدِيهِمْ، إِنْ عُرِفَ حِذْقُهُمْ، وَلاَ رَاعٍ لَمْ يَتَعَدَّ.
قوله: «ولا حجام» يعني لا يضمن حجام، والحجامة هي استخراج الدم من الإنسان بطرق معينة، ولها أحوال وأوقات، أحياناً يطلب فيها من الإنسان أن يحتجم، وأحياناً ينهى أن يحتجم فيها.
قوله: «وطبيب» معروف وهو الذي يعالج البشر.
قوله: «وبيطار» وهو الذي يعالج البهائم.
وهؤلاء الثلاثة أجراء عامّون من وجه، خاصّون من وجه آخر، إن أتيت بهم إلى البيت فإنهم يشبهون الخاص ومع ذلك هم عامّون.
قوله: «لم تجنِ أيديهم إن عُرف حذقهم» اشترط المؤلف(10/78)
ـ رحمه الله ـ في عدم ضمان خطأ الحجام والطبيب والبيطار شرطين:
الأول: أن لا تجني أيديهم، ومعنى تجني أي: تزيد على قدر الحاجة، سواء عن عمد أو عن خطأ.
الثاني: إن عُرف حذقهم، أي: إجادتهم للصنعة ومعرفتهم بها، فإذا اجتمع هذان الشرطان فلا ضمان.
مثال ذلك:
أولاً الحجام: هذا حجام معروف بالحذق لكنه أخطأ وقطع عرقاً لا يقطع مثله في الحجامة، فهلك الرجل المحجوم فإنه يضمن؛ لأن يده تعدت موضع الحاجة، وإن كان خطأً؛ لأن ضمان الأنفس والأموال لا يشترط فيه القصد، ولهذا يجب الضمان على المجنون إذا أتلف المال وإذا أتلف البهيمة وإذا أتلف النفس إلا أن عمده خطأ.
ثانياً الطبيب: أراد أن يعمل عملية ـ ولتكن عملية الزائدة ـ أجرى العملية لكن المشرط تجاوز موضع الحاجة، بأن فتح أكثر مما يحتاج إليه فهلك المريض فهنا يضمن؛ لأنه جنت يده.
وكذلك في وصف الدواء: طبيب وصف الدواء لشخص فقال له مثلاً: خذ خمسة أقراص من هذا الدواء ويكفيه ثلاثة، وهذا المريض أخذ خمسة الأقراص فهلك، يضمن؛ لأنه جنت يده في الواقع، وأخطأ في التقدير فيكون ضامناً وإن كان غير آثم.
الشرط الثاني: «إن عرف حذقهم» يعني بأن يكون مجرباً في(10/79)
الإصابة عارفاً، فإن لم يعرف فإنه يضمن بكل حال، حتى وإن لم يتعد موضع الحاجة، رجل لا يعرف الجراحة، فأجرى عملية جراحية لشخص وشق البطن، لكنه عجز أن يخيطه، فهذا يضمن لا شك؛ لأنه يحرم على الإنسان أن يتعاطى الطب وهو لا يعرف، فكما أن المسائل الدينية يحرم على الإنسان أن يفتي فيها بلا علم، كذلك ـ أيضاً ـ المسائل غير الدينية لا يجوز للإنسان أن يتقدم إليها بلا علم، فيكون ضامناً.
مثال آخر: إنسان قلنا له: هذا الصبي نحب أن تختنه وهو غير خَتَّان، فمن اجتهاده قال: أنا أريد أن أبالغ في الختن؛ لأنه أطهر وأحسن، فقطع الحشفة مع القلفة فإنه يضمن؛ لأنه غير حاذق وتعدى، وهذا من الأصل يمنع؛ لأنه غير حاذق.
ومثال عدم الحذق بدون التعدي: لو أن هذا الخاتن ختن وقطع القلفة فقط قطعاً تاماً، بمعنى أنه ليس فيه نقص لكن الجرح تعفن حتى أدى إلى هلاك الصبي فهنا يضمن؛ لأنه غير حاذق، لا لأن يده جنت، لكن لأنه غير حاذق.
فصار يمكن أن نقول: يجتمع الضمان في عدم الحذق وحده، وفي جناية اليد وحدها، وفيهما جميعاً حسب الأمثلة التي ذكرنا.
لو قال قائل: إذا قلتم باشتراط الحذق، معناه أنه لا يمكن أن يتقدم الطب؛ لأننا إذا قلنا: إنه لا يتطبب بوصف الدواء أو الجراحة أو غير ذلك إلا من كان حاذقاً، فمتى يتعلم الإنسان؟!(10/80)
نقول: يمكن أن يتعلم بالدراسة والتطبيق العملي، قبل أن يباشر هو المعالجة، أما أن يأتي إنسان متعلم ولم يكن حاذقاً ليجري التجارب على الأصحاء حتى يموتوا، فهذا لا يجوز.
وهناك شرط ثالث لعدم ضمانهم لم يذكره المؤلف، وهو أن يكون عملهم بإذن مكلَّف، أي: بالغ عاقل، أو ولي غير مكلف، فلو أن صبياً ذهب إلى ختَّان، وقال له: اختني فختنه خِتاناً طبيعياً، ولكن الصبي مات لتعفن الجرح، فهنا يضمن.
قوله: «ولا راع لم يتعد» الراعي يعني راعي الماشية سواء رعى إبلاً أو غنماً أو ظباء أو غيرها.
والراعي قد يكون أجيراً خاصاً، وقد يكون مشتركاً، فإن كان عمله قدِّر بالزمن، بأن كان يعمل عندك لمدة شهر يرعى غنمك فهو خاص، وإن كان يرعى لنفسه يأخذ غنمك وغنم غيرك فهو مشترك.
الراعي لا يضمن إذا لم يتعد أو يفرِّط؛ لأنه أمين مؤتمن، والبهائم حصلت في يده بإذن مالكها فيده يد أمانة، هذا الراعي عَدَتْ عليه ذئاب وأكلت ما أكلت من الماشية، فهل عليه الضمان؟
ليس عليه ضمان، لكن عليه أن يدافع.
مثال ثانٍ: راعٍ فرَّط، أوقف الماشية في بطن الوادي والسماء مغيمة والمطر حريٌّ بالنزول، فأنزل الله المطر ومشى الوادي واجترف الماشية، فعليه الضمان؛ لأنه مفرط.
مثال ثالث للمتعدي: راع كان بينه وبين الأرض التي يريد(10/81)
أن يذهب إليها وادٍ يمشي، فجازف وخاض الوادي بالماشية فهلكت فإنه يضمن؛ لأنه متعدٍّ، ومنهي عن أن يعمل عملاً يضر بالماشية.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ لو نزل بَرَدٌ من السحاب ولم يُدْخِل الماشية تحت سقف حتى ماتت فعليه الضمان؛ لأنه مفرط والواجب أن يدخلها في محل تنجو به.
وَيَضْمَنُ المُشْتَرَكُ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ.
قوله: «ويضمن المشترك» يعني الأجير المشترك وهو الذي قدر نفعه بالعمل، ويتقبل العمل من كل أحد كالغسال والخياط ونحوهما.
قوله: «ما تلف بفعله» ولو خطأ، لأنه ورد عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم ضمنوه مطلقاً (1) ، وثانياً: لأن العمل مضمون عليه؛ لأنه قدر نفعه بالعمل، فإذا أخطأ ولم يؤد العمل الذي هو مضمون عليه لزمه الضمان.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يضمن ما تلف بفعله خطأ؛ لأنه مؤتمن، فلا فرق بينه وبين الأجير الخاص، فكما أن الأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله خطأ فكذلك هذا؛ إذ لا فرق فكل منهما مؤتمن.
وقيل: ما تلف بفعله الذي يفعله هو بنفسه اختياراً يضمنه،
__________
(1) روي ذلك عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أخرجه عبد الرزاق (14949) ؛ وابن أبي شيبة (4/360) ط/الحوت، وروي مثله عن علي ـ رضي الله عنه ـ وكان يقول: لا يصلح الناس إلا ذلك، أخرجه عبد الرزاق (14948) ؛ وابن أبي شيبة (4/360) (ط/الحوت) .(10/82)
وأما ما كان بغير إرادته كالزلق وشبهه فلا يضمنه، ولكن الصحيح أنه لا ضمان مطلقاً إذا لم يتعد أو يفرط، والعمل على ما مشى عليه المؤلف.
مثال ذلك: خياط مشترك، أتى له شخص بقطعة من القماش وقال خطها لي قميصاً، فأخطأ وخاطها سراويل فعليه الضمان.
ولو قال: أنا نسيت وتوهمت أنك تريدها سراويل، فإننا نقول: لا يسقط الضمان؛ لأنك أنت الذي تعديت، نعم يسقط الإثم، وأما الضمان الذي هو حق آدمي فإنه لا يسقط، وهذا معنى قوله: «ما تلف بفعله» .
كذلك ـ أيضاً ـ لو أنه قال له: خِط هذا الثوب قميصاً واسعاً، والقطعة تكفي، لكن اجتهاداً منه قال: أجعله معقولاً؛ لأوفر قطعة القماش على صاحب الثوب ففعل، فإنه يضمن؛ لأنه فعل غير ما أذن له فيه.
وإذا قلنا: إنه يضمن فهل له أجرة؛ لأنه تعب وخاط، وأمضى وقتاً وخيوطاً واستعمالاً للآلة أو لا؟ ليس له أجرة.
وإذا قلنا في هذه الحال: إنه يضمن، فهل نقول: يأخذ السراويل ويرد بدلها قطعة القماش، أو نقول: يأخذ صاحب القطعة السراويل ويعطى الفرق بين القميص والسروال؟
الأول هو الواجب، لكن إذا اصطلحا على شيء فلا بأس، لو قال: أنا آخذ السراويل ولكن أعطني الفرق بين السراويل والقميص فلا بأس إذا اتفقا.(10/83)
قوله: «ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله» ، «ولا يضمن» أي: الأجير المشترك، «ما تلف من حرزه» فهذا الخياط ـ مثلاً ـ لما كان الليل أغلق الدكان بما جرت العادة أن يغلق به، ولم يقصِّر في الإغلاق، ولكن أتت السرَّاق وسرقوا الدكان، ومن جملته الثياب التي استأجره صاحبها لخياطتها.
فلا يضمن؛ لأن التلف بغير فعله، وهو لم يتعد ولم يفرط، فهو قد وضعها في حرزها.
ولو علق الثوب خارج الدكان ليتذكر صاحبه إذا مر، فيقف ويأخذه ويعطيه الأجر فنسي أن يدخله في الدكان، فأُخذ الثوب فإنه يضمن؛ لأنه تلف في غير حرزه، والمؤلف يقول: «ولا يضمن ما تلف من حرزه» وهذا لا شك أنه ليس حرزاً أن يعلقه عند باب الدكان من الخارج.
وقوله: «أو بغير فعله» كذلك ـ أيضاً ـ ما تلف بغير فعله فإنه لا يضمن، كما لو احترق الدكان فتلف الثوب الذي استؤجر لخياطته، فهذا التلف ليس من فعله، إذاً لا ضمان عليه؛ وذلك لأنه لم يتعد ولم يفرط، لكن يقول:
«ولا أجرة له» يعني ما تلف بفعله يضمنه ولا أجرة له، وما تلف بغير فعله أو من حرزه فلا يضمنه ولا أجرة له، مع أنه خاط الثوب ـ كما في المثال السابق ـ وعمل فيه وأمضى زمناً في خياطته وأتى بكل ما استؤجر عليه، يقول المؤلف: «ولا أجرة له» ؛ لأنه لم يسلم الثوب لصاحبه، وصاحبه إنما استأجره ليعمل له ثوباً يلبسه وينتفع به، وقد فاتت هذه المنفعة فلا يكون لهذا الأجير أجرة، وهذا هو المذهب.(10/84)
والصحيح أن له الأجرة؛ لأنه وفى بما استؤجر عليه، وما دام لا يضمن لك الثوب فإنه لا يضمن لك العمل في الثوب؛ لأننا إذا قلنا: ليس له أجرة، فمعناه أننا ضمَّنَّاه العمل في الثوب وذهب عليه خسارة، ولأنه غير متعدٍّ ولا مفرط وقد قام بالعمل الذي عليه، وتلف الثوب ـ مثلاً ـ على حساب صاحبه ـ المالك ـ، أما الأجير، فقد أدى ما عليه، فكيف نقول: لا أجرة له؟!
فإن قال صاحب الثوب: إنك لم تعمل فيه شيئاً ولم تخطه، وقال الخياط: إني خطته، فمَن القول قوله؟ قول المالك؛ لأن الأصل عدم الخياطة، حتى لو فرض أنه مضى مدة يمكنه أن يخيط هذا الثوب فيها، ثم ادعى أنه خاطه، ولكن مَنْ قلنا القولُ قولُهُ، فلا بد من اليمين.
وهل اليمين هنا على البت، أو على نفي العلم؟
نقول: على البت، فإذا قال: أنا لا أحلف على البت، قلنا: إذاً نأخذ بقول الخياط، وإن قال: أنا أحلف على نفي العلم، قلنا: هذا لا يدفع به قول الخصم؛ لأن الأصل أن دعواه إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها فهي حق.
مسألة: إذا كان القماش من الخياط وتلف عنده، فليس له شيء لا قيمة ولا أجرة، فصار الفرق بين الأجير الخاص والمشترك من حيث التعريف، ومن حيث الضمان، ومن حيث الأجرة.
وَتَجِبُ الأُجْرَةُ بِالعَقْدِ إِنْ لَمْ تُؤَجَّلْ، وَتُسْتَحَقُّ بِتسْلِيمِ العَمَلِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ. وَمَنْ تَسَلَّمَ عَيْناً بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ، وَفَرَغَتْ المُدَّةُ لَزِمَهُ أُجْرَةُ المِثْلِ.
قوله: «وتجب الأجرة بالعقد» لما ذكر المؤلف أحكام الإجارة، وهي تتعلق بالعين المؤجرة في كل ما سبق، ذكر ما يتعلق بالأجرة، والأجرة هي العوض الذي اتفق عليه المتعاقدان،(10/85)
وهو ما يصح عقد البيع عليه، سواء كانت دراهم نقداً، أو عيناً، أو منفعة، ولهذا يجوز استئجار منفعة بمنفعة، واستئجار عين بمنفعة، واستئجار عامل يعمل بمنفعة.
وقوله: «وتجب الأجرة بالعقد» أي: بمجرد العقد تجب الأجرة للأجير؛ وذلك كما أن المستأجر ملك المنفعة بالعقد فالمؤجر يملك عوضها بالعقد، ويتفرع على ذلك لو استأجرتك لعمل بهذه الشاة، فالشاة تكون للأجير من حين العقد، لبنها وصوفها له، وولدها الذي نشأ بعد عقد الإجارة له؛ لأن الأجرة تجب بمجرد العقد، لكنها لا تستحق إلا بتسليم العمل الذي في الذمة، أو تسليم العين مع مضي المدة.
قوله: «إن لم تؤجل» لأنها إذا أُجِّلت فقد رضي كلا الطرفين ألا تجب إلا بعد تمام الأجل، مثل أن أقول: أجرتك بيتي هذا بعشرة آلاف تحل في شهر محرم عام ثماني عشر، فالأجرة الآن لم تجب؛ لأن الطرفين اتفقا على أن تكون مؤجلة إلى محرم.
قوله: «وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة» أي: وتستحق الأجرة سواء كانت معينة أو غير معينة بأمور منها:
أولاً: بتسليم العمل الذي في الذمة، فإذا استأجرت عاملاً على أن يحرث لك هذه الأرض، وحرثها، فإنه يستحق الأجرة الآن، بكل حال؛ لأنه أدى ما عليه فاستحق ماله، ولا يملك المطالبة بتسليمها له قبل تمام العمل؛ لأنه من الجائز أن لا يتم العقد الذي بيني وبينه.
ثانياً: بتسليم العين المؤجرة التي وقع عليها العقد إذا مضت(10/86)
المدة، سواء انتفع بها المستأجر أم لا، فإذا استأجرتَ بيتاً من شخص وسلَّمك المفتاح، ثم مضت المدة وأنت لم تسكنه، ولم تؤجره، ولم تسكنه أحداً تبرعاً فإن الأجرة ثابتة عليك؛ لأنه سلَّمك العين التي وقع العقد عليها، وتسليم العين التي وقع عليها العقد بمنزلة تسليم العمل الذي في الذمة.
لكن لو منعه من هذه العين يد ظالمة قادرة على منعه، فهل نقول: إن الأجرة ترد على صاحب العين؟ أو نقول: إن الظلم وقع على المنفعة التي استأجرها الأجير لها؟
الجواب: الثاني، يعني أن المنفعة تذهب على المستأجر، فمثلاً لو أن شخصاً استأجر بيتاً من آخر وسلَّمه المفتاح، ثم سُلط على هذا المستأجر يد ظالمة أخذت منه البيت قهراً وسكنته، فالضمان هنا على مستأجر البيت؛ لأن المستأجر لما قبض العين المؤجَّرة ملك المنفعة الآن، فالظلم وقع عليه هو وليس على المؤَجِّر، أما لو تسلَّطت هذه اليد الظالمة على العين المؤجَّرة قبل أن يسلِّمها المؤَجِّر، فهنا تفوت على المُؤَجِّر؛ لأن الأجرة لم تُستحق بعد، إذ لا يستحقها إلا إذا سلَّم العين.
قوله: «ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل» يعني لو عقد إنسان عقد إجارة فاسدة، وتسلم العين، ومضت المدة، فإنه يلزمه أجرة المثل دون الأجرة التي وقع عليها العقد؛ وذلك لأن الأجرة التي وقع عليها العقد أجرة فاسدة؛ لعدم صحة العقد، وظاهر كلام المؤلف سواء كانت أجرة المثل أقل مما وقع عليه العقد أو أكثر؛ لأنه لما ارتفع العقد الفاسد ارتفعت جميع متعلقاته.(10/87)
فإن لم تبتدئ المدة لم يلزمه شيء ولزمه رد العين إلى صاحبها، فإن مضى شيء من المدة لزم ردها إلى صاحبها، وأجرة ما استعملها فيه بقسطها من أجرة المثل.
وقوله: «بإجارة فاسدة» تفسد الإجارة إما بفوات شرط أو وجود مانع.
مثال فوات الشرط: رجل استأجر من شخصٍ حرّاً ليعمل عنده، ومعلوم أن تأجير الحر لا يجوز، كما جاء في الحديث الصحيح: «رجل باع حرّاً فأكل ثمنه» (1) فكذلك لو أجره فأكل أجرته فإنه لا يحل، فهذا إنسان ـ مثلاً ـ قال لشخص: أنت تريد عاملاً عندك؟ قال: نعم قال: هذا غلامي، خذه، الشهر بمائة ريال، وهو حر، فالإجارة هنا فاسدة؛ لأنه لا يصح عقد الإجارة على الحر؛ لأن من شرط الإجارة أن يكون المؤجر مالكاً للعين المؤجرة، فأخذ المستأجر الغلام واستعمله حتى تمت المدة، يقول المؤلف: إنه يلزمه ـ أي المستأجر ـ أجرة المثل؛ وذلك لأن عقد الإجارة كان فاسداً، والفاسد وجوده كالعدم، ولكن كيف يقول المؤلف: «أجرة المثل» وهو حر لا يصح تأجيره؟ نقول: يُقدر كأنه قن ـ أي: عبد ـ فيقال: كم أجرة هذا العبد؟ قالوا: أجرته ـ مثلاً ـ مائتا ريال، وهو قد استأجره بمائة ريال، نقول: سلِّم مائتي ريال؛ لأن الأجرة فاسدة، وهذا فيما إذا كان المستأجر عالماً بأن هذا
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إثم من باع حراً (2227) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، ولفظه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» .(10/88)
الغلام ليس مملوكاً له، فهنا يلزمه أجرة المثل، وهي في المثال الذي ذكرنا مائتا ريال، مع أن العقد وقع على مائة، لكن هذا العقد فاسد، فالقول بأنه يلزم المستأجر أجرة المثل قول صحيح؛ لأن المستأجر دخل على بصيرة وعلم بأن الإجارة غير صحيحة.
لكن إذا كان لا يدري، وقد عقد الأجرة على مائة، فكيف نلزمه بمائتين؟
يقول الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في التعليل: إن إتلاف مال الآدمي لا فرق في ضمانه بين العالم والجاهل، كما لو استعمل الإنسان شخصاً يظنه عبده، واستعمله في عمل، فعليه ضمانه، وإن كان لا يدري، ولكن في هذا نظر؛ لأن هذا الذي استعمله بالأجرة التي يظنها صحيحة كان مغروراً، غره المؤجر، وإذا كان مغروراً فيجب أن يكون الضمان على الغار، وهذا هو مقتضى القياس والنظر الصحيح، وعليه فنقول: يجب على المستأجر في المثال الذي ذكرنا مائة ريال، ويضمن الآخر الذي أجره المائة الثانية، ويكون لهذا الغلام الحر مائتا ريال، وهذا هو العدل، وأما أن نُضَمِّن شخصاً ما لم يلتزمه مع أن العقد حسب رأيه واعتقاده عقد صحيح، فهذا فيه نظر.
فالصواب إذاً أنه يلزمه أجرة المثل، لكن إن كان مغروراً فما زاد على الأجرة التي تم العقد عليها فعلى من غره.
فإذا قدرنا أن أجرة المثل أقل، مثلاً أجره بمائتين، وأجرة مثله مائة، فهل نلزمه بالمائتين؟
نقول: إن كان عالماً بأن الإجارة فاسدة ألزمناه بمائتين؛ لأنه دخل على بصيرة، ثم ما زاد على أجرة المثل يكون لهذا الغلام؛(10/89)
لأنه مظلوم، ولا يكون للذي أجره؛ لأن الذي أجره لا يملكه، فليس له شيء، وإن كان غير عالم فعليه أن يضمن لهذا الحر ما وقع عليه العقد؛ لأنه رضي به واعتبره صحيحاً، فيلزم بما ظنه، وإذا رأى القاضي أن يأخذ هذه الزيادة ويصرفها في بيت المال فلا حرج عليه؛ لأنه مال في الحقيقة ليس خالصاً لمن استحقه، وما اشتُبِه فيه فإنه يُلحق ببيت المال، وإن كانت أجرة المثل بمقدار ما وقع عليه العقد فلا إشكال؛ لأنه ليس فيه زيادة ولا نقص.
مثال آخر: استأجر شخصاً على عمل محرم، مثل أن يستأجر شخصاً ليبيع له خمراً، أو يحمل له خمراً، أو ما أشبه ذلك، فالإجارة فاسدة، لكن العامل الآن هل نقول: ليس له شيء؛ لأن الإجارة فاسدة، والعمل المحرم لا قيمة له؟ أو نقول: يُلزم المستأجر بالأجرة التي وقع عليها العقد؟
الجواب: يجب أن يلزم بالأجرة التي وقع عليها العقد، ثم إن كان العامل يعلم أن هذا شيء محرَّم فإنها تصرف في بيت المال، وإن كان لا يعلم فإنه يعطى إياها ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والله أعلم.
مثال وجود مانع: اتفق زيد مع عمرو على أن يؤجره بيته والبيت ملك لزيد، ولكنهما عقدا الإجارة في المسجد، والإجارة في المسجد لا تصح؛ لأنها حرام، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن لهذا» (1) فالإجارة إذاً لا تصح لوجود مانع، فإذا تمت المدة، ألزمناه بأجرة المثل، فإذا تعاقدا على عشرين ألفاً،
__________
(1) أخرجه الترمذي في البيوع/ باب النهي عن البيع في المسجد (1321) ؛ والدارمي في الصلاة/ باب النهي عن استنشاد الضالة في المسجد والشرى والبيع (1/347) (ط/البغا) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ؛ وصححه ابن خزيمة (1305) ؛ والحاكم (2/56) على شرط مسلم، وأقره الذهبي.(10/90)
وأجرة المثل عشرة آلاف، لزمه عشرة آلاف، وهذا فيما إذا كانا جاهلين واضح، فإن كانا عالمين فينبغي أن نعاملهما، بما يقتضيه العقد والزائد نجعله في بيت المال؛ لئلا يحصل التلاعب.
فإن قال قائل: إذا تسلم العين بإجارة فاسدة فلماذا لا نلغي العقد والأجرة، ونقول: لا شيء له، لا أجرة المثل ولا الأجرة المتفق عليها؟
فالجواب: هذا لا يمكن؛ لأنه ظلم، فالمالك فُوِّتَت عليه منفعة ملكه مدة الإجارة، فإذا قلنا: لا أجرة لك، فإننا نظلمه بذلك، والمستأجر قد استوفى المنفعة، فإذا قلنا له: لا أجرة عليك، أبحنا له أن يأكل أموال الناس بالباطل، وحينئذٍ نقول: يلزمك أجرة المثل.
والخلاصة: أن كل من تسلَّم عيناً بإجارة فاسدة فإنه لا عبرة بما حصل عليه العقد، تُفسَخ الإجارة ويُرجع إلى أجرة المثل، فإن كانت أجرة المثل مساوية لما وقع عليه العقد فلا إشكال، وإن كانت أجرة المثل أكثر، ألزمنا المستأجر بها، ثم إن كان عالماً فالزيادة عليه، وإن كان جاهلاً مغروراً فالزيادة على من غره، وإن كانت أجرة المثل أقل، فإن كان عالماً ألزمناه بما التزم به؛ لأنه دخل على بصيرة، فهو يعلم أن العقد فاسد، والتزم الزيادة على أجرة المثل، وإن كان جاهلاً لم يلزمه أكثر من أجرة المثل، وإن رأى القاضي قضاءً أن يلزمه بما التزم به ـ ولو كان جاهلاً ولكن يُجعل في بيت المال ـ فلا حرج.(10/91)
بَابُ السَّبْقِ
قوله: «باب السَّبْق» بسكون الباء، وأما «السَّبَق» فهو العِوض، فالسبْق معناه فَوْت لا يدرك، بمعنى أن يفوتك الإنسان على وجه لا تدركه، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، لا يمكن لمن بعدهم أن يلحقهم في هذا الوصف، ومن سابقك جرياً على الأقدام حتى وصل المنتهى قبل أن تصله فقد سبقك على وجه لا تدركه.
فالسبْق فوت لا يدرك، سواء كان معنوياً أو كان حسياً، وسواء كان في الزمان أو كان في المكان، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ سبقونا بالزمان، وهذا سبق حسي، وكذلك سبقونا سبقاً معنوياً بالعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.
والسبق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم لا يجوز لا بعوض ولا بغيره.
وقسم يجوز بعوض وغيره.
وقسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض.
والأصل فيه منع العوض؛ لأنه من باب الميسر، فإن الإنسان إما أن يكون غانماً وإما أن يكون غارماً، فإذا جعلنا مائة ريال لمن سبق، وتسابق اثنان في الجري على الأقدام، فأحدهما إما غانم وإما غارم، إما أن يأخذ مائة الريال من صاحبه فيغنم،(10/92)
أو تؤخذ منه المائة فيغرم، فهو في الحقيقة ميسر، ولذلك فالأصل هو منع العوض في المسابقة، ولا يجوز إلا لسبب كما سيأتي إن شاء الله.
يَصِحُّ عَلَى الأَقْدَامِ، وَسَائِرِ الحَيَوَانَاتِ، وَالسُّفُنِ، وَالمُزَارِيقِ،.......
قوله: «يصح على الأقدام» هذا هو القسم الذي يجوز بغير عوض، وهو ما لا مضرة فيه شرعية، وليس فيه منفعة تربو على مفسدة المراهنة فيه، فهذا القسم يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، سواء كان هذا العوض نقداً أو عروضاً أو منفعة، مثل أن يتسابق رجلان أيهما أسرع وصولاً إلى الغرض الذي عيَّنَّاه، وهو جائز بين الرجلين، وبين المرأتين، وبين الرجل وزوجته، كما سابق النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة ـ رضي الله عنها ـ (1) ؛ لأن في ذلك ترويحاً عن النفس، وتنشيطاً وتقوية للبدن، وتحريضاً على المغالبة.
وظاهر كلام المؤلف وغيره أنه لا فرق بين أن يتسابقا استقبالاً أو استدباراً؛ لأن المسابقة على الاستدبار تقع بين كثير من الناس، أيهما أشد عزيمة أن يرجع إلى الوراء بسرعة تفوق صاحبه فهذا جائز، وهل يجوز على اليمين وعلى الشمال؟ نعم يجوز، ويقع هذا ـ أيضاً ـ من بعض الناس يتسابقون أيهما أسبق ذهاباً، يميناً أو شمالاً.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/39) ؛ وأبو داود في الجهاد/ باب في السبق على الرجل (2578) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (1979) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ؛ وصححه ابن حبان (4691) ؛ والألباني في الإرواء (1502) .(10/93)
ولا بد فيها من تعيين المسافة ابتداء وانتهاء، ولا بد أن تكون المسافة مما يمكن إدراكه، فإن قال: أسابقك من عنيزة إلى مكة على الأقدام، لم يصح؛ لأنه لا بد أن تكون مقيدة بمسافة معتادة، وقد كان من عادة الصبيان أنهم يتسابقون على الأقدام، فإذا سبق أحدهما الآخر قال له: احملني على ظهرك من منتهى المسابقة إلى ابتدائها فهل هذا جائز؟ هذا لا يجوز؛ لأنه بعوض وهو المنفعة؛ لأن حمله إياه من هذا المكان إلى هذا المكان منفعة فلا تجوز، وقد يقال: إنه يرخص في ذلك للصغار الذين لم يبلغوا وإن لم يرخص للكبار، يعني الصغار يرخص لهم من اللعب ما لا يرخص للكبار.
ولكن يجب أن نعلم أن المباح إذا تضمن ضرراً صار محرماً، فلو أجريت المسابقة في هذه الأمور في وقت صلاة الجماعة، كانت المسابقة حراماً، ولو أدى ذلك إلى العداوة والبغضاء والتحيز والتعصب كان ذلك حراماً.
مسألة: كرة القدم من هذا النوع، أي: أنها تجوز بغير عوض ولا تجوز بعوض؛ لأن فيها ترويحاً للنفس، وتقوية للبدن، وتعويداً على المغالبة، ولكن بشرط أن لا يدخلها التحزب المشين، كما يحصل من بعض الناس يتحزبون لنادٍ معين، حتى تحصل فتنة تصل إلى حد الضرب بالأيدي والعصي والحجارة.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في المسابقة على الأقدام هل تجوز بعوض أو لا؟ المذهب أنها لا تجوز بعوض كما(10/94)
سبق، ومنهم من قال: إنها تجوز بعوض؛ لأن السبق على الأقدام ينتفع به في الحرب، في الكر والفر، فهو مفيد، لكن هذا الاحتمال يرد عليه أننا لو أجزنا العوض في هذه الأشياء لكانت سبباً للتجارة، بمعنى أن الناس يتجرون بها؛ لأنها سهلة المؤونة، ولا تحتاج إلى اقتناء فرس أو إصلاح رمح أو ما أشبه ذلك، فتتخذ تجارة وينشغل الناس بها عن أمور أهم منها، فهذه المصلحة التي قد يتوقعها الإنسان مع العَدْوِ معارضة بالمفسدة، وهو أن ينكب الناس عليها ثم يتخذونها تجارة، وهذا مانع قوي.
فإن قال قائل: وأيضاً السبق على الخيل الآن يُتخذ تجارة، ومنفعته في الحرب في الوقت الحاضر قليلة فيلزم ـ على طرد القاعدة ـ أن تمنعوا من ذلك ـ أي: من المسابقة على الخيل بالعوض ـ؛ لأن الناس اتخذوها تجارة.
فنقول: هذا ينبني على قاعدة ذكرها العلماء ـ رحمهم الله ـ وهي: أنه إذا نص الشرع على شيء ذي فائدة في وقت الرسالة ثم عدمت منفعته التي تكون في وقت الرسالة، فهل نتبع المعنى أو نتبع اللفظ؟ العلماء يختلفون في هذا، ومن ذلك الشعير والأقط في زكاة الفطر منصوص عليهما، وهما في ذلك الوقت قوت للناس سواء كانوا في البادية أو في الحاضرة، وفي الوقت الحاضر ليسا قوتاً، فهل نتبع اللفظ ونقول: هذا شيء عيَّنه الشرع فهو مجزئ سواء كان قوتاً للناس أو لا؟ أو نقول: إذا أصبح واحد من هذه الأربعة غير قوت فإنه لا يجزئ؟ فيه(10/95)
احتمال واحتمال، لكن الاحتمال الأخير بالنسبة للفطرة أصح؛ لأنه ثبت في البخاري من حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا نخرجها صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذٍ التمر والشعير والزبيب والأقط» (1) فهذا صريح أن العلة هي الطعام، وكما قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض النبي صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين» (2) ، لكن نحن الآن في مسألة الخيل، والخيل في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا شك أنها آلة عظيمة فعَّالة في الحرب، وهي في الوقت الحاضر ليست كذلك بل يحصل السبق بها كتجارة، فهل نقول: لما فقدت العلة التي من أجلها جاز السبق يجب أن يفقد الحكم، أو نقول: نأخذ بظاهر اللفظ ولا علينا من العلة تخلَّفت أو وُجدت؟ فيه احتمال.
قوله: «وسائر الحيوانات» كالبغل والحمار وغيرهما مما يركب، والبقرة ـ أيضاً ـ تصح المسابقة عليها؛ لأن القول الراجح جواز ركوب ما لا يركب عادة؛ لعموم قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
ولكن هل يجوز المسابقة بالحيوان نفسه، بمعنى أن يطلق الرجلان كلبيهما ويتسابقا على ذلك؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة قبل العيد (1510) .
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب زكاة الفطر (1609) ؛ وابن ماجه في الزكاة/ باب صدقة الفطر (1827) ؛ والدارقطني (2/138) ؛ والحاكم (1/409) وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وقال الدارقطني: «ليس فيهم مجروح» وحسَّنه في الإرواء (3/332) .(10/96)
الظاهر أنه لا يجوز؛ لأنه لا فعل من المتسابقين في هذه الحال، وقد يقال بالجواز؛ لأن فعل الكلاب ونحوها بأمر صاحبها، كفعل صاحبها، ولهذا جاز صيدها إذا أرسلها صاحبها.
ويشترط في المسابقة على الحيوانات نفسها أن لا يكون في ذلك أذية لها، فإن كان في ذلك أذية، كما يفعله بعض الناس في المسابقة في نقر الديوك بعضها ببعض، فإن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يربي ديكه على أن يكون قوياً في المناقرة، فهذا حرام ولا يجوز، ومثل ذلك نطاح الكباش، ومثل ذلك صراع الثيران، إذاً كل ما فيه أذية للحيوان فإن المسابقة فيه محرمة.
قوله: «والسفن» وهي الفلك التي تجري في الماء، تصح المسابقة عليها؛ لأن الناس يختلفون فيها اختلافاً كثيراً، وهنا ينبغي أن يقال: إن السفن الحربية يجب أن تلحق بالإبل؛ لأنها داخلة في آلات الحرب ومعداتها.
قوله: «والمزاريق» قال في الروض (1) : إنها رمح قصير، يتسابقون به في الطعن، وكذلك المسابقة بالسيوف، إلا أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قال: لا يجعله سيفاً حاداً، بل يكون سيفاً من خشب أو نحوه، وهذا ما يسمى عند الناس الآن بالمعركة الوهمية، بمعنى أنهم يتشابكون فيما يسمى بالسلاح الأبيض، لكن لا يجعل الإنسان خنجراً حاداً أو سيفاً حاداً؛ لأنه ربما أهوى به
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (5/348) .(10/97)
الشيطان إلى صاحبه فقتله، لكن يجعله من جنس العصا أو الخشب أو ما أشبه ذلك.
وهل من ذلك ما يسمى بالملاكمة؟ لا، أولاً؛ لأن الملاكمة ضرب مع الوجه خاصة، وهذا منهي عنه.
ثانياً: أنها خطرة؛ لأنه لو أصيب الإنسان الملاكم في مقتل لهلك، لكن إذا كان الإنسان يريد أن يتمرن تمريناً فقط ولكنه لا يضرب الوجه، من أجل أن يستعين بذلك على قتال العدو مثل الكراتيه، فهذه يقولون: إنها مفيدة للإنسان جداً في مهاجمة العدو، وفي الهرب منه، فتكون المسابقة في هذا جائزة، بل لو قيل: إن الناس لو انقلبوا إلى حرب بهذه الطريقة لدخلت في الأشياء التي تجوز بعوض.
وَلاَ تَصِحُّ بِعِوَضٍ إلاَّ فِي إِبِلٍ، وَخَيْلٍ، وَسِهَامٍ. ...............
قوله: «ولا تصح بعوض» أي لا تصح المسابقة بعوض سواء كان عيناً أو نقداً أو منفعة.
قوله: «إلا في إبل وخيل وسهام» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا سبَق إلا في نصل أو خُف أو حافر» (1) .
«لا سبق» أي: لا عوض إلا في هذه الثلاثة، وإنما جاز في هذه الثلاثة لما فيها من المصلحة العامة من الجهاد في سبيل الله؛
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/256) ، وأبو داود في الجهاد/ باب في السبق (2574) ، والترمذي في الجهاد/ باب ما جاء في الرهان والسبق (1700) . والنسائي في كتاب الخيل/ باب السبق (6/226) ، وابن ماجه في الجهاد/ باب السبق والرهان (2878) ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان، وصححه الألباني في «الإرواء» (5/333) .(10/98)
لأن الإبل يحمل عليها المجاهدون الأمتعة، والخيل فيها الكر والفر، والسهام فيها الرمي، ويقاس عليها ما يشبهها من آلات الحرب الحاضرة، فالدبابات ونحوها تشبه الإبل، والصواريخ وشبهها تشبه السهام، والطائرات وشبهها تشبه الخيل، فهذا القسم يجوز بعوض وبدونه.
وقوله: «إبل» بأن يتسابق اثنان على بعيريهما.
وقوله: «وخيل» بأن يتسابق اثنان على فرسيهما.
وقوله: «وسهام» بأن يتسابق اثنان بسهاميهما أيهما يصيب.
وظاهر كلام المؤلف في الإبل والخيل: أنه لا فرق بين أن تكون المسابقة في الجري أو في حمل الأثقال، وهذا بالنسبة للإبل واضح؛ لأن الإبل ينتفع بها في الجري وينتفع بها في حمل الأثقال، لكن في الخيل، في النفس من هذا شيء؛ لأن الخيل إنما ينتفع بها في المسابقة جرياً.
إذاً الدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا سبق» أي: لا وضع عوض في المسابقة «إلا في إبل وخيل وسهام» وهذا النص صريح.
فإن قال قائل: هذا جارٍ على خلاف القياس؛ لأنه ميسر إذ أن أحدهما غانم أو غارم.
فالجواب: أن من العلماء من أخرج هذه المسألة عن القمار بأن قال: لا بد من أن يكون معهما ثالث ليس غانماً ولا غارماً،(10/99)
أي: أن يكون محلِّلاً فإن غلب أخذ عوضيهما، وإن غلباه لم يُؤخذ منه شيء، وهذا يخرج المسألة عن صورة القمار والميسر، لكن هذا الجواب ضعيف جداً.
أولاً: لضعف الحديث الوارد فيه (1) ، فالحديث ليس بحجة.
ثانياً: أن هذا حيلة؛ لأنه إن جاز أخذ العوض بلا محلِّل فلا حاجة للمحلِّل، وإن كان حراماً صار إدخال المحلل من أجل استحلال الحرام، والحيل ممنوعة شرعاً.
ثالثاً: أن المحلِّل الآن سيشاركهم في المسابقة ومع ذلك هو غانم على كل حال أو سالم، فيكون شاركهما في الفعل وخالفهما في الحكم والنتيجة، وهذا ليس من العدل، والمسابقة مبناها على العدل، فالمحلل إذا سبق أخذ العوضين من الاثنين، وإن سُبق لم يأخذ شيئاً ولم يؤخذ منه شيء، وهذا خلاف العدل، فكيف يكون مشاركاً لهما في العمل، ثم يخالفهما في النتيجة والثمرة؟!
فالصواب أنه لا يشترط أن يوجد محلِّل، وأن هذه المسألة مستثناة، وأن فيها مصلحة تربو على مفسدتها، والمصلحة هي
__________
(1) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار» . أخرجه الإمام أحمد (2/505) ؛ وأبو داود في الجهاد/ باب في المحلل (2579) ؛ وابن ماجه في الجهاد/ باب السبق والرهان (2876) ، وانظر: الفروسية لابن القيم ص (229) (ط/ مشهور) فقد أطال الكلام في بيان ضعفه.(10/100)
التمرن على آلات القتال، وهذه مصلحة كبيرة وعظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر، والشرع كله مصالح، إما غالبة وإما متمحِّضة.
وأما ما لا يجوز بعوض ولا غيره فهو المسابقة في الأمور المحرمة، كالمسابقة في العدوان على الناس، وقطع الطريق، وما أشبه ذلك، أو المسابقة في لعب الشطرنج، والنرد، وغير ذلك مما يلهي كثيراً عن المهمات في الدين أو الدنيا ولا فائدة فيه، وهذا هو الضابط فيه، فالذي لا يجوز بعوض، إما أن يكون محرماً لذاته كالمسابقة على العدوان على الناس، وقطع الطريق، ونهب الأموال، وإخافة الآمنين، وما أشبه ذلك، فهذا حرام سواء كان بعوض أو بغير عوض.
وإما أن يكون مما يلهي كثيراً ويتعلق به القلب كثيراً، ولا خير فيه ولا منفعة كالنرد، والشطرنج، وما أشبههما من هذه الألعاب التي كثرت أنواعها في الوقت الحاضر.
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ المَرْكُوبَيْنِ، وَاتِّحَادِهِمَا، وَالرُّمَاةِ، وَالمَسَافَةِ بِقَدْرٍ مُعْتَادٍ. وَهِيَ جَعَالَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَسْخُهَا. ..............
قوله: «ولا بد من تعيين المركوبَين» يعني اللذين يقع عليهما السبق، فتقول مثلاً: أسابقك على هذا الجمل، والثاني يقول: أسابقك على هذا الجمل، أو يقول: أسابقك على هذا الفرس والثاني يقول: أسابقك على هذا الفرس، فلو قال: أسابقك على فرس بدون تعيين لم تصح، فلا بد من تعيين الفرسين أو الجملين مثلاً.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط تعيين الراكبين؛ لأنه قال: «المركوبين» والصحيح أنه شرط وهو مذهب الشافعي، ولا(10/101)
بد منه؛ لأنه ليس المقصود أن يكون هذا الجمل أو هذا الفرس سابقاً، بل السبق في الحقيقة يكون من جودة الفرس أو الجمل ومن حذق الراكب، ربما يكون الفرس فرساً جيداً جداً ويركبه إنسان ليس حاذقاً فلا يمشي، ونفس الفرس يركب عليه رجل آخر ويمشي، وهذا شيء مشاهد، ولما كان الناس يستعملون الحمير كآلة ركوب وآلة نقل، تجد أحد الركاب إذا ركب على الحمار بمجرد ما يحرك نفسه يمشي الحمار، وبعض الناس يركب ويزجر الحمار ويضربه ولا يتحرك.
قوله: «واتحادهما» لا بد ـ أيضاً ـ من اتحادهما، بمعنى أنه لا بد أن يكون السبق في الخيل على فرسين من نوع واحد كعربي وعربي، وبِرذَوْن وبِرذَوْن، وهجين وهجين، فلو سابق على فرس وبغل فلا يجوز، ولو سابق بين عربي وهجين فلا يجوز، وكذلك في الإبل فلا يصح بين العِراب والبَخاتي؛ لاختلاف النوع؛ لأنه لا بد من اتحادهما وأن يكونا من نوع واحد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط اتفاقهما في الذكورة والأنوثة، فيجوز أن يكون السبق على جمل وناقة أو على فرس وحصان، ولا سيما ـ أيضاً ـ بالنسبة للناقة والجمل فلا بأس، وإن كان يختلف بعضهما عن بعض في مسألة التحمل والصبر والقوة.
قوله: «والرماة» لا بد ـ أيضاً ـ من تعيينهم فيما إذا كانت المسابقة بالسهام؛ لأن القصد معرفة حذقهم وهذا لا يحصل إلا بالتعيين، فيقال مثلاً: فلان ابن فلان يسابق فلان ابن فلان، فلو(10/102)
قال مثلاً: المسابقة على رجل من بني تميم ورجل آخر من بني غطفان، فهذا لا يصح لعدم التعيين؛ لأنه لا بد من تعيين الرماة، ولا بد ـ أيضاً ـ من تعيين السهم بمعنى أن يكون المُرمى به (الآلة) من نوع واحد، ومعروف الآن الفرق بين أنواع الأسلحة فلا بد أن يكون السلاح نوعاً واحداً.
وهل يشترط ـ أيضاً ـ أن يكون الطراز واحداً؟ ينظر: إذا اختلفت فلا بد من أن يكون الطراز واحداً، أما إذا لم تختلف فلا يشترط؛ لأنها أحياناً لا تختلف من حيث القوة والأداء، لكن تختلف من حيث الشكل فقط، فلا بد من اتحاد ما يرمى به بشرط أن يكون عدم الاتحاد يؤدي إلى الاختلاف.
قوله: «والمسافة بقدر معتاد» لا بد ـ أيضاً ـ من تحديد مسافة الرمي، وكانوا في الأول يعتمدون في مسافة الرمي على قوة الرامي؛ لأنه نبل يرمي به الإنسان، فالإنسان الذي ليس بقوي لا يذهب سهمه بعيداً، فلا بد من تعيين المسافة بقدر معتاد، قالوا: وأكثره ثلاثمائة ذراع يعني حوالي مائتي متر تقريباً، وهذه المسافة بالنسبة للأسلحة الموجودة الآن لا شيء، ولكن فيما سبق لا أحد يرمي ثلاثمائة ذراع، والمرجع في ذلك إلى العرف.
وهذه الشروط التي ذكرت هي لجواز أخذ العوض في المسابقة، أما إذا لم يكن عوض فالأمر واسع، فلو قال شخص لآخر: إن عنده حماراً جيداً لا يسبقه الفرس، وقال الآخر: أنا(10/103)
عندي فرس، أتحداك، فتسابقا أحدهما على حمار والثاني على فرس، فيجوز بلا عوض.
مسألة: هل تجوز المسابقة في العلوم؟
إذا كانت هذه العلوم شرعية، أو مما يعين على الجهاد كالصناعات الحربية، فالمذهب لا تجوز المسابقة عليها للحديث، والراجح الجواز وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وذلك أن الدين الإسلامي قام بالسيف والعلم والدعوة، فإذا جازت المراهنة على السيف ونحوه جازت المراهنة على ما قام به من العلم، ولكن ينبغي تقييد هذا الإطلاق بما إذا لم يكن غرض الإنسان الحصول على المال فقط لا الوصول إلى الحكم الشرعي فهنا ينبغي أن يمنع، وقد يقال بعدم المنع؛ لأن بعض العلماء قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.
قوله: «وهي» أي: المسابقة.
قوله: «جَعَالة لكل واحد فسخها» يعني أنها ليست من العقود اللازمة، بل هي من العقود الجائزة، فهي تشبه الجعالة.
والجعالة هي أن يجعل الإنسان شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً، مثل أن يقول: من رد ضالتي فله ألف ريال، والسبق من هذا الجنس.
وقوله: «لكل واحد» ـ أي: من المتسابقين ـ «فسخها» ، ويشترط لذلك أن لا يظهر الفضل لأحدهما، فإن ظهر الفضل لأحدهما فإنه يمتنع على صاحبه أن يفسخ؛ لئلا يؤدي إلى التلاعب، فمثلاً إذا كانت الإصابة تسعة من عشرة، ثم إن صاحبه(10/104)
أخذ ثلاثة وهو أخذ خمسة، فلا يجوز لصاحب الثلاثة أن يفسخ، ويجوز لصاحب الخمسة أن يفسخ؛ لأنه ظهر له الفضل.
فإن قال قائل: حتى صاحب الثلاثة ربما يكون مع تكرار المسابقة يقفز، وذاك يتأخر؛ لأن الإصابة مقدرة بتسعة من عشرة؟
نقول: هذا احتمال وارد، لكن ليس لنا إلا الظاهر، والآن الظاهر الغلبة مع صاحب الخمسة، فصاحب الخمسة تبين الآن أن الحق له فيما يظهر، فإن فسخ هو فلا بأس، وإن فسخ المغلوب فليس له ذلك إلا إذا رضي صاحبه.
فقوله: «لكل واحد فسخها» مطلق يجب أن يقيد بما إذا لم يظهر الفضل لأحدهما، فإن ظهر الفضل لأحدهما فليس للمفضول أن يفسخ إلا برضا صاحبه.
وَتَصِحُّ المُنَاضَلَةُ عَلَى مُعَيَّنِينَ يُحْسِنُونَ الرَّمْيَ.
قوله: «وتصح المناضلة» أي: المسابقة في الرمي.
قوله: «على معيَّنين يحسنون الرمي» يعني لا بد أن يكون الرماة معيّنين، وسبق في قوله: «والرماة» لكن لا بد أن يكونوا يحسنون الرمي؛ لأن من لا يحسن الرمي لا فائدة من رميه، والشارع إنما أجاز المسابقة بعوض في الرمي؛ من أجل أن يجيد الإنسان الرمي ويتمرن عليه، فإذا كان لا يعرف فإنه لا يصح أن يدخل في المسابقة.
وقوله: «على معينين» هل هذا يدل على اشتراط أن يكونوا ثلاثة فأكثر؟
الجواب: أما على المذهب فنعم؛ لأنه لا بد من اثنين(10/105)
وثالث محلل، وأما على القول الراجح فيصح أن تكون المناضلة بين اثنين.
ثم لا بد من حَكَمٍ بين الاثنين يكون عارفاً بالسبق، وتقدير السبق بحيث لا يُظلم أحد؛ لأن المتسابقين كالخصمين تماماً، والخصمان لا بد لهما من حاكم يحكم بينهما.(10/106)
بَابُ العَارِيَّةِ
َهِيَ إِبَاحَةُ نَفْعِ عَيْنٍ، تَبْقَى بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ. ............................
«باب العَارِيَّة» ويقال: العَارِيَة سمِّيت بذلك؛ لأنها عارية عن العوض ولهذا قال:
«وهي إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائه» فالعارية في الأصل بذل الشيء بلا عوض، على غير وجه التمليك.
وقوله: «وهي إباحة» من المعير للمستعير «نفع عين تبقى» ـ أي: العين ـ «بعد استيفائه» أي: استيفاء النفع.
وقوله: «نفع عين تبقى بعد استيفائه» أي: تبقى العين بعد استيفائه، فإن أعاره ما لا يبقى بعد استيفائه فليست عارية ولكنها منحة، مثل أن يعيره تمراً أو خبزاً أو ما أشبه ذلك، وتصوُّر ذلك أن يكون جاره عنده ضيوف فيقول: أنا عندي ضيوف يحتاجون إلى أن أقدم لهم طعاماً متنوعاً، فيقول: نعم أنا عندي طعام متنوع أعيرك إياه، فيقال: هذا إذا دلت القرينة على أنه لا يريد عوضاً فهو هبة وهدية، وإن دلت القرينة على أنه يريد العوض فهو بيع، كأن يقول: ما أُكِلَ فهو عليك بكذا بقيمته، وما لم يؤكل يرد إليه، وهذا يقع كثيراً عند أهل المطاعم، يقدمون أطعمة متنوعة يَصُفُّها صاحب البيت أمام الضيوف، فما أُكل منها فهو بحسابه وما لم يؤكل فإنه يرده عليه، وهذا ـ وإن كان فيه نوع من الغرر والجهالة ـ لكنه يُتسامح فيه عادة، المهم أنه لا بد أن تبقى العين بعد استيفاء المنفعة.(10/107)
مثال ذلك: الماعون ـ الإناء ـ هذا يمكن أن ينتفع به الإنسان مع بقائه، القلم يمكن أن ينتفع به مع بقائه ولا يضر إذا كان فيه شيء من الحبر؛ لأن هذا يعتبر تبعاً لا يؤثر، وإلا فمن المعلوم أنه إذا أعطاه قلماً مملوءاً بالحبر، فسوف يفنى هذا الحبر بالكتابة به لكن هذا شيء لا يؤبه له.
والسيارة تبقى بعد استيفائها وما استُهلك من البنزين الذي فيها حين العارية فهو تبع، ولا يقال: إن هذا لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه.
وقوله: «إباحة نفع عين» لا بد أن يكون المبيح جائز التبرع بحيث إنه يملك أن يهدي من ماله، وأن يهب من ماله وأن يتصدق من ماله، فإن كان غير جائز التبرع لم تصح منه العارية، كولي اليتيم ـ مثلاً ـ فإنه لا يصح أن يعير مال اليتيم؛ لأنه لا يصح أن يتبرع به والإعارة تبرع بالنفع، نعم لو فرض أن اليتيم مراهق قريب البلوغ وهو يحب البذل والعطاء واستأذنه في أن يعير متاعه، ففرح بذلك وسُرَّ به، فهنا نقول: لا بأس أن يعير متاع هذا اليتيم؛ لأن في هذا إدخال السرور على اليتيم كما قال العلماء ـ رحمهم الله ـ إنه يجوز أن يضحي من مال اليتيم لليتيم؛ لأن اليتيم يفرح بالأضحية فهنا أعار متاعه لمصلحته؛ لأن بعض الشباب المراهقين يحبون أن يحسنوا إلى الناس فتجدهم يتفانَوْن في خدمة الناس ونفعهم وإعارتهم، فإذا كان هذا الولي لليتيم يرى أن من إدخال السرور على اليتيم أن يعير شيئاً من ماله بإذنه فلا بأس.(10/108)
وَتُبَاحُ إِعَارَةُ كُلِّ ذِي نَفْعٍ مُبَاحٍ، إِلاَّ البُضْعَ، وَعَبْداً مُسْلِماً لِكَافِرٍ، وَصَيْداً وَنَحْوَهُ لِمُحْرِمٍ، وَأَمَةً شَابَّةً لِغَيْرِ امْرَأَةٍ أَوْ مَحْرَمٍ. .....................
قوله: «وتباح إعارة كل ذي نفع مباح» لم يبيِّن المؤلف ـ رحمه الله ـ حكم العارية بالنسبة للمعير أو للمستعير، وإنما بيَّن حكم المُعار، فنقول: العارية بالنسبة للمستعير جائزة ولا تُعد من السؤال المذموم لجريان العادة بها، فيجوز للإنسان أن يستعير من أخيه قلماً أو ساعة أو سيارة أو إناءً أو ما أشبه ذلك، هذا بالنسبة للمستعير، أما بالنسبة للمعير فإنها سُنَّة على الأصل وقد تجب أحياناً، فهي سُنَّة لدخولها في عموم قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وهي إحسان بلا شك فتدخل في عموم الآية، وقد تجب أحياناً، كإعارة شخص رداء يدفع به ضرر البرد، فهذه واجبة فلو طلب منك شخص في برد شديد أن تعطيه رداء يلتحف به، وجب عليك أن تعطيه، وضابط ذلك أنه متى توقف عليها إنقاذ معصوم صارت واجبة، ومن ذلك عند كثير من العلماء إعارة المصاحف؛ لأن المصحف يجب أن يبذل لمن أراد أن يتعلم به.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ إعارة الكتب التي يحتاج إليها الناس فتجب إعارتها، لكن يشترط في ذلك ضرورة المستعير وعدم تضرر المعير، فلو قال المعير فيما إذا طلب منه استعارة مصحف: إني لو أعطيت هذا الرجل مصحفاً لأفسده، فإنه لا تجب عليه الإعارة، وكذلك لو قال: إن أعطيته الكتاب أفسده فلا تجب الإعارة؛ لأن فيها ضرراً على المعير، ويوجد بعض الناس ـ الذين يجتهدون وهم مخطئون ـ إذا استعار كتاباً جعل يعلق عليه، والكتاب ليس له، فتجده يملأ الكتاب تعليقاً بين الأسطر وعلى الهوامش وبالحواشي وبالأعالي حتى لا تكاد تقرأ(10/109)
أصل الكتاب، ثم من المؤسف أن تكون هذه الحواشي، ليس فيها خير وربما تكون خطأً، وهذا حرام لا يجوز، فلا يجوز للمستعير أن يكتب حرفاً واحداً في الكتاب المعار أبداً، حتى لو وجد خطأً ليس له الحق أن يصححه إلا إذا استأذن من صاحبه؛ وذلك لأنه ربما يظن العبارة خطأً وهي صواب.
وما الذي يباح إعارته؟ قال:
«تباح إعارة كل ذي نفع مباح» كل عين فيها نفع مباح فإن إعارتها مباحة، فخرج ما لا نفع فيه كالديدان والصراصير والجِعلان والخنافس وما أشبه ذلك، هذه لا تباح إعارتها؛ لأنها ليس فيها نفع مقصود.
ولا بد أن يكون النفع مباحاً، فإن كان فيها نفع محرم لم تجز إعارتها كإعارة الطبول والمعازف وما أشبهها، فهذه إعارتها محرمة؛ لأن نفعها محرم، ومن ذلك إعارة مغنية لتغني غناءً محرماً فإن إعارتها محرمة، ودليل ذلك قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وإعارة ذي النفع الحرام لا شك أنها إعانة على هذا النفع المحرم.
فلو أراد أن يعير شخصاً كلباً عقوراً وقال: الناس يكثرون عند مزرعتي، أعرني كلبك العقور من أجل أن يعقر كل من مرَّ من حولها، فهذا لا يجوز؛ لأن الكلب العقور لا يجوز إبقاء الملك عليه بل يجب قتله، حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أذن بقتله في الحِلَّ والحرم، كما في الحديث الصحيح: «خمس من الدواب(10/110)
كلهن فاسق» وذكر منهن: «الكلب العقور» (1) .
قوله: «إلا البضع» فلا تحل إعارته، يعني لو جاء شخص لآخر عنده أمة وقال: أعرني بضع أمتك لمدة خمسة أيام، فهذا لا يجوز؛ لأن هذا حرام، يعني يعيره إياها يزني بها!! هذا محرم ولا إشكال فيه، فهو داخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ؛ لأن البضع لا يصح استحلاله إلا للزوج أو السيد؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *} [المؤمنون] .
قوله: «وعبداً مسلماً لكافر» فلا يجوز أن يعير عبداً مسلماً لكافر؛ لأن في ذلك إهانة للمسلم، وإهانة المسلم إهانة لدينه، فلا يجوز أن يعير عبداً مسلماً لكافر.
وظاهر كلام المؤلف: وإن لم يستخدمه استخداماً مباشراً، مثل أن يقول: أعرني عبدك أجعله في المكتب الفلاني من شركتي، فهنا الكافر ليس له استخدام مباشر لهذا المسلم، فهل نقول: إن هذا جائز؛ لأن العلة في منع إعارة المسلم للكافر هي خوف إذلاله، فإذا انتفى هذا بأن قال: المكتب الفلاني ليس فيه أحد، أعرني عبدك يبقى في المكتب حتى يأتي الغائب، أو أعرني عبدك يبقى حارساً على هذا المكتب؟ فظاهر عموم كلام المؤلف
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب ما يقتل المحرم من الدواب (1829) ؛ ومسلم في الحج/ باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1198) (71) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(10/111)
أنه لا تصح عاريته، والذي ينبغي أن يقال: إنها تصح عاريته؛ لأن العلة يتبعها الحكم فيثبت بثبوتها وينتفي بانتفائها، وعلى هذا فيستثنى على القول الذي ذكرنا ما إذا لم يكن يريد استخدامه استخداماً مباشراً.
قوله: «وصيداً ونحوه لمحرم» يعني ولا يجوز أن يعير صيداً لمُحرم، مثاله: إنسان عنده غزال والغزال حرام على المُحرم، فالصيد ولو كان مِلكاً للمُحرم لا يجوز أن يبقى تحت يده، فإذا أعار شخصاً ظباء ليتجمل بها، مثل إنسان مُحرم يريد أن يمر من عنده شخص له أهميته كأمير أو وزير أو ما أشبه ذلك، فيقول: أعرني الظباء التي عندك أجعلها في مزرعتي من أجل أن ينظر إليها الوزير أو الأمير فإنه لا يجوز؛ والعلة لأنه داخل في قول الله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
قوله: «وأمة شابة لغير امرأة أو مَحْرَم» الأمة الشابة لا تجوز إعارتها لرجل إلا أن يكون مَحْرَماً، فلو كان شخص عنده أمة شابة مملوكة ولها أخ فقال أخوها: أعرني أختي؛ لأني سيأتيني ضيوف وأحتاج إلى مساعدة الأهل بها، فهذا يجوز؛ لأنه مَحْرَم ومأمون عليها، أو استعارتها امرأة، يعني إنسان له جارة أتاها ضيوف فطلبت منه أن يعيرها أمته فهذا يجوز؛ لأن المرأة على المرأة مأمونة، هذا الأصل، والنادر لا حكم له لا في هذا ولا في المَحْرَم، حتى المَحْرَم أحياناً يغويه الشيطان فيفعل الفاحشة في محارمه لكن الكلام على الأصل الغالب.
وقوله: «أمة شابة» فُهِمَ منه أنه لو كانت غير شابة ولو(10/112)
جميلة فإنه يجوز أن تعار لرجل ولو لم يكن محرماً، والمرأة غير الشابة تنقسم إلى أقسام:
الأول: أن تكون جميلة يعني امرأة لها خمسون سنة لكنها جميلة إذا رأيتها ظننت أنها من ذوات العشرين، فهذه لا يجوز أن تعار لرجل مطلقاً؛ لأن الفتنة حاصلة بذلك.
الثاني: امرأة ليست شابة لكنها وسط في الجمال، هذه ـ أيضاً ـ لا تعار لرجل غير مَحْرَم؛ لأن مفسدة إعارتها أكثر وأغلب من السلامة.
الثالث: امرأة غير شابة وهي قبيحة، فهل يجوز أن يعيرها لرجل غير محرم؟ ظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز، ولكن في إطلاقه نظر فيقال: إعارتها لشاب أعزب ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيها خطر وداخلة في عموم الحديث: «لا يخلوَنَّ رجل بامرأة» (1) وكما قيل: (لكل ساقطة لاقطة) يمكن أن هذه العجوز الشوهاء لا يختارها من تقدمت به السن، لكن شاب يبقى عندها يوماً وليلة أو ثلاثة أيام أو أكثر فربما تدب إليه الشهوة ويحصل الضرر، ثم على فرض أن المسألة ليس فيها شهوة ويريد أن يعير عجوزاً لشيخ كبير، يوجد شيء آخر وهو الخلوة غالباً.
فالصواب في هذه المسألة أنه لا تجوز إعارة أمة لرجل غير مَحْرَمٍ مطلقاً، حتى ولو كانت عجوزاً لشيخ كبير.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجّة (3006) ؛ ومسلم في الحج/ باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(10/113)
وقوله: «أمة شابة» فُهِمَ منه أنه لو أعار حرة فإنه لا يجوز؛ لأن الحرة غير مملوكة، والعارية لا تكون إلا من مالك.
وَلاَ أُجْرَةَ لِمَنْ أَعَارَ حَائِطاً حَتَّى يَسْقُطَ، وَلاَ يُرَدُّ إنْ سَقَطَ إلاَّ بِإذْنِهِ، وَتُضْمَنُ العَارِيَّةُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ تَلِفَتْ، وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهَا، وَعَلَيْهِ مَؤُونَةُ رَدِّهَا، لاَ المُؤجَّرَةِ، وَلاَ يُعِيرُهَا.....
قوله: «ولا أجرة لمن أعار حائطاً حتى يسقط» صورة المسألة: أن يكون شخص له جار، والجار له جدار خاص به، واحتاج ذلك الشخص أن ينتفع بجدار جاره، فطلب منه أن يضع خشباً على هذا الجدار عارية، فأعاره إياه وبنى عليه الجار، ثم إن صاحب الجدار طلب من الجار أجرة بعد أن أعاره، وقال: رجعت في عاريتي، فأعطني أجرة على بقاء الخشب على الجدار، فإنه لا يملك هذا، وحتى رجوعه عن العارية لا يقبل؛ لأن الرجوع في العارية على وجه يتضرر به المستعير لا يجوز؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، ومثل ذلك لو أعاره أرضاً ليزرعها ثم زرعها المستعير، وفي أثناء ذلك، قال المُعير: رجعت، فإنه لا يلزمه، وهل له أجرة؟ الصحيح أنه ليس له أجرة؛ لأن إذنه له بالزرع يستلزم رضاه ببقائه حتى يحصد، والمشهور من المذهب أنه إذا رجع أثناء مدة الزرع فإن له الأجرة، ولكنه قول ضعيف، ولا تكاد تجد فرقاً بين هذا والحائط.
وكذلك على القول الراجح إذا كانت العارية مؤقتة بوقت
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/326) ؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه الإمام أحمد (1/313) ؛ وابن ماجه (2341) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وأخرجه مالك (2/745) مرسلاً، وللحديث طرق كثيرة يتقوى بها ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32) ؛ وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/210) ؛ والألباني في الإرواء (896) .(10/114)
فإنه لا يجوز الرجوع في العارية ما دام الوقت باقياً، مثل أن يقول: أعرتك هذه لمدة شهر، فإنه لا يجوز أن يرجع في نصف الشهر، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخلف» (1) وهذا إذا رجع أثناء المدة فقد أخلف، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] وهذا قد عاهده أن تبقى العين عنده لمدة شهر، ولقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (2) .
وقوله: «حتى يسقط» متعلقة بقوله: «لا أجرة» فإن سقط فهل له طلب الأجرة عما مضى؟ لا، لكن إذا سقط الجدار ثم أقامه فله أن يمنع جاره من الانتفاع به إلا بأجرة، وكذلك إذا رفع الجار خشبه ثم أراد إعادته مرة ثانية فله طلب الأجرة.
وهذا الكلام من المؤلف مقيد بما إذا لم يجب تمكين الجار من وضع الخشب على الجدار، فإن وجب تمكين الجار من وضع
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب علامات المنافق (33) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب خصال المنافق (59) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمون على شروطهم (3594) ؛ والحاكم (2/92) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه الدارقطني (3/27، 28) ؛ والحاكم (2/49، 50) عن عائشة وأنس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ؛ وصححه النووي في المجموع (9/464) ؛ والألباني في الإرواء (1303) ؛.(10/115)
الخشب على الجدار فإنه ليس له حق في طلب الأجرة، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه، أو قال: خشبة على جداره» قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين كان أميراً على المدينة: (ما لي أراكم عنها مُعرضين، والله لأرميَنَّ بها بين أكتافكم) (1) «أرمين بها» أي: بالخشب، يعني إن لم تضعوها على الجدار أضعها على أكتافكم، فصار كلام المؤلف هنا مقيداً بما إذا لم يجب تمكين الجار من الانتفاع بالجدار، فإن وجب فإنه لا يجوز له طلب الأجرة؛ لأن هذا أمر واجب عليه، والأمر الواجب ليس له أجرة.
قوله: «ولا يرد إن سقط إلا بإذنه» يعني أن الحائط إذا سقط فإنه لا يرد إلا بإذن صاحب الجدار، فلا يقول الجار: قد أذن لي سابقاً، والإذن ينسحب على الجدار الأول وعلى الجدار الثاني، نقول: لا، الجدار الأول سقط ولا يمكن الانتفاع به، فإذا أنشأ الجدار من جديد فلا بد أن تجدد الاستئذان، فإذا قال: الأصل بقاء الإذن، قلنا: ليس كذلك، الأصل بقاء الإذن لو أن خشبك انخلع من الجدار أو ما أشبه ذلك، ثم أعدته على الجدار الباقي ربما يقال في هذا: إن الأصل بقاء الإذن، أما إذا انهدم الجدار ثم جدده مالكه فإنه لا يمكن أن تَرُد ما كنت مستعيراً له من قبل إلا بإذنه لقوله: «ولا يرد إن سقط إلا بإذنه» .
قوله: «وتضمن العارية» أفادنا المؤلف أن العارية مضمونة بكل حال، لقوله: «وتضمن» ولم يفصل، فالعارية مضمونة على
__________
(1) سبق تخريجه ص (20) .(10/116)
المستعير سواء تلفت بتفريط وتعدٍّ، أو بغير تفريط ولا تعدٍّ، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذه أمانة، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) وهذه عين مأخوذة فعلى المرء أن يؤديها.
وقال بعض العلماء: إن العارية لا تضمن إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يتعدى.
الثاني: أن يفرط.
الثالث: أن يشترط الضمان.
أما في مسألة التعدي والتفريط فلأنه بتعديه أو تفريطه زال ائتمانه، فصار غير أمين، وأما فيما إذا شرط أن يضمنه فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (2) وهذا قد التزم بذلك والحديث عام، وهناك دليل خاص بالموضوع وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعار أدرعاً من صفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ، فقال له صفوان: أغصباً يا محمد؟! قال: «بل عارية مضمونة» (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/8) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في تضمين العارية (3561) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء أن العارية مؤداة (1266) ؛ وابن ماجه في الصدقات/ باب العارية (2400) ؛ والحاكم (2/47) عن سمرة ـ رضي الله عنه ـ.
قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي.
(2) سبق تخريجه ص (115) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (3/401) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في تضمين العارية (3562) ؛ والحاكم (2/47) عن صفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ وأخرجه الحاكم (3/48، 49) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (1513) .(10/117)
كلمة «مضمونة» من قال: إن العارية مضمونة بكل حال، قال: إن «مضمونة» صفة كاشفة ليست مقيدة، والصفة الكاشفة لا يخرج مفهومها عن الحكم، فكأنه قال: عارية، وكل عارية مضمونة، والذين قالوا: لا تضمن إلا بشرط، قالوا: إن الصفة «مضمونة» مقيِّدة وليست كاشفة، وإذا تعارض القولان هل الصفة مقيدة أو كاشفة؟ فالأصل أنها مقيدة؛ لأن الكاشفة لو حذفت لاستقام الكلام بدونها، والمقيدة لا يتم الكلام إلا بها، والأصل أن المذكور واجب الذكر، وعليه فتكون الصفة هنا مقيدة وهو الصحيح، فتكون دالة على أن العارية تضمن إن شرط ضمانها وإلا فلا.
فإن قال قائل: بأي شيء تردون استدلالهم بالدليلين السابقين؟
الجواب: أن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] والأمانات ترد إذا كانت باقية، أما إذا تلفت فالآية ليس فيها دليل على وجوب الرد،؛ لأن الأمانات زالت وتلفت.
وكذلك نقول في حديث: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) هذا يدل على أنه موجود وأنه يجب أداؤه لصاحبه حيث وجب أداؤه إليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (117) .(10/118)
ثم نقول: أنتم أنفسكم لم تأخذوا بمقتضى الآية، فالمستأجر عندكم الذي بيده العين المستأجرة أمين، والعين بيده أمانة، ومع ذلك تقولون: لو تلفت العين المستأجرة تحت يده بغير تعدٍّ ولا تفريط فليس بضامن، فكيف تستدلون بالآية على شيء وتخرجون ما تشمله الآية، والحكم واحد فيهما؟!
إذاً فلا دلالة في الآية والحديث على ما ذهبوا إليه، وتبقى العارية على القواعد العامة، وهي أنها وقعت بيد المستعير برضا صاحبها، فيد المستعير يد أمينة، والأمين لا يضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط، هذه هي القاعدة الشرعية العامة.
أما إذا شرط ضمانها فلقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ولقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (1) ، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم لصفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ: «بل عارية مضمونة» (2) ، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
وقوله: «وتضمن العارية» الضامن هو المستعير.
قوله: «بقيمتها» يعني إن كانت متقوِّمة، وبمثلها إن كانت مِثْلِيَّة، فالتعبير هنا بقيمتها فيه قصور، وكان الواجب أن يقول: (وتضمن العارية ببدلها يوم تلفت) ؛ لأنه إذا قال: ببدلها فالبدل يشمل القيمة والمثل.
والقاعدة عندنا في ضمان المُتلفات: (أن المثلي يضمن
__________
(1) سبق تخريجه ص (115) .
(2) سبق تخريجه ص (117) .(10/119)
بمثله، والمتقوم يضمن بقيمته) لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إناء بإناء، وطعام بطعام» في قصة معروفة، وهي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان عند إحدى زوجاته ـ رضي الله عنهن ـ فأرسلت الزوجة الأخرى خادمها بطعام في صحفة، فدخل الخادم بالطعام والصحفة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في منزل الضرَّة، فأصابتها الغيرة، فضربت بيد الخادم حتى سقطت الصحفة وانكسرت، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم طعام المرأة التي هو عندها وصحفتها وأعطاها الخادم، وقال: «إناء بإناء، وطعام بطعام» (1) فهنا ضُمِن بالمثل؛ لأن هذا مثلي.
لكن في الإعتاق لما بيَّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن من أعتق شركاً له في عبد سرى عتقه إلى نصيب شركائه قال: «وقُوِّمَ عليه قيمة عدل» (2) فأوجب القيمة، لأنه ليس مثلياً، يتعذر فيه تحصيل المثل فهو متقوم.
والفرق بين المتقوم وبين المثلي:
أن المثلي ضابطه عند الفقهاء (كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة، يصح السَّلَم فيه) وهذا الضابط يضيِّق المثليات تضييقاً بالغاً.
فقولهم: (كل مكيل أو موزون) يخرج به ما سواهما، مع
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر ... (1359) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ وقال: حسن صحيح، والحديث في البخاري دون قوله: «طعام بطعام وإناء بإناء» (2481) .
(2) أخرجه البخاري في العتق/ باب إذا أعتق عبداً بين اثنين (2522) ، ومسلم في العتق/ باب من أعتق شركاً له في عبد (1501) ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/120)
أن الحيوان يمكن أن يكون مثلياً والمعدود يمكن أن يكون مثلياً، والمذروع يمكن أن يكون مثلياً، وما أشبه ذلك، لكن هم يخصونه بالمكيل والموزون.
وقولهم: (ليس فيه صناعة مباحة) فإن كان فيه صناعة مباحة فإنه يخرج عن كونه مثلياً، فالبر إذا طُبِخ وكان طعاماً خرج عن كونه مثلياً، مع أن أصله مكيل، وكذلك ـ أيضاً ـ الأواني ليست مثلية مع أن أصلها موزون.
وأما قولهم: (مباحة) فاحترازاً من الصناعة المحرمة؛ لأن الصناعة المحرمة وجودها كالعدم.
وأما قولهم: (يصح السلم فيه) فهذا ـ أيضاً ـ شدد التضييق، فهو احتراز مما كان مكيلاً أو موزوناً، لكنه يختلف ولا ينضبط بالصفة فإنه لا يكون مثلياً.
والصحيح أن المثلي ما كان له مثيل مطابق أو مقارب تقارباً كثيراً، ويدل لهذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لزوجته التي كسرت الإناء، وأفسدت الطعام: «إناء بإناء، وطعام بطعام» (1) ولم يضمنها بالقيمة، ثم إننا نقول: الصناعة الآن تتقدم، ومن المعلوم أن الفناجيل ـ مثلاً ـ من الزجاج مصنوعة، وهي مثلية قطعاً، فمماثلة الفنجال للفنجال أشد من مماثلة صاع البر لصاع البر، وهذا أمر معلوم، والحلي ـ مثلاً ـ والأقلام، والساعات، كل هذه مثلية، وهي على حد الفقهاء ليست مثلية.
__________
(1) سبق تخريجه ص (120) .(10/121)
فالصواب إذاً: أن المثلي ما كان له مماثل أو مقارب مقاربة تامة، فإذا استعار إناء ثم انكسر الإناء ـ فعلى ما اخترناه ـ يُضمن بإناء مثله، وعلى كلام الفقهاء يضمن بقيمته، والأقرب إلى العدل أن يُضمن بمثله.
قوله: «يوم تلفت» أي: في وقت التلف، فإذا كانت مثلية فالأمر واضح، يؤدي المستعير مثلها قَلَّت القيمةُ أو نقصت، ولكن إذا كانت متقومة، فيقول المؤلف: تضمن بقيمتها يوم تلفت، لا في وقت التضمين، ولا في وقت الإعارة؛ لأن لدينا ثلاثة أزمان: زمن الإعارة، وزمن التلف، وزمن المطالبة، والمعتبر زمن التلف؛ لأنه هو الذي خرج ملك صاحبها عنها فيه، أي: في وقت التلف.
مثال ذلك: رجل استعار إناء في واحد من محرم، وتلف يوم الخامس عشر من محرم، وضمنه المعير يوم الثلاثين من محرم، قيمة الإناء حين الاستعارة عشرة، وقيمته حين التلف عشرون، وقيمته حين المطالبة ثلاثون، فيلزم بالعشرين التي هي قيمته يوم التلف، والعلة في ذلك أن العارية قبل تلفها على ملك صاحبها له غنمها وعليه غرمها، فإذا تلفت زال ملكه عنها، فصار هذا هو وقت التقويم.
قوله: «ولو شرط نفي ضمانها» يعني أن المستعير يضمن العارية ولو شرط على صاحبها أن لا يضمنها، وهذه إشارة خلاف، فإن العلماء ـ رحمهم الله ـ اختلفوا في العارية هل هي مضمونة سواء شُرِط ضمانها، أم شُرِط نفيه، أو سُكِت، أو هي(10/122)
غير مضمونة؟ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يرون أنها مضمونة بكل حال، حتى لو شرط المستعير أنه لا ضمان عليه إذا تلفت فإن هذا الشرط لاغٍ؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد الضمان مطلقاً، وكل شرط ينافي مقتضى العقد فإنه شرط لاغٍ، وقد مر هذا الضابط في باب الشروط في البيع.
مثال ذلك: إنسان استعار من شخص عشرين فنجالاً، والفنجال من الزجاج، يمكن أن ينكسر، فقال المستعير: لا ضمان عليَّ إن تكسرت الفناجيل، فوافق المعير، ثم تكسرت، فعند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يضمن ولو كان قد شرط أن لا يضمن ورضي بذلك المالك؛ لأن هذا الشرط ـ على كلامهم ـ مخالف لمقتضى العقد، فيكون داخلاً فيما أبطله النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (1) .
القول الثاني: أنها لا تضمن إلا بشرط الضمان، وإلا فلا ضمان إلا بتعدٍّ أو تفريط، يعني أنه إن اشترط مالكها على المستعير أن يضمنها ضمنها، وإلا فلا ما لم يتعدَّ أو يفرط.
القول الثالث: أنها تضمن إلا إذا شرط عدم الضمان.
والصواب: أن العارية كغيرها من الأمانات؛ لأنها حصلت بيد المستعير على وجه مأذون فيه، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون، فيد المستعير يد أمانة، ليست يد خيانة، وإذا كانت يد أمانة فلا ضمان على الأمين، ووجه كونها يد أمانة أن هذه العارية
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(10/123)
حصلت بيد المستعير بإذن مالكها، فهو الذي سلطه عليها، فكيف نضمنه بكل حال؟!
فإن شُرِط عليه الضمان، يعني لو قال المعير: إن عليك الضمان مطلقاً سواء حصل منك تعدٍّ أو تفريط أو لا، فهذا محل نظر؛ لأننا قد نقول: إنه إذا شرط أن يضمن فعليه الضمان لعموم الحديث: «المسلمون على شروطهم» (1) ، وقد يقال: لا ضمان عليه؛ لأنه أمين، فكما أن المستأجر لو شُرِط عليه أن يضمن فالشرط غير صحيح فكذلك هذا، والأقرب أنه كغيره من الأمناء أنه لا يضمن حتى لو شرط، وهذا مذهب أبي حنيفة، وهذا هو القول الرابع وهو قول قوي جداً، لكن لو قال المعير: لا أعيرك إلا بهذا الشرط؟ فقد يضطر المستعير إلى قبوله؛ لأنه محتاج.
قوله: «وعليه» أي: على المستعير.
قوله: «مؤونة ردها» أي: تكلفة ردها إلى صاحبها، فإذا قدرنا أن العارية تحتاج إلى تحميل؛ لأنها أوانٍ كثيرة، وتحتاج إلى رفق وتأنٍ؛ لأنها تتكسر، ومثل هذه تحتاج إلى تكلفة بيِّنة، فهل المؤونة على المستعير أو على المعير؟ نقول: هي على المستعير والدليل:
أولاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (2) فكل ما يلزم من رد هذه العين فإنه على المستعير.
ثانياً: أن المستعير قبضها لحظ نفسه المحض، فكان عليه في مقابلة هذه المصلحة تحمل نفقة الرد.
__________
(1) سبق تخريجه ص (115) .
(2) سبق تخريجه ص (117) .(10/124)
ثالثاً: أن المعير محسن، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [البقرة: 195] .
رابعاً: أننا إذا ألزمنا المعير بمؤونة الرد كان في هذا سد لباب العارية.
قوله: «لا المؤجرة» يعني أن المؤجرة مؤونة ردها على المؤجِر وليست على المستأجر.
مثال ذلك: رجل استأجر من شخص آلة حراثة، وآلة الحراثة تحتاج إلى مؤونة في ردها، تحتاج إلى سائق، وإلى وقود، فالمؤونة على صاحبها وليست على المستأجر؛ ووجه ذلك أن المستأجر قبضها لمصلحته ومصلحة مالكها، وَرَدُّها لمصلحة المالك، فكانت المؤونة على مالكها، بخلاف المعارة فإن المستعير قبضها لمصلحته الخاصة فلزمه ردها إلى أهلها لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ولأن المستأجر أعطى المؤجر الأجرة في مقابلة النفع، فهو بدل ببدل، وهذا يقتضي أنه لا مؤونة على المستأجر، كما لو استأجرت بيتاً فخرب منه شيء، فأجرة تعميره على المؤجر إلا إذا كان خرابُهُ بتعدٍّ أو تفريط.
قوله: «ولا يعيرها» أي: أن المستعير لا يجوز أن يعير العين التي استعارها، بخلاف المستأجر، فإن له أن يعير، وله أن يؤجر بشرط أن لا يلحق العين المؤجَرة ضرر، أما المستعير فلا يعيرها، ولا حتى أباه، فلو أن رجلاً استعار إناء من شخص وصار عند أبيه ضيوف، فقال له: أعرني هذا الإناء فلا يعيره؛ لأن المؤلف يقول: «ولا يعيرها» ؛ ووجه ذلك أن المستعير يملك الانتفاع بالإذن المجرد ولا(10/125)
يملك النفع، والمعير إنما أعار هذا الشخص ولم يعرها غيره، فلا يحل له أن يعيرها؛ لأنه إن أعارها فقد تصرف في مال غيره بغير إذنه.
ولو استعار إنسان كتاباً وكان زميله يحتاج هذا الكتاب لليلة واحدة، فقال زميله: أعرني الكتاب هذه الليلة فقط؟ فلا يعيره، وله أن يعتذر ويقول: أنا مستعير والملك لغيري، والمستعير مالك للانتفاع وليس مالكاً للنفع، ونظير ذلك إنسان يدعو إخوانه لطعام الوليمة، فهل يملك أحد المدعوين أن يتصدق من الطعام، أو يبيع؟ لا يملك؛ لأنه إنما أذن له بالأكل وليس مالكاً، والإذن بأكل طعام الوليمة إباحة وليس تمليكاً؛ ولذلك لا يملك أحد من المدعوين أن يأخذ شيئاً من هذا الطعام ليبيعه أو يتصدق به.
وهل يؤجرها؟ لا، لا يؤجرها، وهذا من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا يملك أن يعيرها والعارية سنة وإحسان، فكونه ـ أيضاًـ لا يأذن بالانتفاع بها بأجرة أشد امتناعاً.
لكن إذا علم المستعير أن المعير يأذن في مثل ذلك عادة، يعني ـ مثلاً ـ إنسان استعار إناءً من شخص ثم إن أباه احتاج إلى هذا الإناء لكثرة الضيوف عنده، وطلب من ابنه أن يعيره، قلنا: لا يجوز أن يعيره، لكن إذا علم أن المالك يأذن بل يفرح فهل له أن يفعل؟ نعم، له أن يفعل، وكل إنسان يعلم من صاحبه الرضا بتصرفه فلا حرج عليه أن يتصرف.
فَإِنْ تَلِفَتْ عَنْدَ الثَّانِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَعَلَى مُعِيرِهَا أُجْرَتُهَا، وَيُضَمِّنُ أَيُّهُمَا شَاءَ.
قوله: «فإن تلفت عند الثاني استقرت عليه قيمتها وعلى معيرها أجرتها» «فإن تلفت» أي العارية، «عند الثاني» وهو(10/126)
المستعير مِنَ المستعير الأول، فصار الآن عندنا ثلاثة أطراف، معير، ومستعير أول، ومستعير ثانٍ «إن تلفت عند الثاني استقرت عليه» أي: على الثاني قيمتها، فالقيمة تكون على الثاني؛ لأنها تلفت عنده تحت يده، فهو مباشر، والمستعير المعير متسبب ـ إن صح أن نقول: إنه متسبب ـ لكن المستعير الثاني مباشر فيكون الضمان عليه، لكن عليه ضمان قيمتها، أما ضمان منفعتها فهي على المستعير الأول مدة بقائها عند المستعير الثاني؛ لقوله: «وعلى معيرها أجرتها» فلو بقيت ـ مثلاً ـ عشرة أيام، ومثل هذه العارية تؤجر كل يوم بخمسة ريالات فكم قدر الأجرة؟ خمسون ريالاً، يضمنها المستعير الأول.
فصار عندنا الآن شيئان: عين العارية يضمنها المستعير الثاني، ومنفعة العارية يضمنها المستعير الأول.
أما كون المستعير الثاني يضمن العين؛ فلأنها تلفت تحت يده بغير إذن من الشرع ولا إذن من المالك؛ لأننا قلنا: إن إعارتها حرام، فبقاؤها عنده بغير إذن من الشارع ولا من المالك يوجب الضمان عليه.
وأما كون المستعير الأول يضمن المنفعة؛ فلأنه يملك الانتفاع بالعارية بنفسه ولا يملك النفع، فتصرفه فيه بإعارته ليس مأذوناً فيه فلزمه ضمانه.
فالخلاصة: أنه يحرم على المستعير الأول أن يعيرها، فإن فعل فعليه ضمان المنفعة من حين أعارها سواء تلفت أو بقيت؛(10/127)
لأنها إن بقيت أخذت من المستعير الثاني وردت للمعير الأول، لكن أجرتها ـ من حين أعارها المستعير الأول إلى أن ردها إلى صاحبها ـ على المستعير الأول، لكن المؤلف قال: «إذا تلفت» يعني جعل الصورة مفروضة فيما إذا تلفت؛ لأجل أن يفرق بين ضمان المنفعة وضمان العين، فإذا تلفت عند الثاني فعليه ضمان العين، وعلى المعير الأول ضمان المنفعة من وقت أن أعارها للثاني حتى تلفت.
وإذا لم تتلف ترد إلى صاحبها المعير الأول، ويضمن المستعير الأول أجرتها مدة بقائها عند الثاني.
قوله: «ويضمن أيهما شاء» يعني للمالك أن يُضَمِّن العين المستعير الأول والمستعير الثاني؛ لأن المالك يقول للمستعير الأول: أنا لم آذن لك في أن تدفعها إلى هذا الرجل، فأنت متعدٍّ فعليك الضمان، ويقول للثاني إذا أراد أن يُضَمِّنه: العين تلفت تحت يدك، فعليك الضمان، لكن إذا ضمن أحدهما فعلى مَنْ يستقر الضمان؟ نقول: يستقر على الثاني إن كان عالماً بأن المستعير الأول قد أعارها بدون إذن من مالكها، فقرار الضمان عليه؛ لأنه متعدٍّ، وإن كان لا يعلم فإذا ضَمَّنه المالك يرجع على المستعير الأول الذي أعاره؛ لأن الرجل جاهل، والأصل في تصرف الإنسان أنه يتصرف في ملكه، فيكون قرار الضمان على الأول.
مثال ذلك: زيد استعار من عمرو سيارة، ثم أعارها خالداً، فتلفت السيارة، فنقول لعمرو: ضمِّن المنفعة زيداً من حين أعارها(10/128)
إلى خالد، وضَمِّن خالداً السيارة؛ لأنها تلفت تحت يده، وإن شئت فضمنها زيداً؛ لأن لك أن تضمن هذا أو هذا، بقي علينا قيمة السيارة التي ضُمِّنَها خالد، هل يرجع بها على زيد، أو لا يرجع؟
نقول: إن كان عالماً بأن السيارة عارية وأنه لم يؤذن لزيد بإعارتها فقرار الضمان عليه؛ لأن يده يد غاصب، وإن كان لا يعلم فقرار الضمان على زيد؛ لأنه إذا كان يعلم أن المستعير الأول ـ وهو زيد في المثال ـ لم يؤذن له فقد أخذ مالاً بغير حق، وإن كان لا يعلم فهو معذور، ولذلك نقول: يكون قرار الضمان على المستعير الأول.
وَإِن أَرْكَبَ مُنْقَطِعَاً لِلثَّوَابِ لمْ يَضْمَنْ. .............
قوله: «وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن» هذه مسألة تشبه العارية وليست عارية، إنسان «أركب منقطعاً» يعني منقطعاً في الطريق، أركبه للثواب، وليس بأجرة، أركبه تبرعاً وتقرباً إلى الله ـ تعالى ـ بذلك، فهذا الذي أُركِب لو تلفت الدابة تحته لم يضمن، لأن الذي أركبه للثواب يده على راحلته، ويُتصور هذا فيما سبق من الأسفار، رجل راكب ناقته فوجد في الطريق شخصاً منقطعاً، فنزل عن راحلته وأركبه تقرباً إلى الله، ويده على راحلته، والمنقطع هو المنتفع، فعثرت البعير وانكسرت أو ماتت، فهل على هذا الراكب الذي يشبه المستعير ضمان؟
الجواب: يقول المؤلف: لا؛ ووجه ذلك أن يد صاحبها عليها، لم تزل، فلا ضمان على هذا الراكب، وهذه إحدى المسائل التي لا تضمن فيها العارية.(10/129)
المسألة الثانية: إذا تلفت فيما استعيرت له، فإنه لا ضمان فيها، مثال هذا: رجل استعار رِشاء من شخص ـ والرشاء هو الحبل الذي يستخرج به الماء من البئر ـ ثم إن الرشاء بالاستعمال تلف، هل يضمن المستعير أو لا؟ نقول: لا يضمن؛ لأن العارية هنا تلفت فيما استعملت له.
ونظير ذلك لو استعار سيارة إلى مكة ـ مثلاً ـ، وتآكلت عجلات السيارة، فلا يضمن؛ لأنها تلفت فيما استعيرت له.
ولو استعار منشفة ليستعملها، ومع طول الوقت زال خَمْلها، فلا يضمن؛ لأنها تلفت فيما استعيرت له.
وهذه المسألة تؤيد القول بأن العارية لا تضمن إذا شرط نفي ضمانها؛ ووجه ذلك أنها إذا تلفت فيما استعملت له فلا ضمان؛ لأن صاحبها حين أعطاها هذا الرجل يستعملها، قد علم أنها سوف تتلف أو تنقص بهذا الاستعمال، فكذلك إذا شرط المستعير أن لا يضمنها فإنه لا شك أنه لا ضمان عليه، بل قلنا: إن الصواب أنه وإن لم يشترط أن لا ضمان عليه إذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط، فلا ضمان على المستعير؛ لأنه قبضها من صاحبها بإذن منه فيده يد أمانة.
المسألة الثالثة: إذا استعارها ممن لا ضمان عليه كما لو استعارها من المستأجر، فإذا كان المستأجر لا ضمان عليه وهو أصل فالفرع ـ الذي هو المستعير ـ من باب أولى.
المسألة الرابعة: إذا استعار شيئاً موقوفاً على عموم الناس، كرجل استعار كتباً موقوفة على طلبة العلم ـ وهو من طلبة العلم ـ(10/130)
ثم إن هذه الكتب مع المطالعة والمراجعة تمزقت أو انمحى بعض كتابتها، أو ما أشبه ذلك فلا يضمن؛ لأنه هو نفسه مستحق للانتفاع، فهو من طلبة العلم واستعار من صاحب المكتبة هذه الكتب وصاحب المكتبة لا يملك الكتب؛ لأن الكتب موقوفة على طلبة العلم، فصاحب المكتبة ما هو إلا منظم يعير هذا ويعير هذا ويعير هذا، فإذا تلفت الكتب الموقوفة على طلبة العلم بيد أحد طلبة العلم فلا ضمان عليه؛ لأنه استعملها لا عن طريق العارية ولكن عن طريق الاستحقاق فليس عليه ضمان.
فإن قال قائل: ما تقولون في رجل استعار كتاباً من مكتبة وصار يحشِّي عليه أيضمن أو لا يضمن؟ يضمن؛ لأنه متعدٍّ، وقد بلغنا أن بعض الناس يستعير كتباً حديثية أو فقهية من المكتبات ثم يحشِّي عليها، فيكتب القول الراجح كذا وكذا، وهو قول مرجوح أو هذا القول الذي في الكتاب باطل أو يقول: إنه بدعة؛ لأن بعض الناس يظنون أن خلاف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يكون المخالف فيه ـ لما يظن أنه خلاف النص ـ مبتدعاً، ولو سلكنا هذا المسلك لكان كل الفقهاء مبتدعة إلا في مسائل الإجماع؛ لأنك تقول: خالفتني فأنت مبتدع، وأنا أقول: خالفتني فأنت مبتدع، ويبقى الفقهاء كلهم مبتدعين إلا في مسائل الإجماع، وهذا ما قال به أحد أبداً ولن يقول به أحد، هذه مسائل اجتهادية، يرى أحد من العلماء أن هذا واجب والثاني يقول: غير واجب، فهل نقول هذا مبتدع؟! فالذي يرى أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء وصلى وهو آكل لحم الإبل فهل نقول: أنت مبتدع؟! لا(10/131)
نقول هذا، والذي لا يخلل لحيته في الوضوء لا نقول له: أنت مبتدع!
فمثل هذه المسائل ينبغي للإنسان أن يعرف الضوابط في الخلاف فيها.
فعلى كل حال نحن نقول: إن أي إنسان يستعير كتاباً من مكتبة، فإنه لا يجوز أن يحشي عليه أبداً، فإن وجد خطأً لا شك فيه فهل له أن يعدله؟ لا، ليس له أن يعدله، لكن ينبه القَيِّمَ على المكتبة ويقول: هذه الكلمة التي في الصفحة الفلانية خطأ، فإذا قال أصلحها فإنه يصلحها، وإذا باشر القيم تصليحها فهو له.
ثم ذكر المؤلف مسائل الاختلاف بين المعير والمستعير فقال:
وَإِذَا قَالَ: أَجَّرْتُكَ، قَالَ: بَلْ أَعَرْتَنِي، أَوْ بِالعَكْسِ عَقِبَ العَقْدِ قُبِلَ قَوْلُ مُدَّعِي الإِعَارَةِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ قَوْلُ المَالِكِ بِأُجْرَةِ المِثْلِ. ...........
«وإذا قال: أجَّرتك، قال: بل أعرتني، أو بالعكس عقب العقد قُبل قول مدعي الإعارة» إذا قال المالك: أجَّرتك، يعني فأريد منك أجرة، وذاك يقول: بل أعرتني، فليس عليَّ أجرة، يقول: «عقب العقد» يعني إذا كان هذا الخلاف بعد العقد مباشرة، بأن قال مثلاً: أعرني هذا الكتاب فأعاره إياه، وبعد أن أخذه بخمس دقائق قال: إنك أعرتني، فقال له: بل أجَّرتك، فالقول قول مدَّعي الإعارة مع يمينه، وإذا جعلنا القول قول مدعي الإعارة سَهُلَ الأمر؛ لأننا إذا قلنا للمالك: أنت قولك مرفوض، والقول قول مدعي الإعارة، سيقول المالك: ما دام أنها عارية أعطني إياها.(10/132)
أما إذا كان بعد مضي مدة لها أجرة، فيقول المؤلف: «وبعد مضي مدة قول المالك بأجرة المثل» قال المالك: آجرتك، قال: بل أعرتني، فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأن القاعدة أن الأصل فيمن قبض ملك غيره أنه مضمون عليه؛ ولأن الأصل أن الإنسان لا يسلطك على ملكه إلا بعوض، والتبرع أمر طارئ.
ولكن كيف يكون تقدير الأجرة؟ هل نقول: إذا ادعى المالك أنه أجره إياه كل يوم بعشرة ريالات أن القول قول المالك؟ لا؛ لأن الذي أخذها لم يعترف بالإجارة حتى الآن، نقول: نرجع إلى أجرة المثل؛ لأن الله ذكر في المرأة التي لم يسم لها مهر أنها تمتع، وبيَّنت السنة أن تمتيعها أن تعطى مهر المثل، كما في حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه (1) ـ فيقال: كم تؤجر هذه العين في مدة أسبوع؟ إذا قالوا: مائة ريال، قلنا: هات مائة ريال، ولكن إذا كانت أجرة المثل أكثر مما ادعى صاحب العين، فالمذهب نعطيه إياها ولو كانت أكثر مما ادعاه، والقول الثاني أننا لا نعطيه إلا ما ادعاه.
ولكن يقبل قول المالك هنا في شيء ولا يقبل في شيء
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/430، 447) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب فيمن تزوج ومات ولم يسم لها صداقاً (2114) ؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها (1145) ؛ والنسائي في الطلاق/ باب عدة المتوفى عنها زوجها قبل أن يدخل بها (6/198) ؛ وابن ماجه في النكاح/باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك (1891) ؛ وابن حبان (4098) ؛ والحاكم (2/180) عن معقل بن سنان ـ رضي الله عنه ـ، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.(10/133)
آخر، فيقبل بالنسبة للمدة الماضية ولا يقبل بالنسبة للمدة المستقبلة، لو قال المالك في هذه الصورة: أنا أجرتك إياها لمدة أربعة أيام، وحصل الاختلاف بعد مضي يومين، فنقبل قول المالك فيما مضى من المدة، ولا نقبله فيما يستقبل؛ لأن خصمه ينكره، ويقول: ما أخذتها بأجرة، ولكن بإعارة.
وبهذا نعرف أن الأحكام تتبعض، وهذه قاعدة فقهية، بمعنى أنه إذا وُجد ما يثبت أحدها من وجه دون الآخر، حكمنا بالوجه الثابت وتركنا الوجه الذي لم يثبت، وهذه قاعدة مفيدة تنفعك في مسائل عديدة، ونظير ذلك رجل ادعى على آخر أنه سرق منه مالاً من بيته وأتى بشاهد على ذلك رجل وامرأتين، فهذه الصورة تضمنت حكمين ضمان المال، وقطع اليد، الحد لا يثبت برجل وامرأتين، وإنما يثبت بشهادة رجلين، والمال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، ففي هذه الحال نقول: يضمن السارق المال ولا تقطع يده، فهذه صورة واحدة تضمنت حكمين مختلفين لوجود مقتضي أحدهما دون الآخر، فتتبعض الأحكام.
وقوله: «أو بالعكس» قال المالك: أعرتك، قال: بل أجرتني، نقول: إن كان عقب العقد فالقول قول مدعي الإعارة، ومدعي الإعارة في هذه الصورة هو المالك؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة، فإذا قال المالك: أعطني إياها، أعطاه إياها.
أما لو كان ذلك بعد مضي مدة، فالقول قول المالك ـ أيضاً ـ وإن كان مدعي الإعارة، لكنه إذا كان هو مدعي الإعارة فإنه لا أجرة له إذا مضت المدة، يعني بعد أسبوع قال المالك: إني(10/134)
معيرك إياها، وقال من هي بيده: بل هي بالإجارة، وهنا قد يقال: كيف يدعي من هي بيده أنها بالإجارة والمالك يدعي الإعارة؟ نقول: نعم، إذا تلفت فالأحظ للمالك أن يقول: هي عارية؛ من أجل أن تضمن سواء تعدى أو فرط أو لم يتعدَّ ولم يفرط، لكن لو ثبت أنها إجارة لا يضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط.
وَإنْ قَالَ: أَعَرْتَنِي، أَوْ قَالَ: أَجَّرْتَنِي، قَالَ: بَلْ غَصَبْتَنِي، أَوْ قَالَ: أَعَرْتُكَ، قَالَ: بَلْ أجَّرْتَنِي وَالبَهِيمَةُ تَالِفَةٌ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي رَدٍّ فَقَوْلُ المَالِكِ.
قوله: «وإن قال» أي: من هي بيده.
قوله: «أعرتني أو قال: أجرتني قال: بل غصبتني» أي: أخذتها مني غصباً، يقول المؤلف: القول قول المالك: أنها غصب، وإنما يقول المالك: إنها غصب؛ من أجل أن يضمن الغاصب المنفعة والعين؛ لأنه لو كان مُعِيراً فالمنفعة غير مضمونة على من هي بيده، ولو كان مُؤجِّراً فالمنفعة ـ أيضاً ـ للمستأجر وهي مضمونة عليه بالأجرة، وقد سلَّمها، لكن لو تلفت العين بلا تعدٍّ أو تفريط لم يضمنها، والغاصب يضمن سواء تعدى أم فرط، أو لم يتعدَّ ولم يفرط، ويضمن العين والمنفعة وكل ما يترتب على الغصب من نقص.
قوله: «أو قال» أي: المالك.
قوله: «أعرتك، قال: بل أجرتني والبهيمة تالفة» يعني أو غير تالفة في مسألة الإجارة فالقول قول المالك، فلو قال المالك: أعرتك، قال من هي بيده: بل أجرتني، والبهيمة تالفة، وإذا كانت تالفة وثبت أنها عارية فضمانها يكون على المستعير سواء فرَّط أم لم يفرِّط، وهذا على المذهب، وإذا كانت إجارة لم يضمن إذا لم يتعدَّ أو يفرط، فيقول المؤلف: إن القول قول(10/135)
المالك، وإن لم تكن تالفة؛ لأن الأصل فيمن قبض مال غيره ـ كما سبق ـ الضمان.
قوله: «أو اختلفا في رد فقول المالك» «اختلفا» يعني المعير والمستعير في رد العارية فالقول قول المالك، مثاله: أعار إناء لشخص، ثم جاء يطلبه منه، فقال المستعير: رددته، وقال المعير: لم ترده، فالقول قول المالك؛ لأن الأصل عدم الرد، وبناء على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن من قبض العين لمصلحة نفسه لم يُقبل قوله في الرد، والمستعيرُ العينُ في يده لمصلحته، فإذا قال: رددتها عليك، قلنا: لا نقبل قولك إلا إذا أتيت ببيِّنة بأنك رددتها، فلو أتى المستعير ببينة أنه رد العارية فإنه يقبل قوله بالبينة، وكل كلام المؤلف في هذه الخلافات فيما إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا كان هناك بينة فالبينة قاضية على كل شيء.
وهل هذه هي مسألة المخزومية (1) ؟
لا، المخزومية تجحد، تقول: ما أعرتني، وهذا يقول: أعرتني ولكن رددتها عليك، وبينهما فرق؛ فإذا ثبت أن هذا لم يردها فإننا لا نقطع يده، لكن الجحد يقتضي أن لا يُطالَب هذا الذي ادُّعِي عليه العارية إلا إذا ثبت أنه مستعير، فبينهما فرق واضح.
ويتفرع على القاعدة السابقة: «أن من قبض العين لمصلحة
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3475) ؛ ومسلم في الحدود/ باب قطع السارق الشريف وغيره (1688) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقطع يدها» . وهذا اللفظ لمسلم.(10/136)
نفسه لم يقبل قوله في الرد» ، أنه إذا كانت المنفعة لصاحب العين لا لمن هي بيده، فهل يُقبل قوله في الرد؟ نعم يقبل، مثل: الوديعة، كرجل أودع عند إنسان شيئاً ثم جاء يطلبه، فقال المُودَع: إني قد رددته عليك، فهنا القول قول المُودَع؛ لأنه إنما قبض العين لمصلحة مالكها، فهو كالوكيل له في حفظها.
أما إذا كانت المنفعة لمصلحتهما جميعاً كالعين المستأجرة، فإن العين المستأجرة بيد المستأجر لمصلحته ومصلحة مالكها، فهي لمصلحته من أجل استيفاء المنفعة التي تم العقد عليها، ولمصلحة مالكها من أجل الأجرة المتفق عليها، فهل نقول: القول قول المستأجر، أو نقول القول قول المُؤجِّر؟ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يغلبون جانب الاحتياط، يقولون: إذا كانت العين بيد الإنسان لمصلحة الطرفين، وادعى ردها فإنه لا يُقبل إلا ببيِّنة، وظاهر كلامهم في هذا: أنه لا فرق بين الرجل المعروف بالصدق والأمانة والحفظ، والرجل المعروف بالكذب والخيانة والنسيان، ولكن لو قيل بأنه يجب النظر إلى القرائن أولاً، فإذا لم يكن قرينة فالقول ما ذهب إليه الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، أما مع القرينة فلا ينبغي أن يُقال: إن القول قول المالك، أو قول من هي بيده، بل يرجع إلى ما تقتضيه القرينة، وهذا هو الأقرب للصواب؛ لأن قرائن الأحوال شواهد بمنزلة البينة، فلو أن شخصاً أعار رجلاً أميناً صدوقاً حافظاً، ثم جاء يطلبه فقال المستعير: قد رددته عليك، وقال المعير: لم ترده عليّ، والمعير معروف بالنسيان، فهنا لا يسوغ أن نقول: إن القول قول المعير؛ لأن هذا الذي(10/137)
ادعى الرد ثقة صدوق حافظ، فيكون القول قوله لكن لا بد من اليمين.
والقرائن تعمل عملها، أرأيتم الحاكم الذي حكم بين يوسف ـ عليه السلام ـ وبين امرأة العزيز، ماذا قال حينما دافع يوسف ـ عليه السلام ـ عن نفسه؟ {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] وهي ادعت أنه أراد بها سوءاً؟ فهنا الحاكم حكم بالقرينة، ولم يحكم بالبراءة للمرأة، ولا ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولكن قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [يوسف] لأنه إذا كان من دبر فمعناه أن الرجل هرب منها ولَحِقَته فأمسكت بقميصه، وإذا كان من قُبُل فالمرأة هي المدافعة عن نفسها حتى مزقت القميص، فهذه قرينة.
كذلك القسامة: في القتل يُحكم فيها بالقرينة، ويُهدر الأصل، والقسامة أن يدعي جماعة على قبيلة أنهم قتلوا صاحبهم، وكان بينهم عداوات، وأولياء القتيل ليس عندهم بينة، لكن حلفوا أن فلاناً من هذه القبيلة هو الذي قتل قتيلهم، فالأصل عدم ذلك وهذا قتل نفس، لكن لوجود القرينة وهي العداوة الظاهرة بين القبيلتين تُجرى القسامة، وإذا حلف أولياء المقتول خمسين يميناً أن هذا الرجل هو الذي قتل صاحبهم قُتِل، فهذا حكم بالقرينة، فينبغي أن يقال: إن إطلاق الفقهاء في مثل هذا ما لم تقم قرينة قوية تغلب على الأصل، فإذا وجد قرينة قوية تغلب على الأصل فإنه يُعمل بها.(10/138)
وقد تكون القرينة أقوى من البينة، ففي المثال السابق المستعير رجل أمين صدوق حافظ، وادعى أنه رد العارية، وصاحب العارية بالعكس، فهنا يكاد الإنسان يشهد أن القول قول المستعير، فقد تكون هذه القرينة أقوى من أن يأتي بشاهد واحد ويحلف معه، أو يأتي بشاهدين أو شاهد وامرأتين، فعلى كل حال ما ذكروه ـ رحمهم الله ـ في هذه المسائل ينبغي أن يُقيد بما إذا لم توجد قرينة قوية تؤيد أحد المدعيين فيُعمل بها.
مسألة: متى يجب على المستعير أن يرد العارية؟
الجواب: يجب على المستعير أن يرد العارية في أحوال منها:
الأولى: إذا انتهت المدة إذا كان قد قدر لها مدة.
الثانية: إذا طلبها صاحبها.
الثالثة: إذا خاف عليها من سراق أو غيرهم.
الرابعة: إذا سافر المستعير.
الخامسة: إذا تم انتفاعه بها لما استعارها من أجله، كأن يستعير شخص كتاباً؛ لأن عنده اختباراً فإنه يلزمه رده بمجرد أن ينتهي اختباره.(10/139)
بَابُ الغَصْبِ
وَهُوَ الاسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ قَهْراً بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ..........
قوله: «الغصب» مصدر غَصَب يغصِب غصباً بمعنى قهر، وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بقوله:
«وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً بغير حق» .
فقوله: «حق غيره» سواء كان مِلكاً أو اختصاصاً، فالملك كالدراهم والسيارات وغيرها، والاختصاص كالشيء الذي لا يُملك ولكن صاحبه أخص به، مثل كلب الصيد فإن كلب الصيد لا يملك ولذلك لا يباع ولا يشترى، ومثل السرجين النجس كرَوث الحمير مثلاً، فإن صاحبه أخص به وليس بمال؛ ومثل خمر الذمي، فإنه أخص بها وهي بالنسبة للمسلمين ليست بمال وبالنسبة للذميين مال.
وقوله: «قهراً» خرج به السرقة، والاختلاس، والانتهاب، وما أشبه ذلك؛ لأن السرقة، والاختلاس، والانتهاب ليست قهراً.
وخرج به ـ أيضاً ـ ما لو استولى على مال الغير باختيار الغير، ولكن إن كان الغير مختاراً على سبيل الإكراه كأن يوليه على ملكه على سبيل الإكراه، فإن هذا لا يُعد إذناً.
وقوله: «بغير حق» خرج به ما إذا استولى عليه بحق، فإذا استولى عليه بحق فإنه ليس بغاصب، مثال ذلك: أَخْذُ الولي(10/140)
أموال اليتامى وحفظها والقيام عليها والاتجار بها وما أشبه ذلك، هذا حق، فلا يُعد الولي إذا أخذ مال اليتيم وتصرف فيه ببيع وشراء لمصلحة اليتيم، لا يعد غاصباً، وكاستيلاء الحاكم على مال المفلس ليبيعه ويوفي الغرماء فإن هذا بحق.
إذاً فقوله: «الاستيلاء على حق غيره» جنس، وقوله: «بغير حق» فصل.
قوله: «من عقار ومنقول» هذا بيان للحق، يعني سواء كان الحق عقاراً، كالأراضي، والأشجار، والبيوت، أو كان منقولاً، وهو ما يُنقل عادة مثل السيارات، والأثاث من فُرُش وغيرها، وكذلك الأغراض اليدوية كالساعة، والقلم، وغيرها.
وأشار المؤلف بقوله: «ومنقول» إلى رد قول من يقول: إن الغصب خاص بالعقار، والصواب أنه يكون في العقار والمنقول.
ولم يُفصِح المؤلف ـ رحمه الله ـ بحكمه الشرعي، وحكمه الشرعي أنه حرام، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وإذا كان في حق اليتامى ونحوهم من القُصَّار صار أشد إثماً كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] .
والدليل من السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب المسلمين في أوسع(10/141)
تجمع لهم في حجة الوداع حيث قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (1) وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (2) وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوَّقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» (3) والعلماء مجمعون على تحريمه في الجملة، أي على أنه يحرم على الإنسان أن يأخذ مال أخيه بغير حق، والمصلحة تقتضي تحريمه لما يحصل به من العدوان على أموال الناس والفوضى.
وهل هو من كبائر الذنوب؟
الجواب: ليس هناك نص عام على أن الغصب من كبائر الذنوب، لكن هناك أشياء من الغصب جعلت شرعاً من كبائر الذنوب، مثل اقتطاع الأرض وأكل أموال اليتامى، فهل نقتصر على ما ورد فيه الوعيد ونقول: الباقي يدخل في عموم التحريم؟ أو نقول: إن ما ذكر على سبيل المثال، ويكون هذا عاماً؟ فيه
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رُبَّ مبلغ أوعى من سامع» (67) ؛ ومسلم في الحدود/ باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/72) ؛ والدارقطني (3/26) ؛ والبيهقي (6/100) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً، وأخرجه الدارقطني (3/26) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ؛ والحديث حسنه البيهقي لطرقه كما في خلاصة البدر المنير (1591) ، وانظر: الإرواء (1459) .
(3) أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ، واللفظ لمسلم.(10/142)
احتمال، قد لا نجزم أنه من كبائر الذنوب ونقتصر على ما ورد فيه الوعيد، وما لم يرد فيه الوعيد يكون من المحرمات على وجه العموم، فهذا حكمه الشرعي، أما الأحكام الوضعية من ضمان ونحوه فبيَّنه المؤلف بقوله:
وَإِنْ غَصَبَ كَلْباً يُقْتَنَى، أَوْ خَمْرَ ذِمِّيٍّ رَدَّهُمَا، وَلاَ يَرُدُّ جِلْدَ مَيْتَةٍ.....
«وإن غصب كلباً يقتنى أو خمر ذمي ردهما» قوله: «كلباً يقتنى» أي: يحل اقتناؤه، وهو كلب الحرث، والصيد، والماشية، هذه هي الكلاب التي تقتنى وما عداها يحرم اقتناؤه، فإذا غصب كلباً يقتنى وطلبه صاحبه وجب رده، وإن لم يكن مالاً، لكن لصاحبه حق الاختصاص به؛ لأنه أولى الناس به، وأحق الناس بمنفعته.
وإن غصب كلباً لا يقتنى فهدر؛ لأن صاحبه ليس له حق اقتنائه، فهو عند غير مستحق.
مسألة: ما حكم اقتناء الكلب الذي يحرس الإنسان؟
نقول: إن الكلب الذي يحرس الإنسان يجوز اقتناؤه؛ لأنه إذا كان اقتناء الكلب لحراسة الماشية جائزاً فحراسة الإنسان أولى وأحرى، كذلك إذا كان اقتناء الكلب للصيد جائزاً ـ والصيد ليس أمراً ضرورياً؛ لأن الإنسان بإمكانه أن يعيش بدون صيد ـ فإن اقتناءه للأمور الضرورية من باب أولى.
وأما اقتناء الكلب تشبهاً بالكفار وتفاخراً به فإن هذا لا شك حرام، ويَنقص من أجر الإنسان كل يوم قيراط أو قيراطان، مع ما في ذلك من إثم التشبه وتقليد الكفار، ومع ما في ذلك من الدناءة؛ لأن الكلب أخبث الحيوانات من حيث النجاسة، فإن نجاسته لا تطهر إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب، ولا توجد(10/143)
نجاسة أغلظ من نجاسة الكلب، مع ما في ذلك من إلف الإنسان للأشياء الخبيثة، وقد قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] .
وقوله: «أو خمر ذمي» الذمي هو الكافر الذي أقام في بلاد الإسلام مُؤَمَّنَاً على مالِهِ ونفسه ويعطي الجزية، إذا غصب خمر ذمي وجب عليه رده وجوباً، فإن قيل: أليس الخمر حراماً؟ فالجواب: بلى، لكنه بالنسبة للذمي حلال، فإن قال قائل: أنا إذا أعطيته هذا الخمر فإني كما لو صنعت له تمثالاً يعبده؟ قلنا: هذا ليس بصحيح، فالتمثال الذي يعبده محرم حتى في شريعته، لكن الخمر عنده حلال.
وقوله: «أو خمر ذمي» خرج به ما لو غصب خمر حربي فإنه لا يضمنه ويكون هدراً.
ومتى يكون الذمي حربياً؟ يكون حربياً إذا نقض العهد.
وإن غصب خمر مسلم فهدر، ولو طلب المسلم رده فلا يرده، ولكن يريقه، هذا إذا كان له السلطة في التغيير باليد، وأما إذا لم يكن له ذلك فإنه لا يحل له أن يتجرأ على حق السلطان ويفتات عليه.
وبهذا التقرير الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ يتبين خطأ أولئك الذين يعتدون على الذميين في بيوتهم ويدخلون عليهم ويريقون خمورهم، فإن هذا لا يجوز؛ لأن الذمي له حق، فيُباح له ما يعتقد إباحته لكنه لا يُعلنه، وإذا أعلنه نمنعه ولنا الحق أن نأخذه ولا نرده.(10/144)
قوله: «ولا يرد جلد ميتة» مثال هذا: شخص رأى شاة ميتة فسلخ جلدها وأخذه، فطالبه مالكها به، فهل يرده؟ المؤلف يقول: «ولا يرد جلد الميتة» ؛ لأن جلد الميتة ليس بمال، وهو داخل في عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة» (1) فلا قيمة له شرعاً، ولكن إذا قال صاحب الجلد: أنا أريد أن آخذ الجلد لأدبغه، فإذا دبغ صار على القول الراجح طاهراً، فهو كالثوب النجس إذا غصبه غاصب يرده على صاحبه، فيقول: الشاة التي ماتت مُلكي، والجلد يمكنني أن أنتفع به بدبغه، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أنه يجب عليه أن يرد جلد الميتة؛ وذلك لإمكان معالجته حتى يصبح طاهراً.
فإذا قال قائل: كيف يرده وهو نجس؟
قلنا: لأن الله إنّما حرم من الميتة أكلها؛ لأن الله تعالى قال: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] ولم يقل: على مستعمل يستعمله.
ثانياً: أن جلد الميتة يمكن الانتفاع به إذا دبغ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مر على شاة ميتة يجرونها فقال: «هلاَّ انتفعتم بإهابها» ، قالوا: إنها ميتة، فقال: «يطهِّره الماء والقَرَظ» (2) وإذا طهر جلد
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الميتة والأصنام (2236) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1581) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (6/334) ؛ وأبو داود في اللباس/ باب في أهب الميتة (4126) ؛ والنسائي في الفرع والعتيرة/ باب ما يدبغ به جلود الميتة (7/174) عن ميمونة ـ رضي الله عنها ـ؛ وحسنه النووي في المجموع (1/276) ؛ وابن الملقن في خلاصة البدر المنير (45) .(10/145)
الميتة بالدباغ جاز استعماله في كل شيء من الجامدات والمائعات، فيمكن أن يجعل سقاء للماء أو اللبن، ويمكن أن يجعل حذاء أو خُفّاً، فالصواب أنه لا يجوز غصب جلود الميتة، وإذا غصبها وجب عليه ردها لما ذكرنا.
وَإِتْلاَفُ الثَّلاَثَةِ هَدَرٌ.............
قوله: «وإتلاف الثلاثة هدر» الثلاثة يعني الكلب وخمر الذمي وجلد الميتة، يعني لو أتلفها متلف فإنها لا تضمن، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثمن الكلب خبيث» (1) وهذا يدل على أن الكلب لا قيمة له شرعاً، فإذا أتلفه متلف فليس عليه ضمان، والخمر ـ أيضاً ـ دليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم بيعه (2) ، وهذا يدل على أنه لا عوض له شرعاً، فإذا أُتلف فلا ضمان، أما جلد الميتة فيدخل في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حرَّم بيع الميتة» وهذا يدل على أن الميتة ليس لها قيمة شرعاً، فإذا أتلفها متلف فإنه لا يضمن.
بالنسبة للكلب والخمر الأمر فيهما واضح فليس لهما قيمة شرعاً، أما بالنسبة لجلد الميتة إن كان قد دبغ فإن بيعه يجوز، وحينئذ يضمنه متلفه بالقيمة أو بالمثل إن كان له مثل؛ لأنه إذا دبغ صار طاهراً، فيجوز الانتفاع به في كل شيء، أما قبل الدبغ فمحل نظر قد نقول: إنه يضمنه؛ لأنه إذا كان يمكن تطهيره فهو كالثوب النجس، والثوب النجس يجوز بيعه، وقد نقول: إنه لا
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب (1568) (41) عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص145.(10/146)
يضمنه؛ لأنه إلى الآن ليس مما يباح استعماله، وصاحبه قد يدبغه وقد لا يدبغه، فيرجع في هذا إلى نظر القاضي.
ولكن هل يعاقب على تعديه على حقوق الغير المحترمة؟
الجواب: نعم، يعاقب ويؤدب حيث أتلف شيئاً محترماً، وإنما ذكر المؤلف هذه الثلاثة في باب الغصب لقوله: «وإتلاف الثلاثة هدر» أما غيرها مما يُتلف ففيه الضمان وسيأتي إن شاء الله.
وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ كُرْهاً أَوْ حَبَسَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ ...
قوله: «وإن استولى على حر لم يضمنه» يعني أخذ حراً واستولى عليه حتى جعله كالرقيق له، ثم مات الحر ويد الغاصب عليه، فإنه لا يضمنه؛ لأنه حر وليس بمال، والحر لا تثبت عليه اليد، وإن استولى على عبد ضمنه؛ لأن العبد مال، كما لو استولى على سيارة، أو على بيت، أو ما أشبه ذلك فإنه يضمنه.
لكن سيأتينا ـ إن شاء الله ـ في باب الديات أنه لو غصب حراً صغيراً فأصابته صاعقة فإنه يضمنه، وأنه إذا مات بمرض ففي ضمانه قولان، وهذا يقتضي أن اليد تستولي على الحر الصغير؛ لأنه لا يملك الدفاع عن نفسه بخلاف الكبير، وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد:
القول الأول: أن الحر لا يُستولى عليه أبداً وحينئذ لا يضمن، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أن الحر يمكن الاستيلاء عليه، وعليه فيضمن المستولي عليه عينه ومنفعته.
القول الثالث: التفريق بين الصغير والكبير، فإذا استولى على صغير فإنه يضمنه؛ لأنه لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وإذا(10/147)
استولى على كبير فإنه لا يضمنه؛ لأن الكبير يمكنه الدفاع عن نفسه ويتخلص.
قوله: «وإن استعمله كُرهاً أو حبسه فعليه أجرته» يعني إن أكرهه على أن يخدمه، أو أكرهه على أن يبقى في الدكان «فعليه أجرته» ؛ لأنه أتلف منفعته ظلماً وعدواناً.
فإذا قال قائل: وهل يمكن أن يستولي على حر ولا يستعمله؟
نقول: نعم، يمكن، فيستولي على حر حتى إذا جاءه الضيوف وجدوا عنده هؤلاء على أنهم عبيده أو أولاده أيضاً؛ لأن الإنسان يفخر بالأولاد، ولكنه لا يستعملهم، بل يكرمهم، إنما يريد أن يكون أمام الضيوف عنده أولاد أو خدم، فهؤلاء لا يضمنهم؛ لأنه لم يستعملهم بل كان يكرمهم، أما لو استعمله بأن قال له مثلاً: خذ العصا واذهب إلى الماشية وكن راعياً فيها، أو خذ الحراثة واذهب إلى الأرض احرثها، أو خذ الدفاتر وقيد الداخل والخارج، فهنا يقول المؤلف: إن عليه أجرته.
فإن استعمله طوعاً فليس عليه أجرة، وظاهر كلام المؤلف سواء كان هذا الحر صغيراً أو كبيراً فيما إذا استعمله طوعاً، وهو مُسَلَّم في الكبير، وأما الصغير ففيه نظر؛ لأن الصغير ربما يطيع وهو لا يدري عن الأمور، فكيف نقول: إنه لا يُضمن مع أن تصرفه لا يعتبر تصرفاً معتبراً شرعاً؟! فينبغي أن يقال: إن استعمله طوعاً فإن كان كبيراً فلا أجرة له وإن كان صغيراً فله الأجرة.
وقوله: «أو حبسه» إذا حبسه فعليه أجرته، وظاهر كلامه(10/148)
ـ رحمه الله ـ أن عليه أجرته مطلقاً حتى وإن كان حبسه في وقت لا ينتفع فيه، كما لو حبسه في الليل؛ لأن الليل ليس محلاً للعمل ومع ذلك نقول: عليه الأجرة، أو كان عاطلاً لا يعمل، وفي المسألة نظر؛ لأنه إذا حبسه وهو عاطل فإنه لم يفوت عليه شيئاً، فالصواب أن يقيد بما إذا كان هذا الرجل يعمل، أو في وقت ينتفع فيه.
وإذا حبسه فمات من الحبس فهل يضمنه بدية؟ نعم، يضمنه بدية؛ لأنه مات بحبسه.
فإن حبسه فنزلت عليه صاعقة من السماء؟ هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، منهم من قال: إنه يضمنه؛ لأنه لولا أنه حبسه في هذا المكان ما نزلت عليه الصاعقة، ومنهم من قال: لا يضمنه، إلا إذا عُرف أن هذا الموضع عادة تكثر فيه الصواعق، فإذا كان كذلك فإنه يضمنه.
ومثل ذلك لو لدغته حية ومات في مكان الحبس، فإننا نقول: لا يضمن، إلا إذا عُرف أن هذا المكان تكثر فيه الحيات.
وَيَلْزَمُ رَدُّ المَغْصُوبِ بِزِيَادَتِهِ، وَإِنْ غَرِمَ أَضْعَافَهُ، وَإِنْ بَنَى فِي الأَرْضِ أَوْ غَرَسَ لَزِمَهُ القَلْعُ، وَأَرْشُ نَقْصِهَا، وَتَسْوِيَتُهَا، وَالأُجْرَةُ. ......
قوله: «ويلزم رد المغصوب» أفادنا المؤلف أنه يجب شرعاً على الغاصب رد المغصوب، ومؤونة رده على الغاصب؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) .
قوله: «بزيادته» يعني لو زاد المغصوب فإن الزيادة لمالكه، سواء كانت متصلة أم منفصلة؛ لعموم قول المؤلف: «بزيادته» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/149)
مثال الزيادة المتصلة: إنسان غصب شاة صغيرة ثم قام عليها بالإرضاع والإعلاف، وشَبَّت ونمت، فهل يرجع الغاصب على مالك الشاة بما زاد من قيمتها؟ لا، الزيادة للمالك.
أما الزيادة المنفصلة: فكما لو غصب هذه الشاة وولدت عنده، وأنتجت وصار يبيع من ألبانها وألبان نَتاجها، فإن هذه الزيادة تكون لمالكها.
فقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «بزيادته» يشمل الزيادة المتصلة وهي التي لا يمكن انفكاكها كالسِّمَن وتعلم الصنعة وما أشبه ذلك، والمنفصلة كالولد واللبن وما أشبه ذلك.
ولو غصب عبداً، وهو غلام صغير، فعلَّمه الكتابة وعلَّمه علوماً عظيمة، فازدادت قيمته عشرة أضعاف هل يرجع على مالك الغلام بالتعليم؟ لا؛ لأنه غاصب ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» فأيُّ عرق ظالم فليس له حق، فلو تلف فعليه الضمان بزيادته؛ لأن زيادة المغصوب تحدث على مُلك المالك، فيجب عليه إذا أتلفه أن يضمنه بزيادته.
قوله: «وإن غرم أضعافه» يعني لو غصب شعيراً فخلطه ببُر، عشرة آصع من الشعير غصبها وخلطها في عشرة آصع من البر، فطالب المالك، وقال: أعطني شعيري، فقال: أنا خلطته بالبر، ولو بقيت أخلصه لغرمت أضعاف القيمة، فنقول: يلزمك تخليصه، فأحضر أناساً يخلصون الشعير من البر، ولو كانت قيمة البر والشعير خمسين ريالاً، وأجرة التخليص خمسمائة ريال، ولهذا قال: «وإن غرم أضعافه» .(10/150)
وقال بعض أهل العلم: إذا كان الضرر كثيراً وليس لصاحبه غرض صحيح بعينه فإنه يعطى مثله أو قيمته، خصوصاً إذا علمنا أن قصد المالك المضارَّة بالغاصب، وهذا القول له وجه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ويقول: «من ضارَّ ضارَّ الله به» (2) ، لكن لو كان هذا التضمين سبيلاً لتقليل الغصب والعدوان على الناس فالقول بالمذهب أقوى من القول الثاني، وهذا هو الراجح.
قوله: «وإن بنى» أي: الغاصب.
قوله: «في الأرض» أي: المغصوبة.
قوله: «أو غرس» أي: في الأرض المغصوبة.
قوله: «لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها، والأجرة» هذا مع الإثم.
فيلزمه أولاً: «القلع» وهذا إذا طالبه صاحب الأرض، وقال: اقلع الذي غرسته في أرضي، فإنه يلزمه.
وقوله: «أو بنى فيها» لو قال له المالك: اهدم البناء، فإنه يلزمه أن يهدم البناء، وهذا مقبول إذا كان لصاحب الأرض غرض
__________
(1) سبق تخريجه ص (114) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/453) ؛ وأبو داود في القضاء/ باب في القضاء (3635) ؛ والترمذي في البر والصلة/ باب ما جاء في الخيانة والغش (1940) ؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2342) عن أبي صرمة ـ رضي الله عنه ـ، وانظر: الإرواء (3/413) .(10/151)
في تخليتها من الغراس والبناء، لكن إذا كان يريد أن يبني عليها، فهل نلزم الغاصب بالهدم؟ الجواب: لا نلزمه، فلو قال الغاصب: أنا لا أريد البناء والشجر، فالشجر لك، والبناء لك، ولا تكلفني أن آتي بالمعاول، وآتي بالرجال يقلعون الشجر ويهدمون البناء؟ فنقول: إن كان يفوت بذلك غرضُ صاحب الأرض، بأن يقول صاحب الأرض: أنا أريد أن أغرسها نخلاً وهي الآن مغروسة برتقالاً، أو قال: أنا أريد أن أغرسها من نوع معين من النخل دون النوع الموجود فيها، فهنا له الحق بأن يُلزم الغاصبَ بقلع الغرس.
كذلك في البناء، لو قال: أنا أريد أن أبنيها بيتاً لكن ليس على هذا الوجه، فهذا البناء لا يطيب لي، إما من حيث رداءة البناء، أو من حيث تصنيف البناء ـ مثلاً ـ فهل له الحق أن يجبره؟ نعم، لكن إذا علمنا أنه ليس له غرض إلا المضارة، وأن صاحب الأرض يريد أن يبنيها على هذه الصفة، أو يريد أن يغرسها بهذا النوع من الشجر، لكن يريد أن يضار بالغاصب ويكلفه، فهنا نمنعه، ونقول: ليس لك أن تجبر الغاصب على إزالة البناء أو الغراس، والدليل:
أولاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) وهذا لا شك أنه أضر صاحبه وأضر بنفسه أيضاً.
ثانياً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال (2) ، وهذا فيه
__________
(1) سبق تخريجه ص (114) .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله ـ عز وجل ـ: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (1477) ؛ ومسلم في الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل (1715) عن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ.(10/152)
إضاعة مال عليهما جميعاً، أما على الغاصب فواضح، وأما على المالك؛ فلأنه يريد أن ينشئ هذا البناء من جديد، وكان البناء أو الغراس موجوداً، فقد أضاع المال، وسيخسر مرة ثانية بإنشائه.
فصار كلام المؤلف ليس على إطلاقه، بل نقيده بما إذا لم يتبين أن المقصود به المضارة، فإن تبين ذلك فإنه يمنع، فلا ضرر ولا ضرار.
مسألة: لو طالب رب الأرض أن يبقى الغراس ويدفع القيمة، ففيه تفصيل، إن كان للغاصب غرض صحيح في قلعه فإنه لا يجبر على إبقائه، كأن يقلع النخل ويجعله في أرض يملكها، وإن لم يكن له غرض صحيح في امتناعه، وإنما سيقلع هذا الغرس ويرميه في الشمس حتى يتلف، فإننا لا نمكنه من ذلك لوجوه:
الأول: أن هذا من الفساد، والله لا يحب الفساد.
الثاني: أن هذا إضاعة مال، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال (1) .
الثالث: أن في إبقائه وإعطاء الغاصب القيمة منفعة له، ورغبته عن المنفعة يعتبر سفهاً، وقد قال تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ، فإذا مُنعنا أن نعطي هؤلاء أموالهم فكيف لا نلزم هذا بأخذ زيادة على ماله؟!
الرابع: أن لصاحب الأرض حقاً حيث يقول: لولا هذه
__________
(1) سبق تخريجه ص (152) .(10/153)
الأشجار التي غرسها الغاصب لكنت أنا قد غرست وصار شجري كشجر الغاصب الآن، فقد فوَّت عليَّ منفعة الأرض طيلة هذه المدة، وهو لا ينتفع بغراسه إذا قلعه.
ثانياً: «أرش نقصها» وهل تنقص الأرض بالبناء عليها؟ نعم، ربما تنقص، بأن يكون ـ مثلاً ـ أخذ من تربتها وهي صلبة أو ما أشبه ذلك، وأما في الغرس فواضح أنها تنقص؛ لأن الفلاحين يسمُّون الأرض إذا لم تغرس أرضاً بكراً، وإذا غرست صارت غير جيدة، فهنا فيها نقص فيلزمه أرش نقصها، وكيف ذلك؟ نقول: نقدر الأرض مغروسة وغير مغروسة، يعني نقدرها بكراً أو مغروسة قد نُزع غرسها، فالفرق بين القيمتين هو أرش النقص، فَيُلزم الغاصب بأرش النقص.
ثالثاً: «تسويتها» أي: تسوية الأرض، ومعلوم أن الأرض بعد أن يهدم البناء الذي عليها لا بد أن يكون فيها حُفَر، وبقية الأنقاض كالجُدر وأساسات الحيطان، فنقول: نُلزم الغاصب بأن يسوي الأرض ويردها على ما كانت عليه.
رابعاً: «الأجرة» أي: أجرة الأرض مدة استيلاء الغاصب عليها، فإذا قدرنا أنه استولى عليها لمدة أربع سنوات ألزمناه بأجرتها لمدة أربع سنوات، لكن هل نلزمه بأجرتها مسكونة ومعمورة، أو بأجرتها بيضاء ليس فيها عمران؟ ما دمنا قلنا: إن الزيادة تكون لصاحب الملك فإنها تُقَوَّم على أنها مسكونة معمورة، وهو جعلها عمارات تُسكن فالأجرة للمالك.
ويحتمل أن يقال: إن الأجرة هذه حصلت ببناء الغاصب(10/154)
وبأرض المالك فتجعل الأجرة بينهما نصفين؛ لأننا الآن سنعطي المالك أكثر من أجرة الأرض، فأجرة الأرض بيضاء يمكن أن تكون ـ مثلاً ـ عشرة آلاف في السنة كأن تكون مستودعات، أو مواقف وما أشبه ذلك، لكن إذا كانت مبنية فأجرتها ـ مثلاً ـ مائة ألف في السنة، لكن من أين حصلنا مائة الألف في السنة؟ من بناء الغاصب، ومن أرض المالك، فهنا لو قال قائل: بأن لكل من الغاصب والمالك قسطه من الأجرة لكان جيداً.
وَلَوْ غَصَبَ جَارِحاً، أَوْ عَبْداً، أَوْ فَرَساً، فَحَصَّلَ بِذَلِكَ صَيْداً فَلِمَالِكِهِ.
قوله: «ولو غصب جارحاً أو عبداً أو فرساً فحصَّل بذلك صيداً فلمالكه» هذه المسائل مبنية على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) فإذا غصب جارحاً، والجارح يطلق على الكاسب مثل كلب الصيد، وطير الصيد فهذا يسمى جارحاً، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فإذا غصب إنسان كلب صيد، وصاد به فإن الصيد يكون للمالك؛ لأن الكلب لمالكه، ولم يكن من الغاصب إلا أنه أشلاه بالصيد فصاد.
وقوله: «أو عبداً» فلو غصب عبداً وقال له: اذهب وصِدْ لنا طيوراً، صِدْ لنا حُمُر وحش، صِدْ لنا ظباء، فذهب وصاد، فيكون الصيد للمالك؛ لأنه كسب ملكه فيكون له.
وقوله: «أو فرساً» الفرس ليس هو الذي يصيد، العبد يصيد، والجارح يصيد، أما الفرس فلا يصيد، بل يُصاد عليه،
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/155)
والصائد هو الغاصب؛ لأن الغاصب صاده بسهمه، أو صاده بوثبه، أما الفرس فليس منه إلا العدو فقط، ولهذا ينبغي أن يفرق بينه وبين الجارح والعبد؛ لأن الجارح والعبد حصل الصيد من فعلهما، وأما الفرس فليس من فعله.
ولهذا نقول: الراجح في مسألة الفرس أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو الذي باشر الصيد، لكن عليه أجرة الفرس، وربما تكون أجرة الفرس أكثر من قيمة الصيد، فقد يصيد حمامة قيمتها خمسة ريالات، ولكن استعمال الفرس بخمسين ريالاً مثلاً.
وَإِنْ ضَرَبَ المَصُوغَ، وَنَسَجَ الغَزْلَ، وَقَصَّرَ الثَّوْبَ، أَوْ صَبَغَهُ، وَنَجَرَ الخَشَبَ وَنَحْوَهُ، أَوْ صَارَ الحَبُّ زَرْعاً، أو البَيْضَةُ فَرْخاً، وَالنَّوَى غَرْساً، رَدَّهُ وَأَرْشَ نَقْصِهِ، وَلاَ شَيْءَ لِلغَاصِبِ، وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ نَقْصِهِ.
قوله: «وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصَّر الثوب، أو صبغه، ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحَبُّ زرعاً، أو البيضة فرخاً، والنوى غرساً، ردَّه وأرشَ نقصه، ولا شيء للغاصب» .
جواب: «إن» في هذه المسائل كلها قوله: «رده وأرش نقصه» .
وقوله: «ضرب المصوغ» يعني الحلي، وضربه يعني جعله نقداً، يعني غصب حليّاً من ذهب وضربه وجعله دنانير، أو غصب حلي فضة وضربه وجعله دراهم، فيجب عليه أن يرد هذه الدنانير والدراهم إلى المالك وعليه أرش النقص، فيقال مثلاً: هذه الدنانير تساوي مائة ريال، والمصوغ الذي حوَّله إلى دنانير يساوي مائتين فيرد الدنانير ومائة ريال.(10/156)
في الفضة ـ أيضاً ـ الحلي الذي حوله إلى دراهم كان يساوي ـ مثلاً ـ مائة ريال، فيرد الدراهم وخمسين ريالاً، فإذا قال: أنا أرد له مثل مصوغه وأطيب منه، وقال المالك: أنا أريد عين مالي، فالقول قول المالك؛ لأن عين ماله موجود، وهو هذه الدنانير والدراهم.
فإذا قال الغاصب: أنا تعبت وخسرت، قلنا له: لكنك ظالم وقد قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] .
وكذلك لو غصب مثقالاً من الذهب وحوَّله إلى حلي، أو مثقالاً من الفضة وحوَّله إلى حُلي، فلمن تكون هذه الزيادة التي زادت بالصنعة؟ تكون لمالك المصوغ وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
وقوله: «ونسج الغزل» لو نسج الغزل وهو خيوط، كما لو غصب غزلاً من صوف أو وبر أو شعر ثم حوله إلى نسيج، فهو لمالكه وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
وقوله: «وقصَّر الثوب» أي: غسله بعد أن كان وسخاً، ومن المعلوم أن قيمته ستزداد لكن الزيادة لمالك الثوب وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم.
فهنا لا نقص، ولذلك قال في «الروض» (1) عند قول المؤلف: «وأرش نقصه» : «إن نقص» .
لكن لو فرض أنه نقص بهذا، وأنه كان في الأول جديداً
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/388) .(10/157)
لكن فيه وسخ ثم لما غسله صار غسيلاً، ومعلوم أن قيمة الغسيل أنقص من قيمة الجديد ولو كان وسخاً؛ لأن الذي يرى الجديد الوسخ يعلم أن استعماله قليل، والذي يرى الغسيل يُقدر أنه استعمل استعمالاً كثيراً ثم غُسِل فعليه أرش النقص.
وقوله: «أو صبغه» إذا صبغ الثوب إلى صبغ مرغوب عند الناس بعد أن كان أبيض غير مرغوب فيه، فإن الصبغ يكون لمالك الثوب، هكذا قال المؤلف هنا، لكن فيه نظر؛ لأن الصبغ لا بد فيه من شيء يصبغ به، والشيء الذي صبغ به ملك للغاصب، فكوننا نقول: إن الصبغ يكون لمالك الثوب مع أن في هذا الثوب عيناً للغاصب فيه نظر، وينبغي أن يقال: للغاصب قيمة صبغه، لكن لو نقص الثوب بالصبغ بأن حوله إلى صبغ تنقص به القيمة فعلى الغاصب ضمان النقص.
وقوله: «ونجر الخشب» مثاله: إنسان أخذ أعمدة من الخشب ونجرها أبواباً، فهنا لا بد أن تتغير القيمة وتزداد، فقيمته للمالك؛ لأن هذا ناتج عن فعل ظالم، والنجارة التي تتساقط عند النجر لتسوية الباب وما أشبه ذلك، قد يكون لها قيمة ويضمنها الغاصب؛ لأنه ظالم، والنجارة كان الناس فيما سبق يتخذونها حطباً ويشترونها من النجار.
وقوله: «ونحوه» كما لو حول الحديد إلى أبواب، فإذا غصب صاجات من الحديد وحولها إلى أبواب فتكون للمالك والغاصب لا يستحق شيئاً.
وقوله: «أو صار الحب زرعاً» إذا صار الحب زرعاً فهو(10/158)
لمالك الحب لا للغاصب؛ لأن هذا الزرع هو عين ملكه لكنه تحول بإرادة الله ـ عزّ وجل ـ إلى هذا.
وقوله: «أو صارت البيضة فرخاً» كذلك إذا صارت البيضة فرخاً، فلو أن رجلاً غصب بيضة ووضعها تحت طائر وصارت فرخاً، فالفرخ لمالك البيضة؛ لأنه عين ماله.
وقوله: «والنوى غرساً» النوى معروف وهو نواة التمرة، فإذا غصب نوى ووضعه في الأرض فصار غرساً، فالغرس لصاحب النوى، فهذا الذي غصب مائة نواة ودفنها في الأرض فصارت مائة نخلة، فإنها تكون لصاحب النوى وليس للغاصب شيء؛ لأنه ظالم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) .
وهل يستحق الغاصب في هذه المسائل أجراً؟
الجواب: لا؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» .
وقوله: «رده وأرش نقصه، ولا شيء للغاصب» أما وجوب رده فظاهر؛ لأنه ملك لغيره فيجب رده إليه، وأما كونه لا شيء له فلأنه ظالم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» .
قوله: «ويلزمه ضمان نقصه» هذه مسألة مستقلة، يعني يلزم الغاصب ضمان نقص ما غصب من أي شيء كان، إن كانت أرضاً فنقصت بحرثه وتغييره إياها فهو ضامن، وإن كان كتاباً فاستعمله ونقص فإنه يلزمه ضمان نقصه، فهذه مسألة مستقلة وليست مفرعة على المسائل التي ذكرها؛ لأن المسائل الذي ذكرها قال فيها: «رده وأرش نقصه» وهنا قال: «ويلزمه ضمان
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/159)
نقصه» أي نقص المغصوب مطلقاً، فلو غصب حبراً واستعمله فنقص فيلزمه ضمان نقصه.
وقوله: «ويلزمه ضمان نقصه» حتى ولو كان بغير فعله، كرجل غصب عبداً شاباً وبقي عنده عشر سنين، فظهرت لحيته وذهبت نضارة شبابه، فإن قيمته تنقص، فنقول: عليك ردَّه وردَّ ما نقص من قيمته ولو كان بغير فعلك؛ لأنه نقص تحت استيلائه، ولو مات وجب عليه ضمانه، فكل نقص يكون تحت يد الغاصب فهو من ضمانه سواء كان بسببه أو بغير سببه.
وَإِنْ خَصَى الرَّقِيقَ رَدَّهُ مَعَ قِيمَتِهِ وَمَا نَقَصَ بِسِعْرٍ لَمْ يُضْمَنْ، وَلاَ بِمَرَضٍ عَادَ بِبُرْئِهِ.
قوله: «وإن خصى الرقيق رده مع قيمته» مثال ذلك: رجل غصب رقيقاً وخصاه؛ من أجل أن تزيد قيمته؛ لأن الرقيق إذا كان خصياً كانت قيمته أكثر؛ لأنه أقل خطراً على النساء من الفحل، يقول المؤلف: «رده مع قيمته» أي: رده مع قيمته خصياً؛ لأن هذا الخصاء زادت به القيمة وهو فعل من ظالم وليس له فيه حق، والقاعدة أن الزيادة للمالك والنقص على الغاصب.
مثال هذا: غصب رقيقاً فحلاً يساوي عشرة آلاف، فخصاه فصار يساوي عشرين ألفاً، فيرده ويرد معه عشرة آلاف؛ لأنه أتلف منه ما فيه دية كاملة بالنسبة للحر، فلو خصى حراً وجب عليه دية كاملة، والرقيق ديته قيمته، فهذا الرجل خصى الرقيق، فنقول له: عليك قيمته؛ لأنك أتلفت منه ما فيه دية كاملة بالنسبة للحر، وما فيه دية كاملة بالنسبة للحر ففيه قيمة العبد كاملة، فصار هذا الغاصب قد زاد صاحب العبد بضمان القيمة، وزيادة قيمته بالخصاء ويرد العبد أيضاً؛ لأنه ليس ملكاً له.(10/160)
وقال بعض أهل العلم: إن الجناية على العبد تقوم بما نقص، وبناء على هذا الرأي نقول: ما دام العبد زاد بالخصاء فإن الغاصب لا يضمن شيئاً، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في القصاص أن القول الراجح أن الجناية على العبد كالجناية على البهيمة تقدر بما نقص، وأنه لو قطعت يده اليمنى يعطى السيد أكثر مما لو قطعت يده اليسرى، بخلاف الحر فإن اليمنى كاليسرى في الدية.
فإن قال قائل: هل خصاء الآدميين جائز؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى قطع النسل، إذ إن الخصي لا ينجب، وأما خصاء غير الآدميين فإذا كان لمصلحة البهيمة فهو جائز ولو كان من أجل زيادة الثمن، ولا شك أن خصاء البهيمة يجعل لحمها أحسن وأطيب، وهذا في المأكول ظاهر، فلو خصى خروفاً أو ثوراً أو جملاً أو فرساً أي: ذكراً من الخيل، فهذا لا شك أنه يُستفاد منه؛ لأنه يطيب اللحم، لكن إذا كان لا يؤكل كالحمار ـ مثلاً ـ فإن الفائدة من خصائه اتقاء شره؛ لأن الفحل من الحمير يتعب صاحبه إذا رأى أنثى من الحمير ركض إليها وربما يسقط صاحبه، وكذلك ـ أيضاً ـ يأخذ بالنهيق فيُتعِب، فإذا خصي بردت شهوته ولم تحصل منه هذه المفسدة.
قوله: «وما نقص بسعر لم يُضمن» يعني أن هذا الغاصب إذا غصب هذه العين وهي تساوي عشرة آلاف، ثم نزل السعر حتى صارت لا تساوي إلا خمسة آلاف، فهل يضمن الخمسة أو لا يضمن؟ المؤلف يقول: إنه لا يضمن، وهو المذهب؛ لأن هذا(10/161)
النقص ليس عائداً إلى عين المغصوب بل لأمر خارج وهو قيمته عند الناس، ومعلوم أن القيمة ترتفع أحياناً وتنخفض أحياناً، فلو غصب شاة قيمتها مائتا ريال وبقيت عنده ولم تنقص عينها بل ربما زادت، ثم نقص السعر حتى صارت لا تساوي إلا مائة ريال، فهل يرد الشاة ومائة الريال؟ على كلام المؤلف: يرد الشاة ولا يضمن نقص السعر، مع أنه حين غصبها من مالكها كانت تساوي مائتين، وحال بينه وبينها حتى نقص السعر فلم تبلغ قيمتها إلا مائة، فالمذهب ـ وهو ما مشى عليه المؤلف ـ أنه لا يضمن، وعللوا ذلك بأن عين المغصوب لم تنقص، وإذا كانت لم تنقص فزيادة القيمة ونقصها لأمر خارج وهو الطلب أو الجلب، فإذا كثر الطلب لزم من ذلك ارتفاع القيمة، وإذا كثر الجلب لزم من ذلك نقص القيمة، أما عينها فلم تتغير وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» (1) .
قالوا: ونظير ذلك لو استقرض من شخص صاعاً من بر يساوي ثلاثة دراهم، ثم رده عليه وهو يساوي درهمين، فهل يعطيه درهماً؟ لا؛ لأنه رد عليه مثل ماله، وكذلك بالعكس لو استقرض صاعاً من البر يساوي درهمين، ثم ارتفعت القيمة فصار يساوي ثلاثة دراهم، فهنا يرد الصاع ولا يأخذ من صاحبه درهماً، فالنقص أو الزيادة في السعر لأمر خارج.
واستثنوا من ذلك ما لو تلفت وقيمتها عند التلف مائتان، ثم أراد أن يردها لصاحبها وقد نزلت قيمتها، فعليه ضمان مائتين اعتباراً
__________
(1) سبق تخريجه ص (117) .(10/162)
بحال التلف قولاً واحداً؛ لأن العين لم ترد الآن فننظر إلى وجوب قيمتها متى وجبت؟ وقد وجبت حين التلف، وهي حين التلف تساوي مائتين، وإن كانت لو كانت موجودة قيمتها تساوي مائة.
لكن يقال: إن هذا الغاصب حال بين المالك وملكه حتى نزل السعر فهو ظالم، ونقص السعر في الواقع نقص صفة؛ لأن السعر قيمة السلعة، والقيمة تعتبر صفة في الواقع، ولهذا كان القول الصحيح أنه إذا نقص السعر فإن الغاصب يضمن النقص، فنقول: رد العين إلى صاحبها ومعها نقص السعر.
ولو غصب رجل كتاباً يساوي خمسين ريالاً، ثم بعد شهر أو شهرين رده وهو يساوي أربعين ريالاً، فهنا ـ على المذهب ـ لا يضمن نقص السعر، لكن إن كان الكتاب نقص بالاستعمال يضمن النقص، وعلى القول الصحيح يضمن نقص السعر فيرد الكتاب ويرد معه عشرة ريالات، ويرد ـ أيضاً ـ أرش النقص الذي حصل باستعمال الكتاب، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام وشيخنا عبد الرحمن السعدي ـ رحمهما الله ـ وهو الصواب، وهذا القول ينبغي أن يكون هو المتعين؛ لأننا إذا قلنا: إن السعر لا يُضمن ربما يعتدي المعتدي على شخص، فيغصبه ماله ويحبسه عنده يريد أن تنقص الأسعار ثم يسلمه إلى صاحبه، وهذا لا شك في أنه يضمن؛ لأنه تعمد إدخال الضرر على المالك فيضمن، فهو ليس كالذي غصبه وحبسه ليستعمله أو لغير ذلك، ولم يخطر بباله أنه يريد إضرار المالك بنقص السعر، فهذا أهون.
قوله: «ولا بمرض عاد ببُرئه» يعني ولا يُضمن نقص بمرض(10/163)
«عاد» يعني النقص «ببرئه» أي: ببرء المرض، مثال ذلك: غصب شاة، ثم مرضت الشاة فنقص لبنها، ثم شُفيت الشاة وعاد لبنها على طبيعته، فهل يضمنها أو لا؟ يقول المؤلف: لا يضمنها؛ لأن النقص الذي حصل عنده عاد ورجعت إلى حالها الأولى، لكن لو فُرِض أنه كان رده إياها حين مرضها فإنه يضمن، أما بعد أن شُفيت فإنه لا يضمن؛ لأنه عاد على ما كان عليه حين الغصب، ولهذا قال: «ولا بمرض عاد ببرئه» أي برء المرض، لكن ليعلم أن كل ما أخذه من لبن فإنه يضمنه؛ لأن المنافع مضمونة على الغاصب، والكلام الآن على ضمان الأعيان.
وَإِنْ عَادَ بِتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ ضَمِنَ النَّقْصَ، وَإِنْ تَعَلَّمَ أَوْ سَمِنَ فَزَادَتْ قِيمَتُهُ ثُمَّ نَسِيَ أَوْ هُزِلَ فَنَقَصَتْ ضَمِنَ الزِّيَادَةَ كَمَا لَوْ عَادَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَوَّلِ، وَمِنْ جِنْسِهَا لاَ يَضْمَنُ إِلاَّ أَكْثَرَهُمَا.
قوله: «وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص» «إن عاد» يعني النقص لا ببرء المرض، ولكن بتعليم صنعة ضمن النقص؛ لأن عَوْدَه هنا ليس هو عود النقص الذي حصل.
مثاله: غصب عبداً ثم مرض العبد وهُزِل فهنا تنقص قيمته ولا شك، لكنه علَّمه صنعة ارتفعت بها قيمته، فلو كان هذا العبد يساوي قبل أن يمرض عشرة آلاف، وبعد أن مرض صار يساوي خمسة آلاف، ثم بعد ذلك تعلم صنعة فصار يساوي عشرة آلاف ـ فعاد الآن إلى القيمة الأولى ـ فهل يضمن نقصه؟ الجواب: نعم؛ لأن الغاصب ضامن النقص، والزيادة للمالك، فنقول: العبد يساوي وهو غير متعلم للصنعة نصف قيمته قبل أن ينقص، فيرد العبد ونصف قيمته؛ وما زاد بتعلم الصنعة فإنه للمالك.
وكذلك لو غصب عبداً كاتباً فنسي الكتابة لكنه تعلم صنعة الآلات الكهربائية ـ مثلاً ـ وصار ما نقصه بنسيان الكتابة مجبوراً(10/164)
بما تعلمه من الصناعة الكهربائية، فهل نقول: هذا يجبر هذا؟ لا، نقول: اضمن نقصه بالكتابة، وزيادة قيمته بالصناعة الكهربائية لمالكه.
قوله: «وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته ثم نسي» في مسألة التعلم.
قوله: «أو هُزِل» في مسألة السمن.
قوله: «فنقصت» أي: قيمته.
قوله: «ضمن الزيادة» ، مثال ذلك: رجل غصب عبداً جاهلاً لا يعرف، فعلَّمه فتعلَّم فزادت القيمة، ثم نسي فنقصت، فلو كانت قيمته قبل أن يتعلم عشرة، ولما تعلم صارت قيمته عشرين، ولما نسي عاد إلى عشرة، يقول المؤلف: «فإنه يضمن الزيادة» التي حصلت بالتعلم؛ لأنه لما زادت قيمته بالتعلم وهو على ملك مالكه، نقصت الزيادة وهو في ضمان الغاصب، فيضمن الزيادة.
ومثله ـ أيضاً ـ لو أنه سمن بعد غصبه، كأن يكون غصب شاة هزيلة ثم أعلفها حتى صارت سمينة ثم عادت وهزلت، فهل يضمن الزيادة التي زادت؟ نعم، يضمنها؛ لأن زيادتها كانت في ملك صاحبها، والنقص صار في ضمان الغاصب.
قوله: «كما لو عادت من غير جنس الأول» يعني كما لو عادت الصنعة من غير جنس الأول، بأن غصب عبداً جاهلاً لا يعرف الصناعة، فتعلم النجارة وصار ماهراً جيداً في النجارة، ثم نسي فتعلم الحدادة وصار متقناً لها، فهل يضمن نقصه حين نقص(10/165)
بنسيان النجارة؟ نعم يضمنه؛ لأن الجنس الآن مختلف، نجارة وحدادة.
قوله: «ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما» كما لو تعلم الحاسب الآلي في شيء معين، ثم تعلمه في شيء آخر، ونسي العلم الأول، فهنا الزيادة من جنس ما نسيه فلا يضمن إلا أكثرهما، فإذا كانت الزيادة بعد النقص فلا ضمان عليه؛ لأنه زاده خيراً، لكن إن كان ما نسيه أكثر فإنه يضمن الأكثر؛ لأنهما من جنس واحد.(10/166)
فَصْلٌ
وَإِنْ خُلِطَ بِمَا لاَ يَتَمَيَّزُ كَزَيْتٍ، أَوْ حِنْطَةٍ بِمِثْلِهِمَا، أَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ، أَوْ لَتَّ سَوِيقاً بِدُهْنٍ، أَوْ عَكْسُهُ وَلَمْ تَنْقُصِ القِيمَةُ وَلَمْ تَزِدْ، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا فِيهِ، وَإِنْ نَقَصَتْ القِيمَةُ ضَمِنَهَا........
قوله: «وإن خُلِط بما لا يتميز» الضمير في قوله: «إن خلط» يعود على المغصوب، فإذا خلط المغصوب، فإما أن يخلط بما يتميز، وإما أن يخلط بما لا يتميز، فهنا قسمان:
الأول: إذا خلط بما لا يتميز «كزيت أو حنطة بمثلهما» مِثْلُ الزيت زيت، ومثلُ الحنطة حنطة، فمثلاً لو غصب إناء من الزيت وخلطه بإناء عنده من الزيت، فهنا لا يمكن تمييز المغصوب من غيره؛ لأنه اختلط، وكذلك لو خلط حنطة بحنطة فلا يمكن تمييزه؛ لأنه اختلط، فلا يمكن تمييز الحبة التي للغاصب من الحبة التي للمغصوب منه، فماذا يكون الحكم؟
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: «ولم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وإن نقصت القيمة ضمنها» مثال ذلك: لو غصب صاعاً من البر وخلطه بصاع من البر من جنسه، فهنا يكونان شريكين بشرط أن لا تنقص القيمة ولا تزد، فإن نقصت القيمة بالخلط بأن كان الناس يختارون أن يشتروا شيئاً قليلاً من البر، وهو قد خلط مائة صاع بمائة صاع فتنقص القيمة، فإذا نقصت فعلى الغاصب ضمان النقص، وأما إذا لم تنقص ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما، فإذا كان للغاصب صاعان(10/167)
وللمغصوب منه صاع فتكون القيمة بينهما أثلاثاً، وهلم جراً.
والمذهب يلزمه مثل المغصوب من غير المشترك، فيقال: اشتر مثل الذي غصبت، والفرق بين القولين أنه إذا قلنا: إنهما شريكان، لزم أن يدخل في ملك المالك ما كان ملكاً للغاصب، هذه واحدة.
ثانياً: إذا كانا شريكين، فإن الشركة تكون أحياناً نكدة، ويتنازعان في البيع أو القَسم، وإذا قلنا: هات بدله، ذهب الغاصب إلى السوق واشترى بدله.
ثالثاً: أنه يندر أن تتفق أوصاف المخلوطات، فيندر أن يكون البر الذي غصبه الغاصب مثل الذي خلطه به، وحينئذٍ يدخل على ملك المالك ما هو دون ملكه، ولكن إذا قلنا: يلزمك مثله، فسوف يشتري مثله نوعاً ووصفاً ونسلم من الاختلاف؛ ولهذا نقول: إن ما ذهب إليه الأصحاب أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه المؤلف.
وقوله: «أو صبغ الثوب» أي: غَصَبَ الثوب وصبغه بلون ولم تزد القيمة ولم تنقص فهما شريكان، فللغاصب قيمة الصِّبْغ، ولمالك الثوب قيمة الثوب، فإذا قُدِّر أن قيمة الصبغ عشرة ريالات، وقيمة الثوب عشرة، وبِيعَا بعشرين ريالاً فلكل واحد منهما ثمن ملكه، وهذا يتناقض مع ما سبق من أنه إذا صبغ الثوب فهو لمالك الثوب وقد أشرنا إليه فيما سبق (1) .
__________
(1) عند قول المؤلف: «وإن ضرب المصوغ ونسج الغزل وقصر الثوب أو صبغه» .(10/168)
فإن أمكن إزالة الصبغ وطالب المالك بثوبه وجبت إزالته ويضمن الغاصب النقص.
وقوله: أو لَتَّ سويقاً بدهن» فلو غصب سويقاً ولتَّه بدهن، ومعنى لتَّه يعني صب عليه الدهن، ومعلوم أن الدهن الآن لا يمكن أن يتميز فهما شريكان.
وقوله: «أو عكسه» أي: غصب صبغاً وصبغ به ثوباً عنده، أو غصب دهناً وأضاف إليه السويق ولم تنقص القيمة ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وعند التنازع فالأصل أن الغارم يُقبل قوله.
وقوله: «ولم تنقص القيمة ولم تزد» مراده قيمتهما مجموعة، بحيث يقال: السويق يساوي عشرة والدهن يساوي خمسة، والقيمة الآن ملتوتاً خمسة عشر، فإذا لم تنقص القيمة ولم تزد نقول: إنهما شريكان بقدر ماليهما، يكون لصاحب السويق عشرة ولصاحب الدهن خمسة.
وقوله: «وإن نقصت القيمة ضمنها» الضامن هو الغاصب، فلو أن هذا السويق الذي لتَّه بدهن نقصت قيمته؛ لأن الناس لا يرغبون الدهن، أو لَتَّه بدهن له رائحة كريهة أو ما أشبه ذلك، فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه ظالم.
وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا فِلِصَاحِبِهِ. وَلاَ يُجْبَرُ مَنْ أَبَى قَلْعَ الصِّبْغِ. ......
قوله: «وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه» فلو كان الدهن يساوي عشرة، والسويق يساوي عشرة، والدهن للغاصب لكنه لما لُتَّ بالسويق زادت قيمته؛ لأنه صار فيه نفع، فتكون الزيادة لصاحبه.(10/169)
فإن قال المالك: دهنك لم يزد إلا حيث كان في شعيري فأنا وأنت شريكان في هذه الزيادة.
فالجواب: أن المالك إذا طلب ذلك وجبت إجابته خلافاً لظاهر كلام المؤلف، ولو لم نقل بهذا لكان كل إنسان يكون الدهن عنده كاسداً يغصب سويقاً ويلته به وتزيد قيمته، وهذا هو الصحيح؛ لأن الزيادة حصلت بضم الدهن إلى السويق، أما لو نقصت قيمة السويق بلتِّه بالدهن، والسويق هو المغصوب فعلى الغاصب ضمان النقص.
والخلاصة أن القاعدة: أن كل نقص يترتب على فعل غاصب أو على غير فعله في المغصوب فإنه مضمون على الغاصب.
والمؤلف ـ رحمه الله ـ لم يذكر القسم الثاني فيما إذا خلط بما يتميز، فإذا خلط بما يتميز وجب على الغاصب تخليصه ولو ضاع عليه مال كثير، فإذا غصب براً وخلطه بشعير، فإن البر يتميز من الشعير، فهنا نقول للغاصب: خلِّص البر من الشعير ولو بقي وقتاً طويلاً؛ لأن عين المال المغصوب موجودة فيجب ردها إلى صاحبها، فإذا قال: هذا إضرار بي؟ فالجواب أن نقول له: أنت الذي جنيت على نفسك، لماذا تغصب أولاً؟ ولماذا تخلطه ثانياً؟ وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) إذن يلزمه التخليص ولو غرم أضعافه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/170)
لو قال الغاصب: الآن أنا خلطت البر بالشعير، والبر الذي خلطته خمسة أصواع، وأنا أعطيك أيها المالك عشرة أصواع، فهل يجبر المالك أو لا؟ يقولون: لا يجبر، بل يقال: خَلِّص البر ولو دفع أكثر من مثله.
وهذا في الحقيقة من جهة قد نقول: إنه قول جيد؛ لأن في ذلك ردعاً للغاصبين، فإذا علم الغاصب أنه سوف يضمن إلى هذا الحد فإنه لا يغصب، وإن نظرنا إلى أن فيه إضراراً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) قلنا: هنا يتوجه القول بأن المغصوب منه يجبر على قبول مثل بره الذي غُصِب، ويعد البر الآن كالتالف، وإذا أتلف شخص براً ضمنه بمثله، فالمسألة فيها تردد، وحينئذٍ ننظر ـ في مسألة القضاء والحكم بين الغاصب والمغصوب منه ـ إلى المصلحة، فإذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يُلزِم الغاصِبَ بتخليص مال المغصوب منه فليفعل، وإن رأى العكس فلا حرج؛ لأن المضارة في هذا واضحة.
قوله: «ولا يُجبر من أبى قلع الصِّبغ» من الذي يأبى، هل هو الغاصب أو المغصوب منه؟ لا ندري هل المغصوب الصبغ، أو المغصوب الثوب؟ على كل حال سواء هذا أو هذا، إذا قيل: اقلع الصبغ، فلا يمكن هذا؛ لأن الصبغ بعد أن صار في الثوب صار من جنس الصفة ولا يمكن فصله عن الموصوف، وكيف يمكن أن يقلعه؟! لا يمكن، اللهم إلا أن يجعل في الماء ثم يخرج الماء ملوناً بلون هذا الصبغ، ويعود الثوب على ما كان عليه،
__________
(1) سبق تخريجه ص (114) .(10/171)
وهذا فيه إفساد، حتى الثوب يتضرر بهذا، فلا يجبر من أبى قلع الصبغ.
إذن كيف تكون الحال؟
تكون الحال كما قال بالأول: إذا صبغ الثوب صار شريكاً لصاحب الثوب، فهما شريكان.
فإن قال صاحب الثوب: أنا لا أريد مشاركته؛ لأنني لو شاركته في هذا الثوب وأردت أن أبيعه امتنع من البيع، وإذا أردت أن أبقيه قال: بل يباع، فهنا يحصل نزاع لا شك، فنقول: إذا طلب صاحب الثوب أن يثمَّن ويدفع قيمة الصبغ، ويكون له الثوب مصبوغاً فإنه يتعين إجابته؛ لما في عدم الإجابة من الإضرار بالجميع، وربما يحصل نزاع لا ينتهي.
وَلَوْ قُلِعَ غرْسُ المُشْتَرِي أَوْ بِنَاؤُهُ لاسْتِحْقَاقِ الأَرْضِ، رَجَعَ عَلَى بَائِعِهَا بِالغَرَامَةِ. وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِعَالِمٍ بِغَصْبِه، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ........
قوله: «ولو قُلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة» مثال ذلك: رجل باع أرضاً مغصوبة والمشتري غرس فيها أو بنى، ثم أقام مالك الأرض بَيِّنة على أن هذا غاصب، فالأرض مستحقة الآن للذي أقام البيِّنة على أنها ملكه، وتبين أن الأرض التي باعها الغاصب مغصوبة لا يصح العقد عليها، وصاحب الأرض قال للمشتري، الذي غرس أو بنى: اقلع الغرس، أو اهدم البناء، فهنا المشتري يرجع على البائع؛ لأنه غره، حيث أظهر أنه مالك.
وقوله: «رجع على بائعها بالغرامة» أي: بغرم ما تلف عليه، فهو يقول: أنا تعبت في شراء الشجر وتعبت في غرسه، فأرجع(10/172)
عليك بقيمة الشجر الذي تلف علي وبأجرة الغارس، وكذلك يقال في البناء.
ولو علم المشتري أن الأرض مغصوبة، لكنه تجاهل الأمر وطمع في الأرض وقال: لعل مالكها لا يكون عنده بينة وغرس أو بنى، فهل يرجع على الغاصب أو لا يرجع؟ لا يرجع؛ لأنه دخل على بصيرة.
وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِمَالِكِهِ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ أَوْدَعَهُ أَوْ آجَرَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَبْرَأْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَبْرَأُ بِإِعَارَتِهِ.
قوله: «وإن أطعمه» أي: الغاصب أطعم المغصوب
قوله: «لعالم بغصبه فالضمان عليه» أي: على الآكل؛ لأنه أكل مال غيره وهو يعلم بغير حق.
قوله: «وعكسه بعكسه» أي: أطعمه لغير عالم بغصبه فالضمان على الغاصب لا على الآكل؛ لأنه أكل استناداً إلى أن الذي يتصرف في المال هو المالك أصلاً.
مثال ذلك: رجل غصب شاة وذبحها وأطعمها شخصاً آخر، يعلم أنها مغصوبة فالضمان على الآكل؛ لأنه مباشر للإتلاف والغاصب متسبب، والقاعدة الشرعية في المتلفات: (أنه إذا اجتمع متسبب ومباشر فالضمان على المباشر) فإن كان لا يعلم فالضمان على الغاصب الذي أطعمه.
بقي علينا أن نقول: صاحب الشاة في هذه الحال، هل له أن يرجع على الغاصب مع أن الآكل قد علم أنها مغصوبة؟
الجواب: نعم، له ذلك فهو مخير بين أن يرجع على الغاصب أو على الآكل، لكن قرار الضمان يكون على الآكل إن كان عالماً بالغصب، وإن لم يكن عالماً بالغصب فالقرار على(10/173)
الغاصب، وحينئذٍ نقول: يخير المالك بين الرجوع على الغاصب؛ لأنه هو الذي غصب ملكه أي: باشر الغصب، والرجوع على الآكل؛ لأن التلف كان تحت يده.
وقد ذكر ابن رجب ـ رحمه الله ـ في القواعد الفقهية (1) : أن الأيدي المترتبة على يد الغاصب ـ وهي التي انتقل إليها المغصوب من الغاصب ـ عشرة، وأنها كلها أيدي ضمان، يعني يصح أن نضمِّنَها، وأما قرار الضمان فإن كانت هذه اليد عالمة فقرار الضمان عليها، وإن كانت جاهلة فقرار الضمان على الغاصب، إلا ما دخلت على أنه مضمون عليها بكل حال فيكون قرار الضمان عليها.
مثال ذلك: إذا غصب شخص من غاصب، فالغاصب الثاني أخذ العين على أنها مضمونة عليه؛ لأنه متعدٍّ، ففي هذه الحال إذا ضمَّنَ المالكُ الغاصبَ الأول رجع على الثاني، وإن ضمن الثاني لم يرجع على أحد بشيء.
مثال آخر: غصب شخص ساعة وجعلها وديعة عند شخص آخر، ثم سرقت الساعة من بيت المودَع مع تحفظه ووضعها في الحرز، فالمودَع لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط، فإذا جاء المالك وضمّن المودَع، فإنه يرجع على الغاصب بما ضمن؛ لأنه أخذ الساعة على أنها غير مضمونة عليه وأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل، فإن ضمّن المالك الغاصبَ، فإن الغاصب لا يرجع على المودَع؛ لأنه غير ضامن، فلو فرض أن
__________
(1) القاعدة الثالثة والتسعين.(10/174)
الساعة للغاصب وتلفت عند المودَع بلا تعدٍّ ولا تفريط فإنه لا يرجع عليه؛ لأن المودَع محسن وما على المحسنين من سبيل.
قوله: «وإن أطعمه لمالكه أو رهنه أو أودعه أو آجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم» مثال ذلك: رجل غصب طعاماً كخبز وأرز وغيره فأطعمه لمالكه، فأكله المالك على أنه مُلْك للغاصب، فهنا نقول: إن الغاصب لا يبرأ إلا إذا أعلمه، بأن قال: أنا غصبت هذا المال منك والآن أنا تائب فتفضل كُلْه، فإذا أكله برئ؛ لأنه علم.
وكذلك لو رهنه إياه، كما لو استدان من المالك ديناً وأرهنه المغصوب فإنه لا يبرأ؛ لأن المرتهن داخل على أنه لا ضمان عليه، فيده يد أمانة فلو تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه، إلا إذا علم مالكه أن هذا ملكه فإنه يبرأ الغاصب؛ لأنه الآن مكَّنه منه وسلَّطه عليه.
وقوله: «أو أودعه» أي: أودع المغصوب «إياه» أي: المالك «لم يبرأ إلا أن يعلم» ، والوديعة هي الاستحفاظ، يعني استحفاظ المالك بأن تعطي الشخص مالاً يحفظه لك، ويسمى عند الناس «أمانة» وهو في الحقيقة وديعة، فإذا أودعه عنده فمن المعلوم أن المُودَع لا يضمن إلا إن تعدى أو فرط، فإن أعلمه الغاصبُ أن هذا ملكه برئ منه سواء تلف أم لم يتلف؛ لأنه إذا تلف فإنه بيد مالكه، وأما إذا أودع الغاصب المال المغصوب لمالِكهِ، ومالِكُهُ لم يعلم فالضمان على الغاصب، حتى لو تلف تحت المُودَع بلا(10/175)
تعدٍّ أو تفريط فإن الغاصب يضمنه؛ لأنه معتدٍ، والمالك أخذه على أنه ملك للغاصب.
فإن تلف بتعدٍّ من المودَع أو بتفريط منه فإن عليه الضمان، وإذا كان عليه الضمان وهو ملكه فلا يستحق على الغاصب شيئاً ولا يستحق الغاصب منه شيئاً، ومثل ذلك يقال في الرهن.
وقوله: «أو آجره إياه» فلو غصبه سيارة ـ مثلاً ـ وآجره إياها يوماً أو أكثر ولم يعلم، فالضمان لو حصل عليها تلف ـ ولو بلا تعدٍّ ولا تفريط ـ على الغاصب؛ لأن يده يد عدوان، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) .
وقوله: «لم يبرأ إلا أن يعلم» يعني إلا أن يعلم المالك الذي أُودِع أو ارتهن أو أكل أو استأجر، فإذا علم، فمعلوم أن السلطة له على ماله والغاصب بريء.
قوله: «ويبرأ بإعارته» «يبرأ» الفاعل الغاصب «بإعارته» الضمير يعود على المغصوب، يبرأ بإعارته لمالكه، مثال ذلك: رجل غصب كتاباً وأعاره مالكه، فهنا يبرأ سواء علم المالك أم لم يعلم؛ وجه ذلك أنه إن علم أنه ملكه فقد تم استيلاؤه عليه وتلف تحت يده، وإن لم يعلم أنه ملكه فالمستعير ضامن بكل حال، حتى وإن أخذه على أنه ملك للغاصب، وهذا مبني على أن المستعير ضامن بكل حال سواء فرط أو تعدى أو لم يتعدَّ ولم يفرط.
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/176)
وقد سبق أن القول الراجح أن المستعير كغيره، ممن يكون المال تحت يده بإذن من المالك أو إذن من الشارع، وأن يد المستعير يد أمانة، وعلى هذا لو تلف تحت يد مالكه في إعارة فالضمان على الغاصب، إلا أن يعلم المالك أنه ملكه فيبرأ به، فإن تعدى أو فرط ضمن وإلا فلا.
وَمَا تَلِفَ أَوْ تَغَيَّبَ مِنْ مَغْصُوبٍ مِثْلِيٍّ غَرِمَ مِثْلَهُ إِذاً وَإِلاَّ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ تَعَذَّرَ، وَيُضْمَنُ غَيْرُ المِثْلِيِّ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ تَلَفِهِ، وَإِنْ تَخَمَّرَ عَصِيرٌ فَالمِثْلُ. فَإِنِ انْقَلَبَ خَلاًّ دَفَعَهُ وَمَعَهُ نَقْصُ قِيمَتِهِ عَصِيراً......
قوله: «وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غَرِمَ مثله إذاً» أي حين تلفه.
وقوله: «وما تلف» «ما» يحتمل أنها موصولة، ويحتمل أنها شرطية، والظاهر من السياق أنها شرطية.
وقوله: «تغيب» مراده تغيب غيبة لا يمكن الحصول عليه، فكأنما تلف.
فالمغصوبات تنقسم إلى قسمين:
مغصوب مثلي يعني له مثيل، ومغصوب غير مثلي.
فالمغصوب المثلي يُضمن بمثله، وغير المثلي يُضمن بقيمته، فلننظر ما هو المثلي؟.
المثلي ضيق جداً على المذهب، وهو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه وليس فيه صناعة مباحة.
ولكن القول الراجح في هذا، أن المثلي ما له مثيل أو مشابه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً مصنوعاً أو غير مصنوع، فكل ما له مثيل أو مشابه فإنه مثلي.
وقاعدة: (أن المثلي يُضمن بمثله) قاعدة متفق عليها، وعلى هذا فلو أن شخصاً كسر فنجالاً لشخص، فهل نلزمه أن يأتي(10/177)
بفنجال مثله لصاحب الفنجال الأول؟ على المذهب: لا، بل له قيمة الفنجال، وعلى القول الراجح يلزمه أن يأتي بفنجال.
ولو أنه ذبح شاته الثنية التي صفتها كذا وكذا في السمن والهزال واللون، وعند ذابح الشاة شاة مثلها تماماً، فهل يضمن الشاة بهذه الشاة، أو بالقيمة؟ المذهب: يلزمه الضمان بالقيمة، والقول الراجح في المسألتين جميعاً الفنجال يضمن بفنجال، والشاة تضمن بشاة.
ولو أن رجلاً أخذ خبزة إنسان وأكلها فإنه يضمنها على المذهب بالقيمة؛ لأن فيها صناعة مباحة، وأيضاً هي غير مكيلة، وعلى القول الراجح يضمنها بمثلها، فإذا كان رجلان واقفان عند الفَرَّان فقدم الفران الخبزة لفلان وأخذها، ثم خطفها الثاني من يده وأكلها، فكيف يضمن؟ على المذهب بالقيمة، وعلى القول الراجح يقول: انتظر حتى يعطيني خبزتي فخذها وينتهي كل شيء.
فالقول الراجح أن المثلي كل ما له مثل أو شبه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو حيواناً أو جماداً أو مصنوعاً أو غير مصنوع، ويدل لهذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسلف إبلاً فرد مثلها (1) ولم يرد القيمة، وعلى المذهب لو استسلفت شاة من جارك ترد قيمتها لا مثلها؛ لأنها غير مثلية فليست مكيلة ولا موزونة، ويدل لهذا ـ أيضاً ـ قصة الصحفة والطعام حيث أرسلت إحدى أمهات المؤمنين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم طعاماً بصحفة مع رسول لها فأتى الرسول
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب جواز اقتراض الحيوان (1600) عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ.(10/178)
بالطعام والصحفة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيت إحدى نسائه، فغارت التي هو في بيتها وضربت بيد الرسول حتى سقطت الصحفة وتكسرت، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم صاحبة البيت أن تعطي هذه صحفتها وطعامها وقال: «طعام بطعام، وإناء بإناء» (1) وهذا دليل واضح.
ثم ـ يا سبحان الله ـ أيما أدق أن يضمن الإنسان فنجالاً بفنجال أو صاعاً بصاع؟ الأول بلا شك؛ لأن المماثلة في الفنجال بالفنجال متطابقة تماماً، والمماثلة بين صاع وصاع لا بد أن تختلف، فلا بد أن يكون هناك زيادة يسيرة.
إذاً القاعدة أن المثلي يضمن بمثله؛ لأن مطابقة المثلي لمثله أقوى من مطابقة القيمة للشيء، فالقيمة تقدير وتخمين، والمماثلة مماثلة.
مسألة: قال في «الروض» (2) : و «ينبغي أن يستثنى منه الماء في المفازة، فإنه يضمن بقيمته في مكانه، ذكره في المبدع» ؛ لأن الماء في المفازة قيمته كبيرة، فلو أن شخصاً غصب من آخر قربة ماء في مفازة ـ أي: في مهلكة ـ فلما وصلا إلى البلد قال: أعطيك قربة ماء، فعلى القاعدة فإنه ماء بماء وهو مثله فيكفي، ولكن هذا مستثنى، وقالوا: بل يعطى قيمته في مكانه، فالقربة في المفازة ـ مثلاً ـ تساوي ألف ريال، وفي البلد لا تساوي شيئاً وقد يكون باعها هناك وانتفع بها فكيف يقال: رد مثلها؟! فهذا مستثنى حتى على المذهب.
__________
(1) سبق تخريجه ص (120) .
(2) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/404) .(10/179)
قوله: «وإلا فقيمته يوم تعذر» أي: وإلا يمكن الضمان بالمثل فإنه يضمن بقيمته يوم تعذره.
فإذا قدرنا أنه أتلف مثلياً ولكن تعذر المثلي، مثال ذلك: غصبه في محرم وأتلفه وما زال له نظير في السوق، وفي ربيع ـ مثلاً ـ فُقِد من السوق، ثم في جمادى طالبه المالك بالضمان، فماذا يضمن الآن؟ هل يضمن القيمة وقت الضمان، أو وقت التعذر؟ يقول المؤلف: «وإلا فقيمته يوم تعذر» ووجه هذا القول: أنه لما تعذر ثبتت القيمة، فلزمه الضمان بالقيمة وقت التعذر، ولو قيل: إن عليه الضمان بالقيمة وقت الاستيفاء منه لكان له وجه؛ وذلك أن الأصل ثبوت المثل في ذمته حتى يسلمه، وهو إذا تعذر فيما بين الإتلاف وبين الاستيفاء فقد لا يتعذر عند الاستيفاء، ربما يتعذر ـ مثلاً ـ في ربيع، ولكن لا يتعذر في جمادى، فنضمنه المثل فإن تعذر فقيمة المثل وقت الاستيفاء؛ لأن الأصل أن الذي ثبت في ذمة الغاصب هو المثل، والتعذر قد يكون في حين ولا يكون في حين آخر.
قوله: «ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه» وذلك لأن غير المثلي تثبت القيمة من حين الغصب، فلو تلف هذا الذي ليس بمثلي فقيمته وقت التلف؛ لأنه قبل التلف لا يزال ملكاً لصاحبه فزيادته ونقصه على صاحبه.
لكن المغصوب اختلف العلماء هل يضمن بنقص السعر أو لا؟ وسبق القول فيه.
قوله: «وإن تخمر عصير فالمثل» إنسان غصب عصير عنب(10/180)
ثم تخمر، لمَّا تخمر العصير زالت ماليته وصار الواجب إراقته، يقول المؤلف: إنه إذا تخمر العصير ضمنه بالمثل، أي: مثل العصير لا مثل الخمر؛ وذلك لأن تخمره بمنزلة تلفه، والمتعذر شرعاً كالمتعذر حساً، والعصير مثلي؛ لأنه مكيل.
قوله: «فإن انقلب خلاًّ» يعني بعد أن تخمر انقلب خلاًّ بنفسه بأن زالت الشدة المسكرة فيه.
قوله: «دفعه» أي: دفع الخل؛ لأنه عين ماله.
قوله: «ومعه نقص قيمته عصيراً» لأنه إذا تخمر ثم تخلل فلا بد أن ينقص فيضمن نقص قيمته عصيراً؛ لأنه حصل النقص وهو في يد الغاصب.
مثال ذلك: رجل غصب عصير عنب ثم تخمر، فتحول من عين حلال إلى عين حرام، لكنه في نفس الوقت عاد خلاًّ؛ لأنه قد يتخلل الخمر بنفسه، وإذا تخللت الخمرة بنفسها فهي حلال، فعاد إلى كونه عصيراً لكنه عصير متخلل من خمر، فينقص؛ لأنك لو أتيت بهذا الإناء الذي تخلل بعد التخمر، وإناء مثله من العصير لكانت قيمة إناء العصير أكثر بلا شك، يقول المؤلف: «دفعه» يعني الغاصب يدفع هذا الخمر الذي تخلل؛ لأنه عين ملك صاحبه.
فإن نقص بأن كان حين غصبه عصيراً يساوي مائة، والآن لا يساوي إلا ثمانين فهنا الغاصب يضمن النقص، ولهذا قال: «ومعه نقص قيمته عصيراً» يعني نقص قيمته عن كونه عصيراً.
هل يمكن أن يقال: إن هذا شاهد لما ذهب إليه شيخ الإسلام(10/181)
ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من أن نقص السعر مضمون على الغاصب؟
الجواب: لا؛ لأن نقص السعر هنا لنقص العين وليس للقيمة، فلا يكون فيه رد على من قالوا: إن النقص بالسعر لا يضمن، ولكن سبق لنا أننا فصلنا في هذا، وأنه إن قصد تأخير تسليمه حتى يزول الموسم وينقص السعر، فعليه الضمان وإلا فلا.
وقوله: «فإن انقلب خلاًّ» ولم يقل: قُلب خلاًّ؛ لأن الخمر إن تخلل بنفسه فهو حلال؛ لأنه بفعل الله وليس بفعلنا، وإن تخلل بفعلنا فهو حرام لحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر تتخذ خلاًّ، قال: لا (1) ، ولأن الشارع أمر بإراقة الخمر (2) ، ولو كان يحل بالتخليل لأمر بتخليله؛ لأن تخليله إبقاء له، وإراقته إتلاف له، ولو كان يمكن أن تعود ماليته شرعاً لأرشد إليه الشارع، فلما لم يرشد إليه عُلم أن التخليل حرام.
لكن لو خلَّله من يعتقد حِلَّ التخليل من مسلم أو كافر، فهل يحل؟
الصحيح أنه يحل؛ لأن هذا انقلب خلاًّ على وجه مباح، فصار مباحاً، وعلى هذا فالخل الوارد من بلاد الكفار يكون حلالاً للمسلمين؛ وإن كان مخللاً بفعل آدمي، لأنه مخلل بفعل آدمي يعتقد تحليله.
__________
(1) أخرجه مسلم في الأشربة/ باب تحريم تخليل الخمر (1983) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/119) ؛ وأبو داود في الأشربة/ باب ما جاء في الخمر تخلل (3675) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ، وأصله في مسلم دون ذكر الأمر بالإراقة.(10/182)
فَصْلٌ
وَتَصَرُّفَاتُ الغَاصِبِ الْحُكْمِيَّةُ بَاطِلَةٌ..........
قوله: «وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة» «تصرفات» مبتدأ، و «الحكمية» نعت لـ: «تصرفات» و «باطلة» خبر المبتدأ.
وقوله: «وتصرفات الغاصب» أي: تصرفاته في المغصوب.
وقوله: «الحكمية» يعني التي يلحقها حكم من صحة أو فساد؛ لأن تصرفات الغاصب من حيث الحكم التكليفي كلها حرام، ومن حيث الحكم الوضعي ـ وهو الحكم بالصحة والفساد ـ ما كان له حكم من صحة أو فساد فإن تصرفات الغاصب باطلة، يعني أن وجودها كالعدم، فمثلاً إذا غصب ثوباً فباعه، فالغصب حكمه حرام، والبيع حرام، وهل هو صحيح أو فاسد؟
ننظر هل البيوع منها صحيح وفاسد؟ الجواب: نعم، منها صحيح وفاسد، وعلى هذا فيكون هذا البيع باطلاً لا ينتقل به الملك إلى المشتري؛ لأن من شرط البيع أن يكون من مالك أو من يقوم مقامه، والغاصب لا يقوم مقام المالك.
والإجارة منها صحيح وفاسد، والوقف منه صحيح وفاسد، والرهن منه صحيح وفاسد، فجميع التصرفات الحكمية يعني التي يلحقها حكم بالصحة أو بالفساد، يقول المؤلف: «باطلة» فبيع الغاصب للمغصوب باطل، وتأجيره للمغصوب باطل، ويظهر ذلك فيما لو غصب داراً وآجرها شخصاً بعشرة آلاف ريال، ثم مَنَّ الله عليه بالتوبة وردَّ الدار إلى مالكها، فهل تأجيره هذا صحيح، أو باطل؟ الجواب: باطل، ولو قلنا: إنه صحيح لكان لمالك البيت الأجرة التي تم العقد عليها وهي عشرة آلاف، وإذا قلنا: غير صحيح(10/183)
فإن الغاصب يضمن الأجرة، فإذا قدرنا أنه يؤجر باثني عشر ألفاً فإن الغاصب يضمن اثني عشر ألفاً؛ لأن العقد الأول غير صحيح ويجب أن يُضمن لصاحب البيت الأجرة المعتادة، ولو قلنا: إنه صحيح لم يلزمه إلا عشرة آلاف فقط، أما المستأجر الذي أخذها بعشرة آلاف والبيت يساوي اثني عشر ألفاً، هل نضمنه اثني عشر ألفاً، أو عشرة آلاف؟ فيه تفصيل: إن كان عالماً بأنه مغصوب فإننا نضمنه اثني عشر ألفاً، وإن كان غير عالم نضمنه عشرة آلاف فقط.
وفُهِمَ من قوله: «الحكمية» أن غير الحكمية لا يُحكم لها بصحة أو فساد، فلو غصب ماءً فأزال به نجاسة، فهل نقول: إن الإزالة غير صحيحة؟ الجواب: لا؛ لأن إزالة النجاسة لا يقال: صحيحة وفاسدة، وعلى هذا فلو غصب ماء فأزال به نجاسة على ثوبه طهر الثوب؛ لأن إزالة النجاسة ليس لها حكم بالصحة ولا بالفساد.
ولو غصب ماء فتوضأ به فهل يصح وضوؤه؟ ننظر هل الوضوء ينقسم إلى فاسد وصحيح؟ الجواب: نعم، إذاً لا يصح وضوؤه بالماء المغصوب؛ لأنه تصرفٌ حكمي، أي: يلحقه الصحة والفساد.
مثال آخر: رجل غصب ثوباً فباعه، فحكم البيع أنه فاسد؛ لأنه من التصرفات الحكمية التي يلحقها الصحة والفساد.
وظاهر كلام المؤلف: أن الغاصب لو ذكى الشاة التي غصبها صارت حراماً؛ لأن التذكية تنقسم إلى صحيحة وفاسدة فتكون تذكية الغاصب غير مبيحةٍ للمذكاة.(10/184)
فالضابط: أن تصرفات الغاصب من حيث الحكم التكليفي حرام مطلقاً، ومن حيث الصحة والنفوذ تنقسم إلى قسمين:
ما له حكم من صحة أو فساد يكون تصرف الغاصب فيه باطلاً، وما ليس له حكم يكون تصرف الغاصب فيه نافذاً.
وظاهر كلام المؤلف أن تصرفات الغاصب الحكمية باطلة سواء أجازها المالك أو لم يجزها، وسواء تضرر الغاصب وغيره بذلك أم لا.
القول الثاني خلاف ظاهر كلام المؤلف، وهو أنه إذا أجازه المالك فالتصرف صحيح نافذ؛ لأن تحريم التصرف لحق الغير لا لحق الله، فإذا أسقط حقه سقط وزال المانع، وعلى هذا فإذا قيل للمالك: إن الغاصب قد باع ثوبك، فقال: أنا أجزته، فالبيع صحيح والمشتري يملك الثوب، أما إذا لم يجزه فإن البيع لا يصح ويجب على المشتري رد الثوب وأخذ ثمنه الذي بذله فيه؛ لأن التصرف غير صحيح.
القول الثالث: إن كانت التصرفات يسيرة، مثل ما لو باعه على شخص ثم اطلع عليه المالك وطالب به فهو له ويأخذه من المشتري، أما إذا صَعُبَ وتعذر، مثل ما لو باعه الغاصب على رجل، وهذا الرجل باعه على آخر، وهكذا تناقل الناس هذا المغصوب، فإن التصرفات صحيحة، بناء على الحرج والمشقة التي تلحق فيما لو حكمنا ببطلان التصرف، وأيضاً ربما يكون المغصوب بعيراً غصبه الغاصب وباعه على شخص وولدت البعير وكثر نسلها، فكيف نقول: إنه باطل مع العسر والمشقة العظيمة؟!(10/185)
فالصحيح أنه مع العسر والمشقة يُحكَم بالصحة للضرورة ويقال لمالكه: لك مثل مالك إن كان مثلياً أو قيمته إن كان متقوماً.
القول الرابع: أن تصرفات الغاصب صحيحة، وهو رواية عن أحمد ـ رحمه الله ـ ولكن للمالك أن يستردها، فمثلاً إذا ذكى الشاة فالتذكية على هذه الرواية صحيحة والشاة ترجع لمالكها، وإذا طالب بالمثل وقلنا: إنها مثلية ضمنها بمثلها، وإذا قلنا: إنها متقومة وطالب بمثلها حية، وقال: إن قيمتها حية أكثر من قيمتها لحماً أعطيناه الفرق، أو أعطيناه القيمة كاملة واللحم يكون للغاصب.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو توضأ بماء مغصوب، فعلى هذه الرواية ـ التي هي خلاف المذهب ـ الوضوء صحيح، وهو الصحيح؛ لأن هذا التصرف لا يختص بالوضوء، إذ أن تصرف الغاصب بالمغصوب يشمل الوضوء وغير الوضوء، فالغاصب لم يُنه عن الوضوء، لم يُقَلْ له: لا تتوضأ بالماء المغصوب، بل قيل له: لا تتصرف بالماء المغصوب، ولما لم يكن النهي خاصاً بل كان عاماً صارت العبادة صحيحة، هذا هو القول الراجح، ويدل لهذا:
أن الغِيبة على الصائم حرام، والأكل ـ أيضاً ـ حرام، فلو أكل فسد صومه، أما لو اغتاب لم يفسد؛ لأن الأكل حرام على الصائم بخصوصه، والغِيبة ليست حراماً على الصائم بخصوصها، بل هي حرام عليه وعلى غيره، فتبين بهذا الفرق الواضح بين العموم والخصوص.
إذاً الخلاصة: أن تصرفات الغاصب صحيحة، أما إن أجازها المالك فهذا أمر واضح مثل الشمس، وأما إذا لم يجزها(10/186)
فالصحيح ـ أيضاً ـ صحتها، لكن إذا كان عين مال المالك باقياً، فله أن يسترده ويقول: هذا عين مالي أريده، وأنت أيها المشتري اذهب إلى الغاصب.
وَالقَوْلُ فِي قِيمَةِ التَّالِفِ، أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ صِفَتِهِ قَوْلُهُ. وَفِي رَدِّهِ وَعَدَمِ عَيْبِهِ قَوْلُ رَبِّهِ.
قوله: «والقول في قيمة التالف أو قدره أو صفته قوله» أي: قول الغاصب، فلو غصب شيئاً فتلف ـ وكان متقوماً ـ فقال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: قيمته خمسمائة، فالقول قول الغاصب؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) والآن المالك والغاصب اتفقا على أن القيمة خمسمائة وادعى المالك الزيادة، فيكون المالك مدعياً، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ومن التعليل أن الغاصب غارم، وكل غارم فالقول قوله، وهذه القاعدة أخذها العلماء من الحديث السابق وهو: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
لكن كل من قلنا القول قوله ـ وهو يتعلق بحق الآدميين ـ فإنه لا بد من اليمين لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «واليمين على من أنكر» ، أما الذي يتعلق بحق الله فالقول قول المنكِر بلا يمين، فلو قال المحتسِب يعني الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لصاحب المال: أدِّ الزكاة، فقال: أنا زكيت مالي، فقال المحتسب: لا،
__________
(1) أخرجه البيهقي (10/252) وقال الحافظ في البلوغ (1408) : «إسناده صحيح» وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه.(10/187)
الزكاة باقية عليك، فقال: أبداً ما بقيت، فهنا القول قول المالك بغير يمين، ولو قيل له: صل، فقال: صليت، فلا يجوز أن نحلفه، ولا يَلْزمه اليمين، فلو قلنا: احلف، فقال: ما أنا بحالف لَكُنَّا نحن الآثمين؛ لأن هذا شيء بينه وبين ربه والناس مؤتمنون على أديانهم، لكن فيما يتعلق بحق الآدميين فالمنكر لا بد من اليمين على إنكاره.
وقوله: «أو قدره» القول في قدره قول الغاصب، كرجل غصب شاة وتلفت ثم جاء صاحبها وقال: إنك غصبت شاتين أو شاة وولدها، فقال: بل غصبت واحدة لا ولد معها، فالقول قول الغاصب، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، ومن التعليل أن الغاصب غارم وكل غارم فإنه يقبل قوله فيما غرم مع يمينه كما سبق.
وقوله: «أو صفته» أي: صفة المغصوب فالقول قوله، فإذا غصب من شخص شاة، وتلفت، فقال مالكها: إنها سمينة لبون ـ أي: ذات لبن ـ وقال الغاصب: بل هزيلة لا لبن فيها، فالقول قول الغاصب، والدليل والتعليل كما سبق.
قوله: «وفي رده وعدم عيبه قول ربه» يعني إذا اختلف الغاصب والمالك فقال الغاصب: إني رددته عليك، وقال المالك: لم ترده، فهنا قد اتفقا على شيء وادعى أحدهما خلاف ما اتفقا عليه، اتفقا على أن العين كانت عند الغاصب ثم ادعى الغاصب أنه ردها، وهذه دعوى فوق ما اتفقا عليه، فنقول: القول
__________
(1) سبق تخريجه (187) .(10/188)
قول المالك، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» فالطرفان متفقان على أن العين المغصوبة كانت عند الغاصب، ثم ادعى الغاصب أنه ردها فنقول: عليك البينة، وإلا فيحلف المالك ويُحْكَم له بها، هذا من حيث الدليل، ومن حيث التعليل نقول: الأصل عدم الرد، فما دام أن الغاصب قد أقر أنها عنده وأنه غصبها فالأصل عدم الرد، وهذا يقاس على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من وجد في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (1) فإن هذا الحديث أصل في بناء الأمور على ما كانت عليه.
وقوله: «وعدم عيبه» لو غصب شاة فتلفت فأراد أن يضمنها بقيمتها، ولكنه ـ أي: الغاصب ـ قال: إنها معيبة، إنها تعرج وعرجها بَيِّن، وقال المالك: بل هي سليمة؛ ومعلوم أن السليمة أغلى من المعيبة، فهنا تعارَضَ أصلان، الأصل الأول: السلامة، وإذا أخذنا بهذا الأصل قلنا: القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة وعدم العيب، والأصل الثاني: هو الغرم؛ لأن الغاصب ـ إذا قلنا: إنها سليمة ـ سوف يغرم زيادة على ما أقر به؛ لأنها إذا كانت معيبة سيغرم ـ مثلاًـ ثمانين ريالاً، وإذا كانت سليمة سيغرم مائة، فالآن زاد الغرم عليه، والأصل أن الغارم يقبل قوله.
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة/ باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك (362) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/189)
فهل نقول: إن القول قول الغاصب؛ لأنه غارم، أو نقول: إن القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة؟
نقول: القول قول المالك؛ لأن الأصل السلامة، وهذا الأصل متقدم على الأصل الثاني؛ لأن العيب حادث على السلامة فقُدم هذا الأصل على أصل الغرم.
وهذه في الحقيقة قاعدة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، فأحياناً يتعارض الأصل والظاهر، وأحياناً يتعارض أصلان فيقدم أحدهما على الآخر حسب ما تقتضيه الشريعة، وحسب ما تقتضيه قرائن الأحوال، ولهذا ـ مثلاً ـ لو أن امرأة فارقت زوجها وأمسكت بيدها إبريق القهوة ـ وقهوة البُنِّ يشربها غالباً الرجال ـ وادعت أن الإبريق لها، والزوج يقول: لي.
فعندنا أصل وظاهر، الأصل أن ما بيد الإنسان فهو له، وعندنا ظاهر، وهو أن هذا الإبريق للرجال، فأيهما نقدم؟ يُنْظَر إذا كان الظاهر قوياً أقوى من الأصل قدمنا الظاهر.
وقوله: «وفي رده وعدم عيبه قول ربه» هذا النزاع الذي ذكره المؤلف وهل القول قول الغاصب، أو القول قول ربه، من الذي يحكم به؟ يوجه هذا إلى القاضي، أو إلى رجلٍ حَكّمه الغاصب ورب المال، فيعطى هذه القواعد.
وَإِنْ جَهِلَ رَبَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ مَضْمُوناً..............
قوله: «وإن جهل ربَّه تصدق به عنه مضموناً» «إن جهل» الفاعل الغاصب «ربه» أي: رب المغصوب، أي: صاحبه، إذا جهل صاحبه، بأن يكون قد غصب هذا الشيء من زمان قديم ونسي، أو غصب شيئاً من عند باب المسجد، كأن يكون قد أخذ نعلاً(10/190)
ومشى به، أو أخذه من شخص معين لكنه لا يعرفه، المهم إذا جهل من ربه يقول المؤلف: «تصدق به عنه مضموناً» ، وهنا طريقان:
الطريق الأول: أن يدفعه إلى الحاكم ـ أي: إلى القاضي ـ فيبرأ منه بلا نزاع، يعني لم ينازع أحد من العلماء في أنه إذا جهل ربه يعطيه الحاكم، والحاكم يتصرف فيه، وهذا لا شك أنه أسهل على الإنسان.
لكن ـ أحياناً ـ لا يكون الحاكم ثقة، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: أما حكامنا هؤلاء فلا أرى أن يدفع إليهم شيئاً، والإمام أحمد قد مات في القرن الثالث ومع ذلك يقول: حكامه لا يرى أن يدفع إليهم شيئاً؛ لأنهم غير ثقات، فكيف بحكام هذا الوقت؟! فالثقة فيهم أندر من الكبريت الأحمر إلا أن يشاء الله، لكن على كل حال إذا كان الحاكم غير ثقة وخاف أنه إذا أعطاه إياه صرفه في جهة أخرى، أو أن الحاكم أبى، فالأول ـ يعني إذا كان غير ثقة ـ لا يجوز أن يعطيه إياه، والثاني: هل يلزم الحاكم أن يقبل أو لا يلزمه؟ هذا محل نظر وتفصيل، فيقال: إذا كانت الدولة قد جعلت جهة معينة لاستقبال الضائع فللحاكم أن يمتنع، ويقول: اذهب إلى الجهات الأخرى، لكن إذا لم يكن هناك جهات مسؤولة عن استقبال الضائع، فأرى أنه يجب على القاضي أن يقبل هذا.
وهذه المشكلة قد لا تكون في مسألة الغصب إلا قليلاً والحمد لله، لكن تكون في لُقَطَة مكة كثيراً، ولقطة مكة قال فيها(10/191)
النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (1) يعني إلا لشخص يُنشِد عنها مدى حياته ويوصي بها بعد مماته؛ لأنه لا يمكن أن يملكها أبداً، فكل ما في الحرم آمن حتى الجمادات، فالإنسان إذا رأى ـ مثلاً ـ دراهم، ألف ريال أو ألفين أو عشرة آلاف في سوق من أسواق مكة، إن تركها فيا ويلها من اللصوص وإن أخذها تعب فيها، فماذا يصنع؟ إذا كان هناك جهة مسؤولة لاستقبال الضائع فالأمر واضح وسهل ـ والحمد لله ـ يأخذها ويُؤْجَر على إيصالها إلى هذه الجهة، لكن إذا لم يكن هناك جهة فأرى أنه يجب على الحاكم الشرعي أن يستقبلها؛ لأن هذه من جملة ما يتولاه الحاكم فالسلطان ولي من لا ولي له (2) ، فماذا يصنع الناس؟ الإنسان ليس مستعداً أن يأخذ هذه اللقطة من مكة وينشد عنها مدى الدهر، لكن يسهل عليه جداً أن يأخذها ويوصلها إلى المحكمة ـ مثلاً ـ إذا لم تكن جهة مسؤولة عن ذلك.
فالمهم إذا جهل الغاصب «ربه» أي: مالكه يقول المؤلف: «يتصدق به عنه» وقد ذكرنا طريقين: الطريق الأول: أن يسلمه إلى الحاكم فإن لم يفعل يقول: «تصدق به عنه» يعني دفعه للفقراء، وهذا هو الطريق الثاني.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349) ؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد (6/47) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083) ؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه ابن حبان (4074) ؛ والحاكم (2/168) وقال: صحيح على شرط الشيخين.(10/192)
وقوله: «عنه» أي: عن ربه أي: المالك «مضموناً» أي: بشرط الضمان إذا وجده، فيعتقد أنه تصدق بهذا عن ربه مضموناً عليه لو وجد ربه، فعندنا شيئان:
الأول: أن تكون الصدقة عن ربه لا عن نفس الغاصب.
الثاني: أن ينوي أنه ضامن له إذا وجد ربه وطالب به.
فإن تصدق به عن نفسه فإن صدَقته لا تقبل؛ لأنها صدقة غير طيبة، والله ـ عزّ وجل ـ لا يقبل إلا ما كان طيباً، وذمته لا تبرأ؛ لأنه لم ينو هذه الصدقة عن ربها ولم ينو الضمان، فلم يستفد التقرب إلى الله ولم يستفد إبراء الذمة، بل أقول: إن ذلك لا يزيده إلا إثماً، يعني لو تصدق به عن نفسه فهو آثم.
فإذا وجد ربه بعد أن تصدق به عنه فإنه يقول: أنت الآن مخير إن شئت فأمضِ الصدقة والأجر لك، وإن شئت ضمنت لك مالك، والأجر للغاصب؛ لأن الغاصب اتقى الله وهذا غاية ما يستطيع فيؤجر على تصرفه.
وهذه المسألة من مسائل تصرف الفضولي التي أجازها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ؛ لأنها ضرورة، إذ إنه لا يعرف صاحبها فلا بد أن يتخلص منها بهذا.
وقوله: «تصدق به عنه» لو أراد أن لا يتصدق بها بل أراد أن يجعلها في مسجد ـ مثلاً ـ فهل يجوز ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف: لا، ولكن هذا الظاهر غير مراد، بل له أن يجعلها في طرق الخير من بناء مسجد، أو بناء أربطة للفقراء، أو شراء كتب لطلبة العلم، المهم أن يصرفها فيما يقرِّب إلى الله، وحينئذٍ هل(10/193)
يخير بين جهات الخير أو ينظر ما هو أفضل؟ نسأل: هل هو متصرف لنفسه أو لغيره؟ فإذا كان يتصرف لغيره ينظر إلى الأصلح، فقد يكون هذا البلد أهله ليسوا بذاك الفقراء لكنهم محتاجون إلى مسجد، فهنا نقول: صرفه في بناء المسجد أفضل، وقد يكون العكس، المساجد كثيرة وأهل البلد فقراء، فنقول: الصدقة أفضل، فعلى كل حال كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ غير مراد، وإن قلنا: إنه مراد فإن الراجح خلافه، وأن له أن يصرف هذا المغصوب في أي جهة خيرية.
لو قدر أن له أقارب محتاجين فهل يصرف هذا في أقاربه؟ الجواب: نعم، يصرف هذا في أقاربه، لكنه لا يجوز أن يحابيهم فيرى غيرهم أحوج ويعطي أقاربه، لكن إذا كان أقاربه مساوين لغيرهم أو أحوج من غيرهم فلا بأس أن يعطيهم.
وهل له أن يأخذه هو إذا كان فقيراً؟ الجواب: فيه خلاف، فمن العلماء من قال: إنه إذا تاب إلى الله ـ وهو على كل حال تائب؛ لأنه الآن يريد أن يتخلص ـ وكان فقيراً فله أن يأخذه، ومن العلماء من قال: لا يجوز سداً للباب؛ لأن الإنسان ربما يفتي نفسه بأنه فقير وليس كذلك، فيتهاون أو يتربص حتى يفتقر، فالقول بمنعه من أن يجعل نفسه مصرفاً قول قوي، لكن لو سلمه إلى الحاكم وكان هو فقيراً فأعطاه الحاكم منه، فهذا يجوز بلا شك؛ لأن التهمة الآن منتفية تماماً، وعلى هذا فلو أعطاه الحاكم وهو من أهل الحاجة ودفع إليه ما غصبه فلا حرج عليه أن يقبله وذمته قد برئت.(10/194)
وقوله: «وإن جهل ربه» أي: رب المغصوب أي: مالكه، فهل يقال هذا في كل مال مجهول صاحبه؟
الجواب: نعم، كوديعة أُودعها الإنسانُ ثم نسي الذي أودعها إياه، فنقول: إذا نسيت وأيست تصدق به مضموناً، كذلك لو أن إنساناً يعمل خياطاً وأعطاه شخص ثوباً ليخيطه وذهب الرجل وأيسنا منه، فماذا يصنع الخياط في هذا الثوب؟ يتصدق به مضموناً، أو يبيعه إذا رأى أن المصلحة في بيعه مثل أن يكون ثوباً كبيراً واسعاً لا يشتريه أحد فيبيعه ويشتري ثوبين ـ مثلاً ـ فله هذا.
فالقاعدة إذاً: (كل من بيده مال جهل صاحبه وأيس من العثور عليه فله أن يتصدق به بشرط الضمان) .
وهنا مسألة تشبه هذه من بعض الوجوه، وهي ما يؤخذ غرامة على المخالفين في بعض البضائع، إذا دخلوا بها وصودرت منهم، فهل يجوز أن تُشتَرى من الجهات المسؤولة أو لا؟ الجواب: نعم يجوز أن تشترى؛ لأنها الآن خرجت عن ملك أصحابها بمقتضى العقوبة، والعقوبة المالية جائزة في الشريعة ولها وقائع وقعت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ؛ فيجوز أن يشتريها الإنسان وتدخل ملكه ولا حرج عليه في ذلك،
__________
(1) من ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في مانع الزكاة بخلاً: «إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» ، أخرجه الإمام أحمد (5/2، 4) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب زكاة السائمة (1575) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب عقوبة مانع الزكاة (5/17) وصححه ابن خزيمة (2266) ؛ والحاكم (1/397، 398) .(10/195)
كالمغصوب إذ جُهِلَ مالكه وبِيعَ وتُصُرِّف فيه على وجه جائز فلا حرج أن يشتريه.
فإن قال قائل: أنا أعلم رب هذه العين التي صودرت أنه فلان، فكيف يجوز لي أن أشتريها؟!
نقول: نعم؛ لأنها أُخذت بحق، أما لو جاءتك وهي مسروقة تعرف أنها سرقت فهنا لا يجوز أن تشتريها، لكن إذا صودرت عقوبة فقد أخذت بحق؛ لأن لولي الأمر أن يعاقب من خالف ما يجب عليه بما يرى أنه أردع وأنفع، ولولا هذا لكانت الأمور فوضى وصار كل إنسان يعمل على ما يريد وهذا لا يمكن، ولذلك نرى أن الأنظمة التي ليس فيها مخالفة للشريعة وإنما هي اجتهادية أنه يجب اتباعها امتثالاً لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ولو قيل: لا يجب أن يطاع ولي الأمر إلا فيما أمر الله به، لقلنا: الجواب على هذا من وجهين:
الأول: أن طاعته في غير معصية مما أمر الله به وإن لم يكن في هذا الشيء بعينه.
الثاني: إذا قلنا: إنه لا يطاع إلا إذا أمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين لكان قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} لا فائدة منه؛ لأن هذه الأشياء قد أُمر بها من قِبَلِ الشرع، ويكون الأمر بطاعة ولي الأمر عبثاً؛ لأن طاعته في هذه الأشياء داخلة في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولهذا يغلط غلطاً عظيماً من ظن أن أوامر ولاة الأمور لا يجب تنفيذها إلا إذا كان مأموراً بها(10/196)
شرعاً، ومثل هذه المسائل ينبغي لطلبة العلم أن يبينوها لبعض الإخوة الذين ينطلقون في الكلام في الحكام من العاطفة دون التأمل والتأني، وهذه مسألة خطيرة في الحقيقة، يعني كون الإنسان ينطلق بمقتضى العاطفة، فهذا غلط سواء في معاملة الحكام أو غيرها حتى في الصلاة والزكاة، بعض الناس ينطلق من العاطفة ثم يوجب على المسلمين ما لا يجب، وكذلك بالعكس بعض الناس ينطلق من منطلق التأخر بمعنى أنه يقول: هذا غير واجب والدين يسر وما أشبه ذلك، وينفلت الزمام، كل هذا خطأ، فالواجب الوسط، والوسط هو الحق.
وإذا تأملت خلاف العلماء وتأملت تصرفات الناس، وجدت أن الصواب يكون غالباً في الوسط، حتى مسائل خلاف العلماء، الآن ـ مثلاً ـ أهل التعطيل وأهل التمثيل في صفات الله ما هو الوسط؟ الوسط: الإثبات بلا تمثيل، وكذلك في القدر، وكذلك في الإيمان وغير ذلك.
مسألة: في الدول الشيوعية تقوم الحكومات بأخذ أموال الناس غصباً ولا تردها إلى أصحابها، فإنه لا حرج في شرائها منها أو استئجارها لدفع الحاجة.
وَمَنْ أَتْلَفَ مُحْتَرَماً، أَوْ فَتَحَ قَفَصاً، أَوْ بَاباً، أَوْ حَلَّ وِكَاءً، أَوْ رِبَاطاً أَوْ قَيْداً، فَذَهَبَ مَا فِيهِ، أَوْ أَتْلَفَ شَيْئاً وَنَحْوَهُ ضَمِنَهُ،......
قوله: «ومن أتلف محترماً» «من» شرطية، والمعنى أي إنسان «أتلف محترماً» أي: شيئاً محترماً وهو ما لا يجوز إتلافه، واحترز به عما ليس بمحترم كالكافر الحربي، فالكافر الحربي غير محترم فمن أتلفه فلا ضمان عليه، وكذا الخمر في يد المسلم غير محترم فمن أتلفه فلا ضمان عليه؛ لأنه ليس بمحترم.(10/197)
وقوله: «ومن أتلف محترماً» يعم الصغير والكبير، والحيوان وغير الحيوان، ويعم ـ أيضاً ـ ما كان عن عمد وما كان عن غير عمد، إلا أن الفرق بين العامد وغير العامد هو أن العامد آثم، وغير العامد ليس بآثم، لكن حق الآدمي لا يسقط، فيجب عليه ضمانه.
فلو أتلف الإنسان مالاً يظنه مال نفسه، فتبين أنه مالُ غيره فعليه الضمان؛ وذلك لأنه أتلف محترماً، فإذا قال: إن الله يقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، قلنا: نعم، قال الله هذا، لكن هذا في حق الله تعالى فقط، أما في حق الآدمي فعليه الضمان.
ولو أن رجلاً مُحْرِماً قتل صيداً مملوكاً جهلاً أو نسياناً فعليه الضمان لصاحبه وليس عليه الجزاء، والفرق أن الجزاء حق لله تعالى، والضمان حق للآدمي، ولو أتلفه عمداً وهو مملوك لزمه ضمانان:
الضمان الأول: للآدمي، والضمان الثاني: الجزاء وهو حق الله ـ عزّ وجل ـ.
إذاً كل من أتلف محترماً فعليه الضمان سواء كان عالماً أو جاهلاً أو ناسياً أو ذاكراً أو عامداً أو مخطئاً، فعليه الضمان بكل حال، وسواء كان هذا المحترم قليلاً أم كثيراً.
قوله: «أو فتح قفصاً» القفص وعاء تُجعل فيه الطيور، فإذا فتح القفص وطار الطائر فعليه ضمانه، لأنه متسبب، والمتسبب إذا لم يكن معه مباشر فعليه الضمان.(10/198)
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يهيج الطائر أو لا، يعني أنه لا فرق بين أن ينهر الطائر حين فتح القفص أو لم يفعل، ولا فرق بين أن ينضم الطائر إلى جانب القفص لما فُتِح عليه ثم يطير بعد أن يولي هذا الذي فتحه، أو يطير وهو حاضر؛ لأن بعض الطيور إذا فتحت عليه الباب انحاز إلى جهة من القفص خوفاً من فتح الباب، فظاهر كلام المؤلف أنه متى فتح القفص وطار ما فيه فإنه ضامن، ونظير القفص في وقتنا الحاضر (الشَبْك) فلو كان هناك شبك فيه طيور وفتح شخص الباب ثم طارت الطيور فعليه الضمان، لأنه متسبب، فإن اجتمع معه مباشر فالضمان على المباشر، مثل أن يفتح الباب ثم يأتي آخر فيهيج الطائر فيطير فعليه الضمان، أي على المباشر الذي أهاج الطائر.
قوله: «أو باباً» يعني فتح باباً فذهب ما فيه، فلو فتح باباً عن شاة ـ مثلاً ـ فلما فتح الباب خرجت الشاة فتلفت، فعلى فاتح الباب الضمان؛ لأنه متسبب، والمتسبب عليه الضمان، فإن اجتمع معه مباشر فالضمان على المباشر، يعني لو فتح الباب ثم جاء إنسان وأخرج الشاة وتلفت فالضمان على الثاني؛ لأنه مباشر ولا ضمان على المتسبب مع المباشر إلا إذا كانت المباشرة مبنية على السبب.
قوله: «أو حل وكاءً» يعني لو كان هناك دهن أو عسل في وعاء فحل وكاء هذا الوعاء، فاندفق الدهن أو العسل فعليه الضمان؛ لأنه متسبب.(10/199)
وظاهر كلام المؤلف: أنه ضامن ولو كان حين حل الوكاء جامداً ثم أذابته الشمس، أو كان حين حل الوكاء واقفاً ثم حرفته الريح فعليه الضمان؛ لأنه متسبب.
قوله: «أو رباطاً» يعني وجد حيواناً مربوطاً ـ مثلاً ـ فحل رباطه فذهب، فعليه الضمان.
قوله: «أو قيداً فذهب ما فيه» القيد لحيوان مقيد، والفرق بين القيد والرباط، أن الرباط يثبت في الأرض وتربط به البهيمة، والقيد تقيد به اليد والرجل أو اليدان والبهيمة تمشي.
وهذا الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أمثلة وصور وليست قواعد، لكن القاعدة أن كل من أتلف شيئاً فعليه الضمان.
قوله: «أو أتلف شيئاً ونحوه ضمنه» فمثلاً لو فُرِض أن هذه الشاة التي فتح لها الباب خرجت وأكلت زرع إنسان، فعلى من فتح الباب ضمان الشاة، وضمان ما أتلفت من الزرع، وكذلك لو أن الطائر اصطدم بشيء وتلف هذا الشيء فعلى من فتح قفصه الضمان، وكذلك لو أن الدهن اندفق على شيء فأفسده فعليه ضمان الدهن وضمان ما أفسده، فيضمن الشيء وما ترتب عليه.
وَإِنْ رَبَطَ دَابَّةً بِطَرِيقٍ ضَيِّقٍ فَعَثَرَ بِهِ إِنْسَانٌ ضَمِنَ، كَالكَلْبِ العَقُورِ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ بِإِذْنِهِ، أَوْ عَقَرَهُ خَارِجَ مَنْزِلِهِ........
قوله: «وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن» كان مقتضى السياق أن يقول: «فعثر بها إنسان ضمن» .
في وقت المؤلف لا توجد سيارات، وفي وقتنا لا توجد الدواب لكن الشيء يقاس بالشيء، فإذا ربط دابة بطريق ضيق فعثر(10/200)
بها إنسان وانكسر أو هلك فعليه الضمان؛ لأنه متعدٍّ في ربطها في هذا المكان الضيق.
وعُلِم من كلام المؤلف: أنه لو ربطها بطريق واسع فلا ضمان عليه، وهذا متجه إذا لم يربطها في طريق المارة، فإن ربطها في طريق المارة فهو كما لو ربطها في طريق ضيق، عليه الضمان.
فإن قال قائل: الطريق الواسع وإن كان مُطَّرَق الناس ـ في وسطه مثلاً ـ فإن الإنسان يستطيع أن ينحرف يميناً أو شمالاً.
قلنا: لنسأل هل هذا الرجل الذي ربط الدابة في الطريق الواسع ـ في مطرق الناس ـ معتدٍ أو غير معتدٍ؟ الجواب: معتد، وإذا كان معتدياً فهو ظالم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] نعم لو ربطها في طريق واسع في أحد جوانبه فلا ضمان.
وقوله: «وإن ربط» ظاهر كلامه ـ رحمه الله ـ: أنه لو أوقفها بلا ربط فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا أوقفها سوف تمشي وتذهب، ولكن في هذا الظاهر نظر، والصواب أن إيقافها كربطها؛ لأن مجرد وقوفها في الطريق الضيق أو الواسع ـ إذا أوقفها في مطرق الناس ـ يعتبر عدواناً، نعم لو فرض أنه أوقفها لتحميل متاعه عليها أو لتنزيل متاعه منها فعثر بها إنسان، فهذا لا ضمان عليه؛ وذلك لأنه غير معتدٍ، وهذه عادة الناس، ولو قلنا بالضمان لحصل إشكال عظيم، ولكان الإنسان لا يمكن أن يحمل متاعه على بعيره إلا إذا أدخلها إلى بيته، وهذه مشقة عظيمة، إذاً(10/201)
الضابط: أنه إذا أوقفها أو ربطها في مكان يعتبر متعدياً فعليه الضمان.
والسيارات الآن حكمها حكم الدابة، فإذا أوقفها في مكان واسع وليس في طريق الناس، فعثر بها إنسان فإنه لا ضمان على صاحب السيارة؛ لأنه لم يعتدِ حيث إن العادة جرت بأن الناس يوقفون سيارتهم في الأمكنة الواسعة ولا يعد هذا اعتداءً، فإن أوقفها في مكان واسع في مطرق الناس فعليه الضمان؛ لأنه متعدٍّ، وإن أوقفها في طريق واسع في جانب الطريق فلا ضمان عليه.
لكن ما هي السعة؟ السعة أن يبقى مكاناً يمكن أن تمر به السيارات، فإذا ترك مكاناً يمكن أن تمر به السيارات فهذا ليس بمعتدٍ، والعادة الآن جارية بذلك.
لكن هل يجب أن نقول: لا بد أن يترك ممراً يستطيع أن ينفذ فيه المتقابلان؟
الظاهر نعم، لا سيما في الطرقات النافذة، أما غير النافذة فهي إلى أصحابها، لكن في الطرقات النافذة ولا سيما الطويلة فلا بدّ من ذلك، وما دمنا نعتبر الاعتداء والضرر فلنطبق كل ما يحصل على هذه القاعدة.
ولو أنه أوقف سيارته في مكان واسع وكان حوله فتيان يلعبون الكرة، ثم إن أحدهم لحق الكرة لما طارت واصطدم بالسيارة، فهل عليه الضمان؟ لا ضمان عليه؛ لأن المكان واسع والعادة جارية بذلك، وهذا الذي اصطدم بها كما لو اصطدم بجدار البيت وما أشبهه.(10/202)
وقوله: «وإن ربط دابة بطريق ضيق فعثر به إنسان ضمن» أي: رابط الدابة، وكذلك مُوقِفُها، فلو لم يعثر بها ولكنها رفسته فعليه الضمان؛ لأن هذا المكان يحرم عليه أن يوقف الدابة فيه، فإن أوقفها في هذا المكان الضيق وجاء إنسان فنخسها فرفسته فلا ضمان على الرابط؛ لأن التلف الآن حصل بفعل الرجل، فهو المباشر فلا ضمان على رابطها، وإن نخسها فضربت برجلها آخر فالضمان على من نخسها، وهذا يُنَزَّل على القاعدة: مباشر ومتسبب.
قوله: «كالكلب العقور لمن دخل بيته بإذنه أو عقره خارج منزله» يعني كما يضمن صاحب الكلب العقور إذا عقر الكلب من دخل بيته بإذنه، أو عقر من كان خارج المنزل؛ وذلك أن الكلب العقور ـ وهو الذي عُرف منه العدوان على الناس ـ لا يجوز اقتناؤه بأي حال من الأحوال ويجب قتله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» (1) فاقتناؤه حرام، وعلى هذا كل ما تلف بعقره فهو مضمون على صاحبه، إلا من دخل بيت صاحبه بغير إذنه فلا ضمان فيه؛ لأن الداخل معتدٍ حيث دخل البيت بغير إذن صاحبه، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] فإن أذن له ودخل الرجل وصاحب المنزل في داخل منزله فعقره الكلب؟ فعليه الضمان؛ لأنه دخل بإذن رب البيت.
وقيل: إنه إن أعلمه أنه عقور فإنه لا ضمان عليه.
__________
(1) سبق تخريجه (ص110) .(10/203)
وقوله: «أو عقره خارج منزله» فالكلب العقور إذا عقر إنساناً خارج المنزل فعلى صاحبه الضمان على كل حال.
وقوله: «كالكلب العقور» غير الكلب العقور هل يضمن صاحبه؟ فلو أن رجلاً عنده كلب هادئ ليس بعقور، فخرج الكلب فعقر إنساناً وليس من عادته العقر فهل يضمن؟ لا؛ لأنه يقول: «الكلب العقور» أي: الذي من طبيعته العقر، وهذا كلب غير عقور فلا ضمان عليه.
لكن لو كان غير عقور فأشلاه صاحبه بالرجل، فعليه الضمان؛ لأنه معتدٍ بذلك.
قال العلماء: إن الكلاب ثلاثة:
عقور، وأسود، وما سواهما، فالعقور، يجب قتله، والأسود يباح قتله، وغيرهما لا يباح قتله؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل الكلاب (1) ، إلا إذا آذى فإنه يقتل؛ لأن القاعدة هي: (أن كل مؤذٍ يسن قتله) سواء كانت الأذية طبيعته أم حدثت له بعد ذلك.
قال في «الروض» (2) : «وإن أتلف العقور شيئاً بغير العقر كما لو ولغ، أو بال في إناء إنسان، فلا ضمان؛ لأنه لا يختص بالعقور» هذا صحيح؛ إذا أفسد شيئاً بغير العقر فإنه لا ضمان؛ لأنه شيء معتاد، وما زال الناس تكون عندهم الكلاب وربما تبول
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه (1572) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/416) .(10/204)
في أماكن للناس، ولم يرجع أحد من المسلمين على أصحابها، لكن الشيء الذي يضمنه هو الذي يكون معتدياً فيه.
قال في الروض: «وحكم أسد ونمر وذئب، وهر تأكل الطيور، وتقلب القدور، في العادة حكم كلب عقور» (1) . إذا اقتنى الإنسان أسداً، وعدى هذا الأسد على إنسان خارج المنزل فإنه يضمن، لأنه معتدٍ باقتنائه، وكذلك الذئب.
وإذا كان له هرة وذهبت عند الجيران وأكلت اللحم وكفأت القدور فإنه يضمن؛ لأن الواجب عليه حبسها، وهذا إذا كان من عادتها ذلك صارت بمنزلة الكلب العقور، وأما إذا كانت عادتها أنها لا تتعدى فلا ضمان على صاحبها؛ لأن يده ليست عليها.
قال: «وله قتل هر بأكل لحم ونحوه، كالفواسق» يعني للإنسان أن يقتل الهر بأكل اللحم، ولكن هل يشترط أن يكون ذلك حين أكل اللحم أو ولو بعد مفارقة الأكل؟
قال بعض الأصحاب: إن له ذلك حال كونه يأكل، وعليه فيكون قتله من باب دفع الصائل، وأما إذا فرغ من الأكل فلا يقتله، والمذهب أن له أن يقتله ولو بعد فراغه من الأكل؛ لأنه معتدٍ.
فإن لم يكن يأكل اللحم فإن ظاهر قوله: «له قتل ... » أنه إذا لم يكن عدوان من الهر فإنه لا يقتل؛ وذلك أن الحيوانات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/416) .(10/205)
الأول: ما أمر بقتله وهي كل المؤذيات.
الثاني: ما نهي عن قتله، وهي أربعة: النحلة، والنملة، والهدهد، والصُّرَد (1) .
الثالث: ما سكت عنه، فهذه الأصل أن لا تقتل، ولكن هل يباح؛ لأن نهي الشارع عن قتل شيء بعينه يدل على جواز غيره، أو لا يباح؛ لأن أمر الشارع بقتل شيء يدل على أن غيره لا يقتل؟ الظاهر الأول وأن الأصل الإباحة، اللهم إلا أن يخشى الإنسان على نفسه أن يكون بقتله لهذه الأشياء محباً للعدوان فحينئذٍ يجب أن يمنع نفسه.
قال في الروض: «وإن حفر في فنائه بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها» (2) الفناء ما يكون أمام البيت متصلاً به أو منفصلاً عنه لإلقاء الكناسة فيه ونفايات البيت، هذا الفناء ليس ملكاً للإنسان، فإذا حفر فيه بئراً لنفسه ضمن ما تلف بها.
قال: «وإن حفرها للمسلمين بلا ضرر في سابلة لم يضمن ما تلف بها؛ لأنه محسن» أي: إن حفرها لنفع المسلمين ولم يكن ذلك في سابلتهم ـ أي طريقهم ـ بأن حفرها في جانب طريق واسع فإنه لا يضمن ما تلف بها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/332، 347) ؛ وأبو داود في الأدب/ باب في قتل الذر (5267) ؛ وابن ماجه في الصيد/ باب ما ينهى عن قتله (3224) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ وصححه ابن حبان (5646) ؛ وصححه في الإرواء (2490) .
(2) حاشية الروض مع حاشية ابن قاسم (5/416، 417) .(10/206)
قال: «وإن مال حائطه ولم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمنه؛ لأن الميل حادث والسقوط بغير فعله» .
أفادنا بقوله: «حادث» أنه لو بناه مائلاً فسقط على ناس فأتلفهم ضمن، وأفادنا بقوله: «بغير فعله» أنه لو كان السقوط بفعله بأن رأى الجدار مائلاً، فدفعه بيده فسقط على شيء وأتلفه فإنه يضمن، لأنه بفعله.
وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فقال بعضهم: إنه إذا علم ميله ولم يقومه فإنه يضمن؛ لأن الواجب عليه كف الأذى عن المسلمين، والجدار إذا مال إلى الشارع ولم يقومه معناه أنه لم يكف الأذى.
وقال بعضهم: إن طولب به ضمن، وإن لم يطالب لم يضمن.
والقول الثالث: ـ وهو المذهب ـ أنه لا ضمان عليه مطلقاً، سواء طولب بنقضه أم لم يطالب، ولكن الصحيح أنه يضمن؛ لأن الجدار جداره وهو مأمور بإزالة الأذى، إلا أنه يقيد بما إذا مضى وقت يمكنه فيه نقضه ولم يفعل، أما إذا مضى وقت لا يمكنه نقضه فيه فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط.
وعلى هذا إذا كان الإنسان غائباً عن بيته ومال الجدار وسقط ولم يعلم ولم يُعلَم فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط.
وَمَا أَتْلَفَتْ البَهِيمَةُ مِنَ الزَّرْعِ لَيْلاً ضَمِنَهُ صَاحِبُهَا وَعَكْسُهُ النَّهَارُ، إِلاَّ أَنْ تُرْسَلَ بِقُرْبِ مَا تُتْلِفُهُ عَادَةً. ............
قوله: «وما أتلفت البهيمة» البهيمة هي الحيوان من إبل، وبقر، وغنم ضأنها ومعزها، وغير ذلك، وسميت بهيمة؛ لأنها لا تنطق، ولهذا تسمى ـ أيضاً ـ عجماء؛ لأنها لا يُفهم نطقها،(10/207)
قال الله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] فالبهمية إذاً تشمل جميع الحيوان الذي يُقتنى من إبل، وغنم، وحُمُر، وخيل، وظباء، وغير ذلك.
قوله: «من الزرع» يفهم منه أن غير الزرع ليس هذا حكمه، فثمر النخل، والتين، والبرتقال وغيرها، ليس هذا حكمها، وكذلك الأطعمة من حبوب وغيرها ليس هذا حكمها؛ لأن المؤلف خصَّه بالزرع.
قوله: «ليلاً» يدخل الليل بغروب الشمس ويخرج بطلوع الشمس.
قوله: «ضمنه صاحبها» دليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بأن على أهل المواشي حفظها في الليل، وعلى أهل الزروع حفظها في النهار (1) ، وهذا واضح؛ وذلك لأن العادة جرت أن أهل المواشي يحفظونها في الليل إما بقيودها، وإما بأحواشها أو غير ذلك؛ لأنها لا ترعى في الليل، وأهل المزارع يحفظونها في النهار وينامون في الليل وهم مسؤولون عنها في النهار، فكان هذا الحديث مطابقاً للحكمة تماماً.
وقوله: «وما أتلفت البهيمة من الزرع» فلو أتلفت شيئاً من الثمار بأن انطلقت في النهار أو في الليل على نخل قصير فأكلت
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/435، 436) وأبو داود في البيوع/ باب المواشي تفسد زرع قوم (3569) و (3570) ؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب الحكم فيما أفسدت المواشي (2332) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ وصححه ابن حبان (6008) ؛ والإمام الشافعي كما في خلاصة البدر المنير (2490) .(10/208)
ثمرته، فهل يضمن صاحبها أو لا؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يضمن صاحبها، لا في الليل ولا في النهار؛ لأنه خص ذلك بالزرع، وهذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أنه خاص بالزرع كما هو ظاهر كلام المؤلف، وهو الذي دل عليه الحديث.
الثاني: أنه خاص بالزروع والثمار التي في الحوائط؛ لأن الثمار التي في الحوائط بمنزلة الزرع؛ إذ العادة جرت بأن الناس يحفظون زروعهم وثمارهم في النهار وينامون عنها في الليل، كما أن العادة جرت بأن أهل المواشي يحفظونها في الليل ويطلقونها في النهار لترعى.
الثالث: أن جميع ما أتلفت من زرع وثمار وأموال وغيرها حكمه حكم ما أتلفت من الزرع وهذا هو المذهب، فعلى هذا يكون عموم ما أتلفت البهائم إن كان في الليل فعلى أصحابها الضمان، وإن كان في النهار فليس على أصحابها شيء، ودليل ذلك عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العجماء جُبار» (1) العجماء يعني البهائم، وجبار يعني هدر، وضَمَّنَّا صاحبها في الليل قياساً على الزرع؛ لأن العلة واحدة وهي أن أهل المواشي يحفظون مواشيهم في الليل ويطلقونها في النهار لترعى، وهذا القول أصح، فلو أن إنساناً كان عند بيته أكياس من القمح فجاءت المواشي فأكلتها
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب في الركاز الخمس (1499) ؛ ومسلم في الحدود/ باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار (1710) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/209)
فهنا نقول: الضمان على صاحبها؛ لأن الناس في الليل ينامون ولا ينتبهون لأموالهم، وفي النهار لا ضمان على صاحبها؛ لأن الواجب على أهل الأموال حمايتها.
والمذهب ـ أيضاً ـ التفريق بين المفرِّط في حفظ البهيمة وغير المفرِّط، يعني أن الإنسان في الليل إذا حفظ البهيمة إما برباط أو قيد أو شبك أو سور، ثم انطلقت مع تمام التحفظ فإنه لا ضمان على صاحبها، لأن الرجل لم يفرط، والعادة جرت أن الناس يحفظون مواشيهم ثم ينامون، فإذا انطلقت بأن عضت القيد حتى انقطع ـ مثلاً ـ أو تسورت الجدار الذي لا تتسور مثله البهائم فلا ضمان، وهذا في الحقيقة قد يقال: إنه قول لا بأس به؛ لأن الإنسان لم يفرط ولم يتعدَّ، فإذا لم يفرط ولم يتعدَّ فإنه لا ضمان عليه، ويدخل هذا في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «العجماء جبار» (1) .
ومبنى الخلاف على أنه هل مناط الحكم تفريط صاحب البهيمة أو تفريط صاحب المال المتلَف؟ إن قلنا: إن مناط الحكم تفريط صاحب المال المتلَف فإننا نفرق بين الزرع وغيره، ونقول: جرت العادة أن غير الزروع تكون وراء الأبواب وتحفظ في المساكن بخلاف الزروع فإنها على البَر، وإذا قلنا: إن مناط الحكم هو تفريط صاحب البهيمة، قلنا: لا فرق بين الزرع وغيره؛ لأن صاحب البهيمة الذي وُجِّه إليه الضمان هو المفرط، وهذا أقرب من القول بأن مناط الحكم هو تفريط صاحب المال
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .(10/210)
المتلف، ولو قال قائل: إن مناط الحكم تفريط الطرفين، لم يكن بعيداً، ولكن الأقرب أن مناط الحكم هو تفريط صاحب البهيمة فنقول: متى ما فرط صاحب البهيمة في حفظها فأتلفت شيئاً فالضمان عليه؛ لأنه مأمور بحفظها وكف شرها، فإذا لم يفعل ضمن.
وظاهر كلام المؤلف أن على صاحب البهيمة الضمان في الليل سواء فرَّط أو لم يفرِّط، والصحيح المذهب أنه إن فرط فعليه الضمان وإن لم يفرِّط فلا ضمان عليه، فصار كلام المؤلف مخالفاً للمذهب في أمرين:
الأول: تخصيص الضمان بالزرع دون غيره.
الثاني: أن صاحب البهيمة ضامن سواء فرط أم لم يفرط، والمذهب العموم في مسألة المتلف في الزرع وغيره والتقييد في مسألة التفريط، وأنه إذا لم يفرط فلا ضمان عليه.
قوله: «وعكسه النهار» أي: ما أتلفته البهيمة في النهار يكون الضمان على صاحب الزرع، وليس على صاحب البهيمة ضمان؛ لأن المأمور بالحفظ أصحاب المزارع، إلا أن المؤلف ـ رحمه الله ـ استثنى معنى وجيهاً يؤيد ما نقلناه أخيراً فقال:
«إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة» مثال ذلك: رجل يرعى إبله في النهار فأطلقها قرب مزرعة، والمزرعة ليس عليها شبك وليس عليها جدار، فمثل هذا جرت العادة أن البهيمة تذهب وتأكل الزرع كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كالراعي يرعى حول الحمى(10/211)
يوشك أن يقع فيه» (1) وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف وجيه وصحيح، فيرسلها ـ مثلاً ـ على بُعْد خمسة أمتار أو عشرة أمتار أو على مرآه ثم يذهب، ومن المعلوم أنها سوف تذهب إلى الزرع وتأكله، فيكون الضمان هنا على صاحبها ولهذا قال: «إلا أن ترسل بقرب ما تتلفه عادة» .
وهذا ـ أيضاً ـ خلاف المذهب، فالمذهب لا ضمان على صاحبها في النهار سواء أرسلها بقرب ما تتلفه عادة أم لم يرسلها، بناء على أن مناط الحكم هو تفريط صاحب الزرع أو عدمه؛ لأن صاحب الزرع هو المأمور بحفظ زرعه في النهار، والأصح المذهب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بأن على أهل الحوائط حفظها بالنهار (2) ، إلا أن يكون صاحب البهيمة اهتبل فرصة غياب أصحاب المزارع فأرسل بهيمته فهنا يكون الضمان عليه، أو أرسل البهيمة بقرب ما تتلفه عادة كما تقدم فيضمن.
لو قال قائل: إذا انعكس الأمر وصار الناس يحفظون أموالهم في الليل، والمواشي ـ أيضاً ـ تُطلَق في الليل فهل ينعكس الحكم؟
قال بعض العلماء: إنه ينعكس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقال بعض العلماء: لا ينعكس؛ لأن هذه مسألة
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه (52) ؛ ومسلم في البيوع/ باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) سبق تخريجه ص (208) .(10/212)
نادرة، يعني يندر أن تكون المواشي تُرعى في الليل وأن يكون حفظ الأموال في الليل، والنادر لا حكم له.
فإن قال قائل: ما هو الأصل فيما أتلفت البهيمة من أجل أن نعرف ما خرج عن هذا الأصل، هل الأصل الضمان أو لا؟
قلنا: الأصل فيما أتلفت البهيمة عدم الضمان، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «العجماء جبار» (1) ما لم يكن عدوان من صاحبها أو تفريط، فإن كان عدوان أو تفريط عومل بما يقتضيه ذلك العدوان والتفريط.
فمثلاً الكلب العقور يحرم اقتناؤه كما تقدم، فإذا أتلف شيئاً خارج منزل صاحبه فعليه الضمان، أما الكلب غير العقور إذا أتلف شيئاً خارج منزل صاحبه، ليس فيه ضمان بناءً على القاعدة أن الأصل فيما أتلفت البهيمة عدم الضمان.
وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ رَاكِبٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ سَائِقٍ ضَمِنَ جِنَايَتَهَا بِمُقَدَّمِهَا لاَ بِمُؤَخَّرِهَا.
قوله: «وإن كانت» الضمير يعود على البهيمة.
قوله: «بيد راكب» أي: أنه متمكن من التصرف فيها، ولهذا يقول الناس فيما يخرج عن طاقتهم: هذا ليس بيدي.
وقوله: «بيد راكب» الراكب إذا لم تكن البهيمة شكسة فإنه يتصرف، فإذا أتلفت شيئاً ـ كما سيأتي ـ فعليه الضمان؛ لأنه يستطيع أن يتصرف.
فإن انفلتت منه وشردت وعجز أن يتصرف فلا ضمان عليه، وهذا نفهمه من قوله: «بيده» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .(10/213)
قوله: «أو قائد» أي: قائد يقودها من أمام؛ لأن القائد يتصرف فيها وخصوصاً البهيمة الذلول التي تنقاد مع صاحبها، فهي ستتبعه، فأما إن نفرت وشردت وعجز فهذه ليست بيده.
قوله: «أو سائق» والسائق أقل الرجلين تصرفاً في البهيمة؛ لأنه يسوقها من الخلف، فالراكب يتصرف، والقائد يتصرف، أما السائق فإنه يتصرف لكن تصرفه قليل؛ لأن السائق يتصرف في إيقافها إذا تكلم معها بما يدل على الوقوف، لكن فيما أمامها لا يستطيع أن يتصرف كما ينبغي، ومع ذلك جعلوا السائق مثل الراكب والقائد.
قوله: «ضمن جنايتها بمقدَّمها لا بمؤخَّرها» يعني ما عضَّت بفمها أو وطئت بيدها فعليه ضمانه، أما ما كان بالرِّجل فلا ضمان فيه، كما لو وطئت على شيء أو نفحت برجلها شيئاً فلا ضمان؛ لأنه لا يستطيع أن يتصرف برجلها، أما يدها فيستطيع أن يحرفها يميناً وشمالاً إذا أقبلت على شيء تتلفه وكذلك السائق، لكن هذا ـ أيضاً ـ في النفس منه شيء؛ لأن البعير إذا رأت طعاماً، تنقَضُّ عليه انقضاض الطير على اللحم وتأكل هذا الطعام، فهل نقول في هذه الحال: على صاحبها الضمان؟
ظاهر كلام المؤلف أن عليه الضمان، ولكن في النفس من هذا شيء؛ لأن صاحبها في هذه الحال لا يتمكن منها، فلهذا ينبغي أن يقال: إذا كانت بيد راكب أو قائد أو سائق وأتلفت شيئاً بناءً على تفريطه أو تعديه فعليه الضمان، وأما إذا كان بغير تعدٍّ ولا تفريط فلدينا قاعدة أسَّسها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي:(10/214)
«العجماء جُبار» (1) .
فينبغي أن نجعل مناط الحكم في هذا ـ أي فيما يتعلق بالبهائم من الجنايات ـ هو التعدي أو التفريط، فإذا كان متعدياً أو مفرطاً فعليه الضمان وإلا فلا.
والتعدي مثل أن يمر بها إلى جنب شجر ـ مثلاً ـ أو إلى جنب أطعمة يعرف أنها سوف تنهش من هذه الثمرة أو من هذه الأطعمة.
والتفريط مثل أن يُمْكِنَه كَبْحُ لجامِها ولكنه لا يفعل.
وَبَاقِي جِنَايَتِهَا هَدَرٌ كَقَتْلِ الصَّائِلِ عَلَيْهِ وَكَسْرِ مِزْمَارٍ وَصَلِيبٍ وَآنِيَةِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَآنِيَةِ خَمْرٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ.
قوله: «وباقي جنايتها هدر» أي: باقي جناية البهيمة هدر، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العجماء جُبار» ، والتعليل أنه لا يمكن إحالة الضمان عليها؛ لأنها بهيمة، ولا على صاحبها؛ لأنه لم يحصل منه تعدٍّ ولا تفريط، فكل جنايتها هدر ما عدا ما استثني، وما استثني ـ كما تبين ـ مبني على التعدي أو التفريط، فإن لم يكن تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان على صاحبها، وهذه القاعدة تطمئن إليها النفس وتركن إليها، وهي قاعدة منضبطة تماماً، ومأخوذة من السنة.
مسألة: نحن الآن ليس عندنا بهائم فيما يتعلق بالراكب والقائد والسائق، ولكن عندنا سيارات، فالسيارات الحكم فيها مبني على القاعدة، إن كان هناك تعدٍّ أو تفريط من السائق فعليه الضمان، وإن لم يكن تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .(10/215)
لو فرض أن شخصاً أتى مسرعاً والسيارة تسير في طريقها ثم اصطدم بالسيارة بالجنب أو بالمؤخر فهل على السائق ضمان؟
فالجواب: ليس عليه ضمان أبداً؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط بل يمشي في الطريق مشياً معتاداً، وهذا هو الذي جاء مسرعاً واصطدم بالسيارة.
ولو فرض أن رجلاً يمشي بسيارته في الطريق على العادة وإذا بشخص يقفز ويكون بين عجلتي السيارة، فهل عليه ضمان أو لا؟ الجواب: ليس عليه ضمان؛ لأن الرجل لم يتعدَّ ولم يفرط، أما لو رأى رجلاً قفز حتى صار في وسط الطريق وهو يملك السيارة ولكنه تهاون أو ظن أنه سوف يجتاز فهذا عليه الضمان، والفرق بينهما أن هذا مفرط والأول غير مفرط.
قوله: «كقتل الصائل عليه» قتل الصائل لا ضمان فيه، وهو يشمل الصائل على النفس، والصائل على العرض، والصائل على المال، فهذا يُدافَع بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع إلا بالقتل فقتله فلا ضمان، والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سأله رجل فقال: أرأيت إن جاءني رجل يريد أن يأخذ مالي؟ فقال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «أنت شهيد» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» (1) فقوله: «هو في النار» يدل على أنه معتدٍ ظالم والمعتدي الظالم لا ضمان فيه؛ ولأن العدوان حصل من الصائل
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم ... (140) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/216)
فهو الذي قتل نفسه في الحقيقة فلا ضمان على القاتل، ولكن يجب أن يدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا اندفع بالتهديد فلا يضربه، وإذا اندفع بالضرب الخفيف فلا يضربه ضرباً شديداً، وإذا اندفع بالضرب الشديد فلا يقتله، وإذا لم يندفع إلا بالقتل فله قتله.
فإذا قال قائل: قد ورد فيمن وجد شخصاً على امرأته فقتله أنه لا ضمان فيه (1) ، وإن كان يمكن أن يندفع بما دون القتل، وأنتم تقولون: إن الصائل لا يجوز قتله إن أمكن دفعه بما دون القتل.
فالجواب: أن قتل من وجد شخصاً على امرأته أو محرمه ليس من دفع الصائل، ولكنه من باب عقوبة المعتدي، والعدوان حصل منه، فهو يقتل عقوبة لا لدفع عدوانه، ففرق بين هذا وهذا، ونظير ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أهدر عين من نظر من خصاص الباب فقام إنسان ففقأ عينه دون أن يحذره (2) ، فإن هذا من باب عقوبة المعتدي؛ لأنه قد حصل العدوان وليس من باب دفع الصائل، فإن المدافعة عن شيء لم يقع، أما شيء وقع ليس فيه إلا العقوبة.
فإذا كان المصول عليه لا يدري هل يبادره بالقتل؟ لأن
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله (6846) ؛ ومسلم في اللعان (1499) عن المغيرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الديات/ باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له (6902) ؛ ومسلم في الآداب/ باب تحريم النظر في بيت غيره (2158) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/217)
الصائل ربما يكون معه سلاح، فهل للمصول عليه في هذه الحال أن يبادره بالقتل؟
الجواب: نعم، إذا غلب على ظنه غلبة قوية أنه إن دافعه بالأسهل فالأسهل قَتَلَهُ، فإنه يقتله ولا شيء عليه، وهذا فيما بينه وبين الله.
لكن لو ادعى فيما بعد أولياء المقتول أنه لم يصل على هذا الرجل، وأن هذا الرجل هو الذي اعتدى عليه وقتله ثم ادعى أنه صائل، فيقال للقاتل: أثبت أن الرجل صالَ عليك، فقال: أثبت ذلك، إنه صال علي في بيتي، حيث إنه لم يقتله في الشارع بل قتله في بيته، قالوا: نعم، قتلته في بيتك؛ لأنك دعوته فأجاب الدعوة فاستغللت الفرصة وقتلته، وهذا يمكن، إذاً ماذا نصنع؟
المشهور في المذهب أنه يُقتل القاتل مع أنه مدافع إلا إذا أثبت أن هذا صائل عليه فلا يقتل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يجب أن يُنظر للقرائن في القاتل والمقتول، فإذا كان القاتل ممن عُرِف بالصلاح والاستقامة وأنه لا يمكن أن يعتدي على أحد بالقتل، وَعُرِف الصائل بالشر والفساد والهجوم على الناس، فالقول قول القاتل لكن بيمينه ولا حاجة لبينة، وما قاله شيخ الإسلام هو الذي لا يسع الناس العمل إلا به.
وقوله: «الصائل» يشمل الصائل من بني آدم ومن غير بني آدم، فلو صال عليه جمل فقتله دفعاً للصول، فهل يضمن لصاحب الجمل؟ لا؛ لأن الجمل أصبح لا قيمة له، ولو قتل صيداً صال(10/218)
عليه وهو محرم فليس عليه الجزاء؛ لأنه صال عليه فهو معذور.
فإذا قال قائل: هل يجب قتل الصائل إذا صال؟ بمعنى هل يلزم الإنسان أن يدافع عن نفسه أو لا؟ الجواب: أما أهله وحرمته ونفسه فيجب أن يدافع، وأما المال فمختلف فيه، والصحيح أنه يجب أن يدافع عن ماله؛ لأن المال وإن كان أهون من العرض ومن النفس، لكن الذل الذي يصيب الإنسان بتمكين هذا المجرم من إتلاف المال أو سرقته أو ما أشبه ذلك يقتضي وجوب المدافعة، وقد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» ، قال: وإن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» (1) .
قوله: «وكسر مزمار» يعني كما لا يضمن كسر المزمار؛ لأن هذا من باب تغيير المنكر، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده» (2) ، ولأن هذه الآلة لا يجوز الإقرار عليها وكسرها وسيلة إلى ذلك، ولكن إتلافه يضمن؛ لأن إتلافه غير كسره؛ لأن كسره يمنع من استعماله في المحرم، ولكن تبقى مادة هذا المزمار ينتفع بها في إيقاد نار، إذا كان من خشب أو في صنع قدور وأوانٍ إذا كان من حديد، أما إتلافه بالكلية فمعناه أنه أزال عين هذا الشيء، وإزالة عينه أكثر من إزالة وصفه الذي يصح
__________
(1) سبق تخريجه ص (216) .
(2) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان (49) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(10/219)
أن يكون به مزماراً، ولذلك قال المؤلف: «وكسر مزمار» .
وقوله: «مزمار» المزمار آلة من آلات العزف، وآلات العزف كلها حرام سواء اقترنت بالغناء أم لم تقترن وإن كان الغالب أنها تقترن، والدليل على تحريمها ما ثبت في صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليكونَنَّ من أمتي أقوام يستحلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف» (1) هذه أربعة كلها تكاد تكون متلازمة.
فالمعازف يصحبها غناء في الغالب، والغناء يكون مع المعازف فيه الغزل والإغراء، فينبني عليه الزنا حيث قال: «يستحلُّون الحِرَ» أي: الزنا.
وقوله في الحديث: «والخمر والحرير» فالحرير سببه الترف، وأن الإنسان يميل إلى أعلى ما يكون من الترف وحينئذٍ يشرب الخمر ليكمل ـ على ما يزعم ـ ترفُهُ، فهذا نص صريح في أن المعازف حرام؛ لأن قوله: «يستحلون» يدل على أنها حرام.
وهل الاستحلال هنا اعتقاد أنها حلال، أو ممارستها كممارسة الحلال؟!
الجواب: الثاني؛ لأن اعتقاد أنها حلال قد يُخرج من الإسلام، إذا اعتقد أن الخمر حلال وهو في أمة الإسلام قد عاش وفهم ذلك كان مرتداً، لكن المراد يستحلونها أي يفعلونها فعل المستحل لها فلا ينكرونها ولا يدعونها.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأشربة/ باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5590) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(10/220)
والمعازف عامة تشمل كل آلات العزف، لكن هناك شيء مخصص للعموم وهو استعمال الدف في المناسبات، فإن السنة جاءت بجوازه، كاستعمال الدف في الأعراس، واستعمال الدف في أيام الأعياد، واستعمال الدف في قدوم الغائب الكبير الذي له إمرة أو نحو ذلك، كل هذا جاءت به السنَّة.
أما الأول فظاهر فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغِربال» (1) وإن كان هذا الحديث فيه ما فيه لكنه له مؤيدات.
وأما الأعياد فلأن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ رأى جاريتين تغنيان وتدفان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فانتهرهما، وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! فقال: «دعهما فإنها أيام عيد» (2) .
وأما قدوم الغائب فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم من سفر فجاءت امرأة إليه فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردَّك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوفي بنذرك» (3) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء في إعلان النكاح (1089) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب إعلان النكاح (1895) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ واللفظ لابن ماجه، وضعفه الترمذي والبوصيري في زوائد ابن ماجه والحافظ في التلخيص (2122) .
تنبيه: قوله: «أعلنوا النكاح» هذه الجملة حسنها في الإرواء (1993) .
(2) أخرجه البخاري في العيدين/ باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين (987) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب الرخصة في اللعب ... (892) (17) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(3) أخرجه الإمام أحمد (5/353، 356) ؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (3690) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ وقال: حسن صحيح غريب.
وصححه ابن حبان (4386) ؛ والحافظ في التلخيص (2123) .(10/221)
وما عدا الدف من آلات الزمر، فالأصل فيه التحريم؛ لأنه داخل في العموم، وما عدا ذلك ـ أيضاً ـ من الأحوال التي رُخص فيها فإنه حتى الدف يكون حراماً؛ لأن ما خصص بحال يجب أن يتخصص بها.
إذاً المزمار من آلات العزف التي لا تباح بحال، وعلى هذا فيجب إتلافه، فإذا أتلفه متلف لم يكن عليه ضمان.
ولكن مَنْ الذي يُخاطَب في إتلافه؟
يخاطب في إتلافه من هو بيده، ويقال له: يجب عليك أن تكسر هذا.
فإن قال: أحرقه أو أكسره؟
قلنا: إن كانت مادته يمكن أن ينتفع بها في شيء مباح فلا تحرقه، يعني بحيث يحولها إلى صندوق من خشب أو ما أشبه ذلك فلا تتلفه؛ لأن هذا إنما حرم لا لأنه خشب لكن لكونه استعمل في حرام، فإذا كان يمكن أن يُحَوَّل إلى حلال فإنه لا يجوز أن يُتلف؛ لأن في ذلك إتلاف مال، وأما إذا كان لا يمكن الانتفاع به فإنه يحرق؛ لأن إحراقه أبلغ في التنفير عنه؛ ولئلا تدعوه نفسه فيما بعد إلى جمع المكسَّرات بعضها إلى بعض، حتى يُكوِّنَ منها مزماراً، ويدلنا على أن التحريق أبلغ وأنكى أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَرَّق نخل بني النضير (1) ولم يقطعه، مع أنه يمكن أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب قطع الشجر والنخل (2326) ؛ ومسلم في المغازي/ باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها (1746) عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/222)
تقطع وينتفع بجذوعها وينتفع بعُسْبها، لكنه حرَّقها؛ لأنه أبلغ في الإهانة.
إذاً يخاطب من هي بيده، ثم يجب على ولاة الأمور أن يكسروها ويتلفوها؛ لأنهم مسؤولون عن الأمة في هذا الشيء، وهم قادرون على أن يكسروها وليسوا عاجزين فيلزمهم أن يكسروها؛ لئلا يشيع المنكر في أمتهم، وهم إذا اتقوا الله ـ تعالى ـ في الأمة اتقت الأمة ربها فيهم، وإذا كان الأمر بالعكس صار الأمر بالعكس؛ لأن من أذل الخلق في طاعة الله أعزه الله بهذه الطاعة، وهذا شيء مُسلَّم؛ لذلك يجب على ولاة الأمور أن يكسروا هذه الآلات؛ لأنها ضرر على المجتمع عامة، وعلى الأمن وعلى الولاة أيضاً؛ لأن النفوس إذا أبعدت عن الخالق لم ترحم المخلوق، وهذه الأشياء تبعد الخلق عن الخالق؛ لأنها تلهي وتصد عن سبيل الله وعن ذكر الله وعن الصلاة.
وهل يجب على الواحد من الناس أن يكسر هذه المزامير؟
الجواب: لا؛ لأنه ليس له السلطة.
وهل يجوز أن يكسرها؟
يُنظر، إن كان يترتب على ذلك ضرر أكبر فإنه لا يكسرها، كما لو حصلت فتنة في تكسيرها بأن يقوم صاحبها على هذا وينازعه ويخاصمه وربما يحصل بينهما شر، فهنا لا يكسرها ولكن إذا سمعها يهرب منها، وإن لم يكن فتنة بحيث أتى على حين(10/223)
غفلة ووجدها وكسرها فلا بأس، لكن مع هذا إذا كان يخشى أنه يمكن أن يُتتبع حتى يُعرف ويحصل الشر والفتنة، فإنه لا يجوز له أن يكسرها فضلاً عن كونه يجب.
قوله: «وصليب» يعني كذلك كسر الصليب، والصليب هو عبارة عن خطين أحدهما قائم والآخر معترض، ادعت النصارى أن المسيح عيسى بن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قُتل وصلب عليه، ولعل ذلك ـ والله أعلم ـ لقوة اليهود وظهورهم عليهم ذَلوا أمامهم، وإلا فمن المعلوم أن النصارى يعظمون عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ، والذين ادعوا أنهم قتلوه وصلبوه هم اليهود كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *} [النساء] ولهذا يجب علينا نحن المسلمين أن نعتقد أن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يقتل ولم يصلب، ويجب علينا أن نعتقد أن اليهود باؤوا بإثم قتله وصلبه؛ لأنهم أقروا بأنهم قتلوه وصلبوه فباؤوا بالإثم لإقرارهم.
هذا الصليب تعظمه النصارى وتعلقه في أعناقها وترسمه على أبواب بيوتها وفي مجالسها وفي كل شيء، تعظمه بحجة أن المسيح ـ عليه الصلاة والسلام ـ قتل وصلب عليه، ونحن نرى أنه منكر عظيم؛ لأنه شعار كفر، وأنه مبني على كذب لا حقيقة له، والمبني على الكذب ـ والكذب باطل ـ يكون باطلاً.
فإذا كسر إنسان صليباً فإنه لا يضمنه؛ لأنه لا يجوز إقراره(10/224)
فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يدع شيئاً فيه صليب إلا نقضه (1) ، ولكن لو أتلفه ضمن، وهل يضمنه بقيمته صليباً أو بقيمته مكسراً؟ يضمنه بقيمته مكسراً؛ لأنه ليس له قيمة شرعاً.
ولكن هل للإنسان أن يكسر الصلبان التي ينصبها النصارى مثلاً؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس له ولاية حتى يمكن من كسر هذه الصلبان، ثم لو فرض أن النصراني أظهر الصليب وأعلنه في لباسه أو غير ذلك، فهنا يجب على ولاة الأمر في البلاد الإسلامية أن يمنعوهم من إظهار الصليب؛ لأنه شعار كفر، وهم يعتقدون تعظيمه ديناً يدينون لله ـ تعالى ـ به.
قوله: «وآنية ذهب وفضة» آنية الذهب والفضة إذا كسرها الإنسان فإنه لا ضمان عليه؛ لأن آنية الذهب والفضة ـ على المشهور من المذهب ـ حرام مطلقاً، سواء كان يستعملها صاحبها في الأكل والشرب أو للزينة أو لغير ذلك، بناءً على أن آنية الذهب والفضة يحرم استعمالها واتخاذها.
وهذه المسألة فيها خلاف، وظاهر السنة أن المحرم الأكل والشرب بها فقط دون بقية الاستعمالات ودون اتخاذها للزينة، اللهم إلا أن يكون هذا من باب السرف فينهى عن ذلك للإسراف لا لذاتها، ودليل هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها» (2) فلم يذكر إلا الأكل والشرب
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس/ باب نقض الصور (5952) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولفظه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه.
(2) أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الأكل في إناء مفضض (5426) ؛ ومسلم في الأطعمة/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء (2607) عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ.(10/225)
ولو كان المراد الأكل والشرب وغيرهما لقال: لا تستعملوا، ولو كان الاتخاذ بدون الاستعمال حراماً لقال: لا تتخذوا، فلا يمكن أن يدع النبي صلّى الله عليه وسلّم ما هو أعم، ويذكر ما هو أخص، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم؛ لأن الدليل لا بد أن يكون أعم من المدلول أو مساوياً له، حتى يمكن الاستدلال، أما إذا كان الدليل أخص فالشارع قد وسع للأمة، ويدل لهذا أن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وهي ممن روى النهي عن آنية الفضة خاصة، كان عندها جلجل من فضة ـ يعني مثل ما نسميه نحن (قارورة) حفظت فيه شعرات من شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان الناس يستشفون بهذه الشعرات، إذا مرض المريض صبت في هذا الجلجل ماءً ورجته بالشعرات واستشفى به الناس (1) .
بناءً على هذا القول ـ الذي هو ظاهر السنة وهو الراجح ـ نقول: لا يجوز كسر آنية الذهب والفضة إلا لمن يستعملها في الأكل والشرب؛ لأن الأصل في جواز كسر آنية الذهب والفضة وعدم ضمانها بالإتلاف أنها محرمة الاستعمال.
وعلى القول بجواز اتخاذها فإنه يضمنها إذا كسرها؛ لأنه حال بين صاحبها وبين أمر مباح له، ولكن هل يضمنها على أنها آنية تتخذ أو على أنها آنية تستعمل؟ يضمنها على أنها آنية مستعملة في غير الأكل والشرب.
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس/ باب ما يذكر في الشيب (5896) .(10/226)
قوله: «وآنية خمر غير محترمة» آنية الخمر إذا كسرها الإنسان فلا ضمان عليه؛ لأن فيها ما لا يضمن وهو الخمر، فإن الخمر لا يضمن، حتى لو كان يساوي آلافاً فأتلفه الإنسان فلا ضمان عليه؛ لأنه لا قيمة له شرعاً.
ولو قال قائل: ما شأن الآنية، الآنية تحفظ الخمر وغيره فهي تستعمل في الخمر وغيره؟ نقول: لأنه لما كان الخمر فيها ذهبت حرمتها لذهاب حرمة ما فيها فلا تضمن، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، ويدل لذلك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حرّق حانوت الخمار (1) ، وهذا أبعد من آنية الخمر، وقال بعض العلماء: إنه إذا كسر آنية خمر فهو ضامن؛ لأن الآنية محترمة ويمكن إتلاف الخمر دون إتلافها، إلا إذا لم يمكن إتلاف الخمر إلا بإتلافها، بناء على أن الأمر الذي لا يتم الأمر إلا به داخل في الأمر الذي أبيح، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأصل في مال المسلم أنه محترم.
وقوله: «غير محترمة» هذه صفة لخمر وليست صفة لآنية، وأفادنا ـ رحمه الله ـ أن الخمر المحترمة إذا كسر آنيتها فهو ضامن، فما هي الخمر المحترمة؟ هي خمر الذمي الذي يعيش في بلاد المسلمين بالجزية فخمره محترمة، بمعنى أنه لا يحل لنا أن نريق خمره التي يشربها لكن بدون إعلان، فإذا كان ذمي في بيته
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (10051) ولفظه عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف شراباً فأمر به فأحرق، وكان يقال له: رويشد، فقال: أنت فويسق.(10/227)
يشرب الخمر فلا يجوز لنا أن ندخل بيته ونكسر أوانيه أو نريق خمره؛ لأنه يعتقد حله ولم يعلن به فيكون محترماً كاحترام دم الذمي وماله، والخمر عند الذمي مال يباع ويشترى.
والمعاهد والمستأمِن حكمهما حكم الذمي؛ لأن المعاهد والمستأمِن قد عاهدهما المسلمون على أن لا يتعدى عليهما أحد، لكن لو أن الذمي أظهر الخمر وخرج إلينا بكؤوسه يشرب في أسواقنا، فهنا انتقض عهده ولم يكن له عهد، وخمره غير محترمة.
وذكروا ـ أيضاً ـ أن من المحترم من الخمر خمر الخلاَّل الذي يبيع الخل، فلو أنه في يوم من الأيام تخمر الخل إما لشدة الحر أو لسبب آخر فإن خمره محترم؛ وعللوا ذلك بأنه لو كان غير محترم لزم على الخلاَّل ضرر عظيم؛ لأن هذا ماله فيتضرر بهذا.
وهذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر تتخذ خلاًّ فقال: لا (1) ، وهذا الخلاّل سوف يحبس الخمر حتى تتخلّل، وربما يخلّلها هو بنفسه، ففيما قاله الأصحاب ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة نظر، فالله أعلم.
وكسر هذه الأشياء ينظر فيه للمصلحة إن كان الإنسان يمكن أن يقوم بذلك بدون ضرر فليفعل، مثل أن يكون المكان خالياً ولا يشاهده أحد فإنه يجب أن يكسرها، وإن كان يخشى ضرراً
__________
(1) سبق تخريجه ص (182) .(10/228)
فلا يفعل، مثل أن تكون حكومة جائرة إذا كسرت هذه الأشياء وقيل: إن الذي كسرها المسلمون سجنتهم ومنعت دعوتهم إلى الخير، فحينئذٍ نقول: لا يجوز أن تقدم على تكسيرها؛ لأن فيه ضرراً، أما إذا كان ولاة الأمور يفرحون بذلك ولم يكن ذلك على سبيل المنابذة فإن هذا قد يجب لما فيه من إزالة الإثم والعدوان.(10/229)
بَابُ الشُّفْعَةِ
وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ انْتِزَاعِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِمَّنِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ بِثَمَنِهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ العَقْدُ.....
قوله: «الشفعة» مأخوذة من الشَفْعِ وهو جعل الواحد اثنين وهو ضد الوتر، وسميت بذلك؛ لأن الشريك يضم نصيب شريكه إلى ملكه فلذلك صار كجعل الوتر شفعاً.
أما اصطلاحاً فيقول: «هي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه» يعني الحصة، مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فللشريك الذي لم يبع أن ينتزع من المشتري هذا النصيب قهراً عليه، ويضمه إلى ملكه، فتكون الأرض كلها للشريك الأول الذي لم يبع.
وقوله: «استحقاق انتزاع» الحقيقة أن في هذا التعريف نظراً؛ لأن الشفعة حقيقة انتزاع الحصة، وليس استحقاقاً؛ لأن هذا المستحق لو لم ينتزع لم تثبت الشفعة، لكن لا يستحق الانتزاع إلا بشروط، فالصواب أن يقال في التعريف: (الشفعة انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه ... إلخ) دون أن يقال: «استحقاق» ؛ لأن هناك فرقاً بين الاستحقاق وبين الانتزاع، ولهذا لو باع أحد الشريكين نصيبه فالشريك الأول مستحق، فإذا أجاز البيع ولم يأخذه فهل هناك شفعة؟ لا، إذاً التعريف ليس بجيد، والصواب أن يقال: «انتزاع حصة شريكه» .(10/230)
وقوله: «انتزاع» يفيد أن الأمر ليس اختيارياً وأنه ينزع منه قهراً، وهو كذلك.
وقوله: «حصة شريكه ممن انتقلت إليه» أفادنا المؤلف أنه لا ينتزع ملك جاره وأنه لا شفعة للجار، وسيأتي الكلام على ذلك ـ إن شاء الله ـ، لكن كلمة (شريك) تُخرج الجار؛ لأن الجار ليس بشريك.
وقوله: «ممن انتقلت إليه» يفيد أنه لا بد من نقل المُلك، فلو آجرها فإنه لا شفعة، مثال ذلك: رجلان شريكان في أرض أجَّر أحدهما نصيبه منها لشخص ثالث، فهنا لا شفعة للشريك؛ لأن ملكه لم ينتقل وإنما انتقل النفع فقط، حتى ولو طالت المدة كالصُّبرة المعروفة بالحكورة، وهي أن يؤجره الأرض دائماً وأبداً أو لمدة ألف سنة أو ما أشبه ذلك، فظاهر كلام المؤلف: أنه لا شفعة في هذا؛ لأن الملك لم ينتقل وإنما انتقل النفع.
قوله: «بعوض مالي بثمنه الذي استقر عليه العقد» «بعوض» متعلق بقوله: «انتقلت» ، وخرج به ما لو انتقلت بغير عوض، ولا فرق بين أن يكون انتقالها بغير عوض بملك قهري أو اختياري، فمثلاً: لو أن الشريك مات وله ابن يرثه، فهنا انتقل الملك إلى الابن بغير عوض، إذاً ليس لشريكه أن يُشَفِّع، وهذا الانتقال انتقال قهري، يعني أن الملك انتقل إلى الوارث قهراً، فيدخل في ملك الوارث قهراً عليه حتى لو أراد الوارث أن يتخلى وقال: أنا لا أريد نصيبي من التركة، فإنه لا يمكنه ذلك؛ لأن الله(10/231)
ملَّكه إياه، قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فلا يمكن أن يتخلى عن شيء ملَّكه الله إياه، فانتقال الملك بالإرث انتقال قهري لا يمكن للوارث أن يرفضه، فلو مات ميت عن ابنين فقال أحدهما: أنا غني ولا أريد الإرث، فهل يمكنه هذا؟ لا يمكن، ونقول: هو دخل عليك قهراً بتمليك الله له إياك.
فإذا انتقل بغير عوض على وجه اختياري كالهبة فظاهر كلام المؤلف ـ حسب المفهوم ـ أنه لا شفعة، مثال ذلك: شريكان في أرض وهب أحدهما نصيبه لشخص ثالث، فهل لشريكه أن يأخذ بالشفعة؟ على كلام المؤلف لا؛ لأنه انتقل بغير عوض لكن هذا الانتقال اختياري، فهو الذي قام بهبته، والصحيح أن فيها الشفعة؛ لأن الحكمة من إثبات الشفعة موجودة فيما خرج ملكه عن الشريك بالهبة، والحكمة إذا ثبتت فإنه لا عبرة باختلاف الصور، يعني إذا وُجدت الحكمة فسواء كان ببيع أو بهبة.
إذاً قوله: «بعوض» يخرج به ما انتقل بغير عوض وهو نوعان:
أحدهما: أن يكون الانتقال قهرياً مثل الميراث، فلا شفعة وهذا واضح؛ لأن الشريك لم ينقله باختياره.
الثاني: أن يكون انتقال الملك فيه بالاختيار كالهبة، فالمذهب أنه لا شفعة، والصحيح أن الشفعة ثابتة؛ لأن الحكمة من الشفعة موجودة في الهبة، إذ إن الحكمة من الشفعة إزالة ضرر(10/232)
الشريك الجديد عن الشريك الأول؛ لأنه قد يكون الشريك الجديد شكساً سيئ الخلق، فشرع الشارع الشفعة لإزالة هذا الضرر، ثم إن هذا الشريك الجديد قد لا يتلاءم مع الأول فتحصل المنازعات والخصومات والبغضاء، وهذا ما يريد الشرع البعد عنه.
وقوله: «بعوض مالي» يشترط أن يكون العوض مالياً فإن لم يكن مالياً فإنه لا شفعة، فالأعواض مالية وغير مالية، فالمالية كالنقود والثياب والسيارات وما أشبه ذلك، والعوض المالي يشمل الأعيان والمنافع، مثال الأعيان: إنسان باع ملكه على شخص بسيارات، فالعوض هنا مالي، وهو أعيان وليس بمنافع.
ومثال المنافع: إنسان استأجر بيتاً وأعطى صاحب البيت نصيبه من هذه الأرض مثلاً، فهنا العوض منفعة؛ لأنه أعطى نصيبه من هذه الأرض لشخص استأجر بيته واستوفى العوض منفعة؛ والمنفعة لا شك أنها من الأعواض المالية.
ولو أنه أعطاها مصالحة عن دم عمد كالقتل العمد فإن فيه القصاص، فهذا الشريك قتل شخصاً عمداً، فنقول: عليك القصاص، فتصالح هو وأولياء المقتول بأسقاط القصاص بعوض على قدر الدية أو أقل أو أكثر، فهل للشريك الأول أن يأخذ النصيب بالشفعة؟! لا؛ لأن العوض هنا ليس مالياً، العوض قصاص لقتل نفس فلا تُؤْخذ بالشفعة.
وقيل: بل تؤخذ بالشفعة ويأخذها الشريك بقيمتها التي تساوي عند الناس، وهذا القول أرجح؛ لأنها خرجت عن هذا(10/233)
باختياره، والذي نرى أنه كلما خرج الشقص بالاختيار فإن للشريك أن يأخذ بالشفعة، سواء كان العوض مالياً أو غير مالي، فإن كان العوض مالياً فواضح أنه يأخذه بعوضه، وإن كان غير مالي قُدِّر بقيمته في السوق.
وقوله: «بثمنه» الباء حرف جر، وكل مجرور فلا بد له من متعلق؛ لأن المجرور معمول لعامل، والمعمول لا بد له من عامل، كما أن المفعول به لا بد له من فعل ينصبه، فالمجرور ـ أيضاً ـ لا بد له من فعل يتعلق به، ولهذا قال ناظم القواعد:
لا بد للجار من التعلق
بفعل أو معناه نحو مرتقي (1)
على كل حال (الباء) في قوله: «بثمنه» متعلقها قوله: «انتزاع» فهي استحقاق انتزاع بالثمن، يعني أن الشريك يأخذ الشقص المبيع بالثمن لا بالقيمة.
واعلم أن هناك فرقاً بين القيمة والثمن عند أهل العلم، فالثمن هو ما وقع عليه العقد، والقيمة ما يساوي بين الناس، فمثلاً اشترى رجل بيتاً بعشرة آلاف، فالثمن عشرة آلاف، لكن هذا البيت يساوي بين الناس خمسة آلاف، فالقيمة إذاً خمسة آلاف، أو يساوي عشرين فالقيمة عشرون، فالثمن قد يساوي القيمة، وقد يكون أقل وقد يكون أكثر.
وقوله: «الذي استقر عليه العقد» فُهِم من كلام المؤلف أن العبرة بما استقر عليه العقد لا بما جرى به العقد، فمثلاً: لو أن
__________
(1) منظومة قواعد الإعراب.(10/234)
رجلاً اشترى حصة لشريك بعشرة آلاف ريال، وفي مجلس الخيار قال المشتري بعدما تم العقد: إنه غالٍ وأنا لا أريد أن آخذه إلا بتسعة آلاف فيأخذه الشفيع بتسعة آلاف، والعكس بالعكس، فلو باعه بتسعة آلاف وفي مجلس العقد قال البائع: إن الثمن قليل، وأريد أن يكون بعشرة وإلا فسخت العقد فوافق المشتري واشتراه بعشرة فيأخذه الشفيع بعشرة، فالعبرة بما استقر عليه العقد لا بما جرى به العقد؛ لأنه قد يزاد وقد ينقص في خيار المجلس أو خيار الشرط.
والدليل على ثبوت الشفعة حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم (1) ، وهذا القضاء قضاء حكم وتشريع، وذلك أن قضاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد يكون قضاء حكم وتشريع عام للأمة، وقد يكون قضاء مصلحة يتقيد بزمنه، مثال الأول: هذا الحديث الذي معنا، ومثال الثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالسَّلَب للقاتل في الجهاد (2) ، والسلب ما على الكافر المقتول من ثياب ونحوها، فهل قضاؤه بذلك قضاء حكم وتشريع أو هو قضاء عين ومصلحة؟ إن قلنا بالأول صار السلب للقاتل في كل حال سواء جعله له القائد أم لم يجعله، وإن قلنا بالثاني صار القضاء بالسلب للقاتل إلى الإمام أو قائد الجيش، لكن الشفعة قضاء حكم وتشريع عام.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشفعة/ باب الشفعة فيما لم يقسم ... (2257) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب الشفعة (1608) واللفظ للبخاري.
(2) أخرجه مسلم في المغازي/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل (1753) (44) عن عوف بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.(10/235)
فإذا قال قائل: كيف يؤخذ منه قهراً؟! وهل هذا إلا من أكل أموال الناس بالباطل؟! فيقال: معاذ الله أن يكون من أكل المال بالباطل؛ لأن أخذ المال بالباطل أن يأخذه الإنسان بغير حق، وهذا أخذه بحق جعله الشارع له.
فإذا قال قائل: إذاً ما وجه تسليط الشارع الشريك على هذا المشتري حتى ينتزع منه ملكه قهراً؟
فيقال: لما في ذلك من المصلحة، وعدم المضرة على المشتري؛ فالمشتري ليس عليه ضرر؛ لأن ثمنه الذي دفع سوف يدفع إليه، وليقدر أنه لم يشترِ، وأما انتفاء الضرر الذي يحصل بالشفعة فلأن هذا الشريك قد يكون شريكاً سيئ الشركة متعباً لشريكه يحوجه إلى النزاع والخصومة دائماً، فجعل الشارع للشريك أن يدفع ما يخشى من ضرره بالشفعة.
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه هي العلة وقُدِّر أن الشريك باع على رجل أحسن منه شركة، فهل تسقطون الشفعة؟
فالجواب: لا نسقطها؛ لأن ما ثبت بعلة خفية، فإنه يثبت ولو لم تتحقق العلة، ومثل ذلك القصر في السفر فإن علة القصر هي المشقة غالباً، فإذا زالت المشقة فلا يزول الحكم، بل للإنسان أن يقصر في السفر وأن يفطر ولو لم تكن مشقة، وهنا كذلك.
فَإِنِ انْتَقَلَ بَغَيْرِ عِوَضٍ، أَوْ كَانَ عِوَضُهُ صَدَاقاً، أَوْ خُلْعاً، أَوْ صُلْحاً عَنْ دَمِ عَمْدٍ فَلاَ شُفْعَةَ وَيَحْرُمُ التَّحَيُّلُ لإسْقَاطِهَا. .......
قوله: «فإن انتقل بغير عوض» فلو انتقل النصيب بميراث ـ مثلاً ـ فلا شفعة، مثاله: رجلان شريكان في أرض، مات أحدهما فانتقل نصيبه في هذه الأرض إلى ورثته، فهل للشريك أن(10/236)
يشفع؟ الجواب: لا؛ لأنه انتقل بغير عوض على وجه قهري.
مثال آخر: وهب الشريك نصيبه لشخص، فهل للشفيع أن يأخذه؟ على كلام المؤلف ليس له أن يأخذه؛ لأنه انتقل بغير عوض.
ولو تصدق الشريك بحصته على الفقراء فليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه انتقل بغير عوض، وكذا لو أوقفه على الفقراء فليس له أن يأخذه بالشفعة؛ لأنه انتقل بغير عوض، أما لو جعله أجرة، بأن كان الشريك عليه أجور كثيرة فقال لمن له الأجرة: أنا أعطيك نصيبي من هذه الأرض، فقبل، فهل للشفيع أن يشفع؟ نعم له أن يشفع؛ لأن الأجرة دراهم، فانتقلت بعوض.
ولكن القول الراجح أنه إذا انتقلت بغير عوض، فإن كان قهرياً فلا شفعة، وإن كان اختيارياً ففيه الشفعة، وبناء على هذا القول الراجح إذا انتقل بإرث، فهل للشريك أن يشفع على الورثة؟ لا؛ لأنه انتقل على وجه قهري.
ولو وهب الشريك نصيبه لشخص فهل لشريكه أن يشفع؟ على القول الراجح نعم له أن يشفع، ولكن كيف يكون الثمن؟ إذا قال الموهوب له: لا يمكن أن تأخذ مني ما ملكته بالهبة بدون عوض فنقول: تُقَدَّر قيمته من لدن أهل الخبرة فإذا قالوا: قيمته كذا، قلنا للشريك: إن أخذته بهذه القيمة فلك الحق وإلا فلا حق لك.
وقوله: «فإن انتقل» مقتضى السياق أن يقول: فإن انتقلت، لأنه قال: «انتزاع حصة» فأعاد الضمير على «حصة» باعتبار معناها لا لفظها.(10/237)
قوله: «أو كان عوضه صداقاً» يعني أن الشريك أصدق نصيبه زوجه، فهنا العوض غير مالي، لم يعتض عنه شيئاً مالياً، والعبارة فيها شيء من الركاكة، والتقدير: (وإن كان عوضه غير مالي بأن جُعِل صداقاً) يعني أن الشريك أصدق امرأته نصيبه من المشترك، فليس لشريكه أن يشفع؛ لأن هذا الشريك اعتاض عن حصته فرجاً كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لها المهر بما استحلَّ من فرجها» (1) فهنا يقول المؤلف: إنه لا شفعة.
ولكن القول الراجح أن له أن يشفع، وحينئذٍ بماذا يأخذه الشريك المشفِّع؛ لأن القيمة غير مالية؟ فهل نقول: يأخذه بالمالية، يعني بما يساوي في السوق فيُقَوَّم ويأخذه بذلك، أو يأخذه بمثل مهر المرأة؛ لأن هذا جُعِل مهراً؟ فيه قولان، والصحيح أنه يأخذه بقيمته، بمعنى أنه يقوَّم ويؤخذ بقيمته سواء زاد على مثل مهر المرأة أو نقص أو ساوى.
قوله: «أو خُلعاً» أي: جُعِلَ عوضاً في خلع، فالذي يبذل الصداق هو الزوج، والذي يبذل الخلع المرأة أو غيرها من الناس، فإذا جعل خلعاً بأن تكون امرأة شريكة لإنسان في أرض، وطلبت من زوجها المخالعة فخالعها على نصيبها من هذه الأرض، فعوض النصيب الآن غير مالي وهو فداؤها نفسها من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/47) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه ابن حبان (4074) ؛ والحاكم (2/168) وقال: «صحيح على شرط الشيخين» .(10/238)
هذا الزوج وفراقها إياه، فليس للشريك أن يشفع؛ لأن هذا النصيب أو هذه الحصة انتقلت بغير عوض مالي، والقاعدة عندنا أنه لا بد أن يكون انتقل بعوض مالي، وهذا ـ أيضاً ـ فيه خلاف.
والصحيح أنه يشفع؛ لأن القاعدة التي تظهر لي من السنة أنه متى انتقل الملك على وجه اختياري، ففيه الشفعة بأي حال من الأحوال.
وإذا قلنا: بأنه يشفع فكيف تكون القيمة؟ تكون بالتقويم، بمعنى أن نسأل أهل الخبرة كما يساوي هذا الشقص؟ فإذا قالوا: يساوي كذا وكذا أخذه الشفيع بذلك.
قوله: «أو صلحاً عن دم عمد فلا شفعة» دم العمد هو ما يثبت به القصاص، يعني أخذ عوضاً عن قصاص، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ شروط القصاص.
فالقتل ثلاثة أقسام: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
فتعريف العمد: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به.
وشبه العمد هو نفس العمد إلا أننا نبدل قولنا: (بما يغلب على الظن موته به) بكلمة أخرى فنقول: (بما لا يغلب على الظن موته به، أو بما يغلب على الظن أنه لن يموت به) فمثلاً: رجل ضرب شخصاً على رأسه بالساطور فمات فهذا عمد، وآخر ضربه بعصا صغيرة فمات فهذا شبه عمد، فقصد الجناية حاصل في العمد وشبهه، لكن الآلة في العمد تقتل وفي غير العمد لا تقتل.
والقتل الخطأ ليس فيه قصد، بمعنى أن الإنسان يفعل ما له(10/239)
فعله فيصيب آدمياً لم يقصده، مثل أن يرمي صيداً فيقع السهم على إنسان، فنسمي هذا خطأً.
فالقتل العمد يوجب القصاص، وشبه العمد والخطأ يوجب الدية، فإذا صُولح أولياء المقتول، وقيل لهم: نصالحكم عن قتل صاحبنا بكذا وكذا، أو صالح القاتل نفسُه أولياء المقتول بنصيبه من هذه الأرض، وأخذوا نصيبه من الأرض ثم عفوا عن القصاص، فهل لشريك المالك أن يشفع؟ على ما ذهب إليه المؤلف لا؛ لأن العوض غير مالي، فالقتل ليس بمال، وهو جعل هذا الشقص عوضاً عن القصاص فلا شفعة.
والقول الراجح ـ الذي رجحناه ـ أن فيه الشفعة، وتقدر قيمة هذا الشقص عند أهل الخبرة.
وعلم من قول المؤلف: «عن دم عمد» أنه إذا كان صلحاً عن دم شبه عمد أو خطأ فإنه يؤخذ بالشفعة، مثال ذلك: رجل قتل إنساناً خطأً أو شبه عمد، فالواجب عليه الدية، والدية مال، فصالح أولياء المقتول عن الدية بنصيبه من هذه الأرض فهنا للشريك أن يشفع؛ لأن نصيب القاتل انتقل إلى أولياء المقتول وعوضه مالي.
لكن هنا هل نأخذه بقيمة الدية التي صالح عنها، أو بقيمة الشقص؟ الثاني هو الصحيح، وقيل بالأول، فمثلاً نقول: إن دية المسلم مائة ألف وهذا الشقص أُخذ عوضاً عن مائة الألف، فإذا أراد الشفيع أن يأخذه قلنا: هو عليك بمائة ألف، وعلى القول الراجح أنه يؤخذ بقيمته فيسأل أهل الخبرة كم يساوي؟ فإذا قالوا: يساوي كذا وكذا قلنا: خذه.(10/240)
قوله: «ويحرم التحيل لإسقاطها» يعني يحرم على المشتري أن يتحيل لإسقاط الشفعة، والتحيل له صور كثيرة، فمن الحيلة أن يظهر أن ثمنها كثير، وما دام ثمنها كثيراً فإن الشريك لن يأخذ بالشفعة، فمثلاً يشتري الحصة بعشرة آلاف ويظهر أنه اشتراها بعشرين ألفاً، والشريك لا يريدها بعشرين ألفاً؛ لأن الثمن غالٍ، فهذا حرام، ومتى تبين أن الثمن عشرة آلاف فإن له أن يأخذها بالشفعة ولو طالت المدة؛ لأن حق المسلم لا يسقط بالتحيل.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن يظهر البائع أنه وهبها للمشتري، وسبق أن المذهب أن ما انتقل بغير عوض ليس فيه شفعة، فهذه حيلة لإسقاطها.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن يظهر المشتري أنه أوقفها، يعني من حين ما يشتريها يقول: هي وقف للمساجد، أو لطلبة العلم، أو لأولاده، فإذا أوقفها سقطت الشفعة؛ لأن انتقال الملك عن المالك إلى جهة لا يثبت فيها الشفعة ابتداءً يسقطها.
المهم أن التحيل لإسقاطها حرام والدليل:
أولاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» (1) .
ثانياً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها» (2) . فتحيلوا على المحرم.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ؛ ومسلم في الإمارة/ باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأعمال بالنية» (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه (2223) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الخمر والميتة (1582) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.(10/241)
ثالثاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» (1) قال شيخ الإسلام: إسناده جيد.
أما التعليل؛ فلأنه يتضمن إسقاط حق المسلم، وكل ما تضمن إسقاط الحقوق الواجبة فهو حرام لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (2) .
فإن قال قائل: ما هي الحيلة؟
قلنا: الحيلة هي أن يتوصل إلى شيء محرم بصورة ظاهرها الحل، والحيل في أي شيء محرمة، فكل حيلة على إسقاط واجب أو انتهاك محرم فهي حرام، وهي أبلغ من المخالفة الصريحة؛ لأنها تتضمن الوقوع في المخالفة الصريحة معنىً مع الخداع لله ـ عزّ وجل ـ والتلاعب بأحكامه، ولهذا قال أيوب السختياني ـ رحمه الله ـ: (إن هؤلاء ـ يعني المتحيِّلين ـ يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، ولو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون) .
إذاً الحيلة محرَّمة، والدليل الأحاديث التي سقناها، والتعليل أن المخادعة لله أعظم من المخالفة الصريحة؛ لأن المخادعة فيها
__________
(1) أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (24) ؛ وصححه شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (3/123) .
(2) سبق تخريجه ص (142) .(10/242)
نوع من التلاعب بأحكام الله ـ عزّ وجل ـ فهي ـ أي: الحيلة ـ أشد، والمتحيل فيه خصلة من خصال اليهود، كما أن المخلف للوعد فيه خصلة من خصال النفاق، ولهذا أيُّ إنسان مسلم يقال له: إن فيك خلقاً من أخلاق اليهود سوف يغضب ويثور، ولكنه قد يكون فيه هذا الخلق من حيث لا يعلم.
وإذا تحيل فهل تسقط؟
الجواب: لا تسقط، بل متى ظهر أن في الأمر حيلة فإن للشريك أن يشفع.
وَتَثْبُتُ لِشَرِيكٍ فِي أَرْضٍ تَجِبُ قِسْمَتُهَا، وَيَتْبَعُها الغِرَاسُ، وَالبِنَاءُ، لاَ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ فلاَ شُفْعَةَ لِجَارٍ،......
قوله: «وتثبت» أي: الشفعة.
قوله: «لشريك في أرض تجب قسمتها» «لشريك» مفهومه أن الجار لا شفعة له، وصرح به في قوله: «فلا شفعة لجار» .
وقوله: «في أرض» خرج بذلك الشريك في غير أرض كالشريك في سيارة، والشريك في دكان وما أشبه ذلك، فإنه لا شفعة فيما لو باع نصيبه على آخر.
وقوله: «تجب قسمتها» احترازاً من الأرض التي لا تجب قسمتها، ومعنى قوله: «تجب قسمتها» أنه إذا طلب أحد الشركاء القسمة قسمت إجباراً، وإلا فإن الأرض لا تجب قسمتها، فالشركاء متى شاؤوا قسموا ومتى شاؤوا بقوا على الشركة.
وفُهم من قوله: «تجب قسمتها» أن الأرض منها ما تجب قسمته ويجبر الشريك على القسمة، ومنها ما ليس كذلك، فما هو الضابط؟(10/243)
الضابط أنه إذا كانت الأرض تنقسم بدون ضرر، ولا رد عوض فالقسمة إجبارية، وإذا كانت لا تنقسم إلا بضرر، أو رد عوض فالقسمة اختيارية، مثال ذلك: رجلان بينهما أرض مقدارها عشرة أمتار في عشرة أمتار، فطلب أحدهما القسمة وأبى الآخر، فهل يجبر؟ لا يجبر على القسمة؛ لأنه إذا قسمت فسدت ولم تصلح لبناء شيء، فهذه ليس فيها شفعة.
المثال الثاني: رجلان بينهما أرض واسعة إذا قسمت لا يتضرر أحدهما بالقسمة، ويمكن أن يستفيد بنصيبه على الوجه الأكمل، فقسمة هذه إجبارية، فإذا طلب أحدهما أن تقسم وأبى الآخر أجبر على ذلك، فهذه فيها الشفعة، والأُولى ليس فيها شفعة.
على كلام المؤلف: أن الشريك في الأرض الأولى ـ وهي الأرض الصغيرة ـ إذا باع نصيبه على شخص، فهل لشريكه في هذه الأرض أن يشفع؟ المؤلف يرى أنه لا يشفع، والشريك في الأرض الواسعة إذا باع نصيبه فلشريكه أن يشفع، فأيهما أولى بالشفعة الثانية أو الأولى؟ الأولى أولى بالشفعة؛ لأن الأولى لا يمكن قسمتها، ولا يمكن التخلص من الشريك الجديد، والثانية يمكن أن يتخلص من الشريك الجديد بطلب القسمة وتقسم وينتهي الإشكال، ولهذا كان الأولى أن يقال: الأرض التي لا تجب قسمتها ولا تقسم إلا بالاختيار أولى بثبوت الشفعة من الأرض التي تقسم إجباراً، وهذا هو المعقول.
فإذا قال قائل: ما الدليل على ما اشترطه المؤلف؛ لأن(10/244)
قوله: «لشريك في أرض» يخرج الجار، وقد صرَّح به فقال: «فلا شفعة لجار» فما الدليل؟
قالوا: إن الدليل قول جابر ـ رضي الله عنه ـ: (قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم) (1) فمفهومه أن ما قسم ليس فيه شفعة، وإذا قسم صار الشريك جاراً، كأرض بين رجلين اقتسماها كانت في الأول مشتركة والآن صار الشريك جاراً، والحديث: (قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم) هذا المنطوق، ومفهومه لا شفعة فيما قسم، والنتيجة لا شفعة للجار؛ لأنه إذا كان الجار الذي كان شريكاً بالأول لا شفعة له، فالجار الذي ليس بينه وبين جاره شركة من باب أولى.
ولكن نقول: الاستدلال بهذا الحديث فيه نظر؛ لأنه يجب إذا استدللنا بالحديث أن نستدل به كاملاً، وإذا استدللنا بالحديث كاملاً لزم أن يكون الجار له شفعة في بعض الأحوال، وليس له شفعة في بعض الأحوال، يقول جابر ـ رضي الله عنه ـ: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) فالحديث بيَّن أنه إذا حصلت القسمة ورسمت الأرض بحدودها وصرِّفت الطرق، بأن كان هذا الجانب له طريق والجانب الآخر له طريق فلا شفعة، فيؤخذ من هذا أنهما لو اقتسما وبقي الطريق واحداً لم يُصرَّف فالشفعة باقية، وهذا هو القول الراجح، أن الجار له الشفعة في حال وليس له الشفعة في حال، فإذا كانت الطريق واحدة، أو الماء الذي يسقى به الزرع واحداً، أو أي شيء اشتركا فيه من
__________
(1) سبق تخريجه ص (235) .(10/245)
حق الملك فإن الشفعة ثابتة، وإذا لم يكن بينهما حق مشترك فلا شفعة، هذا هو القول الراجح في ثبوت الشفعة للجار، وعليه يحمل حديث: «الجار أحق بسقبه» (1) ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
وقال بعض العلماء: للجار الشفعة مطلقاً لحديث: «الجار أحق بسقبه» أي: بما جاوره.
وقوله: «لشريك في أرض» خرج بذلك الشريك في غير الأرض، كالشريك في السيارة، والشريك في السفينة، والشريك في السلع فإنه لا شفعة له، مثال ذلك: رجلان يملكان سيارة شركة، فباع أحدهما نصيبه على آخر فعلى المذهب لا شفعة؛ لأن الشركة في غير أرض، ولا بد أن تكون الشركة في أرض.
وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من قال كما قال المؤلف: لا شفعة في غير الأرض، ومنهم من قال: الشفعة في كل شيء إلا ما أمكن قسمته من المنقولات فإنه لا شفعة فيه؛ لإمكان قسمته من دون ضرر ككيس من البر ونحو ذلك، وهذا القول أرجح؛ لأن العلة التي ثبتت بها الشفعة للشريك في الأرض موجودة في الشريك في غير الأرض، فإذا كان شريكك في السيارة رجلاً طيباً سهلاً لا يعارضك في شيء، إذا احتاجت السيارة إلى إصلاح أصلحها، وإذا احتاجت إلى زيادة زادها، وإذا حصل عليها حادث تساهل في الأمر، ثم جاء هذا الشريك
__________
(1) أخرجه البخاري في الإجارة/ باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع (2258) عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ.(10/246)
الجديد وكان من أشكس عباد الله، فإذا خربت السيارة ـ مثلاً ـ فإنه يؤذيه في إصلاحها ولا يتساهل معه، فأيهما أولى، الشريك الأول الذي باع أو الشريك الجديد؟ الأول ولا شك، فيتضرر الشريك بهذا الشريك الجديد، والشفعة إنما شرعت لدفع ضرر الشريك الجديد، وعليه فالقول الراجح أن الشفعة تثبت في كل مشترك، سواء كان أرضاً، أم أوانِيَ، أم فرشاً، أم أي شيء.
وقوله: «تجب قسمتها» خرج به ما لا تجب قسمته كالدور الصغيرة، والأراضي الصغيرة وما أشبه ذلك فإنها ليس فيها شفعة، وتقدم قريباً، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى دليل، قالوا: الدليل حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ: «إذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق فلا شفعة» (1) ، ووقوع الحدود لا يمكن إلا في أشياء واسعة يمكن قسمتها، والجواب على هذا سهل؛ لأن قوله: «إذا وقعت الحدود» يشمل كل ما يمكن قسمته سواء كان إجبارياً أم اختيارياً، حتى الذي قسمته اختيارية يمكن أن تقع فيه الحدود وتصرَّف فيه الطرق، وعلى هذا فلا دليل في الحديث.
فالصواب إذاً أن الشفعة واجبة حتى في الأرض التي لا تقسم إلا اختياراً خلافاً لكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ.
قوله: «ويتبعها الغراس والبناء، لا الثمرة والزرع» يعني إذا شفَّع الشريك في أرض فيها غراس وبناء فإن الغراس والبناء يتبعها إذا كانت حين البيع موجوداً فيها الغراس والبناء، وأما الثمر والزرع فلا يتبع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر
__________
(1) سبق تخريجه ص (235) .(10/247)
فثمرتها للذي باعها» (1) فكما أن الثمر والزرع لا يتبع في البيع فكذلك لا يتبع في الأخذ بالشفعة، بل يكون لمن اشتراها، ولأن مدة الزرع والثمر لا تطول بخلاف الغراس والبناء فإن مدتهما تطول.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن تكون حين البيع مثمرة أو مزروعة، أو كان الثمر والزرع بعد ذلك، ولكن الصحيح أنه إذا كانت الثمرة موجودة حين البيع، وشفع الشريك والثمرة موجودة فإنها تتبع، وكذلك يقال في الزرع لما يلي:
أولاً: أن الثمرة فرع الغراس، والشجر والزرع فرع الأرض، ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
ثانياً: أنه قد يحدث ضرر ولو يسيراً، والدليل على هذا أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه وعن بيع الحب حتى يشتد (2) ؛ لئلا يحصل النزاع والخصومة بين البائع والمشتري.
ثالثاً: أننا إذا منعنا الشفعة في الثمرة والزرع صار في ذلك تشقيص على الشريك، وهذا قد يتضرر به وحتى المشتري قد يتضرر به؛ لأنه قد يقول: إن لم يحصل لي النصيب كاملاً فأنا لا
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب من باع نخلاً قد أبرت (2204) ؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه (1486) ؛ ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ... (1534) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/248)
أريد الثمرة ولا الزرع، وإذا قال الشريك الأول: أنا لا أريدها ـ أيضاً ـ صار في ذلك ضرر على المشتري، فإذا قلنا: إنها تتبع الأصل استرحنا من هذا الضرر.
أما لو كانت النخيل حين البيع ليس فيها ثمر ثم أثمرت بعد عند المشتري فإنها تكون للمشتري، لأنها نماء ملكه فإنه قبل أن يؤخذ بالشفعة للمشتري.
بقي سؤال يرد على المذهب، وهو أن الشريك إذا أخذ النصيب بثمنه الذي استقر عليه العقد، مع أنه سينزع منه الثمرة والزرع فسيكون فيه ضرر على الشريك؛ لأن الثمن الذي استقر عليه العقد هو قيمة للأرض والثمرة والغراس والزرع، فإذا قلنا: إن الشريك يلزمه الثمن كاملاً صار في ذلك ظلم عليه فماذا نفعل؟
نقول: نقدر ثمن الزرع والثمرة ويخصم من الثمن.
قوله: «فلا شفعة لجار» هذا مفهوم قوله: «وتثبت لشريك» ، وهذا هو المشهور من المذهب أن الشفعة لا تثبت للجار مطلقاً، وقد سبق.
وَهِيَ عَلَى الفَوْرِ وَقْتَ عِلْمِهِ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهَا إِذاً بِلاَ عُذْرٍ بَطَلَتْ. .....
قوله: «وهي على الفور وقت علمه» أي: الشفعة، وسبق أن الشفعة هي انتزاع الحصة، يعني أنه لا بد أن يبادر الشفيع في الأخذ بالشفعة، فيقول: شفَّعت، أو أخذتها بالشفعة أو ما أشبه ذلك، إلا أنهم استثنوا ما إذا كان مشغولاً بما لا يمكن معه المطالبة، كما لو علم ـ مثلاً ـ وهو على قضاء الحاجة، فلا يستطيع أن يشفع، أو جاءه الخبر وهو يتغدى أو يتعشى، فهذا لا يمكن أن يشفع.(10/249)
أما إذا جاءه وهو غائب فإنه إن لم يشهد على الأخذ بالشفعة سقطت شفعته، وعلى هذا إذا جاءه الخبر بأن شريكه قد باع وهو في مكان بعيد فإنه يشهد رجلين، أو رجلاً وامرأتين على أنه آخذ بالشفعة.
وقوله: «على الفور» قد يقول قائل: إن إلزامنا إياه أن تكون المطالبة على الفور فيه مشقة؛ لأن الشفيع ربما يقول: أعطوني مهلة أفكر في الأمر، أعطوني مهلة أنظر هل أحصِّل الثمن أو لا أحصِّله؟ فنقول: لا، لا مهلة لك، مع أن الشفعة حق من حقوقه لا يمكن أن يسقط إلا بما يدل على رضاه، لكنهم يقولون: إنها على الفور، وإن لم يطالب على الفور سقطت، والدليل حديث: «الشفعة لمن واثبها» (1) و «الشفعة كحل العقال» (2) أي: عقال البعير، يعني لا بد أن تكون بسرعة، لكن الحديثين ضعيفان لا يُحتج بهما ولا يمكن أن يتوصل بهما إلى إسقاط حق المسلم فلا اعتماد عليهما، وإذا لم يكن عليهما اعتماد رجعنا إلى الأصل، والأصل أن كل من ثبت له حق فإنه لا يسقط إلا بما يدل على رضاه؛ لأن هذا حق شرعي: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يقسم» فهذا قضاء نبوي لا يمكن أن يسقط إلا بما يدل على الرضا.
__________
(1) قال الحافظ في الدراية (2/203) : «لم أجده، وإنما ذكره عبد الرزاق من قول شريح» . انظر: مصنف عبد الرزاق (14406) .
(2) أخرجه ابن ماجه في الشفعة/ باب طلب الشفعة (2500) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال الحافظ في التلخيص (1278) : «إسناده ضعيف جداً» .(10/250)
وعليه فالقول الراجح الذي يتعين الأخذ به أن يقال: هي على التراخي لا تسقط إلا بما يدل على الرضا.
فإذا قال المشتري: إلى متى أنتظر، ما أدري متى يرضى أو لا يرضى؟ ففي هذه الحال نضرب له أجلاً مناسباً، فيقال للشريك الذي له الشفعة: لك ثلاثة أيام، أو لك يومان، أو لك أربعة أيام، حسب الحال؛ لأننا لو قلنا: لك إلى شهرين أو ثلاثة حتى ترضى، صار في ذلك ضرر على المشتري.
إذاً القول الراجح أنها ليست على الفور بل هي على التراخي ولا تسقط إلا بما يدل على الرضا، ووجه هذا القول أنه حق جعله الشارع للشريك فلا يسقط إلا برضاه.
ثم إنه ـ أي: الشريك ـ قد يحتاج إلى تأمل؛ لأن المشكل أنه لا بد أن يأخذها بالثمن، وإذا كان حالاًّ يأخذها بالثمن الحال، وقد لا يكون عنده دراهم في ذلك الوقت، فيحتاج إلى أن يطلبها من يمين أو يسار أو يستدينها أو ما أشبه ذلك:
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ بناءً على أنها على الفور:
«فإن لم يطلبها» الضمير «ها» يعود على الشفعة، والفاعل الشريك الذي هو الشفيع.
قوله: «إذاً» أي حال علمه «بلا عذر بطلت» .
وعلم من قوله: «بلا عذر» أنه لو كان معذوراً في الفورية، فإذا زال عذره فلا بد أن يطلب بها على الفور، فلو جاءه الخبر وهو على فراشه يريد أن ينام فهل نقول: لا بد أن تذهب إلى المشتري وتقول: أنا مطالب بالشفعة؟ لا، هذا عذر، لكن من(10/251)
حين أن يستيقظ ويقوم ويصلي الفجر يذهب إلى المشتري ويقول: أنا آخذ بالشفعة، فعلى هذا نقول: لا بد إذا زال العذر من أن يطالب بها على الفور.
وَإِنْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: بِعْنِي، أَوْ صَالِحْنِي، أَوْ كَذَّبَ العَدْلَ، أَوْ طَلَبَ أَخْذَ البَعْضِ سَقَطَتْ.
قوله: «وإن قال للمشتري: بعني» القائل الشفيع وهو الشريك، أي قال للمشتري: بعني أي: بع علي الذي اشتريت، سقطت شفعته؛ لأنه لم يطالب على الفور، وقوله: «بعني» إقرار للملك، أي: لملك المشتري، وإذا كان إقراراً لملك المشتري فلازم ذلك أنه لا يريد المطالبة بها.
قوله: «أو صالحني» فكذلك تبطل؛ لأن طلب المصالحة يؤخر المطالبة على الفور، ويدل على أن الشريك قد أقر بأنها ملك المشتري.
قوله: «أو كذب العدل» «كذب» الفاعل الشريك «العدل» أي: المخبر العدل، يعني أن الشريك أخبره رجل عدل وقال له: إن شريكك باع على فلان، فقال: كذبت، شريكي لا يمكن أن يبيع؛ لأن له رغبة في بقاء ملكه، فإن الشفعة تسقط؛ لأن الرجل عدل والأصل في خبر العدل أنه مقبول، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فعلم منه أنه إذا جاءنا عدل فإننا نقبل خبره.
وعلم من قوله: «أو كذب العدل» أنه لو كَذَّب الفاسق فلا تسقط الشفعة؛ لأن الفاسق لا يجب قبول خبره بل يتبين فيه، ولو كَذَّب الكذوب فمن باب أولى؛ لأن علة الكذوب هنا في إخباره، فيكون إخباره غير مقبول.(10/252)
قوله: «أو طلب أخذ البعض سقطت» أي: طلب الشريك أخذ البعض.
مثاله: شريكان في أرض لكل واحد منهما نصفها، فباع أحد الشريكين نصيبه على شخص، فقال الشريك: أنا لا أتحمل قيمة الأرض كلها، وأريد أن آخذ بعضها ولك البعض، فإن الشفعة تسقط؛ لفوات الفورية؛ لأنه لم يبادر، فلو أنه بادر وأخذ بالشفعة ثم طلب المصالحة أو المقاسمة فلا بأس، لكنه لما طلب المصلحة أو المقاسمة قبل الأخذ بالشفعة سقطت.
إذاً هذه المسقطات مبنية على أنه لا بد أن يطالب بها فور علمه، لكن ينبغي أن يقال: إن اللوازم التي ذكروها من أن طلب المصالحة، أو طلب البعض، أو ما أشبه ذلك، تدل على أنه أقر البيع، ينبغي أن يقال: إذا وقع هذا من عالم فنعم، وإن وقع من جاهل لا يدري، وقال: أنا أريد المصالحة دفعاً للمطالبة وكسر قلبه، وما أشبه ذلك، فإنه لا ينبغي أن تسقط الشفعة، فيفرق بين من يفهم ويعلم، وبين من لا يفهم ولا يعلم، فإذا قال: صالحني، أو نجعلها أنصافاً لك النصف ولي النصف، عن سلامة قلب وعدم معرفة، فينبغي أن لا تسقط الشفعة؛ لأنه في هذه الحال معذور، وكما عذروا من لم يطلبها على الفور بما عذروه به، فهذه مثلها.
والخلاصة: أن الشفعة حق للشفيع لا تسقط إلا بما يدل على رضاه، أما كونها حقاً للشفيع فهو قضاء نبوي: «قضى بالشفعة في كل ما يقسم» ، وأما كونها لا تسقط إلا برضاه؛(10/253)
فلأنها حقه، ولا يمكن أن تؤخذ الحقوق من أصحابها كرهاً.
وَالشُّفْعَةُ لاثْنَيْنِ بِقَدْرِ حَقَّيْهِمَا، فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا أَخَذَ الآخَرُ الكُلَّ أَوْ تَرَكَ. وَإِنِ اشْتَرَى اثْنَانِ حَقَّ وَاحِدٍ، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ اشْتَرَى وَاحِدٌ شِقْصَيْنِ مِنْ أَرْضَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ أَحَدِهِمَا.......
قوله: «والشفعة لاثنين بقدر حقَّيهما فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك» الشفعة لاثنين تستلزم أن يكون الشركاء ثلاثة، فتكون بقدر حقيقها لا بقدر الرؤوس، مثال ذلك: قطعة من الأرض بين ثلاثة شركاء، أحدهم له النصف، والثاني له الثلث، والثالث له السدس، فتكون مسألتهم من ستة، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث اثنان، ولصاحب السدس واحد، فإذا باع أحدهم صارت الشفعة لشريكيه.
فلنبدأ أولاً بالأكبر وهو صاحب النصف فإذا باع صاحب النصف نصيبه وهو ثلاثة رجعت إلى ثلاثة، فيكون الملك الآن أثلاثاً بين صاحب الثلث وصاحب السدس، وإذا باع صاحب الثلث، والثلث اثنان فيبقى أربعة، فيعود الملك أرباعاً بين صاحب النصف وصاحب السدس، وإذا باع صاحب السدس فيبقى خمسة، فيعود الملك الآن بين صاحب النصف والثلث أخماساً، لصاحب النصف ثلاثة، ولصاحب الثلث اثنان.
فإذا عفا أحدهما فنقول للثاني: إما أن تأخذ الجميع وإما أن تترك الجميع، ولنفرض أن الذي باع صاحب النصف فيبقى النصف، فإذا قال صاحب السدس: أنا لا أريد الشفعة ويكفيني نصيبي من هذه الأرض، فنقول لصاحب الثلث: إما أن تأخذ كل الثلاثة التي هي النصف ويكون لصاحب الثلث خمسة، ولصاحب السدس واحد، فإذا قال: ما أتحمل، قلنا: إذاً سقطت الشفعة.(10/254)
وإذا قال صاحب الثلث: أنا لا أريدها، فماذا نقول لصاحب السدس؟ نقول: خذ نصيب صاحب النصف، فيكون لك أربعة من ستة، فإذا قال: ما أتحمل، قلنا: إذاً لا شفعة، ولهذا قال: «فإن عفا أحدهما أخذ الآخر الكل أو ترك» .
وهذا الاشتراك يسمِّيه العلماء اشتراك تزاحم، بمعنى أنه إذا طلب كل واحد منهم حقه زاحم الآخرين، وإن أسقط حقه لزم الآخرين؛ لأن هذا الاشتراك اشتراك تزاحم، وإذا كان اشتراك تزاحم فإنه إذا طلب كل واحد حقه ازدحموا فيه، وإن عفا عاد إلى الآخرين.
قوله: «وإن اشترى اثنان حق واحد أو عكسه أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما» مثال الصورة الأولى: أرض بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الأرض على رجلين، فنقول: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد الرجلين دون الآخر؛ لأنه في هذه الحال لا ضرر على واحد منهما، إذ إن أحدهما أُخِذ حقه بالشفعة وهو حق للشريك، والثاني بقي حقه كاملاً، فيكون الملك الآن بين اثنين؛ لأن الثالث أخرجناه بأخذ نصيبه بالشفعة.
فإذا قال الذي لم يؤخذ نصيبه: في هذا ضرر عليَّ، نقول: ليس فيه ضرر عليك، أنت لك الربع من الأصل، والآن الربع باقٍ ولم يتجدد لك شريك، فالشريك الأول الذي لم يبع ما زال موجوداً.(10/255)
وهذا ربما يحتاج إليه الإنسان إما لكونه ليس عنده مال يدفعه للاثنين، وإما لكون أحد الشريكين سيئ العشرة والآخر طيب العشرة، وإما للعدوان على الشريك الثاني، فيريد أن يحرمه من الأرض، أو لأي سبب فله ذلك.
وقوله: «أو عكسه» مثال ذلك: اشترى واحد حق اثنين، إذاً الأرض بين ثلاثة أطراف، فباع اثنان حقهما على واحد، فللشفيع أن يشفع في نصيب واحد من شركائه دون الثاني، والتعدد الآن في البائع، فله أن يأخذ بنصيب أحدهما.
وقوله: «أو اشترى واحد شقصين من أرضين صفقة واحدة فللشفيع أخذ أحدهما» مثال ذلك: أرضان شركة لشخصين، فباع أحد الشريكين نصيبيه من الأرضين على واحد، فللشفيع أن يأخذ أحد الشقصين؛ لأنه الآن تعدد المعقود عليه، والصورتان السابقتان تعدد فيهما المشتري أو البائع، وهذا بخلاف ما إذا اشترك اثنان في شفعة فإننا نقول: إما أن تأخذا جميعاً بالشفعة وإلا فيسقط حق أحدكما، وهو اشتراك تزاحم.
والخلاصة: أن هذه المسألة لها أربع صور:
الأولى: اتحاد البائع والمشتري والمبيع، فإذا طلب الشفيع أخذ البعض لم يُمَكَّن وتسقط شفعته على المذهب.
الثانية: تعدد البائع، بأن يبيع رجلان نصيبيهما من أرض واحدة على رجل واحد، فهنا للشفيع أن يأخذ بأحدهما.
الثالثة: تعدد المشتري، بأن يبيع الإنسان نصيبه من أرض واحدة على شخصين، فللشفيع أن يأخذ من أحد الشخصين.(10/256)
الرابعة: تعدد الشقصين، أن يكون للشريك شركة في أرضين فيبيع شركته في الأرضين على شخص واحد صفقة واحدة فللشفيع الأخذ بالشفعة في إحدى الأرضين، فالصورة التي يمتنع فيها تبعض الشفعة هي الصورة الأولى.
وَإِنْ بَاعَ شِقْصاً وَسَيْفاً، أَوْ تَلِفَ بَعْضُ المَبيعِ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَلاَ شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ وَقْفٍ، وَلاَ غَيْرِ مُلْكٍ سَابِقٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ.
قوله: «وإن باع شقصاً وسيفاً أو تلف بعض المبيع» الفقهاء ـ رحمهم الله ـ دائماً يتلقون العبارات بعضهم عن بعض، فأول من مثَّل بهذا المثال قال: باع شقصاً وسيفاً، ونحن نقول: إن باع شقصاً وكتاباً، وهذا اللائق بطلبة العلم، وبالمجاهدين: شقصاً وسيفاً، وبالنجارين: شقصاً وباباً، وبأصحاب المعارض: شقصاً وسيارةً، إذاً نمثل لكل إنسان بما يناسبه، وضابط المسألة: إذا باع ما فيه الشفعة وما لا شفعة فيه، فالمراد بالشقص هنا الشقص الذي فيه الشفعة، والسيف ما لا شفعة فيه، فإذا باع في صفقة واحدة ما فيه الشفعة وما لا شفعة فيه يقول:
«فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن» وأما الآخر الذي ليس فيه شفعة فلا يأخذه بالشفعة، مثاله: رجل صاحب معرض بيع عليه شقص وسيارة، فللشفيع ـ وهو الشريك في الأرض ـ أن يأخذ بالشفعة في الأرض دون السيارة، وكيف ذلك؟ نقول: كم تساوي الأرض؟ قالوا: تساوي مائتي ألف، وكم تساوي السيارة؟ قالوا: خمسين ألفاً، فالثمن الآن يكون مائتين وخمسين، فنقول: خذ الأرض بمائتين والسيارة للمشتري، ولهذا قال: «فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن»(10/257)
ولم يقل: بحصته من القيمة؛ لأن الشفعة يرجع فيها إلى الثمن لا إلى القيمة.
وقوله: «أو تلف بعض المبيع فللشفيع أخذ الشقص بحصته من الثمن» بمعنى أنه باع أرضاً وسيفاً أو سيارة أو ما أشبه ذلك، وتلف البعض فللشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، أو أرضاً باعها وتلف بعضها، كما لو أخذها مَنْ لا تمكن مطالبتُهُ فللشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، ومثل ذلك لو كانت الأرض عليها غراس ثم تلف الغراس قبل الأخذ بالشفعة فللشفيع الأخذ بالشفعة في الباقي بقسطه من الثمن، مثال ذلك: أرض بين زيد وعمرو وفيها غراس، باع عمرو نصيبه من هذه الأرض، ثم تلف الغراس، ومن المعلوم أن القيمة سوف تنقص، فإذا قدرت الأرض بالغراس بعشرة آلاف ريال، وبدون غراس سبعة آلاف ريال، فيأخذ الشفيع النصيب بسبعة آلاف ريال؛ لأن بعض المبيع قد تلف فينقص من الثمن قدر قيمة التالف.
قوله: «ولا شفعة بشركة وقف» يعني لو كان الشريك نصيبه موقوفاً، وباع شريكه فإن الموقوف عليه لا يأخذ بالشفعة.
مثال ذلك: أرض بين اثنين وهي على أحدهما وقف وعلى الثاني طِلق وليست وقفاً، فباع صاحب النصيب الطلق، فهل لشريكه الموقوف عليه أن يشفع؟ يقول المؤلف: لا؛ لأن الملك في الوقف قاصر وغير تام؛ لأن الموقوف عليه لا يستطيع أن يبيع الوقف أو يرهنه، فملكه إذاً غير تام، وإذا كان غير تام فكيف(10/258)
نسلطه على أخذ مال المشتري؟! ولكن القول الراجح في هذه المسألة أن له الشفعة، أي: للشريك الذي نصيبه الوقف أن يأخذ بالشفعة؛ لأن العلة الثابتة فيما إذا كان الملك طلقاً هي العلة الثابتة فيما إذا كان وقفاً، بل العلة فيما إذا كان وقفاً أوضح؛ لأن هذا الوقف لا يمكن أن يتخلص منه الموقوف عليه، ولو كان طلقاً لكان إذا وجد الشريك الجديد سيئ المعاملة يبيع نصيبه وينتهي، فالشفعة في شركة الوقف أحق منها في شركة الطلق؛ لأن تضرر الشريك في الوقف أشد من تضرر صاحب الملك الطلق.
وأما قولهم: إنه غير تام، فيقال: هو تام باعتبار أن الموقوف عليه يملك الوقف، حتى عند الأصحاب ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن الوقف يملكه الموقوف عليه لكنه ملك قاصر.
وإذا كان له الشفعة وأخذ بها فهل يكون هذا النصيب تبعاً للوقف أو يكون ملكاً للموقوف عليه؟ الثاني، فهو ملك طلق للموقوف عليه، إلا إذا نوى أنه تبع للوقف فيكون تبعاً للوقف، وحينئذ نسأل هل الأولى أن ينويه للوقف أو يبقيه على ملكه؟ ينظر للمصلحة، فإذا كان في الوقف ريع كثير يتحمل ثمن هذا الشقص فالأولى أن يجعله للوقف؛ لأجل أن ينمو الوقف ويزداد، ولأجل أن لا يكون نزاع فيما إذا مات الموقوف عليه؛ لأن الموقوف عليه إذا مات لا ينتقل الوقف انتقال ميراث بل ينتقل حسب شرط الواقف.
فإذا قال قائل: إذا صار لنفسه فإن الشركة لم تنتفع، لأن الملك الآن ليس مصرفه واحداً؟(10/259)
قلنا: هذا حق، لكن لا شك أن كون الإنسان مشاركاً بنفسه لنفسه خير من كونه يتلقى شريكاً جديداً.
مثال آخر: زيد وعمرو شريكان في أرض قد أوقفاها، فباع عمرو نصيبه من هذه الأرض لسبب اقتضى بيعها، فإنه ليس لزيد أن يشفع؛ لأن شريكه لو وقف الأرض لم يكن له أن يشفع، فكذلك إذا باعها ـ وهي وقف ـ فليس له أن يشفع.
والصواب ـ أيضاً ـ أن له أن يشفع؛ لأن الوقف إذا بيع فقد انتقل بعوض مالي، والضرر الحاصل بالشركة الجديدة في الوقف أشد من الضرر الحاصل في الشركة الجديدة في الطِّلق؛ لأن شريك الطلق يستطيع التخلص ببيعه، وشريك الوقف لا يستطيع التخلص، فكان الأخذ بالشفعة بشركة الوقف أولى من أخذها بالشركة في الطلق.
والحاصل أن الشفعة ثابتة في الصورتين، وما استدل به المانعون لا يستقيم، بل الصواب العموم بدلالة الحديث: «قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل مالم يقسم» (1) ، وهذا عام في الشركة في ملك مطلق أو شركة وقف.
قوله: «ولا غير ملك سابق» يعني لا بد أن يسبق ملكُ الشريكِ الشفيعِ ملكَ المشتري، فلو اشترى اثنان حق واحد أو اشتريا أرضاً صفقة واحدة، فهل لأحدهما أن يشفع على الآخر؟ لا؛ لأن ملكهما ليس بسابق، فهما ملكا الأرض صفقة واحدة،
__________
(1) سبق تخريجه ص (235) .(10/260)
فإذا قال زيد لعمرو وهما المشتريان: أنا أشفع عليك، يقول عمرو: أنا أشفع عليك، فحينئذٍ نقول: لا شفعة لواحد على الآخر، وأنتما اشتريتما الأرض أو الشقص صفقة واحدة فتساويتما، فلا حق لأحدكما على الآخر، إذاً لا بد أن يسبق ملك الشفيع ملك شريكه.
ولو أن أرضاً بين اثنين كانت لأحدهما دون الآخر في الأول ثم اشترى نصفها منه، ثم إن المالك الأول باع نصيبه على آخر فإن الشفعة تثبت؛ لأن ملك البائع سابق على ملك المشتري وملك المشتري سابق على الملك الذي فيه الشفعة.
وقوله: «ولا غير ملك» فلا شفعة في شركة إجارة، كما لو استأجر رجلان بيتاً، فأجر أحدهما نصيبه، فإنه ليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه غير مالك للرقبة وإنما هو مالك للمنفعة، والملك للمؤجر الأول، والشفعة تثبت بانتقال الملك.
قوله: «ولا لكافر على مسلم» يعني لو كانت أرض بين مسلم ونصراني، فباع المسلم نصيبه على رجل مسلم، فهل للنصراني أن يشفع؟ يقول المؤلف: لا؛ لأننا لو مكنَّاه من الشفعة لسلطنا كافراً على مسلم، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ولو كان الشريكان كافرين وباع أحدهما على مسلم، فهل يأخذ شريكه الكافر بالشفعة؟ لا؛ لأن العلة واحدة، وهي إهانة المسلم.
وقال بعض أهل العلم: بل للكافر شفعة على المسلم؛ لأن الشفعة من حق التملك وليست من حق المالك، وإذا كان الكافر(10/261)
له الخيار ـ أي: خيار المجلس ـ ويمكن أن يفسخ العقد كرهاً على المسلم؛ لأن هذا حق ملك، فكذلك الشفعة.
وصورة المسألة الأخيرة: مسلم باع على كافر شيئاً فهل للكافر ما دام في مجلس الخيار أن يفسخ البيع؟ نعم له ذلك؛ لأن هذا من باب حق التملك فله أن يفسخ، حتى وإن كره المسلم؛ لأن هذا حقه وهذا مقتضى العقد، والشفعة حق، ومقتضى بيع الشريك على أجنبي أن يكون للشريك الأول حق الشفعة.
فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، ولو قلنا برجوع هذا إلى نظر الحاكم أي القاضي لكان هذا جيداً، ويظهر هذا بالقرائن، فإذا عرفنا أن الكافر سوف يفتخر بأخذ الشفعة من المسلم ويرى أنه علا عليه فحينئذ لا نمكنه، أما إذا علمنا أن الكافر مهادن وأنه لم يأخذ بالشفعة إلا لأنه مضطر إليها لمصلحة ملكه، فإننا نمكنه منها.(10/262)
فَصْلٌ
وَإِنْ تَصَرَّفَ مُشْتَرِيهِ بِوَقْفِهِ، أَوْ هِبَتِهِ أَوْ رَهْنِهِ لاَ بِوَصِيَّةٍ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ.
قوله: «وإن تصرف مشتريه» أي: مشتري الشقص.
قوله: «بوقفه» أي: تسبيله، يعني أنه حين اشترى الشقص وقفه، سواء على خاص أو على عام، فعلى الخاص، مثل أن يقول حين اشترى الشقص: هذا وقف على فلان أو على ذريتي، فإن الشفعة تسقط، والعام مثل أن يقول حين اشتراه: هذا وقف على الفقراء، فتسقط الشفعة؛ لأن الشقص انتقل بعقد لا تثبت به الشفعة؛ لأن الشفعة إنما تثبت فيما إذا انتقل بعوض مالي وهنا انتقل الملك إلى الوقف، والوقف ليس فيه شفعة، يعني لو أن أحد الشريكين وقف نصيبه من أرض مشتركة فليس لشريكه أن يشفع؛ لأنه انتقل ملكه بغير عوض مالي.
ومثل ذلك أن يصير الشقص وقفاً بمجرد الشراء، وذلك بأن يكون المال الذي اشتراه به المشتري بدلاً عن وقف بيع، مثال ذلك: أرض بين زيد وعمرو فاشترى بكر نصيب عمرو بدراهم هي عوض عن وقف باعه، فبمجرد شراء بكر لنصيب عمرو يكون وقفاً؛ لأنها عوض عن وقف، والعوض يثبت له حكم المعوض في الحال.
قوله: «أو هبته» يعني أن الذي اشترى الشقص وهبه لشخص آخر فتسقط الشفعة؛ لأنه لو انتقل الشقص بالهبة لم تثبت الشفعة، فإذا انتقل من المشتري إلى جهة أخرى لا تثبت الشفعة بانتقاله إليها فإن الشفعة تسقط.
قوله: «أو رهنه» يعني أن مشتري الشقص رهنه، مثاله: أرض بين شريكين باع أحدهما نصيبه على ثالث، فالثالث استدان(10/263)
من شخص وأرهنه نصيبه الذي اشتراه، يقول المؤلف: إن الشفعة تسقط؛ لأن الرهن ليس انتقالاً ولكنه إشغال، فالإنسان إذا رهن ملكه عند شخص فهل معناه أنه باعه عليه، أو وهبه له؟ لا، ولكن شغل الملك للتوثقة، أي: لتوثقة صاحب الدين، فليس انتقال ملك؛ هذا ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ.
والصحيح أنها لا تسقط بالرهن؛ لأن الملك لم ينتقل للمرتهن وهو المذهب، لكن يقال: إن أوفى الراهن دينه أخذ الشريك بالشفعة وإن لم يوفِ وبيع الرهن فحينئذ نرجع إلى انتقاله ببيع، وسيأتي ذكره إن شاء الله؛ وذلك لأن الرهن لم ينتقل به الملك فهو على ملك المشتري إنما تعلق به حق الغير، فإذا تعلق به حق الغير فإننا نبقي حق الغير وحق الشفيع، ونقول: ما دام مرهوناً لا يمكن أن تأخذه بالشفعة؛ لأنه مشغول، لكن إن أوفى المدين دينه صار الرهن طِلقاً ليس مرهوناً فخذه بالشفعة، وإن لم يوفِ وبيع فخذه أنت بأحد البيعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: بل يأخذه ولا ينتظر، وحينئذ ينفسخ الرهن ولا يكون للمرتهن حق في هذا المرهون؛ لأنه إنما رهن عينه وقد استحقت للغير فيبطل الرهن.
فإذا قال قائل: إذا بطل الرهن فهل للمرتهن أن يطالب الراهن بعوض عن ذلك الرهن؟ فالجواب: لا؛ لأن الرهن متعلق بعين المرهون وقد صارت مستحقة للغير، فهو كما لو رهن مغصوباً ثم أخذه مالكه فإن المرتهن لا يطالب بعوضه فينفسخ الرهن، ويبقى الدين في ذمة الراهن.(10/264)
ومثل ذلك لو آجر النصيب الذي اشتراه، فهل تسقط الشفعة أو لا؟ المذهب: أنها تنفسخ الإجارة ويأخذه بالشفعة، والصحيح أنها لا تنفسخ الإجارة وأنها باقية، ولكن للشفيع الأجرة من حين أخذه بالشفعة.
مثال ذلك: باع أحد الشريكين نصيبه على شخص ثالث، والشخص الثالث آجره فوراً، بأن قال لشخص: أجرتك نصيبي لمدة خمس سنوات، فالإجارة على المذهب تنفسخ؛ لأن حق الشفيع سابق على حق المستأجر.
القول الثاني: لا تنفسخ، وللشفيع الأجرة من حين أخذ بالشفعة، فإذا قدرنا أنه أخذ بها بعد شهر صارت بقية خمس السنوات أجرتها للشفيع؛ وذلك لأن المشتري آجر الشقص وهو على ملكه، فالإجارة صحيحة وهي عقد لازم، وإذا كان هذا الرجل تصرف تصرفاً مأذوناً فيه بعقد لازم، فإننا لا يمكن أن نضيع حق المستأجر، بل نقول للمستأجر: تبقى ولكن الأجرة من حين أخذ الشفيع تكون للشفيع، وهذا لا شك أنه أقرب إلى العدل.
قوله: «لا بوصية سقطت الشفعة» يعني لا إن تصرف مشتريه بوصية فإنها لا تسقط، فيكون المؤلف ـ رحمه الله ـ ذكر ثلاثة أشياء تسقط بها الشفعة، وذكر شيئاً واحداً لا تسقط به الشفعة.
مثاله: رجلان شريكان في أرض باع أحدهما نصيبه على شخص، ومن حين اشتراه الشخص أوصى به، بأن قال: أوصيت بنصيبي الذي اشتريت أن يكون وقفاً على طلبة العلم، فالشفعة لا(10/265)
تسقط؛ لأن الوصية لا ينتقل بها الملك إلا بعد موت الموصي، وقبول الموصى له إن كان معيناً أو جماعة يمكن حصرهم، وقبل الموت يكون الموصى به ملكاً للموصي، فإذا شفع الشريك انتقل الملك من نصيب الموصي إلى نصيب الشريك فتبطل الوصية؛ لأن محلها تعذر أن تنفذ فيه الوصية.
الخلاصة: أنه إذا تصرف المشتري فيما اشتراه تصرفاً ينقل الملك على وجه لا تثبت فيه الشفعة ابتداء فإن الشفعة تسقط، وإن تصرف فيه تصرفاً لا ينقل الملك فالشفعة باقية، مثل: الإجارة والوصية والعارية وما أشبه ذلك، حتى الرهن على القول الراجح ـ وهو المذهب ـ خلافاً لما قال المؤلف ـ رحمه الله ـ.
والقول الثاني في المسألة: أن هذا التصرف لا يبطل حق الشفيع حتى لو أوقفه المشتري أو وهبه أو جعله صداقاً، أو جعلته المرأة عوضاً عن خلع فإن ذلك لا يسقط حق الشفيع؛ لأن هذا الشقص انتقل من شريكه على وجه تثبت به الشفعة، فكان ثبوت الشفعة سابقاً على تصرف المشتري، وإذا تزاحمت الحقوق أخذ بالأسبق، فنقول: حق الشفيع سابق على حق المشتري فكان أحق بالتنفيذ من تصرف المشتري، وعلى هذا فإذا تصرف المشتري بوقفه ـ ولو على أناس معنيين ـ ثم أخذ الشريك بالشفعة فإن الوقف يبطل؛ لأن العين انتقلت إلى غير الواقف بحق سابق على الواقف.
كذلك في الهبة، إذا وهب المشتري الشقص، فإننا نقول: للشريك أن يأخذه بالشفعة؛ لأن حقه سابق على تصرف(10/266)
المشتري، فإذا أخذ بالشفعة بطلت الهبة، فهل للموهوب له أن يطالب الواهب بقيمة هذه الهبة؟
الجواب: لا يطالبه؛ لأنه لما أخذ بالشفعة انسحب الحكم على ما قبل الهبة، فصادفت الهبة شيئاً مملوكاً لغير الواهب.
ولهذا نقول: إن القول الراجح في هذه المسألة أنه إذا تصرف المشتري بهبته أو وقفه أو جعله صداقاً أو ما أشبه ذلك، فإن للشفيع أن يشفع.
وفي مسألة الهبة والوقف لا حق للموهوب له أو للموقوف عليه في الرجوع على الواهب أو الواقف، ولكن إذا جعله الزوج صداقاً، وقلنا بالقول الراجح وهو أن للشريك أن يشفع، فشفع، بطل كونه صداقاً، ولكن يُقوَّم الشقص وتعطى ما قُوِّم به.
فإذا قال قائل: أفلا ترجع إلى ثمن الشقص الذي أصدقها زوجها؟
فالجواب: لا؛ لأن الثمن قد يكون فيه محاباة من البائع فينقص عن القيمة، وقد يكون فيه محاباة من المشتري فيزيد على القيمة.
وإن تصرف فيه بنقل الملك على وجه تثبت به الشفعة ابتداءً فهو ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله:
وَبِبَيْعٍ فَلَهُ أَخْذُهُ بِأَحَدِ البَيْعَيْنِ وَلِلمُشْتَرِي الغَلَّةُ، وَالنَّمَاءُ المُنْفَصِلُ، وَالزَّرْعُ، وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ. فَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ فَلِلشَّفِيعِ تَمَلُّكُهُ بِقِيمَتِهِ، وَقَلْعُهُ، وَيَغْرَمُ نَقْصَهُ، وَلِرَبِّهِ أَخْذُهُ بِلاَ ضَرَرٍ.
«وببيع فله أخذه بأحد البيعين» يعني إن تصرف فيه ببيع، والفاعل المشتري، يعني أن المشتري باعه على آخر «فله» أي: للشفيع وهو الشريك الأول «أخذه» أي: أخذ الشقص «بأحد البَيْعَيْن» .(10/267)
مثاله: باع الشريك وهو زيد على عمرو نصيبه من الملك، ثم باع عمرو نصيبه على بكر، فعندنا الآن بيعان، بيع زيد على عمرو، وبيع عمرو على بكر، فبم يأخذ الشريك؟ أيأخذ بالبيع على عمرو، أم بالبيع على بكر؟ يقول المؤلف: «له أخذه بأحد البيعين» ، والغالب أنه سوف يأخذ بالأقل ثمناً، وقد يأخذ بالأكثر إذا كان هناك مماطلة.
فلو باع الشريك الذي هو زيد نصيبه على عمرو بمائة ألف، ثم إن عمراً باعه على بكر بمائتي ألف، فشريك زيد هنا يأخذ بالبيع الأول، فإذا أخذه بالبيع الأول سوف ينتزع ملكه من بكر وسيعطيه مائة ألف، فأين تذهب مائة الألف التي سلَّمها بكر؟ نقول: يرجع بها على من باع عليه وهو عمرو.
فإذا كان العكس بأن باعه زيد على عمرو بمائتي ألف، وعمرو باعه على بكر بمائة ألف، فالشريك الآن لا شك أنه سيأخذ بالثاني، فإذا أخذ بالثاني سوف يعطي بكراً مائة ألف، وبكر لن يرجع على أحد؛ لأنه لم يُضَمَّن شيئاً، سلَّم مائة ألف وأُخِذَ منه الشقص وأعطي مائة ألف.
المهم أنه إذا بيع فللشفيع أخذه بأحد البَيْعَيْن، وإن بيع ثلاث مرات أو أربع مرات فيأخذ بما يرى أنه أنسب له سواء كانت أول بيعة أو آخر بيعة أو ما بينهما، والرجوع كلٌ يرجع على من أخذه منه بما زاد على ما أعطي.
فتصرفات المشتري في الشقص تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: تصرف بلا عوض لا تثبت به الشفعة، وهو الوقف والهبة، والراجح ثبوت الشفعة.(10/268)
الثاني: تصرف بعوض ينقل الملك وهو البيع فله أخذه بالشفعة بأحد البيعين.
الثالث: تصرف بعوض لا ينقل الملك وهو الرهن والإجارة، والمؤلف يرى سقوط الشفعة بالرهن والإجارة، والصحيح أن ذلك لا يسقط الشفعة وأن للشريك أن يأخذ الشقص.
قوله: «وللمشتري الغلة» أي: لمشتري الشقص الغلة.
مثال ذلك: رجلان شريكان في عمارة وأجَّراها السنة بمائة ألف، ثم إن أحد الشريكين باع نصيبه على شخص، وخفي على الشريك أنه باع حتى مضى أربعة أشهر، فالغلة في هذه أربعة الأشهر للمشتري، وتعليل ذلك أنه نماء ملكه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخراج بالضمان» (1) فهو ملكه مضمون عليه فتكون له غلته.
قوله: «والنماء المنفصل» فله ـ أيضاً ـ النماء المنفصل، مثاله: رجل باع نصيبه من النخل قبل أن يثمر ولم يطالب الشريك إلا بعد أن خرجت الثمرة وجذها، فانفصلت الزيادة فتكون للمشتري؛ لأنها نماء ملكه.
قوله: «والزرع» فلو أن الشريك باع نصيبه على شخص،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/80، 116) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله (3508) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء فيمن يشتري العبد (1285) ؛ والنسائي في البيوع/ باب الخراج بالضمان (7/254) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب الخراج بالضمان (2242) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ؛ وصححه الترمذي؛ وابن حبان (4927) ؛ والحاكم (2/15) ، ووافقه الذهبي.(10/269)
وزُرِعت الأرض فالزرع للمشتري ما دام قد ظهر، أما إذا كان حباً مدفوناً في الأرض فإنه يتبعها، لكن إذا ظهر فإنه يكون للمشتري؛ لأنه برز وبان وتعلقت به نفسه، فيبقى في الأرض حتى الحصاد.
قوله: «والثمرة الظاهرة» تكون ـ أيضاً ـ للمشتري حتى وإن لم تؤبر، ففي هذا الموضع لم يفرقوا بين المؤبر وغير المؤبر، وجعلوا الثمرة الظاهرة نماءً منفصلاً.
ولكن الصحيح أنها إذا لم تؤبر فإنها تتبع قياساً على البيع، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها» (1) .
وعلم من قول المؤلف: «النماء المنفصل» أن النماء المتصل يتبع وليس للمشتري منه شيء، مثاله: اشترى نصيب زيد من النخل، والنخل ما زال غراساً صغيراً وبقي الشريك لم يعلم أن شريكه قد باع، ونما النخل وكبر، فهل هذا النماء للمشتري، أو ليس له؟ مفهوم كلام المؤلف يدل على أنه ليس له؛ لأنه نماء متصل مع أن المشتري تعب عليه، وخسر في إصلاح الأرض وحرثها وجلب الماء له، المهم أنه خسر عليه، ومع ذلك يقولون: ليس له شيء، لأن هذا نماء متصل فيتبع.
لكن القول الراجح ـ بلا شك ـ أن النماء المتصل كالمنفصل يكون لمن انتقل إليه الملك ولا فرق، وهذا هو
__________
(1) سبق تخريجه ص (248) .(10/270)
العدل؛ لأن الرجل تعب عليه، ونما بسبب عمله، ومثل ذلك الشاة في غير الشفعة إلا على القول الراجح إذا سمنت، فإن النماء المتصل يكون للمشتري.
إذاً الصواب خلاف مفهوم كلام المؤلف، وكلام المؤلف يدل على أن النماء المتصل يتبع العين وليس للمشتري شيء، والقول الراجح أنه لا يتبع، ولكن إن لم يمكن فصله فحينئذ تقدر قيمته للمشتري، بأن يقوَّم النخل وهو فسيل صغير ويقوَّم وهو كبير قد نما، فتقوَّم الأرض وفيها النخل على صفته حين البيع، ثم تقوَّم وفيها النخل على صفته حين الأخذ بالشفعة، والفرق بين القيمتين يكون للمشتري؛ لأنه قيمة النماء المتصل، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولا شك أن هذا هو العدل، فالعدل أن يعطى كل إنسان ما تعب عليه وعمل فيه، ويدل لهذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) فإن مفهومه أن العرق غير الظالم له حق، والمشتري عرق غير ظالم فله الحق.
قوله: «فإن بنى أو غرس فللشفيع تملكه بقيمته وقلعه ويَغرم نقصه» .
قول المؤلف: «فإن بنى أو غرس» يتنافى مع قوله فيما سبق إن الشفعة تكون على الفور، فكيف يكون بناء وغراس والشفعة على الفور؟! نعم قد يحصل ذلك بأن يكون هناك حيلة بأن يخفى على الشريك البيع، فيأتي المشتري وكأنه وكيل لشريكه ثم يعمل،
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/271)
والشريك يظن أن هذا وكيل ولا يدري أنه انتقل الملك، وبعد ذلك يعلم أنه انتقل الملك، فحينئذ يتصور أن المشتري يبني ويغرس، فإذا بنى أو غرس يخيَّر الشفيع بين أمرين: بين تملكه بقيمته أو قلعه ويغرم النقص، فإن اختار التملك فله ذلك، ولكن كيف نعرف قيمة الغراس والبناء؟ نقدِّر الأرض خالية منهما ثم نقدِّرها وهما فيها، والفرق بين القيمتين هو قيمة الغراس والبناء.
فإن قال قائل: لماذا لا نعطيه قيمة الغراس والبناء من أصله؟ نقول: هذا لا يستقيم؛ لأن الأمور قد ترخص وقد تزيد وقد تكون قيمة المواد قبل أن تُبْنى ويؤلف بينها شيئاً وقيمتها بعد البناء شيئاً آخر، والعدل هو أن تقوَّم الأرض خالية من الغراس والبناء، ثم تقوم وفيها الغراس والبناء، فما بين القيمتين يكون هو قيمة الغراس والبناء.
فإذا قال الشفيع: أنا أريد أن يبقى الغراس والبناء وأنا أعطيكم القيمة فإننا نقبل، وإن قال: أنا لا أريد أن يبقى الغراس والبناء؛ لأني أريد أن أبني الأرض على شكل آخر غير الشكل الموجود، فهل له الحق أن يقلعه؟ نعم له الحق، فإذا قال المشتري: هذه أدواتي وآلاتي، هذا حديدي، وهذا لَبِني، وهذه أبوابي فلا تتصرف فيها، نقول له: تصرف فيها واقلعها لكن تغرم النقص، فإذا قدرنا أن الأبواب واللبن نقصت بعد قلعها فإنه يضمن نقصها.
والغراس كذلك يضمن النقص فيه، فإذا نقصت الشجرة بعد قلعها يضمن نقصها، فإن كانت الشجرة بعد قلعها لا يمكن أن تنمو فإنه يضمنها كلها.(10/272)
فإذا قال قائل: لماذا تضمِّنونه النقص وفي الغصب لا تجعلون للغاصب حقاً؟ نقول: لأن المشتري غرسها وبنى بحق، أما الغاصب غرس وبنى بلا حق فلا شيء له، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) فمفهومه أن العرق غير الظالم له حق.
فإذا قال الشفيع: أنا أريد أن أهدم البناء وأقلع الغرس ولكن لا أضمن النقص.
قلنا: إذن تسقط شفعتك ولا حق لك، وتبقى الأرض والبناء والغراس للمشتري.
قوله: «ولربه أخذه بلا ضرر» إذا تعارض رأي المالك ـ أي: مالك الغراس والبناء ـ ورأي الشفيع، فالشفيع يقول: أنا أريد أن آخذها وثَمِّنُوها علي، وقال ربها: أريد أن آخذها، أنا لي مكان آخر وسوف آخذ هذا الغراس وأغرسه في مكانه، فالقول قول ربها؛ لأنه ملكه.
لكن المؤلف ـ رحمه الله ـ قيد هذا وقال: «بلا ضرر» ولا مضارة، ولا بد من هذا فإن كان هناك ضرر فإنه لا يمكن أن يزال الضرر بمصلحة؛ لأن أخذ ربها له مصلحة له، لكن يتضرر رب الأرض، ومن المعلوم أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما إذا علمنا أن صاحبها أي: المشتري يريد أن يأخذ الغراس والبناء مضارة لا لمصلحة، وهذا قد يقع، وإن كان قد لا ينتفع به، فيقول: أنا أريد أن أهدم البناء وأنا أعرف الآن أنني لا أنتفع
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/273)
بالحديد ولا اللبن، نقول: هذا سفه ولا يمكن أن نمكنك من السفه فإن الله يقول: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [النساء: 5] فنمنعه.
إذاً نمنعه في حالين:
الأولى:إذا كان على الأرض ضرر.
الثانية: إذا كان المشتري لا ينتفع بها، فنكون زدنا على كلام المؤلف: «بلا ضرر» إن كان يمكنه الانتفاع بها؛ لأنه إذا كان ضرر فإنه لا يمكن أن يقع الإنسان في ضرر لأجل مصلحة؛ لأن دفع الضرر مقدم على المصلحة.
وإن لم يكن ضرر، لكن يفسد هذا الغراس والبناء، فإننا لا نمكّن المشتري من ذلك؛ لأن هذا من باب إضاعة المال والسفه، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال (1) ، وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [النساء: 5] .
والغريب أن الأصحاب ـ رحمهم الله ـ يخالفون كلام المؤلف يقولون: له أخذه ولو تضررت الأرض ولو مع ضرر، لكن هذا القول ـ أي: المذهب ـ ضعيف، وهذا يدلنا على أن صاحب الكتاب لم يلتزم بالمذهب في جميع المسائل، وهذا كثير لمن تدبره، يعني لو أن أحداً تدبر هذا الكتاب منطوقاً ومفهوماً وإشارة لوجد فيه أشياء كثيرة تخالف المشهور من المذهب.
وَإِنْ مَاتَ الشَّفِيعُ قَبْلَ الطَّلَبِ بَطَلَتْ، وَبَعْدَهُ لِوَارِثِهِ، وَيَأْخُذُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ.
قوله: «وإن مات الشفيع قبل الطلب بطلت وبعده لوارثه» فإذا مات الشفيع ـ وهو الشريك الأول ـ قبل أن يطالب بالشفعة فإن الشفعة تبطل وليس لوارثه المطالبة بذلك، أما إذا كان بعد المطالبة فإن
__________
(1) سبق تخريجه ص (152) .(10/274)
الوارث يأخذ بها، والمطالبة أن يقول: أنا أريد أن أشفع، ولي الحق في هذا، والأخذ أن يقول: أخذته بالشفعة، فيصرح بأنه تملكه.
وهذا يشبه من بعض الوجوه الخِطبة والعقد، فالخطبة إبداء الخاطب الرغبة في هذه المرأة، والعقد تملكه إياها بعقد النكاح. فالشفيع إذا مات قبل أن يطالب فإنه لا شفعة له؛ لأنه لم يطالب، ولا لوارثه؛ لأن الشفعة حق للشفيع حيث إن الخيار له، فلما مات ولم يختر لم يكن لوارثه أن يختار، كخيار الشرط.
قالوا: لأنه يشبه مَنْ أَوْجَبَ البيعَ ثم مات قبل قبول المشتري، فإن الإيجاب يبطل، قالوا: وكذلك الشفعة تبطل إذا مات قبل أن يطالب.
ولكن هذا القياس ليس بصحيح؛ لأنه إذا مات الموجب قبل القبول لم يتم البيع، فإن العقد لا يتم إلا بإيجاب وقبول، أما هذه المسألة فإن الشفعة ثبتت بمجرد بيع الشريك، فصارت حقاً للشفيع، وهي متعلقة بالمال لا ببدنه فإنها تبقى لمن ورث المال بعده، ونظير ذلك لو اشترى الإنسان شيئاً وتبين فيه عيب، ولكنه مات قبل أن يطالب به، فللورثة المطالبة به، مع أن صاحب السلعة ـ المشتري ـ لم يطالب، ولكننا نقول: لمّا لم يسقط حقه فإن الرد بالعيب متعلّق بماله الذي ورث من بعده.
فالقول الراجح في هذه المسالة أنه ينتقل حق المطالبة بالشفعة إلى الوارث؛ لأن هذا تابع للملك، فإذا مات الشفيع ولم يطالب فللوارث أن يطالب؛ لأن هذا من حقوق الملك، وإذا كان من حقوق الملك فإن الملك ينتقل بحقوقه، ولهذا نجد(10/275)
في وثائق البيع قولهم: فصار المبيع ملكاً للمشتري بجميع حقوقه وحدوده، ومنها الأخذ بالشفعة، وهذا هو الصواب؛ لأنه حق ثابت فيورث عن الميت كما يورث المال، وكما تورث بقية الحقوق.
قوله: «ويأخذ بكل الثمن» (يأخذ) الضمير يعود على الشفيع وليس على الوارث، يعني من أراد أن يأخذ الشقص بالشفعة فإنه يأخذه بكل الثمن بدون مماكسة، وبدون أن يحاول تنزيل شيء من الثمن، فإذا كان المشتري ـ مثلاً ـ اشتراه بألف فيقال للشفيع: خذه بألف، فإذا قال: أنا آخذه بتسعمائة قلنا: سقطت شفعتك ولا تأخذه بأقل من ألف، نعم لو تم الأخذ ثم قال الشفيع للمشتري: أريد أن تسقط عني مائة من الألف فهذا جائز، لكنه ـ أيضاً ـ لا ينبغي للشفيع أن يسأل المشتري إسقاط شيء؛ لأن هذا من المسألة المذمومة، ولأنه قد يُحرِج المشتري فيضع من الثمن وهو لا يريد ذلك.
وأفادنا المؤلف بقوله: «بكل الثمن» أنه يأخذه بالثمن لا بالقيمة.
قوله: «فإن عجز عن بعضه سقطت شفعته» قوله: (إن عجز) الفاعل الشفيع، فإذا قال: أنا ليس عندي إلا تسعة آلاف، والثمن عشرة آلاف، سقطت الشفعة؛ لأننا لو قلنا بثبوت الشفعة مع إعساره ببعض الثمن صار في ذلك ضرر على المشتري، والمشتري سيُؤخذ منه الملك قهراً، فنضرُّه من جهتين، من جهة أننا أخذناه منه قهراً، ومن جهة أننا عاملناه بالأشد من جهة الثمن.(10/276)
وظاهر قول المؤلف: أنه لا فرق بين أن يأتي برهن محرز أو كفيل مليء أو لا يأتي بشيء، ووجه ذلك أن المؤلف لم يستثن شيئاً.
وَالمُؤَجَّلُ يَأْخُذُهُ المَلِيءُ بِهِ، وَضِدُّهُ بِكَفِيلٍ مَلِيءٍ.
قوله: «والمؤجل» صفة لموصوف محذوف، والتقدير الثمن المؤجل.
قوله: «يأخذه» الفاعل يعود على الشفيع وهو الشريك.
قوله: «المليء به» المليء هو القادر على الوفاء بماله وقوله وبدنه.
القادر بماله: بمعنى أن يكون عنده مقدار الثمن، والقادر بقوله: أن لا يكون مماطلاً، والقادر ببدنه: أن يمكن إحضاره لمجلس الحكم، إذا دعت الحاجة إلى المحاكمة.
فمثلاً: إذا قُدِّر أن الشفيع فقير والثمن مؤجل، بأن يكون الشريك باع هذا الشقص بألف ريال إلى سنة، فأراد الشريك أن يأخذ الشقص المبيع، نقول: إذا كان مليئاً يأخذه بثمنه المؤجل، فإذا كان يحل بعد سنة أخذه المليء لمدة سنة، فإذا كان الشفيع فقيراً وقال: الثمن لم يحل، وسوف يرزقني الله ـ عز وجل ـ في هذه المدة وأوفي، نقول: نعم إن الله على كل شيء قدير لكن هات كفيلاً يضمن، ولهذا قال:
«وضده بكفيل مليء» فإذا حل الأجل ولم يسلم الشفيع أخذنا من الكفيل، فإذا كان الكفيل معسراً سقطت الشفعة، وإذا كان الشفيع غنياً وعنده مال لكنه معروف بالمماطلة؛ فالمماطل كالمعسر تماماً، وإن كان المماطل يمكن لصاحب الحق أن يطالبه(10/277)
ويحبسه، لكن المشتري يقول: هذا رجل معروف بالمماطلة فلا أقبل منه، إلا إذا أقام كفيلاً مليئاً.
ويشترط ـ أيضاً ـ أن يكون المشتري الذي سيؤخذ منه الشقص قادراً على مطالبته ـ أي: مطالبة الشفيع ـ، فلو فرض أن الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم والثمن مؤجل، بأن يكون الشريك باع نصيبه على شخص بألف ريال إلى سنة، فأراد الشفيع أن يأخذ الشقص بثمنه المؤجل، وكان هذا الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم، فماذا يكون الحكم؟ نقول: أقم كفيلاً مليئاً تمكن مطالبته وإلا فلا شفعة لك، ومن المعلوم أن مثل هذا المليء المماطل لكونه ذا سلطان لا يمكن لأحد أن يجرأ عليه فيقول: أقم كفيلاً، فهذا شيء متعذر حسب العادة، فللمشتري أن يمنع من أخذه بالشفعة؛ وذلك لأنه لا يمكنه مطالبته عند حلول الأجل، ولا يمكنه أن يطالبه بكفيل مليء.
كذلك إذا كان المشتري لا يمكن أن يطالب الشفيع لكونه أباه؛ لأن الابن لا يمكن أن يطالب أباه إلا بنفقته الواجبة، فإذا كان له على أبيه دَيْن فإنه لا يمكنه مطالبته، حتى لو طالبه عند القاضي، فالقاضي لا يسمع دعواه، إلا في شيء واحد وهو النفقة الواجبة. فإذا كان الشفيع أباً للمشتري وقال المشتري: لا يمكن أن يأخذه أبي؛ لأن أبي لا يمكنني مطالبته، فهل نقول: إن له أن يمتنع، أو نقول: إذا كان الأب يتملك من مال ولده ما شاء فليس لولده أن يمتنع؟ الثاني؛ لأنه لو فرض(10/278)
أن الأب قال: أنا لا أريد أن آخذه بالشفعة، أنا أريد أن آخذه بالتملك، أيملك هذا أو لا؟ يملكه، فإذا أخذه بالشفعة زاد الابن خيراً؛ لأنه إذا أخذه بالشفعة فسوف يدفع الثمن، ولا يأخذه بالقوة.
إذاً يشترط بالإضافة إلى قولنا: إن المليء هو الذي يقدر على الوفاء بماله وحاله، أن لا يلحق المشتري ضرر؛ لكونه لا يستطيع مطالبته، والمثال الذي لا يتوجه عليه اعتراض هو أن يكون الشفيع من ذوي السلطان الذين لا تمكن مطالبتهم.
وقوله: «وضده بكفيل مليء» أي: ضد المليء، يعني إذا كان الشفيع غير مليء والثمن مؤجلاً، فللشفيع أن يأخذه ولو كان فقيراً بشرط أن يقيم كفيلاً مليئاً، وهنا نقول: هل المراد الكفيل بالبدن أو الكفيل بالمال؟ الثاني: لأنه أنفع، فهو يلتزم بإحضار الدين، وعلى هذا فالكفالة هنا بمعنى الضمان.
ومرّ فيما سبق أن الضمان والكفالة بينهما فرق، لكن هنا المراد بالكفالة الضمان، الذي يسميه العامة عندنا (كفيلاً غراماً) يعني أنه ضامن.
وَيُقْبَلُ فِي الخُلْفِ مَعَ عَدَمِ البَيِّنَةِ قَوْلُ المُشْتَرِي، فَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ أَخَذَ الشَّفيعُ بِهِ وَلَوْ أَثْبَتَ البَائِعُ أَكْثَرَ.
قوله: «ويقبل في الخُلْف مع عدم البينة قول المشتري» يعني إذا اختلف الشفيع والمشتري فقال الشفيع: قيمة الشقص ألف، وقال المشتري: بل قيمته ألف ومائة، فالقول قول المشتري؛ لأن المشتري غارم إذ أنه سيؤخذ منه الشقص ـ لو قبل قول الشفيع ـ بأقل مما غرم، فيكون القول قول المشتري، ولأن أخذه منه عن طريق التملك القهري، وإذا كان مأخوذاً منه قهراً فإن المرجع في(10/279)
تقدير ثمنه إليه، ولهذا يجوز له أن يمنع الأخذ بالشفعة إلا إذا سلم الشريك الثمن.
لكن لو كان هناك بينة على أن البيع بألف، فالقول ما شهدت به البينة، وهنا يجب أن ننتبه إلى شيئين:
الأول: كل من قلنا القول قوله فلا بد من يمينه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، ولاحتمال صدق خصمه.
الثاني: أن لا تكون دعواه مخالفة للعرف، فإن كانت مخالفة للعرف سقطت، فلو ادعى المشتري في المثال الذي ذكرنا أن قيمة الشقص عشرة آلاف وهو لا يساوي إلا ألفاً فالقول قول الشفيع، وهذا ـ أيضاً ـ إذا أمكن؛ لأن كل دعوى لا تمكن غير مقبولة، فإذا كان هذا الشقص لا يساوي عشرة آلاف، ولا يساوي إلا ألفاً فالقول قول الشفيع ويحلف، وإذا كان يساوي خمسة آلاف فهنا لا نقبل قول الشفيع ولا قول المشتري؛ لأن المشتري زاد خمسة آلاف على المعتاد، وهذا نقص أربعة آلاف عن المعتاد فلا يقبل.
قوله: «فإن قال» أي: المشتري.
قوله: «اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر» بأن قال البائع للمشتري: قد بعته عليك بألفين وأقام
__________
(1) سبق تخريجه ص (187) .(10/280)
بينة، فهنا يثبت على المشتري ألفان، بمقتضى دعوى البائع الثابتة بالشهود.
بقي علينا هل يثبت على الشفيع ما ثبت على المشتري ونقول: يجب على الشفيع أن يدفع ألفين، أو نقول: لا يلزم الشفيع إلا ما أقر به المشتري وهو ألف؟ يقول المؤلف: «فإن قال: اشتريته بألف أخذ الشفيع به ولو أثبت البائع أكثر» لماذا؟ لأن البائع لما أثبت أنه بألفين بالشهود أي بالبينة، لزم المشتري ما شهدت به البينة، أما بالنسبة للشفيع، فالشفيع يقول: أنا لا يلزمني إلا ما أقر به المشتري، والمشتري أقر بأنه بألف فلا يلزمني أكثر مما أقر به، وكيف يعطيه ألفين وهو يقول: إني اشتريته بألف؟!
فصار لدينا حقان:
الأول: حق البائع على المشتري وثبت أنه ألفان.
الثاني: حق المشتري على الشفيع وثبت بأنه بألف بإقرار المشتري، وهنا تتبعض الأحكام؛ لاختلاف أسبابها، ولكن لو قال المشتري: أنا نسيت أو غلطت، أو أنا رجل لا أدري عن تجارتي، تجارتي بيد عمالي فظننت أنه بألف فقلت: بألف، فهل يقبل قوله في هذه الحال أو لا يقبل؟ لا يقبل؛ ويقال: إن غلطك على نفسك وإن جهلك على نفسك وإن نسيانك على نفسك ولا نقبل قولك، لا عذر لمن أقر، وهذا هو المشهور من المذهب أنه يرجع إلى إقراره ولو ثبت بالبينة أن البيع كان بأكثر مما أقرّ به، والقول الثاني: أنه إذا ثبت بالبينة أنه بأكثر وجب الأخذ به، وهذا القول تطمئن إليه النفس؛ لأن النسيان والغلط واردان.(10/281)
فإن ادعى نسياناً أو غلطاً ولم تكن بينة تدل على أنه ناسٍ أو غالط فهل يقبل قوله؟ المذهب لا يقبل، والقول الثاني: أنه إذا كان معروفاً بالصدق وكان ما ادعاه أقرب إلى موافقة القيمة مما أقرّ به فإن القول قوله بيمينه.
فإن ادعى غلطاً أو نسياناً وليس معروفاً بالصدق، أو ادعى غلطاً أو نسياناً لكن ادعى قدراً بعيداً عن القيمة فإنه لا يقبل قوله، فإن صدقه الشفيع قبل قوله ولا إشكال؛ لأن الحق له.
وقوله: «ولو أثبت البائع أكثر» فإن أثبت البائع أقل ـ عكس المسألة ـ فقال: اشتريته بألف، وأثبت البائع أنه بثمانمائة، فماذا نقول؟ نقول: إنه هنا يأخذه الشفيع بما أثبته البائع؛ لأنه ظهر كذب المشتري أو غلطه أو جهله.
وَإِنْ أَقَرَّ البَائِعُ بِالبَيْعِ وَأَنْكَرَ المُشْتَرِي وَجَبَتْ. وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى المُشْتَرِي، وَعُهْدَةُ المُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
قوله: «وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري وجبت» أي: الشفعة فإذا قال البائع لشريكه: إني بعت نصيبي على فلان، وقال فلان: لم أشتره منك، يقول المؤلف: «وجبت» أي: الشفعة؛ لأن البائع أقر بأن الملك انتقل إلى المشتري، وبإقراره تثبت الشفعة، ولا نلزم المشتري بذلك؛ لأنه ليس عند البائع إلا الدعوى أما لو أقام بينة بأنه باعه فالأمر واضح.
فصار في كلام البائع إقرار ودعوى، إقرار بالنسبة للشفيع، ودعوى بالنسبة للمشتري، فالمشتري، يقول: أبداً أنا ما اشتريت، فالمشتري بريء وليس عليه شيء حتى يقيم البائع البينة، والصواب أن نقول في التعبير: المدعى عليه الشراء؛ لأنه لم يثبت أنه مشترٍ فلا شيء عليه، ولكن تثبت الشفعة، فيقال للبائع: بكم بعت؟ فإن(10/282)
قال: بعت بألف، فإن الشفيع يأخذه بألف.
قوله: «وعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع» أصل العهدة ما يتعهد به الإنسان لغيره، والمراد بها ما يترتب على العقد؛ وذلك لأن المتعاقدين قد تعهد كل منهما للآخر بما يقتضيه ذلك العقد، وهي ما نعرفه بالمسؤولية التي يطالب بها الإنسان، فمسؤولية الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع، يعني لو ظهر أن الشقص مغصوب، أو أنه ملك لغير البائع، أو ما أشبه ذلك، أو أن البائع باعه على شخص ثم باعه مرة أخرى ـ وهذا ربما يقع ـ فالعهدة على من؟
عندنا ثلاثة: بائع ومشترٍ وشفيع، عهدة الشفيع على المشتري، فالشفيع لا يبحث إلا عن المشتري، فلو ذهب إلى البائع وقال: وجدت أن الأرض فيها عيب أو أن الأرض مملوكة، أو أن الأرض مرهونة، فهل يملك الشفيع أن يطالب البائع؟ لا، سيقول البائع له: عهدتك على المشتري، أنا ما بعت عليك، إذاً عهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع.
ولو أن الشفيع طالب البائع بالعهدة فإنه ليس له حق، إلا في مسألة مرَّت علينا، وهي إذا أقرّ البائع بالبيع وأنكر المشتري، فهنا عهدة الشفيع على البائع؛ لأن المشتري لم يثبت أنه اشترى، فعليه يحتاج أن يستثنى من هذا، فعهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع، إلا فيما إذا ادعى البائع البيع وأنكر المشتري فإن الشفيع ليس له عهدة على المشتري.(10/283)
ومن هنا نعرف أن ما يفعله الآن بائعو السيارات غلط محض تجده يشتري السيارة ثم يبيعها والثاني يبيعها والثالث يبيعها، وتكتب السيارة باسم الرابع على أنه اشتراها من الأول وهذا غلط وحرام؛ لأنه كذب وتترتب عليه عُهَدٌ؛ فلو ظهر أن السيارة مسروقة فالمشتري الرابع يطالب الأولَ حسب الوثيقة، وقد تكون مطالبة الأول صعبة، لكنه يجب في هذه الحال أن يقال: فلان باع السيارة على زيد، وزيد باعها على عمرو، وعمرو باعها على خالد، وخالد باعها على بكر، يجب التسلسل؛ من أجل أن يعود كل إنسان إلى من باع عليه حتى لا يقع الغلط.(10/284)
بَابُ الوَدِيعَة
قوله: «الوديعة» وزنها الصرفي (فعيلة) وثبتت الياء في الميزان؛ لأنها زائدة وهذه قاعدة صرفية أن الحرف الزائد في الميزان يؤتى به بلفظه، فمثلاً قائم على وزن فاعل؛ لأن الألف زائدة، ويُقَام على وزن (يُفعَل) وجعلنا الألف في «يقام» عيناً لأنها أصلية وليست زائدة، فالوديعة فعيلة، وحروفها الأصلية هي الواو، والدال، والعين، ولهذا نقول في وزنها: فعيلة، فنأتي بالياء وبالتاء؛ لأنهما حرفان زائدان، وهي بمعنى مفعولة، أي: مُودَعة.
ومعنى الإيداع: إعطاء المال لمن يحفظه لصاحبه، وهي بالنسبة للمودِع مباحة، يعني يباح أن يودِع الإنسان ماله، وهي بالنسبة للمودَع سُنَّة بشرط أن يكون قادراً على حفظها وصيانتها والعناية بها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] فهي من الإحسان؛ لأن الرجل إذا أعطاك شيئاً تحفظه له فلولا أنه محتاج إلى ذلك ما أعطاك، وإذا كان محتاجاً إلى هذا وقضيت حاجته كان ذلك من الإحسان المأمور به المحبوب إلى الله، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله ـ تعالى ـ في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه (1) .
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً بقرته وديعة، فصاحب
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/285)
البقرة يجوز أن يعطيها وديعة لهذا الشخص، والمودَع الذي سيأخذ البقرة يجوز أن يقبل البقرة وديعة، بشرط أن يكون قادراً على مؤونتها وحفظها وإلا فلا يجوز، ولو فرض أن صاحب البقرة أراد أن يودعها عند من يضيعها، فلا يجوز له أن يودعها؛ لأنها حيوان يحتاج إلى رعاية وعناية، بخلاف المال فالمال لا حياة فيه.
فعندنا مودِع، ومودَع، ومودَع إليه، فالمودِع: صاحب المال، والمودَع: المال، والمودَع إليه: المؤتمن.
المؤلف لم يتكلم على هذا، وكأنه ـ رحمه الله ـ علم أن المسألة واضحة فلم يتكلم عليه، وتكلم على الآثار المترتبة على الوديعة.
وبهذا التعريف للوديعة يتبين لنا أن قول العامة ـ الآن ـ إذا جعلوا أموالهم عند البنوك أو ما يُلحَق بها هي وديعة، يتبين أن هذا القول غير صحيح؛ لأنهم لم يجعلوا الدراهم عند البنك أو ما يقوم مقامه، لم يجعلوها للحفظ، إذ إن الدراهم ستجعل في صندوق البنك وسيتصرف فيها، فهو في الحقيقة قرض وليس بوديعة، ولهذا نص الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على أن المودِع إذا أذن للمودَع أن يتصرف في الوديعة صارت قرضاً، فكلمة إيداع خطأ؛ لأن الإيداع أن يبقى المال لصاحبه على ما هو عليه، فهي في الحقيقة إقراض وليست إيداعاً، ولذلك لو كانت إيداعاً لقلنا: يجب على البنك أن يجعلها في غلافها وألا يتصرف فيها.
يترتب على هذه المسألة لو أن البنك احترق بأمواله بدون(10/286)
تعدٍّ ولا تفريط، فإذا قلنا: إن وضع المال فيه وديعة، فلا ضمان عليه، وإذا قلنا: إنه يتصرف فيه بإذن صاحب المال للبنك صار ضامناً، كما لو احترق مال المستقرض فإن القرض ثابت في ذمته.
إِذَا تَلِفَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ وَلَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ. وَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنْ عَيَّنَهُ صَاحِبُهَا فَأَحْرَزَهَا بِدُونِهِ ضَمِنَ، وَبِمِثْلِهِ أَوْ أَحْرَزَ فَلاَ. .....................
قوله: «إذا تلفت من بين ماله ولم يتعد ولم يفرط لم يضمن» وإن تلفت مع ماله فمن باب أولى، فقوله: «إذا تلفت» يعني الوديعة «من بين ماله» بأن احترقت أو أفسدها المطر أو سرقها السراق دون أن يتأثر ماله بذلك، فلا ضمان على المودَع؛ لأنه أمين قبض المال بإذن من مالكه، فكل من قبض مال غيره بإذن منه أو من الشارع فإن يده يد أمانة، والقاعدة في الأمين أنه لا يضمن ما تلف تحت يده إلا بتعدٍّ أو تفريط بدليل قول الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] والمودَع محسن، فإذا كان محسناً فلا ضمان عليه، لكن إن تعدى أو فرط ضمن.
فإن تعدى بأن أخذ الوديعة، أو فك قيدها، أو فرط بأن وضعها في غير حرز ضمن، والفرق بين التعدي والتفريط من حيث العموم، أن التعدي فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب، فإذا كان المودَع طعاماً فأكله المودَع عنده، فهذا تعدٍّ، وإذا كان طعاماً وأبقاه في ليالي الشتاء في الخارج فتلف، فهذا تفريط؛ لأنه ترك ما يجب.
فإذا قال قائل: لماذا قال المؤلف: «من بين ماله» ولم يقل: إذا تلفت ولم يتعدَّ ولم يفرط لم يضمن؟(10/287)
قلنا: إنه قال هذا إشارة إلى قول بعض العلماء إنها إذا تلفت من بين ماله فهي مضمونة مطلقاً؛ لأن تلفها من بين ماله يدل على نوع تفريط، وإلا فما الذي جعلها تتلف دون ماله؟!
ولكن الصحيح ما قاله المؤلف: أنه لا ضمان على المودَع عنده إلا بتعدٍّ أو تفريط.
ثم قال مبيناً ما يجب على المودَع عنده:
«ويلزمه» أي: المودَع عنده.
قوله: «حفظها في حرز مثلها» الحرز ما يصون الشيء ويحميه، وهو يختلف بعدة اعتبارات، فيختلف باختلاف الأموال وباختلاف البلدان وباختلاف السلطان قوة وضعفاً وعدلاً وجَوراً، وباختلاف الأموال، فليس حرز الذهب والفضة كحرز الأواني، فالأواني تودع في ظاهر البيت في الحجر والغرف بدون أغلاق وثيقة، والذهب والفضة في الصناديق في أغلاق وثيقة، والمواشي كالإبل حرزها الحوش المحصن القوي، والضأن في حوش دون ذلك.
وكذلك تختلف باختلاف البلدان، فالبلد الذي فيه جنود الأمن منتشرة ليس كالبلد مفتوح الأبواب ليس فيه أحد من قوى الأمن، فهذا أولى بالتحرز، وكذلك في السلطان، فالسلطان إذا كان قوياً هان الاحتراس، وإذا كان ضعيفاً يجب أن يشتد الاحتراس، وكذلك في العدل والجور.
فإذا أودعه شاة أيضعها في الصندوق الوثيق؟! لا، فلو فرض أنه وضعها لصار ضامناً؛ لأنه تعدى إذ ليس هذا مكاناً لها.
قوله: «فإن عينه صاحبها» أي: عيَّن الحرز.(10/288)
قوله: «فأحرزها» أي: حفظها.
قوله: «بدونه ضمن» أي: عيَّن صاحبها الحرز فأحرزها بدونه، ولو كان الحرز الذي أحرزها به حرز مثلها عادة، فإنه يضمن، فلو أعطاه كتاباً وقال: احفظ هذا الكتاب في الصندوق الحديدي ـ أي: خزانة الذهب والفضة، وهي خزانة قوية ثقيلة ـ فحفظه في حقيبة عادية، فجاء السارق فسرقه هو والحقيبة، مع أن الحقيبة عادة حرز للكتاب فهنا عليه الضمان؛ لأنه حفظها بأدنى مما عينه صاحبها، فإذا قال المودَع عنده: أنا حفظتها في حرز مثلها، وكل الناس يجعلون الكتب في الحقائب وربما جعلوها في الرفوف بارزة، نقول: لكن صاحب الكتاب عَيَّنَ، فلماذا لم تقل له: لا، حينما قال: ضعه في الصندوق الحديدي؟ أما أن تأخذها على أنك ستضعها فيما عين، ثم تحرزها بما دونه فعليك الضمان.
قوله: «وبمثله» فلا ضمان.
قوله: «أو أحرز فلا» أي: فلا ضمان، مثل أن يقول له: خذ هذا الكتاب اجعله في هذا الصندوق، ويعين، فأخذه وجعله في صندوق مثله فهنا لا ضمان، إلا أن يتميز الصندوق الذي عينه بزيادة حرز، لكونه داخل البيت ـ مثلاً ـ أو نحو ذلك فهنا يضمن، أما إذا عين فأحرزها بأقوى فلا ضمان، مثل أن يقول: احفظها في هذا الصندوق، والصندوق صغير يمكن للسراق أن يحملوه، فأحرزها في صندوق أكبر فإنه لا يضمن؛ لأنه أحرز.
ولو أن رجلاً عنده ستة صناديق حديدية من الباب إلى نهاية(10/289)
الحجرة وقال له: احفظها في آخر ما يكون، فأحرزها في الأول فهل يضمن أم لا؟ هنا يمكن أن نقول: إن آخر صندوق قد يكون أحرز؛ لأنه أبعد من أن يأخذه السارق أو يكسره، وقد لا يكون أحرز؛ لأن السارق سيقع في نفسه أن الصندوق الأبعد هو الذي فيه المال، فالظاهر أنه في مثل هذه الحال يقال: إنه أحرزه بمثله؛ لأن كل واحد منها أحرز من الآخر من وجه، فإن لم يكن كذلك فيرفع الأمر إلى القاضي ويحكم بما يراه صواباً.
وَإِنْ قَطَعَ العَلَفَ عَنِ الدَّابَةِ بِغَيْرِ قَوْلِ صَاحِبِهَا ضَمِنَ. وَإِنْ عَيَّنَ جَيْبَهُ فَتَرَكَهَا فِي كُمِّهِ أَوْ يَدِهِ ضَمِنَ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ أَوْ مَالَ رَبِّهَا لَمْ يَضْمَنْ................
قوله: «وإن قطع العلف» الضمير يعود على المودَع.
قوله: «عن الدابة» يعني المودَعة.
قوله: «بغير قول صاحبها ضمن» لأنه مفرط بلا شك.
ولكن إذا قال المودَع: أنا قطعت العلف عنها؛ لأني لا أريد أن أنفق عليها من مالي؛ لأن العلف غالٍ، ولا أدري متى يأتي صاحبها؟
قلنا له: أنت مفرط بلا شك؛ لأنك إذا أنفقت عليها، فسوف ترجع على صاحبها، فليس عليك ضرر.
وهذه المسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يودعه الدابة ويقول: يا فلان أنفق عليها.
الحال الثانية: أن يودعه ويقول: لا تنفق عليها.
الحال الثالثة: أن يودعه ويسكت.
فعليه الضمان في حالين، ولا ضمان عليه في حال،(10/290)
الحالان هما: إذا قال: أنفق عليها، أو سكت ولم ينفق، ففي هذين الحالين إذا تلفت الدابة فإنه يضمن؛ لأنه مفرط كما لو وضعها في برد قارس وهي لا تستطيع مقاومته، أو في حر شديد وهي لا تستطيع مقاومته فإنه يكون ضامناً.
وعُلِمَ من قول المؤلف أنه لو قال صاحبها: لا تنفق عليها فتلفت فإنه لا يضمن، وذلك بناء على أن ضمان البهيمة إذا تلفت جوعاً أو عطشاً من ضمان الأموال الصامتة التي لا روح فيها، والأموال الصامتة التي لا روح فيها إذا أتلفها الإنسان بإذن صاحبها فإنه لا يضمن، فهو كما لو أذن له في ذبحها فذبحها فإنه لا ضمان عليه.
هذا ما قاله المؤلف ـ رحمه الله ـ لكن فيه نظر، والقول الثاني أنه يضمن؛ لأن هذه نفس محترمة ليست كالمال، فالمال لا يتألم لكن هذه نفس تتألم، فَتَرْكُها تموت عطشاً وجوعاً إِثْمٌ يعذب عليه الإنسان في النار، فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه رأى في النار امرأة عذبت في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها» (1) ويكون صاحبها قد أذن له في شيء محرم، ولا يجوز الموافقة على شيء محرم، فيكون عليه الضمان؛ لأنه لو شاء لقال لصاحبها ـ لما قال لا تنفق عليها ـ: إذاً لا أقبلها؛ لأنه يلحقني الإثم.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق/ باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3318) ؛ ومسلم في السلام/ باب تحريم قتل الهرة (2242) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/291)
فالصواب أنه يضمن ولكنه في هذه الحال يُجعل ما ضمنه في بيت المال، ويُحْرَمُ إياه صاحبها ولا يعطى شيئاً؛ لأنها تلفت بقولٍ من صاحبها وقد رضي بتلفها عليه، لكننا نُضَمِّنُ هذا الذي وافقه على المعصية ونجعل ما ضمنه في بيت المال، هذا هو القول المتعين، وعليه يحمل قول من قال من الأصحاب: إنه يضمن، ويجعل في بيت المال جزاءً لصاحبها وعقوبة له.
قوله: «وإن عين جيبه فتركها في كمه أو يده» وتلفت.
قوله: «ضمن» أي: المودَع، بأن قال المودِع: اجعلها في جيبك يعني في المخباة التي في الجيب، ولكنه جعلها في كمه.
فإن قيل: كيف يجعلها في كمه والكم على قدر الذراع؟
فيقال: هذا كان معروفاً عند الناس فيما سبق، أن الرجل له أكمام ضافية واسعة من أجل أن يضعوا حوائجهم فيها.
فإذا عيَّن الجيب فربطها في كمه فسرقت، فعليه الضمان؛ لأن الجيب أحفظ؛ لأن الجيب لا يكاد أحد يقدم عليه؛ لأنه أمام الإنسان وعلى صدره، بخلاف الكم فإنه يمكن أن يتغافله إنسان ويحله ويأخذ ما فيه، على أن بعض السراق عندهم مهارة فائقة؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتفطن لهم وأن يحترز، ولا يمكن أن يدرأ شر هؤلاء السراق إلا حُكْم أحكم الحاكمين ألا وهو قطع اليد، فلو قطعت أيدي السراق ما أقدم أحد على السرقة؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يُرخِص يده في شيء من المال.
وقوله: «أو يده» فتلفت فعليه الضمان.
فإذا قال قائل: أليس كونها في يده أحرز من كونها في جيبه؟(10/292)
قلنا: لا؛ لأن الإنسان يعمل ويأخذ بيده، ويقبض ويسلم ويصافح، فربما ينسى ويضعها من يده في أي مكان وتضيع، فإذا عين جيبه وتركها في يده فضاعت ضمن.
قوله: «وعكسه بعكسه» يعني لو عين الكم فجعله في الجيب بأن قال: خذ هذه اجعلها في كمك فجعلها في جيبه فلا ضمان؛ للقاعدة السابقة: أنه إذا عين الحرز صاحِبُهَا، فأحرزها فيما هو أشد فلا ضمان، وكذا لو عين يده فجعلها في جيبه فإنه لا يضمن؛ لأن الجيب أحفظ من اليد.
فإذا قال قائل: إذا كانت الوديعة خاتماً وقال: اجعله في أصبعك، فجعله في جيبه، فيده لا شك أنها أحرز؛ لأنها إذا كانت في الجيب ربما مع السجود ـ مثلاً ـ أو خفض الظهر يسقط منه الخاتم، لكن في الأصبع لا يمكن أن يسقط إلا إذا حاول خلعه أو قُطعت الأصبع مع الخاتم.
إذاً إذا عين الجيب فجعلها في اليد فهو ضامن، إلا فيما إذا كان وجوده في اليد أحرز كما لو عين الجيب، والوديعة خاتم، وجعلها في أصبعه، فهذا لا شك أنه أحرز.
قوله: «وإن دفعها» الفاعل المودَع.
قوله: «إلى من يحفظ ماله» يعني لو أن المودَع عنده غلمان، أو خدم، أو أولاد يحفظون ماله فدفعها إليهم فإنه لا ضمان عليه؛ لأن هذا ما جرت به العادة، والإنسان الكبير السيد الشريف لا يمكن أن يتولى حفظ الودائع بنفسه، بل لا بد أن يكون له من يحفظ ذلك من خدم أو أولاد أو عبيد أو زوجات.(10/293)
المهم إذا دفعها إلى من يحفظ ماله فتلفت فإنه لا يضمن، إلا إذا نص صاحبها عليه وقال: لا تعطها أحداً، هي مني إليك ومنك إلي، فهنا يضمن؛ لأنه عين حرزاً أقوى من حرز العادة، وقد سبق أنه إذا عين حرزاً فإنه يتعين، فإذا قال: لا تعطها أحداً، لا الخادم، ولا الولد، فحينئذٍ إذا دفعها إلى من يحفظ ماله، فهو ضامن؛ لأنه أقل حفظاً من المودَع.
قوله: «أو مال ربها لم يضمن» أي إذا دفعها المودَع إلى من يحفظ مال ربها لم يضمن، فهذا المودَع كأنه مَلَّ من الوديعة وأراد أن يردها، فردها لمن يحفظ مال صاحبها، مثل أن يردها إلى خدم المودِع، أو إلى غلامه، أو إلى أهله فإنه لا ضمان عليه، مع أنه لم يقل له: ادفعها إلى أهلي، ولم يوكل أهله في قبضها، وهذه المسألة فيها خلاف، فمن العلماء من يقول: إنه إذا دفعها إلى من يحفظ مال ربها بغير إذن ربها فإنه ضامن؛ لأنه لم يُوَكَّل في دفعها إلى غيره؛ ولأن صاحب الوديعة قد لا يأتمن أهله أو خدمه عليها؛ لأنهم مفرطون، والذي ينبغي أن يرجع في ذلك إلى العرف، فما جرى به العرف اتبع وما لم يجرِ به العرف لم يُتَّبع، فالأشياء الثمينة جرت العادة أنها لا ترد الوديعة منها إلا إلى صاحبها بنفسه، والأشياء العادية كالأواني والفرش والبهائم جرت العادة أنه يتولى قبولها عند ردها من يحفظ مال ربها، فيرجع في ذلك إلى العرف، فما جرى العرف بأنه يدفع إلى من يحفظ مال ربها فدفعها إليهم، فلا ضمان عليه؛ وما جرى العرف بأنه لا بد أن يسلم إلى نفس المودِع فإن عليه الضمان.(10/294)
فمثلاً الوثائق التي فيها إثبات الديون على الناس والمبيعات والمؤجرات وما أشبه ذلك، جرت العادة أنها لا تدفع إلى من يحفظ مال ربها، إنما تدفع إلى ربها، إلا إذا قال: رُدَّها إلى أهلي أو إلى من يحفظ مالي، فعلى ما قال.
وَعَكْسُهُ الأَجْنَبِيُّ وَالحَاكِمُ وَلاَ يُطَالَبَانِ إِنْ جَهِلاَ. وَإِنْ حَدَثَ خَوْفٌ أَوْ سَفَرٌ رَدَّهَا عَلَى رَبِّهَا، فَإِنْ غَابَ حَمَلَهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ أَحْرَزَ، وَإِلاَّ أَوْدَعَهَا ثِقَةً.........
قوله: «وعكسه الأجنبي» أي عكس دفعها إلى من يحفظ ماله أو مال ربها أن يدفعها للأجنبي، والأجنبي هو الذي لا يتولى حفظ مال ربها، ولا حفظ مال المودَع.
وبهذا التفسير نعرف أن كلمة الأجنبي يختلف معناها باختلاف مواضعها، فتكون في موضع لها معنى وفي موضع آخر لها معنى آخر، فإذا قيل: تصح الوصية لأجنبي ولا تصح لوارث، فهنا المراد بالأجنبي من ليس بوارث، وإذا قيل: يحرم كشف وجه المرأة لأجنبي ويجوز للمحارم، فهنا يقصد به غير المحرم، المهم أن الأجنبي في كل موضع بحسبه، فلو دفعها إلى جاره فهنا نقول: عليه الضمان؛ لأن الجار أجنبي، لا يحفظ مال ربها ولا مال المودَع فيكون ضامناً إذا تلفت عند الجار ضمانَ تعدٍّ؛ لأنه فعل ما لا يجوز له، سواء تلفت بتفريط أو تعدٍّ أو بغير تفريط ولا تعدٍّ.
قوله: «والحاكم» وهو القاضي وسُمِّي حاكماً؛ لأنه يحكم بين الناس، وسُمِّي قاضياً لأنه يقضي بين الناس، إذا دفعها إلى الحاكم فهو ضامن؛ لأنه لم يؤمر بدفعها إليه، والحاكم إنما يكون نائباً عن الغائب أو الميت أو نحوهما، لا عن كل الناس، فمثلاً رجل في مدينة أودع دراهم وقيل له: خذ هذه عشرة ملايين(10/295)
اجعلها عندك، فجعلها عنده، ثم أخذها وأعطاها القاضي، وصاحبها موجود، فهل للقاضي الحق أن يأخذها؟ لا، وليس للمودَع الحق أن يسلمها للقاضي؛ لأن القاضي إنما ينوب عن الغائب أو الممتنع أو ما أشبه ذلك، أما هنا فلا ضرورة، فيضمن المودَع إذا تلفت عند الأجنبي أو عند الحاكم، ويطالب صاحبُ الوديعة المودَع.
وهل يطالب الحاكمَ والأجنبيَ؟
يقول المؤلف: «ولا يطالبان إن جهلا» يعني لا يطالب الأجنبي والحاكم إذا جهلا أنها وديعة عند مودَع؛ لأنهما معذوران، فمثلاً: جاء الأجنبيَ رجلٌ وقال له: خذ هذه اجعلها عندك وديعة، فأخذها على أنها ملك الرجل الذي أعطاه وعلى أنه محسن فلا ضمان عليه، والحاكم كذلك لا ضمان عليه، والمذهب أن له أن يطالبه وإن جهل، وحجتهم أن المال تلف تحت يده، وعلى ما مشى عليه الماتن فليس له أن يطالبه، وحجته أنه جاهل ومحسن وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، أما إذا علما أنها وديعة فعليهما الضمان، ولصاحب الوديعة أن يطالب المودَع أو الحاكم أو الأجنبي؛ لأن الحاكم أو الأجنبي حصل التلف تحت يده، وذاك حصل التلف بتسليطه هؤلاء على هذه الوديعة، فله أن يطالب هذا وهذا، وأما مع الجهل فلا يطالب الحاكم ولا الأجنبي.
لكن لو أن المودَع أعطي عشرة ملايين وديعة، وأودعها في البنك فهل يضمن؟ البنوك أحرز ولا شك، لكن هذا المودِع يعلم(10/296)
عن البنوك ولا يريد أن يعطيها البنوك تديناً، فكأنه نهاه أن يعطيها البنك، فكونه يختار أن يجعل عنده الدراهم وهو يشاهد البنوك وهو يعلم وكلٌ يعلم أن البنك أحرز، فإعطاؤه إياها بمنزلة نهيه أن يعطيها البنك، فيعتبر هنا متعدياً.
لكن في مثل هذه الحال يقدر أن يقول: أنا لا أستطيع أن أحفظ هذه الدراهم الكثيرة، أتأذن لي إن اشتد معي القلق أو الخوف أن أجعلها عند البنك؟ فإذا قال: نعم، فإنه يعمل بما أذن له فيه، وإن قال لا، فيقول: خذ دراهمك لا أقبل الوديعة؛ لأنه في حل.
قوله: «وإن حدث خوف أو سفر» أي للمودَع بأن كثرت السرقات ـ مثلاً ـ أو دخل البلد عدو وخاف عليها، أو أراد المودَع أن يسافر.
قوله: «ردها على ربها» وجوباً ولا يجوز أن يبقيها عنده مع الخوف أو في بيته مع السفر؛ لأنه في هذه الحال مفرط، إذ الواجب التخلص من الخوف أو التخلص من إبقائها في بيت لا يسكنه أحد.
فإن حدث سفر منه لكن البيت فيه الأهل والأولاد، فهل يضمنها في هذه الحال لو بقيت؟ الجواب: لا، خصوصاً وأنه سبق لنا أنه إذا دفعها إلى من يحفظ ماله فلا ضمان، فهنا نقول: لا ضمان، لكن ينبغي للمودَع إذا أراد أن يسافر ولا سيما إذا كانت الوديعة كبيرة، أن يقول له: إني سأسافر، فهل تأذن أن أبقيها عند الأهل أو أردها؟(10/297)
قوله: «فإن غاب» أي: ربها، أو تغيب، المهم إذا لم يجده عند السفر.
قوله: «حملها معه إن كان أحرز» فإذا غاب صاحبها فإنه يحملها معه، بشرط أن يكون سفره بها أحرز من إبقائها، والغالب أن السفر بها ليس بأحرز؛ لأن السفر يحصل فيه آفات، لكن مع ذلك يقول: «إن كان أحرز» .
قوله: «وإلا» يعني وإن لم يكن أحرز.
قوله: «أودعها ثقة» أي جعلها وديعة عند ثقة، فَمَن الثقة؟ الثقة من جمع وصفين: القوة والأمانة، وهذان الوصفان في كل عمل، قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وقال الجني العفريت لسليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} أي: بعرش بلقيس {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} } [النمل: 39] فالمراد بالثقة هنا القوي الأمين فلا يودعها ضعيفاً، ولا يودعها غير أمين.
فإن قال قائل: أرأيتم لو أقرضها مليئاً أيجوز؟ فالجواب: لا؛ لأن القرض عقد لا يجوز إلا ممن يملك العقد أو نائبه أو وكيله، وهذا المودَع لم يوكَّل في القرض.
ولاحظ أن الإيداع عند البنوك من باب القرض، والناس يسمون إعطاء البنوك الأموال إيداعاً، وهذه تسمية خطأ، بل هي في الحقيقة قرض، ولهذا ينتفع بها البنك ويدخلها في رأس ماله ويتجر بها ويضمنها لو تلف ماله كله؛ لأنه قرض، والعلماء نصُّوا تصريحاً بأنه إذا أذن المودِع للمودَع أن ينتفع فهذا يعتبر قرضاً.(10/298)
ويوجد بنوك تقبل الوديعة، بمعنى أن الدراهم التي تعطى إياها تجعلها في صناديق معينة محفوظة لا يتصرف فيها البنك، فهذه وديعة محضة.
وإن سافر بها ولم يجد ثقة يودعها عنده وربها غائب فماذا يصنع؟ يعطيها الحاكم؛ لأن الحاكم ولي من ليس له ولي، والدليل على هذا التفصيل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وهذا أمر بكل ما يلزم للأداء، فالأمر بالأداء أمر به وبما لا يتم إلا به، ومعلوم أنه في مثل هذه الحال إذا كان السفر عرضة للضياع، فإن بقاءها عند ثقة هو الذي فيه الأداء.
وَمَنْ أُودِعَ دَابَّةً فَرَكِبَهَا لِغَيْرِ نَفْعِهَا، أَوْ ثَوْباً فَلَبِسَهُ، أَوْ دَرَاهِمَ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَحْرَزٍ ثُمَّ رَدَّهَا، أَوْ رَفَعَ الخَتْمَ، أَوْ خَلَطَهَا بِغَيْرِ مُتَمَيِّزٍ فَضَاعَ الكُلُّ ضَمِنَ.
قوله: «ومن أودِع دابة فركبها لغير نفعها» فهو ضامن، مثل فرس أو بعير أودعه عنده فركبه لغير نفعه فهو يضمن ضمان تعدٍّ لا تفريط، إن تلف من هذا العمل أو من بعده أيضاً؛ لأنه بتعديه زال عنه وصف الأمانة وصارت يده يد متعدٍّ كالغاصب فيكون ضامناً بكل حال، سواء تعدى أو فرط، أو لم يتعدَّ ولم يفرط، وسواء تلف الشيء بنفس العمل أو بما بعده.
فهذا رجل مشغوف بركوب الخيل وأودِع فرساً فجعل كل يوم يسابق عليه، أو كل يوم يركضه لغير نفع الفرس، فإنه يضمن إن تلف في نفس الاستعمال، أو في غير نفس الاستعمال حتى لو أدخله في الحرز، أما كونه يضمن في نفس الاستعمال فواضح وأما كونه يضمن بعده فلأنه باستعماله إياه صارت يده غير أمينة.
وعلم من قوله: «لغير نفعها» أنه لو ركبها لنفعها فليس(10/299)
بضامن لأنه محسن، لكن كيف يركبها لنفعها؟ يركبها ـ مثلاً ـ ليذهب بها إلى الماء لتشرب أو يروضها؛ لأنها إذا بقيت ربما تخمل ولا تكون قوية، فهو يركبها لنفعها، فلا ضمان عليه؛ لأن هذا خير.
قوله: «أو ثوباً فلبسه» فإنه يضمن، لكن إذا قال: أنا أريد أن ألبسه للجمعة، فالجمعة يسن فيها لبس أحسن الثياب فإنه يضمن، فإذا قال: أنا أعطيت صاحبها خيراً لأنه يؤجَر، فأنا أؤجر بلبس أحسن الثياب، وهو يؤجر؛ لأنه أعانني على هذا، فنقول: أنت لا تؤجر، ومن قال: إنك تؤجر باستعمال مال غيرك؟! هذا ظلم فلا أجر لك، وإذا بطل أجرك بطل أجره هو؛ لأن أجره فرع عن أجرك.
فإن قال: إنه لبسه لئلا يدخله السوس؛ لأن الحرير إذا لم يبرز في أيام الصيف والحر فإنه يحترق ويتمزق، فما الجواب؟ نقول: يمكن أن تخرجه وتنشره بدون لبس.
إذاً إذا أودع ثوباً فلبسه فإنه يضمن، سواء تلف باللبس أو بأمر آخر ولو بعد خلعه؛ وذلك لأنه بمجرد أن لبس الثوب انتقلت يده من كونها يداً أمينة إلى كونها يداً غير أمينة، وعلى هذا فلو لبس الثوب يتجمل به للجمعة فلما رجع رده إلى محرزه فتلف من محرزه ضمن؛ لأنه تعدى حيث فعل ما لم يؤذن له به، لا شرعاً ولا عرفاً لا من صاحبها ولا من عند الله ـ عزّ وجل ـ.
قوله: «أو دراهم فأخرجها من محرز» أي إذا أودع دراهم فاستقرضها فإنه يضمن، حتى وإن احتاج إليها؛ لأنه ليس له الحق(10/300)
في أن يستقرضها، أو يتصرف فيها بأي شيء حتى لو باع أو اشترى فهو ضامن.
وعلم من قوله: «من محرز» أنه لو لم يخرجها من المحرز لكن غَيَّر مكانها، مثل أن تكون في الرف الأعلى من الصندوق فجعلها في الرف الذي تحته، أو كانت في الرف الأدنى فجعلها في الرف الذي فوقه والصندوق واحد، فهنا لا شك أنه غَيَّر مكانها ولكن لم يخرجها من المحرز فلا ضمان عليه.
فإذا أخرجها لتنظيف الصندوق ـ مثلاً ـ ثم نسي وبقيت خارج الصندوق ثم سرقت، يحتمل أنه يضمن؛ لأن حق الآدمي يستوي فيه الخطأ والنسيان والعمد والذِّكر، وقد نقول: لا يضمن؛ لأن هذا في عرف الناس لا يعد مفرطاً، وإذا تعارض الضمان وعدم الضمان، واليد يد أمانة فالأصل عدم الضمان.
قوله: «ثم ردها» يعني فيضمن ولو أُخذت من الحرز، وكذا لو رأى المصلحة في شراء سلعة فأخرج الوديعة فاشترى السلعة لصاحب الوديعة من أجل ما يرجوه من الكسب فإنه يضمن؛ لأنه غير مأذون له بذلك، اللهم إلا إذا كان قد قال له صاحبها: إن رأيت مصلحة في بيع أو شراء أو غير ذلك فتصرف، فيكون حينئذ غير ضامن.
قوله: «أو رفع الخَتْم» فإنه يضمن حتى لو أعاد الختم مرة أخرى، والختم هو ما جرت به العادة فيما سبق، أنهم يضعون الدراهم في كيس ثم يعقدونها بالخيوط، ثم يضربون على طرف الخيط شمعاً، يُذاب في النار، ويصب على طرف الخيط، ثم(10/301)
يُختم عليه بالخاتم؛ لأجل ألا يعبث بها أحد، فهذا إنسان رفع الختم ولكنه لم يحلها، فإنه يضمن؛ لأن الختم لا شك أنه أقوى مما لو كانت خالية منه، فإذا رفعه فقد أخل بحرزها فيكون ضامناً.
ومثل الختم القفل فلو أنه رفع قفل الصندوق ـ ولو أعاده ـ فعليه الضمان، إلا إذا كان الصندوق ليس خاصاً بالوديعة مثل أن يكون هذا الصندوق فيه دراهم له، أو لغيره ومعها دراهم المودِع ثم صار يفتح هذا الصندوق ليخرج النفقة منه لنفسه، فإنه لا ضمان عليه؛ لأنه لم يتعدَّ ولم يفرط، فالضابط: أنه إذا أزال المودَع ما فيه كمال الحفظ أو أصل الحفظ فعليه الضمان.
قوله: «أو خلطها بغير متميز فضاع الكل ضمن» مثل أن يُودَع براً يخلطه ببر، فهنا خلط الوديعة بشيء غير متميز؛ لأن حب البر واحد لا يختلف، فلو خلطها بغير متميز ثم ضاع الكل، يعني ضاع ما كان عنده أولاً وما خلطه به فإنه يضمن.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «فضاع الكل» فيما إذا أُودِع دراهم فأخرجها من محرز أو رفع الختم، أو خلطها بغير متميز أي أنه راجع للمسائل الثلاث.
وعُلِمَ من قوله: «خلطها بغير متميز» أنه لو خلطها بمتميز فلا بأس، لكن بشرط أن تكون بحرز مثلها، ولكن ينبغي أن يقال: في هذا تفصيل:
إن خلطها بغير متميز يسهل أخذها منه فلا بأس، ولا يقال: إن الرجل فرط أو تعدى، مثل أن يخلط حلياً بدنانير في صندوق(10/302)
محرز، وأما لو خلط شعيراً ببر فهذا وإن كان متميزاً لكن تخليص الوديعة من خليطها فيه صعوبة، فربما يأبى أن يخلص ذلك ويتعب ويحصل بذلك ضرر على الطرفين.
وعليه فينبغي أن يقيد مفهوم قوله: «بغير متميز فضاع الكل» ما إذا خلطها بمتميز يسهل تخليصه من خليطه، وإلا فيكون ضامناً.
وعليه فالحالات ثلاث:
الأولى: أن يخلطها بغير متميز فعليه الضمان.
الثانية: أن يخلطها بمتميز يصعب فيه التمييز فعليه الضمان، والمذهب في ظاهر كلام المؤلف لا ضمان عليه.
الثالثة: أن يخلطها بمتميز يسهل فيه التمييز، فهذا ليس عليه ضمان.(10/303)
فَصْلٌ
وَيُقْبَلُ قَوْلُ المُودَعِ فِي رَدِّهَا إِلَى رَبِّهَا أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، وَتَلَفِهَا وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ. .......
قوله: «ويقبل قول المودَع في ردها إلى ربها أو غيره بإذنه، وتلفها، وعدم التفريط» هذه ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا ادعى المودَع أنه دفع الوديعة إلى ربها، بأن يكون شخص أودع إنساناً دراهم، ثم بعد حين جاء يطالبه بها، فقال: إني رددتها إليك، فالقول قول المودَع لوجهين:
الأول: قول الله تبارك وتعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] والمودَع محسن ولا شك وإذا لم يكن عليه سبيل، فإن صاحبها إذا ادعى أنه لم يردها فالقول قول المودَع؛ لأننا لو قبلنا قول صاحبها لكان على المحسن سبيل.
الثاني: أن نقول للمودِع: أنت الآن ائتمنت الرجل على الوديعة، فيجب أن يكون أميناً في دفعها إليك، كما جعلته أميناً في حفظها، والأمين كل من حصل في يده مال بإذن من الشارع أو إذن من المالك، وهذا قياس بَيِّن، فهذا دليل من السمع ومن القياس.
ولذلك عندنا قاعدة:
أن من قبض العين لِحَظِّ مالكها قُبِلَ قولُه في الرد.
ومن قبض العين لمصلحته لم يُقبل قوله في الرد.
ومن قبض العين لمصلحته ومصلحة مالكها لم يقبل ـ أيضاً ـ تغليباً لجانب الضمان.(10/304)
وقوله: «إلى ربها» بأن يقول: رددتها عليك.
وقوله: «أو غيره» أي: إلى غير ربها.
وقوله: «بإذنه» أي بإذن ربها، أما إذا ادعى ردها إلى غيره، وقال: إني رددتها لكنني لم استأذنك، فهو ضامن؛ لأنه لم يوكله في دفعها إليه، فإذا قال: دفعتها إليه بإذنك، أنت الذي قلت لي: يا فلان أعط الوديعة التي عندك لفلان، فأنكر صاحبها الإذن، وقال: إني لم آذن لك، فهنا يقال: إن الرجل أمين عندك، وهو محسن، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ولا يمكن أن يدعي أنك أذنت له وأنت لم تأذن، والنسيان وارد على كل أحد، ومنه صاحب الوديعة.
وعليه فتكون الحالات ثلاثة:
الأولى: إذا ادعى ردها إلى ربها قُبِل.
الثانية: إذا ادعى ردها إلى غيره بغير إذنه فهو ضامن.
الثالثة: إذا ادعى ردها إلى غير صاحبها بإذنه فهو غير ضامن، لأنه أمين، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
وقوله: «وتلفِهَا» هذه هي المسألة الثانية: أي: يقبل قول المودَع في تلفها، فإذا قال لصاحبها: الوديعة تلفت، فقال صاحبها: لم تتلف، فالقول قول المودَع.
لكن لو ادعى التلف بأمر ظاهر كالحريق، بأن قال: احترق الدكان وهي في الدكان، فهنا لا يقبل قوله إلا إذا أثبت أن الدكان قد احترق؛ لأن هذا أمر ظاهر لا يخفى على أحد، فإذا أثبت أنه(10/305)
احترق وقال صاحبها: نعم الدكان احترق وليس عندي فيه شك، لكن أنا لا أقر بأن الوديعة تلفت بهذا الاحتراق، فلا يقبل قول صاحبها، ويقبل قول المودَع أنها تلفت بهذا الاحتراق.
وقوله: «وعَدَمِ التفريط» هذه هي المسألة الثالثة، بأن قال صاحبها: أنت فرطت ولم تحفظها في حرز مثلها، وقال: لم أفرط، فالقول قول المودَع؛ لأنه مؤتمن، فإن أقر الجميع بالسبب لكن ادعى صاحبها أنه تفريط وهو يقول: ليس بتفريط، فنرجع إلى العرف ويعرض على أهل الخبرة، فإذا قالوا: الرجل الذي حفظها في هذا المكان غير مفرط فهو غير مفرط، وإذا قالوا: إنه تفريط فهو تفريط.
وهذا التفصيل هو القول الراجح، وإن كان ظاهر كلام المؤلف أن قول المودَع مقبول في عدم التفريط مطلقاً، ولكن هذا فيه نظر.
فإذا قال قائل: إذا اختلف المودَع والمودِع في هذا العمل هل هو تفريط أو لا، وقال المودَع هذا في نظري أنه غير تفريط؟
فيقال: كون أهل الخبرة يقولون: إنه تفريط وأنت تعتقد أنه ليس بتفريط يدل على أنك غير فاهم، والمعاملات بين الخلق لا يعذر فيها بالجهل، فكان الواجب عليك أن تسأل أولاً، هل هذا تفريط أو ليس بتفريط؟
ولنضرب لهذا مثلاً:
في ليلة شاتية أبقى المودَع الشاة في العراء ظناً منه أن الشاة(10/306)
تقاوِم، ولكن أهل الخبرة قالوا: إنها لا يمكن أن تقاوم في هذا البرد الشديد والثلج؛ لأن هذه الشاة ليست مما يعيش في بلاد ثلجية، فقال: هذه الشاة في هذا المكان لو نزل عليها الثلج فإنها ستبقى حية، فعد نفسه غير مفرط، لكن أهل الخبرة قالوا: هذا تفريط، فحينئذ يؤخذ بقول أهل الخبرة ويقبل قول المودِع.
هذا في مسائل الاختلافات في الوديعة، والاختلافات التي ذكرها الفقهاء في الواقع كلها ذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم في كلمتين فقال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، فجميع ما ذكره المؤلفون ـ رحمهم الله ـ في الاختلافات ومن يقبل قوله ومن لا يقبل كله يعود إلى هذا الحديث، لكن لا بأس بالتفصيل.
َإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي، ثُمَّ ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ ثُمَّ ادَّعَى رَدّاً، أَوْ تَلَفاً سَابِقَيْنِ لِجُحُودِهِ، لَمْ يُقْبَلاَ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ..............
قوله: «فإن قال» أي: المودَع للمودِع.
قوله: «لم تودعني» يعني أنكر الوديعة.
قوله: «ثم ثبتت ببينة» يعني ثبت أنه أودعه، والبينة هنا إما رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؛ لأن المال وما يقصد به المال هذه بينته.
فثبوت البينة برجلين، أو رجل وامرأتين في القرآن لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، وثبوتها برجل ويمين المدعي ثبت بالسنة، فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أنه قضى بالشاهد مع اليمين) (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (187) .
(2) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب القضاء باليمين والشاهد (1712) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(10/307)
المهم أن المودَع أنكر وقال: لم تودعني، وثبت أنه أودعه ببينة.
قوله: «أو إقرار» يعني بعد أن أنكر ـ هداه الله ـ وندم وأقر، أو أنكر ناسياً للوديعة ثم تذكر، أو كان ناسياً لها ثم وجدها في بيته، المهم أنه بعد أن أنكر أقر.
قوله: «ثم ادعى رداً أو تلفاً سابقين لجحوده لم يقبلا ولو ببينة» مثال ذلك: أنكر الرجل الوديعة يوم الخميس، وأقيمت الدعوى عليه يوم الجمعة، وثبتت عليه ببينة، ثم ادعى أنها تلفت يوم الأربعاء، فهنا لا يقبل قوله؛ لأنه كذب نفسه، حيث أنه أنكر الوديعة يوم الخميس وقال: ليس عندي وديعة، ولما ثبتت قال: إنها تلفت يوم الأربعاء، فهنا دعواه التلف لا تقبل، ودعواه الرد لا تقبل؛ لأنه بإنكاره صار خائناً، فلا يقبل قوله لا في الرد ولا في التلف ويلزمه الضمان.
ولو أقام بينة على أنها تلفت يوم الأربعاء، وأتى بشهود يشهدون أن الوديعة الفلانية تلفت يوم الأربعاء، فهل يقبل أو لا يقبل؟
يقول المؤلف: «لم يقبلا» أي: الرد والتلف «ولو ببينة» حتى لو جاء بشهود وقالوا: نشهد إن وديعة فلان تلفت يوم الأربعاء فإنها لا تقبل؛ لأنه هو نفسه مكذب للبينة؛ لأنه لما أنكر يوم الخميس وقال: أبداً ما أودعتني ما صار له عنده وديعة فيكون مكذباً للبينة؛ فكلامه يناقض بينته.
وأشار المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «ولو ببينة» إلى خلاف(10/308)
في هذا، فإن بعض أهل العلم قال: إذا ثبت ببينة أنها تلفت فيكون إنكاره كذباً وتُصدَّق البينة، والمذهب يقولون: تبين كذب البينة بقوله هو، فهو أقر ضمناً أن البينة كاذبة.
لكن بعض العلماء يقول: إذا قامت البينة فليعمل بها؛ لأنه تبين أنه هو الكاذب، لكن في هذه الحال ينبغي للقاضي أن يحكم عليه بالتعزير لكذبه وخيانته، وإتعابه المودِع بإقامة الدعوى، وإشغال القاضي، وإشغال الشهود، فهو مستحق للتعزير من عدة أوجه، ولئلا يتلاعب أحد غيره، فإذا قيل: ليس عليك إلا ضمان الوديعة فلا يهمه، لكن إذا أُدِّب صار ردعاً له.
بَلْ فِي قَوْلِهِ: مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ وَنَحْوُهُ، أَوْ بَعْدَهُ بِهَا. وَإِنِ ادَّعَى وَارِثُهُ الرَّدَّ مِنْهُ أَوْ مِنْ مُوَرِّثِهِ لَمْ يُقْبَلْ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. ........
قوله: «بل في قوله ما لك عندي شيء ونحوه» مثاله: هذا الرجل في يوم الخميس قيل له: إن عندك وديعة، فقال: ليس عندي شيء، وثبت بالبينة أن عنده وديعة، ثم ادعى التلف يوم الأربعاء، يعني قبل الإنكار، وأقام بينة بذلك، فتقبل، سواء ببينة أو بغير بينة؛ لأن الرجل قال: «ما لك عندي شيء» ، ومعلوم أن الوديعة إذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط، لم يثبت على المودَع شيء فيكون صادقاً في قوله: «ما لك عندي شيء» بخلاف ما لو قال: لم تودعني، والفرق ظاهر؛ لأنه إذا قال: لم تودعني فقد أنكر أصل الوديعة، أما إذا قال: «ما لك عندي شيء» فهو نفي لضمان الوديعة فيقبل قوله حتى لو ثبتت ببينة؛ لأنه لا يتنافى قوله وثبوت الوديعة، فهو يقول: نعم أنا قلت ما لك عندي شيء؛ لأني لا فرطت ولا اعتديت، وإذا تلفت الوديعة بدون تعدٍّ ولا تفريط فليس علي شيء.(10/309)
قوله: «أو بعده بها» يعني أو ادعى التلف «بعده» أي: بعد الجحد «بها» أي بالبينة فإنه يقبل، لاحتمال حدوث الوديعة بعد الجحد، وحينئذ لا ينافي البينة التي تشهد بالتلف بعد الجحود فلم يحصل تناقض، ولماذا لا يقبل مطلقاً وهو مودَع؟ لأنه بجحوده زال عنه وصف الأمانة، فلا يقبل قوله في التلف ولا في الرد إلا ببينة.
فهذا الرجل طلبت منه الوديعة، فقال للمودِع: لم تودعني، وأنكر، فأقام المودِع بينة أنه أودعه وكان إنكاره يوم الخميس، فادعى أنها تلفت يوم الجمعة فيقبل قوله ببينة، وبغير بينة لا يقبل، وكونه يقبل ببينة؛ لأنه لم يحصل تناقض بين جحوده وبينته بالرد.
فإن قيل: ألستم تقولون: إن المودَع يقبل قوله في الرد؟ فالجواب: بلى، نقول بهذا، لكننا نقول: يقبل قوله في الرد ما دام أميناً، أما وقد خان بإنكار الوديعة فإنه لا يقبل قوله إلا ببينة.
والحاصل أنه إذا أنكر الوديعة ثم ثبتت عليه ببينة ثم ادعى رداً أو تلفاً، فإن كان الرد والتلف اللذان ادعاهما سابقين على جحوده فلا قبول له مطلقاً لا ببينة ولا بغير بينة، وإن ادعى الرد والتلف بعده قُبِلَ ببينة، وبغير بينة لا يقبل، هذا إذا أنكر.
أما إذا قال: ما لك عندي شيء فهو مقبول على كل حال؛ وذلك لأن قوله: مالك عندي شيء لا ينافي ثبوت الوديعة؛ لأنها إذا تلفت بغير تعدٍّ ولا تفريط فقد صدق، ليس لمدعي الإيداع شيء؛ لأنه يقول: نعم أنت أودعتني وأنت صادق، لكن تلفت، ولما تلفت لم يبق لك عندي شيء، فيكون هنا إقراره بالوديعة أو(10/310)
ثبوتها بالبينة لا ينافي قوله: «ما لك عندي شيء» فيقبل.
قوله: «وإن ادعى وارثه» أي: وارث المودَع.
قوله: «الرد منه» أي: من الوارث.
قوله: «أو من موِّرثه» وهو المودَع، بأن قال وارث المودَع: إن المودَع ردها عليك.
قوله: «لم يقبل إلا ببينة» لأن الوارث ليس هو المودَع حتى يقبل قوله في الرد.
وقوله: «أو من مورِّثه» بأن ادعى وارث المودَع أن مورِّثه، أي: المودَع ردها، يعني لما جاء صاحب الوديعة يطلبها بعد أن مات المودَع، قال الورثة: إن مورِّثنا قد ردها عليك فلا يقبل قول الوارث؛ لأنه غير مؤتمن من قِبَل ربِّها؛ لأن ربَّها لم يودعها الوارث، إنما أودعها المورِّث، وحينئذ نقول للورثة: إن كان عندكم بينة أنكم رددتموها إلى صاحبها قبلناها، وإلا فعليكم الضمان، فالوارث أقر بالوديعة ولم ينكرها لكن ادعى الرد منه أو من مورثه، فلا تقبل دعوى الرد من الوارث أو المورث إلا ببينة.
ولو ادعى الورثة: أن المورِّث لم يترك شيئاً لا وديعتكم ولا غيرها، فيلزم المودِع حينئذ أن يثبت ببينة أن المورث تركها؛ وذلك لأن المورث قد يكون تصرف فيها وأنفقها، أو ردّها وهم لا يعلمون، أو ما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: إذا ترك الميت وديعة، فهل يجب على الورثة أن يبلغوا صاحبها، أو يردوها إليه فوراً؟
الجواب: نعم، يجب على الورثة إذا خلف المورث وديعة(10/311)
أن يبلغوا صاحبها فوراً أو يردوها عليه فوراً؛ لأن المودِع لم يأتمن الورثة عليها، والورثة وجدوا مالاً لغيرهم غير مؤتمنين عليه، فيجب عليهم أن يبلغوه أو يردوها.
وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُ المُودِعَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ يَنْقَسِمُ أَخَذَهُ. وَلِلمُسْتَوْدَعِ، وَالمُضَارَبِ، وَالمُرْتَهِنِ، وَالمُسْتَأْجِرِ مُطَالَبَةُ غَاصِبِ العَيْنِ...............
قوله: «وإن طلب أحد المودِعَيْنِ» ويجوز «المودِعِينَ» ونظيره في الحديث: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذِبَيْنِ، أو الكاذِبِينَ» (1) فهنا يجوز الجمع ويجوز التثنية.
قوله: «نصيبه من مكيل أو موزون ينقسم أخذه» مثال المكيل: مائة صاع بر في كيس مشتركة بين اثنين، أودعاها إلى زيد، وبعد مدة جاء أحدهما وقال: إنا أودعناك مائة صاع بر، وأنا أريد نصيبي منه، وهو يعلم أن نصيبه النصف، أو الثلث، أو الربع، فيلزمه أن يعطيه نصيبه، فإن اتفق الطرفان على أن مائة الصاع هذه بينهما، نصفين، فيعطيه نصفه، وعللوا هذا بأنه ليس على شريكه الغائب الذي لم يطالب ضرر.
وقيل: ما داما قد أودعاه إياها جميعاً، فإنه لا يلزمه أن يسلم للشريك؛ لاحتمال أن هذا الشريك الذي طلب نصيبه قد باعه على شريكه، وأيضاً ربما إذا أخذ نصيبه كاملاً ينقص نصيب الآخر؛ لأن الشيء إذا كيل ورُدِّد فإنه ينقص، ولهذا يقولون: كل شيء ردَّدته فإنه ينقص إلا الكلام، وهذا صحيح، فاملأ ـ مثلاً ـ فنجالاً من الماء ثم صبه في الفنجال الثاني، ثم في الثالث
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/250) ؛ ومسلم في مقدمة صحيحه، باب/ وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين ... عن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ.(10/312)
والرابع والخامس تجده ينقص بلا شك، وكذلك ـ أيضاً ـ المكيل فإذا قدرنا هذا الكيس ـ مثلاً ـ مائة صاع، وكلنا منه خمسين صاعاً وافية، فإن ذلك يؤدي إلى نقص الخمسين صاعاً الباقية.
والصحيح أنه لا يلزمه تسليمه، ويقال له: أحضر صاحبك أو هات منه موافقة وإلا فلا.
وقوله: «أو موزون ينقسم» مثله ـ أيضاً ـ، فالموزون المنقسم كما لو كان بينهما جِراب من عسل أحضراه إليه وقالا له: هذا وديعة، ثم بعد حين جاء أحدهما وقال: أعطني نصيبي؟ فعلى كلام المؤلف يلزمه إعطاؤه، والصحيح أنه لا يلزمه إلا بموافقة صاحبه لما ذكرنا من الاحتمالات.
وقوله: «ينقسم» احترازاً مما لا يمكن أن ينقسم، كما لو كان مخلوطاً، فإنه لا يلزمه لئلا يضر الآخر، أو كان لا تمكن قسمته لكونه متلبداً لا يمكن قسمته بوزن ولا بكيل، ففي هذه الحال لا يلزم المودَع أن يسلمه نصيبه؛ لما في ذلك من الضرر على شريكه، لكن على ما اخترناه، لا يلزمه مطلقاً أن يسلم نصيب الشريك إليه حتى يأتي بإذن من صاحبه.
قوله: «وللمستودَع» المراد به المودَع.
قوله: «والمضارَب» وهو من أعطي المال مضاربة، بأن قيل له: خذ هذه عشرة آلاف ريال مضاربة، اتجر بها ولك نصف الربح، وسميت مضاربة؛ لما سبق من كون التجار غالباً يضربون في الأرض، ويسافرون فيها قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .(10/313)
قوله: «والمرتهن» وهو من بيده الرهن؛ لأن مالك الرهن يسمى راهناً.
قوله: «والمستأجر» أي الذي بيده العين المستأجرة.
قوله: «مطالبة غاصب العين» أي: كل هؤلاء الأربعة لهم مطالبة غاصب العين.
فنبدأ أولاً بالمستودَع وهو المودَع، فلو غُصِبت الوديعة، فهل للمودَع أن يطالب غاصب العين؟ نعم.
ثانياً: المضارَب بيده تجارة غصبت، وأخذها إنسان قهراً، فهل له أن يطالب؟ نعم.
ثالثاً: المرتهن، أيضاً بيده الرهن فغصب فهل له أن يطالب؟ نعم.
رابعاً: المستأجر ـ أي مستأجر سيارة مثلاً ـ لمدة يومين أو ثلاثة، فجاء شخص فغصبها فهل له أن يطالب؟ نعم له أن يطالب.
فلو قال الغاصب: أنت لست بمالك؟ فجوابه أن يقال: لكنه نائب عن المالك.
بقي أن يقال: (اللام) في قوله: «للمستودع» هل هي للإباحة أو لدفع توهم الامتناع؟ (اللام) لدفع توهم الامتناع وليست للإباحة، ولو قلنا: إنها للإباحة، لكان المستودع مخيراً بين أن يطالبه وأن لا يطالبه، فإذا قلنا: لدفع توهم الامتناع، بمعنى أنه لا يُمنع المستودع من مطالبة الغاصب، وكذلك ما عطف عليه، فصار ذلك لا ينافي أن نقول: يجب عليه أن يطالب وهو كذلك، وكيف يتوهم الامتناع؟ يتوهم ذلك بأن يقال: أنت لست المالك، وإذا لم تكن المالك فليس لك حق في المطالبة؛ لأنه من الجائز أن يرضى(10/314)
المالك بهذا الغصب؛ فهذا هو التوهم الذي قد يتوهمه الإنسان، فبين المؤلف ـ رحمه الله ـ أن للمستودع أن يطالب غاصب العين، ويقول: نعم، أنا لست المالك لكني مؤتمن عليها.
فيجب على المستودَع بمقتضى الأمانة أن يطالب بنفسه أو يبلغ فوراً مالك الوديعة، أما أن يسكت وهو يرى الغاصب يأخذها فلا يجوز؛ لأن ذلك خلاف الأمانة، ويستثنى من ذلك إذا كان صاحب العين حاضراً وعالماً بالغصب فإنه لا يلزم هؤلاء المطالبة؛ لأنه إذا كان صاحبها حاضراً ويعلم بالغصب فهو المسؤول عنها.
واللام تأتي في كلام الفقهاء لمثل هذا:
مثلاً عبر بعض العلماء في فسخ المفرد والقارن ـ إذا لم يسوقا الهدي إلى عمرة ـ فقالوا: «وللمفرد والقارن أن يفسخا نيتهما إلى عمرة ليصيرا متمتعين» ، فأنت تفهم من هذه العبارة أن اللام للإباحة، وليست كذلك؛ لأن الذين عبروا بهذا التعبير قالوا: يسن، فتكون اللام هنا لدفع توهم الامتناع، ودفع القول بعدم الجواز، وهذا لا ينافي أن يقال: إن فسخ الحج، أو الحج والعمرة إلى تمتع، مباح إباحة مستوية الطرفين، بل تحويل الحج إلى عمرة ليصير الإنسان متمتعاً، سنة مؤكدة، إما وجوباً وإما تأكيداً، والصحيح أن فسخ الحج إلى عمرة ليس بواجب لكنه مؤكد، ولا ينافي القول بالاستحباب أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم غضب على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما تأخروا في التنفيذ (1) ؛ لأن المخاطبة في
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (130) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(10/315)
المقابلة أشد من المخاطبة في الإبلاغ، ولو أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ امتنعوا في ذلك الوقت لفات بهذا تشريع هذه السنة؛ لأنه إذا امتنع منها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فمن بعدهم من باب أولى، ولهذا كان أحسن الأقوال، وأصحها أن الفسخ واجب على الصحابة، ومن أجل ذلك غضب الرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم لما تباطؤوا في الفسخ، وأما من بعدهم فإنه سنة، وليس هذا من تقديم قول أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لأن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ لا يريان ذلك، بل يريان أن يحج الإنسان حجاً مفرداً ويأتي بالعمرة في وقت آخر، لكن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أولى، فيقال: للإنسان أن يتمتع حتى في سفر حجه إلا أن الفسخ ليس بواجب على غير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
ولهذا لما سئل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ: ألكم هذه خاصة، أم للناس عامة؟ قال: بل لنا خاصة (1) ، ومراده بنفي العموم نفي الوجوب، فيحمل كلام أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ على نفي الوجوب، وإلا فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم سأله سراقة بن مالك بن جعشم ـ رضي الله عنه ـ وقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: «بل لأبد الأبد» وشبك بين أصابعه (2) ، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب جواز التمتع (1224) .
(2) أخرجه البخاري في الحج/ باب من أهل في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم كإهلال النبي صلّى الله عليه وسلّم (1557) ؛ ومسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1216) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(10/316)
بَابُ إِحْيَاءِ المَوَاتِ
وَهِيَ الأَرْضُ المُنْفَكَّةُ عَنِ الاخْتِصَاصَاتِ وَمِلْكِ مَعْصُومٍ. فَمَنْ أَحْيَاهَا مَلَكَهَا، ...
قوله: «إحياء الموات» «إحياء» مصدر أحيا أي: جعل الحياة في شيء ميت، و «الموات» مشتق من الموت وعبروا بالموات دون الميتة؛ لأن الأرض الميتة قد يراد بها ما لا نبات فيها، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ *} [يس] فعبروا عن الأرض هنا بالموات للفرق بينها وبين الأرض التي ليس فيها نبات.
قال المؤلف في تعريف الأرض الموات: «وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم» .
فقوله: «الأرض المنفكة» يعني الخالية.
وقوله: «عن الاختصاصات» كمجاري السيول، ومواضع الحطب، ومواضع المراعي، والمصالح العامة، وأفنية الدور ـ وهي مُلْقَى زبالاتهم ـ فهذه غير مملوكة لكنها مختصة لمصالح البلد عموماً، أو لمصالح كل بيت، ففناء الدار وهي البرحة أو الساحة التي أمامها تكون ملقى للكناسة، أو ما أشبه ذلك، هذه وإن لم تكن ملكاً لكنها مختصة لصاحب البيت ينتفع بها، كذلك المصالح العامة كمسايل المياه، ومواضع الاحتطاب، والاحتشاش، والمراعي، وما أشبه ذلك، ومثله ـ أيضاً ـ الطرق، فهذه نسميها(10/317)
اختصاصات ولا نسميها أملاكاً؛ لأنها ليست ملكاً لأحد.
وقوله: «وملك معصوم» أي: ولم يسبق إحياءَها ملكٌ، فإن سبق إحياءها ملك فإنه لا يمكن لمن أحياها أن يملكها؛ لأنها ملك للأول الذي أحياها، لكن اشترط المؤلف أن تكون ملكاً لمعصوم، والمعصوم من بني آدم أربعة أصناف: المسلم، والذمي، والمعاهَد، والمستأمِن، فهذه أربعة أنفس معصومة لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، أما الحربي الذي ليس له عهد ولا ذمة وليس مسلماً، فماله مباح للمسلمين، فالأرض التي تكون ملكاً لحربي فهي موات وإن كان مستولياً عليها؛ لأن ماله غير معصوم.
ومثل إحياء الموات الأراضي الداثرة التي كانت قرىً في قديم الزمان وارتحل الناس عنها وتركوها، فهذه ـ أيضاً ـ لمن ملكها، ونظير ذلك في الأعيان إذا ألقى الإنسان متاعه زاهداً فيه وراغباً عنه ولا يريده فهو لمن وجده، كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان على جمل له فأعيا فأراد أن يسيِّبه (1) ، فلو سيَّبه جابر ووجده آخر فهو له، وكذلك ما يلقى في البحر عند خوف غرق السفينة فإن من وجده فهو له؛ وذلك لأن الذي ألقاه قد تخلى عنه ولم يرد أن يكون ملكاً له، وكذلك أراضي القرى البائدة التي من قديم الزمان ـ كما سبق ـ فهذه ـ أيضاً ـ مَنْ أحياها مَلَكَها، ولهذا الآن يوجد في بعض الأراضي التي تُحيا
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة (2718) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع البعير واستثناء ركوبه (715) (109) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(10/318)
آثار إحياء سابقة، حتى إنه عندنا هنا قريب من الوادي عثروا مرة على سوق كله رماد وقطع حديد، مما يدل على أن هذا السوق كان سوق الصناع في هذا المكان، لكنه باد وذهب أهله ولم يعرف له مالك، فهذه تدخل في كلام المؤلف في قوله: «ملك معصوم» ؛ لأن هذه الأراضي البائدة الآن ليس لها مالك فتدخل.
والشح في الأراضي شديد، والاعتداء عليها عقابه شديد، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين» (1) أي يُجعل طوقاً في عنقه من سبع أرضين، وليس من أرض واحدة؛ لأنه ظلم، حتى إن العلماء ـ رحمهم الله ـ قالوا: لا يجوز للإنسان أن يزيد في تلييس الجدار أكثر مما جرت به العادة؛ وذلك لأنه يأخذ بهذه الزيادة من السوق، والسوق مشترك، فإلى هذا الحد حذر العلماء من التعدي على الأرض، لكن على كل حال إذا وجدنا أرضاً منفكة عن الاختصاصات وملك معصوم فمن أحياها ملكها، ولهذا قال المؤلف:
«فمن أحياها ملكها» «مَنْ» شرطية، وفي أصول الفقه أن أسماء الشرط من صيغ العموم، إذاً فتعم كل من أحياها، وسيأتي إن شاء الله بيان الإحياء.
وقوله: «ملكها» أي: دخلت في ملكه قهراً؛ لأن ملكها عُلِّق
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ واللفظ لمسلم.(10/319)
بسبب فمتى وجد ثبت، كما قلنا في الميراث، فالميراث إذا وجد سببه دخل في ملك الوارث قهراً، حتى لو قال الوارث: أنا لا أريد الميراث، قلنا: هو لك قهراً عليك؛ لأن الملك المعلق بسبب، متى وجد سببه ثبت الملك شاء الإنسان أم أبى، نعم الإنسان حر مختار قبل أن يفعل السبب، أما إذا فعل السبب فإن الشارع رتب المسبب على وجود السبب فلا خيار للإنسان فيه.
مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ بِإِذْنِ الإِمَامِ وَعَدَمِهِ، فِي دَارِ الإِسْلاَمِ وَغَيْرِهَا. وَالعَنْوَةُ كَغَيْرِهَا. وَيُمْلَكُ بِالإِحْيَاءِ مَا قَرُبَ مِنْ عَامِرٍ، إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَصْلَحَتِهِ. .......
قوله: «من مسلم وكافر» فصل المؤلف العموم في قوله: «من أحياها» لأنه في بعض أفراده خلافاً، فبعض العلماء يرى أن الكافر لا يملك الأرض في البلاد الإسلامية ولو كان ذمياً؛ لأن البلاد الإسلامية لا ينبغي أن يكون فيها مكان لغير المسلمين؛ لأن غير المسلمين إذا تملكوا الأرض كثروا فيها ثم صاروا أغلبية، فيطغى الخبيث على الطيب، فحينئذٍ يوشك أن يعمهم الله بالعقاب، لكن المؤلف يقول: لا فرق بين المسلم والكافر، والمراد بقوله: «كافر» أي معصوم، وأيضاً نزيد شرطاً ثانياً في الكافر وهو أن يكون ممن يصح تملكه الأرض، فإن كان لا يصح فإنه لا يملكها، فمن أحياها ملكها من مسلم أو كافر، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، لكن الصغير الذي لا يميز يتولى ذلك عنه وليه.
قوله: «بإذن الإمام وعدمه» إذا قال الفقهاء: «الإمام» فمرادهم من له السلطة العليا في البلد، فالبلاد الملكية يكون الإمام فيها الملِك، والبلاد الجمهورية يكون الإمام فيها الرئيس، فمن له السلطة العليا في البلد هو ما يعنيه الفقهاء بكلمة: «الإمام» .(10/320)
وقوله: «بإذن الإمام» هل يأذن الإمام مباشرة؟ نقول: بإذن الإمام أو نائبه؛ لأنه الآن اختلفت الأوضاع، واختلف أسلوب الحكم، فالإمام نفسه لا يباشر مثل هذه الأمور لكن له نواب، ووزراء، هذا وزير داخلية، وهذا وزير بلديات، وهذا وزير عمال ... إلخ.
فالوزير ينوب مناب الإمام، وإذا جُعل للوزير من قِبَل الإمام أن ينيب غيره في كل بلد كالأمير أو المحافظ، قام هذا الأمير أو المحافظ مقام الإمام، وقصدي من هذا الترتيب ألا يقول قائل: إن إذن الأمير أو المحافظ أو الوزير أو رئيس البلدية أو ما أشبه ذلك غير معتبر؛ لأن المعتبر إذن الإمام، فنقول: إن النواب عنه بمنزلته يقومون مقامه.
وقوله: «بإذن الإمام وعدمه» لأن الأرض لله وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1) ، لكن لو قال قائل: هذا لا داعي له؛ لأنه إذا قال: من أحياها ملكها، ولم يذكر «بإذن الإمام» معناه أنه لا يشترط إذن الإمام، ولكن الفقهاء إذا قالوا شيئاً لا داعي له من حيث العبارة، فإنما يشيرون إلى رأي آخر، وهنا يريد المؤلف أن يشير إلى رأي آخر، وهو أن هناك قولاً بأنه لا تملك الأرض الميتة إلا بإذن الإمام أو نائبه لئلا تحصل الفوضى والاعتداء، فإذا كانت بإذن الإمام أو نائبه صارت مرتبة مضبوطة.
وسبب اختلافِهم اختلافُهم في فهم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من
__________
(1) جزء من حديث: «ليس لعرق ظالم حق» وقد سبق تخريجه ص (66) .(10/321)
أحيا أرضاً ميتة فهي له» فهل هذا حكم تشريعي أو حكم تنظيمي؟ إن قلنا: إنه حكم تشريعي صار «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» سواء أذن الإمام أم لم يأذن؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله على وجه التشريع للأمة، وإن قلنا: إنه على وجه التنظيم، صار لا بد أن يقول الإمام: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» في كل زمان ومكان.
ونظير هذا من بعض الوجوه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل قتيلاً فله سَلَبُه» (1) أي في الحرب، فهل هذا تشريع أو تنظيم؟ فيه خلاف، فبعض العلماء قال: إن الرجل إذا قتل قتيلاً في الحرب فله سلبه سواء اشترط ذلك الإمام أم لا، وبعضهم قال: ليس له سلبه إلا بإذن الإمام، وهنا أمير الجيش ينوب مناب الإمام؛ لأن سَلَب القتيل غنيمة فيلحق بالغنيمة ولا يملكه القاتل إلا بإذن خاص.
وكلام المؤلف في المسألة السابقة ـ وهو مذهب الحنابلة ـ يدل على أن من أحيا أرضاً ميتة فهي له، سواء كان ذلك برخصة من ولاة الأمر أم لا، لكن لو أن ولي الأمر قال: لا يحيي أحد أرضاً إلا بإذني وموافقتي، فهل يملك المحيي بعد ذلك الأرض بالإحياء بدون مراجعة ولي الأمر؟ الجواب: لا؛ لأن المسألة انتقلت من كونها داخلة في العموم إلى تخصيص من ولي الأمر، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فإذا قال ولي الأمر: لا أحد يحيي إلا بإذني وترخيص مني، فمن أحيا بعد أن بلغه هذا القول فإنها تنزع منه ولا حق له فيها؛ وذلك لأن ولي الأمر أمر بهذا،
__________
(1) سبق تخريجه ص (235) .(10/322)
لكن إذا كان أحياها قبل صدور الأمر فهي له؛ لأن الذي يظهر من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» أنه تشريع، وهذا هو الأصل حتى يقوم دليل على أنه تنظيم، لكن قد تكون المصلحة، أو الحاجة، أو الضرورة في تقييد ولي الأمر الإحياء بهذا الشرط وذلك حسب المنطقة، فبعض المناطق يكون فيها أناس جهال إذا لم يُقَيَّدوا بإذن الإمام اعتدى بعضهم على بعض، فهؤلاء يكون من الضروري أن يقيدوا بإذن الإمام، وقد تكون بعض المناطق أهون، فيكون عندهم خوف من الله وتقوى ولا يعتدي أحد على أحد، فهنا قد يكون من الحاجة تقييدهم بالإذن، وقد يزول هذا كله وتكون المنطقة أهلها أغنياء، وكل إنسان عنده أرض تكفيه، وكل إنسان عنده خوف من الله فهنا تكون المصلحة، فالتقييد إما أن تقتضيه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة.
وفي وقتنا الحاضر حسب ما نسمع، أن تقييد الإحياء بإذن الإمام أمر لا بد منه، يدخل في قسم الضرورة مباشرة في بعض المناطق، ويدخل في الحاجة أو المصلحة في مناطق أخرى؛ لأنه لا يمكن أن يتبعض النظام، بمعنى أن نجعل هذه الجهة لا بد فيها من إذن الإمام، وهذه الجهة يُمَلَك فيها بدون إذن الإمام؛ لأن الدولة واحدة، ولذلك لو قال قائل: لا حاجة إلى إذن الإمام في بلد أهلها أغنياء، وكل إنسان عنده مزرعته وكل إنسان عنده خوف من الله، ولا يمكن أن يعتدي على أحد؟ نقول: نعم، لكن ليست كل المناطق على هذه المنزلة، فَيُعَمَّم النظام ولا بأس.
إذاً المذهب: أنه لا يشترط للإحياء إذن الإمام، والقول(10/323)
الراجح أنه يملكها بدون إذن الإمام إلا إذا أصدر الإمام أمره بألا يحيي أحد أرضاً إلا بإذنه فلا تحيا إلا بإذنه، وإذا أمر الإمام ألا يُحييَ أحد أرضاً إلا بإذنه فهل تجب طاعته؟ الجواب: نعم، تجب طاعته؛ لأن طاعة ولي الأمر واجبة في غير معصية الله، وتنظيم الأراضي، وكون الناس لا يُعْطَون إلا بترخيص وحدود مضبوطة ليس من معصية الله، بل هو من حفظ حقوق العباد.
قوله: «في دار الإسلام وغيرها» يعني من أحياها ملكها سواء كان في دار الإسلام وغير دار الإسلام، ودار الإسلام هي التي غلب عليها الإسلام ظهوراً وشيوعاً بحيث يؤذن فيها للصلاة، وتقام فيها الجماعات، ويصام فيها رمضان ويعلن، وتظهر فيها الشعائر حتى وإن كان فيها كفار، فلو قدر أن الكفار فيها خمسون في المائة أو أكثر فهي دار إسلام، ما دام حكم الإسلام غالباً عليها، أما إذا لم يكن حكم الإسلام عليها غالباً فهي دار كفر ولو كثر فيها المسلمون، والاعتبار بالمظهر والظاهر، ويدل لهذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا قوماً أمسك حتى يطلع الفجر، فإن أَذَّنُوا امتنع من قتالهم، وإن لم يؤذِّنوا قاتلهم (1) .
فمثلاً بلاد أوروبا الآن بلاد كفر؛ لأن الحكم الشائع والظاهر فيها هو الكفر، وإن كان يوجد فيها جمعيات إسلامية، وربما يوجد في بعض البلاد هناك مناطق تقام فيها الجماعة والجمعة، لكنها بلاد كفر؛ لأن الغالب والمهيمن عليها هو حكم
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء (610) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(10/324)
الكفار، فإذا قدر أن شخصاً تملَّك في أوروبا، وأحيا أرضاً فهي ملكه شرعاً، ولا أحد ينازعه فيها إذا تم الإحياء.
وقيل: إن دار الإسلام من كان أكثر أهلها مسلمين بغض النظر عن الحاكم، وقيل: إن دار الإسلام من يحكمها مسلم ولو كان أكثر أهل البلد كفاراً، والعلماء اختلفوا في هذا اختلافاً كبيراً، لكن أقرب الأقوال أنه ما أعلن فيها بالإسلام.
قوله: «والعَنْوة كغيرها» العنوة ما فتح بالسيف، أي: أن بلاد الكفر المفتوحة بالسيف كغيرها من البلاد التي فتحت صلحاً، فإذا أحيا أرضاً ميتة في بلاد فتحت عنوة فهي له، وما زال المسلمون يتبايعون هذه الأراضي، أما قول بعض الفقهاء ومنهم أصحاب الإمام أحمد ـ في المشهور عنهم ـ أنه لا يباع غير المساكن مما فتح عنوة، فهذا قول مخالف لما جرى بين المسلمين، فإن المسلمين منذ فتحوا هذه البلاد وهم يتبايعون الأراضي والمساكن ويملكونها، وكذلك فيما فتحت صلحاً، بأن صولح أهلها أن يبقوا فيها وتكون الأرض أرضنا، ويبقون فيها بالجزية، أما ما صولحوا على أنها لهم، فإنها لا تملك بالإحياء؛ لأن الأرض أرضهم، لكن ما صولحوا على أنها لنا ونقرهم فيها بالجزية أو بالعهد فإنها تملك.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين مكة وغيرها، ولكن هذا فيه خلاف، أما المدينة فكغيرها من البلدان تُملك بالإحياء، وأما مكة ففيها خلاف؛ لأن مكة مشعر يجب على كل مسلم أن يقصده ليؤدي مناسك الحج، فليست خاصة لأحد، ولهذا قال(10/325)
فقهاؤنا ـ رحمهم الله ـ: إنه لا يصح بيع مساكنها ولا إجارتها؛ لأنها تعتبر أرض مشعر، ولا يملك الإنسان فيها شيئاً على وجه تام كما يملكه في غيرها، إلا المساكن التي بناها فهذه له أن يبيعها لكن الأرض لا تباع.
ويرى شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قولاً وسطاً في هذا فيقول: هي تملك بالإحياء وبالإرث وبالبيع، لكنها يحرم تأجيرها، فمن استغنى عن مكان وجب بذله لغيره، ولو أن الناس مشوا على كلام شيخ الإسلام لحصل في ذلك سعة عظيمة للناس؛ ووجه ذلك أن الناس لا يبنون إلا ما يحتاجون إليه فقط، وإذا لم يبنوا إلا ما يحتاجون إليه وقدم الحجاج، فإن من وجد سكناً مبنياً بالحجارة والطين سكنه وإلا فالخيام.
والقول الثالث في المسألة: أن مكة كغيرها تملك بالإحياء وبالبيع ويجوز بيعها وإجارتها، والعمل الآن على هذا القول، وهذا هو الذي لا يمكن العمل بسواه في الوقت الحاضر؛ لأننا إن قلنا بالمذهب فهو قول ضعيف لا يمكن العمل به، وإن قلنا باختيار شيخ الإسلام صار هناك خصومات وعداوات وبغضاء، فإذا قدم الحاج ووقف عند البيت وقال لصاحب البيت: البيت يوجد فيه حجر فارغة، فقال صاحب البيت: لا يوجد، فهنا يحصل نزاع وخصام، ثم هل يمكن أن نقول للذي جاء ليستأجر: لك الحق أن تسأل صاحب البيت كم عائلتك؟ وكم في البيت من حجرة؟ والزائد لا بد أن تفرغه لنا!! هذا فيه صعوبة، ولهذا مشى القضاة الآن على أنها تملك بيعاً وشراءً ويملك تأجيرها(10/326)
واستئجارها، لكن على المذهب يقولون: إذا لم يجد مكاناً إلا بأجرة دفعها والإثم على الآخذ، وهذا فيه فسحة، وعللوا ذلك بأن سكناه في هذا البيت حق له، فإذا قال صاحبه: لا يمكن أن تسكن إلا بأجرة، فمعناه أنه منعك حقك إلا بعوض، فابذِلْ العوض وهو الآثم.
وبهذا التقرير نعرف أن بعض البلاد التي يقولون فيها: لا بد أن تؤمن على سيارتك، وحاجاتك وأنت ترى أن التأمين حرام؛ لأنه من الميسر، فلك في هذه الحال أن تعطيهم وهم الآثمون؛ لأنه لا يمكن أن نضيق على الناس ونفوت مصالحهم، فنقول: اعقد معهم عقد التأمين، لكن أضمر في نفسك أنك مظلوم وأنك مكره على بَذْلِكَ ثمن التأمين، وفي هذه الحال إذا قدر عليك حوادث أكثر مما دفعت فإنك لا تستحق هذا الزائد؛ لأنك تعتقد أن العقد باطل وحرام، فخذ ما خسرت أو ما دفعت في التأمين والباقي امتنع منه، فإن أبوا إلا أن تأخذه فخذه وتصدق به تخلصاً منه، وبهذا نسلم من الحرج الذي يصيب بعض الناس الآن، يقول: إنه في بلاد لا يمكن أن يشتري سيارة، ولا أن يعمل أي عمل إلا بتأمين، فنقول: هذا المخرج، والحمد لله والإثم على الآخذ.
قوله: «ويملك بالإحياء ما قرب من عامر إن لم يتعلق بمصلحته» يعني أن الإحياء لا يشترط أن يكون بعيداً عن العمران، فيملك بالإحياء ما قرب من عامر، حتى وإن لاصقه، فلو أن رجلاً قد بنى بيتاً، وما حول البيت فضاء ليس لأحد، فبنى(10/327)
هو بجنب البيت وليس بينهما إلا الجدار، فإنه يصح الإحياء ويملكه، لكن يقول المؤلف: «إن لم يتعلق بمصلحته» فإن تعلق بمصلحة العامر لكونه مرعى لدوابهم أو فناءً لإلقاء القمامة أو محتطباً لهم، فإنه لا يملك ولا يجوز لأحدٍ أن يتملكها، فإن تملكها فإن كان ببنيان هدم وإن كان بغرس قلع؛ لأن هذه الأرض التي تتعلق بها مصالح الناس ليست منفكة عن الاختصاصات، فلا تكون مواتاً حسب التعريف الفقهي، وإذا قدرنا أن الرجل قد بنى بيتاً إلى جنب بيتِ قد أحيي وسكن صاحبه، فهل يطالب صاحب البيت هذا الذي أحيا من بعد بقيمة الجدار الذي بينهما؟
الجواب: لا يطالبه؛ لأن هذا الرجل بنى الجدار على أنه حماية بيته وأنه مُلْكُه، وهذا تجدد إحياؤه فلا يطالبه بقيمة الجدار الذي بينهما، لكن لو فرض أن الأرض مقطَّعة وكل قطعة لبيت، وتأخر أحد الجارين في عمارة منزله حتى يعمر الآخر فيسقط عنه قيمة الجدار؛ لأن بعض الناس قد يتحيل، ويقول: أتأخر في البناء وإذا بنى جاري سقط عني قيمة الجدار، ففي هذه الحال يحسن قضاءً أن يلزم بما يُستحق عليه من قيمة الجدار سداً لحيل المتحيلين.
أما إذا كان الجار ليس له نية أن يعمر ثم عمر بعد ذلك، فإنه لا يلزمه أن يدفع شيئاً من قيمة الجدار، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه على جداره» قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين كان أميراً على المدينة: (ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) (1) أي: أرمين بالخشب،
__________
(1) سبق تخريجه ص (20) .(10/328)
يعني إذا لم تمكِّنوا من وضع الخشب أضعه على الكتف؛ لأنه أمير، وهذا نظير قول عمر ـ رضي الله عنه ـ لمحمد بن مسلمة مع جاره، حين احتاج جاره أن يجري الماء من ملكه عبر ملك محمد بن مسلمة فامتنع، وقال: لا يمكن أن تجري الساقي على ملكي، فالأرض أرضي، فقال له صاحب الساقية: انتفع به اغرس عليه وابذر، فأبى، فترافعا إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال له: (لَيُجرينَّه وإلا أجريته على بطنك) (1) ؛ لأن هذا الذي امتنع يعتبر مضاراً، نعم لو قال: أنا لا أريد أن تجري الساقي في ملكي؛ لأني أريد أن أبنيه فهنا له الحق، أما إذا كان يريد أن يزرعه ويغرسه فمن مصلحته أن يجري الماء.
وَمَنْ أَحَاطَ مَوَاتاً، أَوْ حَفَرَ بِئْراً فَوَصَلَ إِلَى المَاءِ، أَوْ أَجْرَاهُ إِلَيْهِ مِنْ عَيْنٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ حَبَسَهُ عَنْهُ لِيُزْرَعَ فَقَدْ أَحْيَاهُ. ..............
قوله: «ومن أحاط مواتاً، أو حفر بئراً فوصل إلى الماء، أو أجراه إليه من عين ونحوها، أو حبسه عنه ليُزرع فقد أحياه» هذا بيان لما يحصل به الإحياء، وهي مسائل:
الأولى: «إذا أحاط مواتاً» أي: ضرب عليها حائطاً يمنع الدخول منه ملكها، وليس حائطاً يسيراً كحجر أو حجرين.
وظاهر كلام المؤلف ولو كبيرة، أما إذا كان في الأراضي شح بأن كانت البلد في أرض محجوزة إما بالأنهار وإما بالجبال، فلولي الأمر أن يحدد، ويقول: لا أحد يتملك أكثر من كذا وكذا قدراً؛ وذلك من أجل ألا يحتكرها أحد الأقوياء، ويحوط أرضاً كبيرة ثم يبيعها على الناس بثمن غالٍ.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/746) ؛ وصححه الحافظ في الفتح (5/133) ط/الريان.(10/329)
الثانية: «أو حفر بئراً فوصل إلى الماء» فإن هذا إحياء، لكن ما الذي يملكه بحفر البئر؟ إن كانت البئر للوِرْد ونحوه فإنه يملك حريمها، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وإن كانت لسقي الأرض كبئر الزراعة فإنه يملك كل ما أجرى عليه الماء، فإن لم يصل إلى الماء فليس بإحياء لكنه يكون أحق بها من غيره؛ لأنه ابتدأ بالإحياء ولم ينهه.
الثالثة: «أو أجراه إليه من عين ونحوها» فقوله: «أجراه» أي: أجرى الماء إلى الموات «من عين أو نحوها» كالنهر، فإنه يحصل به الإحياء، ولكن ما الذي يُمْلك؟ الجواب: كل ما جرى عليه الماء فهو إحياء.
الرابعة: «أو حبسه عنه ليُزرع» فقد أحياه، فهذه أرضٌ الماءُ فيها كثير لا تصلح للزرع، فإذا زُرِعَ فيها غرق الزرع، فكيف يحييها؟ يحييها بأن يحبس الماء عنها، فإذا حبس الماء عنها لتصلح للزرع فقد أحياها، فكل ما حبس عنه الماء فإنه يعتبر مُحيا يملكه صاحبه، فإجراء الماء إلى الأرض إحياء، ومنع الماء عن الأرض إحياء؛ لأن المقصود أن تتهيأ الأرض للزرع.
وزاد أهل العلم فقالوا: كذلك لو كان فيها أشجار لا يمكن أن تغرس معها أو تزرع فأزال الأشجار فهو إحياء، وكذلك لو كان فيها أحجار متراكمة عليها لا تصلح الأرض مع هذه الأحجار للزرع ثم أزال الأحجار ونقاها فهذا إحياء.
ومن العلماء من يقول: يُرْجع في هذا إلى العرف، فما عده الناس إحياءً فهو إحياء، وما لم يعدوه إحياءً فليس بإحياء، وعللوا(10/330)
هذا بعلة قوية، فقالوا: إن القاعدة عندنا أن كل ما أطلقه الشارع وليس له حد في الشرع فمرجعه إلى العرف؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1) ولم يبين النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يحصل به الإحياء، وهذا القول لا يبعد عما قاله المؤلف ـ رحمه الله ـ لكن ربما تتغير الأحوال وتختلف.
أما لو غرس على أرض واسعة كبيرة أشجاراً كالجدار، فهل يملك ما كان داخل هذه الأشجار؟ الجواب: لا يملك؛ لأنه ما زرعها، ولا بنى، والأشجار عرضة للزوال، لكنه تَحجُّر فيكون أحق بها، بمعنى أنه لا يزاحمه عليها أحد، ولكن إذا تأخر في إحيائها وَوُجِد من يطلب إحياءها فيمهل، ويقال له: يا فلان إما أن تحيي الأرض، وإما أن ترفع يدك؛ لأن هناك من ينتظر إحياءها.
وقوله: «أو حبسه عنه ليزرع فقد أحياه» أما لو حبس الماء عن هذه الأرض لمجرد أن تيبس فقط فإن هذا ليس بإحياء، وفي هذا إشارة من المؤلف إلى أن النية معتبرة في الإحياء في مثل هذه الصورة.
وَيَمْلِكُ حَرِيمَ البِئْرِ العَادِيَّةِ خَمْسِينَ ذِرَاعاً مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَحَرِيمَ البَدِيَّةِ نِصْفَهَا. ....
قوله: «ويملك حريم البئر العاديَّة خمسين ذراعاً من كل جانب، وحريمَ البديَّة نصفَها» .
قوله: «حريم» أي: محارم الشيء، أي: ما حوله.
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/331)
وقوله: «العادية» يعني التي أعيدت بعد أن كانت محفورة من قبل ثم طمها الرمل، أو المطر، أو ما أشبه ذلك، ثم أعادها، فيملك خمسين ذراعاً من كل جانب؛ وذلك لأنه حفرها أولاً ثم حفرها ثانياً، فبالحفر الأول ملك خمسة وعشرين ذراعاً، وبالحفر الثاني ملك خمسة وعشرين، فيكون الجميع خمسين ذراعاً.
ومراد المؤلف ـ رحمه الله ـ بذلك البئر المحفورة للسقيا وليست للزرع، وهذا يقع كثيراً في البر عند البادية، تجد الرجل يحفر بئراً حتى يصل إلى الماء من أجل أن يسقي ماشيته من إبل أو بقر أو غنم، فنقول: هذا الرجل يملك بهذه البئر خمسين ذراعاً إن كانت قد أعيدت، أو خمسة وعشرين ذراعاً إن كانت بدية، يعني مبتدأة، ففعيل هنا بمعنى مفعول، أي: ابتدأ حفرها، أما إن كانت البئر للزرع فهو شبيه بإجراء الماء إلى الأرض يكون إحياء لكل ما يمكن أن يزرع بهذه البئر.
وظاهر كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أنه لا فرق بين أن يكون الحفر سهلاً أو يكون الحفر شديداً، كما لو كانت أرضاً صخرية، وأنه لا فرق بين أن يكون عمقها بعيداً أو عمقها قريباً؛ وتعليل ذلك أن هذا الحريم هو الذي يتعلق به مصلحة البئر، فالرجل في البادية إنما حفر هذا البئر من أجل أن يسقي ماشيته، وخمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب فيها كفاية، أي: دائرة يبلغ قطرها خمسين ذراعاً، أما إذا كانت عاديَّة بمعنى أنها انطمت ثم حفرها ثانية فإنه يملك خمسين ذراعاً من كل جانب.
وظاهر كلامهم ـ أيضاً ـ أنه لا فرق بين أن يكون الحافر مرة(10/332)
أخرى، هو الأول أو غيره، أما إذا كان هو الأول فإعطاؤه خمسين ذراعاً واضح؛ لأنه تعب عليها مرتين، وأما إذا كان غيره، فيقال: إن الأول ملك خمساً وعشرين، والثاني ملك خمساً وعشرين فيكون خمسين ذراعاً من كل جانب، فتكون الخمس والعشرون الأولى باعتبار حفر الأول لها، والثانية باعتبار حفر الثاني لها.
وَلِلإمَامِ إِقْطَاعُ مَوَاتٍ لِمَنْ يُحْيِيهِ، وَلاَ يَمْلِكُهُ. وَإِقْطَاعُ الجُلُوسِ فِي الطُّرُقِ الوَاسِعَةِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِجُلُوسِهَا، وَمِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ لِمَنْ سَبَقَ بِالجُلُوسِ مَا بَقِيَ قُمَاشُهُ فِيهَا وَإِنْ طَالَ. ......
قوله: «وللإمام» إذا قال الفقهاء: «الإمام» فمرادهم السلطان الأعلى، أي الذي له الكلمة على كل الدولة، كالملك ـ مثلاً ـ في البلاد الملكية وكالرئيس في البلاد الجمهورية، وما أشبه ذلك، فمن له الكلمة العليا فهو عند أهل العلم الإمام؛ لأنه يؤتم به ويطاع فيما يأمر به في غير معصية الله، وكل من كان قدوة فهو إمام، ولذلك نسمي من يصلي بنا في الجماعة إماماً؛ لأننا نأتمر بأمره، فلا نكبر إلا إذا كبر، ولا نركع إلا إذا ركع، وإذا قام قمنا، وإذا سجد سجدنا.
قوله: «إقطاع موات لمن يحييه» إقطاعه يعني أن يقول مثلاً: يا فلان لك هذه الأرض أحيها، فإذا أحياها المقطَع فإنه يملكها، وإذا لم يحيها فإنه يكون أحق بها من غيره، فيكون المقطَع كالمتحجر وليس كالذي أحيا.
وإذا قالوا: «وللإمام» فاللام للإباحة، بمعنى أنه لا يمنع من الإقطاع، ولكن قد يجب وقد يحرم، فيجب عليه إذا تقدم متشوف لإحياء الأرض، وكان هذا المتقدم قادراً على إحيائها، فالواجب على الإمام حينئذ أن يقطعه حتى لا تتعطل الأراضي، وحتى ينتفع هذا المتقدم.(10/333)
ويكون حراماً إذا أقطعها شخصاً محاباة، بمعنى أنه قد تقدم من هو أولى منه وأقدر على إحياء الأرض، ولكنه أقطعها هذا الرجل؛ لأنه قريبه، أو لأنه ذو جاه أو ما أشبه ذلك.
وفهم من قوله: «إقطاع موات» أنه ليس له الحق في أن يقطع أرضاً ذات اختصاص؛ لأن الموات هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، وعلى هذا فليس للإمام أن يقطع أودية البلد، وطرقه، أو ما أشبه ذلك؛ لأنها مختصة وإن لم تكن مملوكة، وليس له أن يقطع مراعي البلد، ومحتطبهم، أي محل جمع الحطب وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من الاختصاصات، وليس من الأرض الموات.
وقوله: «وللإمام» كذلك من قام مقام الإمام فهو مثله؛ لأنه في الوقت الحاضر الإمام لا يتولى هذا، وإنما يتولاه الوزراء أو الوكلاء أو ما أشبه ذلك، فيرجع في هذا إلى نظام الحكم، فإذا كانت الدولة يتولى الإقطاع فيها الحاكم الأعلى فهو الحاكم الأعلى، وإذا كان نوابه فنوابه.
قوله: «ولا يملكه» الواو هنا للاستئناف، والضمير هنا يعود على المقطَع، يعني أن المقطَع لا يملكه لكن يكون أحق به من غيره، بحيث لا يمكن لأحد أن يقوم بإحيائه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له» (1) فجعل مناط الحكم الإحياء.
وقيل: إنه يملكه بإقطاع الإمام؛ لأن إقطاعه إياه تمليك على
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(10/334)
هذا القول؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقطع بعض الأراضي (1) وإقطاعه إياها تمليك بلا شك، ولأن الإمام هو المسؤول عن أراضي دولته وأحوال الدولة، فإذا أقطع هذا الرجل فكأنه وهبه، والهبة يكون بها الملك، لكن الأقرب أنه لا يملكه، وأنه أحق به، ثم إن أحياه فهذا المطلوب ويملكه بالإحياء وإن لم يحيه، وتقدم متشوف لإحيائه وجب على الإمام أن يقول للذي أقطعه: إما أن تحييه، وإما أن ترفع يدك ويضرب له مدة يمكنه أن يحييه فيها.
مسألة: هل يجوز لمن أُقطع أن يتنازل عن إقطاعه بعوض؟
الجواب: في هذا خلاف، فمن العلماء من قال: لا يجوز لاحتمال ألا يحصل للثاني؛ لأن الثاني إذا لم يحيه قيل له: ارفع يدك.
وقال بعض أهل العلم: بل يجوز ذلك؛ لأن هذا الذي أُقطع تنازل عن حقه بعوض، والأصل في العقود الحل والإباحة وليس في ذلك محظور؛ لأنه إذا تنازل عنه نزل الثاني منزلة الأول، وهذا لا مانع منه، وهذا القول هو الصحيح.
قوله: «وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس» أي: وللإمام إقطاع الجلوس في الطرق الواسعة بشرط ألا يضر بالناس؛ لأن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ولنضرب مثلاً بسوق الخضار، فهذا السوق يكون عادة
__________
(1) من ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أقطع الزبير ـ رضي الله عنه ـ أرضاً، كما في البخاري في فرض الخمس/ باب ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعطي المؤلفة قلوبهم ... (3151) ؛ ومسلم في الآداب/ باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق (2182) عن أسماء ـ رضي الله عنها ـ(10/335)
واسعاً فله أن يقطع أحداً مكاناً يجلس فيه، فيقول: يا فلان لك رأس السوق أو وسط السوق أو طرف السوق أو ما أشبه ذلك؛ لأن المرجع في هذه الأمور إلى الإمام، لكن بشرط ألا يضر بالناس، والإضرار بالناس له صور منها:
لو أقطعه مكاناً كبيراً والناس مزدحمون في هذا المكان، ولو لم يقطعه لَوسِعَ هذا المكان أربعة أو خمسة فهنا لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا إضرار بالناس، والناس محتاجون، وإذا أقطع قطعة كبيرة من هذا السوق لهذا الرجل، فبدلاً من أن يكون في هذا السوق عشرون رجلاً لم يتسع إلا لعشرة ـ مثلاً ـ وهذا إضرار.
كذلك لو أقطعه مكاناً هو مدخل السوق ويضيق على الداخلين فهنا نقول: هذا ممنوع، ولا يحل له؛ لأن الإمام يجب عليه أن يراعي المصالح العامة، والمضار الخاصة تغتفر من أجل المصالح العامة؛ لأنه إذا راعى المصالح العامة فربما يضر آخرين لكنهم أفراد.
قوله: «ويكون أحق بجلوسها» ولكن لا يملكها؛ لأن السوق ملك للعامة، فإذا أقطعه مكاناً يبيع فيه، فإنه لا يملكه لكن يكون أحق بالجلوس فيه.
قوله: «ومن غير إقطاع» يعني لو جلس إنسان في مكان من السوق يبيع ويشتري فيه من غير إقطاع.
قوله: «لمن سبق بالجلوس ما بقي قماشه فيها وإن طال» يعني لو تقدم إنسان إلى مكان ووضع بسطته فيه، فما دامت بسطته في السوق فهو أحق وليس لأحد أن يزاحمه؛ لأنه سبق، حتى ولو طال.(10/336)
وقوله: «وإن طال» فيها إشارة خلاف، فمن العلماء من يقول: يعطى مهلة يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً ثم يقال: ارفع يدك؛ لأنه إذا طال بقاؤه صار كالمالك وحينئذٍ يتعذر أن ينتفع به أحد غيره، وربما يبقى القماش وهو لا يأتي فيمنع هذا المكان من الانتفاع به وهو لا ينتفع به.
ومنهم من قال: ما دام الرجل محتاجاً إلى هذا المكان فإنه أحق ولو طال جلوسه لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به» (1) والصحيح أن ذلك يرجع إلى رأي ولي الأمر، فإن رأى من المصلحة أن يبقى فلا بأس؛ وإن رأى من المصلحة رفعه فإنه يرفعه.
لكن إذا كان هذا المكان موسمياً وانتهى الموسم، فهل نقول: إن هذا الرجل له في الموسم الآخر هذا المكان؟ أو أنه في الموسم الآخر من سبق إلى مكان فهو أحق به؟
الجواب: الثاني؛ لأنه انتهى الموسم، فإذا قدرنا أن في هذا المكان موسماً يكون في عيد الفطر، وانتهى الموسم، وأتى موسم عيد الأضحى فلا نقول للذي جلس في مكان في موسم عيد الفطر: أنت أحق به في موسم عيد الأضحى؛ لأنه انتهى الموسم.
فإن كان من المقرر نظاماً أن كل من قام في بسطة ارتحل عنها في آخر النهار، كما يوجد في بعض المحلات، يبقى الإنسان في هذا المكان طول النهار فقط، وفي الليل تنقل كل الأمتعة، فماذا نعمل في اليوم الثاني؟ هل نقول: نبتدئ من جديد
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجنائز/ باب في إقطاع الأرضين (3071) ؛ والطبراني في الكبير (1/280) (814) عن أسمر بن مضرس ـ رضي الله عنه ـ.(10/337)
ومن سبق فهو أحق؟ أو نقول: من كان في مكان بالأمس فهو أحق به؟
الجواب: الأول، فما دام النظام يقول: الجلوس كل يوم بيومه، فإذا انتهى اليوم الأول وجاء الثاني فإن من سبق فهو أحق.
وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ اقْتَرَعَا، وَلِمَنْ فِي أَعْلَى المَاءِ المُبَاحِ السَّقْيُ وَحَبْسُ المَاءِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ. وَلِلإمَامِ دُونَ غَيْرِهِ حِمَى مَرْعىً لِدَوَابِّ المُسْلِمينَ مَا لَمْ يَضُرَّهُمْ.
قوله: «وإن سبق اثنان اقترعا» يعني سبقا إلى مكان ليبيعا فيه، بأن يكون كل واحد وصل إلى المكان في نفس الوقت، فإننا ننظر إن أمكن توزيع الأرض بينهما وانتفاع كل منهما بما أخذ فإننا نقسمها بينهما، وإن لم يمكن بحيث لا تتسع إلا لمتجر واحد، فهل نقول: ينظر إلى الأكبر سناً، أو إلى الأفقر؛ لأنه أحق بالمراعاة، أو إلى الأغنى، لأنه سوف يجلب إلى هذا المكان ما لا يستطيع الفقير أن يجلبه؟ نقول: كل هذه مسائل اعتبارية فيرجع إلى الأصل، وهو أنهما تساويا في الوصول إليه، ولا طريق إلى التمييز إلا بالقرعة.
ولكن كيف نقرع؟
نقول: القرعة هي ما يحصل بها التمييز، ولا تتعين بشكل معين، فكل ما يحصل به التمييز فهو قرعة وهو يختلف، والناس يختلفون في كيفية الإقراع، والمقصود هو التمييز.
قوله: «ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه» «لمن» خبر مقدم، و «السقي» مبتدأ مؤخر، و «الماء المباح» يراد به ما ليس بمملوك؛ لأن الماء نوعان: نوع مملوك، ونوع مباح.(10/338)
فالأنهار التي يجريها الله ـ عزّ وجل ـ مباحة، والأودية التي يأتي بها المطر مباحة، والبئر التي حفرها قوم واشتركوا فيها هذه مملوكة.
والماء المملوك يكون توزيعه على حسب الملك؛ لأنهم مشتركون، ولا مزية لواحد على الآخر، فمثلاً إذا كان لأحدهما النصف والثاني النصف، وزع الماء بينهما نصفين، وإذا كان لأحدهما الربع والثاني ثلاثة أرباع، فيوزع ربعاً وثلاثة أرباع على حسب الحال.
وكيفية التوزيع ـ أيضاً ـ تختلف، إما أن يكون الساقي واحداً ثم يوضع خروق موزِّعة، فمثلاً إذا كانوا نصفاً ونصفاً فإننا نحتاج إلى اثنين، وإذا كان ثلاثة أرباع وربعاً فإننا نحتاج إلى أربعة، فتوزع بحسب الحال.
أما إذا كان مباحاً فيقول المؤلف: «ولمن في أعلى الماء المباح السقي وحبس الماء إلى أن يصل إلى كعبه» «السقي» يعني أن يسقي زرعه، أو نخله، إلى أن يصل إلى الكعب، ومعلوم أن الأرض ليست متساوية من كل وجه، ربما يصل إلى الكعب في جانب ويصل إلى نصف الساق في جانب آخر، فالعبرة بالمتوسط، وإلا فمن المعلوم أنه لو كانت بعض الأرض نازلة متراً أو أكثر لاستوعبت ماءً كثيراً قبل أن يصل إلى الكعب في العالي، لكن العبرة بالمتوسط.
قوله: «ثم يرسله إلى من يليه» يعني بعد ما يسقي حتى يصل إلى الكعب يرسله إلى من يليه، إلا إذا كان الأعلى أتى أخيراً فإنه يقدم الأسفل.(10/339)
مثال ذلك: هذا الوادي زرع فيه إنسان، وصار يسقي زرعه منه، ثم جاء إنسان وتقدم إلى أعلى الوادي، فلا نعطي المتقدم؛ لأن الأول أحق لسبقه، لكن إذا قدرنا أنهم أحيوا جميعاً، أو أننا لا نعلم مَنْ المتقدم فإنه يقدم الأعلى، ودليل ذلك ما جاء في الحديث الصحيح من تشاجر الأنصاري والزبير بن العوام ـ رضي الله عنهما ـ في شِراج الحرة، حيث ينزل هذا الشراج إلى الحائطين جميعاً، فكان الزبير ـ رضي الله عنه ـ يسقي ثم يرسل إلى جاره من غير تقدير، فقال الجار: لا، لا بد أن يكون السقي بالسوية، بمعنى أنك إذا سقيت زرعك وكان الماء لا يكفي إلا زرعك فلا بد أن تجعل لي نصيباً منه، فتخاصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقضى للزبير؛ لأنه أحق، وقال له: اسق ثم أرسل إلى جارك، وأطلق، وهذا يحصل بأقل ما يسمى سقياً، ولكن الأنصاري أخذته الحمية وقال: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! ـ عفا الله عنه ـ يعني كأنه ظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم راعى القرابة، وصلة القرابة واجبة فأراد ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقدم قرابته؛ لأن صلة القرابة واجبة، فظن ـ رضي الله عنه وعفا عنه ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم راعى هذا وحكم للزبير، ويبعد جداً أن يكون الأنصاري أشار إلى حيف الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكن لفظه يحتمله ولا شك، ولكن علينا أن نحسن الظن به، وأن نقول: إنه ظن أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمر الزبير أن يسقي؛ لأنه كان من قرابته وكان هذا من صلة الرحم، فاحتفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم للزبير بحقه فقال: «اسق حتى يصل إلى(10/340)
الجَدْر، ثم أرسله إلى جارك» (1) والجدر هي التي نسميها نحن الغلالي، أو الغلة، وهي التي تفصل بين الحياض، فقيس هذا الجدر، فوصل إلى الكعب، فاعتبر العلماء ـ رحمهم الله ـ ذلك بالكعب؛ لأن الجدر ـ أيضاً ـ يختلف، فقد يكون بعض الناس يكبِّر الجدر، وبعضهم يصغِّره فكان الكعب هو الميزان، فيحبس إلى أن يصل إلى الكعب ثم يرسله إلى جاره، ومعلوم أن وصول الماء إلى الكعب أكثر من أن يكون مجرد سقي؛ لأن مجرد السقي قد يكون بنصف هذه المسافة، وهذا هو الذي أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم أولاً، لكن الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ لما قال هذا احتفظ النبي صلّى الله عليه وسلّم للزبير ـ رضي الله عنه ـ بحقه وقال: «اسق حتى يصل إلى الجدر» . وإذا أرسله إلى من يليه وكانوا ثلاثة أو أربعة، فالثاني يسقي إلى الكعب، والثالث إلى الكعب، والرابع إلى الكعب، وإن لم يبق له شيء بأن كان الماء قليلاً فليس له شيء.
قوله: «وللإمام دون غيره حمى مرعى لدواب المسلمين ما لم يضرهم» اشترط المؤلف ـ رحمه الله ـ ثلاثة شروط في حمى المراعي، والمراعي جمع مرعى وهو مكان الرعي الذي يكثر فيه العشب والحشيش، والأراضي تختلف، بعضها يكون فيه العشب الكثير، والزرع الكثير، وبعضها دون ذلك.
فهل يجوز لأحد أن يحمي شيئاً من هذه الأراضي؟
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب سَكْر الأنهار (2360) ؛ ومسلم في الفضائل/ باب وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلّم (2357) عن عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ.(10/341)
نقول: يجوز بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الحامي هو الإمام، وهو الولي العام على الدولة.
الثاني: أن تكون الحماية لدواب المسلمين، ودواب المسلمين هي دواب الصدقة، ودواب الفيء، ودواب الأرباب المجهولين، وما أشبه ذلك، فهي التي لعموم المسلمين وليست لشخص واحد.
الثالث: قوله: «ما لم يضرهم» وصورة الضرر بحيث لا يوجد حول هذا البلد إلا هذا المرعى، وإذا حُمِي تضرر الناس.
فلو أراد أحد من الناس أن يحميه لدواب المسلمين ولكنه ليس له ولاية عليها فإنه لا يجوز؛ لأن هذا افتيات على الإمام، وتَقَدُّمٌ بين يديه، كما أنه لو أراد أحد أن يقيم الحد على الزاني فإنه لا يملك هذا، ولا يملكه إلا الإمام أو نائبه، فكذلك حمى المرعى لدواب المسلمين لا يملكه إلا الإمام أو نائبه.
ولو أراد أحد من الأئمة أن يحمي لنفسه ودوابه مرعى رآه جميلاً وكثير الأعشاب فإن هذا لا يجوز؛ لأن الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار (1) ، فلا يحل له أن يحميه ويمنع الناس من رعيه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/364) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخرجه ابن ماجه في الرهون/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وضعفه البوصيري. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2473) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، مرفوعاً بلفظ: «ثلاث لا يمنعن ... » الحديث، وصححه البوصيري في زوائده، والحافظ في التلخيص (1304) وانظر: الإرواء (1552) .(10/342)
ولو أراد الإمام أن يحميه لدواب المسلمين، وكان فيه ضرر على الناس فإنه لا يملك ذلك؛ لأن الناس شركاء في هذا.
ومثل المرعى منطقة في البحر كثيرة الحوت، فلا يجوز لأحد أن يحميها، لأن الناس فيها شركاء، ومثل ذلك المحتطب، وهو المكان الذي يكثر فيه الحطب، فلو أن أحداً حماه واختص به فلا يجوز؛ لأن الناس في هذا شركاء.(10/343)
بَابُ الجَعَالَةِ
وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئاً مَعْلُومَاً لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ عَمَلاً مَعْلُوماً، أَوْ مَجْهُولاً مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ مَجْهُولَةً. .....
قوله: «الجعالة» فَعَالة من الجَعْل، والجَعْل معناه وضع الشيء، وفسرها المؤلف بقوله:
«وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً، أو مجهولاً، مدة معلومة أو مجهولة» فالجعالة عقد لا يشترط فيه العلم بأحد العوضين، وهو ـ أي عقد الجعالة ـ فيه عوض مدفوع، وعوض معمول، فالعوض المدفوع لا بد فيه من العلم، والمعمول لا يشترط فيه العلم، المدفوع يكون من الجاعل، والمعمول يكون من العامل.
والفرق بين عقد الجعالة والإجارة، أن الإجارة مع معين بخلاف الجعالة فهو يطلق فيقول: من فعل كذا فله كذا؛ ولهذا صارت عقداً جائزاً، فإن قال قائل: كيف تجيزون هذا العمل مع ما فيه من الجهالة؟
قلنا: نجيزه لدعاء الحاجة إليه وليس هو على سبيل الإلزام؛ لأن العامل له أن يدع العمل في أي لحظة شاء؛ لأن الجعالة عقد جائز، ولو لم يوجد هذا الشيء لضاع للناس مصالح كثيرة، فمثلاً هذا الشخص ضاعت بعيره فلا يمكن أن يستأجر شخصاً لإحضاره؛ لأن هذا الشخص لا يدري متى يجد البعير، فلم يبق إلا الجعالة.(10/344)
فإذا قال: من رد بعيري فله مائة ريال، فهنا العوض من الجاعل معلوم، والعمل مجهول؛ لأنه لا يُعلَم أيردها عن قريب أو عن بعيد، فربما يتعب ويظن أنه يردها في يومين ولا يردها إلا في عشرة أيام، أو ربما لا يستطيع ردها مطلقاً، فنقول: العمل لا يشترط فيه العلم بالنسبة للجعالة، وهذا من محاسن الشريعة؛ لأنه قد يصعب تعيين العمل في مثل هذه الحال، فلو قال: مَنْ رد لقطتي ـ مثلاً ـ من مسافة عشرة كيلو، فقد توجد في عشرة كيلو وقد لا توجد، لكن إذا جعل العوض عوضاً عن العمل مطلقاً، والعامل حظه ونصيبه كما يقولون، فهذا لا بأس به.
فإن جعل شيئاً مجهولاً بأن قال: من رد بعيري فله ما في هذا الكيس من الدراهم، فإنه لا يجوز؛ لأنه مجهول، لا ندري أمائة أم مائتان أم أكثر؟ فلا بد أن يكون العوض المدفوع من الجاعل معلوماً ليكون العامل على بصيرة.
ولو قدر أن الجاعل جعل جُعلاً كبيراً؛ لأنه يظن أن هذه البعير لا توجد إلا بمشقة وبُعْد شُقَّة، فيسرها الله للعامل، فهل يطالب الجاعلُ العاملَ بنقص العوض أم لا؟ الجواب: لا، نقول: هذا من رزق الله للعامل، كما أنه لو لم يجدها إلا بعد مدة طويلة وشُقَّة بعيدة فإنه لا يطالب الجاعلَ بزيادة.
ولو قال: إذا رددت بعيري الشارد فلك نصفه، فهذا معلوم، لكنه معلوم بالنسبة؛ لأنه جزء مشاع، فلا بأس؛ كالمضارب تعطيه المال وتقول: اتجر به ولك نصف الربح، فربما يتجر به اتجاراً(10/345)
شاقاً عظيماً ولا يحصل ربح، وربما تظن أنه لن يربح إلا قليلاً فيربح كثيراً.
فالمعلوم إذاً إما أن يكون بالتعيين بالعدد والوصف، وإما أن يكون بالمشاع أي بالسهم.
كَرَدِّ عَبْدٍ، وَلُقَطَةٍ، وَخِيَاطَةٍ، وَبِنَاءِ حَائِطٍ. فَمنْ فَعَلَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِقَوْلِهِ اسْتَحَقَّهُ، وَالجَمَاعَةُ يَقْتَسِمُونَهُ. وَفِي أَثْنَائِهِ يَأْخُذُ قِسْطَ تَمَامِهِ...........
قوله: «كرد عبد» أي: كرد عبد آبق، يعني هرب من سيده فجعل جعلاً لمن جاء به، ومثل ذلك لو جعل جعلاً معلوماً لمن أحضر ولده الضائع فجائز؛ لأنه عمل، وإن كان الحر في الأصل لا يباع لكن هذا ليس بيعاً له، ولكنه إحضار له.
قوله: «وَلُقَطة» أي: رد لقطة وهي المال الضائع، وهذا من باب «علفتها تبناً وماءً بارداً» أي: وسقيتها ماءاً بارداً؛ لأن الماء لا يعلف، فاللقطة لا ترد إلا إذا كانت عند شخص وجدها فيردها، لكن مراده برد اللقطة إيجادها وإحضارها إلى صاحبها.
قوله: «وخياطة» يعني خياطة ثوب، بأن قال: من خاط لي ثوباً صفته كذا وكذا فله الأجر المعلوم، والثوب من الرجل وليس من العامل، فهذا جائز، أما إذا كانت القطعة من العامل فهذا يسمى عند العلماء استصناع السلعة، وفيه خلاف، فبعضهم يقول: لا يجوز؛ لأن هذا ليس بسَلَم، إذ السَّلَم لا بد فيه من التأجيل، وليس معيناً؛ لأنه في الذمة، والوصف قد لا يحيط به، ولكن الصحيح أنه جائز؛ لأنه يمكن ضبطه بالوصف، وعمل الناس عليه قديماً وحديثاً.
قوله: «وبناء حائط» كأن يقول: من بنى لي هذا الحائط فله(10/346)
كذا وكذا، وهذا يسمى عندنا مقاولة، نقول: هذا جائز، فإن تعاقد مع المقاول على أنه أجير صارت إجارة.
فإذا قال: من بنى هذا الحائط فله عشرة آلاف ريال، ثم سبق واحد وشرع في البناء، فهل لأحد غير الأول أن يأتي ويكمل؟ لا؛ لأنه أحق به، لما شرع صار لازماً، وإلا فالأصل في عقد الجعالة أنه جائز.
قوله: «فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه» أي: استحق الجُعل، كرجل سمع آخر يقول: من رد بعيري فله مائة ريال، فبادر، وخرج، وطلبه فجاء به، فإنه يستحق العوض؛ لأنه عمل بعد أن علم، أما لو وجد الرجل الضالة ثم جاء بها إلى صاحبها وهو لا يعلم بالجعل، فإنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المؤلف اشترط أن يكون بعد العلم؛ ووجه ذلك أنه لم يعمل لك؛ لأنه لم يعلم أنك وضعت جعلاً فلا عقد بينكما فكيف يستحق؟! وما يفعله بعض الناس اليوم فهو من باب الإكرام فقط.
فبعض الناس إذا وجد شيئاً وأتى به صاحبه قال: أريد منك مالاً مقابل الحفظ، يعني أني حفظته لك ولا سيما إذا كان ثميناً كالحلي، والساعات والأقلام الغالية، فلصاحب المال أن يقول: ليس لك علي شيء؛ لأني لم أجعل جعلاً، أو لأني جعلت جعلاً ولم تعلم به أنت، فله أن يمنع؛ لأنه ليس بينه وبينه عقد، لكن من المروءة إذا كان الشيء ثميناً أن تعطيه ما يطيب به قلبه لما يلي:
أولاً: لأنه عمل معروفاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صنع(10/347)
إليكم معروفاً فكافئوه» (1) .
ثانياً: أن مثل هذا ينبغي أن يشجع هو وأمثاله؛ لأن كونه يأتي به بدون أن يُطلب منه يدل على أمانته، فنحن نقول لصاحب المال: أما الوجوب لا يجب عليك، لكن لا شك أنه من المروءة والخير أن تعطيه.
فإن قال: أنا طلبت هذه اللقطة بنية الرجوع على صاحبها، قلنا: ليس لك الحق في ذلك؛ لأن صاحبها لم يطلب هذا الشيء ولم يجعل هذا الجُعل، وربما يكون صاحبها لم يعلم بأنها ضاعت وربما يكون غنياً ثرياً لا تهمه إذا ضاعت؛ لهذا لا تستحق شيئاً إلا بعد علمك بالجعل.
قوله: «والجماعة يقتسمونه» وفي نسخة: «ولجماعة» يعني وإن جعله لجماعة يقتسمونه بالسوية، يعني أن الجماعة لو أحضروا ما جُعِلَ عليه الجعل فإنهم يقتسمون الجعل، فإذا قال: من رد بعيري فله مائة ريال، فرده عشرة فإنهم يشتركون؛ لأن كل واحد منهم عَمِل.
فلو أن خمسة منهم قالوا: إن هؤلاء ليسوا شركاء لنا، نقول للذين أُنكِروا: هل هؤلاء شركاء لكم؟ فإذا قالوا: نعم، ثبت حق الأولين بدعواهم، وشهادة الآخرين، لكن هل يثبت للآخرين حق
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/68، 99) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب عطية من سأل بالله (672) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب من سأل بالله ـ عز وجل ـ (5/82) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ وصححه ابن حبان (3408) ؛ والحاكم (1/412) وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(10/348)
المشاركة؟ لا يثبت إلا ببينة، ولهذا ينبغي للقاضي أن يكون فطناً في هذه المسألة؛ لأن كل واحد من العشرة يدعي أنه مشارك، فإذا أقر الأولون وقالوا: نعم نحن الذين أتينا به، ولكن هؤلاء لم يشاركونا، فنسأل المنكرين ونقول: هل هؤلاء شاركوكم؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا: ثبت حقهم وأنتم تدعون أنكم مشاركون، فإن أتيتم بالبينة وإلا فلا حق لكم.
قوله: «وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه» يعني في أثناء العمل «يأخذ» أي العامل «قسط تمامه» .
مثال ذلك: رجل وجد حائط صاحبه قد انهدم جانب من جداره ـ أي: جدار الحائط ـ وبما أن بينهما صحبة جعل يبنيه، فبنى ثلاثة صفوف من اللَّبِن، وبعد أن بنى ثلاثة صفوف قال صاحب الحائط: من بنى حائط بستاني فله سبعمائة ريال، والجدار يحتاج إلى سبعة صفوف من اللبن، فعلم صاحبه أنه جعل جعلاً وهو سبعمائة لمن بنى هذا الجدار، فكمَّل البناء، فكم نعطيه؟ قد يبدو لبعض الناس أنه يعطى أربعة أسباع يعني أربعمائة، ولكن هذا غلط؛ لأن البناء كلما ارتفع ازدادت مشقته، وعلى هذا فلا بد أن نقدره بالنسبة فنقول: جدار بني ثلاثة صفوف منه وهو يحتاج إلى سبعة صفوف، فكم تقدر النسبة؟ فإن قيل: يقدر ما بناه بالربع مثلاً، فنعطيه ثلاثة أرباع، بمعنى ألا نجعل أعلى الصف وهو السابع مثل آخر صف الذي هو الأول؛ لأن الأول ما فيه إلا أن يأتي باللبنات ويضعها، لكن الأعلى يحتاج إلى سُلَّم، وإلى رجال يمد بعضهم لبعض، ثم الموازنة، فموازنة(10/349)
صفوف اللبن مهمة جداً، ولهذا تجد الناس الحذاق يجعلون خيطاً يقيسون عليه لئلا يختلف اللبن بتقدم أو تأخر.
على كل حال من علم بالجعل في أثناء العمل يعطى قسط تمامه، لكن هل هو بالأجزاء أو بالقيمة؟ بالقيمة؛ لأننا لو قلنا بالأجزاء لكان في المثال الذي ذكرنا يستحق أربعمائة، وليس كذلك.
وَلِكُلٍّ فَسْخُهَا، فَمِنَ العَامِلِ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئاً، وَمِنَ الجَاعِلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ. ......
قوله: «ولكل» أي: لكل من الجاعل والعامل.
قوله: «فسخها» أي: الجعالة؛ لأن الجعالة ليست عقداً لازماً، فلو فرض أن الرجل قال: من رد بعيري فله مائة ريال، وبعد يومين رجع وقال: يا أيها الناس إني قد فسخت الجعالة، فله ذلك، ومن عمل بعد أن علم بفسخها فلا حق له؛ لأن الجعالة عقد جائز.
وكل عقد جائز من الطرفين فإن لكل منهما فسخه إلا إذا قصد الإضرار بالآخر؛ لأن جميع المباحات من عقود وأفعال إذا تضمنت ضرراً على الآخرين صارت ممنوعة، فلو تضمن ضرراً على الآخر فإنه لا يجوز أن يفسخ، فإن فسخ الجاعل للإضرار فللعامل أجرة ما عمل.
ولكن هل تكون الأجرة منسوبة إلى الأجرة العامة، أو منسوبة إلى الجُعل الذي جعل له؟ هذا محل نظر.
وصورة ذلك: إنسان جاعل شخصاً على أن يقوم بتصريف هذه السلعة، وفي أثناء العمل وَقَّفه، وكان إيقافه إياه في أيام تضر بالعامل، ففي هذه الحال نقول على ما اشترطنا ألا يتضمن ضرراً: إنه لو فسخ فإنه لا يحل له.(10/350)
لكن: هل تنفسخ؟ نقول: نعم تنفسخ، ولكن للمجعول له أجرة العمل.
وهل يعطى الأجرة باعتبار أنه عامل كأجير، أو عامل كمجعول له؟
إذا قلنا بالأول فإننا نقول: ننسب الأجرة إلى هذا الزمن الذي تم التعاقد عليه ونعطيه بقسط الأجرة، سواء زادت على حصة الجعالة أم لم تزد؛ ووجه ذلك أنه لو انفسخت الجعالة رجعنا إلى أجرة المثل.
ولكن القول الراجح أن نعطيه بنسبة الجعالة؛ لأن هذا الرجل عمل كمجاعَل وليس كأجير، فنقول: لو عمل العمل كله استحق الجعل كله، ولنقل: إن الجعل كله مائة ريال، وهو الآن عمل الثلثين، فنجعل له ثلثي المائة؛ لأنه راضٍ بهذا.
قوله: «فمن العامل لا يستحق شيئاً» يعني إن كان الفسخ من العامل لم يستحق شيئاً؛ لأنه هو الذي فوت على نفسه الجعالة، فلو قيل مثلاً: من بنى هذا الجدار فله مائة ريال، فالتزم به أحد الناس، وفي أثناء البناء فسخ العامل الجعالة، فنقول له: ليس لك شيء.
لكن لو فُرِض أن الجاعل سيتضرر كثيراً؛ لأن العامل فسخ الجعالة في وقت لا يوجد فيه عمال، فالعمال ـ مثلاً ـ قد أخذهم الناس، لأن العمال في أول السنة كثيرون، وفي أثناء السنة يقلون، وهذا سوف يكون فيه على الجاعل ضرر، ففي هذه الحال لو قيل بتضمين العامل ما يلحق الجاعل من الضرر لكان له وجه،(10/351)
بمعنى أننا نقيم شخصاً يكمل الجدار ويكون على العامل أجرة هذا الشخص؛ لأنه ربما يتحيل أو يكيد للجاعل، فإذا بدأ بالعمل وتفرق العمال وصار العامل الذي بعشرة لا يوجد بخمسين فسخها.
وهناك قول آخر أنه إذا تضمن ضرراً على الجاعل فيلزم العامل بإتمام العمل إلا من عذر، وعلى هذا القول ـ أيضاً ـ نستريح، ولا نحتاج إلى نسبة ولا شيء، نقول: يلزمك أنت أيها العامل أن تكمل إلا لعذر، مثل لو مُرِض، أو شُل أو ما أشبه ذلك.
قوله: «ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله» يعني إذا وقع الفسخ من الجاعل بعد الشروع فللعامل أجرة عمله، فإذا قدرنا أنه بنى نصف الجدار، وفسخ الجاعل، فللعامل أجرة عمله.
وظاهر قوله: «أجرة» أنه تنفسخ الجعالة نهائياً ولا يترتب عليها أثرها، ويُعطى أجرة العمل.
وأجرة العمل منسوبة إلى الأجرة العامة على ظاهر كلام المؤلف، فنلغي الجعالة ونقول: ماذا يقول أهل الخبرة في هذا الجدار إذا بني، كم أجرته؟ فإذا قيل: هذا الجدار إذا استُؤجر لبنائه يبنى بخمسمائة، والآن بنى النصف، فنعطيه ـ مثلاً ـ مائتين من خمسمائة؛ وذلك لأنه كلما ارتفع البناء ازدادت الكلفة، فعلى هذا ننسب ما يعطاه بقسط الأجرة سواء زادت على حصة الجعالة أم لم تزد؛ ووجه ذلك أنه لما انفسخت الجعالة رجعنا إلى أجرة المثل.(10/352)
والراجح أننا نعطيه بنسبة الجعالة، فإذا قُدِر أنه لو استؤجِر عليه لكان بمائة ولو جُوعِل لكان بثمانين، فنعطيه بالنسبة للثمانين؛ لأن الجاعل راضٍ بهذه الجعالة، وكذلك العامل راضٍ بأن يكون مقابل عمله هو هذا الجعل.
فإذا قدرنا أن الجعالة أكثر من الإجارة ـ وهذا هو الغالب؛ لأن الغالب أن الذي يعقد عقد جعالة يريد العجلة ـ فماذا نعطيه؟ نعطيه بنسبة الجعالة.
الخلاصة: الجعالة على كلام المؤلف عقد جائز، يجوز للجاعل فسخها، ويجوز للعامل فسخها، فإن فسخ العامل فلا شيء له، لكن هل عليه شيء؟
ذكرنا أنه إذا تضمن ضرراً على الجاعل ألزم بدفع الضرر، مثل أن يكون العمال قد فقدوا ولا يوجد عامل فيلزم العامل بإتمام العمل؛ لأنه لا عذر له، وهو الذي ضر الجاعل، فيتمه إما بنفسه وإما بإقامة من يتمه وعلى العامل أجرته.
وإن فسخ الجاعل فإن كان قبل العمل فلا شيء للعامل؛ لأنه لم يعمل، وإذا كان بعد الشروع فللعامل أجرة عمله على المذهب، وأما على القول الراجح فيكون بنسبة الجعل كما سبق.
لكن لو تضمن ضرراً على العامل إذا فسخت قبل العمل فهل على الجاعل شيء؟
المذهب لا شيء عليه، ويتوجه أن يقال: يلزمه أرش تفويت العمل على العامل.(10/353)
وَمَعَ الاخْتِلاَفِ فِي أَصْلِهِ أَوْ قَدْرِهِ يُقْبَلُ قَوْلُ الجَاعِلِ، وَمَنْ رَدَّ لُقَطَةً، أَوْ ضَالَّةً، أَوْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ عَمَلاً بِغَيْرِ جُعْلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضاً، إِلاَّ دِينَاراً أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَماً عَنْ رَدِّ الآبِقِ وَيَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ أَيْضاً.
قوله: «ومع الاختلاف في أصله أو قدره يقبل قول الجاعل» يعني لو اختلف العامل والجاعل في أصل الجعل، هل جعل أو لا؟ فالقول قول الجاعل، هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ وأطلق، فلو عمل العامل وأنهى العمل وقال: أريد جعلاً، قلنا: لا بد أن نسأل إذا وافق الجاعل فلك ما ادعيت، وإذا لم يوافق فالأصل عدم الجعالة، وكذلك إذا اختلفا في القدر، فقال الجاعل: القدر مائة، وقال العامل: القدر مائتان فالقول قول الجاعل؛ لأنه غارم، فمثلاً إذا قال العامل: إنها مائتان، وقال الجاعل: إنها مائة، فقد اتفقا على مائة وبقيت المائة الزائدة مدعىً بها، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي» (1) ولهذا أخذ العلماء من هذا الحديث قاعدة: أن القول قول الغارم، لكن في هذا ـ أيضاً ـ تفصيل، فإذا اختلفا في القدر وادعى الجاعل قدراً لا يمكن أن يقام العمل بمثله، وادعى العامل قدراً يمكن أن يقام بمثله، فهنا نقول: إن دعوى الجاعل دعوى تكذبها العادة والعرف، فلا يقبل قوله ويقبل قول العامل، ولو ادعى العامل شيئاً كثيراً فإنه لا يقبل لأنه ادعى ما يخالف العادة ولأنه ادعى على الغارم ما لم يعترف به فيقبل قول الجاعل.
قوله: «ومن رد لقطة» يعني الضائع الذي ليس بحيوان إذا أتى بها إلى صاحبها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (187) .(10/354)
قوله: «أو ضالة» وهي الضائع من الحيوان، والفرق بين اللقطة وبين الضالة، أن الضالة لها إرادة وتعرف ولكن تضل، واللقطة ليس لها إرادة.
قوله: «أو عمل لغيره عملاً بغير جعل لم يستحق عوضاً» لكن له أجر عند الله، وعلى هذا فإذا وجد لقطة باهظة الثمن، وقال لصاحبها: أعطني مقابلاً من المال، فإنه لا يلزمه أن يعطيه ويجبر الواجد على تسليمها لصاحبها مجاناً، إلا إذا كان قد جعل جعلاً، بأن قال: من رد لقطتي فإن له كذا وكذا فيعطى جعلاً.
وكذلك الضالة، إذا رد ضالة مما يباح التقاطه، فإنه لا يستحق عوضاً إلا إذا كان قد جعل له، وذلك لعدم وجود عقد بينه وبين المالك، فيقال: لك الأجر عند الله، أما أن تستحق على المالك شيئاً فلا.
واستثنى المؤلف مسألة جاء بها النص فقال:
«إلا ديناراً أو اثني عشر درهماً عن رد الآبق» الدينار هو النقد من الذهب، والدرهم هو النقد من الفضة، وإذا تأملت التقدير في هذا وفي الديات وفي نصاب السرقة، تبين لك أنه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان الدينار يساوي اثني عشر درهماً؛ ولهذا تقطع اليد بربع دينار (1) أو بثلاثة دراهم (2) ، والديات
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ... } (6789) ؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1684) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ... } (6795) ؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1686) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(10/355)
ألف مثقال ذهب أو اثنا عشر ألف درهمٍ فضة.
وقوله: «والآبق» هو العبد الذي شرد عن مالكه، هذا إذا رده أحد فله دينار أو اثنا عشر درهماً من الفضة، والدليل السنة، فقد جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لمن رد الآبق (1) ووردت آثار عن الصحابة (2) بذلك، والحكمة من هذا أن إباق العبد ليس بالأمر الهين؛ لأنه إذا أبق وكان أصله كافراً فربما يرجع إلى أصله إلى بلاد الكفر، ويكون حرباً على المسلمين، أو إذا ترك وساح في الأرض فربما يحتاج ويفسد في الأرض بالسرقات أو غيرها، فلذلك جعل الشارع لمن رده عوضاً، وإن لم يُظهر سيده ذلك العوض.
ويستثنى أمران آخران ـ أيضاً ـ:
الأول: من أنقذ مال المعصوم من الهلكة، فإنه يستحق أجرة المثل، مثل أن يرى الحريق قد اتجه إلى متاع شخص فينقذ المتاع، فهذا يعطى أجرة المثل؛ وذلك لتشجيع الناس على إنقاذ أموال المعصومين من الهلكة؛ لأننا لو قلنا: لا يعطى شيئاً؛ لأنه
__________
(1) أخرجه البيهقي (6/200) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ولفظه: «أنه قضى في العبد الآبق يوجد في الحرم عشرة دراهم» وضعفه البيهقي.
(2) أخرجها البيهقي (6/200) عن علي ـ رضي الله عنه ـ في جُعل الآبق دينار قريباً أخذ أو بعيداً، وعن سعيد بن المسيب أن عمر ـ رضي الله عنه ـ جعل في الآبق ديناراً أو اثني عشر درهماً؛ أخرجه ابن أبي شيبة (6/541) . وانظر: نصب الراية (3/470، 471) .(10/356)
لم يتفق مع صاحبه بعقد، توانى الناس عن المبادرة في إنقاذ أموال المعصومين.
الثاني: إذا كان الإنسان قد أعد نفسه للعمل فجاء شخص وأعطاه الثوب وقال: خط لي ثوباً فله أن يأخذ عوضاً؛ لأنه قد أعد نفسه للعمل، أما إذا لم يعد نفسه للعمل فليس له شيء، فقد أعطاه على أنه محسن.
فصار كل من عمل لغيره عملاً بلا عقد فإنه ليس له شيء، إلا في ثلاث أحوال:
الأولى: إنقاذ مال المعصوم من الهلكة.
الثانية: رد الآبق.
الثالثة: إن أعد الإنسان نفسه للعمل.
مسألة: لو أن شخصاً عمل ما فيه مصلحة في مال الشخص وطلب العوض على ذلك، فهل يلزم المالك؟ لا؛ لأن صاحب المال يقول: أنا ما أمرتك لا باللفظ ولا بالقرينة، بل أن صاحب المال يمكن أن يطلب منه عوضاً، ويقول: لماذا تتصرف في مالي؟!
قوله: «ويرجع بنفقته أيضاً» أي: يرجع راد الآبق بنفقته؛ لأن نفقته واجبة، لما فيها من إحياء النفس، ولا يمكن أن يتخلف الذي رد الآبق عن الإنفاق عليه؛ لأنه لو تخلف عن الإنفاق عليه لهلك، فلهذا يرجع بنفقته.
ومن يقبل قوله في النفقة؟
إذا دل العرف على قول الذي رد الآبق، أو على قول سيده(10/357)
عُمِل بالعرف، فمثلاً لو قال مَنْ رد الآبق: أنفقت عليه ألف ريال، وقال سيده: بل خمسمائة، فلدينا الآن مدعٍ، ومدعى عليه، والغارم السيد، فهل نقبل قول السيد، أو ننظر ماذا يدل عليه واقع الناس؟ الجواب: الثاني، فإذا كان من العادة أن مثل هذا الآبق يُنفق عليه ألف أخذنا بقول الذي رده، وإذا كان من العادة أنه لا ينفق عليه إلا خمسمائة أخذنا بقول السيد، وإن اشتبه علينا الأمر رجعنا إلى الأصل وهو أن يقبل قول السيد؛ لأنه غارم.
فإن نوى التبرع بهذا كله برد الآبق والنفقة، ثم بعد ذلك نُدِّم، وقيل له: كيف تنوي التبرع وقد خسرت عليه كذا وكذا وتعبت فيه؟! فأراد الرجوع فليس له أن يرجع؛ لأنه حال فِعْلِهِ فَعَلَهُ لا على سبيل التعويض.
وإن نوى الرجوع في الرد والنفقة ولكن أثناء الحال نوى بقلبه أنه يبرئ صاحب العبد، ثم ندم وأراد الرجوع فهنا له أن يرجع؛ لأنه حين فعله كان ناوياً الرجوع والتعويض، لكن نوى فيما بعد أن يبرئه ولم يبرئه، والإنسان إذا نوى الشيء ولم يفعل فهو بالخيار، كما لو أعد الإنسان الدراهم ليتصدق بها وقبل أن يتصدق بها عدل عن هذا، وكما لو بنى بيتاً بنية أنه سيوقفه على الفقراء ثم بعد استكمال البيت عدل عن هذه النية، فإنه يجوز؛ لأنه لم يتلفظ بالوقف ولم يشرعه للفقراء، وكما لو نوى أن يضحي بهذه الشاة ثم عدل وباعها فليس عليه شيء، فلا حرج؛ لأن هذه الأشياء لا تتم إلا بالإمضاء فعلاً، أما قبل ذلك ـ وهي مجرد نية ـ فليس عليه شيء.(10/358)
بَابُ اللُّقَطَةِ
وَهِيَ مَالٌ، أَوْ مُخْتَصٌّ ضَلَّ عَنْ رَبِّهِ، وَتَتْبَعُهُ هِمَّةُ أَوْسَاطِ النَّاسِ. .....
قوله: «اللقطة» فُعَلَة من الأخذ واللقط، فهي الشيء الملقوط، لكن لها معنى خاص عند الفقهاء، عرفها المؤلف بقوله:
«وهي مال أو مختص ضل عن ربه» والقيد المهم فيها قوله: «ضلَّ عن ربه» أي ضاع منه.
وقوله: «مال» وهو ما يصح تملكه وعقد البيع عليه كالدراهم، والأمتعة وما أشبهها.
وقوله: «مختص» وهو كل ما يختص به الإنسان بدون ملك، فلا يصح تملكه ولا أخذ العوض عنه، وذلك مثل كلب الصيد، فكلب الصيد لا يملك، لكن صاحبه أخص به من غيره، فهو مختص وليس بمال، وكالسرجين النجس وجلد الميتة على قول، فهذه لا تباع ولا تشترى، لكن صاحبها أخص بها.
وقوله: «ضلَّ عن ربه» أي: عن صاحبه؛ لأن «رب» في اللغة العربية تطلق بمعنى صاحب، كما جاء ذلك في القرآن، وجاء ذلك في الحديث.
ففي القرآن: قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *} [الصافات] رب العزة أي: صاحبها، ولا يمكن أن تكون {رَبِّ الْعِزَّةِ} بمعنى خالقها؛ لأن العزة صفة من صفات الله غير مخلوقة.(10/359)
وفي الحديث: «أن تلد الأمة ربها» في إحدى روايات البخاري (1) ، وقال في ضالة الإبل: «ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» (2) .
قوله: «وتتبعه هِمة أوساط الناس» هذا القيد قيد فيما يجب تعريفه لا في اللقطة؛ لأن اللقطة يصدق عليها التعريف، وإن كانت لا تتبعها همة أوساط الناس، فمن وجد رغيفاً لا يساوي درهماً فهي لقطة، وإن كانت الهمة لا تتبعه.
لكن المؤلف ـ رحمه الله ـ دمج الحكم في التعريف ليبين أن الذي يجب تعريفه، هو الذي تتبعه همة أوساط الناس، وأما ما لا تتبعه همة أوساط الناس فهذا لا يعرف.
والمراد بقوله: «همة أوساط الناس» أي: تتعلق به نفوسهم، وعلى هذا فنقول: من وجد مالاً فعلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يعلم أن صاحبه تركه رغبة عنه فهذا لواجده، كما يوجد الآن بعض الكراسي المكسرة ترمى في الأسواق، أو بعض الزنابيل، أو بعض الأواني، أو ما أشبه ذلك، نعلم أن صاحبها تركها رغبة عنها، هذه يملكها واجدها بدون شيء، حتى لو علمنا أن هذا الرجل له متاع ثقيل في البر، وعجز عنه وتركه
__________
(1) أخرجها في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الإيمان والإسلام والإحسان ... (50) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في العلم/ باب الغضب في الموعظة ... (91) ؛ ومسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء ... (1722) عن زيد بن خالد الجهني ـ رضي الله عنه ـ.(10/360)
رغبة عنه كما أراد جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن يسيب جمله (1) ، فهذا لمن وجده.
وهل من ذلك السيارات التي يكون عليها حوادث وتبقى في الطرق، هل نقول: هذه مما تركها أهلها رغبة عنها، فيجوز للإنسان أن يأخذ منها أو لا يجوز؟
نقول: ننظر إلى حال السيارة إذا كان فيها معدات ونعلم أنها غالية، وأن صاحبها سوف يعود إليها، فإنه لا يجوز أخذها، أما إذا كانت هيكلاً محترقاً ما فيه إلا حديد يحتاج إلى أن يصهر بنار، فهذا لمن وجده؛ لأننا نعلم أن صاحبه لن يعود إليه.
الثاني: أن يكون مما لا تتبعه الهمة؛ لكونه زهيداً، كقلم يساوي درهماً، فهذا زهيد لا تتبعه همة أوساط الناس، فأي إنسان يجده فهو له، إلا إذا كان يعلم صاحبه فعليه أن يوصله إلى صاحبه أو يبلِّغ صاحبه به؛ لأنه أصبح الآن غير لقطة، لأن صاحبه معلوم.
الثالث: وهو الذي أشار إليه الماتن، وهو الذي تتبعه همة أوساط الناس فهذا يجب أن يعرَّف لمدة سنة، وسيأتي إن شاء الله ذكرها.
وقوله: «أوساط الناس» هل المراد أوساط الناس بالمال أو أوساط الناس بالشح، أو بهما جميعاً؟
الجواب: بهما جميعاً، يعني أن أوساط الناس الذين ليسوا
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(10/361)
من الأغنياء ولا من الفقراء، ولا من الكرماء الذين لا يهتمون به، ولا من البخلاء، فالبخيل همته تتبع حتى قُلامة الظُّفْر كما قال الشاعر:
بَليتُ بِلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
فالشحيح لا عبرة به، والفقير ـ أيضاً ـ لا عبرة به؛ لأن الفقير أي شيء يضيع منه تتبعه همته، فلو ضاع منك عشرة ريالات لا تهتم بها، لكن لو ضاعت من فقير اهتم بها، ولهذا لو أعطاك شخص عشرة ريالات لا تهتم بها ولا تفرح بها ولا ترى أن هذا قدر لك، لكن لو يعطيها فقيراً فرح بها.
إذاً أوساط الناس خُلُقاً ومالاً، خلقاً يعني ليس من الكرماء الذين لا يهتمون بالأمور، ولا من البخلاء الذين همتهم تتبع كل شيء، فهذا المال لواجده إلا إذا كان يعلم صاحبه؛ ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد تمرة في الطريق فقال: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» (1) لأن الصدقة محرمة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم نفلها وفرضها، وآل محمد صلّى الله عليه وسلّم يحرم عليهم الصدقة الواجبة دون النافلة، وسائر الناس إذا كانوا من أهل الزكاة يستحقون النافلة والواجبة.
وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» فيه إشكال، كيف يمتنع النبي صلّى الله عليه وسلّم منها مع أن الأصل الحل وأنها
__________
(1) أخرجه البخاري في اللقطة/ باب إذا وجد تمرة في الطريق (2431) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب تحريم الزكاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1071) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(10/362)
ليست من الصدقة؟ فيقال في الجواب: إن هذا لكمال ورعه صلّى الله عليه وسلّم، ولعل هناك قرينة تدل على أنها من الصدقة مثل أن تكون في المكان الذي حوله فرقت الصدقة، فسقطت منها هذه التمرة، لكن بالنسبة لنا لو وجدناها ونحن ممن تحرم عليهم الصدقة الواجبة، فلنا أن نأكلها حتى نتيقن أنها من الصدقة الواجبة.
وقوله: «تتبعه همة أوساط الناس» الذي تتبعه همة أوساط الناس يختلف باختلاف الأحوال والأماكن والأزمان، فيما سبق الدرهم الواحد تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يحصل به شيء كثير، يعني يمكن أن الدرهم الواحد يشتري به الإنسان شاة ويشتري به ـ أيضاً ـ حباً يطبخه ويكفي ضَيْفَه.
والآن ـ والحمد لله ـ الدرهم لا يهتم به أحد، وكذا خمسة دراهم، وكذا عشرة، والخمسون يهتم بها أوساط الناس، إذاً يقدر هذا بحسب الأحوال، والأحوال يختلف فيها الناس.
لكن لو قال قائل: لعل هذا الذي لا تتبعه همة أوساط الناس تتبعه همة فاقِدِهِ؟ فيقال: العبرة بالأغلب، يعني رب قلم لا يساوي درهماً، وعند صاحبه يساوي مائة درهم؛ لأنه تعوَّد عليه وكتابته به سهلة وجميلة، وهذا شيء مشاهد، بعض الأشياء تكون عند صاحبها غالية، وعند الناس ليست غالية، فيقال: العبرة بالأغلب.
فَأَمَّا الرَّغِيفُ، وَالسَّوْطُ وَنَحْوُهُمَا فَيُمْلَكُ بِلاَ تَعْرِيفٍ. ...........
قوله: «فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف» لأنها لا تتبعها همة أوساط الناس، والرغيف يعني القرص، فمن وجد قرصاً ساقطاً في السوق فليأخذه وليأكله، ما لم يكن يعلم صاحبه.(10/363)
كذلك السوط وهو عصا رقيقة صغيرة، وليست بذات قيمة، فمن وجدها فهي له.
وقوله: «ونحوهما» مثل القلم الرخيص، وسلسلة المفاتيح «فيملك بلا تعريف» بمجرد ما يجده الواجد يكون ملكاً له، لكن بشرط ألا يكون عالماً بصاحبه، فإن كان عالماً بصاحبه وجب عليه إعلامه ولكن لا يجب عليه إيصاله له.
ثم انتقل المؤلف ـ رحمه الله ـ مما ضاع من الأموال إلى ما ضاع من الحيوان فقال:
وَمَا امْتَنَعَ مِنْ سَبُعٍ صَغِيرٍ كَثَوْرٍ وَجَمَلٍ وَنَحْوِهِمَا حَرُمَ أَخْذُهُ..........
«وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما حرم أخذه» الحيوان الضائع قسمان:
الأول: ما يمتنع من صغار السباع، وصغار السباع مثل الذئب والكلب إذا صار كَلِباً يعني يَفْرِسُ، وما أشبهها، وأما كبار السباع فإنها لا تمتنع منها حتى الجمال.
وقوله: «كثور وجمل» الثور الكبير يمتنع من صغار السباع لا شك، والصغير لا يمتنع فيلحق بالشاة ونحوها، لكن الكبير يمتنع؛ لأنه إذا أتى إليه الذئب ليأكله نطحه بقرونه أو وطئه برجليه فلا يستطيع الذئب أن يأكله، وكذلك الجمل، نعم لو اجتمع الذئاب على جمل يمكن أن تقدر عليه، لكن العبرة بالغالب.
وقوله: «ونحوهما» مَثَّلَ بعضهم بالحمار، قال: إن الحمار يمتنع من صغار السباع، والواقع أنه لا يمتنع، الحمار جبان، إذا شم رائحة الذئب فإنه يفزع ولا يمكن أن يمتنع، نعم إن كان(10/364)
يوجد حمير على زمن من مثلوا بها تمتنع فكذلك، أما الحمار الموجود عندنا وهو الحمار الأهلي فإنه لا يمتنع.
أما البغل فإنه يمتنع وكذلك الحصان، وكذلك ما يمتنع من السبع الصغير بعَدْوِهِ كالظباء فإنه يمتنع من السبع الصغير بسرعته، وكذلك ما يمتنع من السبع الصغير بطيرانه كالحمام، إذاً ما امتنع من السبع الصغير لكبر جسمه أو لعَدْوه أو لطيرانه فإنه يحرم أخذه، هذا هو الضابط.
وقوله: «حرم أخذه» أي يحرم التقاطه ولا يحل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن ضالة الإبل فغضب صلّى الله عليه وسلّم وقال: «دعها، ما لك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها» (1) ، انظر كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنما هو من رعاة الإبل، مع أنه ما رعى الإبل وإنما رعى الغنم، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «معها سقاؤها» يعني بطنها؛ لأنها إذا شربت تبقى مدة حتى في أيام الصيف لا تحتاج إلى شرب «وحذاؤها» يعني خفها، «ترد الماء وتأكل الشجر» ولا أدل من البعير على الماء، حتى إن الناس فيما سبق إذا خافوا على أنفسهم من العطش ربطوا أنفسهم على الإبل، ثم إن البعير تشم الماء من بعيد وتقف عليه، فمعها سقاؤها، ومعها حذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها.
وظاهر الحديث العموم، أنه لا يجوز التعرض لها، تترك حتى يجدها ربها، لكن إذا رجعنا إلى أصول الشريعة قلنا: إنه إذا كان يخشى عليها من قطاع الطرق، ففي هذه الحال له أن يأخذها
__________
(1) سبق تخريجه ص (360) .(10/365)
إن لم نقل بالوجوب، ويمكن أن يؤخذ هذا من الحديث، وهو قوله: «حتى يجدها ربها» فإن هذا التعليل يشير إلى أنه إذا كانت في مكان يخشى أن يأخذها قطاع الطرق، فإنه يلتقطها ولا بأس؛ لأنه في هذه الحال يغلب على الظن أن صاحبها لا يجدها، وعلى هذا فنقول: هذا الحديث إن كان لا يدل على أنه يأخذها فإنه يقيد بالنصوص العامة، وإن كان يدل على أنه إذا كان لا يؤمن ألا يجدها صاحبها فإنه يأخذها.
الثاني: الحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع كالضأن والمعز وصغار الإبل وما أشبهها، فهذه يجوز التقاطها، وينفق عليها، ويرجع بها على ربها إن وجده، فإن خشي أن تزيد النفقة على قيمتها فإنه يضبط صفاتها ثم يبيعها ويحفظ ثمنها لربها، فإذا جاء ووصفها وانطبقت الأوصاف على الموجود فإنه يعطيه الثمن.
وَلَهُ الْتِقَاطُ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَيَوانٍ وَغَيْرِهِ، إِنْ أَمِنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُوَ كَغَاصِبٍ.
قوله: «وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك» قوله: «وله» اللام هنا للإباحة، وهي في ضد المنع؛ لأنه لما قال: «حرم أخذه» قال: «وله» فهي في مقابل المنع، أي لا يحرم عليه التقاط غير ذلك.
لكن هل الأفضل أن يلتقطه، أو الأفضل ألا يلتقطه، أو يحرم عليه أن يلتقطه؟
يقول المؤلف: يحرم عليه إذا لم يأمن نفسه على ذلك، فإن كان لا يأمن نفسه أنه لو أخذه أنفقه إن كانت دراهم، أو ذبحه إن كانت شاة فإنه يحرم عليه أخذه، ويكون حكمه حكم الغاصب.(10/366)
أما إذا كان يعرف من نفسه أنه قادر على إنشاد الضالة، فهنا نقول فيه تفصيل: إن كان له قوة وقدرة على التعريف فالأفضل أخذها، وإن كان يخشى ألا يقدر، أو أن يشق عليه فالأفضل تركها، وعلى هذا فقوله: «وله» اللام للإباحة التي في مقابل المنع، وإلا فإنه قد يكون الأفضل تركها وقد يكون الأفضل أخذها.
فإن أمن نفسه على ذلك ولم يخف عليها فله الأخذ، لكن السلامة أولى فيتركها، فكم من إنسان أخذ اللقطة على أنه سيعرفها، ثم يتهاون أو يأتيه شغل يمنعه من تعريفها وما أشبه ذلك.
قوله: «وإلا» أي: وإلا يأمن نفسه على ذلك.
قوله: «فهو كغاصب» فيحرم عليه أخذه، وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا فرق بين لقطة مكة وغيرها؛ لأنه لم يفصل، وهذا هو المشهور من المذهب.
والصحيح أن لقطة مكة لا تحل إلا لمنشد يريد أن يعرِّفها مدى الدهر؛ وذلك لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد» (1) وهذا من خصائص الحرم، والحكمة في ذلك أنه إذا علم الإنسان أنه لا يحل له التقاط لقطة الحرم إلا إذا كان مستعداً لإنشادها دائماً فإنه سوف يدعها، وإذا كان هذا يدعها والآخر يدعها ومَنْ بَعده يدعها، بقيت في مكانها حتى يجدها ربها، وهذا
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349) ؛ ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(10/367)
ـ أعني القول بأن لقطة مكة ليست كغيرها ـ هو القول الراجح، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رضي الله عنه ـ وعليه يدل الحديث.
لكن إذا خاف الإنسان أن يأخذها مَنْ لا يعرِّفُها فهنا نقول: إما أن يجب أخذها، أو يباح، فماذا يصنع بها؟ نقول: يعرفها دائماً وأبداً، فإن شق عليه ذلك فالأمر ـ والحمد لله ـ واسع، حيث توجد محاكم شرعية تتلقى مثل هذا، فليأخذها وليدفعها للحاكم، وهو إذا أخذها ودفعها للحاكم ـ يعني للقاضي ـ برئت بذلك ذمته.
وَيُعَرِّفُ الجَمِيعَ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ غَيْرَ المَساجِدِ حَوْلاً. وَيَمْلِكُهُ بَعْدَهُ حُكْماً، لَكِنْ لاَ يَتَصَّرفُ فِيها قَبْلَ مَعْرِفَةِ صِفَاتِهَا.
قوله: «ويعرف الجميع» يعني جميع ما يجوز التقاطه، الحيوان وغير الحيوان، أما غير الحيوان فقد ثبت بالسنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة» (1) ، وأما الحيوان فقد اختلف العلماء في وجوب تعريفه، فمنهم من قال بوجوب التعريف كما هو كلام المؤلف حيث قال: «ويعرف الجميع» ، ومنهم من قال: إنه لا يجب أن يعرفه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في الشاة يجدها الرجل: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» ، و «أو» هنا للتخيير، فهي لك إن شئت ألا تعرفها أو لأخيك إن عرفتها فوجدها، أو للذئب إن شئت ألا تأخذها ولا تعرفها فهي للذئب يأكلها، ولكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف أنه يجب أن يعرف الجميع، الحيوان وغير الحيوان.
وقوله: «ويعرِّف» أي: يطلب من يَعْرِفها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (360) .(10/368)
قوله: «في مجامع الناس» مثل أسواق البيع والشراء، بل وما كان خارج باب المسجد عند خروج الناس من الصلاة، لا سيما صلاة الجمعة مثلاً، فيعرف الجميع.
وكيفية التعريف، أن يقول: من ضاع له المال؟ ولا يعين؛ لأنه لو عيَّن وقال: من ضاع له كذا وكذا ويفصل، لكان ذلك سبيلاً إلى أن يدعيه أي شخص، ولكن يعمم.
وهل يجب عليه أن يذكر النوع عند الإنشاد، كأن يقول مثلاً: من ضاعت له الدراهم بدلاً من أن يقول: من ضاع له المال؟
الظاهر أنه يجب عليه؛ لأنه إذا قال: من ضاع له المال؟ فقد يتصوره الإنسان غير الذي ضاع له، لكن إذا قال: من ضاعت له الدراهم؟ صار هذا أقرب لفهم المقصود، وكذلك يقال لو أنه وجد حلياً، فلو قال: من ضاع له الذهب؟ فإن الناس أول ما يقع في قلوبهم أنه الدنانير، لكن إذا قال: من ضاع له الحلي؟ صار هذا أقرب إلى فهم المخاطب، فيذكر أقرب ما يكون من إدراك الناس له، لكن لا يذكر كل الأوصاف حتى لا يدعيه من ليس له.
فمثلاً إذا وجد دراهم وقال: من ضاعت له الدراهم فإنه يجوز؛ لأنه إذا قال أحد: أنا، سيقول له: كم عددها؟ وما نوعها؟ هل من فئة خمسة، أو من فئة عشرة أو من فئة خمسين، أو من فئة مائة، أو من فئة خمسمائة؟ وهل هي دراهم سعودية أو هل هي دراهم بلد آخر؟ ثم العدد، ثم الكيس إذا كانت في كيس، كل هذا يحددها، إنما يذكر أقرب وصف يمكن للمخاطب(10/369)
أن يعرفه بدون أن يفصل؛ لئلا يدعيها من ليست له.
والتعريف يجب أن يكون فوراً، فلو أخره فهو آثم ويضمنها ضمان غصب.
قوله: «غير المساجد» أما المساجد فلا يجوز إنشاد الضالة فيها، بل قد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من سمع الذي ينشد الضالة في المسجد فليقل: «لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لهذا» (1) وهذا من باب التعزير، كما أمر النبي بعدم تشميت العاطس إذا لم يحمد (2) ، فإذا رأى الإنسان أنه إذا أقام هذا التعزير عُزِّر هو فلا يقدم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والحديث يحتمل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أراد أن نقول كل الجملة «لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا» ، ويحتمل أنه قال ذلك تعليلاً للحكم، وكأن سائلاً يسأل: لماذا نقول هذا الكلام؟ قال: لأن المساجد لم تبن لهذا، وعليه فلينظر للمصلحة، إذا كان من المصلحة أن يقولها فليقلها تطميناً لنفسه وقلبه وبياناً للعلة والحكمة، وهذا أحسن؛ لأنك لو قلت: «لا ردها الله عليك» وصِحْت به، سيكون في قلبه شيء، لكن إذا قلت: «فإن المساجد لم تبن لهذا» اطمأن.
ولو فتح المجال للناس أن ينشدوا الضوال في المسجد
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب النهي عن نشد الضالة في المسجد (568) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الزهد/ باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (2992) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ.(10/370)
لامتلأت المساجد من أصوات الناشدين، وألهوا الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، فصار الدليل في هذا أثرياً ونظرياً.
وقوله: «غير المساجد» يعم كل ما كان مسجداً، وأما المُصَلَّيات فلا تدخل في هذا، كما لو نشد الضالة في مصلّىً في دائرة من الدوائر فلا حرج عليه؛ لأن هذا المصلّىً ليس مسجداً؛ ولهذا لا يصح فيه الاعتكاف، وليس له تحية مسجد، ولا يحرم على الجنب المكث فيه، ولا على الحائض، فهو بمنزلة مصلى الإنسان في بيته.
قوله: «حولاً» يعني عاماً كاملاً، واعلم أنه إذا أطلق العلماء ـ رحمهم الله ـ الحول أو العام أو السنة فمرادهم بالهلال، أي: السنة الهلالية؛ لأن السنة الهلالية هي السنة الحقيقية التي وقَّتها الله لعباده، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] وهذه التواريخ التي بنيت على أشهر غير هلالية هي في الحقيقة أوهام غير منضبطة بشيء معين، ولهذا تجد بعضها يصل إلى واحد وثلاثين يوماً، والثاني إلى ثمانية وعشرين يوماً مثلاً، فهذه ليست مبنية على أصل، لكن الأشهر الهلالية مبنية على أصل جعله الله ـ تعالى ـ للناس كما قال الله ـ تعالى ـ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقال تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] فكلما رأيت في كلام أهل العلم حولاً، أو سنة، أو عاماً، فالمراد بالهلال.(10/371)
فإذا قال قائل: ما هو الدليل على أنها تعرَّف حولاً؟
قلنا: ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في اللقطة: «اعرف عفاصها، ووكاءها، ثم عرِّفها سنة» (1) فبيَّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنها تُعَرَّف سنة، ونعلم علم اليقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يريد أن يبقى ليلاً ونهاراً يعرِّف، فيرجع في ذلك إلى العرف، وقد اجتهد بعض العلماء فقال: يُعَرِّفها في الأسبوع الأول كل يوم، ثم كل أسبوع مرة لمدة شهر، ثم في كل شهر مرة، وهذا التقدير اجتهاد ليس عليه دليل، ولكن الأولى أن يرجع في ذلك إلى العرف.
وإذا وجد اللقطة في مكان بين قريتين، هل يعرفها في واحدة منهما أو فيهما كلتيهما؟
ينظر، إذا كانت هذه السلعة ـ مثلاً ـ معروفة في البلد الشرقي، وليست معروفة في البلد الغربي فإنه يعرفها في البلد الغربي؛ لأن عادة الناس جرت أنَّهم يجلبون السلع إلى المكان الذي تقل فيه، وعلى هذا نقول: هذه السلعة اشتراها مَنْ في البلد الغربي من البلد الشرقي، فنعرفها في البلد الغربي.
فإذا كانت السلعة موجودة في القريتين جميعاً على حد سواء فهل ننظر للأقرب أو للأبعد؟
إن تساويا فنقول: عرِّف فيهما جميعاً، في هذه وهذه؛ لأن احتمال أنه من هذه وارد، واحتمال أنه من هذه وارد، والقرعة هنا لا تتأتى.
__________
(1) سبق تخريجه ص (360) .(10/372)
فإن كانت إلى إحداهما أقرب، فالظاهر أنه يلزمه أن يعرفها في الأقرب ولا يلزمه في البعيد؛ لأن القريب من المكان له حكم ما قرب منه، ولهذا لما حضرت الوفاة من كان قتل مائة نفس وسأل عابداً وقال إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟ فقال له: ما لك من توبة، فقتله، ثم سأل عالماً فقال له: لك توبة، من يحول بينك وبين التوبة؟! ولكنه أرشده إلى بلد آخر ليس بلد ظلم، وسافر مهاجراً إلى الله، ونزل به الموت في أثناء الطريق، فأرسل الله إليه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، حكمة من الله ـ عزّ وجل ـ، وإلا فالله ـ تعالى ـ يعلم، فتخاصمت الملائكة، ملائكة الرحمة تقول: نقبض روحه؛ لأنه تاب وخرج وغادر بلده، وملائكة العذاب تقول: نقبض روحه؛ لأنه لم يصل إلى بلد التوبة، فأرسل الله ملكاً يفصل بينهما، وقال: قيسوا فإلى أيهما كان أقرب فهو من أهلها، فقاسوا فوجدوه إلى القرية التي هاجر إليها أقرب، حتى إنه لما حضره الموت جعل ينوء بصدره وهو في سياق الموت إلى البلد التي كان قد قصدها، وأوحى الله إليها أن تقرَّبي وإلى الأخرى أن تباعدي، فصار أقرب إلى التي قصدها بشبر (1) ، فتولت روحه ملائكة الرحمة، فربما يؤخذ من هذا أن البلد الأقرب يعطى الحكم ويمنع البلد الأبعد.
قوله: «ويملكه» أي: الواجد.
قوله: «بعده» أي: بعد تمام الحول.
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب (3470) ؛ ومسلم في التوبة/ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (2766) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(10/373)
قوله: «حكماً» أي قهراً بدون أن يختار، كما يملك الوارث مال مورثه ـ أي: بدون اختيار ـ وهذا هو المذهب.
وهناك قول آخر: أنها لا تدخل في ملكه إلا إذا شاء، وعلى هذا القول تبقى في يده أمانة، فإذا تلفت من غير تعدٍّ ولا تفريط فلا ضمان عليه.
وعلى المذهب لو تلف هذا الموجود بعد الحول، أو قبل الحول، هل يختلف الحكم؟
نعم يختلف الحكم، إن تلف قبل الحول بتعدٍّ منه فعليه الضمان، وبغير تعدٍّ فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا كان متعدياً فهو كغيره من المعتدين يضمن، وإذا كان غير متعدٍّ فهو أمين؛ لأن اللقطة الآن بيده على أنها لصاحبها، فيده يد أمانة، فإذا تلف المال بيده بلا تعدٍّ فلا ضمان عليه.
وإذا تلفت بعد الحول فعليه الضمان سواء تعدى أم لم يتعدَّ؛ لأنها دخلت في ملكه الآن وصارت في ضمانه؛ لأن الشيء الذي في ملكك هو في ضمانك، فإذا دخلت في ملكه وصارت في ضمانه، فإن عليه ضمانها بكل حال إذا وجد صاحبها.
وقيل: لا يضمنها إذا لم يتعدَّ أو لم يفرط، فيكون الحكم واحداً، وهذا هو الأقرب؛ لأن الرجل دخلت في ملكه قهراً عليه بغير اختياره، فهي في الحقيقة كأنها ما زالت في ملك صاحبها إذا كان لا يريدها، فكيف يقول: أنا لا أريد أن تدخل ملكي وأبرأ إلى الله منها، ونقول: هي في ملكك، وفي ضمانك؟! فيه شيء(10/374)
من الصعوبة، فالقول الراجح في هذه المسألة أنه لا ضمان عليه إذا لم يتعدَّ أو يفرط.
وهناك قول ثالث: أنه لا يضمن على كل حال؛ لأنها ما دامت دخلت ملكه فهي ملكه، فلو ذبح الشاة ـ مثلاً ـ أو أنفق المال فليس عليه شيء؛ لأنه ملكه، وإذا جاء صاحبها يطلبها، قال له: أنا أنشدتها لمدة سنة وتمَّت السنة فملكتها.
قوله: «لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها» أي: لا يتصرف واجدها «فيها» أي في الموجود وهي اللقطة «قبل معرفة صفاتها» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اعرف عفاصها ووكاءها» (1) والعفاص الوعاء، والوكاء الحبل الذي تربط به ويشد عليها، فلا بد أن يعرف ذلك.
وينبغي أن يشهد على صفاتها، لكن يشهد من يثق به؛ لأنه إذا أشهد سلم من صاحبها لو ادعى أنها على وجه أكمل، وهذا الإشهاد من وسائل الضبط.
مسألة: هل له الانتفاع باللقطة؟
الجواب: إن كان بعد تمام الحول فله أن ينتفع بها؛ لأنها ملكه، وأما قبل فإن احتاجت إلى نفقة كالحيوان يحتاج إلى علف وسقي، فله أن ينتفع بقدرها، وإلا فلا كالإناء فليس له أن ينتفع به.
وعلى القول بأنها تدخل في ملكه، فهل يجوز أن يتصرف فيها أو لا؟
__________
(1) سبق تخريجه ص (360) .(10/375)
الجواب: يجوز أن يتصرف فيها بالبيع والهبة والرهن والإيقاف، وغير ذلك من أنواع التصرف؛ لأنها دخلت في ملكه، لكن قبل أن يتم الحول لا يكون مالكاً لها؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن لم يجئ صاحبها كانت وديعة عندك» (1) فهي وديعة وأمانة عنده لا يمكن أن يتصرف فيها إلا إذا كان في بقائها ضرر على صاحبها، فله أن يتصرف فيها، كما لو كانت اللقطة من الأشياء التي لا تبقى، مثل الأشياء التي تفسد، فهنا يتصرف فيها بالبيع ويحفظ الثمن، أو كانت من الأشياء التي تبقى لكن تستنفق أكثر من قيمتها أضعافاً مضاعفة، كما لو وجد شاة فهنا يبيعها وإن كان لم يملكها؛ لأن بقاءها ضرر على صاحبها، فلو بقيت عنده وهي تساوي ثلاثمائة ريال وكل يوم تأكل بأربعين ريالاً، ففي خلال سنة تنفق أربعة عشر ألفاً وأربعمائة ريال تقريباً فهل من المصلحة أن تبقى؟! لا، المصلحة في بيعها، بل في هذه الحال يجب أن يبيعها، إلا إن كان يرجو أن يجد صاحبها من قرب كيوم أو يومين فلا يبيعها.
مسألة: إذا أخذ لقطة على أنها لا تساوي شيئاً ولا تتبعها همة أوساط الناس فتبين أنها بخلاف ذلك، كما لو ظنها صفراً أو نحاساً فبانت ذهباً، فإن له أن يردها إلى مكانها الذي وجدها فيه.
فَمَتى جَاءَ طَالِبُهَا فَوَصَفَهَا لَزِمَ دَفْعُهَا إِلَيْهِ.
قوله: «فمتى جاء طالبها فوصفها لزم دفعها إليه» «متى» اسم شرط جازم، والمعنى في أي وقت أتى صاحبها فإنه إذا وصفها تدفع إليه.
__________
(1) أخرجه مسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء ... (1722) (4) عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.(10/376)
وقوله: «طالبها» أي من طلب هذه اللقطة.
وقوله: «فمتى جاء طالبها» عمومه يشمل إذا جاء قبل الحول أو بعد الحول.
وقوله: «فوصفها» أي ذكر صفاتها، وكان ما ذكره طبق الواقع.
وقوله: «لزم» أي يلزم الواجد «دفعها إليه» أي: إلى الواصف؛ لأن هذه اللقطة لا يدعيها أحد، حتى الذي هي في يده لا يدعيها.
وقوله: «لزم دفعها إليه» ظاهر كلامه أنه يلزم الدفع إليه فوراً،
وهو كذلك، إلا إذا قال: أبقها عندك وسأرجع، فتبقى عنده أمانة.
وظاهر كلامه أنه يلزم الدفع إليه بدون بينة ولا استحلاف، بمعنى أن الواجد لا يقول للمدعي إنها له: هات بينة؛ وذلك لأنه لا منازع له، أي: لا منازع للواصف لها، وكذلك ـ أيضاً ـ لا يلزمه اليمين؛ لأنه لا منازع له فإذا وصفها فإنه لا يطالب بالبينة، مع احتمال أن يكون غير مالك لها عند المطالبة؛ لأنه باعها ـ مثلاً ـ وضاعت من المشتري، فهذا الاحتمال وارد ولا شك، لكن مع هذا لا نطالب الواصف بالبينة؛ لأن الأصل بقاء ملكه، وقد وصفها فوجب دفعها إليه بمقتضى السنة.
إذاً نقول: لزم دفعها إليه بغير بينة، ولا يمين.
وهل له أن يمتنع حتى يُشْهِد أو لا؟
الجواب: ليس له ذلك؛ لأنه سيقبل قوله في دفعها إلى ربها؛ لأنه متبرع، والمتبرع يقبل قوله في رد العين إلى مالكها، وهذا هو(10/377)
المشهور من المذهب، وقد يقال: له أن يمتنع حتى يحضر بينة تسليمها؛ لأنه ربما يأتي واصفها يوماً من الدهر، ويقول: إنه قد ثبت أنك وجدت هذه اللقطة التي هذه صفتها فأعطنيها، وهو سيقبل قوله في الدفع، لكن يقول: أنا أريد أن أُشهِد لأسلم من الإحضار إلى الحاكم، أو توجه اليمين إليَّ، فإذا كان يلاحظ ذلك فله الحق أن يقول: لا أدفع حتى يحضر شهوداً يشهدون أني دفعت إليك هذه اللقطة؛ لئلا يعود فيدعي عليه أنه لم يقبضها منه.
وَالسَّفِيهُ وَالصَّبِيُّ يُعَرِّفُ لُقَطَتَهُمَا وَلِيُّهُمَا. وَمَنْ تَرَكَ حَيَوَاناً بِفَلاَةٍ لانْقِطَاعِهِ أَوْ عَجْزِ رَبِّهِ عَنْهُ مَلَكَهُ آخِذُهُ. وَمَنْ أُخِذَ نَعْلُهُ وَنَحْوُهُ وَوَجَدَ مَوْضِعَهُ غَيْرَهُ فَلُقَطَةٌ.
قوله: «والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما» السفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، ولو كان بالغاً ما بلغ من السنين، فيجب إقامة ولي له، أي: لماله، وسبق هذا في باب الحجر.
والصبي مَنْ دون البلوغ، ولم يذكر المؤلف المجنون، لكنه لا شك أنه من باب أولى، فلو أن شخصاً مجنوناً أتى إلى أهله يوماً من الدهر وبيده ذهب فسألوه، فجعل يشير إلى السوق، فهذا تُعرَّف لقطته، على أنه ربما يقال: إن المجنون يختلف عن الصبي، فالصبي يعرف، وإذا قيل له: من أين؟ قال: وجدتها في المكان الفلاني، والمجنون لا يعرف، فقد يكون سرقها من بيت، أو استلب الحلي من لابسته، وعليه فلا يكون لقطة، لكنه في الحقيقة في حكم اللقطة.
وقوله: «يعرف لقطتهما وليهما» أي وجوباً، فينشد ويقول مثلاً: من ضاع له المال الفلاني، فإذا جاء طالبه ووصفه لزم دفعه إليه.(10/378)
وظاهر كلام المؤلف أنه لو عرَّفها الصبي لم يجزئ، ولو عرَّفها السفيه لم يجزئ؛ وذلك لأن الناس لا يثقون بقول الصبي، فقد يُحْجِم صاحبها عن ادعائها؛ لأنه يظن أن الصبي يلعب، فلذلك نقول: يجب أن يعرفها الولي، وتعريف السفيه أو الصبي لا يكفي، أما الصبي فواضح، وأما السفيه ففي النفس منه شيء؛ لأن السفيه ليس كالصبي، وكل الناس إذا رأوا هذا الرجل البالغ الملتحي يعرِّف لقطة، فإنه يبعد أن يظن أنه يتلاعب.
فإن تمت السنة ولم يأتِ أحد لهذه اللقطة فإنها تكون للواجد ولو كان سفيهاً أو صغيراً.
قوله: «ومن ترك حيواناً بفلاة لانقطاعه أو عجز ربه عنه ملكه آخذه» ألحقه المؤلف في باب اللقطة؛ لأنه شبيه بها.
مثال ذلك: إنسان معه حيوان، بعير، أو بقرة، أو شاة، انقطع وصار لا يمشي، فتركه ربه رغبة عنه، فهو لمن وجده، وأصل هذا حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان على جمل له فأعيى فأراد أن يسيبه (1) .
ولكن لو ادعى مالكه أنه لم يتركه رغبة عنه، لكن تركه ليرجع إليه، بأن يعالجه حتى يقوى ويسير بنفسه، فالأصل حرمة المال، وعلى هذا فمن وجده وأخذه على أنه ملكه يضمن إذا ادعى صاحبه أنه تركه ليرجع إليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .(10/379)
لكن إذا علمنا بالقرائن القوية أنه تركه رغبة عنه، وأنه لا حاجة له فيه، كما لو كان الحيوان هزيلاً جداً، لا يصلح للذبح ولا للركوب إن كان من المركوبات، ولا يصلح لشيء أبداً، فهنا نقول: يملكه آخذه.
وقوله: «أو عجز ربه عنه» يعني أن الحيوان لم ينقطع، بل هو نشيط، لكن عجز عنه، كبعير تمرد على صاحبه وأبى أن يذهب، فإنه يملكه آخذه؛ لأن صاحبه تركه عجزاً عنه.
والقول الثاني في هذه المسألة: أن واجده لا يملكه، بل يبقى على ملك صاحبه؛ لأنه لم يتركه، ولكن للآخذ أجرة المثل، وهذا مبني على ما سبق أن من أنقذ مال شخص من هلكة فله أجرة المثل.
والقول الثالث وهو الراجح: أنه يفرق بين من تركه عجزاً ومن تركه لانقطاعه، فمن تركه لانقطاعه ملكه آخذه، ومن تركه عجزاً لم يملكه آخذه وله أجرة المثل؛ لأنه أنقذه من هلكة.
أما المتاع فإنه لمالكه، فإن تركه بالفلاة فإن من أحضره إليه ليس له أجرة المثل، إلا إذا أحضره إليه إنقاذاً له من الضياع فله أجرة المثل، والفرق بين المتاع والحيوان، أن الحيوان يهلك وهذا لا يهلك.
بقي العبد الآبق إذا عجز عنه سيده فهل يكون للواجد؟
لا، ولكن له أجرة المثل، والفرق بينه وبين الحيوان أن العبد يمكنه أن يخلص نفسه، فصاحبه إذا تركه لم يتركه يأساً بالكلية؛ لأنه يستطيع أن يخلص نفسه فليس كالحيوان، فمن وجده فهو لمالكه ولكن له أجرة المثل.(10/380)
قوله: «ومَنْ أُخِذَ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره فلقطة» النعل معروف «أو نحوه» كعصاه، أو عباءته، أو كتابه، وما أشبه ذلك، ولهذا قال: «أو نحوه» ولم يحدد المؤلف، لكنه «وجد موضعه» أي: في موضعه، فـ: «موضع» هنا منصوبة على أنها ظرف مكان، و «غيرَه» مفعول «وجد» «فَلُقَطة» أي: فهو لقطة، أي: الموجود في مكانه يكون لقطة.
مثال ذلك: الرفوف التي للنعال، إذا وضع رجل نعله في رف، ولما خرج من المسجد وجد في مكان نعله نعالاً غيرها، ونعله مأخوذة، فنقول له: هذا الذي وجدته لقطة، وأما نعالك فابحث عنها؛ وذلك لاحتمال أن يكون سارق سرقها، ثم جاء آخر ووجد هذا المكان ليس فيه نعل فوضع نعله فيه، ومن باب أولى إذا وضع نعاله عند باب المسجد.
لكن لو قال قائل: ليس في المسجد إلا أنا وآخر دخلنا جميعاً أو دخل هو قبلي، ولا يوجد إلا نعلي ونعله، ثم إن الرجل خرج وأخذ نعلي ولما خرجت لم أجد إلا هذا النعل، فهنا قد يجزم الإنسان أن الرجل الذي كان بالمسجد غلط، وأخذ نعل الرجل الآخر، أو تعمد، فكيف نقول: إنها لقطة؟! لأن الحكم بأنها لقطة يستلزم أحد أمرين: إما أن يدعها الإنسان ويذهب إلى أهله حافياً، وإما أن يأخذها ويعرِّفها وفيه صعوبة، لكن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون: إنها لقطة؛ لأنه إذا كان هناك احتمال من مائة احتمال فالأصل حرمة مال الغير، ولا يمكن أن يأخذها ويتصرف فيها.(10/381)
لكن إذا غلب على الظن أن المسألة فيها خطأ، كالمثال الذي مثلته أخيراً: رجلان في المسجد، نعالهما تتشابهان، خرج أحدهما وأخذ نعل صاحبه وأبقى نعله، ففي هذه الحال نرى أن يبحث عن الرجل؛ لأن مالك هذه النعل معلوم، فإن لم يجده فلينظر الفرق بين قيمة نعله وهذا النعل الذي وجده، فإن كان نعله أحسن من هذا النعل أخذه واكتفى، وإن كان النعل الموجود أحسن من نعله، فإنه يجب أن يتصدق بالزائد من ثمن هذا الموجود لصاحبه؛ لأن صاحبه الآن غير موجود، هذا إن أيس من صاحبه، أما إذا لم ييأس فهنا نقول: انتظر، فربما يرجع؛ لأنه ربما يغلط الإنسان فإذا وصل إلى بيته ـ مثلاً ـ عرف أنه غلطان فيرجع يطلب نعله.
على أن الغالب بالنسبة للنسيان أنه لا يقع؛ لأن الرِّجْل التي اعتادت على نعل معين تعرف نعلها، فالإنسان من حين أن يلبس النعل يعرف أن هذا نعله أو نعل غيره.
والخلاصة: المذهب أنه إذا أُخِذَ نعله أو نحوه ووجد موضعه غيره فهو لقطة مطلقاً.
والقول الثاني: أنه ينظر للقرائن، فإذا وجدت قرائن تدل على أن صاحب النعل أخذ نعلك، وأبقى لك هذا النعل، فإنه لا يكون لقطة وإنما يكون لواجده، ولكن في هذه الحال ينبغي أن يتأنى بعض الشيء لعل صاحبه يرجع، فإذا أيس منه أخذه، فإن كان أدنى من نعله اكتفى به، وإن كان أعلى وجب عليه أن يتصدق بالفرق بين قيمتي النعلين، وعلى هذا يكون كلام المؤلف مقيداً بمثل هذه الصورة.(10/382)
بَابُ اللَّقِيطِ
وَهُوَ طِفْلٌ لاَ يُعْرَفُ نَسَبُهُ، وَلاَ رِقُّهُ، نُبِذَ أَوْ ضَلَّ......................
قوله: «اللقيط» أعقبه لباب «اللقطة» والمناسبة ظاهرة؛ لأن اللقطة ضياع الأموال، وهذا ضياع الآدميين، فلذلك ناسب أن يجعلوا باب اللقيط بعد باب اللقطة، وإلا فله مناسبات أخرى، كمناسبة باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق، وكذلك في الميراث، لكنه أشبه ما يكون باللقطة فلذلك جعلوه تابعاً لها.
واللقيط في اللغة العربية فعيل بمعنى مفعول؛ لأن فعيلاً في اللغة العربية تأتي بمعنى مفعول في مواطن كثيرة، يقال: قتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وإلا فالأصل أن فعيلاً بمعنى فاعل، لكنها قد تأتي بمعنى مفعول حسب السياق والقرائن، فلقيط بمعنى ملقوط أي: مأخوذ.
أما في الاصطلاح فقال المؤلف: «وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل» .
فقوله: «وهو طفل» الطفل من دون التمييز.
وقوله: «لا يُعْرَفُ نسبه» أي: لا يدرى لمن هو، فإذا عرف نسبه فليس بلقيط.
وقوله: «ولا رِقُّه» فلا يدرى أهو حر ينتسب إلى فلان بن فلان، أو رقيق يملكه فلان أو فلان؟
وقوله: «نُبِذَ» أي: وجد منبوذاً، ونعرف أنه منبوذ بالقرائن،(10/383)
يعني أن صاحب هذا الطفل قد نبذه وطرحه، لا يريده، وهذا من المعلوم أنه لا يُتصور غالباً إلا فيمن لا يستطيع المشي، كطفل في المهد وجدناه ـ مثلاً ـ في المسجد، أو في الحمامات أو على الأرصفة، وغلب على ظننا أنه منبوذ بقرائن، ومن هذه القرائن أنه إذا نبذ يكتب عليه في مهاده «هذا ليس له أحد» ، وهذا يقع فيما إذا حصل ـ والعياذ بالله ـ زنا ثم وضعت المرأة من هذا الزنا، وقد عُرِف أنها ليست متزوجة فإنها تنبذ هذا الطفل، وأحياناً يكثر هذا في المساجد، وأحياناً يقل، وعلى كل حال إذا نبذ فواضح أنه لقيط.
وقوله: «أو ضل» أي: أو ضاع، وهذا في الحقيقة فيه نظر ظاهر، فإذا علمنا أن هذا الطفل له خمس سنوات أو ست سنوات وقد ضاع عن أهله، وهو الآن يصيح يبحث عنهم، فهل يمكن أن نقول: إن هذا لقيط يأخذه الإنسان ويجعله عنده؟ لا، هذا يشبه اللقطة، بمعنى أنه يجب أن يبحث عن أهله، وهذا يقع كثيراً في مواسم الحج والعمرة، ولكن من توفيق الله لهذه الحكومة ـ الحكومة السعودية ـ أنها جعلت أناساً يتلقون هؤلاء الضائعين، ومن المعلوم أن من ضاع له طفل في هذه السن، فإنه أول ما يذهب إلى الشرطة الذين يتلقون هؤلاء، فيحصل بهذا خير كثير.
وظاهر كلام المؤلف: أن من وجده أخذه على أنه لقيط، ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فالصواب إذاً أن اللقيط طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ فقط، ولا نقول: أو ضل، بل نقول: إن الضال يُبحث عن أهله.(10/384)
ولهذا اقترح بعض الناس اقتراحاً جيداً قال: ينبغي في المواسم ـ أي: مواسم الحج أو العمرة ـ أن يكتب على ظهر كل إنسان صغير بطاقة هذا فلان بن فلان، ورقم هاتف أبيه كذا وكذا، وهذا طيب؛ لأنه يستريح الذي يجده ويستريح أهله أيضاً، والآن بعض الحجاج الذين يقدمون من بلاد بعيدة يكتب على إحراماتهم، فإذا كان الحاج وهو بالغ عاقل يكتب عليه لئلا يضيع فكيف بالأطفال؟ فهنا من المستحسن أن من معه طفل في هذه المواسم، أن يجعل كتابة على ظهره حتى يستريح الجميع.
وَأَخْذُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ حُرٌّ، وَمَا وُجِدَ مَعَهُ، أَوْ تَحْتَهُ ظَاهِراً أَوْ مَدْفُوناً طَرِيّاً أَوْ مُتَّصِلاً بِهِ كَحَيَوانٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، فَلَهُ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ،......
قوله: «وأخذه فرض كفاية» يعني إذا وجد هذا اللقيط، فإنه يجب على المسلمين أن يأخذوه؛ لأنه آدمي محترم فصار حفظه فرض كفاية، وفرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فما طُلب فعله من كل أحد فهو فرض عين أو سنة عين، وما كان الغرض منه إيجاد الفعل فقط صار كفاية إما فرض وإما سنة، فأخذ اللقيط ليس مطلوباً من كل أحد، بل المطلوب حفظ هذا الطفل فيكون فرض كفاية.
ولكن هل يجب على أول من يراه أن يأخذه؟
نقول: هذا هو الأصل، فيجب على أول من يراه أن يأخذه؛ لأننا لو لم نقل بهذا وقلنا للأول: ليس هناك مانع أن تتركه، وجاء الثاني وقلنا له كذلك، فهنا لا شك أنه سوف يضيع الطفل، لا سيما إذا كان في أيام الصيف والحر فيحتاج إلى رعاية، أو أيام الشتاء والبرد في البلاد الباردة، فعلى هذا نقول: هو فرض كفاية، لكن يجب على أول من يجده أن يأخذه، إلا إذا(10/385)
رأى شخصاً آخر يقول: دعه لي، فهنا نقول: حصلت الكفاية.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين؟ منهم من رجح فرض الكفاية، وقال: إن القائم به يسقط الفرض عن جميع الناس، فكأنه حصل على أجر جميع الناس، ومنهم من قال: فرض العين أفضل؛ لأنه طلب من كل واحد، وهذا القول هو الراجح بلا شك؛ لأنه لولا أن الله تعالى يحبه ويحب من عباده أن يقوموا به جميعاً ما جعله فرض عين.
وفي وقتنا الحاضر والحمد لله ـ عندنا في السعودية ـ الحكومة جعلت لهؤلاء دوراً معينة تسمى دور الرعاية أو ما أشبه ذلك، فهنا يؤخذ هذا الطفل ويجعل في دار الرعاية، لكن لو أراد لاقطه أن يكون عنده في حضانته فهل يمنع؟ لا، لا يمنع، لكن لا بد من شرط، وسيأتي إن شاء الله.
قوله: «وهو حر» الضمير يعود على اللقيط، فلا يقول واجده إنه عبد وأنا أخذته فهو عبد لي أبيعه وأشتري بدله، حتى لو كان في حي أهله عبيد فإنه حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية.
قوله: «وما وجد معه أو تحته ظاهراً أو مدفوناً طرياً أو متصلاً به كحيوان وغيره أو قريباً منه فله» أي: للقيط، «ما» مبتدأ، والخبر «فله» ، وقوله: «وما وجد معه» أي: مع اللقيط، مثل أن يكون في جيبه أو معلقاً في رقبته أو ما أشبه ذلك، فهذا له وليس لقطة، وهذا يقع أحياناً في اللقطاء، يجعل الذي نبذهم في رقابهم، إما دراهم، أو طعاماً، أو وعاء لبن ـ حليب ـ فيكون(10/386)
له، كذلك ما وجد تحته فهو له، مثلاً لو كان هذا اللقيط مضطجعاً ووجدنا تحته صرة دراهم فهي له.
يقول المؤلف سواء كان «ظاهراً» يعني غير مدفون، «أو مدفوناً طرياً» يعني دفنه قريب، فإن وُجد تحته مدفوناً لكنه قديم فليس له؛ لأن قرينة الحال تدل على أنه ليس له، لكن إذا كانت الأرض منفوشة، ووجدنا تحت هذا المنفوش دراهم والطفل فوقه، فهذه الدراهم الموجودة تكون للطفل.
فإن قال إنسان: كيف تكون له وهي مدفونة؟ قلنا: ربما يكون الذي نبذه دفن هذه النفقة حفاظاً عليها؛ لأنه من الجائز أن الطفل ينقلب فتبرز الدراهم.
وقوله: «أو متصلاً به» يعني ما وجد متصلاً به، كطفل منبوذ وجدنا سخلة (1) صغيرة مربوطة به، فتكون هذه السخلة له؛ لأن ربطها به يدل على أن صاحبها قد جعلها له.
وقوله: «كحيوان وغيره» يعني كإبريق أو إناء أو كيس من الطعام أو أي شيء.
وقوله: «أو قريباً منه» هذه تحتاج إلى تفصيل، فإذا وجد شيء قريب منه فهو له، وهذا مسلم إذا كان هناك قرينة تدل على أنه له، وإلا فيكون القريب منه لقطة؛ لأن الأصل عدم الملك، لكن إذا وجدت قرينة، مثل أن يكون الطفل ملفوفاً بخرقة وما حوله ملفوف بخرقة مثلها، فإنه يدل على أنها تبع له،
__________
(1) ولد الشاة.(10/387)
فقوله: «قريباً منه» ينبغي أن يقيد بما إذا كان هناك قرينة.
قوله: «ويُنفق عليه منه» أتى بـ «يُنْفَق» المبني للمجهول؛ لأجل أن يشمل كل من ذكرنا أنه يتولى الإنفاق عليه، والذي ينفق هو الواجد، فينفق على هذا اللقيط مما وجد معه بدون إذن الحاكم؛ لأنه وليه.
وَإلاَّ فَمِنْ بَيْتِ المَالِ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَحَضَانَتُهُ لِوَاجِدِهِ الأمِينِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ حَاكِمٍ، ومِيرَاثُهُ، وَدِيَتُهُ، لِبَيْتِ المَالِ،...........
قوله: «وإلا» يعني وإن لم يوجد شيء معه.
قوله: «فمن بيت المال» إذا كان الحصول على بيت المال يحتاج إلى وقت، إلى أوراق ومعاملة تدور بين الدوائر، والطفل الآن محتاج إلى رضاعة فماذا نعمل؟ ينفق عليه الواجد؛ لأن الإنفاق عليه فرض كفاية، فإذا كانت المعاملة تحتاج إلى مدة قلنا أنفق الآن.
وهل إذا أنفق يرجع على بيت المال أو لا؟ فيه تفصيل: إن نوى الرجوع رجع، وإن لم ينوِ الرجوع فقد قام بواجب عليه ولا يرجع به على أحد، ولكن إذا لم ينتظم بيت المال تكون على من علم بحاله من المسلمين، وأول من علم بحاله الملتقط.
وبيت المال الذي يتكلم عنه الفقهاء هو الموضع الذي يجمع فيه المال الذي تتولى إدارته الدولة ويمول من عدة أشياء، منها خمس الخمس في الغنيمة وهو الذي يكون لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومنها الأموال المجهول صاحبها، ومنها تركة من لا وارث له، ومصادر بيت المال تكون في مصالح المسلمين عموماً، ومنها الإنفاق على اللقطاء.
قوله: «وهو مسلم» أي: اللقيط «مسلم» يعني يُحكم(10/388)
بإسلامه؛ لأن الأصل أن كل مولود يولد على الفطرة، لكن بشرط أن يكون في بلاد إسلام خالصة أو بالأكثرية، فإن كان في بلد كفار، كرجل سافر إلى بلاد الكفر لتجارة أو زيارة أو علاج، فوجد لقيطاً، وأهل البلد كلهم كفار، فهنا نحكم بكفره تبعاً للدار؛ لأن الدار دار كفر، وتبعاً للقرينة؛ لأن الغالب أن من كان في بلد كل أهله كفار أو غالبهم أنه منهم.
وقيل: بل هو مسلم مطلقاً، وهو ظاهر كلام المؤلف، وهو الصحيح حتى وإن وجد بدار كفر؛ وذلك لأن نسبه مجهول، فإذا لم يكن له أب ينسب إليه قرابةً، فإنه ليس له أب ينسب إليه ديناً من باب أولى، فانقطعت التبعية وإذا انقطعت التبعية فكل مولود يولد على الفطرة؛ لأن الطفل إنما يتبع أبويه في الكفر إذا كان أبواه كافرين، وعليه فالراجح أنه مسلم يحكم بإسلامه حتى وإن وجد في دار كفر، صحيح أنه إذا وجد في دار كفر فإن الغالب أنه من هؤلاء الكفار، لكننا نقول: إن انقطاع تبعيته نسباً يستلزم انقطاع تبعيته ديناً؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» (1) وهذا الطفل ليس له أبوان، فلما انقطعت تبعيته في الأبوين من حيث النسب فلتنقطع من حيث الدين، ونرجع إلى الأصل وهو الفطرة.
وإذا حكمنا بإسلامه ترتب عليه أحكام، وكان له ما
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين (1385) ؛ ومسلم في القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (2658) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/389)
للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فلو مات هذا الطفل قبل أن يبلغ فإننا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في مقابر المسلمين، وسيأتي لمن يكون ميراثه، وإذا مَيَّزَ وأراد أن يكون كافراً اعتبرناه مرتداً، ومعلوم أن هناك فرقاً بين الكافر المرتد والكافر الأصلي، فالكافر الأصلي يبقى على دينه ولا نجبره على الإسلام، أما الكافر المرتد نجبره أن يسلم وإلا قتلناه.
قوله: «وحضانته لواجده الأمين» يعني ضمه، وتربيته، وكفالته تكون لواجده، لكن بشرط أن يكون الواجد أميناً، فإذا كان الذي وجده امرأة وهي أمينة لا نخشى عليه بوجوده عندها، فحضانته للمرأة، وإذا كان رجلاً أميناً فحضانته للرجل، أما إذا كان غير أمين مثل أن يكون فاسقاً، أو مشهوراً باستلاب الأموال فإنه لا حضانة له؛ لأن المقصود بالحضانة في كل أحوالها حفظ المحضون والقيام بمصالحه، فإذا عرفنا أن الواجد ليس بأمين فلا حضانة له، والحاكم يجعل حضانته لشخص أمين، ومن هنا نعرف أن الحضانة لها أهمية كبيرة، وليست الأم أولى بها من الأب مطلقاً، ولا الأب أولى بها من الأم مطلقاً، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ في باب الحضانة: إن المحضون لا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه مهما كان حتى لو كانت الأم.
قوله: «وينفق عليه بغير إذن حاكم» أي: ينفق عليه الواجد دون أن يستأذن من القاضي؛ لأن الحضانة له، وينفق عليه مما معه، وسبق أن ما كان معه أو قريباً منه أو مدفوناً طرياً فهو له،(10/390)
فإن لم يكن معه مال فمن بيت المال، والواجد هو الذي يدبر النفقة اليومية حسب ما تقتضيه المصلحة.
قوله: «وميراثه وديته لبيت المال» «ميراثه» إن خلف مالاً «وديته» إن قُتِل خطأ أو عمداً واختيرت الدية لبيت المال؛ لأنه ليس له وارث، وأسباب الإرث ثلاثة: النكاح، والنسب، والولاء، وهذا ليس له سبب، لا نكاح ولا نسب ولا ولاء فيكون ميراثه لبيت المال.
ولو تزوج هذا اللقيط وأتاه أولاد فميراثه لورثته، للزوجة إن بقيت معه ولأولاده، لكن إذا لم يتزوج فميراثه يكون لبيت المال.
وديته إن قتل فهي لبيت المال؛ لأن الدية في حكم الموروث، ولهذا لو أوصى الإنسان بثلثه وأحصينا ماله بعد أن قتل، فإننا نضم الدية إلى المال، ويخرج ثلث الدية كما يخرج الثلث من بقية المال، وهذا هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أن ميراثه وديته لواجده، وهو الصحيح لحديث رواه أهل السنة وهو قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تحوز المرأة ثلاثة: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» (1) وهو اختيار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ومعلوم أن هذا أولى من أن نجعله في بيت
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/490، 106) ؛ وأبو داود في الفرائض/ باب ميراث ابن الملاعنة (2906) ؛ والترمذي في الفرائض/ باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء (2115) ؛ وابن ماجه في الفرائض/ باب تحوز المرأة ثلاث مواريث (2742) عن واثلة بن الأسقع ـ رضي الله عنه ـ؛ وصححه الحاكم (4/341) ووافقه الذهبي، وانظر: فتح الباري لابن حجر (12/32) ط/دار الريان؛ والإرواء (1576) .(10/391)
المال؛ لأن بيت المال ينتفع به عامة المسلمين، لكن هذا ينتفع به الواجد الذي تعب عليه وحضنه، وربما يكون هو السبب ـ أيضاً ـ في تحصيل المال، فالصواب هذا القول وأن من أسباب الإرث الولاء بالالتقاط.
وَوَلِيُّهُ فِي العَمْدِ الإمَامُ يُخَيَّرُ بَيْنَ القِصَاصِ وَالدِّيَةِ. وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَنَّهُ وَلَدُهُ لَحِقَ بِهِ،..........
قوله: «ووليه» أي: ولي اللقيط.
قوله: «في العمد» أي: فيما إذا قتل اللقيط عمداً.
قوله: «الإمام يخير بين القصاص والدية» فأيهما كان أنفع فعله، أحياناً يكون القصاص أنفع وأحياناً تكون الدية أنفع، وإذا ترددنا فالدية.
ويكون القصاص أنفع إذا كان الذي قتله عمداً معروفاً بالشر والفساد والعدوان فهنا القصاص أنفع، فلو قال قائل: أنتم إذا اقتصصتم منه فوَّتُّم ديته على بيت المال، قلنا: إذا نظرنا إلى المصلحة العامة رجحنا القصاص.
وأحياناً يكون القاتل عمداً ليس معروفاً بالشر والفساد، وربما يكون عن نزاع بينه وبين هذا اللقيط فقتله، فهنا قد نقول: إن أخذ الدية أفضل، ولكن هل هذا التخيير بين القصاص والدية تخيير إرادة أو تخيير مصلحة؟ الثاني، تخيير مصلحة، وكل من خُيِّر بين شيئين وهو متصرف لغيره فالمراد المصلحة، أما من خير بين شيئين للتوسيع عليه ولا يتعلق بغيره فهو تخيير إرادة؛ لأن المقصود به الرفق بالمكلف.
بقي قسم ثالث وهو العفو، لكن هنا لا يمكن العفو؛ لأن العفو معناه أن لا يكون لهذا اللقيط الذي قتل عوض فتفوت فيه(10/392)
المصلحة العامة أو الخاصة، فيخير الإمام بين القصاص والدية فقط.
وقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «ووليه في العمد الإمام» ولم يقل: أو نائبه، ولم يقل: الحاكم، الذي هو القاضي، فيقال: أما الأول فقد علم في كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن نائب الإمام يقوم مقام الإمام، فمثلاً في عُرْفنا الآن في مسألة القصاص والحدود وما أشبهها، نائب الإمام في هذا وزير الداخلية، ووزير الداخلية له نواب وهم الأمراء والمحافظون، فعلى هذا نقول: الإمام أو نائبه، كما جرى ذلك في كلام الفقهاء في مواضع كثيرة، وأما الحاكم فيتولى القضاء، وإذا كان الإمام قد خلفه في مثل هذه الأمور فهو نائبه في ذلك.
قوله: «وإن أقر رجل أو امرأة ذات زوج مسلم أو كافر أنه ولده لحق به» إن أقر رجل أنه له، فإننا نلحقه به بدون بينة ولو بعد موت اللقيط؛ لأن الشرع يتشوَّف إلى إلحاق الأنساب؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (1) فالشارع له تشوُّفٌ في إلحاق النسب، ولهذا حرم على الإنسان أن يتزوج المرأة في العدة؛ لئلا تختلط الأنساب وتشتبه.
مثاله: رجل علم باللقيط، فجاء إلى القاضي أو إلى الأمير أو إلى المحافظ، وقال: هذا ولدي، فإنه يلحق به بشرطين:
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير المشبهات (2053) ؛ ومسلم في الرضاع/ باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(10/393)
الأول: ألا يتبين كذب الدعوى، مثل أن يأتي وله عشر سنوات ويقول: الولد ولدي، فإن هذا لا يمكن، أو يأتي وهو له عشرون سنة واللقيط له اثنتا عشرة سنة، فإن هذا لا يمكن ويستحيل عادة، فإذا لم تمكن صحة الدعوى فإنه لا يقبل.
الثاني: ألا ينازعه أحد، فإن ادعاه اثنان فسيأتي في كلام المؤلف.
وقوله: «أو امرأة ذات زوج» فلو ادعت امرأة ذات زوج أنه ولدها فإنه يقبل، ولو أنكر زوج المرأة، وقال: ليس هذا ولداً لي، ألحق بالمرأة ولم يلحق بالزوج؛ لاحتمال أن يكون هذا الولد أتاها قبل أن تتزوج هذا الرجل، أو أنها وطئت بشبهة أو بزنا وزوجها لا يريد أن يستلحقه، وإن لم تكن ذات زوج فإنه يلحق بها ـ أيضاً ـ من باب أولى؛ لأنه إذا كانت ذات الزوج تقبل دعواها أنه ولدها، فمن لم يكن لها زوج من باب أولى، اللهم إلا إذا كذبها الواقع، مثل أن تكون بكراً وتقول: هذا الولد لي، فلا يقبل، وهذه المسألة ـ أي: إذا ادّعته امرأة ـ اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يلحق بها مطلقاً؛ لأن المرأة ليست ذات نسب، فالناس يلحقون بآبائهم فلا فائدة من استلحاقها له.
الثاني: أنه يلحق بها ـ وهذا ما مشى عليه المؤلف ـ مطلقاً سواء ذات زوج أو ليست ذات زوج فهو لها، ثم إن أقر زوجها فهو له ـ أيضاً ـ وإلا فهو لها هي، وقالوا: إنه وإن كان لا ينسب إلى أمه لكن أمه تستفيد من ذلك بأن يكون ولدها يرثها وترثه،(10/394)
ومن الممكن أن يكون ولداً لها وإن لم تكن زانية، فقد توطأ بشبهة أو مكرهة، فإذا قالت: هذا ابني، فإننا نلحقه بها حتى وإن لم يقبل الزوج.
الثالث: إن كانت ذات زوج لم يلحق بها لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش» (1) وهنا الزوج لم يدع أنه ولده، وإذا ألحقناه بها صار في ذلك عار على الزوج، فيلزم أن تكون زانية أو موطوءة بشبهة، وهذا هو أحسن الأقوال.
وقوله: «مسلم أو كافر» يعني سواء كان المقِر بأنه ولده مسلماً أو كافراً، إن كان مسلماً فالأمر ظاهر ولا إشكال فيه، وإذا كان كافراً فإننا نلحقه به لكننا لا نمكنه من حضانته، نقول: نعم الولد ولدك لكنه محكوم بإسلامه ولا حضانة لك عليه.
والفائدة من إلحاقه به النسب، وهذا الكافر ربما يسلم في يوم من الأيام، فيرد اللقيط إليه ويتوارثان، والشارع له تشوف بالغ في إلحاق النسب.
وقوله: «لحق به» أي: صار ولداً له، وصار أولاد المدعي إخوة له.
وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ اللَّقِيطِ، وَلاَ يَتْبَعُ الكَافِرَ فِي دِينِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ،........
قوله: «ولو بعد موت اللقيط» هذه إشارة خلاف، يعني أنه يلحق به ولو بعد موت اللقيط، وهو المذهب؛ لأن للشارع تشوفاً بإلحاق النسب، ولم يدعه أحد فليكن ولداً له.
والقول الثاني: أنه بعد موت اللقيط لا نطلق أنه يقبل، بل
__________
(1) سبق تخريجه ص (393) .(10/395)
في ذلك تفصيل، إن كان هناك تهمة، فإنه لا يلحق به، والتهمة مثل أن يكون لهذا اللقيط أموال كثيرة، فيدعي بعد موت اللقيط أن اللقيط ولده؛ من أجل أن يرث هذه الأموال، فهذا لا نقبل دعواه؛ لأن التهمة هنا قائمة قياماً تاماً، ثم أي فائدة ـ من حيث النسب ـ نحصل عليها وهو قد مات، ولم يخلف ذرية ولا شيئاً؟! وهذا القول هو الصواب، أنه بعد موت اللقيط إذا قامت التهمة والقرينة ـ مثلاً ـ على أنه إنما يريد المال، فإننا لا نلحقه به.
قوله: «ولا يتبع» الضمير يعود على اللقيط.
قوله: «الكافرَ في دينه» أي الكافر الذي ادعاه، نحكم بأنه ولده ولا نحكم بأنه على دينه؛ لأنه سبق لنا أن اللقيط مسلم.
قوله: «إلا ببينة تشهد أنه ولد على فراشه» فإذا أقام بينة بأنه ولد من زوجته أو أنه ولد من سُرِّيَّتِهِ، فهنا لا بد أن نلحقه به نسباً وديناً حتى يبلغ سن التمييز، ويختار من الأديان ما شاء، أما إذا ادعاه وليس له بينة فإن يتبع الكافر نسباً ولا يتبعه ديناً.
واستفدنا من قوله: «ولا يتبع الكافر في دينه إلا ببينة» أن ولد الكافر يتبع الكافر في الدين، فإذا مات طفل أبواه كافران، فإن هذا الطفل كافر حكماً في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين؛ لأنه كافر حكماً، أما في الآخرة فالصحيح أن أولاد المشركين يمتحنون، بمعنى أن الله ـ عزّ وجل ـ يسألهم في الآخرة ويكلفهم بأشياء الله أعلم بها، فمنهم من يطيع ومنهم من يعصي، فمن أطاع استحق ثواب المطيع ومن عصى استحق ثواب العاصي، هذا هو أصح الأقوال(10/396)
في أطفال المشركين وفيمن لم تبلغهم الدعوة من المكلفين، فحكمهم في الدنيا كفار؛ لأنهم لا يدينون بالإسلام، وفي الآخرة كما سبق.
وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالرِّقِّ مَعَ سَبْقِ مُنَافٍ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ كَافِرٌ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَاهُ جَمَاعَةٌ قُدِّمَ ذُو البَيِّنَةِ، وَإِلاَّ فَمَنْ أَلْحَقَتْهُ القَافَةُ بِهِ.
قوله: «وإن اعترف بالرق مع سبق منافٍ أو قال: إنه كافر لم يقبل منه» قوله: «وإن اعترف» الضمير يعود على اللقيط، بأن قال: لما كبر وأصبح يصح منه الإقرار: إنه رقيق لفلان، نظرنا إن سبق ما ينافي دعواه لم نقبل منه، مثل أن كان هذا اللقيط يتصرف ببيع وشراء وكل شيء، ثم قال: إنه رقيق، فهنا لا نقبل؛ لأن هذا الرجل كان يتصرف بنفسه ولا يقول: إني أراجع سيدي أو ما أشبه ذلك فلا نقبل؛ لأن إقراره ينافيه حاله السابق، وأما إذا لم يسبق منافٍ فإنه يقبل.
والقول الثاني وهو المذهب أنه لا يقبل؛ لأن الحرية والرق حق لله ـ عزّ وجل ـ: إلا إذا أقام من أُقِرَّ له بينة على أنه رقيقه، فإننا نحكم بالبينة لا بإقرار اللقيط، وهذا أحسن مما ذهب إليه المؤلف.
وقوله: «أو قال: إنه كافر» أي اللقيط فإننا لا نقبله؛ لأننا حكمنا بإسلامه، وفائدة رد قوله: إنه كافر، أنه إذا أصر على الكفر صار مرتداً، فيقال له: إما أن تسلم وإما أن تُقتل؛ لأن المرتد لا يقبل منه البقاء على ردته، لكن لو كان كافراً من الأصل أبقيناه على كفره، وأخذنا منه الجزية حسب ما تقتضيه الشريعة.
قوله: «وإن ادعاه جماعة قدم ذو البينة» «إن ادعاه» أي(10/397)
اللقيط «جماعة» كل واحد قال: هذا ابني، فإن أقام أحدهم بينة أنه ابنه وولد على فراشه فهو له.
قوله: «وإلا فمن ألحقته القافة به» أي: إذا لم يكن لأحدهم بينة فإننا نعرضه على القافة، والقافة جمع قائف كالصاغة جمع صائغ، وهم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، وبنو مدلج من العرب مشهورون بهذا، ولهذا لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على عائشة ـ رضي الله عنهاـ ذات يوم، مسروراً تبرق أسارير وجهه، فسألته فقال لها: «ألم تري إلى مجزز المدلجي دخل على أسامة بن زيد وزيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ، وهما قد تغطيا برداء وقد بدت أقدامهما، فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض» (1) فَسُرَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بشهادة هذا الرجل القائف الذي لا يعرفهما ولا يعرف أمرهما؛ وذلك أن قريشاً كانت تطعن في نسب أسامة بن زيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن أسامة أسود وزيد أبيض، وتقول: هذا ليس ولداً لهذا، وهذا لا شك أنه يُهِمُّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن زيداً مولاه، وأسامة ابن مولاه، وكلاهما مولى، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يحبهما ومعلوم أن الطعن فيهما ليس بأمر هين على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فشهادة هذا القائف تزيده سروراً.
المهم نعرضه على القافة، وكيف نعرضه على القافة؟ هذا يرجع فيه إلى الأساليب المعتادة، إما بأن يعرض الوجه وتستر الأجسام، أي: يجعل حائل ويعرض الوجه، وإما أن تعرض
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب القائف (6770) ؛ ومسلم في الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(10/398)
الأقدام؛ لأن الأقدام ـ سبحان الله ـ دليل واضح على الوجوه، حتى إنه عندنا هنا في البلد أناس يعرفون الرجل بقَدمِه، فإذا رأى القدم ورأى أصابعه قال: كأنني أشاهد وجهه ـ سبحان الله! ـ حتى إنه إذا تسلق الجدار، وكانت الجدران من قبل من الطين تتأثر بالأصابع، فإذا سرق ـ مثلاً ـ وتسلق الجدار عرفه بإبهامه فقط، ويقول: كأنني أشاهد وجهه، وإذا دخل على حوش الغنم، وسرق وخرج ورأى أثر أقدامه في الرمل، قال: هو فلان، فالمهم أن الوجوه والأقدام تدل على النسب؛ لأن مجززاً المدلجي ـ رضي الله عنه ـ إنما رأى أقدامهما.
ولا فرق بين أن يكون الأول مدعياً أو الثاني أو الثالث، يعني لو أن أحدهم جاء في الساعة الواحدة والآخر في الساعة الثانية والثالث في الساعة الثالثة، وكلهم ادعى أنه ولده، فإننا نعرضه على القافة فمن ألحقته به لحقه، لكن بشرط أن يكون مجرباً بالإصابة.
وقول القافة في الأنساب معتبر، فهل يعتبر قول القافة في الأموال، بمعنى أن القائف إذا رأى قدم السارق، وقال: هذا فلان بن فلان، فهل يؤخذ به، أو يقال: إنه قرينة ويؤتى بالرجل إن أقر وإلا برئ؟ فيها خلاف بين العلماء: منهم من قال: إذا عرف بالإصابة بالتجربة فإنه يؤخذ به، وكما ذكرنا هؤلاء القافة ربما يشهدون شهادة على أن هذا قدم فلان بن فلان، وليس عندهم فيه شك، فيكون قرينة، وفي قضية داود وسليمان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ(10/399)
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78، 79] استدل بالأثر على المؤثر.
وإذا ألحقته القافة باثنين، وقالت هو ولد لزيد وعمرو، فهل يلحق بهما؟ قال الفقهاء: يلحق بهما، وأنه يمكن الحمل من رجلين، لكن علماء الطب المعاصر يقولون: لا يمكن أن يكون ولد من شخصين، فيدرس الموضوع وينظر، هل ما قاله الفقهاء هو الواقع أو لا؟ لأن الفقهاء ربما يقولون بالشبه، فإذا كان يشبه هذا وهذا فإنه يلحق بهما، والشبه أحياناً يكون الرجل مشابهاً لرجل ليس من قبيلته فضلاً عن كونه أباً أو أخاً.
انتهى المجلد العاشر - بعون الله تعالى وتوفيقه -
ويليه المجلد الحادي عشر إن شاء الله تعالى
وأوله كتاب الوقف(10/400)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الحادي عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1426هـ(11/)
كِتَابُ الوَقْفِ
وَهُوَ تَحْبِيسُ الأَصْلِ وَتَسْبِيلُ المَنْفَعَةِ وَيَصِحُّ بِالقَوْلِ وبِالفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ،
قوله: «الوقف» مصدر وَقَفَ يقف وقفاً، ويقال: وقف، أي: توقف عن المشي، ومصدره وقوف، مثل قعد قعوداً، قال ابن مالك:
وَفَعَلَ اللازمُ مِثْلُ قَعَدَا
له فُعُولٌ باطِّرادٍ كَغَدَا
فوقف اللازم مصدره وقوف، ووَقَفَ المتعدي الذي بمعنى أوقف الشيء، مصدره وَقْفٌ، مثل مَنَعَ يمنع مَنْعَاً.
وهو لغة بمعنى الحبس، وفسره المؤلف ـ رحمه الله ـ في الاصطلاح بأنه: «تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة» .
قوله: «وهو تحبيس الأصل» أي: منعه، و «الأصل» أي: العين، كالدار ـ مثلاً ـ والشجر، والأرض، والسيارة، وما أشبه ذلك؛ لأن الوقف يكون في المنقول والعقار.
قوله: «وتسبيل المنفعة» يعني إطلاقها، وعلمنا بأن التسبيل بمعنى الإطلاق لقوله في الأصل إنه «تحبيس» ، فيكون ضده الإطلاق.
والمعنى أن المُوقِف يحبس الأصل عن كل ما ينقل الملك فيه، ويسبل المنفعة ـ يعني الغلة ـ كأجرة البيت مثلاً، والثمرة، والزرع، وما أشبه ذلك.
والأصل في هذا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أصاب أرضاً في خيبر، وكانت نفيسة عنده، فجاء(11/5)
يستشير النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا يصنع فيها؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ينفقون مما يحبون، فأرشده إلى الوقف، وقال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» (1) ، وفي لفظ: «احبس أصلها، وسبِّل ثمرها» (2) ، وهذا أول وقف في الإسلام، وهو غير معروف في الجاهلية، بل أحدثه الإسلام، ففعل عمر ـ رضي الله عنه ـ وجعل لها مصارف نذكرها ـ إن شاء الله ـ فيما بعد.
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأول قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (3) .
وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ لما أنزل الله هذه الآية، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا رسول الله، إن الله أنزل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب مالي إليَّ «بيرحاء» ، وهي اسم نخل مستقبلة مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، وكان فيها ماء عذب طيب يأتي إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويشرب منه، وهذا لا شك أغلى شيء عند أبي طلحة، فقال: يا رسول الله ضَعْهَا حيثُ شِئْتَ، فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بَخٍ بَخٍ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وأرى أن تجعلها في الأقربين» ، فجعلها في قرابته وبني عمه (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الوقف (2737) ؛ ومسلم في الوصية/ باب الوقف (1633) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه النسائي في الأحباس/ باب حبس المشاع (6/232) ؛ وابن ماجه في الصدقات/ باب من وقف (2397) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) أخرجه البزار كما في مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر (1451) .
(4) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الزكاة على الأقارب (1461) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ... (998) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(11/6)
ولم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ الحكم التكليفي للوقف، يعني هل هو جائز أو حرام، أو
واجب، أو مندوب، وإنما ذكر حكمه الوضعي فقال: «ويصح» .
لكن نقول: الوقف تبرع بالمال، وحبس له عن التصرف فيه، فإذا كان على جهة مشروعة كان مستحباً؛ لأنه من الصدقة، وإذا نذره الإنسان كان واجباً بالنذر، وإذا كان فيه حيف أو وقف على شيء محرم كان حراماً، وإذا كان فيه تضييق على الورثة كان مكروهاً، فيمكن أن تجري فيه الأحكام الخمسة، هذا من حيث الحكم التكليفي.
فإذا جاءنا إنسان يقول: أنا أريد أن أوقف هذه الأرض لأعمر عليها مسجداً، نقول له: هذا مستحب؛ لأنه من الإحسان والصدقة، والله ـ تعالى ـ يحب المحسنين.
قوله: «بالقول» بأن يقول: وقفت داري، أو وقفت سيارتي، أو وقفت أرضي، وما أشبه ذلك، وسيأتي أن القول ينقسم إلى قسمين.
أما الفعل فيشترط أن يكون هناك قرينة تدل على أنه وقف، فإذا وجدت قرينة تدل على أنه وقف فهو وقف ولو نوى خلافه، ولهذا قال:
وبِالفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، كَمَنْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَسْجِداً وأَذِنَ للنَّاسِ في الصَّلاةِ فِيهِ أَوْ مَقْبَرَةً وَأَذِنَ فِي الدَّفْنِ فِيهَا..
«وبالفعل الدال عليه، كمن جعل أرضه مسجداً وأذن للناس في الصلاة فيه» ، يعني بنى مسجداً وقال للناس: صلوا فيه، فهنا لم يقل: إنه وقف، لكنه فعل فعلاً يدل على الوقف؛ لأن الرجل بنى(11/7)
مسجداً وقال للناس: صلوا، وأما من بنى مصلى عند بستانه وصار الناس يأتون ويصلون فيه، فهذا لا يدل على أنه وقف، لكن إذا بنى مسجداً يعني على هيئة مسجد، وقال للناس: صلوا فيه، فهو وقف وإن لم يقل: وقفت؛ لأن هذا الفعل دال عليه حتى لو نوى خلافه، فإنه يكون وقفاً اعتباراً بقوة القرينة.
وإذا قال: إني أردت أنه عارية، قلنا: في هذه الحال يجب أن تكتب: إني أعرت هذا المكان للناس يصلون فيه، متى احتجته أخذته، ولا بد من هذا وإلا صار وقفاً.
قوله: «أو مقبرة وأذن في الدفن فيها» ، أي: سوَّر أرضه على أنها مقبرة، ولم يكتب على بابها أنها مقبرة، ولم يكتب في الوثيقة أنها مقبرة، وقال للناس: من شاء أن يدفن فيها ميتاً فليفعل، فهنا نقول: الأرض صارت مقبرة، أي: صارت وقفاً على المسلمين، ولا يمكنه أن يرجع.
نعم لو أراد أن يعير أرضاً للدفن فيها، فهنا لا بد أن يكتب أنه أعار هذه الأرض للدفن فيها، وإذا أعارها للدفن فيها فإنه لا يرجع حتى يبلى الميت؛ لأن من لازم الإذن في الدفن أن يبقى الميت مدفوناً محترماً، فلا ينبش إلا إذا بلي.
وهذا الفعل، أي: جعل الأرض مسجداً أو مقبرة لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينوي بذلك أنها مسجد أو مقبرة، فتكون كذلك ولا إشكال في ذلك.
الثانية: أن ينوي خلاف ذلك، بأن ينوي بجعلها مسجداً أو(11/8)
مقبرة أنها مؤقتة، فقد صرح شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنها تكون وقفاً ولو نوى خلافه؛ لأن هذه النية تخالف الواقع؛ لأن من جعل أرضه مسجداً فإنه معلوم أن المسجد سوف يبقى، فكيف تنوي أن لا يبقى؟!
الثالثة: ألا ينوي هذا ولا هذا، فتكون وقفاً لا إشكال فيه.
ولو أن رجلاً عنده أرض بين شارعين، فجعل الناس يستطرقون هذه الأرض وهو ساكت، فهل نقول: إن هذا الطريق صار وقفاً؟ لا؛ لأن هذا لا يدل على الوقف، فكثير من الناس إذا لم يكن محتاجاً للأرض فإنه يسمح للناس أن يتجاوزوا منها، ولكن إذا احتاجها حرفها وسد الطريق، فلا بد في الفعل من قرينة ظاهرة تدل على الوقف؛ لأن الأصل بقاء ملك الإنسان فيما يملك، ولا نخرجه عن هذا الأصل إلا بقرينة ظاهرة.
وَصَرِيحُهُ وَقَّفْتُ وَحَبَّسْتُ وَسَبَّلْتُ وَكِنَايَتُهُ تَصَدَّقْتُ وَحَرَّمْتُ وَأَبَّدْتُ،....
قوله: «وصريحه» هذا يعود على القول، فالقول ينقسم إلى قسمين: صريح وكناية، وهذا يأتي في مواضع، مثلاً في الطلاق، صريح وكناية.
فالضابط في الصريح: هو الذي لا يحتمل غير الوقف.
والضابط في الكناية: هو الذي يحتمل الوقف وغيره.
والصريح مجرد ما ينطق به يثبت الحكم؛ لأنه صريح لا يحتمل معنى آخر، والكناية لا بد فيها من إضافة شيء إما نية، أو قرينة.
وهل الصرائح والكنايات أمر جاء به الشرع بحيث يستوي فيه جميع الناس، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، أو أمر يرجع فيه(11/9)
إلى العرف؟ الصحيح أن جميع صيغ العقود القولية أمر يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون هذا اللفظ صريحاً عند قوم وكناية عند آخرين، وقد لا يدل على المعنى إطلاقاً عند غيرهم، فالصحيح أنه يرجع إلى عرف الناس، فما اطرد عند الناس أنه دال على هذا المعنى فهو صريح، وما لم يطرد ولكنه يراد به أحياناً فهو كناية، وما لا يدل على المعنى أصلاً فليس بشيء، فالصريح من كل شيء ما لا يحتمل غيره عرفاً؛ لأن هذا كله جاء من الناس وإليهم.
قوله: «وقَّفْتُ» ، يعني وقفت أرضي، وقفت بيتي، وقفت سيارتي، وقفت قلمي، وأي شيء يوقفه فهو وقف.
قوله: «وحَبَّستُ» ، يعني حبَّست أصله، فيحمل هنا على الأصل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر: «إن شئت حبَّست أصلها» (1) ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما خالد، فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» (2) ، فدل على أن الحبس أو التحبيس وقف صريح.
قوله: «وسبَّلت» ، أي: سبَّلت المنفعة، فإذا قال: سبَّلت داري، فالمعنى أنه سبَّل منفعته وأبقى أصله حبيساً.
فمرة يذكر ما يعود على الأصل، ومرة يذكر ما يعود على المنفعة، فـ «حبَّست» تعود على الأصل، و «سبَّلت» تعود على
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (1468) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب في تقديم الزكاة ومنعها (983) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/10)
المنفعة، فدلالة «حبست» على الوقف دلالة التزام؛ لأن من لازم قوله «حبست الأصل» أن يسبل المنفعة.
وكذلك سبلت ـ أيضاً ـ دلالتها على توقيف الأصل دلالة التزام؛ لأن قوله: «سبلت المنفعة» يعني حبست الأصل، فهذه ثلاث كلمات: «وقفت، وحبست، وسبلت» ، وما اشتق منها فهو مثلها، فلو قال: هذه أرض مُوَقَّفة، أو موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة فهي صريحة، ولو قال: سأحبِّس لم ينعقد الوقف؛ لأن هذا خبر وليس إنشاء، والعقود إنشاء وإن كانت صيغتها صيغة الخبر، وقوله: أنا مسبل، أو أنا موقف، أو أنا محبس، كل هذا صريح في الوقف، ولا يشترط اجتماع هذه الكلمات، بل إذا قال كلمة واحدة منها صار وقفاً.
قوله: «وكنايته» ، الكناية هي ما يحتمل المعنى وغيره.
قوله: «تصدقت» ، كلمة «تصدقت» تدل على الصدقة، والصدقة يملك بها المتصَدَّقُ عليه الأصلَ والمنفعةَ، وتكون ملكاً له، فإذا قال: تصدقت على فلان بسيارتي، فالسيارة تكون ملكاً له يتصرف فيها كما يشاء، ويمكن أن تكون وقفاً إذا نوى أنها وقف.
قوله: «وحرمت» ، أي: حرَّمت داري على نفسي، ولا يحرم ملك الإنسان على نفسه إلا إذا أخرجه عن ملكه.
قوله: «وأبدت» كذلك هو كناية؛ لأن «أبَّدت» ، أي: جعلته مؤبداً لا يُغَيَّر، ولذلك نقول: هو كناية وليس صريحاً.
فهذه الألفاظ عند الإطلاق لا تدل على الوقف، لكن يحتملها الوقف بالنية.(11/11)
فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ مَعَ الكِنَايَةِ، أَوِ اقْتِرَانُ أَحَدِ الأَلْفَاظِ الخَمْسَةِ، أَوْ حُكْمِ الوَقْفِ.
قوله: «فتشترط النية مع الكناية، أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة، أو حكم الوقف» ، يعني أن الكناية لا يثبت بها الوقف إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: النية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، فإذا قال: تصدقت بسيارتي على فلان، ثم قال: إنه نوى أنها وقف عليه، فكلام المؤلف يدل على أنها تصير وقفاً، وأن المتصدَّق عليه لا يبيعها، ولا ينقل ملكها؛ لأنها وقف، لكن لو ادعى المتصدَّق عليه أنها ملك، فهنا تعارض شيئان: ظاهر اللفظ، وباطن النية، فهل نقول: إن الإنسان أعلم بنيته، وأنه يُرجع إليه؛ لأنه أخرج ملكه على هذا الوجه فلا يخرج إلا على هذا الوجه، أو نقول: إن هذه دعوى خلاف الظاهر، وهي ممكنة؛ لأنه ربما يندم على الصدقة بها، ويدعي أنها وقف حتى تكون حبيسة؟
هنا ينبغي أن يتدخل فيها القضاء، وينظر هل هذا الرجل أمين ـ بحيث يكون ما ادعاه من النية صدقاً ـ أو غير أمين؟ ويحكم بالقرائن.
وإذا قال: حرَّمت سيارتي، فهذا يحتمل أن المعنى حرمها أي: حلف ألا يركبها؛ لأن التحريم يمين، كما قال الله تعالى:
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ؛ ومسلم في الإمارة/ باب قوله «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.(11/12)
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2] ، فيحتمل أن يقال: حرَّمتها، أي: حرَّمت ركوبها والانتفاع بها، وحينئذٍ يكون ذلك يميناً، فإذا كفر كفارة يمين عاد واستعملها.
فإذا قال: حرَّمت سيارتي، ثم رأيناه يريد أن يبيعها، فهنا نقول له: هل أنت نويت الوقف أو لا؟ فإذا قال: لم أنوِ الوقف، قلنا: بعها وكفِّر كفارة يمين، وإذا قال: إنه نوى الوقف صارت وقفاً.
الثاني: قوله: «أو اقتران أحد الألفاظ الخمسة» ، وهي ثلاثة ألفاظ صرائح، وكنايتان غير الكناية التي هي الصيغة؛ لأن الألفاظ ثلاث صريحة، وثلاث كناية، فاقتران أحد الألفاظ الخمسة، يعني الصرائح الثلاث والثنتين من الكناية.
مثاله: أن يقول: تصدقت صدقة موقوفة على زيد، فهنا ينعقد الوقف؛ لأنه قرن مع «تصدقت» أحد ألفاظ الوقف الخمسة وهي قوله: «موقوفة» . ولو قال: حرمت هذا تحريماً مؤبداً على زيد، فينعقد الوقف؛ لأنه قرنه بالتأبيد حيث قال: «تحريماً مؤبداً» .
ولو قال: أبدت هذا على زيد صدقة، فينعقد الوقف؛ لأنه اقترن به أحد الألفاظ الخمسة وهي «صدقة» .
الثالث: قوله: «أو حكم الوقف» ، يعني يقترن بها حكم الوقف، ومن أحكام الوقف أنه لا يباع، فإذا قال: تصدقت بهذا على زيد صدقة لا تباع، صار وقفاً، ولو قال: تصدقت على زيد صدقة، فلا يكون وقفاً؛ لأن المؤلف يقول: «أو حكم الوقف» .(11/13)
وقوله: «أو حكم الوقف» كان الأولى أن يقول: «أو بما يدل على الوقف» ؛ لأنه أعم.
فمثلاً إذا قال: صدقة لا تباع، فهذا اقترن به حكم الوقف بأنه لا يباع، أو صدقة لا ترهن كذلك، وما يدل عليه كما لو قال: تصدقت بهذا على زيد ومن بعده عمرو، فهذا ليس فيه حكم الوقف، لكن فيه ما يدل على الوقف، وهو أنه جعله مرتباً، إذ أن الصدقة المحضة إذا تصدق بها على زيد لم تنتقل إلى غيره، وإذا قال: تصدقت به على فلان والناظر فلان، فهذا وقف أيضاً؛ لأن النظر إنما يكون في الأوقاف، فالتعبير بقوله: أو ما يدل على الوقف، أولى من قوله: (من حكم الوقف) لأن حكم الوقف غير شامل.
ولم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ شروط الواقف، فيقال: يشترط في الواقف أن يكون عاقلاً، فلو قال المجنون: وقفت بيتي فإن الوقف لا يصح.
ويشترط أن يكون بالغاً، فلو قال مراهق: وقفت بيتي لطلبة العلم فلا يصح الوقف؛ لأنه غير بالغ.
وهل يشترط أن يكون جائز التبرع، بمعنى أنه ليس عليه دينٌ يستغرق مالَهُ؟ في هذا خلاف بين العلماء، وهو مبني على جواز تصرف من عليه دين، فإن قلنا بجواز تصرف من عليه دين يستغرق ماله، قلنا بجواز الوقف، وإن لم نقل ذلك قلنا: لا يصح وقفه.
والصحيح أنه لا يصح تبرعه؛ لأن من عليه دينٌ يستغرق ماله فقد شغله بالدين، وقضاء الدين واجب، والتبرع والصدقة مستحب، فلا يمكن أن نسقط واجباً بمستحب، فالصحيح أنه لا يصح منه(11/14)
الوقف والعتق ولا يجوز له أن يتصدق، أما المذهب فيجوز إلا إذا حُجر عليه من قبل القاضي، فإنه لا يصح أن يتبرع.
ويشترط أن يكون جائز التصرف من باب أولى، فلو كان بالغاً عاقلاً لكنه سفيه لا يحسن التصرف في ماله فإنه لا يصح وقفه؛ لأنه ليس جائز التصرف، فإن كان لا يصح أن يبيع ماله فتبرعه به من باب أولى ألا يجوز، وأما شروط الوقف فقال:
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ المَنْفَعَةُ دَائِماً مِنْ مُعَيَّنٍ يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَعَقَارٍ وَحَيَوَانٍ وَنَحْوِهِمَا،
«ويشترط فيه المنفعة» ، يعني يشترط للوقف شروط: أولاً: أن يكون فيه منفعة، فأما ما لا منفعة فيه فإنه لا يصح وقفه كما لا يصح بيعه، وأي شيء يستفيد الموقوف عليه من شيء لا منفعة فيه؟! كما لو أوقف حماراً هرماً، فهذا لا منفعة فيه؛ لأنه لا يركب ولا يحمل عليه، وإنما يؤذي بنفقته، فهذا لا يصح فيه الوقف؛ لأنه ليس فيه منفعة.
قوله: «دائماً» ، كذلك ـ أيضاً ـ لا بد أن تكون المنفعة دائمة، فإن كان من معيَّن فيه منفعة مؤقتة فإنه لا يصح وقفه.
مثال ذلك: رجل استأجر بيتاً لمدة عشر سنوات، ثم أوقف هذا البيت على شخص، فالوقف هنا لا يصح؛ لأن المنفعة غير دائمة، المنفعة مدة الإجارة فقط، ولأنه في الإجارة لا يملك المستأجر إلا المنفعة ولا يملك العين.
وهل يصح وقف عَبْدٍ حُكِمَ عليه بالسجن، ثم القتل بعد شهر مثلاً، أو لا يصح؟
الجواب: يصح؛ لأن منفعته الولاء؛ لأنه إذا أوقفه ثم أعتقه الموقوف عليه، وقلنا بصحته فله الولاء.(11/15)
قوله: «من معيَّن» ، ضده المبهم، فلا يصح وقفه، مثل أن يقول: وقفت أحدَ بيتي، فهذا لا يصح؛ لأنه مبهم غير معين.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن تكون القيم متساوية أو غير متساوية؛ لأنه لم يعينه، والصحيح أنه إذا كانت متساوية فإنه يثبت الوقف.
مثال ذلك: إنسان عنده شقق متساوية من كل وجه، فقال: وقفت إحدى شققي على فلان، فهنا لا مانع؛ أولاً: لأنه عقد تبرع، والتبرع يتسامح فيه ما لا يتسامح في غيره.
ثانياً: أن القيم متساوية، فلا فرق بين اليمين أو الشمال، وكما أنه أحد القولين في مسألة البيع ـ وهو معاوضة مبنية على المشاحة ـ أنه إذا تساوت القيم جاز بيع المبهم، بأن يقول: بعت عليك إحدى هاتين السيارتين.
وقوله: «من معين» ظاهر كلامه أنه لا يصح وقف ما ليس بمعين، يعني ما لم تثبت عينه.
مثال ذلك: إنسان اشترى من شخص سيارة موصوفة، صفتها كذا وكذا، ثم أراد أن يوقفها، فهذه لا يصح وقفها؛ لأنها دين في الذمة غير معينة.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط أن يكون معلوماً، فلو وقف أحد عقاراته بدون أن يعلمه فإنه يصح وقفه؛ لأن هذا معين، والمذهب أنه لا يصح؛ لأنه مجهول، وإذا كان مجهولاً فإنه قد يكون أكثر مما قد يتصوره الواقف، والراجح صحة هذا؛ لأنه لم يجبر على الوقف؛ وليس الوقف مغالبة حتى يقول:(11/16)
خدعت أو غلبت؛ بل الوقف تبرع أخرجه الإنسان لله تعالى، كما لو تصدّق بدراهم بلا عدٍّ فتصح وتنفذ ولا يصح الرجوع فيها؛ لأنه تصدَّق وتبرَّع؛ فلهذا كان الراجح أنه يصح وقف المعيّن وإن كان مجهولاً؛ لأنه تبرّع محض إذا أمضاه الإنسان نفذ.
قوله: «ينتفع به» ، أي: بهذا المعين.
قوله: «مع بقاء عينه» ، هذا هو الشرط المهم هنا، فإن كان لا يمكن أن ينتفع به إلا بتلف عينه فإنه لا يصح وقفه؛ لأن الوقف حبس الأصل وتسبيل المنفعة، فلو وقف جراب تمر على الفقراء فإنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بتلف عينه؛ لأن الفقراء سوف يأكلونه وإذا أكلوه لم تبق عينه، فلا بد أن يكون من معيَّن يُنتفع به مع بقاء عينه.
ولو وقف خبزاً على الفقراء فلا يصح؛ لأنه لا يمكن أن يُنتفع به مع بقاء عينه.
واستثنوا من هذا الماء، فقالوا: إن وقفه يصح؛ لأنه ورد عن السلف (1) ، فيجوز أن يوقف هذه القربة على العِطَاش من المسلمين، فيقال: إن وروده عن السلف يدل على جواز مثله إذ لا وجه لاستثنائه.
__________
(1) من ذلك ما رواه الترمذي في المناقب/ باب في مناقب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ (3699) «أنه اشترى بئر رومة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعلها للغني والفقير وابن السبيل» ، قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وفي رواية النسائي في الجهاد/ باب فضل من جهز غازياً (6/146) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اجعلها سقاية للمسلمين، وأجرها لك» ، وأصل الحديث في البخاري في الوصايا/ باب إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل ولاء المسلمين (2778) .(11/17)
فالصواب أنه يجوز وقف الشيء الذي لا ينتفع به إلا بتلفه، فإذا قال: هذا الجراب من التمر وقف على الفقراء، قلنا: جزاك الله خيراً، وقبل منك، وهو بمنزلة الصدقة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الصواب، أنه يجوز وقف الشيء الذي ينتفع به مع تلف عينه.
فإن وقف دراهم للقرض، وقال: هذه وقف لإقراض المحتاجين، فهل يصح أو لا يصح؟ على المذهب لا يصح؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع بالدراهم إلا بتلفها، يأخذها المستقرض ويشتري بها حاجاته فتتلف.
والصحيح أن هذا جائز؛ لأنه إذا جاز وقف المعين الذي يتلف بالانتفاع به، فوقف مثل هذا من باب أولى؛ لأنه إذا استقرضه سيرد بدله ويكون دائماً.
إذاً الصواب جواز وقف الدراهم لإقراضها المحتاجين، ولا حرج في هذا، ولا دليل على المنع، والمقصود إسداء الخير إلى الغير.
قوله: «كعقار» ، مثل الدور والدكاكين والأراضي التي تزرع أو تستأجر أحواشاً أو مستودعات، فهذه يجوز أن يوقفها.
قوله: «وحيوان» ، الحيوان ينتفع به؛ لأنه إن كان مركوباً فبركوبه، وإن كان محلوباً فبحلبه، والحيوان يمكن أن ينتفع به مع بقاء عينه، فإن قال: وقفت هذه الشاة لِتُطْعَم للفقراء، فهل يصح أو لا يصح؟ على المذهب لا يصح؛ لأنه قيَّده بما يمكن الانتفاع به مع بقائه، فهو كما لو وقف التمر والأرز والبر وما أشبهه.(11/18)
قوله: «ونحوهما» في الوقت الحاضر مثل السيارات، فيصح وقفها، وكذا الأقلام؛ لأنها تستعمل مع بقاء عينها، لكن الأقلام التي تستهلك مثل الرصاص، قد نقول: إن الرصاص الذي فيها بمنزلة المداد فيصح وقفها، وقد نقول: إن المقصود من هذا القلم هو الرصاصة التي فيه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بتلفها، فلا يصح على المذهب.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ الأقلام السابقة، فقد كانت الأقلام فيما سبق من أغصان الشجر اليابسة، تؤخذ وتُبْرَى بمبراة ويكتب بها ـ وقد أدركنا هذا ـ فهذه لا بد أن تتآكل، مثل أعواد الأراك فإنها تتآكل، فالظاهر أنه على قاعدة المذهب لا يصح، ولكن قد يقال بالصحة؛ لأن استهلاكها يسير والانتفاع بها يطول، وليست كالأكل، مثل التمر والبر وما أشبه ذلك.
فهذا الشرط الأول يشتمل على أكثر من شرط، فلا بد أن يكون فيه منفعة، وأن تكون دائمة، وأن يكون معيَّناً، وأن ينتفع به مع بقاء عينه، فهو شرط واحد يشتمل على أربعة شروط.
وَأَنْ يَكُونَ عَلَى بِرٍّ كَالمَسَاجِدِ وَالقَنَاطِرِ والمَسَاكِينِ والأَقَارِبِ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ...
قوله: «وأن يكون على بِرٍّ» ، هذا هو الشرط الثاني أن يكون على بِرٍّ، قال الإمام أحمد: لا أعرف الوقف إلا ما أريد به وجه الله، ولأن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد بوقفه التقرب إلى الله (1) .
وهذا الشرط فيه تفصيل، فإن كان على جهة عامة فإنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .(11/19)
يشترط أن يكون على بر، وإن كان على معين فإنه لا يشترط أن يكون على بِرٍّ، لكن يشترط ألا يكون على إثم، والفرق بين هذا وهذا يظهر بالمثال، فمثال الجهة العامة:
قوله: «كالمساجد» ، فلو عَمَرَ الإنسان مسجداً وأوقفه، فهذا على بِرٍّ، إلا إذا عمر مسجداً على قبر فهنا يحرم ولا يصح؛ لأن هذا ليس ببر، بل هو إثم.
أو بنى مسجداً من أجل أن تقام فيه البدع، فهذا ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأنه ليس على بر، فمراده بالمساجد، أي: التي على بر وتقوى.
فإن كان الوقف على مسجد معيَّن تعين فيه، ولا يجوز صرفه إلى غيره، وإن كان على المساجد عموماً وجب على الناظر أن يبدأ بالأحق فالأحق، سواء كانت هذه الأحقية عائدة إلى ذات المسجد أو إلى المصلين فيه.
قوله: «والقناطر» جمع قنطرة وهي الجسر على الماء للعبور عليها، فلو بنى قنطرة على نهر فهنا يصح أن يوقفها؛ لأنها على بر، ويصح أن يؤجرها لأنها ملكه.
فإذا قال قائل: القناطر يمشي عليها المسلم والكافر، فما الجواب؟
نقول: العبرة بالقصد، وهذا قصد البر، والكافر الذي يعبر عليها، إما أن يكون ممن تحل له الصدقة، وإما أن يكون ممن لا تحل له الصدقة، لكن يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
قوله: «والمساكين» ، المساكين جهة بر؛ لأنهم في حاجة، فإذا وقف هذا البيت على المساكين، فهذه جهة بر، ويقدم(11/20)
الأحوج فالأحوج؛ لأن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بحسب قوة الوصف فيه.
قوله: «والأقارب» أيضاً الأقارب نفعهم بر؛ لأنه من الصلة، فإذا قال: هذا وقف على أقاربي ـ ولو كانوا غير مسلمين ـ صح الوقف؛ لأن صلة القرابة من البر، والأقارب من الجد الرابع فنازل، فالإخوان والأعمام وأعمام الأب وأعمام الجد وأعمام جد أبيك فهؤلاء أقارب، ومن فوق الجد الرابع فليسوا بأقارب، وإن كان فيهم قرابة لكن لا يُعَدُّون من الأقارب الأدْنَيْن، ولهذا لما أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} [الشعراء] ، لم يدع النبي صلّى الله عليه وسلّم كل قريب، بل دعى من شاركوه في الأب الرابع فما دون (1) .
والوصف هنا القرابة، فيقدم الأقرب، إلا إذا علمنا أن مراد الواقف دفع الحاجة دون الصلة، فيقدم الأحوج ولو بَعُد.
قوله: «من مسلم وذمي» ، يعني سواء كان القريب مسلماً أو كان ذمياً، أو معاهداً؛ لأن المعاهد والمُسْتأمِن والذمي كلهم معصومون، والصدقة عليهم جائزة، ولأن وصف القرابة ينطبق عليهم جميعاً وإن كانوا مخالفين في الدين، فإذا قال: هذا وقف على فلان، وهو ذمي، فلا بأس ولو كان كافراً؛ لأن الله يقول: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] .
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب (2753) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} (204) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/21)
وقوله: «من مسلم وذمي» ، كأن المؤلف أسقط المعاهد والمستأمن؛ لأن العهد لا يدوم، وكذلك الأمان لا يدوم، بخلاف عقد الذمة فالأصل فيه الدوام.
غَيْرَ حَرْبِيٍّ وَكَنِيسَةٍ وَنَسْخِ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ وَكُتُبِ زَنْدَقَةٍ........
قوله: «غير حربي» ، الاستثناء هنا منقطع؛ لأن الحربي ليس من الذمي في شيء، فالحربي هو الكافر الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد ولا أمان، يعني لا يصح الوقف على حربي، ولا على مرتد؛ لأن هؤلاء ليس لهم حرمة، ولا يُرَادون للبقاء، فإذا كان من شرط الوقف أن يكون الموقوف ذا بقاء، فالموقوف عليه من باب أولى، فهؤلاء ـ أي: الحربي والمرتد ـ الواجب قتلهم، إلا أن يسلموا، فإذا قال: هذا وقف على أخي، وأخوه حربي، فالوقف غير صحيح.
وإذا قال: هذا وقف على أخي، وأخوه لا يصلي فإنه لا يصح الوقف؛ لأنه إذا كان على معين فيشترط ألا يكون فيه إثم.
قوله: «وكنيسة» وهي متعبَّد النصارى، يعني بمنزلة المساجد للمسلمين، والبيعة لليهود، والصومعة للرهبان، فإذا وقف على الكنيسة فإن الوقف لا يصح، فَدُورُ الكُفْرِ لا يصح الوقف عليها لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وظاهر كلام المؤلف سواء كان المُوقِف مسلماً أو نصرانياً؛ لأنه إن كان مسلماً فالأمر ظاهر، وإن كان نصرانياً، فالحكم بصحة الوقف إعانة لهم على الإثم، ولا يحل، فإذا وقف النصراني على الكنيسة أبطلنا الوقف؛ لأن هذه جهة، والجهة لا بد أن تكون على بر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا كان الذي أوقف على(11/22)
الكنيسة نصرانياً فإن الوقف يصح؛ لأنهم يدينون لله تعالى ـ وإن كان دينهم باطلاً ـ ببناء الكنائس والإنفاق عليها، ونحن نقرهم على دينهم، والمال ليس مالنا حتى نقول: لا يمكن أن يصرف مال المسلم في معابد الشرك، فالمال ماله هو، وهذا ليس ببعيد إذا لم يتحاكموا إلينا، فإن تحاكموا إلينا وجب الحكم بينهم بما أنزل الله.
قوله: «ونَسْخِ التوراة والإنجيل» ، يعني لا يجوز الوقف على نسخ التوراة، فلو أوقف مالاً لنسخ القرآن الكريم، ومالاً لنسخ التوراة، ومالاً لنسخ الإنجيل، فالأول يصح؛ لأنه قربة، والثاني والثالث لا يصح؛ لأن هذه الكتب كتب محرفة من حيث ذاتها، منسوخة من حيث أحكامها، فلا يعتمد عليها إطلاقاً، وما فيها من حق فقد تضمنته الشريعة الإسلامية.
فلا يجوز لأحد أن ينسخ التوراة أو الإنجيل أو يقرأها أو يوزعها؛ لأن فيما أنزل الله علينا كفاية؛ ولأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما يزيِّن له شيئاً من التوراة والإنجيل يصده عن القرآن.
وهل يجوز للنصراني ـ مثلاً ـ أن يوقف شيئاً لنسخ الإنجيل؟ فيه تفصيل إن كان على نسخ ونشر فإننا نمنعه، وإن كان على نسخه لينتفع به النصارى فقط، فقد يقال: لا بأس به، على أن في نفسي منه شيئاً؛ لأنه يمكن أن يوزع على الناس، فخطره أعظم من تعمير الكنيسة، وقد يقال بالمنع.
قوله: «وكتب زندقة» ككتب الشيوعية، أو كتب البدع المكفرة أو المفسقة، فلا يجوز الوقف عليها، فلو أوقف إنسان(11/23)
شيئاً على مؤلفات الزنادقة، فإنه لا يصح الوقف؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان.
فإذا وقف الشيوعي على نشر كتب الشيوعية، فهل نقول: هذا كإيقاف النصراني على نسخ الإنجيل؟ لا؛ لأن النصراني له شبهة، فالإنجيل مُنزل من عند الله، لكنه محرف ومنسوخ، بخلاف الشيوعي فكتب الشيوعية كتب ضلال وإلحاد، وليست من عند الله، فيمنع من إثبات الأوقاف فيها والعمل بها مطلقاً، وكذلك كتب البدع يمنع، فلا يوقف أي شيء في بلاد الإسلام على نسخ كتب البدع.
الخلاصة: أنه إذا كان الوقف على جهة فلا بد أن يكون على بر، وإذا كان على معين فلا يشترط أن يكون على بر؛ لأنه قد يقصد منفعة هذا المعين بعينه، لا التقرب إلى الله عزّ وجل، لكن يشترط ألا يكون فيه إثم، فإذا كان على إثم فلا يصح، ولنضرب لهذا أمثلة:
وقف على المساكين يصح؛ لأنه بر.
وقف على الأغنياء، لا يصح؛ لأن هذه جهة، والجهة لا بد أن يكون الوقف فيها على بر، والأغنياء ليسوا أهلاً للصدقة.
وقف على ضارب الدفوف، فيه تفصيل: إذا كان على ضاربات الدفوف في العرس، فهذا يجوز؛ لأنه قربة، ويسن إعلان النكاح والدف فيه للنساء.
وإذا كان على لاعبي الكرة، فهذا لا يصح؛ لأن هذه جهة، ولا بد أن تكون على بر، وهذا ليس ببر.(11/24)
ولو وقف على فلان اليهودي فهذا يصح؛ لأنه على معين.
ولو وقف على نصراني معين، فهذا يصح؛ لأن هذا مما لم ننه عن بره، والوقف بر وليس فيه نهي، فالواقف لم يرتكب ما نهى الله عنه، ولم يصدق عليه أنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الله قد أذن في ذلك.
ولو وقف على داعية للنصرانية؛ فهذا لا يصح؛ لأن هذا معناه تشجيع هذا الرجل على باطله، ومن باب أولى أن يوقف على الكنائس والصوامع والبيع، وما أشبه ذلك.
وَكَذَا الوَصِيَّةُ وَالوَقْفُ عَلَى نَفْسِهِ،.....
قوله: «وكذا الوصية» ، يعني أن الوصية لا تصح على جهة عامة إلا أن تكون على بر، أما إذا كانت على جهة معينة كشخص معين، فلا بأس ألا تكون على بر، لكن لا يجوز أن تكون على إثم.
والفرق بين الوصية والوقف:
أولاً: أن الوقف عقد ناجز، فإذا قال الرجل: وقفت بيتي، أو وقفت سيارتي، أو وقفت كتبي، فيكون وقفاً في الحال.
والوصية تكون بعد الموت، فيقول مثلاً: أوصيت بداري للفقراء.
ثانياً: أن الوقف ينفذ من جميع المال، فلو وقف جميع ماله نفذ، إلا أن يكون في مرض موته المخوف.
والوصية لا تكون إلا من الثلث فأقل، ولغير وارث، وما زاد على ذلك، أو كان لوارث، فلا بد من موافقة الورثة على هذه الوصية.
فلو قال: أوصيت ببيتي لفلان، ثم توفي، وحصرنا تركته(11/25)
بعد موته فوجدنا أن هذا البيت أكثر من الثلث، فالذي ينفذ من البيت ما يقابل الثلث فقط، فإذا كان هذا البيت النصف فإنه ينفذ منه ثلثاه؛ لأن ثلثي النصف بالنسبة للكل ثلث.
لكن لو أجاز الورثة وقالوا: ليس عندنا مانع، فإن ذلك لا بأس به، وهذه هي قاعدة المذهب، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام عليها، وتحريرها.
قوله: «والوقف على نفسه» يعني لا يصح، بأن يقول: وقفت على نفسي بيتي الفلاني، قال الإمام أحمد: لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله.
والمُوقف على نفسه لم يصنع شيئاً؛ لأنه أخرج ملكه إلى ملكه، فما الفائدة؟
فإن قالوا: الفائدة ألا يبيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه، قلنا: ومن الذي يجبره على بيعه؟! يبقيه حراً غير وقف ولا يبيعه.
فإن قال: أخشى أن تغلبني نفسي على بيعه، فأوقفه على نفسي، فهنا تكون الفائدة، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه أن يبيع بيته فأوقفه على نفسه خوفاً من ذلك، فهذه فائدة، ولا شك أن لها وزناً وقيمة؛ ولذلك اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل يصح أن يقف الإنسان على نفسه أو لا؟
فالمذهب: أنه لا يصح، وعليه فيرجع الوقف إليه ملكاً؛ لعدم صحته، فيجعل عقد الوقف وعدمه سواء.
ولكن إذا وقفه على نفسه ثم ذكر أحداً بعد نفسه انتقل إليهم في الحال، مثل أن يقول: هذا وقف على نفسي، ومِنْ بَعْدِي على(11/26)
أولاد فلان، فنقول: ينتقل في الحال إلى أولاد فلان، ولا يصح أن يقف على نفسه، ومثل ذلك لو وَقَّف على نفسه ثم طلبة العلم، انتقل مباشرة إلى طلبة العلم.
أما إذا لم يذكر أحداً بعده، بأن قال: وقفت هذا على نفسي، وسكت، فالوقف لا يصح ويبقى ملكاً حراً غير وقف؛ لأن هذا الوقف لم يصح، ولم يُذكر له مآل يُصرف إليه، فيرجع إلى الواقف.
والحقيقة أن قولهم: إنه يصرف إلى من بعده وقفاً، يؤيد القول بأن الوقف على النفس صحيح؛ لأننا إذا قلنا: إنه لا يصح وجب ألا يصح، ولا يصرف إلى من بعده، إذ كيف يصرف إلى من بعده وهو لم يكن وقفاً صحيحاً؟!
والقول الثاني: أنه يصح الوقف على النفس، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وجماعة من العلماء المحققين؛ لأن الوقف على النفس فيه فائدة، وهي الامتناع من التصرف فيه، فلا يبيعه ولا يهبه ولا يرهنه، وأنه إذا مات صرف مصرف الوقف المنقطع، ولم يكن ميراثاً للورثة.
ولكن لو فعل هذا تحيلاً لإسقاط حق الغرماء، مثل أن يكون رجلاً مديناً، فأوقف بيته على نفسه لئلا يُباع في دَينه، فالوقف هنا غير صحيح، حتى لو فرض أنه وقفه على غير نفسه حيلة ألا يباع في الدَّين، فإنه لا يصح الوقف، وهذا هو القول الراجح أن الإنسان الذي عليه دَين يستغرق ماله، فإنه إذا أوقف شيئاً من ماله لا يصح؛ لأن ماله الآن تعلق به حق الغرماء؛ ولأن(11/27)
وفاء الدين واجب والوقف سنة، ولا يمكن أن تقوى سنة على إسقاط واجب.
ولكن لو وقف وقفاً معلقاً بصفة، واتصف الواقف بهذه الصفة، مثل أن يقول: هذا وقف على طلبة العلم أو الفقراء، ثم أصبح الواقف طالبَ علم أو فقيراً فإنه يصح؛ لأنه لم يوقفه على نفسه ابتداءً.
وَيُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ المَسْجِدِ وَنَحْوِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُ لا مَلَكٍ وَحَيَوَانٍ وَحَمْلٍ وَقَبْرٍ لا قَبُولُهُ وَلاَ إِخْرَاجُهُ عَنْ يَدِهِ.
قوله: «ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معيَّن يَملِك» ، هذا هو الشرط الثالث، فيشترط أن يكون على معيَّن يَملِك.
وقوله: «في غير المسجد» مثل المكتبة، أو الكتب، وما أشبه ذلك.
وقوله: «ونحوه» يريد به الجهات العامة، كالفقراء وطلبة العلم والمجاهدين وما أشبه ذلك، فإذا كان على جهة فإنه لا يشترط في الموقوف عليه أن يكون معيناً يملك فيشترط في غير الجهة أن يكون على معين يملك، فإذا أوقف هذا البيت على مسجد يصرف ريعه في مصالح المسجد، فهذا معين لكنه لا يملك، وإذا أوقف على الفقراء، فهو غير معين ولكنه يملك، ونحن نشترط أن يكون على معين ويملك.
فصار الوقف على جهة لا تملك لا بأس به، والوقف على جهة عامة ولو كانت تملك لا بأس به.
وقوله: «أن يكون على معين» ضده المبهم، فإذا قال: هذا وقف على زيد أو عمرو، أو على أحد هذين الرجلين، فالوقف(11/28)
غير صحيح؛ لأنه غير معين، ولا ندري من هو الذي له الوقف من هذين.
وقال بعض العلماء: يصح ويخرج أحدهما بقرعة؛ لأن هذا أقرب إلى مقصود الواقف، إذ إن الواقف يريد أن يبر أحد هذين ولكن لا يدري أيهما أصلح، وهذا القول أقرب للصواب اتباعاً لمقصود الواقف، فالواقف أخرج هذا عن ملكه ولا يريده، لكن أشكل عليه هذا أو هذا، فقال: هو وقف على أحد هذين الرجلين إما فلان وإما فلان، فهنا يخرج بقرعة.
لكن لو قال: إما فلان، وإما فلان، والنظر لفلان الثالث، فهنا نقول لفلان الناظر: أعطه من ترى أنه أصلح، فإذا كان أحدهما أشد حاجة، أو أشد طلباً للعلم، أو ما أشبه ذلك فلا حرج أن يُعْطى إياه؛ لأننا نعلم أن مقصود الواقف هو البر والإحسان.
ولا بد أن يكون المعين يملك، فإن كان على معين لا يملك لم يصح، مثاله:
قوله: «لا مَلَكٍ» ، فلو وقف على مَلَك معيَّن، كجبريل مثلاً، قال: هذا وقف على جبريل ـ عليه السلام ـ؛ لأنه أمين الله على وحيه، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يملك، وإذا كان لا يملك فلا يصح.
قوله: «وحيوان» ، مثل أن يقول: هذا وقف على فرس فلان، فهذا لا يجوز؛ لأن الفرس لا يملك، أما لو قال: على خيول الجهاد، فهذه جهة وليست بمعين، فيصح؛ لأنها عامة،(11/29)
وكلامنا على المعين فلا بد أن يكون ممن يملك، لكن لو تأملت مقصود الواقف حينما قال: هذا وقف على الفرس الفلاني، وهو يريد أن ينفع هذا الفرس؛ لأنه يقاتل عليه في سبيل الله، فهنا يصح على ما نراه.
فالقول الثاني في الحيوان: أنه إذا كان هذا الحيوان مما ينتفع به في الدِّين، أو له عمل بر، فلا بأس أن يوقف عليه، ويصرف في مصالحه في رعيه، أو في بناء حجرة له في الشتاء أو في الصيف أو ما أشبه ذلك، فإن استغنى عنه صرف فيما يشابهه.
قوله: «وحمل» ، كذلك لا يصح الوقف على الحمل في البطن، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن هذه المرأة، فهنا لا يصح؛ لأن الحمل لا يملك، وإذا كان لا يملك الإرث مع قوة نفوذه فهنا من باب أولى، وإذا كان لا يملك فإنه لا يصح الوقف عليه، لكن يصح عليه تبعاً، كما لو قال: على فلان ومن يولد له فلا بأس، وأما استقلالاً فلا؛ وذلك لأن الحمل لا يملك.
ولو ذهب ذاهب إلى صحة الوقف على الحمل أصالة لم يكن بعيداً، ونقول: إن خرج هذا الحمل حيًّا حياة مستقرة استحق الوقف، وإلا بطل الوقف ما لم يذكر له مآلاً.
مثال ذلك: رجل قال: هذا وقف على ما في بطن زوجة ابني، فما المانع من الصحة؟! فيقال: إذا وضعت طفلاً حيًّا حياة مستقرة صار الوقف له، وإلا بأن وضعت ميتاً بطل الوقف، إلا أن يذكر له مآلاً، مثل أن يقول: هذا وقف على ما في بطن زوجة(11/30)
ابني ثم المساكين، فإنه ينتقل إلى المساكين إذا خرج الحمل ميتاً، فلو قال أحد بهذا لكان قولاً وجيهاً.
قوله: «وقبر» ، فلو وقف على القبر فالوقف غير صحيح؛ لأن القبر لا يملك، ولأنه وسيلة إلى المحرم؛ لأنه لا ينتفع القبر بهذا، فإذا قال: أنا لا أريد أن أُزَوِّقَ القبر، أو أعلق عليه السرج أو ما أشبه ذلك، لكن أريد إذا انخسف أن يجدد؛ لأنه في بعض الأحيان تكثر الأمطار، وتنزل إلى اللبن الموضوع على اللحد ثم ينخسف القبر، فيحتاج إلى ترميم، فإننا نقول: لا يجوز حتى في هذه الحال؛ لأن هذه حال نادرة، فلا تصح.
فإذا قال قائل: إذا كان القبر قبرَ وَلِيٍّ له سدنة وله خدم وله زوار، فإننا نقول: هذا لا يصح من باب أولى؛ لأنه وسيلة إلى الشرك، وقد يكون شركاً أكبر لمن يزورونه.
قوله: «لا قبوله» ، يعني لا يشترط في الوقف على معين أن يقبله ذلك المعين، ولا في الوقف على جهة أن يقبله الولي على تلك الجهة، أو جميع أفراد هذه الجهة، فلا يمكن أن نحيط بجميع الفقراء ونسألهم هل يقبلون أو لا؟
فإذا قال: هذا البيت وقف على فلان، وقال فلان: أنا لا أريده، نقول: الوقف الآن نفذ ويصرف إلى من بعده إن ذكر له مآلاً، وإلا صرف مصرف الوقف المنقطع، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان لمن يكون الوقف إذا انقطع من يستحقونه.
وقوله: «لا قبوله» ، نص على نفي كون القبول شرطاً؛ لأن من العلماء من قال: إن الوقف على معين يشترط قبول المعين له،(11/31)
وهذا القول جيد؛ لأننا كيف نلزم الشخص أن يُدخل ملكه هذا الشيء بدون رضاه؟!
فإذا قال: أنا لا أقبل، كما لا أقبل أن تهدي لي هدية، أو تهب لي هبة، لا أقبل أن توقف علي شيئاً، فالقول بأنه لا بد من قبول المعين إذا وُقِفَ عليه الوقف قول قوي، أقوى من القول بعدم اشتراطه.
قوله: «ولا إخراجه عن يده» ، يعني ولا يشترط إخراج الوقف عن يد الواقف، فلو وقف البيت وبقيت يده عليه، فالوقف يخرج عن ملكه وإن لم يخرج عن يده، ولهذا لو أن إنساناً وضع دراهم في جيبه على أنها صدقة، ثم بدا له ألا يتصدق، فهذا يجوز ولا بأس به، فهي ما دامت في يدك إن شئت أمضيتها وإن شئت رددتها، لكن الوقف إذا وقف نفذ ولو كان تحت سيطرته وتحت يده.
فالشروط التي ذكرها المؤلف ـ رحمه الله ـ هي:
الأول: دوام المنفعة، فلا يصح توقيف العين التي تتلف بالانتفاع بها.
الثاني: أن يكون الموقوف معيَّناً، فلا يصح: وقفت أحد هذين البيتين.
الثالث: أن يكون على بر، إذا كان على جهة عامة.
الرابع: أن يكون على معين يملك.
الخامس: قبوله على قول من يرى أنه يشترط قبوله، أما على القول الثاني فليس بشرط.(11/32)
فَصْلٌ
ويَجِبُ العَمَلُ بِشَرْطِ الوَاقِفِ فِي جَمْعٍ وَتَقْدِيمٍ وَضِدِّ ذَلِكَ واعْتِبَارِ وَصْفٍ وَعَدَمِهِ وَتَرْتِيبٍ وَنَظَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،..............
قوله: «ويجب العمل بشرط الواقف» ، أي: على من كان ناظراً على الوقف، وسيأتي بيان من هو الناظر.
وقوله: «بشرط الواقف» ، أي: بما شرط من وصف أو قيد أو إطلاق أو جهة أو غير ذلك، فلا يُرجع في ذلك إلى رأي الناظر، بل إلى ما شرط الواقف، فيُعمل به بشرط ألاّ يخالف الشرع، والدليل: أن الله ـ عزّ وجل ـ قال في الوصية: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *} [البقرة] ، فبيَّن الله ـ تعالى ـ أن من بدل الشرط الذي اشترطه في نقل ملكه بعدما سمعه فعليه الإثم، وهدد من التبديل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، ومن السنة أن عمر ـ رضي الله عنه ـ اشترط في إيقافه في خيبر شروطاً (1) ، ولولا أنه يجب تنفيذها لكان اشتراطه لها لا فائدة منه.
والتعليل لأن الواقف أخرج ملكه عن هذا الموقوف على وصف معين، فلا يجوز أن يتجاوز به إلى غيره.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز ولو كان ذلك فيما هو أفضل، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فمنهم من يقول: إن الواقف إذا شرط شروطاً في الوقف، ورأى الناظر أن غير هذه الشروط أنفع للعباد، وأكثر أجراً للمُوقف، فإنه لا بأس أن يصرفه إلى غيره.
أما الأولون فقالوا: إن هذا الرجل أخرج ملكه عن هذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .(11/33)
الوقف على وجه معين، فلا يجوز أن يتصرف في ملكه إلا حسب ما أخرجه عليه.
وأما الآخرون الذين قالوا بالجواز فيقولون: إن أصل الوقف للبر والإحسان، فما كان أبر وأحسن فهو أنفع للواقف وللناس، واستدل هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاه رجل عام الفتح وقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال له: «صل هاهنا» ، فأعاد عليه فقال: «صل هاهنا» ، فأعاد عليه فقال: «شأنك إذاً» (1) .
والوقف شبيه بالنذر، فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز للناذر أن ينتقل إلى الأفضل فالواقف كذلك، وهذا القول هو الصحيح أنه يجوز أن يغير شرط الواقف إلى ما هو أفضل، ما لم يكن الوقف على معين، فإن كان الوقف على معين فليس لنا أن نتعدى، فلو قال: وقف على فلان، فلا يمكن أن نصرفه إلى جهة أفضل؛ لأنه عيَّن، فتعلق حق الخاص به، فلا يمكن أن يغير أو يحوَّل.
قوله: «في جمع» ، بأن يقول: هذا وقف على أولادي وأولادهم، فيكون الوقف على الأولاد وأولادهم مجموعين، فإذا كان له ثلاثة أولاد، وثلاثة أولاد ابن، فيقسم الوقف على ستة؛ لأنه جمعهم، والواو تقتضي الجمع، فيقسم بينهم بالسوية جميعاً بدون ترتيب.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/263) ؛ وأبو داود في الأيمان والنذور/ باب من نذر أن يصلي في بيت المقدس (3305) ؛ والحاكم (4/304) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ. وصححه الحاكم وابن دقيق العيد، انظر: التلخيص (2067) .(11/34)
قوله: «وتقديم» ، يعني إذا شرط تقديم من يتصف بوصف معين، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي، ويقدم طالب العلم.
ومعنى كونه يقدم: أنه يعطى كفايته من الوقف، والباقي للآخرين، ففي التقديم لا يُحرَم المؤخر؛ لأن هذا ليس ترتيباً بل هو تقديم وتأخير، فيستحقه الجميع، لكن يقدم من قدمه الواقف.
وإذا قال: هذا وقف على أولادي، يقدم الأعزب منهم، فهل نَفِي بالشرط أو لا؟
ينظر، قد نقول: لا يوفى بالشرط؛ لأن العزوبة ليست أمراً مرغوباً فيه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (1) ، لكن لو لاحظ أمراً آخر، بأن قال: يقدم من ماتت زوجته، فهذا لا بأس به؛ لأنه أراد بذلك جبر هذا الأعزب الذي ماتت زوجته، ولعله أن يتزوج، فإذا كان هذا الواقف يريد أن يجعل العزوبة وصفاً للاستحقاق بدون سبب شرعي، فإن هذا الشرط ملغى؛ لأنه خلاف ما يومئ إليه الشرع، وما يريده الشرع، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
قوله: «وضد ذلك» ، ضد الجمع التفريق، وضد التقديم التأخير.
التفريق مثل أن يكون له ستة أولاد، فيقول: هذا وقف على
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066) ؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.(11/35)
أولادي فلان وفلان وفلان، ويترك الآخرين، فهذا تفريق، فيستحقه هؤلاء الثلاثة، والآخرون لا يستحقون شيئاً؛ لأنه فرق بينهم، فهذه هي الصورة، أما هل يجوز أن يفرق فيعطي أحداً ويحرم أحداً؟ هذا لا يجوز لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (1) .
وضد التقديم التأخير، فيقول: هذا وقف على أولادي يؤخر من يتكاسل عن الصلاة، فهنا نعطي من لا يتكاسل ونؤخر من يتكاسل، حتى لو فرض أن من يتكاسل أحق بالمال من الآخرين فإننا لا نعطيه؛ لأن الواقف شرط أن يُؤَخر من اتصف بهذه الصفة.
قوله: «واعتبار وصف» ، يعني ويجب العمل بشرط الواقف في اعتبار وصف، مثل أن يقول: وقفت على أولادي طلبة العلم منهم، فهذا اعتبار وصف، والوصف هو طلب العلم، فيعطى طلبة العلم ويحرم الآخرون، أو الفقر فيقول: وقفت على أولادي الفقراء منهم، فهنا يستحق الفقراء ولا يستحق الأغنياء؛ لأنه قيده بوصف، ومثل أن يقول: وقفت على أولادي المتزوجين منهم، فإنه يصح؛ لأن التزوج صفة مقصودة للشرع، ولأن المتزوجين في الغالب أحوج من غير المتزوجين.
قوله: «وعدمه» ، بأن يقول: هذا وقف على أولادي لا
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة/ باب الإشهاد في الهبة (2587) ؛ ومسلم في الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ.(11/36)
يعطى الأحمق منهم، أو دون الأحمق منهم، فهذا يعتبر عدم وصف، فاعتبار الوصف إيجابي، واعتبار عدمه سلبي.
قوله: «وترتيب» ، الترتيب أن يأتي بما يدل على الترتيب، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، أو وقف على أولادي بطناً بعد بطن، أو وقف على أولادي فإذا عدم البطن الأول فللثاني، فهذا نسميه ترتيباً، ولا يختص بـ (ثم) ، فكل ما دل على الترتيب نعمل به.
لكن إذا قال قائل: ما الفرق بين الترتيب والتقديم؟
فالجواب: أنه في الترتيب لا يستحق البطن الثاني شيئاً مع البطن الأول، وفي التقديم يستحق البطن الثاني مع الأول ما فضل عن الأول، فالبطن الأول والثاني كلاهما مستحق لكن يقدم البطن الأول، فيمكن أن يشترك البطن الأول والثاني في مسألة التقديم، مثل أن يقول: هذا وقف على أولادي يُقدم الأحوج، فإذا أعطينا الأحوج ما يكفيه ـ لأن الريع كثير ـ وبقي بقية أعطينا البطن الثاني ما يحتاجه منها، لكن لو قال: وقف على أولادي، ثم أولادهم وكان الريع كثيراً، وأعطينا الأولاد حاجتهم وزاد أضعافاً، فهل نعطي البطن الثاني شيئاً؟ لا؛ لأنه قال: (ثم) وما بعد (ثم) لا يشارك ما قبلها لوجود الترتيب، ولو قال: بطناً بعد بطن، فكذلك هو ترتيب.
وإذا قال: وقف على أولادي ثم أولادهم، فمات أحد أولاده عن أولاد، فهل يستحقون شيئاً؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، المشهور من المذهب أنه ليس لأولاد المتوفى شيء(11/37)
مع أعمامهم، فليس للبطن الثاني شيء مع وجود واحد من البطن الأول.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: بل لهم مع أعمامهم؛ وعلَّله بأنه لما مات الولد هنا استحق ولده؛ لأن الغالب أن الجد لا يقصد حرمان أولاد ابنه مع وجود أعمامهم، بل ربما تكون نظرته إلى أولاد ابنه الذين انكسروا بموت أبيهم أشد شفقة من نظرته إلى أولاده، لكن لو كان هناك عُرف شائع بأن مثل هذه العبارة ترتيب بطن على بطن، وأنه لا يستحق البطن الثاني مع الأول شيئاً، فإننا نرجع إلى العرف، وخير من ذلك أن يصرح الموقِفُ فيقول: من مات عن ولد فنصيبه لولده.
قوله: «ونظر» ، النظر يعني الولاية، والأولياء الذين يتصرفون لغيرهم أربعة أقسام: الوكيل، والوصي، والناظر، والولي.
فالوكيل: يكون في حال الحياة، كما لو وكل فلاناً أن يشتري له شيئاً معيناً فاشتراه.
الوصي: من أُذِن له في التصرف بعد الموت، مثل أن يقول: أوصيت لفلان بألف درهم، والوصي فلان، يعني الذي يأخذ الألف ويعطيه الموصى له هو فلان، أو يقول: أوصيت إلى فلان بالنظر على أولادي الصغار.
الناظر: هو الوكيل على الوقف، ولهذا يغلط كثير من الذين يكتبون الأوقاف، يقول مثلاً: وقفت بيتي، أو نخلي على أولادي والوكيل فلان، فهذا غلط، والصواب أن يقال: والناظر فلان، ولكن لما كان الذين يكتبون للناس غالبهم لم يتعمقوا في الفقه،(11/38)
صاروا لا يفرقون بين الوكيل والوصي والناظر، فالكل عندهم وكيل، حتى الوصي بعد الموت يسمونه وكيلاً، ولو جاءت هذه الوثيقة لقاضٍ لا يعرف العرف، لقال: إن هذا بطلت وكالته، يعني مثلاً لو قال: وكيلي على ملكي، أو على أولادي الصغار، أو ما أشبه ذلك فلان، ثم مات انفسخت الوكالة، ولهذا ينبغي للذين يكتبون الوثائق للناس أن يكون لديهم دراية وعلم بالألفاظ ودلالاتها الشرعية.
الولي: من كان يتصرف بإذن من الشارع؛ لأن كل مَنْ ذكرنا من وكيل ووصي وناظر يتصرفون بإذن المالك، لكن إذا كان التصرف بإذن من الشارع سمي ذلك ولاية، كولي اليتيم مثلاً، لا أحد من الناس ولاه، بل ولاه الله ـ عزّ وجل ـ، وكولاية الأب على مال ولده، فهذه ولاية لم تكن بإذن من العبد.
إذاً الناظر يُرجَع في تعيينه إلى الواقف؛ لأنه أعلم بوقفه ويتعين بالوصف أو بالشخص، فإذا قال: هذا وقف على الفقراء والناظر فلان، تعين أن يكون الناظر فلاناً، فلو أرادت جهة أن تأخذ هذا الوقف؛ لأنه عام، فليس لها الحق مع وجود ناظر خاص، والمُوقِف أخرج الوقف عن ملكه مقيداً بناظر معين، فلا اعتراض لأحد عليه، لكن إن خِيف منه ألا يقوم بالأمانة على وجهها فلهذه الجهة أن تعين ناظراً معه؛ لأن هذا على جهة عامة.
وهل يصح أن يخصص الواقف بعض الموقوف عليهم بالنظر؟(11/39)
نعم يصح، فلو قال: هذا وقف على أولادي والناظر فلان من الأولاد، صح ذلك ولا أحد يعترض عليه، اللهم إلا إن خرج عن مقتضى الأمانة، فهذا شيء آخر.
قوله: «وغير ذلك» يعني ليست هذه الثمانية حصراً، بل بجميع ما يشترطه الواقف بشرط عدم مخالفته للشرع؛ وعلة وجوب الرجوع إلى شرط الواقف؛ أنه أخرج هذا عن ملكه على وصف معين وشرط معين، فلا يجوز لنا أن نتصرف فيه إلا حسب ما أخرجه به عن ملكه.
فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ اِسْتَوَى الغَنِيُّ والذَّكَرُ وَضِدُّهُمَا والنَّظَرُ للمَوْقُوفِ عَلَيْهِ،
قوله: «فإن أطلق» الفاعل الواقف.
قوله: «ولم يشترط» شيئاً معيناً.
قوله: «استوى الغَنِيُّ والذَّكَرُ وضِدُّهما» ، فإن أطلق ولم يشترط شيئاً لا ناظراً ولا وصفاً ولا تقديماً ولا تأخيراً، فإنه يستوي الغني والذكر وضدهما، وضد الغني الفقير، وضد الذكر الأنثى، فإذا قال: هذا وقف على أولادي وسكت، فهو لأولاده الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والغني والفقير على السواء، ليس للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن هذا ليس تمليكاً تاماً، وإنما هو تمليك استحقاق؛ ولذلك لا يملك هؤلاء الذين وقف عليهم أن يبيعوه، أو يرهنوه، أو يوقفوه، فليس كالهبة، فالهبة يجب أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، لكن الوقف لا.
فإذا قال: هذا وقف على أولادي، وله أربعة أبناء وأربع بنات قُسِمَ على ثمانية أسهم، للذكر كالأنثى؛ ووجه ذلك أنه(11/40)
أخرجه عن ملكه لهم على وجه الاستحقاق لا التملك، ولذلك لا يملكون بيعه، ولا رهنه، ولا هبته، ولم أجد أحداً خالف في هذه المسألة.
قوله: «والنظر للموقوف عليه» ، يعني إذا أطلق ولم يشترط فالنظر يكون للموقوف عليه، هذا إذا وقف على معين، فإن وقف على جهة، أو على ما لا يملك فالنظر للحاكم، أي: للقاضي.
فالآن إذا وقف على معين ولم يشترط ناظراً فالنظر للموقوف عليه؛ لأنه هو المستحق، وإذا كان الموقوف عليهم عدداً، صار لكلٍّ نظرٌ بقدر نصيبه؛ لأن كل واحد منهم مستحق، ومعنى بقدر نصيبه، أنه لو أمكن أن يجزأ الوقف ـ وهم ستة مثلاً ـ إلى ستة أجزاء، وكل واحد ينظر على سدس فلا بأس.
وهل يصح أن يوقف على معين، ويشترط الناظر مِنْ هذا المعين؟ نعم يصح.
وإذا وقف على معين بالوصف، مثل أن يقول: هذا وقف على إمام المسجد، أو على مؤذن المسجد، أو على المدرس في هذه المكتبة، فهل النظر له أو للقاضي؟
هذا فيه جهتان، جهة خاصة، وجهة عامة، فبالنظر إلى أن إمام المسجد لا يعني فلان بن فلان، بل يعني كل من كان إماماً في المسجد، فمن هذه الناحية يكون عاماً والنظر فيه للحاكم، ومن ناحية أن الإمام واحد، يكون هذا من باب الوقف على معين فيكون النظر للإمام وحده.
فالخلاصة: أولاً: إذا كان الوقف على جهة عامة مثل(11/41)
المساكين، والأئمة، والمؤذنين، وطلاب العلم، فهؤلاء إذا لم يشترط الواقف ناظراً فالنظر للحاكم؛ لأنه لا يمكن أن نأتي بكل من كان فقيراً، أو طالب علم، ونقول له: انظر في هذا الوقف، فهذا متعذر.
وكذلك لو كان الوقف على ما لا يملك، كالوقف على المساجد فهذا النظر فيه ـ أيضاً ـ للحاكم، ما لم يعين الواقف ناظراً خاصاً.
ثانياً: إذا كان الوقف على معين بالشخص مثل الأولاد، أو زيد أو عمرو أو ما أشبه ذلك، فالنظر هنا للموقوف عليهم، ولا أحد يعارضهم، إلا إذا خرجوا عن مقتضى الأمانة فللحاكم النظر العام.
ثالثاً: إذا كان الوقف على معين بالوصف، وليس محصوراً مثل الإمام، والمؤذن، والمدرس وما أشبه ذلك، فهذا يتجاذبه شيئان، الخصوص والعموم، فبالنظر إلى أن الإمام واحد يكون النظر له، وبالنظر إلى أنه يشبه أن يكون جهة، وأن هذا الإمام قد يتصرف بما فيه حظ نفسه بقطع النظر عن إمام يأتي بعده، فهنا يُغلَّب عليه جانب العموم ويكون النظر للحاكم، أو مَنْ يأتي من قبل الدولة كوزارة الأوقاف، ولهذا نقول: لو تعارض رأي الإمام ورأي المسؤولين عن الأوقاف، فهل نأخذ برأي الإمام، أو نأخذ برأي المسؤولين؟
يجب ألا ينفرد أحدهما بالرأي، بل لا بد أن ينظر للمصلحة، ولكن ليس للجهة المسؤولة الاعتراض على هذا الإمام، إلا إذا خرج عن مقتضى الأمانة.
وهل للناظر على الوقف أجرة؟(11/42)
الجواب: إن شرطها الواقف فنعم، وإذا لم يشرطها فله أجرة المثل ويقدرها الحاكم، وإن تبرع ـ فجزاه الله خيراً ـ فقد أعان على خير.
وَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ ثُمَّ عَلَى المَسَاكِينِ فَهُوَ لِوَلَدِهِ، الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ بِالسَّوِيَّةِ،
قوله: «وإن وقَف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده، الذكور والإناث بالسوية» ، أما الذكور فواضح أن اسم الولد يطلق عليهم، وأما الإناث فيطلق عليهم ـ أيضاً ـ اسم الولد، ودليل ذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، فجعل الأنثى من الأولاد، فإذا قال: هذا وقف على ولدي، وله ذكور وإناث صار الوقف بين الذكور والإناث بالسوية، فإذا قال الولد للأنثى: أنتِ لستِ بولد بل بنت، والولد أنا، فنقول له: مدلول (ولد) في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فيكون الذكور والإناث على حد سواء.
فإن انقرض أولاده بأن ماتوا ولم يخلفوا أحداً، فلمن يكون الوقف؟
يقول المؤلف: «ثم على المساكين» ، فيكون الوقف للمساكين؛ لأن الولد انقرض ولم يبق له نسل، وإذا انتقل للمساكين يكون النظر للحاكم إذا لم يعين الواقف ناظراً.
وقوله: «أو ولد غيره» ، فإذا وقف على ولد فلان فهو لأولاده البنين والبنات بالسوية، فإن انقرضوا فعلى المساكين.
ولو قال: وقفت على ولدي ثم المساجد، فيكون الوقف لولده، فإن انقرضوا فللمساجد.(11/43)
ثُمَّ وَلَدِ بَنِيهِ، دُونَ بَنَاتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ لِصُلْبِهِ وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنِيهِ أَوْ بَنِي فُلانٍ اخْتَصَّ بِذُكُورِهِمْ،...........
قوله: «ثم ولد بنيه» ، قال المؤلف: (ثم) ، إذاً لو قال: وقفت على ولدي فيستحقه الأولاد بطناً بعد بطن؛ لكن المؤلف قال: «ثم ولد بنيه» فهو ترتيب، مع أن اللفظ مجمل ليس فيه ترتيب ولا جمع، فنقول: الأصل الترتيب، والقاعدة المعروفة أن من استحق بوصف فإنه يقدم من كان أقوى في هذا الوصف، ومعلوم أن الولادة بالنسبة للأولاد أقوى وصفاً في الأولاد من أولاد البنين، وعليه فنقول: إذا قال: وقف على أولادي فهو لأولاده، ثم إذا انقرض الأولاد كلهم يكون لأولاد بنيه.
وإذا وقف على أولاده وهم ثلاثة، ثم مات أحدهم عن بنين، فلا يستحقون مع أعمامهم؛ لأن هذا ترتيب بطن على بطن.
لكن لو قال: من مات عن ولد فنصيبه لولده، فيستحق أولاد الولد الذي مات ويكونون محل أبيهم، ويُعمَل في أولاد الذي مات كما يعمل في أولاد الصلب، فيقال: هو لأولاد الابن الذي مات، الذكور والإناث بالسوية.
قوله: «دون بناته» ، أي: دون ولد بناته، فإن أولاد البنات لا يدخلون في الولد، فإذا قال: هذا وقف على أولادي، وله ثلاثة ذكور وبنت، ومات هؤلاء الأربعة، الذكور والبنت وخلفوا أبناءً فيستحقه أولاد البنين، وأما أولاد البنت فليس لهم حق، ودليل ذلك في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وأجمع العلماء على أن أولاد البنات لا يدخلون في الأولاد؛ لأن أولاد البنات من ذوي الأرحام وليسوا من أولاده، فكذلك إذا قال: وقف على أولادي،(11/44)
وكان له أولاد أبناء وأولاد بنات، فأولاد البنات لا يستحقون شيئاً؛ لأنهم لا يدخلون في اسم الأولاد وهو في القرآن ظاهر، وكذلك هو مقتضى العرف واللغة، يقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا
بنوهن أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
وحتى في العاقلة ـ مثلاً ـ أي: عند تحمل الدية ـ فإن أولاد البنات لا يتحملون، وحتى في ولاية النكاح، أولاد البنات ليس لهم ولاية، وعلى هذا فنقول: أولاد البنات لا يدخلون في الوقف على الأولاد، والدليل من القرآن ومن اللغة.
فإن قال قائل: ألم يقل الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الأنعام] ، فذكر عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وعيسى ولد بنت، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحسن: «إن ابني هذا سيد» (1) .
فالجواب عن الآية أن عيسى ابن مريم ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أمه أبوه، فليس له أب حتى ينتسب إليه، ولا دليل فيه على أن أولاد البنات يدخلون في مطلق الأولاد أو مطلق الذرية، والأمر واضح.
وأما الحديث: فالجواب: أن كل مؤمن ابن للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ليس ابن النسب، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ «ابني هذا سيد ... » عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/45)
أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، وقرأ بعض السلف: «وهو أب لهم» (1) ، وهذا مقتضى القياس إذا كانت زوجاته أمهات فهو أب، ولكن ليس أب النسب، ولهذا يشرف أولاد علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ بنسبتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو من خصائصهم.
لكن هذا عند مطلق الوقف، أما إذا دلت القرينة على أن أولاد البنات أرادهم الواقف، أو صرح بذلك فإنه يعمل بها، تبعاً لشرط الواقف.
فلو قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، وليس له إلا بنات، فإن أولاد البنات يدخلون للقرينة؛ لأنه ليس عنده ذكور، فهنا يتعين دخول أولاد البنات.
ولو قال: هذا وقف على أولادي، ويُفَضَّل أولاد الأبناء فإنهم يدخلون للقرينة؛ لأن قوله: يفضل أولاد الأبناء، يدل على أنه أراد أولاد الأبناء والبنات.
ولو قال: وقف على أولادي ومن مات عن ولد فنصيبه لولده فإنهم يدخلون؛ لأنه صرح فقال: من مات عن ولد، والبنت تموت عن أولادها فيدخلون، ويكون نصيبها لهم.
ولو قال: هذا وقف على أولادي، أولاد البنين وأولاد البنات، فهذا نص وتصريح، إذاً أولاد البنات لا يدخلون في الأولاد إلا بنص أو قرينة، هذه هي القاعدة.
__________
(1) عزاها ابن كثير في تفسيره (3/451) لأبي بن كعب وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ.(11/46)
قوله: «كما لو قال على ولد ولده» فإنه يدخل أولاد بنيه فقط دون أولاد البنات، ولكن الصحيح أنه إذا قال: على ولد ولده، فإنه يدخل أولاد البنين وأولاد البنات دون أولاد بنات البنات؛ لأن كلمة «ولده» الثانية تشمل الذكور والإناث.
قوله: «وذريته لصلبه» يعني إذا نص على التقييد بالصلب فإن أولاد البنات لا يدخلون بلا إشكال.
فلو قال: هذا وقف على ولد ولدي لصلبي، فلا يدخل أولاد البنات؛ لأن أولاد البنات ليسوا ذرية لصلبه بل ذرية لبطنه، فالولد يكون في بطن الأنثى وفي صلب الرجل، فمن ينسب إليه عن طريق البنات لا ينسب إليه لصلبه بل لبطنه، وهو قيدها بصلبه.
إذاً الواقف بالنسبة لأولاد بناته لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينص على عدم الدخول بأن يقول: أولادي وأولادهم لصلبي، فهنا لا يدخلون بلا إشكال.
الثانية: أن ينص على الدخول أو توجد القرينة فهنا يدخلون.
الثالثة: أن يطلق، فلا يدخلون.
وإذا قال: على ذريته، وذرية فعيلة بمعنى مفعولة، أي: من ذرأهم الله منه، والذين ذرأهم الله منه هم أولاد الصلب، فإذا قال: هذا وقف على ذريتي دخل الأولاد من بنين وبنات، ودخل بعد ذلك أولاد البنين، دون أولاد البنات؛ لأنهم ليسوا من ذريته.
وهنا يرد علينا الإشكال الذي أجبنا عنه أولاً، وهو أن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من ذرية إبراهيم، فكيف كان ذلك؟ والجواب أن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أبوه أمه؛ لأنه(11/47)
خلق من دون أب، ولهذا لو أن شخصاً انتفى من ولده، وقال: هذا الولد ليس مني، وقُبِل انتفاؤه بالشروط المعروفة، صار هذا الولد أبوه أمه، ولهذا إذا مات عنها ترثه هي ميراث أم وأب، فيقال: إذا لم يكن له أبناء ولا إخوة، فأمه لها الثلث بالفرض والباقي بالتعصيب؛ لأنها هي أبوه وأمه.
قوله: «ولو قال على بنيه أو بني فلان اختص بذكورهم» ، فإذا قال: على بنيه أو بني فلان فإنه للذكور دون الإناث، وهنا نتكلم عن كلمة «بنيه» من حيث مدلول اللفظ، ومن حيث جواز هذا الوقف، فإذا قال: على بنيه، فمدلول اللفظ أن البنات لا يدخلن؛ لأن البنت لا تسمى ابناً، ولكن هل يجوز للإنسان أن يوقف على بنيه دون بناته؟ الجواب: لا.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ إنما يتكلمون على مدلول الألفاظ دون حكم الوقف، فهنا إذا قال: هذا وقف على بنيَّ فيدخل الذكور فقط، وأما الإناث فلا يدخلن؛ لأنه يقال: بنون وبنات، ولكن لا يجوز له أن يخص الوقف ببنيه؛ لأنه إذا فعل ذلك دخل في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (1) ، فيكون بهذا العمل غير متقٍ لله تعالى، وسمى النبي صلّى الله عليه وسلّم تخصيص بعض الأبناء جَوْراً، فقال: «لا أشهد على جَوْر» (2) ، ولا شك أن من وقف على بنيه دون بناته أنه جَور.
__________
(1) سبق تخريجه ص (36) .
(2) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب لا يشهد على شهادة جور ... (2650) ؛ ومسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) .(11/48)
وعلى هذا، فلو وجدنا شخصاً وقف على بنيه ومات، فعلى المذهب نجري الوقف على ما كان عليه؛ لأن هذا ليس عطية تامة؛ لأن الوقف لا يتصرف فيه الموقوف عليه لا ببيع ولا شراء، نقول: لكن الموقوف عليه ينتفع بغلَّته.
فالقول الراجح أننا نلغي هذا الوقف ولا نصححه، ويعود هذا الموقوف ملكاً للورثة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، وقد يقال: يبقى وقفاً على البنين والبنات؛ لأن المُوقف أخرجه عن ملكه إلى ملك هؤلاء، ولكن الاحتمال الأول أقرب، وهو إبطال الوقف؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، بل هو مخالف لأمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: «أو بني فلان» ، أي: دون بناته، فإنه يجوز ولا يجب أن يعدل بينهم وهذا بالإجماع، فإذا قال: هذا وقف على بني عبد الله فيختص بالذكور؛ لأنه يقال: عبد الله له بنون وبنات، فيفرق الناس بين البنين والبنات، فإذا قال: هذا وقف على بني عبد الله وهو شخص، فإنه يكون للذكور دون الإناث، وهذا مدلول اللفظ، وينفذ؛ لأن العطية الآن ليست لأولاده بل لأولاد غيره فينفذ، ويعطى الوقف بني عبد الله دون بنات عبد الله.
إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا قَبِيلَةً فَيَدْخُلَ فِيهِ النِّسَاءُ دُونَ أَوْلادِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، والقَرَابَةُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَقَوْمُهُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ أَوْلاَدِهِ وَأَوْلاَدِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ،......
قوله: «إلا أن يكونوا قبيلة فيدخل فيه النساء دون أولادهن من غيرهم» مثل بني تميم، فإذا قال: هذا وقف على بني تميم،
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(11/49)
دخل فيه الذكور والإناث، ودليل ذلك قول الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] ، فقوله: {يَابَنِي آدَمَ} يخاطب الذكور والإناث، وليس يخاطب الذكور فقط، وقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] يشمل الذكور والإناث، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا بني عبد مناف» (1) ، يشمل الذكور والإناث.
فإذا وقف شخص على بني تميم فهو لذكورهم وإناثهم، ولكن هل يدخل أولاد الإناث؟ ينظر إن كان أولاد الإناث من بني تميم دخلوا أصلاً؛ لأنهم من بني تميم، وإن كان أولاد البنات التميميات ليس آباؤهم من بني تميم، فإنهم لا يدخلون، ولهذا قال: «دون أولادهن من غيرهم» ، أي: من غير أبناء القبيلة، فلا يعطون من الوقف على بني تميم.
قوله: «والقرابةُ وأهلُ بيتِهِ وقومُهُ» ، هذه ثلاثة ألفاظ، ما الذي يدخل في مدلولها؟ يقول المؤلف:
«يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجدِّه وجدِ أبيه» ، فإذا قال: هذا وقف على قرابتي، دخل فيه هؤلاء الأربعة، أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، فيشمل الذكر والأنثى من الفروع إلى يوم القيامة، ومن الأصول إلى الأب الثالث فقط، فيشمل فروعه وفروع أبيه وفروع جده وفروع جد
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب؟ (2753) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ *} (204) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/50)
أبيه، ولكن هل يستحق الجميع أو لا يستحق؟ نذكره إن شاء الله.
وعلى هذا فإذا لم يبق من هؤلاء أربعة البطون إلا واحد، استحق الوقف كله، والدليل على أن القرابة تختص بهؤلاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعطِ من خمس الغنيمة إلا من كان من بني هاشم وبني المطلب (1) ، وهاشم بالنسبة للرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الأب الثالث، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ، فدل ذلك على أن القرابة تختص بهؤلاء، هذا ما ذهب إليه المؤلف، وهذا دليله.
وبعض العلماء أخرج الأولاد من القرابة، لكن الصحيح أنهم لا يخرجون؛ لأن أولاده أشد لصوقاً به من آبائه، إذ إنهم بضعة منه، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في فاطمة ـ رضي الله عنها ـ: «إنها بضعة مني» (2) .
وقال بعض أهل العلم: إن القرابة تشمل كل من اجتمع به في جده الذي ينتمي إليه، ومعلوم أن القبائل فيها شعوب، فَأَوَّلُ جَدٍّ ينتمي إليه هذا الشِّعب من القبيلة، فإن ذريته هم القرابة، وعلى هذا فلا يتقيد بالأب الثالث، فقد يكون في الرابع، أو الخامس.
وقال بعض أهل العلم: القرابة ليس لها حد محدود، فما
__________
(1) أخرجه البخاري في فرض الخمس/ باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام ... (3140) عن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في المناقب/ باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (3714) ؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب فضائل فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم (2449) عن المسور بن مخرمة ـ رضي الله عنه ـ.(11/51)
تعارف الناس عليه أنه قريب فهو قريب ولا نحدده بحدٍّ، لكن القول الأول هو أقرب الأقوال: أنهم من كانوا من ذرية أبيه الثالث، ويليه قول من قال: إنهم من يجتمعون به في أول جد ينتسبون إليه، أما القول الأخير فهو ضعيف.
وفهم من قولنا: إنه يشمل هؤلاء، أنه لا يشمل الأقارب من جهة أمه، فلا يدخل في ذلك أبو أمه، ولا أخو أمه، ولا عمها، ولا جدها، ولا أمها؛ ووجه ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يعط أخواله من بني زُهْرَة، فلم يدخلهم في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} .
وقال بعض أهل العلم: إذا كان من عادته أنه يصل قرابة أمه دخلوا في لفظ القرابة؛ لأن كونه قد اعتاد أن يصلهم يدل على أنه أراد أن ينتفعوا بهذا الوقف، وهذا قول قوي، والعجيب أن بعض العلماء قال بعكسه، قال: إذا كان من عادته أنه يصل أقارب أمه فإنهم لا يدخلون؛ لأن تخصيصهم بصلة خارج الوقف يدل على أنه لا يريد أن ينتفعوا من هذا الوقف بشيء، لكن القول الذي قبله أقرب إلى الصواب، أنه إذا كان من عادته أنه يصل أقارب أمه دخلوا في الوقف الذي قال: إنه على أقاربه.
وقوله: «وأهل بيته» يشمل الذكر والأنثى من أولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه.
وهل يشمل الزوجات؟
المذهب أنهن لا يدخلن؛ لأن أهل بيته مثل القرابة تماماً، والصحيح أن زوجاته إذا لم يطلقهن يدخلن في أهل بيته، ولا شك في هذا، لقوله تعالى في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ(11/52)
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» (1) ، بل لو قيل: إن أهل بيته هم زوجاته ومن يعولهم فقط، لكان قولاً قوياً؛ لأن هذا هو عرف الناس، فالآن عمك وأخوك إذا انفردا في بيت، لا يقول الناس: إنهما أهل بيتك، فأهل البيت عرفاً هم الذين يعولهم من الزوجات والبنين والبنات، لكن مهما كان الأمر فإن الزوجات بلا شك إذا لم يطلقهن يدخلن في أهل البيت، ولا يدخلن في القرابة.
وقوله: «وقومه» جعلها المؤلف كلفظ القرابة وأهل البيت، لكن هذا القول بعيد من الصواب؛ لأن القوم في عرف الناس وفي اللغة ـ أيضاً ـ أوسع من القرابة، اللهم إلا على قول من يقول: إن القرابة تشمل كل من يجتمع معه في الاسم الأول، فالفخذ من القبيلة قرابة، فهنا ربما نقول: إن القوم والقرابة بمعنى واحد، أما إذا قلنا: إن القرابة هم أولاده، وأولاد أبيه، وجده، وجد أبيه، فإن القوم بلا شك أوسع، ولهذا يرسل الله الرسل إلى أقوامهم وهم ليسوا من قراباتهم، فإذا كان للقوم معنًى مطرد عرفاً لا ينصرف الإطلاق إلا إليه وجب أن يتبع؛ لأن القول الراجح في
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب/ باب فضل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم (3895) ؛ والدارمي في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (2260) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح؛ وأخرجه ابن ماجه في النكاح/ باب حسن معاشرة النساء (1977) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه ابن حبان (4177) و (4186) وحسنه الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (1039) من رواية عائشة ـ رضي الله عنها ـ بلفظ: «خيركم خيركم لأهله» .(11/53)
أقوال الواقفين والبائعين والراهنين وغيرهم أن المرجع في ذلك إلى العُرف.
وقوله: «يشمل الذكر والأنثى من أولاده وأولاد أبيه وجَدِّه وجدِّ أبيه» ، يتعين في قوله: «جَدِّه» الجر، يعني من أولاده، وأولاد أبيه الذين هم إخوانه، وأولاد جده الذين هم أعمامه، وأولاد جد أبيه الذين هم أعمام أبيه.
ولكن هل هؤلاء كلهم يستحقون؟
الجواب: نعم يستحقون لكن يقدم بعضهم على بعض، فكل من كان أقرب فهو بالوقف أحق، فإذا قدر أن أهل بيته خمسمائة والوقف خمسمائة درهم فهنا لا يمكن أن نعطي الجميع؛ لأن إعطاء كل واحد درهماً لا يفيد شيئاً، بل هنا ينبغي أن ننظر إلى الأقرب فالأقرب، أو إلى الأحوج فالأحوج.
لكن مراد المؤلف ـ رحمه الله ـ: أن كل هؤلاء من ذوي الاستحقاق، أما ترتيبهم فهذا يرجع إلى الناظر على الوقف.
وَإِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي إِرَادَةَ الإِنَاثِ أَوْ حِرْمَانَهُنَّ عُمِلَ بِهَا، وَإِذَا وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسَاوِي، وَإِلاَّ جَازَ التَّفْضِيلُ وَالاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ.
قوله: «وإن وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث أو حرمانهن عُمل بها» ، يعني إذا وجدت قرينة تقتضي إرادة الإناث فيما يدل اللفظ على إخراجهن، أو حرمانهن فيما يدل اللفظ على دخولهن فإنه يعمل بها؛ وذلك لأن الألفاظ تتحدد معانيها بحسب السياق والقرائن، فلذلك إذا وجدت قرينة تدل على أن الإناث داخلات في الوقف دخلن، وإن كان اللفظ لا يقتضي دخولهن، وإذا وجدت قرينة تدل على حرمانهن فإنهن لا يدخلن، وإن كان اللفظ يشملهن.(11/54)
فإذا قال: هذا وقف على أولادي الذكور والإناث، فهنا تصريح وليس قرينة بأن الإناث داخلات، فيدخلن.
وإذا قال: هذا وقف على أولادي الذين يجاهدون في سبيل الله، فهنا القرينة تدل على أن المراد الذكور؛ لأن الجهاد يختص بالرجال، فالمهم أننا نعمل بالقرائن في شمول اللفظ للإناث أو عدمه.
قوله: «وإذا وقف على جماعة يمكن حصرهم وجب تعميمهم والتساوي» ، إذا وقف على جماعة يمكن حصرهم، وجب شيئان: التعميم، والتساوي.
مثاله: إذا وقف على أولاد فلان وهم عشرة، فهنا يمكن حصرهم، فيجب أن يُعمَّموا ويعطى كل واحد، ويجب أن يساوى بينهم، الذكور والإناث سواء، والغني والفقير سواء، والضعيف والقوي سواء، والشيخ والصغير سواء؛ لأنه يمكن حصرهم، وإن كان لا يمكن كبني تميم مثلاً يقول المؤلف:
«وإلا جاز التفضيل والاقتصار على أحدهم» ، فإن كان لا يمكن حصرهم فله أن يفضل بعضهم على بعض، وله أن يعطي بعضاً ويحرم بعضاً؛ وذلك لأنه جرت العادة أن من لا يمكن حصره لا تمكن الإحاطة به، وإذا لم تمكن الإحاطة به لم يجب أن نعطيهم، وإذا وقف على ثلاثين فيمكن حصرهم، ويجب أن يعمَّموا، فإن كثر هؤلاء وصاروا قبيلة لا يمكن حصرهم، فلا يجب تعميمهم ولا التساوي، بل يجوز الاقتصار على واحد منهم(11/55)
وأن يفضل بعضهم على بعض، وبالعكس، لو قال: على بني فلان وهم قبيلة، لكن هذه القبيلة انقرضت ولم يبقَ إلا عشرة، فإنه يجب التعميم والتساوي؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
ودليل ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، فهل يجب علينا أن نعمم الزكاة على الفقراء جميعاً؟
الجواب: لا، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لقَبيصة ـ رضي الله عنه ـ: «أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (1) ، فلا يجب أن نسوي بين عشرة فقراء أمامنا الآن في الزكاة، فيجوز أن نعطي واحداً ونحرم التسعة، أو نعطيهم متفاضلاً؛ لأن الأصل أنه لا يجب التعميم ولا التساوي.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب من تحل له المسألة (1044) عن قبيصة ـ رضي الله عنه ـ.(11/56)
فَصْلٌ
وَالوَقْفُ عَقْدٌ لاَزِمٌ لا يَجُوزُ فَسْخُهُ وَلاَ يُبَاعُ،.............
وقوله: «والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه»
يعني ثابتاً لا يمكن تغييره، ولا يجوز فسخه؛ لأنه مما أخرج لله ـ تعالى ـ فلا يجوز أن يرجع فيه كالصدقة، فمن حين أن يقول الرجل: وقفت بيتي، أو وقفت سيارتي، أو وقفت كتابي فإنه يلزم، وليس فيه خيار مجلس بخلاف الوصية، فالوصية ليست عقداً لازماً في الحال، بل لا تكون إلا بعد الموت.
أما الوقف المعلق بالموت كما لو قال: هذا وقف بعد موتي، فالمذهب أنه لازم من حين قوله ولا يمكن فسخه، لكن مع ذلك لا ينفذ منه إلا ما كان من ثلث المال فأقل، فيجعلونه وصية من وجه ووقفاً من وجه، وهذا غير صحيح، فلا يمكن أن نعطي عقداً حكمين مختلفين، فإما أن نقول: إنه يلزم في الحال ونلغي التعليق، وإذا قلنا بأنه يلزم في الحال لزم، سواء كان الثلث أو أكثر أو أقل، وإما أن نقول: لا يلزم إلا بعد الموت، وحينئذٍ يكون من الثلث فأقل، وهذا هو الصحيح؛ لأن الرجل علق الوقف بشرط وهو الموت، فلا يمكن أن ينفذ قبل وجود الشرط، فلا ينفذ إلا بعد الموت ويكون من الثلث فأقل.
مثال ذلك: قال رجل: إذا مت فبيتي وقف، أو إذا مت فمكتبتي وقف، فالمذهب أنه ينفذ من الآن ولا يمكن أن يبيع شيئاً من هذا؛ لأنه نفذ، لكن إذا مات فإن أجاز الورثة الوقف نفذ، وإن لم يجيزوه لم ينفذ منه إلا مقدار ثلث التركة.(11/57)
والصواب: أنه لا ينفذ إلا بعد الموت، وأنه ما دام حياً فله التغيير والتبديل والإلغاء، فإذا مات فإن أجازه الورثة نفذ، وإن لم يجيزوه نفذ منه قدر ثلث التركة فقط.
،قوله: «والوقف عقد لازم لا يجوز فسخه» ظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يكون الإنسان مديناً أو غير مدين، ومن المعلوم أن المدين إذا كان قد حجر عليه فإن وقفه لا يصح، لكن إذا لم يحجر عليه وأوقف، وكان عليه دين يستغرق الوقف، فظاهر كلام المؤلف: أن الوقف لازم.
والقول الثاني وهو الراجح: أن الوقف في هذه الصورة ليس بلازم ولا يجوز تنفيذه؛ لأن قضاء الدين واجب والوقف تطوع، ولا يجوز أن نضيق على واجب لتطوع، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
فإن طرأ الدَّين بعد الوقف، كما لو وقف بيته ثم افتقر واستدان، فهل ينفسخ الوقف، أو نقول: إنه لا ينفسخ؛ لأنه تم بدون وجود المانع فيستمر؟ الأقرب الثاني، وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: له أن يبيعه في دينه؛ لأن هذا ليس أشد من المدبَّر، وهو العبد الذي عُلِّق عتقه بموت سيده، وقد باعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدين (1) .
لكن الأرجح الأول، يعني أنه إذا حدث الدَّين بعد الوقف فإن الوقف يمضي، والدَّيْنُ ييسر الله أمره.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع المزايدة (2141) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة بالنفس (997) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ(11/58)
قوله: «ولا يباع» يعني لا يباع الوقف؛ لأن بيعه يقتضي إبطال الوقف، فلو قلنا بجواز البيع انتقل إلى المشتري وبطل الوقف، والوقف عقد لازم فلا يجوز بيعه، ويجوز تأجيره؛ لأن أجرته من المنفعة التي سُبِّلت، ولا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد لبيع المرهون واستيفاء الدين منه، وإذا قلنا: لا يباع، بقي الرهن عديم الفائدة، فإما أن يقال: إن الرهن صحيح، ويباع في قضاء الدين، وهذا يلزم منه إبطال الوقف، وإما أن نقول: إن الرهن لا يصح؛ لأنه لو صح فلا فائدة منه، إذاً لا يجوز بيعه، ولا عقد يراد به بيعه.
إِلاَّ أَنْ تَتَعَطَّلَ مَنافِعُهُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، وَلَوْ أَنَّهُ مَسْجِدٌ وَآلَتُهُ وَمَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ جَازَ صَرْفُهُ إِلى مَسْجِدٍ آخَرَ والصَّدَقَةُ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ،
قوله: «إلا أن تتعطل منافعه» ففي هذه الحال يجوز أن يباع، كرجل أوقف داره على أولاده فانهدمت الدار، فيجوز أن تباع.
وقوله: «ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه» ظاهره أنه لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الصورة؛ لأن من القواعد المقررة (أن الاستثناء معيار العموم) يعني يدل على العموم فيما عدا الصورة المستثناة، فعلى هذا لا يباع بأي حال من الأحوال إلا في هذه الحال، وهي إذا تعطلت منافعه.
فإن نقصت المنافع ولم تتعطل، فإنه لا يباع فيبقى على ما هو عليه حتى تتعطل، ولا يكون فيه فائدة.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ جواز بيعه للمصلحة بحيث ينقل إلى ما هو أفضل، واستدل لهذا بقصة الرجل الذي نذر إن فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم مكة أن يصلي في بيت المقدس(11/59)
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صل هاهنا» فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فقال: «فشأنَك إذن» (1) .
فهنا أباح له النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتحول عن النذر من المفضول إلى الأفضل، ومعلوم أن نذر الطاعة واجب، فيجوز أن ينقل الوقف أو يباع لينقل إلى ما هو أنفع، وما اختاره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ هو الصواب.
لكن في هذه الحال يجب أن يمنع من بيعه أو إبداله إلا بإذن الحاكم؛ لأنه قد يتعجل الموقوف عليه، ويقول: أبيعه لأنقله إلى ما هو أفضل، ويكون الأمر على خلاف ظنه، فلا بد من الرجوع إلى الحاكم ـ يعني القاضي ـ في هذه الحال؛ لئلا يتلاعب الناس بالأوقاف.
مثال ذلك: إنسان أوقف عمارة على طلبة العلم في مكان كان من أحسن الأمكنة حين الإيقاف، لكن تغير الوضع وصار محل الطلب في جهة أخرى، فهل يجوز أن يبيع هذه العمارة ليشتري عمارة أخرى قريبة من مواطن العلم؟
أما على المذهب فلا؛ لأن منافعها لم تتعطل، وأما على القول الراجح فيجوز، ولكن لا بد من مراجعة الحاكم؛ لئلا يتلاعب الناس بالأوقاف.
وعلم من قوله: «إلا أن تتعطل منافعه» أنه لو تعطلت بعض المنافع فإنه لا يجوز بيعه، فما دام يوجد فيه منفعة ولو واحد في
__________
(1) سبق تخريجه ص (34) .(11/60)
العشرة فإنه لا يباع، لكن على ما سبق أنه يباع إذا كان فيه حاجة أو مصلحة.
وإذا بيع فماذا نفعل بثمنه؟
قال: «ويصرف ثمنه في مثله» فإذا كان هذا وقفاً على الفقراء، وتعطلت منافعه وبِعْناه فماذا نفعل بالثمن؟ هل نتصدق به على الفقراء، أو نشتري به وقفاً يكون للفقراء؟ يتعين الثاني، فلا يجوز أن نقول: إن هذا وقف على الفقراء، والآن بعناه لتعطل منافعه فنصرف دراهمه إلى الفقراء، فهذا لا يجوز؛ لأن هذه الدراهم عوض عن أصل الوقف، وأصل الوقف لا ينقل ملكه لا ببيع ولا بغيره.
قوله: «ولو أنه مسجد» يعني ولو كان الذي تعطلت منافعه مسجداً، كأن يكون المسجد في حي ارتحل أهله عنه، فإنه يباع ويصرف ثمنه في مثله.
وإذا بعنا المسجد وصرفنا ثمنه في مسجد آخر، فيجوز لمشتري المسجد أن يبيعه؛ لأنه صار ملكه، ويجوز أن يجعله دكاكين للبيع والشراء، والمهم أنه زال عنه وصف المسجد، فيجوز بيعه والصدقة به وهبته وغير ذلك، ويصرف ثمنه في مثله.
وقوله: «ولو أنه مسجد» إشارة إلى خلاف، فمن أهل العلم من قال: إن المسجد لا يباع؛ لأنه وقف لمصلحة المسلمين، وما كان لمصلحة المسلمين فإن الفرد لا يتصرف فيه، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن المسجد الآن زال الانتفاع به، فالحي كلهم رحلوا وما بقي أحد، فهو سيباع ويعمر في مكان آخر بثمنه.(11/61)
قوله: «وآلتُهُ» أي آلة المسجد، والمراد بناؤه، وأبوابه وما أشبه ذلك، وهذا فيما سبق لما كان البناء بلبن الطين كان يمكن أن ينتفع بآلته التي تكوَّن منها وهي لبن الطين، أما الآن فلا أظنه يمكن استرجاع الآلة، اللهم إلا إن كانت أسياخ الحديد فيمكن، أما الإسمنت فلا، على كل حال إذا بقي آلة فإننا نعيدها فيما نريد أن نبنيه.
فإذا قال الذي باع المسجد: آلته الآن إذا نقضناها وبنينا بها المسجد الآخر سيخرج غ …ير قوي، فهل لنا أن نبيع الآلة ونشتري آلة جديدة قوية؟
الجواب: نعم، وتكون الآلة الثانية بدلاً عن الأولى، وحينئذٍ لا يضيع حق الواقف.
قوله: «وما فضل عن حاجته جاز صرفه إلى مسجد آخر» ، فما فضل عن حاجة المسجد، فإنه يجوز أن يصرف إلى مسجد آخر؛ لأن هذا أقرب إلى مقصود الواقف،
وهذا لا إشكال فيه.
فإذا قدرنا أن هذا المسجد لما هدم حيث تعطلت منافعه وأعيد بناؤه بقي من آلته شيء فإننا نصرفه إلى مسجد آخر، فإن لم يمكن صُرِفَ إلى جهة عامة ينتفع فيها المسلمون عموماً، كالسقاية والمدرسة وما أشبه ذلك.
قوله: «والصدقة به على فقراء المسلمين» ، يعني وجازت الصدقة به على فقراء المسلمين؛ لأن المسجد مصلحة عامة والصدقة على الفقراء ـ أيضاً ـ مصلحة عامة، فنحن لم نخرج عن(11/62)
مقصود الواقف؛ لأنها كلها عامة في انتفاع المسلمين عموماً، لكن هذا القول ضعيف جداً؛ لأن المساجد نفعها مستمر والصدقة نفعها مؤقت؛ لأن نفعها مقطوع، ينتفع بها الموجودون الحاضرون ولا ينتفع بها من بعدهم، فالصواب أن ما فضل عن حاجة المسجد يجب أن يصرف في مسجد آخر، ما لم يتعذر أو ما لم يكن الناس في مجاعة فهم أولى؛ لأن حرمة الآدمي أشد من حرمة المسجد ولا شك.
حتى لو فرض أن المسجد مسجد جامع فيجب أن يصرف في مسجد جامع إن تيسر، وإلا ففي مسجد بقية الصلوات، وإنما قلنا: مسجد جامع؛ لأن المسجد الجامع أكثر أجراً وثواباً؛ حيث إنه تصلى فيه الجمعة، وبقية المساجد لا تصلى فيها الجمعة، ثم إنه في صلاة الجمعة يكون أكثر عدداً من المساجد الأخرى.
والخلاصة:
أنه متى جاز بيع الوقف فإنه يجب أن يصرف إلى أقرب مقصود الواقف، بحيث يساوي الوقف الأول أو يقاربه حسب الإمكان.
مسألة: لو أن الناس ـ مثلاً ـ اختاروا أن يحوِّلوا المسجد المبني من لبن الطين إلى مسجد مسلح، هل لهم أن ينقضوا الأول أو لا؟ هذا ينبني على ما ذكرنا؛ لأن منافع مسجد الطين لم تتعطل، لكن ينقل إلى ما هو أفضل وأحسن، فعلى رأي شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لا بأس، ويكون أجر المسجد الثاني لباني المسجد الأول؛ لأنه لا يمكن أن نبطل أجر الموقف الأول مع(11/63)
إمكان استمرار أجره، فيكون للباني الأول في مدة يقدر فيها بقاء المسجد الأول، أما ما زاد عليها فأجرها لصاحب المسجد الثاني، وكذا لو كان المسجد الثاني أنفع من جهة التكييف ونحوه، فأجر النفع الزائد للمُوقِفِ الثاني.
فائدة: الوقف المنقطع هو الذي ينقطع من الموقوف عليه، مثلاً: وقف على زيد ثم عمرو، ومات زيد ومات عمرو، فالآن انقطعت الجهة فإذا انقطعت ففيه خلاف، وأقرب شيء عندي أنه إذا علم أن قصد الواقف البر والأجر، فإن الوقف المنقطع يرجع إلى المساكين أو المصالح العامة.(11/64)
بَابُ الهِبَةِ وَالعَطِيَّةِ
وَهِيَ التَّبَرُّعُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ المَعْلُومِ المَوْجُودِ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَهُ،........
قوله: «الهبة والعطية» ، الهبة مصدر وَهَبَ يَهَبُ هِبَةً، وأصلها وِهْبَةٌ من وهب الشيء إذا أعطاه، مثل وعد يَعِدُ عِدة وأصلها وِعدة.
واعلم أن خروج المال بالتبرع يكون هبة، ويكون هدية، ويكون صدقة، فما قصد به ثواب الآخرة بذاته فهو صدقة، وما قصد به التودد والتأليف فهو هدية، وما قصد به نفع المعطَى فهو هبة، فهذا هو الفرق بينها، والتودد والتأليف من الأمور المقصودة شرعاً ويقصد بها ثواب الآخرة، لكن ثواب الآخرة لم يقصد فيها قصداً أولياً، ولهذا يخصها بشخص معين، أما الصدقة فلا يخصها بشخص معين، بل أي فقير يواجهه يعطيه، وكلها تتفق في أنها تبرع محض لا يطلب الباذل عليها شيئاً.
والعطية معطوفة على الهبة من باب عطف الخاص على العام؛ لأن العطية هي التبرع بالمال في مرض الموت المخوف، فهي أخص من الهبة، والهبة أن يتبرع بالمال في حال الصحة، أو في مرضٍ غير مخوف، أو في مخوف لم يمت به.
قوله: «وهي التبرع بتمليك ماله المعلوم الموجود في حياته غيره» ، فقوله: «في حياته» متعلق بالتبرع، والتبرع تطوع، ولهذا لا(11/65)
يجوز من شخص عليه دَين ينقص الدينَ، فلو كان إنسان ليس عنده إلا عشرة ريالات وعليه عشرة ريالات، فلا يجوز له التبرع بهذه العشرة لا بصدقة ولا غيرها؛ لأن الدين واجب القضاء، وهذه التبرعات ليست بواجبة، والواجب مقدم.
وقوله: «غيرَهُ» مفعول لقوله: «تمليك» يعني هي أن يتبرع في الحياة بتمليك غيره ماله المعلوم، بمعنى أن الإنسان يتبرع بتمليك ماله لشخص في حال الحياة، ومعنى التبرع أنه لا يأخذ عليه مقابلاً.
وقوله: «ماله» المال كل عين مباحة النفع بلا حاجة.
وقوله: «تمليك» خرج به العارية؛ لأن العارية وإن كانت تبرعاً، لكنها ليست تمليكاً.
وقوله: «تمليك» يؤخذ منه شرط، وهو أن يكون الموهوب له ممن يصح تملكه، فلا يصح أن يهب جبريل عليه السلام؛ لأنه لا يصح تملكه.
وقوله: «ماله» خرج به مال غيره؛ لأنه لا يمكن أن يتبرع الإنسان بملك غيره.
وقوله: «المعلوم» خرج به المجهول، ولكن هذا غير صحيح، فالصحيح جواز هبة المجهول؛ لأنه لا يترتب عليه شيء؛ لأن الموهوب له إن وجد الموهوب كثيراً فهو غانم، وإن وجده قليلاً فلا ضرر عليه وهو غانم أيضاً، فلو وهب لشخص حملاً في بطن صح على القول الذي اخترناه، وهو صحة هبة المجهول.(11/66)
وقوله: «الموجود» خرج به المعدوم.
وقوله: «في حياته» خرج به الوصية.
وقوله: «غيره» بيان للواقع.
مثال ذلك: شخص أعطى إنساناً كتاباً بدون قيمة، فإننا نسمي هذا هبة، فإن قصد بها ثواب الآخرة سمَّيناها صدقة، وإن قصد بها التودد إلى هذا الشخص فهي هدية، والغالب أن الهدية تكون من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الأدنى لا يريد أن ينفع الأعلى وإنما يريد التودد إليه.
والهبة تكون مع المساوي، ومع من دونه، لكنه لا يقصد بها ثواب الآخرة قصداً أولياً.
وهذه العقود الأربعة (1) ـ أيضاً ـ أوسع من عقود المعاوضات من وجه، وأضيق من وجه، فعقود المعاوضات كالبيع والإجارة تجوز حتى ممن عليه الدَّين، أما التبرعات فلا، وعقود التبرعات تجوز في الأشياء المجهولة، والمعاوضات لا تجوز.
وَإِنْ شَرَطَ فِيهَا عِوَضاً مَعْلُوماً فَبَيْعٌ............
قوله: «وإن شرط فيها» ، أي: في الهبة.
قوله: «عوضاً معلوماً فبيع» ، يعني فلها حكم البيع، مثال ذلك: قال رجل لأخيه: وهبتك هذا على أن تعطيني عشرة ريالات، فنقول: هذه بيع ويثبت لها أحكام البيع، فيكون فيها خيار المجلس، ولا بد فيها من إيجاب وقبول، وسائر الشروط، ولهذا لو قلت لإنسان وأنت ذاهب معه إلى الجامع، وقد أذَّن
__________
(1) الوقف والهبة والعطية والهدية.(11/67)
الأذان الثاني يوم الجمعة: أعطيتك هذا القلم تبرعاً فإنه يجوز، ولو قلت: أعطيتك هذا القلم بشرط أن تعطيني خمسة ريالات فلا يجوز؛ لأنه بيع.
وَلاَ يَصِحُّ مَجْهُولاً، إِلاَّ مَا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ وَتَنْعَقِدُ بالإِيجَابِ وَالقَبُولِ وَالمُعَاطَاةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُ بِالقَبْضِ بِإِذْنِ وَاهِبٍ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُتَّهِبٍ،......
قوله: «ولا يصح مجهولاً» يعني لا يصح أن يهب شيئاً مجهولاً، وليس المراد لا يصح مجهولاً فيما شرط فيه العوض، وعلى هذا فلو أن شخصاً له جَمَلٌ شارد، وقال لآخر: وهبتك جملي الشارد، فإنه لا يجوز؛ لأنه مجهول وغير مقدور عليه فلا يصح، أو قال: وهبتك ما في هذا الكيس من الدراهم، فإنه لا يصح؛ لأنه مجهول، وهذا الذي ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ هو المذهب.
والقول الثاني وهو الصواب: أنه يصح أن يهب المجهول؛ وذلك لأن الهبة عقد تبرع، والإنسان فيها إما غانم وإما سالم، فليس هذا من باب الميسر الدائر بين غرم وغنم، بل بين غنم وسلامة، فإذا وهبته شيئاً مجهولاً وقبل فلا ضرر عليه؛ لأنه إما أن يحصل على شيء يريده، أو شيء لا يريده، فإن حصل على شيء يريده فهذا هو المطلوب، وإلا فلا ضرر عليه.
قوله: «إلا ما تعذر علمه» فتصح هبته، مثل أن يختلط ماله بمال شخص على وجه لا يُدرى عن كميته، ولا يتميز بعينه، فيقول: وهبتك مالي الذي اختلط في مالك، فهذا مجهول يتعذر علمه، فعلى المذهب يصح لدعاء الضرورة لذلك.
والصواب: أنه يصح هبة المجهول، سواء تعذر علمه أم لم يتعذر.(11/68)
قوله: «وتنعقد» أي: الهبة.
قوله: «بالإيجاب» وهو اللفظ الصادر من الواهب.
قوله: «والقبول» وهو اللفظ الصادر من الموهوب له، فيقول: وهبتك هذا الكتاب، ويقول الثاني: قبلت، فالأول إيجاب والثاني قبول.
قوله: «والمعاطاة الدالة عليها» أيضاً تنعقد بالمعاطاة، أي بدون أن يتلفظ، بشرط أن تكون هذه المعاطاة دالة على الهبة، مثل أن يكون عند شخص وليمة، فأرسل إليه أخوه شاةً ولم يقل شيئاً، فأخذ الشاة وذبحها وقدمها للضِيفان، فتصح الهبة؛ لأن هذا دال عليها؛ لأن المرسل صديقه وأراد أن يساعده، فأرسل إليه الشاة ولم يقل: هبة؛ لأنه يخشى إذا قال: هبة، أن يكون فيها نوع من المنة، ورجل آخر بيده كتاب فرآه صاحبه، فلما رآه ينظر إليه أعطاه إياه بدون أن يقول: وهبتك، وبدون أن يقول ذاك: قبلت، فهذه المعاطاة الظاهر أنها تدل على الهبة، لا سيما إذا كان الواهب ممن عرف بالكرم، وإلا فقد يقال: إن الأصل بقاء ملكه، ولا تصح هذه الهبة؛ لأنه ربما أعطاه إياه من أجل أن ينظر فيه ويستفيد منه، والدليل على انعقادها بالمعاطاة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعطي الصدقات ويعطي من الفيء ولا يقول للمعطى: أعطيت، ولا يقول المعطى: قبلت؛ ولأن جميع العقود تنعقد بما دل عليها.
إذاً صيغتها نوعان: قولية، وفعلية، فالقولية هي الإيجاب والقبول، والفعلية هي المعاطاة الدالة عليها.(11/69)
قوله: «وتلزم بالقبض بإذن واهب» إذا تمت الهبة بالإيجاب والقبول فليس فيها خيار مجلس، لكن فيها خيار مطلقاً حتى تقبض؛ لأنها لا تلزم إلا بالقبض، فلو قال: وهبتك كتابي الفلاني، فقال: قبلت، ولم يسلمه له، ثم رجع، فرجوعه جائز؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قبضها فليس فيها خيار مجلس؛ لأن هذا عقد تبرع، والذي فيه خيار المجلس هو عقد المعاوضة.
والفرق بينهما ظاهر، ففي عقد المعاوضة أعطى الشارع المتعاقدين مهلة ما داما في المجلس؛ لأن الإنسان قد يرغب في السلعة، وإذا بيعت عليه نزلت من عينه، وهذا شيء مشاهد، فجعل له النبي صلّى الله عليه وسلّم الخيار إذا أحب أن يردها (1) .
لكن الهبة ليس فيها معاوضة، فهو أعطيها مجاناً، حتى لو كان في الأول يحبها ثم أعطيها ونزلت من عينه، فهذا لا يضره شيء، والدليل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ وهب عائشة ـ رضي الله عنها ـ ثمرة نخل، ثم لما مرض رجع فيها، وقال لها: لو أنك جذذتيه كان لك، أما الآن فهو ميراث (2) ، فدل هذا على أنها لا تلزم إلا بالقبض،
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خيَّر أحدهما صاحبه (2112) ؛ ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531) (44) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه مالك (2/752) وعبد الرزاق (16507) ؛ والبيهقي (6/169) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ. انظر: نصب الراية (4/122) وصححه الحافظ في تخريج أحاديث الكشاف كما في موسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية (2/518) ومثله في الإرواء (1619) .(11/70)
والمسألة خلافية، لكن هذا المذهب في هذه المسألة ونحن نمشي عليه.
ولا بد ـ أيضاً ـ من إذن الواهب بذلك، فلو قال رجل: وهبتك بعيري الذي في حظيرتي، فقال: قبلت، ثم ذهب الموهوب له مسرعاً وأخذ البعير، فهل تلزم الهبة؟ المؤلف يقول: لا تلزم إلا إذا قال: اذهب فاقبضها، أو ذهب معه وأقبضه إياها، أما أن يقبض بدون إذنه فلا، فإذا قال قائل: أليس يلزم من الهبة الإذن في القبض؟ قلنا: لا يلزم؛ لأنه قد يندم الواهب فيرجع قبل القبض، وأنت إذا بادرت وقبضت بدون إذنه سددت عليه الباب، وهو له الحق أن يرجع حتى يسلمك إياها، أو يأذن لك بالقبض، فلهذا اشترط ذلك المؤلف فقال: «بإذن واهب» .
قوله: «إلا ما كان في يد متَّهب» ، فما كان في يد متَّهب لا يحتاج إلى إذن، كشخص استعار كتاباً من آخر والكتاب في يده، فقال له مالك الكتاب: قد وهبتك كتابي الذي استعرته مني، فلا يحتاج أن يقول: وهل تأذن لي في قبضه؟ لأنه في يده، فصار بعد الهبة مقبوضاً.
فإن قال قائل: إن قبضه هنا يختلف، فقبضه قبل الهبة على أن يده يد أمانة لا يد مالك، وبعد الهبة صارت يده يد مالك، نقول: هذا الفرق لا يؤثر؛ لأن العبرة هل الموهوب وصل إلى الموهوب له أو لا؟ وحينئذٍ نقول: إنه قد وصل، ومثل العارية الوديعة، كما إذا أعطيت شخصاً كتاباً، وقلت له: خذ هذا الكتاب احفظه عندك حتى أطلبه منك، ثم وهبته إياه، فهذا لا(11/71)
يحتاج إلى إذن في القبض، حتى المغصوب، فالعلماء يقولون: لو أن رب المال قال للغاصب: قد وهبتك ما غصبت، لزمت بمجرد القول؛ لأنها عنده.
ولو أن الواهب مات بعد أن وهب الهبة ولم يقبضها الموهوبُ له، فهل تلزم الهبة؟ لا تلزم؛ لأن الموهوب له لم يقبضها، والمال يرجع إلى الورثة؛ لأنها هبة لم تلزم، ولو وهب شيئاً ولم يُقبِضه ثم باعه فإن البيع يصح؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا لزمت بالقبض فإن الملك يكون من عقد الهبة، ونظيره إذا بعت عليك سلعة، فما دمنا في مجلس العقد فلكل واحد منا الخيار، فإذا تفرقنا لزم البيع، ويكون دخول ملك المبيع للمشتري من حين العقد لا من حين التفرق، وعلى هذا فإذا قلنا: إن الهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإنه ما دام لم يقبضها الموهوب له فللواهب الرجوع، فإذا قبضها فهي ملك الموهوب له، وملكه من العقد، فصارت تملك بالعقد، ولا تلزم إلا بالقبض.
وعلى هذا فلو نَمَتْ فالنماء من نصيب الموهوب له، ويجب على الواهب أن يرده إلى الموهوب له.
وَوَارِثُ الوَاهِبِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَنْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ مِنْ دَيْنِهِ بِلَفْظِ الإِحْلالِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوِ الهِبَةِ وَنَحْوِهَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ وَتَجُوزُ هِبَةُ كُلِّ عَيْنٍ تُبَاعُ، وَكَلْبٍ يُقْتَنَى......
قوله: «ووارث الواهب يقوم مقامه» يعني في الإقباض وعدمه، فإذا مات الواهب بعد الإيجاب والقبول قبل أن يسلمها، فلورثته الحق في أن يمنعوا التسليم ولهم أن ينفذوها ويسلموها.
وعلم من قوله: «ووارث الواهب» أن وارث المتَّهب لا يقوم مقامه، وعلى هذا فلو وهب شيئاً لشخص ثم مات الموهوب له قبل القبض، بطلت الهبة؛ لأنه تعذر قبضه بعد أن مات.(11/72)
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذا وهذا؟
نقول: لأنه في مسألة الواهب عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت، أما المتهب إذا مات ولم يقبض شيئاً فليس هنا شيء حتى يرجع إلى ورثته، ولذلك فرَّقوا ـ رحمهم الله ـ بين موت الواهب فقالوا: لا تبطل الهبة به ويقوم وارثه مقامه، وبين موت المتهب فقالوا: إن الهبة تبطل لتعذر القبض حينئذٍ.
قوله: «ومن أبرأ غريمه من دينه» ، «من» شرطية عامة، فتشمل الغني والفقير، والمحجور عليه والطليق، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، ولكن هذا ليس على عمومه، فمراد المؤلف: من أبرأ غريمه بشرط أن يكون ممن يصح تبرعه، فهو عام أريد به الخاص، وعليه لو أبرأ المحجور عليه غريمه من دَينه لم يبرأ؛ لأن المحجور عليه لا يصح تصرفه في ماله.
ولو أبرأ ولي اليتيم غريم اليتيم من دَينه لم يبرأ؛ لأن ولي اليتيم لا يصح منه الإبراء.
ولو أبرأ الوكيل غريم الموكل من دينه لا يبرأ؛ لأن الوكيل يتصرف وليس له أن يتبرع، وهلم جرًّا، فكل من يتصرف في مال غيره لا يمكن أن يتبرع به.
وقوله: «غريمه» ، أي: الذي يطلبه، فلدينا طالب ومطلوب، فالمدين يسمى غريماً.
وقوله: «من دينه» ، ظاهره أنه لا فرق بين أن يكون كثيراً أو قليلاً.
وعُلِم من كلمة «دَينه» أنه لا بد أن يكون الدَّين معيَّناً، فإن(11/73)
كان له على شخص دَينان أحدهما (بُرٌّ) والآخر (شعير) فأبرأه من أحدهما، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يبرأ؛ لأنه لم يعين الدَّين الذي أبرأه منه.
والصواب: أنه يبرأ من أحدهما، ويرجع في التعيين إلى المبرئ؛ لأن المبرَأ لم يملك ذلك إلا من قبل المبرِئ، ولأن هذا من جهته وهو أعلم بما أراد.
فلو أن رجلاً له على شخص مائة دينار ومائة درهم، ثم قال له: أبرأتك من أحد دَينيك، ولم يعين لا الدنانير ولا الدراهم، فقال المدين: هي الدنانير، وقال المبرِئ: هي الدراهم، فنرجع هنا إلى قول المبرئ؛ لأنه أعلم بنيته، والمال ماله فيبرئه مما شاء، لكن على المذهب لا يجوز إلا ديناً معيناً لقوله: «من دَينه» .
وقوله: «من دَينه» ، لو أبرأه من دَين غيره، وقال للمدين: إني أبرأتك من دين فلان وأنا أقضيه، فلا يصح ولا يبرأ، وقوله: وأنا أقضيه، هذا وعد والوعد لا يُلزِم، فلا بد أن يكون من دينه لا من دَين غيره.
قوله: «بلفظ الإحلال أو الصدقة أو الهبة ونحوها» ، هذه مسألة لا بد أن نعرفها تماماً، فقوله: «بلفظ» احترازاً مما لو أبرأه بقلبه، كرجل له في ذمة فلان ألف ريال، فنوى بقلبه أنه أبرأه لكن لم يقل: إني أبرأته، أو لم يقل له: أبرأتك، أو أحللتك، أو سامحتك أو تصدقت عليك أو وهبته لك، فلا يبرأ، وهذا مثل إنسان يعين دراهم للصدقة بها، وقبل أن يتصدق منعها، فلا حرج عليه.(11/74)
قوله: «برئت ذمته» ، أي ذمة الغريم، وبقي حراً طلقاً ليس عليه دين.
قوله: «ولو لم يقبل» ، أي: فإن الدَّين يسقط ولو لم يقبل؛ لأن الدين وصف في الذمة، فإبراؤه منه إزالة وصف عن المدين، وليس إدخال ملك عين عليه كالهبة، ولهذا لم يشترط في الإبراء قبول المبرَأ، بخلاف الموهوب له فإنه يشترط قبوله، وهذه هي قاعدة المذهب: أن الأوصاف لا يشترط فيها القبول، ولهذا لو كان في ذمة زيد لعمرو مائة صاع بر وسط، فأعطاه زيد مائة صاع من البر الجيد، فقال صاحب الدين: أنا لا أقبل إلا الوسط، فلا يشترط قَبول صاحب الدين؛ لأن هذا وصف، فإنه لم يعطه أكثر من مائة بل زاده خيراً في الوصف، لكن لو أراد أن يزيده صاعاً واحداً، فلا يصح إنشاء الزيادة إلا بقبول ممن له الدَّين.
وقال بعض أهل العلم: لا تبرأ ذمته إلا بالقبول؛ لأن المبرأ ربما يلاحظ شيئاً آخر وهو المِنَّة.
والصحيح في هذا التفصيل: أنه إن رد الإبراء دفعاً للمنَّة عليه فإنه لا يُلزَم بذلك؛ لأن المبرَأ قد يقول: لو أنني قبلت لأصبح هذا الرجل يتحدث بين الناس: إني أبرأت فلاناً، أو كلما حصل شيء قال: هذا جزائي حين أبرأتك من دينك! فهنا إذا لم يقبل فله الحق؛ لأنه يقول: أنا لم أقبل خوفاً من المنة، ولا شك أن هذا وصف كل إنسان يحب أن يدفعه عن نفسه.
مسألة: إذا أبرأ غريمه من الدين فهل تجب عليه الزكاة؟ بمعنى أنه لو كان له دين عند شخص وتمت عليه السنة فأبرأه(11/75)
منه، فهل تجب عليه زكاته؛ لأن إبراءه كقبضه أو لا تجب؟
الجواب: فيه تفصيل: إن وجبت الزكاة في هذا الدين لم يسقطها الإبراء، وإن لم تجب فإنه يسقطها الإبراء، فهذا هو الضابط، مثل أن يبرئ فقيراً أو ما أشبه ذلك فهنا لا تجب، وأما القول بأنه إذا أبرأه منه فإن الزكاة واجبة على كل حال؛ لأن الإبراء كالقبض، والدين إذا قبض ـ سواء على غني أو على فقير ـ فإن الزكاة فيه واجبة، فهو ضعيف.
قوله: «وتجوز هبة كل عين تباع» ، أفادنا ـ رحمه الله ـ أن الهبة إنما تكون في الأعيان، وأما الدين فيسمى إبراءً.
وقوله: «تباع» أي: يصح بيعها، فخرج بذلك ما لا يصح بيعه.
وظاهر كلامه أن ما لا يصح بيعه ولو لجهالته، أو عدم القدرة عليه لا تصح هبته، والصحيح في هذا أن ما لا يصح بيعه لجهالته، أو الغرر فيه، فإن هبته صحيحة، كما لو أبق عبد لشخص فقال لصاحبه: إني قد وهبتك عبدي الآبق، فقبل، فالصواب جواز هذا؛ لأن الموهوب له إن أدركه فهو غانم وإن لم يدركه فهو سالم، بخلاف البيع، وكذلك المجهول تصح هبته على القول الراجح؛ لأن الموهوب له إما سالم وإما غانم، فلا يكون ذلك من باب الميسر الذي حرمه الله ـ عزّ وجل ـ في كتابه.
ولو وهب موقوفاً فإنه لا تصح هبته؛ لأن الموقوف لا يصح بيعه، ولو وهب مرهوناً لم يصح؛ لأن المرهون لا يصح بيعه، ولو وهب مؤجَّراً صحت الهبة؛ لأن المؤجر يصح بيعه، ولكن لا(11/76)
يملك الموهوب له منافعه حتى تتم مدة الأجرة، فلو أجَّر بيته لمدة سنة، ووهبه آخر بعد مضي ستة أشهر فالهبة صحيحة، ولكن الموهوب له لا يملك المنافع إلا إذا تمت المدة، بمعنى أن حق المستأجر ثابت على ما هو عليه، أما ما يستحقه من الأجرة فإنه للموهوب له من حين ما وُهِبَ له بقسطه.
قوله: «وكلب يقتنى» يعني وتصح هبة الكلب الذي يقتنى، أي: يجوز اقتناؤه، مع أن الكلب لا يصح بيعه؛ لأن المحرم هو أخذ العوض عليه، فإن وهبه بلا عوض فلا بأس به، وهبته ـ أيضاً ـ ليست هبة حقيقة، ولكنها عبارة عن تنازل عن اختصاص بهذا الكلب، وإلا فالكلب لا يصح بيعه، وما لا يصح بيعه لا تصح هبته.
وقوله: «وكلب يقتنى» أفادنا ـ رحمه الله ـ أن الكلب الذي لا يقتنى لا تصح هبته؛ وذلك لأن الواهب في هذه الحال لا حق له فيه حتى يهبه.
والذي يُقتنى هو ما كان لثلاثة أمور: إما الحرث، وإما الماشية، وإما الصيد (1) ، فهذه ثلاثة أشياء يجوز اقتناء الكلب لها بشرط ألا يكون أسود، فإن كان أسود فإنه لا يجوز اقتناؤه؛ لأنه لا يحل صيده؛ ولأنه شيطان (2) فلا يحل اقتناؤه، لكن الكلب
__________
(1) لما أخرجه البخاري في الوكالة/ باب اقتناء الكلب للحرث (2322) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب الأمر بقتل الكلاب ... (1575) (58) .
(2) لما أخرجه مسلم في الصلاة/ باب ما يستر المصلي (510) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.(11/77)
الذي يجوز اقتناؤه يجوز للمقتني أن يهبه؛ وذلك لأن هبته حقيقتها التنازل عن حقه في هذا الكلب.
فإن اقتنى كلباً في حال لا يباح اقتناؤه فيها ووهبه، فهذا لا يصح؛ وذلك لأن هذا الواهب لهذا الكلب ليس له حق فيه، إذ أنه لا يجوز له أن يقتنيه، فكيف يتنازل عن شيء لا حق له فيه؟!(11/78)
فَصْلٌ
يَجِبُ التَّعْدِيلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلاَدِهِ بِقَدْرِ إِرْثِهِمْ،......
قوله: «يجب» ، الواجب هو الذي يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه.
قوله: «التعديل» ، بمعنى أن يعاملهم بالعدل.
قوله: «في عطية أولاده» ، يشمل الذكر والأنثى، والمراد بالعطية هنا الهبة، فهي أعم من العطية في مرض الموت.
ودليل الوجوب حديث النعمان بن بشير بن سعد ـ رضي الله عنهما ـ أن أباه نحله نِحلة، فقالت أم النعمان ـ رضي الله عنها ـ: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذهب بشير بن سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره ليشهده على ذلك، فقال له: ألك بنون؟ قال: نعم، قال: أنحلتهم مثل هذا؟ قال: لا، قال: «لا أشهدُ، أَشْهِدْ على هذا غيري، فإني لا أشهد على جَوْر» ، ثم قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أتحب أن يكونوا لك في البر سواءً؟» ، قال: نعم (1) ، فرجع بشير بن سعد في هبته لولده النعمان.
قوله: «بقدر إرثهم» ، يعني أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين وهذا في العطية المحضة، فلو أعطاهم بالسوية لكان هذا جَوْراً، لأنه زاد الأنثى ونقص الذكر، أما ما كان لدفع الحاجة فإن يتقدر بقدرها.
وما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ هو القول الراجح، أن
__________
(1) سبق تخريجه ص (36) .(11/79)
الأولاد يعطون على حسب ما ذكر الله ـ عزّ وجل ـ في كتابه في إرثهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ولا شك أنه لا أعدل من قسمة الله ـ عزّ وجل ـ، ومن قال: إن هناك فرقاً بين الحياة والممات، فإنه يحتاج إلى دليل على ذلك، فنقول: هم في الحياة وبعد الممات سواء.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «في عطية» أنه بالنسبة للنفقة لا يكون التعديل بينهم بقدر إرثهم، بل بقدر حاجتهم، فيجب التعديل في الإنفاق على ولده بقدر الحاجة، فإذا قدر أن الأنثى فقيرة، والذكر غني، فهنا ينفق على الأنثى ولا يعطي ما يقابل ذلك للذكر؛ لأن الإنفاق لدفع حاجة، فالتعديل بين الأولاد في النفقة أن يعطي كل واحد منهم ما يحتاج، فإذا فرضنا أن أحدهم في المدارس يحتاج إلى نفقة للمدرسة، من كتب ودفاتر وأقلام وحبر وما أشبه ذلك، والآخر هو أكبر منه لكنه لا يدرس، فإذا أعطى الأول لم يجب عليه أن يعطي الثاني مثله.
ولو احتاج الذكر إلى غترة وطاقية قيمتهما مائة ريال مثلاً، واحتاجت الأنثى إلى خرصان في الآذان قيمتها ألف ريال، فالعدل أن يشتري لهذا الغترة والطاقية بمائة ريال، ويشتري للأنثى الخرصان بألف ريال، وهي أضعاف الذكر عشر مرات، فهذا هو التعديل.
ولو احتاج أحدهم إلى تزويج والآخر لا يحتاج، فالعدل أن يعطي من يحتاج إلى التزويج ولا يعطي الآخر، ولهذا يعتبر من الغلط أن بعض الناس يزوج أولاده الذين بلغوا سن الزواج، ويكون(11/80)
له أولاد صغار، فيكتب في وصيته: إني أوصيت لأولادي الذين لم يتزوجوا، أن يُزَوج كل واحد منهم من الثلث، فهذا لا يجوز؛ لأن التزويج من باب دفع الحاجات، وهؤلاء لم يبلغوا سن التزويج، فالوصية لهم حرام، ولا يجوز للورثة ـ أيضاً ـ أن ينفذوها إلا البالغ الرشيد منهم إذا سمح بذلك، فلا بأس بالنسبة لحقه من التركة.
وهنا مسائل:
الأولى: هل يفضِّل بينهم باعتبار البِرِّ؟ يعني إذا كان أحدهما أبر من الآخر، فقال: سأعطي البار أكثر مما أعطي العاق؛ تشجيعاً للبار وحثاً للعاق؟ فهذا لا يجوز؛ لأن البر ثوابه أعظم من دراهم تعطيه إياها، فالبر ثوابه عند الله ـ عزّ وجل ـ، ولا تدري فلعل البار اليوم يكون عاقاً بالغد، والعاق اليوم يكون باراً بالغد، فلا يجوز أن تفضله من أجل برِّه.
الثانية: إذا كان أحد الأولاد يعمل معه في متجره أو مزرعته، فهل يجوز أن يعطيه زيادة على الآخر الذي لم ينتفع منه بشيء؟ فيه تفصيل: إن كان الذي يُعِين أباه يريد بذلك وجه الله فإنه لا يعطيه شيئاً؛ لأنه يدخل في البر، وإن كان يريد عوضاً على ذلك، أو أن أباه فرض له العوض قبل أن يعمل فلا بأس، ولكن يُعطى مثل أجرته لو كان أجنبياً.
الثالثة: إذا كان أحد الأبناء كافراً بردة، أو من الأصل لم يدخل في الإسلام، فبعض العلماء يقول: لا يجب التعديل؛ لأن الله تعالى قال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *} [القلم] .
وبعض العلماء قال: بل يجب التعديل؛ لأن هذا حق سببه(11/81)
الولادة، وهي ثابتة في الكافر كما هي ثابتة في المسلم، وينبغي أن يقال: ينظر للمصلحة إذا كان إعطاؤه للمسلم دون الكافر يقتضي أن يقرب الكافر للإسلام فيدخل في الإسلام، فهذا يعطي المسلم، وإن لم يكن مصلحة فلا يجوز، بل يجب التعديل.
وقوله: «في عطية أولاده» هل يقاس عليهم بقية الورثة؟ يعني لو كان للإنسان أخوان شقيقان، فهل يجوز أن يعطي أحدهما دون الآخر؟
ظاهر كلام المؤلف: يجوز؛ لأنه خص وجوب التعديل بالأولاد فقط، وهذا هو الحق؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» (1) ، ولم يقل: «بين ورَّاثكم» ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أعطي جوامع الكلم، ولو كان التعديل واجباً بين جميع الورثة لبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
لكن إذا كان له أخوان، وخاف إذا أعطى أحدهما كان ذلك سبباً للقطيعة بالنسبة للآخر، فهنا له أن يعطيه، لكن يجب أن يجعل العطاء سرًّا؛ حتى لا تحصل القطيعة من الأخ الثاني، وهنا الواجب ليس هو التعديل، بل الواجب هو دفع ما يخشى منه من قطيعة الرحم، وهذا يحصل بالإسرار.
وما قاله المؤلف من أن التعديل يكون بقدر إرثهم هو القول الراجح، ودليله قسمة الله ـ تبارك وتعالى ـ للأولاد أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال بعض العلماء: إن التعديل يكون بالتسوية، أي أن
__________
(1) سبق تخريجه ص (36) .(11/82)
يعطي الأنثى كما يعطي الذكر، واحتجوا بظاهر عموم حديث النعمان ـ رضي الله عنه ـ: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، و «أولاد» صالحة للذكر والأنثى، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» (1) ، فظاهره أنهم يعطون بالسوية ليكون البر بالسوية، ولكن لا دلالة في ذلك.
أما الأول: فإن قوله: «اعدلوا بين أولادكم» ، ولم يقل سوّوا، بل قال: «اعدلوا» ، ولا نرى أعدل من الله ـ عزّ وجل ـ وقد قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، فالعدل أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين.
ثانياً: أنه في بعض ألفاظ الحديث قال: «ألك بنون؟» (2) قال: نعم، قال: «هل أعطيتهم مثله؟» قال: لا، قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» ، فقوله: «ألك بنون» يفيد أن القضية بين النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ وإخوانه وهم ذكور، وأنه ليس هناك أخوات فإذا كانوا ذكوراً فإنه يجب التسوية.
ثالثاً: أن قوله: «أتريد أن يكونوا لك في البر سواء؟» نقول: هم إذا علموا أن أباهم أعطاهم على حسب قسمة الله، لم يكن في قلب أحدهم حقد ولا غل على الأب، فيبرُّونه على السواء، فالصواب ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ أن التعديل يكون بقدر إرثهم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (36) .
(2) أخرجه مسلم في الهبات/ باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) (15) .(11/83)
فَإِنْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ سَوَّى بِرُجُوعٍ أَوْ زِيَادَةٍ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ ثَبَتَتْ وَلاَ يَجُوزُ لِواهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ اللاَّزِمَةِ إِلاَّ الأَبِ......
قوله: «فإن فضَّل بعضهم» يعني أعطاه أكثر من الآخر أو خصَّه بعطاء.
قوله: «سوَّى» أي بينهم، ولو قال المؤلف: (عَدَّل) لكان أولى؛ لأن أول كلامه يقول: «يجب التعديل» ولم يقل: التسوية، ثم إن قوله: «سوَّى» ليس على إطلاقه؛ لأنه لو قلنا: «سوَّى» للزم أن نعود إلى مشكلة، وهي أن يكون الذكر والأنثى سواء، وليس ذلك مراداً، وعلى كل حال فمراده بالتسوية هنا التعديل.
قوله: «برجوع» على من فُضِّل ليساوي الناقص.
قوله: «أو زيادة» لمن فُضِّل عليه، فمثلاً إذا أعطى أحدهم ألف ريال، وأعطى الثاني ألفين، فطريق التسوية، إما أن يأخذ من الذي أعطاه ألفين ألفاً، وهذا هو قوله: «برجوع» ، وإما أن يضيف إلى الذي أعطي ألفاً ألفاً أخرى، وهذا معنى قوله: «أو زيادة» .
وهناك طريق ثالث: وهي أن يأخذ من الجميع، فيأخذ ممن أعطاه ألفين وممن أعطاه ألفاً، فيكون راجعاً في الهبة، ورجوع الوالد في الهبة جائز كما سيأتي إن شاء الله.
فإن قال قائل: هل هذا الحكم يشمل الأم والأب؟
فالجواب: نعم، يشمل الأم والأب؛ لأن العلة واحدة، فإذا أعطت الأم أحد أولادها شيئاً فلتعطِ الآخر مثله، ويكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
فإن قال قائل: وهل يشمل ذلك الجد، يعني لو كان له أولادُ أولادٍ، فهل يجب أن يُعَدِّل بينهم؟(11/84)
الجواب: الظاهر أنه لا يجب؛ لأن قوة الصلة بين الأب وابنه، أقوى من قوة الصلة بين الجد وأبناء أبنائه، لكن لو كان هناك خوف من قطيعة رحم، فيتجه مراعاتهم بأن يعطي من يعطي على وجه السر.
قوله: «فإن مات قبله» أي: قبل التسوية.
قوله: «ثبتت» أي: ثبتت العطية، يعني إذا مات الأب الذي فضل بعض الأولاد قبل أن يسوي ثبتت العطية، فإذا أعطى أحدهم ـ مثلاً ـ عشرة آلاف ريال تبرعاً لا نفقة ثم مات، فهذا العطاء يعتبر ملكاً للآخذ ويثبت؛ لأنه لم يتمكن من الرجوع أو تمكن ولكنه فرط، فالمطالب بالرجوع هو الأب وقد مات، فسقط عنه التكليف بموته، والابن الذي فُضِّل مَلَكه ملكاً تاماً، هذا المذهب وهو قول ضعيف؛ لأنه لا يجوز أن نمكن هذا الابن من أَخْذِ مالٍ لا يجوز له أخذه.
والصواب: أنه إذا مات وجب على المفضَّل أن يرد ما فضِّل به في التركة، فإن لم يفعل خصم من نصيبه إن كان له نصيب؛ لأنه لما وجب على الأب الذي مات أن يسوي، فمات قبل أن يفعل صار كالمدين، والدين يجب أن يؤدى، وعلى هذا نقول للمفضَّل: إن كنت تريد بر والدك فرد ما أعطاك في التركة.
ولكن هل للورثة الرجوع، أو الهبة لم تصح من الأصل؟
فيها قولان: قيل: إن العطية لم تصح من الأصل.
وقيل: إنها صحت، لكن إذا مات وهو لم يسوِ فللورثة الرجوع، ويجب على المفضل أن يردها في التركة.(11/85)
والفرق بين القولين: أننا إذا قلنا: إنها لم تصح من الأصل، فإن ما حصل من نماء بين العطية والموت يكون للورثة؛ لأن العطية لم تصح أصلاً، وإذا قلنا بالصحة ولكن لهم الرجوع، فما حصل من نماء منفصل فهو للموهوب له.
لكن على كل حال القول بأنها تثبت قول ضعيف، والصواب أنه يجب على المفَضَّل أن يرد الزيادة في التركة، أو تخصم من نصيبه.
فإن قال قائل: إذا كان أحدهم يحتاج إلى سيارة والآخرون لا يحتاجون؛ لأن الأول مدرسته بعيدة والآخرون مدرستهم قريبة، فهل يجوز أن يشتري للذي يحتاج السيارة سيارة؛ لأنه يحتاجها؟
لا يجوز؛ لأنه إنما يحتاج للنفع فقط، وهو ركوبها إلى المدرسة ورجوعه، وهذا يحصل بأن تكتب السيارة باسم الوالد، ويبقى الانتفاع للولد، بحيث إذا مات الوالد ترجع هذه السيارة في التركة، ولا يجوز للإنسان أن يُملِّك الولد السيارة؛ لأن المقصود دفع الحاجة، ودفع الحاجة يحصل بدون تمليك؛ لأنه ربما يعطيه السيارة بستين ألفاً اليوم ويموت الأب غداً.
فلذلك نقول: هذه مسألة يجب التفطن لها، إذا كان أحد الأبناء يحتاج إلى سيارة والآخرون لا يحتاجون، فإننا لا نعطي المحتاج سيارة باسمه، ولكن تكون السيارة باسم الأب، وهذا يدفع حاجته بانتفاعه بها، وإذا مات الأب ترجع في التركة.
إذاً القول الراجح: أنه إذا مات فإنها لا تثبت العطية، ويجب ردها في التركة.(11/86)
قوله: «ولا يجوز لواهب أن يرجع في هبته اللازمة إلا الأب» ، «واهب» نكرة في سياق النفي، فتعم كل واهب، ويدل على إرادة العموم الاستثناء في قوله: «إلا الأب» ، وقد قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إن الاستثناء معيار العموم.
وقوله: «هبته اللازمة» احترازاً من الهبة غير اللازمة، والهبة اللازمة هي المقبوضة، وغير اللازمة هي التي لم تقبض، فلو قال لشخص: وهبتك سيارتي الفلانية، وقال: قبلت، وبعد أن وهبها رجع، فالرجوع جائز وصحيح؛ لأنه لم يقبضها، والهبة لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قبضها وأراد الرجوع، فإنه لا يحل له ولا يملك أيضاً، حتى في مجلس الهبة، فلو أنه وهبه قلمه وهما في المجلس، وقال: رجعت بعد أن قبضها الموهوب له فإنه لا يملك ذلك؛ لأنها ثبتت ولزمت فيحرم أن يرجع في هبته اللازمة؛ وذلك أن الهبة بعد القبض تصير ملكاً للموهوب له، فإذا رجع فيها فقد أخذ ملك غيره بغير حق فصار هذا حراماً، هذا تعليل المسألة من حيث النظر.
أما من حيث الأثر فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لنا مَثَلُ السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1) ، فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لنا مثل السوء» ، هذه الجملة مفيدة جداً في الذين
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2622) ؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة (1622) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(11/87)
يمثلون أصوات الحيوان مثلاً، فيقال: ليس لنا مثل السوء، هكذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يجوز التمثيل بالحيوانات.
وقوله: «العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» مثل يراد به التقبيح والتنفير، فالكلب خسيس، من أخس الحيوان وأقبحه، بل هو أنجس الحيوان فيما نعلم؛ لأنه هو الذي يجب أن تغسل نجاسته سبع مرات إحداها بالتراب (1) ، يقيء ثم يرجع ويأكل القيء!! فعل قبيح، هكذا الذي يهب ثم يرجع، مثله مثل الكلب الذي قاء ثم رجع في قيئه، حتى لو فرض أنه عندما رجع رضي الموهوب له ولم يبالِ، نقول: هذا حرام ولا يجوز، وإذا كان هذا حراماً فينبغي للإنسان إذا وهب شيئاً ألا تتعلق به نفسه؛ لأن بعض الناس يهب الشيء إما لطروء فرح بصاحبه، أو لعاطفة جياشة في تلك الساعة، ثم يندم ويقول: ليتني ما وهبت، فهذا لا ينبغي؛ لأن شيئاً وهبته اجعله عن طيب نفسك ولا تعلق نفسك به، فقد خرج عنك قدراً وشرعاً، فكيف تعلق نفسك به، مع أنه لا يمكن أن تعود؟! فلا يجوز له أن يعود في هبته.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن نقيسها على البيع، ونقول: ما داما في المجلس فللواهب الخيار؟
الجواب: لا؛ لأن البيع عقد معاوضة يحتاج إلى تروٍّ، والإنسان ربما يستعجل فيقدم على البيع دون تروٍّ، فجعل له الشارع مهلة ما دام في المجلس، أما هذا فهو عقد تبرع،
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة/ باب حكم ولوغ الكلب (279) (91) بلفظ: «أولاهن بالتراب» عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/88)
فالواهب لا يريد عوضاً، والموهوب له لم يُؤخذ منه عوضٌ، فلا يصح قياس الهبة على البيع، إذاً تلزم بالقبض ولو في مجلس العقد، ولا يجوز أن يرجع في هبته اللازمة.
فإذا رجع في هبته غير اللازمة كأن يهب شخصاً كتاباً لكنه لم يسلمه له، فله أن يرجع ولكن هذا خلاف المروءة، ولأنه إخلاف للوعد، فنقول: ما دمتَ وهبتَه فقد وعدته، فينبغي إن طرأ عليه ما يقتضي أن يرجع في الهبة، أن يقول للموهوب له قولاً يقتنع به ونحوه حتى يطيب قلبه.
فإن قال قائل: هل يجوز له أن يشتري هبته من الموهوب له؟
فالجواب: لا يجوز؛ لأن الغالب أنك إذا اشتريت الهبة فسوف يخفض لك السعر ويستحي أن يماكسك، فلو وهبت له ما يساوي مائة ثم أردت أن تشتريه منه، فإنك لو قلت له: بثمانين، سوف يقول لك: خذها، ويخجل أن يقول: لا، إلا بمائة، وحينئذٍ تكون قد رجعت في بعض الهبة، لكن بطريق غير مباشر، ولهذا لما حمل أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ على فرس له في سبيل الله، فأضاعه الذي حمله عليه، وظن عمر أنه يبيعه برخص، استأذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشتريه فقال له: «لا تشترِه ولو باعكه بدرهم، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1) .
أما إذا اشترى صدقته فإنه أشنع؛ لأنه يتضمن شيئين:
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة/ باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2623) ؛ ومسلم في الهبات/ باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض (1622) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ(11/89)
الرجوع في الهبة، والرجوع فيما أخرجه لله، وما أخرجه لله لا يجوز فيه الرجوع، حتى البلد إذا هاجر الإنسان منها لله لا يجوز أن يرجع ويسكن فيها؛ لأنه تركها لله وما تُرك لله فإنه لا يرجع فيه.
وقوله: «إلا الأب» ، فله أن يرجع في هبته اللازمة، والدليل على ذلك حديث ورد في هذا: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده» (1) ، فإنه يرجع فيما وهبه لابنه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» (2) ، لكن الحديث الأول أعله بعضهم وضعَّفه، وقال: إن عموم حديث: «العائد في هبته كالكلب» ، مقدم على هذا الحديث الضعيف، وأن الأب ليس له أن يرجع فيما وهبه لابنه.
لكننا نقول في الجواب عن هذا: إن الاستثناء وإن كان ضعيفاً فله ما يعضده، وهو أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، فإذا كان له أن يتملك ما شاء فرجوعه فيما وهبه لابنه من باب أولى، ولكن يستثنى من ذلك ما لم يكن حيلة على التفضيل فلا يجوز، كأن
__________
(1) أخرجه أحمد (2/27) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجوع في الهبة (3539) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الرجوع في الهبة (1299) ؛ والنسائي في الهبة/ باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده (3690) ؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من أعطى ولده ثم رجع فيه (2377) عن ابن عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ، انظر: نصب الراية (4/124) .
(2) أخرجه ابن ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه البوصيري على شرط البخاري وصححه ابن حبان (410) إحسان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسَّن إسناده في الإرواء (3/325) .(11/90)
يعطي ولديه كل واحد سيارة، ثم عاد وأخذ من أحدهما سيارته، فهذا الرجوع لا يصح؛ لأنه يراد به تفضيل الولد الآخر.
وقوله: «في هبته اللازمة إلا الأب» يستفاد منه أنه لو أبرأ ابنه من دين فليس له الرجوع؛ لأن الإبراء ليس بهبة، بل هو إسقاط.
وقوله: «إلا الأب» يخرج به الجد، فليس له أن يرجع فيما وهب لابن ابنه، أو لابن بنته، ويخرج من ذلك الأم، فليس لها أن ترجع فيما وهبت لابنها.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟
قلنا: عموم «العائد في هبته كالكلب» وصيغة العموم لا يخرج منها إلا ما دل عليه الشرع، وإلا فهي عامة لجميع الأفراد، وهنا لا يصح القياس؛ لأن القياس مخالف للعموم، فالأصل أن المرأة إذا وهبت أبناءها أو بناتها، لا يحل لها أن ترجع.
وقوله: «إلا الأب» هل يحتاج أن نقول: إلا الأب الحر، أو نقول: إنه لا يمكن أن يهب إلا إذا كان حراً؟ نقول: لا يحتاج أن نقيد الأب بالحر؛ لأنه لا يهب إلا وهو حر.
وظاهر كلام المؤلف: أن الأب يرجع ولو كان كافراً فيما وهبه لابنه المسلم للعموم، فلو أن رجلاً غنياً كافراً وهب لابنه المسلم شيئاً فله أن يرجع؛ لأن الحديث عام.
وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَلاَ يَحْتَاجُهُ،.....
قوله: «وله أن يأخذ ويتملك من مال ولده» لكن لا بد من شرط وهو أن يكون الأب حراً، فنقول: «له» يعود على الأب لكن بقيد أن يكون حراً؛ لأن غير الحر لا يملك فكيف يتملك؟! ولأن(11/91)
غير الحر لو تملك من مال ابنه فإن ما تملكه يرجع إلى سيده.
وهل يشترط أن يكون موافقاً لابنه في الدِّين؟
إن نظرنا إلى إطلاق الحديث قلنا: لا يشترط، وعلى هذا فيجوز للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، وللأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر، هذا ظاهر الحديث.
وقيل: إنه لا يُمكَّن الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم؛ لأنه لا صلة بينهما، ولا توارث؛ ولأن الله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ؛ ولأننا لو مكنا الأب الكافر من الأخذ من مال ولده المسلم، لكان في ذلك إذلال للمسلم، وربما يقصد الأب الكافر أن يذل ابنه بالأخذ من ماله.
وعندي لا شك أنه ليس للأب الكافر أن يأخذ من مال ولده المسلم، أما أخذ الأب المسلم من مال ولده الكافر، فهنا قد نقول بعموم الحديث وأن له أن يأخذ؛ لأن أصل بقاء الكافر على الكفر ممنوع، فهو على دين غير مَرْضيٍّ عند الله، وتسليط المسلم على ماله له وجهة نظر، لا سيما إذا كان الابن من المحاربين، فإنه إذا كان من المحاربين فلا شك أن ماله حلال.
إذاً قوله: «له» أي: للأب، ونضيف وصفاً «الحر» ووصفاً آخر «الموافق في الدين» على رأي كثير من العلماء، أو على الأصح ألا يكون كافراً يأخذ من مال مسلم.
وقوله: «وله أن يأخذ ويتملك» الفرق بينهما: يأخذ على سبيل الاستعمال، ويتملك على سبيل الضم إلى ملكه، فله أن يأخذ سيارة الابن يسافر بها إلى مكة، إلى الرياض، إلى المدينة،(11/92)
إلى أي بلد وإن لم يتملكها، وله أن يتملك وإن لم يأخذ، فيأتي إلى كاتب العدل، مثلاً، ويقول: إني تملكت سيارة ابني فلان ويكتب كاتب العدل، لكن بشروط ستذكر.
وقوله: «من مال ولده» الذكور والإناث؛ لأن الولد إذا أطلق يشمل الذكور والإناث لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» (1) لكن بشروط.
قوله: «ما لا يضره» فإن كان يضر الولد فإنه ليس له أن يأخذ، مثل أن يأخذ منه غداءه وهو مضطر إليه، فهنا ليس له ذلك، أو يأخذ منه لحافه وهو مضطر إليه لدفع البرد، فإنه لا يُمكَّن؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ابدأ بنفسك» (2) ، ولا يمكن أن نسلط الأب على مال الولد مع أنه يضره.
قوله: «ولا يحتاجه» الحاجة أقل من الضرورة، فإنه ليس له أن يأخذ ما تتعلق به حاجة الابن، مثال ذلك: الابن عنده فرش في البيت ليست ضرورية، لكنه يحتاجها إذا جاءه ضيوف، أو عنده زيادة على قوت يومه وليلته لكنه يحتاجها، فليس للأب أن يتملك هذا؛ لأن هذا تتعلق به حاجة الابن، ومن ذلك سُرِّيَّة الابن إذا كان يحتاجها ولو كان عنده إماءٌ كثير؛ لأنها تتعلق بها نفسه.
إذاً يشترط:
أولاً: ألا يضر الابن.
__________
(1) سبق تخريجه ص (90) .
(2) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء بالنفقة على النفس (997) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.(11/93)
ثانياً: ألا يحتاجه.
ثالثاً: أن يكون الأب حراً.
رابعاً: ألا يكون الولد أعلى منه في الدِّين.
خامساً: ألا يأخذ لولد آخر؛ لأنه إذا حرم التفضيل من مال الوالد الخاص، فتحريمه بأخذه من مال الولد الآخر من باب أولى.
مسألة: هل للأب أن يأخذ من أحد أولاده ويعطي الثاني؟
الجواب: نعم إذا كان الآخرون فقراء والأب لا يستطيع أن ينفق عليهم فله ذلك، أما إذا كانوا أغنياء، أو هو يقدر أن ينفق عليهم فلا يجوز؛ لأن هذا يحدث الضغائن بين الأولاد.
فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ وَلَوْ فِيمَا وَهَبَهُ لَهُ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ بِقَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ وَقَبْضٍ مُعْتَبَرٍ لَمْ يَصِحَّ بَلْ بَعْدَهُ،........
قوله: «فإن تصرف» أي: الأب.
قوله: «في ماله» أي: في مال ابنه، فالضمير في «تصرف» يعود إلى الأب، والضمير المجرور في قوله: «ماله» يعود إلى الابن.
قوله: «ولو فيما وهبه له» يعني تصرف الأب في مال ابنه ولو فيما وهبه له، فإنه لا يصح تصرفه، وإنما نص على ما وهبه له؛ لئلا يقول قائل: إن تصرف الأب فيما وهبه لابنه دليل على الرجوع، فيقال: لا، الرجوع لا بد فيه من قول، وهذا الرجل تصرف بلا قول.
مثاله: وهب ابنه سيارة، ثم إنه بعد أن وهبها لابنه وقبضها، باع الأب السيارة، فإنه لا يملك ذلك؛ لأن السيارة لم تزل على ملك الابن، والأب لم يتملكها، ولم يرجع في هبته،(11/94)
فإذا أجرها فلا يصح التأجير؛ لأنه لم يتملكها.
إذاً يستطيع أن يبيعها أو يؤجرها بأن يرجع في الهبة، يقول: إني رجعت فيما وهبته لابني، حينئذٍ ترجع إلى ملك الأب ويتصرف فيها.
وقوله: «ولو فيما وهبه له» هذه إشارة خلاف، وهو أن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ يقول: إذا تصرف فيما وهبه لابنه، فإن تصرفه يدل على الرجوع، وقاسوا ذلك على رجل وكَّلك في بيع شيء، ثم باعه هو فإنه يصح ويكون بيعه له رجوعاً، فيقال: الفرق واضح؛ لأن الموكل إذا تصرف فيما وكَّلَ فيه فقد تصرف في ملكه، لكن الأب إذا تصرف فيما وهبه لابنه دون أن يرجع، فقد تصرف في ملك غيره، إلا إذا قصد أنه راجع في هبته؛ لأنه لما رجع في هبته دخلت في ملكه، فباعها بعد دخولها في ملكه.
قوله: «ببيع» البيع معروف، مثاله: لولده سيارة فباعها الأب بدون توكيل الابن له فالبيع باطل.
قوله: «أو عتق» الابن له عبد، فقال الأب للعبد: أنت عتيق لوجه الله، فلا يصح العتق؛ لأنه في ملك الابن ولم يتملكه.
قوله: «أو إبراء» يعني من الدَّين، فمثلاً لابنه دين على شخص، فقال الأب للمدين: إني أبرأتك من دين ابني عليك، فإنه لا يبرأ؛ لأن الدين لم يملكه الابن فضلاً عن الأب، فالدين في ذمة المدين، وهذا واضح، هذا أشد من العين التي باعها الأب أو أعتقها.
وقال بعض العلماء: إن تصرف الوالد في مال ولده ببيع أو عتق(11/95)
أو إبراء صحيح؛ لأنه إذا كان له أن يتملك هذه الأشياء فتصرفه فيها من باب أولى، ويكون الثمن في البيع للابن، أما العتق والإبراء فالأجر للابن؛ لأن هذا أقل مما لو تملكه أصلاً، والظاهر أن الحديث يدل على صحة تصرف الأب في مال ابنه إذا لم يضره أو يحتاجه، وأما الإبراء فليس له ذلك؛ لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» (1) ، لا يدخل فيه الدَّين؛ لأن الدَّين لا يكون مالاً للابن حتى يقبضه.
قوله: «أو أراد أخذه قبل رجوعه» ، «أخذه» أي: أخذ ما وهبه، والضمير هنا فيه ركاكة؛ لأنك لو قرأت المتن: «أو أراد أخذه» أي أخذ ماله قبل رجوعه، ولكن المراد: «أخذه» أي أخذ ما وهبه قبل رجوعه، يعني وهب ابنه شيئاً ثم أراد أن يضمه إلى ملكه قبل أن يرجع، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يصرح بالرجوع، فالرجوع لا بد فيه من اللفظ، بأن يقول: رجعت فيما وهبته لك يا بني، أما أن يأخذه دون أن يصرح بالرجوع فلا يصح.
قوله: «أو تملكه» ، يعني يأخذ ما وهبه بنية التملك لا بنية الرجوع، فله هذا، والتملك يقول المؤلف: له طريقان: القول، أو النية مع القبض.
قوله: «بقول» بأن يقول: إني قد تملكت مال ابني، سيارته أو بيته أو أشياء لا يحتاج إليها ولا تضره.
قوله: «أو نية وقبض معتبر لم يصح» ، يعني يقبض المال
__________
(1) سبق تخريجه ص (90) .(11/96)
من ابنه بنية التملك، فله حينئذٍ أن يتصرف فيه؛ لأنه لما قبضه بنية التملك صار ملكاً له.
وقوله: «وقبض معتبر» بأن يكون بإذن الابن، وعلى الوصف السابق في كتاب البيع، فما ينقل يكون بنقله، وما يوزن بوزنه، وما يكال بكيله، وما يذرع بذرعه، وما يُعَدُّ بِعَدِّهِ، وما لا يتصور فيه ذلك يكون بتخليته، كالأراضي مثلاً، فالأراضي لا يمكن أن تقبض بما ذكر، فيكون بالتخلية بمعنى أن يرفع يده عنها.
قوله: «بل بعده» ، أي: بل يصح تصرفه بالبيع أو العتق أو الإبراء بعد الرجوع في الهبة، أو بعد التملك في غير الهبة.
وَلَيْسَ لِلْوَلَدِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ إِلاَّ بِنَفَقَتِهِ الوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لَهُ مُطَالبَتَهُ بِهَا وَحَبْسَهُ عَلَيْهَا.
قوله: «وليس للولد مطالبة أبيه بدين ونحوه» ، يعني لا يملك الولد أن يطالب والده بدين ونحوه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم» (1) ، ولأنه إذا جاز أن يتملك من ماله فإنه لا يجوز للولد أن يطالبه بدَينه.
مثال ذلك: استقرض الأب من ابنه عشرة آلاف ريال، فليس للولد أن يقول: يا أبتِ أعطني الدَّين، وليس له أن يطالبه، ولكن له أن يُعَرِّض ويقول: يا أبت أنا محتاج، وأنت قد أغناك الله
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/41) ؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده (1358) ؛ والنسائي في البيوع/ باب الحث على الكسب (7/240) وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2290) ؛ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (4261) . وانظر: التلخيص (1665) ؛ والإرواء (1626) .(11/97)
وما أشبه ذلك، أما أن يطالبه ويرفعه إلى القاضي فلا، ولكن إذا مات الأب فله أن يطالب بدينه في تركته.
وقوله: «وليس للولد مطالبة أبيه» مفهوم كلام المؤلف يدل على أن له أن يطالب أمه بدينه، وكذا جده من قبل أبيه أو أمه؛ لأن هؤلاء ليس لهم أن يتملكوا من مال ولدهم، أو ولد ابنهم فله أن يطالبهم، هذا مفهوم كلامه، لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ كلامهم له منطوق ومفهوم.
ولكن الصحيح أنه لا يملك أن يطالب أمه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «أمك» ، قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك» (1) ، وهذا صريح في أنه إذا كان لا يملك مطالبة أبيه فعدم مطالبته أمه من باب أولى، وهل من البر أن يقود أمه عند رُكَبِ القضاة؟! أبداً ليس من البر، هذا مستهجن شرعاً وعادة.
فالصواب: أنه لا يملك مطالبة أمه، وليست المسألة مبنية على التملك، فالتملك شيء والمطالبة بالدين شيء آخر.
وأصل مسألة الأب خلافية، فبعض أهل العلم يقول: له أن يطالب أباه بالدين.
وقوله: «بدين ونحوه» كأرش الجناية مثلاً، فلو أن أباه جنى عليه جناية توجب المال ـ ولا نقول: توجب القود؛ لأنه على
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب من أحق الناس بحسن الصحبة (5971) ؛ ومسلم في الأدب/ باب بر الوالدين وأيهما أحق به (2548) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/98)
المذهب ليس بين الأب وابنه قود ـ مثل أن يشجه في رأسه حتى يظهر العظم، وهذه الشجة التي توضح العظم تسمى موضحة، فيها خمس من الإبل، فليس له أن يطالب أباه بهذه الدية لدخولها تحت قوله: «ونحوه» ، كذلك لو أن الأب صدم سيارة الابن فإنه يلزمه أرشها، ويكون ديناً عليه، فليس له أن يطالب أباه بهذا الدين.
وفهم من قوله: «بدين» أن له أن يطالبه بالعين، فلو استعار أبوه منه كتاباً: كفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال الابن: أعطني الكتاب، أنا محتاج إليه، فقال: لا، ولم ينوِ التملك، فله أن يطالبه؛ لأن هذا ليس بدين ولكنه عين، والمؤلف يقول: «بدين» فله أن يطالب أباه بتسليم العين التي أعارها إياه عند القاضي؛ لأن هذا عين ماله.
لكن للأب أن يقول: أنا الآن تملكته، فإذا قال هذا، نظرنا إلى الشروط، فإذا قال الابن: أنا أحتاجه للقراءة أو المطالعة، امتنع التملك؛ لأن من شرط تملك الأب لمال ابنه ألا تتعلق به حاجته أو ضرورته، فحينئذٍ يمتنع التملك فله المطالبة.
وهذه مسألة يجب أن ننتبه لها، أن الذي يقوله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بقطع النظر عن مسألة المروءة أو التربية، أو حسن المعاملة، فهم يذكرون أحكاماً عامة، لكن هل من المروءة أن الإنسان يطالب أباه بعين ماله؟ في ظني لا، لكن قد يكون بين الأب والابن مشاحنات وعداوة وبغضاء، كما يوجد كثيراً ولا يهمه أن يطالب أباه، ولكن لا أعتقد أن المروءة تقضي بجواز ذلك،(11/99)
فأي إنسان يقال: إنه طالب أباه عند القاضي بقلم ـ مثلاً ـ بخمسين ريالاً فكل الناس سيعيبون هذا، وقد قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح» (1) .
قوله: «إلا بنفقته الواجبة عليه، فإن له مطالبته بها وحبسه عليها» ، أي إذا امتنع الأب من النفقة الواجبة عليه فللابن أن يطالبه بها؛ لأنها ضرورة لحفظ حياة الابن، ولأن سببها معلوم ظاهر بخلاف الدَّين، ولأن وجوب النفقة ثابت بأصل الشرع، فهو كالزكاة يجبر الإنسان على بذلها لمستحقها، فإذا جاء الابن الفقير وهو عاجز عن التكسب وليس عنده مال، وقال لأبيه: أنفق عليَّ، فقال: لا أنفق، فله أن يطالب أباه بالنفقة، وإذا امتنع فللحاكم أن يحكم بحبسه حتى يسلم النفقة.
وأعتقد أن هذا العمل من الابن ـ أعني مطالبة أبيه بالنفقة ـ لا يخالف المروءة؛ لأن الذي خرم المروءة هو الأب، لِمَ لم ينفق؟! فإذا طالب أباه بالنفقة فله ذلك وله حبسه عليها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/379) ، وقال الحافظ في الدراية (2/187) : «إسناده حسن» .(11/100)
فَصْلٌ
مَنْ مَرَضُهُ غَيْرُ مَخُوفٍ كَوَجَعِ ضِرْسٍ وَعَيْنٍ وَصُدَاعٍ يَسِيرٍ،.........
ما ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ الهبة وأحكاماً كثيرة تتعلق بها وهي في حال الصحة، ذكر الهبة في حال المرض، فهل الهبة في حال المرض كالهبة في حال الصحة؟ في ذلك تفصيل سيأتي في كلام المؤلف.
واعلم أن الأمراض ثلاثة أقسام: مرض غير مخوف، مرض مخوف، مرض ممتد، فالمرض المخوف هو الذي إذا مات به الإنسان لا يعد نادراً، أي: لا يستغرب أن يموت به الإنسان، وقيل: ما يغلب على الظن موته به، وغير المخوف هو الذي لو مات به الإنسان لكان نادراً، والأمراض الممتدة هي التي تطول مدتها مثل السِّل والجذام.
قوله: «مَنْ مرضُه غيرُ مخوفٍ» ، هذا هو القسم الأول من الأمراض، «مَنْ» اسم موصول مبتدأ «مرضُه» مبتدأ، ولا نقول: مبتدأ ثانٍ، لأن صلة الموصول جملة مستقلة «غير مخوف» خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
قوله: «كوجع ضرسٍ» ، فوجع الضرس لا شك أنه يؤلم، وربما يُسْهِرُ الإنسان ليله لكنه غير مخوف، يعني لو أن الإنسان مات من وجع ضرسه لقال الناس: هذا مات في صحته؛ لأنه لا ينسب الموت إلى مثل هذا المرض، وإلا فإن وجع الضرس مؤلم بلا شك.
قوله: «وعين» ، أيضاً وجع العين غير مخوف، إلا أنَّ هناك نوعاً من الأمراض يكون في أصل الضرس، ويكون ـ أيضاً ـ في(11/101)
حدقة العين يسمى عندنا (الحبة) ، فهذه مخوفة لا شك، فإذا مات الإنسان منها لم يكن ذلك غريباً، إنما وجع العين العادي ليس مخوفاً.
قوله: «وصداع يسير» الصداع وجع الرأس، لكن اشترط المؤلف أن يكون يسيراً، فأما الصداع الشديد فهو من الأمراض المخوفة؛ لأن نسبة الموت إليه لا تستغرب.
فَتَصَرُّفُهُ لاَزِمٌ كَالصَّحِيحِ وَلَوْ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَخُوفاً كَبِرْسَامٍ وَذَاتِ الجَنْبِ وَوَجَعِ قَلْبٍ وَدَوَامِ قِيَامٍ وَرُعَافٍ وَأَوَّلِ فَالِجٍ وآخِرِ سِلٍّ والحُمَّى المُطْبِقَةِ والرِّبْعِ،......
قوله: «فتصرفه لازم كالصحيح» ، أي: من كان مصاباً بهذا المرض فتصرفه لازم كالصحيح، أي: كمن ليس به مرض.
مثال ذلك: رجل أصابه وجع في ضرسه فأوقف جميع ماله، فالتصرف صحيح، ولو وهب جميع ماله فالتصرف صحيح؛ لأن المرض غير مخوف فهو كالصحيح، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر» (1) ، الشاهد في قوله: «تأمل البقاء» ، والإنسان في هذه الأمراض اليسيرة يأمل البقاء.
وقوله: «فتصرفه لازم» ، قد يشكل على بعض الطلبة كيف جاءت الفاء في الخبر؟ فنقول في إزالة هذا الإشكال: أن «مَنْ» التي هي المبتدأ اسم موصول، والاسم الموصول يشبه اسم الشرط في العموم، فلذلك وقعت الفاء في خبره؛ لأن قوله: «فتصرفه لازم» هذه الجملة خبر المبتدأ، ومنه المثال المشهور:
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فضل صدقة الشحيح الصحيح (1419) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الشحيح (1032) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وعن البخاري «تأمل الغنى» بدل «تأمل البقاء» .(11/102)
الذي يأتيني فله درهم، والأصل: الذي يأتيني له درهم، لكن لما كان الاسم الموصول مشبهاً لاسم الشرط في العموم، جاز دخول الفاء في خبره.
قوله: «ولو مات منه» أي: فإنه لا يضره.
قوله: «وإن كان» الضمير يعود على المرض.
قوله: «مخوفاً» هذا هو القسم الثاني من الأمراض، وهو المخوف، وهو الذي يصح نسبة الموت إليه، فعدَّ المؤلف اثني عشر نوعاً منه فقال:
«كبرسام» وهو وجع يكون في الدماغ ـ نسأل الله العافية ـ يختل به العقل، فإذا أصاب الإنسان صار مرضه مخوفاً؛ لأنه لو مات به لم يستغرب، ولا يقول الناس: هذا مات فجأة.
قوله: «وذات الجنب» وهو وجع في الجنب في الضلوع، يقولون: إن سببه أن الرئة تلصق في الضلوع، ولصوقها هذا يشل حركتها، فلا يحصل للقلب كمال دفع الدم وغير ذلك من أعماله، فهذا من الأمراض المخوفة.
وكان هذا الداء كثيراً جداً فيما سبق وقد عشنا ذلك، لا سيما في استقبال الشتاء، ولكنه ـ سبحان الله ـ يُشْفَى بإذن الله ـ عزّ وجل ـ بالكي، وهو أحسن علاج له، حتى إن بعض المرضى يغمى عليه، ويبقى الأيام والليالي وقد أغمي عليه، ثم يأتي الطبيب العربي، فيقص أثر الألم في الضلوع ثم يَسِم محل الألم بوَسْمٍ ثم يكويه، فإذا كواه ـ سبحان الله ـ لا يمضي ساعة(11/103)
واحدة إلا وقد تنفس المريض، ولذلك لا يوجد علاج فيما سبق لذات الجنب إلا الكي.
وذات الجنب تؤدي إلى الهلاك لا شك، ومن مات بذات الجنب لم يُعَدَّ مات بشيء غريب.
قوله: «ووجع قلب» أيضاً من الأمراض المخوفة؛ لأن القلب إذا أصابه الألم لم يستطع أن يضخ الدم أو ينقي الدم فيهلك البدن؛ لأن القلب بإذن الله مصفاة ـ سبحان الذي خلقه ـ يرد إليه الدم مستعملاً وفي نبضة واحدة يعود نقياً، فيدخل من عرق ويخرج من عرق آخر في لحظة، وهذا معنى النبضة، ثم إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أودعه قوة إذا احتاج الإنسان إليها وجدت، وإن لم يحتج فهو طبيعي، ولذلك إذا حملت شيئاً شاقاً أو سعيت بشدة تجد نبضات القلب تزيد؛ لأنه يحتاج إلى ضخ بسرعة.
فإذا وجع القلب فهو خطر على الإنسان لا شك، وأوجاع القلب أنواع متنوعة يعرفها الأطباء، لكن منها ما هو قوي ومنها ما هو دون ذلك.
قوله: «ودوام قيام» القيام هو الإسهال، فإذا كان دائماً فلا شك أنه مخوف؛ لأن الأمعاء مع هذا الإسهال لا يبقى فيها شيء يمتص الجسم منه غذاءً، فيهلك الإنسان، أما القيام اليسير كيوم أو يومين، فهذا لا يضر ولا يعد مرضاً مخوفاً، لكن إذا دام مع الإنسان فآخر مآله الموت.
قوله: «ورعاف» وهو خروج الدم من الأنف، هذا ـ أيضاً ـ إذا كان يسيراً فإنه ليس مرضاً، وإن كان دائماً فهو مرض؛ لأنه(11/104)
إذا دام فإن الدم ينزف، ومعلوم أن البدن لا يقوم إلا بالدم؛ لأن أصل البدن دم، فأصله عَلَقة، فلا يقوم إلا بذلك، فمع دوام الرعاف يعتبر المرض مرضاً مخوفاً.
قوله: «وأول فالج» الفالج هو خدورة البدن وأنواعه متعددة، ويسمى في عرف المتأخرين «الجلطة أو الشلل» ، لكن أول الفالج خطر؛ لأن هذه الخدورة قد تسري إلى البدن بسرعة فتقضي عليه، أما إذا كان في آخر فالج فلا، إلا أن يقطعه بفراش كما سيأتي.
قوله: «وآخر سِل» الخطر في السِّل في آخره؛ لأن أول السل ربما يشفى منه المريض إما بحِمية أو بمعالجة يسيرة، لكن آخره خطر، فهو مرض مخوف، لكنه من الأمراض التي يسَّر الله للناس الحصول على دوائها، فأصبح في زماننا ليس بمخوف.
قوله: «والحمى المطبقة» يعني الدائمة.
قوله: «والرِّبع» التي تأتي في اليوم الرابع تتكرر عليه، كل يوم رابع تأتيه الحمى، والحمى هي السخونة وهي معروفة، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الحمى من فيح جهنم، وأنها تُطفأ بالماء البارد (1) ، وهذا الطب اليسير السهل قد علم من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، والأطباء الآن يرجعون إليه فيصفون هذا الدواء لمن أصيب بالحمى، حتى إنهم يجعلون بعض
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب/ باب الحمى من فيح جهنم (5725) ؛ ومسلم في الطب/ باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (2210) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(11/105)
المرضى أمام المكيف، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الحمى معناها خروج الحرارة من داخل البدن إلى ظاهره، فيبقى البدن من الداخل بارداً، وإذا عدمت الحرارة اختل التوازن بلا شك؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل برودة وحرارة، ورطوبة ويبوسة يقوم بها البدن، فإذا غلب أحدها على الآخر اختلت طبيعة البدن، فإذا جاء البرد، انتقلت الحرارة من الظاهر إلى الباطن فيعتدل البدن.
وَمَا قَالَ طَبِيبانِ مُسْلِمَانِ عَدْلانِ: إِنَّهُ مَخُوفٌ. ...........
قوله: «وما قال طبيبان مسلمان عدلان: إنه مخوف» فالشرط الأول: قوله: «طبيبان» ، فغير الطبيب لا يعتبر قوله، فلو أن عامياً قال لمريض من المرضى: إن مرضك هذا مخوف، وهو غير طبيب ولا يعرف الطب فإنه لا يعتبر قوله، كما لو أفتاك الجاهل بأن هذه الصلاة صحيحة أو غير صحيحة، أو هذا الوضوء صحيح أو غير صحيح.
فإذا كان غير طبيب لكنه مقلد لطبيب، أي: أنه قد سمع من طبيب ماهر أن هذا المرض مخوف، فإنه على القول الراجح يؤخذ بقوله؛ لأنه أخبر عن طبيب، كما أنه في المسائل الشرعية لو أخبر شخص عن عالم بأنه قال: هذا حرام، فإنه يقبل قوله إذا كان مقبول الخبر.
الشرط الثاني: «مسلمان» وضدهما الكافران، ولو كانا من أحذق الأطباء فإنه لا عبرة بقولهما، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فإذا كان هذا خبر الفاسق فخبر الكافر مردود لا يقبل.(11/106)
الشرط الثالث: «عدلان» والعدل هو المستقيم في دينه ومروءته، فالاستقامة في الدين أن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فالمتهاون بصلاة الجماعة مثلاً ـ والجماعة واجبة عليه ـ ليس بعدل، وحالق اللحية ـ مثلاً ـ ليس بعدل إذا استمر على ذلك.
والمروءة أن لا يفعل أو يقول ما يخرم المروءة، وينزل قيمته عند الناس، وإن كان الفعل في نفسه ليس محرماً، وقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ من الأمثلة:
الرجل المتمسخر، يعني الذي يفعل التمثيليات سخرية وهزءاً، فإن هذا خارم للمروءة.
وذكروا ـ أيضاً ـ الذي يأكل في السوق فليس عنده مروءة، ومعلوم أن هذا المثال في الوقت الحاضر لا ينطبق على ذلك؛ لأن الناس الآن اعتادوا أن يأكلوا في السوق، ولا أعني الولائم، لكن لو وُجِدَ مطعم في السوق فإن الإنسان يأكل فيه.
وكنا نستنكر أن يشرب الشاي في دكانه، ونرى هذا خارماً للمروءة، والآن ليس بخارم للمروءة، فالناس يشربون الشاي والقهوة في الدكاكين.
قالوا: ومما يخرم المروءة أن يمد الإنسان رجله بين الجالسين؛ لأنه من العادة أن الإنسان يوقر جلساءه، وأن لا يمد رجليه بينهم، ولكن هذا في الحقيقة يختلف، فإذا كان الإنسان معذوراً وعرف الجالسون أنه معذور، فإن ذلك لا يعد خارماً للمروءة؛ لأنهم يعذرونه، أو كان الرجل استأذن منهم وقال: ائذنوا لي، ففعل فليس خارماً للمروءة، أو كان الإنسان بين أصحابه وقرنائه، ففعل(11/107)
ومد رجله بينهم وهم جلوس، فهذا لا يعد خارماً للمروءة، ومن الأمثال العامية «عند الأصحاب ترفع الكلفة في الآداب» .
على كل حال الضابط في المروءة: أن لا يفعل ما ينتقده الناس فيه، لا من قول ولا من فعل.
فالشروط أربعة:
العلم بالطب، الإسلام، العدالة، عدد محصور باثنين.
وذلك لأن هذا من باب الشهادة، فلا بد فيها من الإسلام والعدالة والتعدد، فإذا اختل شرط من ذلك فإنه لا عبرة بقولهم، مع أنهم قالوا في صفة الصلاة: يجوز للإنسان أن يصلي قاعداً، إذا قال الطبيب المسلم الواحد: إن القيام يؤثر عليك، لكنهم يفرقون بين هذا وذاك، بأن ذاك خبر ديني يتعلق بأمور الدين، وهذا يتعلق بأمور المال، هذا ما قيده به المؤلف.
والصواب في هذه المسألة: أنه إذا قال طبيب ماهر: إن هذا مرض مخوف، قبل قوله، سواء كان مسلماً أو كافراً، ولو أننا مشينا على ما قال المؤلف لم نثق في أي طبيب غير مسلم، مع أننا أحياناً نثق بالطبيب غير المسلم أكثر مما نثق بالطبيب المسلم، إذا كان الأول أشد حذقاً من الثاني.
ثم إن صناعة الطب يبعد الغدر فيها من الكافر؛ لسببين:
الأول: أن كل إنسان يريد أن تنجح صناعته، فالطبيب ولو كان غير مسلم يريد أن تنجح صناعته، وأن يكون مصيباً في العلاج وفي الجراحة.
الثاني: أن من الأطباء من يكون داعية لدينه وهو كافر،(11/108)
وإذا كان داعية لدينه فلا يمكن أن يغرر بالمسلم؛ لأنه يريد أن يمدحه الناس ويحبوه ويحترموه؛ لأنه ناصح، فالصواب في هذه المسألة أن المعتبر حذق الطبيب، والثقة بقوله، والأمانة، ولو كان غير مسلم، والدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ بقول الكافر في الأمور المادية التي مستندها التجارب، وذلك حينما استأجر رجلاً مشركاً من بني الديل اسمه عبد الله بن أريقط ليدله على الطريق في سفره في الهجرة (1) ، فاستأجره النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو كافر، وأعطاه بعيره وبعير أبي بكر؛ ليأتي بهما بعد ثلاث ليال إلى غار ثور، فهذا ائتمان عظيم على المال وعلى النفس.
وحتى العدالة، فلو أننا اشترطناها في أخبار الأطباء ما عملنا بقول طبيب واحد إلا أن يشاء الله؛ لأن أكثر الأطباء لا يتصفون بالعدالة، فأكثرهم لا يصلي مع الجماعة ويدخن ويحلق لحيته، فلو اشترطنا العدالة لأهدرنا قول أكثر الأطباء.
وكذلك العدد، فالمؤلف اشترط أن يكون اثنين فأكثر، ولكن الصحيح أن الواحد يكفي؛ لأن هذا من باب الخبر المحض، ومن باب التكسب بالصنعة، فخبر الواحد كافٍ في ذلك.
فإذا قال طبيب حاذق: هذا المرض مخوف يتوقع منه الموت، فإننا نعمل بقوله، ونقول: إن المريض بهذا المرض عطاياه من الثلث.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، ولم يصرح البخاري باسم عبد الله بن أريقط، إنما ورد اسمه في كتب السيرة كما قال الحافظ في الفتح.(11/109)
وَمَنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدِهِ، وَمَنْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ، لاَ يَلْزَمُ تَبَرُّعُهُ لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ وَلاَ بِمَا فَوْقَ الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الوَرَثَةِ لَهَا إِنْ مَاتَ مِنْهُ، وَإِنْ عُوفِيَ فَكَصَحِيحٍ.
قوله: «ومن وقع الطاعون ببلده» ، أي: فهو كالمريض مرضاً مخوفاً؛ لأنه يتوقع الموت بين لحظة وأخرى، فإن الطاعون ـ أجارنا الله والمسلمين منه ـ إذا وقع في أرض انتشر بسرعة، لكن مع ذلك قد ينجو منه من شاء الله نجاته، إنما الأصل فيه أنه ينتشر، فكل إنسان في البلد التي وقع فيها الطاعون يتوقع أن يصاب به بين عشية وضحاها، فلا فرق بينه وبين من أصابه المرض، في اليأس من الحياة، فعطاياه في حكم عطايا المريض مرضاً مخوفاً.
والطاعون قيل: إنه نوع معين من المرض يؤدي إلى الهلاك، وقيل: إن الطاعون كل مرض فتاك منتشر، مثل الكوليرا، فالمعروف أنها إذا وقعت في أرض فإنها تنتشر بسرعة، والحمى الشوكية، وغيرها من الأمراض التي يعرفها الأطباء ونجهل كثيراً منها، فهذه الأمراض التي تنتشر بسرعة وتؤدي إلى الهلاك يصح أن نقول: إنها طاعون حقيقة أو حكماً، ولكن الظاهر من السنة خلاف ذلك؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عَدَّ الشهداء فقال: «المطعون والمبطون» (1) ، وهذا يدل على أن من أصيب بداء البطن غير من أصيب بالطاعون، والمبطون هو الذي انطلق بطنه، فالمهم أن عطايا الصحيح الذي وقع الطاعون في بلده من الثلث.
وبالنسبة للطاعون هل يجوز للإنسان أن يخرج من البلد إذا وقع فيه؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخرجوا منه ـ أي من البلد الذي وقع
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب الشهادة سبع سوى القتل (2829) ؛ ومسلم في الإمارة/ باب بيان الشهداء (1914) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/110)
فيه ـ فراراً منه» (1) ، فقيد النبي صلّى الله عليه وسلّم منع الخروج بما إذا كان فراراً، أما إذا كان الإنسان أتى إلى هذا البلد لغرض أو لتجارة وانتهت، وأراد أن يرجع إلى بلده فلا نقول: هذا حرام عليك، بل نقول: لك أن تذهب.
بقي علينا أن نقول: هل نأذن له أن يذهب إذا خيف أن الوباء أصابه؟ الجواب: لا نأذن له بل نمنعه، حتى إن بعض الأطباء ظن إن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها» ؛ أن هذا من باب الحَجْر الصحي، وقال: إن مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن لا يخرج الناس من هذه الأرض الموبوءة كحَجْرٍ صحي، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم راعى ما هو أعم وأهم وهو الفرار من قدر الله، قال: «لا تخرجوا منها فراراً منه» .
وإذا سمع الإنسان أنه وقع في أرض، فهل يجوز أن يقدم عليها؟ لا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها» ؛ لأن هذا من باب الإلقاء بالتهلكة، ومن باب قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، كيف تقدم على بلد وقع فيه الطاعون؟! ما مثلك إلا مثل من أقدم على النار ليقتحم فيها.
فإن قال: أليس يمكن أن يَسْلَمَ الإنسان وهو في بلد الطاعون؟ قلنا: بلى، لكن الأصل الإصابة فلا يجوز أن تقدم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب/ باب ما يذكر في الطاعون (5729) ؛ ومسلم في الطب/ باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219) عن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ.(11/111)
وقد ارتحل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، وفي أثناء الطريق قيل له: إنه قد وقع فيها الطاعون، وهو طاعون عظيم مات فيه خلق كثير، وعمر ـ رضي الله عنه ـ ليس عنده أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، لكنه عنده عقل، فكأنه قال: كيف نقدم على أرض فيها هذا الوباء المعدي الفتاك؟! وكان من عادته ـ رضي الله عنه ـ أنه إذا أشكل عليه الأمر يجمع الصحابة ويستشيرهم، فجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ واختلفوا، ثم جمع المهاجرين الأولين ثم الأنصار فاختلفوا عليه جميعاً، ثم دعا من كان عنده من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، وكان الرأي الذي استقروا عليه أن يرجعوا، فقرر الرجوع بمشورة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، وأمر بالارتحال، فجاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنه أمين هذه الأمة» (1) ، وقال فيه عمر ـ رضي الله عنه ـ حين طُعِن: لو كان أبو عبيدة حياً لجعلته خليفة (2) ؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو أمين هذه الأمة» ، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تقرر الرحيل، أفراراً من قدر الله؟! خفي على أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ أن القدر لم يقع حتى نفر منه، لكن لو أقدموا لكانوا هم الذين جاؤوا للقدر، فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! يعني أتمنى أن
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي/ باب قصة أهل نجران (4380) عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ، ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح (2419) ـ رضي الله عنه ـ عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه أحمد (1/18) والحاكم (3/268) .(11/112)
غيرك قالها؛ لأن منزلة أبي عبيدة عند أمير المؤمنين عمر منزلة عالية، نحن نفر من قدر الله إلى قدر الله، من قدر الله الذي نلقي بأيدينا للتهلكة لو قدمنا عليه، إلى قدر الله الذي نسلم به، فهم إن مضوا إلى الشام فبقدر الله، وإن رجعوا فبقدر الله.
ثم ضرب له مثلاً: أن لو كان له إبل في وادٍ له عدوتان، واحدة مخصبة والأخرى مجدبة، فقال له: أما تذهب إلى المخصبة؟ قال: بلى، قال: إذاً إن ذهبت للمخصبة فبقدر الله، وإلى المجدبة فبقدر الله، لكن لن تختار المجدبة، إذاً نحن كذلك لا نختار القدوم على أرض الطاعون.
فرجعوا ـ والحمد لله ـ ووفقوا للصواب، وفي أثناء ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وكان قد تغيب في حاجة له، فبلغه الخبر وجاء إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه» ، فقال الحمد لله (1) ، فكل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما سمعوا هذا الحديث، إلا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ، لكن ـ الحمد لله ـ الشريعة محفوظة، لا يمكن أن تخفى، كل ما صدر من الرسول صلّى الله عليه وسلّم من شريعة الله فهو محفوظ، كما قال الله عزّ وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر] ، إذاً إذا وقع الطاعون في أرض فإننا منهيون أن نخرج منها فراراً منه، وإذا وقع في أرض فإننا منهيون أن نقدم على هذه الأرض.
__________
(1) سبق تخريجه ص (111) .(11/113)
وكانت الطواعين تكثر في الجزيرة قبل زمن، لكن ـ الحمد لله ـ الآن أنعم الله علينا نعماً كثيرة، نسأل الله أن لا يجعلها استدراجاً.
ويحكون لنا أنه قد يقدم للصلاة ثمان جنائز، وكانت بلدنا من قبل قرية صغيرة ليس فيها أحد، لكن كثر الأموات حتى إنه إذا دخل الطاعون البيت أفنى العائلة كلها، ويبقى البيت موصد الأبواب على غير أحد، وقالوا: إن قاضي البلد وهو صالح بن عثمان القاضي ـ رحمه الله ـ لما خرجوا يوماً من الأيام من المسجد الجامع بثمان جنائز، وكان الناس ليس عندهم سيارات يحملون الجنائز، فأرعب الناس هذا، ثمان جنائز يتبع بعضها بعضاً!! لا شك أنه يرعب، فنهاهم، وقال: لا يأتِ أحد بجنازته إلى الجامع إلا أهل الحي، والبقية كل حي يصلي على ميته في مسجده، ويخرج به إلى المقبرة خوفاً من الرعب؛ لأنه قد تكون كل جنازة من بيت، وربما يكون بكاء ونحيب من المشهد أو من المصيبة فيمن أصيب بقريبه، فكان من حكمته ـ رحمه الله ـ أن منع أن يؤتى بجنازة إلى الجامع إلا من كان في حي الجامع، فالمهم أن الأوبئة ـ والحمد لله ـ خفَّت الآن، ونسأل الله أن لا يجعله استدراجاً.
قوله: «ومن أخذها الطلق» «مَنْ» اسم موصول، أي: والتي أخذها الطلق، يعني بدأت تطلق من أجل الولادة، والطلق مؤلم وصعب، وسببه انتقال الولد من حال إلى أخرى؛ لأن الولد في الرحم وجهه إلى ظهر أمه وظهره إلى بطنها، فإذا أراد الله(11/114)
ـ عزّ وجل ـ أن يخرج انقلب حتى يكون رأسه الذي يخرج أولاً، وهذا الانقلاب ليس بهين، فالمكان ضيق والرحم كيس من العصب والعروق، فلا شك أنه سيكون ألم شديد، ولولا أن الله ـ تعالى ـ أحاط الولد بما أحاطه به من المشيمة، التي تسهل انقلابه لكان الأمر صعباً جداً، وقال أهل العلم: ينبغي أن يدخل في القبر كما خرج من بطن أمه، بمعنى أننا ننزله من عند رأسه، ليكون هذا الرأس الذي شهد الدنيا أولاً، هو الذي يذهب عن الدنيا أولاً، على كل حال المرأة إذا أخذها الطلق، ثم أعطت عطية في حال الطلق فإنه يكون من الثلث؛ لأنها على خطر، فحكمها حكم المريض مرضاً مخوفاً، مع أن الأمر ـ ولله النعمة والفضل ـ أن السلامة أكثر بكثير من الهلاك، لكن العلماء يقولون: إن هذا يصح أن يكون سبباً للموت، ولا يستغرب لو ماتت في طلقها، فهو مخوف حتى تنجو.
قوله: «لا يلزمُ تبرعُهُ لوارث بشيء» كلمة «لا يلزم» جواب الشرط في قوله: «وإن كان مخوفاً» ، وعلى هذا فيجوز فيها الرفع والجزم، لا يلزمُ، ولا يلزمْ؛ لأنه إذا كان فعل الشرط ماضياً فإنه يجوز رفع المضارع إذا كان جواباً، بخلاف ما إذا كان فعل الشرط مضارعاً فإنه يضعف أن يكون الجواب مرفوعاً، يقول ابن مالك في الألفية:
وبَعْدَ ماضٍ رَفْعُك الجَزَا حَسَنْ
وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضارِعٍ وَهَنْ
وقوله: «لا يلزم تبرعه لوارث بشيء» يعني لو تبرع لوارثه بشيء فهذا غير لازم، بمعنى أن للورثة أن يعترضوا على هذا؛(11/115)
لأنه في هذه الحال قد انعقد سبب ميراث الورثة منه، فكان لهم حق في المال، فإذا أعطي الوارث فهذا من تعدي حدود الله ـ عزّ وجل ـ؛ لأن الله تعالى قسم مال الميت بين الورثة قسمة عدل بلا شك، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (1) .
ولكن هل يجوز أن يعطي الوارث؟ الجواب: لا يجوز، ولهذا لم تلزم هذه العطية، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ، حتى وإن كان هذا الوارث ليس من الأولاد، فلو فرضنا أن رجلاً له إخوة وليس له أولاد، ولما أصيب بالمرض المخوف أعطى بعض الإخوة نصف ماله، أو ربع ماله، فإن هذا لا يجوز ولا تلزم العطية؛ لأنه وارث، والمعطي في مرض الموت، فيخشى أنه أعطى هذا الوارث لينال من التركة أكثر من الآخرين.
وعلم من قوله: «تبرعه لوارث» ، أنه لو تصرف مع الوارث ببيع أو إجارة بدون محاباة، فإن البيع والإجارة لازمان، وأنه لو أنفق على وارث في هذا المرض المخوف فإنه جائز؛ لأن
__________
(1) أخرجه أحمد (5/267) ؛ وأبو داود في الوصايا/ باب ما جاء في الوصية للوارث (2870) ؛ والترمذي في الوصايا/ باب ما جاء لا وصية لوارث (2120) ؛ وابن ماجه في الوصايا/ باب لا وصية لوارث (2713) عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ.
قال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الحافظ في التلخيص (1369) ، وانظر طرقه في الإرواء (1655) .
(2) سبق تخريجه ص (49) .(11/116)
النفقة ليست من باب التبرع، ولكنها من باب القيام بالواجب كالزكاة.
ولو أقر لوارث في مرضه المخوف، فينظر إن وجدت قرائن تدل على صدقه عملنا بإقراره، وإلا فإقراره كتبرعه لا يصح ولا يقبل؛ لأنه ربما يكون بعض الناس لا يخاف الله، ففي مرضه المخوف يقر لبعض الورثة بشيء، فيقول: في ذمتي لفلان كذا وكذا، وليس كذلك، فإذا علمنا أن هذا الرجل عنده من الإيمان بالله ـ عزّ وجل ـ والخوف منه، ووجدت قرينة أخرى تدل على أنه كان فقيراً، وأن الوارث كان غنياً فحينئذٍ نقبل إقراره، وإلاَّ فالأصل عدم قبول إقراره، لكن إذا وجدت قرينة تدل على صدقه عمل بها، ولا يمكن أن نحرم صاحب الدَّين من دَينه، وتبقى ذمة الميت متعلقة به.
قوله: «ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها» يعني ولا بما فوق الثلث لأجنبي، فالأجنبي حده الثلث، فإذا أجاز الورثة فلا بأس، والورثة الذين تعتبر إجازتهم هم الذين يصح تبرعهم، ولا بد أن تكون الإجازة بعد الموت كما سيأتي.
وقوله: «ولا بما فوق الثلث إلا بإجازة الورثة لها» أي: بما فوق الثلث لغير وارث، حتى لو أعطى شخصاً ليبني له مسجداً بزائد على الثلث فإنه لا ينفذ، ولو أعطى الفقراء زائداً على الثلث فإنه لا ينفذ، لحديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، أنه استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وكان مريضاً ـ أن يتصدق بثلثي ماله ـ والثلثان اثنان من ثلاثة ـ فقال: لا، قال: فالشطر ـ والشطر واحد من(11/117)
اثنين ـ قال: لا، قال: فالثلث ـ والثلث واحد من ثلاثة ـ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث والثلث كثير» (1) ، يعني لا بأس بالثلث مع أنه كثير، ومن فقه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الثلث والثلث كثير» (2) ، وهذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون أنزل من الثلث.
إذاً نقول لهذا المريض مرض الموت المخوف: لا تتصدق بأكثر من الثلث.
الثاني: لا تتصدق لوارث، وهذا على سبيل التحريم؛ لأن المال الآن انعقد السبب الذي به ينتقل إلى الورثة.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» يكونون ورثة بعد الموت، فلو أجازوا قبل الموت فإن إجازتهم لا تقبل، ولا يعتد بها، فلو أن هذا المريض أحضر ورثته، وقال لهم: هذا الوارث منكم فقير وأنا أريد أن أتبرع له بشيء من مالي، فقالوا: لا بأس، فإنه لا يجوز؛ لأن إجازتهم في ذلك الوقت في غير محلها.
ومن أين نأخذ أنه لا تجوز إجازتهم ما دام حياً؟ من قوله: «الورثة» إذ لا يتحقق أنهم ورثة إلا بعد الموت، هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وقيل: إنه إذا كان مريضاً مرضاً مخوفاً فإن
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2744) ؛ ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1628) عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصية بالثلث (2743) ؛ ومسلم في الوصية/ باب الوصية بالثلث (1629) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(11/118)
إجازتهم جائزة؛ لأنه انعقد السبب لكونهم يرثون هذا المال، وهو مرض الموت، فإذا رضوا بما زاد عن الثلث قبل الموت فإن رضاهم معتبر، ولا يحق لهم الرجوع بعد ذلك، ويدل لهذا القول ما جاء في باب الشفعة، حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من أراد أن يبيع أن يعرض على شريكه ليأخذ أو يدع (1) ، فإن هذا يدل على أنه متى وجد السبب وإن لم يوجد الشرط، فإن الحكم المعلق بهذا السبب نافذ، ويدل لذلك ـ أيضاً ـ أن الرجل لو حلف على يمين فأراد الحنث وأخرج الكفارة قبل الحنث، فإن ذلك جائز لوجود السبب، وهذا القول هو الراجح، ولا مانع من اعتباره، فعلى هذا نقول: تصح إجازة الورثة في مرض الموت المخوف؛ لأن سبب إرثهم قد انعقد وهم أحرار.
فإن قال قائل: إننا نخشى أن تكون إجازة الورثة في حال الحياة حياءً وخجلاً، نقول: إذا خشينا ذلك فإن إجازتهم تكون غير معتبرة.
قوله: «إن مات منه» ، أي: من هذا المرض المخوف، فإن أعطى لبعض ورثته شيئاً، قلنا للورثة: الأمر بأيديكم، إن شئتم نفذوا العطية، وإن شئتم امنعوها.
قوله: «وإن عوفي فكصحيح» ، أي: فإن التبرع يكون صحيحاً، مثاله: امرأة أخذها الطلق فتبرعت لزوجها بنصف مالها ثم ماتت من الوضع، فإن التبرع لا يصح إلا بإجازة الورثة، فإن وضعت وبرئت وعادت صحيحة فإن تبرعها لزوجها بنصف مالها
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب الشفعة (1608) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(11/119)
صحيح؛ لأن المرض الذي كان يمنعها قد زال، وعليه فيجوز أن يعطي بعض الورثة دون الآخرين، إن كانوا مِنْ غير الأولاد على القول الراجح، ويجوز أن يتبرع بأكثر من الثلث؛ لأن الصحيح يجوز أن يتبرع بجميع ماله، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حث على الصدقة أتى عمر ـ رضي الله عنه ـ بشطر ماله مسابقاً أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يتسابقون في الخير، وقال: اليوم أسبق أبا بكر، لم يقل هذا حسداً ولكن غبطة، وأتى أبو بكر بجميع ماله، فقال: لا أسابقك بعد هذا أبداً (1) ـ الله أكبر ـ، فالمهم أنه إذا كان هذا المريض الذي أعطى أكثر من الثلث في حال المرض ثم عافاه الله، فإنَّ عطيته تكون نافذة كعطية الصحيح للوارث وغير الوارث؛ لأنه زال المحذور.
وَمَنِ امْتَدَّ مَرَضُهُ بِجُذَامٍ أَوْ سِلٍّ أَوْ فَالِجٍ وَلَمْ يَقْطَعْهُ بِفِرَاشٍ فَمِنْ كُلِّ مَالِهِ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ،
قوله: «ومن امتد مرضه» ، هذا هو القسم الثالث من الأمراض، وهو الممتد، يعني من كان مرضه مستمراً.
قوله: «بجذام» هذا مثال، والجذام جروح وقروح ـ والعياذ بالله ـ إذا أصابت الإنسان سرت في جميع بدنه وقضت عليه، فهو مرض يسري في البدن، وله أسماء أظنها معروفة عند العوام، منها الغرغرينة وما أشبهها.
ويجب على ولي الأمر أن يعزل الجذماء عن الأصحاء، أي
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب في الرخصة في ذلك (1678) ؛ والترمذي في المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ (3675) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، وقال: حسن صحيح.(11/120)
حجر صحي، ولا بد، ولا يعد هذا ظلماً لهم، بل هذا يعد من باب اتقاء شرهم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد» (1) .
وظاهر هذا الحديث يعارض قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طِيَرة» (2) ، ولا شك في هذا؛ لأنه إذا انتفت العدوى فماذا يضرنا إذا كان المجذوم بيننا، ولكن العلماء ـ رحمهم الله ـ أجابوا بأن العدوى التي نفاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما هي العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية، وأنها تعدي ولا بد، ولهذا لما قال الأعرابي: يا رسول الله كيف يكون لا عدوى والإبل في الرمل كأنها الظباء، ـ يعني ليس فيها أي شيء ـ يأتيها الجمل الأجرب فتجرب؟! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أعدى الأول» (3) ؟ والجواب: أن الذي جعل فيه الجرب هو الله، إذاً فالعدوى التي انتقلت من الأجرب إلى الصحيحات كان بأمر الله ـ عزّ وجل ـ، فالكل بأمر الله تبارك وتعالى.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فر من المجذوم» ، فهذا أمر بالبعد عن أسباب العطب؛ لأن الشريعة الإسلامية تمنع أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة، ولهذا إذا قوي التوكل على الله ـ تعالى ـ فلا
__________
(1) أخرجه أحمد (2/443) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، والبخاري في الطب/ باب الجذام (5707) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ معلقاً، ولفظه: «كما تفر من الأسد» .
(2) أخرجه البخاري في الطب/ باب الطيرة (5753) ؛ ومسلم في الطب/ باب الطيرة والفأل ... (2225) (116) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) أخرجه البخاري في الطب/ باب لا صفر (5717) ؛ ومسلم في الطب/ باب لا عدوى ولا طيرة ... (222.) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/121)
بأس بمخالطة الأجذم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ ذات يوم بيد مجذوم وقال له: «كل باسم الله» (1) ، فشاركه في أكله لقوة توكله صلّى الله عليه وسلّم على الله، وأن هذا الجذام مهما كان في العدوى إذا منعه الله ـ عزّ وجل ـ لا يمكن أن يتعدى.
قوله: «أو سِلٍّ» وهو قروح تكون في الرئة فتتجلَّط وتثقل عن الحركة؛ لأنها دائمة الحركة، فإذا أصاب الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ خَرَقَ هذه الرئةَ وقضى عليها.
ولكن ـ الحمد لله ـ الآن الطب بتعليم الله ـ عزّ وجل ـ للبشر تقدم، وصار يمكن أن يقضى على السل، لا سيما في أوله.
قوله: «أو فالج» الفالج يعني الخدورة التي تصيب الإنسان في أحد جنبيه، أو في رأسه، أو في ظهره، وهذا الفالج أولَ ما يصيب الإنسان خطر، لكن إذا امتد صار أهون خطراً.
قوله: «ولم يقطعه بفراش» وجه ذلك أنه إذا قطعه بفراش صار مخوفاً، وصار المريض يشعر بقرب أجله، فصار يتصرف بماله بالتبرع لفلان أو لفلان، أما إذا لم يقطعه بالفراش، فالمريض ـ وإن كان يعرف أن هذا مآله ـ لكنه يستبطئ الموت، وكل إنسان مآله الموت حتى وإن كان صحيحاً، لكن إذا كان المرض لم يلزمه الفراش فإنه يرجو الصحة من وجه، وأيضاً لا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطب/ باب في الطيرة (3925) ؛ والترمذي في الأطعمة/ باب ما جاء في الأكل مع المجذوم (1817) ؛ وابن ماجه في الطب/ باب الجذام (3542) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(11/122)
يتوقع وقوع الموت عن قرب، فيعتقد أن في الأجل فسحة.
قوله: «فمن كل ماله» ، أي فتصرف هذا الذي لم يقطعه المرض بفراش من كل ماله، وحتى للوارث فإنه لا يضر، إلا الأولاد فإنه يجب التعديل في عطيتهم.
قوله: «والعكس بالعكس» ، العكس من قطعه بفراش فليس تصرفه من كل ماله، ولكن من الثلث، ثم متى يعتبر الثلث؟ قال:
وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَيُسَوَّى بَيْنَ المُتَقَدِّمِ والمُتَأَخِّرِ فِي الوَصِيَّةِ، وَيُبْدَأُ بِالأَوَّلِ فَالأَوَّلِ فِي العَطِيَّةِ
«ويعتبر الثلث عند موته» ، الثلث الذي ينفَّذ يعتبر عند الموت لا عند العطية؛ لأن الثلث قد يزيد وينقص، فربما يعطي الإنسان العطية وماله كثير فيفتقر، وربما يعطي العطية وماله قليل ثم يغنيه الله، فالمعتبر وقت الموت؛ لأن وقت الموت هو الوقت الذي يتعلق فيه حق الورثة في مال هذا المعطي، إذ قبل الموت لا حق لهم في ماله، فمثلاً رجل أعطى شخصاً مائتي درهم في مرض موته المخوف، وكان ماله حينئذٍ أربعمائة، ثم أغناه الله وصار ماله عند الموت ستمائة، فإن العطية تنفذ؛ لأنها لم تزد على الثلث، أما لو أعطاه مائتي درهم وكان ماله ستمائة وعند الموت صار أربعمائة درهم فلا ينفذ من العطية ما زاد على الثلث إلا بإذن الورثة، فإن لم يأذنوا أخذ ما زاد عن الثلث للورثة.
كذلك فالعطية في مرض الموت لا يتصرف فيها المُعْطَى إلا بتأمين للورثة؛ لأن المعتبر الثلث عند الموت، ولا ندري ربما يتلف مال هذا المريض كله ولا يبقى إلا هذه العطية.(11/123)
فنقول: إذا كان يعتبر عند الموت فإن هذا المُعْطَى لا يتصرف إلا بتأمين وتوثيق للورثة.
فإن قال قائل: لماذا لا تجيزون له أن يتصرف بثلثها؛ لأننا لو قدرنا أن الميت مات وليس عنده إلا هذه العطية أخذ المُعْطَى ثلثها؟ فنقول: هناك احتمال آخر: أن يموت هذا الميت وعليه دين، وإذا مات وعليه دين فإنه لا حظَّ للمُعْطَى.
قوله: «ويسوَّى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويبدأ بالأول فالأول في العطية» بدأ المؤلف ببيان الفروق بين العطية والوصية وهما تتفقان في أكثر الأحكام، ويجب أن نعلم الفرق بين العطية والوصية قبل كل شيء، فالوصية إيصاء بالمال بعد الموت، بأن يقول: إذا مِت فأعطوا فلاناً كذا، والعطية تبرع بالمال في مرض الموت.
فتشتركان في أنه لا يجوز أن يوصي لوارث، ولا لغير وراث بما فوق الثلث، ولا يجوز أن يعطي وارثاً ولا غير وارث ما فوق الثلث.
وتشتركان أيضاً في أنهما أدنى أجراً وثواباً من العطية في الصحة؛ لأن المراتب ثلاث:
الأولى: عطية في الصحة.
الثانية: عطية في مرض الموت.
الثالثة: وصية.(11/124)
أفضلها العطية في الصحة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» (1) .
يلي ذلك العطية في مرض الموت، ويلي ذلك الوصية، فالوصية متأخرة.
فإذا قال قائل: لماذا تجعلون العطية وهي في مرض الموت أفضل من الوصية؟
فالجواب: أن المُعْطِي يأمل أن يشفى من هذا المرض، والوصية لا تكون إلا بعد الموت.
أما المرض غير المخوف فهذا حكمه حكم الصحة؛ لأن الرجل لا يتوقع الهلاك.
وقوله: «ويسوى بين المتقدم والمتأخر في الوصية، ويُبْدَأُ بالأول فالأول في العطية» ، هذا هو الفرق الأول بينهما، يعني إذا تزاحمت الوصايا والعطايا وضاق الثلث عنها، فإنه في العطية يبدأ بالأول فالأول، وفي الوصية يتساوى الجميع، أما إذا لم تتزاحم وكان الثلث متسعاً فإنه يعطى الجميع، سواء في الوصية أو العطية.
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً ألف ريال، وأعطى آخر ألفي ريال، وأعطى ثالثاً ثلاثة آلاف ريال، فيكون المجموع ستة
__________
(1) سبق تخريجه ص (102) .(11/125)
آلاف ريال، ثم توفي ووجدنا تركته تسعة آلاف ريال، ومن المعلوم أن هذه العطايا زادت على الثلث، فماذا نصنع؟
نقول: نعطي الأول فالأول، فنعطي الأول ألف ريال، والثاني ألفي ريال، والثالث لا شيء له؛ لأن التركة تسعة آلاف ثلثها ثلاثة، والثلاثة استوعبتها عطية الأول والثاني، فلا يكون للثالث شيء.
ووجه ذلك أن العطية تلزم بالقبض ويملكها المعطَى بالقبض، فإذا أعطينا الأول ألفاً وأعطينا الثاني ألفين استقر ملكهما على ما أُعطياه، ويأتي الثالث زائداً على الثلث فلا يعطى.
ومثال الوصية: رجل أوصى لشخص بألف ريال، ولآخر بألفي ريال، ولثالث بثلاثة آلاف ريال، ثم مات ووجدنا تركته تسعة آلاف ريال، فهنا الوصايا زادت على الثلث، فالثلث ثلاثة والوصايا تبلغ ستة آلاف ريال، إذاً لا بد أن نرد الوصايا إلى الثلث وندخل النقص على الجميع، لكن لا نقدم الأول على الثاني كما فعلنا في العطية، بل نسوي ونقول: لهم ستة آلاف ولا يستحقون إلا ثلاثة، فننسب الثلاثة إلى الستة فتكون نصفها، فيعطى كل واحد نصف ما أوصي له به؛ لأن نسبة الثلث إلى مجموع الوصايا النصف، فنعطي صاحب الألف خمسمائة، وصاحب الألفين ألفاً، وصاحب الثلاثة ألفاً وخمسمائة، فالجميع ثلاثة آلاف، وهي الثلث.
ووجه ذلك أن هؤلاء الموصى لهم إنما يملكون الوصية بعد(11/126)
موت الموصي، وموت الموصي يقع مرة واحدة، ليس فيه تقديم وتأخير، فهم ملكوا المال الموصى لهم به في آن واحد وهو وقت موت الموصي.
ولو قال قائل: لماذا لا تقولون: إن الوصية الثانية تنسخ الأولى، والثالثة تنسخ الثانية، وحينئذ يُحْرَم الأول والثاني من الوصية، ويعطى الثالث ما أوصي له به، وهو ثلاثة آلاف؟
نقول: هذا لا يصح؛ لأن الجميع تزاحموا في الاستحقاق فلا نقدم بعضهم على بعض، نعم إن قال الموصي: ووصيتي الثالثة ناسخة لما سبق من الوصايا، فحينئذٍ يعمل بها؛ لأن للموصي أن يرجع في وصيته.
ولهذا تقع مشكلة الآن في وصايا الناس، تجد الرجل يوصي بوصية وتكون عنده في الدفتر وينساها، ثم يوصي وصية أخرى لو جمعت إلى الأولى لضاق الثلث، وإن عمل بإحداهما نفذت، كذلك ـ أيضاً ـ تختلف الشروط التي اشترط فيها، مثلاً يقول: هذه على الفقراء، وهذه على طلبة العلم، وهذه على المساجد، وهذه لإصلاح الطرق، فيشكل على الورثة.
ومن ثَمَّ نقول: ينبغي لطلاب العلم أن يرشدوا الناس إلى أنهم إذا أراد أحدهم أن يوصي وصية، يقول: وهذه الوصية ناسخة لما سبقها، فيؤخذ بقوله هذا؛ لأن الرجوع في الوصية جائز، فكلما كتب الإنسان وصية ينبغي أن ينتبه لهذا؛ حتى لا يوقع الموصى لهم والورثة في حيرة فيما بعد، فيستريح ويريح.
وَلاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهَا، وَيُعْتَبَرُ القَبُولُ لَهَا عِنْدَ وُجُودِهَا وَيَثْبُتُ المِلْكُ إِذاً، وَالوَصِيَّةُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
قوله: «ولا يملك الرجوع فيها» أي: لا يملك الرجوع في(11/127)
العطية؛ لأنها لزمت؛ لأن العطية نوع من الهبة، فلو أعطى رجلاً ألف ريال وقبضها، صار ملك الألف للمعْطَى، ولا يمكن أن يرجع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه» (1) .
والوصية يملك الموصي الرجوع فيها، فلو أوصى ببيته لفلان، وقال: هذا البيت بعد موتي يُعْطَى فلاناً ملكاً له، ثم رجع فإنه يجوز؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد الموت فله أن يرجع.
هذا هو الفرق الثاني: أن العطية اللازمة ـ وهي المقبوضة ـ لا يملك الرجوع فيها، والوصية ولو قبضها الموصى له فإن الموصي يملك الرجوع فيها؛ لأنها لا تلزم إلا بعد موته.
الفرق الثالث:
قوله: «ويعتبر القبول لها» أي: للعطية.
قوله: «عند وجودها» لأنها هبة، فيعتبر أن يقبل المعطى العطية عند وجودها قبل موت المعطي، فإذا أعطاه العطية فإنه يقبل في الحال، والوصية لا يصح قبولها إلا بعد الموت، حتى لو قال الموصي: إني أوصيت لك بهذا البيت بعد موتي ملكاً لك، فقال الموصى له: قبلت وشكر الله سعيك وجزاك الله خيراً، وذهب إلى كاتب العدل وقال: إني أوصيت ببيتي لفلان بعد موتي، فله أن يرجع؛ لأنها وصية.
الفرق الرابع: أنه لا يثبت الملك للموصَى له من حين تم
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(11/128)
عقد الوصية، بل الملك للموصي، بخلاف العطية فإنه يثبت الملك فيها حين وجودها وقبولها؛ ولهذا قال:
«ويثبت الملك إذاً» ، أي عند وجودها وقبولها، ويت+فرع على هذا أنه لو زادت العطية زيادة متصلة، أو منفصلة فهي للمُعْطى، بخلاف الوصية فالنماء للورثة؛ لأن الملك في الوصية لا يثبت إلا بعد الموت، ولهذا قال: «والوصية بخلاف ذلك» .
هذه أربعة فروق ذكرها المؤلف، وهناك فروق أخرى كنت قد كتبتها زيادة على ما ذكر، فمنها:
الفرق الخامس: اشتراط التنجيز في العطية، وهذا ربما يؤخذ من قوله: «ويعتبر القبول لها عند وجودها» ، وأما الوصية فلا تصح منجزة؛ لأنها لا تكون إلا بعد الموت، فهي مؤجلة على كل حال.
الفرق السادس: الوصية تصح من المحجور عليه، ولا تصح العطية.
مثلاً: رجل عليه ديون أكثر من ماله، مثلاً عليه عشرة آلاف ريال، وماله ثمانية آلاف ريال، وحجر عليه، فلا يمكن أن يعطي أحداً من هذه الثمانية، لأنه محجور عليه، فهذه العطية تبرع يتضمن إسقاط واجب، والتبرع الذي يتضمن إسقاط واجب غير صحيح، لكن لو أوصى بعد موته بألفي ريال فإنه يجوز، والفرق أن الوصية لا تنفذ إلا بعد قضاء الدين، وليس على أهل الدَّين ضرر إذا أوصى بشيء من ماله؛ لأنه إذا مات الميت، نبدأ أولاً بتجهيزه ثم بالديون التي عليه، ثم بعد ذلك بالوصية.(11/129)
إذاً الوصية تصح من المحجور عليه والعطية لا تصح، والفرق أن العطية فيها إضرار بالغرماء، والوصية ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد قضاء الدين.
وهل تصح من المحجور عليه لسفه؟
المحجور عليه لسفه إما أن يكون صغيراً، وإما أن يكون مجنوناً، وإما أن يكون بالغاً عاقلاً لكنه سفيه لا يحسن التصرف، أما الأول والثاني فلا تصح وصيتهما ولا عطيتهما؛ لأنهما لا قصد لهما ولا يعرفان الوصية والعطية.
وأما الثالث ففيه قولان: قال بعض أهل العلم: تصح وصيته؛ لأنه إنما حجر عليه لمصلحة نفسه، وبعد موته لا يضره ما ذهب من ماله إلى ثواب الآخرة مثلاً، لكن في النفس من هذا شيء؛ لأن السفيه لا يحسن التصرف، فأنا أتوقف في هذا.
الفرق السابع: الوصية تصح بالمعجوز عنه، والعطية لا تصح، فلو أعطى شيئاً معجوزاً عنه كجمل شارد وعبد آبق وما أشبه ذلك، فإنها لا تصح العطية على المشهور من المذهب، والقول الراجح أنها تصح؛ لأن المعطَى إما أن يغنم وإما أن يسلم وليس فيه مراهنة، لكن على المذهب لا تصح العطية بالمعجوز عنه، وتصح الوصية، والفرق أن الوصية لا يشترط تملكها في الحال، فربما يقدر عليها فيما بين الوصية والموت.
والصحيح في هذا أن كلتيهما تصح بالمعجوز عنه.
الفرق الثامن: الوصية لها شيء معين ينبغي أن يُوصى فيه(11/130)
والعطية لا، والشيء المعين الذي ينبغي أن يوصي فيه هو الخُمس، فالإنسان إذا أراد أن يوصي بتبرع فليوصِ بالخمس، فلدينا خمس وربع وثلث ونصف وأجزاء أخرى.
فالوصية بالنصف حرام، والوصية بالثلث جائزة، والوصية بالربع جائزة ولكنها أحسن من الثلث، والوصية بالخمس أفضل منهما، أي من الثلث والربع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين استأذنه سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ في أن يوصي بأكثر من الثلث قال: «الثلث والثلث كثير» (1) ، وقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث كثير» يوحي بأن الأولى النقص عنه.
وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع ما أعطاه الله ـ تعالى ـ من الفهم يقول: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث والثلث كثير» ) (2) ، يعني لكان أحسن.
أما أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقد سلك مسلكاً آخر واستنبط استنباطاً آخر، وفهم فهماً عميقاً، فأوصى بالخمس، وقال: أوصي بما رضيه الله لنفسه، ثم تلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41] (3) ، ولذلك اعتمد الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن الجزء الذي ينبغي أن يوصى به هو الخمس.
وهذه ـ أيضاً ـ مسألة أحب من طلبة العلم أن ينبهوا الناس عليها، فالآن الوصايا كلها ـ إلا ما شاء الله ـ بالثلث، يقول الموصي: أوصيت بثلثي ـ سبحان الله!! ـ الرسول صلّى الله عليه وسلّم ماكسه سعد
__________
(1) سبق تخريجه ص (118) .
(2) سبق تخريجه ص (118) .
(3) أخرجه عبد الرزاق (16363) عن قتادة عن أبي بكر ـ رضي الله عنه(11/131)
ـ رضي الله عنه ـ من الثلثين إلى النصف إلى الثلث فقال: «الثلث كثير» فلماذا لا نرشد العامة ـ لا سيما إذا كان ورثتهم فقراء ـ أن يوصوا بالربع فأقل؟ لكن هذا قليل مع الأسف، والكتَّاب يُرضون من حضر إليهم للوصية، يقول الكاتب: بكم تريد أن توصي؟ فيقول: بالثلث، فلا يقول الكاتب له: بل بالربع أو بالخمس، وهذا غلط.
وأنا أرى أنه إذا طُلِب من إنسان أن يكتب وصية بالثلث، أن يقول: يا أخي تريد الأفضل؟ فإذا قال: نعم، يقول له: الأفضل الخمس، فإذا قال: أنا أريد أكثر فإننا ننقله إلى الربع، ونقول: هذا هو الأفضل، وأنت لو أردت التقرب إلى الله حقاً لتصدقت وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء وتخشى الفقر، أما الآن إذا فارقت المال تذهب تحرمه ممن جعله الله له! فهذا لا ينبغي.
على كل حال الوصية لها جزء معين ينبغي أن تكون به والعطية لا، فلا نقول: يسن أن يعطي الخمس أو الربع.
الفرق التاسع: يقول الفقهاء: الوصية تصح للحمل، والعطية لا تصح؛ ووجه ذلك أن الحمل لا يملك، فإذا أعطيته لم يملك، ولا يصح أن يتملك له والداه؛ لأن الحمل ليس أهلاً للتملك، والعطية لا بد أن يكون التملك فيها ناجزاً.
الفرق العاشر: أن العبد المدبَّر يصح أن يوصَى له، ولا تصح له العطية، مثلاً: رجل عنده عبد مدبَّر ـ وهو الذي علق عتقه بموت سيده ـ فقال له: إذا مت فأنت حر، فهذا مدبَّر؛ لأن عتقه يكون دبر حياة سيده، فيصح أن يوصي لعبده المدبر؛ لأن(11/132)
الوصية تصادف العبد وقد عتق، وإذا عتق صح أن يتملك، ولا يصح أن يعطي عبده بناءً على أن العبد لا يملك بالتمليك، والعطية لا بد أن يتملكها في حينها.
الفرق الحادي عشر: العطية خاصة بالمال، والوصية تكون بالمال والحقوق، ولذلك يصح أن يوصي شخصاً ليكون ناظراً على وقفه، ويصح على قولٍ ضعيف أن يوصي شخصاً بتزويج بناته، ولكن العطية خاصة بالمال.
وليعلم أن من أسباب تحصيل العلم أن يعرف الإنسان الفروق بين المسائل المشتبهة، وقد ألف بعض العلماء في هذا كتباً، كالفروق بين البيع والإجارة، وبين الإجارة والجعالة، بين العطية والوصية، وكل المسائل المشتبهة، فمن أسباب اتساع نظر الإنسان وتعمقه في العلم أن يحرص على تتبع الفروق ويقيدها. هذا ما تيسر لنا، وقد يكون عند التأمل فروق أخرى.
وقد ذكرنا أنه يصح على قول أن يوصي الإنسان بتزويج بناته وهذا هو المذهب، والصحيح أنه لا تصح وصيته بتزويج بناته؛ لأنه ولي على بناته ما دام حياً، وترتيب الولاية ليست إلى الولي، بل هي إلى ولي الولي وهو الله ـ عزّ وجل ـ، وعلى هذا فإذا مات الإنسان انقطعت ولايته في تزويج بناته، كما تنقطع ولاية بقية الأولياء.
فلو قال شخص عند موته: أوصيت إلى فلان أن يتولى تزويج بناتي ثم مات ولهن عم، فالقول الراجح أن يزوجهن العم، والقول الثاني: يزوجهن الوصي.(11/133)
كِتابُ الوَصَايَا
يُسَنُّ لِمَنْ تَرَكَ خَيْراً وَهُوَ المَالُ الكَثِيرُ أن يُوصِيَ بِالخُمُسِ،.........
الوصية: هي التبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعده.
فالتبرع بالمال بعد الموت بأن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً ألف ريال.
وأما الأمر بالتصرف بعده، مثل أن يقول: إذا مت فالوصي على أولادي الصغار فلان، فالأول بالمال والثاني بالحقوق.
ومن الوصية بالتصرف ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين جعل أمر الخلافة شورى بين الستة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
والوصية تجري فيها الأحكام الخمسة كما سيتبيَّن إن شاء الله تعالى.
قوله: «يسن لمن ترك خيراً» ، وإنما قال المؤلف: «لمن ترك خيراً» لمطابقة الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] .
وتكون الوصية للأقارب غير الوارثين، ودليل ذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم/ باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ (3700) .(11/134)
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ، والآية عامة في الوارث وغير الوارث؛ لأنه قال: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ، لكن نقول: هذه الآية مُخَصَّصة بآيات المواريث، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (1) ، فيكون العموم في قوله تعالى: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} مخصوصاً بآيات المواريث.
فإن قال قائل: هل يمكن أن يكون الوالدان غيرَ وارثين؟
فالجواب: يمكن أن يكونا غير وارثين، كما لو كانا كافرين والولد مسلم، فإنه يوصي لهما؛ لقول الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] .
وقوله: «يسن» صريح في أن الوصية للأقارب غير الوارثين ليست واجبة، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، وقالوا: إن آيات المواريث نسخت قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} .
فأكثر العلماء على أن آيات المواريث ناسخة لهذه الآية، وأنه لا يُعمَل بأي حرف منها؛ لأنها منسوخة، والنسخ رفع الحكم.
ولكن أبى ذلك عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال: إن الآية محكمة، وأن الوصية واجبة للأقارب غير الوارثين، وما ذهب إليه أقرب إلى الصواب.
فإن قال قائل: إن الله يقول: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
__________
(1) سبق تخريجه ص (116) .(11/135)
أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، ويقول: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 10] ، والسدس إذا أُخِذَت منه الوصية التي هي الخمس يكون سدساً إلا خمساً؟
فيقال: إن الله ـ تعالى ـ بَيَّن فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 10، 11] ، فالآيات صريحة أن هذه القسمة بعد الوصية، وحينئذٍ إذا عدنا إلى الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فقوله: {كُتِبَ} أي: فرض، وإسقاط هذا الفرض يحتاج إلى دليل بَيِّن.
وأيضاً قوله: {حَقًّا} ، أي: أُحِقُّ هذا حقاً وأثبته إثباتاً.
وأيضاً قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، أي: على ذوي التقوى، وهذا يدل على أن الوصية من التقوى، ومخالفة التقوى حرام.
ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الآية صريحة، والنسخ ليس بالأمر الهيِّن أن يُدَّعى مع هذه الصراحة، ومع إمكان الجمع بين هذه الآية وآية المواريث، والجمع أن آيات المواريث صريحة في أنها من بعد وصية، وكيف نلغي هذه الأوصاف العظيمة: {كُتِبَ} ، {حَقًّا} ، {عَلَى الْمُتَّقِينَ} مع إمكان العمل بآيات المواريث وهذه الآية؟! ولأنه لا دليل على النسخ.(11/136)
فإذا قال قائل: لو كان الوجوب باقياً لتوافرت النقول عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بالوصية، مع أن الوصية بين الصحابة قليلة، فالجواب: لا شك أن هذا الاحتمال يضعف القول بالوجوب، لكن ما دام أمامنا شيء صريح من كتاب الله ـ عزّ وجل ـ فإن عدم العمل به يدل على أن من الصحابة أو أكثر الصحابة يقولون بأن الوجوب منسوخ، ونحن إنما نكلف بما يدل عليه كلام الله ـ عزّ وجل ـ.
فالصحيح أن آية الوصية محكمة، وأنه يجب العمل بها، لكن نسخ منها من كان وارثاً من هؤلاء المذكورين، فإنه لا يوصى له، وبقي من ليس بوارث.
قوله: «وهو المال الكثير» المال الكثير يُرجَع فيه إلى العرف وإلى أحوال الناس، فإذا كانت الدراهم كثيرة فالمال الكثير كثير، وإذا كان الناس عندهم قلة في المال فالقليل يكون كثيراً، حتى إن بعض الفقهاء يقول: من ملك خمسين درهماً فهو غني لا تحل له الزكاة، وفي وقتنا الحاضر الخمسون درهماً لا توجب أن يكون الإنسان غنياً؛ لأنها يمكن أن تنفد في عشرة أيام، وليس في سنة كاملة.
فالحاصل أن المال الكثير يرجع فيه إلى العرف، فقد يكون القليل كثيراً في وقت، وقد يكون الكثير قليلاً في وقت آخر.
وقوله: «وهو المال الكثير» مفهومه أنه لو ترك مالاً قليلاً لا تسن له الوصية، ودليل هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم(11/137)
عالة» (1) ، وصاحب المال القليل إذا أوصى فإنه ربما يجعل ورثته عالة على الناس.
قوله: «أن يوصي بالخُمس» ، الدليل على تعيُّن الخُمس هو ما ورد عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «أوصي بما رضيه الله لنفسه» (2) وهو الخمس، ولكن ليس بلازم، إنما اختاره أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو داخل في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الثلث والثلث كثير» .
والمؤلف لم يبيِّن لمن تُصرف الوصية، والجواب: أنها تصرف في أعمال الخير، وأولاها القرابة الذين لا يرثون؛ لأن الله فرض الوصية لهم، فإذا قلنا: إن الآية لم تنسخ صارت الوصية للقرابة الذين لا يرثون واجبة، وإذا قلنا: إنها منسوخة صارت مستحبة، فتصرف إلى الأقارب غير الورثة سواء كانوا أغنياء أو فقراء، وإذا أوصى إلى جهة عامة صار أكثر أجراً وأعم نفعاً.
وَلاَ تَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِن الثُّلُثِ لأَِجْنَبِيٍّ وَلاَ لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الوَرَثَةِ لَهَا بَعْدَ المَوْتِ، فَتَصِحُّ تَنْفِيذاً،..........
قوله: «ولا تجوز» ، أي: الوصية.
قوله: «بأكثر من الثلث» ، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وقد نازله فيما يوصي به، فقال للنبي وهو في مرض ظن أنه مرض الموت: أتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، قال: فالنصف؟ قال: «لا» ـ وكلمة: «لا» في مقام الاستفتاء تعني التحريم ـ فقال: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
قوله: «لأجنبي» ، المراد بالأجنبي هنا من لا يرث بدليل:
__________
(1) سبق تخريجه ص (118) .
(2) سبق تخريجه ص (131) .(11/138)
قوله: «ولا لوارث بشيء» ، فالوارث لا يجوز للإنسان أن يوصي له لا بقليل ولا بكثير؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (1) ، ولأن الوصية للوارث تؤدي إلى أن يأخذ من المال أكثر ممّا فرض الله له، وهذا تعدٍّ لحدود الله، وغير الوارث تجوز بالثلث فأقل؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد ـ رضي الله عنه ـ: «الثلث والثلث كثير» (2) .
قوله: «إلا بإجازة الورثة لها بعد الموت فتصح تنفيذاً» ، ظاهر كلامه ـ رحمه الله ـ أنه إذا أجازها الورثة صارت حلالاً، وفيه نظر، والصواب أنها حرام، لكن من جهة التنفيذ تتوقف على إجازة الورثة، فتصح تنفيذاً لا ابتداء عطية.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» ، وكيف تجوز لهم بذلك، وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم سعداً ـ رضي الله عنه ـ من الزيادة عن الثلث، ولم يقل: إلا أن يشاء ورثتك؟! فالجواب: أنهم قالوا: إنما منعت الوصية بزائد عن الثلث مراعاة لحقّ الورثة، فإذا أسقطوا حقهم فلا تحريم، ولكن الصحيح أنه حرام أن يوصى بزائد على الثلث، لكن هل ينفذ أو لا؟ هذا هو الذي يتوقف على إجازة الورثة، وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا وصية لوارث إلا بإجازة الورثة» (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (116) .
(2) سبق تخريجه ص (118) .
(3) أخرجه الدارقطني (4150) ط/الرسالة، والبيهقي (6/263) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال الحافظ في التلخيص (1370) : والمعروف المرسل، وضعفه في الإرواء (1656) ؛ وأخرجه الدارقطني (4154) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ، قال الحافظ في التلخيص (1370) : إسناده واهٍ.(11/139)
فإذا قال قائل: إذا كان الحق للورثة ثم وافقوا بعد الموت فكيف يقال: إنه حرام؟!
يقال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما استنزله سعد ـ رضي الله عنه ـ وقال: الثلثين، والشطر، قال: «لا» ولم يقل: إلا أن يجيز الورثة، ولأن الإنسان إذا أوصى بأكثر من الثلث لأجنبي، أو بشيء للوارث فقد يجيز الورثة بعد الموت حياءً وخجلاً ودرءاً لكلام الناس، وهذا وارد بلا شك، أن الورثة إذا أوصى لأحدهم بزيادة على ميراثه، أو أوصى لأجنبي بزيادة على الثلث، ربما يوافقون حياءً وخجلاً عن إغماض، أو يخشون إن ردوا الوصية أن يتحدث الناس فيهم، فلذلك نرى أنها حرام بكل حال، حتى وإن كان يقول: إن الورثة بعدي سوف يجيزون هذا، والدليل:
أولاً: حديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منعه، ولم يقل: إلا أن يجيز الورثة.
ثانياً: أنهم إذا أجازوا فقد يجيزون حياءً وخجلاً لا عن اقتناع.
فإذا أوصى بما يزيد عن الثلث لأجنبي أو لوارث بشيء فهو آثم، والتنفيذ يتوقف على إجازة الورثة لما سبق.
وقوله: «إلا بإجازة الورثة» يشمل من يرث بالفرض، أو بالتعصيب، فعلى هذا لا بد من موافقة الزوجة ـ مثلاً ـ أو الزوج، ولا بد من موافقة الأم، ولا بد من موافقة العم إذا كان وارثاً بالتعصيب.
والوارث الذي يملك الإجازة هو البالغ، العاقل، الرشيد، فهذه ثلاثة شروط.
فإجازة غير البالغ لا تعتبر؛ لأنه لا يملك التبرع بشيء من(11/140)
ماله، وإجازة المجنون غير معتبرة؛ لأنه لا قصد له، ولا إرادة له، ولا عقل له، وإجازة السفيه ـ وهو الذي لا يحسن التصرف في المال ـ لا عبرة بها.
وقوله: «بعد الموت» متعلق بـ: «إجازة» يعني إلا إذا أجازها الورثة بعد الموت، فإن أجازوها قبل الموت فلا عبرة بإجازتهم؛ لأنهم لم يملكوا المال بعد حتى يملكوا التبرع بشيء منه؛ لأن الإجازة معناها التبرع، ولأن هذا الوارث اليوم قد يكون هو الموروث، فكثيراً ما يكون رجل صحيح وآخر مدنِف فيموت الأول قبل الثاني، فلا يعتد بإجازتهم إلا إذا كانت بعد الموت.
وعلى هذا فلو أن المريض لما رأى دنو أجله جمع الورثة وقال لهم: أنا مالي مائة ألف، وأنا أرغب أن أوصي ببناء مسجد، وبناء المسجد يكلف خمسين ألفاً فهل تسمحون؟ فقالوا: نعم نسمح، ثم مات، فهل يُنَفذ بناء المسجد؟
الجواب: ينفذ منه ما لا يزيد على الثلث، وأما ما زاد على الثلث فلا، فإن قال قائل: هؤلاء سمحوا وأذنوا، فالجواب: أنهم أذنوا قبل أن يملكوا المال؛ لأنهم لا يملكون المال إلا بعد موت المورِّث، فإذنهم وإذن من لم يكن وارثاً على حد سواء؛ لأنهم الآن غير وارثين ولا مالكين للمال، ولا يعلم، فربما أن هذا المريض الذي يُخشَى أن أجله قريب، يموت الأصحاء قبله، وهذا يقع كثيراً.
القول الثاني: أن إجازتهم قبل الموت معتبرة مطلقاً.
القول الثالث: التفصيل أنه إذا كان مرضه مرضاً مخوفاً فإن(11/141)
إذنهم جائز، ولذلك منعناه من التبرع بما زاد على الثلث لتعلق حقهم بماله، فهم هنا يُسقِطون حقهم من الاعتراض، ولا يتبرعون بالمال؛ لأن المال لم يملكوه بعد، ويدل لهذا أن المريض مرض الموت لا يمكن أن يتبرع بأكثر من الثلث من أجل حقهم، ولو قلنا: إن حقهم لا يكون إلا بعد الموت لقلنا: يتبرع بما شاء، وأما إن أجازوا في الصحة فلا وجه لإجازتهم، وإجازتهم غير معتبرة، وهذا القول هو الصحيح، أنهم إذا أذنوا بالوصية بما زاد على الثلث، أو لأحد الورثة فلا بأس إذا كان في مرض الموت المخوف، أما في الصحة فلا عبرة بإجازتهم.
والوصية لأحد الورثة مثل أن يجمعهم، ويقول لهم: يا أبنائي أخوكم الصغير محتاج أكثر، أنتم موظفون وهو قاصر، أنا أريد أن أوصي له بمثل نصيبه من الميراث أو أكثر، فيوافقون على هذا، فالقول الراجح أن هذه الموافقة نافذة وجائزة، إلا إذا علمنا أنهم إنما أذِنوا حياءً وخجلاً فلا عبرة بهذا الإذن.
مسألة: لو أوصى لكل وارث بمقدار حقه، كأن يكون له أربعة أبناء وقال: أوصيت لكل واحد بالربع، فإنه يجوز؛ لأنه ليس في هذا ظلم لأحد، ولكن لو أوصى لوارث بمعين بمقدار حقه، بأن كان له أربعة أبناء وكان عنده أربع شقق متساوية القيمة، فهل يجوز أن يوصي لكل واحد من الأبناء بشقة تساوي حقه؟ فالمذهب أنه لا بأس بذلك.
والقول الثاني: لا يصح وهو أصح، حتى لو كانت متساوية(11/142)
من كل وجه؛ لأن كل وارث حقه مشاع في التركة، فكيف نلزمه بإفراز حقه بدون رضاه؟! ثم ربما يحصل تشاحن فيما بينهم، ثم إن الموصي قد يقدر أن قيمها واحدة وهي مختلفة.
وقوله: «فتصح تنفيذاً» أي: تصح الوصية تنفيذاً لا ابتداء عطية، وعلى هذا فلا يعتبر شروط العطية في هذا التنفيذ؛ لأنه تنفيذ لتصرف الغير، وعليه فلو كان أحد الورثة مريضاً مرض الموت، وليس له مال إلا ما ورثه من مورثه، وأجاز فتصح إجازته ولو استوعبت جميع المال؛ لأنه لم يتبرع بشيء، فغاية ما هنالك أنه أجاز تصرف المُوَرِّث قبل أن يملكه هو؛ لأن المورث قد أوصى به لفلان، فتكون إجازة الوارث ليست ابتداء عطية، وليست تبرعاً محضاً، وإنما هي تنفيذ لتصرف غيره.
وَتُكْرَهُ وَصِيَّةُ فَقِيرٍ وَارِثُهُ مُحْتَاجٌ وَتَجُوزُ بِالكُلِّ لِمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالوَصَايا فَالنَّقْصُ بِالقِسْطِ،.....
قوله: «وتكره وصية فقير» المراد بالفقير هنا الفقير عرفاً، وليس الفقير في باب الزكاة، فالفقير في باب الزكاة هو الذي لا يجد كفايته وكفاية عائلته سنة، والفقير هنا ما عُدَّ عند الناس فقيراً، وهو من لم يترك مالاً كثيراً، ولو كان عنده مؤونة نفسه لمدة سنة.
قوله: «وارثه محتاج» يعني وارثه ـ أيضاً ـ فقير مثله، يحتاج إلى المال، فهذا يكره أن يوصي؛ لأنه بعد موته تتعلق نفس الوارث بالمال، والموصي إنما أوصى طلباً للأجر، والأولى أن نعطي المال لمن له الحق شرعاً، وهو محتاج، ولا نعطيه شخصاً أجنبياً، فما دام الوارث محتاجاً والمال قليل، فإنه يكره للإنسان أن يوصي ولو بالثلث.(11/143)
فإذا قال: أنا أريد الخير، فأنا أوصي بثلث مالي للمساجد. قلنا: إغناء الورثة خير لك، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة» (1) .
فعندنا ثلاثة أحكام للوصية:
وصية مسنونة، ووصية محرمة، ووصية مكروهة وهي وصية الفقير الذي وارثه محتاج، فإن كان وارثه غير محتاج وهو فقير فالوصية مباحة؛ لأن الأصل فيها الإباحة.
قوله: «وتجوز بالكل لمن لا وارث له» ، أي: تجوز الوصية بكل ماله لمن لا وارث له، فإذا كان رجل ليس له وارث وعنده أموال عظيمة، وأوصى بهذه الأموال أن تعمر بها المساجد فيجوز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم علل منع الزيادة على الثلث بقوله: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة» ، فإذا لم يكن له وارث فهنا لا أحد يطالبه بمال، فتجوز الوصية بالكل لمن لا وارث له.
هذه أربعة أحكام تكليفية في الوصية، بقي الحكم الخامس وهو وجوب الوصية، فتجب الوصية بكل حق واجب على الموصي ليس عليه بينة، مثاله: رجل عليه دَين وليس لصاحب الدَّين شهود، فيجب على المدين أن يوصي بقضاء دينه، إلا إذا كان عليه بينة، فإنه إذا كان عليه بينة فلا يمكن أن يضيع، ولكن بشرط أن تكون البينة موجودة، معلومة، موثوقة، فهذه ثلاثة شروط:
__________
(1) سبق تخريجه ص (118) .(11/144)
الأول: أن تكون البينة موجودة، فإن كانت البينة قد ماتت، فالمدين يعرف أن فلاناً وفلاناً يشهدان على أن في ذمته لفلان كذا، لكن مات الرجلان، فوجود هذه البينة وعدمها سواء؛ لأن صاحب الحق يضيع حقه إذا لم توجد البينة.
الثاني: أن تكون معلومة، فإن لم تكن معلومة فلا فائدة منها، ومعنى معلومة أي في المكان الفلاني، ويمكن بكل سهولة أن نستدعيها، أما إذا كانت غير معلومة كرجل أشهد على دينه فلان بن فلان وفلان بن فلان، وكان ذلك في موسم الحج والشاهدان من الحجاج، فهذه البينة غير معلومة، ولو فرض أنها معلومة فغير مقدور على إحضارها إذا قدرنا أنهم في أقصى الغرب، أو أقصى الشرق.
الثالث: أن تكون موثوقة، فإن كانت البينة غير موثوقة، بحيث يعرف الموصي أن هذين الرجلين لو شهدا عند الحاكم لرد شهادتهما، فلا فائدة من ذلك، وسواء رد شهادتهما لفسقهما، أو لقرابة بينهما وبين من له الحق، أو لغير ذلك.
وبهذا تقرر أن الوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة.
قوله: «وإن لم يفِ الثلث بالوصايا فالنقص بالقسط» سبق أنه يُبدأ بالأول فالأول في العطية، وأن الوصايا يُسوَّى فيها بين المتقدم والمتأخر، فإذا أوصى لجماعة وزادت الوصية على الثلث فإن النقص يكون بالقسط، فلو أوصى لشخص بألف، ولآخر بألفين، ولثالث بثلاثة، وماله تسعة آلاف، فهنا مجموع الوصايا ستة آلاف، يزيد على الثلث، فهل نبدأ بالأول فالأول، أو نأخذ بالأكثر، أو ماذا؟
يقول المؤلف: «فالنقص بالقسط» ، وكيفية ذلك أن تنسب الثلث إلى مجموع الوصايا، فما بلغ من النسبة فلكل واحد من وصيته مثل تلك النسبة.
ففي مثالنا مجموع الوصايا(11/145)
ستة آلاف، والثلث ثلاثة آلاف، فننسب الثلث إلى مجموع الوصايا يكون النصف، فنعطي كل واحد نصف ما أوصى له به، فنعطي صاحب الألف خمسمائة، وصاحب الألفين ألفاً، وصاحب الثلاثة ألفاً وخمسمائة، فالجميع ثلاثة آلاف وهو الثلث.
لكن لو أوصى لواحد بمعين ولآخر بمشاع، مثل أن يوصي لشخص بسيارة قيمتها ستمائة درهم، وللثاني بخمسمائة درهم، وتوفي وكان مجموع ماله ثلاثة آلاف درهم، والوصية ألف ومائة، فالوصية إذاً زادت على الثلث، فننسب الثلث ألفاً إلى مجموع الوصايا ألف ومائة، فتكون النسبة عشرة من أحد عشر.
فلصاحب السيارة ستة منسوبة إلى عشرة من أحد عشر، ولصاحب الخمسمائة خمسة منسوبة إلى عشرة من أحد عشر، فيدخل صاحب الخمسمائة على صاحب السيارة بشيء، فتكون السيارة مشتركة.
وَإِنْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَصَارَ عِنْدَ المَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتْ، والعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَيُعْتَبَرُ القَبُولُ بَعْدَ المَوْتِ وَإِنْ طَالَ، لاَ قَبْلَهُ.....
قوله: «وإن أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث صحت» ، سبق أنه لا يحل له أن يوصي لوارث لا بقليل ولا بكثير، والوقت الذي يعتبر فيه كونه وارثاً هو الموت، لا وقت الوصية،(11/146)
فإذا أوصى لوارث فصار عند الموت غير وارث فالوصية صحيحة، مثال ذلك: أوصى لأخيه الشقيق ثم وُلِدَ له بعد ذلك ابن، فالأخ الشقيق كان عند الوصية وارثاً، ثم لما وُلِدَ للموصي ابن صار الأخ غير وارث، فتصح الوصية له.
قوله: «والعكس بالعكس» ، فلو كان له ابن وأخ، فأوصى للأخ وهو الآن غير وارث؛ لأن الابن يحجبه، ثم مات الابن فصار الأخ وارثاً، فالوصية غير صحيحة؛ لأنه صار عند الموت وارثاً فتبطل الوصية، ويكتفى بما قُدِّر له من الميراث.
المهم أن القاعدة: أن اعتبار كون الموصى له وارثاً أو غير وارث هو وقت الموت دون وقت الوصية.
وهل العطية كالوصية، أو المعتبر وقت الإعطاء؟
في هذا خلاف بين فقهائنا رحمهم الله، فمنهم من قال: إن العطية كالوصية، فيعتبر في كون المعطَى وارثاً أو غير وارث وقت الموت.
ومنهم من قال: بل هو وقت الإعطاء؛ لأنه وقت ملكه إياها.
قوله: «ويعتبر القبول بعد الموت وإن طال» ، أي: قبول الموصى له الوصية معتبر بعد الموت.
قوله: «لا قبله» ، فلو قَبِلَ قَبْل الموت فالقبول غير صحيح، فلو أوصى رجل لآخر ببيت، وقَبِل الموصَى له البيت من حين علمه بالوصية، فلا يصح القبول ولا ينتقل ملك البيت إلى الموصى له؛ لأن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت، إذاً قبوله وعدمه(11/147)
سواء، ما دام الموصي على قيد الحياة، فيعتبر القبول بعد الموت ولو بلحظة.
فلو أُخبر بأن فلاناً أوصى له بالبيت ولم يقبل في الحال، وتأخر قبوله فلا بأس بهذا؛ لأن المعتبر القبول بعد الموت ولو طال، ولا يشترط أن يقبل حين علمه بالوصية؛ لأن أصل الوصية قبل أن يموت الموصي عقدٌ جائز، فكذلك ـ أيضاً ـ قبل أن يقبل الموصى له هي عقد جائز، إذا شاء قبل وإذا شاء رد.
إذاً من شرط قبول الموصى له أن يكون قبوله بعد الموت، فإن قَبِلَ قبله فلا عبرة بقبوله.
ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الوصية لغير عاقل أو لغير محصور.
مثال الأول: لو أوصى بدراهم تصرف في بناء المساجد، فلا يقال: يشترط لصحة الوصية أن يقبل مدير الأوقاف؛ لأن المساجد جهة، وليست ذات ملك.
مثال الثاني: لو أوصى بدراهم للفقراء فلا يشترط اجتماع الفقراء كلهم ليقولوا: قبلنا الوصية؛ لأن هذا مستحيل، ولو أوصى لبني زيد، فإن كانوا قبيلة لم يشترط القبول لعدم إمكان حصرهم، وإن كانوا لصلبه فإنه يمكن حصرهم فيشترط القبول، أما غير العاقل وغير المحصور، فإن الوصية تثبت بمجرد موت الموصي.
وَيَثبُتُ المُلْكُ بِهِ عَقِبَ المَوْتِ، ومَنْ قَبِلَهَا ثُمَّ رَدَّهَا لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الوَصِيَّةِ........
قوله: «ويثبت الملك به» أي بالقبول.
قوله: «عقب الموت» ولو طال الزمن بين موت الموصي وقبول الموصى له، وعلى هذا فما حدث من نماء بين موت(11/148)
الموصي وقبول الموصى له فهو للموصى له؛ لأنه يثبت ملكه للموصى به من حين موت الموصي.
مثال ذلك: رجل أُوصِيَ له ببيت وكان يؤجر في اليوم الواحد بمائة ريال، ثم لم يقبل الموصَى له إلا بعد عشرة إيام من موت الموصي ـ فالنماء ألف ريال ـ يكون للموصى له؛ لأن المؤلف يقول: «يثبت الملك به» ، أي: بالقبول «عقب الموت» ، أي: من حين موت الموصي، مع أنه بالأول ليس على ملكه، فهو محتمل أن يكون للورثة أو للموصى له، لكن لما قَبِل انسحب الملك بأثر رجعي ـ كما يقولون ـ فصار النماء من موت الموصي إلى قبول الموصى له، للموصَى له، هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ.
وقال بعض العلماء ـ وهو المشهور من المذهب ـ: إنه لا يثبت الملك إلا بالقبول؛ لأنه قبل أن يقبل ليس ملكه، وبناءً على هذا ففي مثالنا السابق تكون ألف الريال للورثة؛ لأن ملك الموصَى له للموصى به لم يثبت إلا بعد قبوله.
والمسألة محتملة، فكلام المؤلف ـ رحمه الله ـ له قوة؛ لأن ملك الموصَى له للموصى به ملك مراعى، فإن قَبِل فهو ملكه من حين زال ملك الموصي عنه، وملك الموصي يزول عنه بالموت، والمذهب له وجهة نظر أيضاً؛ لأنه لم يثبت ملكه إياه إلا بالقبول، فكيف يكون نماء ملك غيره له؟! فالمسألة مترددة بين هذا وهذا، والقاضي إذا تحاكم الورثة والموصَى له عنده يرجح ما يراه راجحاً، والأولى والأحسن والأحوط أن يصطلح الورثة والموصى له في مثل هذه الحال.(11/149)
قوله: «ومن قبلها» أي: الوصية، أي: الموصى به.
قوله: «ثم ردها لم يصح الرد» لأنها دخلت ملكه، لكن لو قبلها الورثة، أي قبلوا ردَّه للوصية صار ابتداء هبة لهم من الموصَى له.
مثاله: أوصى رجل بهذا البيت لفلان، فَقَبِل، وصار البيت له، ثم بعد ذلك نَدَّمَهُ بعض الناس، فجاء للورثة وقال: أنا تعجَّلت وقبلت الوصية والآن أردها، فقال الورثة: لا نقبل، فنأخذ بقول الورثة؛ لأنه لما قبلها دخلت في ملكه، لكن لو قَبِلَ الورثة الرد صار ابتداء هبة، فكأنه أعطاهم من جديد، وبناءً على ذلك لو كان له غرماء وكان محجوراً عليه فإن هبته للورثة غير صحيحة؛ لأنه محجور عليه.
قوله: «ويجوز الرجوع في الوصية» أي: يجوز للموصي أن يرجع في وصيته؛ وذلك لأنها تبرع معلق بالموت، ولم يحصل الموت فله أن يرجع.
مثاله: أوصى رجل بهذا البيت ليسكنه الفقراء، فهو أوصى به لله ـ تعالى ـ صدقة، ثم بعد ذلك رجع، وقال: فسخت وصيتي، فإنه يصح.
فإن قال قائل: أليس أخرجه لله؟
فالجواب: بلى، لكنه لم يخرج عن ملكه، فهو كالرجل يعزل الدراهم ليتصدق بها، أو يكيل الطعام ليتصدق به، ثم يبدو له فيرجع، فالرجوع صحيح؛ لأنه لم يخرجه عن ملكه، فهذا(11/150)
الذي رجع في وصيته ـ ولو كانت صدقة لله ـ رجوعه صحيح؛ لأنها لم تخرج عن ملكه.
وهل يجوز أن يغير في الوصية ويبدل ويقدم ويؤخر؟ نعم يجوز؛ لأنه إذا جاز الرجوع في الأصل؛ جاز الرجوع في الشرط والوصف، فإذا أوصى بهذا البيت أن يُجْعَلَ للفقراء، ثم بدا له أن يحوله لطلبة العلم جاز ذلك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا أوصى في شيء ثم بدا له بعد ذلك أن يغير وكتب الوصية الثانية، فإنه ينبغي له أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما سبقها؛ حتى لا يكون وصيتان ويرتبك الورثة.
ويكون الرجوع في الوصية بالقول وبالفعل، فإذا قال: اشهدوا أني رجعت في وصيتي، أو أني فسخت وصيتي، فهذا رجوع بالقول.
ويكون الرجوع بالفعل كأن يكتب بيده: إني قد أوصيت بالدار الفلانية لسكنى الفقراء لكني رجعت في وصيتي، فهذا رجوع بالفعل؛ لأنه كتب ولم ينطق ولا بكلمة.
مثال ثانٍ: أوصى بالبيت أن يكون سكناً للفقراء ثم باع البيت، فهذا رجوع بالفعل؛ لأنه لما باعه نقل ملكه، فبطلت الوصية لانتقال ملك الموصي عن الموصى به.
إذاً الرجوع يكون بالقول، وبالفعل، والفعل إما كتابة، وإما تصرف يدل على الرجوع.
لكن لو أوصى بهذا البيت لسكنى الفقراء ثم أجَّره، فهذا ليس رجوعاً؛ لأنه لم ينقل ملكه، فالملك باقٍ حتى مع التأجير،(11/151)
وإذا قدر أنه مات فالإجارة تبقى إلى أن تتم المدة، ثم يسكنه الفقراء؛ لأنه موصى به لهم.
فإذا قال قائل: كيف جاز الرجوع في الوصية؟
قلنا: لأنها لا تنفذ إلا بعد الموت، ومن هنا نعلم صحة الهبة المشروطة بشرط، خلافاً للمذهب، مثل أن يقول لشخص: إن تزوجت فقد وهبت لك هذا البيت تسكنه أنت وزوجتك، فهذا يجوز؛ لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً، والصحيح أن جميع العقود يجوز فيها التعليق إلا إذا كان هذا التعليق يحق باطلاً أو يبطل حقاً.
وَإِن قَالَ: إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَلَهُ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ لِعَمْرٍو، فَقَدِمَ فِي حَيَاتِهِ فَلَهُ وَبَعْدَهَا لِعَمْرٍو.
قوله: «وإن قال» ، أي: الموصي.
قوله: «إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو فقدم» ، يعني زيداً.
قوله: «في حياته فله» ، أي: حياة الموصي، فهنا يكون الموصى به لزيد؛ لأنه قدم قبل أن يملك عمرو الوصية.
قوله: «وبعدها لعمرو» ، أي: بعد حياته، فإن قدم زيد بعد حياة الموصي فإنها تكون لعمرو؛ لأنه لما توفي الرجل تعلق حق الموصى له بهذه العين، ولا يمكن أن نبطل حقه من أجل قدوم زيد، وسواء قدم زيد قبل قبول عمرو الوصية أو بعد القبول، فإن كان قدم بعد قبول عمرو فالأمر واضح؛ لأن عمراً ملكها، وإن كان قدم قبل قبوله فلأن حق عمرو تعلق بها.
وهذا مبني على ما سبق من جواز الرجوع في الوصية، لأنه(11/152)
لما قال: «إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو» كان رجوعاً في الوصية.
مثال ذلك: أوصى بهذه السيارة لعمرو، ثم قال بعد الوصية بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين: إن قدم زيد فله ما أوصيت به لعمرو، فقدم زيد قبل أن يموت الموصي فتكون السيارة لزيد، أما إذا قدم بعد أن مات الموصي فتكون لعمرو؛ لأنه لما قدم في حياة الموصي فإنه تم الشرط، حيث قال: إن قدم فله ما أوصيت به لعمرو، أما إذا قدم بعد موته فقد تعلق بها حق عمرو، إن كان قد قَبِلَها فقد ملكها، وإن كان لم يقبلها فهو أحق بها؛ لأنها موصى بها له.
ولو أوصى بهذه السيارة لعمرو ثم أوصى بها لزيد ثم مات، فكيف يكون الحال؟ هل نقول: إنهما يشتركان فيها، أو نقول: إنها للآخِر منهما؟
فيها قولان:
الأول: أنهما يشتركان فيها؛ لأنها عين أُوصِي بها لشخصين فيشتركان فيها، ولكن هذا الاشتراك اشتراك تزاحم، فإن قبلا الوصية فالسيارة بينهما، وإن ردها أحدهما صارت كلها للآخَر.
وقال بعض العلماء: بل الاشتراك يكون اشتراك ملك، بمعنى أنه إذا لم يقبلها أحدهما فإن نصيبه يرجع للورثة وللآخَر نصيبه، لكن الأول أصح بلا شك؛ لأنهما لم يملكاها بعقد حتى نقول: إنه اشتراك ملك، بل هو اشتراك تزاحم، فإن قبلاها فهي بينهما، وإن لم يقبلاها فهي لمن قبِلها كاملة.(11/153)
الثاني: أنه إذا أوصى بها لزيد ثم أوصى بها لعمرو فهي للآخِر منهما؛ لأن الوصية بها للثاني رجوع عن الوصية بها للأول، وهذا القول هو الصحيح، أن الأول ليس له منها نصيب وعمل الناس اليوم على هذا، ومثل ذلك لو أوصى بالبيت يصرف في كذا ثم أوصى به ثانية وقال: يصرف في كذا، فهل نقول: يصرف في المصرفَيْن جميعاً، أو في الثاني منهما؟
الجواب: ينبني على الخلاف، ولهذا ذكرت فيما سبق أنه ينبغي للموصي إذا كتب وصية أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما سبقها؛ حتى لا يحصل ارتباك بين الورثة والموصَى له.
ويستفاد من هذا جواز تعليق الوصية، وهو كذلك، فالوصية يجوز أن تعلق بشرط، وله أمثلة كثيرة، منها: لو قال: إنْ طلب زيد العلم فله هذه المكتبة، ثم مات الموصي وقد طلب زيد العلم فإن الوصية تثبت؛ لأن الوصية تبرع وليست معاوضة.
وَيُخْرَجُ الوَاجِبُ كُلُّهُ، مِنْ دَيْنٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ،
قوله: «ويُخرَجُ الواجب كله، من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوصِ به» إذا مات الإنسان يتعلق بتركته خمسة حقوق:
أولاً: تجهيزه، ثانياً: الدَّين برهن، ثالثاً: الدَّين المرسل، رابعاً: الوصية، خامساً: الإرث.
فنقدم ما يتعلق بالتجهيز، فلو مات وخلف مائة ريال وهو لا يجهز إلا بمائة جهَّزناه بها، حتى وإن كان عليه دين؛ لأن تجهيزه بمنزلة ثياب المُفلَّس وطعامه وشرابه، فهي حاجة شخصية، فكما(11/154)
أن المفلس الذي عليه الديون، لا نبيع ثيابه التي عليه ولا نأخذ طعامه الذي يأكله؛ لأن هذا تتعلق به حاجته بنفسه، فكذلك تجهيزه.
بعد ذلك الدَّيْنُ الذي برَهْن، ثم الدَّيْن الذي بغير رهن، فالديون تخرج قبل كل شيء.
وظاهر كلامه ـ رحمه الله ـ «من دين وحج» أنه يحج عنه وإن كان الرجل قد ترك الحج لا يريد الحج، ولكن في هذا نظراً، فإن القول الراجح أنه إذا ترك الحج لا يريد الحج فإنه لا يُقضى عنه، ويترك لربه يعاقبه يوم القيامة؛ لأنه ترك الحج وهو لا يريده، أما لو فرض أن الرجل متهاون، يقول: أحج العام القادم وهكذا، فهذا يتوجب القول بقضاء الحج عنه، وقد ذكر هذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه تهذيب السنن، وقال: قواعد الشريعة تقتضي ألا يقضى عنه الحج، ومثله الزكاة، فإن تركها الإنسان بخلاً لا تفريطاً في الأداء فإننا لا نؤدي الزكاة عنه، أما لو تركها تفريطاً ثم مات فهنا يتوجه أن نؤدي الزكاة عنه؛ لأنه يرجو أن يؤديها لكن عاجله الأجل.
وقوله: «من كل ماله» أي: يخرج الدين من كل ماله لا من الوصية، سواء أوصى به أو لم يوصِ، ثم بعد ذلك الوصية ثم بعدها الميراث.
وقوله: «من دين وحج وغيره» يشمل الكفارات إذا كان عليه كفارات، والزكاة إذا كان عليه زكاة؛ لأن هذا واجب لله ـ عزّ وجل ـ، والحج كذلك.
ولنضرب لهذا مثلاً برجل توفي وأوصى بالثلث وعليه دين(11/155)
عشرة آلاف ريال، ولما توفي لم نجد عنده إلا عشرة آلاف ريال، فإنه يقضى دينه حتى وإن كان أوصى بشيء فالوصية باطلة، حتى لو أوصى بشيء معين، فنبطل الوصية ونوفي الدَّين، فالدَّين مقدم على الوصايا وعلى المواريث.
ولعل قائلاً يقول: أليس الله ـ تبارك وتعالى ـ قدم الوصية على الدين فقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وفي الآية الثانية: {يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ، فبدأ بالوصية، والقاعدة أنه يبدأ بالأهم فالأهم؟
فالجواب عن هذا من وجهين:
أولاً: أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية» (1) .
ثانياً: أن الحكمة في تقديم الوصية هو الاعتناء بها؛ لأن الوصية لا مُطالب بها والدين له مُطالب، فالوصية لما كانت لا مطالب بها ربما يتوانى الورثة في تنفيذها، أو يجحدونها أيضاً، والدين لا يمكنهم هذا فيه، فلو أنهم توانوا في قضائه فصاحبه يطالب.
والخلاصة: أنه يقضى الدين قبل الوصية، وبعد قضاء الدين
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة التمريض في الوصايا/ باب تأويل قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ؛ ووصله الإمام أحمد (1/79) ؛ والترمذي في الفرائض/ باب ما جاء في ميراث الإخوة من الأب والأم (2094) ؛ وابن ماجه في الوصايا/ باب الدين قبل الوصية (2715) عن علي ـ رضي الله عنه ـ، قال الحافظ في الفتح (5/444) ط/دار الريان: «إسناده ضعيف، ولكن العمل عليه كما قال الترمذي» . وحسنه في الإرواء (1667) .(11/156)
نرجع للوصية، وننظر إن استغرقت أكثر من الثلث الباقي بعد الدين لم ينفذ منها إلا الثلث، فإذا قدَّرنا أن رجلاً عنده أربعون ألفاً وعليه عشرة آلاف دين، وقد أوصى بالثلث، فإننا نجعل الوصية في هذه المسألة عشرة آلاف، ولو أننا اعتبرنا الوصية قبل الدين لكانت ثلاثة عشر ألفاً وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، لكننا لا نعتبر الوصية إلا بعد قضاء الدين، فنخرج أولاً الدين ثم ننظر إلى ثلث الباقي وننفذ منه الوصية، ولهذا قال: «من كل ماله بعد موته وإن لم يوصِ به» ، يعني وإن لم يوصِ الميت المدين بقضائه؛ لأنه حق واجب عليه، وسبق لنا أنه إذا كان هذا الدين ليس به بيِّنة فإنه يجب عليه أن يوصي به.
فَإِنْ قَالَ: أَدُّوا الوَاجِبَ مِنْ ثُلُثِي بُدِئَ بِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ أَخَذَهُ صَاحِبُ التَّبَرُّعِ، وَإِلاَّ سَقَطَ.
قوله: «فإن قال» يعني الميت.
قوله: «أدوا الواجب من ثلثي بُدئ به، فإن بقي منه شيء أخذه صاحب التبرع، وإلا سقط» ، «الواجب» أي: الحج، أو الكفارة، أو الدَّين، فإننا نفصل الثلث عن التركة ونبدأ به، فنخرج الدين من الثلث، فإما أن يزيد الدين على الثلث، وإما أن ينقص، وإما أن يساوي، فإن ساوى فالأمر واضح، فلو قال: أدوا الواجب من ثلثي، ولما مات وفرزنا التركة وجدنا أن الثلث عشرة آلاف، وأن الدين عشرة آلاف، فإننا نخرج الثلث ولا يكون له وصية؛ لأنه أوصى أن يُقضى الدين من الثلث وقد أديناه.
الصورة الثانية: النقص، لما فرزنا التركة وجدنا أن الثلث سبعة آلاف والدين عشرة آلاف، فنوفي الواجب سبعة آلاف ونأخذ الثلاثة الباقية من التركة.(11/157)
الصورة الثالثة: الزيادة، قال: أدوا الواجب من ثلثي، وثلثه عشرة آلاف، فأحصينا الواجب وجدناه سبعة، فنخرج السبعة في الواجب والباقي تبرع.
مثال ذلك: يقول: أوصيت بثُلُث مالي لزيد، ثم قال: أوصيت أن تخرجوا زكاتي من الثلث ومات الرجل، وكان ثلثه ثلاثين ألفاً وعليه زكاة عشرون ألفاً، فإن أعطينا زيداً الثلث سقطت الزكاة، وإن أدَّينا الزكاة لم يبق لزيد إلا عشرة، فماذا نعمل؟
يقول المؤلف: تخرج الزكاة من الثلث فإن بقي شيء أخذه صاحب التبرع، وإن ساوت الزكاة الثلث أخرجناها، والموصى له ليس له شيء.
أما لو قال: أوصيت لزيد بثلث مالي والمال تسعة آلاف، ثم مات وعليه زكاة ثلاثة آلاف، فنخرج ثلاثة آلاف للزكاة فالباقي ستة، لزيد ألفان، لكن لو قال: أخرجوا الزكاة من ثلثي لم يبق لزيد شيء.
وقوله: «وإلا سقط» يدخل تحتها صورتان:
الأولى: أن يكون الثلث بقدر الدَّين.
الثانية: أن يكون الدين أكثر من الثلث.
وما هو الأفضل للميت؟
نقول: هذا يرجع إلى حال الورثة، إذا كانوا أغنياء فليكن قضاء الواجب من التركة، وإذا كانوا فقراء فليقل: من ثلثي، حتى لا يضيق عليهم.(11/158)
بَابُ المُوصَى لَهُ
تَصِحُّ لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ.
قوله: «باب الموصى له» ، عندنا: موصى له، وموصى به، وموصى إليه، وموصي، ووصية.
فالموصي معروف وهو: المتبرع، والوصية: هي العقد الصادر من الموصي، والموصى له: من أوصى له الميت ليكون الشيء له ملكاً، والموصى به: العين التي أوصى بها أو المنفعة، والموصى إليه: نظير الوكيل في حال حياته، يعني الذي يؤمر بالتصرف بعد الموت، وسيأتي إن شاء الله.
قوله: «تصح لمن يصح تملكه» ، هذه هي القاعدة، فإن قيل: من الذي تصح الوصية له؟
فالجواب: كل من يصح تملكه، أما من لا يصح تملكه، فلا تصح الوصية له، فلو أوصى لعبد غيره فالوصية لا تصح؛ لأن عبد الغير لا يملك على المشهور من المذهب، ولا يقال: إنها تصح وتكون لسيده؛ لأن الموصي قد يقصد نفس العبد، يريد رحمته والبرَّ به، فلا تصح الوصية.
ولو أوصى لِجِنِّيٍّ، بأن كان له صديق من الجن يخدمه ويساعده على أموره ويطلب العلم عنده، فأوصى له بشيء فإنه لا يصح، مع أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقولون: إنه يقبل قول الجني أن ما بيده ملكه، فلو وجدنا جنياً بيده محفظة ويحضر الدرس(11/159)
وقال: إنها لي، وقال إنسان: هذه محفظتي، فإننا نقول: هي له؛ لأنها بيده، إلا إذا أتيت بالشهود.
أشكل على بعض المتأخرين كيف يقول الفقهاء: إنها لا تصح الوصية للجني؛ لأنه لا يملك، ويقولون: إن ما بأيديهم يقبل أنه لهم؟! أجابوا عن ذلك ـ إن صح ما قاله الفقهاء، وقد أوافق أو لا أوافق ـ بأن الفرق واضح؛ لأن الوصية لهم تمليك جديد، وما بأيديهم ملك مستمر فهو لهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد ملكهم كل عظم ذكر اسم الله عليه يجدونه أوفر ما يكون لحماً، فقال لهم: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً ـ هذا يدل على أنهم يأكلون ـ وكل بعرة فهي علف لدوابكم» (1) .
مسائل:
الأولى: هل يجوز أن يوصي لكافر؟
المذهب تصح الوصية للكافر، ولكن المرتد يرى بعض أهل العلم أنه لا يمكن أن يملك شيئاً؛ لأنه يجب قتله ويصرف ماله في بيت المال، حتى ورثته لا يرثونه.
الثانية: إذا تزاحمت الديون وصارت أكثر من المال، فهل نبدأ بالأسبق أو يتساوى الجميع؟
نقول: إن الديون تشترك والنقص يكون على الجميع؛ لأن تعلقها بالتركة ورد على التركة في آن واحد عند موت المدين، فلا فرق بين الدين السابق واللاحق، مثال ذلك:
رجل عليه دين لزيد ثلاثة آلاف، استدانه قبل سنة من موته،
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح، والقراءة على الجن (450) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.(11/160)
وعليه دين لعمرو ثلاثة آلاف استدانه قبل ستة أشهر من موته، ثم مات ولم نجد في تركته إلا ثلاثة آلاف، فلا نعطيها زيداً؛ لأن دينه أسبق، بل نقول: النقص بالقسط، بأن ننسب التركة إلى مجموع الدين، فننسب ثلاثة آلاف إلى مجموع الدَّين ستة آلاف يكون النصف، فنعطي كل واحد نصف حقه.
الثالثة: إذا اجتمعت ديون لله وللآدمي، فهل نقدم دَين الآدمي، أو دَين الله، أو يشتركان؟
مثال ذلك: رجل مات وفي ذمته خمسة آلاف ريال زكاة، وعليه لزيد خمسة آلاف، ولما توفي لم نجد إلا خمسة آلاف فقط، فالدين أكثر من التركة، فهل نصرف خمسة الآلاف في الزكاة؟ أو في دين الآدمي؟ أو يشتركان؟
في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
فمنهم من قال: يُقضى دين الآدمي، فنعطي خمسة آلاف ـ التي هي التركة ـ الآدمي، وعلل ذلك بأن حق الله مبني على المسامحة، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ غني عنا، وحق الآدمي مبني على المشاحة، وهو بحاجة إلى حقه، فيقدم.
ومنهم من قال: يقدم حق الله ـ عزّ وجل ـ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء» (1) ، و (أحق) اسم تفضيل، فيقدم على الحق المفضل عليه، وعلى هذا القول نخرج خمسة الآلاف التي في التركة لأهل الزكاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب الحج والنذور عن الميت (1852) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(11/161)
ومنهم من قال: يشتركان؛ لأن كلًّا منهما دين في ذمة الميت فلا يفضل أحدهما على الآخر، وهذا هو المذهب عند الأصحاب ـ رحمهم الله ـ وهو الصحيح.
فإن قال قائل: ما هو الجواب عن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء» ؟
الجواب: أن معنى الحديث: إذا كان دين الآدمي يقضى فدين الله من باب أولى؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه أيجزئ عنها؟» ، قالت: نعم، قال: «اقضوا الله فالله أحق بالقضاء» ، والمسألة لم ترد في حقين أحدهما لله والآخر للآدمي حتى نقول: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حكم بأن دَين الله مقدم، إنما أراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم القياس، فإذا كان دين الآدمي يقضى فالله أحق بالوفاء.
ونجيب عن القول الآخر، وهو أن حق الآدمي مبني على المشاحة والحاجة، بأن حق الله ـ عزّ وجل ـ يكون لعباد الله، فالزكاة ـ مثلاً ـ للمخلوقين وليست لله ـ عزّ وجل ـ، بمعنى أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا ينتفع بها، فهي في الحقيقة حق لله، وفي نفس الوقت حق لعباد الله، وكذلك نقول في الكفارات، وغيرها مما يجب على الإنسان لله ـ عزّ وجل ـ.
فالقول بأنهما يتحاصَّان ويشتركان هو القول الراجح.
وَلِعَبْدِهِ بِمُشَاعٍ كَثُلُثِهِ وَيَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ وَيَأْخُذُ الفَاضِلَ، وَبِمِائَةٍ أَوْ مُعَيَّنٍ لاَ تَصِحُّ لَهُ، وَتَصِحُّ بِحَمْلٍ وَلِحَمْلٍ تُحُقِّقَ وُجُودُهُ قَبْلَهَا،......
قوله: «ولعبده بمشاع كثلثه» ، المشاع هو الجزء الذي لم يعين مثل الربع، الخمس، العشر، فالوصية لعبده فيها تفصيل، إن أوصى له بمشاع كالثلث ونحوه كالربع والسدس والخمس فلا(11/162)
بأس فيصح؛ لأنه يدخل في الوصية، أي: أن العبد نفسه يدخل في الوصية، فإذا ملك الجزء بالوصية يعتق منه بقدر ما أوصى به، وينجر العتق إلى العبد كله بالسراية فصح أن يتملك، وهذا وجه الفرق بين عبده وعبد غيره.
ولنفرض أن عنده عبداً يساوي ألفاً وعنده عروض تجارة تساوي ألفاً وعنده نقود ألف، فأوصى لعبده بثلثه، فإن العبد يدخل في الوصية؛ لأن الثلث مشاع، يشمل العبد وعروض التجارة والنقود، فيعتق ثلث العبد وينجر العتق إلى العبد كله بالسراية.
قوله: «ويَعتِقُ منه بقدره» أي: بقدر المشاع الذي أوصى به، سواء الثلث أو أقل.
قوله: «ويأخذ الفاضل» إن فضل، بأن تكون قيمته أقل من الجزء المشاع الذي أوصى له به، فلو أوصى للعبد بالثلث، وقدرنا العبد بعد موت سيده فوجدناه يساوي سبعة آلاف والثلث عشرة آلاف، فإن العبد يعتق، ويبقى من الثلث ثلاثة آلاف يأخذها العبد؛ ولهذا قال: «ويعتق منه بقدره» أي بقدر الثلث إن كانت قيمة العبد أكثر من الثلث، «ويأخذ الفاضل» إن كانت قيمة العبد أقل من الثلث.
مثال آخر إذا كانت قيمة العبد أكثر: كما لو أوصى لعبده بثلث ماله، وبعد موته قدرنا الثلث فوجدناه عشرة آلاف ريال، والعبد يساوي خمسة عشر ألف ريال مثلاً، فإننا نقول: يعتق من العبد ثلثاه؛ ووجه ذلك أنه أوصى له بالثلث، وقيمته تزيد على الثلث فلا يعتق منه إلا مقدار الثلث، وإن ساوى العبد الثلث عتق وليس له شيء.(11/163)
فصار إذا أوصى لعبده بمشاع، فإما أن تزيد قيمة العبد أو تنقص أو تساوي.
قوله: «وبمائة أو معين لا تصح له» هذا الجانب الثاني من التفصيل، فإن أوصى لعبده بمقدَّرٍ، بأن قال: أوصي لعبدي بمائة ريال بعد موتي، فإن الوصية لا تصح ولو كان عبده؛ لأن عبده لا يملك لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) ، فما بيده من المال ليس ملكاً له، وهو غير داخل في الوصية، أما في المسألة الأولى إذا أوصى بالمشاع فهو داخل في الوصية، فمن جملة المشاع نفس العبد فيملك جزءاً من نفسه فيعتق بهذا، أما هنا فهو غير داخل في الوصية.
ولو أوصى لعبده بمعين بأن قال: البيت الفلاني لعبدي، فإن الوصية لا تصح؛ لأن العبد لا يملك، فصارت الوصية لعبد الغير غير صحيحة، سواء أوصى له بمعين أو بمقدر أو بمشاع، والوصية لعبده، إن أوصى بمشاع صحت، وإن أوصى بمقدر كمائة أو بمعين لا تصح، والفرق واضح؛ لأنه إذا أوصى بالمشاع صار من جملة المشاع العبد، فيعتق منه بقدر المشاع الذي أوصى به له.
قوله: «وتصح بحملٍ ولحملٍ تُحُقِّقَ وجودُه قبلَها» الوصية
__________
(1) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379) ؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ(11/164)
بالحمل والوصية للحمل بينهما فرق، فالوصية بالحمل يعني أن الحمل يكون هو الموصى به، والوصية للحمل يعني أن الحمل هو الموصى له، أي: المملَّك الذي يعطى الوصية، فتجوز الوصية بالحمل، وللحمل، بشرط أن يكون الحمل موجوداً حين الوصية، فيجوز أن يوصي بالحمل ويقول مثلاً: أوصيت بحمل هذه الشاة لفلان، ويريد الحمل الذي في البطن لا الحمل المستقبل، فإذا كشفنا عنها ووجدنا أنه لا حمل في بطنها فإن الوصية باطلة؛ لأنه غير موجود حين الموت، ولو وجد الحمل بعد الموت فإن الوصية باطلة؛ لأنه لم يوجد إلا بعد الوصية.
لكن لو قال: أوصيت بما تحمل بعيري هذه لفلان، صحت الوصية؛ لأن الحمل هنا لم يعين فكأنه أوصى بنماء هذه البعير، بخلاف الأول فإنه عيَّن فقال: بحمل، فإن لم يكن حمل فإن محل الوصية مفقود، وإذا فقد محل الوصية فقدت الوصية.
والوصية للحمل، أي: أوصى لحمل فلانة، يعني الذي في بطنها، إن كان الحمل موجوداً حين الوصية صحت الوصية، ولكن لا يملكها إلا إذا استهل صارخاً كالميراث، وإن لم يكن موجوداً فإنها لا تصح، ومتى نتيقن الوجود؟ نتيقن الوجود إذا وضعت هذه المرأة قبل ستة أشهر من الوصية وعاش، فنعلم الآن أنه موجود حين الوصية؛ لأن أقل مدة حمل يعيش فيها المولود ستة أشهر، والدليل على ذلك مركب من آيتين: الآية الأولى: قوله تبارك وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، فإن ثلاثين شهراً من الأعوام سنتان ونصف.(11/165)
الآية الثانية: قوله ـ عزّ وجل ـ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، فإذا أسقطنا عامين من ثلاثين شهراً يبقى ستة أشهر، فيكون الاستدلال مركباً من دليلين، وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان الخليفة المشهور ولد لستة أشهر، لكن الغالب أن الحمل يكون تسعة أشهر بالنسبة للآدميين.
وَإِذَا أَوْصَى مَنْ لاَ حَجَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ صُرِفَ مِنْ ثُلُثِهِ مَؤُونَةُ حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرى حَتَّى يَنْفَدَ.............
قوله: «وإذا أوصى من لا حج عليه أن يحج عنه بألف صُرِف من ثلثه مؤونة حجة بعد أخرى حتى يَنفدَ» ، أي: إذا أوصى من لا حج عليه أن يُحَجَّ عنه بألف، كرجل أدى فريضة الحج ـ لأن من لم يحج الفريضة يجب تنفيذ حجه، سواء أوصى به أو لم يوصِ، وسواء زاد عن الثلث أو نقص عنه ـ فإن أدى فريضة الحج ثم أوصى فقال: أوصيت أن يُحَج عني بألف، فوجدنا مَنْ يحج عنه بخمسمائة، يقولون: إنه يُحَج عنه مرة أخرى حتى تَنفدَ الألف؛ لأنه قال: «يحج عني بألف» ولم يقل: حجة، فَيُحج بكل ثلثه حجة بعد أخرى حتى ينفدَ؛ لأنه عيَّن أن يكون الثلث في الحج.
وإذا قال: أوصيت أن يُحَج عني حجة بألف، فهنا قيدها، فهل إذا حججنا عنه بثمانمائة نحج عنه أخرى، أو نطلب من يحج عنه بألف؟
هذا فيه تفصيل:
إذا قال: أوصيت أن يحج عني فلان حجة بألف، أعطينا فلاناً الألف كاملة وقلنا: حج عنه؛ لأن تعيينه الشخص، وتعيينه(11/166)
أكثر مما تستحقه الحجة، يدل على أنه أراد مصلحة الشخص، فنعطيه الألف ولو كان يحج بثلاثمائة مثلاً.
والمذهب أن الزائد للورثة مطلقاً سواء عين أم لا، والصحيح أنه إن عين الموصى له فالزائد له، وإلا فالزائد للورثة.
وإن قال: يحج عني فلان بألف، نقول: يحج عنه فلان حجة بعد أخرى حتى تنفدَ الألف؛ لأنه لم يقيدها.
أما إذا قال: يُحَج عني حجة بألف ولم يعين الشخص، فهنا لا يحج عنه بألف إذا وجدنا من يحج بأقل؛ لأنه لا يظهر أنه أراد منفعة شخص معين، بل يحتمل أنه غلب على ظنه أنه لا يوجد من يحج إلا بألف، فقيدها بالألف بناءً على ظنه.
والناس في هذه المسألة اختلفوا اختلافاً عظيماً، ونحن أدركنا مَنْ يحج بخمسين ريالاً، أما الآن فلا يُحَج إلا بثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، فتغير الحال، فربما يكون هذا الموصي الذي قال: يُحَج عني حجة بألف، ظن أنه لا يوجد مَنْ يحج إلا بألف، فإذا وجدنا من يحج بخمسمائة، فالمذهب أن الزائد للورثة.
فإن نقصت الألف عن الحجة فماذا نصنع؟ الجواب: إذا كان سبب زيادة الحج معلوماً يرجى زواله فإننا ننتظر، مثل أن يكون السبب الخوف في الطرقات ونحو ذلك، أما لو كان السبب غير طارئ ونعلم أنه إن لم تزد قيمة الحجة لم تنقص، ولم نجد أحداً يمكن أن يحج من مكة، ففي هذه الحال، إما أن نبطل الوصية أو نصرفها في أعمال برٍّ أخرى، وهذا هو المتعين، فتصرف(11/167)
الدراهم في أعمال خير أخرى؛ لأن الرجل إنما قصد بالوصية التقرب إلى الله ـ عزّ وجل ـ، وخص نوعاً من القربات ولم نتمكن من هذا النوع، فنأخذ بالمعنى العام وهو القربى.
وَلاَ تَصِحُّ لَمَلَكٍ وَبَهِيمَةٍ وَمَيِّتٍ، فَإِنْ وَصَّى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ يُعْلَمُ مَوْتُهُ فَالكُلُّ لِلحَيِّ وَإِنْ جَهِلَ فَالنِّصْفُ، وَإِنْ وَصَّى بِمَالِهِ لابْنَيْهِ وَأَجْنَبِيٍّ فَرَدَّا فَلَهُ التُّسْعُ.
قوله: «ولا تصح» ، الفاعل يعود على الوصية.
قوله: «لِمَلَكٍ» ، لأن الملَك لا يملك، فالملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يملكون؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى الأكل والشرب، بل هم صُمْدٌ ـ يعني لا أجواف لهم ـ يلهمون التسبيح، فيسبِّحون الله ـ تعالى ـ الليل والنهار لا يفترون.
قوله: «وبهيمة» ، أي لا تصح الوصية لبهيمة على المشهور من المذهب؛ لأن البهيمة لا تملك، ومن شرط صحة الوصية أن تكون لمن يملك، لكن ذكر بعض العلماء أنه يصح الوقف على بهيمة ويصرف في علفها ومؤونتها، فيخرَّج من هذا أن تصح الوصية للبهيمة ويصرف ذلك في علفها ومؤونتها، هذا إذا لم تكن البهيمة من خيول الجهاد أو إبل الجهاد، فإن كانت من خيول الجهاد أو إبل الجهاد فالوصية لها صحيحة؛ لأن المقصود الجهاد وليس البهيمة؛ ولذلك لا يقوم بقلب الموصي أنها لهذا النوع من الخيل أو من الإبل، بل لعموم الإبل والخيل.
فإذا قال: أوصيت لجمل فلان بكذا وكذا، صححنا الوصية على هذا، كذلك إذا علمنا أن المقصود الجهة دون عين البهيمة، مثل الجهاد، أو يكون هناك بهائم كإبل أو بقر تنقل الماء للمحتاجين في الأحياء، وأوصى لهذه الإبل أو البقر فلا شك أن الوصية صحيحة، ويصرف في مؤونتها وعلفها.(11/168)
قوله: «وميت» أي: لا تصح لميت؛ لأن الميت لا يملك، فإذا كان لا يملك فكيف تصح الوصية له؟!
وقيل: تصح الوصية للميت وتصرف صدقة له في أعمال الخير، وهذا القول هو الراجح، أنه تصح للميت لا على سبيل التمليك؛ لأن الميت لا يملك، وكل أحد يعرف أن الإنسان إذا أوصى لميت لا يريد أن يُشترى له طعام ليأكله، أو شراب ليشربه أو لباس يلبسه، وإنما يريد أن يصرف في أعمال الخير لهذا الميت، لكن لو قال: أنا أريد تمليك الميت، قلنا: الوصية غير صحيحة، وهذا تلاعب؛ لأن الميت لا يملك، وملك الميت ينتقل إلى غيره إذا مات، فكيف يملك؟!
قوله: «فإن وصَّى لحي وميت يعلم موته فالكل للحي» إذا وصى لحي وميت، بأن قال: أوصيت بألف ريال لزيد وعمرو الميت، وهو يعلم أنه ميت فالكل للحي؛ ووجه ذلك أن اشتراكهما اشتراك تزاحم، والموصي يعلم أن الميت معدوم، وأن الوصية لا تصح له، فكأنه أراد أن تكون كلها للحي، فلما تعذر أن يكون نصيب الميت له عاد إلى الحي؛ لأنه يعلم أن الميت لا يملك، وعلى القول الذي رجحنا يكون للحي النصف وللميت النصف ويكون صدقة له، والمذهب أنه ليس للحي إلا النصف مطلقاً سواء علم الموصي أم لم يعلم، بناء على تفريق الصفقة، وأن الصفقة إذا اشتملت على حلال وحرام، حَلَّ الحلال وحرم الحرام، أو على صحيح وفاسد صح الصحيح وفسد الفاسد، وعليه يكون للحي النصف مطلقاً.
ومحل الخلاف ما لم يقل: بينهما أنصافاً، فإن قال ذلك فليس للحي إلا النصف مطلقاً.(11/169)
قوله: «وإن جهل» ، أي: موته.
قوله: «فالنصف» ، ووجهه أنه إنما أوصى للحي والميت بناءً على أن الميت موجود وحي، وعلى هذا يكون الموصى به بينهما نصفين، وتَعذَّرَ إيصال حق الميت إليه، فيبقى حق الحي وهو النصف.
قوله: «وإن وصَّى بماله لابنَيه وأجنبي فردَّا فله التُّسع» ، أي: إن وصى لابنيه وأجنبي بكل ماله، بأن قال: أوصيت بمالي لزيد وابنيَّ بكر وخالد، فإن الوصية بما زاد على الثلث باطلة إذا ردها الورثة، وهذان الابنان ردَّا وقالا: لا نقبل ما زاد على الثلث ولا نجيزه، فإن الوصية ترجع من المال كله إلى الثلث، فيصير الثلث بين ثلاثة، الابنين والأجنبي أثلاثاً، فيكون نصيب الأجنبي التسع؛ لأنه ثلث الثلث، ولهذا قال: «فله التُّسع» .(11/170)
بَابُ المُوصَى بِهِ
تَصِحُّ بِمَا يَعْجَزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ، كَآبِقٍ وَطَيْرٍ فِي هَوَاءٍ، وَبِالمَعْدُومِ، كَبِمَا يَحْمِلُ حَيَوانُهُ وَشَجَرَتُهُ أَبَداً، أَوْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً............
قوله: «تصح بما يعجز عن تسليمه كآبق» ، «تصح» أي: الوصية، والآبق هو العبد الذي هرب من سيده، وهروبه من سيده يعني أنه لن يرجع إليه، فإذا أوصى بعبده الآبق لزيد فالوصية صحيحة؛ لأنه لا مضرة عليه، فإن وجده فهو له وإن لم يجده لم يخسر شيئاً، وكونه يخسر لطلبه هذا عائد إليه.
قوله: «وطير في هواء» ، أي: وتصح ـ أيضاً ـ الوصية بطير في الهواء، كإنسان له حمام يطير في الهواء، فقال: أوصيت بحمامي الذي يطير لزيد؛ والعلة أنه إما سالم وإما غانم، ومثله الوصية بالجمل الشارد والشاة الضالة.
وبناءً على هذا نقول: يتخرج صحَّة هبة ما لا يقدر على تسليمه؛ لأنه إذا كانت الوصية تصح بما لا يقدر على تسليمه فالهبة ـ أيضاً ـ مثلها؛ لأنها كلها تبرع، وهذا هو الصحيح أنه يجوز هبة ما لا يقدر على تسليمه، كالآبق والطير في الهواء؛ لأنه إن حصل فهو غانم وإن لم يحصل فليس بغارم وإنما هو سالم، أما بيع الآبق والطير في الهواء، فهذا لا يجوز لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر» (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/171)
قوله: «وبالمعدوم» أي: تصح الوصية بالمعدوم.
قوله: «كبما يحمل حيوانه وشجرته أبداً أو مدة معينة» مثاله: أوصيت لزيد بما تحمل هذه الشاة، وليس بالحمل؛ لأنه سبق أن الحمل لا تصح الوصية به حتى يعلم وجوده، لكن هذا أوصى بما تحمل، وليس بحمل معلوم معين بل على سبيل أنه نماء، فقال: كل ما تحمل فهو له، فهذا يجوز مع أنه معدوم، وقد تكون هذه الشاة ليس فيها ولد، فنقول: متى نشأ فيها ولد فهو له، وإذا نشأ الثاني فهو له، وإذا نشأ الثالث فهو له، وهكذا.
وكذلك بما تحمل شجرته، فلو كان عنده نخلة وأوصى بثمرة هذه النخلة لفلان، فهذا يصح سواء على الدوام أو في مدة معينة، بأن قال: أوصيت بما تحمل هذه النخلة لمدة خمس سنوات لزيد، فإن الوصية تصح مع أنه معدوم؛ لأن الحمل في هذه الحال صار كالمنفعة في العقار، إذ أنه لم يقصد حملاً معيناً حتى نقول: لا يصح، بل قصد ثمرتها من الحمل، فصار كما لو أوصى بمنفعة هذا البيت وما أشبه ذلك.
، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ بَطَلَتْ الوَصِيَّةُ وَتَصِحُّ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَنَحْوِهِ، وَبِزَيْتٍ مُتَنَجِّسٍ.
قوله: «فإن لم يحصل منه شيء بطلت الوصية» يعني لو قال: أوصيت لزيد بثمرة هذه النخلة عام تسعة عشر وأربعمائة وألف، ولم تحمل، فهل يطالب الموصى له الورثةَ بمعدل ثمرتها كل عام؟
الجواب: لا، بل تبطل الوصية؛ لأن الموصى به لم يحصل.(11/172)
ومثله ـ أيضاً ـ ما يحمل حيوانه، فلو قال: أوصيت بما تحمل هذه الشاة لفلان، ولم تحمل فإنه لا يطالب الورثةَ بمثل حملها كل عام، بل تبطل الوصية لتعذر استيفاء الموصى به.
قوله: «وتصح بكلب صيد» كرجل عنده كلب صيد معلم، فأوصى به لفلان فنقول: تصح الوصية به، مع أن كلب الصيد ليس بمال، ولكنه قد أذن بالانتفاع به، وكذا هبته، أما بيع كلب الصيد فإنه لا يصح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الكلب (1) ، وحقيقة الوصية به أنها تنازل من الموصي عن هذا الكلب؛ لأن نفس الموصي لا يملك الكلب، وباب التبرع أوسع من باب المعاوضة.
قوله: «ونحوه» أي: نحو الصيد، مثل كلب الحرث والماشية؛ لأن كل هذه الثلاثة تباح منفعتها كما جاء في الحديث (2) ، فإذا أوصى بكلب صيد أو كلب حرث أو كلب ماشية صحت الوصية.
وإن أوصى بكلب ليس لهذه الثلاثة، ولا لما بمعناها فالوصية لا تصح؛ لأن الموصي لا يملك أن ينتفع بهذا الموصى به.
قوله: «وبزيت متنجس» لا نجس، وبينهما فرق، فالنجس
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب ثمن الكلب (2237) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي (1567) عن أبي مسعود الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (77) .(11/173)
نجس لعينه، والمتنجس نجاسته حكمية، فالنجس كزيت الميتة، وزيت الخنزير، وزيت كل ما يحرم أكله، والمقصود دهنه، فهذا لا تصح الوصية به، أما الزيت الذي هو زيت الأشجار، فهذا لا يمكن أن يكون نجساً، وإنما يكون متنجساً، فدهن الحيوان وودكه إن كان من حيوان نجس فهو نجس، وإن كان من حيوان طاهر وأصابته نجاسة فهو متنجس، وزيت الشجر يكون متنجساً ولا يكون نجساً.
إذاً الزيت المتنجس تجوز الوصية به؛ لأنه يجوز الانتفاع به في الجلود والسفن وما أشبهها، ففيه منفعة مباحة.
وهل يجوز بيعه؟
الجواب: إن قلنا: إنه يمكن تطهيره وهو الصحيح جاز بيعه، فيكون كالثوب النجس يجوز بيعه ويطهر بعد، وإن قلنا: لا يمكن تطهيره فإنه لا يجوز بيعه، والمذهب أنه لا يمكن تطهيره ولا يجوز بيعه، والصواب خلاف ذلك.
وَلَهُ ثُلُثُهُمَا وَلَوْ كَثُرَ المَالُ إِنْ لَمْ تُجِزِ الوَرَثَةُ وَتَصِحُّ بِمَجْهُولٍ كَعَبْدٍ وَشَاةٍ.......
قوله: «وله ثلثهما ولو كثر المال إن لم تُجزِ الورثة» «له» أي: للموصى له، ثلث الكلب وثلث الزيت المتنجس، ولو كثر المال، إلا إذا أجازت الورثة الوصية بالكلب كله أو بالزيت كله صار له كله، ولنضرب المثال حتى يتضح المقال:
رجل أوصى بكلب حرث لفلان، وعنده ماشية تبلغ مئات الآلاف، فلو باع الكلب فإنه يساوي عشرة ريالات والماشية تساوي ملايين، ولما مات قال الورثة: لا نجيز الوصية، فيكون للموصى له من الكلب الثلث؛ لأن الكلب جنس خاص لا نظير(11/174)
له في ماله، فلا يُملك، ويجوز الانتفاع به، وبقية المال يُملك وينتفع به، وعلى هذا فإذا كان للموصي ثلاثة كلاب متساوية، وأوصى لهذا الرجل بكلب واحد، تنفذ الوصية أجاز الورثة أم لم يجيزوا؛ لأن لهم من جنس هذا ثلثين.
وكذلك الزيت المتنجس يقولون: إنه ليس بمال فلا يصح بيعه، لكن يجوز الانتفاع به، فهو من جنس ليس من جنس المال.
وقوله: «ولو كثر المال» إشارة إلى خلاف.
وهو أن من العلماء من يقول: إنه إذا لم يزد على الثلث ـ لو فرضنا له قيمة ـ فإنه لا تعتبر إجازة الورثة، ويعطى الموصى له بكل حال؛ لأن منع الوصية بأكثر من الثلث لحق الورثة، والورثة الآن ليس عليهم نقص، فهذا الكلب حتى لو باعوه لا يمكن بيعه، فالصواب إذاً أن الكلب كله للموصى له.
قوله: «وتصح بمجهول كعبد وشاة» أي: تصح الوصية بمجهول؛ لأنه إذا صحت بالمعدوم فالمجهول من باب أولى، والمجهول هنا يشمل المبهم، فالمجهول أن يقول: أوصيت لفلان بعبد، والمبهم أن يقول: أوصيت لفلان بعبد من عبيدي، فالجهل في الثانية أقل من الأولى، ويسمى عند العلماء مبهماً؛ لأنه معلوم من وجه مجهول من وجه آخر، فهو معلوم من ناحية كونه محصوراً، ومجهول من ناحية عدم تعيينه.
وهل يُعْطَى أغلى العبيد أو أرخص العبيد أو ماذا؟ وكذا لو أوصى له بشاة، فهل يُعْطَى أدنى شاة أو يعطى شاة سمينة أو ماذا؟(11/175)
وَيُعْطَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاسْمُ العُرْفِيُّ، وَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ فَاسْتَحْدَثَ مَالاً وَلَوْ دِيَةً دَخَلَ فِي الوَصِيَّةِ..........
يقول المؤلف: «ويُعْطى ما يقع عليه الاسم العرفي» ، فيعطى عبداً من العبيد أدنى شيء، إلا بإجازة الورثة، فإذا أجازوا فالأمر إليهم، وإلا فيعطى ما يسمى عبداً، ولو كان جاهلاً.
فإن قال قائل: وهل يعطى عبداً مجنوناً؟
فالجواب: لا؛ لأن ظاهر قصد الموصي أن ينتفع الموصى له بالموصى به، والمجنون لا نفع فيه، بل فيه عبء وعناء، فهو يُعْطَى عبداً عاقلاً، سواء كان متعلماً أو جاهلاً، وسواء كان قوياً أو ضعيفاً.
وبالنسبة للشاة يقول المؤلف: «ويُعطَى ما يقع عليه الاسم العرفي» ، فإذا كان عُرف الناس أن الشاة هي الأنثى من الضأن، فإنه يُعطَى شاة أنثى، فإن اختلف العُرف والحقيقة اللغوية فإنه يقدم العرف؛ لأن كلام الناس يُحمل على ما يعرفونه، فالشاة في اللغة تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، لكنها في العرف أخص من ذلك، إنما تطلق على الأنثى من الضأن.
فإذا قال الورثة: نعطيك تيساً، أو عنزاً، قال: لا، أو خروفاً قال: لا، فله ذلك؛ بناء على أن المغلَّب العُرف، وهو الصحيح، أما إذا قلنا: يُرجع إلى اللغة فإن الورثة يعطونه ما شاؤوا من هذه الأصناف.
واستفدنا من كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أن العرف مقدم فيما ينطق به الناس، فيحمل على أعرافهم، وهذه هي القاعدة السليمة الصحيحة، وليس في هذه المسألة فقط، بل في جميع المسائل يحمل كلام الناس على ما يعرفونه.(11/176)
وعلى هذا، فإذا قال الرجل: خليت زوجتي، فالصيغة من الصريح؛ لأنه عند الناس «خلى زوجته» كـ «طلق زوجته» ، وإن كانت كناية عند الفقهاء، لكن هذا يناقض كلامهم في بعض الأبواب في أنه يُغلَّب العرف حتى في الأيمان.
وإذا قال: «جوزتك» بنتي، بهذا اللفظ، فعند الناس في عرفهم أن جوَّز مثل زوَّج، فعلى هذا ينعقد النكاح بهذا اللفظ، أما لو خطب ابنته منه وقال: أعطيتك، فهذا ليس بعقد ولكنه وعد؛ لأنه لما قال: خطبت، فقال: أعطيتك، يعني وافقتك على خطبتك.
المهم أننا نأخذ من كلام المؤلف هنا أن العرف مقدم على كل شيء ما لم يناقض الشرع، فإن ناقض الشرع فلا حكم له، فلو فرض أنه شاع في الناس أن بيع المحرم المعيَّن حلال، وهو حرام شرعاً فلا يرجع إلى العرف، فالعرف إذا خالف الشرع يجب إلغاؤه؛ لأن الأمة الإسلامية يجب أن يكون المتعارف بينها ما دل عليه الشرع، فإذا وجد عرف يخالف الشرع وجب تعديله، ولا يجوز أن يحول الشرع إلى العرف.
فإن قال قائل: ألستم تقولون: إن المرجع في النفقة على الزوجة ـ مثلاً ـ إلى العرف؟ الجواب: بلى، لكننا لم ننقض القاعدة؛ لأن الله أحالنا في الإنفاق على الزوجة إلى العرف، فإذا عملنا بالعرف في الإنفاق فقد عملنا بالشرع.
قوله: «وإذا أوصى بثلثه فاستحدث مالاً ولو دية دخل في الوصية» ، (أوصى) الفاعل يعود على ما يدل عليه الاشتقاق، يعني وإذا أوصى الموصي، وعَود الضمير على ما يدل عليه الاشتقاق(11/177)
سائغ في اللغة العربية، قال الله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، فقوله: (هو) أي: العدل المفهوم من كلمة «اعدلوا» ، فإذا أوصى موصٍ بثلثه فاستحدث مالاً دخل في الوصية؛ لأن المعتبر الثلث عند الموت لا عند الوصية.
مثال ذلك: رجل أوصى بثلثه وعنده ثلاثة آلاف، فالثلث حين الوصية يساوي ألفاً، لكن الرجل أغناه الله، وصار عنده ثلاثة ملايين عند الوفاة، فتكون الوصية مليوناً، ولهذا قال: «فاستحدث مالاً دخل في الوصية» .
وقوله: «ولو دية» إشارة خلاف لكنه خلاف ضعيف، فقيل: إن الدية لا تدخل في الوصية؛ لأنها إنما وجبت بعد موته فتكون للورثة خاصة، والذين قالوا تدخل في الوصية قالوا: لأن الموصى له صار مستحقاً لمال الموصي، وموته شرط لثبوتها، أما سبب الثبوت ـ وهو الجناية ـ فهو سابق على الموت؛ لأن الجناية حدثت قبل الموت، وهذا هو الصحيح أن الدية تدخل في الوصية.
مثال ذلك: رجل أوصى بثلث ماله وعنده مائتا ألف، ثم قُتِلَ خطأً فاستحق الدية مائة ألف، فيكون الجميع ثلاثمائة ألف فيكون للموصى له مائة ألف، ولو قلنا: إن الدية لا تدخل لكان للموصى له ثلث المائتين، أي: ستة وستون وثلثان، لكن نقول: له مائة ألف؛ لأن الدية تعتبر من ماله؛ لأنها عوض نفسه.
وبناءً على هذا ينبغي للقضاة إذا كتبوا تنازل الورثة عن الدية، أن يسألوا أولاً هل أوصى أو لا؟ فإن كان قد أوصى فليس(11/178)
لهم التنازل عن الدية كلها، إلا إذا كان له مال يقابل الثلث؛ لأن حق الوصية مشارك لحق الورثة، فيسأل ويقول: هل له ما يقابل الثلث؟ فإذا قالوا: ليس عنده إلا هذه الدية، فيقول: إذاً لا يصح عفوهم إلا عن ثلثي الدية، أما ثلثها فهي للوصية إذا كان قد أوصى بالثلث.
وهذه يغفل عنها بعض الناس، تجده ـ مثلاً ـ يحضر الورثة ويكتب تنازلهم ولا يسأل هل أوصى أو لا؟ وهل له مال سوى هذه الدية أو لا؟
وَمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِمُعَيَّنٍ فَتَلِفَ بَطَلَتْ، وَإِنْ تَلِفَ المَالُ غَيْرُهُ فَهُوَ للمُوصى لَهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ ثُلُثِ المَالِ الحَاصِلِ لِلوَرَثَةِ.
قوله: «ومن أُوصي له بمعيَّن فتلِف بطلت» ، بأن قال الموصي: أوصيت بهذه السيارة لفلان، فاحترقت السيارة وتلفت، فتبطل الوصية؛ لأن الموصى به تعذر استيفاؤه، وليس له أن يطالب الورثة ويقول: أعطوني قيمة السيارة؛ لأنه معين تلف، فتبطل الوصية.
قوله: «وإن تلف المالُ غيرُهُ فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» ، أي: إن تلف المال غير الموصى به ـ هذا عكس المسألة السابقة ـ نظرنا، إن كان تلف المال قبل موت الموصي فليس للموصَى له إلا ثلث ما أُوصِيَ له به؛ لأنه لما مات صار هذا المعين زائداً على الثلث فلا ينفذ منه إلا الثلث فقط، أما إن كان تلف المال بعد الموت فكما قال المؤلف: «فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» ، فإذا كان بعد الموت فنقول: إن ما سوى هذا المعين تلف على نصيب الورثة.(11/179)
مثال ذلك: أوصى له بسيارة فتلف المال إلا هذه السيارة، فهل تبطل الوصية أو لا ينفذ إلا ثلث السيارة، أم ماذا؟ نقول: في هذا تفصيل، إن تلف المال قبل أن يموت لم ينفذ من هذه السيارة إلا الثلث؛ لأنَّ ماله أصبح هذه السيارة فقط، فليس له إلا ثلثها إلا أن يجيز الورثة، وإن كان تلف المال بعد موت الموصي نظرنا، إذا كان المال الذي تلف ضعف قيمة السيارة، يعني السيارة قيمتها ألف، والمال الذي تلف ألفان، فالوصية نافذة؛ لأنه تبين الآن أن هذه السيارة عند موت الموصي تساوي الثلث فتنفذ، وإن كان الذي تلف بعد موت الموصي مثل قيمة السيارة أو أقل، فإنه لا يثبت للموصى له إلا ما يقابل الثلث، بمعنى أننا نضم قيمة السيارة إلى الموجود، فإذا كانت قيمة السيارة مثلاً ستين ألفاً، والموجود عشرون ألفاً، فنضم قيمة السيارة إلى الموجود فيكون ثمانين ألفاً، فلا يملك من السيارة إلا ما يقابل ثلث الجميع، ولهذا قال: «فهو للموصى له إن خرج من ثلث المال الحاصل للورثة» والحاصل للورثة لا يكون إلا بعد الموت.(11/180)
بَابُ الوَصِيَّةِ بِالأَنْصِبَاءِ وَالأَجْزَاءِ
إِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِهِ مَضْمُوماً إِلى المَسْأَلَةِ، فَإِذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاثَةً فَلَهُ الرُّبُعُ......
«باب الوصية بالأنصباء والأجزاء» ، الأنصباء: جمع نصيب وهو نصيب الوارث، وهو الشيء المقدر، والأجزاء: جمع جزء وهو الشيء المقدر، لكن لا بالنسبة لشخص معين، فالأنصباء بالنسبة للأشخاص، والأجزاء بالنسبة للمسألة.
قوله: «إذا أوصى بمثل نصيب وارث معيَّن فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة» ، هذا هو الضابط، فإذا أوصى بمثل نصيب وارث معين فقال: مثل نصيب ابني فلان، أو بنتي فلانة أو ما أشبه ذلك، فله مثل نصيبه مضموماً إلى المسألة، إذاً نصحح مسألة الورثة، ثم نضيف إليها مثل نصيب مَنْ أوصى له، مثاله:
قوله: «فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فله الثلث» ، فالمسألة من اثنين، أضف إليها مثل نصيب واحد منهما، فتكون المسألة من ثلاثة، فيكون له الثلث.
قوله: «وإن كانوا ثلاثة فله الربع» ، فإذا أوصى بمثل نصيب ابنه وله ثلاثة أبناء، فمسألتهم من ثلاثة، أضف إليها واحداً مثل نصيب أحدهم تكن أربعة، فيكون للموصى له الربع، وهذا سهل.
ولو أوصى بمثل نصيب زوجته وله زوجة وابن، فله الثمن(11/181)
مضموماً إلى المسألة وهو تسع في الحقيقة! لأن نصيب الزوجة الثمن ـ واحد من ثمانية ـ والمسألة من ثمانية أضف إليها واحداً تكن تسعة، فيكون للموصى له التسع، وللزوجة الثمن واحد، لكنه بسبب الوصية أصبح تسعاً، والباقي للابن.
وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ بِنْتٌ فَلَهُ التُّسْعَانِ، وَإِنْ وَصَّى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَانَ لَهُ مِثْلُ مَا لأَقَلِّهِمْ نَصِيباً، فَمَعَ ابْنٍ وَبِنْتٍ رُبُعٌ وَمَعَ زَوْجَةٍ وَابْنٍ تُسْعٌ وَبِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ سُدُسٌ، وَبِشَيْءٍ أَوْ جُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَعْطَاهُ الوَارِثُ مَا شَاءَ.
قوله: «وإن كان معهم بنت فله التسعان» أي: إذا كانوا ثلاثة أبناء معهم بنت فله التسعان؛ لأن الثلاثة لكل واحد سهمان فيكون ستة، والبنت سهم فيكون سبعة، أضف إلى المسألة مثل نصيب أحد الأبناء فتكون تسعة، فيكون له التسعان.
قوله: «وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين كان له مثل ما لأقلهم نصيباً» مثال ذلك: قال أوصيت لفلان بمثل نصيب وارث من ورثتي، ولم يبين مَنْ هو، فله مثل ما لأقلهم نصيباً.
قوله: «فمع ابن وبنت ربع» هذا المثال الأول.
له ابن وبنت وأوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يبين، فنقول: الابن والبنت مسألتهما من ثلاثة، للابن اثنان، وللبنت واحد، أضف إلى الثلاثة مثل نصيب البنت تكن أربعة، إذاً للموصى له الربع.
قوله: «ومع زوجة وابن تُسع» هذا المثال الثاني: إذا قال: أوصيت لفلان بمثل نصيب أحد الورثة، وورثته زوجة وابن، فالزوجة لها الثمن، والابن له الباقي، أضف الثمن واحداً إلى الثمانية تكن تسعة، إذاً فللموصى له التسع.(11/182)
قوله: «وبسهم من ماله فله سدس» أي: إذا أوصى له بسهم من ماله فله السدس قَلَّ أو كثر، فيؤخذ السدس من التركة أولاً ثم يقسم الباقي على الورثة، مثال هذا: أوصى رجل بسهم من ماله لفلان، وله ابن وبنت، فنعطي فلاناً السدس، والباقي يقسم بين الابن والبنت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا مروي عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم (1) ـ فأخذ به الفقهاء توقيفاً لا تعليلاً.
وقال بعضهم: إنه تعليل؛ لأن السهم في اللغة العربية السدس، ولكن في القلب شيء من هذا؛ لأن السهم يقتضي أن يكون أقل سهم، فيكون كما لو أوصى بنصيب وارثٍ ولم يُبين، وهذا أحد القولين في المسألة، أنه إذا أوصى له بسهم من ماله فله مثل ما لأقل الورثة نصيباً، وعلى هذا فمع ابن وبنت يعطى الربع؛ لأن هذا أقل سهم.
وأما السدس فلعلها قضايا أعيان وردت عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فَظُنَّ أنها توقيف، وما دامت المسألة ليس فيها نص شرعي ولا حقيقة شرعية، فينبغي أن يُرجع في ذلك إلى المسألة ويقال: أدنى سهم فيها هو الواجب للموصى له.
قوله: «وبشيء أو جزء أو حظ أعطاه الوارث ما شاء» أي: إذا قال: أوصيت لفلان بشيء من مالي ثم هلك، فيعطيه الوارث ما شاء، وظاهر كلامهم ـ رحمهم الله ـ أنه يعطيه ما شاء مطلقاً، حتى ولو كان بعيداً أن يكون مراداً، فلو كان إنسان عنده عشرة ملايين
__________
(1) كابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كما عند ابن أبي شيبة (11/171) .(11/183)
تركة، وأوصى بشيء من ماله لفلان، فأعطاه الورثة ريالاً فقط، فعلى كلام المؤلف تبرأ ذممهم، ولا يطالبهم بشيء؛ لأن الميت أوصى له بشيء من ماله، وهذا شيء، فيعطى أقل ما يقع عليه الاسم، ولكن ينبغي أن يقال: ما لم يخالف ذلك العرف، فإن خالف العرف رجعنا إلى ما تقتضيه الوصية، ومن المعلوم أن من عنده عشرة ملايين وأوصى لشخص بشيء أنه لا يريد ريالاً من عشرة ملايين!! هذا بعيد جداً؛ لأن الموصي قصده نفع الموصى له، وإعطاؤه من هذا المال، ومثل هذا لا يرضى أن يعطى إياه، فيرجع في ذلك ـ على القول الراجح ـ إلى ما يقتضيه العرف، ولا يعطيه الوارث ما شاء.
وكذلك ـ أيضاً ـ إذا قال: بجزء من مالي، وعنده عشرة ملايين، فأعطاه الوارث هللة، وهي جزء من المال، فلا يمكن أن يقال: إن هذه الهللة أراد الموصي أن يُعْطَى إياها الموصى له، وعنده عشرة ملايين!!
ولو أوصى له بشيء من ماله، فأعطاه الورثة غترة النوم التي يتغلل بها إذا نام، فعلى كلام المؤلف أن هذا يجزئ؛ لأن هذه مال تورث وتباع في التركة، لكن هذا لا يمكن أن يقال به، حتى عامة الناس يرون أن هذا منتقد، وأن الموصي لم يرد ذلك.
وقوله: «أو حظ» بأن قال: أوصي لفلان بحظ من مالي، وأعطوه هللة وعنده ملايين فيصح على كلام المؤلف، لكن إذا قال: «حظ من مالي» فكلٌ يفهم أنه حظ مهم.
فعلى كل حال مثل هذه المسائل يُرجع فيها إلى العرف، لا إلى مطلق المعنى؛ لأن الناس لهم أعراف ولهم إرادات تُخصص العام، أو تُعمم الخاص، أو تطلق المقيد أو ما أشبه ذلك.(11/184)
بَابُ المُوصَى إِلَيْهِ
تَصِحُّ وَصِيَّةُ المُسْلِمِ إِلى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ رَشِيدٍ.....
قوله: «باب الموصى إليه» الموصى إليه ليس ركناً من أركان الوصية؛ لأن أركان الوصية هي: موصٍ، وموصًى له، وموصًى به، والصيغة قد نقول: هي من الأركان، لكن الموصى إليه ليس بركن؛ لأنه أمر زائد فيمكن للموصي أن يقول: أوصيت لفلان بكذا وينتهي.
الموصى إليه هو الذي عُهد إليه بالتصرف بعد الموت سواء في المال أو في الحقوق، وهو بمنزلة الوكيل للأحياء وله شروط.
قوله: «تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد» أي: إذا كان الموصي مسلماً فلا بد أن يكون الموصى إليه مسلماً مكلفاً، يعني بالغاً عاقلاً، عدلاً يعني مستقيم الدين والخلق، رشيداً، يعني حسن التصرف فيما أوصي إليه به.
ووصية الكافر إلى المسلم تصح من باب أولى، ووصية الكافر إلى الكافر تصح، فلو أوصى يهودي إلى يهودي لينفذ بعد موته ما وصاه به فلا بأس، إنما هذه الشروط في الموصى إليه إذا كان الموصي مسلماً.
وقوله: «إلى كل مسلم» يخرج به الكافر، فلا تصح وصية المسلم إلى الكافر، ولو كان الكافر أميناً، ولو كان الكافر عاقلاً ولو كان صديقاً للموصي؛ لأن هؤلاء قد خانوا الله من قبل، وإذا(11/185)
كانوا خانوا الله فإنهم يخونون عباد الله من باب أولى؛ ولهذا لما كتب معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في أن يولي نصرانياً على حساب بيت المال فأبى عليه عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال: لا يمكن أن نأتمن نصرانياً على حساب بيت المال، وكيف نأمنهم وقد خوَّنهم الله، فكتب إليه معاوية ـ رضي الله عنه ـ أن الرجل حاذق وجيد، فكتب إليه عمر ـ رضي الله عنه ـ: (مات النصراني والسلام) (1) ، وهذه لها مغزى عظيم، يعني هل يتعطل بيت المال إذا مات هذا النصراني؟! فقدِّرْ أنه مات، فبيت المال لا يتعطل.
إذاً لا يصح أن يوصي إلى الكافر، ولو كان من آمن الكفار، وأقواهم؛ لأنه غير مأمون مهما كان الأمر.
وقوله: «مكلف» يعني بالغاً عاقلاً، والبلوغ معروف بماذا يحصل، والعقل هو أن يكون لدى الإنسان ما يحجزه عن السفه والتصرفات الطائشة، وضد البالغ الصغير، وضد العاقل المجنون.
وظاهر كلامه أنه تصح وصية الرجل إلى المرأة؛ لأنها بالغة عاقلة، فإذا أوصى إليها بثلث ماله تصرفه للفقراء أو أي مشروع خيري، فهذا يجوز؛ لأنها يصح تصرفها في مال نفسها، فيصح تصرفها في مال غيرها.
وقوله: «عدل» العدل ضد الفاسق، وهو من استقام في دينه ومروءته، ففي دينه بأن لا يفعل كبيرة إلا أن يتوب منها، وأن لا يصر على صغيرة، وأن يكون مؤدياً للفرائض؛ وذلك لأن من
__________
(1) انظر: أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/211) .(11/186)
فرط في دينه فإنه لا يؤمن أن يفرط في عمله، وأما المروءة فإنه لا يفعل ما ينتقده الناس، فإن فعل ما ينتقده الناس عليه فليس بعدل.
فإن أوصى إلى فاسق، فالمذهب أنه لا تصح الوصية إليه؛ لأنه غير مأمون، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، فالفاسق لا يقبل خبره ولا يرضى تصرفه، ولكن ينبغي أن يقال: إن هذا مبني على الشهادة، فإذا قبلنا شهادة الفاسق المرضي في شهادته قبلنا الوصية إليه؛ لأنه قد يوجد فاسق لكنه أمين من جهة المال، ولنفرض أنه يشرب الدخان، وشرب الدخان إصرار على صغيرة، إذاً هو فاسق، فإذا كان هذا الشارب للدخان رجلاً عاقلاً حصيفاً أميناً رشيداً، ونقول: لا تصح الوصية إليه، في هذا نظر لا شك، ولهذا نقول: إن اشتراط العدالة فيه تفصيل، فإن كانت العدالة تخدش في تصرفه فهي شرط، وإن كانت لا تخدش في تصرفه، وأنه يتصرف تصرفاً تاماً ليس فيه أي إشكال، فإنها ليست بشرط، وهذا هو الصحيح في مفهوم قوله: «عدل» .
وقوله: «رشيد» وهو الذي يحسن التصرف فيما وكل إليه؛ لقول الله تعالى في اليتامى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فالرشد لا بد منه، ولكن الرشد في كل موضع بحسبه، فالرشيد في المال هو الذي يحسن البيع والشراء والاستئجار والتأجير، بدون أن يغبن غبناً أكثر مما جرت به العادة.
والرشيد في ولاية النكاح ـ على القول بصحة الوصية فيها ـ(11/187)
ليس الذي يحسن البيع والشراء، بل هو الذي يعرف الكفء ومصالح النكاح.
فكل رشد بحسبه، فالرشيد في المال ليس الرشيد في ولاية النكاح، والرشيد في النكاح ليس الرشيد في المال، فقد يكون الرجل رشيداً في ولاية النكاح؛ لأنه رجل يعرف الناس ويعرف الكفء ويخشى الله ويتقه، ولكنه في المال أخرق لا يعرف، يأتيه الصبي معه الدجاجة تساوي ريالين فيبيعه إياها بعشرة ريالات، فهذا ليس برشيد؛ لأنه غبن بنحو خمسة أضعاف، لكنه من الناحية الأخرى جيد، إذاً الرشيد في كل موضع بحسبه.
وَلَوْ عَبْداً، وَيَقْبَلُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِذَا أَوْصَى إِلَى زَيْدٍ وَبَعْدَهُ إِلَى عَمْرٍو وَلَمْ يَعْزِلْ زَيْدَاً اشْتَرَكَا، وَلاَ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِتَصَرُّفٍ لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ.....
قوله: «ولو عبداً، ويقبل بإذن سيده» «لو» هذه إشارة خلاف، يعني أنه تصح الوصية إلى العبد لكن يقبل بإذن سيده، ولو قلنا بهذا القول فيجب أن نقول: من شرط السيد أن يكون عدلاً رشيداً بالغاً عاقلاً مسلماً، فيشترط في سيده أن يكون ممن تصح الوصية إليه.
وهذا الخلاف الذي أشار إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ يقابله من يقول: لا تصح الوصية إلى العبد مطلقاً؛ لأن العبد قاصر يحتاج إلى من يقوم عليه، فكيف يكون قيماً على غيره؟! فالوصية إلى العبد لا تصح.
والقول الثالث: التفصيل، فالوصية إلى عبد نفسه جائزة، والوصية إلى عبد غيره غير جائزة؛ لأن وصيته إلى عبد نفسه تكون نتيجة لعلمه بأن هذا العبد أمين رشيد، يحسن التصرف تماماً، وأنه سوف يحرص على وصية سيده كما يحرص على ماله أو(11/188)
أكثر، وهذا القول وسط بين القول بالمنع مطلقاً والقول بالجواز مطلقاً، ومع ذلك لا بد من إذن السيد؛ لأنه إذا قبل الوصية فسوف ينشغل وقتاً غير قصير بتصريف هذه الوصية، فيقتطع جزءاً من وقته يُفوِّته على سيده، فلا بد من إذن السيد.
وقوله: «سيده» يجوز أن يقال: سيده؛ لأن هذه سيادة مقيدة، والممنوع هي السيادة المطلقة، فإنها لا تكون إلا لله وحده ـ عزّ وجل ـ، أما السيد المقيد فلا بأس، فيقال: سيد هؤلاء القوم، أو سيد بني فلان.
قوله: «وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا، ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله له» هذان الاسمان ـ زيد وعمرو ـ محل التمثيل عند الفقهاء والنحويين وغيرهم أيضاً، لخفتهما؛ لأن كليهما ثلاثة أحرف وسطها ساكن، فهي خفيفة على اللسان، فلو قال: أوصيت إلى زيد أن يصرف خُمس مالي في أعمال البر، ثم بعده قال: أوصيت إلى عمرو أن يصرف خُمس مالي في أعمال البر، فنقول: إن قال: عزلت زيداً، فالوصية لعمرو، وإن لم يقل فهي بينهما، هكذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، وإذا كانت بينهما اشتركا في التصرف، ولا يمكن أن ينفرد أحدهما بتصرف إلا بمراجعة الآخر، وعلى هذا فإذا مات الموصي أعطينا الرجلين جميعاً الوصية ـ وهي الخمس ـ في المثال السابق، وقلنا: تصرفا فيه فيما أوصى به فيه، ولا ينفرد أحدكما عن الآخر بشيء؛ لأنه جعله لهما.(11/189)
وهذه المسألة لها صور:
الأولى: أن يوصي إلى زيد ثم يوصي إلى عمرو، ويقول: قد عزلت زيداً، فإن الموصى إليه يكون عمراً.
الثانية: أن يقول: أوصيت إلى زيد وعمرو، فإن الوصية تكون إلى الاثنين.
الثالثة: أن يقول: أوصيت إلى زيد، ثم يقول بعد ذلك: أوصيت إلى عمرو، فالمذهب أنهما يشتركان.
وقيل: إن الوصية للأخير؛ لوجهين:
أولاً: أنه لو ورد نصان لا يمكن الجمع بينهما فإن الثاني يكون ناسخاً للأول.
ثانياً: إن مقتضى الوصية إلى عمرو عزل زيد، ورضاه بعمرو.
فإن قال قائل: قد يكون نسي أنه أوصى إلى زيد، مثل أن تكون المدة طويلة.
فنقول: نعم، لنفرض أنه نسي، لكن الإيصاء إلى عمرو يقتضي أنه رضي بعمرو، وإذا اقتضى ذلك، فإن قلنا: إنه عزل لزيد فهو عزل، وإن لم نقل فهو ابتداء وصية، فيكون الثاني هو الوصي وحده، وهذا القول هو الراجح، كما مر علينا في الموصى له أنهما يشتركان، وأن القول الراجح أنه للثاني، ولكن كما قلت من قبل، وأقوله الآن تأكيداً: إنه ينبغي للإنسان إذا كتب وصية إنسان أن يقول: هذه الوصية ناسخة لما قبلها، حتى يريح الذين يأتون من بعد، ولا يحصل التباس.
وقوله: «ولا ينفرد أحدهما بتصرفٍ لم يجعله له» علم منه أنه(11/190)
إذا انفرد أحدهما بتصرف جعله له فلا بأس، كما لو قال: أوصيت بخمسي إلى زيد وعمرو في أعمال الخير، يتولى زيد صرفه في طلبة العلم، فإن الذي يتولاها زيد؛ لأنه خصه، ولو قال: يتولى عمرو صرفه فيمن احتاج إلى النكاح، فإن عمراً يتولى هذا، ونحن نمشي في الوصية على ما يقتضيه كلام الموصي.
وَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةٌ إِلاَّ فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ يَمْلِكُهُ المُوصِي كَقَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَفْرِقَةِ ثُلُثِهِ والنَّظَرِ لِصِغَارِهِ،.............
قوله: «ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي» أي: الوصية لا تصح بالنسبة للموصى إليه إلا في تصرف معلوم يبينه الموصي، ويكون الموصي يملك ذلك، فإن كان في تصرف مجهول فإنه لا يصح، وهل مثله إذا أَطلق ولم يذكر تصرفاً؟ يحتمل هذا وهذا، مثل أن يقول: أوصيت بخمسي إلى فلان، ولا يذكر شيئاً، فظاهر كلام المؤلف أنه لا تصح الوصية؛ لأن الموصى إليه ماذا يصنع؟
لكن القول الراجح: أنه تصح الوصية ويقال للموصى إليه: افعل ما يقتضيه العرف، أو افعل ما ترى أنه أحسن شيء في أمور الخير، حتى وإن اقتضى العرف خلافه، وَعُرْفُنا الآن ـ الذي جرى عليه أكثر الناس ـ إذا قال: أوصيت بخمس مالي أو ثلثه يجعل في أضحية، وعشاء في رمضان، وما أشبه ذلك من المصروفات التي يعرفها الناس من قبل، لكن لو رأى الموصى إليه أن يصرف هذا في عمارة المساجد وطبع الكتب المحتاج إليها، وتزويج المحتاجين وإعانة طلاب العلم، فهذا أفضل من أضحية تذبح ويتنازع عليها الورثة.
وكان الناس فيما سبق ـ لما كانت الأموال قليلة ـ يتنازعون(11/191)
على الأضحية نزاعاً شديداً، حتى لو أخذ أحدهم أكثر من الآخر برطل تنازع معه.
فنقول: إذا أوصى بشيء وأطلق، فالصحيح أنه جائز، ويصرف فيما اعتاده أهل البلد، أو على الأصح فيما يرى أنه أفضل.
وقوله: «يملكه الموصي» فإن كان لا يملكه لم تصح الوصية، والذي لا يملكه الموصي نوعان:
أحدهما: ما لا يملكه شرعاً بأن يوصي إليه في فعل محرم، مثل أن يقول: أوصيت إلى فلان أن يَصرف للقبر الفلاني مائة درهم لإسراجه أو للذبح له، فهذه الوصية باطلة.
الثاني: ما يمتنع لحق الغير، مثل أن يقول: أوصيت إلى فلان أن يبيع بيتي وهو مرهون، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يملكه إلا بإذن المرتهن.
قوله: «كقضاء دينه» يعني لو أوصى هذا الرجل إلى فلان أن يقضي دينه فإن التصرف معلوم، حتى لو كان الدين مجهولاً فإنه لا يضر.
قوله: «وتفرقة ثلثه» يعني أوصى بثلثه وقال: الوصي ـ أي: الموصى إليه ـ فلان يفرقه في كذا وكذا، فهذا التصرف معلوم، وليت المؤلف لم يقل: «وتفرقة ثلثه» وليته قال: تفرقة خمسه؛ لأنه في أول الوصايا قال: تسن بالخمس، وإذا كان هذا هو الأفضل فينبغي أن يكون هو مورد التمثيل؛ لأن الثلث مباح والخمس أفضل، وإذا كان كذلك فينبغي أن نذكر الأفضل حتى يعتاد الناس عليه، ولهذا الآن أكثر الناس يقول: فلان ليس له(11/192)
ثلث، ولو راعينا الأفضل لقلنا: ما له خمس، فليت المؤلف ـ رحمه الله ـ قال: وتفرقة خمسه، أو على الأقل قال: وتفرقة ما أوصى به؛ لأنه لو قال: الثلث، اعتاد الناس على الثلث.
قوله: «والنظر لصغاره» النظر للصغار ـ أيضاً ـ من التصرف المعلوم، يقول: الوصي على أولادي الصغار من بنين وبنات فلان، فإنه يجوز ويكون هذا الوصي هو الناظر على الأولاد، يقوم بمصالحهم من نفقة وكسوة وتربية وسكن.
وهل يملك أن يوصي بتزويج بناته؟
المذهب: يملك، فيقول: الوصي في تزويج بناتي فلان، حتى وإن كان لهن إخوة أشقاء فإنهم لا يزوجونهن؛ لأن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، لكن هذا القول ضعيف جداً؛ لأن ولاية النكاح ولاية مستقلة، هي للإنسان ما دام حياً، فإذا مات انتقلت إلى من هو أولى شرعاً، فلا تستفاد ولاية النكاح ـ على القول الراجح ـ بالوصية.
وقولنا: لا تستفاد بالوصية، يفهم منه أنها تستفاد بالقرابة، فلو أوصى أن يزوج بناته أخوهن الأكبر الشقيق، فإنه يصح؛ لأنه هو وليهن بعده، إلا من تزوجت وأتت بأبناء فأبناؤها أولياؤها.
إذاً القول الراجح في مسألة التزويج أنه لا يملك الموصى إليه ـ وهو الوصي ـ أن يزوج بهذه الوصية، لكن إذا أردنا أن نعمل بالقول الراجح وبالمذهب فكيف نصنع؟ لأننا نقع في مشكلة، فإذا زوج الوصي ـ وهو بعيد منهن ـ فعلى المذهب(11/193)
النكاح صحيح، وعلى ما اخترناه النكاح غير صحيح؛ لأن ولاية النكاح لا تستفاد بالوصية، ولو زوج أخوهن في هذه الحال فالنكاح غير صحيح على المذهب، وهو صحيح على القول المختار، فإما أن يوكل أحدهما الآخر فيقال للأخ: وكِّل الوصي، أو يقال للوصي: وكِّل الأخ، وإذا وكل أحدهما الآخر انحلت المشكلة، وإلا يحضران جميعاً عند المأذون ويزوِّجانها.
فيقول الولي: زوَّجتك أختي فلانة، ويقول الوصي: زوجتك بنت فلان بالوصية، فإذا أوجب هذان الاثنان، يقول الزوج: قبلت النكاح، وعلى هذا فيكون الإيجاب صادراً من اثنين، والقبول من واحد.
وَلاَ تَصِحُّ بِمَا لاَ يَمْلِكُهُ المُوصِي، كَوَصِيَّةِ المَرْأَةِ بِالنَّظَرِ فِي حَقِّ أَوْلاَدِهَا الأَصَاغِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَنْ وُصِّيَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصِرْ وَصِيًّا فِي غَيْرِهِ، وإنْ ظَهَرَ عَلى المَيِّتِ دينٌ يَسْتَغْرِقُ تَرِكَتَهُ بَعْدَ تَفرِقَةِ الوَصِيِّ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ قَالَ: ضَعْ ثُلُثِي حَيْثُ شِئْتَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَلاَ لِوَلَدِهِ.
قوله: «ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر ونحو ذلك» لا تصح الوصية فيما لا يملكه الموصي، كامرأة أيِّم قد مات زوجها ولها أولاد صغار، هي وليتهم، فلما أحست بالموت أو خافت أوصت شخصاً ينظر في أولادها الصغار، يقول المؤلف: الوصية لا تصح؛ لأن الأم لا تملك النظر استقلالاً على أولادها الصغار، فالنظر في الأولاد للأب أي: للذكور، فإذا ماتت الأم تحال المسألة إلى القاضي ويجعل القاضي من رأى فيه خيراً.
وفي المسألة قول آخر، وهو أنها تصح ولايتها ومن ثم وصيتها، فلو أن رجلاً أوصى إلى امرأته بالنظر في أولاده الصغار يجوز؛ لأن المرأة مسلمة مكلفة رشيدة وتصح الوصية إلى كل(11/194)
مسلم، فتدخل في كلام المؤلف الأول «تصح وصية المسلم إلى كل مسلم» وكثير من النساء تكون رعايتها لأولادها أفضل بكثير من رعاية الرجال.
قوله: «ومن وُصِّيَ في شيء لم يصر وصياً في غيره» فإذا أوصى إلى شخص يكون ناظراً على أولاده، فإنه لا يملك النظر في أموالهم؛ لأن النظر على الأولاد ليس هو النظر في المال.
وإذا وصى إلى شخص ينمي مال أولاده الصغار، لم يكن له حضانتهم؛ لأن الوصية بمنزلة الوكالة، فتختص بما أُوصِيَ إليه فيه، وهكذا جميع من عمل نائباً لغيره فإنه لا يتجاوز ما حُدِّد له، ومن ذلك القضاة مثلاً، فإذا جَعَلَتْ وزارة العدل رجلاً قاضياً في الأنكحة لم ينظر في المواريث، وإذا جعلته قاضياً في المواريث لم ينظر في البيوع، وإذا جعلته قاضياً في البيوع لم ينظر في قسمة المواريث، وهلم جرًّا.
فالوكالة والوصايا تتقيد بما عُيِّنَت له ولا تزيد، فعلى هذا نقول: من وصي إليه بشيء لم يكن وصياً في غيره؛ وتعليل ذلك أن هذا الوصي يتصرف بالإذن، فوجب أن يقتصر على ما أُذِن له فيه ولا يتعداه، وهذا تعليل ظاهر ليس به شبهة.
قوله: «وإن ظهر على الميت دين يستغرق تَرِكَتَهُ بعد تفرقة الوصي لم يضمن» هذه مسألة مهمة، فلو ظهر على الميت دين بعد أن تصرف الوصي، وصرف الموصى به إلى جهته، فإنه لا ضمان(11/195)
على الوصي؛ لأنه تصرف تصرفاً مأذوناً فيه فليس عليه ضمان.
مثال ذلك: أوصى إلى زيد أن يبذل عشرة آلاف ريال في بناء مسجد، فصرفها، ثم ظهر على الميت دين يستغرق العشرة فليس عليه ضمان؛ لأنه تصرف تصرفاً مأذوناً فيه فوقع موقعه، فهو مجتهد وليس عالماً بالغيب، فإن قيل: لماذا لم ينتظر؟ فالجواب: إلى أي مدى ينتظر؟ لأن كل وقت يحتمل أن يظهر فيه دين، والوصي مأمور بالإسراع بتنفيذ الوصية، فإن أخرها يوماً أو يومين خوفاً من أن يظهر دين، قال أيضاً: أؤجل شهراً أو شهرين خوفاً من أن يظهر دين، وحينئذٍ يؤدي إلى عدم تنفيذ الوصية، فنقول: هذا الوصي المشروع في حقه أن يبادر في تنفيذ الوصية، فإذا فعل ما هو مشروع في حقه ثم تبين ما ليس يعلمه فإنه لا ضمان عليه.
فإذا قال قائل: أين يكون حق صاحب الدين؟
نقول: صاحب الدين ليس له شيء، بخلاف ما إذا أخذ الورثة المال، ثم تبين بعد ذلك أن عليه ديناً، ـ أي: على الميت ـ فإنه يؤخذ من الورثة، فيؤخذ من كل إنسان ما أَخَذَ، والفرق ظاهر؛ لأن الوصي تصرف لغيره، والورثة تصرفوا لأنفسهم، فتلف المال تحت أيديهم فلزمهم ضمانه، وهذه المسألة قد يظن الظان أنه لا فرق بينها وبين المسألة السابقة، والفرق بينهما واضح.
فإن قال قائل: لو علم الوصي له أنَّ على الميت ديناً ولكنه أخذ الموصى به وتصرف فيه، فهنا نقول: إنه يضمن؛ لأنه حين(11/196)
تَصَرُّفِهِ يعلم أنه لا يستحق، إذ إن الدين مقدم على الوصية، فيكون الوصي له بمنزلة الوارث الذي يضمن.
قوله: «وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت لم يحل له ولا لولده» مثاله: إنسان أوصى إلى شخص وقال: ضع ثلثي حيث شئت، أو قال: ضع ثلثي في قضاء الديون، فمات الرجل فإنه لا يجوز للوصي أن يأخذ شيئاً من هذا الثلث، ولا يجوز لولده أن يأخذ شيئاً من هذا الثلث؛ لأنه لو أراد الموصي أن ينفع الوصي لقال: أوصيت لك، ولم يقل: أوصيت إليك، ولا يحل لولده؛ لأنه متهم، فربما يحابي ولده ويصرف المال له، وغيره أحق به منه؛ فلذلك قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إنه لا يجوز للوكيل ولا للوصي أن يصرف لنفسه أو لأحد من أولاده، وعمم بعضهم ذلك وقال: أو ممن لا تقبل شهادته له، فوسعوا الأمر.
ولكن لو قال قائل: في مسألة الوكالة إذا كان الوكيل يريد هذا الشيء، وأخرجه أمامَ الناس يتزايدون فيه حتى كان آخر سوم على هذا الوكيل، فهل له أن يأخذه؟
على كلام الفقهاء لا، والصحيح أنه إذ زالت التهمة فهو كغيره، هذا من حيث النظر، أما من حيث العمل ـ ولا سيما في زمننا هذا ـ فينبغي أن يمنع الوكيل أو الوصي مطلقاً من أن يصرف الشيء إلى نفسه، أو إلى أحد من ذريته، من ذكور أو إناث، والعلة هي التهمة، ألا يحرص على أن يضع هذا الشيء موضعه.
وذكرنا أنه إذا زالت التهمة، بأن أخرج الوكيل الشيء بالمزاد العلني ووقف عليه فالمذهب لا يصح، حتى في هذه(11/197)
الحال ـ التي هي بعيدة من التهمة ـ يقولون: لا يصح، سداً للباب، وهذا القول من الناحية التربوية أحسن من القول بأنه يجوز أن يأخذه؛ لأننا إذا قدرنا أن واحداً من مائة زال الوصف في حقه ـ وهو التهمة ـ فغيره لا يزول.
وَمَنْ مَاتَ بِمَكَانٍ لاَ حَاكِمَ بِهِ وَلاَ وَصِيَّ حَازَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ تَرِكَتَهُ، وَعَمِلَ الأَصْلَحَ حِينَئِذٍ فِيهَا مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ.
قوله: «ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، حاز بعضُ مَنْ حضره مِنَ المسلمين تِركتَهُ» وهذا يقع كثيراً، مثال ذلك: رفقة مات أحدهم في سفر وليس هناك قاضٍ يرجع إليه، ولا وصي خاص يرجع إليه، يقول: «حاز بعض من حضره من المسلمين تركته» وقوله: «حاز» خبر بمعنى الأمر، يعني يجب أن يحوز بعض من حضره تركته؛ لئلا تضيع أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وعمل الأصلح حينئذٍ فيها من بيع وغيره» فيحوز التركة التي معه، ثم إن كان الأحسن أن يبيعها باعها، وإن كان الأحسن أن يبقيها أبقاها، وهذا يختلف باختلاف الأموال واختلاف الأحوال، فمثلاً إذا كان في التركة ما يسرع فساده كالبطيخ فالأفضل له البيع لا شك، وإذا كان في التركة ما الأحسن إبقاؤه وجب إبقاؤه، وإذا دار الأمر بين هذا وهذا فإنه يبقى على حاله؛ لأن الأصل أن لا يتصرف فيه، ثم إن تغيرت الحال فيما بعد عمل ما تقتضيه الحال من بيع أو غيره.(11/198)
كِتَابُ الفَرَائِضِ
وَهِيَ العِلْمُ بِقِسْمَةِ المَوَارِيثِ
قوله: «كتاب الفرائض» ، ترجم له المؤلف بالكتاب؛ لأنه جنس مستقل، وقال: «الفرائض» ، ولم يقل: المواريث، مع أن المواريث أعم، ولذا عبَّر بعض العلماء وقال: كتاب المواريث، وهو أعم من كتاب الفرائض؛ لأن المواريث تشمل الفرض والتعصيب والرحم، ولكن المؤلف عبَّر بالفرائض؛ لأن الفرائض هي الأصل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) ، فلما كانت هي الأصل والمقدم، ترجم بها ـ رحمه الله ـ.
والفرائض من حيث اللغة جمع فريضة بمعنى مفروضة، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، والفرض في اللغة: الحز والقطع، إذا حززت الشيء بالسكين قيل: هذا فرض، وكذلك إذا قطعته بالسكين قيل: هذا فرض، ولكنه في الاصطلاح يختلف، ففرائض الوضوء غير الفرائض التي نحن فيها، فتفسر الفرائض في الاصطلاح في كل باب بما يناسبها، فهو هنا يقول:
«وهي العلم بقسمة المواريث» وهو نوعان شرعي وفني،
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732) ؛ ومسلم في الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها (1615) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(11/199)
ويقال: فقهي وحسابي، فالعلم بالمواريث فقهاً هذا شرعي، والعلم بالمواريث حساباً هذا فني مرادٌ لغيره، والأول مراد لذاته؛ لأن المقصود إيصال حقوق أصحاب المواريث إليهم، سواء عرفت الحساب أم لم تعرف، لكن مع ذلك يحتاج طالب العلم إلى معرفة حساب المواريث وإن عرف فقهها، فمثلاً: إذا هلك هالك عن بنت وأخت شقيقة، فكوننا نعرف أن للبنت النصف وللأخت الشقيقة ما بقي، فهذا علم شرعي فقهي، وإذا قلنا: المسألة من اثنين للبنت النصف واحد وللأخت الشقيقة ما بقي وهو واحد، فهذا فني حسابي، لكن هل نحن نحتاج إليه بالضرورة؟ لا نحتاج إليه بالضرورة، فأيُّ واحد نقول له: اقسم المال نصفين للبنت النصف وللأخت النصف فإنه يقسم، لكن أحياناً نحتاج إليه فيما إذا كثرت المسائل، ولا سيما في باب المناسخات كما سيأتي إن شاء الله.
وحكم تعلم هذا العلم فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإلا وجب على جميع الأمة؛ لأنه لا يمكن تنفيذ شريعة الله في هذا الباب إلا بتعلمه.
وعلم الفرائض من أجلِّ العلوم وأشرفها؛ لأمور:
أولاً: أنه تنفيذ لفريضة من فرائض الله، قال الله تعالى لما ذكر ميراث الأصول والفروع: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] ، فأنت إذا تعلَّمت الفرائض فإنك تتوصل بها إلى القيام بفريضة من فرائض الله.
ثانياً: أن المواريث حدٌّ من حدود الله ـ عزّ وجل ـ فإذا(11/200)
تعلمتها التزمت بها حدود الله، قال الله تعالى في ميراث الزوجين والإخوة من الأم لما ذكر هذا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] .
ثالثاً: أن الفرائض هدى وبيان، ولهذا لما ذكر الله ـ عزّ وجل ـ ميراث الإخوة الأشقاء أو لأب في آخر سورة النساء، قال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، ولهذا كان علم الفرائض من أفضل العلوم.
واعلم أن الإنسان إذا مات فإنه يتعلق بتركته خمسة حقوق:
الأول: تجهيز الميت بتغسيله وتكفينه وحنوطه وحمله ودفنه وما يتعلق بذلك، هذا قبل كل شيء، حتى لو كان عليه دين فإنه يقدم هذا على الدين.
الثاني: الدين الموثق برهن.
الثالث: الدين المرسل الذي ليس فيه رهن.
الرابع: الوصية بالثلث فأقل لغير وارث.
الخامس: الميراث.
فهذه خمسة حقوق مرتبة، فإذا مات ميت وخلف مائة ريال وعليه دين مائة ريال وتجهيزه مائة ريال، فإنه يبدأ بالتجهيز، ويقال لصاحب الدين: ليس لك شيء؛ لأنه ليس عنده شيء.
وهل يلزم الوارثَ أن يقضي الدينَ عنه؟ لا يلزم حتى لو كان الميت أباه أو ابنَه أو أخاه الأكبر، لكن إذا كان من باب التبرع فباب التبرع واسع.
بعد ذلك الدين الموثق برهن، مثال هذا: رجل هلك وعنده مائة ريال، وله شاة مرهونة بمائة ريال، وعليه دين ليس موثقاً مائة(11/201)
ريال هذه ثلاثمائة، فنبدأ بالتجهيز، نأخذ مائة الريال ونجهز الميت بها، ثم الدين الموثق برهن فنقول لصاحب الرهن: هذه الشاة بعها واسْتَوْفِ حقك مائة ريال، فإذا قال الدائن الآخر: أنا ـ أيضاً ـ أطلبه، نقول: دينك مؤخر عن الدين الذي فيه الرهن، والدين المرسل لم يبق شيء له ولا يلزم الوارث أن يقضيه، ولكنا نبشر المدينين إذا أخذوا أموال الناس ليؤدوها، ولكن أخلفت الأمور أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يؤدي عنهم من فضله وكرمه، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه» (1) ، بعد هذا الدينُ غَيْرُ الموثقِ برهن، فلو هلك هالك عن مائتي ريال، وشاة قيمتها مائة ريال مرهونة بدين قدره مائة ريال، وعليه دين مرسل قدره مائة ريال، ووصية، فنوزعها كالآتي: المائة الأولى للتجهيز، والثانية ـ الشاة ـ للدين الموثق برهن، والثالثة للدين المرسل، والوصية لا تنفذ؛ لأن الوصية تكون بعد هذه الثلاثة ولم يبق لها شيء.
مثال آخر: إذا هلك هالك وخلّف مائتين وتسعين ريالاً وعليه دين برهنٍ مائة ريال والمرهون يساوي مائة ريال، وعليه دين مرسل مائة ريال، ووصية بالثلث، أولاً: نأخذ مائة ريال للتجهيز، ثانياً: مائة ريال بالدين الموثق بالرهن، ثالثاً: مائة ريال بالدين المرسل، بقي تسعون ريالاً، وهو موصٍ بالثلث نأخذ ثلاثين ريالاً للوصية يبقى للميراث ستون ريالاً، هنا قدمنا الوصية على الميراث؛ لأننا أخذنا للوصية الثلث من رأس المال كاملاً، وإذا أخذنا الثلث يبقى ثلثان
__________
(1) أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون/ باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/202)
فيكون للذي يرث النصفَ الثلثُ، إذاً الوصية ما نقصت، أُعطي الموصى له الثلاثين كاملة، أي: الثلث كاملاً، والميراث نقص؛ لأن الوصية مقدمة عليه، ولهذا كان لصاحب النصف في الوصية الثلث.
وتأمل يا أخي، فالمالُ الذي تجمعه إذا مت إلى من يذهب؟ يذهب إلى أشياء ضرورية، للتجهيز، أو غرامات ديون عليك، أو لغيرك، فمالُك حقيقةً هو ما قدمته في حياتك تقرباً إلى الله ـ عزّ وجل ـ، وأما ما خلَّفته فليس لك.
أَسْبَابُ الإِرْثِ رَحِمٌ وَنِكَاحٌ وَوَلاَءٌ، وَالوَرَثَةُ ذُو فَرْضٍ وَعَصَبَةٍ وَرَحِمٍ،....
ثم اعلم أن الإرث كغيره من الأشياء، له أسباب، وله شروط، وله موانع، ولهذا قال:
«أسباب الإرث رحم ونكاح وولاء» الرحم يعني القرابة، وهي الاتصال بين إنسانين بولادة قريبة أو بعيدة، فابن عمك رحم؛ لأن بينكما اتصالاً بالولادة تلتقي معه في الجد، ثم هذه القرابة أصول وفروع وحواشٍ، فمن تدعوه بأب أو بأم أصل، ومن يدعوك بأب أو بأم فرع، ومن يدعو آباءَك بأبٍ أو بأم حواشٍ، إذن الفروع فروع الإنسان نفسه، والحواشي فروع آبائه وأمهاته، والأصول من تفرع منهم.
وقوله: «ونكاح» وهو الاتصال بين ذكر وأنثى بعقد صحيح، فعقد النكاح الباطل لا توارث فيه، وعقد النكاح الفاسد لا توارث فيه، فلا بد أن يكون نكاحاً صحيحاً حتى يورث به من الجانبين، الزوج يرث الزوجة، والزوجة ترث زوجها، ويثبت التوارث بين الزوجين من حين ما يعقد الرجل على المرأة، حتى وإن هلك في نفس مجلس العقد قبل أن يجتمع بها فإنها ترثه، ولو هلكت هي في(11/203)
مجلس العقد فإنه يرثها، إذاً يثبت التوارث بمجرد العقد، وينتهي بالبينونة، فلو طلق الرجل زوجته وانتهت العدة ثم مات لا يبقى التوارث، ولو طلق زوجته ومات وهي في العدة فالإرث باقٍ.
وهل يشترط الخلوة أو الدخول؟ لا.
مثال: رجل تزوج امرأة بدون ولي ثم مات فهل ترثه؟ لا؛ لأن النكاح غير صحيح، النكاح فاسد.
مثال آخر: رجل تزوج امرأة وبعد موته تبين أنها أخته من الرضاعة فلا ترث؛ لأن النكاح باطل، والفرق بين النكاح الفاسد والباطل، أن النكاح الفاسد ما اختلف العلماء فيه، والباطل ما أجمعوا على بطلانه، فنكاح الأخت من الرضاعة باطل؛ لأن العلماء مجمعون عليه، والنكاح بلا ولي فاسد؛ لأن العلماء مختلفون فيه، وعليه فلا توارث في نكاح فاسد ولا في نكاح باطل.
وقوله: «وولاء» وهو الاتصال بين إنسانين بسبب العتق، ويورث به من جانب واحد وهو الجانب الأعلى وهو المعتِق، فالمعتِق يرث عتيقَه، والعتيق لا يرث معتِقَهُ، والنكاح يورث به من الجانبين، والرحم تارة من جانبين وتارة من جانب واحد، فابن الأخ يرث عمته وهي لا ترثه، لأنها من ذوي الأرحام، فالورثة ثلاثة أقسام ـ سبحان الله ـ هذا العلم يمكن أن نقول: ثلاثي، أسبابه ثلاثة، موانعه ثلاثة، شروطه ثلاثة، أقسام الميراث به ثلاثة ـ أيضاً ـ.
قوله: «والورثة ذو فرض وعصبة ورحم» فذو الفرض كل من لهم نصيب مقدر شرعاً وسيذكرهم المؤلف ـ رحمه الله ـ، والعاصب من يرث بلا تقدير، ولهذا إذا انفرد أخذ المال كله بجهة واحدة، وإذا(11/204)
كان معه صاحب فرض أخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط؛ لأنه يرث بلا تقدير، وذو الرحم كل من يرث بغير فرض ولا عصب، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ذكر هذا مفصلاً.
فَذُو الفَرْضِ عَشَرَةٌ: الزَّوْجَانِ، وَالأَبَوَانِ، وَالجَدُّ وَالجَدَّةُ وَالبَنَاتُ، وَبَنَاتُ الابْنِ، وَالأَخَوَاتُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَالإخْوَةُ مِنَ الاُمِّ، ...
قوله: «فذو الفرض عشرة» يعني أصحاب الفرض عشرة.
الأول والثاني: قوله: «الزوجان» يعني الزوج والزوجة.
الثالث والرابع: قوله: «والأبوان» يعني الأم والأب، لكن هذا من باب التغليب، كما يقال: القمران للشمس والقمر، ويقال: العُمَرَان لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ.
الخامس والسادس: قوله: «والجد والجدة» لكن بشرط في الجد ألا يكون بينه وبين الميت أنثى، فأبو الأب يرث، وأبو أبي الأب يرث؛ لأنه ليس بينه وبين الميت أنثى، وأبو الأم لا يرث؛ لأنه بينه وبين الميت أنثى.
والجدة يشترط لإرثها شرطان:
الأول: ألا يكون بينها وبين الميت ذكر مسبوقٌ بأنثى، مثال ذلك: جدة أدلت بأبي أم لا ترث؛ لأنها أدلت بذكر مسبوق بأنثى.
الثاني: ألا تدلي بأب أعلى من الجد على المشهور من المذهب، وهذا الشرط فيه خلاف، مثال ذلك: أم أب ترث؛ لأنها أدلت بأب فترث من ولده لصلبه، أم أبي الأب فأدلت بالجد فترث، أم أبي أبي الأب، هذه لا ترث على المذهب، لأنها أدلت بأب أعلى من الجد، فالقاعدة أن أمهات الأب وإن علون أمومة وارثات، وأمهات الجد وإن علون أمومة وارثات، وأمهات أبي الجد، وإن علون أمومة غير وارثات، لكن هذا الشرط ضعيف،(11/205)
والصواب أن أمهات الجد وارثات وإن علون أمومة؛ لأنهن مدليات بوارث، ومن أدلى بوارث من الأصول فهو وارث، وبناء على هذا القول الراجح يكون الشرط في إرث الجدة واحداً فقط، وهو ألا تدلي بذكر مسبوق بأنثى، وعلى هذا فأم أم أم أم أم أم أب ترث.
السابع والثامن: قوله: «والبنات وبنات الابن» البنات للصلب يرثن، وبنات الابن يرثن، وبنات البنت لا يرثن، قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائِنا وبناتُنا
بَنُوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
فالضابط في ميراث الفروع ألا يدلي أحد بأنثى، سواء كان ذكراً أم أنثى، فمن أدلى بأنثى فلا ميراث له، فبنت ابن ابن ابن ابن ابن ابن ترث، وبنت بنت لا ترث؛ لأنها أدلت بأنثى.
التاسع: قوله: «والأخوات من كل جهة» وهل هناك جهات؟ نعم قد تدلي بجهتين أو بجهة، إما من قِبَل الأب وإما من قِبَل الأم، فالأخت الشقيقة من جهتين؛ لأن الأخت الشقيقة أمها أمك وأبوها أبوك، والأخت لأب من جهة واحدة، والأخت من الأم من جهة واحدة، فالأخت لأب هي التي يجمع بينك وبينها الأب دون الأم، والأخت من الأم هي التي يجمع بينك وبينها الأم دون الأب.
العاشر: قوله: «والإخوة من الأم» أي: الذكور، أما الأخوات من الأم فداخلات في قول المؤلف «والأخوات من كل جهة» .
بدأ المؤلف ـ رحمه الله ـ يفصل الميراث، وما سلكه الفقهاء من كونهم يذكرون الوارث ويذكرون أحواله أحسن مما(11/206)
سلكه الفرضيون، فالفرضيون ـ رحمهم الله ـ يذكرون الفروض وأصحابها فيقولون مثلاً: النصف يرثه خمسة، ثم يذكرونهم، وهذا يشتت ذهن الطالب، لكن الفقهاء سلكوا مسلكاً آخر، يذكرون الإنسان ويذكرون أحواله في الإرث، والموافق للقرآن كلام الفقهاء؛ لأنه يذكر الوارث ويذكر أحواله.
فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَمَعَ وُجُودِ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ ابنٍ وَإِنْ نَزَلَ الرُّبُعُ، ولِلزَّوْجَةِ فَأَكْثَرَ نِصْفُ حَالَيْهِ فِيهِمَا،
قوله: «فللزوج النصف ومع وجود ولد أو ولد ابن وإن نزل الرُّبُع» الزوج ينحصر ميراثه في النصف أو الربع لا ثالث لهما، فإن وجد فرع وارث فله الربع، وإن لم يوجد فله النصف لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12] ، والآية واضحة وصريحة، فلو هلكت امرأة عن زوج وأخ شقيق، فللزوج النصف لعدم الفرع الوارث.
ولو هلكت امرأة عن زوج وابن ابن، فللزوج الربع لوجود الفرع الوارث.
ولو هلكت امرأة عن زوج وابن بنت، فللزوج النصف؛ لأن الفرع غير وارث.
قوله: «وللزوجة فأكثر نصف حاليه فيهما» قد يموت الإنسان عن زوجة واحدة أو عن زوجتين أو ثلاث أو أربع، إذاً الزوجة الواحدة كالأربع لها «نصف حاليه» أي: نصف حال الزوج «فيهما» أي: في الحالين، فمثلاً إذا مات الزوج وله فرع وارث، أولاد، أو أولاد ابن، فلزوجته الثمن، وللثنتين والثلاث والأربع(11/207)
الثمن، وإذا هلك هالك عن زوجة وأخ شقيق، فللزوجة الربع لعدم وجود فرع وارث، والدليل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] ، الحمد لله الذي فرض هذا، فلولا هذه الفريضة من الله ـ عزّ وجل ـ لبقي الناس في مشاكسة ونزاع لا نهاية له، لكن الله ـ جل وعلا ـ تولى ذلك بنفسه، هذا له الربع، هذا له الثمن، هذا له النصف.
وَلِكُلٍّ مِنَ الأَبِ وَالجَدِّ السُّدُسُ بِالفَرْضِ مَعَ ذُكُورِ الوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الابْنِ، وَيَرِثَانِ بِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِ الوَلَدِ وَوَلَدِ الابْنِ، وَبِالفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ مَعَ إِنَاثِهِمَا.............
قوله: «ولكل من الأب والجد السدس بالفرض مع ذكور الولد أو ولد الابن، ويرثان بالتعصيب مع عدم الولد وولد الابن، وبالفرض والتعصيب مع إناثهما» ، «الجد» أي: الذي ليس بينه وبين الميت أنثى؛ لأن الذي بينه وبين الميت أنثى لا يرث.
فللجد والأب ثلاث حالات:
الأولى: أن يوجد ذكور من الفروع، الثانية: أن يوجد إناث من الفروع، الثالثة: ألا يوجد أحد من الفروع.
ففي الحال الثالثة: إذا لم يكن مع أحدهما أحد من الفروع فإنه يرث بالتعصيب ولا يرث بالفرض.
مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأب، للزوجة الربع وللأب الباقي؛ لأنه عاصب.
هلك عن أخ شقيق وأب، للأب كل المال؛ لأنه عاصب والعاصب يرث بلا تقدير، وفي الحال الثانية: إذا كان مع الأب(11/208)
أو الجد إناث فقط من الفروع، فإنه يرث بالفرض وبالتعصيب، مثاله: هلك هالك عن بنتين وأب، للبنتين الثلثان والباقي نقول: للأب السدس فرضاً والباقي بالتعصيب.
هل يصح أن أقول: والباقي للأب؟
الجواب: لو كان الذي يسأل عامياً، وقال: توفي رجل عن بنتين وأب، يحسن أن أقول: للبنتين الثلثان وللأب الباقي؛ لأنك لو قلت له: للبنتين الثلثان وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً، أشغلته، ما معنى هذا الكلام؟!
ولماذا حافظنا على أن نقول: السدس فرضاً والباقي تعصيباً؟ للآية الكريمة، قال الله تعالى: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ، والمراد هنا بالولد الذكر والأنثى؛ لأن الولد في اللغة وفي الشرع ـ أيضاً ـ يطلق على الذكر والأنثى، فإذا كان الله يقول: له السدس إن كان له ولد، فيجب أن نقول: له السدس فرضاً، وكيف نقول: الباقي تعصيباً؟ نقول ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) ، ألحقنا الفرائض بأهلها للبنتين الثلثان وللأب السدس بقي سدس، يأخذه أولى رجل ذكر وهو الأب؛ فلذلك نحافظ على لفظ النص في هذا الباب، والجد مثل الأب تماماً، ولهذا قال: «ولكل من الأب والجد السدس بالفرض ... إلخ» .
فالأب والجد سواء، يرثان بالفرض تارة، وبالتعصيب تارة، وبهما تارة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .(11/209)
فَصْلٌ
وَالجَدُّ لأَبٍ وَإِنْ عَلاَ مَعَ وَلَدِ أبوين أَوْ أَبٍ كَأَخٍ مِنْهُمْ،...........
هذا الفصل عقده المؤلف لميراث الجد مع الإخوة، واعلم أن القول الصحيح أن الإخوة لا يرثون مع الجدّ، وحينئذٍ كل هذا الفصل الذي ذكره المؤلف لا حاجة إليه، وهذا القول ـ أعني أن الإخوة لا يرثون مع الجد ـ هو ظاهر الأدلة، وهو ـ أيضاً ـ مروي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وثلاثة عشر من الصحابة (1) ، وهؤلاء لا شك أن قولهم حجة لا سيما أنه موافق للأدلة، فالله ـ تعالى ـ سمَّى الجد أباً، قال الله تعالى يخاطب هذه الأمة: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، وقال تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ، يقول هذا يوسف، ويعقوب أبوه، وإسحاق جده، وإبراهيم جد أبيه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
ثم أين الدليل من الكتاب أو السنة على هذه التفاصيل في ميراث الجدة والإخوة؟! لأنها مسائل تفصيل وتنويع فتحتاج إلى دليل، والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}
__________
(1) أخرج البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في الفرائض/ باب ميراث الجد مع الأب والإخوة عن أبي بكر وابن عباس وابن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قالوا: الجد أب. وقد وصل أثر أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الدارمي في سننه في الفرائض/ باب قول أبي بكر في الجد (2903) .
قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح (12/20) ، وأسنده أيضاً البخاري عنه في نفس الموضع (6738) .
وقال البخاري تحت الباب السابق: «ولم يذكر أن أحداً خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم متوافرون» ، وقال الحافظ في الفتح (12/21) ط/الريان: «وممن جاء عنه التصريح بأن الجد يرث ما كان يرث الأب عند عدم الأب معاذ، وأبو الدرداء، وأبو موسى، وأبي بن كعب، وعائشة وأبو هريرة ... » .(11/210)
[الأنعام: 119] ، ويقول ـ عزّ وجل ـ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وإذا كان الله ـ تعالى ـ ذكر أحوال الأم وهي ثلاثة فقط، فكيف لا يذكر أحوال الجد وهي خمسة؟! وهذا من أكبر الأدلة على ضعف هذا القول، إذن الصحيح هو أن الجد بمنزلة الأب، لكنه يختلف عن الأب في مسألة واحدة، وهي مسألة العمريتين فإنه ليس كالأب، فزوجة وأم وجد، للزوجة الربع وللأم الثلث والباقي للجد، وزوج وأم وجد، للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للجد، فهذه المسألة يخالف فيها الجدُ الأبَ فليس كالأب، والفرق ظاهر أن الجد أبعد من الأم مرتبة، ولا يمكن للأبعد أن يزاحم الأقرب، فنعطي الأم فرضها كاملاً ونقول: للجد ما بقي، بخلاف الأم مع الأب فهم سواء.
قوله: «والجدُّ لأب وإن علا مع ولد أبوين أو أب» ، الأخُ من الأم يسقط مع الجد، ولهذا قال: «مع ولد أبوين أو أب» ، وولد الأبوين هو الأخ الشقيق، والولد لأب هو الأخ لأب.
قوله: «كأخ منهم» ، ولو أن المؤلف قال: «والجد لأب وإن علا مع الإخوة الأشقاء أو لأب كأخ منهم» كان أوضح من قوله: «ولد أبوين» ، لكن على كل حال المتناهي في الطلب يعرف أن ولد الأبوين هم الإخوة الأشقاء، فالجد كأخ منهم، فإذا هلك هالك عن جد وأخ شقيق فهو كالأخ يأخذ واحداً النصف، ولو وجد أخوان شقيقان يأخذ الثلث، لكن إذا كان كأخ منهم وكانت المقاسمة تنقصه عن ثلث المال، كجدٍّ وثلاثة إخوة أشقاء، فلو قلنا: كأخ منهم يأخذ الربع فماذا نصنع؟ الجواب: يقول المؤلف:(11/211)
فَإِنْ نَقَصَتْهُ المُقَاسَمَةُ عَنْ ثُلُثِ المَالِ أُعْطِيَهُ، وَمَعَ ذِي فَرْضٍ بَعْدَهُ الأَحَظُّ مِن المُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسُ الكُلِّ،........
«فإن نقصته المقاسمة عن ثلث المال أُعْطِيَهُ» أي: يعطى ثلث المال والباقي للإخوة، وهذا أول تناقض!! فإذا هلك هالك عن جد وأخوين فالمال بينهم أثلاثاً، وجدٍّ وثلاثة إخوة المال بينهم أرباعاً، وإذا كان أرباعاً نقص عن الثلث، والجد إذا لم يكن معهم صاحب فرض لا يمكن أن ينقص عن الثلث، فيأخذ ثلث المال والباقي للإخوة الثلاثة يتقاسمونه.
وجد وأخت شقيقة، يأخذ ثلثين؛ لأنه كالأخ، كما لو هلك هالك عن أخ شقيق وأخت شقيقة فللذكر مثل حظ الأنثيين، إذن إذا لم يكن معهم صاحب فرض، فميراثه إما المقاسمة وإما ثلث المال وسيختار الأكثر، فإذا قدر أن هذا الميت مات عن جد وأخ شقيق وخلف ثلاثين مليوناً، إن أخذ ثلث المال فعشرة ملايين، وإن قاسم أخذ خمسة عشر مليوناً وهذا أحسن، إذن نقول: إذا كانت المقاسمة أكثر سيختار المقاسمة، وضابطها: أن يكون الإخوة أقل من مثليه، فمتى كانوا أقل من مثليه فالمقاسمة أحظ، وإذا كانوا أكثر فثلث المال، وإذا كانوا مثليه استوى له الأمران.
قوله: «ومع ذي فرض بعده» إذا كان معه صاحب فرض أخذ نصيبه «بعده» ، أي: بعد صاحب الفرض.
قوله: «الأحظ من المقاسمة، أو ثلث ما بقي أو سدس الكل» هذه ثلاثة أحوال، إذا كان معه صاحب فرض نعطي صاحب الفرض حقه، ثم نقول في الباقي: أنت أيها الجد اختر سدس المال، أو ثلث الباقي، أو المقاسمة، فإذا هلك هالك عن زوجة وجد وأخوين شقيقين، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد، والباقي من المال ثلاثة من أربعة، نقول للجد: اختر سدس(11/212)
المال أو المقاسمة أو ثلث الباقي، فما هو الأحظ له؟ يستوي له المقاسمة وثلث الباقي؛ لأنه إن قاسم الأخوين أخذ واحداً من ثلاثة، وإن أخذ ثلث الباقي فالباقي ثلاثة وثلثه واحد.
ولو هلك هالك عن زوجة وجد وأخت شقيقة، فالمسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، والباقي ثلاثة وعندنا جد وأخت شقيقة فالأفضل له المقاسمة؛ لأنه لو قاسمها سيأخذ اثنين من الباقي ولها واحد.
هلك هالك عن بنتين وجد وأخ شقيق، فالمسألة من ستة: البنتان لهما الثلثان أربعة، ويبقى اثنان، نقول للجد: اختر سدس المال، أو ثلث الباقي أو المقاسمة، فيستوي له المقاسمة والسدس؛ لأنه لو قاسم لأخذ واحداً، ولو قلنا: سدس المال أخذ واحداً.
هلك عن بنتين وجد وأخوين شقيقين، المسألة من ستة: للبنتين الثلثان أربعة بقي اثنان فالأحسن للجد السدس؛ لأنه لو قاسم لأتاه ثلث الباقي وهو أقل من واحد، وإذا أخذ سدس المال أخذ واحداً.
هلك هالك عن بنتين وأم وجد وأخوين شقيقين، فالمسالة من ستة: البنتان لهما الثلثان أربعة والأم السدس واحد، باقي واحد، فالأحسن سدس المال يأخذه، والإخوة الأشقاء ليس لهم شيء ـ سبحان الله ـ أنتم تقولون: الجد كالأخ ثم تطردون(11/213)
الإخوة!! هذا مما يدل على تناقض هذا القول، ولذلك كلما تأمل الإنسان هذا القول ازداد ضعفه عنده، وأنه لا دليل عليه.
فالضابط أنه إذا أخذ صاحب الفرض حقه ولم يبق إلا السدس فهو للجد، وإذا أخذ صاحب الفرض فرضه ولم يزد على النصف وبقي النصف استوى للجد سدس المال وثلث الباقي؛ لأن ثلث النصف سدس الكل.
هلكت امرأةٌ عن زوجها وجدها وأخويها الشقيقين، المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، والباقي ثلاثة نقول للجد: خذ ثلث الباقي، أو سدس المال، أو قاسم فما الأحظ له في هذا؟ تستوي الثلاثة؛ لأنه إن أخذ واحداً من الثلاثة باعتباره السدس فهو سدس، إن أخذ واحداً منها باعتبار ثلث الباقي فهو ثلث الباقي، وإن أخذ واحداً بالمقاسمة فهو نصيبه بالمقاسمة؛ لأن معه أخوين.
فالخلاصة في ميراث الجد مع الإخوة، إذا لم يكن معهم صاحب فرض، إما مقاسمة أو ثلث المال، وإذا كان معهم صاحب فرض فأعط صاحب الفرض حقه، ثم قل للجد والإخوة: الباقي بينكم، ولكن الجد يخير بين سدس المال، أو ثلث الباقي، أو المقاسمة.
فَإِنْ لَمْ يَبْقَ سِوى السُّدُسِ أُعْطِيَهُ، وَسَقَطَ الإِخْوَةُ إِلاَّ فِي الأَكْدَرِيَّةِ،......
قوله: «فإن لم يبق سوى السدس أعطيه، وسقط الإخوة إلا في الأكدرية» ، الأكدرية (1) هي زوج وأم وجد وأخت شقيقة، المسألة
__________
(1) أخرجها الدارمي في الفرائض/ باب الأكدرية (2931) عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ موقوفة عليه.(11/214)
من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، بقي السدس، والقاعدة التي فهمناها أنه إذا لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة، لكن هنا نقول: للجد السدس وللأخت النصف ثلاثة، فيفرض لها مع الجد وتعول لتسعة، ثم بعد ذلك يرجع الجد على الأخت، ويقول: أنت أخذت ثلاثة وأنا أخذت واحداً، وأنا كالأخ، فنقسم نصيبنا وهو أربعة بيننا، للذكر مثل حظ الأنثيين، فهذه المرأة ورثت بالفرض أولاً ثم بالتعصيب ثانياً، اقسم أربعة على ثلاث؛ لأن الجد رأسان لا ينقسم ويباين؛ لأن كل عددين متواليين فهما متباينان، هذه قاعدة في أصول المسائل، وإذا كان مبايناً اضرب رؤوسهما ثلاثة في تسعة أصل المسألة تبلغ سبعة وعشرين ومنها تصح، للزوج ثلاثة في ثلاثة تسعة، وللأم اثنان في ثلاثة ستة والباقي اثنى عشر، للجد ثمانية والأخت أربعة، ولهذا يلغز بها، فيقال: مسألة ورث الأول الثلث، والثاني ثلث ما بقي، والثالث ثلث ما بقي، والرابع ـ وهو الجد ـ ما بقي.
وسميت بالأكدرية، قيل: لأنه سأل عنها رجل اسمه أكدر، وقيل: إن الزوج فيها اسمه أكدر، وقيل: لأنها كدرت أصول زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن أصوله أنه إذا لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة، ومن أصوله ـ أيضاً ـ أنه لا يعول في مسائل الجد غيرها، فكدرت أصوله فسميت أكدرية.
ولماذا لم تسَمَّ مكدِّرة؟ لأن أكدر اسم تفضيل، وتكديرها للأصول شديد فسميت أكدرية، والحقيقة أنها كدرت أصول زيد بن(11/215)
ثابت ـ رضي الله عنه ـ وكدرت أصول الفرائض كلها؛ لأنه لا يوجد وارث يرث بالفرض أولاً ثم يرث بالتعصيب أبداً؛ فلذلك تعتبر مكدرة لجميع أصول الفرائض.
وقسمة الأكدرية على القول الراجح للزوج النصف، وللأم الثلث والباقي للجد، حتى الأخت الشقيقة إذا لم تورثها أصلاً أهون من أن تعطيها ميراثها ثم ترجع عليها، وإذا فرضنا أن التركة ستة ملايين، للزوج ثلاثة ملايين النصف، وللأم مليونان، وللجد مليون وللأخت ثلاثة ملايين تعول المسألة إلى تسعة، بعد ما جاءها ثلاثة ملايين عاد عليها الجد، وقال: ضمي نصيبك إلى نصيبي تكون أربعة ملايين، ثم بعد ذلك نقول: لكِ ثلث الأربعة وللجد ثلثان!! فعلى كل حال ـ الحمد لله ـ القول الصحيح مطرد وليس فيه شيء يناقض شيئاً آخر، فالقول الصحيح أن الجد مسقط للإخوة كلهم الأشقاء أو لأب أو لأم، الذكور والإناث.
وَلاَ يَعُولُ وَلاَ يُفْرَضُ لأُخْتٍ مَعَهُ إِلاَّ بِهَا، وَوَلَدُ الأَبِ إِذَا انْفَردُوا مَعَهُ كَوَلَدِ الأَبَوَيْنِ،
يقول المؤلف في بيان ما خالفت به الأكدرية مسائل الجد: «ولا يعول ولا يفرض لأخت معه إلا بها» ، يعني لا يعول في مسائل الجد والإخوة شيء إلا في الأكدرية، ولا يفرض للأخت ابتداء مع الجد إلا في الأكدرية.
وقولنا: «ابتداء» احترازاً من مسألة المعادَّة، لأن المعادَّة قد يفرض لها مع الجد.
قوله: «وولد الأب إذا انفردوا معه كولد الأبوين» ، ولد الأب يعني الإخوة من الأب «إذا انفردوا معه» ، أي: مع الجد «كولد(11/216)
الأبوين» على التفصيل السابق، إذا لم يكن معهم ذو فرض فميراث الجد، إما المقاسمة أو ثلث المال، وإذا كان معهم صاحب فرض فميراث الجد بعد أخذ صاحب الفرض نصيبه، إما ثلث الباقي، أو سدس المال، أو المقاسمة.
فَإِنْ اجْتَمَعُوا فَقَاسَمُوهُ أَخَذَ عَصَبَةُ وَلَدِ الأَبَوَيْنِ ما بِيَدِ وَلَدِ الأَبِ، وَأُنْثَاهُمْ تَمَامَ فَرْضِهَا، وَمَا بَقِيَ لِوَلَدِ الأَبِ.
قوله: «فإن اجتمعوا فقاسموه أخذ عصبةُ ولدِ الأبوين ما بيد ولد الأب» ، إذا اجتمعوا يعني مع ولد الأبوين، بأن كان إخوة أشقاء وإخوة لأب «فقاسموه» ، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنهم إذا اجتمعوا يقاسمونه كأنهم كلهم أشقاء، فإذا قاسموه وأخذ نصيبه، عاد الإخوة الأشقاء إلى الإخوة من الأب ليقاسموهم كأنه مات عنهم.
مثال ذلك: هلك هالك عن جد وأخ شقيق وأخوين لأب، فميراث الجد في هذه المسألة الثلث، بعد هذا نقدر كأن الميت مات عن أخ شقيق وأخوين لأب، فالميراث للأخ الشقيق، والأخوان لأب يسقطان، إذاً صار في هذه المسألة للأخ الشقيق اثنان، وللجد واحد.
قوله: «وأنثاهم تمام فرضها وما بقي لولد الأب» ، أي أن أنثى الإخوة الأشقاء تأخذ تمام فرضها وما بقي فلولد الأب، وإذا كانت أختان شقيقتان أخذتا تمام الفرض وما بقي فلولد الأب، ولا يمكن مع أختين شقيقتين أن يبقى للإخوة لأب شيء؛ لأنهما سيرثان الثلثين والثلث أخذه الجد، ولا يبقى شيء، لكن يتصور هذا في الواحدة.(11/217)
مثال ذلك: هلك هالك عن جد وأخوين من أب وأخت شقيقة.
للجد الثلث، بقي عندنا اثنان للأخت الشقيقة النصف، لها من الاثنين واحد ونصف يعني نصف الثلاثة فيبقى نصف ـ أي: سدس المال ـ يكون للأخوة لأب، وهذا معنى قوله: «وأنثاهم تمام فرضها وما بقي لولد الأب» .
فإن كان جد وأختان شقيقتان وأخوان من أب، فهنا ميراث الجد الثلث، والأختان الشقيقتان الثلثان، ولم يبق للأخوة لأب شيء.
والقول الصحيح أن الجد أب يسقط الإخوة كلهم ـ والحمد لله ـ، وهذا هو القول الذي إذا تأمله الإنسان وجد أنه هو القول المتعين؛ لأنه لو كانت هذه التفاصيل من شريعة الله لكان في بيان القرآن والسنة نقص، فالكتاب من فاتحته إلى خاتمته لا يوجد فيه هذا التفصيل، واقرأ السنة حديثاً حديثاً لا تجد فيه هذا التفصيل، ولو كان هذا التفصيل من شريعة الله ما تركه الله ـ عزّ وجل ـ، ولا تركه رسوله صلّى الله عليه وسلّم ويكفي هذا في إبطال هذا القول، وفي تعين القول الصحيح الذي لا يسوغ للناظر أن يتعداه إلى غيره؛ لأنه واضح.(11/218)
فَصْلٌ
وَلِلأُمِّ السُّدُسُ مَعَ وَلَدٍ أَوْ وَلَدِ ابْنٍ، أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ إِخْوَةٍ أَوْ أَخَوَاتٍ، وَالثُّلُثُ مَعَ عَدَمِهِمْ، والسُّدُسُ مَعَ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ، وَالرُّبُعُ مَعَ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَلِلأَبِ مِثْلاَهُمَا.....
قوله: «وللأم السدس مع ولدٍ أو ولد ابنٍ، أو اثنين من إخوة أو أخوات، والثلث مع عدمهم، والسدسُ مع زوجٍ وأبوين، والربعُ مع زوجةٍ وأبوين، وللأب مثلاهما» ، الأم لها ثلاث حالات، ترث السدس فقط مع ولد، أو ولد ابن، أو اثنين من إخوة أو أخوات فأكثر، يعني إذا وجد فرع وارث وهو المراد بقوله: «مع ولد أو ولد ابن» فإنها ترث السدس، فترث الأمُ السدسَ مع وجود الفرع الوارث، والفرع الوارث كل من لم يُدْلِ بأنثى.
مثال ذلك: هلك هالك عن أم وابن، للأم السدس والباقي للابن تعصيباً.
هلك هالك عن أم وبنت وعم، للأم السدس؛ لوجود فرع وارث، والبنت لها النصف، والباقي للعم.
وترث الثلث مع عدم الفرع الوارث والجمع من الإخوة.
هلك هالك عن أم وأخ شقيق، للأم الثلث؛ ولهذا قال: «والثلث مع عدمهم» .
الخلاصة: إذا وجد مع الأم فرع وارث ولو واحداً فلها السدس، وإذا وجد معها اثنان فأكثر من الإخوة أو الأخوات فلها السدس، وإذا لم يوجد فلها الثلث إلا في العُمَرِيَّتين وستأتي.(11/219)
هلك هالك عن أم وأخوين من أم وعم، للأم السدس لوجود أخوين، وهذا من غرائب العلم، الأخوان من الأم يدليان بالأم ويحجبانها، وأيضاً هذه الواسطة التي هي الأم لا تحجبهما، والقاعدة في الفرائض أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا الأخوة من الأم، وإلا أم الأب مع الأب.
وقوله: «والسدس مع زوج وأبوين والربع مع زوجة وأبوين وللأب مثلاهما» ، هذا التعبير غير صحيح وهو تساهل كبير جداً من المؤلف ـ رحمه الله ـ؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنة أن الأم لها الربع أبداً، الأم إما لها الثلث وإما السدس، هذا الذي في القرآن، والصواب أن نقول: وثلث الباقي مع زوج وأب، أو زوجة وأب.
مثال الأولى: إذا كان معها زوج وأب، فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، لعدم الفرع الوارث، والباقي ثلاثة، لها ثلث الباقي واحد، والباقي للأب، وحقيقة ثلث الباقي السدس، والمؤلف قال «سدس» لكن نحن لا نوافق المؤلف على هذا التعبير، بل نقول: ثلث الباقي.
مثال الثانية: إذا هلك زوج عن زوجته وأمه وأبيه، فالمسألة من أربعة، للزوجة الربع واحد لعدم الفرع الوارث، وللأم ثلث الباقي واحد، وهو في الحقيقة الربع، لكن لا نعبر بالربع؛ لأن الله لم يعبر به لها، والباقي للأب.
فصار ميراث الأم إما الثلث يعني ثلث المال كله، وإما السدس، وإما ثلث الباقي في مسألتين فقط زوج وأم وأب، أو(11/220)
زوجة وأم وأب، فإذا قال قائل: ما الدليل على أن ميراث الأم بهذه الحال؟
الجواب: قول الله ـ عزّ وجل ـ: {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ، فبيَّن الله ـ عزّ وجل ـ أن للأبوين السدس مع الولد، وأن للأم السدس مع الإخوة، فإذا قال قائل: ما دليلكم على ثلث الباقي، هل في القرآن ثلث الباقي؟
الجواب: لا، لكن دليلنا النص والقياس، النص عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (1) ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ له سنة متبعة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» (2) ، ويقول: «إن كان فيكم مُحَدَّثون فعمر» (3) ، وإذا كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أحالنا على عمر ـ رضي الله عنه ـ صار ما يحكم به ثابتاً بالنص، لكن ليس
__________
(1) أخرجه الدارمي في الفرائض/ باب في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين (2758) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن عمر قضى بذلك.
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/126) ؛ وأبو داود في السنة/ باب في لزوم السنة (4606) ؛ والترمذي في العلم/ باب ما جاء في الأخذ بالسنَّة (1676) ؛ وابن ماجه في المقدمة/ باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5) والحاكم (1/96) .
(3) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب حديث الغار (3469) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب من فضائل عمر ـ رضي الله عنه ـ (2398) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(11/221)
النص المباشر، بل على طريق أنه أحد الخلفاء الراشدين، فكان قوله متبوعاً بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما القياس، فإذا أخذ الزوج نصيبه انفردت الأم والأب بما بقي، وإذا انفردت الأم والأب بالمال كُلِّهِ تأخذ الثلث لعدم الفرع الوارث ولعدم الإخوة، فالآن انفردت الأم والأب بما بقي بعد فرض الزوج فنعطيها ثلث ما انفردا به، كما أنهما لو انفردا بالمال كله أعطيناها ثلث المال، إذاً هذا قياس واضح، وأيضاً القاعدة الغالبة في الفرائض أنه إذا اجتمع ذكر وأنثى في درجة واحدة فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
فتبين ـ والحمد لله ـ أن هاتين المسألتين هما ما قضى به عمر ـ رضي الله عنه ـ، ولهذا تسمى هاتان المسألتان بالعمريتين نسبة إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ؛ لأنه أول ما وقعتا في زمانه ـ رضي الله عنه ـ وقضى بهما على هذا الوجه.
فإن قال قائل: الآية الكريمة تبين أنه إذا لم يكن فرع وارث أو عدد من الإخوة أن للأم الثلث، قلنا: لا؛ لأن الله لم يجعل لها الثلث إلا فيما إذا ورثه أبواه حيث قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، فلا بُدَّ أن نعتبر هذا الشرط، وفي العمريتين ورثه أبواه ومعهما غيرهما، إذاً فلا تخالف القرآن، وما قضى به عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الحق الذي دلت عليه السنة ومفهوم القرآن.(11/222)
فَصْلٌ
تَرِثُ أُمُّ الأُمِّ وَاُمُّ الأَبِ وَأُمُّ أَبِي الأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ أُمُومَةً السُّدُسَ.........
قوله: «ترث أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب وإن علون أمومة السدس» ، أم الأم وإن علت أمومة، أي: أم أم أم أم أم أم أم أم أم أم إلى أن تصل إلى حواء.
وكذلك أم الأب، أم أم الأب، أم أم أم الأب، أم أم أم أم الأب.
كذلك أم أبي الأب، وهو الجد من جهة الأب، أمهاته وإن علون أمومة يرثن السدس، فلا يرث إلا ثلاث جدات، وأما أم أبي أبي الأب، سبق لنا أنها لا ترث على المذهب، وأن القول الراجح أنها ترث.
فالجدات من أسهل ما يكون فرضهن، فلا يمكن أن ترث الجدات الثلث ولا النصف ولا الثلثين، فميراثهن السدس فقط مع الفرع الوارث أو عدم الفرع الوارث، ومع الإخوة وعدم الإخوة ومع العاصب وعدم العاصب، لكن لا يرث من الجدات إلا هذه الثلاث، أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب الذي هو جدك من جهة الأب وإن علون أمومة، يعني ما بينهن ذكر أم أم أم أم أم ... إلخ، أم أم أب ... إلخ، أم أم أبي الأب ... إلخ، وأمَّا أم أبي أبي الأب فعلى المذهب لا ترث، والصواب أنها ترث، وأن كل من أدلت بوارث فهي وارثة، هذه قاعدة الفرائض.(11/223)
فَإِنْ تَحَاذَيْنَ فَبَيْنَهُنَّ، وَمَنْ قَرُبَتْ فَلَهَا وَحْدَهَا، وَتَرِثُ اُمُّ الأَبِ والجَدِّ مَعْهُمَا كَالعَمِّ، وَتَرِثُ الجَدَّةُ بِقَرَابَتَيْنِ ثُلُثَي السُّدُسِ،..............
قوله: «فإن تحاذين» يعني تساوين في المنزلة.
قوله: «فبينهن» فإذا هلك هالك عن أم أم وأم أب وأم جد فالسدس بين أم الأم، وأم الأب، أما أم الجد فلا ترث؛ لأنها أبعد منهما.
فإذا هلك عن أم أم أم، وأم أم أب وأم جد فالسدس بينهن بالسوية؛ لأنهن متحاذيات.
قوله: «ومن قربت فلها وحدها» أم أم أم، وأم أب، وأم جد كيف الميراث؟ السدس لأم الأب؛ لأنها أقربهن.
فعلى هذا نقول: الجدات ميراثهن السدس، وإن تساوين في المنزلة فبينهن، وإن اختلفن فللقربى منهن، هذا هو الموضع الثاني الذي لا يختلف فيه الميراث بين الواحد والمتعدد، والأول الزوجات.
قوله: «وترث أم الأب والجد معهما» يعني ترث أم الأب مع الأب مع أنها مدلية به، وترث أم الجد معه مع أنها مدلية به، فإذا قال قائل: ما دام أنّ المؤلف أعطانا قاعدة أن أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب وإن علون أمومة يرثن بدون شرط، فلماذا ينص على المسألة؟ نقول: نص عليها؛ لأن بعض العلماء خالف في هذا وقال: إن أم الأب لا ترث مع الأب، وأن أم الجد لا ترث مع الجد؛ معللاً ذلك بأن قاعدة الفرائض أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، إلا الإخوة من الأم فإنهم يرثون مع الأم بالإجماع مع إنهم مدلون بها، ولكننا نقول: الحجب مبني على(11/224)
الدليل، والقاعدة التي ذكرت صحيحة، إذا كان المدلي ينزل منزلة المدلى به عند عدمه، فالقاعدة أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة بشرط أن يكون المدلي يستحق ما للمُدلى به عند عدمه، فأبو الأب وأم الأب كلاهما في المنزلة سواء، فإذا كان الأب موجوداً، ترث أمه ولا يرث أبوه ـ سبحان الله ـ لأن أم الأب لا تقوم مقامه إذا عدم، ولكن يقوم أبوه ـ وهو الجد ـ مقامه، ولذلك حجب الأبُ الجدَ ولم يحجب الجدةَ، إذاً القاعدة ـ وهي التي تكون عند كثير من العلماء مطلقة ـ أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا الإخوة من الأم، فهذه القاعدة يجب أن تقيد بأن من أدلى بواسطة وكان يقوم مقام هذه الواسطة عند عدمها، فإنه يسقط بها ومن لا فلا، إذاً أم الأب ترث مع الأب، وأم الجد ترث مع الجد، فلو هلك هالك عن أبيه وأم أبيه، فلأم أبيه السدس ولأبيه الباقي؛ لأن أباه يرث بالتعصيب لعدم الفرع الوارث، فهنا ورثت الأم مع الأب مع أنها مدلية به؛ لأنها لا تنزل منزلته عند عدمه.
قوله: «كالعم» يعني كما ترث مع العم بالإجماع، مع أن الجدة التي هي أم الأب هي أم العم، فيقال: إذا كانت ترث مع ابنها الذي هو العم، فكيف لا ترث مع ابنها الذي هو الأب؟! لا فرق.
قوله: «وترث الجدة بقرابتين ثلثي السدس» ويكون للأخرى ثلث السدس، يعني لو اجتمعت جدتان إحداهما تدلي بقرابتين والثانية بقرابة واحدة، فللتي تدلي بقرابتين ثلثا السدس، والثانية لها ثلث السدس.(11/225)
فَلَوْ تَزَوَّجَ بِنْتَ خَالَتِهِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَجَدَّتُهُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ وَلَدِهِمَا وَأُمُّ أُمِّ أَبِيهِ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِنْتَ عَمَّتِهِ فَجَدَّتُهُ اُمُّ أُمِّ اُمِّهِ وَأُمُّ أَبي أَبِيهِ.
قوله: «فلو تزوج بنت خالته فأتت بولد فجدَّتُهُ أُمُّ أُمِّ أُمِّ وَلَدِهِما» أي: ولد الزوجة والزوج.
قوله: «وأُمُّ أُمِّ أَبيه» مثال ذلك: رجل تزوج بنت خالته ووُلِدَ له ولد، الولد الآن له جدتان، جدة من جهة أبيه، وجدة من جهة أمه، الجدة التي من جهة أمه تكون للولد أم أم أمه، وتكون أم أم أبيه فترث ثلثي السدس، والجدة الأخرى التي من قبل أبيه فقط ترث ثلث السدس.
قوله: «وإن تزوج بنت عمته فجدَّته أم أم أمه وأم أبي أبيه» هذه واضحة.(11/226)
فَصْلٌ
والنِّصْفُ فَرْضُ بِنْتٍ وَحْدَهَا، ثُمَّ هُوَ لِبِنْتِ ابْنٍ وَحْدَهَا، ثُمَّ لأُخْتٍ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ وَحْدَهَا، والثُّلُثَانِ لِثِنْتَيْنِ مِن الجَمِيعِ فَأَكْثَرَ إِذَا لَمْ يُعَصَّبْنَ بِذَكَرٍ،.....
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان ميراث الإناث، البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب.
قوله: «والنصف فرض بنت وحدها» يعني إذا مات ميت عن بنت واحدة فلها النصف، فإن كان معها عم فلها النصف، أو معها أب فلها النصف، أو معها أم فلها النصف، إذاً شرط إرث البنت النصف أن تكون وحدها، ليس معها بنت أخرى، ولا معها ابن آخر.
قوله: «ثم هو لبنت ابن وحدها» يعني لو هلك هالك عن بنت ابن وحدها فلها النصف، ولكن هنا نزيد شرطاً ألا يكون فوقها فرع وارث، مثال ذلك:
هلك هالك عن بنت ابن وعن ابن لا ترث النصف؛ لأنه وجد فرع وارث أعلى منها.
هلك هالك عن بنت ابن وبنت لا ترث النصف لوجود فرع وارث أعلى منها.
هلك هالك عن بنت ابن وبنت ابن، ليس لها النصف؛ لأنه لا بد أن تكون وحدها، ولهذا قال: «ثم هو لبنت ابن وحدها» ، وأضفنا شرطاً آخر، وهو ألا يوجد فرع أعلى منها.
قوله: «ثم لأخت لأبوين» يعني إذا لم يوجد إناث من الفروع فالنصف لأخت لأبوين، بشرط أن تكون وحدها.(11/227)
هلك هالك عن أخت شقيقة وعم فلها النصف.
هلك هالك عن أختين شقيقتين ليس لها النصف؛ لأنها ليست وحدها.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخ شقيق لا تستحق النصف؛ لأن الشرط أن تكون وحدها، وهنا نزيد شرطين: ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، إذاً الأخت الشقيقة لا بد أن تكون وحدها، وألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، والفرع الوارث الابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وما أشبه ذلك، والأصل من الذكور الأب والجد وما أشبه ذلك.
لو هلك هالك عن أخت شقيقة وأب فليس لها النصف؛ لوجود أصل من الذكور وارث، ولو هلك عن بنت وأخت شقيقة ليس لها النصف فرضاً لوجود فرع وارث.
قوله: «أو لأب وحدها» أيضاً الأخت لأب إذا كانت وحدها ترث النصف، لكن نزيد ثلاثة شروط ألا يوجد فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، ولا أحد من الأشقاء.
قوله: «والثلثان لثنتين من الجميع فأكثر إذا لم يُعَصَّبْنَ بذكَر» الثلثان لثنتين فأكثر من البنات، أو بنات الابن، أو الأخوات الشقيقات، أو الأخوات لأب، لكن قال: «إذا لم يُعَصَّبْنَ بذكر» فإن عصبن بذكر فليس لهن النصف، وهنا قاعدة أنه متى استحقت الواحدة النصف في مسألة فالثنتان فأكثر يستحققن الثلثين.
والدليل على ذلك قول الله ـ عزّ وجل ـ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي(11/228)
أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ، فقال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، ونحن نقول: الثنتان لهما الثلثان، والآية: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، اقرأ بقية الآية: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} مفهومه أن الثنتين ليس لهما النصف، فلا بد أن يزيد عن النصف، ولا يوجد فرض يزيد على النصف إلا الثلثان، إذاً ما زاد على الواحدة فله الثلثان لمفهوم قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} .
يبقى عندنا إشكال في كلمة «فوق» ، فقال بعض العلماء: إنها زائدة، وهذا فيه نظر كبير.
أولاً: ليس في القرآن شيء زائد.
ثانياً: لو سلمنا أن في القرآن شيئاً زائداً من الحروف، كالباء في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فإنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء زائد من الأسماء؛ لأن الحرف معناه في غيره وليس معناه في نفسه، فالقول بأن «فوق» زائدة غلط.
وقال بعضهم: إن {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} لها فائدة عظيمة وهي أن الفرض لا يزيد بزيادتهن؛ لأن ما فوق الثنتين إلى آلاف البنات فرضهن الثلثان، ولا يزيد بزيادتهن، ثم نقول: الأختان جعل الله لهما الثلثين، فالبنتان من باب أولى.
وقوله: «إذا لم يعصبن بذكر» الذكر الذي يعصب الأنثى هو كل ذكر مماثل لها درجة ووصفاً، كابنٍ وبنت، وأخ شقيق وأخت شقيقة، أما ابن وبنت ابن، فالابن ليس معصباً هنا لاختلاف(11/229)
الدرجة، وأخ شقيق وأخت لأب فالشقيق ليس معصباً لاختلاف الوصف.
وَالسُّدُسُ لِبِنْتِ ابْنٍ فَأَكْثَرَ مَعَ بِنْتٍ، وَلأُخْتٍ فَأَكْثَرَ لأَبٍ مَعَ أُخْتٍ لأَبَوَيْنِ مَعَ عَدَمِ مُعَصِّبٍ فِيهِمَا،.......
قوله: «والسدس لبنت ابنٍ فأكثر مع بنتٍ ولأختٍ فأكثر لأبٍ مع أختٍ لأبوين» ، السدس لبنت الابن مع البنت، يعني متى ورثت البنت النصف فلبنت الابن السدس، وكذلك للأخت لأب مع الأخت الشقيقة السدس، فمتى ورثت الأخت الشقيقة النصف ورثت الأخت لأب السدس.
فإذا هلك هالك عن بنت وحدها وعن بنت ابن وحدها، فللبنت النصف ولبنت الابن السدس.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، ولا فرع وارث، ولا أصل من الذكور وارث، فللأخت الشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس.
هنا بنات الابن ليس لهن إلا السدس، سواء كن واحدة أو أكثر، فلو هلك هالك عن بنت واحدة وعشر بنات ابن، فللبنت النصف، ولبنات الابن العَشْرِ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن.
هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت لأب، للأخت لأب السدس، ولو كن عشراً فلهنَّ السدس، لا يزيد الفرض بزيادتهن، أضف هذين الصنفين إلى الصنفين السابقين ممن لا يزيد الفرض بزيادتهن يكن الجميع أربعة، ولهذا يقال: أربعة لا يزيد الفرض بزيادتهن الزوجات، والجدات، وبنات الابن مع البنت، والأخوات لأب مع الأخت الشقيقة.(11/230)
والدليل على أن الأخوات الشقيقات للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان، قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، يعني لا يوجد فرع وارث، {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ، وأيضاً لا يوجد أصل من الذكور وارث، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] .
والدليل على أن بنت الابن مع البنت لها السدس، قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ، فإذا أخذت البنت النصف يبقى على الثلثين السدسُ، والله ـ عزّ وجل ـ لم يفرض لإناث الفروع أكثر من الثلثين، ولهذا يجب عند القسم أن نقول: للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والأخوات الشقيقات مع الأخوات لأب، للشقيقة النصف وللأخت لأب السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] ، ولم يذكر زيادة على ذلك، وهذا ـ والحمد لله ـ دليل واضح.
وقعت مسألة وهي: بنت وبنت ابن وأخت شقيقة في عهد عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فجاؤوا يستفتون أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة، فقال: للبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي؛ لأن الأخوات الشقيقات مع البنات عصبات، ثم قال للسائل: ائتِ ابن مسعود فسيوافقني على ذلك، للتثبت،(11/231)
فذهب الرجل إلى ابن مسعود وقال: إنه سأل أبا موسى الأشعري، وقال: للبنت النصف وما بقي فللأخت ولم يعط ابنة الابن شيئاً، وأنه قال: اذهب لابن مسعود فسيوافقني، فقال ابن مسعود: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ـ يعني إن تابعته فقد ضللت ـ ولأقضين فيها بقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت (1) ، فهذا دليل على أن لبنت الابن مع البنت السدس، ولا يزيد الفرض بزيادة بنات الابن؛ لأنه لا يمكن أن نتعدى الثلثين اللَّذَيْنِ جعلهما الله ـ عزّ وجل ـ للبنتين فأكثر.
وقوله: «ولأخت فأكثر لأبٍ» يعني ثنتين فأكثر، وهنا قال: «ولأخت فأكثر لأب» فقدم أكثر؛ لأنه لو قدم «أب» وقال: لأخت لأب فأكثر؛ لأوهم أن الكثرة بالنسبة للأب، فإن قال قائل: هذا لا يمكن أن يوهم، قلنا: بل يوهم؛ لأن الفقهاء يرون أن الإنسان قد يكون له أبوان، فلهذا رأى المؤلف ـ رحمه الله ـ أن يقدم «فأكثر» على قوله: «لأب» .
قوله: «مع عدم معصب فيهما» أي في الأخوات لأب مع الأخت الشقيقة، وفي بنات الابن مع البنت، فإن وجد معصب ورثن بالتعصيب معه.
فَإِن اسْتَكْمَلَ الثُّلُثَيْنِ بَنَاتٌ أَوْ هُمَا سَقَطَ مَنْ دُوْنَهُنَّ إِنْ لَمْ يُعَصِّبْهُنَّ ذَكَرٌ بِإِزَائِهِنَّ أَوْ أَنْزَلُ مِنْهُنَّ، وَكَذَا الأَخَوَاتُ مِنَ الأَبِ مَعَ الأَخَوَاتِ لأَبَوَيْنِ إِنْ لَمْ يُعَصِّبْهُنَّ أَخُوهُنَّ،
قوله: «فإن استكمل الثلثين بنات أو هما» أي البنت وبنت الابن.
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث ابنة ابن مع ابنة (6736) .(11/232)
قوله: «سقط من دونهن إن لم يعصبهن ذكر بإزائهن أو أنزل منهن» ، أي إن استكمل الثلثين البنات، بأن هلك هالك عن بنتين وبنت ابن، فبنت الابن تسقط إن لم يعصبها ذكر بإزائها، يعني بدرجتها، أو أنزل منها، وهنا الذكر عَصَّب من ليس بدرجته للضرورة؛ لأنها مضطرة إليه إذ لولا أنه عصبها ما ورثت، فيعصبها على القول الذي عليه الجمهور.
قوله: «وكذا الأخوات من الأب مع الأخوات لأبوين» ، يعني أن الأخوات من الأبوين إذا استغرقن الثلثين سقطت الأخوات لأب.
قوله: «إن لم يعصِّبهن أخوهن» ، هنا قال: «إن لم يعصبهن أخوهن» ، ولم يقل: «إن لم يعصبهن ذكر بإزائهن أو أنزل منهن» ؛ لأن الأخوات لا يعصبهن إلا أخوهن، ولذلك لو هلك هالك عن أختين شقيقتين وأخت لأب وابن أخ لأب، فللأختين الشقيقتين الثلثان والباقي لابن الأخ لأب، والأخت لأب لا ترث؛ لأن المؤلف هنا يقول: «إن لم يعصبهن أخوهن» ، وهذا ليس كبنت الابن مع ابن الابن النازل كما سبق، واتفق جمهور العلماء على هذا الحكم.
والأُخْتُ فَأَكْثَرُ تَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ البِنْتِ فَأَزْيَدَ، ولِلذَّكَرِ أَوِ الأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الأُمِّ السُّدُسُ، وَلاِثْنَيْنِ فَأَزْيَدَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
قوله: «والأخت فأكثر ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد» ، «أزيد» و «أكثر» معناهما واحد هنا، وإن كانت الزيادة تكون في زيادة الشيء الواحد، والأكثر في العدد، لكن المؤلف نَوَّع العبارة،(11/233)
فالأخت الشقيقة أو لأب ترث بالتعصيب ما فضل عن فرض البنت فأزيد، يعني إذا اجتمع بنات وأخوات شقيقات أو أخوات لأب، فأعطِ البنات نصيبهن، والباقي للأخوات تعصيباً.
مثال: هلك هالك عن بنتين وأختين شقيقتين، للبنتين الثلثان والباقي للأخوات الشقيقات تعصيباً.
هلك عن بنت وأخت شقيقة، للبنت النصف والباقي للأخت الشقيقة تعصيباً، والحاصل أنه متى ورثت البنات ومعهنَّ أخوات شقيقات، فإن الأخوات الشقيقات يكن عصبة مع الغير، ولهذا يقولون: الأخوات مع البنات عصبات، لكن عصبة مع الغير.
ومن هنا أقول: قسم العلماء ـ رحمهم الله ـ العصبة إلى عاصب بالنفس، وعاصب بالغير وعاصب مع الغير، العاصب بالغير أربعة: البنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب مع ذكَر يساويهن درجة ووصفاً، لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .
العصبة مع الغير صنفان فقط: الأخوات الشقيقات، والأخوات لأب مع البنات أو بنات الابن، لماذا فرق العلماء بين «بالغير» و «مع الغير» ؟ أما «بالغير» فواضح؛ لأن الباء للسببية، أي: كان هؤلاء النساء عصبة بسبب غيرهن، وأما «مع الغير» فليس هناك سبب، لكن هناك معية؛ لأن الأخوات الشقيقات لم يعصبهن بنات ولا رجال، لكن كن عصبة بالمصاحبة والمعية في مسألة واحدة.
والعاصب بالنفس له باب معين سيأتي إن شاء الله.(11/234)
قوله: «وللذكر أو الأنثى من ولد الأم السدس، ولاثنين فأزيد الثلث بينهم بالسوية» ، دليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ـ أي تورث كلالة ـ {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، ولم يقل: فإن كانوا أكثر من ذلك فللذكر مثل حظ الأنثيين، بل قال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} ، والمشاركة تقتضي التسوية، كما أن البينية تقتضي ذلك، ولهذا لو وَهَبْتَ جماعةً مالاً وقلت: هو بينكم، يكون بالسوية، الصغير والكبير سواء.
فالإخوة من الأم يرثون بشرطين: ألا يوجد فرع وارث، وألا يوجد أصل من الذكور وارث، فإن وجد أحدهما فلا ميراث، فلو هلك هالك عن جد هو أبو أبٍ وعن أخ من أم، فلا شيء للأخ من الأم لوجود أصل من الذكور وارث.
ولو هلك عن بنت ابن وأخ من أم يسقط الأخ من الأم؛ لأن في المسألة فرعاً وارثاً وهي بنت الابن، فإذا ثبت إرثهم فللواحد السدس وللاثنين فأكثر الثلث، ويتساوون.
وليس في الفرائض ما يتساوى فيه الذكر والأنثى إلا الأخوة من الأم، فَذَكَرُهم وأنثاهم سواء، لماذا؟ يوجد جواب لا اعتراض عليه، وهو أن هذا حكم الله، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، وهذا ـ أعني حكم الله ـ، هو الذي احتجت به أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سألتها امرأة قالت: ما بال الحائض(11/235)
تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟! يعني من الخوارج، قالت: لا ولكني أسأل، فلو قالت: إنها حرورية، ما أجابتها عائشة؛ لأنه ليس أصعب ما يقوله الخوارج، فاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم المسلمين أشد، لكنها قالت: لا، ولكني أسأل، فاستدلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالنص، قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (1) ، وهذا مُسْكِت لكل مسلم لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، ولهذا إذا صادفك سائل ليس جدلياً، وقال: ما الفرق بين هذا وهذا؟ فقلتَ: هذا حكم الله يسكت؛ لأنه مؤمن، ويعلم أن الله لا يفرق بين متماثلين إلا لفرق بينهما، إما معلوم أو غير معلوم، لكن الجدلي يتعبك بالجدل ويتعمق.
أما قول بعضهم في الإخوة لأم أنهم يرثون بالرحم المجردة، فيقال: من قال إنهم يرثون بالرحم المجردة؟! ولو أن أحداً قال: أتشهد على الله أنه سوَّى بين الذكر والأنثى في الإخوة من الأم؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة؟ ما تستطيع أن تقول أشهد، لكن مسائل الفرائض نبه الله ـ عزّ وجل ـ على أنه لا مدخل للعقول فيها، فقال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] ، وهذا يوجب أن يسكت الإنسان، وألا يتعمق في طلب التعليل حتى يَسْلَم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحيض/ باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) ؛ ومسلم في الطهارة/ باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) (69) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، واللفظ لمسلم.(11/236)
فَصْلٌ
يَسْقُطُ الأَجْدَادُ بِالأَبِ، والأَبْعَدُ بِالأَقْرَبِ، وَالجَدَّاتُ بِالأُمِّ، وَوَلَدُ الابْنِ بِالابْنِ وَوَلَدُ الأَبَوَيْنِ بِابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ وَأَبٍ، وَوَلَدُ الأَبِ بِهِمْ، وَبِالأَخِ لأَبَوَيْنِ، وَوَلَدُ الاُمِّ بِالوَلَدِ وَبِوَلَدِ الابْنِ وَبِالأَبِ وَأَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ كُلُّ ابْنِ أَخٍ وَعَمٍّ،.................
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان أحكام الحجب، يقول العلماء: إنه لا يحل لإنسان لا يعرف الحجب أن يفتي في الفرائض؛ لأنه قد يعطي شخصاً ويورثه وهو محجوب؛ فلهذا لا بد أن تعرف باب الحجب.
الحجب نوعان: حجب بوصف وحجب بشخص، الحجب بالشخص: معناه أن الإنسان يحجبه شخص من أهل الميراث.
قوله: «يسقط الأجداد بالأب» كل الأجداد، فإذا هلك هالك عن أب وجد من الأب، حجبه الأب.
قوله: «والأبعد بالأقرب» أي: الأبعد من الأجداد يحجب بالأقرب، فإذا هلك عن أبي أبٍ وأبي أبي أبٍ، يرث الأول؛ لأن أبا أبي الأب أبعد، وهذا واضح، ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) ، «أولى» يعني أقرب، وليس الأولى الأحق، وإلا لقلنا: الفقير وإن كان بعيداً يقدم على الغني.
قوله: «والجدات بالأم» سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، فلو هلك هالك عن أم أم وأم أب وأم، فالجدتان لا ترثان؛ لأن الأم تحجبهم.
قوله: «وولد الابن بالابن» لأنه أبعد، ولد ابن ابن ابن وابن ابن، الأول يسقط؛ لأنه أبعد.
__________
(1) سبق تخريجه ص (199) .(11/237)
قوله: «وولد الأبوين» ، أي الأخ الشقيق أو الأخت الشقيقة.
قوله: «بابن وابن ابن وأب» ، أي: يسقط ولد الأبوين بأحد هؤلاء الثلاثة.
فلو هلك هالك عن ابن وأخ شقيق، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن ابن ابن وأخ شقيق، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن أخ شقيق وأب، سقط الأخ الشقيق.
هلك عن أخ شقيق وجد ـ على القول الراجح ـ يسقط الأخ الشقيق؛ لأن الجد لأب كالأب.
قوله: «وولد الأب بهم» ، ولد الأب هو الأخ من الأب «بهم» أي: يسقط بالابن وابن الابن والأب.
قوله: «وبالأخ لأبوين» الذين يسقطون الأخَ لأب أربعة: الابن وابن الابن والأب والأخ الشقيق.
قوله: «وولد الأم بالولد وبولد الابن وبالأب وأبيه» ، ولد الأم يعني الأخ من الأم، أو الأخت من الأم يسقط بأربعة: بالولد وولد الابن والأب وأبيه، وهذا من المؤلف تفصيل، لكننا سبق لنا أن الإخوة من الأم لا يرثون مع الأصل الوارث من الذكور، ولا مع الفرع الوارث.
قوله: «ويسقط به كل ابن أخ وعم» «به» أي: بأب الأب؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور.(11/238)
وقوله: «كل ابن أخٍ وعمٍ» . هل «عم» معطوف على «كل» أو «ابن» ؟ إذا قلنا: معطوف على «ابن» صار المعنى كل ابن أخٍ وكل عم، وهذا صحيح، وإن شئت فقل: معطوف على «كل» والتقدير ويسقط به كل ابن أخٍ وعمٌّ، أي: يسقط العم أيضاً، ولا يجوز أن نجعله معطوفاً على أخ؛ لأنك لو عطفته على أخ صار المعنى كل ابن أخ وابن عم، وهذا فاسد، ويحسن أن نذكر قواعد في الحجب:
أولاً: الأصول: كل قريب يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأم تُسقِطُ الجدة، والأب يسقط الجد، والأب لا يسقط الجدة، والأم لا تسقط الجد؛ لأنه ليس من جنسها.
ثانياً: الفروع: كل ذكر يحجب من تحته، سواء من جنسه أو من غير جنسه، فابن يحجب ابن ابن، وابن يحجب بنت ابن، وابن ابن يحجب بنت ابن ابن؛ أما الأنثى فلا تحجب من تحتها، فلو هلك هالك عن بنت وبنت ابن، ورثت البنت النصف، ولبنت الابن السدس.
ثالثاً: الحواشي: يحجبهم كل ذكر من الأصول أو الفروع، فالأخ مع الأب محجوب، الأخ مع الابن محجوب، الأخ مع الجد محجوب على القول الراجح، كذلك كل قريب من الحواشي يحجب من بَعُد مطلقاً، الأخ يحجب ابن الأخ، لكن إناث الحواشي لا يرث منهن إلا الأخوات فقط.
هذه القواعد تريح من العدد الذي ذكره المؤلف، وهي لا تنافي ما ذكره بل هي نفسها، لكن كلما قل الكلام كان أقرب إلى الفهم، لا سيما إذا كان قواعد وضوابط.(11/239)
بَابُ العَصَبَاتِ
قوله: «العصبات» : جمع عاصب، وهو كل من يرث بلا تقدير، وحكم العصبة أن الواحد إذا انفرد أخذ المال كله، ومع ذي الفرض يأخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط.
العصبة خمسة أصناف: البنوَّة والأبوَّة والأخوَّة والعمومة والولاء، فالبنوة خرج بها البنات فالبنات لا تدخل هنا، والأخوة ـ أيضاً ـ خرج بها الأخوات؛ لأن البنات والأخوات يَكُنَّ عصبة إما بالغير أو مع الغير، فالعاصب بالنفس لا يمكن أن يكون أنثى، الأخوة يدخل فيها الإخوة الأشقاء أو لأب وأبناؤهم وإن نزلوا، العمومة يدخل فيها الأعمام الأشقاء أو لأب وأبناؤهم، الولاء يدخل فيه المعتِق وعصبتُه المتعصبون بأنفسهم.
الأبوة يدخل فيها الآباء والأجداد وإن علوا، ولكن بشرط ألا يكون بين الجد والميت أنثى.
البنوة يدخل فيها الأبناء وأبناء الأبناء وإن نزلوا، هؤلاء هم أصول العصبة، فمن نقدم منهم؟ نقدم أولاً من كان أسبق جهة، ثم من كان أقرب منزلة، ثم من كان أقوى.
والقوة لا تكون إلا في الحواشي، فلا تكون في الأصول، ولا في الفروع، فإذا هلك هالك عن ابن وأب يقدم في التعصيب الابن، ولهذا لا نعطي الأب إلا فرضه فقط السدس، هلك عن أبٍ وأخ شقيق نقدم الأب، هلك عن أخ شقيق وعم شقيق؟ نقدم(11/240)
الأخ الشقيق، هلك عن عم شقيق ومعتِق؟ نقدم العم الشقيق، هذا التقديم بالجهة.
فإذا كانوا في جهة واحدة قُدِّم الأقرب منزلة، هلك عن ابن وابن ابن فالعاصب الابن؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن ابن ابن ابن، وابن ابن ابن ابن؟ الأول؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن أب وجد؟ الأب، لأنه أقرب منزلة، هلك عن أخ لأب وابن أخ شقيق؟ الأخ للأب؛ لأنه أقرب، هلك عن عم شقيق وابن عم شقيق، يقدم العم الشقيق؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن عم لأب وابن عم شقيق؟ العم لأب؛ لأنه أقرب منزلة، هلك عن ابن ابن ابن ابن ابن عم في الدرجة السادسة وعم أبيه، الأول أقرب؛ لأن ابن ابن ابن العم النازل يشترك مع الميت في الجد الأول؛ لأنه أخو أبيه، وعم أبيه يشترك مع الميت في الجد الثاني؛ لذلك كان الأول أقرب.
ومع أنك لو نظرت إلى هذه المسألة بداهة لقلت: إن عم الأب أقرب، لكن يقول العلماء: الأقرب من يتصل بك أولاً، يعني من يشاركك في الجد الأسبق، ولذلك نقدم ابن ابن ابن ابن أخ شقيق على عم شقيق؛ لأن ابن الأخ يجتمع بك بالأب، وهذا بالجد.
فإذا تساووا في الدرجة وفي الجهة نقدم الأقوى، فالأخ الشقيق مع الأخ لأب يقدم الشقيق، وابن الأخ الشقيق مع ابن الأخ لأب يقدم ابن الأخ الشقيق، وعلى هذا فقس، وابن العم لأم وابن ابن عم لأب أيهما أقرب؟ الثاني؛ لأن ابن العم لأم(11/241)
لا يرث؛ لأن أباه لا يرث، فالأعمام لأم لا يرثون أصلاً، وأبناؤهم من باب أولى، ابن ابن أخ لأب، وابن أخ لأم، يقدّم الأول؛ لأن الثاني لا يرث؛ لأن الإخوة من الأم هم فقط يرثون، أما أبناؤهم فلا يرثون.
هذه هي العصبات، فإذا عرفت هذه الضوابط سهل عليك التطبيق، يقول الجعبري:
فبالجهة التقديمُ ثم بِقُرْبِهِ
وَبَعْدَهُما التقديمَ بالقوةِ اجعلا
وَهُمْ كُلُّ مَنْ لَوِ انْفَرَدَ لأَخَذَ المَالَ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعَ ذِي فَرْضٍ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَأَقْرَبُهُمُ ابْنٌ فَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، ثُمَّ الأَبُ ثُمَّ الجَدُّ وَإِنْ عَلاَ مَعَ عَدَمِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ،....
قوله: «وهم كل من لو انفرد لأخذ المال بجهة واحدة، ومع ذي فرض يأخذ ما بقي» . المؤلف ـ رحمه الله ـ عَرَّف العصبة بالحكم، والتعريف بالحكم يسلكه كثير من العلماء، لكنه عند أهل المنطق معيب.
وعِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ المَرْدُودِ
أَنْ تُدْخَلَ الأَحْكَامُ فِي الحُدُودِ
وما ذهب إليه أهل المنطق أوضح، فكيف تحكم على ما لا تعرف، فاعرف الشيء أولاً ثم احكم عليه، لكن من باب التسامح فإن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يستعملون الأحكام في الحدود.
أما تعريفه بالرسم فيقال: كل من يرث بلا تقدير.
وحكمه أنه إن انفرد أخذ المال كله، ومع ذي فرض يأخذ ما بقي، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط.
وقوله: «بجهة واحدة» ، إنما قال ذلك احترازاً مما لو أخذ(11/242)
المال بجهتين، كزوج هو ابن عم هلكت زوجته عنه وليس لها عاصب سواه، فهنا نقول: يأخذ المال كله فرضاً وتعصيباً، ولا يقال: إن هذا ليس له فرض؛ لأنه أخذ المال كله؛ لكن يقال: إنه أخذ المال بجهتين فرضاً وتعصيباً، كذلك لو كان أخاً لأم وهو ابن عم، كرجل تزوج عمُّه أمَّهُ بعد موت أبيه وأتت بولد، هذا الولد يرث بجهتين إذا مات ابن عمه، بجهة الفرضية على أنه أخ من أم، وبجهة التعصيب على أنه ابن عم.
وقوله: «ومع ذي فرض يأخذ ما بقي» دليل هذا من السنة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (1) ، وهذا نص صريح واضح، أن نبدأ بأصحاب الفروض ثم بالعصبة، فإذا لم يبق شيء سقطوا.
قوله: «فأقربهم ابن» لأنه أسبق جهة، ولهذا لو قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: فأولاهم لكان أحسن؛ لأنه إذا قال: «فأقربهم» يفهم القارئ أن هذا قرب منزلة، وأيضاً لفظ الحديث: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» .
قوله: «فابنه وإن نزل» البنت ليس لها التعصيب، فابنها لا ميراث له أصلاً.
قوله: «ثم الأب ثم الجد» من جهة الأب.
قوله: «وإن علا مع عدم أخٍ لأبوين أو لأب» هذا الشرط مبني
__________
(1) سبق تخريجه ص (199) .(11/243)
على القول الضعيف أن الإخوة يرثون مع الجد، أما على القول الراجح فلا حاجة لهذا القيد، بل نقول: «ثم الأب ثم الجد» .
ثُمَّ هُمَا، ثُمَّ بَنُوهُمَا أَبَدَاً، ثُمَّ عَمٌّ لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ عَمٌّ لأَبٍ ثم بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَعْمَامُ أَبِيهِ لأََبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُم كَذَلِكَ، ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ كَذَلِكَ، لاَ يَرِثُ بَنُو أَبٍ أَعْلَى مَعَ بَنِي أَبٍ أَقْرَبَ وَإِنْ نَزَلُوا،..............
قوله: «ثم هما» الضمير يعود على الأخ لأبوين والأخ لأب، يعني من بعد الجد الأخوان، الأخ الشقيق والأخ لأب.
قوله: «ثم بنوهما» بنو الأخ الشقيق، والأخ لأب.
قوله: «أبداً» يعني إلى أنزل شيء.
قوله: «ثم عم لأبوين، ثم عم لأب» ، وعم لأم لا يرث.
قوله: «ثم بنوهما كذلك» ، يعني العم لأبوين والعم لأب ثم بنوهما وإن نزلوا.
قوله: «ثم أعمام أبيه، لأبوين، ثم لأب، ثم بنوهم كذلك، ثم أعمام جده، ثم بنوهم كذلك» أعمام الجد أدنى رتبة من أعمام الأب فأعطانا قاعدة ـ رحمه الله ـ قال:
«لا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا» ، هذه قاعدة مفيدة، فبنو الأعمام لا يرثون مع بني الإخوة، بنو أعمام الأب لا يرثون مع بني أعمام الميت، بنو أعمام أب الأب لا يرثون مع بني أعمام الأب، وهلم جرّا؛ لأن الأقرب للميت هو الذي يتصل به أولاً، وأعمام الأب يتصل بهم الميت قبل أن يتصل بأعمام الجد، وعلى هذا فيكونون أقرب منزلة.(11/244)
فلو هلك عم عن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن ابن عم عشر درجات، وعن ابن عم أبيه درجة واحدة، فالعاصب الأول؛ لأنه يتصل بالميت بالجد، وذاك اتصل بالميت بأبي الجد فكان أقرب منزلة، وهذه يجهلها بعض طلبة العلم، يظنون أن الأقرب منزلة هم الأقل عدداً، وليس كذلك، قرب المنزلة يكون لأول من يتصل به الميت.
فَأَخٌ لأَبٍ أَوْلَى مِنْ عَمٍّ وَابْنِهِ وَابْنِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ، وَهُوَ أَوِ ابْنُ أَخٍ لأَبٍ أَوْلَى مِنِ ابْنِ ابْنِ أَخٍ لأَبَوَيْنِ، وَمَعَ الاسْتِوَاءِ يُقَدَّمُ مَنْ لأَبَوَيْنِ، فَإِنْ عُدِمَ عَصَبَةُ النَّسَبِ وَرِثَ المُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ.
قوله: «فأخ لأب أولى من عم» هذا سبق جهة بجهة.
قوله: «وابنه» أي ابن عمه أو ابنه هو، فإذا كان ابنه فهو أولى منه لقرب المنزلة، وإذا كان ابن عمه فهو أولى منه لقرب الجهة.
قوله: «وابن أخ لأبوين» يعني الأخ لأب أولى من ابن أخٍ لأبوين، فإذا هلك عن أخيه لأبيه وابن أخيه الشقيق فالعاصب أخوه لأبيه؛ لأنه أقرب منزلة.
قوله: «وهو أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين» «وهو» يعني ابن أخ لأبوين أو ابن أخ لأب أولى من ابن ابن أخ لأبوين لقرب المنزلة.
قوله: «ومع الاستواء» يعني في الدرجة والجهة.
قوله: «يقدم مَنْ لأبوين» بالقوة.
قوله: «فإن عدم عصبة النسب ورث المعتِق ثم عَصَبَتُهُ» ، لقول(11/245)
النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولاء لُحْمَةٌ كلُحمة النسب» (1) .
«لُحمة» يعني التحاماً كالتحام النسب، وإذا لم يوجد معتِق، فعصبته، لكن عصبته المتعصبون بأنفسهم، وعلى هذا فلو مات العبد عن ابن سيده وبنت سيده فالعاصب ابن السيد، وبنت السيد ما لها شيء؛ لأن الولاء لا يرث فيه إلا العصبة المتعصبون بأنفسهم.
فإذا قال قائل: كيف لا يكون لبنت السيد شيء مع أخيها؟! نقول: كما أنه ليس لبنت الأخ شيء مع أخيها، فهذا ليس غريباً.
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند (237) ؛ وابن حبان (4950) إحسان، والحاكم (4/341) ؛ والبيهقي (10/292) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في الجوهر النقي (10/292) ؛ والحافظ في التلخيص (2151) ؛ والألباني في الإرواء 5/109.(11/246)
فَصْلٌ
يَرِثُ الابْنُ وَابْنُهُ، وَالأَخُ لأَبَوَيْنِ أوْ لأَِبٍ مَعَ أُخْتِهِ مِثْلَيْهَا، وَكُلُّ عَصَبَةٍ غَيْرُهُمْ لاَ تَرِثُ أُخْتُهُ مَعَهُ شَيْئَاً، وابْنَا عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ أَوْ زَوْجٌ لَهُ فَرْضُهُ والبَاقِي لَهُمَا،......
قوله: «يرث الابن وابنه والأخ لأبوين أو لأب مع أخته مثليها» هؤلاء العصبة بالغير، فيرث الابن وابنه مع أخته، والأخ لأبوين والأخ لأب مع أخته «مثليها» يعني للذكر مثل حظ الأنثيين، ابن مع بنت، ابن ابن مع بنت ابن، أخ شقيق مع أخت شقيقة، أخ لأب مع أخت لأب، هؤلاء أربعة تكون أخواتهم عصبة بالغير، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وقال في الإخوة: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .
قوله: «وكل عصبة غيرهم لا ترث أختُه معه شيئاً» هذا ضابط مفيد، جميع العصبة غَيْرُ هؤلاء الأربعةِ لا ترث أختهم معهم شيئاً، فابن الأخ مع بنت الأخ، بنت الأخ لا ترث شيئاً، والعم والعمة، العمة لا ترث؛ لأن المؤلف أعطانا ضابطاً: كل عصبة سوى هؤلاء الأربعة لا ترث أخته معه شيئاً.
قوله: «وابنا عم أحدهما أخ لأم أو زوج له فرضه والباقي لهما» هذان ابنا عم أحدهما زوج للميتة، كامرأة ماتت عن زوجها الذي هو ابن عمها، وعن أخيه الذي هو ابن عمها، فللزوج فرضه والباقي لهما، فالمسألة من أربعة تصحيحاً الزوج له ثلاثة وابن العم الثاني واحد؛ لأن الأول ورث النصف بالزوجية فرضاً، وما بقي فهو له ولأخيه.(11/247)
وَيُبْدَأُ بِذَوِي الفُرُوضِ وَمَا بَقِيَ لِلعَصَبَةِ، وَيَسْقُطُونَ فِي الحِمَارِيَّةِ،............
قوله: «ويبدأ بذوي الفروض وما بقي للعصبة» ، أخذ هذا من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (1) ، وإذا لم يبقَ شيء يسقط العاصب، ولهذا قال:
«ويسقطون في الحمارية» ، أي العصبة يسقطون في الحمارية وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، المسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللإخوة من الأم الثلث اثنان، ولم يبقَ شيء فيسقط الإخوة الأشقاء، إخوة أشقاء يسقطون وإخوة من الأم يرثون!! والدليل قول الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلنطبق المسألة، الزوج له النصف، والدليل قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] ، والأم لها السدس، والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ، والإخوة من الأم لهم الثلث، والدليل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، فأعطينا هؤلاء بكتاب الله تعالى، أما العصبة فنقول: ليس لكم شيء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها» ، فقلنا: سمعاً وطاعة لك يا رسول الله، أَلْحَقْنَا الفرائض بأهلها، قال: «فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» فنقول: لم يبقَ شيء، فأثار الإخوة علينا قضية يتبعهم فيها العوام، قالوا: كيف يكون إخوة من أم يرثون
__________
(1) سبق تخريجه ص (199) .(11/248)
ونحن لا نرث، ألسنا أولى بالميت؟! فنحن إخوة أشقاء ندلي بجهتين، وهؤلاء من جهة واحدة؟ فالعوام يوافقونهم، ولكن المؤمنين يقولون: لا خيرة لنا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، لو كان الأخ من الأم واحداً والإخوة الأشقاء عشرة، فنقول: المسألة من ست، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخ لأم السدس واحد، وللعشرة واحد، ولو أردنا أن نقيس لقلنا: يضاف سدس الأخ لأم إلى ما بقي للأشقاء ويقسم على إحدى عشرة، ويكون للأخ من الأم واحد من الإحدى عشرة، ولكن ليس الحكم كذلك، لا يضم نصيب الأخ من الأم إلى نصيب الأشقاء.
والمؤلف سمَّاها حمارية نسبة إلى الحمار؛ لأن الإخوة الأشقاء حاكموا الإخوة من الأم إلى القاضي، فقال القاضي: ليس لكم أيها الإخوة الأشقاء شيء؛ لأنكم عصبة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» ، فقالوا: هب أن أبانا كان حماراً، يعني قدِّرْه حماراً ـ هذا عقوق عظيم أن يجعلوا أباهم حماراً ـ فسميت الحمارية (1) ، ولها أسماء أخرى متعددة، منها هذا، ومنها اليمِّيَّة والحجرية والمشركة والمشتركة، على كل حال الألقاب هذه كلها لها شيء من الاشتقاق، لكن القول الراجح بلا شك أنه لا يمكن أن يكون الإخوة الأشقاء مشاركين للإخوة من الأم؛ لأننا لو شركناهم
__________
(1) أخرجها الدارمي في الفرائض/ باب في المشركة (2882) ؛ والحاكم (4/337) ، وعنه البيهقي (6/256) . وضعفها في الإرواء (1693) .(11/249)
لخالفنا الحديث والقرآن، فإذا شركناهم مع الإخوة من الأم، فهل يكون للإخوة من الأم الثلث؟ لا؛ لأن هؤلاء سيشاركونهم، وإذا شركناهم هل نحن امتثلنا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» ؟ لا، ولذلك نحن نسأل الله ـ عزّ وجل ـ العفو والمغفرة لمن ذهبوا هذا المذهب، وشركوا الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، ونقول: هم مجتهدون، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن لم يصب فله أجر واحد.
أما لو كان بدل الإخوة الأشقاء أخوات شقيقات فإنهنَّ لا يسقطن، فلو هلكت امرأة عن زوج وأم وإخوة من أم وأختين شقيقتين، لقلنا: المسألة من ست، للزوج النصف ثلاثة وللأم السدس واحد، وللإخوة من الأم الثلث اثنان، وللأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى عشرة ـ سبحان الله ـ فالفرائض فوق مستوى العقول، لو كانا شقيقين سقطا، وإذا كانتا شقيقتين ورثتا، لكن نقول: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} .
انتهى ـ والحمد لله ـ الكلام على المواريث فقهاً، وهذا هو المهم؛ ولم يبق إلا الكلام عليها حساباً، ومعرفة الفرائض حساباً ما هو إلا وسيلة فقط، والوسيلة قد لا تكون ضرورة، إن احتجنا إليها أخذنا بها وإلا فلا.(11/250)
بَابُ أُصُولِ المَسَائِلِ
الفُرُوضُ سِتَّةٌ: نِصْفٌ وَرُبُعٌ وَثُمُنٌ وَثُلُثَانِ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ، والأُصُولُ سَبْعَةٌ،.......
قوله: «الفروض ستة» ، أي: الفروض المقدرة ستة.
قوله: «نصف وربع وثمن وثلثان وثلث وسدس» ، ولا يوجد غير هذا، يعني التي قدر الله ـ تعالى ـ نصيب الوارث بها هي هذه الستة، والدليل: أما النصف فقال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، والربع: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} ، والثمن: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ، والثلثان: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، والثلث: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} ، والسدس: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} ، ومرَّ علينا ثلث الباقي في باب الجد والإخوة، وفي العمريتين، أما في العمريتين فأصل صحيح؛ لأنه من سنة عمر ـ رضي الله عنه ـ، وأما في باب الجد والإخوة فأصل غير صحيح؛ لأنه لا دليل عليه، لا من الكتاب ولا من السنة ولا الإجماع.
قوله: «والأصول سبعة» أصول المسائل؛ لأن الفروض غير أصول المسائل، فالفروض هي المقدرات للورثة، والمسائل هي التي يكون بها تصحيح الميراث، فالأصول سبعة: اثنان، ثلاثة، أربعة، ستة، ثمانية، اثنا عشر، أربعة وعشرون، هذه أصول(11/251)
المسائل، لا يوجد مسألة إلا من واحد من هذه الأصول، فمتى تكون المسألة من اثنين؟ قال المؤلف ـ رحمه الله ـ:
فَنِصْفَانِ أَوْ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ مِنِ اثْنَيْنِ، وَثُلُثَانِ أَوْ ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ هُمَا مِنْ ثَلاَثَةٍ، وَرُبُعٌ أَوْ ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ مَعَ النِّصْفِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ لاَ تَعُولُ، وَالنِّصْفُ مَعَ الثُّلُثَيْنِ أَوِ الثُّلُثِ............
«فنصفان أو نصف وما بقي من اثنين» مثال النصفين: هلكت امرأة عن زوجها وأختها الشقيقة، فنصفان، نصف للزوج ونصف للشقيقة، هلكت عن زوجها وأختها لأب، فنصفان.
مثال نصف وما بقي: هلكت عن زوج وعم، عن بنت وعم، عن بنت ابن وعم، أخت شقيقة وعم , أخت لأب وعم، خمس مسائل، لا يوجد غيرها.
قوله: «وثلثان أو ثلث وما بقي أو هما من ثلاثة» ، ثلاثة أصناف: ثلثان وما بقي، ثلث وما بقي، ثلثان وثلث، هذه من ثلاثة، فثلثان وما بقي أربع مسائل: بنتان وعم، بنتا ابن وعم، أختان شقيقتان وعم، أختان لأب وعم.
ثلث وما بقي مسألتان: أم وعم، إخوة من أم وعم، لا يوجد غير هذا.
«أو هما» يعني الثلثين والثلث، أختان شقيقتان وأختان من أم، أختان لأب وأختان من أم لا يوجد غير هذا.
قوله: «وربع أو ثمن وما بقي أو مع النصف من أربعة ومن ثمانية» ، الربع وما بقي: زوجة وعم، الربع مع النصف: زوج وبنت وعم، زوج وبنت ابن وعم، زوجة وأخت شقيقة وعم،(11/252)
زوجة وأخت لأب وعم، أربع صور من أربعة.
الثمن وما بقي: زوجة وابن، ثمن ونصف وما بقي: زوجة وبنت وعم، كل هذه من ثمانية، وبدلاً من هذا نقول: أصل المسألة مخرج فروضها بلا كسر، وهذا سهل عند كل حاسب، متى تحصل على عدد بلا كسر، ففي النصف من اثنين، وفي الثلث من ثلاثة، وفي الربع من أربعة، وفي السدس من ستة، وهلم جرًّا.
قوله: «فهذه أربعة لا تعول» أي: لا تزيد فروضها على أصل المسألة أبداً، فهي إما مساوية لأصل المسألة وتسمى عادلة، وإما أقل وتسمى ناقصة، أما عائلة فلا، فأختان شقيقتان وأختان من أم هذه عادلة، وأختان شقيقتان وعم ناقصة؛ لأن الفرض ثلثان فقط.
فهذه الأربعة: أصل الاثنين، وأصل الثلاثة، وأصل الأربعة، وأصل الثمانية، هذه لا يمكن أن تعول أبداً.
قوله: «والنصف مع الثلثين» أقل عدد يخرج منه فرض النصف والثلثين ستة، مثال ذلك: هلكت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين، للزوج النصف ثلاثة وللشقيقتين الثلثان أربعة، ثلاثة وأربعة سبعة، وأصل المسألة ستة فتكون عائلة، فصار نصيب الزوج ثلاثة أسباع، ونصيب الأختين أربعة أسباع، فنَقَصَ.
قوله: «أو الثلث» النصف مع الثلث من ستة؛ لأن أقل عدد ينقسم على نصف وثلث هو الستة، مثال ذلك: هلك هالك عن أخت شقيقة وأم، المسألة من ستة، للأخت الشقيقة النصف وللأم(11/253)
الثلث، والباقي لأولى رجل ذكر، كما جاء في الحديث.
أَوِ السُّدُسِ أَوْ هُوَ ومَا بَقِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَتَعُولُ إِلى عَشَرَةٍ شِفْعَاً وَوِتْرَاً، وَالرُّبُعُ مَعَ الثُّلُثَيْنِ أَوِ الثُّلُثِ أَوِ السُّدُسِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ..............
قوله: «أو السدس» ، النصف مع السدس من ستة، ولَمْ نقل: من اثني عشر؛ لأنه متى أمكن تقليل العدد وجب الأخذ به، مثال ذلك: هلك هالك عن أخت شقيقة وأخت من أم وعم، المسألة من ستة، الأخت الشقيقة لها النصف ثلاثة، وللأخت لأم السدس واحد، والباقي لأولى رجل ذكر، العم.
قوله: «أو هو وما بقي من ستة» ، يعني السدس وما بقي، مثاله: أخ من أم وعم المسألة من ستة، للأخ من الأم السدس واحد، والباقي للعم.
وَتَعُولُ إِلى سَبْعَةَ عَشَرَ وِتْرَاً والثُّمُنُ مَعَ سُدُسٍ أَوْ ثُلُثَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتَعُولُ إِلى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الفُروضِ شَيْءٌ وَلاَ عَصَبَةَ رُدَّ عَلَى كُلِّ فَرْضٍ بِقَدْرِهِ غَيْرَ الزَّوْجَيْنِ.
قوله: «وتعول إلى عشرة شَفْعاً ووِتراً» ، تقبل النقص والزيادة والمساواة، وتسمى الكريمة، فتعول لسبعة هذا وتر، ثمانية شفع، تسعة وتر، عشرة شفع.
مثال الناقصة: كبنت وأم وعم، المسألة من ستة، البنت لها النصف ثلاثة، والأم السدس واحد، والباقي للعم.
أو أخت شقيقة وأم وعم، المسألة من ستة، للأخت الشقيقة النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، والباقي للعم.
مثال العادلة: هلك هالك عن زوج وأم وأخوين من أم، المسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخوين من أم الثلث اثنان، الجميع ستة.
مثال العائلة:(11/254)
أختان شقيقتان وأختان من أم وأم، فالمسألة من ستة: الأختان الشقيقتان لهما الثلثان أربعة، والأختان من الأم الثلث اثنان، والأم لها السدس واحد، تعول إلى سبعة.
تعول إلى ثمانية: أختان شقيقتان وأم وزوج، المسألة من ستة للأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد، وللزوج النصف ثلاثة.
تعول إلى تسعة: كزوج وأختين شقيقتين وأم وأخ من أم، المسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة، وللشقيقتين الثلثان أربعة، وللأم السدس واحد، وللأخ من الأم السدس واحد، تعول إلى تسعة، فإن جعلت معه أخاً آخر فلهما الثلث فتعول إلى عشرة، وهذا أعلى درجات العول، يعني عالت بثلثين، صار الذي له السدس ليس له إلا عشر، والذي له ثلثان ليس له إلا خمسان، وهذا أنقص ما يكون للورثة.
قوله: «والربع مع الثلثين أو الثلث أو السدس من اثني عشر» ، الربع مع الثلثين من اثني عشر؛ لأنه لا يمكن أن ينقسم بلا كسر إلا من اثني عشر، فالربع مخرجه من أربعة، والثلثان مخرجهما من ثلاثة، فتكون المسألة من اثني عشر.
مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأختين شقيقتين وعم، المسألة من اثني عشر، للزوجة الربع ثلاثة، وللأختين الشقيقتين الثلثان ثمانية، والباقي واحد للعم.
الربع مع الثلث ـ أيضاً ـ من اثني عشر لتباين المخرجين؛ لأن مخرج الثلث من ثلاثة ومخرج الربع من أربعة، وهما(11/255)
متباينان، فنضرب ثلاثة في أربعة تكون اثني عشر، كرجل هلك عن زوجته وأمه وعمه، المسألة من اثني عشر للزوجة الربع ثلاثة والأم الثلث أربعة، والباقي للعم خمسة.
الربع مع السدس ـ أيضاً ـ من اثني عشر؛ لأن السدس والربع بينهما موافقة بالنصف، فنضرب إما ثلاثة في أربعة أو اثنين في ستة، يكون الجميع اثني عشر، كزوجة هلكت عن زوجها وجدتها وابنها، الزوج له الربع ثلاثة، والجدة لها السدس اثنان، والباقي للابن.
قوله: «وتعول إلى سبعة عشر وتراً» يعني أن الاثني عشر تعول إلى سبعة عشر وتراً، و «وتراً» حال، وليست تمييزاً لسبعة عشر، يعني تعول إلى سبعة عشر حال كونها وتراً، يعني ولا تعول شفعاً فتعول ثلاث مرات، إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، مثال ذلك: هلك هالك عن زوجة وأختين شقيقتين وأم، المسألة من اثني عشر، للزوجة الربع ثلاثة، للأختين الشقيقتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، تكون ثلاثة عشر.
تعول إلى خمسة عشر، مثال ذلك: هلكت امرأة عن زوج وبنتين وأم وأب، المسألة من اثني عشر، للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، وللأب السدس اثنان، تكون خمسة عشر.
تعول إلى سبعة عشر، مثال ذلك: هلك عن ثماني أخوات شقيقات وجدتين وأربع أخوات لأم، وثلاث زوجات، المسألة من اثني عشر، للأخوات الشقيقات الثلثان ثمانية، وللأخوات من(11/256)
الأم الثلث أربعة، وللجدتين السدس اثنان، ولثلاث الزوجات الربع ثلاثة، تعول إلى سبعة عشر.
تسمى هذه المسألة أم الفُروج؛ لأنها كلها نساء، وكل امرأة ترث مثل الأخرى مع أن الجهات متفرقة، وكل واحدة لا تزيد عن الأخرى في ميراثها؛ ولهذا يلغز بها فيقال: سبع عشرة امرأة من وجوه شتى ورثن تركةً بالسوية.
قوله: «والثمن مع سدس أو ثلثين من أربعة وعشرين» لا بد في الأربعة والعشرين من ثمن، إذا قدرت مسألة من أربعة وعشرين، وليس فيها ثمن فاعلم أنك غلطان، لا يمكن أن تكون المسألة من أربعة وعشرين إلا وفيها ثمن، كرجل مات عن زوجته وأمه وابنه، المسألة من أربعة وعشرين للزوجة الثمن ثلاثة، وللأم السدس أربعة، والباقي للابن سبعة عشر.
وقوله: «أو ثلثين من أربعة وعشرين» ؛ لأن مخرج الثمن من ثمانية والثلثين من ثلاثة، ثلاثة في ثمانية بأربعة وعشرين، كرجل هلك عن زوجته وبنتين وعم، المسألة من أربعة وعشرين، للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، والباقي خمسة للعم.
قوله: «وتعول إلى سبعة وعشرين» أي وتعول الأربعة والعشرون إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلا مرة واحدة وبثمنها، ولذلك تسمى البخيلة، والستة تسمى الكريمة؛ لأنها تعول بثلثين شفعاً ووتراً، وإن شئت صارت ناقصة فهي أوسع الأصول، أما الأربعة والعشرون فلا تعول إلا مرة واحدة وبثمنها فقط إلى سبع(11/257)
وعشرين، مثال ذلك: هلك عن ابنتين وأبوين وزوجة، المسألة من أربعة وعشرين، للبنتين الثلثان ستة عشر، وللأم السدس أربعة، وللأب السدس أربعة، وللزوجة الثمن ثلاثة، هذه سبعة وعشرون، ولا تعول إلا إلى سبعة وعشرين مرة واحدة وتراً.
والفرضيون يتشبثون بكل أثر صحيح أو ضعيف يستشهدون به لما يقولون، يقولون: إن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان يخطب ويقول: الحمد لله الذي حكم بالحق قطعاً، وجزى كل نفس بما تسعى، وفي أثناء ذلك سألوه عن هذه المسألة، فقال: وصار ثمن المرأة تسعاً (1) ، لكن من قال هذا؟! ـ سبحان الله ـ صادف أن سجع الخطبة قبل أن يسأل كان موافقاً للحكم، هذا بعيد جداً!!
المؤلف لم يقل: «ثلث مع ثمن» ؛ لأنهما لا يمكن أن يجتمعا؛ لأن الثمن لا يمكن أن يوجد إلا مع فرع وارث، والثلث لا يمكن أن يوجد مع فرع وارث؛ لأن الثلث فرض العدد من الإخوة لأم، ولا يرثون مع الفرع الوارث، أو فرض الأم بشرط أن لا يوجد فرع وارث، ولهذا قال الجعبري:
وثمن وثلث لا يحلان منزلاً.
أما الربع مع النصف فإنهما يجتمعان كامرأة هلكت عن زوجها وبنتها.
والربع مع الثمن لا يجتمعان أيضاً.
فأكرم الأصول في العول الستة، ثم الاثنا عشر، ثم الأربع
__________
(1) أخرجها البيهقي (6/253) وضعفها في: الإرواء (6/146) رقم (1706/1) .(11/258)
والعشرون، أو أربعة وعشرون ونصفها وربعها، أو ستة وضعفها وضعف ضعفها، أو اثنا عشر ونصفها وضعفها، كل هذا صحيح.
قوله: «وإن بقي بعد الفروض شيء ولا عصبة رُدَّ على كل فرض بقدره غير الزوجين» ، لما ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ عول المسائل، والعول هو نقص في السهام، فكل واحد من الورثة لا بد أن ينقص سهمه بسبب العول، ذكر ضد ذلك وهو الرد إذا بقي بعد الفروض شيء، فماذا نعمل بالباقي؟ إن كان هناك عصبة فهو للعاصب لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) ، وإذا لم يكن عاصب فيقول المؤلف: «رد على كل ذي فرض بقدره غير الزوجين» فلا يرد عليهما، حكاه بعضهم إجماعاً.
واعلم أن مسألة الرد ـ أصلاً ـ فيها خلاف، فمن العلماء مَنْ أنكره، وقال: ما بقي بعد الفروض يرد في بيت المال؛ لأننا لو رددنا عليهم لزدنا على الفرض المقدر في كتاب الله، والذين قالوا بالرد، قالوا: إن الله تعالى قال: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] ، فإذا قلنا: هذا الزائد يصرف لبيت المال صرفناه لعامة المسلمين، وإذا قلنا بالرد صرفناه لذوي الأرحام، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض، فالقول بالرد هو الصواب، فإذا قال قائل: أنتم زدتم على ما فرض الله، قلنا: زدنا
__________
(1) سبق تخريجه ص (199) .(11/259)
لسبب وهو زيادة المسألة على الفروض، فنحن لم ننقص شخصاً ونزيد شخصاً، بل الجميع بالسوية، وكما إننا في العول ننقص من كل واحد، فكذلك في الرد حتى نستعمل العدل فيما إذا زاد الشيء أو نقص.
ومسائل الرد، إذا كان المردود عليهم جنساً واحداً، فأصلها من عدد رؤوسهم كالعصبة تماماً، فإذا هلك هالك عن أربع بنات ولا عاصب، فالمسألة من عدد رؤوسهم من أربعة، كل واحدة تأخذ ربعاً.
وإذا كانوا أصنافاً متعددة فهي من أصل ستة، ثم منتهى الفروض هو منتهى المسألة، فإذا هلك هالك عن أخوين من أم وأم، فالأجناس مختلفة، والمسألة من ستة، للأخوين من أم الثلث اثنان، وللأم السدس واحد فتعود المسألة إلى ثلاثة، فيكون للأم بدل السدس ثلث، ويكون للأخوين بدل الثلث ثلثان.
إذا هلك هالك عن بنت وبنت ابن، المسألة من ست، للبنت، النصف ثلاثة، ولبنت الابن السدس واحد، ترد المسألة إلى أربعة ونقول: المسألة من أربعة للبنت ثلاثة من أربعة، يعني النصف من أصل ستة، ولبنت الابن واحد من أصل ستة وهو الآن ربع.
إذا هلك هالك عن أختين شقيقتين وأخت من أم، المسألة من ستة للشقيقتين الثلثان أربعة، وللأخت من الأم السدس واحد، ترد المسألة إلى خمسة.
هلك هالك عن أخ من أم وجدة، المسألة من ستة، للأخ(11/260)
من الأم السدس واحد، وللجدة السدس واحد، تعود إلى اثنين، صار للأخ من الأم بعد الرد النصف وللجدة النصف.
إذاً مسائل الرد اثنان ثلاثة أربعة خمسة، فإذا صارت ستة فمعناه أنها استكملت الفروض، ولهذا نقول في أختين شقيقتين وأختين من أم: المسألة من ستة للأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، وللأختين من أم الثلث اثنان ولا رد.
وقوله: «غير الزوجين» فلا يرد عليهما، فلو هلك هالك عن زوج فقط، فالمسألة من اثنين للزوج النصف واحد، والباقي لبيت المال؛ لأنه لا دليل في الرد على الزوجين، إذ إن دليل الرد قوله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6] ، والزوج والزوجة الإرث بينهما ليس بالرحم، ولكن بالزوجية، فيكون الزوج كواحد من المسلمين، فيعطى لبيت المال، وقد حكاه بعض العلماء إجماعاً أنه لا يرد على الزوجين؛ لأنه لا وجه في الرد عليهما من حيث الأدلة، وذكر بعضهم عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أنه رد على زوجٍ ماتت عنه زوجته ليس لها وارث سواه (1) ، ومعلوم أن أمير المؤمنين عثمان ـ رضي الله عنه ـ من الخلفاء الراشدين وله سنة متبعة بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) .
أجاب القائلون بعدم الرد بأن هذه قضية عين، وقضية العين لا عموم لها، فلعله رد عليه؛ لأنه ابن عم فيأخذ النصف بالزوجية
__________
(1) انظر: المغني (9/49) ط/دار هجر.
(2) سبق تخريجه ص (221) .(11/261)
والباقي بالتعصيب، أو رد عليه؛ لأنه رآه من أحق الناس ببيت المال؛ لفقره أو كثرة عياله أو ما أشبه ذلك، فيكون الرد لسبب من أسباب الإرث وهو العصوبة لكونه ابن عم، أو لاستحقاقه من بيت المال؛ لأنه أحق، ولا شك أن الزوج أحق من يُبَرُّ بميراث زوجته من بيت المال.
فكيف نعمل إذا كان معه أحد الزوجين، وقلنا: لا يرد عليهما؟ فإذا هلك هالك عن زوجة وبنت والمال ثمانية ملايين، وقلنا بالرد على الزوجة لقلنا: المسألة من ثمانية، للزوجة الثمن واحد، وللبنت النصف أربعة تعود إلى خمسة، لكننا لا نقول هكذا؛ لأن الزوجة ليس لها أكثر من الثمن، فنقول: إذا كان المردود عليه صنفاً واحداً، فالمسألة ليست مشكلة، فللزوجة نصيبها والباقي للموجود فرضاً ورداً، فإذا هلك عن زوجة وبنت، فالمسألة من ثمانية، للزوجة الثمن واحد، والباقي للبنت فرضاً ورداً، النصف فرضاً وهو أربعة والباقي ثلاثة رداً.
وإذا كان المردود عليه متعدداً، فإننا نقسم مسألة الزوجية ونعطي الزوج أو الزوجة حقها، ثم نقسم ما بقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد بعد أن نصحح مسألة الرد، فإن انقسمت فذاك وإلا عملنا فيهما ما سيذكر ـ إن شاء الله ـ فيما بعد، فلو هلكت عن زوج وثلاث بنات، مسألة الزوج من أربعة، للزوج الربع واحد، بقي عندنا ثلاثة، والبنات الثلاثة مسألتهن من ثلاثة؛ لأنهن من جنس واحد، والجنس الواحد من أصحاب الرد مسألتهم من عدد رؤوسهم، فمسألة البنات من ثلاثة، والباقي بعد فرض الزوجية ثلاثة، إذاً ينقسم، فتكون المسألة واحدة من أربعة، للزوج الربع واحد، والباقي لثلاث البنات فرضاً ورداً.(11/262)
زوج وست بنات، مسألة الزوجية من أربعة، ومسألة الرد من ستة، أعطينا الزوج حقه واحداً، وبقي ثلاثة، فلا نقول: لكل بنت نصف واحد؛ لأنه لا يعرف الكسر في الفرائض، فلا بد أن نصحح، وعلى هذا فنقول: للزوج الربع واحد يبقى ثلاثة، ومسألة الرد من ستة، اقسم ثلاثة على ستة لا ينقسم إذاً ماذا نعمل؟ نقول الستة والثلاثة بينهما موافقة في الثلث، فنرد الستة إلى ثلثها اثنين، نضرب اثنين في أصل المسألة أربعة تبلغ ثمانية، للزوج واحد في اثنين باثنين، وللبنات ثلاثة في اثنين بستة، لكل واحدة منهن واحد.
الخلاصة في الرد: إذا بقي بعد الفروض شيء، فإنه يرد على أصحاب الفروض كل بقدر فرضه، فإذا كان أصحاب الرد من جنس واحد فمسألتهم بعدد الرؤوس، وإذا كانوا من أجناس متعددة فأصل المسألة من ستة، ثم تستقر حيث تنتهي الفروض، إن انتهت الفروض باثنين فهي من اثنين، ثلاثة من ثلاثة، أربعة من أربعة، خمسة من خمسة، وإذا كانت ستة معناه أنها عادلة، وإذا كان معه أحد الزوجين فصحح أولاً مسألة الزوجية، ثم صحح مسألة الرد، واقسم الباقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد، إما أن ينقسم أو يوافق أو يباين.(11/263)
بَابُ التَّصْحِيحِ وَالمُنَاسَخَاتِ وقِسْمَةِ التَّرِكَاتِ
إِذَا انْكَسَرَ سَهْمُ فَرِيقٍ عَلَيْهِمْ ضَرَبْتَ عَدَدَهُمْ إِنْ بَايَنَ سِهَامَهُمْ، أَوْ وِفْقَهُ إِنْ وَافَقَهُ بِجُزْءٍ، كَثُلُثٍ وَنَحْوِهِ، فِي أَصْلِ المَسْأَلَةِ، وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ، فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ، وَيَصِيرُ للوَاحِدِ مَا كَانَ لِجَمَاعَتِهِ أَوْ وِفْقُهُ،...........
التصحيح: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر؛ لأن مسائل الفرائض لا يجوز أن يكون فيها كسر أبداً.
والتأصيل: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام المسألة بلا كسر.
قوله: «إذا انكسر سهم فريق عليهم ضَرَبْتَ عددهم إن باين سهامهم، أو وفقه إن وافقه بجزءٍ، كثلث ونحوه في أصل المسألة وعولِها إن عالت، فما بلغ صحت منه، ويصير للواحد ما كان لجماعته أو وفقه» ، إذا هلك هالك عن زوج وخمسة أعمام، المسألة من اثنين، للزوج النصف واحد وللأعمام الخمسة الباقي واحد، نقسم سهمهم واحداً على خمسة يكون مبايناً لا شك؛ لأن الواحد يباين كل عدد، فنضرب رؤوسهم خمسة في أصل المسألة اثنين تبلغ عشرة، للزوج واحد في خمسة بخمسة، ولهؤلاء واحد في خمسة بخمسة، لكل واحد واحد.
هلك هالك عن زوجة وخمسة أعمام، المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، والباقي ثلاثة للأعمام وهم خمسة لا ينقسم(11/264)
ويباين، نضرب رؤوسهم خمسة في أصل المسألة أربعة تبلغ عشرين ومنه تصح، للزوجة الربع واحد مضروباً في خمسةٍ خمسةٌ، وللأعمام ثلاثة في خمسة، خمسة عشر، وهم خمسة لكل واحد ثلاثة، والمؤلف يقول: «ويصير للواحد ما كان لجماعته» خمسة الأعمام في الأول لهم ثلاثة، الآن صار لكل واحد ثلاثة، يصير للواحد ما كان لجماعته هذا في المباينة.
في الموافقة إذا هلك هالك عن زوجة وستة أعمام، المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد، وللأعمام الباقي ثلاثة لا ينقسم ويوافق، رُدَّ الستة عدد ـ رؤوسهم ـ إلى الوفق اثنين، واضربه في المسألة، اثنين في أربعة بثمانية، للزوجة واحد في اثنين باثنين، وللأعمام ثلاثة في اثنين ستة، وهم ستة لكل واحد واحد، ولو أن أحداً قال: المسألة من أربعة للزوجة الربع واحد وللأعمام الباقي ثلاثة، فهم ستة فلا ينقسم، نضرب رؤوسهم في أصل المسألة، ستة في أربعة بأربعة وعشرين، للزوجة واحد في ستة بستة، ولهم ثلاثة في ستة بثمانية عشر، لكل واحد ثلاثة، نقول: هذا صحيح عملاً، فاسد اصطلاحاً وصناعة؛ لأنه في علم الفرائض متى أمكن الأقل فلا تأخذ بالأكثر، وقد تبين أنه يمكن أن تصح المسألة من اثني عشر، فلماذا تذهب إلى أربعة وعشرين؟! فمتى أمكن الاختصار منع التطويل، وهذا لا شك أنه أسهل، لا سيما إذا وجد مناسخات فإنه تطول المسائل.
كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ في الانكسار على فريق، فإذا انكسر سهم فريق عليهم نظرت أولاً، هل بينه وبين سهامهم(11/265)
مباينة؟ إن كان نعم فاضرب رؤوسهم في أصل المسألة، وإن كان موافقة فرد الرؤوس إلى وفقها ثم اضربه في أصل المسألة، إن كان انقسام فلا حاجة.
واعلم أن ما عالت إليه المسألة كأصل المسألة لا فرق، فلو هلك هالك عن خمس أخوات شقيقات وزوج، فالمسألة من ستة، للشقيقات الثلثان أربعة، وللزوج النصف ثلاثة فتعول إلى سبعة، فللشقيقات أربعة ورؤوسهن خمسة لا تنقسم وتباين، والقاعدة أن كل عددين متواليين فبينهما تباين، فنضرب الرؤوس خمسة في عول المسألة سبعة، تبلغ خمسة وثلاثين، ومنه تصح، للأخوات أربعة في خمسة بعشرين، لكل واحدة أربعة، وللزوج ثلاثة في خمسة بخمسة عشر، هذه خمسة وثلاثون هذا سهل ـ والحمد لله ـ، لكن المؤلف ـ رحمه الله ـ لم يذكر إلا الانكسار على فريق، وهناك الانكسار على فريقين أو ثلاثة أو أربعة، وقد بيناه في البرهانية.(11/266)
فَصْلٌ
إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَمْ تُقْسَمْ تَرِكَتُهُ حَتَّى مَاتَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ، فَإِنْ وَرِثُوهُ كَالأَوَّلِ، كَإِخْوَةٍ فَاقْسِمْهَا عَلَى مَنْ بَقِيَ،............
هذا الفصل عقده المؤلف للمناسخات، وما أدراك ما المناسخات، أصعب علم المواريث، وقد قال الشيخ منصور البهوتي ـ رحمه الله ـ في شرحه للإقناع: إنه من أصعب علم الفرائض، وما أحسن الاستعانة عليه بالشُّباك لابن الهائب ـ رحمه الله ـ.
قوله: «إذا مات شخص ولم تقسم تركته حتى مات بعض ورثته» المدة قد تطول وقد تقصر، قد يموتون بحادث ليس بين واحد والثاني إلا ساعة أو أقل، فإذا مات بعض الورثة قبل أن تقسم التركة، فمن يرثه؟ هل يرثه الموجودون معه أو غيرهم؟ يقول المؤلف:
«فإن ورثوه كالأول كإخوة» أي: ورثوا الثاني كالأول.
قوله: «فاقسمها على من بقي» مثال ذلك: له إخوة عشرة، مات الأول نقسمها على تسعة، مات الثاني، اقسمها على ثمانية، مات الثالث، اقسمها على سبعة، مات الرابع، اقسمها على ستة، مات الخامس، اقسمها على خمسة، فإذا كان ورثة الثاني هم بقية ورثة الأول بدون اختلاف فاقسمها على من بقي.
فإذا قال قائل: لماذا تسمى هذه مناسخة والمسألة ما احتاجت إلى عمل؟ نقول: لأن المسألة الثانية نسخت المسألة الأولى، فبدلاً من أن نقول: من عشرة، نقول: من خمسة، وهذا يسمى بالاختصار قبل العمل.(11/267)
وَإِنْ كَانَ وَرَثَةُ كُلِّ مَيِّتٍ لاَ يَرِثُونَ غَيْرَهُ، كَإِخْوَةٍ لَهُمْ بَنُونَ، فَصَحِّحِ الأُولَى وَاقْسِمْ سَهْمَ كَلِّ مَيِّتٍ عَلَى مَسْأَلَتِهِ، وَصَحِّحِ المُنْكَسِرَ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا الثَّانِيَ كَالأَوَّلِ صَحَّحْتَ الأُولَى، وَقَسَمْتَ أَسْهُمَ الثَّانِي عَلَى وَرَثَتِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ صَحَّتْ مِنْ أَصْلِهَا،
قوله: «وإن كان ورثة كل ميت لا يرثون غيره، كإخوة لهم بنون، فصحح الأولى واقسم سهم كل ميت على مسألته، وصحح المنكسر كما سبق» ، إذا ماتوا واحداً بعد واحد ولم تقسم تركة الأول، وورثة كل ميت لا يرثون غيره، يعني كل واحد مستقل بورثته، فصحح الأولى ثم صحح مسألة الميت الثاني، ثم اقسم نصيبه من المسألة الأولى على مسألته، فإن انقسم صحَّت المسألتان من عدد واحد، وإن لم ينقسم فإما أن يباين وإما أن يوافق، يعني اجعل المسألة الثانية كورثة انكسر سهامهم عليهم، مثال ذلك: هلك هالك عن ثلاثة أبناء، المسألة من ثلاثة، صحَّحناها كل واحد أخذ واحداً، لكن أحدهم مات قبل القسمة عن أربعة أبناء، فالمسألة الأولى من ثلاثة، أعطينا كل واحد نصيبه فكان نصيب الميت واحداً، ومسألته من أربعة، اقسم واحداً على أربعة لا ينقسم ويباين، اضرب مسألته أربعة في المسألة الأولى ثلاثة تبلغ اثني عشر، صارت مسألة الثاني كأنها رؤوس ورثة انكسرت عليها سهامهم، من له من المسألة الأولى شيء أخذه مضروباً في المسألة الثانية، فللوارث الباقي، الأول واحد في أربعة بأربعة، والثاني واحد في أربعة بأربعة، ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في سهام مورثه من الأولى، الباقون أربعة كل واحد له واحد، اضرب واحداً في نصيب مورثه يساوي واحداً، وكذلك فافعل.(11/268)
فطريقة العمل إذا مات أكثر من واحد بعد الأول، وورثة كل ميت لا يرثون غيره، فالعمل كالتالي:
نصحح مسألة الأول ونعرف سهم كل وارث، ثم نصحح مسألة كل واحد ونقسم عليها سهامه من المسألة الأولى، إما أن ينقسم أو يباين أو يوافق، ثم نصحح الثالثة ونقسم عليها السهام، إما أن يوافق أو يباين أو ينقسم وهكذا، ثم نجمع مسائل الأموات الأخيرة، وننظر بينها بالنسب الأربعة، موافقة، مباينة، مماثلة، مداخلة، المماثلة نكتفي بواحد، والموافقة نرد وفق إحداهما لما توافق به الأخرى، والمداخلة نكتفي بالكبرى، والمباينة نضرب كل واحد في الأخرى.
مثال ذلك: اثنان وأربعة بينهما مداخلة نكتفي بالأربعة، أربعة وستة بينهما موافقة بالنصف؛ لأن الستة لها النصف والأربعة لها النصف، ثلاثة وثلاثة مماثلة، ثلاثة وأربعة مباينة، ثم نضرب الحاصل من النظر بينها بالنسب الأربعة، ويسمى جزء السهم في مسألة الميت الأول، فما بلغ فهو الجامعة، ثم نضرب جزء السهم في نصيب كل واحد من المسألة الأولى، فمن كان حياً أخذ نصيبه، ومن كان ميتاً قسمنا الحاصل على مسألته فما كان فهو جزء سهمها، يضرب به نصيب كل واحد منها.
قوله: «وإن لم يرثوا الثاني كالأول صحَّحْتَ الأولى، وقسمت أسهم الثاني على ورثته، فإن انقسمت صحت من أصلها» إذا(11/269)
انقسمت سهام الميت الثاني على مسألته صحَّتا، أي: المسألتان الأولى والثانية «من أصلها» أي: من أصل الأولى.
وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ ضَرَبْتَ كَلَّ الثَّانِيَةِ أَوْ وِفْقَهَا لِلسِّهَامِ فِي الأُولَى، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَاضْرِبْهُ فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِيهَا، وَمَنْ لَهُ مِن الثَّانِيَةِ شَيْءٌ فَاضْرِبْهُ فِيمَا تَرَكَهُ المَيِّتُ أَوْ وِفْقِهِ، فَهُوَ لَهُ، وَتَعْمَلُ فِي الثَّالِثِ فَأَكْثَرَ عَمَلَكَ فِي الثَّانِي مَعَ الأَوَّلِ........
قوله: «وإن لم تنقسم ضربت كل الثانية» عند التباين.
قوله: «أو وِفْقَها للسهام في الأولى، ومن له شيء منها فاضربه فيما ضربته فيها، ومن له من الثانية شيء فاضربه فيما تركه الميت أو وِفْقِهِ، فهو له، وتعمل في الثالث فأكثر عملك في الثاني مع الأول» .
إذا اختلفت المواريث يجعل لكل ميت جامعة مستقلة، إذا كان الذين ماتوا بعد الميت الأول ثلاثة، نجعل ثلاث جوامع، ونقسم نصيب كل ميت على مسألته، إن انقسمت صحت الجامعة الثانية من الجامعة الأولى، وما عليك إلا أن تنقل الجامعة الأولى ثم توزع سهام الميت منها على ورثته، وإن لم تنقسم، فإما أن تباين أو توافق، إن باينت ضربنا، كل سهام الميت من الجامعة في الجامعة، وإن وافقت فالوِفْقَ، ثم نقول: من له شيء من الجامعة أخذه مضروباً فيما ضربته فيها، وهو وفق مسألة الثاني أو جميعها، ومن له من الثانية شيء أخذه مضروباً في سهام مورثه من الجامعة عند التباين، أو وفقه عند التوافق.(11/270)
فَصْلٌ
إِذَا أَمْكَنَ نِسْبَةُ سَهْمِ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ المَسْأَلَةِ بِجُزْءٍ فَلَهُ كَنِسْبَتِهِ.
قوله: «إذا أمكن نسبة سهم كل وارث من المسألة بجزء فله كنسبته» ، قسمة التركات: وصول نصيب كل وارث إليه بدون نقص، ولها طرق، أحسنها طريق النسبة إذا أمكن، فإن لم يمكن فهناك طرق مذكورة في البرهانية.
طريق النسبة أن تعطي كل واحد من التركة مثل نسبته من المسألة، يعني أن تقول: لفلان السدس أو الربع أو الثمن وهكذا.
مثال ذلك: إذا هلك إنسان عن أم وأخوين من أم وأختين شقيقتين، المسألة من ستة، للأم السدس واحد؛ وللأخوين من الأم الثلث اثنان، وللأختين الشقيقتين الثلثان أربعة، فتعول إلى سبعة، للأم السبع واحد من سبعة، إن كانت معدودة عددناها، وإن كانت مشاعة فهي مشاعة، فإذا كانت التركة عقاراً يكون للأم سُبع العقار، وللأخوين من الأم سُبُعاه يعني اثنين من سبعة، وللأخوات الشقيقات أربعة أسباعه، يعني أربعة من سبعة، هذه النسبة سهلة.
لكن إذا كانت المسألة لا تصح إلا من عدد كثير، فأحياناً تصح من آلاف، فالنسبة تكون صعبة جداً، هل يمكن أن تقول: لهم العشر ونصف نصف نصف نصف العشر؟! ما يتصور هذا! هذه ليس لها طريق إلا الطرق الأخرى، إما طريق القيراط ـ سواء(11/271)
قلنا: القيراط أربعة وعشرون أو عشرون ـ، وإما طريق ضرب التركة في المسألة.
وقوله: «إذا أمكن» قد يقول قائل: وهل يمكن أن لا يمكن؟ الجواب: نعم يمكن إذا كانت مناسخات وبلغت أعداداً كثيرة تصعب النسبة جداً جداً، فلا يبقى إلا عملية الضرب.(11/272)
بَابُ ذَوِي الأَرْحَامِ
قوله: «ذوي» بمعنى أصحاب.
قوله: «الأرحام» : جمع رحم وهم القرابة، كما سبق أن أسباب الإرث ثلاثة، رحم ونكاح وولاء، لكن الأرحام هنا غير الأرحام هناك، الأرحام هنا كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأبو أمك قريب ليس من أصحاب الفروض؛ لأن الجد ليس من أصحاب الفروض إذا كان مسبوقاً بأنثى، وليس من العصبات؛ لأن الأصول الضابط فيهم أن كل من سُبِقَ بأنثى فإنه لا يرث، فنسميه صاحب رحم، الخال أخو أمك، والعم أخو أبيك، الأول من ذوي الأرحام؛ لأنه قريب، لكنه ليس من أصحاب الفروض ولا من العصبة، إذاً هو ذو رحم، والثاني عاصب.
فذَوُو الأرحام إذا عرف الإنسان العصبة، وعرف ذوي الفروض عرف ذوي الأرحام، كما تقول: الجيم تحتها نقطة والخاء فوقها نقطة والحاء ليس فيها نقط، الآن تعرف الحاء؛ لأنك عرفت ما يقابلها، فاعرف ذوي الفروض واعرف العصبة تعرف ذوي الأرحام.
وذَوُو الأرحام اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في توريثهم، ولكن القول الراجح المتعين أن توريثهم واجب؛ لقول الله تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] .(11/273)
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخالة بمنزله الأم» (1) ، وقال: «الخال وارث من لا وارث له» (2) ، وهذا نص.
والقول بعدم التوريث قول ضعيف ـ سبحان الله ـ نحرم الخال أو أبا الأم من مال القريب، ونضعه في بيت المال يأكله أبعد الناس!! مثل هذا لا تأتي به الشريعة، فالصواب المقطوع به أن ذوي الأرحام وارثون، لكن بعد ألا يكون ذو فرض أو عاصب، ولهذا نقول: ذوو الأرحام كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة.
لكن كيف يرثون؟ العلماء اختلفوا في كيفية التوريث، فمنهم من قال: يرث الأقرب مطلقاً، فالأقرب بأي جهة يرث؛ لأن الله يقول: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، والأقرب أولى من الأبعد، فخال وابن عمة المال للخال؛ لأنه أقرب.
يَرِثُونَ بِالتَّنْزِيلِ الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ، فَوَلَدُ البَنَاتِ، وَوَلَدُ بَنَاتِ البَنِينَ، وَوَلَدُ الأَخَوَاتِ كَأُمَّهَاتِهِمْ،
ومن العلماء من قال: يرثون بالتنزيل، أي: أنهم ينزلون منزلة من أدلوا بهم، وهذا الذي مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ فقال:
«يرثون بالتنزيل» يعني نزلهم منزلة من أدلوا به، فأبو الأم مدلٍ بالأم فله ميراث الأم، ابن الأخت مدلٍ بالأخت فله ميراث
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب كيف يكتب ... (2699) عن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/131) ؛ وأبو داود في الفرائض/ باب في ميراث ذوي الأرحام (2899) ؛ وابن ماجه في الديات/ باب الدية على العاقلة ... (2634) عن المقداد بن معد يكرب. قال الحافظ في البلوغ (951) : «حسنه أبو زرعة الرازي وصححه ابن حبان (6035) والحاكم (4/344) » . وانظر: التلخيص (1345) والإرواء (1700) .(11/274)
الأخت، ابن الأخ من الأم مدلٍ بالأخ من الأم فله ميراث الأخ من الأم، فهم يرثون بالتنزيل قال الناظم:
نَزِّلْهُمُ منزلةَ مَنْ أدلَوْا بِهِ
إِرْثَاً وَحَجْبَاً هكذا قَالوا بِهِ
قوله: «الذكر والأنثى سواء» ، فابن الأخت وبنت الأخت يرثان ميراث الأخت على السواء، هكذا مشى عليه المؤلف؛ وعلل بعلة عليلة وهي أنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم كولد الأم، فالإخوة من الأم يرثون بالسوية، الذكر والأنثى سواء، أخ وأخت من الأم لهم الثلث بالسوية؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة، أي: بالقرابة المجردة عن الحمية وعن العصبية.
والقول الثاني في المسألة: أنهم إن أدلوا بمن ذكرهم وأنثاهم سواء فذكرهم وأنثاهم سواء، وإن أدلوا بمن يختلف فيه الذكر عن الأنثى فهم يختلفون، فأولاد الإخوة من الأم سواء، فلو هلك هالك عن بنت أخ من أم وابن أخ من أم فهم سواء؛ لأنهم أدلوا بمن ذكرهم وأنثاهم سواء، وهذا مقتضى قولنا: إننا ننزلهم منزلة من أدلوا به، أما إذا أدلوا بمن يختلف ذكرهم وأنثاهم فيجب أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، ابن العمة وبنت العمة، فالعمة مدلية بالأب، والأب ممن يفضّل فيهم الذكر على الأنثى، فلابن العمة الثلثان ولبنت العمة ثلث ميراث العمة.
قوله: «فولد البنات وولد بنات البنين وولد الأخوات كأمهاتهم» ، ولد البنات الذكور والإناث كأمهم، هلك هالك عن ابن بنت(11/275)
وبنت بنت نجعلهما بمنزلة البنت فلهما ميراث البنت ـ على كلام المؤلف ـ يستويان فيه.
وعلى القول الثاني: للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو مات ميت عن ابن بنت وبنت بنت وعن ابن أخت شقيقة، نزل ابن البنت وبنت البنت منزلة البنت، ونزل ابن الأخت الشقيقة منزلة الأخت الشقيقة، وقَدِّر كأن الميت مات عن بنت وأخت شقيقة، فللبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي بالتعصيب، فابن البنت وبنت البنت لهما النصف وابن الأخت الشقيقة له الباقي، فابن الأخت الشقيقة صار أكثر إرثاً من ابن البنت وبنت البنت؛ لأنهما ـ على كلام المؤلف ـ لهما النصف لكل واحد الربع، وعلى القول الثاني النصف مقسوماً على ثلاثة، لابن البنت اثنان، ولبنت البنت واحد.
وقوله: «وولد بنات البنين وولد الأخوات كأمهاتهم» ، فلو هلك هالك عن بنت بنت وبنت بنت ابن، فبنت البنت تصل إلى الوارث بدرجة واحدة، وبنت بنت الابن تصل إلى الوارث بدرجتين، فكأنه مات عن بنت وبنت ابن.
هلك هالك عن بنت بنت، وبنت بنت ابن، وعمة، لبنت البنت النصف ولبنت بنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللعمة السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لأنها مدلية بالأب، فإذا قدرنا أن الميت مات عن بنت وبنت ابن وأب، فالميراث هكذا، للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً.(11/276)
وقوله: «وولد الأخوات كأمهاتهم» الذكور والإناث، يعني ابن الأخت وبنت الأخت سواء، فإذا هلك هالك عن بنت أخت شقيقة وبنت أخت لأب وعمة، فكأنه مات عن أخت شقيقة وأخت لأب وأب، المال للأب، إذاً بنت الأخت الشقيقة ما لها شيء، وبنت الأخت لأب ما لها شيء؛ لأن الأب يحجب، ولنجعل العمة بنت عم شقيق، فكيف نقسم؟
نقول: قدر كأنه مات عن أخت شقيقة وأخت لأب وعم شقيق، للأخت الشقيقة النصف وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للعم، نقول: بنت الأخت الشقيقة لها النصف، وبنت الأخت لأب لها السدس تكملة الثلثين، والباقي لبنت العم.
وَبَنَاتُ الإِخْوَةِ وَالأَعْمَامِ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ، وَبَنَاتُ بَنِيهِمْ، وَوَلَدُ الإِخْوَةِ لأُمٍّ كَآبَائِهِمْ..
قوله: «وبناتُ الإخوةِ والأعمامِ» الأعمامِ بالكسر ويتعين؛ لأننا لو قلنا: «والأعمامُ» بالضم ما استقام المثال؛ لأنهم عصبة ولا ميراث لبنات الأخوات معهم، ومثل هذا يحسن بالمؤلف أن يقول: «وبناتُ الإخوة وبناتُ الأعمام» لئلا يتوهم.
قوله: «لأبوين أو لأب، وبناتُ بنيهم، وولد الإخوة لأم كآبائهم» وإنما قال المؤلف ـ رحمه الله ـ «وبنات الإخوة والأعمام» ؛ لأن بني الإخوة عصبة، وبني الأعمام عصبة، أما الإخوة من الأم فإن أبناءهم وبناتهم كلهم من ذوي الأرحام؛ ولهذا قال: «وولد الإخوة لأم كآبائهم» .
إذاً بنت الأخ الشقيق وبنت الأخ لأب كآبائهم، فلو هلك عن بنت أخ شقيق، وبنت أخ لأب، فالمال لبنت الأخ الشقيق؛(11/277)
لأنه لو هلك هالك عن أخ شقيق وأخ لأب فالذي يرث الأخ الشقيق ولا شيء للأخ لأب.
وقوله: «والأعمام لأبوين» أيضاً، ولم يقل: وولد الأعمام لأم؛ لأن أصل العم لأم من ذوي الأرحام، لكن العم الشقيق والعم لأب عصبة، وبنات الأعمام لأبوين أو لأب كآبائهم، فبنت العم الشقيق بمنزلة العم الشقيق، وبنت العم لأب كذلك.
هلك هالك عن بنت ابن عم شقيق، وعن بنت عم لأب، فالميراث لبنت العم لأب؛ لأنها أقرب؛ فبنت ابن عم شقيق اجعلها بمنزلة ابن العم الشقيق، واجعل بنت العم لأب بمنزلة العم لأب، فلو هلك هالك عن عم لأب وابن عم شقيق لكان المال للعم لأب.
وَالأَخْوَالُ وَالخَالاَتُ وَأَبُو الأُمِّ كَالأُمِّ وَالعَمَّاتُ وَالعَمُّ لأُمٍّ كَأَبٍ، وَكُلُّ جَدَّةٍ أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ هِيَ إِحْدَاهُمَا، كَأُمِّ أَبِي أُمٍّ، أَوْ بِأَبٍ أَعْلى مِنَ الجَدِّ، كَأُمِّ أَبِي الجَدِّ..........
قوله: «والأخوال والخالات وأبو الأم كالأم» الأخوال كالأم، والخالات كالأم، وأبو الأم كالأم، لكن لو اجتمع أخوال وخالات وأبو أم، يرث أبو الأم؛ لأن الأب يحجب الإخوة، ولكن مراد المؤلف ـ رحمه الله ـ في التنزيل، أما الميراث فحسب المسألة.
نبدأ بالأخوال: هلك هالك عن خال وعمة شقيقة، فالخال بمنزلة الأم، والعمة الشقيقة بمنزلة الأب، فعندنا أم وأب، للأم الثلث والباقي للأب، فللخال الثلث وللعمة الباقي.
الخالات: لو هلك هالك عن خالةٍ وعمةٍ، فالخالة بمنزلة الأم والعمة بمنزلة الأب، فكأنه مات عن أم وأب، للأم الثلث وللأب الباقي، إذاً للخالة الثلث وللعمة الباقي.
وقوله: «وأبو الأم كالأم» فلو هلك هالك عن خال وخالة(11/278)
وأبي أم وبنت عم ننزلهم، فنقول: الخال والخالة وأبو الأم بمنزلة الأم، وبنت العم بمنزلة العم، فكأنه هلك عن أم وعم، نصيب الأم وهو الثلث لمن أدلوا بها، وهم أبوها وأخوها وأختها، فلو ماتت عن هؤلاء لورثها أبوها، إذاً لأبي الأم الثلث، ولبنت العم الباقي؛ لأنها أدلت بالعم.
قوله: «والعمات والعم لأم كأب» العمات أخوات الأب، والعم لأم أخو الأب لأمه، ينزلون منزلة الأب.
قوله: «وكل جدة أدلت بأب بين أُمَّيْن هي إحداهما كأم أبي أم» مثاله: أم أبي أم هذه من ذوي الأرحام؛ لأن الذي أدلت به وهو الجد أبو الأم من ذوي الأرحام، وهو غير وارث؛ لأنه مسبوق بأنثى، والمدلي بذوي الأرحام، من ذوي الأرحام.
قوله: «أو بأب أعلى من الجد كأم أبي الجد» إذا أدلت الجدة بأبٍ أعلى من الجد فهي من ذوي الأرحام، فأم الأب وإن علت أمومة وارثة، وأم الجد وإن علت أمومة وارثة، وأم أبي الجد غير وارثة؛ لأن المؤلف يقول: «بأب أعلى من الجد» فتكون من ذوي الأرحام، وقد مر علينا أن الصحيح أنها وارثة، وأن كل جدة أدلت بوارث فهي وارثة، وكل جدة أدلت بغير وارث فهي غير وارثة، إذاً أم أبي الجد وارثة؛ لأننا نقول: أي فرق بين أم أم أبي الجد وبين أم الجد؟ لا فرق!! كلتاهما مدلية بوارث، ويجب أن نقول: كل من أدلت بوارث فهي وارثة.(11/279)
وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، وَأَبُو أُمِّ أُمٍّ، وَأَخَوَاهُمَا، وَأُخْتَاهُمَا بِمَنْزِلَتِهِم، فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلِّ وَارِثٍ لِمَنْ أَدْلَى بِهِ، فَإِنْ أَدَلَى جَمَاعَةٌ بِوَارِثٍ وَاسْتَوتَ مَنْزِلَتُهُمْ مِنْهُ بِلا سَبْقٍ، كَأَوْلادِهِ، فَنَصِيبُهُ لَهُمْ،....
قوله: «وأبو أم أب، وأبو أم أم، وأخواهما، وأختاهما بمنزلتهم» ، أم الأب وارثة؛ لأنها جدة ليس بينها وبين الميت إلا واحد، أبوها غير وارث لكنه بمنزلتها، وأبو الأم فهو غير وارث؛ لأنه من ذوي الأرحام فيكون بمنزلة أم الأم؛ لأن كل من أدلى بوارث فهو بمنزلته.
وقوله: «وأخواهما وأختاهما» إما أعمام أو أخوال، يكونون بمنزلتهم، سواء من قبل الأب أو من قبل الأم.
قوله: «فيجعل حق كل وارث لمن أدلى به» ، فمن أدلى بأم الأب فله نصيبها السدس، ومن أدلى بالأخت فله نصيبها، وهلم جرًّا، المهم أول ما يصل إلى الوارث فله نصيب ذلك الوارث الذي وصل إليه.
قوله: «فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأولاده، فنصيبه لهم» ، ذوو الأرحام إما أن يدلي واحد بواحد، أو جماعة بواحد، أو جماعة بجماعة، فإن أدلى جماعة بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق، كأولاده فنصيبه لهم، مثاله: أخ من أم له ثلاثة أبناء، هؤلاء جماعة من ذوي الأرحام أدلوا بالأخ من الأم، فلهم نصيبه.
وقوله: «بلا سبق» مفهومه إن كان أحدهم أسبق إليه فلا شيء للآخر؛ لأنه أنزل، فأبناء أخ من أم، وأبناء أبناء أخ من أم، الأخيرون لا يرثون؛ لأن المؤلف ـ رحمه الله ـ اشترط أن تستوي منزلتهم منه بلا سبق.(11/280)
فَابْنٌ وَبِنْتٌ لأُخْتٍ مَعَ بِنْتٍ لأُخْتٍ أُخْرَى، لِهَذِهِ حَقُّ أُمِّهَا وَلِلأُولَيَيْنِ حَقُّ أُمِّهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَنَازِلُهُمْ مِنْهُ جَعَلْتَهُمْ مَعَهُ كَمَيَّتٍ اقْتَسَمُوا إِرْثَهُ، فَإِنْ خَلَّفَ ثَلاثَ خَالاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، وثَلاثَ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ،..........
قوله: «فابن وبنت لأخت مع بنت لأخت أخرى، لهذه حق أمها وللأُولَيَيْنِ حق أمهما» ، فابن وبنت أخت اسمها زينب، مع بنت لأخت أخرى اسمها فاطمة، هؤلاء الثلاثة أدلوا بأختين شقيقتين يكون لهم الثلثان، لكن هل نقسمه أثلاثاً، أو نقول: الابن والبنت لهما حق أمهما زينب، والبنت الأخرى للأخت الأخرى لها حق أمها؟ الثاني؛ لأن هؤلاء أدلوا بجماعة، فيعطى كل من أدلى بوارث ميراث من أدلى به، فللأختين الثلثان، فيكون ثلث الأخت التي لها ابن وبنت لابنها وبنتها، ويكون ثلث الأخت التي لها بنت واحدة لبنتها، وهل للذكر له مثل حظ الأنثيين؟ المذهب لا، والصحيح نعم.
قوله: «وإن اختلفت منازلهم منه» ، هذا ضد قوله: «واستوت منزلتهم» .
قوله: «جعلتهم معه كميت اقتسموا إرثه» ، مثال ذلك:
قوله: «فإن خلف ثلاث خالات متفرقات وثلاث عمات متفرقات» ، ثلاث خالات متفرقات يعني خالة شقيقة، والثانية خالة من أم، والثالثة خالة من أب، وثلاث عمَّات متفرقات، واحدة شقيقة، واحدة لأم، واحدة لأب، الخالات مدليات بالأم، والعمَّات مدليات بالأب، قَدِّر كأن الميت مات عن أم وأب،(11/281)
للأم الثلث وللأب الباقي، اقسم نصيب الأم على ورثتها وهن أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم، المسألة من ستة للشقيقة النصف ثلاثة، وللتي للأب السدس تكملة الثلثين واحد، للأخت الأم السدس واحد، وترد إلى خمسة.
نصيب الأب الثلثان نقسمه بين ورثته أخت شقيقة وأخت لأب وأخت لأم، المسألة من ست للشقيقة النصف ثلاثة، وللتي للأب السدس تكملة الثلثين واحد، وللأخت لأم السدس واحد، فترد إلى خمسة، ولهذا قال المؤلف:
فَالثُّلُثُ لِلخَالاتِ أَخْمَاساً، وَالثُّلُثَانِ لِلعَمَّاتِ أَخْمَاساً، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي ثَلاثَةِ أَخْوَالٍ مُتَفَرِّقِينَ لِذِي الأُمِّ السُّدُسُ، وَالبَاقِي لِذِي الأَبَوَيْنِ،........
«فالثلث للخالات أخماساً والثلثان للعمات أخماساً وتصح من خمسة عشر» ، فالقاعدة إذا أدلى جماعة بجماعة، اقسم المال بين المدلى بهم كأن الميت مات عنهم، ثم اقسم المال بين المدلين كأن المدلى بهم ماتوا عنهم، وتصح المسألة؛ وذلك لأن إرث ذوي الأرحام بالتنزيل وليس بالقرابة.
قوله: «وفي ثلاثة أخوال متفرقين» ، أحدهم أخ للأم من الأم والثاني أخ للأم من الأب، والثالث أخ للأم شقيق.
قوله: «لذي الأم السدس» ، الخال من أم له السدس.
قوله: «والباقي لذي الأبوين» ، لأنه لو ماتت الأم عنهم لكانت المسألة كما يلي، أخ شقيق وأخ لأب وأخ لأم، فللأخ لأم السدس، وللأخ الشقيق الباقي، والأخ لأب ليس له شيء،(11/282)
ولو صاح الأخ لأب: كيف تعطون الأخ لأم وأنا لا تعطونني؟! نقول: لأنه ذو فرض وأنت عاصب وحجبك الشقيق.
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ أَبُو أُمٍّ أَسْقَطَهُمْ، وَفِي ثَلاثِ بَنَاتِ عُمُومَةٍ مُتَفَرِّقِينَ المَالُ لِلَّتِي لِلأَبَوَيْنِ، وَإِنْ أَدْلَى جَمَاعَةٌ بِجَمَاعَةٍ قَسَمْتَ المَالَ بَيْنَ المُدلَى بِهِمْ، فَمَا صَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَخَذَهُ المُدْلِي بِهِ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ عَمِلْتَ بِهِ، وَالجِهَاتُ أُبُوَّةٌ، وَأُمُومَةٌ، وَبُنُوَّةٌ.
قوله: «فإن كان معهم أبو أم أسقطهم» ، لأن الأب يسقط الإخوة، فلو هلك هالك عن خال شقيق وخال لأم وخال لأب وأبي أم، قَدِّر كأن الأم ماتت عن أخيها الشقيق وأخيها من أب وأخيها من أم وأبيها، من يرثها؟ أبوها، ولو كان معهم جد أم فعلى القول الراجح يسقط الإخوان، وعلى القول الثاني يرث معهم على التفصيل السابق.
قوله: «وفي ثلاث بنات عمومة متفرقين» ، «متفرقين» وصف للعمومة، أي: ثلاثة أعمام متفرقين.
قوله: «المال للتي للأبوين» ، هلك هالك عن بنت عم شقيق وبنت عم لأب وبنت عم لأم، قَدِّر كأن الميت مات عن ثلاثة أعمام، عم شقيق وعم لأب وعم لأم، من يرث؟ العم الشقيق، العم لأم ليس بوارث؛ لأنه من ذوي الأرحام، والعم لأب محجوب بالعم الشقيق.
قوله: «وإن أدلى جماعة بجماعة قسمت المال بين المدلى بهم، فما صار لكل واحد أخذه المدلي به، وإن سقط بعضهم ببعض عملت به» ، إذا أدلى جماعة بجماعة فاقسم المال أولاً بين المدلى بهم، ثم ما كان لكل واحد أخذه المدلي به على حسب الميراث، وإن(11/283)
سقط بعضهم، أي: بعض المدلى بهم ببعض عملت به، مثال ذلك:
هلك هالك عن بنت بنت، وبنت أخ شقيق، وبنت أخ لأم، أدلى الآن جماعة بجماعة، ثلاثة أدلوا بثلاثة، اقسم المال بين المدلى بهم أولاً، وقَدِّر كأن الميت مات عن بنت وأخ شقيق وأخ لأم، للبنت النصف والباقي للأخ الشقيق، والأخ لأم تسقطه البنت، إذن نقول: لبنت البنت النصف، ولبنت الأخ الشقيق الباقي، ولا شيء لبنت الأخ لأم.
إذاً إذا أدلى واحد بواحد فله نصيبه، وإذا أدلى جماعة بواحد فلهم نصيبه، يرثونه كما يرثونه لو كان هو الميت، وإذا أدلى جماعة بجماعة فإننا نقسم المال أولاً بين المدلى بهم، ثم نورث المدلين كأن المدلى بهم ماتوا عنهم، وبهذا تم ميراث ذوي الأرحام.
قوله: «والجهات أبوة، وأمومة، وبنوة» ، هذه جهات ذوي الأرحام، وفي التعصيب الجهات خمسة، لكن في ذوي الأرحام جعلوها ثلاثة على اختلاف بين العلماء في هذا؛ لأن ذوي الأرحام لا يوجد فيه نصوص تفصيلية.
فالأبوة يدخل فيها كل من يأتي من قبل الأب، العم لأم من جهة الأبوة؛ لأنه أخو أبيك، أو ابن جدتك من قبل أبيك فهو من قبل الأبوة، والخال من قبل الأمومة؛ لأن الصلة بينك وبينه من قبل الأم، الإخوة من الأم أبناؤهم من جهة الأمومة، والمذهب خلاف هذا، فالمذهب أن أبناء الإخوة من الأم من جهة الأبوة،(11/284)
لكن ليس قولهم وحياً منزلاً، فنحن نقول: أين الأبوة؟! إخوتك من الأم ليس لأبيك بهم صلة إطلاقاً، ولهذا نرى أن أولاد الإخوة من الأم من جهة الأمومة بلا شك.
البنوة يدخل فيها من يدلي من الفروع بأنثى، أبناء البنات، أبناء بنات الابن، وهكذا، فما فائدة معرفة هذه الجهات؟ يقول الفقهاء: إن كانوا في جهة واحدة فالأسبق إلى الوارث يحجب من دونه، وإن كانوا في جهتين نرقِّي كل واحد حتى يصل إلى الوارث، فإذا كان أبو أم فهو من جهة الأمومة، وبنت بنت بنت بنت بنت، هل نقول: إن أبا الأم الأقرب إلى الميت فيحجب البنت النازلة؟ لا؛ لأنهما في جهتين، وإذا كانوا في جهتين وجب أن نرقِّيَ المدلي حتى يصل إلى الوارث ولو بَعُد، أما إذا كانوا في جهة واحدة فالأقرب يحجب.
مثال ذلك: بنت بنت بنت بنت، وبنت بنت، وبنت عم، هذه لا تضر؛ لأنها في جهة أخرى، هل بنت البنت التي في المرتبة الثانية تحجب بنت البنت التي في الرابعة؟ نعم، تحجبها؛ لأنها أقرب إلى الميت، وبنت العم ترث الباقي، فنقول: بنت البنت لها النصف، والباقي لبنت العم.
إذاً الفائدة من معرفة الجهات هو أن ذوي الأرحام إذا كانوا في جهة واحدة، فالأقرب يحجب الأبعد، وإذا كانوا في جهتين يرقى كل واحد حتى يصل إلى الوارث.
فابن ابن ابن ابن ابن ابن خال جهته الأمومة، هل يرث مع بنت البنت القريبة؟ نعم يرث؛ لأن الجهة مختلفة.(11/285)
أم أبي الأم، وأم أبي أم الأب، هل هؤلاء الجدات مختلفات في الجهة؟
نعم؛ لأن الأولى من جهة الأمومة والثانية من جهة الأبوة، فنرقي كل واحدة حتى تصل إلى الوارث وترث، لكن كيف ترث؟
نقول كما سبق: للجدات إِنْ تساوين السدس بينهن، وإن لم يتساوين فللقريبة، لكن المذهب يرون أن الجدات سواء من قِبل الأم أو من قبل الأب في جهة واحدة، والإنسان يتعجب كيف تكون أم أبي الأم في جهة الأب؟!
قالوا: لأن كل واحدة منهما تسمى جدة، والمسألة مسألة اجتهاد؛ لأنه لم يرد في القرآن والسنة تفصيل في ميراث ذوي الأرحام، ولهذا اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً.(11/286)
بَابُ مِيرَاثِ الحَمِْلِ وَالخُنْثَى المُشْكِلِ
مَنْ خَلَّفَ وَرَثَةً فِيهِم حَمْلٌ فَطَلَبُوا القِسْمَةَ وُقِفَ لِلحَمْلِ الأَكْثَرُ مِنْ إِرْثِ ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ،............
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بهذه الترجمة أن الحمل له ميراث، ولكن لا بد له من شرط، وهو أن يعلم وجوده حال موت مورثه فإن لم يعلم فإنه لا يرث، وذلك فيما إذا ولد لستة أشهر فأكثر من موت مورثه وأمُّه توطأ، فإنه في هذه الحال لا يدرى أنشأت به أمه بعد موت المورث أو قبله، ولهذا لا بد أن نقول: الحمل لا بد أن يعلم وجوده حال موت مورثه، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر من موت مورثه ويعيش؛ وهذه الحال الأولى؛ لأنه لا يمكن أن يولد حمل قبل ستة أشهر ويعيش.
الحال الثانية: أن تأتي به بعد أربع سنوات، فلا يرث بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات على كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ.
الحال الثالثة: ما بين ذلك أن تلده لستة أشهر فأكثر من موت مورثه، فإن كانت لا توطأ علمنا أنه موجود يقيناً، وإن كانت توطأ فلا نعلم؛ لأنه يحتمل أنها نشأت به بعد موت المورث، وإلا فلا يرث.
والحمل كما هو معلوم، إما أن يكون ذكراً أو أنثى، أو ذكراً وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين، وإما أن يخرج حياً أو يخرج ميتاً، كل هذه احتمالات؛ ولذلك نستعمل اليقين في ميراثه.
قوله: «من خلف ورثة فيهم حملٌ فطلبوا القسمة» أفادنا(11/287)
بقوله: «فطلبوا القسمة» ، أنهم إما ألا يطلبوا القسمة ويقولوا: ننتظر حتى يوضع الحمل ونعرف، وإما أن يطلبوا القسمة، وإذا طلبوا القسمة، فهل يجابون إلى طلب القسمة، أو يقال: انتظروا حتى يخرج الحمل؟ الجواب: يجابون؛ لأن المال مالهم، فإنه لما مات الميت صار ماله للورثة، فإذا طلبوا القسمة أجيبوا، وإن طلب بعضٌ وامتنع بعضٌ يجاب الطالب؛ لأنه شريك ويقول: أنا أريد أن أفسخ الشركة وأستقل بميراثي فيجاب.
إذاً قوله: «فطلبوا القسمة» ، يعني أو أحدهم طلب القسمة فإنه يجاب، ولكن ماذا نصنع بالحمل؟ يقول:
«وُقِفَ للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين» ، فتارة يكون الأكثر إرث ذكرين، وتارة يكون الأكثر إرث أنثيين، فإذا استغرقت الفروض أكثر من الثلث فالأكثر إرث أنثيين؛ لأنه سيبقى لهما الثلثان، وإن كان أقل من الثلث فالأكثر إرث ذكرين؛ لأنه لو كان أنثيين كان لهما الثلثان والباقي للعاصب، لكن إذا كان ذكرين صار الباقي لهما، وهذا ضابط ويظهر بالأمثلة.
هلك هالك عن زوجة حامل وعن ابنين، الزوجة على كل حال لها الثمن، سواء خرج الحمل حياً أو ميتاً؛ لأنه لا يمكن أن يزيد إرثها عن الثمن لوجود اثنين من الأبناء، بقي الحمل، هل نوقف له إرث أنثيين، أو إرث ذكرين، أو إرث ذكر، أو إرث أنثى؟ الجواب: إرث ذكرين؛ لأنا لو وقفنا إرث ذكرين صار للموجودَيْن نصف الباقي؛ لأنه يكون مات عن أربعة أبناء، للابنين(11/288)
الموجودَيْن نصف الباقي، وإن قدرناه واحداً صار للاثنين الثلثان، وإن قدرناه أنثى صار للموجودَيْن أربعة أخماس، إذاً الأكثر أن نقدره ذكرين، فإن قال قائل: لماذا لم نقدره ثلاثة؟ نقول: هذا نادر، والنادر لا حكم له، لكن لو فرضنا أننا قدرناه اثنين ثم زادا رجع في نصيبهم.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقدره واحداً لأنه متيقن؟ قلنا؛ لأن وجود الاثنين كثير، ولو ذهبنا إلى اليقين لقلنا: لا نجعل له شيئاً؛ لأنه يحتمل أن يسقط ميتاً، لذلك اختار أصحابنا ـ رحمهم الله ـ أن يوقف له نصيب اثنين، فإن كان الأكثر نصيب الأنثيين وقف نصيب الأنثيين، وإن كان الأكثر نصيب الذكرين وقف نصيب الذكرين.
فَإِذَا وُلِدَ أَخَذَ حَقَّهُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَمَنْ لاَ يَحْجِبُهُ يَأْخُذُ إِرْثَهُ كَالجَدَّةِ، وَمَنْ يُنْقِصُهُ شَيْئاً اليَقِينَ، وَمَنْ سَقَطَ بِهِ لَمْ يُعْطَ شَيْئَاً، وَيرِثُ وَيُورَثُ إِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخاً ...
قوله: «فإذا ولد» يعني الحمل.
قوله: «أخذ حقه وما بقي فهو لمستحقه» وإن زاد رجع على الموجودين، فلو هلك هالك عن ابنين وزوجة حامل، الزوجة لها الثمن، ونقدر أن الحمل ذكران فنعطي الابنين الموجودين نصف الباقي، لكن إن صار الحمل ثلاثة، فنرجع عليهم ونقول: بدلاً من أن نقسمه أرباعاً نقسمه أخماساً، للابنين الموجودين الخمسان وللحمل ثلاثة أخماس.
فصار إذا وقفنا إرث ذكرين أو أنثيين يأخذ حقه، فإن بقي شيء رد على مستحقه، وإن نقص له شيء أخذ ممن أخذه؛ لأن المسألة كلها تحت الواقع المستقبل.(11/289)
قوله: «ومن لا يحجبه يأخذ إرثه كالجدة، ومن ينقصه شيئاً اليقينَ، ومن سقط به لم يعط شيئاً» ، الورثة الذين مع الحمل ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لا ينقصه الحمل شيئاً فنعطيه نصيبه كاملاً.
القسم الثاني: ينقصه الحمل فنعطيه اليقين.
القسم الثالث: يحجبه الحمل فلا نعطيه شيئاً.
مثال ذلك: مات رجل عن امرأة حامل وجدة وأخ شقيق، هذا المثال ينطبق على كل الأقسام الثلاثة، الجدة نعطيها كاملاً؛ لأنه لا يحجبها ولا ينقصها، فلها السدس على كل حال، سواء ولد ميتاً أو حياً، الزوجة إن ولد حياً فلها الثمن وإن ولد ميتاً فلها الربع، إذاً الحمل ينقصها فنعطيها اليقين وهو الثمن، الأخ الشقيق إن ولد الحمل ذكراً سقط الأخ، وإن ولد ميتاً ورث الباقي، وإن ولد أنثى أخذ الباقي بعد فرضها فنمنعه من الميراث، ونقول: انتظر؛ لأنه يوجد احتمال أن يكون الحمل ذكراً فيسقط، فلا نعطيه، هذا بالنسبة لإرث من معه.
قوله: «ويرث ويورث إن استهل صارخاً» ، شرط ميراثه أن يستهل صارخاً، وقوله: «صارخاً» حال لكنها حال مؤكِّدة، تؤكد معنى الاستهلال وهو رفع الصوت، ومعناه أنه إذا ولد سمع له صياح؛ لأن المولود إذا ولد لا بد أن يستهل صارخاً، فإن الشيطان(11/290)
قد رصد له فينخسه في خاصرته ليقتله (1) .
أَوْ عَطَسَ أَوْ بَكَى أَوْ رَضَعَ أَوْ تَنَفَّسَ وَطَالَ زَمَنُ التَّنَفُّسِ، أَوْ وُجِدَ دَلِيلُ حَيَاتِهِ غَيْرَ حَرَكَةٍ وَاخْتِلاَجٍ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ فَاسْتَهَلَّ ثُمَّ مَاتَ وَخَرَجَ لَمْ يَرِثْ،
قوله: «أو عطس» إذا عطس دَلَّ ذلك على حياته؛ لأنه لا يمكن لهذا الحمل أن يعطس بدون حياة.
قوله: «أو بكى» الفرق بين استهل وبكى أن البكاء لطيف لين ليس صراخاً.
قوله: «أو رضع أو تنفس» أي: سمعناه تنفس، أو تنهَّد.
قوله: «وطال زمن التنفس» فنفس خفيف جداً، ثم يموت، لا يدل على الحياة الكاملة.
قوله: «أو وجد دليل حياته» أيُّ دليل، وما ذكره المؤلف من الأمثلة داخل في قوله: «دليل حياته» فيكون هذا من باب عطف العام على الخاص.
قوله: «غير حركة واختلاج» الحركة اليسيرة ما تدل على الحياة، والاختلاج أي: الاضطراب؛ لأن هذا لا يدل على استقرار الحياة.
قوله: «وإن ظهر بعضه فاستهل ثم مات وخرج لم يرث» ظهر بعضه وصرخ ولكن تعسرت الولادة فمات وخرج فإنه لا
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} (3431) ؛ ومسلم في الفضائل/ باب فضائل عيسى ـ عليه السلام ـ (2366) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(11/291)
يرث؛ لأنه لم تتم الولادة، إذاً لا بد أن يستهل صارخاً بعد الولادة، بعد أن ينفصل من أمه ويخرج وإلا فلا يرث، فشرط إرث الحمل، شرط سابق وشرط لاحق، الشرط السابق أن يعلم وجوده حين موت مورثه، فإن لم يعلم، كما لو أتت به لستة أشهر فأكثر وهي توطأ فإنه لا يرث؛ لأننا لا ندري هل نشأت به أمه قبل موت المورث، أو بعده؛ ولهذا أحياناً نمنع الرجل من إتيان زوجته إذا كان حملها يرث الميت، كإنسان تزوج امرأة لها أولاد ممن سبق فمات أحد أولادها، نقول: لا تجامعها؛ لأنه إذا جامعها فسيكون هذا الولد الذي في بطنها أخاً من الأم فيرث، فنقول: لا تجامع حتى تحيض المرأة، إذا حاضت علم أن ليس في بطنها حمل.
الشرط اللاحق وهو أن يستهل صارخاً، فإن لم يتم الشرطان فلا ميراث له.
وَإِنْ جُهِلَ المُسْتَهِلُّ مِن التَّوْأَمَيْنِ وَاخْتَلَفَ إِرْثُهُمَا يُعَيَّنُ بِقُرْعَةٍ والخُنْثَى المُشْكِلُ يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيراثِ أُنْثَى.
قوله: «وإن جهل المستهل من التوأمين واختلف إرثهما يعين بقرعة» أي: إذا جهل المستهل من التوأمين، فإن كان إرثهما واحداً فلا حاجة للقرعة؛ لأنه سواء وجد هذا أو هذا، وإن اختلفا كما لو كان أحدهما ذكراً والثاني أنثى، فلا بد أن نعين أحدهما بالقرعة؛ لأن القرعة سبيل للتعيين إذا لم نجد غيرها.
وقد جاءت القرعة في القرآن الكريم في موضعين، وجاءت في السُّنة في ستة مواضع، وهي طريق شرعي لتعيين المبهم، في القرآن الكريم جاءت في آل عمران: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [44] ،(11/292)
والموضع الثاني في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ *فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ *} ، والسنة معروفة منها أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيهما خرج سهمها خرج بها (1) .
قوله: «والخنثى المشكل» وهو الذي لا يُعلم أهو ذكر أم أنثى، وهو أنواع:
الأول: أن يكون له آلة ذكر وآلة أنثى، يعني فرجاً وذكراً ويبول منهما جميعاً، فهذا لا ندري هل هو ذكر أو أنثى؟
الثاني: أن يكون له مخرجٌ واحد يخرج منه البول والغائط، ولا له آلة ذكر ولا آلة أنثى.
الثالث: أن يكون له دبر مستقل، ويخرج البول من غير ذكر ولا فرج، يخرج رشحاً كالعرق الكثيف.
الرابع: ألا يكون له فرج إطلاقاً من أسفله، لا دبر ولا قبل ولا فرج، وإنما يتقيأ ما يأكله ويشربه، يبقى في معدته ما شاء الله حتى يمتص الجسم ما يحتاجه من غذاء هذا الطعام والشراب، ثم يتقيأ، كل هذا ذكره الفقهاء، فهؤلاء كلهم نسمِّيهم خنثى مشكلاً، وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن في الخنثى من ليس مشكلاً وهو كذلك، كما لو كان له آلة ذكر وفرج أنثى، ولكنه يبول من فرج الأنثى ويحيض، فهذا غير مشكل، فنجعله أنثى، وكما لو كان له
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة/ باب هبة المرأة لغير زوجها (2594) ؛ ومسلم في فضائل الصحابة/ باب في فضل عائشة ـ رضي الله عنها ـ (2445) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(11/293)
فرج أنثى وآلة ذكر، ويبول من آلة الذكر ولا يبول من آلة الأنثى ولا يحيض، فهذا يسمونه خنثى واضحاً.
ماذا نعمل في الخنثى المشكل؟ نقول: إن وافق الورثة على أن ينتظروا حتى يكبر ويبلغ وينظر، أو حتى تجرى له عملية كما في وقتنا الحاضر، فهذا المطلوب، وإن لم يوافقوا فالمؤلف يقول:
«يرث نصف ميراث ذكرٍ ونصف ميراث أنثى» وهذا هو العدل؛ لأنه ما دام مشكلاً فيجب أن نحتاط، ونقول: لك نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى، فلو هلك هالك عن ابنين أحدهما خنثى، فمسألة الذكورية من اثنين ومسألة الأنوثية من ثلاثة، الذكورية من اثنين له واحد ولأخيه واحد، الأنوثية من ثلاثة له واحد ولأخيه اثنان، وبين المسألتين تباين نضرب إحداهما في الأخرى تبلغ ستة، ونقول من له شيء من إحدى المسألتين أخذه مضروباً في الأخرى.(11/294)
بَابُ مِيرَاثِ المَفْقُودِ
مَنْ خَفِيَ خَبَرُهُ بِأَسْرٍ أَوْ سَفَرٍ غَالِبُهُ السَّلاَمَةُ كَتِجَارَةٍ، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ تِسْعِينَ سَنَةً مُنْذُ وُلِدَ،
المفقود مَنْ فُقِدَ ولم تعلم له حياة ولا موت، إما أنه دخل في حرب ولا يُدرى أسَلِمَ أم قُتِلَ، أو أنها جاءت فيضانات واجترفت الناس ولا يُدرى، أو ركب سفينة ولا يدرى أين ذهب، فماذا نصنع فيه؟ يقول المؤلف:
«من خفي خبره بأسْرٍ أو سفر غالبه السلامة، كتجارة، انتُظر به تمام تسعين سنة منذ ولد» ، مثل إنسان سافر إلى المدينة ـ مثلاً ـ في وقت آمن، ثم فقد، فهذا السفر غالبه السلامة، نقول: ينتظر تمام تسعين سنة منذ ولد، فإذا كان فقد وله عشرون سنة ننتظر سبعين سنة، وإذا فقد وله تسع وثمانون سنة وإحدى عشر شهراً ننتظر شهراً واحداً مع أن ظاهر سفره السلامة، لكن هذا عليه سؤالان:
الأول: لماذا خص تسعون سنة؟ قالوا: لأن هذا أكثر ما يعيش فيه الإنسان غالباً، وأعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، لكن يوجد من يصل إلى مائة.
الثاني: كيف ننتظر شهراً واحداً؟! هذا لا يكفي؛ لأننا إذا قلنا: ننتظر إلى تمام التسعين، معناه إذا تمت التسعون حكمنا بأنه ميت، ووُرِثَ مالُه واعتدَّت زوجتُهُ وحلت للأزواج، ومثل هذا لا(11/295)
يكفي في الغالب، وقولهم: إن الأكثر والأغلب أن لا يعيش أكثر من هذا، نقول: لكن وجد من يعيش مائة سنة أو أكثر.
وَإِنْ كَانَ غَالِبُهُ الهَلاكَ، كَمَنْ غَرِقَ فِي مَرْكَبٍ، فَسَلِمَ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ، أَوْ فُقِدَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ أَوْ فِي مَفَازَةٍ مَهْلَكَةٍ، انْتُظِرَ بِهِ تَمَامُ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ فُقِدَ..
قوله: «وإن كان غالبه الهلاك» ، أي: غالب سفره الهلاك.
قوله: «كمن غرق في مركب فسلم قومٌ دوم قومٍ» ، المركب غرق في البحر وسلم قوم إلى الساحل، وقوم فقدوا ولا يعلم عنهم، منهم هذا الرجل المفقود، فهذا غالب فقده الهلاك، أو احترق المركب أو ما أشبه ذلك، فالغالب الهلاك.
قوله: «أو فقد من بين أهله» ، خرج يقضي حاجة في السوق ولم يرجع، هذا ظاهر غيبته الهلاك، أو نائم هو وأهله في البر فلما أصبحوا لم يجدوه، هذا ـ أيضاً ـ ظاهر فقده الهلاك.
قوله: «أو في مفازة مَهْلَكة» ، يعني في أرض فلاة ليس حولها ماء ولا شجر ولا سكان، هذه يسميها العرب مفازة من الفوز، وهذا من باب التسمية بما يتفاءل به؛ لأنها مهلكة فقالوا: مفازة تفاؤلاً، كما قالوا فيما يوضع على الكسر: جبيرة، تفاؤلاً بجبره، فالذي يفقد في مفازة لا ماء ولا ساكن ولا شيء، فظاهر غيبته الهلاك.
قوله: «انتظر به تمام أربع سنين منذ فقد» ، في بعض النسخ «منذ تلف» ، والصواب «منذ فقد» ، لأنه إذا تلف ما ننتظر ولا ساعة، لكنها سبقة قلم من المؤلف ـ رحمه الله ـ فينتظر به تمام أربع(11/296)
سنين منذ فقد، فإذا فقد رجلان لكل واحد منهما ثمان وثمانون سنة، أحدهما ظاهر غيبته الهلاك، والثاني ظاهر غيبته السلامة، ننتظر بمن ظاهر غيبته السلامة سنتين، والآخر الذي ظاهر غيبته الهلاك أربع سنين، هذا غير معقول!! كيف نقول: الذي ظاهر غيبته الهلاك وله ثمان وثمانون سنة ننتظره أربع سنين، والذي ظاهر غيبته السلامة وله ثمان وثمانون سنة ننتظره سنتين؟! كان يقتضي الأمر العكس، وإنما قدروا هذا التقدير للتوقيف يعني هذا لا مجال للعقل فيه؛ لأن هذا هو الذي ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ (1) ، ولكن لنا أن نقول: ما ورد عن الصحابة قضايا أعيان، وقضايا الأعيان ليست توقيفية؛ لأن قضايا الأعيان يعني أننا ننظر إلى كل مسألة بعينها، وإذا كان قضايا أعيان فهو اجتهاد، فالقول الراجح في هذه المسألة أنه يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، أو من ينيبه الإمام في القضاء، والناس يختلفون، من الناس مَنْ إذا مضى سنة واحدة عرفنا أنه ميت؛ لأنه رجل شهير في أي مكان ينزل يُعرف، فإذا فُقِدَ يكفي أن نطلبه في سنة، ومن الناس من هو من العامة يدخل مع الناس، ولا
__________
(1) ومن ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ (2/575) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: «أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدرِ أين هو؟ فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً ثم تحل» .
وأخرجه ابن أبي شيبة (4/237) ؛ وعبد الرزاق (12317) عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ـ. وأخرج سعيد بن منصور في سننه (1756) ؛ والبيهقي (7/445) عن ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ مثل ذلك، وصحح هذه الآثار الحافظ ابن حجر في الفتح (9/340) ط/دار الريان.(11/297)
يعلم عنه إن اختفى لم يفقد، وإن بان لم يؤبه به، هل نقول: إننا ننتظر في هذا الرجل كما انتظرنا في الأول؟ لا؛ لأن هذا يحتاج إلى أن نتحرى فيه أكثر؛ لأنه إنسان مغمور ليس له قيمة في المجتمع، فننتظر أكثر، ثم إذا غلب على الظن أنه ميت حكمنا بموته، وهنا يجب على القاضي أن يبحث عن هذا الشخص.
أيضاً تختلف المسألة باختلاف ضبط الدولة، بعض الدول تكون حدودها قوية لا يمكن أن يدخل عليها أحد، وإذا دخل عليها أحد لا يمكن أن يخرج، فهذه لا نطوِّل مدة الانتظار؛ لأنها محكمة محصورة، وما دامت الأمور تختلف باختلاف أحوال الشخص، وباختلاف السلطان وقوة النظام، فإننا يجب أن نرجع في ذلك في كل مكان وزمان بحسبه، وهذا هو الراجح، وحينئذٍ لنا نظران: النظر الأول: في قسم ماله، يعني بحكمنا بموته يقسم ماله، والنظر الثاني: في إرث من معه، يقول المؤلف:
ثُمَّ يُقْسَمُ مَالُهُ فِيهِمَا، فَإِنْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ فِي مُدَّةِ التَّرَبُّصِ أَخَذَ كُلُّ وَارِثٍ إِذَاً اليَقِينَ وَوُقِفَ مَا بَقِيَ، فَإِنْ قَدِمَ أَخَذَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَالِهِ، وَلِبَاقِي الوَرَثَةِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا زَادَ عَنْ حَقِّ المَفْقُودِ فَيَقْتَسِمُونَهُ.
«ثم يقسم ماله فيهما» «فيهما» الضمير يعود على الغَيْبة التي ظاهرها السلامة والتي ظاهرها الهلاك.
قوله: «فإن مات مورِّثه في مدة التربص أخذ كل وارث إذاً اليقين ووقِف ما بقي» إذا مات مورثه، يعني مات شخص يرثه المفقود في مدة الانتظار نبقي حق المفقود، ونقسم ما زاد على حقه بين الورثة، فإذا كان المفقود ابناً مع ابنين موجودين نوقف له الثلث، ونعطي الابنين الموجودين كل واحد ثلثاً حتى يتبين الأمر.(11/298)
قوله: «فإن قدم أخذ نصيبه وإن لم يأتِ فحكمه حكم ماله» أي متى حكمنا بموته ورث وارثوه مالَه الأصلي، ومالَه الذي ورثه من مُورِّثه، فإذا أوقفنا له عشرة آلاف من مورِّثه ثم مضت المدة ولم يأتِ، وقلنا: الرجل ميت، وكان عنده من قبل عشرة آلاف فالتركة عشرون ألفاً فتورث.
وخلاصة الأمر:
أولاً: المفقود هو الذي اختفى فلم يعلم أحي هو أم ميت؟
ثانياً: الفقهاء يقولون: إن كان ظاهر غيبته السلامة ننتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، وإن كان ظاهر غيبته الهلاك ننتظر به أربع سنين منذ فقد.
ثالثاً: إذا مضت المدة ولم يأت يقسم ماله بين ورثته؛ لأننا نحكم بموته، وإذا أتى قبل تمام المدة يأخذ الموقوف له ولا إشكال، وإذا مات له مورث في مدة الانتظار يوقف نصيبه كأنه حي موجود، ويرث من معه اليقينَ، ثم إن قدم فالأمر واضح، وإن لم يأت فحكمه حكم ماله، وإذا علمنا أنه مات قبل موت مورثه، يرد المال على الورثة، فإذا مات عن ابنين أحدهما موجود والثاني مفقود، ثم تبين أن المفقود مات قبل موت الأب فالمال للابن الموجود، ولا إشكال في ذلك.
قوله: «ولباقي الورثة أن يصطلحوا على ما زاد عن حق المفقود فيقتسمونه» يعني حق المفقود إذا وقفناه وزاد، فللورثة أن يصطلحوا على هذا الزائد ويقتسموه بينهم؛ لأنه ليس له وارث.(11/299)
بَابُ مِيرَاثِ الغَرْقَى
إِذَا مَاتَ مُتَوَارِثَانِ كَأَخَوَيْنِ لأَبٍ بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ غُرْبَةٍ أَوْ نَارٍ، وَجُهِلَ السَّابِقُ بِالمَوْتِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِن الآخَرِ مَنْ تِلادِ مَالِهِ دُونَ مَا وَرِثَهُ مِنْهُ؛ دَفْعَاً للدَّوْرِ.
الغرقى يعني الذين غرقوا جميعاً ولم نعلم السابق منهم، فهل لهم نظير؟ نعم، لو سقطت طائرة ولم نعلم الميت الأول، لو انقلبت سيارة ولم نعلم الميت الأول، لو شب حريق ولم نعلم الميت الأول، فالمراد بالغرقى هنا جماعة هلكوا جميعاً ولم نعلم عن حالهم، هل ماتوا لحظة واحدة أو تقدم أحدهم؟
قوله: «إذا مات متوارثان كأخوين لأب بهدم أو غرق أو غربة أو نار» الهدم واضح، والغرق واضح، والنار واضحة، والغربة كرجلين سافرا جميعاً وأتانا خبر أنهما ماتا، ولم ندرِ أيهما الأول، فحكمهما حكم من ماتوا بغرق أو نار ولم يعلم الأول منهم.
قوله: «وجُهل السابق بالموت ولم يختلفوا فيه» يعني ورثة كل واحد لم يختلفوا.
قوله: «ورث كلُّ واحدٍ من الآخَر من تِلادِ ماله دون ما ورثه منه دفعاً للدور» أولاً نصور المسألة: هؤلاء جماعة ركبوا سفينة، غرقت السفينة وماتوا كلهم، ولا ندري أيهم الأول، فهل يجري التوارث بينهم أو لا؟ المذهب أنه يجري التوارث بينهم إذا لم يختلف الورثة.(11/300)
القول الثاني: أنه لا توارث بينهم، كل واحد منهم لا يرث الآخر، وإنما يرثه الورثة الآخرون؛ لأن من شرط الإرث أن يوجد الوارث بعد موت المورث لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 11] ، فلا بد أن نعلم أن الوارث وجد بعد موت المورث، وهنا الشرط غير موجود، إذاً لا توارث، وهذا القول مع كونه أصح وأوفق للأدلة الشرعية هو ـ أيضاً ـ أهون وأقطع للنزاع، على القول الأول سيكون نزاعٌ إذا كان أحد الذين غرقوا يملك الملايين، والثاني يملك ثوبه الذي عليه فقط، فنورث هذا من هذا وهذا من هذا، فالغني هل يرث من الفقير؟ لا؛ لأنه لا شيء له، والفقير يرث من الغني، فيعود مال هذا الغني لورثة الفقير بأي حق؟! فالقول الراجح بلا شك أنه لا توارث بينهم.
وعلى المذهب إن تنازع الورثة في المثال الذي ذكرنا، أخوان أحدهما يملك الملايين والثاني ما عنده شيء، كل واحد منهم له زوجة وأم، ثم تنازعوا فورثة الغني يقولون: إن مورثكم مات قبل مورثنا، وأولئك يقولون بالعكس، فهنا يتساقطون، وهذا فيه شيء من الصحة، ويكون ميراث كل ميت لورثته، وأما إذا لم يختلفوا قالوا: ما نعلم، فنحن لا ندعي أن مورثنا هو الأول أو الثاني، فحينئذٍ يرث كل واحد منهما من الآخر من تلاد ماله ـ أي: من قديمه ـ لا مما ورثه منه؛ لأننا لو قلنا: مما ورثه منه، صار دوراً، فيرث هذا مما ورثه منه، ثم ذاك يرث مما ورث منه، وهكذا.(11/301)
مثال هذا: أحدهما خلف مليون ريال والثاني خلف مائة ألف ريال، إذا ورث صاحب مائة الألف من صاحب المليون سيرث خمسمائة ألف، وذاك إذا ورث من الآخر يرث خمسين ألفاً، هل نضم الخمسين ألفاً للمليون ونقول: يرث هذا خمسمائة ألف وخمسين ألفاً؟
لا يمكن، لو قلنا هذا لزم أن ندور، فنقول: يرث صاحب مائة الألف خمسمائة ألف من صاحبه، وصاحب المليون يرث خمسين ألفاً من صاحبه وتنتهي المسألة، ومع هذا نحن نقول ونرجح: أنه لا توارث بينهما، وأنه لا حق لأحدهما في مال الآخر؛ لأن الشرط وهو وجود الوارث بعد موت المورث لم يتحقق، وهذا الذي اخترناه هو مذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الصواب بلا شك.(11/302)
بَابُ مِيرَاثِ أَهْلِ المِلَلِ
لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ إِلاَّ بِالوَلاَءِ، وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ إِلاَّ بِالوَلاَءِ،......
أهل الملل يعني الأديان، ولا يمكن أن نبحث في ميراث أهل الملل حتى يوجد سبب الميراث، وأسباب الميراث ثلاثة: نكاح ونسب وولاء، فإذا وجد اثنان بينهما توارث وهما على دين واحد جرى التوارث، وإن اختلف دينهما فلا؛ لأن من شرط الإرث اتفاق الدين، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ لنوح حين قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 45، 46] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) .
قوله: «لا يرث المسلمُ الكافرَ إلا بالولاء ولا الكافرُ المسلمَ إلا بالولاء» والدليل ما أشرنا إليه من الآية، وما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» ، ولأن الإرث مبني على الموالاة والنصرة، ولا موالاة ولا نصرة بين المسلم والكافر، أما قول المؤلف: «إلا بالولاء» ، فهذا الاستثناء لا دليل عليه ولا يصح أثراً ولا نظراً، أما كونه لا يصح أثراً فلعدم الدليل الصحيح، وقد ورد فيه حديث ضعيف (2) ، وأما كونه لا يصح
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (6764) ؛ ومسلم في الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1614) .
(2) أخرجه الدارمي في الفرائض/ باب ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام (2993 ـ 2994) ؛ والنسائي في الكبرى في الفرائض/ باب الصبي يسلم أحد أبويه (6356) ؛ والدارقطني (4/74) ؛ والحاكم (4/345) ؛ والبيهقي (6/218) عن جابر ـ رضي الله عنه.(11/303)
نظراً؛ فلأن الإرث بالولاء أضعف من الإرث بالنسب والزوجية، فإذا كان اختلاف الدين يمنع الميراث مع السبب الأقوى، فكيف لا يمنعه مع السبب الأضعف؟! هذا خلاف القياس وخلاف النظر، ولنضرب لهذا مثلاً: هلك هالك عن أب كافر هل يرثه أبوه؟ لا.
هلك هالك عن معتِق كافر والعبد المعتق مسلم، هل يرثه سيده؟ على المذهب يرثه، وعلى القول الراجح لا يرثه، ونحن نقول بالقول الراجح لعموم الحديث: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» .
لو هلك هالك عن ابن لا يصلي وعن عم مسلم يصلي، فميراثه للعم، والابن الذي لا يصلي لا يرث، وكذلك لو كان هناك رجل لا يصلي ومات عن أقارب مسلمين فإنهم لا يرثونه؛ لأنه لا يرث المسلم الكافر، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيانه.
وَيَتَوَارَثُ الحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ وَالمُسْتَأْمِنُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مَعَ اتِّفَاقِ أَدْيَانِهِمْ لاَ مَعَ اخْتِلاَفِهَا، وَهُمْ مِلَلٌ شَتَّى، وَالمُرْتَدُّ لاَ يَرِثُ أَحَداً وَإِنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَمَالُهُ فَيْءٌ.
قوله: «ويتوارث الحربي والذمي والمستأمن» ، هؤلاء ثلاثة أصناف من الكفار، فالحربي هو الذي ليس بيننا وبينه عهد ولا ذمة ولا أمان.
وقوله: «والمستأمِن» بكسر الميم، وأكثر الناس يقولون: المستأمَن بفتح الميم وهذا غلط؛ لأنه ليس مستأمَناً بل هو مُؤَمَّن، وهو الذي أُعْطِيَ الأمان ألا يعتدى عليه، سواء من الإمام أو ممن(11/304)
يجيز إجارته الإمام، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ» (1) .
وقوله: «والذمي» وهو الذي بيننا وبينه عهد وذمة أن يبقى في دارنا آمناً، تحفظ له حقوقُه، ولا يعتدى عليه لكن عليه الجزية.
والمعاهد هو الذي جرى بينه وبين المسلمين عهد، لكنه في بلده مستقل، ليس للمسلمين به تعلق، إلا العهد الذي بيننا وبينه، فيتوارث هؤلاء إذا اتفقت أديانهم، فكلهم يهود، كلهم نصارى، كلهم مجوس، كلهم شيوعيون، يتوارثون إذا اتفقت أديانهم، وإن اختلفت فلا توارث، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (2) ، فإن هذا يدل على أن اختلاف الدين مانع من الإرث، ولهذا قال المؤلف:
«وأهل الذمة يرث بعضهم بعضاً مع اتفاق أديانهم لا مع اختلافها» أهل الذمة هل يمكن أن تختلف أديانهم؟ نعم، يهود، نصارى، مجوس، هؤلاء أهل الذمة، ثلاثة أصناف، والصحيح أنهم أكثر من ثلاثة أصناف، وأن جميع الكفار يمكن أن يكونوا أهل ذمة، تعقد لهم الجزية، كما صح ذلك فيما رواه مسلم عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به (357) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان (336) عن أم هانئ ـ رضي الله عنها ـ.
(2) سبق تخريجه ص (302) .
(3) في الجهاد/ باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها (1731) .(11/305)
قوله: «وهم» الضمير يعود على أهل الأديان.
قوله: «ملل شتى» أي: متفرقة، اليهود ملة، والنصارى ملة، والمجوس ملة، والشيوعيون ملة، والبوذيون ملة وهكذا، وهذا هو القول الراجح.
وقال بعض العلماء: إن الكفر ملة واحدة، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن اليهود يقولون: ليست النصارى على شيء، والنصارى يقولون: ليست اليهود على شيء، فكيف يكونون أمة واحدة؟! نعم هم بالنسبة للإسلام صنف، لكن بالنسبة لما بينهم مختلفون، كما نقول مثلاً: أهل السنة يدخل فيهم المعتزلة، يدخل فيهم الأشعرية، يدخل فيهم كل من لم يَكْفُر من أهل البدع، إذا قلنا هذا في مقابلة الرافضة، لكن إذا أردنا أن نبين أهل السنة، قلنا: إن أهل السنة حقيقة هم السلف الصالح الذين اجتمعوا على السنة وأخذوا بها، وحينئذٍ يكون الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ونحوهم ليسوا من أهل السنة بهذا المعنى.
قوله: «والمرتد لا يرث أحداً» لأنه ـ والعياذ بالله ـ ليس له دين ولا يقر على دينه، يعني لو كان عندنا كافر ملحد غاية الإلحاد نقره على دينه، لكن لو ارتد أحد إلى اليهودية أو النصرانية لا نقره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» (1) يعني من بدل دين الإسلام، فإننا نقتله، إذاً المرتد لا يرث أحداً، ولا أباه ولا أمه ولا ابنه؛ لأنه مرتد مخالف للدين وليس على دين؛ لأنه لا يقر على هذا الدين.
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد/ باب لا يعذب بعذاب الله (3017) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(11/306)
قوله: «وإن مات على ردته فماله فيء» يعني يُدخَل في بيت المال، وبهذا نعلم أن العلماء ـ رحمهم الله ـ يحكمون على الشخص بعينه بالردة أو غيرها مما يقتضيه فعله، خلافاً لما عليه الشباب الآن فإنهم يتهيبون أن يكفروا أحداً بعينه، وهذا غلط، إذا وجد الكفر وتمَّت الشروط وانتفت الموانع، فإننا نكفره بعينه ونعامله معاملة الكافر في كل شيء؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، أما لو فرضنا أنه كان مؤمناً بقلبه، ولكن يظهر الكفر، فهذا حسابه على الله ـ عزّ وجل ـ لكن نكفره بعينه؛ لأننا لو قلنا: إننا لا نكفر أحداً بعينه، وإنما نكفر الجنس، ما بقي أحد يكفر، ولا أحد يُدعى إلى الإسلام.
وقوله: «وإن مات على ردته فماله فيء» دليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) ، وهذا واضح؛ ولأن الإرث مبني على النصرة والولاء، ولا نصرة ولا ولاء بين المسلم والكافر، هذا ما ذهب إليه الفقهاء ـ رحمهم الله ـ وهم أسعد بالدليل مما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه ـ رحمه الله ـ يرى أن المرتد يورث، ويستدل بأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في أيام الردة يورِّثون أهل المرتدين من أموال المرتد، ولكن الإنسان يقول: ما جوابي يوم القيامة حين يناديهم فيقول: «ماذا أجبتم المرسلين» ؟ ماذا نقول في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» ؟ وأما فعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فهل أجمعوا عليه؟ لو أجمعوا عليه
__________
(1) سبق تخريجه ص (302) .(11/307)
لقلنا: إجماعهم حجة، لكن من يقول: إنهم أجمعوا على هذا؟ والمسألة ليست عندي بذاك المسألة البينة، إذاً نبقى على الأصل وهو: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» .
وقوله: «فماله فيء» الفيء يكون في بيت المال، يصرف في المصالح العامة، كبناء المساجد، وبناء المدارس، وإعطاء الفقراء، المهم ما يصرف فيه بيت المال، يصرف فيه مال المرتد.
وَيَرِثُ المَجُوسُ بِقَرَابَتَيْنِ إِنْ أَسْلَمُوا، أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا قَبْلَ إِسْلاَمِهِمْ، وَكَذَا حُكْمُ المُسْلِمِ يَطَأُ ذَاتَ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ بِشُبْهَةٍ وَلا إِرْثَ بِنِكَاحِ ذَاتِ رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَلاَ بِعَقْدٍ لاَ يُقَرُّ عَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمَ.
قوله: «ويرث المجوس بقرابتين إن أسلموا» المجوس من مذهبهم الخبيث أنه يجوز للإنسان أن ينكح محارمه ـ والعياذ بالله ـ ينكح أخته، بنته، عمته، أمه، وهذا من أخبث المذاهب وأقبحها، فإذا كان أحدهم يدلي بقرابتين فإنه يرث بهما؛ لأنهم يعتقدون حل فعلهم، فإذا أسلموا فإنهم يورثون بالقرابتين، كما ذكرنا في الجدات أن الجدة التي تدلي بجهتين ترث ثلثي السدس.
قوله: «أو تحاكموا إلينا قبل إسلامهم» يعني إذا تحاكموا إلينا قبل إسلامهم فإننا نورثهم على حسب القرابتين، فإن لم يسلموا أو لم يتحاكموا فأمرهم إلى أنفسهم.
قوله: «وكذا حكم المسلم يطأ ذات رحم محرم منه بشبهة» يعني لو أن المسلم وطئ ذات رحم محرم منه بشبهة، والشبهة إما شبهة عقد وإما شبهة اعتقاد، فمن وطئ امرأة يظنها زوجته فبانت أخته أو بنته فهذا شبهة اعتقاد، ومن عقد على امرأة على أنها أجنبية منه وبعد العقد والدخول تبين أنها مَحرم له، تبين أنها أخته(11/308)
من الرضاعة ـ مثلاً ـ هذه شبهة عقد؛ لأنه عقد عقداً يظنه صحيحاً وذاك جامَع جماعاً يظنه صحيحاً، فإذا أتت بولد صار هذا الولد يرث بجهتين، فيوَرَّث بالجهتين؛ لوجود السببين، والشيء إذا وجد سببه وجب العمل به.
وقيل: يرث بأقوى الجهتين ميراثاً واحداً؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع في شخص واحد جهتان متقابلتان، وإذا كان لا يمكن فإنه يؤخذ بالأقوى ويرث بجهة واحدة.
قوله: «ولا إرث بنكاح ذات رحم محرَّم» مثاله: إنسان تزوج امرأة ثم مات عنها، وبعد الموت تبين أنها أخته من الرضاعة، فهل ترث؟ الجواب: لا ترث؛ لأنه تبين أن النكاح باطل، فلا ترث حتى لو بقيت معه عدة سنين.
قوله: «ولا بعقد لا يُقَرُّ عليه لو أسلم» يعني ولا إرث بعقد لا يقر عليه لو أسلم، مثاله: أن يتزوج المجوسي أخته ثم يموت عنها، فهذا العقد إذا أسلم لا يقر عليه، بخلاف ما لو كان عقد عقداً محرماً لكن زال سبب التحريم، فإنه يقر عليه، كما لو تزوج أخت زوجته والأخت معه فالنكاح لا يصح؛ لأنه لا يجمع بين أختين، لكن لو أنه حين أسلم فارق الأولى فالنكاح يصح؛ لأنه زال المانع، وكذلك لو نكح امرأة في عدتها فالنكاح باطل، ولكن لو أسلم بعد أن انقضت العدة فإنه يقر عليه.(11/309)
بَابُ مِيرَاثِ المُطَلَّقَةِ
مَنْ أَبَانَ زَوْجَتَهُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ غَيْرِ المَخُوفِ وَمَاتَ بِهِ، أَوْ المَخُوفِ وَلَمْ يَمُتْ بِهِ لَمْ يَتَوَارَثَا بَلْ فِي طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهُ،.........
سبق أن من أسباب الإرث: النكاح، فإذا كان له زوجة وطلقها، فهذا لا يخلو من أحوال يذكرها المؤلف.
قوله: «من أبان زوجته في صحته أو مرضه غير المخوف ومات به، أو المخوف ولم يمت به لم يتوراثا» إذا أبان زوجته، أي: طلقها طلاقاً بائناً كالطلاق الثلاث، والفسخ بعيب وما أشبه ذلك، في صحته فإنه لا توارث ولو كان في العدة؛ لأنها بانت منه، فلو مات لم ترثه وإن ماتت لم يرثها.
وقوله: «أو مرضه غير المخوف» المرض نوعان: مرض مخوف، وهو الذي إذا مات منه الإنسان لم يقل الناس شيئاً؛ لأنه صار عادة أن يموت به الناس، وغير المخوف هنا الذي يرجى برؤه، فما كان سبباً للموت عادة فهو مخوف وما لا فلا، مثال المرض غير المخوف: إنسان يؤلمه سِنُّهُ، أو عينه، أو جرح فيه، أو زكام، هذه أمراض غير مخوفة، فإذا طلقها في هذا المرض طلاقاً بائناً، ثم اشتد به المرض ومات، فإنها لا ترث؛ لأنها بانت منه في حال لا يتهم فيها بمنع الإرث.
وقوله: «أو المخوف» أي: مرضه المخوف الذي مات به ولم يستنكره الناس، مثل الحمى الشديدة، أو ذات الجنب، وفي(11/310)
عصرنا هذا انتشر داء السرطان، وفي الأول كان السِّل، المهم الأمراض التي لو مات بها قال الناس: هذا سبب، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: المرأة التي يأخذها الطلق مرضها مخوف مع أنه لا يكثر فيه الموت، لكن لو ماتت بالطلق قال الناس: ليس هذا بغريب.
وقوله: «أو المخوف ولم يمت به لم يتوارثا» لو أن إنساناً مريضاً مرضاً مخوفاً بذات الجنب ـ مثلاً ـ فخاف أن يموت به، فطلق زوجته لئلا ترث، ثم عافاه الله وانتهت عدتها ثم مات بعد ذلك فإنها لا ترث؛ لأنه برئ من المرض، وهذه المسألة تحتاج إلى تحرير؛ لأن كونه طلقها في مرض موته المخوف واضح أنه أراد الحرمان، فإذا شُفِيَ ثم عاد المرض ومات ففي حرمانها نظر؛ لأن التهمة قائمة.
قوله: «بل في طلاق رجعي لم تنقض عدتُه» الطلاق الرجعي هو الذي يملك الزوج فيه مراجعة الزوجة بدون عقد، فهذا إنسان طلق زوجته في حال صحته طلاقاً رجعياً، ثم مات وهي في العدة فإنها ترث منه، ولو ماتت هي يرث منها؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات، بل سمى الله ـ تعالى ـ الزوج المُطَلِّق بعلاً فقال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، فلو قال قائل: هذا باعتبار ما كان، نقول: الأصل حمل اللفظ على ظاهره، ولا يمكن أن نقول: باعتبار ما كان أو باعتبار ما يكون إلا بدليل، قال الله(11/311)
تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 3] ولا يمكن أن نؤتيه ماله إلا إذا بلغ، وسماهم الله أيتاماً باعتبار ما كان، نقول: لكن هذا فيه دليل، وفي سورة يوسف ـ عليه السلام ـ قال أحد صاحبي السجن: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [36] ، وهو يعصر عنباً، لكنه خمر باعتبار ما يكون، فنقول: إذا قال قائل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} باعتبار ما مضى، نقول: لا، فالأصل حمل الكلام على ظاهره،، فإذا مات المطلق طلاقاً رجعياً في العدة ورثته الزوجة، وإن ماتت ورثها الزوج؛ لأنهما لا زالا على الزوجية، ولهذا قال المؤلف: بل «في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» ، فإن انقضت العدة، تَبِينُ منه ولا توارث.
لو قال قائل: لو طلقها طلاقاً رجعياً في مرض موته المخوف ومات به ترث؛ لأنها لم تنقضِ عدتها، فإن انقضت العدة لا ترث، ولو أبانها في المرض وانقضت العدة ومات فإنها ترث، نقول: هذه المسألة قد يُظن أن الأمر خلاف ذلك، فرجل طلق زوجته في مرض موته طلاقاً رجعياً، وانقضت العدة ثم مات لا ترث، ورجل طلق زوجته طلاقاً بائناً في مرض موته المخوف ومات بعد انقضاء عدتها فإنها ترث، وقد يبدو للإنسان في بادئ الأمر العكس، فيقال: لا؛ لأن البائن إذا بانت ترث منه من حين الطلاق؛ لأنه متهم، والرجعية ينقطع ميراثها بانقطاع العدة، وفي هذه المدة ربما تموت هي ويرثها، والبائن لو ماتت لا يرثها، هذا هو الفرق.
إذاً حد إرث المطلقة الرجعية انقضاء العدة، سواء كان(11/312)
طلاقها في المرض أو في الصحة، وهنا نقول: يجري التوارث بينهما، الزوج يرث منها وهي ترث منه، ولهذا قال: «بل في طلاق رجعي لم تنقضِ عدته» .
وَإِنْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ المَخُوفِ مُتَّهَمَاً بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا، أَوْ عَلَّقَ إِبَانَتَهَا فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَرَضِهِ، أَوْ عَلَى فِعْلٍ لَهُ فَفَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرِثُهُ فِي العِدَّةِ وَبَعْدَهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَوْ تَرْتَدَّ.
قوله: «وإن أبانها في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها» فإنه لا يرثها، وترثه هي معاملة له بنقيض قصده؛ لأن الحيل لا تبطل الحقوق.
وقوله: «متهماً بقصد حرمانها» ، إذا لم يتهم فإنها لا ترث منه من حين البينونة، مثال الذي لم يتهم: امرأة لما رأت زوجها اشتد به المرض ـ مثلاً ـ طلبت الطلاق فطلقها فهذا غير متهم؛ لأنها هي التي طلبت، وإذا كانت هي التي طلبت فلا تهمة.
قوله: «أو علق إبانتها في صحته على مرضه» قال الرجل وهو صحيح لزوجته: إذا مرضت مرض الموت فأنت طالق، فإنها ترث؛ لأنه متهم.
قوله: «أو على فعل له ففعله في مرضه ونحوه لم يرثها» قال: إن كلمتُ زيداً فأنت طالق، فلما مَرِض الرجل مرض الموت كلم زيداً، فإنها تطلق على المذهب، فإن المذهب لا فرق بين الحلف والطلاق، وهو متهم؛ لأنه فعل ما تطلق به في مرض موته فلا يرثها.
ولو علقه على فعل لها فَفَعلَتْهُ في مرضه، ففيه تفصيل، إن(11/313)
كان هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً أو حساً فإنها تطلق وترث؛ لأنها لا بد أن تفعل، فلو قال: إن صَلَّيْتِ الظهرَ فأنت طالق وجاء وقت الظهر وجب أن تصلي فصلت، تطلق وترث، ونقول: هذا الفعل لا بد لها منه شرعاً وهو بغير اختيارها في الواقع، أو قال لها: إن أَكَلْتِ غداء أو عشاء أو فطوراً فأنت طالق، فلو أكلت تطلق وترث؛ لأنه لا بد لها من ذلك، لكن لو قال: إن أكلت الأرز فأنت طالق، فلما مرض أكلت الأرز، هذه تطلق ولا ترث؛ لأن لها بداً منه، إذ يمكن أن تأكل بدل الأرز خبز بر أو تمراً أو ما أشبه ذلك.
قوله: «وترثه في العدة وبعدها» أي: المطلقة في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها، فترثه البائن في العدة وبعد العدة؛ لأنه متهم، وكل من حاول إبطال حق مسلم فإنه يعامل بنقيض قصده، وهو لا يرثها، وبعد العدة ـ أيضاً ـ لأنه لا أثر للعدة هنا؛ إذ إن العدة عدة بائن لا تؤثر.
قوله: «ما لم تتزوج» لأنها إذا تزوجت لا يمكن أن ترث زوجين، إذ لو قلنا: بأنها ترث بعد الزواج، لكان معناه أنها ترث من الزوج الأول ومن الزوج الثاني، وهذا لا نظير له في الشرع، ثم إنها إذا تزوجت فإنها بتزوجها قطعت العلاقة بينها وبين الزوج الأول نهائياً.
قوله: «أو ترتد» كذلك إن ارتدت ـ والعياذ بالله ـ فإنها لا ترث؛ لأنها أتت بمانع من موانع الإرث باختيارها.(11/314)
بَابُ الإِقْرَارِ بِمُشَارِكٍ فِي المِيرَاثِ
إِذَا أَقَرَّ كُلُّ الوَرَثَةِ وَلَوْ أَنَّهُ وَاحِدٌ بِوَارِثٍ لِلمَيِّتِ وَصَدَّقَ، أَوْ كَانَ صَغِيرَاً أَوْ مَجْنُونَاً وَالمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولُ النَّسَبِ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَإِرْثُهُ، وإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ ابْنَيْهِ بِأَخٍ مِثْلِهِ فَلَهُ ثُلُثُ مَا بِيَدِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ فَلَهَا خُمُسُهُ.
إذا ثبت نسب الإنسان من شخص فإنه يرث ويورث، لكن إذا لم يثبت وكان مجهول النسب، وأقر الورثة بأن هذا أخوهم، فإذا أقر الورثة كلهم ولو كان واحداً فإنه يثبت النسب ويثبت الإرث، أما الإرث فلأن الوارث أقر على نفسه ومن أقر على نفسه فإنه يؤاخذ بما أقر به.
مثال ذلك: رجل قال بعد أن مات أبوه: هذا أخي، فهذا أقر أن نصف ميراث أبيه لهذا الشخص، يؤخذ بإقراره دون إشكال، ولا عذر لمن أقر، لكن كيف يثبت النسب؛ لأنه إذا قلنا بثبوت النسب صار هذا المُقَرُّ به أخاً له، وعمًّا لأولاده، وهلم جرّاً؟
الجواب: أن هذا المُقَرُّ به مجهول النسب والشارع له تشوُّف عظيم للحوق النسب، لا يريد من أبنائه أن يضيعوا، لا يُدرى لمن هم، فلما كان تطلع الشارع وتشوفه للحوق النسب عظيماً، قلنا: لمَّا أقر به ثبت نسبه.
إذاً فالعلة في كونه يلحق به في الميراث، أن هذا الوارث أقر على نفسه بحق لغيره فيقبل، والعلة في كونه يلحق به في النسب هو حرص الشارع وتشوفه للحوق النسب؛ لأن هذا ليس له نسب.
ولو أقر بمعلوم النسب فإقراره غير صحيح، ولهذا لا بد من شروط.
قوله: «إذا أقر كل الورثة ولو أنه واحد» هذا إشارة من(11/315)
المؤلف إلى أن المسألة ليست مبنية على الشهادة، فلو كانت مبنية على الشهادة لكان لا بد من شاهدين.
قوله: «بوارث للميت وصَدَّقَ» الفاعل هو المُقَرُّ به، قال: نعم، أنا أخوه، فإن أنكر لم يثبت نسبه ولا إرثه، أما عدم ثبوت إرثه فواضح؛ لأنه يقول: أنا ما لي حق في هذه التركة، فقد أقر على نفسه، وأما عدم ثبوت نسبه فلأنه لا يمكن أن يثبت النسب بدعوى شخص مع إنكار المُدَّعَى عليه، إذاً لا بد من تصديق المُقَرِّ به.
قوله: «أو كان صغيراً أو مجنوناً» يعني الصغير والمجنون لا عبرة بتصديقهما أو تكذيبهما؛ لأنه لا حكم لأقوالهما، وهذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني قال:
«والمُقَرُّ به مجهول النسب» يشترط أن يكون المقر به مجهول النسب، لا يعلم أنه فلان ابن فلان، فإن كان معلوم النسب فلا يقبل إقراره به؛ لأن إقراره به يستلزم إبطال نسبٍ معروف، ولو فتح الباب لكان كل واحد يرى شخصاً أديباً لبيباً عالماً فيقول: هذا ولدي، ولا يمكن هذا، فإذا كان معلوم النسب فلا دعوى لأحد في نسبه.
الشرط الثالث: إمكان صدق الدعوى، وذلك بأن يمكن أن يكون ممن يلحق به، فلو أن شخصاً ادعى أن هذا ولده، والولد هذا مجهول النسب، لكن الأب له عشرون سنة وهذا الولد له خمس عشرة سنة، فهذا لا يقبل؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفرق(11/316)
بين هذا وأبيه خمس سنوات، فلا بد من إمكان صدق المُقرِّ فإن لم يمكن فقوله ملغى.
قوله: «ثبت نسبه وإرثه» ، فإذا تمت هذه الشروط ثبت نسبه وإرثه.
قوله: «وإن أقر أحد ابنيه بأخٍ مثله فله ثلث ما بيده» ، أي: بيد المُقِر، وهذا إذا أنكر الآخر، يعني لدينا أخوان زيد وعَمْرو، أقر زيد بخالد أنه أخوه، ولكن عَمْراً أنكر، فكيف يكون الميراث؟ نقول: يجب عليك أن تعطي هذا الذي أقررت به ثلث ما بيدك؛ لأنك الآن تقر بأن الورثة ثلاثة، أنت أحدهم.
قوله: «وإن أقر بأخت فلها خمسُهُ» ، أي: أقر بأخت فهي بنت أبيه فلها خمسه؛ لأنه أقر أنه هو وعَمْراً أختهما فاطمة، اقسم التركة عليهم من خمسة، لزيد خمسان ولعمرو خمسان، وللأخت خمس، نقول: خمس ما بيدك أعطها إياه؛ لأنك أقررت.
لكن لو ثبت نسب هذا المقر به بشاهدين، فإن الميراث يثبت من الأصل.
ونظير هذا مسألة تقع كثيراً، يقول أحد الورثة: قد قال الميت: إنه أوصى بثلثه في عمارة المساجد، والورثة لم يصدقوا هذا القائل، قالوا: أبداً أبونا لو كان عنده وصية لكتبها ولا نقبل كلامك، فهل يلزمه أن يخرج ثلث ما بيده؟ نعم يلزمه؛ لأنه أقر الآن أن ثلث مال أبيه قد أوصى به أبوه، فيلزمه أن يصرف ثلث ما بيده على حسب ما كان يقوله عن أبيه.(11/317)
بَابُ مِيرَاثِ القَاتِلِ، وَالمُبَعَّضِ، وَالوَلاءِ
مَنِ انْفَرَدَ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ، أَوْ شَارَكَ فِيهِ مُبَاشَرَةً، أَوْ سَبَباً بِلاَ حَقٍّ، لَمْ يَرِثْهُ إِنْ لَزِمَهُ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ، وَالمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ،........
قوله: «باب ميراث القاتل والمبعض والولاء» «القاتل» معروف هو الذي أزهق روح إنسان بسبب أو مباشرة، و «المبعض» هو الذي بعضه حر وبعضه رقيق، و «الولاء» يعني ما هو الولاء وما كيفية الإرث به؟
قوله: «من انفرد بقتل مورثه» بأن أخذ السيف وجَزَّ رأسه، هذا منفرد، أو دهسه بالسيارة بلا عمد لكن خطأ فهذا منفرد.
قوله: «أو شارك فيه» بأن صار الخطأ في الحادث بينه وبين آخر، أو اشترك اثنان في قتله، كل واحد قتله بسهمه.
قوله: «مباشرة» بأن يفعل سبب القتل هو بنفسه مباشرة.
قوله: «أو سبباً» بأن يحفر أمامه حفرة فيسقط فيها، فهنا ما باشر، لكن كان سبباً.
قوله: «بلا حق» فإن كان بحق ـ وسيذكره المؤلف ـ فإنه يرث.
قوله: «لم يرثه إن لزمه قود أو دية أو كفارة» يلزمه القود إذا كان عمداً، وتلزمه الدية إذا كان خطأ أو شبه عمد، وتلزمه الكفارة ـ على المشهور من المذهب ـ إذا قتل بين صف الكفار لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، ولم يذكر الدية، وهذا في المؤمن(11/318)
إذا كان في صف الكفار، ثم قتله مؤمن فهذا يلزمه الكفارة، ولا تلزمه الدية؛ لأنه أهدر نفسه حيث صار في صف الكفار.
والقول الثاني في الآية: أنها في المؤمن يكون ورثته كفاراً، وهذا هو الصحيح والمتعين، فهو رجل مؤمن ورثته كفار أعداء لنا، فهذا تجب فيه الكفارة؛ لأنه مؤمن، ولا تجب الدية؛ لأننا لو بذلنا الدية سيأخذها الكفار، فلا نعطيهم ما يستعينون به على قتال المسلمين.
قوله: «والمكلف وغيره سواء» ، يعني حتى غير المكلف، فلو كان صبي له عشر سنوات يلعب ببندقية وأصاب مورثه فإنه لا يرث؛ لأن هذه حقوق مالية تتعلق بالعباد، فلا فرق فيها بين المكلف وغير المكلف.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يرث القاتل ولو كان خطأ محضاً، واستدل هؤلاء بحديث: «ليس للقاتل من الميراث شيء» (1) ، وهذا لا يصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإذا لم يصح نرجع إلى القواعد العامة، فإذا علمنا يقيناً أن هذا الوارث لم يتعمد القتل فإننا لا نمنعه؛ لانه قد استحق الميراث، فكيف نحرمه منه؟! وهذا يقع كثيراً.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الديات/ باب ديات الأعضاء (4564) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ، قال الحافظ في البلوغ (954) : «والصواب وقفه على عمرو» ، وأخرجه الترمذي في الفرائض/ باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل (2109) وابن ماجه في الديات/ باب القاتل لا يرث (2645) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. ولفظه: «القاتل لا يرث» ، قال الترمذي: لا يصح، وأخرجه مالك (2/867) وابن ماجه في الديات/ باب القاتل لا يرث (2646) عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، وانظر: الدراية (2/260) ، والإرواء (1671) .(11/319)
ونضرب مثلاً يتبين به ضعف هذا القول، أنه لا يرث ولو كان خطأ محضاً: رجل له ولدان وهو ذو أموال كثيرة، أما الأكبر منهما فكان عاقاً لأبيه ولا يعرفه، وأما الثاني فهو بار بأبيه يخدمه ويجتهد في كل بر وإحسان، فقال الرجل للولد البار: أحب أن أذهب إلى العمرة، والولد يجيد قيادة السيارة، سافر هو وأبوه وأراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يكون حادث على يد هذا الولد البار خطأ بدون قصد، مات الأب وعنده الملايين، من يرثه؟ العاق يرثه والبار لا يرثه!! لا يمكن أن تأتي الشريعة بمثل هذا، ابن يحب أن تكون المصيبة عليه دون أبيه، ويحب أن ينجرح رأسه دون أن يَمس أصبعَ أبيه شيءٌ نقول: يُحرم من الميراث، وهذا الولد العاق هو الذي يرث!! الشريعة لا تأتي بمثل هذا، وما دام الحديث لم يصح فلنرجع إلى القواعد العامة، فهل يمكن أن يتهم هذا الذي كان باراً بأبيه بأنه تعمد قتله لأجل أن يرثه؟ لا يمكن بأي حال من الأحوال، ولهذا نقول: القول الصواب في هذه المسألة الذي لا يجوز سواه فيما نرى، أن القتل خطأً لا يمنع من الميراث، وأننا لو منعناه من الميراث فقد حرمناه حقاً أثبته الله له في كتابه {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] .
والتهمة في مثل هذه الصور التي ذكرناها بعيدة جداً، وإذا كانت التهمة بعيدة وسبب الإرث موجود، فكيف نمنع نفوذ هذا السبب من أجل طرد القاعدة؟! لا يصح، ولهذا كان مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة أصح المذاهب،(11/320)
يقول: لا يمكن أن نمنع هذا من الميراث، ولا نمنعه إلا إذا عرفنا أنه أخذ السكين، وأضجع والده فذبحه، ففي هذه الحال لا يرث؛ لأن التهمة قوية جداً، لا سيما إن كان قد توعده، وقال: يا أبي أعطني أتزوج، أنا ما عندي فلوس، قال: لا، قال الولد: بيني وبينك الأيام سأرثك غصباً عليك، ثم جاء يوم من الأيام وأضجعه وذبحه بالسكين، هذا لا يمكن أن نورثه ولا تأتي الشريعة بتوريثه؛ لأنه تعمد قتل أبيه لينال ميراثه، وما أحسن ما قعَّده ابن رجب ـ رحمه الله ـ قال: «من تعجل شيئاً قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه» .
إذاً القول الراجح في مسألة القتل أنه إذا تعمد الوارث قتل مورثه عمداً لا شك فيه فإنه لا يرث، وإن كان خطأ فإنه يرث، ولكن هل يرث من الدية التي سيبذلها؟ لا يرث؛ لأن الدية غرم عليه، وقد جاء في حديث رواه ابن ماجه: «أنه يرث من تلاد ماله» (1) ، يعني قديمه، فيرث من المال لا من الدية.
وفي قولنا: لا من الدية، إشارة إلى أن الدية تثبت على ملك المقتول، فتكون ملكاً للمقتول تورث عنه ويخرج منها الثلث، وهنا يجب أن ننتبه إلى مسألة مهمة، وهي أن بعض
__________
(1) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ في الفرائض/ باب ميراث القاتل (2736) ، ولفظه: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة فقال: المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه، فإن قتل أحدهما صاحبه عمداً لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته» .
وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة، وانظر: نصب الراية (4/330) .(11/321)
الناس إذا حضر القاتل خطأً رحموه، ورقوا له وعفوا عن الدية، فالمقتول له أولاد صغار أو أولاده كلهم راشدون، ولكن عليه دين فيعفون، فالعفو هنا غير صحيح؛ لأن الميراث لا يثبت إلا بعد قضاء الدين {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، فإذا عفوا والميت عليه دين، قلنا: العفو غير صحيح، وتؤخذ الدية ويقضى بها دين الميت، وهذه مسألة قَلَّ من ينتبه لها، ولذلك على أولياء المقتول ألا يعفوا حتى ينظروا هل عليه دين أو لا؟ ثم بعد ذلك ينظرون هل في الورثة قُصَّر أو لا؟
وَإِنْ قُتِلَ بِحَقٍّ قَوَداً أَوْ حَدًّا أَوْ كُفْراً أَوْ بِبَغْيٍ..............
قوله: «وإن قتل بحق قوداً» يعني قصاصاً فإنه يرث، مثال ذلك: أخوان لهما أب فقام الأكبر فقتل أباه عمداً فإنه لا يرث منه، فقام الأصغر وقتل أخاه قصاصاً يرث، إذاً صار ميراث الأب والابن الأكبر للأخ الصغير، فحاز ميراث الرجلين، أما أبوه؛ لأن أخاه قتله عمداً فلا حق له، وأما أخوه فلأنه قتله بحق.
قوله: «أو حدًّا» هل هناك شيء من الحدود يصل إلى القتل؟ نعم، رجم الزاني، لو أن الوارث شارك في رجم الزاني، الذي هو مورثه فإنه يرث.
قوله: «أو كفراً» نحن ذكرنا أن من موانع الإرث اختلاف الدين، فكيف يقتله بالكفر؟ هذا على القول بأن الولاء لا يمنع فيه اختلاف الدين فتصح هذه الصورة، أو القول بأن المرتد يرثه أقاربه كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
قوله: «أو ببغي» يشير إلى البغاة وهم الذين يخرجون على الإمام ـ يعني على السلطان ـ بتأويل سائغ، فيقولون للإمام: أنت(11/322)
فعلت كذا وفعلت كذا، فهؤلاء بغاة يُقاتَلون، يجب على الرعية أن يساعدوا السلطان على قتالهم؛ لأنهم بغاة، والأئمة لا يجوز الخروج عليهم إلا بشروط مغلظة؛ لأن أضرار الخروج عليهم أضعافُ أضعافُ ما يريد هؤلاء من الإصلاح، وهذه الشروط هي:
الأول: أن نعلم علم اليقين أنهم أتوا كفراً.
الثاني: أن نعلم أن هذا الكفر صريح ليس فيه تأويل، ولا يحتمل التأويل، صريح ظاهر واضح؛ لأن الصريح كما جاء في الحديث هو الشيء الظاهر البين العالي، كما قال الله تعالى عن فرعون أنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36، 37] فلا بد أن يكون صريحاً، أما ما يحتمل التأويل، فإنه لا يسوِّغ الخروج عن الإيمان.
الثالث: أن يكون عندنا فيه من الله برهان ودليل قاطع مثل الشمس أن هذا كفر، فلا بد إذن أن نعلم أنه كفر، وأن نعلم أن مرتكبه كافر لعدم التأويل، كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان» (1) وقالوا: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة (2) ، أي: ما داموا يصلون.
__________
(1) أخرجه البخاري في الفتن/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم سترون بعدي أموراً تنكرونها (7056) ؛ ومسلم في المغازي/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1709) (42) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في المغازي/ باب خيار الأئمة وشرارهم (1855) عن عوف بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.(11/323)
الرابع: القدرة على إزالته، أما إذا علمنا أننا لا نزيله إلا بقتال، تُراقُ فيه الدماء وتستباح فيه الحرمات، فلا يجوز أن نتكلم أبداً، ولكن نسأل الله أن يهديه أو يزيله؛ لأننا لو فعلنا وليس عندنا قدرة، فهل يمكن أن يتزحزح هذا الوالي الكافر عما هو عليه؟ لا، بل لا يزداد إلا تمسكاً بما هو عليه، وما أكثر الذين يناصرونه، إذاً يكون سعينا بالخروج عليه مفسدة عظيمة، لا يزول بها الباطل بل يقوى بها الباطل، ويكون الإثم علينا، فنحن الذين وضعنا رقابنا تحت سيوفه، ولا أحد أحكم من الله، ولم يفرض القتال على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ إلا حين كان لهم دولة مستقلة، وإلا فإنهم كانوا يهانون في مكة، الذي يحبس، والذي يقتل، والذي توضع عليه الحجارة المحماة على بطنه، ومحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجع من الطائف، يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه (1) ، ولم يؤمر بالقتال؛ لأن الله حكيم؛ ولذلك مع الأسف الشديد لا تجد أحداً عصى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وخرج على الإمام بما للإمام فيه شبهة، إلا ندم وكان ضرراً على شعبه، ولم يزل الإمام، ولا أريد بالإمام الإمام الأعظم؛ لأن الإمام الأعظم ذهب من زمان، لكن إمام كل قوم من له سلطة عليهم.
المهم إذا خرج الوارث مع الإمام يقاتل البغاة فقتل مورثه فإنه يرث؛ لأنه قاتَلَهُ وَقَتَلَهُ بحق، قال الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] .
__________
(1) انظر: «عيون الأثر» لابن سيد الناس (1/232) .(11/324)
أَوْ صِيَالَةٍ أَوْ حِرَابَةٍ أَوْ شَهَادَةِ وَارِثِهِ، أَوْ قَتَلَ العَادِلُ البَاغِيَ وَعَكْسُهُ وَرِثَهُ، وَلاَ يَرِثُ الرَّقِيقُ وَلاَ يُورَثُ،........
قوله: «أو صيالة» ، هذا مورث صال على وارثه ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله، يدافع بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يمكن دفاعه إلا بالقتل فقتله فإنه يرث؛ لأن الصائل لا حرمة له.
قوله: «أو حرابة» ، الحرابة يعني المحاربين الذين يتعرضون للناس بالسلاح في الصحراء، أو في البنيان ويغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة، ويُسمَّوْن قطاع الطريق، فإذا قتلهم فإنه يرث إذا كان وارثاً.
قوله: «أو شهادة وارثه» ، يعني الوارث شهد بحق أن هذا قاتِلُ هذا، وكان القاتل مورثاً للشاهد فإنه يرث؛ لأن الشاهد قام بحق واجب عليه.
قوله: «أو قتل العادلُ الباغيَ وعكسه ورثه» ، الفرق بينهما أن العادل مدافع والباغي مهاجم، فإذا كان هناك بغاة خرجوا على الإمام، وقتل العادلُ الباغيَ أو بالعكس، فيقول المؤلف: إنه يرثه، وقيل: إن قتل الباغي العادلَ فإنه لا يرث؛ لأنه ليس بحق، وهو الراجح.
قوله: «ولا يرث الرقيق ولا يورث» ، والدليل سبق لنا في أول الفرائض أن الله ـ تعالى ـ جعل الميراث ملكاً للوارث، والرقيق لا يملك، فلا يرث ولا يورث؛ لأنه لا مال له، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه» (1) ، فهو لا يملك، وإذا كان لا يملك، فماذا يورث منه؟!
__________
(1) سبق تخريجه ص (164) .(11/325)
وَيَرِثُ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَيُورَثُ، ويَحْجِبُ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِن الحُرِّيَّةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْداً فَلَهُ عَلَيْهِ الوَلاَءُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، وَلاَ يَرِثُ النِّسَاءُ بِالوَلاَءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَهُ مَنْ أَعْتَقْنَ.
قوله: «ويرث من بعضه حر ويورث ويَحْجب بقدر ما فيه من الحرية» إذا كان بعضه حراً وبعضه رقيقاً فالحكم يدور مع علته، فيرث بالحرية ولا يرث بالرق؛ وذلك لأن القاعدة الشرعية أن ما ثبت بسبب تبعض بتبعض ذلك السبب، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، لكن كيف يكون الرقيق مبعضاً، بعضه حر وبعضه عبد؟ مثال ذلك: عبد بين شركاء أعتق أحد الشركاء نصيبه منه، إن كان المعتِق غنياً انسحب العتق على جميع العتيق، وألزم هذا المعتِق بأن يغرم قيمة أنصباء شركائه، كعبد بين شركاء عشرة، وهو يساوي عشرة آلاف ريال، أعتق هذا الرجل نصيبه وهو واحد من عشرة، فيسري العتق إلى جميع العبد ويغرم لشركائه تسعة آلاف ريال، فإن قال: لا أجد شيئاً، فالمذهب أنه يعتق عشر العبد ويبقى تسعة أعشاره رقيقاً.
والقول الثاني: أننا ننتقل إلى المرحلة الثانية، وهي أن نقول للعبد: تكسب ببيع أو شراء أو عمل أو ما أشبه ذلك، حتى تؤدي لأسيادك قيمة أنصبائهم، فإذا قال العبد: لا أقدر، قلنا: عتق منك العشر، وحينئذٍ صار مبعضاً، فيرث ويورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية.
قوله: «ومن أعتق عبداً فله عليه الولاء» دليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الولاء لمن أعتق» (1) ، وظاهر كلام المؤلف
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترط في البيع شروطاً لا تحل (2168) ؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(11/326)
سواء أعتقه تطوعاً، أو أعتقه في زكاة، أو أعتقه في كفارة، فالولاء له.
مثال التطوع: رجل اشترى رقيقاً وقال له: أنت حر، فلا إشكال في كون الولاء للمعتِق في هذه الصورة.
مثال الزكاة: من مصارف الزكاة الرقاب، لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ، ومن صور ذلك أن يشتري من الزكاة عبداً فيعتقه، فله عليه الولاء، فلو أن هذا العبد اتجر وأغناه الله وصار عنده أموال كثيرة ثم مات، وليس له عصبة فعاصبه المعتِق.
مثال الكفارة: إنسان عليه عتق رقبة كفارة، كرجل ظاهر من زوجته، أو جامعها في رمضان، فأول ما يجب عليه أن يعتق رقبة، فإن أعتق رقبة في الكفارة فالولاء له.
وقال بعض أهل العلم: الولاء في غير التطوع يكون للجهة التي أعتقه من أجلها، فمثلاً إذا أعتقه من الزكاة يكون ولاؤه لأهل الزكاة، الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وإذا أعتقه في كفارة يكون ولاؤه للفقراء؛ لأنهم مصرف للكفارات، لكن المشهور من المذهب أن كل من أعتق عبداً فله ولاؤه، ولهذا قال المؤلف: «فله عليه الولاء» ، واستدلوا بعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الولاء لمن أعتق» (1) .
قوله: «وإن اختلف دينهما» ، أي: فالولاء ثابت.
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(11/327)
وقوله: «وإن» هذا إشارة خلاف، فالمؤلف يريد أنه يرث ولو مع اختلاف الدين.
والقول الثاني: أنه لا توارث بينهما وإن ثبت الولاء؛ من أجل اختلاف الدين، وهذا القول هو الراجح أن الولاء ثابت ولكن لا توارث بينهما، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) ، فقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «وإن اختلف دينهما» يريد أنه يرث ولو مع اختلاف الدين، ونحن لا نوافقه على ذلك؛ لأن لدينا دليلاً واضحاً صريحاً، لكن هل نوافقه على ثبوت الولاء؟ نعم؛ لأن الولاء ثابت، وهو لحمة كلحمة النسب.
قوله: «ولا يرث النساء بالولاء إلا من أعتقْنَ أو أعتَقَه من أعتقن» ، المرأة لا ترث بالولاء إلا من أعتَقَتْ أو أعتقه من أعتَقَتْ، فلا ترث بالولاء بواسطة النسب، مثال ذلك: ذكر وأنثى اشتريا أباهما ثم عتق عليهما، ثم إن الأب اشترى عبداً فأعتقه، فيرثان أباهما ميراث نسب؛ لأن النسب مقدم، فمثلاً البنت بذلت في قيمة والدها عشرة آلاف والابن بذل خمسة آلاف، يعني بذلت الضعفين فمات الأب، كيف يرثانه؟ للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو قالت: أنا بذلت أكثر من أخي في شراء والدي، قلنا: النسب مقدم على الولاء، أما بالنسبة لعتيق الأب إذا مات، فمن يرثه؟ يرثه الابن؛ لأن ميراث البنت والابن في الأول ميراث نسب، ليس ميراث ولاء، وعليه فيرثه الابن ولا ترثه البنت؛ لأن النساء
__________
(1) سبق تخريجه ص (302) .(11/328)
لا يرثن بالولاء، إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن، هكذا عند الفقهاء، والمسألة تحتاج إلى تحرير وبحث؛ لأنه قد يقال: لماذا لا ترث بالولاء، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الولاء لحمة كلحمة النسب» ؟ (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (246) .(11/329)
كِتَابُ العِتْقِ
جعل الفقهاء العتق بعد المعاملات المالية مباشرة؛ لأن فيه شائبة مال، فإن العتق هو تخليص الرقبة من الرق، والرقيق مال؛ فلهذا ضمّوه إلى المعاملات المالية قبل أن تأتي المعاملات الشخصية، ومن العلماء من جعل باب العتق في آخر الفقه بعد الإقرار، والإقرار جعلوه في الصلح أو في مكان آخر، ولكل وجهة، أما الذين جعلوا آخر الفقه كتاب الإقرار، قالوا: تفاؤلاً بالإقرار بالشهادة عند الموت الذي هو آخر عمل الإنسان، والذين جعلوا العتق آخر الفقه، قالوا: تفاؤلاً بأن يعتق الله الإنسان من النار، لكن الفقهاء المتأخرين لاحظوا المعنى الأول أن العتق فيه شائبة مالية، فألحقوه بالمعاملات.
العتق في اللغة: القِدَم، ومن قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] .
واصطلاحاً: تخليص الرقبة من الرق.
يعني إنسان عنده عبد مملوك فأعتقه، أي: حرره من الرق.
ويحصل العتق بأمور، منها:
أولاً: الصيغة القولية، وهي نوعان: صريح، وكناية، فالصريح ما لا يحتمل غير المراد، مثل أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر، وما أشبه ذلك.
الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، مثل أن يقول: لا سبيل لي عليك، أنت طليق في الهواء، وما أشبه ذلك.(11/330)
والفرق بين الصريح والكناية من حيث الحكم، أن الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية تحتاج إلى نية؛ لأن الكناية كل لفظ يحتمل المعنى المراد وغيره، فإذا كان كذلك فإنه لا يكون للمعنى المراد إلا بالنية، فإذا قال السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، اذهب، فيحتمل أن المعنى لا سبيل لي عليك في هذا المذهب الذي قلت لك فيه: اذهب، ويحتمل لا سبيل لي عليك مطلقاً، يعني فأنت حر.
ثانياً: القوة وهي السراية، فإذا أعتق نصف العبد سرى العتق إلى جميعه بالقوة حتى وإن لم يرده، فلو أن إنساناً عنده عبد فقال: عشرك حر، يعتق كله، أو: إصبعك حر، يسري العتق إليه كله، فلا يتبعض العتق، بل لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد وله شركاء سرى إلى نصيب شركائه، مع أنه لا يملكه، لكن يسري بالقوة ويعطي شركاءه قيمة أنصبائهم، هكذا جاء الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ، هذا إذا كان عنده ثمن الشركاء، أما إذا لم يكن عنده، فهذا فيه قولان للعلماء:
القول الأول: أنه لا يسري العتق؛ لأنه لو سرى لكان في ذلك ضرر على الشركاء؛ لأنه فوَّت العبد عليهم، فيبقى ملكهم على ما هو عليه، ويكون هذا العبد مبعضاً، جزء منه حر والباقي رقيق.
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق/ باب إذا أعتق عبداً بين اثنين (2522) ؛ ومسلم في العتق/ باب من أعتق شركاً له في عبد (1501) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ. ولفظه: «من أعتق شركاً له في عبد فكان له ما يبلغ ثمن العبد قوم قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق» .(11/331)
القول الثاني: يُستسعى العبد، فيقال له: اذهب، اتجر، اعمل، ثم اردد ما يحصل لك على أسيادك الآخرين حتى ينتهي، فإن قال أسياده: نحن لا نريد أن يعتق بل يبقى، قلنا: قهراً عليكم أن يستسعى ويوفي أسياده.
ثالثاً: ملك ذي الرحم (1) ، وضابطه أن يملك مَنْ لو كان أنثى لحرم عليه بنسب أن يتزوجه، فإنه لو ملك أباه يعتق عليه، ولو لم يكن عنده مال إلا قيمة أبيه، وكذلك لو ملك أخاه فإنه يعتق عليه، وكذلك عمته تعتق؛ لأنه لا يمكن أن يتزوج بها، أما ابنة عمه فإنها لا تعتق؛ لأنه يحل أن يتزوج بها، ولو ملك من لو كان أنثى لحرم عليه برضاع لم يعتق، وهذا مما يفرق فيه بين الرضاع والنسب.
رابعاً: التمثيل،، يعني أنه يمثل بعبده، فإذا مثل به عتق عليه (2) ، كإنسان عنده عبد فحل وخاف على أهله منه فخصاه
__________
(1) لما أخرجه الإمام أحمد (5/18) ؛ وأبو داود في العتق/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (3949) ؛ والترمذي في الأحكام/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (1365) ؛ وابن ماجه في الأحكام/ باب من ملك ذا رحم محرم (2524) عن سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ ولفظه: «من ملك ذا رحم مَحْرَمٍ فهو حر» . قال الحافظ في البلوغ (1425) : «ورجح جمع من الحفاظ أنه موقوف» .
انظر: التلخيص (2149) ، ونصب الراية (3/278) .
(2) أخرجه أبو داود في الديات/ باب من قتل عبده أو مثل به ... (4515) ؛ وابن ماجه في الديات/ باب من مثل بعبده فهو حر (2680) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ، ولفظه: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم صارخاً، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك؟ قال: سيدي رآني أقبِّل جارية له فجبَّ مذاكيري، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذهب، فأنت حر» .(11/332)
ـ أي: قطع خصيتيه ـ فإنه يعتق عليه، ولو أنه غضب على عبده فقطع شحمة أذنه فإنه يعتق، ولكن لو قلم أظافره فإنه لا يعتق؛ لأن هذا ليس تمثيلاً.
وإنما جعل الشرع العتق يحصل بأدنى سبب حرصاً منه على تحرير الرقاب، وبه تندفع الشبهة التي يوردها الكفار على الإسلام في مسألة الرق؛ لأننا نقول: إن الإسلام ضَيَّقَ سبب الملك في الرق، إذ ليس هناك سبب للرق إلا الكفر، ووسَّع جداً أسباب الحرية، وما يندب إلى الحرية، وجعل العتق في الكفارات، وقربة من القربات من أفضل الأعمال، فضيق جداً نطاق الرق من وجوه منها:
أولاً: أن سببه واحد.
ثانياً: أنه فتح أبواباً كثيرة تكون سبباً للعتق، باختيار المرء مثل الكفارات، وبغير اختياره كالسراية والتمثيل.
وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ القُرَبِ، وَيُسْتَحَبُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ كَسْبٌ، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ العِتْقِ بِمَوْتٍ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ.
قوله: «وهو من أفضل القُرَب» ، «من» للتبعيض فليس أفضل القرب ولكن من أفضلها؛ لأن من أعتق عبداً أعتق الله من هذا المعتِق كل عضو من النار، حتى الفرج بالفرج (1) ، ولا يعني قولنا: إنه من أفضل القرب أن يكون مشروعاً بكل حال، ولذا قال المؤلف:
__________
(1) لما أخرجه البخاري في كفارات الأيمان/ باب قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (6715) ؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509) (22) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. ولفظه: «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه» .(11/333)
«ويستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه» ، فالذي ليس له كسب لا يستحب عتقه؛ لأننا نجعله عالة على نفسه وعالة على غيره، ومن باب أولى إذا كان هذا العبد معروفاً بالشر والفساد فإننا نقول: لا تعتقه؛ لأنك إذا أعتقته ذهب يفسد في الأرض، وكذلك لو كان إذا أعتق هرب إلى الكفار، وصار علينا فإننا لا نعتقه، فالمهم أن كون العتق من أفضل القربات مقيد بما إذا لم يترتب عليه مفسدة، فإن ترتب عليه مفسدة فإنه ليس من القربات فضلاً عن أن يكون من أفضلها.
قوله: «ويصح تعليق العِتق بموتٍ وهو التدبير» ، التدبير: مأخوذ من دبر الحياة أي ما بعدها، وهو تعليق العتق بالموت، سمي تدبيراً؛ لأنه ينفذ في دبر الحياة، ولا شك أنه صحيح؛ لأنه ثبتت به السنة، فإن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، وكان عليه دين، فباعه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأوفى دينه (1) ، وليس عتق التدبير كعتق الحياة؛ لأن عتق التدبير يكون بعد الموت، بعد أن خرج الإنسان من الدنيا، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر، ولا تمهل ـ أي: تؤخر ـ حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا ـ يعني أوصيت ـ وقد كان لفلان (2) ، أي: الوارث، فالعتق بالتدبير أقل أجراً من العتق في حال الحياة، والعتق في
__________
(1) سبق تخريجه ص (58) .
(2) سبق تخريجه ص (102) .(11/334)
مرض الموت أقل من العتق في الصحة، فإذا قال الإنسان لعبده: أنت حر بعد موتي صح، فإذا مات عتق، ولكن لا يعتق إلا بعد الدَّين ومن الثلث فأقل، فحكمه حكم الوصية فلا يعتق مطلقاً، فإذا مات السيد والعبد مدبر، قيمته عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ عشرة آلاف ريال، فإن العبد لا يعتق؛ لأن الدين مقدم عليه، ولهذا باع النبي صلّى الله عليه وسلّم العبد المدبر لقضاء دين سيده (1) ، وإذا دبر سيدٌ عبده وقيمة العبد عشرة آلاف ريال، وعليه دين يبلغ خمسة آلاف ريال، وليس له سوى هذا العبد، فنصفه للدين ويعتق ثلث النصف الباقي، أي: سدس جميعه، والباقي للورثة، فيباع العبد على أن سدسه حر، فيوفى الدين، والباقي من الثَّمَن يكون ثلثه للعبد؛ لأنه كَسَبَه بجزئه الحر، والباقي للورثة.
ولو دبر عبداً وقيمته عشرة آلاف ريال، وليس عنده إلا خمسة آلاف ريال، فالجميع خمسة عشر ألفاً، فثلثها خمسة ـ آلاف وهو نصف قيمة العبد ـ فيعتق نصفه، وفي هذه الحال يستسعى العبد ـ على قول بعض العلماء ـ حتى يتحرر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (58) .(11/335)
بَابُ الكِتَابَةِ
وَهِيَ بَيْعُ عَبْدِهِ نَفْسَهُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَتُسَنُّ مَعَ أَمَانَةِ العَبْدِ وَكَسْبِهِ وَتُكْرَهُ مَعَ عَدَمِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ المُكَاتَبِ، وَمُشْتَريِهِ يَقُومُ مَقَامَ مُكَاتِبِهِ فَإِنْ أَدَّى لَهُ عَتَقَ، وَوَلاؤُهُ لَهُ وَإِنْ عَجَزَ عَادَ قِنّاً.
الكتابة: اسم مصدر كتب يكتب كتباً وكتابة، وهي مأخوذة من الكتب، وهي أن يشتري العبد نفسه من سيده، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، وسميت بذلك؛ لأن الغالب ألا تقع إلا بمكاتبة بين السيد والعبد.
قوله: «وهي بيع عبدِهِ نفسَه» ، لو قال المؤلف: شراء العبد نفسه من سيده، لكان أوضح وأخصر.
فقوله: «بيع» مصدر مضاف إلى المفعول به؛ لأن البائع ليس العبدَ بل السيد، والعبد مشترٍ، «ونفسَه» مفعول ثانٍ، أو منصوب بنزع الخافض.
قوله: «بمالٍ مؤجلٍ» ، لا بد أن يكون المال مؤجلاً فلا تصح بمال حال؛ لأن العبد ليس عنده مال ولو ملَّكه أحد مالاً فماله لسيده، ولو قال قائل: العبد ليس عنده مال، ولكن لو فرض أن أحداً من الناس قال له: اشترِ نفسك من سيدك، وأنا أعطيك المال نقداً، ولهذا إن أراد المؤلف أنه لا بد من التأجيل فهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد تكون القضية كقضية بريرة مع عائشة ـ رضي الله عنهما ـ فإن بريرة كاتبت أهلها على تسع أواقٍ، ثم جاءت تستعين عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فقالت: «إن أراد أهلك(11/336)
أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت» (1) ، فهذا دليل على أن الكتابة يجوز أن تكون بحالٍ إذا كان من غير العبد، أما من العبد فهذا متعذر؛ لأنه لا يملك.
قوله: «في ذمته» ، أي: ذمة العبد؛ لأنه لا يمكن أن تقع على عين إذ إنه ليس له مال، فصار لا بد أن يكون مؤجلاً في الذمة.
ثم بيَّن المؤلف حكم الكتابة فقال:
«وتسن مع أمانة العبد وكسبه» ، أفادنا المؤلف أن الكتابة سنَّة إذا كان العبد أميناً قادراً على التكسب، فإن لم يكن أميناً، بأن كان يخشى من عتقه أن يذهب إلى الكفار، ويكون معهم على المسلمين، أو خشي أنه إذا عتق سعى في الأرض فساداً، فهنا لا تسن الكتابة؛ لأنه ليس بأمين، ولأن العتق هنا يفضي إلى شر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
ويشترط ـ أيضاً ـ قدرته على التكسب، فإن كان عاجزاً عن التكسب كما لو كان زَمِناً، أي: لا يستطيع أن يكتسب ولا يسعى، فهنا لا تسن الكتابة، ودليل هذا قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، قال المفسرون: أي صلاحاً في دينهم وكسباً.
وقوله: «تسن» ، هذه المسألة فيها خلاف، إذا علم السيد في عبده خيراً وطلب منه العبد الكتابة، فالمؤلف يرى أن كتابته سنة، ودليل ذلك أن الله أمر به فقال: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، وتعليل كون الأمر للندب لا للوجوب أن العبد ملك للسيد، ولا يجبر الإنسان على إزالة ملكه إلا إذا تعلق به حق الآدمي.
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(11/337)
وقال بعض العلماء ومنهم الظاهرية: إنَّ الكتابة تجب إذا طلبها العبد بهذا الشرط: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، قالوا: لأن الأصل في الأمر الوجوب؛ ولأن في هذا تكثيراً للأحرار، والشارع له تشوُّف إلى الحرية حتى إن العبد يعتق بالتمثيل، ويعتق بالسراية.
وأما الجواب عن قوله: إن الإنسان لا يجبر على إزالة ملكه إلا إذا كان لآدمي، فيقال: بل قد يجبر ولو لغير آدمي، كما في الزكاة يجب أن يخرجها الإنسان من ملكه بأمر الله ـ عزّ وجل ـ، وهذا القول قوي جداً، أي: وجوب إجابة العبد إلى الكتابة إذا طلبها، بشرط أن نعلم فيه خيراً.
قوله: «وتكره مع عدمه» أي عدم الخير، يعني تكره إذا كان يخشى منه الشر والفساد، أو إذا لم يكن ذا كسب؛ لأنه إذا أعتق وليس ذا كسب صار كَلًّا على نفسه وعلى غيره.
قوله: «ويجوز بيع المكاتب، ومشتريه يقوم مقام مكاتِبِه» ، يعني لو أن الرجل كاتبه عبده وأراد أن يبيعه هل يجوز؟ الجواب نعم، يجوز، ودليل ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة بريرة أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ اشترتها من أهلها، فأجازها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأقرها على ذلك، بل أذن لها باللفظ قال: «خذيها واشترطي لهم الولاء» (1) ، فبيع المكاتب يجوز، ولكن هل يملك السيد الثاني أن
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(11/338)
يبطل كتابته؟ الجواب: لا؛ لأن سبب العتق قد انعقد، فلا يملك مشتريه إبطال الكتابة، لكن العبد يبقى على كتابته فيقوم مشتريه مقام مكاتبه الأول، ويبقى العبد عند المشتري بصفة مكاتب، لكن لو أن العبد رغب أن يبقى عبداً عند المشتري، يعني أن المشتري رجل طيب ينتفع به العبد، فرغب أن يكون عند المشتري عبداً، ماذا يعمل؟ قال العلماء: يمكن ألا يؤدي النجوم التي عليه، أي: لا يؤدي القيمة التي اتفق عليها مع سيده الأول، وإذا عجز عاد قِنًّا كما قال المؤلف:
«فإن أدى له عتق» جبراً على الثاني؛ لأن الثاني لا يملك فسخ الكتابة، كما أن الأول كذلك لا يملك فسخها؛ لأن الكتابة عقد جائز من جهة العبد لازم من جهة السيد.
قوله: «وولاؤه له» أي للمشتري، فإن اشترط السيد الأول أن يكون الولاء له، لا للمشتري الثاني، فهل يصح؟
الجواب: لا يصح، ولو رضي الثاني، والدليل أن بريرة جاءت تستعين عائشة ـ رضي الله عنهما ـ في كتابتها، فقالت: إن أحب أهلك أن أعد لهم ما اتفقتم عليه تسع أواق فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت بريرة إلى أهلها وقالت لهم، قالوا: لا، إلا أن يكون الولاء لنا، فجاءت فأخبرت عائشة، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندها فقال لها: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق» (1) ، يعني وإن اشترطوا أن الولاء لهم فإنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(11/339)
لا يصح الشرط، إذاً يكون ولاؤه للثاني لا للأول، ولهذا يقول: «وولاؤه له» .
قوله: «وإن عجز» أي: عن الأداء، وهذا مقابل قوله: «فإن أدى» .
قوله: «عاد قناً» يعني رجع عبداً.(11/340)
بَابُ أَحْكَامِ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ
إِذَا أَوْلَدَ حُرٌّ أَمَتَهُ، أَوْ أَمَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ، أَوْ أَمَةً لِوَلَدِهِ خُلِقَ وَلَدُهُ حُرّاً، حَيّاً وُلِدَ أَوْ مَيِّتَاً قَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الإِنْسَانِ لا مُضْغَةٍ أَوْ جِسْمٍ بِلا تَخْطِيطٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، تَعتِقُ بِمَوْتِهِ مِنْ كُلِّ مَالِهِ،..........
قوله: «أمهات الأولاد» يقال: أمهات في بني آدم، وأُمَّات في الحيوان، تقول: أمات السخال ولا تقل: أمهات، وإنما يقال: أمهات في بني آدم، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
وقوله: «أمهات الأولاد» ، يراد بأمهات الأولاد مَنْ أتت من سيدها بولد ـ كما سيأتي ـ لكن بشروط.
قوله: «إذا أولد حر أمته» صارت أم ولد بالشروط المذكورة.
وقوله: «حر» احترازاً من العبد، فالعبد لا يملك حتى لو مُلِّك فإنه لا يملك على المشهور من المذهب، وكذلك ـ أيضاً ـ احترازاً من المكاتَب، فالمكاتَب عبد، فلو أولد أمته التي اشتراها ليتكسب بها إن صح أن يجامعها فإنها لا تكون أم ولد، إنما إذا أولد الحر أمته.
قوله: «أو أمة له ولغيره» ، أما أمته فظاهر، أما الأمة له ولغيره أي المشتركة، فلا يجوز للشريك أن يجامعها، لا بملك اليمين؛ لأنه لم يتمحض الملك له، ولا بالنكاح؛ لأن المالك لا يتزوج المملوكة، وهذا له ملك فيها، لكن يمكن أن يكون ذلك بوطء شبهة، يعني وجد امرأة نائمة على فراش زوجته فجامعها، فإذا هي الأمة المشتركة.
قوله: «أو أمة لولده» ، إذا أولد أمة لولده صارت أم ولد، والمؤلف أطلق، فيقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الولد وطئها أو(11/341)
لا، وفي هذا نظر؛ لأن الولد إذا وطئها صارت من حلائله فلا تحل للأب، كما أن القول الراجح أنه لا يحل للأب أن يطأ أمة ولده إلا بعد أن ينوي التملك، أما أن يطأها ونيته أنها باقية في ملك الولد، فهذا حرام؛ لأن الله قال: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] ، لكن لنقل: إنه جامع أمة ولده بشبهة، فإنها تكون أم ولد.
إذا قال قائل: لماذا تكون أم ولد وليست ملكاً له حتى ولو بشبهة؟ قالوا: لأن الوالد له أن يتملك من مال ولده ما شاء، فلما صار له أن يتملك صارت كأنها مملوكة.
قوله: «خلق ولده حراً» يعني حال كون الولد قد خلق حراً، احترازاً مما لو تزوج أمة وجامعها وحملت ثم اشتراها، فهنا لا تكون أم ولد؛ لأن الولد الذي في بطنها لم يخلق حراً إنما خلق عبداً لسيدها، فلا بد أن يكون الولد قد خلق حراً، أي: نشأت به وهي في ملك السيد الذي وطِئها.
قوله: «حياً ولد أو ميتاً قد تبين فيه خلق الإنسان» يعني إذا ولدت ولو ميتاً أو حياً فإنه لا بد أن يتبين فيه خلق إنسان، يتبين فيه اليدان والرجلان والرأس، وهذا إنما يكون بعد بلوغ الحمل ثمانين يوماً، أما قبل ذلك فلا يمكن أن يُخَلَّق؛ لأن الجنين في بطن أمه يكون في الأربعين الأولى نطفة، وفي الثانية علقة، ثم في الثالثة يكون مضغة مخلقة وغير مخلقة، إذاً لا يمكن أن يبدأ التخطيط إلا بعد الثمانين، فبعد الثمانين يمكن أن يخلق، وفي التسعين الغالب أنه مخلَّقٌ.(11/342)
قوله: «لا مضغةٍ» يعني لا بإلقاء مضغة.
قوله: «أو جسمٍ بلا تخطيط» ، فإذا ألقت مضغة أو علقة فإنها لا تكون أم ولد؛ لأنه لم يتبين فيه خلق إنسان.
واعلم أن أحكام الجنين تتنوع، فمنها ما يتعلق بكونه نطفة، ومنها ما يتعلق بكونه علقة، ومنها ما يتعلق بكونه مخلَّقاً، ومنها ما يتعلق بنفخ الروح فيه، ومنها ما يتعلق بوضعه حياً، هذه خمسة أحكام:
الأول: يتعلق بكونه نطفة أنه يجوز إلقاؤه عند الحاجة، وإن لم يكن هناك ضرورة.
الثاني: يتعلق بكونه علقة أنه لا يجوز إلقاؤه إلا للضرورة.
الثالث: يتعلق بكونه مضغة مخلقة أنه يترتب عليه النفاس، فالمرأة إذا وضعت الحمل قبل أن يتبيَّن فيه خلق إنسان فإن الدم الذي يخرج ليس دم نفاس.
الرابع: يتعلق بنفخ الروح، فيه الصلاة عليه، وتكفينه، وتغسيله، ودفنه مع المسلمين، وتسميته، وكذلك العقيقة عنه.
الخامس: يتعلق بخروجه حياً الإرث؛ لأنه لا يرث حتى يخرج حياً كما هو معروف.
قوله: «صارت أم ولد له» ، «صارت» جواب «إذا» ، يعني إذا أولد حُرٌّ أمَتَه بهذه الشروط صارت أم ولد له، أي: للمُولد.
قوله: «تعتق بموته من كل ماله» ، يعني تعتق عتقاً قهرياً على(11/343)
الورثة من كل ماله، أي: أنها مقدمة على كل شيء، حتى على الدَّيْن والوصية، والميراث من باب أولى، والفرق بينها وبين التدبير أن التدبير يعتق من الثلث كالوصية، أما هذه فمن كل المال.
وَأَحْكَامُ أُمِّ الوَلَدِ أَحْكَامُ الأَمَةِ، مِنْ وَطْءٍ وَخِدْمَةٍ وَإِجَارَةٍ وَنَحْوِهِ، لاَ فِي نَقْلِ المُلْكِ فِي رَقَبَتِهَا، وَلاَ بِمَا يُرَادُ لَهُ كَوَقْفٍ وَبَيْعٍ وَرَهْنٍ وَنَحْوِهَا.
قوله: «وأحكام أم الولد أحكام الأمة، من وطء وخدمةٍ وإجارةٍ ونحوه، لا في نقل الملك في رقبتها، ولا بما يراد له كوقف وبيع ورهن ونحوها» .
ذكر المؤلف ثلاثة أحكام، فما يتعلق بالمنفعة جائز، مثل الوطء والخدمة والإجارة والإعارة وما أشبهها، وما يتعلق بنقل الملك فإنه ليس بجائز؛ لأن هذا يؤدي إلى بطلان حريتها، وما يراد لنقل الملك كالرهن فإنه أيضاً لا يجوز؛ لأن الغاية منه نقل الملك.
انتهى بحمد الله تعالى المجلد الحادي عشر
ويليه بمشيئة الله عزّ وجل المجلد الثاني عشر
وأوله كتاب النكاح(11/344)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الثاني عشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1427هـ(12/)
كِتَابُ النِّكَاحِ
قوله: «النكاح» النكاح في اللغة يطلق على أمرين:
الأول: العقد.
الثاني: الجماع.
والأصل فيه الأول، وأنه للعقد، فقول الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] يعني لا تعقدوا عليهن، وأما قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فهنا قال بعض العلماء: المراد بالنكاح الجماع، وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو السُّنَّة، وقال آخرون: وأن الذي حرَّفه عن المعنى الأول هو قوله: {زَوْجًا} لأن الزوج لا يكون زوجاً إلا بعقد، وحينئذٍ يتعين أن يكون المراد بالنكاح في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا} الوطء، ومعنى ذلك أن الزوجية سابقة على النكاح، ولا تكون زوجية سابقة على النكاح إلا إذا كان النكاح هو الوطء.
فإذا قيل: نكح بنت فلان، فالمراد عقد عليها، وإذا قيل: نكح زوجته، فالمراد جامعها.
فهو إذاً مشترك بين المعنيين بحسب ما يضاف إليه، إن أضيف إلى أجنبية فهو العقد، وإن أضيف إلى مباحة فهو الجماع.
أما في الشرع فهو أن يعقد على امرأة بقصد الاستمتاع بها، وحصول الولد، وغير ذلك من مصالح النكاح.(12/5)
وقد ذكر الفقهاء أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة، تارة يجب، وتارة يُستحب، وتارة يُباح، وتارة يُكره، وتارة يَحْرُم.
وَهُوَ سُنَّةٌ،.............
قوله: «وهو سنة» ، هذا هو الأصل في حكمه، وذلك لحث النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه، ولما فيه من المصالح العظيمة التي ستتبين فيما بعد.
وقوله: «وهو سنة» ، دليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (1) ، والمراد بالباءة النكاح بحيث يكون عنده قوة بدنية وقدرة مالية، إلا أنه سيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة.
وهو ـ أيضاً ـ من سنن المرسلين لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] ، وقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وقال ـ عزّ وجل ـ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، ولأن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: لو أذن لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاختصينا، ولكن نهانا عن التبتل (2) ، يعني ترك النكاح؛ وذلك لما في النكاح من المصالح الكثيرة التي من
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب من لم يستطع الباءة فليصم (5066) ؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في النكاح/ باب ما يكره من التبتل والخصاء (5073) ، ومسلم في النكاح/ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ... (1402) عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، ولفظه: «رد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا» .(12/6)
أجلها صار سنة، ولأنه من ضرورة بقاء الأمة؛ لأنه لولا النكاح ما حصل التوالد، ولولا التوالد ما بقيت الأمة، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، والشيء قد يكون مطلوباً وإن لم ينص على طلبه لما يترتب عليه من المصالح والمنافع العظيمة.
وَفِعْلُهُ مَعَ الشَّهْوَةِ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافُ زِنًا بِتَرْكِهِ،........
قوله: «وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة» ، وليس أفضل من واجباتها؛ لأن الواجب مقدم على السنة لقوله تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» (1) ، لكن النوافل هو أفضل منها، فالنكاح إذا كان لدى الإنسان شهوة، وعنده مال يستطيع به القيام بواجب النكاح فإنه أفضل من نوافل العبادة.
فلو قال قائل: هل تفضلون أن أبقى أتعبَّد في المسجد بالصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، أو أن أتزوج؟
قلنا له: ما دُمْتَ ذا شهوة وعندك ما تقوم به بواجبات النكاح فإن الأفضل أن تتزوج؛ لأن فيه من المصالح العظيمة ما يربو على نوافل العبادة.
قوله: «ويجب على من يخاف زناً بتركه» ، هذا هو الحكم الثاني للنكاح، وهو الوجوب على من يخاف زنا بتركه؛ وذلك لشدة شهوته، ولتيسر الزنا في بلده؛ لأن الإنسان ربما تشتد به الشهوة ويخشى أن يزني، لكن لا يتيسر له؛ لأن البلد محفوظ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق/ باب التواضع (6502) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(12/7)
لكن مراده إذا اشتدت شهوته في بلد يتيسر فيه الزنا، أما إذا لم يتيسر فهو وإن اشتدت به الشهوة لا يمكن أن يزني، فإذا خاف الزنا لوجود أسبابه وانتفاء موانعه، صار النكاح في حقه واجباً دفعاً لهذه المفسدة؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقال بعض أهل العلم: إنه واجب مطلقاً، وأن الأصل فيه الوجوب؛ لأن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» ، اللام للأمر، والأصل في الأمر الوجوب، إلا أن يوجد ما يصرفه عن الوجوب، ولأن تركه مع القدرة عليه فيه تشبه بالنصارى الذين يعزفون عن النكاح رهبانيةً، والتشبه بغير المسلمين محرم، ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة واندفاع المفاسد الكثيرة، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ولكن لا بد من شرط على هذا القول وهو الاستطاعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قيد ذلك بالاستطاعة فقال: «من استطاع منكم الباءة» ، ولأن القاعدة العامة في كل واجب أن من شرطه الاستطاعة.
والقول بالوجوب عندي أقرب، وأن الإنسان الذي له شهوة، ويستطيع أن يتزوج فإنه يجب عليه النكاح، ولكن المشهور من المذهب هو ما ذكره المؤلف.
ومتى يباح؟ يباح لمن لا شهوة له إذا كان غنياً؛ لأنه ليس هناك سبب يوجب، ولكن من أجل مصالح الزوجة بالإنفاق عليها وغير ذلك.
فإن قصد بذلك إعفاف الزوجة وتحصين الفرج كان مسنوناً(12/8)
لمصلحة الآخرين، وهكذا المباحات إذا كانت وسيلة للمحبوبات صارت محبوبة ومطلوبة.
ومتى يكره؟ يكره لفقير لا شهوة له؛ لأنه حينئذٍ ليس به حاجة، ويُحَمِّل نفسه متاعب كثيرة، فإن كانت المرأة غنية لا يهمها أن ينفق أو لا ينفق، فالنكاح في حقه سنة.
ومتى يحرم؟ قالوا: يحرم بدار حرب، إذا صار الإنسان في دار الكفار يقاتل في سبيل الله، فإنه لا يجوز أن يتزوج؛ لأنه يخشى على عائلته في هذه الدار، ومن ذلك إذا كان الإنسان معه زوجة وخاف إذا تزوج ثانية ألا يعدل، فالنكاح حرام لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] ، فأمر الله ـ تعالى ـ بالاقتصار على الواحدة إذا خفنا عدم العدل، ويستحب فيما عدا ذلك؛ لأنه هو الأصل.
فإذا قلنا: إن الأصل فيه الوجوب وهو القول الثاني، فإننا نجعل الأصل هو الواجب، ونقول: يستحب لإنسان ليس له شهوة ولكن عنده مال ويريد أن ينفع الزوجة، ولكن المذهب أنه تجري فيه الأحكام الخمسة، وفي هذه الحال التي ذكرنا لا يجب وإنما يباح.
وينبغي لمن تزوج ألا يقصد قضاء الشهوة فقط، كما هو مراد أكثر الناس اليوم، إنما ينبغي له أن يقصد بهذا التالي:
أولاً: امتثال أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .(12/9)
ثانياً: تكثير نسل الأمة؛ لأن تكثير نسل الأمة من الأمور المحبوبة إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ (1) ، ولأن تكثير نسل الأمة سبب لقوتها وعزتها، ولهذا قال شعيب ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ، وامتن الله به على بني إسرائيل في قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6] .
ثالثاً: تحصين فرجه وفرج زوجته، وغض بصره وبصر زوجته، ثم يأتي بعد ذلك قضاء الشهوة.
ثم انتقل المؤلف ـ رحمه الله ـ من بيان حكم النكاح إلى بيان من تنكح كَمًّا وكيفاً، أما الكم، فقال:
وَيُسَنُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ،.............
«ويسن نكاح واحدة» يعني لا أكثر، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمن العلماء من قال: إنه ينبغي أن يتزوج أكثر من واحدة، ما دام عنده قدرة مالية وطاقة بدنية، بحيث يقوم بواجبهن فإن الأفضل أن يتزوج أكثر؛ تحصيلاً لمصالح النكاح، والمفاسد التي تتوقع تنغمر في جانب المصالح، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عنده عدة نساء، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: خير هذه الأمة أكثرها نساء (2) ، لكن من المعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعدد الزوجات من أجل قضاء الوطر، وإنما من أجل المصلحة
__________
(1) أخرجه أبو داود في النكاح/ باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050) والنسائي في النكاح/ باب كراهية تزويج العقيم (6/65) عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ، وصححه الحاكم (2/162) ووافقه الذهبي، انظر: خلاصة البدر المنير (1908) والإرواء (1784) .
(2) أخرجه البخاري في النكاح/ باب كثرة النساء (5069) موقوفاً على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/10)
العامة؛ حتى يكون له في كل قبيلة صلة، فتكون كل قبائل العرب لها صلة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن المصاهرة قسيم النسب، وعديل النسب، عَادَلَ الله بينهما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، ومن جهة أخرى أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أراد أن يكثر الأخذ عنه في الأعمال الخفية التي لا تكون إلا في البيوت، فزوجاته تأخذن عنه، ولهذا كان كثير من السنن التي لا يعلنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم تؤخذ من زوجاته ـ رضي الله عنهن ـ، وكذلك تحصين فروجهن، وجبر قلوبهن، كقضية صفية بنت حيي ـ رضي الله عنها ـ، وكانت أسيرة في غزوة خيبر، وأبوها سيد بني النضير، ومعلوم أن امرأة بنتاً لسيد بني النضير تؤخذ أسيرة سوف ينكسر قلبها، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجبر قلبها فتزوجها (1) ، ولو كان يريد أن يقضي الوطر، ما كانت زوجاته كلهن ثيبات إلا واحدة؛ لأن البكر بدون شك أحسن من الثيب، حتى قال صلّى الله عليه وسلّم لجابر رضي الله عنه: «هلا بكراً تلاعبك وتلاعبها» (2) ، فعلى كل حال نقول: التعدد خير لما فيه من المصالح، ولكن بالشرط الذي ذكره الله عزّ وجل، وهو أن يكون الإنسان قادراً على العدل.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسن أن يقتصر على واحدة، وعلل ذلك بأنه أسلم للذمة من الجَوْرِ؛ لأنه إذا تزوج اثنتين أو أكثر فقد لا يستطيع العدل بينهما، ولأنه أقرب إلى منع
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب من جعل عتق الأمة صداقها (5086) ؛ ومسلم في النكاح/ باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (1365) (84) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في النكاح/ باب تزويج الثيبات (5079) ؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب نكاح البكر (715) (56) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(12/11)
تشتت الأسرة، فإنه إذا كان له أكثر من امرأة تشتت الأسرة، فيكون أولاد لهذه المرأة، وأولاد لهذه المرأة، وربما يحصل بينهم تنافر بناء على التنافر الذي بين الأمهات، كما هو مشاهد في بعض الأحيان، ولأنه أقرب إلى القيام بواجبها من النفقة وغيرها، وأهون على المرء من مراعاة العدل، فإن مراعاة العدل أمر عظيم، يحتاج إلى معاناة، وهذا هو المشهور من المذهب.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ} [النساء: 3] ألا يرجح قولَ من يقول بأن التعدد أفضل؟ لأنه قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، فجعل الاقتصار على واحدة فيما إذا خاف عدم العدل، وهذا يقتضي أنه إذا كان يتمكن من العدل فإن الأفضل أن ينكح أربعاً؟
قلنا: نعم، قد استدل بهذه الآية من يرى التعدد، وقال: وجه الدلالة أن الله تعالى يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] فجعل الاقتصار على واحدة فيما إذا خاف عدم العدل.
ولكن عند التأمل لا نجد فيها دلالة على هذا؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] كأنه يقول: إن خفتم ألا تعدلوا في اليتامى اللاتي عندكم، فإن الباب مفتوح أمامكم إلى أربع، وقد كان الرجل تكون عنده اليتيمة بنت عمه أو نحو ذلك، فيجور عليها، ويجعلها لنفسه، ويخطبها الناس ولا يزوجها، فقال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ(12/12)
النِّسَاءِ} (1) ، أي: اتركوهن والباب أمامكم مفتوح لكم، إلا أنه لا يمكن أن تتزوجوا أكثر من واحدة إذا كان في حال خوف عدم العدل، فيكون المعنى هنا بيان الإباحة لا الترغيب في التعدد.
وعلى هذا فنقول: الاقتصار على الواحدة أسلم، ولكن مع ذلك إذا كان الإنسان يرى من نفسه أن الواحدة لا تكفيه ولا تعفه، فإننا نأمره بأن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، حتى يحصل له الطمأنينة، وغض البصر، وراحة النفس.
دَيِّنَةٍ،............
قوله: «ديِّنَةٍ» ، أي: صاحبة دين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (2) . فالديِّنة تعينه على طاعة الله، وتصلح من يتربى على يدها من أولاده، وتحفظه في غيبته، وتحفظ ماله وتحفظ بيته، بخلاف غير الدينة فإنها قد تضره في المستقبل، ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «فاظفر بذات الدين» ، فإذا اجتمع مع الدين جمال ومال وحسب فذلك نور على نور، وإلا فالذي ينبغي أن يختار الديِّنة.
فلو اجتمع عند المرء امرأتان: إحداهما جميلة وليس فيها فسق أو فجور، والأخرى دونها في الجمال لكنها أدين منها، فأيهما يختار؟ يختار الأدين.
لكن أحياناً بعض الناس يكون مولعاً بالجمال، وإذا علم أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الشركة/ باب شركة اليتيم وأهل الميراث (2494) ؛ ومسلم في التفسير/ باب في تفسير آيات متفرقة (3018) .
(2) أخرجه البخاري في النكاح/ باب الأكفاء في الدين (5090) ؛ ومسلم في النكاح/ باب استحباب نكاح ذات الدين (1466) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(12/13)
هناك امرأة جميلة، لا تطيب نفسه بنكاح من دونها في الجمال، ولو كانت أدين، فهل نقول: إنك تكره نفسك على هذه دون هذه وإن لم ترتح إليها؟ أو نقول: خذ من ترتاح لها ما دامت غير فاجرة ولا فاسقة؟
الظاهر الثاني، إلا إذا كانت غير دينة، بمعنى أنها فاسقة، فهذه لا ينبغي أن يأخذها، إلا في مسألة الفجور والزنا فلا تحل، وقد يقول بعض الناس: أتزوج امرأة غير دينة لعل الله أن يهديها على يدي، ونقول له: نحن لا نكلف بالمستقبل، فالمستقبل لا ندري عنه، فربما تتزوجها تريد أن يهديها الله على يدك، ولكنها هي تحولك إلى ما هي عليه فتشقى على يديها.
وكذلك بالعكس بعض الناس يخطب منهم الرجل الفاسق، لكن يقولون: لعل الله أن يهديه، وأقبح من ذلك أن يعرف بعدم الصلاة فيقولون: لعل الله أن يهديه، فنقول: نحن لا نكلف بالمستقبل، لكن نكلف بما بين أيدينا، بالحاضر، فلعل هذا الرجل الذي ظننت أن يستقيم لعله يعوج ابنتكم ويضلها؛ لأن الرجل له سيطرة على المرأة، وكم من امرأة ملتزمة تزوجت شخصاً تظن أنه دين فيتبين أنه غير دين، فتتعب معه التعب العظيم، ونحن دائماً يشكى إلينا هذا الأمر من النساء، حتى تود أن تفر بدينها من هذا الرجل، ولو بكل ما تملك من المال، ولهذا يجب التحرز في هذه المسائل، سواء من جهة الرجل يتزوج المرأة، أو من جهة المرأة تتزوج الرجل.
أَجْنَبِيَّةٍ،..............
قوله: «أجنبية» يعني ليس بينه وبينها نسب، لا تكون من بني عمه، بل تكون من أناس أجانب، وعللوا ذلك بأمرين:(12/14)
أحدهما: أنه أنجب للولد يعني يكون فيه نجابة؛ لأنه يأخذ من طبائع أخواله، ومن طبائع أهله، فيتكون من ذلك خلق من الخلقين جميعاً، وهذا أمر مقصود، وكم من أناس كثيرين جذبهم أخوالهم في الكرم، والشهامة، والرجولة.
الثاني: أنه ربما حصل بينه وبينها جفوة، فيؤدي إلى قطيعة الرحم، كأن يقع بينه وبينها مشاكل، فيأتي ـ مثلاً ـ عمه ويتنازع معه أو مع أبيه، فيحصل بذلك قطيعة الرحم، فكونه يأخذ امرأة أجنبية أولى.
وما قالوه صحيح، لكن إذا وجد في الأقارب من هو أفضل منها بالاعتبارات الأخرى، فإنه يكون أفضل، يعني عند التساوي ربما تكون الأجنبية أولى، لكن مع التفاضل بالاعتبارات الأخرى لا شك أننا نقدم القريبة، ومن ذلك إذا كانت ـ مثلاً ـ بنت العم امرأة ذات دين وخلق، وأحوالهم ـ مثلاً ـ ضعيفة يحتاجون إلى رفق ومساعدة، فإنه لا شك أن هذا مصلحة كبيرة، فالإنسان يراعي المصالح في هذا الأمر، وما دامت المسألة ليس فيها نص شرعي يجب الأخذ به فإن الإنسان يتبع في هذا المصالح.
بِكْرٍ،........
قوله: «بكر» ، وهي التي لم تتزوج من قبل، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ لما سأله تزوجت؟ قال: نعم، قال: «بكراً أم ثيباً؟» ، قال: بل ثيباً، فقال: «فهلاَّ بكراً تلاعبك وتلاعبها» (1) ، فالبكر أفضل؛ لأنها لم تطمح إلى رجال سابقين، ولم يتعلق قلبها بأحد قبله، ولأن أول من يباشرها من الرجال هذا الرجل، فتتعلق به أكثر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (11) .(12/15)
لكن قد يختار الإنسان الثيب لأسباب، مثل ما فعل جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فإنه اختار الثيب؛ لأن والده عبد الله بن حرام ـ رضي الله عنه ـ استشهد في أحد، وخلف بناتاً يحتجن إلى من يقوم عليهن، فلو تزوج بكراً لم تقم بخدمتهن ومؤنتهن، فاختار ـ رضي الله عنه ـ ثيباً لتقوم على أخواته، ولهذا لما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك أقره النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فإذا اختار الإنسان ثيباً لأغراض أخرى فإنها تكون أفضل، وفي هذا دليل على اعتبار الأمور، وأن التفضيل يرجع إلى هذه الاعتبارات، كما سبق ذكره.
وَلُودٍ،.......
قوله: «ولود» ، أي: كثيرة الولادة، وهذا ظاهره يتناقض مع قوله: «بكر» ؛ لأن البكر ما ولدت حتى نعلم أنها ولود أم لا، ولكن لا تناقض، ويمكن معرفة هذا بمعرفة قريباتها، فإذا كانت من نساء عرفن بكثرة الولادة فالغالب أنها تكون مثلهن، فيختار المرأة التي عرفت قريباتها بكثرة الولادة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك فقال: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة» (1) ؛ ولأن كثرة الأمة عِزٌّ لها، وإياك وقول الماديين الذين يقولون: إن كثرة الأمة يوجب الفقر، والبطالة، والعطالة، بل والكثرة
__________
(1) أخرجه أحمد (3/158) ؛ وابن حبان (4028) ؛ والطبراني في الأوسط (5099) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ انظر: خلاصة البدر المنير (1908) ؛ والإرواء (1784) .
وأخرجه أبو داود في النكاح/ باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050) ؛ والنسائي في النكاح/ باب كراهية تزويج العقيم (6/65) عن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ بلفظ «الأمم» بدل «الأنبياء» ، وصححه الحاكم (2/162) ووافقه الذهبي.(12/16)
عِزٌّ امتن الله به على بني إسرائيل، حيث قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6] ، وذَكَّر شعيب عليه الصلاة والسلام قومه بها، حيث قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] .
فكثرة الأمة عِزٌّ، لا سيما إذا كانت أرضهم قابلة للحراثة، والزراعة، والصناعة، بحيث يكون فيها مواد خام للصناعة وغير ذلك، وليس ـ والله ـ كثرة الأمة سبباً للفقر والبطالة أبداً.
لكن ـ مع الأسف ـ أن بعض الناس ـ الآن ـ يختار المرأة التي يمكن أن تكون عقيماً، فهي أحب من الولود، ويحاولون أن لا تلد نساؤهم إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات من الزواج وما أشبه ذلك، وهذا خطأ؛ لأنه خلاف مراد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون أحياناً: إن تربيتهم تشق، فنقول: إذا أحسنتم الظن بالله أعانكم الله.
ويقولون أحياناً: إن المال الذي عندنا قليل، نقول لهم: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وأحياناً يرى الإنسان الرزق ينفتح إذا ولد له، وقد حدثني من أثق به ـ وهو رجل يبيع ويشتري ـ يقول: إني منذ تزوجت فتح الله علي باب رزق، ولما ولد ولدي فلان انفتح باب رزق آخر، وهذا معلوم؛ لأن الله يقول {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، ويقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] ، وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] ، وقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، فالحاصل أن هذه العلة وهي ـ كون الأولاد سبباً للفقر ـ خطأ.(12/17)
قد يقول قائل: أنا أحب أن تبقى زوجتي شابة فلا أحب أن تلد.
فنقول: هذا غرض لا بأس به، لكن الولادة، أو كثرة الأولاد أفضل من ذلك.
ولو قال قائل: أنا أريد أن أنظم النسل، بمعنى أن أجعل امرأتي تلد كل سنتين مرة، فهل يجوز أو لا؟
الجواب: هذا لا بأس به، وقد كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يعزلون في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، والعزل لا شك أنه يمنع من الحمل غالباً.
بِلاَ أُمٍّ.........
قوله: «بلا أم» ، أي: أن يختار امرأة لا أم لها؛ أي لا أم لها حية؛ لأن الأم ربما تفسدها عليه ـ سبحان الله ـ هذا تشاؤم، ولو تأملت الواقع وجدت أكثر النساء لهن أمهات، ولم تفسدهن، والحمد لله، بل نادراً أن الأم تفسد، وأيضاً نقول: الزوج بلا أم؛ لأن بعض أمهات الأزواج تفسده على المرأة، وكم من أم غارت من محبة ابنها لزوجته، ثم حاولت أن تفسد بينها وبين زوجها، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي أن نقول: إنه يختار امرأة لا أم لها، بل نقول: يختار امرأة أمها صالحة، أما أن نقول: بلا أم، فهذا فيه نظر؛ لأن من الأمهات من تكون خيراً على بناتهن، وعلى أزواجهن.
__________
(1) كما في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرجه البخاري في النكاح/ باب العزل (5207) ؛ ومسلم في النكاح/ باب حكم العزل (1440) .(12/18)
ثم إن المفسدة ليست محصورة في الأم، فقد تفسدها خالتها أو أختها أو أحد أقاربها، أو أحد من الأباعد، وتكون الأم حامية لها، تحميها من هؤلاء الذين يفسدونها على زوجها.
وَلَهُ نَظَرُ مَا يَظْهَرُ غَالِباً، مِرَارَاً، بِلاَ خَلْوَةٍ............
قوله: «وله نظر ما يظهر غالباً مراراً بلا خلوة» ، «وله» ، اللام للإباحة، والضمير يعود على من أراد خطبة امرأة، ولو قال: للخاطب، لكان أولى وأوضح، أي: ولمن أراد خطبة امرأة نظر ... إلى آخره.
وظاهر كلام المؤلف هنا أن النظر للمخطوبة مباح وليس بمطلوب؛ وعلَّلوا كونه مباحاً أنه ورد بعد الحظر، فيكون مباحاً كالأمر بعد الحظر عند أكثر الأصوليين يكون للإباحة، ولكن العلماء ـ رحمهم الله ـ يعبرون بما يفيد الإباحة أحياناً لدفع توهم المنع، لا لإثبات الحكم المباح، مثلاً قالوا في باب الحج: ويجوز للقارن والمفرد أن يتحول إلى عمرة ليصير متمتعاً، مع أن الأمر سنة.
قال صاحب الفروع: لعلهم عبروا بالجواز لدفع قول من يقول بالمنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، فهنا قال: «وله نظر» فيحتمل أن المؤلف عبر بما يدل على الإباحة دفعاً لتوهم المنع، فلا ينافي أن يكون مستحباً، ولهذا نقول: يسن لمن أراد أن يخطب امرأة أن ينظر إلى ما يظهر غالباً، فإن كان المؤلف أراد دفع توهم المنع فلا إشكال، وإن كان أراد إثبات حكم الإباحة، فالمسألة فيها قول آخر وهو أنه سنة وهو الصواب، إلا إذا علم الإنسان بصفتها بدون نظر، فلا حاجة، كما لو أرسل امرأة يثق بها تماماً فإنه لا حاجة إلى أن ينظر.(12/19)
على أنه في الحقيقة نظر الغير لا يغني عن نظر النفس، فقد تكون المرأة جميلة عند شخص وغير جميلة عند شخص آخر، وقد يرى الإنسان ـ مثلاً ـ المرأة على حال غير حالها الطبيعية؛ لأنه أحياناً يكون الإنسان في حال السرور وما أشبه ذلك له حال، وفي حال الحزن له حال، وفي الحال الطبيعية له حال أخرى، ثم إنه ـ أيضاً ـ بعض الأحيان إذا علمت المرأة أنه سينظر إليها أدخلت على نفسها تحسينات، فإذا نظر إليها ظن أنها جميلة جداً، وهي ليست كذلك.
وعلى كل حال نقول: إن ظاهر السنة أن النظر إلى المخطوبة سنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر به وقال: «إنه أحرى أن يؤدم بينكما» (1) ، أي: يؤلف بينكما.
ولكن كيف ينظر؟ إذا أمكن أنه ينظر إليها باتفاق مع وليها، بأن يحضر وينظر لها فله ذلك، فإن لم يمكن فله أن يختبئ لها في مكان تمر منه، وما أشبه ذلك، وينظر إليها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد (4/245) ؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (1087) ؛ والنسائي في النكاح/ باب إباحة النظر قبل التزويج (6/69) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها (1865) عن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ، وحسنه الترمذي، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه الحاكم (2/165) ، على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أحمد (3/334) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (2082) ؛ عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، وصححه الحاكم (2/165) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.(12/20)
وقوله: «وله نظر ما يظهر غالباً» مثل الوجه، والرقبة، واليد والقدم، ونحوها، أما أن ينظر إلى ما لا يظهر غالباً، فهذا لا يجوز، فكلمة «غالباً» مربوطة بعرف السلف الصالح، لا بعرف كل أحد؛ لأننا لو جعلناها بعرف كل أحد لضاعت المسألة، واختلف الناس اختلافاً عظيماً، لكن المقصود ما يظهر غالباً وينظر إليه المحارم، فللخاطب أن ينظر إليه، وأهم شيء في الأمر هو الوجه، وينظر إليها قبل الخطبة، ويجوز للمرأة أن تمكن الخاطب من النظر إليها بالشروط التي ذكرها المؤلف.
وقوله: «مراراً» ، أي: يجوز أن يكرر النظر إليها، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» ، فإذا كان في أول مرة ما وجد ما يدعوه إلى نكاحها، فلينظر مرة ثانية، وثالثة.
وهل يجوز له مكالمتها؟ لا؛ لأن المكالمة أدعى للشهوة والتلذذ بصوتها، ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أن ينظر منها» ، ولم يقل: أن يسمع منها.
وقوله: «بلا خلوة» لأنها لم تزل أجنبية منه، والأجنبية يحرم على الرجل أن يخلو بها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخلون(12/21)
رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم» (1) ، والنهي للتحريم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» (2) ، وهذا يدل على أن تحريمه مؤكد.
فشروط جواز النظر إلى المرأة ستة:
الأول: أن يكون بلا خلوة.
الثاني: أن يكون بلا شهوة، فإن نظر لشهوة فإنه يحرم؛ لأن المقصود بالنظر الاستعلام لا الاستمتاع.
الثالث: أن يغلب على ظنه الإجابة.
الرابع: أن ينظر إلى ما يظهر غالباً.
الخامس: أن يكون عازماً على الخطبة، أي: أن يكون نظره نتيجة لعزمه على أن يتقدم لهؤلاء بخطبة ابنتهم، أما إذا كان يريد أن يجول في النساء، فهذا لا يجوز.
السادس: ـ ويخاطب به المرأة ـ ألا تظهر متبرجة أو متطيبة، مكتحلة أو ما أشبه ذلك من التجميل؛ لأنه ليس المقصود أن يرغب الإنسان في جماعها حتى يقال: إنها تظهر متبرجة، فإن هذا تفعله المرأة مع زوجها حتى تدعوه إلى الجماع، ولأن في هذا فتنة، والأصل أنه حرام؛ لأنها أجنبية منه، ثم في ظهورها هكذا مفسدة عليها؛ لأنه إن تزوجها ووجدها على غير البهاء الذي كان عهده رغب عنها، وتغيرت نظرته إليها، لا سيما وأن الشيطان يبهي من لا تحل للإنسان أكثر مما يبهي زوجته، ولهذا
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد والسير/ باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة (3006) ، ومسلم في الحج/ باب سفر المرأة مع المحرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه أحمد (1/26) ، والترمذي في الفتن/ باب ما جاء في لزوم الجماعة (2165) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، وصححه ابن حبان (4557) ط/ الأفكار الدولية، والألباني في الصحيحة (430) .(12/22)
تجد بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ عنده امرأة من أجمل النساء، ثم ينظر إلى امرأة قبيحة شوهاء؛ لأن الشيطان يبهيها بعينه حيث إنها لا تحل له، فإذا اجتمع أن الشيطان يبهيها، وهي ـ أيضاً ـ تتبهى وتزيد من جمالها، وتحسينها، ثم بعد الزواج يجدها على غير ما تصورها، فسوف يكون هناك عاقبة سيئة.
فإن قيل: كيف يغلب على ظنه الإجابة؟
الجواب: الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الناس طبقات، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] ، فلو تقدم أحد الكنَّاسين إلى بنت وزير، فالغالب عدم إجابته، وكذلك إنسان كبير السن زمِن، أصم، يتقدم إلى بنت شابة جميلة، فهذا يغلب على ظنه عدم الإجابة.
لما ذكر المؤلف الخاطب ذكر مَن المخطوبة، وهل كل امرأة يمكن أن يخطبها الإنسان؟ فقال:
وَيَحْرُمُ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، وَالْمُبَانَةِ............
«ويحرم التصريح بخِطبة المعتدة من وفاة والمبانة» .
«خِطبة» و «خُطبة» الفرق بينهما: أن الخُطبة هي الكلمة التي يخطب بها الخطيب، مثل خطبة الجمعة، والخِطبة بكسر الخاء هي طلب التزوج من المرأة، قال الله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] .
وقوله: «ويحرم التصريح بخطبة المعتدة» ، التصريح معناه أن يقول ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أطلب(12/23)
زواجك، أو زوجيني نفسك، أو يقول للولي: زوِّجني ابنتك، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: «بخطبة المعتدة» يعني التي في عدة الغير، مثل معتدة من وفاة، أو من طلاق رجعي، أو من طلاق بائن، فالتصريح للمعتدة لا يجوز أبداً.
وقوله: «من وفاة» يعني امرأة زوجها مات عنها، فتكون في عدة، ولا يجوز لأحد أن يصرح بخطبتها في العدة، والدليل قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ، فقوله: {ئ {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} مفهومه عليكم جناح إذا صرَّحتم.
وقوله: «والمبانة» ، أي: التي فارقها زوجها في الحياة فراقاً بائناً لا يستطيع الرجوع إليها، وهي إما أن تكون مطلقة آخر ثلاث تطليقات؛ أو مطلقة على عوض، أو مفسوخة فسخاً لا طلاقاً، مثلاً: وجدت في زوجها عيباً ففسخت النكاح، أو وجد هو بها عيباً ففسخ النكاح.
هذه المبانة التي بانت من زوجها فلا رجعة له عليها، فلا يجوز أن يخطبها صريحاً.
دُونَ التَّعْرِيضِ،.............
قوله: «دون التعريض» يعني يحرم التصريح دون التعريض فيباح، والدليل قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] ، فمنطوق الآية نفي الجناح بالتعريض، ومفهومها ثبوت الجناح في التصريح.
والتعريض مثل أن يبدي لها الرغبة بالخطبة، وهو جائز(12/24)
للمعتدة من وفاة، والبائن بطلاق، أو فسخ، وسيأتي ذكرها في كلام المؤلف، مثل أن يقول لها: والله إن امرأة مثلك غنيمة، أو: إذا انقضت العدة فأخبريني، أو: لا تفوتي نفسك، أو: إني في مثلك لراغب، أو: أم العيال كبرت وأنا محتاج لزوجة، أو ما أشبه ذلك، فالمهم أن هذا نسميه تعريضاً، وهو جائز للمعتدة من وفاة، والبائن بطلاق أو فسخ.
وَيُبَاحَانِ لِمَنْ أَبَانَهَا دُونَ الثَّلاَثِ.........
قوله: «ويباحان» ، أي: التصريح والتعريض.
قوله: «لمن أبانها دون الثلاث» يعني لزوج أبانها بغير الطلاق الثلاث، مثل ما لو طلقها على عوض، كرجل اتفق هو وزوجته على أنه يطلقها وتسلم له فلوساً، أو وليها، أو أي شخص آخر، فهذه نسميها بائناً بعوض، وقد سمى الله ـ تعالى ـ هذا العوض فداء؛ لأن المرأة اشترت نفسها من زوجها: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، فلو قلنا: إن زوجها له أن يراجعها ما استفادت، ولهذا نقول: لا رجعة له عليها إلا برضاها.
وقوله: «دون الثلاث» ، لو قال المؤلف: بغير الثلاث، لكان أوضح، مثل أن يطلقها على عوض، أو يفسخ العقد فسخاً لعيب في زوجها، أو لإعسار بالصداق، أو بالنفقة، أو نحو ذلك، المهم أن الطلاق على عوض وجميع الفسوخ، تعتبر بينونة، لكن ليست مثل البينونة بالثلاث، فيجوز لزوجها الذي أبانها أن يصرح ويعرِّض، ويعقد عليها أيضاً، ولو في العدة بمهر جديد؛ لأن العدة له، ولا عدوان في ذلك على أحد.(12/25)
إذاً يجوز التصريح والتعريض لزوج أبان زوجته بغير الثلاث، وبالثلاث لا يجوز التعريض ولا التصريح؛ لأنها تحرم عليه.
والدليل على جواز خطبة المبانة بغير الثلاث ممن أبانها تصريحاً وتعريضاً أن العدة له، ويحل له تزوجها، فكل امرأة يجوز أن يتزوجها ويعقد عليها فإنه يجوز التصريح والتعريض في خطبتها.
كَرَجْعِيَّةٍ، وَيَحْرُمَانِ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا...........
قوله: «كرجعية» يعني كرجعية له، والحقيقة هذا التمثيل فيه نظر؛ لأن الرجعية بالنسبة لزوجها ما تخطب، بل يراجعها، فيقول: أنا راجعتك، وتتمم الرجعة، وتعود زوجته، لكنه ذكر ذلك تمهيداً لقوله:
«ويحرمان منها على غير زوجها» «يحرمان» ، أي: التعريض والتصريح «منها» أي: من الرجعية، فالرجعية يحرم على غير زوجها أن يخطبها تصريحاً أو تعريضاً؛ لأنها زوجة، ولا يجوز لأحد أن يأتي لامرأة رجل طلقت ويقول: أريد أن أتزوجك؛ لأن هذا معناه أنه خبَّبها على زوجها، وليس من الدين الإفساد بين الناس، ومن أعظم الأشياء محاولة التفريق بين الرجل وأهله الذي هو طريق السحرة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] .
فعلم من كلام المؤلف أن خطبة المعتدة لها ثلاث حالات:
الأولى: تحرم تصريحاً وتعريضاً.
الثانية: تجوز تصريحاً وتعريضاً.(12/26)
الثالثة: تجوز تعريضاً لا تصريحاً.
تحرم تصريحاً وتعريضاً خطبة الرجعية من غير زوجها؛ لأنها زوجة، ولا يجوز لأحد أن يخطب زوجة غيره لا تصريحاً ولا تعريضاً، ومثلها المبانة بثلاث من زوجها.
وتباح الخطبة تصريحاً وتعريضاً لزوج أبان زوجته بغير الثلاث، بطلاق على عوض، أو فسخ.
ويحرم التصريح دون التعريض في خطبة المبانة من غير الزوج، والمعتدة من الوفاة.
وهل يجوز التصريح أو التعريض في خطبة المحرمة بحج أو عمرة؟
لا يجوز؛ لأنه لا يجوز عقد النكاح عليها.
إذاً القاعدة: كل من لا يجوز العقد عليها فإنه تحرم خطبتها تصريحاً، أما تعريضاً ففيه تفصيل.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ مبيناً معنى التعريض:
وَالتَّعْرِيضُ: إِنِّي فِي مِثْلِكِ لَرَاغِبٌ،..............
«والتعريض: إني في مثلك لراغب» ، فإذا قال مثل هذا الكلام عرفت أنه يريدها، فالمهم ألا يصرح، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} ـ أي: المعتدات من وفاة ـ {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] ، فأباح الله تعالى التعريض في خطبة المعتدة من وفاة.
والتصريح ما عرَّفه؛ لأنه بيِّن، مثلاً يقول: أريد أن تزوجيني(12/27)
نفسك، أو يقول لوليِّها: أريد أن تزوجني فلانة، يعني أن يطلب نكاحها على وجه صريح لا احتمال فيه.
وَتُجِيبُهُ: مَا يُرْغَبُ عَنْكَ، وَنَحْوُهُمَا، فَإِنْ أَجَابَ وَلِيُّ مُجْبَرَةٍ، أَوْ أَجَابَتْ غَيْرُ المُجْبَرَةِ لِمُسْلِمٍ، حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتُهَا،...........
قوله: «وتجيبه: ما يرغب عنك» يعني أنا لا أرغب عنك.
قوله: «ونحوهما» مثل لا تفوتي نفسك، وتقول: إن قضي شيء كان.
وفهم من كلام المؤلف أنه يجوز للإنسان أن يخاطب مخطوبته، وعليه فنقول: هذا الإطلاق من المؤلف يجب أن يقيد بأن لا يحدث شهوة، أو تلذذ بمخاطبتها، فإن حصل ذلك فإنه لا يجوز؛ لأن الفتنة يجب أن يبتعد عنها الإنسان.
قوله: «فإن أجاب ولي مجبرة أو أجابت غير المُجبَرَة لمسلم حرم على غيره خطبتها» ، يعني إذا تمت الخطبة فأجابت غير المجبرة، أو أجاب ولي المجبرة حرمت خطبتها.
وعلم من كلام المؤلف أن النساء قسمان: مجبرات، وغير مجبرات، وهذا مبني على المذهب كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والصحيح أنه ليس هناك امرأة تجبر على النكاح، نعم لو زَوَّجَ صغيرةً، وقلنا بجواز تزويج الصغيرة فهذه لا تعتبر إجابتها، إنما المعتبر إجابة الولي، لكن نحن نمشي على كلام المؤلف، وكونها تجبر أو لا تجبر يأتي ـ إن شاء الله ـ في بابه، فالمعتبر إجابة غير المجبرة وإجابة ولي المجبرة.(12/28)
فغير المجبرة مثل الثيب أو البكر مع غير الأب.
والمجبرة البكر مع الأب على المذهب، فإذا أجاب أبو البكر الخاطب اعتبرت الإجابة صحيحة، وإذا أجاب أخو البكر فالإجابة غير صحيحة لا أثر لها، وإذا أجاب أبو الثيب فالإجابة غير صحيحة وغير معتبرة، فالمعتبر إجابة المرأة نفسها إن كانت لا تزوج إلا برضاها، وإجابة وليها إن كان يستطيع أن يجبرها.
وقوله: «لمسلم» تنازعه عاملان، «أجاب» و «أجابت» ، يعني إن أجاب ولي المجبرة لمسلم، أو أجابت غير المجبرة لمسلم.
وعلم منه: أنها لو أجابت لغير مسلم فإنه يجوز خطبتها، فيخطب على خطبة غير المسلم، كامرأة نصرانية ـ مثلاً ـ خطبها نصراني، فظاهر كلام المؤلف أنه يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة هذا النصراني؛ لأنه قال: «أو أجابت غير المجبرة لمسلم» فمفهومه أن غير المسلم لا تحرم الخطبة على خطبته، والدليل قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] ، ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه» (1) ، والنصراني ليس أخاً.
وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إن قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خطبة أخيه» من باب الأغلب؛ لأنه يخاطب مسلمين، والغالب أن الخاطب مسلم، ومعلوم أن القيد إذا كان
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يبيع على بيع أخيه ولا يسوم على سوم أخيه (2140) ؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه متى يأذن أو يترك (1413) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(12/29)
للأغلب فلا مفهوم له، وعلى هذا لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة النصراني؛ لأن النصراني له حقوق.
وهذا القول أصح أنه لا يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم إذا لم يكن حربياً، أما إذا كان حربياً فليس له حق، لكن إذا كان معاهداً أو مستأمناً، أو ذمياً؛ لأن هذا من باب حقوق العقد لا العاقد، فعلى هذا لا يجوز لنا أن نخطب على خطبة غير المسلمين، وأيضاً لو خطبنا على خطبة غير المسلم كان فيه مضرَّة على الإسلام، سيتصور غير المسلمين أن الإسلام دين وحشية، واعتداء على الغير، وعدم احترام للحقوق، فما دام هذا الرجل خطبها وهو كفء لها في دينها، فلا يجوز لنا أن نعتدي عليه.
فإن قال قائل: فما الجواب عن الآية؟
قلنا: إن الله يقول: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} يخاطب أهل الزوجة ألا يزوجوا المشرك مع وجود المؤمن، لكنه لا يبيح للمؤمن أن يخطب على خطبة المشرك، هذا إذا قلنا: إن النصارى يدخلون هنا في اسم المشرك.
وقوله: «حرم على غيره خطبتها» تعريضاً أو تصريحاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يخطب على خطبة أخيه» (1) .
وهذا نهي، والأصل في النهي التحريم، لا سيما وأن علته تقتضي التحريم؛ لما فيها من العدوان والظلم، ولأن هذا قد يؤدي إلى فتنة كبيرة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (29) .(12/30)
وَإِنْ رُدَّ أَوْ أَذِنَ، أَوْ جُهِلَ الحَالُ جَازَ............
قوله: «وإن رُدَّ أو أذن، أو جُهل الحال جاز» ، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بهذه العبارة أن حال الخاطب لا تخلو من أربع أحوال:
الأولى: أن يجاب فتحرم الخطبة على خطبته.
الثانية: أن يرد ويعلم أنهم ردوه فتحل الخطبة؛ لأنه انتهى حقه.
الثالثة: أن يأذن، مثلاً علمتُ أنه خطب هذه المرأة، فذهبتُ إليه، وقلت: يا فلان أنت خطبت فلانة، وأنا متعلِّق قلبي بها، أريد أن تسمح لي أن أخطبها، فإذا أذن جاز؛ لأن الحق له، وإذا أسقطه سقط، لكن إذا علمنا أنه أذن حياء وخجلاً لا اختياراً فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا الإذن كعدمه، أو علمنا أنه أذن خوفاً؛ لأن الذي استأذنه رجل شرير لو لم يأذن له لآذاه، فلا يجوز الإقدام، لكن إذا أذن اختياراً وبرضا وطواعية فإن يجوز للثاني أن يخطب.
الرابعة: إذا جهل الحال، فلا نعلم هل أجيب أو رد؟ فظاهر كلام المؤلف أنه يجوز أن يخطب؛ لأنه إلى الآن ما ثبت حقه، كالذي يسوم سلعة، فلك أن تزيد عليه.
ولكن الصحيح أنه لا يجوز؛ لأن هذا اعتداء على حقه، وربما يكون أهل الزوجة قد ركنوا إلى هذا الخاطب، إلا أنهم ما أجابوه، فإذا جاءت خطبة أخرى عدلوا عنه، فالصحيح أنه إذا جهل الحال حرمت الخطبة، ويدل لذلك الأثر والنظر:(12/31)
أما الأثر فعموم قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يخطب على خطبة أخيه» (1) . وهذا يشمل هذه الصورة، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: «ما لم يأذن أو يُرَد» (2) .
أما النظر فلأن ذلك يورث العداوة وقطع الرزق، وقد نهى عنه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها» (3) ، فكونك تخطب وأنت ما تدري هل أجيب أو رد، معناه أنك قطعت رزقه.
وإذا قلنا: إنه لا تجوز الخطبة على خطبة أخيه، فكيف نجيب عن قصة فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ، أنها جاءت تستشير النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خطبها ثلاثة: أبو جهم، ومعاوية، وأسامة ـ رضي الله عنهم ـ؟ (4) .
الجواب: أن هذه القصة تحمل على أن الواحد منهم ما علم بخطبة الآخر.
وَيُسَنُّ العَقْدُ يَوْمَ الجُمُعَةِ مَسَاءً،...........
قوله: «ويسن العقد يوم الجمعة مساءً» ، يسن عقد النكاح يوم الجمعة مساء، يعني بعد العصر، وذكر ابن القيم أنه ينبغي أن يكون في المسجد ـ أيضاً ـ لشرف الزمان والمكان، وهذا فيه نظر في المسألتين جميعاً، إلا لو ثبتت السنة بذلك لكان على العين
__________
(1) سبق تخريجه ص (29) .
(2) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (5142) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) سبق تخريجه في حديث: «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه ... » ص (29) .
(4) أخرجه مسلم في الطلاق/ باب المطلقة البائن لا نفقة لها (1480) عن فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ.(12/32)
والرأس، لكنني لا أعلم في هذا سنة، وقد علَّلوا ذلك بأن يوم الجمعة آخره فيه ساعة الإجابة، فيرجى إجابة الدعاء الذي يكون عادة بين الزوج ومن يبرِّكون عليه، «بارك الله لك وعليك» .
ولكن يقال: هل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من هديه وسنته أنه يتحرى هذا الوقت؟ إذا ثبت هذا فالقول بالاستحباب ظاهر، وأما إذا لم يثبت فلا ينبغي أن تسن سنة، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يزوج في أي وقت، ويتزوج في أي وقت، ولم يثبت أنه اختار شيئاً معيناً، نعم لو صادف هذا الوقت لقلنا: هذا ـ إن شاء الله ـ مصادفة طيبة، وأما تقصُّد هذا الوقت ففيه نظر، حتى يقوم دليل على ذلك، فالصواب أنه متى تيسر العقد، سواء في المسجد أو البيت أو السوق أو الطائرة ونحو ذلك، وكذلك ـ أيضاً ـ يعقد في كل زمان.
بِخُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ.............
قوله: «بخُطبة ابن مسعود» التي رواها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره» ، وزاد في الروض (1) : «ونتوب إليه» ولكنها لم ترد، فيقتصر على «ونستغفره» ، «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» (2) ،
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/244) .
(2) أخرجها أحمد (1/392 ـ 393) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في خطبة النكاح (2118) ؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء في خطبة النكاح (1105) ؛ والنسائي في الجمعة/ باب كيفية الخطبة (3/104 ـ 105) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب خطبة النكاح (1892) وحسنه الترمذي.(12/33)
ويقرأ ثلاثة آيات وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [آل عمران] ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} [النساء] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا *} [الأحزاب] .
هذه هي خطبة الحاجة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمها أصحابه، أي: التي تقدم بين يدي الحاجة.
كثير من الإخوان يقول: من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، فينقلون الآية إلى هذا الحديث؛ والأليق بالإنسان والأكمل في الأدب أن يتمشى على ما جاء به الحديث، لأن كونه يضع لفظاً مكان اللفظ النبوي شبه اعتراض على الرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه قال: لماذا لم تقل الذي في الآية؟
وهذه المسألة لا يتفطن لها إلا القليل من الناس، فالشيء الذي جاءت به السنة يقال كما جاءت به السنة، ولا يستبدل كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغيره أبداً، حتى لو كان من القرآن؛ لأننا نقول له: هل أنت أحفظ للقرآن من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وهل أنت أكثر تعظيماً لله ولكتابه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ قل كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من يهدِه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» ، وأما قوله: «ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً» ، ففي هذا الموضع لا يقال.
ثم يقال للولي: زوِّج الرجل، فيقول: زوجتك بنتي فلانة،(12/34)
ولا حاجة أن يقول: على سنة الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الأصل في المسلم أنه على سنة الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول الزوج: قبلت، ثم يقال للزوج: بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير (1) ، وبعض الناس يقول ما يقوله أهل الجاهلية: «بالرفاء والبنين» ، نسأل الله ألا يعمي قلوبنا، يأتي لفظ عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ خير وبركة ونعدل عنه، ربما لا يكون هذا رفاء، فربما يحصل من الخروق أكثر من الرفاء بين الزوج والزوجة، وقد تكون البنت خيراً من الابن بكثير.
ثم إذا زفت إليه يأخذ بناصيتها، ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه (2) ، لكن هل يقول ذلك جهراً أم سراً؟ نرى التفصيل في هذا، إن كانت امرأة متعلمة تدري أن هذا من المشروع فليقل ذلك جهراً، وربما تؤمِّن على دعائه، وإن كانت جاهلة فأخشى إن قال ذلك أن تنفر منه، وعلى كل حال لكل مقام مقال.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/381) وأبو داود في النكاح/ باب ما يقال للمتزوج (2130) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء فيما يقال للمتزوج (1091) وابن ماجه في النكاح/ باب تهنئة النكاح (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» وصححه ابن حبان (4041) والحاكم على شرط مسلم (2/183) ووافقه الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (787) .
(2) أخرجه أبو داود في النكاح/ باب في جامع النكاح (2160) وابن ماجه في النكاح/ باب ما يقول إذا دخلت عليه أهله (1918) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/185) ووافقه الذهبي، وصححه النووي في الأذكار (788) .(12/35)
فَصْلٌ
وَأَرْكَانُهُ: الزَّوْجَانِ الخَالِيَانِ مِنَ المَوَانِعِ، وَالإِيجَابُ، وَالقَبُولُ،........
قوله: «وأركانه» ، أي: أركان النكاح، والركن في اللغة الجانب الأقوى من البيت، ولهذا تسمى الزاوية ركناً؛ لأن أقوى ما في الجدار زاويته؛ لأنها مدعومة من الجانبين.
أما في الاصطلاح فإن الأركان ما لا يتم تركيب الماهية إلا به، مثلاً أركان الصلاة: قيام وقعود وركوع وسجود؛ لأن الصلاة ما تقوم إلا بهذا، أيضاً أركان النكاح ما يقوم النكاح إلا بها، وأما ما كان من أجزاء الماهية ولكنها تتم بدونه، فهذا لا يسمى ركناً، كرفع اليدين في الصلاة مثلاً، فهذا تتركب منه الماهية، لكن الصلاة تتم بدونه.
قوله: «الزوجان» يعني الزوج والزوجة، والتثنية صحيحة، فلا يقال: إنه غلب فيها جانب الذكور؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى، وعلى هذا فلا تغليب.
قوله: «الخاليان من الموانع» ، هذا ليس داخلاً في الركنية، ولكنه شرط، أي خلو الزوج أو الزوجة من الموانع، ولهذا لو قلنا: الزوجان، كفى، والموانع هي المحرمات في النكاح، أي: ما يمنع صحة النكاح؛ لأن من فيهما موانع، وجودهما كالعدم، كما لو كانت المرأة معتدة وتزوجت، فإن هذا النكاح غير صحيح، ولكن اشتراط الخلو من الموانع يلزم منه ـ أيضاً ـ الزوجان اللذان تمت فيهما الشروط.
قوله: «والإيجاب والقبول» ، الإيجاب هو اللفظ الصادر من(12/36)
الولي، أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه.
فيقول ـ مثلاً ـ الولي، كالأب، والأخ، وما أشبه ذلك: زَوَّجْتك ابنتي، زوجتك أختي، وسمي إيجاباً؛ لأنه أوجب به العقد، والقبول هو اللفظ الصادر من الزوج، أو من يقوم مقامه.
والذي يقوم مقام الولي هو الوكيل، وهو الذي أذن له بالتصرف في حال الحياة، مثل أن يقول: وكلتك أن تزوج بنتي.
والوصي هو الذي أذن له بالتصرف بعد الموت، وهو ـ على المذهب ـ أيضاً يقوم مقامه، وهو مبني على أنه، هل تستفاد ولاية النكاح بالوصية أو لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله، إنما على القول الصحيح الذي يقوم مقامه واحد فقط هو الوكيل، وكذا الزوج أو من يقوم مقامه وهو الوكيل، وإذا قلنا بأن الأب يجوز أن يقبل النكاح لابنه الصغير ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ يكون الولي قائماً مقام الزوج، وبعده الوكيل.
وَلاَ يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ بِغَيْرِ لَفْظِ زَوَّجْتُ، أَوْ أَنْكَحْتُ،...........
قوله: «ولا يصح» الضمير إما أن يعود على النكاح، أو على الإيجاب والقبول.
قوله: «ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت» ، فإن كان لا يحسن العربية أتى بأي لفظ يفيد هذا المعنى ويصح، ومعلوم أن الناس يختلفون في اللغة؛ لأنه ليس لهم لفظ إلا هذا، سواء كان باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية، ولهذا اشترط المؤلف «ممن يحسن العربية» ، فإن كان يحسن أن(12/37)
يقول: زوجت أو أنكحت وهو غير عربي، ولا يدري ما معنى زوجت أو أنكحت، فإنه يقولها بلغته؛ لأنه لا يتعبد بلفظه، بخلاف القرآن الكريم، فلو أراد أحد أن يتلو القرآن الكريم بلغته ولو بالمعنى المطابق قلنا له:، لا؛ لأن القرآن كلام الله، لا يمكن أن يغير، ولأنه يتعبد بتلاوته.
وقوله: «ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت» فيقول مثلاً: زوجتك بنتي، أو أنكحتك بنتي، فلو قال: جوزتك بنتي، لا يصح على المذهب؛ لأنه يحسن العربية، فلا بد أن يقول: زوجتك بتقديم الزاي.
ولو قال: ملكتك بنتي لا يصح؛ لأنه لا بد أن يكون بلفظ زوَّجت أو أنكحت.
وما الدليل على أنه لا يصح إلا بهذين اللفظين؟ ليس هناك دليل، لا في القرآن، ولا في السنة أنه لا يصح النكاح إلا بهذا اللفظ، لكن يقولون: لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن، ففي القرآن الكريم: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ، فاللفظان اللذان ورد بهما القرآن هما النكاح والزواج، فلا نتعداهما، فنقتصر على الألفاظ الواردة؛ وذلك لعظم خطر النكاح، فهو أعظم العقود خطراً وأشدها تحرياً، ولا شك أن هذا التعليل عليل، بل هو ميت.
القول الثاني: أنه يجوز العقد بكل بلفظ يدل عليه عرفاً، والدليل من القرآن ومن السنة.
من القرآن أن الله قال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ،(12/38)
فأطلق النكاح، وعلى هذا فكل ما سمي نكاحاً عرفاً فهو نكاح، ولم يقل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء بلفظ الإنكاح أو التزويج، ولا قال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} بلفظ الإنكاح أو التزويج، فلما أطلق العقد رجعنا في ذلك إلى العرف.
ولو أننا قلنا: إن التعبير بالمعنى معناه التقيد باللفظ لقلنا أيضاً: البيع لا ينعقد إلا بلفظ البيع؛ لأن الله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وكان كل ما ذكره الله بلفظ، قلنا: لا بد فيه من هذا اللفظ، مع أنهم يقولون: إن البيع ينعقد بما دل عليه عرفاً حتى بالمعاطاة.
ومن السنة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتق صفية ـ رضي الله عنها ـ وجعل عتقها صداقها (1) .
فلما رأوا أن هذا دليل قالوا: تستثنى هذه المسألة، فقالوا: لا بد أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويج، إلا إذا أعتق أمته، وجعل عتقها صداقها.
دليل آخر من السنة: قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد ثبت في صحيح البخاري (2) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ملكتكها بما معك من القرآن» ، وهذا نص صريح، فأجابوا عنه بأن أكثر الروايات: «زوجتكها بما معك من القرآن» (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (11) .
(2) في النكاح/ باب تزويج المعسر (5087) ؛ وأخرجه مسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد ... (1425) عن سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310) ؛ ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ.(12/39)
فيقال: كون الرواة ينقلونه بالمعنى «ملكتكها» دليل على أنه لا فرق بين هذا وهذا، ولو كان هناك فرق ما جاز أن يغيروا اللفظ إلى لفظ يخالفه في المعنى؛ لأن شرط جواز رواية الحديث بالمعنى أن يكون اللفظ البدل لا يخالف اللفظ النبوي في المعنى، فدل هذا على أنه بمعناه، وأنه لا فرق عندهم بين هذا وهذا.
ثم نقول: الدليل النظري القياس على جميع العقود أنها تنعقد بما دل عليها، والله ـ تعالى ـ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، فما عده الناس عقداً فهو عقد، وعلى هذا القول يصح أن تقول للرجل: جوزتك بنتي، أو ملكتك بنتي، ولكن لا بد أن تكون دلالة اللفظ العرفي دالة على المعنى الشرعي للنكاح، فلو قال: آجرتك بنتي بألف ريال فلا يصح؛ لأن الأجرة لا تستعمل في النكاح إطلاقاً، لكن لو قال: أجرتك بنتي على صداق قدره ألف ريال هنا يصح العقد؛ لأن فيه ما يدل على أن المراد بالأجرة هنا النكاح، وقد سمى الله تعالى المهر أجرة فقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] .
فالقاعدة أن جميع العقود تنعقد بما دل عليها عرفاً، سواء كانت باللفظ الوارد أو بغير اللفظ الوارد، وسواء كان ذلك في النكاح أو في غير النكاح، هذا هو القول الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وكون عقد النكاح له خطر قد يقال: إن هذا أولى بأن ينعقد(12/40)
بكل ما دلَّ عليه؛ لأنه لو أن أحداً قال: جوزتك بنتي، وقال: قبلت، ودخل بها، وأتت منه بأولاد، أو مات، أو ماتت، فكوننا نقول: لا ينعقد، مع العلم بأن الطرفين، الولي والزوج، كليهما يعلم المراد فيه خطر، فالصواب قطعاً أن ينعقد بكل لفظ دلَّ عليه.
ونقل في الحاشية عن شيخ الإسلام أنه قال (1) : «ولم ينقل أحد عن أحمد أنه خصه بهذين اللفظين، وأول من قال ذلك من أصحاب الإمام أحمد ابنُ حامد، وتبعه على ذلك القاضي ومن جاء بعده؛ بسبب انتشار كتبه وكثرة أتباعه وأصحابه» ، وبناء على ذلك لا يصح نسبة هذا القول إلى مذهب الإمام الشخصي، إنما يقال: هو مذهب الإمام أحمد الاصطلاحي، وهناك فرق بين المذهب الشخصي الذي يدين به الإمام لله ـ عزّ وجل ـ وبين المذهب الاصطلاحي، فالمذهب الاصطلاحي قد لا يكون الإمام قاله، أو قال بخلافه، وهو ما اصطلح عليه أتباع هذا الإمام أن يكون هو مذهبهم، مثل أن يختاروا أئمة من أتباعه، ويقولون: إذا اتفق فلان وفلان من أئمة أتباعه على كذا فهو المذهب، أو إذا كان أكثر الأتباع على هذا فهو المذهب، لكن المذهب الشخصي يختلف فهو ما يدين به لله عزّ وجل، وقد يكون موافقاً لما قيل: إنه المذهب اصطلاحاً، وقد يكون مخالفاً.
وَقَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ،............
قوله: «وقبلت هذا النكاح» يقوله الزوج؛ أو من يقوم مقامه، لكن من يقوم مقامه ما يطلق، ويقول: قبلت هذا النكاح، لا بد أن يقول: قبلته لموكلي فلان، كما أنه إذا كان الولي له وكيل، ما يقول الوكيل مثلاً: زوجتك بنتي، بل يبين أنه وكيل، فيقول:
__________
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع (6/247) .(12/41)
زوجتك بنت موكلي فلان، وهي فلانة بنت فلان، أو زوجتك بالوكالة بنت فلان ابن فلان.
فلو قال: زوجتك بنت فلان ما صح؛ لأنه لا ولاية له عليها، حتى يبين السبب بأنه زوجه بنت فلان، لأنه وكيله.
أو تَزَوَّجْتُهَا، أَوْ تَزَوَّجْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، وَمَنْ جَهِلَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعَلُّمُهُمَا،......
قوله: «أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت» ، القبول توسعوا فيه أكثر، فإذا قال: قبلت هذا النكاح، أو تزوجتها، مع أنها صيغة ظاهرها الخبر وليست إنشاء، ومع ذلك يقولون: إن قرينة الحال تدل على أن المراد الإنشاء فيصح.
وقوله: «أو تزوجت» ، أي: قال الولي: زوجتك بنتي، قال: تزوجت، فهل يفهم منها القبول؟! حقيقة أن فهم القبول منها بعيد، بل قد يُفهم منها أن عنده زوجة فلا يريد هذه.
وقوله: «تزوجتها» أهون؛ لأنه فيها ضمير يعود على المذكورة، لكن «تزوجت» هذه من الغرائب أنهم جعلوها قبولاً مقبولاً، ولا يجعلون «جوزتك بنتي» مع قول الزوج: «قبلت هذا النكاح» عقداً صحيحاً، وإذا قال: زوجتك فقال: تزوجت، يعتبر قبولاً مقبولاً!! وهذا كله مما يدل على أن القول الراجح والصواب أن النكاح ينعقد إيجاباً وقبولاً بما دل عليه العرف.
قوله: «ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما» ، أي: جهل الإيجاب والقبول باللغة العربية لا يلزمه تعلمهما، وإلا لكنا نلزم جميع غير العرب أن يتعلموا اللغة العربية في عقد النكاح، وإذا أوجب الولي العقد بلغة غير عربية ـ وهو يحسن العربية ـ لكنها معروفة للزوج والشاهدين، فعلى القول الراجح ينعقد، كأن يوجب الولي العقد(12/42)
باللغة الإنجليزية، وهو يعلم المعنى، والزوج والشاهدان يعلمون المعنى، فالراجح أنه ينعقد؛ لأن العبرة بالمعنى، ولكنه يؤدب على كونه يعقد النكاح، الذي هو عقد شرعي من أفضل العقود، وأهمها في الشريعة بلغة غير العربية مع كونه يعلمها، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يضرب من تكلم بالرطانة الأعجمية (1) ، وبعض إخواننا اليوم من المسلمين لضعف الإيمان في قلوبهم، وضعف الشخصية في نفوسهم يتكلمون باللغة الإنجليزية، فتجده إذا كلم صاحبه باللغة الإنجليزية وخاطبه ذلك باللغة الإنجليزية مجيباً له ينتفخ، وكأنه نال مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنه صار يتكلم باللغة الإنجليزية، وحينئذٍ يتمثل بقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
لأنه يعرف التكلم باللغة الإنجليزية، حتى بلغني أن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يعلم صبيانه اللغة الإنجليزية، وإذا أراد أن يودعه، أو يسلم عليه سلم عليه باللغة الإنجليزية، ويترك [السلام عليكم] ، أو [عليكم السلام] !! وهذا فضيحة، وعار، ولو لم تكن المسألة شرعية لكان يجب أن تكون على الأقل قومية، أذهبُ إلى لغة قوم آخرين وعندي اللغة العربية؟! أفصح اللغات هي لغة العرب وأذهب إلى اللغات الأخرى!! ولهذا فيما أرى أن الذي يعلم صبيه اللغة الإنجليزية من الصغر، سوف يحاسب عليه يوم القيامة؛ لأنه يؤدي إلى محبة الصبي لهذه اللغة وإيثارها على اللغة العربية، وبالتالي يؤدي إلى محبة من ينطق بها من أهلها، واستهجان من
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (5/299) ط/ الحوت.(12/43)
ينطقون بغير هذه اللغة، أما من كبر وترعرع وقال: أنا أريد أن أتعلم اللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأجنبية لأدعو إلى الله بها، فنقول له: هذا خير، ونساعدك على هذا ونشجعك، أو قال: أنا أحتاج إلى اللغة غير العربية؛ لأني أمارس التجارة مع هؤلاء القوم، فأريد أن أتكلم لأتمكن من عملي، قلنا: هذا لا بأس به، هذا عمل مقصود وغرض صحيح، أما إنسان يفعل ذلك تعشقاً لها، وتعظيماً لقومها، وإيثاراً لها على اللغة العربية، فهذا خطأ.
وَكَفَاهُ مَعْنَاهُمَا الخَاصُّ بِكُلِّ لِسَانٍ،.......
قوله: «وكفاه معناهما الخاص» يعني الذي لا يحتمل غير النكاح.
قوله: «بكل لسان» ، أي: بكل لغة، قال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] أي: بلغة عربية، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] فاللسان في اللغة بمعنى اللغة.
ويستثنى من ذلك إذا تزوجها وهي مملوكة، وجعل عتقها صداقها، فلا يحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى لفظ التزويج، أو الإنكاح، بل يقول: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتق صفية ـ رضي الله عنها ـ، وجعل عتقها صداقها (1) .
مسألة: إذا كان الولي أو الزوج أخرس ـ نسأل الله السلامة ـ فكيف يعقد النكاح؟
الجواب: يعقده بالإشارة المفهومة، إن كان يعرف الإشارة المفهومة، وإن كان لا يعرف فبالكتابة إن كان يجيدها، فإن كان لا يعرف الكتابة انتقلت الولاية إلى غيره.
__________
(1) سبق تخريجه ص (11) .(12/44)
والإشارة المفهومة لا بد أن يعرفها الشاهدان حتى يشهدا على ما وقع.
فَإِنْ تَقَدَّمَ القَبُولُ لَمْ يَصِحَّ،...........
قوله: «فإن تقدم القبول لم يصح» ، لو قال: قبلت قبل أن يقول: زوجتك، لم يصح؛ لأن العقد لا يكون إلا به، ولأن القبول قَبولُ شيءٍ بُذِلَ، فكيف يتقدم القبول على الإيجاب، ولم يبذل شيء حتى الآن؟! فلا بد أن يتقدم الإيجاب على القبول، فإن تأخر فإنه لا يصح، والطريق إلى تصحيحه أن يعاد القبول بعد الإيجاب؛ لأن القبول المتقدم وقع في غير محله، فإذا جاء الإيجاب وأردفناه بالقبول صح، والقول الراجح أنه إذا تقدم القبول على وجه يحصل به فإنه يصح.
وظاهر كلام المؤلف سواء وقع القبول بلفظ الماضي أو الأمر، مع أنه في باب البيع تقدم أنه يصح إذا كان بلفظ الأمر، مثل: بعني هذا البيت بعشرة آلاف، فقال: بعتك، صح البيع، فهنا لو قال: زوجني ابنتك، فقال: زوجتك بنتي، ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح، وأنه لا بد أن يتقدم الإيجاب.
وبناء على ما قررناه من أن المعتبر في كل العقود ما دلت عليه بالعرف الخاص، نقول: إنه يصح، بل إنه وقع في حديث الرجل الذي قال: «زوِّجنيها» ، فقال: «زوَّجتكها بما معك من القرآن» (1) ، وما ورد أن الرجل قال: قبلت، فهذا دليل على أنه إذا تقدم القبول على وجه يتضح به القبول فإنه يصح، كما لو وقع ذلك بلفظ الطلب: زوِّجني، فقال: زوَّجتك.
__________
(1) سبق تخريجه ص (39) .(12/45)
مسألة: متى يسقط القبول، أي: متى ينعقد النكاح بالإيجاب فقط؟
الجواب: إذا كان الولي هو ابن العم مثلاً، وأراد أن يتزوجها فليحضر شاهدين، ويقول: أشهدكما أني تزوجت موليتي بنت عمي، فلانة بنت فلان، وينعقد النكاح، ولا حاجة أن يقول: وقبلت؛ لأن كلمة «تزوجتها» وهو وليها كافية.
وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الإِيجَابِ صَحَّ مَا دَامَا فِي المَجْلِسِ، وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ،........
قوله: «وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس» ، أي: إن تأخر القبول عن الإيجاب، بأن قال الولي: زوجتك بنتي، وبعد مدة قال: قبلت، يصح ما داما في المجلس.
قوله: «ولم يتشاغلا بما يقطعه» ، كذلك ـ أيضاً ـ لو لم يتشاغلا بما يقطعه، فإن تشاغلا بما يقطعه ما صح، كأن يقول: زوجتك بنتي، ثم قال: أحضروا الطعام، وحين انتهوا من الأكل قال: قبلت.
كذلك ـ أيضاً ـ لو أنه أوجب العقد، بأن قال: زوجتك ابنتي، ثم قال: سمعت في الأخبار اليوم أنه حصل كذا وكذا، وصار يتكلم عن الأخبار، ثم لما انتهى قال الرجل: قبلت النكاح، فلا يصح؛ لأنهما تشاغلا بما يقطعه، فلا بد أن يكون الإيجاب غير مفصول بينه وبين القبول بفاصل أجنبي.
فإن تشاغلا بما يقطعه بغير اختيار، مثل أن قال له: زوجتك بنتي، فمن شدة الفرح قام يبكي وأطال البقاء حتى قال: قبلت، فإنه يصح؛ لأن هذا بغير اختياره، أو أصابته سعلة ثم قال: قبلت، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا الانفصال كان لعذر.(12/46)
وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَلَ............
قوله: «وإن تفرقا قبله بطل» ، «قبله» أي: قبل القبول، مثلاً لما قال: زوجتك ابنتي، قاموا وتفرقوا ثم رجعوا، وقال الخاطب: قبلت النكاح، فلا يصح؛ وذلك لأن الإيجاب والقبول صيغة عقد واحد، فلا بد أن يتقارنا.
فصار يشترط في القبول شرطان:
الأول: أن يكون في المجلس.
الثاني: ألا يتشاغلا بما يقطعه.
وهناك شرط ثالث ما ذكره المؤلف؛ لأنه معلوم، أن يكون القبول لمن أوجب له، فلو قال: زوجتك بنتي فلانة، فقال: قبلت نكاح ابنتك فلانة الثانية فإن العقد لا يصح، لعدم التطابق بين الإيجاب والقبول.
قال في الروض (1) : «وكذلك لو جُنَّ أو أغمي عليه قبل القبول» ، أي: يشترط ألا يزول عقل القابل قبل قبوله، فإن زال عقله فإنه يبطل الإيجاب، ويكون القبول إذا أفاق، لكن لا بد من إعادة الإيجاب، وكذلك لو أغمي عليه بطل الإيجاب ولا بد من إعادته.
قال في الروض: «لا إن نام» مثلاً أوجب الولي العقد فقال: زوجتك بنتي، فألقى الله عليه النوم، وبعد ساعة استيقظ فقال: قبلت، يصح على المذهب؛ لأنهما لم يتشاغلا بما يقطعه ولم يتفرقا فهو كالساكت.
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/251) .(12/47)
فَصْلٌ
وَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ،..........
قوله: «وله شروط» ، أي: للنكاح شروط.
واعلم أن من حكمة الشرع أن جميع العبادات والمعاملات لا بد فيها من شروط؛ لأجل أن تتحد الأمور وتنضبط وتتضح، ولولا هذه الشروط لكانت هذه الأمور فوضى، كل يتزوج على ما شاء، وكل يبيع على ما شاء، وكل يصلي كيف شاء، لكن هذه الشروط التي جعلها الله ـ تعالى ـ في العبادات، وفي المعاملات هي من الحكمة العظيمة البالغة؛ لأجل ضبط الشريعة وضبط العقود، كما أنه لا بد من انتفاء الموانع، ولذلك من القواعد المشهورة: أن الشيء لا يتم إلا بوجود شروطه، وانتفاء موانعه.
ثم هناك فرق بين شروط النكاح، والشروط في النكاح:
أولاً: شروط النكاح قيود وضعها الشرع ولا يمكن إبطالها، والشروط في النكاح شروط وضعها العاقد ويمكن إبطالها.
ثانياً: شروط النكاح يتوقف عليها صحته، والشروط في النكاح يتوقف عليها لزومه.
قوله: «أحدها: تعيين الزوجين» ، لأن عقد النكاح على أعيانهما، الزوج والزوجة؛ والمقام مقام عظيم يترتب عليه أنساب، وميراث، وحقوق، فلذلك لا بد من تعيين الزوجين، فلا يصح أن يقول: زوجت أحد أولادك، أو زوجت أحد هذين الرجلين، أو زوجت طالباً في الكلية، بل لا بد أن يعين، وكذلك الزوجة فلا بد أن يعيِّنها فيقول: زوجتك بنتي.
والأدلة الواردة في الكتاب والسنة تدل على التعيين، قال الله(12/48)
تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ، وقال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ، وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وإن كان هذا حكاية عن عقد تام.
ولأن النكاح لا بد فيه من الإشهاد، والإشهاد لا يكون على مبهم، بل لا يكون إشهاد إلا على شيء معين.
فَإِنْ أَشَارَ الوَلِيُّ إِلَى الزَّوْجَةِ، أَوْ سَمَّاهَا، أَوْ وَصَفَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ، أَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي وَلَهُ وَاحِدَةٌ لاَ أَكْثَرَ صَحَّ.
قوله: «فإن أشار الولي إلى الزوجة، أو سماها، أو وصفها بما تتميز به» التعيين له طرق:
الأول: الإشارة، بأن يقول زوجتك ابنتي هذه، فيقول: قبلت.
الثاني: التسمية باسمها الخاص، بأن يقول: زوجتك بنتي فاطمة، وليس له بنت بهذا الاسم سواها.
الثالث: أن يصفها بما تتميز به، مثل أن يقول: ابنتي التي أخذت الشهادة السادسة هذا العام، أو ابنتي الطويلة، أو ابنتي القصيرة، أو البيضاء، أو السوداء، أو العوراء، أو ما أشبه ذلك.
الرابع: أن يكون التعيين بالواقع، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي، وليس له سواها، ما سمَّاها، ولا وصفها، ولا أشار إليها، فالذي عيَّنها الواقع، ولهذا قال:
«أو قال: زوجتك بنتي وله واحدة لا أكثر صح» .
وهل يلحق به ما إذا كان له بنت واحدة لم تتزوج، والباقيات متزوجات؟ نعم يشمل هذا.(12/49)
فإذا قال قائل: هذا الشرط كيف تجمعون بينه وبين قوله تعالى عن موسى ـ عليه السلام ـ أنه قال له صاحب مدين: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِي حِجَجٍ} [القصص: 27] .
فالجواب: لا تعارض بين هذا وبين الآية؛ لأن الرجل ما قال: إني زوجتك بإحدى ابنتي، بل قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، فهذا ليس عقداً، هذا خبر عن الإرادة، يعني فتخير من شئت منهما أزوجك.
على أنه لو فرض أن هناك معارضة صريحة، وورد شرعنا بخلافها، فالعبرة بما في شرعنا؛ لأن شرعنا نسخ ما سواه من الشرائع، فلا يعارض شرعنا بشرع من قبلنا.(12/50)
فَصْلٌ
الثَّانِي: رِضَاهُمَا.........
قوله: «الثاني: رضاهما» ، أي: الشرط الثاني: رضا الزوجين، والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا تنكح الأيِّم حتى تستأمر» ، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها ـ أي: البكر ـ؟ قال: «أن تصمت» (1) ، حتى لو كان الأب هو الذي يزوج، والدليل العموم «لا تنكح البكر» لم يستثن الأب، وهناك رواية في صحيح مسلم (2) خاصة بالأب حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «والبكر يستأذنها أبوها» فنص على البكر ونص على الأب، ولأن هذا العقد من أخطر العقود.
وإذا كان الإنسان لا يمكن أن يجبر في البيع على عقد البيع ففي النكاح من باب أولى؛ لأنه أخطر وأعظم؛ إذ إن البيع إذا لم تصلح لك السلعة سهل عليك بيعها، لكن الزواج مشكل، فدل هذا على أنه لا أحد يجبر البنت على النكاح، ولو كانت بكراً، ولو كان الأب هو الولي، فحرام عليه أن يجبرها ولا يصح العقد.
وقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تنكح» ، لو قال قائل: هذا ليس نهياً، هذا خبر، فما الجواب؟ نقول: هذا الخبر بمعنى النهي، واعلم أن الخبر إذا جاء في موضع النهي فهو أوكد من النهي المجرد، فكأن الأمر يكون مفروغاً منه، ومعلوم
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما (5136) ؛ ومسلم في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1419) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421) (68) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/51)
الامتناع؛ لأن النفي دليل على الامتناع، والنهي توجيه الطلب إلى المكلف، فقد يفعل وقد لا يفعل، ولهذا قلنا في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] إنه أبلغ مما لو قال: وليتربَّص المطلقات؛ لأن قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} كأن هذا أمر واقع لا يتغير.
إِلاَّ البَالِغَ المَعْتُوهَ، وَالمَجْنُونَةَ، وَالصَّغِيرَ، وَالبِكْرَ وَلَوْ مُكَلَّفَةً،.......
قوله: «إلا البالغ المعتوه، والمجنونة، والصغير» ، هؤلاء ثلاثة لا يشترط رضاهم:
الأول: البالغ المعتوه لا يشترط رضاه؛ لأنه لا إذن له، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره.
والبالغ من بلغ خمس عشرة سنة، أو أنبت الشعر الخشن حول القبُل، أو أنزل باحتلام، أو غيره.
والمعتوه هو الذي نسميه باللغة العامية الخِبْل، وليس مجنوناً، فهذا يزوجه أبوه، ولكن بماذا نعلم أنه يريد النكاح؟ نعرف ذلك بميله إلى النساء، وتحدثه في النكاح، وظهور علامات الرغبة عليه، فهذا نزوجه ولا يحتاج أن نستأذن منه.
الثاني: المجنونة، أيضاً يزوجها أبوها، وهي أبعد من المعتوه، ولم يقيدها المؤلف بالبلوغ ولا بالصغر؛ لأن الأب يجبر ابنته عاقلة كانت أو مجنونة إذا لم تكن ثيباً، وهل يزوج المجنونة مطلقاً؟ ظاهر كلام المؤلف الإطلاق، ولكن ينبغي أن يقيد بما إذا علمنا رغبتها في النكاح، فإذا لم نعلم رغبتها في النكاح صار تزويجها عبثاً، وربما يحصل نزاع من زوجها ومفسدة، فربما تكون في حالة جنون شديد وتقتل أولادها كما قد يقع، لكن إذا(12/52)
علم أنه لا بد من تزويجها بقرائن الأحوال فلا بد من ذلك، كذلك المجنون لا يشترط رضاه، وعلامة رغبته في النكاح القرائن، فإذا رأينا القرائن تدل على أن هذا المجنون يريد الزواج زوَّجناه، ولا حاجة أن نقول له: هل ترغب في الزواج؟
الثالث: الصغير، وهو من دون البلوغ، كذلك لا يشترط رضاه؛ لأنه إن كان دون التمييز فهو كالمجنون لا تمييز له، وإن كان دون البلوغ فإن رضاه غير معتبر، وسخطه غير معتبر، وعلى هذا فالمراهق يزوجه أبوه بدون رضاه، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وفي هذه المسألة نظر، صحيح أن الصغير لا إذن له معتبر؛ لأنه يحتاج إلى ولي، لكن هل هو في حاجة إلى الزواج؟ غالباً ليس بحاجة، والصغر علة يرجى زوالها بالبلوغ، فلننتظر حتى يبلغ، أما المجنون والمعتوه فعلتهما لا ينتظر زوالها.
لكن إذا قال قائل: ربما يحتاج الصغير إلى زوجة، كأن تكون أمه ميتة، والزوجة ستقوم بحاجاته ومصالحه، فهل نقول في مثل هذه الحال: إننا نزوجه؟ نقول: نعم، وهذا في الحقيقة فيه مصلحة، ومن مقاصد النكاح القيام بمصالح الزوج، غير الجماع وما يتعلق به، وقد مر علينا قصة جابر ـ رضي الله عنه ـ في أنه تزوج ثيباً لتصلح من شؤون أخواته (1) ، فعلم من ذلك أن للنكاح مقاصد غير مسألة الجماع، فإذا قلنا بهذا، فهل نقول في مثل هذه الحال: يجوز أن يعقد الأب له الزواج على هذه المرأة لتقوم بمصالحه؟
__________
(1) سبق تخريجه ص (11) .(12/53)
المذهب يقولون: نعم يعقد له النكاح لتقوم بمصالحه، ولو قلنا بعدم الصحة، وأن هذه المصالح يمكن إدراكها باستئجار هذه المرأة لتقوم بمصالحه، ولا نلزمه بزوجة يلزمه مؤونتها، والإنفاق عليها، وترثه لو مات، ويترتب عليه أمور أخرى، فلو قلنا بذلك لكان له وجه، فكوننا نلزم هذا الصغير بأمر لا يلزمه مع أنه يمكن أن نقوم بمصالحه على وجه آخر، محل نظر.
فإن كان قريباً من البلوغ فله إذن؛ لأنه إذا صار يعرف مصالح النكاح فيمكن أن يستأذن، وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ أن ابن تسع وبنت تسع في باب النكاح لهم إذن؛ لأنهم يعرفون مصالح النكاح.
مسألة: إذا زوج الأب ابنه الصغير لمصلحته، فهل له الخيار إذا بلغ؟
الجواب: هناك قول في المذهب بأن له الخيار في الفسخ، وحينئذٍ يلزم الأب المهرُ، وهذا هو الفرق بين قولنا له الخيار وله الطلاق، فإذا طلق فالمهر يلزمه هو، والصحيح أنه لا خيار له؛ لأن تصرف الأب صحيح بمقتضى الشرع، فإن أراد الابن أن يفارق هذه الزوجة فله أن يطلق.
قوله: «والبكر ولو مكلفة» ، أي: أنه يجوز لأب البكر أن يزوجها، ولو بغير رضاها، ولو كانت مكلفة، أي: بالغة عاقلة.
وقوله: «ولو مكلفة» إشارة خلاف، فإذا قال لها أبوها: أنا أريد أن أزوجك فلاناً، فقالت: لا، أنا ما أريد فلاناً صراحة، يقول: أزوجك ولا أبالي، ويغصبها غصباً ولو كانت لا تريده؛(12/54)
لأنها بكر، ولو كانت بالغة عاقلة ذكية، تعرف ما ينفعها وما يضرها، وعقلها أكبر من عقل أبيها ألف مرة؛ ودليلهم أن عائشة بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ زوجها أبوها النبيَ صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت ست، وبنى بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهي بنت تسع سنوات (1) .
فنقول لهم: هذا دليل صحيح ثابت، لكن استدلالكم به غير صحيح، فهل علمتم أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ استأذن عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأبت؟!
الجواب: ما علمنا ذلك، بل إننا نعلم علم اليقين أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لو استأذنها أبوها لم تمتنع، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خيَّرها مثل ما أمره الله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} ، أي: بلطف وحسن معاملة وشيء من المال، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} [الأحزاب] .
فأول من بدأ بها عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: «استأمري أبويك في هذا وشاوريهم» ، فقالت: يا رسول الله أفي هذا أستأمر أبواي؟! إني أريد الله والدار الآخرة (2) ، فمن هذه حالها لو استؤذنت لأول مرة أن
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب إنكاح الرجل ولده الصغار (5133) ؛ ومسلم في النكاح/ باب تزويج الأب البكر الصغيرة (1422) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (4785) ؛ ومسلم في الطلاق/ باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية (1475) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(12/55)
تتزوج الرسول صلّى الله عليه وسلّم هل تقول: لا؟! يقيناً لا، وهذا مثل الشمس، فهل في هذا الحديث دليل لهم؟! ليس فيه دليل.
فإذا قال قائل: إذا كانت صغيرة فلا يشترط إذنها، بخلاف الكبيرة.
قلنا: أنتم تقولون: «ولو مكلفة» ، أي: هي بالغة عاقلة من أحسن الناس عقلاً، ولها عشرون سنة، أو ثلاثون سنة، فلا يشترط رضاها، فأنتم لا دليل لكم في هذا الحديث.
ثم نقول: نحن نوافقكم إذا جئتم بمثل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومثل عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهل يمكن أن يأتوا بذلك؟! لا يمكن، إذن نقول: سبحان الله العظيم، كيف نأخذ بهذا الدليل الذي ليس بدليل؟! وعندنا دليل من القرآن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل عن امرأة، تزوجها ابن عمه غصباً عليها (1) .
ودليل صريح صحيح من السنة، وهو عموم قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» (2) ، وخصوص قوله: «والبكر يستأذنها أبوها» (3) ، فإذا قلنا: لأبيها أن يجبرها صار الاستئذان لا فائدة منه، فأي فائدة في أن نقول: هل ترغبين أن نزوجك بهذا، وتقول: لا أرضى، هذا رجل فاسق، أو رجل كفء لكن لا أريده، فيقال: تجبر؟! هذا خلاف النص.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً» (4579) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) سبق تخريجه ص (51) .
(3) سبق تخريجه ص (51) .(12/56)
وأما النظر فإذا كان الأب لا يملك أن يبيع خاتماً من حديد لابنته بغير رضاها، فكيف يجبرها أن تبيع خاتم نفسها؟! هذا من باب أولى، بل أضرب مثلاً أقرب من هذا، لو أن رجلاً طلب من هذه المرأة أن تؤجر نفسها لمدة يومين لخياطة ثياب، وهي عند أهلها ولم تقبل، فهل يملك أبوها أن يجبرها على ذلك، مع أن هذه الإجارة سوف تستغرق من وقتها يومين فقط وهي ـ أيضاً ـ عند أهلها؟ الجواب: لا، فكيف يجبرها على أن تتزوج من ستكون معه في نكد من العقد إلى الفراق؟! فإجبار المرأة على النكاح مخالف للنص المأثور، وللعقل المنظور.
فإذا قال قائل: قوله: «يستأذنها» يدل على أن المرأة لها رأي، فلا نجعل الحكم خاصاً بالصغيرة، ونقول: المكلفة لا تجبر، لكن الصغيرة تجبر.
قلنا: أي فائدة للصغيرة في النكاح؟! وهل هذا إلا تصرف في بضعها على وجه لا تدري ما معناه؟! لننتظر حتى تعرف مصالح النكاح، وتعرف المراد بالنكاح ثم بعد ذلك نزوجها، فالمصلحة مصلحتها.
إذاً القول الراجح أن البكر المكلفة لا بد من رضاها، وأما غير المكلفة وهي التي تم لها تسع سنين، فهل يشترط رضاها أو لا؟ الصحيح ـ أيضاً ـ أنه يشترط رضاها؛ لأن بنت تسع سنين بدأت تتحرك شهوتها وتحس بالنكاح، فلا بد من إذنها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الحق.
وأما من دون تسع سنين، فهل يعتبر إذنها؟ يقولون: من(12/57)
دون تسع السنين ليس لها إذن معتبر؛ لأنها ما تعرف عن النكاح شيئاً، وقد تأذن وهي تدري، أو لا تأذن؛ لأنها لا تدري، فليس لها إذن معتبر، ولكن هل يجوز لأبيها أن يزوجها في هذه الحال؟
نقول: الأصل عدم الجواز؛ لقول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» (1) ، وهذه بكر فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلاً للاستئذان، ثم تستأذن.
لكن ذكر بعض العلماء الإجماع على أن له أن يزوجها، مستدلين بحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وقد ذكرنا الفرق، وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين: لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبداً؛ لأننا إن قلنا بشرط الرضا فرضاها غير معتبر، ولا نقول بالإجبار في البالغة فهذه من باب أولى، وهذا القول هو الصواب، أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى.
لكن لو فرضنا أن الرجل وجد أن هذا الخاطب كفء، وهو كبير السن، ويخشى إن انتقل إلى الآخرة صارت البنت في ولاية إخوتها أن يتلاعبوا بها، وأن يزوِّجوها حسب أهوائهم، لا حسب مصلحتها، فإن رأى المصلحة في أن يزوجها من هو كفء فلا بأس بذلك، ولكن لها الخيار إذا كبرت؛ إن شاءت قالت: لا أرضى بهذا ولا أريده.
وإذا كان الأمر كذلك فالسلامة ألا يزوجها، وأن يدعها
__________
(1) سبق تخريجه ص (51) .(12/58)
إلى الله ـ عزّ وجل ـ فربما أنه الآن يرى هذا الرجل كفئاً ثم تتغير حال الرجل، وربما يأتي الله لها عند بلوغها النكاح برجل خير من هذا الرجل؛ لأن الأمور بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يسلكه في أقواله وتصرفاته، فمتى دار الأمر بين السلامة والخطر فالأولى السلامة، وذكر عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أنه كان لا يعدل بالسلامة شيئاً، ولعل هذا مأخوذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (1) ، يعني إذا لم يتبين لك الخير فيما تقول فوظيفتك السكوت، وجرب تجد، كم من إنسان أخرج كلمة، فقال: ليتني لم أخرجها، لكن لو كان مالكاً لها في قلبه يكون له التحكم، ويصبر حتى إذا وجد أنه لا بد من الكلام تكلم، وكذلك التصرفات إذا دار الأمر بين أن تفعل أو لا تفعل، ولم يترجح عندك أن الإقدام خير، فإن الأولى الانتظار والتأني حتى يتبين، وما أحسن حال الإنسان إذا استعمل ذلك، فإنه يجد الراحة العظيمة.
والفرق بين قولنا: إن الصغير يجوز لأبيه تزويجه لمصلحته، وقولنا: إن الصغيرة لا يزوجها، أن الصغير يستطيع أن يتخلص من الزوجة بالطلاق، لكن الزوجة لا تستطيع التخلص.
لكن هاهنا مسألة، وهي أن المرأة إذا عيَّنت من ليس بكفء فإن الأب لا يطيعها، ولا إثم عليه، ويقول: أنا لا أزوجك مثل
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق/ باب حفظ اللسان (6475) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف ... (47) عن ابن هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(12/59)
هذا الرجل أبداً، ولكن إذا عينت كفؤاً فعلى العين والرأس.
وإذا عيَّن كفؤاً وأبت، ثم جاءه كفء آخر وأبت، ثم جاءه ثالث وأبت، وكلما جاء كفء أبت، فهل عليه إثم إذا لم يزوجها؟ لا؛ لأنها هي التي تأبى، فيقال لها: أنت إن رضيت الكفء الذي أمرنا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتزويجه، وهو من نرضى دينه وخلقه فعلى العين والرأس، أما إذا عينت من ليس بكفء في دينه وخلقه ـ وأهم شيء الدين ـ فإننا لا نقبل منك ولا نزوجك.
لاَ الثَّيِّبَ، فَإِنَّ الأَبَ، وَوَصِيَّهُ فِي النِّكَاحِ يُزَوِّجَانِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، كَالسَّيِّدِ مَعَ إِمَائِهِ،....
قوله: «لا الثيب» ، أي: لا تستثنى الثيب، بل الثيب يشترط رضاها، ولو زوجها أبوها، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تنكح الأيم حتى تستأمر» (1) ، أي يؤخذ أمرها، والثيب هي التي زالت بكارتها بجماع في نكاح صحيح، أو بزنا مع رضا، أو بزنا مع إكراه ـ أيضاً ـ على المذهب؛ وذلك لأن الثيب التي جومعت عرفت معنى الجماع، فتستطيع أن تقبل أو ترد، ولكن هذا بالنسبة لمن تزوجت وجومعت واضح، وكذلك من زنت ـ والعياذ بالله ـ برضاها واضح؛ فإنها تتلذذ بالجماع وتعرفه، لكن بالنسبة لمن زني بها كرهاً، هل نقول: إن حكمها حكم الثيب التي زالت بكارتها بالجماع في النكاح الصحيح، أو بالزنا المرضي به؟
الجواب: هذا لا يظهر، والمذهب أن حكمها حكم الأولين، ولكن الصحيح خلاف ذلك، وأن المزني بها ـ ولو زالت بكارتها ـ فإنها إذا كانت مكرهة فلا بد من إذنها، ولا عبرة
__________
(1) سبق تخريجه ص (51) .(12/60)
بثيوبتها، المهم أن الثيب لا بد أن ترضى حتى ولو زوجها أبوها، فإن زوَّجها بغير رضاها فلها الخيار؛ لأنه ثبت في الصحيح أن امرأة زوجها أبوها في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي ثيب فخيرها النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، فلا بد من استئمارها، أي: أن تشاور وتراجع، والفرق بين البكر والثيب ظاهر، فالبكر حيية تستحي من الكلام في هذه الأمور، والثيب قد عرفت الأزواج والرجال، ويمكنها أن تقبل أو ترفض، فلذلك لا بد من استئمارها، فإن ردت من أول الأمر، بأن رفضت فلا حاجة للاستئمار، لكن لنا أن نشير عليها إذا كان الرجل كفؤاً لعلها تقبل؛ لأن بعض النساء قد ترد لأول وهلة، وبعد المراجعة تقبل.
قوله: «فإن الأبَ، ووصيَّه في النكاح يزوِّجانهم بغير إذنهم» ، «الأبَ» بالتخفيف، أما «الأبّ» بالتشديد فهو نبات ينبت في الأرض، قال تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} [عبس] ، وأما الأبُ بالتخفيف فهو الوالد، والمراد به الوالد الأدنى الذي خرجوا من صلبه.
وقولنا: «الوالد الأدنى» احترازاً من الجد فإنه لا يزوجهم، فهو هنا كغيره من بقية الأولياء.
وقوله: «ووصيه» الوصي من عهد إليه الولي بتزويج بناته بعد موته، فإن عهد إليه بالتزويج في الحياة فهو وكيل.
إذاً الأب، ووكيله، ووصيه يزوجونهم بغير إذنهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود (5138) عن خنساء بنت خدام الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ.(12/61)
وعلم من قول المؤلف: «ووصيه» ، أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، أي: أن من أوصى أن يزوجوا مولياته بعد موته، فإن وصيه يقوم مقامه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
فالأب إذا مات يكون الولي بعده العم أو الأخ إن كان كبيراً، فإذا أوصى الأب إلى أحدٍ يزوجها صار الذي يزوجها الوصي دون الأخ، هذا معنى قولنا: إن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، وعللوا ذلك بأن الأب له شفقة، وله نظر بعيد بالنسبة للبنات، فقد يرى أن الأولياء ليسوا أهلاً ولا ثقة عنده بهم فيوصي إلى شخص آخر.
والصحيح أنها لا تستفاد بالوصية، وأنها تسقط بموت صاحبها، فإذا مات الأب فإنه لا حق له في الوصية بالتزويج، بل إن الوصية في الأصل لم تنعقد؛ لأن ولاية النكاح ولاية شرعية تستفاد من الشرع، ونحن إذا قلنا باستفادة الولاية بالوصية ألغينا ما اعتبره الشرع، فكما أن الأب لا يوصي بأن يرث ابنَه وصيُه، فكذلك لا يوصي بأن يزوج بنتَه وصيُه.
فلو أن إنساناً قال: أوصيت بنصيب بنتي أن يملكه فلان، ومات الأب ثم ماتت البنت، فهل يرثها الوصي؟ لا يرثها؛ لأنه لا يملك بالوصاية، كذلك الولاية لا تملك بالوصاية، فإذا مات الأب وقد أوصى بطلت الوصية، وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الولاية متلقاة من الشرع، نعم له أن يوكل ما دام حياً، أما بعد الموت فولايته ماتت بموته.
قوله: «كالسيد مع إمائه» السيد مالك العبد؛ ولهذا قال:(12/62)
«مع إمائه» أي: مملوكاته، فالسيد الذي له مملوكات ولو كن كباراً يزوجهن بغير إذنهن؛ لأنه مالك لهن ملكاً مطلقاً، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] ، فمفهومه أن إكراههن على غير البغاء كالنكاح الصحيح لا بأس به، وهو كذلك، ولقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] فأهلهن هم الذين يزوجونهن، فالسيد مالك لأمته، لرقبتها ومنفعتها ملكاً تاماً، ولهذا لو قالت: زوجني، وقال: لا أنا أريد أن أتسرَّاك، لا نلزمه بالتزويج، فالمالك له أن يزوج إماءه رضين أم لم يرضين، لكن على كل حال يجب عليه أن لا يشق عليهن، وألا يزوجهن من لا يرضينه.
وقوله: «كالسيد مع إمائه» ، فهل يجوز إطلاق السيد على المالك؟
الجواب: إطلاق السيد من حيث هو ـ لا على المالك ـ كثير، كما في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] ، كذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أنا سيد ولد آدم» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا إلى سيدكم» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الفضائل/ باب تفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق (2278) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد/ باب إذا نزل العدو على حكم رجل (3043) ؛ ومسلم في المغازي/ باب جواز قتال من نقض العهد (1768) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(12/63)
وَعَبْدِهِ الصَّغِيرِ، وَلاَ يُزَوِّجُ بَاقِي الأَوْلِيَاءِ صَغِيرَةً دُونَ تِسْعٍ، وَلاَ صَغِيراً، وَلاَ كَبِيرَةً عَاقِلَةً، وَلاَ بِنْتَ تِسْعٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا، وَهُوَ صُمَاتُ البِكْرِ، وَنُطْقُ الثَّيِّبِ،.
قوله: «وعبده الصغير» احترازاً من الكبير، أي: فللسيد أن يجبر عبده الصغير الذي لم يبلغ على أن يتزوج، فالسيد مع مملوكه كالأب مع أولاده، يزوج الصغار من العبيد والمجانين ونحوهم، لكنه أكثر سيطرة من الأب؛ لأنه يزوج الكبار والصغار من النساء، والثيبات والأبكار.
قوله: «ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع» بقية الأولياء، أي: من عدا الأب، مثل الأخ والعم وما أشبه ذلك، لا يزوجون صغيرة دون تسع بأي حال من الأحوال، سواء كانت بكراً أم ثيباً.
قوله: «ولا صغيراً» ، أي: لا يزوجون صغيراً أبداً؛ لأنه ليس لهم عليه ولاية تامة، وليس عندهم شفقة كشفقة الأب، ولأنهم إذا زوجوا الصغير ألزموه بمقتضيات النكاح من النفقة وغيرها، وهذا لا يجوز إلا للأب، إلا أنهم استثنوا إذا احتاج الصغير إلى المرأة فيزوجه الحاكم ـ القاضي ـ ولا يزوجه الأولياء.
وكيف يحتاج الصغير إلى زوجة؟ مثل ما إذا كان يحتاج إلى امرأة تخدمه وتصلح أحواله، من تغسيل الثياب، وفرش الفرش، وما أشبه ذلك.
وقال بعض الأصحاب: إذا كان الحاكم يزوجه فغيره من الأولياء ـ أيضاً ـ يزوجه إذا احتاج؛ لأن ولاية الحاكم دون ولاية غيره من الأقارب؛ فولاية الحاكم عامة، وولاية غيره خاصة،(12/64)
فمثلاً صبي له سبع سنوات، احتاج إلى الزواج، وله أخ بالغ فله أن يزوجه لحاجته، أما على المذهب فلا يزوجه إلا الحاكم.
قوله: «ولا كبيرة عاقلة» ، أي: لا يزوج باقي الأولياء، ولو كان الجد، أو الأخ الشقيق، أو العم الشقيق كبيرة عاقلة ـ أي: بالغة ـ إلا بإذنها، سواء كانت ثيباً أو بكراً؛ لأن الإجبار للأب فقط.
وعلم من قول المؤلف: «كبيرة عاقلة» أنهم يزوجون الكبيرة المجنونة، ولكن هذا مقيدٌ بالحاجة، وذلك إذا عرفنا أنها تميل إلى الرجال، ففي هذه الحال يزوجها الأولياء بدون إذنها لدفع حاجتها؛ لأنها مجنونة فلا إذن لها.
قوله: «ولا بنت تسع» ، أي: لا يزوجون بنت تسع ولو بكراً إلا بإذنها، وهي ما بين التسع إلى البلوغ على رأي المؤلف، كالبالغة، والصحيح أنها ليست كذلك، وأن إذنها غير معتبر؛ وذلك لأنها لا تفهم مصالح النكاح كما ينبغي.
قوله: «إلا بإذنهما» الضمير المثنى يعود على الكبيرة العاقلة وبنت التسع.
فصار بقية الأولياء لا يزوجون ذكراً، ولا صغيرة دون تسع بأي حال من الأحوال، ولا كبيرة عاقلة، ولا بنت تسع إلا بإذنهما، وأما الكبيرة المجنونة فيزوجونها إذا احتاجت إلى النكاح، وكان من مصلحتها أن تزوج؛ حتى لا تفسد أخلاقها.
وقوله: «إلا بإذنهما» ، الدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح(12/65)
البكر حتى تستأذن ولا تنكح الأيم حتى تستأمر» (1) .
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح» خبر بمعنى النهي؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر بأنه لا تنكح، لكن مراده النهي عن أن تنكح إلا بإذنها، والثيب تستأمر، والفرق بين الاستئذان والاستئمار، أن الاستئذان أن يقال لها مثلاً: خطبك فلان بن فلان، ويذكر من صفته وأخلاقه وماله، ثم تسكت أو ترفض، وأما الاستئمار فإنها تشاور؛ لأنه من الائتمار لقوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] ، وقوله: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} [القصص: 20] فهي تُشاور؛ وذلك لأنها عرفت النكاح، وزال عنها الحياء، فكان لا بد من استئمارها.
ثم فسَّر الإذن بقوله: «وهو صمات البكر ونطق الثيب» «صمات البكر» أي: سكوتها، «ونطق الثيب» أي: أن تقول: نعم، رضيت.
وقوله: «صمات البكر» ، ظاهر كلامه ولو بكت أو ضحكت، أما إذا ضحكت فظاهر أنها راضية، وأما إذا بكت فالفقهاء يقولون: إن هذا لا يدل على عدم الرضا، بل قد يدل على الرضا، وأنها بكت لفراق أبويها، لما عرفت أنها إذا تزوجت ستفارقهما، فلا يدل ذلك على الكراهة.
وهذا الذي قالوه له وجهة نظر، لكن ينبغي أن يقال في البكاء خاصة: إن دلت القرينة على أن البكاء كراهة للزواج فهو
__________
(1) سبق تخريجه ص (51) .(12/66)
رفض، وإذا لم تدل القرينة على ذلك فلا يدل على الرفض.
وقوله: «وهو صمات البكر ونطق الثيب» ، فلو عكس الأمر وقالت البكر: نعم أريد أن أتزوج بهذا الرجل، وأنا قابلة به، والثيب سكتت، فهل يكون ذلك إذناً؟
أما الثيب فلا يكون إذناً؛ لأن النطق أعلى من السكوت، فقولها: رضيت، أعلى من كونها تسكت، وأما البكر فإنه يكون إذناً؛ لأن كونها تنطق وتقول: رضيت به، أبلغ في الدلالة على الرضا من الصمت.
والعجيب أن ابن حزم ـ رحمه الله ـ بظاهريته يقول: إنها لو صرحت بالرضا لم يكن إذناً، فلو قالت: رضيت بهذا الرجل وأنا أريده ولا أريد غيره، يقول: هذا ليس بإذن؛ لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ سئل كيف إذنها، قال: «أن تسكت» (1) ، فمعناه أنها لو جاءت بإذن غير السكوت، لم يكن ذلك معتبراً شرعاً.
وهذا قولٌ ضعيف، وهو مما يدل على فساد التمسك بالظاهر بدون مراعاة المعنى؛ لأن الشريعة ظواهرها كلها حق، وكلها حِكم وأسرار، وليس من الحكمة أن نقول لامرأة: هل ترضين أن تتزوجي بهذا الرجل؟ فتقول: نعم، رضيت به، ثم نقول لنظيرتها: هل ترضين أن تتزوجي بهذا الرجل؟ فتسكت، ونقول: إن الثانية راضية، والأولى غير راضية.
فالصواب: أن إذن البكر أدناه الصمت وأعلاه النطق؛ لكن
__________
(1) سبق تخريجه ص (51) .(12/67)
النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الصمت دليلاً على الرضا؛ لأن الغالب في الأبكار الحياء وعدم التصريح بهذا الأمر، وهذا خاضع لكل زمان ووقت، ففي وقتنا الحالي هن يبحثن عن الزوج قبل أن يخطبن، وإذا قيل لإحداهن: ترضين بفلان؟ قالت: أرضى به، وهو طيب، وأنا ما أريد إلا هذا، ولا تبالي.
كما يجب أن يسمى الزوج المستأذن في نكاحه على وجه تقع به المعرفة، فيقال: رجل شاب، كهل، شيخ، صفته كذا وكذا، عمله كذا وكذا، حالته المادية كذا وكذا، أما أن يقال: نريد أن نزوجك، فقط، فهذا لا يجوز، فربما أنها تتصور أن هذا الزوج على صفة معينة ويكون الأمر بالعكس.(12/68)
فَصْلٌ
الثَّالِثُ: الوَلِيُّ،..........
قوله: «الثالث: الولي» ، أي: الثالث من شروط النكاح الولي، يعني أن النكاح لا ينعقد إلا بولي، والدليل على ذلك القرآن والسنة، والنظر الصحيح.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ، [البقرة: 220] ، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] . «وأنكح» فعل متعدٍ يتعدى إلى الغير، والخطاب للأولياء فدل هذا على أن النكاح راجع إليهم، ولذلك خوطبوا به، فيكون هذا دليلاً على أن المرأة لا يمكن أن تزوج نفسها، بل لا بد من أن ينكحها غيرها، وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] ، {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أي: لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، ووجه الدلالة من الآية أنه لو لم يكن الولي شرطاً لكان عضله لا أثر له.
وفي قوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} دليل على أنه لا فرق في اشتراط الولي بين الثيب والبكر؛ لأن قوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} دليل على أنهن قد تزوجن من قبل، وعلى هذا فنقول: إن الآية دلالتها صريحة على أن الولي شرط في النكاح، سواء في البكر أو في الثيب.
أما السنة فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» (1) ، و «لا» نافية
__________
(1) أخرجه أحمد (4/394) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2085) ؛ والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1101) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1881) عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ، وصححه في الإرواء (1839) .(12/69)
للجنس، والنفي هنا منصب على الصحة وليس على الوجود؛ لأنه قد تتزوج امرأة بدون ولي، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما يخبر عن شيء فيقع على خلاف خبره.
وعلى هذا فقوله: «لا نكاح إلا بولي» ، أي: لا نكاح صحيح إلا بولي.
فلو قال قائل: لِمَ لا نقول: لا نكاح كامل، ونحمل النفي على نفي الكمال لا على نفي الصحة؟
قلنا: هذا غير صحيح؛ لأنه متى أمكن حمله على نفي الصحة كان هو الواجب؛ لأنه ظاهر اللفظ، ونحن لا نرجع إلى تفسير النفي بنفي الكمال، إلا إذا دل دليل على الصحة، ولأن الأصل في النفي انتفاء الحقيقة واقعاً أو شرعاً.
وهذه القاعدة تقدمت لنا مراراً، وقلنا: إن النفي يحمل على نفي الوجود، فإن تعذر فنفي الصحة، فإن تعذر فنفي الكمال.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل» (1) .
أما النظر فإن المرأة ضعيفة العقل والدين، وسريعة العاطفة، سهلة الخداع، يمكن أن يأتي شخص من أفسق الناس ويغرّها،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/47) ؛ وأبو داود في النكاح/ باب في الولي (2083) والترمذي في النكاح/ باب ما جاء لا نكاح إلا بولي (1102) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي (1879) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4074) ؛ والحاكم (2/168) وقال: صحيح على شرط الشيخين.(12/70)
ويحمد نفسه عندها، ويجعل نفسه فوق الناس، في المال والكمال والأخلاق والدين، وهو من أفجر الناس وأرذل الناس، فتنخدع، فكان من الحكمة أن لا تتزوج إلا بولي.
فصار النظر مع الأثر يقتضي أن لا يصح النكاح إلا بولي، وهذا هو الذي عليه عامة أهل العلم وجمهور الأمة، أنه لا بد في النكاح من ولي، وأنه لا يصح بدون ولي أبداً، ويستثنى من ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن له أن يتزوج بدون ولي، وله أن يتزوج مع وجود الولي لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] كما أن له أن يتزوج بالهبة بدون صداق.
وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن الحرة المكلفة تزوج نفسها بدون ولي، وقال: إن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «الثيب أحق بنفسها من وليها» (1) .
ولكن هذا القول ضعيف، والحديث الذي استدل به ليس معناه أنها تزوج نفسها، بل معناه أنها لا تُزوج حتى تستأمر، ويؤخذ أمرها ويبين لها الأمر واضحاً جلياً، فلا يُكتفى بنظر الولي في حقها، بل لا بد أن تستأمر ويبين لها الأمر على وجه واضح.
والذي حملنا على ذلك هو الحديث الذي ذكرناه: «لا نكاح إلا بولي» ، وقد صححه أحمد وغيره، وعلى هذا فالصحيح أنه لا بد من الولي.
__________
(1) أخرجه مسلم في النكاح/ باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421) (67) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/71)
وقال بعض أهل العلم: إنه يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها، فتقول لوليها ـ مثلاً ـ إذا خُطِبَتْ وَوافَقَتْ: إن فلاناً خطبني، وأنا أريد أن أتزوج به وسأعقد النكاح لنفسي، فإذا أُذن لها زوجت نفسها.
ولكن الصحيح ـ أيضاً ـ خلاف هذا، وأنه لا بد من الولي المباشر، وهذا هو المعروف من سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه لا تزوج امرأة إلا بولي، حتى أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ لما أراد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يتزوجها أمرت ابنها عمر أن يزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: قم يا عمر فزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ، مع أنهم ذكروا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم في النكاح أنه يتزوج بدون ولي؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وَشُرُوطُهُ: التَّكْلِيفُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالحُرِّيَّةُ، وَالرُّشْدُ فِي العَقْدِ،
قوله: «وشروطه» يعني شروط الولي.
الأول: قوله: «التكليف» بأن يكون بالغاً عاقلاً، فالذي دون البلوغ لا يعقد لغيره، والمجنون لا يعقد لغيره؛ لأنهما يحتاجان إلى ولي، فكيف يكونان وليين لغيرهما؟!
أما المجنون فأمره ظاهرٌ جداً، فإنه لا يمكن أن يزوج، وأما الصغير فذهب بعض أهل العلم إلى أن المراهق الذي لم يبلغ، لكنه قريب البلوغ ويميز ويعرف الكفء، أن له أن يزوج، ولكن المذهب خلاف ذلك، وأنه لا بد أن يكون بالغاً، حتى لو
__________
(1) أخرجه أحمد (6/295) ؛ والنسائي في النكاح/ باب إنكاح الابن أمه (6/81) ؛ والحاكم (3/178 ـ 179) ، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وانظر: الإرواء (6/220) .(12/72)
فرض أن له أربع عشرة سنة، وأحد عشر شهراً، وثمانية وعشرين يوماً، وبناء على ذلك لو وجدت امرأة لها عم كفء في الولاية، ولها أخ صغير لم يبلغ يزوجها عمها، وأخوها الشقيق لا يزوجها، ولو لم يكن بينه وبين البلوغ إلا يوم واحد.
الثاني: قوله: «والذكورية» ضدها الأنوثة والخنوثة؛ لأنه إذا كانت المرأة لا تزوج نفسها فكيف تزوج غيرها؟! وعلى هذا فالأم لا تزوج بنتها لاشتراط الذكورية، فلو كان لها أم وابن عم، وجاءت تسأل من وليها؟ نقول: ابن عمها، أما الأنثى فلا تكون ولياً.
وكذلك الخنثى المشكل لا يزوج، وهذا ـ والحمد لله ـ قليل كما مر علينا، ولكن على كل حال يجب أن نعرف أنه يحترز بالذكورية عن الأنوثة والخنوثة.
والذكورية مشروطة في كل ولاية إلا ولاية تتعلق بالنساء، فلا حرج أن تكون الولية امرأة، فلا يمكن أن تكون المرأة مديرة على مدرسة رجال، ويمكن أن تكون مديرة على مدرسة نساء، ولا يمكن أن تكون وزيرة في وزارة رجال، ولكن هل يمكن أن تكون وزيرة في وزارة النساء؟ الجواب: نعم، لكن لا يمكن الآن؛ لأنه حتى وزارة النساء، أو إدارة النساء، أو رئاسة النساء فلا بد أن يكون فيها ذكور.
الثالث: قوله: «والحرية» ، أي: يشترط أن يكون الولي حراً، فالرقيق لا يزوج ابنته ولو كان من أعقل الناس، وأسَدِّ الناس رأياً، وأقومهم ديناً؛ لأنه هو نفسه مملوك لا يستقل بنفسه ومنافعه، فلا يكون ولياً على غيره.(12/73)
والصحيح أن ذلك ليس بشرط؛ لأن هذا ليس مالاً أو تصرفاً مالياً حتى نقول: إن العبد لا يملك، ولكن هذه ولاية، فهو أبٌ، ومعلوم أن احتياط الأب لابنته أبلغ من أن يحتاط لها عمها أو أخوها أو السلطان أو ما أشبه ذلك، فكيف تسلب عنه الولاية مع أبوته ورشده وعقله ودينه؟!
والعجب أنهم ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن المكاتب يصح أن يكون ولياً فيزوج ابنته؛ لأن المكاتب انعقد فيه سبب الحرية، وإن كان عبداً ما بقي عليه درهم، لكن له أن يزوج بناته، فيقال: هو عبد، فإذا صح أن يزوج بناته فيصح أن يزوجهن من ليس بمكاتب، وهذا القول هو الراجح، فإذا وجد وليٌّ رقيق فإنه يزوج، وهل هذا التزويج يفوت حق سيده؟ لا يفوته، فلا ضرر على سيده في ولايته النكاح، وهو رشيد وعاقل ودَيِّن وفاهم، فقد يكون الرقيق من أعلم الناس بأحوال الناس، والمقصود بالولاية أن تكون المرأة عند زوج كفء، فكيف يزوجها القاضي، وأبوها موجود؟!
الرابع: قوله: «والرشد في العقد» كذلك ـ أيضاً ـ يشترط الرشد في العقد، وهذا من أهم الشروط أن يكون الولي رشيداً، والرشد في كل موضع بحسبه، الرشد في العقد بأن يكون بصيراً بأحكام عقد النكاح، بصيراً بالأكْفَاء، ليس من الناس الذين عندهم غِرَّة وجهل، بل يعرف الأكفاء ومصالح النكاح، وهذا في الحقيقة هو محط الفائدة من الولاية؛ لئلا نضيع مصالح المرأة، فإذا لم يكن رشيداً، ولا يهمه مصلحة البنت، ولا يهمه إلا المال، وجاء إليه شخص، وقال: أنا أعطيك مليون ريال وزوجني(12/74)
بنتك، وهذا الرجل ليس كفؤاً، فوافق الأب وزوج ابنته، وقال: أنا لي إجبار بنتي، وأخذ المليون، فهذا لا يمكن أن يولى، ولا تصح ولايته، فلا بد أن يكون عنده رشد في العقد، ولو فرضنا أن هذا الولي عنده رشد في العقد، ويعرف مصالح النكاح، ويعرف الأكفاء ويعرف الناس معرفة تامة، لكنه في بيعه وشرائه ليس برشيد، فلا يحسن البيع ولا الشراء، فهذا لا يضر؛ لأن الرشد في كل موضع بحسبه، فما دام أن الرجل يعرف مصالح النكاح والكفء، وما يجب للزوجة وجميع ما يتعلق بالنكاح فهو رشيد ويزوِّج.
وَاتِّفَاقُ الدِّينِ سِوَى مَا يُذْكَرُ، وَالعَدَالَةُ،..........
الخامس: قوله: «واتفاق الدين» ، يعني أن يكون الولي والمرأة دينهما واحد، سواء كان دين الإسلام أو غير دين الإسلام؛ وذلك لانقطاع الولاية بين المختلفين في الدين، ويدل على انقطاع الولاية أنه لا يتوارث أهل ملتين، فإذا انقطعت الصلة بالتوارث، فانقطاعها بالولاية من باب أولى، فعلى هذا يزوج النصراني ابنته النصرانية، وكذلك يزوج اليهودي ابنته اليهودية، وعلى هذا فقس، وهل يزوج المسلم ابنته النصرانية؟ على كلام المؤلف لا يزوج، وكذلك بالعكس النصراني ما يزوج ابنته المسلمة، لكن استثنى فقال:
«سوى ما يذكر» ، قال في الروض (1) : «كأم ولد لكافرٍ أسلمت، وأمة كافرة لمسلم، والسلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة» ثلاث مسائل: لا يشترط فيها اتفاق الدين:
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/264) .(12/75)
الأولى: «أم ولد لكافر أسلمت» ، يعني رجلاً كافراً له مملوكة فجامعها، ثم ولدت منه، فصارت أم ولد لكافر، فلا يجوز له بيعها؛ لأنها أم ولد، لكن يزوجها؛ لأنها مملوكته حتى يموت، فإذا مات عتقت، وهذا مبني على القول بمنع بيع أمهات الأولاد، والمسألة خلافية، ولم يقل المؤلف: كأمة مسلمة لكافر؛ لأن هذا لا يتصور؛ لأن الأمة إذا أسلمت تحت الكافر أجبر على إزالة ملكه ببيع أو عتق أو غيره.
الثانية: «أمة كافرة لمسلم» ، يعني إنساناً عنده أمة، وهو مسلم وهي كافرة، فهذا يزوجها؛ لأنه سيدها، ولا نقول له: أنت مسلم وهي كافرة، فتجبر على إزالة الملك؛ لأن السيد أعلى.
الثالثة: «السلطان يزوج من لا ولي لها من أهل الذمة» ، المراد بالسلطان الإمام الرئيس الأعلى في الدولة، أو من ينوب منابه، والذي ينوب منابه، في وقتنا الحاضر وزارة العدل، ومن ورائها مأذون الأنكحة، فإذا وُجِدَ امرأة من أهل الذمة ما لها ولي فله أن يزوجها، مع أنها كافرة وهو مسلم.
وظاهر كلام الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن المسلم لا يزوج مَوْلِيَّتَه الكافرة، كابنته وأخته وعمته، مع أنه أعلى منهم، صحيح أن الكافر لا يزوج موليته المسلمة لا شك، لكن كون المسلم ما يزوج الكافرة، هذا في النفس منه شيء، فإن كانت المسألة إجماعاً، فالإجماع لا يمكن الخروج عنه، وإن كان في المسألة خلاف، فالراجح عندي أنه إذا كان الولي أعلى من المرأة في دينه فلا بأس أن يزوجها؛ لأن هذا ولاية، وإذا كان ولاية، فمن كان(12/76)
أقرب إلى الأمانة فهو أولى، فإذا كانت امرأة نصرانية، لها عم نصراني، وأخ نصراني، وأب مسلم، فعلى كلام المؤلف يزوجها أخوها أو عمها؛ لأنهما هما الموافقان لها في الدين، وأما أبوها المسلم فيقال له: اذهب بعيداً، مع أننا نعلم أن أشد الناس نظراً لمصلحة المرأة أبوها، ولهذا فالقول الراجح أنه لا يضر اختلاف الدين إذا كان الولي أعلى من المرأة، أما العكس فإنه لا يمكن أن يزوج النصراني بنته المسلمة؛ فإن الله يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وإذا كنا نشترط في الولي المسلم العدالة، وهي أخص من الإسلام فاشتراط الإسلام أولى.
ولكن هل يتصور أن تكون كافرة مولية لمسلم؛ هذا غير متصور؛ لأن المسلمة إذا كفرت فهي مرتدة ولا تقر على دينها، بل يقال: أسلمي أو القتل.
وهل يزوج النصراني ابنته اليهودية؟ كلا الدينين باطلان، ولا فرق بين هاتين الديانتين وغيرهما من الديانات، إلا ما فرق فيه الشارع، وهو حل نسائهم وذبائحهم، وإلا ففي العبادات هم سواء، فالبوذي الذي يعبد إلهه بوذا، كالنصراني الذي يعبد المسيح، من حيث الديانة، أما الأحكام فمعروف أن الله تعالى أعطى فسحة في معاملة اليهود والنصارى، أكثر مما أعطى بقية الأديان.
السادس: قوله: «والعدالة» ، وهي استقامة الدين والمروءة، فغير العدل لا يصح أن يكون ولياً؛ لأنها ولاية نظرية، ينظر فيها الولي ما هو الأصلح للمرأة؟ فيشترط فيها الأمانة، والفاسق غير(12/77)
مؤتمن حتى في خبره، فكيف في تصرفه؟! والله ـ عزّ وجل ـ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، إذاً الفاسق لا يصح أن يكون ولياً على ابنته، ولا على أخته، ولا على بنت أخيه، وما أشبه ذلك، ولكن الفقهاء في هذا الباب خففوا بعض الشيء، فقالوا: تكفي العدالة ظاهراً، فإذا كان هذا الولي ظاهره الصلاح، لكن في باطن أمره ليس بصالح، مثلاً يشرب الدخان في بيته، فهذا عدل ظاهراً وليس عدلاً باطناً، فيصح أن يكون ولياً، أما رجل حالق لحيته فلا يصح أن يكون ولياً؛ لأنه فاسق ظاهراً وباطناً، والذي يتعامل بالربا علناً لا يزوج بنته، والذي اغتاب شخصاً من المسلمين ـ ولو مرة واحدة في عمره ولم يتب ـ لا يزوجها؛ لأنه فاسق غير عدل، أو رجل يمشي في السوق وهو يأكل الطعام فلا يزوج بنته؛ لأنه لم يستعمل المروءة، وكان في الزمن بالأول ـ أيضاً ـ الذي يشرب القهوة بالشارع يعتبر خلاف المروءة، لكن الآن بالعكس، فالناس الآن صاروا يصنعون هذا بالشارع، ولا يعدون هذا خلاف المروءة، وعلى كل حال هذا ما يراه الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة، أنه يشترط للولي أن يكون عدلاً، وماذا نصنع إذا كان كل أقاربها حالقي لحاهم، فمن يزوجها؟! يزوجها القاضي، أو مأذون الأنكحة.
فهذه المسألة في الحقيقة لو طبقناها قد لا نجد أحداً يزوج موليته إلا عشرة في المائة، لا سيما في مسألة هينة عظيمة، وهي الغيبة، فما تكاد تجد أحداً سالماً من الغيبة، فالغيبة ـ ولو مرة(12/78)
واحدة ـ يعتبر الإنسان خارجاً بها من العدالة، فلا يصح أن يكون ولياً، قال ابن عبد القوي ـ رحمه الله ـ في المنظومة:
وقد قيل صغرى غِيبة ونميمة
وكلتاهما كبرى على نص أحمد
وعلى هذا فالمسألة مشكلة جداً، ولهذا يرى بعض الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن العدالة ليست بشرط، وإنما الشرط الأمانة أن يكون مرضياً وأميناً على ابنته، وألا يرضى لها غير كفء، وهذا هو الحق، وكم من إنسان مستقيم الظاهر لكن بالنسبة لبنته لا يهمه إلا الدراهم، فيأخذ الدراهم ويزوجها أفسق الناس ولا يهتم، فهذا في الحقيقة لا يصلح أن يكون ولياً، وخيانته لابنته تنافي عدالته، فالصواب في هذه المسألة أنه لا بد أن يكون الولي مؤتمناً على موليته، هذا أهم الشروط؛ وذلك لأنه يتصرف لمصلحة غيره، فاعتبر تحقيق المصلحة في حق ذلك الغير، أما عدالته ودينه فهذا إليه هو، وكثير من الآباء تجده فاسقاً من أفسق عباد الله، يشرب الخمر ويزني، ويحلق لحيته، ويشرب الدخان، ويُعامل بالغش، ويغتاب الناس، وينم بين الناس، لكن بالنسبة لمصلحة بنته لا يمكن أن يفرط فيها أبداً.
في الروض (1) استثنى من العدالة فقال: «إلا في سلطان وسيد يزوج أمته فإنه لا تشترط العدالة» ، إذا زوج السلطان من لا ولي لها فلا تشترط العدالة؛ لأننا لو اشترطنا في السلطان العدالة لكان في ذلك تضييق على المسلمين، فإذا قدرنا أن السلطان
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/265) .(12/79)
يشرب الخمر ويقتل ظلماً ويلعب القمار، فهل نقول: تسقط ولايته على المسلمين؟ لا تسقط، فهو ولي على المسلمين، ولو فعل ما فعل من الفجور، ما لم نرَ كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
وكذلك السيد مع أمته ولو كان فاسقاً يزوجها؛ لأنها مال، ولكن لا بد أن يكون فسقه لا يخل بمصلحة المرأة، فإن كان يخل فلا، فيجب عليه أن يتقي الله ـ عزّ وجل ـ فإن عُلِمَ أنه لم يتقِ الله في ذلك، فلها الحق في أن تطالبه، أو أن تمتنع ولا يجبرها.
فَلاَ تُزَوِّجُ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا وَلاَ غَيْرَهَا، وَيُقَدَّمُ أَبُو المَرْأَةِ فِي إِنْكَاحِهَا،.........
قوله: «فلا تزوج امرأةٌ نفسَها» ، معلوم إذا اشترطنا الولي فلا تزوج نفسها، ولو أذن لها الولي، فلا بد أن يتولى عقدَ النكاح وليُّها، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب أحق بنفسها» (1) ، فمراده بذلك إذنها في النكاح لا أن تزوج نفسها.
وظاهر كلام المؤلف أن المرأة لا تزوج نفسها ولو في حال الضرورة، كما لو كانت امرأة في بلد ليس لها فيه ولي، وليس فيه سلطان مسلم، لكن يزوجها من كان ذا سلطان في محلها، ولو كان مديراً على مجتمع إسلامي، كإدارات الجمعيات الإسلامية في أمريكا وغيرها.
لكن إذا لم يكن هناك أحد، كرجل وامرأة هربا من بلادهما، وأثناء الطريق قال الرجل: أنا لا أصبر عن المرأة، فهل
__________
(1) سبق تخريجه ص (71) .(12/80)
أزني بها أو أتزوجها، فهل يكون هو الولي أو هي؟ في هذا قولان لأهل العلم: منهم من يقول: إنه يزوجها، فيقول: زوجتك نفسي، وتقول: نعم، وقيل: هي التي تزوج، فتقول: زوجتك نفسي، فيقول: قبلت، وهذا أقرب إلى الصواب؛ لأنه الآن ليس عندنا ولي شرعي، وإذا لم يكن ولي شرعي فهي أحق بنفسها، والمسألة ضرورة.
فهل هذا العقد الذي عقدناه بهذه الكيفية على وجه الضرورة أفضل، أو أن يزني بها؟ الأول أفضل ولا شك.
قوله: «ولا غيرها» لأنها إذا لم تمكن من تزويج نفسها، فغيرها من باب أولى، وعلى هذا فالأم لا تزوج بنتها، والأخت الكبرى لا تزوج الأخت الصغرى، ولو أن غيرها وكَّلَها، فلو قال الأب للأم: أنا سأسافر وفلان قد خطب البنت، فإذا جاء وقت الزواج فزوِّجيه، أنت وكيلتي، فلا يصح؛ لأن المرأة لا يمكن أن تعقد النكاح أبداً، حتى في هذه الحال، مع العلم بأن الزوج معلوم ومرضي عند الولي؛ سداً للباب، وإلا فالعلة في كون المرأة ضعيفة، وسريعة العاطفة، وناقصة العقل والدين وما أشبه ذلك منتفية في هذا.
قوله: «ويقدَّم أبو المرأة في إنكاحها» ، كامرأة لها أبٌ ولها ابن يعصبها إذا ماتت، فالابن في باب الميراث مقدم، ولكن يقدم أبو المرأة في إنكاحها حتى على عيالها؛ أما الأبكار فواضح أن الأب يقدم؛ لأنه ليس لهن أولاد، والأخ لا يمكن أن يكون أولى من الأب وهو مدلٍ به، وأما الثيبات فإن الأب مقدم على الابن؛(12/81)
لأن الغالب أن الأكبر سناً يكون قد جرب الأمور، وعرف الناس، فيكون أكمل نظراً من الصغير.
ثُمَّ وَصِيُّهُ فِيهِ، ثُمَّ جَدُّهَا لأَبٍ وَإنْ عَلاَ، ثُمَّ ابْنُهَا، ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ نَزَلُوا، ثُمَّ أَخُوهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَِبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَمُّهَا لأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَةٍ نَسَباً كَالإِرْثِ،
قوله: «ثم وصيه فيه» اعلم أن الولي له وكيل، وله وصي، الوكيل الذي أقامه مقامه في حياته، والوصي فهو الذي يقوم مقامه بعد موته، وقد اختلف أهل العلم، هل ولاية النكاح تستفاد بالوصية أو لا؟ فالمشهور من المذهب أنها تستفاد بالوصية، وعلى هذا فيقدم وصي الأب على غيره من الأولياء؛ حتى على الجد، والابن، والأخ، والصحيح في هذه المسألة أن الولاية تنقطع بالموت، وأن الولي ليس له أن يوصي بعد موته، وحتى لو أوصى فالوصية باطلة؛ لأن الولاية مستفادة من الشرع، وليست من فعل الإنسان، وليس هذا كالمال، فمالك لك، فلك أن توصي أحداً على ثلثك مثلاً، لكن هذه ولاية على الغير، فما دمت حياً فأنت أولى بها، فإذا مت انقطعت الولاية، والأمر إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فإذا أوصى الأبُ أن يزوج بناتَه فلانٌ، ولهن إخوة، فالذي يزوجهن بعد موته ـ على القول الصحيح ـ الإخوة، أما الوصي فلا حق له، لكن لو أراد أحد احتياطاً أن يجمع بين القولين، فيقول الوليُّ للوصيِّ: احضر، وأنا أوكلك، فهذا يجوز، ويكون وكيلاً للولي الحاضر، وبهذا نجمع بين القولين، والمسائل التي يحتاط فيها ـ خصوصاً في النكاح ـ أولى، فنقول للولي: احضر، وأخوها الذي له الولاية نقول له: وكِّلْه أن يزوج، أو نقول للوصي: افسخ الوصية، والوصي يجوز أن يفسخ الوصية؛ لأنها ليست لازمة، فإذا فسخ الوصية عادت المسألة إلى الأولياء.(12/82)
وقوله: «فيه» احترازاً من وصيه في المال، فلو كان هذا الولي له وصي في المال، يعني أوصى إنساناً على ثلثه، فهل يكون هذا الإنسان المُوصَّى على الثلث وصياً على التزويج؟ لا، ولهذا قيده بقوله: «ثم وصيه فيه» .
قوله: «ثم جدها لأبٍ وإن علا» ، فيقدم الأقرب فالأقرب، فالجد أولى من الابن في هذا الباب، وهنا قدموا الجد على الإخوة الأشقاء، أو لأب، وفي باب الميراث ورثوا الإخوة الأشقاء أو لأب مع الجد على تفصيل معروف، وتقديم الجد على الإخوة في باب ولاية النكاح يدل على ضعف القول بتوريث الإخوة مع الجد؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فما بقي فلأولى رجل ذكر» (1) ، وإذا كانوا قد اعترفوا بأن الجد أولى في ولاية النكاح من الأب، فإن الحديث يقتضي أن يكون أولى منه في الميراث.
وقوله: «جدها لأب» احترازاً من جدها لأم، فإن جدها للأم لا ولاية له، وهو الذي بينه وبين المرأة أنثى، فكل من بينه وبينها أنثى من الأجداد فإنه لا ولاية له.
قوله: «ثم ابنها» ، أي: ابن المرأة.
قوله: «ثم بنوه وإن نزلوا» ، أي: بنو الابن؛ احترازاً من بني البنت فإنه لا ولاية لهم.
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه (6732) ؛ ومسلم في الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها (1615) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/83)
قوله: «ثم أخوها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين، ثم لأبٍ، ثم بنوهما كذلك» ، إذاً عليَّ ترتيب العصبة في الميراث تماماً، إلا في مسألة الأب والابن فقط، فتقدم الأبوة هنا على البنوة، فنقول:
أبوةٌ بنوة أخوة
عمومة وذو الولا التتمة
فبدلاً من أن ما نقول في الميراث في العصبة: بنوة أبوة، نقول هنا: أبوة بنوة؛ لأن البنوة مفقودة تماماً فيما إذا كانت المرأة بكراً، ولأننا لو قدرنا أن المرأة ثيِّب ولها أبناء ولها أب، فالأب غالباً أدرى بمصالح النكاح من الأبناء؛ لأن الأبناء صغار في الغالب، ولأنه أشد شفقة من الأبناء، فكان أولى بالتقديم.
قوله: «ثم أقرب عَصَبَةٍ نسباً كالإرث» ، فلما ذكر الجهات ذكر القرب، فالعم مع ابن العم فالولي العم؛ لأنه أقرب، والأخ مع ابن الأخ، فالولي الأخ؛ لأنه أقرب، وعلى هذا فنقول: جهات الولاية في عقد النكاح خمس، أبوة، ثم بنوة، ثم أخوة، ثم عمومة، ثم ولاء، فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة، والأقرب هو الذي يجتمع مع الآخر قبل المحجوب، فمن بينه وبين الجد ثلاثة أقرب ممن بينه وبين الجد أربعة، وهلم جرّاً، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، فأخ شقيق وأخ لأب، الولي الأخ الشقيق.(12/84)
ثُمَّ الْمَوْلَى المُنْعِمُ، ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَسَباً، ثُمَّ وَلاَءً، ثُمَّ السُّلْطَانُ،
قوله: «ثم المولى المنعِمُ» هذا عصبة السبب؛ أي: ثم المولى المنعِم بالعتق، قال ذلك؛ أخذاً من قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ، وهو زيد بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ.
قوله: «ثم أقرب عصبته نسباً» أي: عصبة المولى المنعم، على ترتيب الميراث، وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أن عصبة المولى يرتبون ترتيب الميراث، فيقدم ابن المولى على أبيه، ثم إن عُدم فعصبة المولى نسباً.
قوله: «ثم ولاءً» هذا عطف على قوله «نسباً» يعني ثم أقرب عصبته نسباً، ثم أقرب عصبته ولاءً، وعصبته ولاء، يعني لو كان المعتِق قد أعتقه غيرُه، وليس له عصبة من النسب، فإننا نرجع إلى عصبته ولاء وهم الذين أعتقوه.
قوله: «ثم السلطان» وهو الإمام أو نائبه، وكان نواب الإمام فيما سبق في هذه المسائل القضاة، أما الآن فنائبه وزير العدل، ونائب وزير العدل المأذون في الأنكحة، قال الإمام أحمد: والقاضي أحب إليَّ من الأمير في هذا، وهذا بناء على ما سبق في عُرفهم أنهم كلهم نواب للسلطان، أما الآن فليس للإمارة دخل إطلاقاً، بل ولا للقضاة، فأصبحت مقيدة بناس مخصوصين، فالغالب أنها لا تصل إلى هذه الدرجة، يعني لو أنك تأمَّلت زواجات الناس لوجدت أن المسألة ما تعدو عصبة النسب.
وأيهما يقدم مأذون الأنكحة، أو الأخ لأم؟ مأذون الأنكحة(12/85)
يقدم على أخيها من أمها، بل على أبي أمها، فلو كانت هذه المرأة لها أبو أم قد كفلها منذ الصغر، وهو لها بمنزلة الأب، وخطبت فلا يتولى زواجها، بل يتولى زواجها مأذون الأنكحة، وهذه قد تبدو غريبة عند العامة، والشرع ليس فيه غرابة، مثل ما استغربوا مسألة رجل مات عن ابن أخيه الشقيق، وبنت أخيه الشقيق، فلمن التعصيب؟ لابن الأخ الشقيق، فيستغربونها ويقولون: أخواتهم لا يرثن معهم!! نقول: نعم؛ لأن بنات الأخ ليس لهن عصبة.
وقوله: «السلطان» فإذا قدرنا أننا في بلد كفر، والسلطان لا ولاية له، فنقول: السلطان إذا لم يكن أهلاً للولاية، فمن كان له الرئاسة في هذه الجالية المسلمة فهو الذي يتولى العقد؛ لأنه ذو سلطان في مكانه.
فَإِنْ عَضَلَ الأَقْرَبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً، أَوْ غَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لاَ تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ، وَمَشَقَّةٍ زَوَّجَ الأَبْعَدُ،
قوله: «فإن عضل الأقرب» قال المؤلف هذا اللفظ «عضل» لأنه المطابق لما في القرآن {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ، و «عضل» بمعنى منع، أي: إذا منع كفؤاً رضيته، يعني رجلاً كفؤاً في دينه، وفي خُلُقه، وفي ماله، خطب هذه المرأة من أبيها، أو من أخيها، ورضيت المرأة به فمنعها، يقول المؤلف: «زوج الأبعد» فيزوجها أخوها، أو عمها أو ابن أخيها مثلاً؛ وذلك لأنه ليس له الحق في المنع، فهو ولي يجب عليه أن يفعل ما هو الأصلح لموليته، فإذا لم يفعل انتقل الحق إلى غيره
ولكن المشكلة أن الناس لا يجرؤون على هذه المسألة، فتجد الأب يمتنع من تزويج ابنته؛ لأن الخاطب لم يعطه ما(12/86)
يرضيه من المهر، فهو عاضل، فلو قلنا لأخيها أو لعمها: زوجها، قال: لا أقدر أن أتعدى الأب، ففي هذه الحال إذا أبى الأقرب، نذهب إلى الأبعد منه، فإذا أبى كل العصبة، وقالوا: ما نقدر، نخشى أن تكون فتنة، فيجب على القاضي أن يزوجها، ولو أن الناس استعملوا هذا ـ وهو شرعي ليس منكراً ـ لانكفَّ كثير من الشر من هؤلاء الآباء، الذين يعضلون ويبيعون بناتهم بيعاً صريحاً.
فالحاصل: أن مشكلتنا أنه لا أحد من الأقارب يجرؤ أن يزوجها، وأبوها أو أخوها موجود، وهذا غلط، ويعتبر ظلماً لهذه المسكينة، وفي هذه الحال لو أن أباها أبى، وكل العصبة، وكذلك القاضي صار جباناً، فحينئذٍ نقول بالقول الثاني، وهو مذهب أبي حنيفة ـ وهو مذهب قائم من مذاهب المسلمين ـ تزوِّج نفسها، وينتهي الإشكال، مع أن هذا سيكون أندر من الكبريت الأحمر، ولا يمكن، لكن لو أنه فعل لانكف الناس عن هذا التحكم في بناتهم، ولقد ذكر لنا بعض الناس منذ أكثر من خمس عشرة سنة أن فتاة حضرها الموت، وقد تجاوزت العشرين من عمرها، وكانت تخطب كثيراً، ومرغوبة عند الناس، وأبوها يأبى، وفي سياق الموت قالت للنساء الحاضرات: بلغوا أبي السلام، وقولوا له: إن بيني وبينه موقفاً يوم القيامة بين يدي الله ـ عزّ وجل ـ حيث منعني أن أتزوج، فهذه كلمة عظيمة في سياق الاحتضار، تتوعد أباها بالوقوف بين يدي الله ـ عزّ وجل، نسأل الله العافية ـ مسألة كبيرة عظيمة، وسبحان الله!! الرجل يعرف من نفسه أنه(12/87)
يريد هذه اللذة، هذه الشهوة، ثم يمنع الشابة التي تريدها مثل ما يريد أو أكثر، فبعض الشابات لولا الحياء والخوف من الله لحصل منهن مفاسد كثيرة، فكيف يمنعها؟! كيف يشبع من الخبز واللحم، ويدع ابنته أو أخته تموت جوعاً؟! فجوع الشهوة الجنسية قد يكون أشد من جوع الشهوة البطنية، وكلتاهما أمران ضروريان للإنسان.
فلهذا يجب على طلبة العلم أن يحذروا من عضل الأولياء، وأن يبينوا للناس أن العاضل لا كرامة له، بل قال العلماء: إذا تكرر عضله فإنه يصبح فاسقاً لا تقبل شهادته، ولا ولايته، ولا أي عمل تشترط فيه العدالة، فإن ذهب طلبة العلم لنشر مثل هذه المعلومات بين الناس، فإن الناس قد يستنكرونها لأول مرة، ويقول الأخ: كيف أزوج وأبي موجود؟! لكن إذا تكرر ذلك ثم صار هناك أخ شجاع وزوَّج مع وجود أبيه الذي عضل، تتابع الناس، فالناس يحتاجون إلى فتح الباب فقط، وإلا فالمسألة متأزمة، يتقدم للمرأة عدة رجال يبلغون إلى ثلاثين رجلاً، ومع ذلك يمنع لسبب شخصي بينه وبين الخاطب، أو حسداً لابنته، كيف يخطبها مثل هذا الرجل الفاضل؟! أو تكون البنت موظفة يأخذ راتبها، وإذا قالت: يا أبي أعطني راتبي، قال: أنت ومالكِ لأبيك!!
فإن كان هناك سبب شرعي اقتضى أن يمتنع فإنه لا يزوج الأبعد، مثال ذلك: امرأة خطبها رجل معروف بنقص الدين، والمجتمع كله أو غالبه أحسن منه ـ وإنما قلت: المجتمع كله أو غالبه، لئلا يرد علينا أنه لو كان مستوى المجتمع بهذه المثابة ـ أي:(12/88)
على مستوى الخاطب ـ فهنا نقول: يزوج ما دام لم يكفر، فلو فرضنا أن عامة المجتمع يشرب الدخان، أو عامة المجتمع يحلق اللحية، فهل يَرُدُّ هذا، ونحن لا ندري متى يأتينا شخص غير حالق لحيته، وغير شارب للدخان؟
الجواب: لا يرده؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وكما أننا إذا لم نجد حاكماً إلا فاسقاً فإننا نولي الأمثل فالأمثل من الفاسقين، كذلك هنا، لكن لو كان هذا الرجل يأتي بمعصية نادرة في المجتمع، ثم إن الأقرب قال: لا أزوج هذا الرجل، فله الحق في المنع، وليس لأحد أن يزوج إذا رفض الأقرب.
قوله: «أو لم يكن» الضمير يعود على الأقرب.
قوله: «أهلاً» يعني ليس أهلاً للولاية، مثل أن يكون صغيراً أو فاسقاً، أو مخالفاً في الدين، أو ما أشبه ذلك؛ فإن وجود من ليس بأهل كالعدم لا فائدة من وجوده.
قوله: «أو غاب غَيْبَة منقطعة لا تقطع إلا بكلْفة ومشقة زوَّج الأبعدُ» ، أي: غاب عن بلد المرأة المخطوبة أبوها مثلاً، أو أخوها، أو وليها، غَيْبَة منقطعة، وفسرها بقوله: «لا تقطع إلا بكلْفة ومشقة» فإنه يزوِّج الأبعدُ.
والمؤلف ـ رحمه الله ـ قيد الغَيْبة بالتي لا تقطع إلا بكلفةٍ ومشقة، وهذا يختلف باختلاف الأزمان، ففيما سبق كانت المسافات بين المدن لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، والآن بأسهل السبل، فربما لا يحتاج إلى سفر، فيمكن يخاطب بالهاتف، أو(12/89)
يكتب الأب بالفاكس وكالة ويرسلها بدقائق، فالمسألة تغيرت.
وقيده بعض أهل العلم بما إذا غاب غيبة يفوت بها الخاطب، يعني ـ مثلاً ـ قال الخاطب: أنا لا أنتظر إلى يومين أو ثلاثة أو عشرة أيام، أو شهر، أعطوني خبراً في خلال يوم، وإلا فلا.
فبعض العلماء يقول: إذا كانت الغيبة يفوت بها الخاطب الكفء فإنه تسقط ولايته، وفي الحقيقة أن هذه المسألة تحتاج إلى نظر؛ لأن الأولياء ليسوا على حد سواء، فتزويج ابن العم مع وجود ابن عم أعلى منه، لا شك أنه أهون من تزويج ابن عم مع وجود الأب.
يعني ـ مثلاً ـ عندنا ابن عم يلتقي مع هذه المرأة في الدرجة الثالثة، وهو هنا في بلد المخطوبة، وابن عم يلتقي بها في الدرجة الثانية في بلد آخر يفوت به الخاطب، فلو زوج ابن العم الأبعد في هذه الحال لم يكن هناك ملامة عليه؛ لأن الكل منهم ابن عم، لكن هذا أقرب منزلة، لكن لو كان ابن عمها هنا موجود وأبوها في بلد آخر، لكان تزويج ابن العم يُعَدُّ عند الناس اعتداء وجناية على حق الأب، فالمسألة هنا تختلف باختلاف الأولياء، والذي ينبغي أن يقال: إن كانت مراجعته ممكنة فإنه لا يزوِّج الأبعد؛ والسبب في هذا أننا لو قلنا بتزويج الأبعد في هذه الحال مع إمكان المراجعة؛ لأدى ذلك إلى الفوضى، وصار كل إنسان يريد امرأة يذهب إلى ابن عمها إذا غاب أبوها ـ مثلاً ـ في سفر حج، أو نحوه، ثم يقول: زوجني، فيحصل بذلك فوضى ما لها حد، فالصواب أنه يجب مراعاة الولي الأقرب لا سيما في الأبوة فلا يُزوج إلا إذا تعذر.(12/90)
فمثلاً لو فرضنا أن الأب سافر إلى بلاد أوربية، ولا نعلم عنه خبراً فهنا نقول: ما نفوِّت مصلحة البنت من أجل أن نطلب هذا الرجل؛ لأننا يمكن أن نبقى شهرين أو ثلاثة أو سنة ما نعلم عنه، والمذهب ـ أيضاً ـ خلاف كلام المؤلف، فالمذهب إذا غاب مسافة قصر زوج الأبعد، وعلى هذا فلو كان ـ مثلاً ـ الولي في «الزلفى» وهي في «عنيزة» (1) ، لا نراجع أباها، ويزوجها الأبعد؛ لأنهم يعتبرون أن من بينه وبين موليته مسافة قصر تسقط ولايته، ولكن كل هذا فيه نظر، فالصواب أنه متى أمكن مراجعة الولي الأقرب فهو واجب، وإذا لم يمكن، وكان يفوت به الكفء فليزوجها الأبعد.
قوله: «وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح» ، الأبعد هنا بمعنى البعيد، ليس المعنى أنه إذا لم يوجد الأخ يزوج ـ مثلاً ـ المولى مع وجود العم، أو يزوج ابن العم مع وجود العم، فقوله: «الأبعد» هنا بمعنى البعيد، أو على تقدير «منه» يعني زوج الأبعد من هذا القريب.
وَإِنْ زَوَّجَ الأَبْعَدُ، أَوْ أَجْنَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَصِحَّ.
وقوله: «وإن زوج الأبعدُ أو أجنبيٌ من غير عذرٍ لم يصح» يعني والأقرب موجود وأهل للولاية، فإن النكاح لا يصح؛ لأن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إلا بولي (2) » وصف مشتق من الولاية، فيقتضي أن يكون الأحق الأولى فالأولى، وسبق لنا أن كل حكم علق على وصف فإنه يقوى الحكم بقوة هذا الوصف فيه، فما دام أنه علق الحكم بالولاية فمن كان أولى فهو أحق، ولا حق لمن وراءه
__________
(1) تقدر المسافة بين المدينتين بحوالي 100كلم.
(2) سبق تخريجه ص (69) .(12/91)
مع وجوده وهو أهل، فهذه امرأة لها عم ولها ابن عم فزوجها ابن عمها مع وجود عمها في البلد فلا يصح النكاح، أو زوجها القاضي لا يصح، ولو زوجها جارها لا يصح من باب أولى، وإذا كان وليها القريب ـ والعياذ بالله ـ لا يصلي، فزوجها البعيد فإنه يصح؛ لأن القريب ليس أهلاً للولاية، فالذي لا يصلي لا ولاية له؛ لأنه كافر، والعياذ بالله.
وإذا كان حالق لحية فزوج الأبعد، فعلى المذهب لا يصح التزويج؛ لأن هذا فاسق فسقاً ظاهراً، وإذا كان الولي الأقرب يشرب الدخان، لكن يشربه خفية، فزوج الأبعد، فلا يصح حتى على المذهب؛ وذلك لأنهم يشترطون العدالة ظاهراً، فالذي لا يجاهر بالفسق ولايته ثابتة؛ لأنه عدل ظاهراً.
مسألة: هل يصح أن يكون الولي زوجاً؟
نعم يصح، فلو كان ابن عم يريد أن يتزوج بنت عمه، وليس لها أحد أقرب منه جاز، لكن ماذا يقول عند العقد؟ هل يقول: زوجت نفسي بنت عمي، ويُحْضر الشهودَ، ويقول: أشهدكم أني زوجت نفسي بنت عمي؟ أو يكفي دون ذلك؟ الجواب: لو أحضر شهوداً، وقال: أشهدكم أني زوجت نفسي بنت عمي صح، ويجوز أن يقول: أشهدكم أني تزوجتها إذا كانت حاضرة، وشهدوا على رضاها.
ونظير هذا السيد يقول لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، فهذا ليس فيه إيجاب ولا قبول، لكنه يكفي عن الإيجاب والقبول.(12/92)
وهل يصح أن يتولى طرفي العقد بالوكالة أو بالولاية؟
نعم يصح، مثلاً يقول شخص لآخر: وكلتك أن تتزوج لي بنت فلان، ويقول أبو المرأة لهذا الذي وكله الزوج: وكلتك تعقد النكاح لبنتي على فلان، فيكون قد تولى طرفي العقد بالوكالة، أما بالولاية فيمكن هذا فيما سبق، فلو زوج الأب ابنه الصغير، وله بنت أخ هو وليها، فهنا يتولى طرفي العقد بالولاية، فيجوز أن يزوجها ابنه إذا رضيت؛ لأنه لا بد من رضاها، ويكون ـ أيضاً ـ بالأصالة، مثلاً لو تزوج هو ابنة عمه وهو وليها، فقد زوج نفسه موليته وهي بنت عمه.(12/93)
فَصْلٌ
الرَّابِعُ: الشَّهَادَةُ،............
قوله: «الرابع الشهادة» ، يعني الرابع من شروط صحة النكاح الشهادة، أي: أن يشهد على عقد النكاح شاهدان، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] .
فأمر الله ـ تعالى ـ بالإشهاد على الرجعة، والرجعة إعادة نكاح سابق، فإذا كان مأموراً بالإشهاد على الرجعة، فالإشهاد على العقد ابتداءً من باب أولى؛ لأن المراجَعة زوجته، وهذه أجنبية منه، ولحديث: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» (1) ، لكن هذا الحديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ولأن الإشهاد فيه إعلان للنكاح، ولخطورة هذا العقد؛ لأن من أخطر العقود عقد النكاح؛ يترتب عليه محرمية، وإرث، ونسب، ولذلك له شروط لا توجد في غيره.
وقال بعض العلماء: إن الإشهاد ليس بشرط؛ لأن عقد النكاح كغيره من العقود، فهو عقد يستبيح به الإنسان الاستمتاع بهذه الزوجة، كعقد البيع، أو عقد الشراء على المملوكة الذي يستبيح به التسري، قالوا: وأما الإشهاد على الرجعة، فإنما أمر به لئلا يحصل نزاع بين الزوج والزوجة، فيدعي ـ مثلاً ـ أنه راجعها، وتنكر أن يكون راجعها، وبالتالي ربما نقضي بعدم الرجوع ونبيحها لزوج آخر، وهو قد راجع فيكون في هذا مفسدة، أما النكاح ابتداءً فليس فيه نزاع.
__________
(1) أخرجه الشافعي في الأم (7/222) ؛ وعنه البيهقي (7/112) موقوفاً على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وانظر: التلخيص (1512) وخلاصة البدر المنير (1948) والإرواء (1844) .(12/94)
وقال بعض العلماء: إنه يشترط إما الإشهاد، وإما الإعلان ـ أي: الإظهار، والتبيين ـ وأنه إذا وجد الإعلان كفى؛ لأنه أبلغ في اشتهار النكاح، وأبلغ في الأمن من اشتباهه بالزنا؛ لأن عدم الإشهاد فيه محظور، وهو أنه قد يزني بامرأة، ثم يدعي أنه قد تزوجها، وليس الأمر كذلك، فاشتراط الإشهاد لهذا السبب، لكن إذا وجد الإعلان انتفى هذا المحظور من باب أولى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، بل قال: إن وجود الإشهاد بدون إعلان في النكاح في صحته نظر؛ لأن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بإعلان النكاح، وقال: «أعلنوا النكاح» (1) ، ولأن نكاح السر يخشى منه المفسدة حتى ولو بالشهود؛ لأن الواحد يستطيع أن يزني ـ والعياذ بالله ـ بامرأة، ثم يقول: تزوجتها، ويأتي بشاهدي زور على ذلك.
ومما يدل على أن الشهادة ليست شرطاً أن هذا مما تدعو الحاجة إلى بيانه وإعلانه، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لا يمكن أن يتركوا هذا الأمر لو كان شرطاً، ولبيَّنوه، ولكان أمراً مشهوراً مستفيضاً، ولو كان هذا من الأمور المشترطة لجاء في الكتاب أو السنة على وجه بيِّن واضح، فالدليل عدم الدليل، فمن قال: إنه يشترط فليأت بالدليل.
__________
(1) أخرجه الترمذي في النكاح/ باب ما جاء في إعلان النكاح (1089) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب إعلان النكاح (1895) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، واللفظ لابن ماجه: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال» ، وضعفه الترمذي، والبوصيري في زوائد ابن ماجه، والحافظ في التلخيص (2122) .
تنبيه: قوله «أعلنوا النكاح» ، هذه الجملة حسَّنها في الإرواء (993) .(12/95)
وقد بلغنا أن أحد الإخوان الذين لهم عناية كبيرة في الحديث الشريف ـ أثابهم الله ـ، قد ذكر أن حديث «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (1) صحيح مرفوعاً، ثم أتى بأدلة ضعيفة، لا يجبر بعضها بعضاً، وعلى قاعدة المحدثين، لو أن الأدلة ضعيفة ضعفاً يسيراً ينجبر بعضها ببعض لكان الحديث حسناً لغيره، لكن في بعض الطرق من هو متروك وما أشبه ذلك، فمثل هذا لا نستشهد به.
وقد نبهنا على هذا لأجل أن نعرف أن الإنسان مهما أدرك من العلم فإنه ليس معصوماً في كل شيء، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب وينسى، ولا أحد معصوم إلا مَنْ عصم الله عزّ وجل.
إذاً بعد النظر في هذا، يتبين لنا أن الإشهاد ليس بشرط، لكن ينبغي الإشهاد ويتأكد، لا سيما في بلادٍ كبلادنا يحكمون بأن الإشهاد شرط؛ لأن هذه المسألة لو يحصل خلاف، وترفع إلى المحاكم حكموا بفساد النكاح، وحينئذٍ نقع في مشاكل، فكل مسألة من مسائل النكاح يحتاط فيها الإنسان، لا سيما إذا كان فيها موافقة للحكام في بلده.
فالأحوال أربعة:
الأول: أن يكون إشهاد وإعلان، وهذا لا شك في صحته ولا أحد يقول بعدم الصحة.
الثانية: أن يكون إشهاد بلا إعلان، ففي صحته نظر؛ لأنه مخالف للأمر: «أعلنوا النكاح» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (94) .(12/96)
الثالثة: أن يكون إعلان بلا إشهاد، وهذا على القول الراجح جائز وصحيح.
الرابعة: ألا يكون إشهاد ولا إعلان، فهذا لا يصح النكاح؛ لأنه فات الإعلان وفات الإشهاد.
فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ، عَدْلَيْنِ، ذَكَرَيْنِ، مُكَلَّفَيْنِ، سَمِيعَيْنِ، نَاطِقَيْنِ،.....
قوله: «فلا يصح إلا بشاهدين» يعني رجلين، فامرأتان ورجل لا تقبل شهادتهما، ورجل وامرأة من باب أولى، وامرأتان كذلك، وأربع نساء كذلك، فلا بد من شاهدين رجلين، ودليله إن صح قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (1) ، وهذا التعبير يعبر به عن الرجال.
قوله: «عدلين» أي: مستقيمين ديناً ومروءة، قال في الروض (2) : «ولو ظاهراً؛ لأن الغرض إعلان النكاح» ، هنا اكتفوا بالعدالة الظاهرة، وهذا أضِفه إلى ما سبق من اشتراط العدالة الظاهرة في الولي، فصار الولي في النكاح، والشهادة على النكاح، يكتفى فيهما بالعدالة الظاهرة، وكذلك ذكروا في باب الأذان أنه يكتفى فيه بالعدالة الظاهرة.
قوله: «ذكرين» هذا من باب التأكيد، وإلا فقوله: «بشاهدين عدلين» معروف أنهما من الرجال.
قوله: «مكلفين» كلما قلنا: مكلفين، فالمعنى بالغان عاقلان.
قوله: «سميعين» يعني يسمعان بآذانهما، فإن كانا أصمين لم
__________
(1) سبق تخريجه ص (94) .
(2) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/277) .(12/97)
تقبل شهادتهما؛ لأنهما لا يسمعان الإيجاب والقبول، فالولي لو قال: زوجتك بنتي وذاك قال: قبلت، وهما لا يسمعان، فوجودهما كالعدم.
وظاهر كلام المؤلف ولو كانا بصيرين يقرآن، وكتب العقد كتابة، كما لو أخذ الولي ورقة فكتب: زوجتك بنتي، ثم أعطاها الزوج فكتب تحتها: قبلت النكاح، وقرأها الشاهدان، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك لا يصح، والصحيح أنه يصح؛ لأن الشهادة تحصل بذلك، فوصول العلم إلى هذين الأصمَّين صار عن طريق البصر، والمقصود وصول العلم، سواء عن طريق السمع أو عن طريق البصر، كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فإذا وصل العلم إلى الشاهد كفى.
وقوله: «سميعين» ولو كانا ثقيلي السمع، بحيث أنهما لا يسمعان إلا برفع صوت، المهم أن يكون لهما سمع ولو كان قليلاً.
قوله: «ناطقين» فلا بد ـ أيضاً ـ أن يكونا ناطقين، والمراد ناطقان بالفعل، أما قولهم: «الإنسان حيوان ناطق» ، فالمراد ناطق بالفعل أو بالقوة.
وقوله: «ناطقين» احترازاً من الأخرسين، فلا تقبل شهادتهما؛ لأن غير الناطق لا يمكن أن يؤدي الشهادة.
وظاهر كلام المؤلف ولو كانا سميعين بصيرين؛ لأنهما لا يستطيعان أداء الشهادة.
وظاهر كلامه ولو كانا يحسنان الكتابة عند أداء الشهادة،(12/98)
وهذا فيه نظر، والصواب أنهما إذا كانا يمكن أن يعبرا عما شهدا به بكتابة أو بإشارة معلومة، فإن شهادتهما تصح؛ لأن المقصود من اشتراط السمع التحمل، ومن اشتراط النطق الأداء، فإذا كان هذا المقصود فمتى توصلنا إلى أداء صحيح، ولو عن طريق الكتابة فإن ذلك كافٍ، وكم من إنسان أخرس عنده من العلم بأحوال الناس ما ليس عند الناطق، لكن يؤدي بطريق الكتابة أو الإشارة، إذاً اشتراط السمع والنطق صار فيه تفصيل على القول الراجح.
ويشترط ـ أيضاً ـ خلوهما من الموانع، بأن لا يكونا من أصول أو فروع الزوج، أو الزوجة، أو الولي، فعلى هذا إذا زوج الأب ابنته وكان الشاهدان أخوي البنت فالنكاح لا يصح؛ لأنهما فروع للولي، وكذلك لو زوج الإنسان ابنته وشهد أبوه وابنه على العقد لم تصح الشهادة فلا يصح النكاح، وكذلك ـ أيضاً ـ لو كان أبو الزوج حاضراً وكان أحدَ الشاهدين، فإن الشهادة لا تصح، ولا يصح العقد، ولو زوج أحد الإخوة وشهد أخواه صح العقد؛ لأنهما ليسا فرعاً للولي، وعليه لو سألنا سائل هل تصح شهادة الأخ على نكاح أخته؟
نقول فيه التفصيل: فإن زوَّج الأب لم يصح؛ لأن الشاهد من فروع الولي، وإن زوج أخوه صح؛ لأن الشاهد ليس أصلاً للولي ولا فرعاً له، ولا للمرأة ولا للزوج، هذا المذهب.
القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون الشاهدان أو أحدهما من الأصول أو من الفروع، وهذا القول هو الصحيح بلا(12/99)
شك؛ لأن شهادة الأصول والفروع ممنوعة حيث كانت شهادة للإنسان؛ خشية التهمة، أما حيث تكون شهادة عليه وله، كما هو الحال في عقد النكاح فلا تمنع، ثم إننا نقول أيضاً: المذهب يجوِّزون أن يكون الشاهدان، أو أحدهما عدوّاً للزوج أو الزوجة، وشهادة العدو على عدوه غير مقبولة؛ لأنه متهم فيها، فنقول: هذا النكاح هل هو للإنسان، أو على الإنسان؟
الجواب: له وعليه، فإذا قبلتم شهادة العدو مع أنها لم تتمحض له ولا عليه، فاقبلوا شهادة القريب؛ لأنها لم تتمحض له ولا عليه، فالنكاح في الحقيقة ليس حقاً للزوج أو الزوجة، ولا حقاً عليه، بل هو له وعليه؛ لأنه يوجب حقوقاً للعاقد وحقوقاً عليه، فالصواب إذاً أنه يصح العقد، وهو رواية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ واختارها كثير من الأصحاب، وهذه المسألة قلَّ من يتفطن لها من العوام، فقد يعقدون وأبو الزوج موجود ويعتبرونه أحد الشهود، وهذا على المذهب لا يصح، ولكن الصحيح أنه جائز.
وَلَيْسَتِ الكَفَاءَةُ ـ وَهِيَ دِينٌ وَمَنْصِبٌ، وَهُوَ النَّسَبُ وَالحُرِّيَّةُ ـ شَرْطاً فِي صِحَّتِهِ،..........
قوله: «وليست الكفاءة ـ وهي دين ومنصب، وهو النسب والحرية ـ شرطاً في صحته» نص على ذلك؛ لأن من العلماء من قال: إن الكفاءة شرط في الصحة، ومنهم من قال: إنها شرط في اللزوم، ومنهم من قال: إنها ليست شرطاً في هذا ولا هذا.
وقوله: «الكفاءة» من الكُفء، وهو المِثْل في اللغة العربية، والمراد بها هنا أن يكون الزوج أهلاً لأن يُزوَّج.(12/100)
وقوله: «وهي دين» ، المراد بالدين هنا أداء الفرائض واجتناب النواهي، فليس شرطاً أن يكون الزوج مؤدياً لجميع الفرائض، مجتنباً لجميع النواهي، فيصح تزويج الفاسق.
والصحيح أن الدين شرط لصحة عقد النكاح إذا كان الخلل من حيث العفاف، فإذا كان الزوج معروفاً بالزنا، ولم يتب فإنه لا يصح أن يُزوَّج، وإذا كانت الزوجة معروفة بالزنا، ولم تتب فإنه لا يصح أن تزوج، لا من الزاني ولا غيره، وسيأتي.
أما إذا كان الزوج يشرب الدخان، والزوجة تستعمل النمص، فهذا يخل بالدين، وينقص الإيمان بلا شك، فهل يزوج شارب الدخان، وهل تزوج المتنمصة؟ الظاهر نعم؛ لأننا لا نعلم أن أحداً من العلماء اشترط لصحة النكاح أن يكون الزوج والزوجة عدلين، ولو شرط ذلك فات النكاح على كثير من الناس، نعم إن كان هناك خيار بين رجل فاسق ورجل مستقيم، فلا شك أن التزويج يكون للمستقيم.
وقوله: «ومنصب وهو النسب» يعني أن يكون الإنسان نسيباً، أي: له أصلُ في قبائل العرب، احترازاً من الذي ليس له أصل.
فالنسب ليس شرطاً في صحة النكاح، وعلى هذا فيجوز أن نزوج امرأة قبيلية من إنسان غير قبيلي.
وقوله: «والحرية» كذلك الحرية ليست شرطاً في صحته، فيجوز أن نزوج الحرة(12/101)
عبداً مملوكاً، والممنوع العكس، فلا نزوج الحر أمة إلا بشروط ستأتي ـ إن شاء الله ـ، أما أن نزوج الحرة عبداً فهذا جائز، وليس شرطاً لصحة النكاح أن يكون الزوج حراً.
ويوجد وصفان آخران ذكرهما بالروض (1) :
الأول: قوله «صناعة غير زَرِيَّة» ، أي: غير مزرية ضرورية بالشخص، فمن الكفاءة أن لا تكون صناعته مزرية يعني ممقوتة عند الناس، مثل الكساح منظف الكُنُف، أو زبَّال وهو الذي يكنس الزبالة ويحملها، فهذا ليس كفئاً لامرأة مصونة محترمة أهلها أغنياء، لكن لو زوَّجناها كساحاً ينظف الكنف صح العقد.
الثاني: قوله: «ويسار بحسب ما يجب لها» ، «يسار» يعني غنى، فليس شرطاً أن يكون الزوج غنياً، فيزوج ولو كان فقيراً وهي غنية.
فالمهم أن المنصب وهو النسب والحرية ليس شرطاً في صحة النكاح، لكن شرط في لزومه.
فَلَوْ زَوَّجَ الأَبُ عَفِيفَةً بِفَاجِرٍ، أَوْ عَرَبِيَّةً بِعَجَمِيٍّ، فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنَ المَرْأَةِ، أَوِ الأَوْلِيَاءِ الفَسْخُ.
ولهذا قال: «فلو زوج الأب عفيفة بفاجر» الفاجر هنا الزاني؛ لأنه مقابل بعفيفة، فلو زوج الأب عفيفة بفاجر، فالنكاح على رأي المؤلف صحيح؛ لأن الكفاءة ليست شرطاً للصحة، والصواب في هذه المسألة بالذات أن النكاح فاسد؛ لأن الله يقول: {الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ *} [النور] ، ومعنى الآية ـ وهي محل إشكال عند العلماء ـ أن الزاني إذا تزوج عفيفة، فإما أن تكون هذه الزوجة عالمة بالحكم، وأن زواج الزاني بها حرام،
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/279) .(12/102)
فتكون زانية؛ لأنها أباحت فرجها لمن لا يباح له، وإما أن تكون عالمة بالحكم ولكنها خالفت وعاندت ولم ترضَ بالحكم أصلاً، فهذه تكون مشركة؛ لأنها شرعت لنفسها ما لم يشرعه الله، هذا أحسن ما قيل في معنى الآية.
ومعنى ذلك أن العفيفة لا يجوز أن تتزوج بالزاني، والغريب أن أصحابنا ـ رحمهم الله ـ يقولون: إن الزانية لا يصح نكاحها حتى تتوب، والزاني يصح نكاحه قبل أن يتوب، مع أن الآية واحدة والحكم واحد، فالصواب أنه إذا زوج عفيفة بفاجر فالنكاح غير صحيح إلا إذا تاب، والحكمة والله أعلم، أما بالنسبة للزانية فلئلا تختلط الأنساب؛ لأن الزانية إذا لم تتب لم يؤمن أن تزني بعد الزواج، وأما بالنسبة للزوج، فإذا كان معروفاً بالزنا ولم يتب فإنه يهون عليه أن تزني امرأته؛ لأن الذي يمارس المنكر يهون عليه المنكر، وحينئذٍ يكون ديوثاً؛ وهو الذي يقر الفاحشة في أهله.
ومن عُرف باللواط ـ والعياذ بالله ـ لا يزوج حتى يعلم أنه تاب؛ لأنه إذا كان الزنا ـ وهو فاحشة ـ يمنع من ذلك، فاللواط وهو الفاحشة من باب أولى، فاللواط وصف بأنه الفاحشة، والزنا وصف بأنه فاحشة، والفرق أن «أل» التي دخلت على «فاحشة» تجعله أعظم، يعني أن اللواط الفاحشة العظمى، والزنا فاحشة من الفواحش، والسحاق وهو جماع الأنثى للأنثى بصفة معروفة، فالظاهر أنه كذلك.
قوله: «أو عربية بعجمي» ، المراد بالعجمي هنا من ليس بعربي، ولو كان ينطق بالعربية، فالمعتبر هنا بالعروبة والعجمة(12/103)
النسب لا اللسان، فقد يكون عربياً وهو لا يعرف إلا اللغة الأعجمية، فلو زوج عربية ـ أي: عربية الأصل والنسب، بقطع النظر عن اللسان ـ بعجمي لصح النكاح؛ لأنه ليس شرطاً في صحته، ويشمل هذا عجم الفرس كإيران وما ضاهاها، وعجم الغربيين كالإنجليز والفرنسيين، والأمريكان والروس، فكل من سوى العرب فهو أعجمي.
قوله: «فلمن لم يَرضَ من المرأة أو الأولياء الفسخ» ، المرأة معلوم يشترط رضاها كما سبق، فإذا لم ترضَ لا تُزوج، لكن الأولياء ولو بعدوا لهم الفسخ، يعني لو أن شخصاً قبيلياً زوج ابنته برضاها برجل غير قبيلي، والرجل صاحب دين وتقوى وخلق ومال ومن أحسن الناس، فجاء ابن عم بعيد، وقال: أنا ما أرضى، فله الفسخ على المذهب، حتى من ولد بعد، فهذه امرأة قبيلية تزوجها غير قبيلي وبقيت معه خمسين سنة، وأنجبت منه أولاداً، فوُلد لأحد أبناء عمها البعدين ولد، فلما كبر قال: أنا ما أقبل، افسخوا النكاح، فيفسخ النكاح ولو لها أولاد وبيت، فيفسد البيت وكل شيء من أجل ابن العم الذي قد يكون حاسداً، ولا يهمه شرف النسب!!
وظاهر كلام المؤلف أنه حتى أولادها يفسخون؛ لأنهم أولياء، والصحيح أنه ليس لأحد الحق في فسخ النكاح ما دام النكاح صحيحاً، ونقول لهؤلاء الذين يقولون بالصحة، ثم يقولون: يجوز الفسخ، نقول: إذا صح العقد بمقتضى الدليل الشرعي، فكيف يمكن الإنسان أن يفسخه إلا بدليل شرعي؟! ولا(12/104)
دليل، وعلى هذا فنقول: إذا زوج الأب الذي هو من القبائل الشريفة المعروفة بمن ليس بقبيلي، فالنكاح صحيح وليس لأحد من أوليائها أن يفسخ النكاح، وهذا كله من الجاهلية، فالفخر بالأحساب من أمر الجاهلية.
مسألة: إذا كان الزوج فاسقاً، لكن بغير اللواط أو الزنا؛ كشرب الخمر وحلق اللحية وما أشبه ذلك، فهل لبقية الأولياء أن يفسخوا؟
المذهب لهم أن يفسخوا، وهذه المسألة لو فتح فيها الباب حصل في ذلك شر كثير، يأتي إنسان يزوج هذا الرجل الذي يحلق لحيته، ويأتي ابن عم بعيد ويطالب بفسخ النكاح، فعلى المذهب له فسخ النكاح، كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يشرب الدخان أو يتعامل بالربا أو ما أشبه ذلك فله الفسخ، وفي كلام الفقهاء نظر في هذه المسألة، فهذا لا يقبل ذوقاً ولا شرعاً، فالصواب بلا شك أن الكفاءة ليست شرطاً للصحة ولا للزوم، وعلى كلام المؤلف الكفاءة شرط للزوم لا للصحة، بمعنى أن من لم يرضَ من الأولياء فله فسخ النكاح، والصواب خلاف ذلك.
لكن يكون كلامهم له حظ من النظر، لو كان الخلل بشرب خمر، فإن شرب الخمر في الحقيقة لا يقتصر ضرره على الشارب، بل يتعدي إلى زوجته وأهله، فأحياناً يدخل على زوجته بالسكين ليقتلها، وأحياناً ـ والعياذ بالله ـ يأتي إليها يطلب أن يزني ببناته، ففي الحقيقة لو قيل بالمذهب في هذه المسألة لكان له وجه، فإذا عُرِف أن هذا الزوج يشرب الخمر فللبعيد من الأولياء(12/105)
أن يطالب بفسخ النكاح، وهذه مسألة تغيب عن كثير من القضاة، ولهذا يسألون عنها كثيراً فيما إذا كان الزوج يشرب الخمر، فهل يفسخ العقد أو لا يفسخ؟ فمنهم من يتوقف في الأمر، ومنهم من يقول: لا فسخ؛ لأن العدالة ليست شرطاً في بقاء النكاح ولا ابتدائه.
ولكن الحقيقة أننا إذا رجعنا إلى كلامهم هنا، وجدنا أن المذهب يجوِّز الفسخ لنقص الدين، كما أن ظاهر حديث زوجة ثابت بن قيس ـ رضي الله عنهما ـ أن خلل الدين يبيح للمرأة طلب الفسخ؛ لأنها قالت: «يا رسول الله، ثابت، لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام» (1) ، فظاهر قولها أنها لو عابته بخلق ودين لكان لها الحق في طلب الفسخ، وهذا هو الصحيح عندنا، وهو الموافق للمذهب في هذا الباب.
الخلاصة أن الشروط أربعة: تعيين الزوجين، ورضاهما، والولي، والشهادة على المذهب، أو الإعلان على رأي شيخ الإسلام، وأما الكفاءة فالصحيح أنها ليست بشرط، لكن في مسألة الزنا قد نجعله من الموانع.
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق/ باب الخلع وكيف الطلاق فيه (5273) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/106)
بَابُ المُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ
قوله: «المحرمات في النكاح» المحرمات يعني الممنوعات؛ لأن التحريم بمعنى المنع، ومنه حريم البئر، أي: ما دنى منها، فإنه يَمْنع من إحياء ما حول البئر.
وهل المحللات محدودات أو معدودات؟ الجواب: أنهن محدودات، والمحرمات معدودات، فإذا شككنا فالأصل الحل؛ لأن المحدود بالإطلاق إذا لم نتيقن أنه خرج منه شيء فالأصل عمومه.
والمحرمات في النكاح أنواع، دمجهن المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ، ولكن سنبين ـ إن شاء الله ـ كل نوع على حدة، فنقول: المحرمات قسمان: محرمات إلى أبد، ومحرمات إلى أمد، والمرجع في التحريم والتحليل إلى الكتاب والسنة، فما دل الكتاب والسنة على تحريمه فهو حرام، وما لا فلا.
تَحْرُمُ أَبَداً، الأُمُّ، وَكُلُّ جَدَّةٍ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْبِنْتُ، وَبِنْتُ الابْنِ، وَبِنْتَاهُمَا مِنْ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ وَإِنْ سَفُلَتْ،........
قوله: «تحرم أبداً» يعني على التأبيد، وهذا هو القسم الأول، وهن خمسة أنواع: بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة، وباللعان، وبالاحترام.
نبدأ بالأسهل وهو المحرم بالاحترام، أي: زوجات الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] ، فهن محرمات(12/107)
إلى يوم القيامة، وهذا بالنسبة إلينا انتهى وقته، لكنه محرم إلى الأبد.
الثاني: المحرمات بالنسب، وقد ذكره المؤلف بقوله:
«الأم» يعني التي ولدت الإنسان، قال الله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاََّّئِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] .
قوله: «وكل جدة» أي كل جدة من قِبَل الأب، أو من قِبَل الأم.
قوله: «وإن علت» ، أي: إلى حواء.
إذاً كل أنثى من الأصول بدءاً بالأم إلى ما لا نهاية له فهي حرام على الإنسان، وهنا لا تسأل هل ترث أو لا ترث؟ فالجدة وإن لم ترث كأم أبي الأم ـ مثلاً ـ فإنها حرام؛ لأن باب تحريم النكاح أوسع من باب الإرث.
قوله: «والبنت وبنت الابن وبنتاهما» ، فالبنت التي خرجت من صلب الإنسان، وبنت الابن التي خرجت من صلب ابنه وإن نزل، وكذلك بنتاهما، أي: بنت البنت، وبنت بنت الابن.
قوله: «من حلال وحرام» من حلال كالتي خلقت من ماء رجل يحل له وطء من وَلَدتها، مثل الزوج، والسيد، فالبنت التي خلقت من مائه حرام عليه، وهي من وطء حلال، والسيد إذا تسرَّى أمته وأتت منه ببنت فهي ـ أيضاً ـ حرام، وهي من وطء حلال.(12/108)
وبنت الزاني خلقت من ماء حرام، فتحرم عليه؛ لأنها بضعة منه قدراً، وإن كانت ليس بنته شرعاً، فلا تنسب إليه عند جمهور أهل العلم، سواء استلحقها الزاني أم لا.
قوله: «وإن سفلت» كالبنت، وبنت البنت، وبنت بنت البنت.... إلخ، هؤلاء الفروع.
وَكُلُّ أُخْتٍ، وَبِنْتُهَا، وَبِنْتُ ابْنَتِهَا، وَبِنْتُ كُلِّ أَخٍ، وبِنْتُهَا، وَبِنْتُ ابْنِهِ، وَبِنْتُهَا وَإِنْ سَفُلَتْ، وَكُلُّ عَمَّةٍ، وَخَالَةٍ وَإِنْ عَلَتَا،...........
قوله: «وكُلّ أختٍ وبِنْتُها وبِنْتُ ابنتها» ، فالأخوات حرام على الإنسان، فلا يجوز للإنسان أن يتزوج أخته، سواء كانت شقيقة، أو لأب، أو لأم، وكذلك بنتها، وبنت بنتها، وبنت ابنها، فالأخوات وفروعهن كلهن حرام على الأخ، أما الأخت فواضح؛ لأنها أخته، وأما فروعها فلأنه خالهن، فهو خال بنت الأخت، وخال بنت بنت الأخت؛ لأن خال كل إنسان خال له ولذريته، من ذكور أو إناث.
قوله: «وبِنْتُ كُلِّ أخٍ، وبِنْتُهَا، وبِنْتُ ابْنِهِ وبِنْتُها وإن سفلت» فبنت كل أخ حرام على أخيه؛ لأنه عمها، وإذا نزلت تكون حراماً؛ لأن عم الأم عم لبناتها، وعم الأب عم لبناته وإن نزلن، وهذه قاعدة تريحك، فلا تبحث ولا تسأل، فما دام هذا الإنسان خالاً للأصل فهو خال للفرع، وما دام عمًّا للأصل فهو عم للفرع.
قوله: «وكُلُّ عَمَّةٍ وَخَالَةٍ وَإِنْ عَلَتا» العمة هي أخت الأب، والخالة هي أخت الأم، فهما حرام وإن علتا، بأن تكون خالة(12/109)
للأب، أو خالة للجد، أو خالة للأم، أو خالة للجدة، وكذلك يقال في العمة، أما بناتهن فحلال، ولهذا قال: «وكل عمة» ولم يقل: وبنتها.
إذاً المحرمات إلى الأبد: الأم وإن علت، والبنت وإن نزلت، والأخت وما تفرع عنها، وما تفرع عن الأخ، والعمة، والخالة، هذه سبع، لكن الآية تغنيك عن هذا الذي قاله المؤلف، مع ما فيه من شيء من التعقيد، قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] ، فهولاء سبعة حرام بالنسب، أمهاتكم وإن علون، وبناتكم وإن نزلن، وأخواتكم، سواء كن شقيقات أو لأب أو لأم، وما تفرع عنهن، وعماتكم وإن علون، ولا نقول: وإن نزلن؛ لأن بنت العمة حلال، وكذلك بالنسبة لبنت الخالة، وبنات الأخ وإن نزلن، وبنات الأخت وإن نزلن، فهذه سبع محرمات بالنص والإجماع، ولم يخالف في هذا أحد من أهل العلم.
أما بنت الزاني فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} لكنها بنت قدراً وليست بنتاً شرعاً، ولذلك لا ترث ولكنها حرام؛ لأن باب النكاح أحوط من باب الميراث، فهي لا ترث؛ لأنها لا تنسب إليه، ولكنها حرام عليه.
وقال بعض أهل العلم: إنها ليست حراماً، لكنه قول ضعيف، وكيف لا تكون حراماً على الزاني وقد خُلِقت من مائه، وإذا كان الرضاع من لبن الزوج مؤثراً في التحريم، فهذا من باب أولى.(12/110)
ويمكن أن نجمل المحرمات بالنسب فنقول:
أولاً: الأصول وإن علون.
ثانياً: الفروع وإن نزلن.
ثالثاً: فروع الأصل الأدنى وإن نزلن، فالأب فروعه الأخ والأخت، وكذلك الأم.
رابعاً: فروع الأصل الأعلى، ولا نقول: وإن نزلن، أي: بنات الجد، وبنات الجدة دون بناتهن.
فهذه أربعة ضوابط، وإذا اشتبهت عليك الضوابط، فارجع إلى الشيء الواضح وهو الآية الكريمة.
الثالث من المحرمات إلى الأبد ذكره المؤلف بقوله:
والْمُلاَعَنَةُ عَلَى الْمُلاَعِنِ،.........
«والملاعَنة على الملاعِن» ، والملاعنة هي التي رماها زوجها بالزنا ولم تقر به، ولم يقم بينة على ما قذفها به، ففي هذه الحال إذا طالبت بإقامة حد القذف عليه فله إسقاطه باللعان، فيُحْضِرُهما القاضي، ويقول: اشهد على زوجتك أربع مرات، وفي الخامسة أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين، فيحلف أربع مرات، ويقول في الشهادة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم يقول لها: احلفي في تكذيبه، فتحلف بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين، وفي الخامسة تقول: أنَّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فإذا تم ذلك فرق بينهما تفريقاً مؤبداً، لا تحل له أبداً.(12/111)
وقوله: «والملاعنة على الملاعن» ، أما أبناء الملاعن فنرجع إلى الأصل في تحريم المصاهرة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الرابع من المحرمات إلى الأبد قوله:
وَيَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ، إِلاَّ أُمَّ أُخْتِهِ، وأُخْتَ ابْنِهِ،......
«ويحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب» هذا لفظ الحديث (1) .
فقوله: «بالرضاع» أي: بسبب الرضاع «ما يحرم بالنسب» ، أي: بسبب النسب.
والرضاع معروف وهو سقي الطفل لبناً، والنسب القرابة، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ *} [المؤمنون] إذاً عُدَّ المحرمات بالرضاع كما تعد المحرمات بالنسب، سواءً بسواء، فتقول: تحرم الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والأخت من الرضاع، وبنت الأخت من الرضاع، وبنت الأخ من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع.
وقد أعطي النبي صلّى الله عليه وسلّم جوامع الكلم، وفواتح الكلم، وفواصل الكلم، فقال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فطبق هذا على هذا، ولكن لا بد لذلك من شروط في الرضاع:
أولاً: أن يكون الرضاع خمس رضعات فأكثر، هذا هو القول الراجح، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي رواه
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت (2645) ؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة (1447) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(12/112)
مسلم (1) : «أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات» ، فإذا نقص عن خمس فلا أثر له، ولا تقل: ما الفرق بين الرابعة والسادسة مثلاً، أو الخامسة؟ لأن هذا حكم الله ـ عزّ وجل ـ، فيجب التسليم له، كما أننا لا نقول: لماذا كانت الظهر أربعاً، ولم تكن خمساً أو ستاً؟ فهذه مسائل توقيفية.
وقيل: إنه يثبت التحريم بالثلاث لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان (2) » ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا المصَّة ولا المصَّتان» (3) .
فنقول: إن دلالة حديث عائشة بالمنطوق أن الثلاث لا تحرم، ونحن نقول به؛ لأننا إذا قلنا: إن الأربع لا تحرم، فالثلاث من باب أولى، لكن مفهوم هذا الحديث أن الثلاث تحرم، إلا أن هناك منطوقاً، وهو أن المحرِّم خمس رضعات، والقاعدة عند أهل العلم (أن المنطوق مقدم على المفهوم) .
ومن العلماء من قال: إن الرضعة الواحدة تحرِّم؛ لأن الله تعالى أطلق في قوله: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فيقال: المطلق من القرآن إذا قُيِّد بالسنة صار مقيداً؛ لأن السنة شقيقة القرآن، فهي تبينه، وتفسره، وتقيد مطلقه، وتخصِّص عامَّه.
__________
(1) في النكاح/ باب التحريم بخمس رضعات (1452) .
(2) أخرجه مسلم في النكاح/ باب في المصة والمصتان (1451) عن أم الفضل ـ رضي الله عنها ـ.
(3) أخرجه مسلم في النكاح/ الباب السابق (1450) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(12/113)
فما هي الرضعة المحرمة، هل هي المصة، بحيث لو أن الصبي مص خمس مرات، ولو في نَفَس واحد ثبت التحريم؟ أو الرضعة أن يمسك الثدي ثم يطلقه ويتنفس ثم يعود؟ أو أن الرضعة بمنزلة الوجبة، يعني أن كل رضعة منفصلة عن الأخرى، ولا تكون في مكان واحد؟
في هذا أقوال للعلماء ثلاثة، والراجح الأخير، وهو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ؛ ووجه ذلك أننا لا نحكم بتحريم المرأة ـ مثلاً ـ إلا بدليل لا يحتمل التأويل، ولا يحتمل أوجهاً أخرى، وهذا الأخير لا يحتمل سواه؛ لأن هذا أعلى ما قيل، وعلى هذا فلو أنه رضع أربع رضعات، وتنفس في كل واحدة خمس مرات، فلا يثبت التحريم على القول الراجح، حتى تكون كل واحدة منفصلة عن الأخرى.
وقد بحث ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذه المسألة في (زاد المعاد) بحثاً دقيقاً، ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليه.
الشرط الثاني: أن يكون الرضاع في زمن يتغذى فيه الطفل باللبن، وهل يحمل على الغالب، أو يحمل على الواقع؟
في هذا للعلماء قولان أيضاً:
القول الأول: أن يحمل على الغالب وهو سنتان، فمتى وقع الإرضاع بعد السنتين فلا أثر له، سواء كان الطفل مفطوماً أم غير مفطوم، وما وقع قبلهما ثبت به التحريم سواء كان الطفل مفطوماً أم لا، وهذا المشهور من المذهب، واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233](12/114)
وقالوا: إن هذا التحديد أضبط من أن نحدده بشيء آخر؛ لأن الحولين يمكن ضبطهما بالدقيقة، فإذا ولد الطفل في الساعة الثانية عشرة نهاراً، ودار الحولان وبلغ الساعة الثانية عشرة وقد أرضع أربع مرات، فيبقى عليه رضعة واحدة، فإذا أرضعته المرأة بعد الساعة الثانية عشرة بنصف ساعة مثلاً، فإن الرضاع لا يؤثر؛ لأنه لم يقع في الزمن المحدد، ولا شك أن هذا أضبط.
لكن يضعف هذا أن الإرضاع بعد الفطام لا أثر له في نمو الجسم وتغذيته، فلا فرق بين أن ترضعه وله سنة وثمانية أشهر إذا كان قد فُطِم، أو ترضعه وله أربع سنوات؛ لأنه لن ينتفع بهذا الإرضاع، ولن ينمو به، ويؤيد هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام» (1) ، والنفي هنا لنفي التأثير لا لنفي الواقع؛ لأنه قد يُرضَع بعد هذا، أي: لا رضاع مؤثر إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام.
فهذا من حيث المعنى أرجح، وذاك من حيث الضبط أرجح، فلننظر:
أولاً: فإذا فطم لحولين اتفق القولان.
ثانياً: إذا فطم لثمانية عشر شهراً، فإن قلنا: العبرة بالحولين، فالإرضاع بعد ذلك مؤثر، وإن قلنا: بالفطام، فالإرضاع بعد ذلك غير مؤثر.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين (1152) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ، وقال: حسن صحيح. انظر: الإرواء (1150) .(12/115)
ثالثاً: إن لم يفطم إلا لسنتين وخمسة أشهر فإن قلنا بالحولين، فالإرضاع غير مؤثر، وإن قلنا بالفطام فالإرضاع مؤثر بعد الحولين، والمسألة واضحة.
وهل رضاع الكبير مؤثر؟ بعض العلماء يقول: إن رضاع الكبير مؤثر، ولو تجاوز الحولين، أو الثلاثة أو العشرة، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ، وبناءً على هذا يجب أن نحذر بعض الأزواج الذين يرضعون من ثدي زوجاتهم ـ وهذا واقع ونُسأل عنه ـ لأن الناس الآن من شدة الترف أصبحوا يستمتعون بالنساء من كل وجه، فعلى هذا القول تكون أمه من الرضاع، وحينئذٍ ينفسخ، فينقلب الترف تلفاً، فهو يريد أن يترف نفسه بهذا، لكن بعده المفاصلة.
فلو قلنا بهذا القول ـ وهو قول ضعيف مطَّرح لا عبرة به، لكن حكايته لا بأس بها ـ لكانت المرأة الذكية التي لا تريد زوجها تحتال عليه، وتسقيه من لبنها، وكأنه من ثدي شاة، خمسة أيام، فإذا تم اليوم الخامس تقول له: سلام عليك!!
المهم أن هذا قول مطرح ولا عبرة به؛ لأن السنة يجب أن تكون مقيدة للقرآن؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [آل عمران] ، فلا يمكن أن يصل الإنسان إلى رحمة الله إلا إذا أطاع الله، وأطاع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والسنة هي قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو فعله أو تقريره.
وهل يشترط أن يكون هذا اللبن قد ثاب ـ يعني اجتمع ـ عن حمل أو لا يشترط؟(12/116)
في ذلك خلاف ينبني عليه لو أن البكر أرضعت طفلاً، فهل يكون ولدها من الرضاع وتحرم عليه أو لا؟
فالمشهور من المذهب أنه لا بد أن يكون قد ثاب عن حمل، وأن إرضاع البكر لا عبرة به؛ لأنه ليس عن حمل، والصواب أنه مؤثر وإن لم يثب عن حمل لعموم الآية: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ولأن المعنى واضح وهو تغذي هذا الطفل باللبن.
والدليل على أن الإرضاع مؤثر في تحريم النكاح قول الله تعالى: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ، فذكرت الآية صنفين أو نوعين، وأكملت السنة الباقي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (1) .
قوله: «إِلاَّ أمَّ أُخْتِهِ، وأُخْتَ ابْنِهِ» ، فأم أخته من الرضاع لا تحرم عليه، ومن النسب تحرم عليه؛ لأن أم أختك من النسب، إما أن تكون أمك، وإما أن تكون زوجة أبيك، فإن كانت زوجة أبيك فهي حرام عليك بالمصاهرة، وأما أم أختك من الرضاع فليست زوجة أبيك، بل هي زوجة رجل آخر، فإذا رضعت أختك من امرأة فيجوز لك أن تتزوج بها.
كذلك أخت ابنك من الرضاع، كأم أختك من الرضاع، فهذه تحرم عليك إذا كانت من النسب، لكن بالمصاهرة لا بالقرابة، وبهذا يتبين أن هذا الاستثناء لا وجه له ولا حاجة إليه،
__________
(1) سبق تخريجه ص (112) .(12/117)
ولو كان هذا محتاجاً إليه لكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أول من يستثنيه، والحديث: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» عام، وهذه المسألة التحريم فيها بالمصاهرة، أي: في النسب، وليس بالرضاع.
وَيَحْرُمُ بِالعَقْدِ زَوْجَةُ أَبِيهِ، وَكُلِّ جَدٍّ، وَزَوْجَةُ ابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ، دُونَ بَنَاتِهِنَّ، وَأُمَّهَاتِهِنَّ، وَتَحْرُمُ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وَجَدَّاتُهَا بِالْعَقْدِ، وَبِنْتُهَا وَبَنَاتُ أَوْلاَدِهَا بِالدُّخُولِ،..........
قوله: «ويحرم بالعقد زوجةُ أبِيهِ، وَكُلِّ جَدٍّ، وزوجةُ ابْنِهِ وإِنْ نَزَلَ دُونَ بناتِهِن وأمَّهاتِهِنَّ، وتحرُمُ أُمُّ زَوْجَتِهِ، وجَدَّاتُها بالعقد، وبِنْتُها وبناتُ أَوْلادِهَا بالدُّخُولِ» ، هذا المحرم بالمصاهرة، وهي الاتصال بين إنسانين بسبب عقد النكاح، فليس هناك قرابة ولا رضاع.
فقوله: «ويحرم بالعقد» أي عقد النكاح بدليل قوله: «زوجة أبيه» فمتى عقد إنسان على امرأة حرم على ابنه أن يتزوجها، سواء دخل بها أم لم يدخل، حتى لو طلقها قبل الدخول أو مات عنها قبل الدخول فهي حرام على ابنه، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً *} [النساء] ، وقال في الزنا: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً *} [الإسراء] ولم يقل: (مقتاً) وهو يدل على أن نكاح المحارم أشد من الزنا، ولهذا كان القول الراجح أن من نكح محرمه فإنه يقتل بكل حال، حتى وإن كان بكراً، بخلاف الزنا فإن البكر لا يرجم.
وقوله: «ويحرم بالعقد» هل يشترط أن يكون العقد صحيحاً؟ الجواب: نعم؛ لأن العقد غير الصحيح لا يسمى عقداً، فلو(12/118)
تزوجت امرأة شخصاً بدون ولي ـ والولي كما سبق شرط في النكاح ـ فالعقد فاسد، فلو مات جاز لابنه من غيرها أن يتزوجها؛ لأن العقد غير صحيح، وكلما سمعت في القرآن أو السنة «عقد» فالمراد به الصحيح.
إذاً يحرم بالعقد الصحيح زوجة أبيه وإن علا، ويغني عنها قوله: «وكل جد» .
فلو قال قائل: {آبَاؤُكُمْ} في قوله: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ألا يمكن أن يراد بها أبو الصلب؟
فالجواب: لا، فالآباء تشمل الأجداد وإن علوا، قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وأبونا إبراهيم ـ عليه السلام ـ ليس أباً للصلب، بل هو أبو آبائنا وأجدادنا.
مسألة: لو أن رجلاً زنى بامرأة، فهل يحرم عليه أصلها وفرعها؟ وهل يحرم عليها أصله وفرعه؟ لا يحرم؛ لأنه لا يدخل في قول: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} ، وقوله: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، وقوله: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، والزانية لا تدخل في هذا، فالمزني بها من ليست من حلائل الأبناء، وكذلك أمُّ المزني بها ليست من أمهات نسائك، إذاً فتكون حلالاً لدخولها في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وفي قراءة و «أَحلَّ لكم ما وراء ذلك» (1) .
__________
(1) قرأ بها سائر القراء عدا حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، كما في الوجيز للأهوازي (158) .(12/119)
والمذهب أن الزنا كالنكاح، فإذا زنا بامرأةٍ حرم عليه أصولها وفروعها، وحرم عليها أصوله وفروعه تحريماً مؤبداً، وهذا من غرائب العلم، أن يُجْعل السفاح كالنكاح، وهو من أضعف الأقوال، وأضعف منه ـ أيضاً ـ من قال: إن الرجل إذا لاط بشخص ـ والعياذ بالله ـ فهو كالمرأة المعقود عليها عقداً شرعياً!! فيحرم على هذا اللائط فروع الملوط به وأصوله، ويحرم على الملوط به فروع اللائط وأصوله، هذا أبعد وأبعد من القول الأول!! وذلك لأن اللواط لا يحل الفرج بأي حال من الأحوال، لا بعقد ولا بغير عقد، أما فرج المرأة فيمكن أن تعقد على امرأة ويحل لك.
فالصواب أنه لا أثر في تحريم المصاهرة بغير عقد صحيح؛ وذلك لأن العقود إذا أطلقت في الشرع حملت على الصحيح، ومن الغرائب أنهم يقولون في الظهار: لو ظاهر الإنسان من امرأة أجنبية لا يثبت الظهار، مع أن قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] مثل: «أمهات نسائكم» في هذا، وكذلك في الإيلاء: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] قالوا: ما يثبت إلا مع زوجة، فكيف نقول بالتحريم في هذه المسألة؟! فالصواب أن كل ما كان طريقه محرماً فإنه لا أثر له في التحريم والمصاهرة.
وقوله: «وزوجة ابنه وإن نزل» مثل: ابن ابنه، وابن بنته، وابن ابن ابن ابنه ... إلخ، وقد اشترط الله ـ تعالى ـ في زوجة الابن أن يكون من الأصلاب، فقال تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] يعني الذين خرجوا من صلب(12/120)
الإنسان، احترازاً من الابن من الرضاع، وهذا هو الراجح، ولكن جمهور العلماء يقولون: إنه احتراز من ابن التبني، فقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} يعني لا من الأبناء الذين تبنيتموهم.
ولكن يقال: في هذا نظر، لا سيما إن كانت الآية نزلت بعد إبطال التبني، فإنه إذا أبطِل التبني شرعاً لا يُحتاج إلى الاحتراز منه؛ لأنه غير داخل في الحكم حتى يحُتاج إلى الاحتراز منه بالقيد، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وقوله: «دون بناتهن وأمهاتهن» أي بنات زوجة أبيه، وبنات زوجة ابنه، ومعلوم أن المراد بنات زوجة أبيه من غير جدته، أو من غير أمه، فلو كان للأب زوجة ولها بنت من غيره، وهذه الزوجة ليست أماً لولده، فإنه يجوز أن يتزوج الولد هذه البنت؛ لأنه لا علاقة بينه وبينها، فهي ليست أخته؛ لأنها ليست من أمه، ولا من أبيه أيضاً.
إذاً يجوز أن يتزوج الأب أماً والابن بنتها، وكذلك العكس، وفيها تداخل بأن يكون عمًّا وخالاً، وابن عم وابن خال، وهي معروفة في الألغاز.
وقوله: «وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد» ، أي عقد النكاح الصحيح، فأم الزوجة حرام بمجرد العقد، فلو عقد على امرأة وطلقها قبل الدخول حرمت عليه أمها؛ لأن الله تعالى أطلق فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ، والمرأة تكون من نسائه بمجرد العقد.
وقوله: «وبنتها وبنات أولادها بالدخول» بنتها من فروعها،(12/121)
وبنات الأولاد يشمل بنات الأبناء، وبنات البنات؛ لأن الأولاد إذا أطلقت شملت البنين والبنات، فبنت الزوجة وبنات أولادها لا يُحرَّمن على الزوج إلا بالدخول بالأم، والمراد بالدخول هنا الوطء يعني الجماع، فلو تزوج امرأة وخلا بها، ولم تعجبه وطلقها فله أن يتزوج بنتها، سواء كانت من زوج سابق، أو من زوج لاحق لقول الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] .
فربيبة الزوج اشترط الله تعالى فيها شرطين:
الأول: أن تكون في حجر الزوج.
الثاني: أن يكون قد دخل بأمها.
هذان الشرطان ذكر الله تعالى مفهوم أحدهما، ولم يذكر مفهوم الآخر، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] ولم يقل: وإن لم يكُنَّ في حجوركم فلا جناح عليكم، فصرح بمفهوم القيد الثاني، وهو قوله: {اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وسكت عن مفهوم الأول، فيستدل بهذا على أن القيد الأول غير معتبر؛، وأكثر العلماء على ذلك، وإن كان هناك قول للسلف والخلف أنه شرط، ولكننا نقول: ليس بشرط؛ لأن الله تعالى صرح بمفهوم القيد الثاني، فدل ذلك على أن مفهوم القيد الأول غير معتبر.
فإن قال قائل: إذا كان غير معتبر فعلى أي شيء تخرجون الآية؟
فالجواب: أننا نخرجها بناءً على الغالب، وإشارةً للعلة،(12/122)
أما كونه بناءً على الغالب فلأن الغالب ـ لا سيما في صدر الإسلام ـ أن بنت الزوجة إذا تزوجت أمها تكون معها.
وأما الثاني وهو الإشارة إلى العلة فكأنه قال: إنها تحرم على الزوج؛ لأنها كبناته، إذ إنها في حجره، وهو ينظر إليها نظر مربٍّ لها، ولذلك تجدها مثلاً بنتاً لها سبع سنين، أو عشر سنين، أو اثنتا عشرة سنة تأتي إلى زوج أمها وتقدم له الطعام، وتكشف وجهها له وكأنها ابنته تماماً، فليس من المناسب أن يدخل عليها وينكحها.
وهذا القول الذي عليه الجمهور هو الراجح أنه لا يشترط في تحريم الربيبة على زوج أمها إلا شرط واحد، وهو الدخول بأمها.
فلو عقد على امرأة وطلقها قبل الدخول، أو ماتت قبل الدخول فإنه يحل له بناتها، ولو كن في حجره على قول الجمهور وهو الأرجح.
فهؤلاء الأربعة يثبت التحريم فيهن بالمصاهرة، فهل يثبت التحريم فيهن إذا كن من الرضاع؟ بمعنى هل يحرم على الزوجة أبو زوجها من الرضاع، وابن زوجها من الرضاع، وعلى الزوج بنت زوجته من الرضاع، وأم زوجته من الرضاع؟ مثال ذلك: رجل تزوج امرأة لها أم من الرضاع وأم من النسب، فأمها من النسب حرام عليه، أما أمها من الرضاع، فهل هي حرام أو غير حرام؟
هذه المسألة فيها خلاف: فجمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة على أنه يثبت التحريم بالمصاهرة، وحكي إجماعاً ولا يصح، فيقولون: إنه يحرم على الزوجة أبو زوجها من الرضاع، وابن زوجها من الرضاع، وعلى الزوج أم زوجته من الرضاع وابنة(12/123)
زوجته من الرضاع، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] والمرضعة تسمى أماً، وقوله: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] والأب من الرضاع يسمى أباً، وقوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، وبقوله عليه الصلاة والسلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (1) ، فقالوا: كما أن أبا الزوج من النسب حرام على الزوجة، فيكون أبوه من الرضاع حراماً عليها، وكما أن أم الزوجة من النسب حرام على الزوج فأمها من الرضاع ـ أيضاً ـ حرام.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه لا يحرم من الرضاع ما يحرم بالمصاهرة لحديث: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، فالحديث يدل بمنطوقه على أنه يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب، ويدل بمفهومه على أنه لا يحرم بالرضاع ما يحرم بغير النسب.
وأما قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فالاستدلال به غير صحيح من الآية نفسها، فلو كانت الأم عند الإطلاق تشمل الأم من الرضاع والأم من النسب، لم يكن لقوله: {وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} فائدة؛ لأن {أُمَهَاتُكُمْ} سبقت في أول الآية، وأيضاً الأم من الرضاعة لا يصح أن نقول: إنها أم على الإطلاق، بل لا بد من القيد، ولهذا لا تدخل في الأم في قوله تعالى: {فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] بالإجماع، وكذلك الأخت عند الإطلاق لا يدخل فيها الأخت من الرضاع، وإلا لما قال: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فلا دليل في الآية.
__________
(1) سبق تخريجه ص (112) .(12/124)
كذلك قوله: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} فإنه من المعلوم أن الأب من الرضاع لا يدخل في مطلق الأب أبداً، فلا يسمى أباً إلا بقيد الرضاع.
وأما قوله: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} فقد تكون حجة عليهم؛ لأن الله قيد الأبناء بكونهم من الأصلاب؛ فقال: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} وأجابوا: أن هذا القيد احتراز من ابن التبني، فيقال: إنه لا يمكن أن يحترز الله في القرآن عن ابن باطل شرعاً؛ لأن الابن الباطل شرعاً غير داخل حتى يحتاج إلى قيد يخرجه، فابن التبني ليس شرعياً من الأصل.
وعلى هذا فالآية تدل على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وهو الذي نراه ونرجحه أنه لا دخل للرضاع في المصاهرة؛ وذلك لأن لدينا عموماً من القرآن فلا يمكن أن نخرمه إلا بدليل بَيِّن، وهو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} و «ما» اسم موصول تفيد العموم، فأي إنسان يقول: هذه المرأة حرام، نقول له: ائت بدليل.
وعلى هذا يجوز للرجل أن يتزوج أم زوجته من الرضاعة، لكن بعد أن يفارق الزوجة بموت أو طلاق فلا يجمع بينهما؛ لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ «يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب» (1) ، فإذا حرم الجمع بالنسب حرم بالرضاعة، ولهذا فشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة لم يصب في قوله إنه يجوز الجمع بين الأختين من الرضاع، وكون جمهور الأمة
__________
(1) سبق تخريجه ص (112) .(12/125)
على أن الرضاع مؤثر في تحريم المصاهرة يوجب للإنسان أن يسلك طريق الاحتياط، فنقول: أم الزوجة حرام تبعاً للجمهور، وتحتجب تبعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ وذلك لأننا إذا قلنا: إنها حرام عليك على رأي الجمهور لا تحتجب، وإذا قلنا إنها حلال على رأي الشيخ تحتجب، وأنا أعمل بالدليلين، وأقول: هذه مسألة مشكوك فيها، وإذا شك في الأمر فإنه يسلك فيه طريق الاحتياط، فنأخذ بالاحتياط بما قاله الجمهور من تحريم نكاحها، ونأخذ بالاحتياط بما قاله شيخ الإسلام من وجوب الحجاب.
وهذا المسلك له أصل في الشرع، وهو قصة سودة بنت زمعة ـ رضي الله عنها ـ حينما تخاصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة ـ رضي الله عنهما ـ في غلام كان ادعاه سعد بن أبي وقاص وقال: إنه ابن أخي عهد به إليَّ فأريده، فقال: عبد بن زمعة: يا رسول الله إنه ولد وليدة أبي، ولد على فراشه ـ ومعلوم أن الولد للفراش إذا ادعاه صاحب الفراش، حتى لو علمنا أنه من الزاني قطعاً ـ فقال سعد: يا رسول الله انظر إلى شبه الغلام، فنظر إليه فوجد شبهاً بيناً بعتبة، مما يدل على أنه خلق من مائه، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة» (1) ، فقضى به لزمعة على أنه ابنه، وأمر سودة أن تحتجب منه على سبيل الاحتياط؛ لأنه رأى شبهاً بيناً، فأعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم السببين احتياطاً.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير المشبهات (2053) ؛ ومسلم في الرضاع/ باب الولد للفراش وتوقي الشبهات (1457) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(12/126)
فما دام هذا الأمر له أصل في الشريعة فلا حرج أن نسلك هذا المسلك.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، هل هذا عام، سواء ادَّعاه صاحب الفراش أم لم يدعه، أو خاص فيما إذا ادَّعاه صاحب الفراش؟ بمعنى أنه لو كانت المزني بها لا فراش لها، وادعى الزاني أن الولد ولده فهل يلحق به؟
الجمهور على أنه عام، وأنه لا حق للزاني في الولد الذي خلق من مائه، وذهب بعض العلماء إلى أن هذا خاص في المخاصمة، يعني إذا تخاصم الزاني وصاحب الفراش قضينا به لصاحب الفراش، أما إذا كان لا منازع للزاني، واستلحقه فله ذلك ويلحق به، وهذا القول هو الراجح المناسب للعقل، وكذلك للشرع عند التأمل.
فَإِنْ بَانَتِ الزَّوْجَةُ، أَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الخَلْوَةِ أُبِحْنَ.
قوله: «فإن بانت الزوجة، أو ماتت بعد الخلوة أبحن» نائب الفاعل في قوله: «أبحن» يعود على بنات الزوجة، وبنات بناتها، وبنات أبنائها، فلو تزوج امرأة ثم بانت منه بعد أن خلا بها، لكنه لم يجامعها فإنه تحل له بناتها، وبنات بناتها، وبنات أبنائها؛ لأن من شرط تحريم الربيبة ومن تفرع منها أن يدخل بأمها، وهنا لم يدخل.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو أنه طلقها فانقضت العدة جاز أن يتزوج ابنتها، إذا لم يدخل بأمها؛ لاشتراط الدخول.
وهل يحرم على الزوج بنات زوجته التي دخل بها من زوج بعده؟(12/127)
الجواب: نعم؛ لأن المحرمات بالمصاهرة أربعة أصناف:
أولاً: أصول الزوج على الزوجة.
ثانياً: فروع الزوج على الزوجة.
ثالثاً: أصول الزوجة على الزوج.
هذه الثلاث تحرم بمجرد العقد.
رابعاً: فروع الزوجة على الزوج، وهنا لا بد من الدخول، فإذا حصل دخول فبناتها من زوج قبله، أو بعده حرام عليه تحريماً مؤبداً، ولهذا قال: «فإن بانت الزوجة» أي انفصلت من الزوج، إما بطلاق بائن كالثلاث، وإما بانقضاء العدة في الرجعية.
وقوله: «بعد الخلوة» وقبل الخلوة من باب أولى، لكنه نص على ما بعد الخلوة؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنه إذا خلا بأمهن دون جماع حرمن عليه، وقاسوا ذلك على وجوب العدة، وعلى استقرار الصداق كاملاً، فيما إذا تزوج امرأة وخلا بها، ثم طلقها فإن العدة تجب، وكذلك يستقر الصداق كاملاً.
ولكن هذا فيه نظر؛ لأن القرآن هنا صرح باشتراط الدخول، ومع وجود النص فلا قياس.(12/128)
فَصْلٌ
وَتَحْرُمُ إِلَى أَمَدٍ أخْتُ مُعْتَدَّتِهِ، وَأُخْتُ زَوْجَتِهِ، وَبِنْتَاهُمَا، وَعَمَّتَاهُمَا، وَخَالَتَاهُمَا،.......
ثم شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ بالمحرمات إلى أمد، وهن المحرمات إلى مدة معينة، أو تغير حال إلى أخرى، فهن محرمات لسبب يزول فقال:
«وتَحْرُمُ إلى أمد أخت معتدته» ، أي إذا طلق امرأة وشرعت في العدة، وأراد أن يتزوج أختها فإن ذلك حرام، حتى تنتهي العدة.
قوله: «وأخت زوجته» أي التي لم تطلق؛ لأنه إذا حرمت أخت المطلقة ما دامت في العدة، فأخت غير المطلقة من باب أولى.
وقوله: «وتحرم إلى أمد أخت معتدته، وأخت زوجته» .
هذا تسامح من المؤلف ـ رحمه الله ـ؛ لأن أخت معتدته وأخت زوجته لا تحرم عليه، فالقرآن لم ينص على أن أخت زوجته حرام عليه، ولا على أن أخت معتدته حرام عليه، بل قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ، فالمحرم هو الجمع، أما نفس الأخت فليست موصوفة بأنها حرام، بخلاف الأم، والبنت، والمحرِمة، وما أشبه ذلك، فهؤلاء موصوفات بأنهن حرام، فلنعبر بما عبر به القرآن، وهو صريح، فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} .
إذاً أخت الزوجة حرام، وأما أخت المعتدة ـ فعلى كلام المؤلف ـ أنها حرام، ولو كانت بائنة بينونة كبرى، كالمطلقة(12/129)
ثلاثاً، فإنها وإن كانت لا ترجع إليه بعقد لكن لا زالت عُلق النكاح وآثاره باقية عليها وهو العدة، والصواب أن في ذلك تفصيلاً:
فإن كانت عدة بائنة، فلا تحل للزوج إلا بعد زوج كالمطلقة ثلاثاً، فله أن يتزوج أختها؛ وذلك لأن الزوجة بانت بينونة كبرى.
وإن كانت رجعية أو بينونتها صغرى فإنها لا تحل، والرجعية هي التي طلقها على غير عوض مرة واحدة بعد الدخول، والبائنة بينونة صغرى هي التي خالعها زوجها، وسميت صغرى؛ لأنه يجوز للزوج المخالع أن يتزوجها في العدة وبعدها، أما البينونة الكبرى فهي البائن بالطلاق الثلاث، وعلى هذا فالمعتدات ثلاثة أنواع:
الأول: رجعية، وهي المعتدة التي يمكن أن يراجعها بدون عقد.
الثاني: بائن بينونة صغرى، وهي التي له أن يتزوجها بعقد بدون مراجعة، يعني لا يملك المراجعة، لكن يملك أن يعقد عليها، فكل معتدة لا تحل إلا بعقد، فبينونتها صغرى.
الثالث: بائن بينونة كبرى، وهي التي طلقها آخر ثلاث تطليقات فلا تحل إلا بعد زوج، بالشروط المعروفة.
المهم أن أخت معتدته ظاهر كلام المؤلف أنها حرام، سواء كانت رجعية، أو بائنة بينونة صغرى، أو بائنة بينونة كبرى.
والصحيح أنه إذا كانت بائنة بينونة كبرى فإنها تحل له؛ لأن البائنة بينونة كبرى لا يمكنه الرجوع إليها.(12/130)
قوله: «وبنتاهما» أي: بنت أخت زوجته، وبنت أخت معتدته.
قوله: «وعمتاهما وخالتاهما» أي: لا يجوز الجمع بين معتدته وعمتها أو خالتها، وكذلك زوجته وعمتها أو خالتها، ولو أن المؤلف ـ رحمه الله ـ وغيره من العلماء أتوا بالآية والحديث لكان أوضح وأبين وأجلى، قال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» (1) ؛ والتعليل لأن الجمع بين هذه القرابة القريبة يؤدي غالباً إلى قطيعة الرحم؛ لأنه من المعروف أن الضرتين يكون بينهما عداوة وبغضاء وشحناء؛ فمن أجل البعد عن قطيعة الرحم، حرم الشرع الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها.
فصار الذي يحرم بينهن الجمع ثلاثة أصناف:
الأختان، والعمة وبنت أخيها، والخالة وبنت أختها، وهذا أوضح مما قاله المؤلف وأبين، وأيضاً هو حكم ودليل.
وبنت العم مع بنت عمها تحل؛ لأن ما سوى الثلاث حلال، وهذا ـ أيضاً ـ أوضح من قول بعضهم: «يحرم الجمع بين امرأتين، لو قدرت إحداهما ذكراً لم تتزوج بالأخرى لنسب أو رضاع، لا مصاهرة» ، وهذا وإن كان ضابطاً، لكنه ضابط يعقد
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تنكح المرأة على عمتها (5109) ؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (1408) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(12/131)
المسألة؛ لأنه يحتاج أولاً إلى تصور، وبعد التصور الحكم، لكن القرآن والسنة أسهل.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن يجمع بين زوجة إنسان وبنته من غيرها، فلو توفي رجل عن زوجته وله بنت من غيرها، فتزوجهما رجل، وجمع بينهما فإنه يجوز، ولو فرضنا إحداهما ذكراً فإنه لا يتزوج بالأخرى، لكن قالوا: هنا لا يتزوج من أجل المصاهرة فلذلك جاز الجمع، ولهذا نقول: إذا رجعنا إلى الكتاب والسنة في هذه المسألة بالذات، وفي غيرها أيضاً، فإننا نرى أن التعبير القرآني والنبوي أوضح.
فزوجة إنسان وبنته من غيرها ليستا أختين، ولا عمة وبنت أخيها، ولا خالة وبنت أختها فتحل، والسؤال عن هذا كثير، كيف يجمع بين امرأة رجل وبنته من غيرها؟
فنقول: نعم؛ لأن الله بين فقال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
وهل الجمع بين الأختين من رضاع، وبين المرأة وعمتها، أو خالتها من رضاع يحرم، أو لا يحرم؟
الصحيح بلا شك أنه يحرم الجمع بينهن، وهو قول الجمهور، ولا إشكال فيه؛ لأن الدليل فيه واضح «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (1) ، فكما حرم الجمع بين هاتين المرأتين بالنسب، فكذلك يحرم الجمع بينهما بالرضاع.
__________
(1) سبق تخريجه ص (112) .(12/132)
وخالف في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فقال: يجوز أن تجمع بين الأختين من الرضاع، وبين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، لكن قوله ضعيف، والحق أحق أن يتبع، والحديث واضح: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» سواء كان معنًى أو عيناً، فما يحرم من النسب بعينه من النساء يحرم من الرضاع، وما يحرم لمعنى فيه يحرم كذلك من الرضاع، وعلى هذا فلا يجمع بين الأختين من الرضاع، ولا بين امرأة وعمتها، ولا بين امرأة وخالتها من الرضاع.
فَإِنْ طُلِّقَتْ وَفَرَغَتِ الْعِدَّةُ أُبِحْنَ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ مَعاً بَطَلاَ........
قوله: «فَإِنْ طُلِّقَتْ وَفَرَغَتْ العِدَّةُ أُبِحْنَ» أي أبيحت أخت الزوجة، وعمتها، وخالتها، ولكن شرط المؤلف أن تفرغ العدة، فظاهره أنه ما دامت العدة باقية فهن حرام، سواء كانت العدة عدة بينونة أو لا، ولكن نعود إلى ما سبق أن الراجح إذا كانت بينونة كبرى فلا حرج؛ لأنه لا يمكن الجمع بينهن، أما البينونة الصغرى والرجعية فلا يجوز أن يتزوج أخت من كانت عدتها عدة بائن بينونة صغرى أو رجعية.
قال في الروض (1) : «ومن وطئ أخت زوجته بشبهة، أو زنا حرمت عليه زوجته حتى تنقضي عدة الموطوءة» يعني لو أن رجلاً زنا بأخت زوجته ـ والعياذ بالله ـ قلنا له: إن زوجتك حرام عليك حتى تنقضي عدة المزني بها، فلو قدر أن المزني بها حملت من هذا الوطء، فلا تحل له زوجته حتى تضع المزني بها حملها، ولو بقي في بطنها أربع سنوات!! لكن تقدم لنا القول الراجح أن الزنا
__________
(1) الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (6/297) .(12/133)
لا أثر له، ولا يمكن أن نجعل السفاح مثل النكاح الصحيح.
قوله: «وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ مَعَاً بَطَلا» أي: إن تزوج الأختين، فإن كان عقد واحد فالمثال فيه سهل، بأن يقول الأب للشخص: زوجتك ابنتيَّ هاتين، فيقول: قبلت، فهنا لا يصح إنكاح واحدة منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلا يصح العقد لا على هذه، ولا على هذه، والعمل أن يعين واحدة، فيقول: زوجتك بنتي فلانة، ويصح العقد على واحدة.
وقوله: «أو عقدين معاً بطلا» أي: تزوجهما في عقدين معاً، وهذا لا يتصور إلا بوكالة، مثل أن يكون الولي له ابنتان فيوكل شخصاً يزوج إحداهما ويتولى هو تزويج الأخرى، وكذلك الزوج يوكل شخصاً يقبل له نكاح إحداهما ويتولى هو نكاح الأخرى، فوافق أن قال الولي لهذا الزوج: زوجتك بنتي فلانة، ووكيل الولي يقول لوكيل الزوج: زوجت موكلك فلاناً فلانة في آن واحد، فيبطل العقدان جميعاً، وهذا يذكر على سبيل الفرض، وإلا فهو صعب.
فلو قال قائل: ألا يمكن أن نصور المسألة بأهون من هذا، فنقول: لو أن الولي وَكَّل شخصاً في تزويج بنته فلانة، وعقد الولي لبنته الأخرى فأوجبا العقد للزوج، فقال الزوج: قبلت، فهل يمكن أن يصح هذا المثال، ويقال: إنه في عقدين؟
فالجواب: أن الإيجاب من شخصين ولا شك، لكن القبول من شخص واحد، فيكون العقد واحداً؛ لأنه في العقدين لا بد(12/134)
لكل عقد من إيجاب وقبول، وهذا لا يتصور في إيجابين بقبول واحد.
ولو قالا جميعاً: زوجتك، فقال للأب: قبلت، وقال للثاني: قبلت، فإن فيه إشكالاً؛ لأن الإيجابين وقعا جميعاً، إلا إذا قال الزوج: أنا نويت الإعراض عن الإيجاب الثاني، وأردت الرد على إيجاب الأب، فهنا نقول: يصح، ويقع الثاني لغواً.
وعلى كل حال فهذه مسائل فرضيات، وإلا فوقوعها نادر جداً.
فَإِنْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا، أَوْ وَقَعَ فِي عِدَّةِ الأُخْرَى وَهِيَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ بَطَلَ،....
قوله: «فَإِنْ تَأَخَّرَ أَحَدُهُمَا» يعني أحد العقدين، فالذي يصح هو الأول، مثل أن يقول: زوجتك بنتي عائشة فيقول: قبلت، ثم يقول الأب في نفس المجلس: زوجتك بنتي فاطمة، فيقول: قبلت، فالذي يصح نكاحها عائشة، والثاني لا يصح؛ لأنه إنما حصل الجمع بالعقد الثاني، فيكون هو مورد النهي، فاختص البطلان به.
قوله: «أَوْ وَقَعَ فِي عِدَّةِ الأُخْرَى وَهِيَ بَائِنٌ أَوْ رَجْعِيَّةٌ بَطَلَ» أي: بطل المتأخر؛ لأنه لا يحل أن يجمع بين الأختين، ولا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها.
مسألة: إن وقع العقدان وجهلنا السابق، فماذا نصنع؟ نقول: يجب فسخهما جميعاً، ولا نقول: يبطلان؛ لأنه ليس عندنا ما يحصل به البطلان، إذ البطلان إنما يكون حين يتحقق أنهما وقعا معاً، أما الآن فلا ندري، قد يكونان وقعا معاً، وقد يكون(12/135)
أحدهما سابقاً، إذاً يجب فسخهما، ويترتب على ذلك أنه يجب نصف المهر لإحداهما، ولو قلنا: باطلاً، ما وجب لإحداهما شيء؛ لأنه عقد باطل ما يوجب المهر، ولا حصل الدخول، حتى نقول: يستقر المهر بالدخول فهذا هو الفرق، والذي يتولى فسخهما القاضي، يقول: أقرر فسخ النكاح، فيفسخه ويجب لإحداهما نصف المهر؛ لأنها مطلقة قبل الدخول، ومن الذي يجب لها نصف المهر؟ نقول: نقرع بينهما؛ لأنها تدخل في الأموال، فأيتهما وقعت عليها القرعة يكون لها نصف المهر، ولا عدة على الجميع؛ لأنه لم يحصل دخول.
لكن إذا تبين الحال بعد ذلك، فإن تبين أنهما وقعا معاً فلا مهر عليه ويرد، وإن تبين أن أحدهما هو السابق، فهذا محل نظر عندي، قد نقول: إن القرعة كحكم الحاكم، وقد نقول: إن القرعة لتمييز المشتبه، وقد زال الاشتباه فيرد المهر لمن تبين أن نكاحها هو الأول.
وَتَحْرُمُ الْمُعْتَدَّةُ، وَالْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ غَيْرِهِ،..........
قوله: «وتَحْرَمُ المُعْتَدَّةُ» المعتدة من الغير حرام على غير الزوج، وسبق لنا بيان ذلك مفصلاً في أول كتاب النكاح.
فالمعتدة من الغير لا يجوز لأحد أن يتزوجها، حتى ولو كانت بائنة بينونة كبرى؛ لأنه قد تعلق بها حق الزوج الأول، وقد سبق أنه لا يجوز ولا خطبتها على وجه صريح، إنما يجوز التعريض.
لكن لو تزوج معتدة من غيره، قلنا: إن العقد باطل ولا شك؛ لأن الله قال: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ(12/136)