والوصي والناظر عن الطريق الخاص بالمالك، أما الولي فولايته مستفادة من الشرع.
وعلى هذا، فإذا وكل إنسان إنساناً في بيع شيء فباعه صح، مع أن الوكيل ليس بمالك، ولكنه قائم مقام المالك، لكن يجب على الوكيل أن يتصرف بما يراه أصلح، فإذا كانت السلعة تزيد فإنه لا يبيعها حتى تنتهي الزيادة، بخلاف الذي يتصرف لنفسه فإنه يجوز أن يبيع السلعة بما هو دون، والفرق بينهما أن المتصرف لغيره يجب أن يتصرف بالأحظ، والمتصرف لنفسه يتصرف بما شاء، فمثلاً لو أعطيت هذا الرجل مسجلاً يبيعه، فصار الناس يزيدون في المسجل حتى بلغ مائة أو مائتين، فلا يجوز له أن يبيعه والناس يزيدون فيه حتى يقف السعر، لكن لو باعه مالكه بمائة ريال وهو يساوي مائتين جاز؛ لأن المالك يتصرف لنفسه، وذاك يتصرف لغيره.
وانظر إلى هذه المسألة وهي التصرف للغير بالأحظ، حتى في العبادات، فالإمام يجب أن يصلي بالناس حسب السنة، وغيره يصلي ما شاء، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» (1) .
فَإِن بَاعَ مُلْكَ غَيْرِهِ أَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ بِلاَ إِذْنِهِ لَمْ يَصِح وَإِن اشْتَرَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي العَقْدِ صَحَّ لَهُ بِالإِجَازَة، وَلَزِمَ المُشْتَرِيَ بِعَدَمِهَا مُلْكاً......
قوله: «فإن باع ملك غيره» لم يصح؛ لأنه ليس المالك لفوات الشرط وهو الملك، فلو باع ملك أبيه أو ملك ابنه لم يصح.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (703) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (467) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/130)
فإن قال قائل: أليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنت ومالك لأبيك» (1) ؟ قلنا: بلى، لكن إذا أراد الأب أن يبيع ملك ابنه فليتملكه أولاً ثم يبيعه ثانياً؛ لأنه قبل تملكه مِلْكٌ لابنه، فنحن نقول: لا مانع، تملك هذا المال، ثم بعه، أما أن تبيعه، وهو على ملك ابنك بدون إذنه فلا تملك ذلك.
قوله: «أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصح» مثاله: إنسان أعطاك دراهم، وقال: خذ هذه الدراهم وأوصلها إلى فلان، فأنت الآن أمين مرسل، فمررت بالسوق ومعك هذه الدراهم فاشتريت سلعة بهذه الدراهم، أي: قلت للبائع: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدراهم، إذاً اشترى بعين المال، فالبيع لا يصح؛ لأن شراءه بعين المال كبيعه عين المال، فكما أنه لا يجوز أن آخذ كتاب زيد وأبيعه كذلك لا يجوز أن أشتري بعين ماله، فالشراء بعين المال هو بيع لعين المال في الواقع، وعلى هذا فلا يصح، وظاهر كلام المؤلف أن هذا لا يصح، وإن كان فيه مصلحة، وظاهر كلامه ـ أيضاً ـ أنه لا يصح وإن أجازه المالك لفوات الشرط.
والصحيح أنه إذا أجازه المالك صح البيع، والدليل على
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2291) ، عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ. وصححه البوصيري على شرط البخاري، وصححه ابن حبان (410) إحسان، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
وأخرجه الإمام أحمد (2/179، 204، 214) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يأكل من مال ولده (3530) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده (2292) ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحسن إسناده في «الإرواء» (3/325) .(8/131)
ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكل عروة بن الجعد ـ رضي الله عنه ـ أن يشتري له أضحية وأعطاه ديناراً، فاشترى أضحيتين بدينار واحد، ثم باع إحداهما بدينار، وُكِّل بأن يشتري أضحية فاشترى أضحيتين، وهذا فيه مصلحة لا شك، ثم باع واحدة من الأضحيتين بدينار، وهذا فيه مصلحة أيضاً، فرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بديناره وشاة فقال (ص) : «اللهم بارك له في بيعه» (1) ، فكان لا يتجر في شيء إلا ربح فيه ببركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى كلام المؤلف يكون هذا التصرف غير صحيح، ولكن الصحيح أنه جائز ونافذ إذا أجازه المالك.
فإن قال قائل: هل يجوز للإنسان أن يقدم على بيع ملك غيره بدون إذنه؟
قلنا: يجوز بقرينة، والقرينة هي أن أعرف أن صاحبي يريد أن يبيع بيته، فجاء إنسان واشترى البيت بمائة ألف، وهو يساوي تسعين، وأنا أعرف أن صاحب البيت يريد بيعه فيجوز لي أن أبيعه بمائة ألف؛ لأن هذا فيه مصلحة، فالرجل يريد أن يبيع بيته بتسعين فإذا جاء إنسان يشتريه بمائة فهذا مصلحة فيجوز أن أقدم على التصرف، وإلا فالأصل منع الإقدام على التصرف؛ لأنه ملك غيرك، لكن إذا رأيت المصلحة في ذلك فلا بأس.
وقوله: «اشترى بعين ماله» هذه أقل شأناً من الأولى؛ لأن الإنسان لا يهمه أن يأخذ هذا الدرهم أو هذا الدرهم، فإذا اشترى بعين ماله فالمذهب أن ذلك لا يصح؛ لأنه كبيع عين ماله؛ لأن العقد وقع على عين الدراهم المملوكة لغيره.
__________
(1) سبق تخريجه ص (128) .(8/132)
ولكن قد يقال بالفرق؛ لأن المشتري بعين ماله إذا أعطى صاحب الدراهم دراهمَ لا يهمه أن يعطيه دراهمه الأولى أو دراهم بدلها.
قوله: «إن اشترى له» أي للغير.
قوله: «في ذمته» أي: لا بعين ماله؛ لأن العقد إذا كان في الذمة لم يقع على ملك غيره لكن الممنوع أن يتصرف في ملك غيره، وأما الذمة فهي أوسع.
قوله: «بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له» أي: للغير.
قوله: «بالإجازة ولزم المشتري بعدمها» أي: بعدم الإجازة.
قوله: «ملكاً» أي: للمشتري.
وصورة المسألة: أعلم أن فلاناً يريد أن يشتري ساعة فوقفت على صاحب الساعات واشتريت لفلان في ذمتي وهو لم يوكلني، ولم يأذن لي، ولم أقل للبائع: اشتريت لفلان، ثم قلت للرجل الذي اشتريت له: إني اشتريت لك ساعة، فإن أجاز فالملك له، وإن لم يجز فالملك لي.
مثال آخر: أعرف أن فلاناً يريد أن يشتري شاة للدرِّ، أي: ليحلبها، فاشتريت له شاة ممن يبيع الغنم، ولم أقل: إنها لفلان ولم أسمه في العقد، ثم قلت لصاحبي الذي اشتريت له: اشتريت لك شاة، فقال: قبلت ذلك، فهي لمن اشتراها له، واللبن الذي حصل بعد العقد للذي اشتراها له، لأنه نماء ملكه.
فإن قال: لا أريدها فهي للمشتري، فتلزمه.(8/133)
ولهذا قال: «ولزم المشتري بعدمها» أي بعدم الإجازة.
«ملكاً له» أي للمشتري، ويتملكها من العقد، وعلى هذا فيكون اللبن للمشتري، وهذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي يصح فيها التصرف الفضولي على المذهب.
فإن اشترى له بعين ماله لا في ذمته فإنه لا يصح البيع، بأن قال للذي يبيع الغنم: أعطني بهذه الدراهم شاة ونواها لفلان فإن العقد لا يصح؛ لأنه اشترى له بعين ماله لا بذمته، وكذلك لو سمَّاه فقال لصاحب الغنم: اشتريت منك هذه الشاة بمائة لفلان، ثم اقتاد الشاة وأوصلها إلى فلان، فقبل بذلك، لم يصح البيع؛ لأنه سماه في العقد، وهو إذا سماه في العقد صار شراؤه له بالوكالة، وهو لم يوكله، ولهذا قالوا: إذا سماه في العقد لا يصح البيع؛ لأنه إذا سماه في العقد فقد نزَّل نفسه منزلة الوكيل، والواقع أنه لم يوكله.
والقول الثاني في المسألة، أنه يصح كما ذكرناه في السابق، من أن تصرف الفضولي إذا أجازه من تُصُرِّفَ له فهو صحيح، وقد ذكرنا الدليل والتعليل.
وإذا لم يجز لزم المشتري، فلا يملك المشتري أن يرده على البائع ويقول: أنا اشتريته لفلان، ولكنه لم يقبل، فالبائع له أن يرفض ويقول: أنت اشتريت مني على أنك أنت المشتري فيلزمك.
فإن قال قائل: هل الأولى أن يقبل المُشْتَرى له ذلك العقد أو الأولى ألاّ يقبل؟(8/134)
قلنا: الأولى أن يقبل، لا سيما إذا علمنا أن هذا المشتري إنما اشتراها اجتهاداً لا تغريماً وإخساراً، فإنه لا ينبغي أن يجازى المحسن بالإساءة؛ لأنه ربما يكون ثمن السلعة باهظاً جدّاً، وهذا المشتري ليس عنده مال، فالأولى للمُشترى له أن يقبل ولو كان عليه بعض الغضاضة.
وَلاَ يُبَاعُ غَيْرُ المساكِنِ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً كَأرْضِ الشّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ بَلْ تُؤَجَّرُ....
قوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة كأرض الشام ومصر والعراق» ذكر المؤلف هذا تفريعاً على اشتراط كون البائع مالكاً.
فقوله: «المساكن» الدور فتشمل البناء والأرض، البناء: المساكن، والأرض هي الأرض البيضاء التي ليس عليها بناء، أو أرض البناء التي بُني عليها، فهذه الأرض أو هذه المساكن إذا باعها بأرضها فالبيع غير صحيح، وإن باع المساكن فالبيع صحيح في الأراضي التي فتحت عنوة.
ومعنى عنوة، أي: قهراً وقوة.
وقوله: «كأرض الشام ومصر والعراق» إذا قيل: الشام عند العلماء فإنه يشمل سوريا وفلسطين والأردن وكل ما كان شمال الجزيرة العربية، فأرض الشام ومصر والعراق لا يباع فيها إلا المساكن، وأما الأرض نفسها فإنها لا تباع؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ وقفها (1) ، والوقف لا يباع، فعمر ـ رضي الله عنه ـ
__________
(1) سبق تخريجه ص (34) .(8/135)
لما فتح هذه الأمصار، رأى أن قسمها بين الغانمين يحرم الأجيال المستقبلة من أجيال المسلمين، فرأى أن يقفها، ويضرب عليها خراجاً، أي: كالأجرة يؤخذ منها كل سنة فصارت وقفاً، والوقف لا يجوز بيعه، وهذا الذي مشى عليه المؤلف.
وأما المساكن في هذه الأراضي فتباع؛ لأن المساكن ملك للساكن فهو الذي أقام البناء حتى استقام، فله ثمن هذا البناء الذي أقامه فيصح العقد عليه، أما الأرض فلا.
قوله: «بل تؤجر» الحمد لله لم ينسد الباب، نقول: لا تبعها، ولكن أجرها، والأجرة لك؛ لأن الأجرة في مقابل المنفعة لا في مقابل العين، فلهذا جاز تأجيرها، ولم يجز بيعها، وهذا القول ضعيف جدّاً (1) .
والصواب: أن بيعها حلال جائز وصحيح، وسواء المساكن أو الأراضي، وينزل المشتري منزلة البائع في أداء الخراج المضروب على الأرض، وكان هذا فيما مضى، أما الآن فلا خراج ولا وقف، لكن لا بد أن نفهم الحكم الشرعي.
أما الأمر الواقع فالناس يتبايعون الأراضي والمساكن والبساتين من غير نكير، بل هو شبه إجماع، ولهذا يعتبر هذا القول ضعيفاً جدّاً، فالصواب جواز بيع المساكن والأرض.
ثم هذا الوقف ليس وقفاً خاصّاً، حتى نقول: إن الأوقاف الخاصة لا تباع إلا أن تتعطل منافعها، فهذا وقف عام على
__________
(1) وهو المذهب.(8/136)
المسلمين عموماً، فليس له مستحق خاص، وإذا كان كذلك كان منع المسلمين من تداوله بالبيع من أشق ما يكون على الناس، ورفع الحرج معلوم في الشريعة الإسلامية.
مسألة: لم يذكر الماتن بيوت مكة، لكن ذكرها الشارح؛ فبيوت مكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، فهي أضيق مما فتح عنوة، ودليلهم حديث «رباع مكة حرام بيعها، حرام إجارتها» ، ولكنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة (1) ، وهذا لو عمل الناس به لكان فيه إشكال كبير، لكن فَرَّج الفقهاء الذين يقولون بالتحريم للناس فقالوا: فإن لم يجد ما يسكنه إلا بأجرة لم يأثم بدفعها، والإثم على المؤجر؛ لأنه لا يستحق ذلك، وهذا في مكة، فما بالك بالمشاعر التي يتحتم على الإنسان أن يبقى فيها، فيكون بيعها أولى بالتحريم؛ ولهذا لا شك أن الذين بنوا في منى أو مزدلفة أو عرفة، غاصبون وآثمون؛ لأن هذا مشعر لا بد للمسلمين من المكوث فيه، فهو كالمساجد، فلو جاء إنسان إلى مسجد جامع كبير وبنى له غرفة في المسجد، وصار يؤجرها، كان حراماً، والآن منى مشعر يجب على المسلمين أن يبقوا فيها، والمبيت فيها واجب من واجبات الحج، فإذا جاء إنسان وبنى فيها وصار يؤجرها للناس فهو لا شك غاصب، آثم، ظالم، ولا
__________
(1) أخرجه الدارقطني (3/57) ؛ والحاكم (2/53) ؛ والبيهقي (6/35) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه البيهقي، والذهبي، وصوب الدارقطني وقفه، وروي بلفظ: «مكة لا تباع ولا تكرى بيوتها» ، أخرجه الدارقطني (3/58) ؛ والحاكم (2/53) ؛ والبيهقي (6/35) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه الدارقطني والبيهقي.(8/137)
يحل له ذلك، وهو أشد إثماً ممن يبيع المساكن في مكة؛ لأن المساكن في مكة لا يلزم الإنسان أن يبقى فيها، إذ يجوز أن يبقى في الخارج وينزل.
واختار شيخ الإسلام جواز البيع دون الإجارة لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، وقيل: يجوز بيعها وإجارتها وهذا مذهب الشافعي، وحجتهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قيل له عام الفتح: أتنزل غداً في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع؟! (1) وعقيل هو الذي ورث أبا طالب، وظاهر هذا الحديث أن بيوت مكة تملك، وإذا ملكت جاز بيعها، وجازت إجارتها، وما ذهب إليه الشافعي وغيره هو الذي نصره الموفق في المغني، وأيده بأدلة كثيرة وقال: إن الصحيح جواز البيع والإجارة في بيوت مكة، والعمل على هذا القول، وأما القول بأنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها فهو قول ضعيف، وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو وإن كان فيه شيء من القوة، فإنه يمكن أن يجاب عنه بأن الآية في أمكنة المشاعر، فهذه لا شك أنها لا تملك.
فصارت البلاد ثلاثة أقسام:
الأول: ما يجوز بيعه وإجارته.
الثاني: ما تجوز إجارته دون بيعه.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها (1588) ؛ ومسلم في الحج/ باب نزول الحاج بمكة وتوريث دورها (1351) عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ.(8/138)
الثالث: ما لا يجوز بيعه ولا إجارته.
فالذي فتح عنوة تجوز إجارته دون بيعه، إلا المساكن، ومكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، وبقية الأماكن يجوز بيعها وإجارتها كأرض المدينة وبيت المقدس وبقية الأراضي.
وقوله: «ولا يباع غير المساكن مما فتح عنوة» يؤخذ منه أنه يجوز بيع الأرض والمساكن مما فتح صلحاً، وهو كذلك؛ وذلك أن أرض العدو إما أن تفتح عنوة، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لهم ونقرها معهم بالخراج، وإما أن تفتح صلحاً على أنها لنا، فإن كانت لهم فهي ملكهم يتصرفون فيها، وإن كانت لنا فهي ملكنا نتصرف فيها، هذا إذا كانت صلحاً، أما العنوة فقد بينا حكمها.
وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ نَقْع البِئْرِ وَلاَ ما نَبَتَ فِي أرْضِهِ مِنْ كَلأٍ وَشَوْكٍ، وَيَمْلِكُهُ آخِذُهُ،..
قوله: «ولا يصح بيع نقع البئر» نقع البئر هو ماء البئر الذي نبع من الأرض، فلا يجوز بيع هذا الماء؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (1) ؛ ولأن هذا الماء لم يخرج بقدرة الإنسان؛ بل بقدرة الله عزّ وجل، فقد يحفر الإنسان بئراً عميقاً ولا يخرج الماء فليس من كَدِّه ولا فعله، بل هو سبب، فلذلك لا يملكه، وإذا كان لا يملكه فإنه لا يصح
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/364) ؛ وأبو داود في الإجارة/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وضعفه البوصيري، وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً (2473) ولفظه: «ثلاث لا يمنعن ... » ، وصححه البوصيري والحافظ في «التلخيص» (1304) .(8/139)
بيعه، أما إذا ملكه وحازه وأخرجه ووضعه في البركة، فإنه يجوز بيعه؛ لأنه صار ملكاً له بالحيازة.
إذا قلنا: لا يصح بيع نقع البئر، فلو جاء إنسان وَرَكَّبَ على بئري ما يستخرج به الماء، فهل لي أن أمنعه؟
الجواب: إذا لم يكن في ذلك عليّ ضرر فليس لي أن أمنعه، وإن كان علي ضرر فإن لي أن أمنعه.
والضرر مثل أن أتضرر بكونه يتخطى ملكي إلى البئر، أو بكونه يطلع على عورات النساء، أو بكونه يقلل الماء علي.
فالمهم أنه إذا لم يكن علي ضرر فإن الواجب علي أن أمكنه من أن يضع على بئري ما يستقي به الماء.
قوله: «ولا ما نبت في أرضه من كلأ وشوك» الكلأ هو العشب، والشوك الشجر، فما ينبت في الأرض بفعل الله ـ عزّ وجل ـ فإنه لا يجوز لي أن أبيعه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (1) فلا يصح بيع ما أنبته الله ـ تعالى ـ في ملكي من كلأ أو شوك.
فإن كنت أحتاجه لرعي إبلي أو بقري أو غنمي فأنا أحق به، ولي أن أمنع منه؛ لأنني أحق به، أما إذا كنت لا أحتاجه فليس لي أن أمنع من يريد أخذه، إلا إذا كان يلحقني في ذلك ضرر فلي أن أمنعه؛ لأنه لا يمكن أن يُرتَكب الضرر لمصلحة الغير وصاحب الأرض أحق به.
__________
(1) سبق تخريجه ص (139) .(8/140)
وقوله: «ولا ما نبت في أرضه» علم منه أن ما أنبته الإنسان في أرضه فله بيعه، كما لو غرس نخلاً أو شجراً، أو زرع زرعاً فإنه ملكه له أن يبيعه.
فما نبت في أرضه من الزرع والشجر في بيعه تفصيل:
أولاً: إذا أنبته هو فهو ملكه، ويجوز بيعه، لكن الزروع لا بد أن تشتد كما سيأتي إن شاء الله.
ثانياً: إذا كان من عند الله لم يتسبب فيه، فإنه لا يجوز؛ لأن الناس شركاء فيه وهذا هو القول الأول (1) .
القول الثاني: أنه إن استنبته فهو له يملكه، ويجوز بيعه، وإلا فلا، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ومعنى استنباته أن يحرث الأرض حتى تكون قابلة للنبات إذا نزل المطر، أو أن يدع الأرض لا يحرثها لزرعه الخاص ترقباً لما ينبت عليها من الكلأ والحشيش؛ لأنه الآن باختياره أن يحرث الأرض ولا تنبت إلا ما زرعه هو.
وهذا أشبه ما يكون بالصواب كما قلنا في أحواض الماء التي يعدها لاستقبال الماء، فإذا جاء الماء ونزل فيها صار ملكه.
القول الثالث: أن له بيعه وأن قوله: «الناس شركاء في ثلاث» (2) في غير الأرض المملوكة، أما الأرض المملوكة فإن
__________
(1) وهو المذهب.
(2) سبق تخريجه ص (139) .(8/141)
ما نبت عليها يتبعها فيكون ملكاً له، فالأقوال إذاً ثلاثة.
قوله: «ويملكه آخذه» يملكه الضمير يعود على نقع البئر، وعلى ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك، فلو أن رجلاً دخل على بستان شخص وحشَّ الحشيش، وقطع الشجر فإنه يكون ملكاً له؛ لأنه حازه.
فإذا قال صاحب الأرض: لماذا اعتديت على أرضي وأخذته؟
قلنا له: هو أخطأ في اعتدائه، ولكنه ملكه بحوزه، ولهذا قال: «يملكه آخذه» .
وَأنْ يَكُون مَقْدُوراً عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ آبِقٍ وَشَارِدٍ وَطَيْرٍ فِي هَوَاءٍ وسَمَكٍ فِي مَاءٍ، وَلاَ مَغْصُوبٍ مِن غَيْر غَاصِبِهِ، أوْ قَادِرٍ عَلَى أخْذِهِ
قوله: «وأن يكون مقدوراً على تسليمه» هذا هو الشرط الخامس، والضمير في قوله: «يكون» يعود على المعقود عليه سواء كان الثمن أو المثمن، أي: يشترط أن يكون المبيع أو الثمن مقدوراً على تسليمه، أي: يقدر على تسليمه، فيكون كل من البائع والمشتري قادراً على تسلم أو تسليم ما انتقل من ملكه أو إلى ملكه، ودليل هذا الشرط ما يلي:
أولاً: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، فبيع ما لا يقدر على تسليمه من الميسر؛ ووجه ذلك أن بيع ما لا يقدر على تسليمه سيكون بأقل من ثمنه الحقيقي؛ لأن المشتري مخاطر قد يحصل عليه وقد لا يحصل، فإذا قدر أن هذا الذي لا يقدر على تسليمه يساوي مائة لو كان مقدوراً على تسليمه، فسيباع إذا كان لا يقدر على تسليمه بخمسين، فيبقى المشتري الآن إما غانماً(8/142)
وإما غارماً، إن قدر عليه فهو غانم، وإن فاته فهو غارم، وهذه هي قاعدة الميسر.
ثانياً: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، ووجه الدلالة أن ما يعجز عن تسليمه لا يرضى به الإنسان غالباً، ولا يقدم عليه إلا رجل مخاطر قد يحصل له ذلك، وقد لا يحصل له.
ثالثاً: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر، أخرجه مسلم (1) ؛ ووجه كونه غرراً أن المعجوز عن تسليمه لا بد أن تنقص قيمته، وحينئذٍ إن تمكن المشتري من تسلُّمِه صار غانماً، وإن لم يتمكن صار غارماً، وهذا هو الضرر.
والذي لا يقدر على تسليمه لا شك أنه غرر، إذ قد يبذل المشتري الثمن ولا يستفيد.
رابعاً: ونستدل عليه ـ أيضاً ـ بالنظر الصحيح، وهو أن المسلمين يجب أن يكونوا قلباً واحداً متآلفين متحابين، وهذا البيع يوجب البغضاء والتنافر؛ وذلك أن المشتري لو حصل عليه لكان في قلب البائع شيء يغبطه ويحسده عليه، ولو لم يقدر عليه لكان في قلب المشتري شيء يغبط البائع ويحسده عليه، وكل ما أدى إلى البغضاء والعداوة فإن الشرع يمنعه منعاً باتّاً؛ لأن الدين الإسلامي مبني على الألفة والمحبة والموالاة بين المسلمين.
__________
(1) في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة (1513) .(8/143)
فصار الدليل على اشتراط هذا الشرط: القرآن، والسنة، والنظر الصحيح.
ثم فرع المؤلف على هذا الشرط فقال:
«فلا يصح بيع آبق وشارد» الآبق هو العبد الهارب من سيده، والشارد هو الجمل الشارد من صاحبه.
فبيع الآبق لا يصح سواء عُلم خبره أم لم يعلم؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فالبائع لا يستطيع أن يسلمه للمشتري حتى لو علمنا خبره، وأنه أبق إلى البلد الفلاني؛ لأن العثور عليه يصعب، لا سيما مع ضعف السلطان، وعدم استتباب الأمن، وعدم الضبط فيصعب جدّاً أن يناله المشتري (1) .
وقوله: «فلا يصح بيع آبق» ظاهره سواء كان المشتري قادراً على رده أم غير قادر.
وقيل: إن كان قادراً على رده فإن البيع صحيح؛ لأن الحكم يثبت بعلته ويزول بزوال العلة، فإذا كان هذا الرجل يعلم مكان الآبق، وهو قادر على أخذه بكل سهولة؛ فما المانع من صحة البيع، لكن بشرط ألا يغر البائع، أي: ألاّ يوهمه أنه لا يقدر على العثور عليه؛ وذلك لأنه إذا أعلمه أنه قادر عليه فسوف يرفع السعر، أي: ثمنه، وإذا لم يعلم فسوف يخفض السعر، فلا بد من أن يعلمه.
وقوله: «ولا شارد» الشارد هو الجمل الهارب، وهذا مثال،
__________
(1) وهذا هو المذهب.(8/144)
وإلا فلو أن بقرة هربت أو شاة أو ما أشبه ذلك، وعُجز عنها فهي داخلة في هذا.
قوله: «وطير في هواء» مثل أن يكون عند الإنسان حمام، وليس الآن في مكانه فيبيعه صاحبه، فإن بيعه لا يصح؛ لأنه غير مقدور عليه. وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح بيعه ولو ألف الرجوع، وكان من عادته أن يأتي في الليل ويبيت في مكانه فإنه لا يصح بيعه؛ وذلك لأنه ـ وإن كان آلفاً للرجوع ـ فقد يُرمى، وقد يهلك، إذ ليس بين أيدينا الآن.
وقيل: إن ألف الرجوع صح البيع، ثم إن رجع، وإلا فللمشتري الفسخ، وهذا القول أصح.
فإذا حضر وأراد البائع ألاَّ يسلمه إياه أجبرناه على تسليمه إياه؛ لأن البيع وقع صحيحاً، وإن لم يحضر فإن للمشتري الفسخ؛ لأن المشتري لم يشتر شيئاً لا ينتفع به، ولا يعود عليه.
قوله: «وسمك في ماء» أي: ولا بيع سمك في ماء ولو كان مرئياً فإنه لا يجوز بيعه.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان مرئياً بمكان يمكن أخذه منه؛ لأنه أطلق قال: «سمك في ماء» ، ولكن الصحيح الذي مشى عليه في الروض (1) ، أنه إذا كان مرئياً يسهل أخذه فإنه يجوز بيعه، كالسمك الذي يكون في برك بعض البساتين، لكن سمك في البحر أو في نهر لا يصح بيعه، أو في مكان ليس بحراً ولا نهراً؛
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (4/350) .(8/145)
لكن يصعب أخذه فإنه لا يصح بيعه؛ وذلك لأن هذا السمك ربما ينغرز في الطين فلا يقدر عليه.
قوله: «ولا مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه» المغصوب ما أخذ من مالكه قهراً، أي: لا يصح بيع مغصوب من المالك، فلو أن مالك المغصوب باعه على طرف ثالث فإنه لا يصح؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، إلا أن المؤلف استثنى قال: «من غير غاصبه أو قادر على أخذه» فإن كان من غاصبه بأن قال المالك للغاصب: اشتر مني ما غصبتني، فاشتراه فهذا صحيح؛ لأن العلة وهي القدرة على التسليم موجودة؛ إذ أن هذا المغصوب عنده فيصح البيع، لكن بشرط ألاَّ يمنعه إياه بدون البيع، فإن منعه الغاصب إياه إلا بالبيع فالبيع غير صحيح؛ لأنه بغير رضا ومن شرط البيع الرضا، أي: بأن قال الغاصب: أنا لا أرده عليك وأريد أن تبيعه علي، فالمالك باعه عليه اضطراراً؛ لأنه يقول: آخذ العوض، ولا يذهب مالي وعوض مالي فإن البيع لا يصح.
وإن بذل الغاصب ثمناً أكثر من قيمته أضعافاً مضاعفة، وباعه المالك عليه فهل يصح أو لا؟
الجواب: لا يصح ما دام لم يرض حتى لو أعطي أضعافاً مضاعفة؛ لأن المالك ربما لا يرضى أن يبيعه على الغاصب ولو أعطاه أضعاف أضعاف القيمة؛ لأنه يريد أن يتشفى منه، وهو يعرف أنه لو أخذ هذه القيمة اشترى عشرة من جنس ما أخذ منه، لكن يريد أن يحول بين الغاصب وبين جشعه وطمعه، فيقول: أنا لا أبيع أبداً، فهذا نقول: لا يصح البيع ولو كان بأضعاف مضاعفة.(8/146)
وقوله: «أو قادر على أخذه» أي: على أخذه من الغاصب، مثل أن يغصبه شخص، فيبيعه المالك على عم هذا الشخص القادر على أخذه منه، أو على أبيه فإنه يصح؛ لأن علة صحة البيع وهي القدرة على أخذه موجودة، فإن كان المشتري اشتراه بناء على أنه قادر على أخذه ولكنه عجز فيما بعد، فله الفسخ؛ لأنه تعذر الحصول على مقصودهم.
قوله: «وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة» هذا هو الشرط السادس من شروط البيع: أن يكون المبيع معلوماً برؤية أو صفة، أي: عند البائع والمشتري، فلا يكفي علم أحدهما، والجهل إما أن يكون منهما جميعاً، أو من البائع وحده أو من المشتري وحده، وفي كل الصور الثلاث لا يصح البيع، فلا بد أن يكون معلوماً عند المتعاقدين، ودليل ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر (1) ، والمجهول بيعه غرر لا شك.
فإن قيل: لماذا نهي عن الغرر؟
قلنا: لما يحصل به من العداوة والبغضاء والكراهية؛ لأن المغلوب منهما سوف يكره الغالب فلذلك نُهي عن بيع الغرر.
مسألة: هل يشترط أن يكون المشتري عنده علم بالمبيع؟ مثل ما لو كان المبيع جوهراً ـ والجواهر معلوم أن أهلها مخصوصون ـ فأراد أن يبيع هذا الجوهر على شخص لا يعرف الفرق بين الخزف والدر، فظاهر كلام الفقهاء أن ذلك جائز، حتى
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .(8/147)
لو أتاه بحديدة وهو لا يدري ما هي، وظن أن فيها فائدة عظيمة فاشتراها، فالفقهاء يقولون: البيع صحيح، وهو الذي فرط، وقال بعض العلماء: لا بد أن يكون لدى المشتري علم بما يكون له هذا الشيء، وبقيمة هذا الشيء، وهذا لا شك أنه أحوط وأبرأ.
والقائلون بالجواز يقولون: إن البيع صحيح، ولكن الغرر والخطأ يمكن دفعه بخيار الغبن.
وقوله: «وأن يكون معلوماً برؤية أو صفة» أي: أن طرق العلم إما الرؤية وإما الصفة، ولكن هذا فيه قصور، فطرق العلم متعددة: الرؤية، والسمع، والشم، والذوق، واللمس، والوصف.
فالرؤية فيما يكون الغرض منه رؤيته، والسمع فيما يكون الغرض منه سماعه، والشم فيما يكون الغرض منه ريحه، والذوق فيما يكون الغرض منه طعمه، واللمس فيما يكون الغرض منه ملمسه، هل هو لين أو خشن؟ أو ما أشبه ذلك، والوصف سيأتي إن شاء الله.
وَأنْ يَكُونَ مَعْلُوماً بِرُؤيَةٍ أو صِفَةٍ فَإِن اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ، أَوْ رَآهُ وَجَهِلَهُ، أَوْ وُصِفَ لَهُ بِمَا لاَ يَكْفِي سَلَماً لَمْ يَصِح..
وقوله: «وأن يكون معلوماً برؤية» لم يشترط أن تكون الرؤية للجميع، وعلى هذا فإذا كانت رؤية بعضه دالة على الجميع اكتفي بها ولا بد من هذا؛ لأن كومة الطعام كالتمر أو البر ـ مثلاً ـ لا نرى كل حبة منها لكن نرى بعضها الدال على بقيتها، إذاً المؤلف أطلق ولم يقل برؤية الجميع، فيشمل رؤية الجميع ورؤية البعض الدال على الكل.
وقوله: «برؤية» هذه الرؤية متى تكون؟
الجواب: تكون حين العقد، أي: لا بد أن يراه حين(8/148)
العقد، أو يراه قبل العقد بزمن لا يتغير فيه المبيع تغيراً ظاهراً بعد الرؤية، فمثلاً لو رأى رطباً قبل يومين وعقد عليه البيع الآن، فهل تكفي الرؤية السابقة قبل يومين؟ الجواب: لا، لأنه يتغير، ولو رأى بطيخة قبل يومين ثم عقد عليها البيع اليوم فكذلك لا يصح؛ لأنه في خلال هذه المدة تتغير.
إذاً الرؤية وقتها عند العقد، أو قبله بزمن لا يتغير فيه المبيع.
وقوله: «أو صفة» وهذا طريق العلم بالوصف، والموصوف ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون معيناً.
الثاني: أن يكون في الذمة.
مثال المعين: أن تقول: بعتك سيارتي الفلانية التي صفتها كذا وكذا.
مثال الذي في الذمة: أن تقول: بعتك سيارة صفتها كذا وكذا، فالسيارة هنا غير معينة.
وكلاهما صحيح ولكن يشترط أن تنطبق الصفة.
ودليل الاكتفاء بالوصف، حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» (1) ، فالعلم بالمسلم فيه هنا
__________
(1) أخرجه البخاري في السلم/ باب السلم في كيل معلوم (2240) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب السلم (1604) .(8/149)
بالوصف؛ لأنه يسلف السنة والسنتين في الثمار، وهي لم تخلق الآن، إذاً يكون العلم بالوصف، ولكن لا بد من شرطين:
الأول: أن يكون الموصوف مما يمكن انضباطه بالصفة.
الثاني: أن يضبط بالصفة.
فالبيع بالصفة أضيق من البيع بالرؤية أو ما يشبهها.
أما ما لا يمكن انضباطه بالصفة، كالجواهر واللآلئ وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يباع بالوصف؛ لأنه يختلف اختلافاً عظيماً، فرب خرزة من اللؤلؤ تساوي ـ مثلاً ـ ألف ريال، وأخرى لا تساوي عشرة ريالات فلا يمكن ضبطها، فلا بد أن يمكن انضباطه بالصفة، ولا بد أن يضبط ـ أيضاً ـ بالصفة بحيث تحرر الصفة تحريراً بالغاً، حتى لا يحصل اختلاف عند التسليم.
وهل يمكن انضباط المصنوعات؟
الجواب: نعم يمكن، ومن أضبط ما يكون الأباريق والفناجيل والأقلام وما أشبهها، فهذه يمكن انضباطها، وقد يكون انضباط المصنوعات أكبر بكثير من انضباط البر والتمر كما هو ظاهر.
لكن إذا قال قائل: الناس يسلمون في الثمار في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن المعلوم أن انضباطه بالصفة على وجه دقيق جدّاً أمر لا يمكن إما متعسر وإما متعذر.
قلنا: ما يغتفر فيه الجهالة اليسيرة فإنه لا يضر.
مسألة: هل يصح بيع الأنموذج؟(8/150)
وهو أن آتي بصاع أو ربع الصاع أو فنجال من البر، وأقول: أبيع عليك مثل هذا الصاع بكذا وكذا، فهذا ضبط بالصفة عن طريق الرؤية، فأنا ما رأيت الكل، لكن رأيت الفنجال، وقال: أنا عندي من الطعام مثل هذا الذي في الفنجال؟
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من يرى أنه لا يصح (1) ، والصحيح أن البيع صحيح؛ لأن العلم مدرك بهذا، وما زال الناس يتعاملون به.
قوله: «فإن اشترى ما لم يره» مثاله: قال: بعت عليك السيارة الفلانية بكذا وكذا ولم يرها، أو بعت عليك كتاباً بكذا وكذا وهو لم يره فإنه لا يصح البيع، أما لو وصفه صح البيع إذا كان مما يمكن انضباطه بالصفة، ولهذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ في الروض (2) : «ما لم يره بلا وصف» ، وقد يقال: إن المؤلف الماتن قصر، وقد يقال: إنه لم يقصر بناء على أن العلم يكون بالرؤية وبالصفة.
قوله: «أو رآه وجهله» أي: قال: بعت عليك ما في هذا الكيس، وهو لا يدري هل هو رمل أو سكر، فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري.
فإن كان يجهل منفعته ولا يجهله هو، بأن باع عليه آلة ميكانيكية لكنه لا يدري ماذا يصنع بها، فهل يقال: إن هذا علْم فيصح البيع، أو يقال: إنه ليس بعلم فلا يصح؟
__________
(1) وهذا هو المذهب.
(2) «الروض المربع مع حاشية ابن قاسم» (4/353) .(8/151)
الجواب: أن هذه الصورة تحتمل الأمرين، فقد يقال: إنها معلومة، وجهل المشتري بكيفية استعمالها لا يعد جهلاً بذات المبيع، بل هو نقص في المشتري العاقد، لا في المعقود عليه.
وقد يقال: بل لا بد من العلم بهذا، فقد يأتي إنسان غرير، ويرى هذه الآلات وهي تشتغل أمامه وتتحرك، ويظن أن هذا شيء يصنع القنابل أو الطائرات فيشتريه بغالي الثمن، وإذا هو لا يصنع ولا الإبرة، فيكون هذا جهلاً عظيماً؛ فلذلك نرى أنه لا بد أن يعلم الإنسان كيف يُنتفع بهذا الشيء، وإلا حصل غرر كبير.
قوله: «أو وصف له بما لا يكفي سلماً لم يصح» لعدم العلم بالمبيع ويأتينا ـ إن شاء الله ـ السلم وما الذي يمكن انضباطه والذي لا يمكن، فإذا وصف بما لا يكفي سلماً فإنه لا يصح البيع.
وقيل: إنه يصح أن يبيع ما لم يره ولم يوصف له، ولمشتر الخيار إذا رآه، فيقول مثلاً: بعت عليك سيارتي، فقال له: ما هذه السيارة؟ قال: إن شاء الله ستراها وتعرفها، قال له: بكم؟ قال: بخمسة آلاف، قال: اشتريت.
فعلى المذهب لا يصح؛ لأنه لم يرها ولم توصف له.
ومذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أنه يصح البيع ويكون للمشتري الخيار إذا رآه وهذا هو الصحيح، وهو شبيه ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار إذا رآه فليس عليه نقص.
فإذا قيل: كيف الطريق إلى تصحيح البيع على القول الأول؟
الجواب: أنه إذا رآه عقد عليه من جديد، وهذا هو الذي تظهر به ثمرة الخلاف بين القولين، فعلى القول بالصحة يكون(8/152)
نماء هذا المبيع ما بين عقد البيع ورؤيته للمشتري، وعلى الرأي الأول يكون النماء للبائع؛ لأن البيع لم يصح.
وَلاَ يُبَاعُ حَمْلٌ فِي بَطْنٍ، وَلَبَنٌ فِي ضَرْعٍ مُنْفَرِدَيْنِ، وَلاَ مِسْكٌ فِي فَأرَتِهِ وَلا نَوَى فِي تَمْرِهِ وَصُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، وفِجْلٌ وَنَحْوُهُ قَبْل قَلْعِهِ.
قوله: «ولا يباع حمل في بطن، ولبن في ضرع منفردين» الحمل في البطن لا يصح بيعه إذا بيع منفرداً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر (1) ، وهذا غرر فإن الحمل قد يكون واحداً أو أكثر، وقد يكون ذكراً أو أنثى، وقد يخرج حيّاً وقد يخرج ميتاً، فالجهالة فيه كبيرة، ولهذا نقول: إنه داخل في العموم، وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر، وورد النهي عنه بخصوصه: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع» (2) ، ونهى عن بيع حَبَل الحبلة (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .
(2) كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص» .
أخرجه الإمام أحمد (3/42) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام (2196) .
وضعفه الحافظ في «البلوغ» (821) وكما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع المضامين والملاقيح، أخرجه البزار (1267) «كشف الأستار» وضعفه الحافظ في «البلوغ» (824) ، وأخرجه البزار (1268) «كشف الأستار» ؛ والطبراني في «الكبير» (11581) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وأخرجه عبد الرزاق (14138) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ والحديث صححه ابن القيم في «الهدي» (5/819) . والملاقيح جمع ملقوح وهو جنين الناقة، قاله ابن الأثير (4/263) .
(3) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الغرر وحبل الحبلة (2143) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع حبل الحبلة (1514) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(8/153)
وكذلك اللبن في الضرع لا يصح بيعه؛ لأنه مجهول، ولأن الدابة قد توافق على حلبها وتدر، وقد لا تدر ولا توافق على أن تُحلب، فهناك بعض البقر إذا أرادوا أن يحلبوها منعت إما برفسها برجلها، وإما أن تنطح بقرنها، وإما أن تمنع اللبن فلا تحلب أبداً، فلذلك يكون مجهولاً، ثم إذا قدِّر أنه انتفت هذه الموانع فكم مقداره؟ فيكون مجهولاً، والمسألة بسيطة نقول: بدلاً من أن تشتريه في الضرع انتظر حتى يحلب فهذا أحسن وأسلم.
وقوله: «منفردين» هذه حال من «حمل» ومن «لبن» ، ومفهومه أنهما إذا بيعا مع الأم في الحمل، ومع ذات اللبن في اللبن، فالبيع صحيح بشرط ألا يفردا بعقد، فيقول: بعتك هذه الشاة الحامل وما في بطنها؛ لأن المؤلف اشترط أن يكونا منفردين، فمفهومه إذا كانا تبعاً جاز، وهل إذا قال: بعتك هذه الحامل وما في بطنها هل هذا بيع انفراد؟
نقول: نعم؛ لأنه نص عليه، وهو إنما يجوز إذا كان تبعاً للأم، وكذلك يقال في اللبن، وقد أخذ الفقهاء هذا من قاعدة، وهي «أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً» .
قوله: «ولا مسك في فأرته» الفأرة وعاء المسك المنفصل من غزال المسك، فإن من الغزلان ما يسمى بغزال المسك، وذلك على ما حدثنا به شيخنا عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ، أن هذه الغزلان تركض ومع شدة ركضها وشدة تعبها ينزل من بطنها صرة من الدم، ثم تربط هذه الصرة برباط قوي جدّاً بحيث لا يصل إليها الدم الذي هو دم الغذاء، وإذا مر عدة أيام انفصلت(8/154)
من الجلد فأخذوها، فإذا هذا الدم الذي احتقن في هذه الصرة هو المسك، وفي ذلك يقول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
هذا ما ذهب إليه المؤلف أنه لا يصح بيع المسك في فأرته، وهو المذهب؛ لأنه مجهول، والمسك غالٍ إن قدرته بالوزن فقد تكون الفأرة سميكة، وإن قدرته بالحجم فكذلك.
القول الثاني: أنه يصح بيعه في فأرته؛ لأن هذه الفأرة وعاء طبيعي فهي كقشرة الرمانة، ومن المعلوم أن الرمانة يصح بيعها ووعاؤها قشرها، فقد يكون فيه شيء من الشحم كثير، وقد يكون فيه شيء قليل، ثم إن أهل الخبرة في هذا يعرفونه إما باللمس والضغط عليه، أو بأي شيء، وهم يقولون: إن هذا مستتر بأصل الخلقة، وقد تبايعه الناس في كل عصر ومصر من غير نكير، فيقال: أيضاً المسك في فأرته مستتر بأصل الخلقة، وهذا الذي ذهب إليه ابن القيم، فهو مستتر بأصل الخلقة كالبطيخ والرمان وما أشبه ذلك، وهذا هو الصحيح.
قوله: «ولا نوى في تمره» فلو أن إنساناً عنده تمر في وعاء، وقال له آخر: بعني نوى هذا التمر، وقال: نعم أبيعك النوى، فإن البيع لا يصح؛ لأنه كالحمل في البطن. ويصح بيع التمر بنواه، كما يصح بيع الحامل بحملها ولا يصح بيع النوى في التمر؛ لأنه مجهول فيكون داخلاً في بيع الغرر، والنوى يختلف حتى في النوع الواحد، ربما تأكل تمرة فتجد فيها نواة كبيرة، وربما تأكل تمرة من هذا النوع فتجد فيها نواة صغيرة؛ لذلك لا يصح بيع النوى في التمر.(8/155)
وفهم من قوله: «بيع النوى في التمر» أنه لو أخرج النوى من التمر ثم باعه فالبيع صحيح؛ لأنه معلوم.
قوله: «وصوف على ظهر» لحديث ورد في النهي عنه (1) ؛ ولأنه جزء من الحيوان أو متصل بالحيوان، فلم يجز بيعه كبيع الجزء من الحيوان كما لو باعه يداً، أو رجلاً، ولأنه يزيد فتكون الزيادة مجهولة، فإذاً عندنا دليل وتعليلان.
مثاله: إنسان عنده شاة فجاءه شخص يغزل الصوف، فقال: بعني ما على شاتك من الصوف فباعه عليه فلا يجوز (2) .
القول الثاني: أنه يصح بيع الصوف على الظهر بشرط الجز في الحال وألا تتضرر به البهيمة؛ لأنه مشاهد معلوم؛ ولا مانع من بيعه فلا يشتمل البيع على محذور، وهذا القول هو الصحيح؛ لأنه إذا بيع بشرط الجز في الحال فهو كما لو بيع الزرع بشرط الجز في الحال، والنماء الذي قد يحصل يزول باشتراط جزه في الحال.
__________
(1) رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع» ، أخرجه الدارقطني (3/14) ؛ والطبراني في «الكبير» (11935) وفي «الأوسط» (3708) ؛ والبيهقي (5/340) .
وأخرجه أبو داود في «المراسيل» عن عكرمة (183) ، وأخرجه أيضاً موقوفاً على ابن عباس (182) ، وكذا ابن أبي شيبة (6/533) ، قال الحافظ في «البلوغ» (833) : «إسناده قوي» .
ورجح البيهقي (5/340) ؛ والحافظ في «الدراية» (2/120) وقفه على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
(2) وهو المذهب.(8/156)
فإن قال قائل: ما الجواب على الحديث الذي اسْتُدِلَّ به وهو حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؟.
قلنا الجواب: إن صح الحديث، فإنما نهى عنه؛ لأنه قد يتأذى الحيوان بجزه، ولا سيما إذا جزه في أيام الشتاء فيكون النهي ليس لعلة الجهالة ولكن لعلة الأذى.
وأما القياس وهو أنه متصل بالحيوان، فهو كجزء من أجزائه، فجوابنا على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أننا لا نسلم منع بيع الجزء المعلوم المشاهد، كبيع الرأس مثلاً، وبيع الرقبة، وبيع اليد من العضد فلا نسلم أن بيع هذا حرام؛ لأنه مشاهد معلوم، وليس فيه غرر ولا جهالة.
الوجه الثاني: أنه لا يصح القياس؛ لأن الشعر أو الصوف في حكم المنفصل، فكيف يجعل في حكم الجزء، والعجب أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إنَّ مس المرأة لشهوة ناقض للوضوء، ومس شعرها لا ينقض الوضوء، قالوا: لأنه في حكم المنفصل!!
فالراجح في هذه المسألة أن بيع الصوف على الظهر جائز، لكن بشرط أن يجز في الحال وألاَّ يلحق الحيوان أذى، أما إذا لحق الحيوان أذى مُنِعَ لا لأنه مجهول، ولكن لأذى الحيوان.
قوله: «وفجل ونحوه قبل قلعه» الفجل معروف، فلا يصح بيعه حتى يقلع من الأرض ويشاهد؛ لأنه مدفون في الأرض فقد يكون كبيراً وقد يكون متوسطاً وقد يكون صغيراً.(8/157)
وقوله: «ونحوه» مثل البصل والجزر، فكل ما المقصود منه في الأرض فإنه مجهول لا يصح بيعه حتى يقلع، فإذا قلع وصار بارزاً ظاهراً على الأرض فإنه يباع، وهذا ـ أيضاً ـ فيه خلاف بين العلماء.
القول الثاني: أنه يصح بيعه؛ لأنه وإن كان المقصود منه مستتراً فإنه يكون معلوماً عند ذوي الخبرة فيعرفونه، فيمكن أن تأتي للفلاح وتقول: بعني هذه القطعة من الأرض التي فيها البصل أو الثوم أو الفجل بكذا وكذا، وذلك بعد تكامل النماء، فيصح بيعه، وهذا القول أصح، وهو الذي عليه العمل من زمن قديم، ولا يرون في هذا جهالة، ثم إذا قدر أن هناك جهالة فهي جهالة يسيرة لا تكون غرراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام وابن القيم ـ رحمهما الله ـ.
وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ وَلاَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيْدِهِ وَنَحْوِهِ،.......
قوله: «ولا يصح بيع الملامسة» الملامسة مفاعلة، والمفاعلة تكون غالباً من طرفين، وهي مأخوذة من اللمس، مثل أن يقول البائع للمشتري: أي ثوب تلمسه فهو عليك بكذا، فلا يصح البيع؛ لأن المشتري قد يلمس ثوباً يساوي مائة أو يلمس ثوباً لا يساوي إلا عشرة ففيه جهل وغرر، وهو يشبه القمار بلا شك إن لم يكن منه.
وهناك معنى آخر للملامسة وهو أن يقول: أي ثوب تلمسه فهو عليك بعشرة، ولو كانت الثياب من نوع واحد وعلى تفصيل واحد، وهذا الوجه مبني على عدم صحة تعليق البيع بالشرط؛ لأن «أي ثوب تلمسه» هذه جملة شرطية، ولكن هذا المثال الأخير إنما(8/158)
يصح على قول من يقول: إن تعليق البيع بالشرط لا يصح، وهي مسألة خلافية، والصحيح أنه يصح تعليق العقد بالشرط.
قوله: «والمنابذة» مأخوذة من النبذ وهو الطرح، مثل أن يقول المشتري للبائع: أي ثوب تنبذه علي فهو بعشرة، فالذي يختاره البائع في هذه الحال أقل ما يمكن، فيكون مجهولاً، وربما ينبذ إليه ثوباً يساوي عشرة ويظن أنه ينبذ إليه ثوباً يساوي مائة، والدليل على عدم الصحة عام وخاص:
أما العام فحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: نهى عن بيع الغرر (1) ، وهذا الحديث قاعدة عظيمة.
والخاص أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الملامسة والمنابذة (2) .
وبيع الحصاة مثله لا يصح، وله صورتان:
الصورة الأولى: أن يقول: احذف حصاة فعلى أي شيء تقع فهو بعشرة فحذف الحصاة، فوقعت على علبة كبريت فارغة فيكون بعشرة، وحذف حصاة أخرى، فوقعت على حلي مرصع بالجواهر يساوي آلافاً، ففيه جهالة.
الصورة الثانية: أن يقول: احذف هذه الحصاة فأي مدى بلغته من الأرض فهو لك بكذا وهذا ـ أيضاً ـ مجهول؛ لأنه يختلف الحاذف، فرجل نشيط وقوي إذا رمى أبعد، ورجل آخر
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع المنابذة (2146) ؛ ومسلم في البيوع/ باب بيع الملامسة والمنابذة (1511) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/159)
دونه، فتختلف الحال، ثم تختلف ـ أيضاً ـ الأحوال باعتبار الريح فقد تكون مقابلة، وقد تكون على جنب وقد تكون مدابرة فتختلف، فبيع الحصاة منهي عنه ولا يصح؛ لأنه غرر وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر (1) .
مسألة: في بعض الدكاكين كل شيء بخمسة ريالات، كل شيء بعشر ريالات، هل هذا من هذا النوع؟.
الجواب: لا؛ لأنه لن يشتري إلا وقد علم ما أراد، فيقول: أخذت الحقيبة، أخذت الكتاب، أخذت القلم، أخذت الساعة بعشرة فكل شيء معلوم.
مسألة: لو أتى إنسان بكرتون فيه ثياب وطواقٍ وعبايات ونعال كلها مخلوطة، فقال: بعت عليك هذا الكرتون كل فرد منها بدرهم، فلا يصح؛ لأنه مجهول، لكن لو قال: فيه عشر من النعال، وعشر من الطواقي، وعشر من الثياب، وعشر من العبايات، وكل واحد بكذا فهذا يصح؛ لأنه معلوم لكنه يحتاج إلى حساب، أما إذا كان لا يعلم قدر كل شيء فهذا لا يصح.
قوله: «ولا عبد من عبيده ونحوه» أي: لا يصح أن يبيع عبداً من عبيده؛ وذلك لعدم التعيين فلا بد أن يكون المبيع معيناً فإذا لم يعين فإن البيع لا يصح، مثاله: إنسان عنده مائة عبد، وهذا قد يحصل، فالزبير ـ رضي الله عنه ـ كان عنده ألف عبد، وكان يخارجهم، أي: يعطيه كل واحد منهم كل يوم درهماً،
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .(8/160)
فكانوا يأتونه كل يوم بألف درهم، ويقول الباقي لكم، فهذه تسمى مخارجة، والمخارجة أن يقول السيد لعبده: ائتني كل يوم بدرهم، وما زاد فلك فهذا جائز، لكن إذا لم يحصّل الدرهم لا يلزمه به؛ لأنه إذا ألزمه به كان غير جائز.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا يصح البيع ولو كانت القيمة واحدة، وهذا فيه خلاف بين أهل العلم.
فإن منهم من قال: إذا تساوت القيم صح البيع، وفي هذا القول ـ أيضاً ـ شيء من النظر؛ لأنها قد تتساوى القيم مع اختلاف الصفات، فمثلاً هذا قيمته مائة لأنه سمين، والثاني قيمته مائة؛ لأنه حامل، والثالث قيمته مائة لأنه كبير الجسم، فتساوي القيم في الواقع لا يرفع الجهالة إذا كان المقصود عين المبيع، أما إذا كان المقصود التجارة فإنه إذا تساوت القيم فلا جهالة؛ لأن التجارة يُراد بها الثمن أو القيمة، فإذا تساوت القيم فلا بأس أن نقول: إنه يصح البيع إذا كان المقصود التجارة، أما إذا كان المقصود عين المبيع فإنه لا بد أن يُعيّن، وتساوي القيم قد يحصل مع اختلاف الأغراض.
مثال آخر: هذه شاة حامل ولكنها هزيلة، وهذه شاة سمينة ولكنها صغيرة الجسم، وهذه شاة كبيرة الجسم ولكنها هزيلة.
والقيم متساوية فالحامل رفع قيمتها الحمل، والصغيرة السمينة رفع قيمتها السمن، والكبيرة الجسم القليلة اللحم رفع قيمتها كبر الجسم، والإنسان قد يكون له غرض في الحامل دون السمينة أو بالسمينة دون الحامل، أو بالسمينة دون الكبيرة الجسم.(8/161)
إذاً يمكن أن يبيع عبداً من عبيده إذا لم يفت الغرض، وأما إذا فات الغرض فلا بد من التعيين.
مسألة: يوجد الآن بيع يتبايعه الناس يكون عنده كومة من الحبحب، فلو قال لك: بعت عليك واحدة من هذه الكومة بريالين، تخير، فعادة الناس الآن أن البيع صحيح نافذ وأن المشتري إذا أخذ الحبة التي يريدها، أجازها البائع أو منع، لكن البائع قد عرف أن أعلى ما يكون من ثمن هذه المجموعة أن يبلغ ريالين، ويعلم أنه غير مغبون فمثل هذا ينبغي أنه يقال بالصحة؛ لأن الناس تعارفوا على هذا البيع ولا يرون فيه جهالة ولا غرراً، والأصل في المبايعات والعقود الحل والصحة، وكذلك بيع شاة من قطيع، يأتي إلى قطيع من الغنم ويقول: اختر ما شئت بمائة ريال، هذه ـ أيضاً ـ جرى بها العرف، وهو إذا اختار فإن البائع يعلم أن أعلى ما يكون بمائة ريال.
وَلاَ اسْتِثْنَاؤُهُ إِلاَّ مُعَيَّناً وَإِن اسْتَثْنَى مِن حَيوانٍ يُؤكَلُ رَأسَهُ وَجِلْدَهُ وَأطْرَافَهُ صَحَّ وَعَكْسُهُ الشَّحْمُ، والحَمْلُ وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا مَأكُولُهُ فِي جَوفِهِ كَرُمَّانٍ وَبَطِّيخٍ، وَبَيعُ البَاقِلاَّء وَنَحْوِهِ فِي قِشْرِهِ والحَبِّ المُشْتَدِّ فِي سُنْبُلِهِ....
قوله: «ولا استثناؤه إلا معيناً» أي: لا يصح استثناء عبد من العبيد إلا معيناً، فلو قال: بعتك هؤلاء العبيد إلا واحداً، فالبيع غير صحيح للجهالة.
قالوا: لأن جهالة المستثنى تستلزم جهالة المستثنى منه؛ إذاً استثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً.
مثاله: أمامنا عبيد عشرة، فالمستثنى منه الآن معلوم، لكن إذا استثنينا واحداً أصبح المبيع مجهولاً؛ لأن هذا الواحد ربما تكون قيمته نصف قيمة هذا المجموع، وعلى هذا فلا يصح هذا الاستثناء.(8/162)
والخلاص إذا أردنا أن نستثني واحداً أن أعيِّن، فأقول: إلا العبد المسمى محمداً، أو المسمى عبد الله، أو ما أشبه ذلك، وبهذا يرتفع المحذور.
ولو قال: بعتك هؤلاء العبيد إلا هذا وأشار إليه؟ فالبيع صحيح؛ لأنه أصبح معيناً بالإشارة.
قوله: «وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسَه وجلده وأطرافه صح» «رأسَه» مفعول لاستثنى؛ ولهذا لو قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: «وإن استثنى رأس حيوان مأكول» ، لكان أحسن للعبارة وأوضح.
فقوله: «وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح» أي: فيصح هذا الاستثناء لأنه معلوم، فالرأس أمامنا كأنه كومة من لحم، والأطراف ـ أي الأكارع ـ والجلد كذلك، وإن كان يختلف أحياناً في الرقة واللين، أو الثخانة والشفافة، لكنه اختلاف يسير مغتفر.
فإذا قال: بعتك هذه الشاة إلا رأسها فالبيع صحيح، ولكن المشكل إذا طالب البائع بالرأس وأبى المشتري أن يذبحها فماذا نعمل؟
نقول: إن اشترط ذبحها أجبر عليه، وإن لم يشترط ذبحها فإنه يبقى له، وإذا أراد المشتري أن يبيعها، يبيع الشاة إلا رأسها؛ لأن رأسها ليس له.
في هذه الحال لو قيل: إذا أبى أن يذبح فإن إبقاء الشركة ضرر فيبقى النزاع دائماً، ففي هذه الحال نقومه ونجبر البائع على قبول التقويم، فننظر كم يساوي الرأس لو انفرد، فإذا كان يساوي(8/163)
ريالين، وقيمة الشاة مائة ريال ففي هذه الحال نجبر البائع، ونقول له: خذ هذه قيمة الرأس وتبقى الشاة كلها للمشتري، وكذلك يُقال في الأكارع والجلد.
ولو استثنى من حيوان يؤكل أَلْيته، والأَلْية تكون في الضأن هل يجوز أو لا؟
الجواب: على قياس الرأس يجوز؛ لأن هذا عضو مستقل معلوم بالمشاهدة فيصح.
ولو استثنى من العنز ذيلها فهل له قيمة؟ الجواب: ليس له قيمة الآن، وعلى كل حال إذا استثنى صح لكن ليس له قيمة.
وقوله: «إن استثنى من حيوان يؤكل» ، «يؤكل» صفة للحيوان، فلو أنه استثنى من حيوان لا يؤكل، مثل أن يقول: بعت عليك هذا الحمار إلا رأسه، لم يصح؛ لأنه لا يستفيد من الرأس شيئاً، ولا يستفيد من الرأس إلا الأكل، والأكل محرم، والمحرم لا قيمة له، وعلى هذا فلا بد أن يكون الذي استثنى منه رأسه وجلده وأطرافه مما يؤكل.
مسألة: لو أن المشتري اشترى الشاة إلا رأسها استثناه البائع، فلما ذهب المشتري بالشاة وجد أن الشاة عوراء، والعور عيب تنقص به القيمة، فقال المشتري: أنا أريد أن أفسخ البيع؛ لأنها عوراء، فقال البائع: العور في الرأس، والرأس لي فليس لك الفسخ.
نقول: بل له الفسخ؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه(8/164)
عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (1) ، فلا بد أن يكون هذا العيب مؤثراً في بقية البدن، وإذا قُدر أنه لم يؤثر لكونه برأ وانتهى فإنه يؤثر في القيمة، فأنا اشتريتها منك بمائة على أنها سليمة، وإذا كانت عوراء فستكون بثمانين فتنقص القيمة، وعلى هذا فنقول: إن للمشتري الفسخ بعيب يختص بالمستثنى، ولا يمكن للبائع أن يقول: هذا فيما استثنيت، ولا يمكن أن ترجع، والدليل الحديث، وإذا قدر أنه قد زال أثر هذا العيب فنرجع إلى التعليل بالقيمة.
قوله: «وعكسه الشحم» فلا يصح استثناء الشحم إذا باع الحيوان؛ وذلك لعدم العلم به؛ لأنه مجهول إذ هو مختلط باللحم، ولا يمكن العلم به إلا بعد أن تذبح ويكشط ويميز، أما وهي كذلك فإنه لا يمكن العلم به، ولهذا لو قال: بعت عليك هذه الشاة إلا شحمها فالاستثناء غير صحيح، وإذا لم يصح الاستثناء لم يصح البيع.
قوله: «والحمل» فاستثناء الحمل ـ أيضاً ـ لا يصح، مثل أن يبيع عليه شاة حاملاً، وقال: بعتك هذه الشاة الحامل إلا حملها؛ لأن البائع يعرف أنها شاة طيبة، وسيكون نتاجها طيباً فلا يصح الاستثناء؛ لأن الحمل مجهول، وهذا هو المذهب، وهو أحد القولين في المسألة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب رحمة الناس والبهائم (6011) ؛ ومسلم في البر والصلة/ باب تراحم المؤمنين (2586) عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ واللفظ لمسلم.(8/165)
والقول الثاني: صحة استثناء الحمل؛ لأن الحمل جزء منفصل، وإذا استثنيت الحمل فكأنني بعت عليك شاة حائلاً ليس فيها حمل.
فإن قال قائل: هذا يضاد نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الحمل (1) ، قلنا: لا، لا يضاد، وحاشا لله أن نقول قولاً يضاد قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع علمنا بذلك، ولكن الفرق أن بيع الحمل بيع معاوضة كل يشاح الآخر فيه، أما الاستثناء فهو استبقاء؛ لأن البائع لم يبع شيئاً، والمشتري لم يشتر شيئاً، غاية ما فيه أن البائع استبقى الحمل، والاستبقاء معناه عدم نقل الملك في الحمل، وهذا لا يضر المشتري شيئاً.
فالصواب: جواز استثناء الحمل.
فإن قال قائل: يمكن أن يكون الحمل اثنين أو ثلاثة، قلنا: لا يضر؛ لأنه لا معاوضة فيه، غاية ما هنالك كأنه باع عليه حيواناً حائلاً، وهذا أعني استثناء الحمل يقع كثيراً في الخيل، ويقع ـ أيضاً ـ في البقر، ويقع في الإبل، وربما يقع في الغنم فتكون هذه الأم كثيرة النتاج كثيرة اللبن وفي الخيل سريعة العدو، فيريد أن يأخذ من نتاجها.
مسألة: إذا استثنى شيئاً معيناً منه، مثاله:
قال: بعتك هذه الشاة إلا رطلاً من لحمها، فالفقهاء يقولون: لا يجوز؛ لأن الرطل معلوم واللحم مجهول، واستثناء المعلوم من المجهول يُصيره مجهولاً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (153) .(8/166)
ولكن الصحيح أنه إذا كان المستثنى قليلاً بالنسبة لبقية الحيوان فإن البيع يصح؛ لأن رطلاً من اللحم، والحيوان مائة رطل، لا ضرر ولا غرر فيه.
لكن لو قال: بعتك هذه الشاة إلا ثلاثين رطلاً من اللحم، واللحم قد يكون ثلاثين رطلاً وقد يكون أقل، فهنا الاستثناء غير صحيح؛ لعدم التمكن من استيفائه، أما إذا كان يمكن استيفاؤه كرطل من اللحم أو قطعة من الفخذ أو قطعة من العضد فلا حرج في ذلك، ولهذا نقول: إذا استثنى شيئاً معيناً يمكن إدراكه وتحصيله فلا بأس به.
ولو استثنى الكبد فقال: بعتك هذه الشاة إلا كبدها، المذهب لا يصح، والصحيح أنه يصح؛ لأن هذا الاستثناء استبقاء.
فإذا قال قائل: ربما تكون الكبد كبيرة أو صغيرة.
قلنا: نعم هذا وارد، لكن هذا استبقاء، وهو جزء منفصل منفرد معلوم.
قوله: «ويصح بيع ما مأكوله في جوفه كرمان وبطيخ» ومثله: البرتقال، والفواكه، والبيض، فيصح بيع ما مأكوله في جوفه؛ لأنه جرت العادة بذلك، وتعامل الناس به من غير نكير؛ ولأن في فتحه إفساداً له، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال وإفساده (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (118) .(8/167)
فلو قيل: لا تبع البيض إلا إذا فقشته أو لا تبع البرتقال إلا إذا فتحته لخرب وفسد، لكن لو قال المشتري: أنا لا أشتري حتى تفتح البطيخة، وهو ما يسمى عندهم بالعرف (على السكين) فهل يصح؟.
نقول: نعم يصح؛ لأن هذه صفقة معينة، فيوجد بعض الباعة الآن ولا سيما باعة الحبحب يفتح واحدة منها، وينشرها أمام الناس، فيراها الناس حمراء، أي: جيدة، فهذا يشبه بيع الأنموذج، فإذا اشترى واحدة ثم ذهب بها إلى البيت وفتحها وإذا هي بيضاء فهل له أن يرجع عليه؟ الظاهر له أن يرجع، وهذا وإن لم يكن شرطاً لفظيّاً فهو شرط فعلي، كأن هذا البائع يقول للناس: إن هذا الحبحب على هذا الشكل.
قوله: «وبيع الباقلاء ونحوه في قشره» الباقلاء هي الفول، والحمص، والجوز، واللوز معروفة، فكله مأكوله في جوفه.
قوله: «والحَب المشتد» أي: الذي صَلُب.
قوله: «في سنبله» «في» هنا بمعنى مع، فإن باع الحب وحده دون قشره فعلى رأي المؤلف لا يصح يقول: لأنه كبيع النوى في التمر، وقد تقدم أن بيع النوى منفرداً لا يجوز، فإذا بيع الحب في قشره منفرداً لا يجوز.
والدليل على صحة بيع هذه الأشياء مع قشرها ما يلي:
أولاً: السنّة وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: نهى عن بيع الحب حتى(8/168)
يشتد (1) ، فالحب هو البر والشعير ونحوهما، نهى عن بيع ذلك حتى يشتد، ومعلوم أنه بمفهوم الحديث أنه إذا اشتد جاز بيعه، ومأكول السنبل في جوفه.
ثانياً: دعاء الحاجة إلى ذلك.
ثالثاً: تعامل الناس بذلك من غير نكير.
رابعاً: لأن فتحها يكون سبباً لفسادها.
وَأن يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُوماً فَإِنْ بَاعَهُ بِرَقْمِهِ، أَوْ بِألْفِ دِرِهَمٍ ذَهَباً وَفِضَّةً، أَوْ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، أَوْ بِمَا بَاعَ بِه زَيْدٌ وَجَهِلاَهُ أو أحَدُهُمَا لَمْ يَصِح.
قوله: «وأن يكون الثمن معلوماً» هذا هو الشرط السابع، أن يكون الثمن معلوماً، برؤية أو صفة أو عدّ أو وزن، وما أشبه ذلك، والفرق بين المبيع وبين الثمن، قيل: الثمن ما كان من النقدين، أي: من الدراهم والدنانير، فإذا قلت: بعت عليك هذا الثوب بدرهم فالثمن درهم، وإذا قال: بعت عليك هذا الدرهم بثوب فالثمن الدرهم.
وقال بعض العلماء: الثمن ما دخلت عليه الباء، فإذا قلت: بعت عليك ثوباً بدرهم فالثمن الدرهم، وإذا قال: بعت عليك درهماً بثوب فالثمن الثوب، وبعت عليك قلماً بساعة، فالثمن الساعة، وبعت ساعة بقلم فالثمن القلم، وهذا هو الأظهر حتى في عرف الناس أن الثمن ما دخلت عليه الباء.
فيشترط أن يكون الثمن معلوماً كما يشترط أن يكون المبيع
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/221، 250) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3371) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1228) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (2217) ؛ والحاكم (2/19) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال في «الإرواء» (5/211) : «صحيح» .(8/169)
معلوماً، والدليل حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر» (1) ؛ ولأنه أحد العوضين، فاشترط فيه العلم كالعوض الآخر، وإنما قلت بهذا القياس؛ لأن العوض الآخر قد وردت أحاديث في عين المبيع المجهول كبيع الحمل مثلاً (2) .
مسألة: لو قال: اشتريت منك هذا البيت بهذه الكومة من الدراهم فهل يصح البيع؟
يقول الفقهاء: إن ذلك صحيح؛ لأن الثمن هنا معلوم بالمشاهدة، مع أن هذا فيه غرر كبير، وكذلك لو قال: اشتريت منك هذه السيارة بهذه الربطة من الأوراق النقدية فئة خمسمائة ريال، فعلى المذهب يصح؛ لأنه معلوم بالمشاهدة، ولكن هذا غير صحيح؛ لأنه يختلف حتى الأوراق التي استعملت غير الأوراق الجديدة، فالأوراق الجديدة صغيرة السُّمْك ولكنها كثيرة العدد والعكس بالعكس، ولو قال: اشتريت منك هذه السيارة بوزن هذا الحجر ذهباً فعلى المذهب يجوز؛ لأن هذا مشاهد، ولو قال: اشتريت منك هذا البيت بملئ هذا الإناء فضة جاز على المذهب؛ لأنه مشاهد وأنا ذكرت هذا لأنه ذكره في «الروض» (3) ، وكل هذا ضعيف وفيه من الغرر ما هو ظاهر، ويدخل في حديث أبي هريرة بلا شك.
قوله: «فإن باعه برقمه» أي: بما كتب على السلعة من الثمن كما يفعل الناس في الأدوية مثلاً؛ لأنه مجهول إما للبائع
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .
(2) سبق تخريجه ص (153) .
(3) 4/363.(8/170)
وإما للمشتري أو لهما جميعاً، فهل يمكن أن يكون مجهولاً للجميع؟
الجواب: يمكن أن تكون هذه البضاعة واردة مكتوباً عليها قيمتها من قبل المسؤولين، والبائع والمشتري كلاهما لا يدري.
هل يمكن أن يكون معلوماً للبائع مجهولاً للمشتري؟
الجواب: يمكن.
وهل يمكن أن يكون معلوماً للمشتري مجهولاً للبائع؟ يمكن، فإذاً لا بد أن يكون معلوماً، فإذا باع بالرقم فإنه لا يصح البيع، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أنه يصح البيع بالرقم إذا كان من قبل الدولة، بل هذا ربما يكون أشد اطمئناناً للبائع والمشتري، أما إذا كان البائع نفسه هو الذي يرقم ما شاء على سلعته، فهذا لا بد أن يكون معلوماً.
مثاله: إنسان مسعر للساعات، كتب ورقة صغيرة على الساعة سعرها خمسمائة ريال، قال المشتري: كم تبيعها؟ قال له: برقمها فلا يصح؛ لأن هذا البائع ربما يرقم عليها أضعاف أضعاف القيمة، لكن إذا علمنا أن هذا مقدر ومرقوم من جهة مسؤولة، فإنه لا شك في جواز البيع بالرقم.
لو قال البائع عندما سأله المشتري: كم القيمة؟ قال: برقمها فنظر المشتري، وإذا الرقم كثير فأبى أن يشتريها بذلك جاز، وإن نظر إلى رقمها وإذا هو مناسب فقال: قبلت صح؛ لأنه الآن عُلمَ الرقم.(8/171)
وقوله: «باعه برقمه» أي: برقم لا يعرف حين العقد.
قوله: «أو بألف درهم ذهباً وفضة» هذه المسألة لها صورتان:
الأولى: أن يقول: بعتك بألف ذهباً وفضة.
الثانية: أن يقول: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة.
والمذهب لا يصح في الصورتين، وقيل: يصح في الصورتين ويحمل على المناصفة فتكون القيمة خمسمائة درهم وخمسمائة دينار، لكن لو قال: بألف درهم ذهباً وفضة لا ندري كم سيعطي ربما يعطي أكثرها ذهباً والباقي فضة أو بالعكس فلا ندري.
لكن لو قال قائل: إذا كانت الدراهم والدنانير مقررة، كل اثني عشر درهماً يعادل ديناراً، فإذا قال: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة صار معلوماً، سواء من الدنانير أو الدراهم صح.
لكن قد يكون له غرض في أن يكون أكثر الثمن دنانير أو أكثر الثمن دراهم، فيكون له غرض صحيح، وعلى هذا فقول المؤلف: إنه لا يصح قول صحيح، حتى لو فرض أن قيمة الدراهم من قيمة الدنانير لا تتغير، فإنه قد يكون له غرض في تعيينها.
والخلاصة: أنه لو قال: بعتك بألف ذهباً وفضة، فالبيع صحيح ويحمل على المناصفة، وإذا قال بألف درهم ذهباً وفضة لا يصح؛ لأنه ربما يجعل الأكثر ذهباً والأقل فضة أو بالعكس، وكذلك لو قال: بمائة دينار ذهباً وفضة لا يصح للجهالة.(8/172)
قوله: «أو بما ينقطع به السعر» قال: أبيعك إياه بما يقف عليه في المساومة فإنه لا يصح (1) ؛ لأننا لا ندري هل يقف على ثمن كثير أو على ثمن قليل، وربما يأتي شخص يناجش فيرتفع الثمن، وربما يكون الحضور قليلين فينقص الثمن؛ ولهذا لا يصح أن يبيعه بما ينقطع به السعر.
وقيل: إنه يصح، وأن بيعه بما ينقطع به السعر أشد طمأنينة من بيعه بالمساومة؛ لأن الإنسان يطمئن فيقول: ما دام الناس وقفوا على هذا السعر فذلك يدل على أن القيمة مطابقة، ولكن في النفس من هذا شيء.
والأقرب: أنه لا يصح بما ينقطع به السعر؛ وذلك لأن ما ينقطع به السعر مجهول، فلو حصل مناجشة زاد، ولو قل الحاضرون نقص، فالجهالة إذاً موجودة، ولهذا ينبغي ألاَّ يباع بما ينقطع به السعر.
قوله: «أو بما باع به زَيد وجهلاه أو أحدهما لم يصح» لأن بيع زيد مجهول، وهذا هو المذهب. وقيل: يصح لأنه يمكن معرفته بالرجوع إلى زيد، وقيل: إن كان زيد ممن يعتبر بتقديره الثمن، فإن البيع بما يبيع به صحيح، فمثلاً: زيد مشهور بالبلد معروف أنه هو الذي يعرف الأسعار، فقال البائع: أبيعك كما يبيع زيد.
__________
(1) هذا هو المذهب.(8/173)
فالقول الثالث: أن ذلك صحيح؛ لأن هذا أوثق ما يكون، أي: اعتبار الناس بالرجل المشهور الذي قد نصب نفسه لبيع البضائع، أكثر من اعتبارهم ببيع المساومة.
فالصحيح في هذه المسألة أنه يصح، أما إذا كان زيد من عامة الناس الذين لا يعرفون التجارة فلا يصح أن يقول: بعتك بما باع به زيد؛ لأن زيداً قد يُغبن فيشتري بأقل أو بالعكس.
وَإِنْ بَاعَ ثَوْباً أَوْ صُبْرَةً، أَوْ قَطِيعاً كُلَّ ذِرَاعٍ أَوْ قَفِيزٍ أَوْ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ وَإِن بَاعَ مِنْ الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ، أَوْ بِمَائَةِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَاراً وَعَكسُهُ
قوله: «وإن باع ثوباً» الثوب يراد به المخيط وغير المخيط، والغالب أنه في غير المخيط.
قوله: «أو صُبرة» الصبرة هي الكومة من الطعام.
قوله: «أو قطيعاً» وهو الطائفة من الغنم.
قوله: «كل ذراع» يعود على الثوب.
قوله: «أو قفيز» يعود على الصبرة، والقفيز نوع من المكاييل.
وقوله: «أو شاة» يعود على القطيع، ففي الكلام إذاً لف ونشر مرتب؛ لأنه أجمل في الأول، ثم فصل على الترتيب.
قوله: «بدرهم صح» وإن لم يعلما القدر؛ لأنه باع الجملة، وجعل هذا التحديد تقديراً للثمن، أما المبيع فمعلوم.
مثاله: إنسان عنده قطيع من الغنم، فقال: بعتك هذا القطيع كله، كل شاة بدرهم، صح؛ لأن المبيع معلوم، وتقديره بالشاة أي بالواحدة من أجل معرفة قدر الثمن فيصح، وهذا القطيع ربما(8/174)
يكون فيه مائة رأس، أو مائتان، فلا يضر هذا؛ لأنه معلوم بالمشاهدة، وكوني أحدد الثمن على كل رأس إنما هو لتقدير الثمن فقط.
ومثل ذلك ـ أيضاً ـ إذا باع عليه الصبرة كلها كل قفيز، وإن شئت فقل كل صاع بدرهم فلا بأس.
وكذلك لو باعه الثوب المتر بكذا وكذا، فهذا جائز.
قوله: «وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم» أي: إن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم، أو من الثوب كل ذراع بدرهم، أو من القطيع كل شاة بدرهم فهنا لا يصح البيع؛ لأن «مِنْ» للتبعيض فلا ندري هل يأخذ من هذا القطيع شيئاً كثيراً أو شيئاً قليلاً، فعاد الأمر إلى جهالة المبيع؛ لأنه قد يأخذ من القطيع مثلاً خمسين رأساً أو عشرين رأساً أو كل القطيع، فهو مجهول فلهذا لا يصح.
والفرق بين المسألتين: أنه في الأولى وقع البيع على الجميع، وكون كل واحد بكذا إنما هو لمعرفة قدر الثمن، فالمبيع الآن معلوم.
وفي المسألة الثانية يقول: من القطيع كل شاة بدرهم، «من» للتبعيض، فلو أخذ من القطيع ـ الذي عددُهُ ألفٌ ـ ثلاثاً لم نلزمه بأكثر من ثلاث؛ لأنه قال: «من» ، ومن تأتي للتبعيض، والحكم كذلك فيما لو أخذ أكثر، فلا أدري ماذا يأخذ من القطيع فهو مجهول لي، هذا هو الفرق.
والقول الثاني في المسألة الثانية: أن هذا صحيح؛ وذلك لأن البائع قد اطمأن على أنه ربما يأخذ المشتري جميع القطيع،(8/175)
وأنه أتى بـ «من» للتبعيض لأجل أن يكون المشتري بالخيار، إن شاء أخذ كثيراً، وإن شاء أخذ قليلاً، ثم إن المسألة ستعلم، فإذا قال: أنا أريد عشرة من القطيع عُلم، فيصح، وهذا مثلها لأنه مثل الإجارة، لو قال: استأجرت منك هذا البيت كل سنة بمائة درهم فإنه يجوز، وقد روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه استؤجر على أن يسقي بستاناً كل دلو بتمرة (1) ، فإذا صح هذا في الإجارة صح في البيع؛ لأن كلًّا منهما يشترط فيه العلم.
وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، أنه إذا باعه من القطيع كل شاة بدرهم، أو من الثوب كل ذراع بدرهم، أو من الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن البيع صحيح كما لو باعه الكل، وقد ذكرنا سابقاً أن الناس جرت عادتهم أن المشتري إذا جاء إلى القطيع، وقال له صاحب القطيع: خذ ما شئت ـ مثلاً ـ شاتين أو ثلاثاً أو أربعاً تخير، فيأخذ واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ويمشي، والناس يتبايعون بهذا، وعليه العمل، فالصواب إذاً صحة ذلك في هذا وفي هذا.
قوله: «أو بمائة درهم إلا ديناراً» لم يصح.
قوله: «وعكسه» بأن باعه بدينار إلا درهماً لم يصح، هاتان مسألتان:
المسألة الأولى: إذا باعه بمائة درهم إلا ديناراً فإنه لا
__________
(1) أخرجه الترمذي في صفة القيامة/ بابٌ (2473) وقال: «حسن غريب» ؛ وابن ماجه في الرهون/ باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة (2447) ؛ وصححه البوصيري في «مصباح الزجاجة» .(8/176)
يصح؛ لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فإذا باعه بمائة درهم إلا درهماً، صح البيع؛ لأن المستثنى من جنس المستثنى منه.
وبمائة درهم إلا ديناراً لا يصح، ولو قال: نقدر قيمة الدينار ونسقطه من الدراهم، فمثلاً بعدما يتم البيع نقول: كم يساوي الدينار؟ قال: يساوي عشرة دراهم فيكون البيع بتسعين فلماذا لم يصح؟
قالوا: لأننا قد نقدر قيمته فربما يكون أكثر أو أقل، وبناءً على هذا نقول: إذا كانت الدراهم والدنانير معلومة القيمة، بمعنى أنها مقررة من قبل الدولة بأن عشرة الدراهم دينار، فقلت: بعت بمائة درهم إلا ديناراً، فإن البيع يكون صحيحاً لزوال الجهالة، وربما يكون هذا مراد الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أنه إذا كانت قيمة الدينار غير معلومة، أما إذا كانت معلومة فإن الثمن سيكون معلوماً.
الثانية: بعتك هذا الشيء بدينار لا درهماً لا يصح البيع على كلام المؤلف؛ لأن قيمة الدرهم المستثنى غير معلومة بالنسبة للدينار، والمستثنى من غير جنس المستثنى منه فلا يصح، وبناءً على ما قررنا نقول: إذا كانت نسبة الدراهم إلى الدنانير لا تختلف فالبيع صحيح.
وكيف نأخذ الثمن من المشتري؟
نقول: إذا كان الدينار يساوي عشرة دراهم يكون البيع بتسعة، والأمر واضح.(8/177)
والحاصل: أنه إذا استثنى أحد النقدين من الآخر فالبيع على المذهب غير صحيح، ونقيد ذلك بما إذا كانت القيمة قابلة للزيادة والنقص، أما إذا كانت القيمة مقررة بحيث يكون كل عشرة دراهم ديناراً فالاستثناء صحيح.
أَوْ بَاعَ مَعلُوماً وَمَجْهُولاً يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَقُلْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِكَذَا لَمْ يَصِحَّ فَإِن لَّمْ يَتَعذّرْ صَحَّ فِي المَعْلوِمِ بِقِسطِهِ ...
قوله: «أو باع معلوماً ومجهولاً يتعذر علمه ولم يقل: كل منهما بكذا، لم يصح» فإن قال: كل منهما بكذا صح.
مثاله: قال: بعتك هذه الناقة وما في بطن ناقة أخرى بألف درهم، فالثمن الآن معلوم، والمبيع بعضه معلوم وبعضه غير معلوم، يتعذر علمه الآن؛ لأنه حمل.
إذاً نقول: إن قال: كل منهما بكذا صح، بأن قال: بعتك هذه الناقة وما في بطن ناقة أخرى بألف درهم، فهذه الناقة بثمانمائة والحمل بمائتين يصح؛ لأن هذا ليس فيه جهالة، لكن بيع الناقة وما في بطن الأخرى بألف لا يمكن أن نقسم الثمن عليهما؛ لأن قيمة الحمل الذي في بطن الناقة الأخرى مجهول، ولا يمكن أن نصل إلى قيمتها فيبقى الثمن الآن مجهولاً، وهذا واضح.
فإن قال: بعتك هذه الناقة وحملها بمائة، هي بثمانين والحمل بعشرين يقولون: إنه لا يصح؛ لأن الحمل لا يصح بيعه إلا تبعاً، فإذا قلت: هذه الناقة بثمانين والحمل بعشرين صار الآن مستقلاً فلا يصح بيعه، كما لا يصح بيع حمل الناقة الأخرى في المثال الأول وتبقى الأم بثمانين.(8/178)
قالوا: إذا صححنا البيع في الأم دون الحمل، صار كبيع الحامل مع استثناء حملها، وقد سبق أن بيع الحامل مع استثناء حملها على المذهب لا يصح، وبناءً على ما رجحناه من أن الإنسان إذا باع حاملاً واستثنى الحمل، فالبيع صحيح فإنه يصح هنا.
قوله: «فإن لم يتعذر صح في المعلوم بقسطه» أي: إن لم يتعذر علم المجهول صح في المعلوم بقسطه؛ لأنه يمكن أن يقسط الثمن على المعلوم وعلى المجهول، ويعرف ثمن المعلوم.
مثال ذلك: باع عليه السيارة الموجودة الآن هنا، وسيارة أخرى غائبة، فالسيارتان بعشرة آلاف، فالسيارة الأخرى الغائبة مجهولة، فيصح في الحاضرة، والغائبة لا يصح فيها البيع؛ لأنها مجهولة.
وكيف نقسط الثمن؟.
نقدر كم قيمة الموجودة بين أيدينا، فإذا كانت: قيمتها عشرة، وقيمة الأخرى خمسة، نوزع الثمن أثلاثاً، ثلثاه للحاضرة، وثلثه للغائبة، فصار يقسط الثمن على المعلوم الحاضر وعلى المجهول الغائب، ويؤخذ ثمن المعلوم الحاضر وذاك يسقط؛ لأنه لم يصح فيه البيع.
فصار بيع المعلوم مع المجهول ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يتعذر علم المجهول.
الثاني: ألا يتعذر.
إن تعذر علمه فالبيع لا يصح ما لم يقدر لكل منهما ثمناً،(8/179)
وأما إذا لم يتعذر علمه وهو القسم الثاني فإنه يصح في المعلوم بقسطه، ونسقط قيمة المجهول من الثمن.
وهذه تسمى تفريق الصفقة، وهذه إحدى الصفقات الثلاث، لأن عندهم ثلاث صفقات يصح البيع فيها بما يصح عقد البيع عليه، ولا يصح في الباقي، فهذه المسألة إذا تعذر صح في المعلوم بقسطه هي إحدى مسائل تفريق الصفقة.
ومعنى الصفقة العقد؛ لأن المتعاقدين ولا سيما في الزمن الأول إذا باع قال له: بكم بعت علي؟ قال: بعت عليك بكذا ويصفق على يديه، فالصفقة هي العقد، وتفريقها، أي تصحيح بعضها وإبطال البعض، والمسألة التي معنا الآن إذا باع معلوماً ومجهولاً لا يتعذر علمه، هنا فرقنا الصفقة فصححناها فيما يصح وأبطلناها فيما يبطل.
وَلَوَ بَاعَ مُشَاعاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَعَبْدٍ أَوْ مَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالأجْزَاءِ صَحَّ فِي نَصِيْبِهِ بِقِسْطِهِ وَإِنْ بَاعَ عَبْدَهُ وعَبْدَ غَيْرِه بِغَيْرِ إِذْنِه أَوْ عَبْداً وَحُرّاً، أَو خَلًّا وَخمراً صَفْقَةً وَاحِدَةً، صحَّ فِي عَبْدِهِ، وَفِي الَخلِّ بِقِسْطِهِ، وَلِمُشْتَرٍ الخِيَارُ إنْ جَهِلَ الحَالَ.
قوله: «ولو باع مشاعاً بينه وبين غيره» هذه المسألة الثانية «مشاعاً» أي مشتركاً بينه وبين غيره.
قوله: «كعبد» وكسيارة، أو أرض، أو أي شيء يكون مشتركاً مشاعاً باعه جميعاً.
فمثلاً هذه السيارة بيني وبين أخي فبعتها على إنسان كلها، فالآن بعت مشاعاً بيني وبين غيري، فبيعي لملكي صحيح؛ لأنه من مالك، وبيعي لملك أخي لا يصح؛ لأني لست وكيلاً، إذاً فرقنا الصفقة، فنقول للمشتري: لك الآن نصف السيارة؛ لأنه صح فيها البيع، أما بيع نصيب أخي فلا يصح.(8/180)
لو قال المشتري: أنا سأذهب بالسيارة إلى مكة والمدينة، وقال الشريك الثاني: إذا سافرت عليها فيكون ذلك بنصف الأجرة، فهل يكون للمشتري الخيار في هذه الحال لتفريق الصفقة عليه؟.
نقول: نعم له الخيار؛ لأن تفريق الصفقة يضره.
قوله: «أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء» أي: ليس مشاعاً، لكن ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كصاعين من بر، أحدهما لي، والثاني للآخر، خلطتهما ثم بعتهما، فهل يصح البيع في الصاعين، أو في الصاع الذي لي فقط؟ قال:
«صح في نصيبه بقسطه» أي: في الصاع الذي لي فقط، ولا يصح في الصاع الآخر، والفرق بين هذه المسألة والأولى، أن الأولى الشركة فيها مشاعة، والثانية الشركة فيها بالأجزاء؛ لأن الحب الآن، حبة لي وحبة للآخر، ولكن المشاع أي ذرة في المملوك فهي مشتركة.
فإذا باع ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء بعضه له، وبعضه للآخر، صح البيع فيما هو له، ولم يصح البيع للآخر؛ لأن الآخر لا يملكه ولم يوكل فيه، وهذه المسألة الثانية من مسائل تفريق الصفقة.
قوله: «وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه» أي: باع عينين قائمتين كل واحدة قائمة بنفسها عبده وعبد غيره، أخذ عبد غيره(8/181)
من بيته وذهب به معه إلى السوق ومعه عبده فنادى عليهما جميعاً وباعهما، فالآن وقع العقد على ما يملك بيعه وما لا يملك، فنقول: يصح في عبده، ولا يصح في عبد غيره، والفرق بين هذه وبين التي قبلها واضح، فهذه ليس فيها اختلاط، فكل عين متميزة، وكذلك باع سيارته وسيارة غيره يصح في سيارته، ولا يصح في سيارة غيره.
قوله: «أو عبداً وحراً» الحر غير مملوك، فباع عبده وحراً بثمن واحد صفقة واحدة، يصح في عبده ولا يصح في الحر؛ لأن الحر لا يصح عقد البيع عليه.
قوله: «أو خلًّا وخمراً صفقة واحدة صح في عبده، وفي الخل بقسطه» عنده الآن جَرَّتان، إحداهما: خمر، والثانية: خل، فباعهما جميعاً، فيصح في الخل ولا يصح في الخمر.
وقوله: «صح في عبده» فلو نودي على هذين العبدين كم يساوي كل واحد؟ قالوا: أحدهما يساوي ألفاً، والثاني يساوي ألفين، فإذا كان عبده يساوي ألفين أسقطنا الثلثين من الثمن، وعبد غيره يساوي ألفاً أسقطنا الثلث.
وإذا باع عبده وحراً كيف نقوِّم الحر؟ قلنا: يقدر أنه عبد، فيقال: يقدر أن هذا الحر عبد مع عبدك الذي بعته، قال: لو كان الحر عبداً لكان يساوي ألفين، وعبدي يساوي ألفاً فنسقط من الثمن الثلثين.(8/182)
أما مسألة الخل والخمر، فمعلوم أن الخمر ليس له قيمة شرعاً، فماذا نصنع؟ قالوا: يقدر الخمر خلًّا، أي يقدر شراباً لم يتخمر، فلو كان خلًّا يساوي عشرة، والخل الذي معه يساوي خمسة، فنسقط من الثمن الثلثين فقط.
قوله: «ولمشتر الخيار إن جهل الحال» أي: في مسائل تفريق الصفقة له الخيار إن جهل، فإن علم فلا خيار له.
مثاله: باع الرجل عبده وعبد غيره على رجل، والرجل يعلم أن هذا العبد ليس له، فالعبد الذي ليس له لا يصح بيعه، فهل للمشتري الخيار؟.
الجواب: لا؛ لأنه دخل على بصيرة، فلا خيار له، إذاً للمشتري الخيار إن جهل الحال، وإلا فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة.
والخلاصة: أن مسائل تفريق الصفقة ثلاث:
الأولى: إذا باع معلوماً ومجهولاً لا يتعذر علمه.
الثانية: إذا باع مشاعاً بينه وبين غيره.
الثالثة: إذا باع شيئين، أحدهما يصح البيع فيه، والآخر لا يصح.
والمذهب فيها كلها أن البيع يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل، وللمشتري الخيار.
والقول الثاني في المسألة: أن البيع لا يصح في الجميع؛ لأن الصفقة واحدة ولا يمكن أن تتفرق ولكن الصحيح المذهب.(8/183)
وبهذا انتهت شروط البيع، وتبين أن الشروط تدور على ثلاثة أشياء: الظلم، والربا، والغرر، فمن باع ما لا يملك فهذا من باب الظلم، ومن تعامل بالربا فهذا من باب الربا، ومن باع بالمجهول فهذا من باب الغرر.(8/184)
فَصْلٌ
وَلاَ يَصِحُّ البَيْعُ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الجُمُعَةُ بَعْدَ نِدَائِهَا الثَّانِي وَيَصحُّ النّكَاحُ وَسَائِرُ العُقُودِ.
قوله: «فصل» المؤلف ـ رحمه الله ـ لما ذكر شروط صحة البيع ذكر بعد ذلك موانع البيع، وإنما صنع ذلك؛ لأن الأشياء لا تتم إلا باجتماع الشروط وانتفاء الموانع؛ لأنه إذا تمت الشروط ولم تنتف الموانع لم تصح العبادة ولا المعاملة، وكذلك لو عدمت الموانع ولم تتم الشروط لا تصح، أرأيت الرجل يكون أباً للإنسان أو ابناً له فإنه يرث؛ ولكن إذا وجد فيه مانع من موانع الإرث لم يرث؛ لأنه لا يتم الشيء إلا بوجود شروطه، وانتفاء موانعه، وهذه القاعدة نافعة في باب الأحكام وفي باب الأخبار.
قوله: «ولا يصح البيع» يعني ولا الشراء.
قوله: «ممن تلزمه الجمعة» احترازاً ممن لا تلزمه، فيجوز له البيع والشراء كالنساء والأولاد الصغار فيما يتبايعونه بينهم؛ لأن من لا تلزمه الجمعة لا يلزمه السعي إليها، وإذا لم يلزمه السعي إليها صار البيع والشراء في حقه حلالاً، إذ إن الذي لا يصح البيع منه هو الذي يوجه إليه الخطاب في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، فأمر بالسعي إلى ذكر الله، وهي الخطبة والصلاة، والمراد بالسعي هنا مجرد الانطلاق، وليس المراد به السعي الذي هو الركض؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الإسراع فيمن أتى إلى الصلاة (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب لا يسعى إلى الصلاة (636) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (602) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/185)
ونحن قلنا: لا يصح البيع ولا الشراء، أفلا يقول قائل: إن البيع والشراء متلازمان؟.
قلنا: مراده بالشراء هنا القبول؛ لأنه قد يوجب البائع البيع، فيقول: بعت عليك هذا بعشرة، وبعد ذلك يقول المؤذن: الله أكبر، فيقول الثاني: قبلت، فالذي وقع بعد النداء هو الشراء، وإلا فمن المعلوم أنه لا بيع إلا بشراء ولا شراء إلا ببيع، لكن قد يقع القبول بعد النداء، والإيجاب قبل النداء، فنقول: إن البيع لا يصح.
وقوله: «ممن تلزمه الجمعة» يشمل من تلزمه بنفسه ومن تلزمه بغيره، فالذي تلزمه بنفسه من اجتمعت فيه شروط الوجوب، وأما من تلزمه بغيره فهو من لم تجتمع فيه الشروط، ولكن إذا أقيمت الجمعة وجبت عليه، من ذلك المسافر الذي يلزمه الإتمام وهو ـ على المذهب ـ من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، وتفصيل ذلك يوجب علينا أن نرجع إلى شروط من تجب عليه الجمعة، وهي مذكورة في باب صلاة الجمعة.
قوله: «بعد ندائها الثاني» أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن للجمعة ندائين، أولاً وثانياً، فأما الثاني فهو الموجود على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم حين يجيء الإمام فيؤذن المؤذن فحملت الآية عليه؛ لأنها نزلت في وقت لا يوجد فيه إلا أذان واحد وهو الثاني، فلذلك نقول: إن الحكم معلق به. أما الأذان الأول فإنما حدث في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حين اتسعت المدينة وبَعُدَ الناس، جعل للجمعة نداءين من أجل أن(8/186)
يتهيأ الناس إلى الحضور فيمكنهم الحضور حين حضور الإمام (1) .
فإن قال قائل: إحداث ذلك بدعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشرع إلا أذاناً واحداً، والأذان عبادة لا يمكن شرعها إلا بإذن من الشارع؟.
فالجواب على ذلك من وجهين:
الأول: أن هذا من سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ منهم، وللخلفاء الراشدين سنة متبعة بسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (2) .
الثاني: أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ لم يسنه إلا لسبب لم يكن موجوداً في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو سعة المدينة وتباعد الناس، فلا يقال: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يشرعه؛ لأنه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن هناك سعة يحتاج الناس معها إلى أن ينادوا للصلاة، وقد علم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم شرع أذاناً في آخر الليل ليس لصلاة الفجر، بل من أجل إيقاظ النائم، وإرجاع القائم، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم،
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة/ باب الأذان يوم الجمعة (912) عن السائب بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/126) ؛ وأبو داود في السنة/ باب لزوم السنة (4606) ؛ والترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة (2676) ؛ وابن ماجه في المقدمة/ باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان (5) ؛ والحاكم (1/96) .(8/187)
فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» (1) .
إذاً فقد شرع النبي صلّى الله عليه وسلّم أذاناً في آخر الليل لا من أجل وقت صلاة، ولكن من أجل أن يستعد الناس للسحور، قد يكون الداعي إلى مشروعية الأذان الأول يوم الجمعة أقوى من ذلك، فعلى هذا تكون هذه السنة التي سنها أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ سنة شرعية نحن مأمورون باتباعها.
وبهذا يعرف غرور بعض الأغرار الصغار من طلاب العلم الذين ينتسبون إلى علم الحديث، فيضللون أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ويقولون: إنه مبتدع ـ نسأل الله العافية ـ وهم إذا قالوا: إن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ مبتدع، لزم من ذلك أن يكون جميع الصحابة الذين أدركوا عهده مبتدعة؛ لأنهم أقروا البدعة، وهذا مبدأ خطير ينبئ عن غرور وإعجاب بالنفس ـ والعياذ بالله ـ وعدم اكتراث بما كان عليه السلف الصالح، ووالله إن علم السلف الصالح أقرب إلى الصواب من علم المتأخرين، وأهدى سبيلاً، وهذا شيء معلوم، حتى إن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ كان يأمر باتباع هدي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ويقول: «إنهم أعمق علوماً، وأبر قلوباً» ، فإذا اجتمع بِرُّ القلب وعمق العلم، تبين أن من بعدهم خَلْفٌ وليسوا أماماً، وإني أحذر إخواني طلبة العلم من ركوب مثل هذا الصعب، وأقول: لا ترتقوا مرتقًى صعباً، عليكم بسنة الخلفاء الراشدين كما أمركم نبيكم صلّى الله عليه وسلّم (2) ، وإياكم أن تطلقوا ألسنتكم عليهم بمثل هذا الكلام السخيف، أيقال لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ثالث الخلفاء
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب الأذان قبل الفجر (621) ؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1093) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (187) .(8/188)
الراشدين: إنه مبتدع؟!! أو يقال لمن أدرك زمنه من الصحابة: إنهم مقرُّون للبدعة؟!! من أنت أيها الصبي؟ من أنت أيها الغر؟ اعرف قدر نفسك حتى تعرف قدر الناس، نسأل الله السلامة.
إذاً النداء الأول للجمعة إذا وقع البيع والشراء بعده فلا بأس؛ لأنه لا نهي فيه.
وشمل قوله: «بعد ندائها الثاني» بيع رجلين أقبلا إلى المسجد بعد الأذان فتبايعا وهما يمشيان إلى المسجد، فلا يصح بيعهما ما دام وقع بعد الأذان ولو قبل الخطبة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] .
وقوله: «لا يصح البيع» إذا قال قائل: ما الدليل على الفساد؟
قلنا الدليل: نهي الله ـ عزّ وجل ـ؛ لأن قوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] يعني لا تبيعوا، والنهي يقتضي الفساد، هذه القاعدة التي دلت عليها سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) ، وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (2) ، ولأننا لو صححنا ما نهى عنه الله
__________
(1) سبق تخريجه ص (97) .
(2) أخرجه البخاري في المكاتب/ باب استعانة المكاتب (2563) ؛ ومسلم في العتق/ باب إنما الولاء لمن أعتق (1504) (8) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(8/189)
ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لكان في ذلك مضادة لله ورسوله، إذ إن النهي يقتضي البعد عنه وعدم ممارسته، والتصحيح يستلزم ممارسة هذا الشيء ونفاذه، وهذا مضادة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قال قائل: لم لا تقولون هو حرام ولكنه صحيح، كما قلتم في تلقي الجَلَب؟
فالجواب: الفرق بينهما ظاهر، أولاً: لأن حديث التلقي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» (1) ، فثبوت الخيار فرع عن صحة العقد، فيكون في الحديث دليل على أن العقد صحيح.
ثانياً: أن النهي عن التلقي ليس نهياً عن العقد لذاته، ولكن نهي عن العقد لحق الغير، حيث إنه ربما يكون فيه خديعة للقادم فيشتريه المتلقي بأقل، ولهذا جعل الحق له في إمضاء البيع أو فسخه، وأما مسألتنا فإن النهي عن البيع بعينه، وما نهي عنه بعينه لا يمكن أن نقول: إنه صحيح، سواء في العبادات أو في المعاملات؛ لأن تصحيحنا لما جاء فيه النهي بعينه إمضاء لهذا الشيء الذي نهى الشارع عنه؛ لأن الذي نهى الشارع عنه يريد منا أن نتركه ونتجنبه، فإذا حكمنا بصحته فهذا من باب المضادة لأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وعلى هذا نقول: إن البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519) (17) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/190)
وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع، فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه، وهذه مسألة خطيرة؛ لأن بعض الناس ربما يتبايعون بعد نداء الجمعة الثاني ثم يأخذونه على أنه ملك لهم.
وظاهر كلام المؤلف أن هذا الحكم شامل حتى فيما يتعلق بنفس صلاة الجمعة، مثل: لو أن إنساناً اشترى ماء للوضوء بعد نداء الجمعة الثاني، فهل يصح أو لا؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح؛ لأنه لم يستثن، والعلماء لا بد أن نأخذ بظاهر كلامهم ثم نبين الصحيح، فهل هذا الظاهر مراد للمؤلف ومقصود له، أو أنه حذف الاستثناء اختصاراً؟ مثل هذه ينظر فيها إذا كانت مسألة إجماعية من أهل العلم فإن المؤلف حذفه اختصاراً لا شك؛ لأنه لا يخرج عن الإجماع، وإذا كانت المسألة خلافية فمعنى ذلك أن المؤلف يختار القول الثاني الذي ليس فيه استثناء، لكن الواقع أنه يستثنى من ذلك ما يتعلق بالصلاة، فإذا لم يكن على وضوء ووجد مع إنسان غير مكلف أو لا تجب عليه الجمعة فإنه يجوز لهذا أن يشتري الماء ليتوضأ به؛ لأن ذلك مما يتعلق بهذه الصلاة.
فإن قيل: إن الآية عامة {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ؟ فالجواب: نعم الآية عامة، ولكننا نقول: ما الحكمة من النهي عن البيع؟ من أجل المحافظة على الصلاة، ولهذا قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، ومن المحافظة عليها أن نأتي بواجباتها، وهذا قادر على أن يأخذ ماء ويتوضأ.(8/191)
قوله: «ويصح النكاح» أي: يصح عقد النكاح بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأن الله إنما نهى عن البيع، وأما النكاح فلم ينه عنه؛ ولأن البيع عقد معاوضة يكثر تناوله بين الناس بخلاف النكاح.
قوله: «وسائر العقود» (1) ظاهر كلامه: أنه يصح الرهن، والضمان، والقرض، والإجارة، وإمضاء بيع الخيار، والإقالة وغير ذلك، وكل العقود تصح.
ولكن الصحيح خلاف كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ وأن سائر العقود منهي عنها كالبيع، وإنما ذكر الله البيع بحسب الواقع؛ لأن هذا هو الذي حصل، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما وردت العير من الشام خرجوا وبدؤوا يتبايعون فيها (2) ، فتقييد الحكم بالبيع إنما هو باعتبار الواقع فقط، وإلا فكل ما ألهى عن حضور الجمعة فهو كالبيع ولا فرق.
والمؤلف في هذه المسألة أخذ بمذهب أهل الظاهر، وهو الاقتصار على لفظ النص فقط، وهو قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} .
فالصواب أن جميع العقود لا تصح، وأنها حرام، لا يستثنى من ذلك النكاح، ولا القرض، ولا الرهن، ولا غيرها، نعم ربما يقول قائل: إن عقود التبرعات كالهبة لا تضر؛ لأنها لا
__________
(1) وهذا هو المذهب.
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب قول الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} (2058) ، ومسلم في الصلاة/ باب في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} (863) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(8/192)
تُلهي ولا تشغل، فمثلاً لو أن رجلين أقبلا على المسجد، وفي حال إقبالهما أُذِّن لصلاة الجمعة، فوهب أحدهما الآخر شيئاً، فهنا قد يقال: إنه يصح؛ لأنه لم يحصل بذلك إشغال ولا إلهاء، لكن شيئاً يحتاج إلى معالجة، ونقول: إنه يصح مع أن الله نهى عن البيع هذا فيه نظر.
وَلاَ يَصِحُ بَيْعُ عصِيرٍ ممَّن يَتَّخذُهُ خَمْراً. وَلاَ سِلاَحٍ فِي فِتْنَةٍ
وَلاَ عَبدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ إِذَا لَمْ يَعْتُقْ عَلَيْهِ،..........
قوله: «ولا يصح بيع عصير ممن يتخذه خمراً» أي: لا يصح بيع عصير على من يتخذه خمراً، والدليل قول الله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
فإن قال قائل: ما الذي يدريني أن هذا الرجل اشترى العصير ليتخذه خمراً أو ليشربه في الوقت الحاضر؟.
نقول: إذا غلب على الظن أن هذا من القوم الذين يشترون العصير ليتخذوه خمراً كفى ذلك وصار هذا حراماً؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد نهى عن ذلك، وإلا فالأصل الصحة، وعدم المنع.
قوله: «ولا سلاح في فتنة» كذلك لا يصح بيع سلاح في فتنة بين المسلمين، فلو حصل فتنة وقتال بين المسلمين، وجاء رجل يشتري سلاحاً، وغلب على الظن أنه اشترى السلاح ليقاتل المسلمين، فإنه يحرم بيعه.
فإن قال صاحب السلاح: لعله اشتراه لأجل أن يصطاد به صيداً مباحاً فما الجواب؟.
نقول: لا نمنع إلا إذا غلب على الظن أنه اشتراه من أجل أن يقاتل المسلمين.(8/193)
وكذلك لو اشترى رجل سلاحاً ليصطاد به صيداً في الحرم، بأن تعرف أن هذا الرجل من أهل الصيد، وهو الآن في الحرم واشترى السلاح لأجل أن يصطاد به صيداً في الحرم، فهذا حرام ولا يصح البيع؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، وتأمل القرآن الكريم في قوله: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] يدخل فيه آلاف المسائل؛ لأنها كلمة عامة تشمل التعاون على الإثم والعدوان، في العقود والتبرعات والمعاوضات والأنكحة وغير ذلك، فكل ما فيه التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام.
وكذلك لا يصح بيع أوانٍ لمن يسقي بها الخمر، بأن أعرف أن صاحب هذا المطعم يأتيه الناس يشربون الخمر عنده، وأتى ليشتري أواني يسقي بها الخمر، فلا يجوز بيعه؛ لأن هذا من باب التعاون على الإثم والعدوان.
وكذا إذا اشترى رجل أمواساً لحلق اللحى، وأعرف أنه اشتراها لذلك فلا يجوز؛ لأن هذا تعاون على الإثم والعدوان، وكثير من العامة يظنون أن حلق اللحية لا بأس به، حتى إن بعض الناس يسألنا في الحج يقول: إنني لبست ثيابي قبل أن أحلق يشير إلى لحيته، نقول: لا تحلق لا بعد الحل، ولا قبل الحل، فهذا حرام عليك.
وكذا إذا اشترى رجل مني بيضاً من أجل أن يقامر فلا يجوز؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان، ولكن كيف القمار على البيض؟.
يقولون: إذا ضغطت على البيضة طولاً لا تكسرها أبداً، وعرضاً تكسرها، فالناس يقامرون عليه بهذه الصفة، فإن علمنا أن(8/194)
هذا الرجل اشترى البيضة من أجل القمار عليها قلنا: هذا لا يجوز؛ لأنه من باب التعاون على الإثم والعدوان.
قوله: «ولا عبد مسلم لكافر» العبد المسلم لا يجوز أن تبيعه على كافر؛ لأنه من المعلوم أن السيد له سلطة وإمرة على عبده، فإذا بعت العبد المسلم على الكافر سلطت الكافر عليه، وأذللت المسلم أمام الكافر، وإذلال المسلم حرام، فلا يحل للإنسان المسلم أن يبيع عبده المسلم على كافر.
وبيع العبد الكافر على الكافر صحيح، بأن كان عند إنسان عبد كافر وباعه على كافر.
قوله: «إذا لم يعتق عليه» أي: على الكافر، فإن عتق على الكافر بالشراء صح بيعه عليه، ومن الذي يعتق على مشتريه؟ هو ذو الرحم المحرم (1) أي: ابنه، وابن بنته، وأخوه، وعمه، وخاله، وابن أخيه وما أشبه ذلك، فكل من بينهما رحم محرم إذا ملك أحدهما الآخر عتق عليه، فإذا كان هذا العبد ابن أخ للكافر
__________
(1) لحديث سمرة مرفوعاً: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» ، أخرجه الإمام أحمد (5/15، 18، 20) ؛ وأبو داود في العتق/ باب فيمن ملك ذا رحم محرم (3949) ؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم (1365) ؛ وابن ماجه في العتق/ باب من ملك ذا رحم محرم فهو حر (2524) ؛ والحاكم (2/214) ؛ والبيهقي (10/289) عن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال الحافظ في «البلوغ» : رجح جمع من الحفاظ أنه موقوف (1425) وانظر: «التلخيص» (2149) ؛ و «الدراية» (2/85) ؛ و «نصب الراية» (3/278) وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أخرجه عنه النسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (7157) ؛ وابن ماجه (2525) ؛ والترمذي تعليقاً في الموضع السابق، قال النسائي: منكر، وقال الترمذي: هو حديث خطأ عند أهل الحديث.(8/195)
وبعته على الكافر يصح؛ لأنه بمجرد ما يقول: قبلت يكون العبد حراً، وهذا في الحقيقة فيه مصلحة للعبد، إذ إن فيه تعجيلاً لحريته، ولا يمكن أن يبقى ملك الكافر عليه ولا لحظة؛ لأنه بمجرد ما يقول: قبلت يعتق، فإذا كان يعتق عليه فإنه يصح بيعه.
كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يعتق عليه بالتعليق، بأن يقول: هذا الكافر إذا ملكت هذا العبد فهو حر، فإنه بمجرد ما يملكه يكون حراً، والمؤلف عمم قال: «إذا لم يعتق عليه» ، فإذا عتق عليه إما لرحم محرم، وإما بتعليق فإنه يصح بيعه عليه؛ لأن في ذلك استعجالاً لحريته.
وهل يصح بيع العبد الكافر لمسلم؟.
الجواب: يصح بيع العبد المسلم لمسلم، والكافر للكافر، والكافر للمسلم، أما المسلم فلا يصح بيعه للكافر.
وَإِنْ أسْلَمَ فِي يَدِهِ أُجْبِرَ عَلَى إِزَالَةِ مُلكِهِ، وَلاَ تَكْفِي مُكَاتَبَتُهُ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ أَوْ بَيْعٍ وَصَرفٍ صَحَّ فِي غَيْرِ الكِتَابَةِ.......
قوله: «وإن أسلم في يده أُجبر على إزالة ملكه» إن أسلم في يد الكافر أجبر الكافر على إزالة ملكه؛ لأنه لا يمكن أن يكون للكافر ولاية وسلطة على مسلم.
مثال ذلك: رجل كافر عنده عبد كافر، ثم إن العبد الكافر منّ الله عليه بالإسلام فأسلم، فنقول للكافر لا يمكن أن يبقى على ملكك فلا بد أن تخرجه من ملكك بالعتق، أو بالبيع أو الهبة، لكن بشرط ألا يبيعه ولا يهبه لكافر، فإن باعه على كافر فالبيع حرام ولا يصح.
فقول المؤلف: «أجبر على إزالة ملكه» عام أي: إزالة ملكه ببيع أو هبة أو عتق أو غير ذلك، لكنه إذا كان ببيع أو هبة فإنه لا يبيعه ولا يهبه على إنسان كافر.(8/196)
قوله: «ولا تكفي مكاتبته» أي: لو أن الكافر الذي أسلم عبده قال: أنا أكاتبه، والمكاتبة أن يبيع السيد عبده على نفسه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، فهذا الرجل الكافر، قال: ليس عندي مانع أن أزيل ملك عبدي لكني أريد أن أزيله بالمكاتبة، أبيع نفسه عليه، فنقول: هذا لا يكفي؛ لأن المكاتبة لا تخرج ملك السيد عن العبد حتى يوفي تماماً، وقبل الوفاء هو في رق السيد، فلهذا لا تكفي المكاتبة.
ولو قال: أنا أبيعه لكن أريد أن أشترط الخيار لي لمدة شهر فلا يكفي؛ لأنها لم تنقطع عِلَقُهُ عنه، فربما يقول: أنا فسخت البيع، إذاً لو كاتبه أو باعه بالخيار لم يكفِ.
قوله: «وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة» هذا الجمع بين العقدين، فإذا جمع بين عقدين فإن كان بشرط فالعقد غير صحيح، وإن كان بغير شرط فالعقد صحيح.
مثال ذلك: قال: بعت عليك بيتي هذا بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك بعشرة آلاف، قال: قبلت لا مانع عندي، فالعقد غير صحيح لا البيع ولا الإجارة؛ لأنه شَرْطُ عقد في عقد فلا يصح، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع» (1) ، هذا هو المذهب.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/174) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) ؛ والترمذي في البيوع/ باب في كراهية بيع ما ليس عنده (1234) ؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/288، 295) ؛ وابن حبان (4321) إحسان؛ والحاكم (2/17) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ.
وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.(8/197)
والصحيح أنه جائز إذا لم يتضمن محذوراً شرعيّاً، والحاجة داعية لذلك فقد يقول: أنا لا أحب أن أبيع عليك بيتي حتى أضمن أنني ساكن في بيت آخر، فيقول: بعت عليك البيت بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك بعشرة آلاف أو بألف، فليس هناك مانع.
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ولا شرطان في بيع» فالعبارة مطلقة فتحمل على المقيد، وهما الشرطان اللذان يلزم منهما الوقوع في محذور شرعي.
لكن إذا كان بغير شرط فجمع بين بيع وكتابة، أو بيع وصرف، أو بيع وإجارة، أو بيع ومهر، فإن العقد يصح.
وقوله: «بين بيع وكتابة» أي: قال لعبده: بعتك هذه السيارة وكاتبتك بعشرة آلاف، فالثمن واحد والصفقة واحدة، فيقول المؤلف: لا يصح البيع في هذه الحال؛ لأنه باع ملكه على ملكه، فهذا العبد الذي كاتبه لم يخرج عن ملكه فلا يخرج حتى يؤدي، فإذا باع ملكه على ملكه لم يصح، والمسألة فيها خلاف لكن هذا المذهب، والتعليل أن من شرط البيع أن يبيع على من يملك ملكاً تامّاً، وهذا لا يملك ملكاً تامّاً؛ إذ إنه ما زال(8/198)
على ملك سيده؛ ولأن العبد إلى الآن لم يملك كسبَهُ فقد اجتمع المشروط وشرطه، ويشترط في الشرط أن يتقدم على المشروط، وقال بعض الفقهاء: إنه يصح الجمع بين البيع والكتابة ولا مانع من أن يجتمع الشرط مع المشروط؛ لأن المحذور أن يتأخر الشرط عن المشروط، أما إذا اقترن به فلا حرج، وهذا القول أقرب للصحة عندي ولا مانع.
واعلم أن قول المؤلف: «صح في غير الكتابة» فيه إيهام عظيم؛ لأن معنى قوله هنا أن الكتابة لا تصح والبيع يصح، هذا هو المتبادر من العبارة، ولكن المعنى صح البيع في غير ما إذا جمع مع الكتابة، فإذا جمع مع الكتابة لم يصح.
فإذا جمع بين بيع وإجارة قال: بعتك بيتي هذا بمائة ألف، وآجرتك البيت الثاني بعشرة آلاف، قال: قبلت فهذا صحيح، أو قال: بعتك بيتي هذا وآجرتك بيتي هذا بمائة ألف هذا أيضاً صحيح، ويقسط العوض عليهما عند الحاجة.
وقوله: «بيع وصرف» الواقع أن الصرف بيع، لكن يختص بأنه مبادلة نقد بنقد، وله أحكام معروفة، لكن الكلام على أنه مبادلة، فدنانير بدراهم صرف، ودنانير بثياب غير صرف، والصرف بيع لا شك، لكن لما كان الصرف له أحكام خاصة صاروا يفردونه بالقول، فيقولون: بيع وصرف.
مثاله: قال بعتك هذه الدنانير وهذه السيارة بعشرة آلاف درهم، الصفقة واحدة والثمن واحد، فيصح البيع، فإذا قبض الثمن فلا إشكال، وإن لم يقبض صح في السيارة دون الصرف،(8/199)
لأنك إذا بعت دراهم بدنانير لا بد من التقابض قبل التفرق.
وَيُقَسَّطُ العِوضُ عَلَيْهِمَا وَيَحْرُمُ بَيْعُهُ عَلَى بَيْع أخِيْهِ كَأن يَقُولَ لَمِنَ اشْتَرَى سِلْعَةً بعَشَرَةٍ أَنَا أُعْطِيكَ مِثْلَهَا بِتِسْعَةٍ، وَشِرَاؤُهُ عَلَى شِرَائِهِ كَأن يَقُولَ لَمِنْ بَاعَ سلْعَةً بتسْعَةٍ: عِنْدِي فيهَا عَشَرَةٌ لِيَفْسَخَ لِيَفْسَخَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ وَيَبْطُلُ العَقْدُ فِيهِمَا،........
قوله: «ويقسط العوض عليهما» أي: يوزع العوض عليهما بالقسط، وذلك عند الحاجة.
مثال ذلك: بعتك هذه السيارة وآجرتك هذا البيت بمائة ألف، الثمن واحد، والعقد واحد، فلو قدر أن البيت انهدم، بأن جاءته أمطار فهدمته، فالإجارة تنفسخ؛ لأن العين المعقود عليها تلفت، وهذا العوض فيه أجرة وفيه ثمن، فكيف نوزع هذا العوض؟ الجواب: يوزع بالقيمة، فيقال: بكم يؤجر البيت؟ فقالوا: يؤجر بعشرين ألفاً، فتكون قيمة السيارة ثمانين ألفاً، إذاً ينزل من العوض عشرون، فإن قُدر أنه عند التقويم صار يساوي مائتي ألف، وقالوا: إن الإجارة قيمتها عشرون ألفاً والعقد بمائة ألف، نقول: عشرون ألف من مائتين تقابل 10%، فنرجع إلى الثمن الذي هو مائة فنخصم منه 10%، هذا معنى قول المؤلف: «يقسط العوض عليهما» أي: لو احتجنا إلى توزيع العوض، فإنه يقسط على قيمة المبيع وعلى الأجرة.
قوله: «ويحرم بيعه على بيع أخيه» أي: يحرم بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» (1) ، ولأن ذلك عدوان على أخيه، ولأنه يوجب العداوة والبغضاء والتقاطع، وكل ما أوجب العداوة والبغضاء بين المسلمين فإنه محرم، وهذه قاعدة عامة لقوله تعالى في تعليل تحريم الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
__________
(1) سبق تخريجه ص (93) .(8/200)
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسَرِ} [المائدة: 91] ؛ ولأن هذا الدين دين التآلف، ودين الأخوة والمحبة حتى قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) .
وكذلك ـ أيضاً ـ يحرم الشراء على شرائه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» (2) ، والشراء نوع من البيع، ولما فيه من العدوان على أخيه، وإحداث للعداوة والبغضاء.
وقوله: «على بيع أخيه» هل المراد أخوة النسب، أو أخوة الرضاع؟ أو أخوة الدين؟
الجواب: أخوة الدين؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم أخو المسلم» (3) .
وعلم من كلامه أنه يجوز أن يبيع على بيع الكافر، ولو كان له عهد وذمة؛ لأنه ليس أخاً له، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «على بيع أخيه» ، والكافر ليس بأخ، ولأن الكافر لا حرمة له، وإلى هذا ذهب أهل الظاهر، وقالوا: لنا ظاهر اللفظ، ولا يحرم البيع إلا على بيع المسلم.
والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم البيع على بيع المعصوم، سواء كان مسلماً أو كافراً أو ذميّاً؛ لأن العدوان على
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه (45) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (93) .
(3) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ (2442) ومسلم في الأدب/ باب تحريم الظلم (2580) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(8/201)
الكافر الذمي حرام لا يحل؛ إذ إنه معصوم الدم والعِرض والمال، وتقييد النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك بالأخ بناءً على الأغلب، أو من أجل العطف على أخيك، وعدم التعرض له، وهذا القول أقرب للعدل.
قوله: «كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة» هذا بيع على بيع.
مثاله: اشترى زيد من عمرو سيارة بعشرة آلاف فذهب رجل إلى زيد، وقال له: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك أحسن منها بعشرة، فهذا بيع على بيع المسلم لا يحل.
فإن قال: أنا أعطيك مثلها بعشرة، فهل هذا بيع على بيع المسلم؟
ظاهر كلام المؤلف لا؛ لأنه لم يزده كمية ولا كيفية، لكن قد يقال: إنه بيع على بيع مسلم؛ لعموم الحديث، ولأن هذا المشتري قد يترك البيع الأول، لأن الآخر قد يكون قريباً له أو صاحباً له أو محابياً له أو ما أشبه ذلك.
والصحيح العموم، يعني سواء زاده كمية أو كيفية، أو لم يزده، حتى بالثمن المساوي.
قوله: «وشراؤه على شرائه، كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة ليفسخ» هذا شراء على الشراء.
مثاله: باع زيد على عمرو سلعة بتسعة فجاء آخر، وقال(8/202)
للبائع: بعتها على فلان بتسعة؟ قال: نعم، قال: أنا أعطيك فيها عشرة، فهذا يسمى شراء على شرائه، فلا يحل لما سبق من الدليل الأثري والنظري.
وظاهر كلام المؤلف أن البيع على بيع أخيه جائز بعد زمن الخيار بدليل أنه قال: «ليفسخ» ، وهو لا يملك الفسخ إلا زمن الخيار، فأما بعد زمن الخيار فلا يملك الفسخ، وعليه فيجوز أن يبيع على بيع أخيه حينئذٍ وهو المذهب.
مثاله في زمن خيار المجلس: لو أننا كنا في مجلس فباع زيد على عمرو سلعة بتسعة، فقال أحد الحاضرين: أنا أعطيك عشرة بعد أن أوجب البيع عليه، فهذا شراء على شرائه في زمن الخيار فيحرم، وهنا يتمكن البائع من الفسخ.
وكذلك لو كان في زمن خيار الشرط، بأن باعه سلعة بعشرة وجعل لنفسه الخيار يومين، فجاء إنسان في اليوم الثاني، وقال: أنا أعطيك فيها أحد عشر فلا يحل؛ لأنه في هذه الحال يتمكن من فسخ البيع، والعقد مع الثاني، أما إذا لم يكن هناك خيار فقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يجوز البيع والشراء أو لا يجوز؟
وأضرب مثلاً لهذا يتبين به الحكم، باع زيد على عمرو سلعة بعشرة واستلم الثمن وذاك استلم السلعة وتفرَّقا، وانتهى كل شيء، فجاء إنسان إلى المشتري، وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو خيراً منها بعشرة، فهذا يسمى بيعاً على بيع، فهل يجوز أو لا يجوز؟(8/203)
الجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه لا يجوز، ومنهم من قال: إنه يجوز.
أما من قال: إنه يجوز فقال: إن الخيار قد انتهى، ولا يمكن لأي واحد منهما أن يفسخ العقد، فوجود البيع على بيعه أو الشراء على شرائه كعدمه؛ لأنه لو أراد أن يفسخ لم يتمكن، وهذا هو المذهب.
القول الثاني في المسألة: أن ما بعد زمن الخيار كالذي في زمن الخيار، يعني أنه يحرم ولو بعد زمن الخيار.
وعلّلوا ذلك بما يلي:
أولاً: عموم الحديث: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه» (1) ، فهذا عام ليس فيه تقييد.
ثانياً: أنه ربما تحيل على الفسخ بأي سبب من الأسباب، كأن يدعي عيباً، أو ما أشبه ذلك مما يمكنه من الفسخ.
ثالثاً: أنه يؤدي إلى العداوة بين البائع الأول والمشتري؛ لأنه سيقول: غبنني، ويكون في قلبه شيء عليه.
وهذا القول هو الراجح، أي: أن البيع على بيع أخيه حرام، سواء كان ذلك في زمن الخيارين أو بعد ذلك، ولكن إذا كان بعد مدة طويلة فإن ذلك لا بأس به، يعني لو حصل هذا قبل أسبوع أو شهر أو ما أشبه ذلك، وجاء وقال: أنا أعطيك مثل
__________
(1) سبق تخريجه ص (93) .(8/204)
هذه السلعة بتسعة وهو قد اشتراها بعشرة فهنا لا بأس به؛ لأن محاولة الرد في مثل هذه الصورة بعيد.
قوله: «ليفسخ ويعقد معه» كلمة (ليفسخ) تعليل للتحريم وعلم منه: أنه لو كان على غير هذا الوجه، بأن كان المشتري يريد سلعاً كثيرة واشترى من فلان عشر سلع على عشرة، ولكنه ما زال يطلبها من الناس، فقال له إنسان: أنا أعطيك بتسعة وهو يعلم أنه لن يفسخ العقد الأول؛ لأنه يريد سلعاً كثيرة فهذا لا بأس به؛ لأنه في هذه الحال ليس فيه إغرار، على ما مشى عليه المؤلف، لكن هنا قد نقول: إنه لن يفسخ العقد، لكن ربما يجد في نفسه شيئاً على البائع الأول؛ لكونه غبنه، فالتحرز عن هذا مطلقاً أولى، وهو الموافق لظاهر الحديث، وهو الأبعد عن حلول العداوة والبغضاء بين المسلمين.
مثال آخر: اشترى رجل من زيد عشر قطع بعشرة ريالات ثم جاء ليلتمس في السوق من هذه القطع فجاءه رجل، فقال: أنا أبيع عليك بتسعة، فهذا بيع على بيعه، ونعلم أن المشتري لن يفسخ العقد؛ لأنه يحتاج سلعاً كثيرة سواء زاد الثمن أم نقص، فنقول: هذا لا يحرم على ظاهر كلام المؤلف، ولكنا ذكرنا أنه يمكن أن يقال بالتحريم؛ لأنه يحدث العداوة والبغضاء بين المشتري والبائع.
قوله: «ويبطل العقد فيهما» يعني في البيع على بيعه، والشراء على شرائه، والدليل النهي عن ذلك، والنهي عن الشيء بعينه يقتضي الفساد؛ لأننا لو صححناه لكان في ذلك مضادة(8/205)
لحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فالنهي عن الشيء بعينه يقتضي فساده، ولهذا لو صام الإنسان يوم العيد فصومه حرام باطل؛ لأنه منهي عنه، وكذلك إذا باع على بيع أخيه فالبيع حرام وباطل.
وقوله: «ويبطل العقد» نص على بطلان العقد؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إن العقد صحيح، لأن النهي هنا لا يعود إلى ذات المعقود عليه، وإنما يعود إلى أمر خارج وهو العدوان على المسلم، فيكون العقد حراماً ولكنه صحيح.
ويدل على ذلك أن هذا الذي باع على بيع أخيه لو أذن له الذي بيع على بيعه لكان العقد صحيحاً ولا شيء فيه، فإذاً يكون التحريم غير عائد إلى ذات المنهي عنه ويكون العقد صحيحاً مع الإثم، ولكن القول بالمذهب من باب السياسة ويمنع العدوان على الناس، فيكون قولاً جيداً.
مسألة: لو استأجر على استئجار أخيه فما الحكم؟
الجواب: الحكم واحد؛ لأن الإجارة بيع منافع.
ولو خطب على خطبة أخيه لا يجوز أيضاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ذلك (1) ، ولأن العلة واحدة.
وَمَنْ بَاعَ رَبِويّاً بِنَسِيئَةٍ وَاعْتَاضَ عَن ثَمَنِهِ مَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيْئَةً أوْ اشْتَرَى شَيْئاً نَقْداً بِدُونِ مَا بَاعَ بهِ نَسِيئَةِ لا بِالعَكْسِ لَمْ يَجُزْ وَإِن اشْتَرَاه بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِ ثَمنِهِ، أو بَعْدَ تَغَيُّرِ صِفتِهِ أوْ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرِيهِ، أوْ اشْتَرَاهُ أبُوهُ أوْ ابْنُهُ جَازَ.
قوله: «ومن باع ربوياً بنسيئة» أي: بثمن مؤجل.
قوله: «واعتاض عن ثمنه» ـ أي: ثمن ذلك الربوي.
قوله: «ما لا يباع» ـ نائب الفاعل يعود على الربوي.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب لا يبع على بيع أخيه (2140) ؛ ومسلم في النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك؛ (1413) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/206)
قوله: «به نسيئة» ، أي: شيئاً لا يباع بالذي باعه نسيئة فإنه لا يصح. والربويات ستة: (الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح) ، فالبر ربوي: باع مائة صاع بر بمائتي ريال مؤجلة إلى سنة، فحين حل الأجل جاء البائع إلى المشتري، وقال له: أعطني الدراهم، قال: ليس عندي إلا تمر، وهل يباع التمر بالبر نسيئة أي بدون تقابض؟
الجواب: لا، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) ، إذاً لا يجوز أن يأخذ بدل الدراهم تمراً؛ لأن التمر لا يباع بالبر نسيئة، فإن فعل فقد اعتاض عن ثمنه بما لا يباع به نسيئة فيكون حراماً؛ لأنه قد يُتخذ حيلة على بيع البر بالتمر مع عدم التقابض، فيقول مثلاً: بعتك براً بمائتي ريال إلى أجل ثم يقضيه تمراً، فيتحيل على بيع البر بالتمر مع تأخر قبض الثمن، والحيل ممنوعة شرعاً؛ لأنها خداع لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأنها من دأب اليهود، قال الله تعالى في الذين اعتدوا في السبت وتحيلوا عليه: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ *} [البقرة] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1587) (81) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (77) .(8/207)
مثال آخر: باع برّاً بدراهم، واعتاض عن الدراهم دنانير فهذا يجوز؛ لأن بيع البر بالدنانير يجوز نسيئة، فهذا الرجل مثلاً: باع مائة صاع بر بمائتي درهم، وعند حلول الأجل قال المشتري: ليس عندي شيء من الدراهم، لكن عندي دنانير، فهذا يجوز؛ لأن بيع البر بالدراهم أو الدنانير يجوز نسيئة فليس فيه محظور، ولكن اشترط النبي صلّى الله عليه وسلّم شرطين:
الأول: أن يكون بسعر يومها.
الثاني: أن يتقابضا قبل التفرق.
لأن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ استفتاه قال: «يا رسول الله كنت أبيع الإبل بالدراهم، وآخذ الدنانير، وأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، فهل يجوز ذلك؟ قال: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» (1) .
وقال الموفق صاحب المغني: يجوز بيع ربوي بنسيئة، وأن تعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة؛ لأن الحيلة هنا بعيدة، كيف يبيع برّاً بتمر بعد سنة؟ فهذا بعيد وما كان بعيداً فلا عبرة به.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/83، 139) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب اقتضاء الذهب من الورق (3354) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الصرف (1242) ؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع الفضة والذهب (7/281) ، وابن ماجه في التجارات/ باب اقتضاء الذهب من الورق (2262) ؛ وصححه ابن حبان (18620) إحسان؛ والحاكم 2/44، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصوَّب شعبة والترمذي والبيهقي أنه موقوف (2/284) ، ورجحه الحافظ في الدراية (2/155) .(8/208)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يجوز للحاجة، فتوسط بين القولين، وكيف يجوز للحاجة؟
مثاله: باع عليه براً بدراهم إلى سنة ولما حلّ الأجل، وجاء البائع للمشتري لأخذ الدراهم فقال المشتري: أنا رجل فلاح وليس عندي دراهم، ويسمونها الناس في العرف التجاري (سيولة) ولكن عندي تمر ـ فهذه حاجة ـ فقال: أنا آخذ التمر بدل الدراهم، فعلى رأي شيخ الإسلام يجوز.
فالمسألة فيها إذاً ثلاثة أقوال:
ـ الأول: المنع مطلقاً.
ـ الثاني: الجواز مطلقاً.
ـ الثالث: الجواز للحاجة.
وهذا عندي أنه أحسن الأقوال، دفعاً للشبهة، ولئلا ينفتح الباب لغيرنا، فنحن قد لا نفعل هذا حيلة، لكن غيرنا قد يتحيل.
بقي علينا شرط لا بد منه على القول بالجواز، وهو ألا يربح المستوفي، ونأخذ هذا الشرط من قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» (1) ، ونأخذ هذا ـ أيضاً ـ من نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم «عن ربح ما لم يضمن» (2) ، أي: نهى أن تربح في شيء لم يدخل في ضمانك.
__________
(1) سبق تخريجه ص (208) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/174) وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234) والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/295) وابن حبان (4321) والحاكم 2/17 عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.(8/209)
فمثلاً: باع عليه برّاً بمائتي درهم إلى سنة، ولما حلّت السنة قال: ليس عندي إلا تمر، فقال: أنا آخذ التمر، فأخذ منه أربعمائة كيلو تمر تساوي مائتين وخمسين درهماً، فهذا لا يجوز؛ لأنه الآن ربح في شيء لم يدخل في ضمانه، فهذا التمر يساوي مائتين وخمسين، والذي في ذمة الرجل مائتان فكسب بدل مائتين، مائتين وخمسين في شيء لم يدخل في ضمانه، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم «عن ربح ما لم يضمن» ؛ لأنه لو جاز ذلك لأمكن لكل إنسان يطلب شخصاً دراهم مثلاً، ثم تحلّ فيقول: أعطني بدلها طعاماً، فالدراهم مائتان ويقول أعطني طعاماً يساوي مائتين وخمسين، فيربح، ثم ربما كلما حلّ الديْن أخذ عوضاً أكثر من الدين، فتتكرر مضاعفة الربح على هذا الفقير، فيحصل بذلك ضرر.
قوله: «أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة» مثاله: أنا بعت على زيد سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، فهذا بيع نسيئة، ثم إني اشتريتها من هذا الرجل بثمانية عشر ألفاً، فهذا حرام لا يجوز؛ لأنه يتخذ حيلة إلى أن أبيع السيارة بيعاً صورياً بعشرين ألفاً، ثم أعود فأشتريها بثمانية عشر ألفاً نقداً، فيكون قد أخذ مني ثمانية عشر ألفاً وسيوفيني عشرين ألفاً وهذا ربا، فهذا لا يجوز؛ لأنه حيلة واضحة، ولذلك قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما(8/210)
ـ: «دراهم بدراهم وبينهما حريرة» (1) وهذه تسمى «مسألة العِينة» ؛ لأن الرجل أعطى عيناً وأخذ عيناً، والعين النقد الذهب والفضة، وهي محرمة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه من قلوبكم حتى ترجعوا إلى دينكم» (2) . إذاً هو محرم، بل من كبائر الذنوب، أو قد نقول: ليس من الكبائر؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جعله كبيرة إذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة، وهذا واحد من أربعة، فعلى كل حال هذا الحديث يدل على التحذير من التبايع بالعينة.
ومن مسائل العينة أو من التحيل على الربا ما يفعله بعض الناس اليوم، يحتاج إلى سيارة، فيذهب إلى تاجر، ويقول: أنا أحتاج السيارة الفلانية في المعرض الفلاني، فيذهب التاجر ويشتريها من المعرض بثمن، ثم يبيعها بأكثر من الثمن على هذا الذي احتاج السيارة إلى أجل، فهذا حيلة ظاهرة على الربا؛ لأن حقيقة الأمر أنه أقرضه ثمن السيارة الحاضرة بزيادة؛ لأنه لولا طلب هذا الرجل ما اشتراها وهذه حيلة واضحة، وإن كان مع الأسف أن كثيراً من الناس انغمس فيها، ولكن لا عبرة بعمل الناس، العبرة بتطبيق الأحكام على النصوص الشرعية.
وكذلك ـ أيضاً ـ انتشرت حيلة سابقة، يأتي الفقير إلى
__________
(1) أخرجه ابن حزم معلقاً (9/48) ، وعزاه ابن القيم في تهذيب السنن للحافظ مُطيٍّ وصححه ابن القيم.
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/28، 42، 84) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في النهي عن العينة (3462) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصححه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (2484) ؛ وابن القيم في «تهذيب السنن» (5/104) .(8/211)
شخص فيقول: أنا أحتاج ألف ريال، فيذهب التاجر إلى صاحب دكان، عنده أكياس أرز أو أي شيء، فيشتري التاجر الأكياس من صاحب الدكان مثلاً بألف ريال، ثم يبيعها على المحتاج بألف ومائتين، ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يباع قبل قبضه، فكيفية القبض عندهم أن يمسح على الأكياس بيده، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى أن تباع السلع حيث تُبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (1) ، فهل هذا قبض؟! هذا يسمى عداً لا يسمى قبضاً، لكن كانوا يفعلون هذا، بعد ذلك يأتي الفقير إلى صاحب الدكان الذي عنده هذه الأكياس، ويبيعها عليه بأقل مما اشتراها منه التاجر؛ لأن الفقير يريد دراهم ولا يريد أكياس طعام، فمثلاً يبيعها على صاحب الدكان بألف إلا مائة ريال، فيُؤكل المسكين الفقير من الجانبين، من جانب التاجر الأول ومن صاحب الدكان، فصاحب الدكان أخذ منه مائة ريال، والتاجر أخذ مائتين زائداً على الألف، وهذه سماها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ المسألة الثلاثية، لأنها مكوّنة من ثلاثة أشخاص، ومسائل الربا لا تحل بالحيل.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/191) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى (3499) ؛ وصححه ابن حبان (4984) ؛ والحاكم (2/40) عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.
وقال صاحب التنقيح: «سنده جيد» كما في «التعليق المغني على سنن الدارقطني» (3/213) ؛ وأخرجه البخاري في البيوع/ باب من رأى إذا اشترى طعاماً جزافاً ... (2137) ؛ ومسلم واللفظ له في البيوع/ باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1527) (38) ، عن ابن عمر قال: «قد رأيت الناس في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ابتاعوا طعاماً جزافاً يُضرَبون في أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤوه إلى رحالهم» .(8/212)
واعلم أنه كلما احتال الإنسان على محرم لم يزدد إلا خبثاً، فالمحرم خبيث، فإذا احتلت عليه صار أخبث؛ لأنك جمعت بين حقيقة المحرم وبين خداع الرب ـ عزّ وجل ـ والله ـ سبحانه وتعالى ـ لا تخفى عليه خافية، «وإنما الأعمال بالنيات» (1) ، ولولا الزيادة الربوية ما عرفت هذا الرجل، والعجيب أن الشيطان يغر ابن آدم فيقول: نحن نفعل هذا رحمة بالفقير من أجل أن تتيسر أحواله، ولولا هذا ما تيسرت، لكن أقول كلما كان أفقر صارت الزيادة عليه أكثر، فهذه نقمة وليست رحمة، فمثلاً: يأتي إنسان متوسط الحال يستدين من هذا الرجل، فيبيع عليه ما يساوي ألفاً بألف ومائتين، ويأتي إنسان آخر يستدين من أجل أن يأكل هو وأهله، فيبيع عليه ما يساوي ألفاً بألف وخمسائة، فيقول: لأن هذا لا يفي، ومتى يفي؟ فأين الرحمة؟ ولو كان غرضه الرحمة بالفقير لكان هذا الثاني، أولى بالرحمة من الأول المتوسط الحال، لكن الشيطان يلعب على ابن آدم.
وقوله: «أو اشترى شيئاً نقداً» علم منه أن الشراء هو المحرم، وأما البيع الأول فكلام المؤلف يدل على أنه حلال، لكن إذا علمنا أنهم اتخذوا ذلك حيلة فإن البيع الأول يكون باطلاً أيضاً، لأنه صار وسيلة إلى محرم، ووسائل الحرام حرام، وانظر كيف أن الشريعة الإسلامية تسد الباب سداً منيعاً بالنسبة للربا؛ لأن النفوس مجبولة على حب المال فهي تتحيل عليه بكل وسيلة، وحماية الشرع لجناب الربا وإبعاد الناس عنه أمر ظاهر في الشريعة، مثل ما حمت الشريعة جانب التوحيد وأبطلت كل ما
__________
(1) سبق تخريجه ص (77) .(8/213)
يمكن أن يكون وسيلة للشرك، كذلك الربا حيث أن النفوس تطلبه وتحبه سدت الشريعة كل باب يمكن أن يوصل إلى الربا، والربا ليس بالأمر الهين ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الربا ـ وهو من أعظم الذنوب، فلا يوجد معصية علقت عليها عقوبة، وهي دون الكفر مثل الربا.
قوله: «لا بالعكس لم يجز» كلام الماتن يحتمل المعنى أنها عكس مسألة العينة، بأن يبيع شيئاً نقداً بثمن، ثم يشتريه مؤجلاً بأكثر، ويحتمل أن المعنى: «لا بالعكس» ، أي مثل ما باع به نسيئة؛ لأن المؤلف صور المسألة بقوله: «بدون ما باع به نسيئة» ، فعلى المعنى الثاني في قوله: «لا بالعكس» يعني لا مثل الثمن ولا أكثر من الثمن.
وذلك أنه إما أن يشتريها بأقل وهي مسألة المؤلف، أو بمثلٍ، أو بأكثر.
مثال ذلك: بعت على هذا الرجل سيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، ثم عدت واشتريتها منه بعشرين ألفاً نقداً، فهذا يجوز؛ لأنه لا يوجد فيه ربا.
وكذلك لو بعتها بعشرين واشتريتها بخمسة وعشرين، فهذا جائز؛ لأنه ليس في هذا ربا، لأني إذا أعطيته أكثر مما بعت به فهذا من مصلحته، والربا الأصل فيه الظلم، وهذا ليس فيه ظلم، بل فيه فضل.
مسألة: عكس مسألة العينة، أن أبيع عليه شيئاً نقداً بثمن ثم اشتريه منه مؤجلاً بأكثر.(8/214)
مثاله: أن أبيع عليه السيارة بعشرين ألفاً نقداً، ثم أشتريها منه بخمسة وعشرين إلى سنة، فهل هذا جائز؟
ظاهر كلام المؤلف: «لا بالعكس» أنه يجوز، لأن محذور الربا فيها بعيد، لكن فيها عن أحمد روايتان:
ـ رواية أنها كمسألة العينة فلا تجوز.
ـ ورواية أنه جائز بلا حيلة.
والصحيح الجواز إلا إذا علمنا أنها حيلة.
قوله: «وإن اشتراه بغير جنسه» أي اشترى الذي باعه مؤجلاً بنقد غير جنس النقد الذي باعه به، مثل أن يكون باعه بذهب فيشتريه بفضة، يقول المؤلف: إن ذلك جائز؛ لأن التفاضل بين الذهب والفضة جائز، وإذا كان جائزاً فلا حرج؛ لأننا منعنا فيما إذا اشتراه بأقل مما باعه نسيئة واشتراه نقداً، عللنا ذلك بأنه باع دراهم بدراهم مع التفاضل وجعل هذه السلعة واسطة.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان جنسه مما يجري ربا النسيئة فيه بينه وبين الثمن، فإنه يجوز، مثاله: بعت هذا البيت بمائة دينار ـ تساوي ألف درهم ـ مؤجلاً ثم رجعت إليه واشتريته بثمانمائة درهم نقداً، فعلى كلام المؤلف يجوز؛ لأنني اشتريته بغير ما بعته به؛ لأن التفاضل بين الذهب والفضة جائز ولا يجري بينهما ربا الفضل، ولكن الصحيح أنه لا يجوز إذا اشتراه بثمن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن الذي باعه به؛ لأننا نقول: وإن انتفى ربا الفضل فعندنا ربا النسيئة، وهو ممنوع شرعاً وقد يتحيل الإنسان عليه بمثل هذه الصورة.(8/215)
نعم لو أنني بعت البيت بمائة درهم إلى سنة ثم اشتريته بمائتي كيلو تمر نقداً، فهذا جائز ولا إشكال؛ لأن التفاضل والنسيئة بين الدراهم والتمر جائزان، وإذا جاز التفاضل والنسيئة بينهما على وجه صريح، فهذه المسألة تجوز من باب أولى.
والخلاصة أن هذه المسألة لها ثلاث صور:
الأولى: بعت عليك هذا البيت بألف درهم لمدة سنة، واشتريته بثمانمائة درهم نقداً، فهذه الصورة لا تجوز، وهذه هي مسألة العينة.
الثانية: بعت عليك هذا البيت بعشرة دنانير إلى سنة ـ تساوي مائة درهم ـ ثم اشتريته نقداً بثمانين درهماً، فعلى كلام المؤلف تجوز، لأن الثمن الذي اشتريته به ليس من جنس الثمن الذي بعت به.
الثالثة: بعته عليك بمائة درهم إلى سنة، ثم اشتريته بمائة كيلو تمر نقداً، فهنا تجوز حتى على كلام المؤلف لأنه قال: «بغير جنسه» .
فعندنا الآن: إذا اشتراه بجنس الثمن فهو حرام قولاً واحداً.
إذا اشتراه بغير جنسه مما لا نسيئة بينه وبين الثمن، فهو جائز قولاً واحداً.
إذا اشتراه بغير جنسه ولكن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن، فعلى كلام المؤلف يجوز، وعلى القول الراجح لا يجوز؛ لأننا نقول: وإن كان ربا الفضل بين الثمن الأول والثاني جائزاً لكن ربا النسيئة ممنوع.(8/216)
وهذا قد يتخذ حيلة على بيع الذهب بالفضة مع التأجيل وهو غير جائز.
قوله: «أو بعد قبض ثمنه» أي: لو اشتراه بعد قبض ثمنه بأقل، فلا بأس، وكذلك لو اشتراه بأكثر أو بمساوٍ.
مثاله: باع السيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، ولما تمت السنة قبض عشرين ألفاً، ثم اشتراها من المشتري بخمسة عشر ألفاً، فهذا جائز؛ لأن الحيلة منتفية هنا، فإذا اشتراها بأقل مما باعها به بعد قبض الثمن فلا بأس.
قوله: «أو بعد تغير صفته» مثاله: أن أبيع عليه بقرة سمينة بمائة درهم إلى ستة أشهر، وبعد مضي ثلاثة أشهر هزلت البقرة، فأصبحت لا تساوي إلا نصف القيمة، فاشتراها البائع بنصف قيمتها، أي: بأقل مما باع نقداً، يقول المؤلف: لا بأس بذلك؛ لأن النقص هنا ليس في مقابل الأجل، ولكن في مقابل تغير الصفة.
لكن ينبغي أن يقيد هذا بما كان الفرق بين الثمنين، هو ما نقصت به العين بسبب التغير، لا من أجل التأجيل والنقد، فلا بد أن يكون نقص الثمن بمقدار نقص الصفة.
فمثلاً إذا قدرنا هذه البقرة هزلت وصارت بعد أن كانت تساوي مائتين إلى أجل، لو بعناها الآن لكانت تساوي مائة وثمانين، فاشتراها بهذا السعر، فهذا جائز؛ لأن النقص مقابل نقص الصفة، لكن لو كانت لم تنقص إلا عشرين باعتبار الصفة، وهو اشتراها بمائة وستين، وفرق العشرين هذه من أجل الفرق بين التأجيل وبين النقد فهذا حرام؛ لأن الفرق الذي حصل الآن بين(8/217)
الثمنين، من أجل تغير الصفة ومن أجل التأجيل، فلذلك كان حراماً؛ لأن هذه هي مسألة العينة فصار لا بد من هذا القيد.
مثال آخر: باع السيارة بعشرين ألفاً إلى سنة، وبعد مضي ثلاثة أشهر اشتراها بثمانية عشر ألفاً، والسيارة الآن تغيرت فصار فيها صدمات ومشت مسافة أكثر، فنقول: إذا كان نقص الألفين بمقدار نقص الصفة، فهذا جائز، ولكن إن كان أقل ونقص من أجل النقد، فهذا لا يجوز.
قوله: «أو من غير مشتريه» أي: إذا اشتراها بأقل من غير مشتريها، مثاله: إذا باع السلعة بثمن مؤجل، ثم إن الذي اشتراها باعها على آخر، ثم اشتراها البائع الأول من الآخر بثمن منقود أقل، فهذا جائز؛ لأن محذور الربا هنا بعيد، إذ إن التعامل صار مع طرف ثالث.
مثال آخر: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم إن صاحبها باعها إلى شخص آخر بما شاء من قليل أو كثير، أو وهبها له، ثم اشتريتها أنا من الثاني بثمانين ألفاً نقداً، فهذا جائز؛ لأن المعاملة هذه مع طرف ثالث، ليست مع الطرف الذي بعت السيارة عليه، فإذاً يكون محذور الربا بعيداً فيصح.
مثال ثالث: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، ثم مات المشتري وانتقلت السيارة إلى وارثه، فاشتريتها من وارثه بثمانين ألفاً نقداً، فهذا جائز؛ لأني اشتريتها من غير مشتريها، فمحذور الربا بعيد.
قوله: «أو اشتراه أبوه» أي: أبو البائع، مثاله: باع زيد(8/218)
سيارته بمائة ألف على شخص إلى سنة، ثم إن أبا زيد اشترى هذه السيارة ممن اشتراها من ابنه بثمانين ألفاً نقداً، فهذا لا بأس به؛ لأن المعاملة الآن مع طرف ثالث، إلا إذا كان للأب شركة في هذه السيارة فإنه لا يجوز؛ لأنها ستعود إلى الطرف البائع أولاً.
قوله: «أو ابنه جاز» : إذا اشتراها ابنه، بأن باع زيد هذه السيارة على شخص بمائة ألف إلى سنة، ثم إن ابنه اشتراها من الذي باع عليه أبوه بثمانين نقداً، فإن هذا لا بأس به؛ لأن المعاملة صارت مع طرف ثالث، ولهذا قال: «جاز» ، ولكن بشرط أن لا يكون شريكاً فيها.
قوله في الروض (1) : «ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس وتسمى مسألة التورق» .
يقول: «ومن احتاج إلى نقد» مثاله: إنسان يريد أن يتزوج وليس عنده أموال فاشترى ما يساوي مائة بأكثر، أي: اشترى سيارة تساوي مائة بأكثر مؤجلة ليتوسع بثمنه، بأن يبيعها نقداً لغير من باعها عليه بأقل مما اشتراها به مؤجلاً فلا بأس وتسمى مسألة التورق، وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد.
فمن العلماء من قال: هي جائزة؛ لأن هذه السلعة قد يشتريها الإنسان لغرض مقصود بعين السلعة، كرجل اشترى سيارة
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (4/388) .(8/219)
من أجل أن يستعملها، أو يكون الغرض قيمة السيارة، فاشتراها لأجل أن يبيعها ويتوسع بالثمن، فهذا الغرض كالغرض الأول، لكن الغرض الأول أراد الانتفاع بعينها، وهذا أراد الانتفاع بقيمتها فلا فرق.
القول الثاني: إنها حرام، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو المروي عن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ.
ووجه ذلك: أن مقصود الذي اشترى السيارة هو الدراهم، فكأنه أخذ دراهم قدرها ثمانون بدراهم قدرها مائة إلى أجل، فيكون حيلة، وقد نص الإمام أحمد أن مسألة التورق من مسائل العينة.
ولكن على القول بأنها حلال لا بد أن يكون الباعث لها الحاجة لقوله: «ومن احتاج» ، فلو كان الباعث لها الزيادة والتكاثر فإن ذلك حرام لا يجوز؛ لأن قولهم: «ومن احتاج» ، ليست لبيان الواقع ولكنها شرط؛ لأنه إذا لم يكن حاجة فلا وجه لجوازها، إذ إنها حيلة قريبة على الربا.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه (إعلام الموقعين) : إن شيخنا ـ رحمه الله ـ كان يُراجع فيها كثيراً لعله يحللها، ولكنه ـ رحمه الله ـ يأبى ويقول: هي حرام، والحيل لا تزد المحرمات إلا خبثاً.
لكن أنا أرى أنها حلال بشروط هي:
الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم، أي: أن يتعذر(8/220)
الحصول على المال بطريق مباح، والقرض في وقتنا الحاضر، الغالب أنه متعذر، ولا سيما عند التجار إلا من شاء الله، والسلم ـ أيضاً ـ قليل، ولا يعرفه الناس كثيراً، والسلم هو تعجيل الثمن وتأخير المبيع، أي: آتي للشخص وأقول: أنا محتاج عشرين ألف ريال، اعطني عشرين ألف ريال أعطيك بدلها بعد سنة سيارة صفتها كذا وكذا، أو أعطيك بدلها برّاً أو أرزاً، ويصفه فهذا يسمى السلم، ويسمى السلف، وهو جائز فقد كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفعلون ذلك السنة والسنتين في الثمار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1) .
الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بيِّنة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع، فإن لم تكن عند البائع فقد باع ما لم يدخل في ضمانه، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله (2) ، فهذا من باب أولى؛ لأنها ليست عنده، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة، فأرجو ألا يكون بها بأس، لأن الإنسان قد يضطر أحياناً إلى هذه المعاملات.
__________
(1) سبق تخريجه ص (149) .
(2) سبق تخريجه ص (212) .(8/221)
باب الشروط في البيع
الشروط: جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة، ومنه قول الله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] .
أما في الاصطلاح: فهو بحسب ما يكون شرطاً فيه، فقد يراد به ما تتوقف عليه الصحة، أي: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود، ويختلف عن السبب بأن السبب يلزم من وجوده الوجود، ويشتركان في أنهما يلزم من عدمهما العدم.
فالوضوء شرط لصحة الصلاة يلزم من عدمه عدم صحة الصلاة، وهل يلزم من وجوده الوجود؟ لا؛ لأن الإنسان قد يتوضأ ولا يصلي.
ومنه شروط البيع السابقة فإنه يلزم من عدمها العدم ولا يلزم من وجودها الوجود، لأنه قد تتم الشروط كلها ويوجد مانع كأن يقع البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة.
الشروط في البيع غير شروط البيع:
الشروط في البيع: هي إلزام أحد المتعاقدين الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد، وكذلك في غيره.
وأما ما يلزمه بمقتضى العقد، فإنه إن شرط فهو من باب التوكيد.(8/222)
والفرق بين الشروط في البيع وشروط البيع، من وجوه أربعة:
الأول: أن شروط البيع من وضع الشارع، والشروط في البيع من وضع المتعاقدين.
الثاني: شروط البيع يتوقف عليها صحة البيع، والشروط في البيع يتوقف عليها لزوم البيع، فهو صحيح، لكن ليس بلازم؛ لأن من له الشرط إذا لم يوف له به فله الخيار.
الثالث: أن شروط البيع لا يمكن إسقاطها، والشروط في البيع يمكن إسقاطها ممن له الشرط.
الرابع: أن شروط البيع كلها صحيحة معتبرة؛ لأنها من وضع الشرع، والشروط في البيع منها ما هو صحيح معتبر، ومنها ما ليس بصحيح ولا معتبر؛ لأنه من وضع البشر، والبشر قد يخطئ وقد يصيب، فهذه أربعة فروق بين الشروط في البيع وشروط البيع.
وهل تكون هذه الفروق بين شروط النكاح والشروط في النكاح؟
نعم تكون كذلك، فهذه الشروط تكون في البيع أو في غيره من العقود.
مسألة: هل المعتبر من الشروط في البيع ما كان في صلب العقد، أو ما بعد العقد، أو ما قبل العقد؟
المذهب: أن المعتبر ما كان في صلب العقد، أو في زمن الخيارين: خيار المجلس، وخيار الشرط.(8/223)
مثال: بعتك هذه السيارة واشترطت أن أسافر عليها إلى مكة، فهذا محله في نفس العقد وهو صحيح.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة، وبعد أن تم العقد بالإيجاب والقبول، قلت: أنا أشترط عليك أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيار؛ لأنك لو قلت: لا، قلتُ: فسخت الآن؛ لأن بيدي الخيار ما دمنا لم نتفرق فلنا أن نزيد الشرط.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة ولي الخيار ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني جئت إليك، وقلت: أشترط أن أسافر بها إلى مكة يصح؛ لأنه في زمن الخيارين.
وأما ما كان قبل ذلك مما اتفق عليه قبل العقد، فالمذهب أنه غير معتبر.
مثاله: اتفقت أنا وأنت على أن أبيع عليك السيارة، واشترط: أن أسافر عليها إلى مكة، وعند العقد لم نذكر هذا الشرط إما نسياناً وإما اعتماداً على ما تقدم، فهل يعتبر هذا أو لا؟ الجواب: لا يعتبر على المذهب.
والصحيح: أنه يعتبر لما يلي: ـ
أولاً: لعموم الحديث: «المسلمون على شروطهم» (1) ، وأنا
__________
(1) علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجر السّمسرة، وقد وصله أحمد وأبو داود في القضاء/ باب في الصلح (3594) ؛ والحاكم (2/49) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وقد أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» ، وقال: «حسن صحيح» ، وفي إسناده كثير بن عبد الله ضعفه أحمد وابن معين (انظر: «تهذيب السنن» (5/213)) ، وللحديث شاهد عن عائشة وأنس ـ رضي الله عنهما ـ، أخرجه الدارقطني (3/27، 28) ؛ والحاكم (2/49، 50) ، بلفظ: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ، ولكن إسناده واهٍ كما قاله الحافظ في «التلخيص» (1195) ، ونقل تضعيف الحديث عن ابن حزم وعبد الحق وضعفه أيضاً ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (1299) ، ومن صححه فنظر إلى تعدد طرقه، والله أعلم، انظر: «الإرواء» (5/142) .(8/224)
لم أدخل معك في العقد إلا على هذا الأساس.
ثانياً: أنهم جوزوا في النكاح تقدم الشرط على العقد، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟! وإذا كان النكاح يجوز فيه تقدم الشرط على العقد، فالبيع مثله، ولا فرق.
إذاً الشروط في البيع معتبرة سواء قارنت العقد، أو كان بعده في زمن الخيارين، أو كانت متفقاً عليها من قبل.
مِنْها صَحِيحٌ، كَالرَّهنِ وَتَأجِيْلِ الثّمَنِ وَكَوْنِ العَبدِ كَاتِباً، أو خَصِيًّا، أو مُسْلِماً، وَالأمَةِ بِكْراً..
قوله: «منها صحيح» «من» هنا للتبعيض، وقد ذهب بعض النحويين إلى أن «من» التبعيضية اسم؛ لأنها بمعنى بعض، وعلى هذا تقول: «مِنْ» مبتدأ وخبره صحيح، وعلى المشهور تقول: منها جار ومجرور، خبر مقدم وصحيح مبتدأ مؤخر، والصحيح ضد السقيم، وضابط الصحيح ما لا ينافي مقتضى العقد، فإن نافى مقتضى العقد فليس بصحيح، ولا نقول: ما لا ينافي مطلق العقد؛ لأن كل شرط في البيع ينافي مطلق العقد.
فمثلاً: إذا بعت عليك شيئاً فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه بالبيع والرهن والتأجير والتوقيف، وكل التصرفات التي أملكها(8/225)
شرعاً، فإذا شرط عليَّ البائع ألا أبيعه على أحد، فهذا ينافي مقتضى العقد، فمقتضى العقد أنني أتصرف فيه، فكيف يحبسني؟!
أما ما ينافي مطلق العقد، فمثلاً إذا بعتك هذا الشيء واشترطت عليَّ أن يكون الثمن مؤجلاً، فهذا ينافي مطلق العقد، لكن لا ينافي مقتضى العقد؛ لأن العقد تم الآن، لكن يخالف مطلق العقد؛ لأن مطلق العقد أن تسلم الثمن نقداً، وأسلم المبيع كذلك حاضراً، ففرق بين قولنا ما ينافي مقتضى العقد، وما ينافي مطلق العقد؛ لأننا نقول كل شروط في عقد فإنها تنافي مطلقه، لأن مطلقه ألاَّ يكون هناك شروط.
قوله: «كالرهن» الرهن من الشروط الصحيحة، والذي يشترطه غالباً البائع.
فإذا اشترط البائع على المشتري رهناً بالثمن فالشرط صحيح، لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري أيضاً؛ لأن البائع إذا لم يلتزم المشتري بهذا الشرط فإنه لا يبيع عليه وحينئذٍ يحرم مما يريد من هذه السلعة.
مثاله: أن يقول المشتري: اشتريت منك هذا الشيء بمائة؟ فيقول: بعت عليك، لكن أريد أن تعطيني رهناً، فأعطاه رهناً، فهذا الشرط صحيح؛ لأنه لا ينافي مقتضى العقد، بل يزيد العقد قوة وتوثقة؛ لأن البائع الآن يطمئن إذا علم أن الثمن الذي باعه به فيه رهن، إذ أن فائدة الرهن أنه إذا لم يوف فإنه يُباع، ويستوفى الثمن منه.
قوله: «وتأجيل الثمن» يشترطه المشتري، عكس الأول،(8/226)
فالرهن يشترطه البائع، وتأجيل الثمن يشترطه المشتري.
مثاله: باع عليه متاعاً بمائة، فقال: أنا ليس بيدي شيء الآن، ولكن أريد أن يكون الثمن مؤجلاً إلى شهر، فتم البيع على ذلك، فهذا البيع صحيح، والشرط صحيح؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد؛ بل يزيده قوة وإحكاماً، ولأنه لا يوجد ضرر لأنه من مصلحة المشتري لأجل أن يتوسع، ومن مصلحة البائع كأن يخشى من أحد ينم عليه أن عنده أموالاً ثم تجعل عليه ضرائب من الحكومة أو يعتدي السراق عليه، فصار من مصلحة البائع والمشتري وقد لا يكون من مصلحة المشتري، فالمشتري يود أن يسلم الثمن ويستريح.
وقوله: «وتأجيل الثمن» لم يبين أنه يشترط في الأجل أن يكون معلوماً، ولكنه شرط، فيشترط أن يكون الأجل معلوماً، بأن يقول: إلى رمضان، أو إلى ذي الحجة وما أشبه ذلك.
فإن قال: بثمن مؤجل إلى أن يقدم زيد؛ فهل يجوز؟
الجواب: لا؛ لأنه مجهول لا يُدرى متى يقدم، ولا يُدرى ـ أيضاً ـ هل يقدم أم لا؟ فهو أجل مجهول فلا يصح هذا الشرط.
وإذا اشترط المشتري أن يكون الثمن مؤجلاً إلى أن يوسر الله عليه؟
فالمذهب: لا يجوز؛ لأن الأجل مجهول، إذ لا يُدرى متى يوسر الله عليه، فقد يوسر الله عليه بعد ساعة، فيموت قريب له غني ويرثه، وقد يبقى سنين في عسرة، فالمذهب أن هذا الشرط(8/227)
لا يصح، ويكون الثمن حالاً غير مؤجل، والعلة في ذلك الجهالة.
ولكن الصحيح أنه يصح لدليل أثري ونظري: ـ
أولاً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن فلاناً قدم له بزٌّ من الشام، فلو بعثت إليه أن يبيعك ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع» (1) ، ولعله امتنع؛ لأنه أراد أن يصفي البضاعة، ويأتي بأخرى، ولا بأس من امتناعه من البيع إذا كان لا يناسبه، كما امتنع جابر ـ رضي الله عنه ـ (2) .
أما النظر فما دام البائع يعلم أن المشتري معسر فإنه لا يحق له مطالبته شرعاً إلا بعد الإيسار، ولزم أن ينظره، سواء شرطه أو لم يشرطه؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، فما زاد هذا الشرط إلا تأكيد الإنظار فقط، والإنظار واجب؛ ولهذا كان القول الصحيح في هذه المسألة أنه جائز.
قوله: «وكون العبد كاتباً» أي: العبد الذي عرض للبيع، اشتراه إنسان وقال: بشرط أن يكون كاتباً، فيصح الشرط؛ لأنها صفة مقصودة في المبيع.
ولكن كلمة «كاتباً» فيها شيء من الجهالة؛ لأن الكتابة
__________
(1) أخرجه الحاكم (2/23) ؛ والبيهقي (6/25) وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي؛ وقال الحافظ في البلوغ (857) : «رجاله ثقات» .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب شراء الدواب والحمير (2097) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع البعير واستثناء ركوبه (715) (111) .(8/228)
تختلف، فمن الناس من يكتب، لكن لا يقرأ كتابه إلا هو.
فالحاصل أن كلمة «كاتباً» فيها شيء من الجهالة، فلا بد أن يقال: كاتب تكون كتابته متوسطة، أي: يقرؤها الإنسان بدون تهجٍ وبدون ترتيب.
قوله: «أو خصيًّا» أي: اشترط المشتري أن يكون العبد خصياً، أي: قد قطعت خصيتاه، وهذا مقصود للمشتري؛ لأنه إذا قطعت خصيتاه فإنه يسلم الناس من شره، إذ إن شهوته تبطل أو تضعف جداً، حتى لا يكون له نظر في النساء، وهذا مقصود لمشتريه، ولكن يبقى النظر كيف يكون خصياً؟ لأنه إن قطع مالكه خصيتيه عتق عليه؛ لأنه إذا مثل بعبده، ولو بقطع أنملة من أصابعه فإنه يعتق.
فيقال: ربما يكون هذا خصياً قبل أن يُسترق، أو أنه خصاه غير مالكه فلا يعتق.
المهم أن شرط الخصاء شرط صحيح إذا اشترطه المشتري.
قوله: «أو مسلماً» ، إذا اشترط المشتري أن يكون العبد مسلماً، فهو شرط صحيح، أما إذا اشترط أن يكون كافراً فلا؛ لأن هذا شرط صفة مكروهة لله ـ عزّ وجل ـ حتى لو قال المشتري: أنا أريد أن يكون كافراً حتى لا يتعبني، فإنه إذا أذن المؤذن قال: أريد أن أصلي، وإذا جاء رمضان قال: أصوم، وإذا جاءت العمرة قال: أعتمر، وإذا جاء الحج قال: أحج، وأنا أريد عبداً كافراً، نقول: هذا مراد باطل فهو تشجيع للكافرين على البقاء على كفرهم ليكونوا عمالاً أو عبيداً عند المسلمين.(8/229)
وظاهر كلام المؤلف أن الكفر ليس بعيب في الرقيق، وأن الإنسان لو اشترى عبداً فتبين أنه كافر فإن ذلك ليس بعيب، فلا يرده؛ وجه ذلك أنه ذكر أن الإسلام لا يثبت إلا إذا اشترط، فدل هذا على أن المشتري لو وجد العبد كافراً فلا خيار له، وعللوا ذلك بأن الأصل في الرقيق الكفر؛ لأن الأرقاء أصلهم مسبيون من الكفار، فالأصل فيهم الكفر حتى يتبين أنهم أسلموا.
قوله: «والأمة بكراً» إذا اشترط في الأمة أن تكون بكراً، فهو شرط صحيح؛ لأن البكارة صفة مقصودة، فيكون الشرط صحيحاً، فإن لم يشترط ووجدها ثيباً فلا خيار له؛ لأن المؤلف جعل كون الأمة بكراً من باب الشروط، ولو قال قائل: إن الأصل البكارة، قلنا: هذا الأصل معارض بظاهر، وهو أنها موطوءة؛ لأن الغالب أنها إذا كانت عند سيدها فالغالب أنه يطؤها، وهذا مما تعارض فيه الأصل والظاهر وقدم فيه الظاهر؛ لأنه ليس دائماً نقدم الأصل، فقد يكون الظاهر أقوى من الأصل فيؤخذ بها.
مسألة: ما حكم هذه الشروط إذا كانت صحيحة وفقدت؟
حكمها أن لصاحب الشرط أن يفسخ العقد إذا لم يتحقق شرطه؛ لأنه فاته شيء مقصود، ولكن لو قال: أنا لا أريد الفسخ، ولكني أريد أرش فقد الصفة، أي: الفرق بين قيمته متصفاً بهذه الصفة وخالياً منها، ولا أريد أن أرد المبيع، فأنا راغب فيه، كأن يشترط في العبد أن يكون كاتباً، فتبين أنه لا يكتب، ولكنه عبد جيد في العمل، وحسن الخلق، وقال: أنا لا(8/230)
يهمني أن يكتب أو لا يكتب، لكن أنا أريد أرش فقد الصفة، فهل له ذلك؟
الجواب: في هذا خلاف، فمنهم من قال: إن له أرش فقد الصفة؛ لأن البائع غرَّه، فيقوَّم هذا العبد كاتباً، ويقوَّم غير كاتب، وما بين القيمتين يخصم من الثمن ويُدفع للمشتري.
وقال آخرون: ليس له أرش فقد الصفة، فإما أن يقبله مفقود الصفة التي اشترطها، وإما أن يرده.
والصحيح في هذه المسألة أن يقال: إن تبين أن البائع مدلس، وأنه غرَّ المشتري، فللمشتري أرش فقد الصفة، وإن لم يكن مدلساً فللمشتري الخيار بين الإمساك بلا أرش والرد؛ لأن البائع ـ أيضاً ـ قد يكون مغترّاً، ويقول: لم أرض ببيعه إلا بهذا الثمن، ولا أرضى أن ينزل من الثمن شيء.
وَنَحْوِ أنْ يَشْتَرِطَ البَائِعُ سُكْنَى الدّارِ شَهْراً وَحُمْلاَنَ البَعِيْرِ إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، أو شَرَطَ المُشْتَرِي عَلَى البَائِع حَمْلَ الحَطَبِ، أو تَكْسِيْرَه، أو خِيَاطَةَ الثّوْبِ، أَوْ تَفْصِيْلَهُ،..
قوله: «ونحو أن يشترط البائع سكنى الدار شهراً» أي: إذا اشترط البائع سكنى الدار شهراً، فإن هذا شرط صحيح.
وقوله: «الدار» أل فيها للعهد الذهني، أي: الدار المبيعة شهراً.
مثاله: أن يقول: بعتك داري هذه بمائة ألف درهم، على أن أسكنها لمدة شهر، فيصح البيع، ويصح الشرط، والدليل على ذلك عام وخاص.
أما العام فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (189) .(8/231)
وقوله: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (1) .
أما الخاص: فدليله «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اشترى من جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ جملاً اشترط جابر حملانه إلى المدينة فوافقه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك» (2) ، وهذا نفع معلوم في المبيع فهو كسكنى الدار شهراً.
وقوله: «سكنى الدار شهراً» فهم منه، أنه لو اشترط سكنى دار غير المبيعة، فإنه لا يصح، فلو قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف درهم على أن تسكنني دارك لمدة شهر، كما قال المؤلف فلا يصح البيع، ولا الشرط بناءً على ما سيأتي من أن شرطَ عقدٍ في عقد مبطل للعقد، إذاً لا بد أن يكون في نفس المبيع الذي تم عليه العقد، فإن كان في غيره فهو جمع بين بيع وإجارة، وهو لا يصح.
قوله: «وحملان البعير إلى موضع معين» هذا تعيين بالمكان، والأولى «سكنى الدار شهراً» تعيين بالزمان.
مثاله: بعتك هذا البعير على أن أسافر عليه إلى مكة وأرجع، فالبيع صحيح، والشرط صحيح.
مثال آخر: بعتك هذه السيارة بخمسين ألفاً، بشرط أن أحج عليها وأرجع فهنا البيع صحيح، والشرط صحيح؛ لأنه نفع معلوم في المبيع.
__________
(1) سبق تخريجه ص (224) .
(2) سبق تخريجه ص (228) .(8/232)
فإن قال: بعتك هذه السيارة بخمسين ألفاً على أن أطلب عليها ضالتي، فلا يصح الشرط؛ لأنه مجهول وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم «عن بيع الغرر» (1) ، وإذا جُهل الشرط جهل الثمن؛ لأن مقابل الشرط المجهول من الثمن غير معلوم، وجهالة الثمن تؤدي إلى بطلان البيع؛ لأن من شروط البيع العلم بالثمن.
مسألة: لو قال البائع: بعتك هذا البيت على أن أسكنه لمدة سنة ما لم أشتر بيتاً، فالمدة هنا معلومة من طرف واحد فقط، وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء، قال بعضهم: إن ذلك لا يصح؛ لأنك لم تحدد في الحقيقة من أول السنة إلى طرفها فقد تجد بيتاً خلال شهر أو ثلاثة أشهر أو أكثر فتبقى المدة مجهولة، ولكن الصحيح جواز هذه المسألة؛ لأن المشتري قد تواطأ على أن البائع يسكنه لمدة سنة، فإن نقص شيء عن السنة فهو لمصلحة المشتري لا ضرر عليه في هذا، فإن قلت: ما الجواب عن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن فلاناً قدم له بَزٌّ من الشام، فقالت عائشة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو بعثت إليه فاشتريت ثوبين نسيئة إلى ميسرة، فبعث إليه فامتنع (2) ، فقولها: إلى ميسرة مجهول، ومع ذلك أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم فما الجواب؟
الجواب: أن هذا الشرط موافق لمقتضى العقد؛ لأن البائع إذا حُكِمَ بإعسار المشتري فإنه لا يستحق مطالبته حتى يوسر، فسواء شرطت أو لم تشرط لا أوفيك إلا عند الميسرة فيكون من باب التأكيد، والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .
(2) سبق تخريجه ص (228) .(8/233)
قوله: «أو شرط المشتري على البائع حمل الحطب» أل في «الحطب» للعهد الذهني، أي: الحطب الذي تم عليه البيع.
مثاله: اشترى منه حطباً، وقال: بشرط أن تحمله إلى بيتي، وبيته معلوم في المكان الفلاني فيصح.
فإن قال قائل: ما الدليل؟
قلنا: لدينا دليل عام وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (1) ، وقياساً: على ما إذا شرط البائع على المشتري نفعاً معلوماً في المبيع، فإن اشترط عليه حمل حطب آخر غير المبيع فإنه لا يجوز.
قوله: «أو تكسيره» اشترط عليه أن يكسره، والحمل على المشتري وهنا «يكسر» فقط.
قوله: «أو خياطة الثوب» اشترط على الذي اشترى منه القماش أن يخيط الثوب، فالشرط هنا صحيح؛ لأنه نفع معلوم في المبيع.
قوله: «أو تفصيله» أي: تفصيل الثوب، والتفصيل غير الخياطة، فلو شرط الخياطة والتفصيل فسيأتي في كلام المؤلف.
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ شَرْطَيْنِ بَطَلَ البيْعُ؛.....
قوله: «وإن جمع بين شرطين بطل البيع» أي: إن جمع بين الشرطين من قوله: «إذا اشترط البائع سكنى الدار» فإنه يفسد
__________
(1) سبق تخريجه ص (224) .(8/234)
العقد، فلو شرط البائع سكنى الدار شهراً، وشرط شرطاً آخر كسكنى الدكان ـ أيضاً ـ سنة، فالشرط غير صحيح ويبطل البيع، وكذلك لو شرط المشتري على البائع حمل الحطب وتكسيره جميعاً، فإنه لا يصح ويبطل البيع؛ لأن الشرط باطل، فإذا بطل الشرط فإن ما يقابله من الثمن مجهول، فيؤدي ذلك إلى جهالة الثمن، والعلم بالثمن شرط لصحة البيع فلا يصح.
ودليل ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» (1) ، الشاهد قوله: «ولا شرطان في بيع» ، وإذا شرط المشتري حمل الحطب وتكسيره فهما شرطان في بيع، أو شرط البائع سكنى الدار والدكان لمدة شهر فإنه لا يصح، ولكن هذا الاستدلال بهذا الدليل غير صحيح.
والصحيح جواز الجمع بين شرطين، بل بين ثلاثة شروط وأربعة شروط حسب ما يتفقان عليه، والحديث لا يدل على هذا بوجه من الوجوه، وإنما المراد بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا شرطان في بيع» ، الشرطان اللذان يلزم منهما محذور شرعي، وهذا الجمع بين شرطين فيما ذكر، لا يلزم منه محذور شرعي، كالجهل، والظلم، والربا، وما أشبه ذلك.
ويقال: ألستم تجيزون أن يشترط المشتري على البائع كون العبد مسلماً وكاتباً؟ فسيقولون: بلى.
فنقول: هذان شرطان في البيع، وأنتم تقولون: إن هذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (197) .(8/235)
جائز، فأي فرق؟! وعلى هذا فلو شرط حمل الحطب، وتكسيره، وإدخاله في المكان المعد له في البيت لكان هذا الشرط صحيحاً، ولو كانت ثلاثة شروط؛ لأنها شروط معلومة، ولا تستلزم محذوراً شرعيّاً، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فتبين لنا الآن أن الشروط الصحيحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم ثابت، سواء شرط أم لم يشترط؛ لأنه من مقتضى العقد، مثل تسليم البائع المبيع والمشتري الثمن، وكون الثمن حالًّا، وما أشبه ذلك مما لا يحتاج إلى شرط، فهذا إذا شرط فهو توكيد، ولو جمع ألف شرط من هذا النوع فإنه يصح.
الثاني: ما يتعلق بمصلحة العقد وليس نفعاً مستقلاً، أي: ليس نفعاً ينتفع به البائع أو المشتري، ولكنه من مصلحة العقد، مثل: الرهن، وكون العبد كاتباً، والأمة بكراً، والدابة هملاجة وما أشبه ذلك.
الثالث: شرط نفع إما للبائع وإما للمشتري، والذي للبائع، مثل أن يشترط إذا باع داره سكناها شهراً، والذي للمشتري، مثل أن يشترط على البائع أن يحمل الحطب وما أشبه ذلك، فهذان النوعان إذا جمع فيهما بين شرطين، كان البيع على ما ذهب إليه المؤلف ـ وهو المذهب ـ فاسداً، والصواب أنه صحيح ولا بأس به.
وَمِنْهَا فَاسِد يُبْطِلُ العَقْدَ كاشْتِرَاطِ أحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ عَقْداً آخَرَ كَسَلَفٍ، وَقَرْضٍ، وَبَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَصَرْفٍ...........
قوله: «ومنها فاسد يبطل العقد» هذا هو القسم الثاني من أقسام الشروط، وهي الشروط الفاسدة.(8/236)
وقوله: «ومنها فاسد يبطل العقد» أي: وفاسد لا يبطل العقد، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في كلام المؤلف.
قوله: «كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر كسلف» هذا فاسد يفسد العقد، فإذا شرط أحدهما على الآخر عقداً آخر بطل العقد «كسلف» أي: السلم، والسلم تقديم الثمن وتأخير المثمن، فيقول المشتري للبائع: هذه مائة درهم بمائة صاع من البر تعطيني إياها بعد سنة، فإذا باع أحدهما على الآخر شيئاً كدارٍ مثلاً، وقال: بشرط أن تسلمني مائة درهم بمائة صاع من البر، فالشرط هنا فاسد مفسد للعقد.
فإن قال قائل: لماذا فصل هذا عما سبق؟
قلنا: لأن ما سبق يكون صحيحاً ويكون فاسداً، فإذا شرط شرطاً واحداً كان الشرط صحيحاً، وإن جمع بين شرطين صار فاسداً، أما هنا فهو فاسد من أصله فليس فيه تقسيم، ولذلك فصله عما سبق.
قوله: «وقرض» كذلك لو اشترط قرضاً، مثاله: قال له: بع عليَّ بيتك هذا، فقال: أبيعه عليك بشرط أن تقرضني مائة ألف، فهذا الشرط فاسد ومفسد للعقد، فلا يصح القرض، ولا يصح البيع.
قوله: «وبيع» أي: لو اشترط عليه بيعاً فطلب منه أن يبيعه سيارته، قال: أبيعك إياها بخمسين ألفاً بشرط أن تبيع علي سيارتك بخمسين ألفاً أو بأقل أو بأكثر، فهنا لا يصح البيع لا الأصل ولا المشروط.(8/237)
قوله: «وإجارة» مثاله، بعتك هذا البيت بمائة ألف، بشرط أن تؤجرني بيتك لمدة سنة فالعقد لا يصح؛ لأنه جمع بين عقدين.
قوله: «وصرف» مثل أن يقول: بعني بيتك بمائة ألف فيقول: نعم بشرط أن تصرف لي هذه الدنانير بدراهم، فهنا يبطل البيع والصرف. والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن بيعتين في بيعة» (1) ، وقال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» (2) ، وهذا الاستدلال بهذا الدليل غير صحيح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما نهى عن بيعتين في بيعة، وقال: «له أوكسهما أو الربا» ، وهذا لا ينطبق على ما ذكر، إنما ينطبق على مسألة العينة التي سبقت وهي أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل، ثم يشتريه نقداً بأقل، فهنا نقول: هذه بيعتان في بيعة؛ لأن المبيع واحد والعقد اثنان، ولهذا قال: «له أوكسهما أو الربا» ، فهنا إذا باعه بمائة مؤجلاً، واشتراه بثمانين نقداً، فنقول: إما ألا تأخذ من المشتري شيئاً وهو الزائد، وخذ بالأقل، وهو الثمانون، فإن أخذت الزائد فقد وقعت في الربا؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «له أوكسهما أو الربا» .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/432، 475) ؛ والترمذي في البيوع/ باب النهي عن بيعتين في بيعة (1231) ؛ والنسائي في البيوع/ باب بيعتين في بيعة (7/296) ؛ وابن حبان (4973) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وقال الترمذي: «حسن صحيح» وصححه ابن حبان، وقال في «الإرواء» (5/149) : «حسن» .
(2) أخرجه أبو داود في البيوع/ باب فيمن باع بيعتين في بيعة (3461) ؛ وصححه ابن حبان (4974) ؛ والحاكم (2/45) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في «المحلى» (9/16) ؛ وقال في «الإرواء» (5/150) : «حسن» .(8/238)
مثاله: بعت هذه السيارة بمائة ألف إلى سنة، فهذه بيعة، اشتريتها من المشتري بثمانين نقداً، فهذه بيعة أخرى، أيهما أوكس؟ الثمانون، البائع إما أن يقتصر على الثمانين، ولا يطالبه بالزائد وهو عشرون، فإن طالبه بالزائد فهذا هو الربا، ولهذا قال: «له أوكسهما أو الربا» ، بمعنى أن نقول للبائع: ليس لك إلا الثمانون ولا تطالب المشتري بشيء، أو له «الربا» لأن هذا لا شك حيلة على الربا.
وأما من قال: بأن معنى الحديث: «نهى عن بيعتين في بيعة» ، هو أن يقول الإنسان: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة فغير صحيح، بل هذا لا بأس به، لأنه لا يخلو إما أن نتفرق بدون قطع ثمن، وإما أن نقطع الثمن من قبل التفرق، إن قطعنا الثمن قبل التفرق وقلت: أخذته بعشرة نقداً فالبيعة واحدة، وإن تفرقنا فإنه يبقى الثمن مجهولاً، ومعلوم أن من شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً، فهنا ينهى عنه لا لأنه بيعتان في بيعة، ولكن لأن الثمن مجهول، ولهذا لو حدد بأن قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة ولك الخيار لمدة يومين فهذا جائز؛ لأنه لا محذور فيه.
إذاً البيعتان في بيعة لا تصدق إلا على مسألة العينة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» وهذا الذي ذكر المؤلف لا يصدق عليه أوكسهما أو الربا، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه إذا شرط عقداً في البيع فإن الشرط صحيح، والبيع صحيح إلا في مسألتين كما سيأتي.(8/239)
ويدل لذلك أن الأصل في المعاملات الحل، وأنه لو جمع بين عقدين بلا شرط فهو جائز كما سبق، وسبق أنه إن جمع بين عقدين فلا بأس إذا لم يكن شرطاً، فنقول: إذا كان هذا يباح بلا شرط، فما الذي يجعله ممنوعاً مع الشرط، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الشرط جائز بين المسلمين إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (1) ، وهذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وعلى هذا فالصواب جواز ذلك إلا في مسألتين:
الأولى: إذا شرط قرضاً ينتفع به، فهنا لا يحل لأنه قرض جر نفعاً فيكون ربا.
مثال القرض: إذا جاء الرجل ليستقرض من شخص، فقال: أنا أقرضك، لكن بشرط أن تبيع بيتك عليّ بمائة ألف، وهو يساوي مائة وعشرين، فهنا شرط القرض مع البيع على وجه ينتفع به، فالبائع انتفع من قرضه حيث نزل له من قيمة البيت عشرون ألفاً، وهذا ربا فلا يصح.
الثانية: أن يكون حيلة على الربا، بأن يشترط بيعاً آخر يكون حيلة على الربا، فإنه لا يصح.
مثاله: أن يكون عند شخص مائة صاع بر جيد، وعند الثاني مائتا صاع بر رديء، فيأتي صاحب البر الرديء ويقول لصاحب البر الجيد: بعني المائة صاع البر الجيد بمائتي درهم، قال: لا بأس بشرط أن تبيع عليّ مائتي الصاع الرديئة بمائتي درهم، فهذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (224) .(8/240)
لا يجوز لأنه حيلة على أن يبيع مائة صاع بر جيد بمائتي صاعٍ رديئة من البر، وهذا حرام، لأنه ربا، لأن البر بالبر لا بد أن يكون سواء.
وما رجحناه هو الذي ينطبق على القواعد الشرعية، وهو مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ، ومذهب الإمام مالك في المعاملات هو أقرب المذاهب إلى السنة، ولا تكاد تجد قولاً للإمام مالك في المعاملات إلا وعن الإمام أحمد نفسه رواية توافق مذهب مالك، لكن من المعلوم أن أصحاب المذاهب كلما ازدادوا عدداً، جعل المذهب ما كان الأكثر عدداً، هذا الغالب، لذلك لا يمكن أن نقول: إن مذهب الإمام أحمد مثلاً هو تحريم هذا البيع، وأنه عنه رواية واحدة، بل لا بد أن تكون له رواية توافق ما يدل عليه الدليل الصحيح، ومذهب الإمام مالك في هذه المسألة هو أحسن المذاهب وأقواها، ولدينا قاعدة مطردة: «الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم دليل على التحريم» .
وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لاَ خَسَارَةَ عَليْهِ أَوْ مَتَى نَفِقَ المَبِيْعُ وَإِلاّ ردَّهُ، أوْ لاَ يَبِيْع وَلاَ يَهَبَهُ وَلاَ يُعْتِقهُ أوْ إِن أعْتَقَ فَالولاَءُ لَهُ،........
قوله: «وإن شرط أن لا خسارة عليه» هذا هو القسم الثاني وهو الشرط الفاسد غير المفسد، فيفسد الشرط، ويصح العقد.
وضابطه: أن يكون الفساد مختصاً بالشرط لمنافاته مقتضى العقد.
مثاله: شرط أن لا خسارة عليه، الشارط المشتري، قال المشتري: اشتريته منك بمائة ألف بشرط ألا يكون عليّ خسارة، أي لو نزلت السوق وبعته بأقل فلا خسارة علي، الخسارة على البائع، فهذا الشرط لا يصح؛ لأنه مخالف لمقتضى العقد؛ لأن(8/241)
مقتضى العقد أن المشتري يملك المبيع فله غنمه وعليه غرمه، فهو مالك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الخراج بالضمان» (1) ، أي من له ربح شيء فعليه خسارته، ومعلوم أنه لو ربح هذا المبيع فالربح للمشتري بلا شك، فإذا كان الربح للمشتري فلا يصح أن يشترط الخسارة على البائع.
والدليل على أن الشرط إذا كان مخالفاً لمقتضى العقد يكون باطلاً أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أبطل شرط البائع لنفسه الولاء في قصة بريرة، حيث كاتبت أهلها على تسع أواقٍ من الورق وجاءت تستأذن عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت عائشة: إذا أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي، فذهبت لأهلها فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فأخذتها بهذا الشرط، فلما تم العقد خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيّن أن هذا شرط باطل، فقال: «ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/49، 80، 116) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب فيمن اشترى عبداً فاستعمله (3508، 3509، 3510) ؛ والنسائي في البيوع/ باب الخراج بالضمان (7/254) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء فيمن يشتري العبد (1285) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب الخراج بالضمان (2242، 2243) ؛ وابن حبان (4927، 4928) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ. وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وصححه أيضاً المنذري في «مختصر أبي داود» (3367) وحسنه البغوي في «شرح السنة» (2119) ؛ وصححه ابن القطان كما في «بيان الوهم والإيهام» (2718) وانظر الكلام حول هذا الحديث في: «مختصر أبي داود» للمنذري، و «التلخيص» (1189) ؛ و «الإرواء» (5/158) .(8/242)
شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» (1) ، فأبطل الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا الشرط، لأنه يخالف مقتضى العقد، إذ أن مقتضى العتق أن يكون الولاء للمعتق لا لغيره، ولهذا قال العلماء: كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل.
فإذا قال قائل: هل العقد صحيح؟
قلنا: نعم؛ لأن العقد قد تمت فيه الشروط، وانتفت الموانع، والخلل هنا إنما هو بالشرط.
قوله: «أو متى نفق المبيع وإلا رده» نفق بمعنى زاد، وصار له سوق يُشترى، وإلا رده على البائع، هذا ـ أيضاً ـ شرط فاسد؛ لأنه يخالف مقتضى العقد، إذ إن مقتضى العقد أن المبيع للمشتري سواء نفق أو لا.
قوله: «أو لا يبيع» الشارط البائع، شرط البائع على المشتري ألا يبيعه، فيقول المؤلف: إن الشرط فاسد.
وهذا تحته صورتان:
الصورة الأولى: أن يشترط عليه أن لا يبيعه مطلقاً.
الصورة الثانية: أن يشترط عليه أن لا يبيعه على فلان خاصة.
وكلاهما على المذهب شرط فاسد، لأنهما يخالفان مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد أن المالك يبيع ملكه على من شاء وإن شاء لم يبعه، فإذا قيد وقيل له: بشرط أن لا تبيعه، فإن هذا الشرط يرونه فاسداً لمخالفته مقتضى العقد.
__________
(1) سبق تخريجه ص (189) .(8/243)
ولكن الصحيح أن في ذلك تفصيلاً، وهو إن كان شرط عدم البيع لمصلحة تتعلق بالعاقد أو بالمعقود عليه فإن الصحيح صحة ذلك، مثال التي تتعلق بالعاقد: أنا أعرف أن هذا الرجل محتاج إلى بيت وأريد أن أبيعه بيتي، ولكن أعرف أن الرجل لا يحسن التصرف يمكن أبيعه عليه في الصباح ويبيعه هو في آخر النهار، وأنا إنما أريد أن أبيعه عليه من أجل أن ينتفع به ويسكنه، فأقول له: لا أبيعك هذا البيت إلا بشرط أن لا تبيعه، فيلتزم بهذا، فهذا من مصلحة العاقد (المشتري) .
مثال مصلحة المعقود عليه: عندي عبد له منزلة عالية فجاءني شخص أثق به وآمنه على هذا العبد فقال: بعني عبدك، فقلت: أبيعك بشرط أن لا تبيعه؛ لأنني أخشى إذا باع عبدي على إنسان غشيم يظلمه ويذله، فقلت: نعم أبيعك عبدي بشرط أن لا تبيعه، فالمصلحة هنا تعود على العبد المعقود عليه.
والصحيح ـ أيضاً ـ في الصورة الثانية أنها جائزة؛ لأنه قد يكون شخص معروفاً بالشر والفساد وعندي عبد، فجاء شخص ثقة أمين، فقلت: لا بأس أبيع عليك العبد لكن بشرط أن لا تبيعه على فلان خاصة، فهذا من مصلحة المعقود عليه.
كذلك عندي ـ مثلاً ـ بعير، فأقول: أبيعك هذه البعير بشرط أن لا تبيعها لفلان؛ لأنه معروف أنه لا يرحم البهائم، يحملها ما لا تطيق ويضربها على غير خطأ، ويجيعُها ويجعلها في العراء في البرد، فأقول: بشرط أن لا تبيعها على فلان، خوفاً من أن يسيء لهذه البهيمة، فالصحيح أنه يجوز، لأن فيه مصلحة المعقود عليه.(8/244)
قوله: «ولا يهبه» والهبة هي التبرع بالمال بدون عوض في حال الحياة، فإنه لا يصح الشرط.
مثاله: أن يقول: أبيعك هذا المتاع بشرط ألا تهبه لأحد، أو ألا تتصدق به على أحد، فلا يصح؛ لأن هذا ليس فيه مصلحة للبائع، وإنما هو مجرد تحجير على المشتري، فلا يصح؛ لأنه يخالف مقتضى العقد.
فإن قيل: ما الفرق بين الهبة وبين البيع، إذا شرط ألا يبيع فهو صحيح، وإذا شرط ألا يهبه فهو غير صحيح؟
قلنا: لا فرق، ولهذا نقول: القول الصحيح أنه إذا شرط عليه ألا يهبه ففيه تفصيل:
إذا كان له غرض مقصود فلا بأس، وإن لم يكن له غرض مقصود فإنه لا يصح هذا الشرط؛ لأنه تحجير على المشتري.
فإذا قال قائل: هو تحجير على المشتري بكل حال؛ لأنه إذا لم يهبه والتزم بالشرط أمكنه أن يخرجه عن ملكه بالبيع مثلاً.
قلنا: وكذلك نقول في البيع، ما دمنا نعرف أن البائع قصد باشتراط ألا يهبه ألا يخرجه من ملكه، فسواء جاء بلفظ الهبة أو جاء بلفظ البيع أو بغير ذلك؛ لأن الأمور بمقاصدها.
قوله: «ولا يعتقه» فالشرط فاسد والعقد صحيح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد، إذ مقتضى العقد أن يتصرف المشتري تصرفاً تاماً.
فإن قال قائل: هل يمكن أن يكون للبائع غرض في اشتراط عدم العتق؟
نقول: ربما يكون له غرض، مثل أن يكون هذا العبد لا(8/245)
يتمكن من الكسب، فيشترط ألا يعتقه لئلا يهمله، وربما يشترط ألا يعتقه؛ لأنه لو عتق صار حرّاً وتصرف كيف شاء، وربما يؤدي تصرفه هذا إلى الفسوق والفجور، أو الذهاب إلى الكفار ـ أيضاً ـ إذا كان أسيراً من قبل وما أشبه ذلك.
فالمهم أن الذي يترجح أنه إذا كان له غرض صحيح فإن الشرط صحيح، وغاية ما فيه أنه يمنع المشتري من بعض التصرف الذي جعله الشارع له، وهو ـ أي: المشتري ـ يسقطه باختياره، فكان الأمر إليه.
قوله: «أو إن أعتق فالولاء له» أي للبائع، فإن الشرط لا يصح، أي: أن البائع باع العبد على إنسان، وشرط عليه إن أعتقه أن يكون الولاء له، أي: للبائع، فهنا العقد صحيح، والشرط غير صحيح.
والدليل على ذلك: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة بَريرة، أن بريرة كاتبها أهلها فجاءت تستعين عائشة، فقالت: إن أحبوا أن أنقدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، وقالوا: لا، الولاء لنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خذيها واشترطي لهم الولاء» ففعلت، ثم قام خطيباً في الناس فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن شرط مائة مرة، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» (1) . فأجاز البيع، ولم يجز الشرط.
فما هو الولاء؟.
__________
(1) سبق تخريجه ص (189) .(8/246)
الولاء معناه أن الإنسان إذا أعتق عبداً صار كأنه من أقاربه، كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الولاء لُحْمَة كلُحْمَة النسب» (1) ، أي: التحام بين السيد والعتيق كالتحام النسب، فيرثه المعتِق إذا لم يكن له وارث من النسب، حتى إنه إذا هلك هالك عن بنت أخ شقيق، وعن معتِق، فالمال للمعتِق مع أن الميت عمها، لكنها هي ليست بذي فرض ولا عصبة، فيكون المال للسيد المعتق، فالولاء في الواقع لحمة كلحمة النسب يثبت به ما يثبت بالنسب من جهة الميراث، والولاية، وما أشبه ذلك عند عدم عاصب النسب، لكنه ليس كالنسب في ثبوت المحرمية، ولذلك أعتق النبي صلّى الله عليه وسلّم صفية وجعل عتقها صداقها وتزوجها (2) .
أوْ أن يَفْعَلَ ذَلِكَ بَطَلَ الشَّرْطُ وَحْدَهُ إِلاَّ إِذَا شَرَطَ العِتْقَ وَبِعْتُكَ عَلَى أَنْ تَنْقُدَنِي الثَّمَنَ إِلَى ثَلاَثٍ وَإِلاَّ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا صح، وَبِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا، أو رَضِي زَيْدٌ أَوْ يَقُولَ لِلْمرتَهِنِ: إِنْ جِئْتُكَ بِحَقِّكَ وَإلاَّ فَالرَّهْنُ لَكَ، لاَ يَصِحُّ البَيْعُ.......
قوله: «أو أن يفعل ذلك بطل الشرط وحده» «ذلك» المشار إليه أن يبيع أو يهب أو يعتق، بأن يقول: بعتك هذا العبد بكذا وكذا بشرط أن تبيعه على فلان، فهنا لا يصح الشرط؛ لأن مقتضى العقد أن المشتري حر، يتصرف إن شاء باع، وإن شاء لم يبع، فهل يمكن أن نقول كما قلنا في الأول: إذا كان هناك غرض صحيح للبائع فلا بأس؟
__________
(1) أخرجه الشافعي في «المسند» (237) ؛ وابن حبان (4950) إحسان؛ والحاكم (4/341) ؛ والبيهقي (10/292) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، وله شواهد تقويه، وقد صححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (10/292) ؛ والحافظ في «التلخيص» (2151) ؛ والألباني في «الإرواء» (5/109) .
(2) أخرجه البخاري في صلاة الخوف/ باب التكبير والغلس بالصبح (947) ؛ ومسلم في النكاح/ باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها (1365) (85) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(8/247)
الجواب: إذا أمكن أن يوجد غرض صحيح فلا بأس؛ لأن الحق في التصرف للمشتري فإذا أسقطه فهو حقه، لكن يبقى النظر هل هناك غرض صحيح يقابل إسقاط المشتري للتصرف؟
ربما يكون ذلك، مثل أن يكون عندي عبد وأعرف أن فلاناً لا يشتريه مني أبداً، إما رأفة بي أو لغير ذلك، فبعته على آخر، وقلت: بشرط أن تبيعه على فلان فهذا غرض صحيح؛ لأني أحب أن أبر فلاناً به، لكني أعلم أنه لو جاء من طريقي فإنه لا يقبل، فإذا جاء من طريق آخر فربما يقبل.
فإذا كان هناك غرض صحيح، فالصواب أنه لا بأس أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه، لكن الغرض الصحيح هنا لا بد أن يكون لشخص معين لا في البيع مطلقاً، وكذلك إذا شرط أن يهبه، نقول: هذا الشرط فاسد.
لو قلت: بعتك هذا الشيء بشرط أن توقفه على الغزاة في سبيل الله، فلا يصح على المذهب، ولكن ذكروا أثراً عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه اشترى من صهيب ـ رضي الله عنه ـ أرضاً واشترط عليه صهيب وقفها (1) ، ومقتضى هذا جواز شرط وقف المبيع؛ لأن في ذلك مصلحة، مصلحة لي أنا ومصلحة لك، أما لي فلأن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وأما لك فلأن الأجر سيكون لك، وهذا قد يكون خيراً لك من الدنيا، فالصحيح في هذه المسألة أنه إذا شرط أن يوجهه إلى شيء فيه خير فإنه لا بأس به ولا حرج.
__________
(1) لم نقف عليه.(8/248)
قوله: «إلا إذا شرط العتق» فيستثنى، فإذا باع العبد على شخص وقال: بشرط أن تعتقه فوافق، فإن البيع والشرط صحيح؛ لأن الشارع له تشوف إلى العتق، ورغب فيه، ولأن الشراء يراد للعتق، فمن عليه كفارة يشتري عبداً ليعتقه، فلا يكون ذلك مخالفاً لمقصود العقد.
فإن قال قائل: لماذا يشترط على المشتري العتق ولم يعتقه هو بنفسه؟
قلنا: إن البائع محتاج للدراهم مثلاً، ومعلوم أنه إذا باعه بشرط العتق، فسوف ينقص الثمن إذا التزم بهذا الشرط، فيكون في هذا مصلحة للبائع، وهو قضاء حاجته بالدراهم، ومصلحة للمشتري وهو نقص الثمن؛ لأنه سوف ينقص بلا شك، وفيه أيضاً مصلحة وهو أن له الولاء؛ لأن المشتري هو الذي يُباشر العتق فيكون الولاء له.
وقوله: «إلا إذا شرط العتق» أي: إذا اشتراه المشتري وقد شُرط عليه العتق، ولكنه صار يماطل وفي النهاية أبى، فيقول الشارح: إنه يجبر المشتري على أن يعتق؛ لأنه مشروط عليه (1) .
قوله: «وبعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا صح» أي: على أن تعطيني الثمن قبل ثلاثة أيام، وإلا فلا بيع بيننا، فالشرط صحيح؛ لأن التعليق هنا تعليق للفسخ، وليس
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (4/404) .(8/249)
تعليقاً للعقد فجاز التعليق؛ لأن الفسخ أوسع من العقد، فلهذا جاز تعليقه بخلاف العقد، ولأن فيه مصلحة للبائع إذا خشي المماطلة، ولا يخالف شرعاً.
قوله: «وبعتك إن جئتني بكذا أو رضي زيد» قال: بع علي هذا البيت، فقلت: بعتك إن أحضرت لي كذا وكذا غير الثمن، فهنا لا يصح؛ لأنه بيع معلق، ومن شرط البيع التنجيز، فالبيع المعلق لا يصح، وكذلك إذا قال: إن رضي زيد، فإنه لا يصح.
مثاله: قال: بعتك هذه السيارة إن رضي أبي، فقال: اشتريت، فالبيع هنا ليس بصحيح؛ لأنه بيع معلق، والبيع من شرطه أن يكون منجزاً، إذاً ماذا نصنع لو وقع العقد على هذه الصفة؟
نقول: لو وقع على هذه الصفة، فإنه يعاد بعد رضا زيد، فإذا رضي زيد فنقول: أعد العقد، لكن هل يترتب على هذا شيء؟
الجواب: نعم، فلو قلنا: بصحة العقد الأول، لكان النماء والكسب فيما بين العقد والرضا للمشتري، وإذا قلنا: لا بد من عقد جديد فالنماء فيما بين العقد والرضا للبائع، إذاً فبينهما فرق.
والصحيح: أن البيع المعلق جائز، وأنه لا بأس أن يقول: بعتك إن جئتني بكذا، لكن يجب أن يحدد أجلاً أعلى، فيقول: إن جئتني بكذا في خلال ثلاثة أيام مثلاً أو يومين أو عشرة أيام؛ لئلا يبقى البيع معلقاً دائماً، إذ قد لا يتيسر أن يأتي(8/250)
بذلك في يوم أو يومين، مع أنه كان يظن أنه يتمكن من ذلك، ولكن قد لا يتمكن، لأنه إذا بقي معلقاً هكذا إن جئتني بكذا، ربما لا يأتيه إلا بعد مدة طويلة لا يتوقعانها، فإذا حُدد أجل فالصحيح أن البيع جائز؛ لأنه قد تمت فيه الشروط، وانتفت الموانع.
وقوله: «أو رضي زيد» الصحيح ـ أيضاً ـ أنه جائز، لكن ـ أيضاً ـ لا بد من تحديد المدة؛ لئلا يماطل المشتري في ذلك فيحصل الضرر على البائع.
وعلى القول بالصحة متى ينتقل الملك هل هو بالعقد أو بوجود الشرط؟ يحتمل وجهين:
الأول: أنه بالعقد، لأنه يقول: إن رضي زيد، أي: فالعقد هذا صحيح.
الثاني: يحتمل إن رضي زيد فقد تم العقد.
والظاهر الأول: أن الملك يثبت بالعقد الأول؛ لأن هذا عقد تام. لكن لزومه معلق على شرط، فإذا حصل الشرط تبين صحة العقد.
قوله: «أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك» أي في وقت الحلول.
قوله: «وإلا فالرهن لك» فإنه «لا يصح البيع» وهل عندنا بيع؟ نعم: وهو قوله: «فالرهن لك» فهذا بيع؛ لأنه لا يشترط صيغة معينة للإيجاب، بل ما دل على الإيجاب تم به البيع.(8/251)
مثال ذلك: شخص اشترى من آخر مائة صاع بر، وأعطاه ساعة تساوي مائة ريال، فقال: إن جئتك بحقك في الوقت الذي حددناه، وإلا فالساعة لك، أو إن جئتك بحقك في خلال يومين، وإلا فالساعة لك، ولم يأت بحقه في هذه المدة، فتكون الساعة للبائع، وهذا في الواقع بيع معلق فنقول: لا يصح؛ لأنه بيع معلق، والبيع المعلق لا يصح.
لو قال قائل: أليس الأصل في المعاملات الحل؟ قلنا: بلى، ولهذا كان القول الراجح أنه يصح أن يعطي البائع رهناً، ويقول: إن جئتك بحقك، أي: بالثمن في خلال ثلاثة أيام، وإلا فالرهن لك؛ لأن فيه مصلحة للطرفين، ولأنه شرط لا ينافي مقتضى العقد، وعلى المذهب إذا تمت المدة لم يملك البائع الرهن بل يبقى رهناً عنده، وعلى القول بصحة الشرط فإن البائع يملك الرهن، لكن إذا تأخر المشتري عن وقت الحلول بأمر قهري، وكان ثمن الرهن أضعاف أضعاف ما رهنه به، فهنا نقول: بأنه لا يصح العقد، أو نقول: بالصحة؛ لكن نقول: للمشتري الخيار؛ لأنه مغبون.
وهذا القول، أي: الراجح، رواية عن الإمام أحمد فإنه قد اشترى من بقّال حاجة ورهنه نعليه، وقال له: إن جئتك بحقك في وقت كذا وإلا فهما لك، فتكون رواية ثانية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أن هذه المسألة جائزة.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن هذا لا يصح؟(8/252)
قلنا: لأنه بيع معلق؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يَغْلَقُ الرهن من صاحبه» (1) ، أي: لا يؤخذ على سبيل الغلبة من صاحبه.
فيقال: أما هذا الحديث فلا دليل فيه؛ لأن الرهن هنا لم يؤخذ على سبيل الغلبة؛ بل على سبيل الاختيار، والمشتري هو الذي اختار هذا، وأما غلق الرهن من صاحبه، فمعناه أنه لا يحل للمرتهن إذا حل الأجل أن يأخذ الرهن قهراً على الراهن، أما إذا كان باختياره فلا إغلاق فيه، وأما التعليل بأنه بيع معلق فلا يصح فإنه غير مسلم، والقاعدة على المذهب أن كل بيع معلق على شرط فإنه لا يصح، إلا أنهم استثنوا من ذلك عقود الولايات والوكالات فإنه جائز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحاب غزوة مؤتة: «أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة» (2) ، فعلق الولاية بالشرط، فقالوا: كل الولايات التي
__________
(1) أخرجه الشافعي في «المسند» (2/164) ؛ وابن ماجه في الرهون/ باب لا يغلق الرهن (2441) ؛ وابن حبان (5934) إحسان؛ والدارقطني (3/32) ؛ والحاكم (2/51) ؛ والبيهقي (6/39) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وأخرجه مالك في «الموطأ» (2/728) ؛ والشافعي (2/163) ومن طريقه البيهقي (6/39) ؛ وعبد الرزاق (15034) ؛ وأبو داود في المراسيل (186، 187) عن الزهري عن سعيد مرسلاً قال البيهقي: «وهو المحفوظ» ، ورجحه ابن عبد الهادي في المحرر (892) وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/430) : «وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها» ، وانظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2334) ؛ و «نصب الراية» (4/320) ؛ و «التلخيص» (1232) .
(2) أخرجه البخاري في المغازي/ باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4261) عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ.(8/253)
يكون الإنسان فيها نائباً عن غيره يجوز تعليقها مثل الوكالة، وأما بقية العقود المحضة، فالأصل فيها عدم جواز التعليق.
والصحيح أنه يصح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا كان المعلق عليه أمراً ممكناً معلوماً، وقولنا: «ممكناً» يعني شرعاً وقدراً؛ لأن ذلك فيه مصلحة، وكوننا نفرق بين عقد وعقد فهذا تناقض، إلا بدليل واضح يقتضي التفريق، بل كوننا نفرق بين العقد والفسخ لا دليل عليه؛ لأن الأصل أنه إذا جاز تعليق الفسخ جاز تعليق العقد، إلا أنهم استثنوا من هذه القاعدة مسألتين:
الأولى: أن يعلقه بالمشيئة، فيقول: بعتك هذا بكذا ـ إن شاء الله ـ فالبيع صحيح؛ وذلك لأن تعليقه بالمشيئة، ثم وقوعه يدل على أن الله شاءه؛ لأن الله لو لم يشأه لم يقع.
الثانية: بيع العَرَبون وهو معروف عندنا ويسمى العُربون، وهو أن يعطي المشتري البائع شيئاً من الثمن، ويقول: إن تم البيع فهذا أول الثمن، وإن لم يتم فالعربون لك.
فإن قيل: كيف تصححون هذا، والبائع أخذ شيئاً بغير مقابل؟
فالجواب: أولاً: أن نقول: إنه أخذ هذا باختيار المشتري.
ثانياً: أن فيه مقابلاً؛ لأن السلعة إذا ردت نقصت قيمتها في أعين الناس، فمثلاً إذا قيل: هذا الرجل اشترى هذه السيارة بخمسين ألفاً وأعطاه خمسمائة ريال عربوناً، ثم جاء للبائع وقال:(8/254)
أنا لا أريدها، فإن الناس سيقولون: لولا أن فيها عيباً ما ردها فتنقص القيمة، وقد روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ (1) .
وَإِنْ بَاعَهُ وَشَرَطَ البَرَاءَةَ مِنْ كُلِ عَيْبٍ مَجْهُولٍ لَمْ يَبْرَأ وَإِنْ بَاعَهُ دَارَاً عَلَى أنَّها عَشَرَةُ أذْرُعٍ فَبَانَتْ أَكْثَرَ أوْ أَقَلَّ صَحَّ، وَلَمِنْ جَهِلَهُ وَفَاتَ غَرَضُهُ الخِيَارُ.
قوله: «وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ» أي باع عليه شيئاً لأن (باع) تتعدى بنفسها وتتعدى بـ (على) تارة وبـ (مِنْ) تارة، فهنا «باعه» أي: إن باعه شيئاً، فالمفعول محذوف، وقال: بشرط أن أبرأ من كل عيب مجهول، فقال المشتري: نعم أنت بريء، فإن هذا الشرط لا يصح، فإذا وجد المشتري به عيباً فله الرد.
فإن قال البائع: هذا شرط عليك أن تصبر على كل عيب فيها.
فنقول: هذا شرط غير صحيح؛ لأن الرد بالعيب لا يثبت إلا بعد العقد، وهذا شَرَطَه مع العقد فلا يصح.
مثاله: باع عليه السيارة بشرط أن يبرئه من كل عيب، قال المشتري: أبرأتك، فالشرط هنا غير صحيح، فإذا وجد المشتري بها عيباً ردَّها، فإن قيل: أليس قد أبرأه؟
نقول: أبرأه قبل أن يثبت له حق الرد؛ لأن حق الرد إنما يثبت بعد العقد، فهي لم تدخل ملك المشتري.
فإن كان بعد العقد، فالبراءة صحيحة.
مثاله: اشتراها ثم أبرأه المشتري من كل عيب فتصح
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً في الخصومات/ باب الربط والحبس في الحرم، ووصله عبد الرزاق (9213) ؛ وابن أبي شيبة (7/306) ؛ والبيهقي (3416) .(8/255)
البراءة؛ لأنه الآن ملكها وملك ردها، وعليه فإن باعها وبعد البيع قال البائع: أنا أخشى أن يكون فيها عيوب، قال المشتري: أبرأتك من كل عيب، فالإبراء صحيح؛ لأنه الآن ملكها، وملك الرد بالعيب، فإن كان فيها عيب فقد أسقطه.
هذا هو التفصيل في هذه المسألة على المشهور من المذهب، وعلى هذا فالذين يبيعون في معارض السيارات، ويصوت ويقول: لا أبيع عليك إلا الكبوت بعشرين ألفاً، وهو لا يساوي هذا الثمن، لكن من أجل أن يبرأ، ويقول: ما تطالبني بشيء، فاشترى على هذا الشرط، فالشرط ملغى غير صحيح، فإذا وجد فيها عيباً فليردها.
أما لو كان الشرط بعد أن تمت البيعة، قال: أنا أخشى غداً أن تجد فيها عيباً، ثم تأتيني تقول: إن السيارة معيبة، فقال: أبرأتك؛ لأن المشتري الآن مقبل لا يهمه، ثم ذهب بها، وإذا فيها كل شيء، غير سليم، فلا يردها لأنه أبرأه بعد العقد.
ولكن الصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية:
وهو: إن كان البائع عالماً بالعيب فللمشتري الرد بكل حال، سواء شرط مع العقد، أو قبل العقد، أو بعد العقد.
وإن كان غير عالم فالشرط صحيح، سواء شرط قبل العقد، أو مع العقد، أو بعد العقد.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الصحيح، وهو المروي عن(8/256)
الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ (1) ، وهو الذي يمكن أن تمشي أحوال الناس عليه؛ لأنه إذا كان عالماً بالعيب، فهو غاش خادع، فيعامل بنقيض قصده، بخلاف ما إذا كان جاهلاً، كما لو ملك السيارة قريباً، ولا يدري بالعيوب التي فيها وباعها واشترط البراءة، فالشرط صحيح.
قوله: «وإن باعه داراً» أو نحوها مما يذرع كالأرض.
قوله: «على أنها عشرة أذرع فبانت أكثر» فالبيع صحيح.
قوله: «أو أقل صح» أي: وإن بانت أقل فالبيع ـ أيضاً ـ صحيح، لكن إذا بانت أكثر، فالزيادة تكون للبائع؛ لأنه باعها على صفة معينة، وهي أنها عشرة أذرع فبانت خمسة عشر ذراعاً، فنقول: الزيادة للبائع فخذ من الخمسة عشر ذراعاً عشرة، وأعط البائع خمسة.
وكذلك إذا بانت أقل بأن باعها على أنها عشرون ذراعاً فبانت خمسة عشر، فالبيع صحيح، والنقص على البائع، فيسقط من الثمن بمقدار ما نقص من الأذرع، والذي نقص إذا باعها على أنها عشرون فبانت خمسة عشر هو ربع الثمن، فالزيادة للبائع، والنقص على البائع.
قوله: «ولمن جهله وفات غرضه الخيار» أي: جهل المقدار،
__________
(1) كعثمان وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ، «الموطأ» (2/613) ؛ و «سنن البيهقي» (5/328) .(8/257)
وفات غرضه له الخيار، فاشترط المؤلف شرطين في ثبوت الخيار للمغبون.
مثال ذلك: اشترى إنسان هذه الأرض على أنها مائة متر، فتبين أنها تسعون متراً، فنقول: البيع صحيح؛ لأنه وقع على شيء معين معلوم بالمشاهدة، والتقدير اختلف، والتقدير يحاسب من عليه النقص بقدره، فإذا كان باعها بمائة ألف فينقص من الثمن عشرة آلاف، لكن إذا قال المشتري: أنا كنت أظن أن هذا التقدير صحيح، وقد خططت بأن أعمرها عمارة على هذه المساحة، والآن لما نقصت لا أريدها، فهل له الخيار؟
الجواب: نعم له الخيار؛ لأنه فات غرضه، فلما فات غرضه قلنا: لك الخيار.
فإن كان المشتري يعلم أنها تسعون متراً فإنه لا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، وكان عليه أن يقول للبائع ـ حين قال: إنها مائة متر ـ: إن هذا غلط بل هي تسعون متراً.
إذاً شَرْطُ ملك الفسخ اثنان:
الأول: الجهل.
الثاني: فوات الغرض.
فإذا قال المشتري الذي اشتراها على أنها مائة متر، فبانت تسعون متراً: أنا أسمح بالعشرة، وقال البائع: أنا أريد أن أفسخ؛ لأنه تبين أن التقدير خطأ، فلا يملك البائع الفسخ؛ لأنه ليس له غرض الآن؛ لأنه باعها على أنها مائة متر، وتبين أنها أقل، وسومح بالناقص، فليس له غرض، إلا أنه أحياناً ربما تكون الأراضي قد زادت في هذه المدة، وأنها تساوي أكثر من مائة ألف،(8/258)
وهي تسعون، فنقول: ليس لك أن تفسخ؛ لأنه لا ضرر عليك.
مثال آخر: اشتراها على أنها مائة متر فتبين أنها مائة وعشرون، فقال المشتري: أنا أريد أن أفسخ؛ لأنها تغيرت عما قُدِّرت به، فقال البائع: لك العشرون مجاناً لا تعطني إلا الثمن الذي اتفقنا عليه، فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه، فإذا قال المشتري: أنا قد قدرت أن أبني بيتاً قدره مائة متر، والآن صارت مائة وعشرين فتزيد عليّ المواد، وقيمة البناء؛ لأنه يلزم أن أوسع الحجر والغرف، فنقول له: اجعلها فسحة، فإذا قال: حتى لو جعلتها فسحة فيزيد عليَّ الجدار (السور) ، نقول: اجعل الزائد مواقف أو شارعاً، إذاً ليس عليه ضرر.
والمؤلف اشترط أن يفوت غرضه، وهنا لا يفوت الغرض.
ولو تراضيا على النقص أو الزيادة جاز؛ لأن الحق لهما، فإذا تصالحا على إسقاطه، مثل: أن يقول: بعتها على أنها مائة متر فتبين أنها تسعون متراً وتصالحا بحيث قالا: يسقط من الثمن كذا وكذا، واتفقا على ذلك فلا بأس.
وفي «الروض» (1) صورة قد تكون مشابهة لها، ولكنها مخالفة لها في الحكم، قال: «وإن كان المبيع نحو صبرة، أي: كومة طعام، على أنها عشرة أقفزة فبانت أقل أو أكثر صح البيع ولا خيار، والزيادة للبائع والنقص عليه» .
أي: عنده كومة طعام، فقال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة كيلو فتبينت أقل من مائة، وأنها تسعون كيلو، فنقول: البيع صحيح
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (4/404) .(8/259)
، وهذا كالأرض، لكن لا خيار للمشتري، ويجبر البائع على التكميل، وإن بانت أكثر، قال: بعتك هذه الكومة من الطعام على أنها مائة كيلو، فتبينت أنها مائة وعشرون كيلو، فالبيع صحيح والزيادة للبائع.
فإذا قال المشتري: إذا أخذ الزيادة فأنا لي الخيار، يقول الشارح: «إنه لا خيار له» .
ولو قال البائع: أنا لي الخيار بين أخذ الزيادة وبين فسخ البيع، نقول: ليس لك الخيار أصلاً، الزيادة لك فخذها.
لكن ما هو الفرق؟ نقول: الفرق أن الأرض لا يمكن الزيادة فيها ولا النقص، أي: لو باعها على أنها مائة متر فتبين أنها تسعون متراً، فلا يمكن أن يأتي بمتر يضيفه إلى هذه التسعين، لكن الصبرة من الطعام يمكن أن يأتي بطعام آخر من جنس هذا الطعام، ويكمل الناقص، وكذلك فيما إذا زاد.
لكن ينبغي أن يقال: إذا تبين أنها زائدة عن المقدر، وكان للمشتري غرض في نفس الصبرة، أي: هو مقدر أن هذه الصبرة تكفي الضيوف الذين عنده، فإذا كان البائع يريد أن يأخذ الزيادة، فهي في نظره لا تكفي الضيوف.
فنقول: إن هذا قد فات غرضه فله الخيار، ومقتضى القاعدة السابقة أن من فات غرضه له الخيار؛ لأنها نقصت، إلا إذا قال البائع للمشتري: أنا أكمل لك مائة الكيلو من جنس هذا الطعام، فهنا لا خيار للمشتري؛ لأن غرضه لم يفت، لكن إن قدر أنه فات غرضه بأن تأخر البائع عن التكميل أو أتى بطعام دون الطعام الذي وقع عليه العقد فهنا يكون للمشتري الخيار.(8/260)
بَابُ الخِيارُ
وَهُوَ أَقْسَامٌ: الأوَّلُ خِيَارُ المَجْلِسِ.
قوله: «باب الخيار» .
الخيار اسم مصدر، وفعله اختار، ولا نقول: إنه مصدر؛ لأن مصدر اختار اختيار، وكل كلمة تدل على معنى المصدر، ولكنها لا تتضمن حروف الفعل فإنها تسمى اسم مصدر، مثل كلام اسم مصدر لتكليم، وسلام اسم مصدر لتسليم، وسبحان اسم مصدر لتسبيح، وهلم جرّاً.
والخيار هو الأخذ بخير الأمرين، يقال: اختار، أي: أخذ بخير الأمرين فيما يرى، وإن كان بعضهم يقول: طلب خير الأمرين، إلا أن قولنا: الأخذ بخير الأمرين، هو الأولى؛ لأنه قد لا يكون طالب ومطلوب.
والخيار هنا الأخذ بخير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، سواء كان للبائع أو للمشتري.
قوله: «وهو أقسام» أي: أقسام سبعة، وحصرت الأقسام بسبعة بناءً على التتبع والاستقراء، أي: أن أهل العلم تتبعوا النصوص الواردة في الخيار، فوجدوا أنها لا تخرج عن سبعة أو أنهم رأوا أنهم حصروها في هذا الباب بسبعة، وإن كانت هناك أشياء فيها الخيار لم تذكر في هذا الباب، ومنها آخر مسألة في الفصل الذي قبل هذا، فإنها لم تذكر في باب الخيار.(8/261)
قوله: «الأول: خيار المجلس» الإضافة من باب إضافة الشيء إلى مكانه والمجلس موضع الجلوس، والمراد به هنا: مكان التبايع، حتى لو وقع العقد وهما قائمان، أو وقع العقد وهما مضطجعان، فإن الخيار يكون لهما وهو خيار مجلس؛ لأن المراد بالمجلس مكان التبايع، لا خصوص الجلوس.
يَثْبُتُ فِي الَبيْعِ والصُّلْحِ بِمَعْنَاهُ، وَإِجَارَةٍ، والصَّرْفِ، والسَّلَمِ، دُونَ سَائِرِ العُقُودِ
قوله: «يثبت في البيع» أي: للبائع والمشتري.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا» (1) . وقوله: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منها بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» (2) ، «ما» مصدرية ظرفية يعني مدة عدم تفرقهما، وقوله: «وكانا جميعاً» تأكيد لعدم التفرق، وفيها فائدة وهي ما إذا تبايع رجلان بالهاتف فإنه في هذه الحال لا خيار، بمجرد ما يقول أحد: بعت والثاني يقول: اشتريت وجب البيع.
وقد أخذ بالحديث الأئمة الثلاثة، وأنه يثبت خيار المجلس، وقال مالك: إن المراد به التفرق بالأقوال، وأنه إذا تم العقد فلا خيار في المجلس؛ لأن التفرق بالأقوال يحصل بالقبول
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا بيّن البيعان ولم يكتما (2079) ؛ ومسلم في البيوع/ باب الصدق في البيع (1532) عن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112) ، ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531) (44) عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ.(8/262)
بعد الإيجاب، والبيع من العقود اللازمة التي تلزم من حينها ولكن قوله ـ رحمه الله ـ ضعيف جداً، لأن حمله على التفرق بالأقوال يناقض الحديث؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إذا تبايع الرجلان» ، والتبايع يتم بالإيجاب والقبول، ثم قوله: «ما لم يتفرقا وكانا جميعاً» ، المراد في المجلس.
فالصواب ما عليه الجمهور أن خيار المجلس ثابت ما دام المتعاقدان في المجلس.
والحكمة من خيار المجلس هي أن الإنسان قد يتعجل في بيع الشيء أو شرائه ويقع ذلك منه من غير تروٍّ، فيحتاج إلى أن يعطى هذه الفسحة، وإنما أعطي هذه الفسحة لأنه إذا وقع الشيء في ملك الإنسان فإن الرغبة التي كانت عنده قبل أن يتملكه تقل فجعل الشارع له الخيار، وهذا من حكمة الشارع، ولم يكن طويلاً لانتفاء الضرر.
قوله: «والصلح بمعناه» أي: يثبت الخيار في الصلح الذي بمعنى البيع، فالضمير في قوله: «بمعناه» يعود على البيع، وذلك أن الصلح قسمان، كما سيأتي في بابه، أحد القسمين ما كان بمعنى البيع، مثل أن يقر الإنسان لشخص بمائة صاع من البر، ثم يصالحه المقر له على هذه الأصواع بمائة درهم، فهذه مصالحة بمعنى البيع؛ لأنها معاوضة واضحة فيثبت به الخيار قياساً على البيع.
قوله: «وإجارةٍ» أي: وكذلك يثبت في الإجارة؛ لأن الإجارة بيع منافع، فالرجل إذا أجر آخر بيتاً سنة بمائة، فقد باع(8/263)
عليه منافع هذا البيت، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تبايع الرجلان» (1) ووجه دلالته على ذلك أن نقول: إن الإجارة إما أن تدخل في الحديث بالشمول اللفظي، أو تدخل في الحديث بالشمول المعنوي، فإن كانت الإجارة بيعاً فهي داخلة في الشمول اللفظي، وإن كانت بمعنى البيع وليست بيعاً فهي داخلة في العموم المعنوي، لأنه لا فرق بينها وبين البيع، كلاهما عقد معاوضة.
قوله: «والصرف» أي: ويثبت ـ أيضاً ـ في الصرف؛ لأن الصرف بيع، لكنه بيع خاص بالنقود، فبيع ذهب بفضة صرف، وبيع ذهب بحديد ليس بصرف، والعلماء ـ رحمهم الله ـ خصوا الصرف بباب وأحكام؛ لأنه يختلف عن غيره من أنواع المبيعات، ولذلك نصوا عليه بخصوصه، وإلا فهو من البيع، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» (2) .
قوله: «والسلم» السلم يثبت به خيار المجلس، والسلم أن يسلم الإنسان إلى البائع دراهم مع تأجيل السلعة، مثل أن يقول: الرجل للفلاح أريد أن أشتري منك ثمراً بعد سنة أو سنتين بألف درهم، وهذه ألف الدرهم، هذا يسمى سلماً، ويسمى سلفاً، وكلاهما صحيح، أما تسميته سلماً؛ فلأن المشتري أسلم الثمن، وأما تسميته سلفاً؛ فلأنه قدم، والسلف بمعنى المقدم، ومنه قولنا: السلف الصالح؛ لأنهم متقدمون، فالسلم يثبت فيه خيار
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة (2134) ومسلم في البيوع/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1586) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.(8/264)
المجلس، لأنه بيع، وإن كان له أحكام خاصة فيدخل في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا تبايع الرجلان» ، فكل واحد منهما بالخيار.
قوله: «دون سائر العقود» ؛ وذلك لأن الأصل أن العقد بمجرد انعقاده يترتب عليه مقتضاه، خولف في البيع لورود النص فيه فيبقى ما عداه على الأصل، مثل: الرهن، والوقف، والهبة، والمساقاة، والحوالة، والعتق، والنكاح، وما أشبه ذلك، فهذه ليس فيها خيار مجلس؛ وذلك لأن هذه العقود لا تخلو من حالين:
الأولى: أن تكون من العقود الجائزة، فهذه جوازها يغني عن قولنا إن فيها الخيار؛ لأن العقد الجائز يجوز فسخه حتى بعد التفرق، سواء في مجلس العقد أو بعده.
الثانية: أن تكون من العقود النافذة، التي لقوة نفوذها لا يمكن أن يكون فيها خيار، مثل العتق والوقف.
أما المساقاة: فقيل إنها عقد جائز، وعلى هذا فلا خيار فيها؛ لأن المتساقين كل منهما له أن يفسخ.
والمساقاة أن يدفع الإنسان بستانه لشخص فلاح عامل، ويقول: خذ هذا اعمل فيه ولك نصف ثمره، فالمشهور من المذهب أنها عقد جائز، فللعامل أن يفسخ، ولصاحب البستان أن يفسخ، إذاً لا حاجة أن نقول: له خيار مجلس؛ لأن الخيار ثابت، سواء كانوا في مجلس العقد أو بعده، وعلى هذا يمكن أن نأخذ من ذلك قاعدة وهي أن كل عقد جائز فليس فيه خيار المجلس، لأنه يستغنى بجوازه عن الخيار، ما دام أن الإنسان يملك أن يفسخ هذا العقد ولو بعد التفرق فلا حاجة أن نقول: فيه خيار مجلس.(8/265)
والرهن وهو عقد لازم من أحد الطرفين، وجائز من أحد الطرفين، فمن له الحق، فهو في حقه جائز، ومن عليه الحق فهو في حقه لازم.
مثاله: استقرضت من شخص مالاً فطلب مني رهناً فأعطيته كتاباً، فهذا الرهن من قبلي أنا لازم، ومن قبل صاحب الحق جائز؛ لأن له أن يفسخ الرهن، ويقول: خذ كتابك، ويبقى الدين في ذمتي ديناً مرسلاً.
العتق: لو أعتق الإنسان عبده ثم أراد فسخه في نفس المجلس لم يصح؛ لقوة نفوذه، ومثله الوقف؛ لأن الوقف أخرجه الإنسان لله فلا خيار فيه، ومثله الهبة إذا قبضت لا خيار فيها؛ لأنها ليست عقد معاوضة.
وَلكُلٍّ مِنْ المُتَبَايِعَينِ الخِيَارُ مَا لَمْ يَتَفَرّقَا عُرْفاً بِأبْدَانِهِمَا وَإِنْ نَفَيَاهُ أَوْ أسْقَطَاهُ سَقَطَ وَإِنْ أسْقَطَهُ أحَدُهُمَا بَقِي خِيَارُ الآخَرِ،......
قوله: «ولكل من المتبايعين» ، وهما البائع والمشتري، سُمِّيا متبايعين؛ لأن كل واحد منهما يمد باعه إلى الآخر لتسليم ما انتقل عنه، فالبائع يمد يده لتسليم المثمن، والمشتري يمد يده لتسليم الثمن واستلام ما آل إليه.
قوله: «الخيار ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما» أي: لكل منهما الخيار ما لم يتفرقا، والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» (1) ، فإن تفرقا فلا خيار، ولكن بماذا يكون التفرق، هل هو محدود شرعاً؟
الجواب: يقول العلماء: إنه محدود عرفاً؛ لأن الشرع لم
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .(8/266)
يحدده، وكل شيء يأتي به الشرع من غير تحديد، فإنه يرجع فيه إلى العرف، كما قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد (1)
ولهذا قال المؤلف: «ما لم يتفرقا عرفاً بأبدانهما» .
ولكن كيف التفرق عرفاً؟.
الجواب: ننظر، فإذا كانا يمشيان من الجامع إلى المعهد العلمي فباعه عند الجامع، وجعلا يمشيان إلى المعهد العلمي، وهذا المشي يستغرق ثلث ساعة على الأقل، فهذان الرجلان لهما الخيار حتى يتفرقا عند المعهد، فما داما يمشيان جميعاً مصطحبين فلهما الخيار.
وإذا كانا في حجرة وتبايعا، ثم خرج أحدهما من الحجرة إلى الحمام لقضاء الحاجة فقد تفرقا؛ لأن المجلس الأول انتهى.
وإذا كانا في الطيارة متجهين إلى محل بعيد، مقداره ثلاث عشرة ساعة وتبايعا عند إقلاعها، ولا تهبط إلا بعد ثلاث عشرة ساعة، فتكون مدة الخيار ثلاث عشرة ساعة ما داما لم يتفرقا، وحل هذه المشكلة أن يتبايعا على أن لا خيار، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» (2) ، ومعنى ذلك أن يسقطا الخيار، فيتبايعا على أن لا خيار، وأنه بمجرد الإيجاب والقبول يلزم البيع ولا خيار.
__________
(1) «منظومة أصول الفقه وقواعده» لشيخنا ـ رحمه الله ـ ص (3) .
(2) سبق تخريجه ص (262) .(8/267)
مسألة: فإن لم ينفياه في العقد، وبعد مضي عشر دقائق، قال: يا فلان فلنقطع الخيار؛ لأنه خاف أن يفسخ صاحبه البيع فقطعاه صح؛ لأن الحق لهما وقد أسقطاه، فإن أبى أحدهما لم يصح، لكن هل يسقط خيار الآخر الذي قال: سنسقط الخيار؟
الجواب: في الحديث «أو يخير أحدهما الآخر» (1) ، فإن خير أحدهما الآخر، أي: جعل الخيار له وحده، سقط خيار الذي أسقط خياره، والظاهر أن طلب إسقاط الخيار ليس إسقاطاً للخيار.
مسألة: لو أنه خاف أن يفسخ البيع، فهل يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله؟
الجواب: في مفارقته المكان إسقاط لحق أخيه الذي جعله الشرع له، فيكون هذا كالتحيل على إسقاط الشفعة في الشقص المبيع، وما أشبه ذلك، وعلى كل حال هو تحيل على إسقاط حق أخيه.
فإن قال قائل: الحديث عام ما لم يتفرقا وليس فيه تفصيل.
قلنا: المراد التفرق الذي لم يقصد به إسقاط حق الآخر، فإن قصد به إسقاط حق الآخر فالأعمال بالنيات، ولهذا جاء في الحديث: «ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/183) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في خيار المتبايعين (3456) ؛ والترمذي في البيوع/ باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (1247) ؛ والنسائي في البيوع/ باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما (7/252) ؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وحسنه الترمذي، وفي «الإرواء» (5/155) : (حسن) .(8/268)
قوله: «وإن نفياه» أي: نفيا الخيار قبل ثبوته، وكيفية النفي أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما، فيقول: أنا سأبيع عليك، لكن لا خيار بيننا، فقال: لا بأس، فيسقط الخيار، ويقع العقد لازماً بمجرد الإيجاب والقبول.
قوله: «أو أسقطاه سقط» بعد ثبوته، أي: بعد أن تم العقد ومضى دقيقة أو دقيقتان أو عشر دقائق، اتفقا على إسقاط الخيار فإنه يسقط، والتعليل أن الحق لهما، فإذا رضيا بإسقاطه سقط.
فإن قال قائل: إن هذا الشرط يحرم ما أحل الله؛ لأن الله أحل لكل منهما الفسخ، فإذا شرطا أن لا خيار أو أسقطاه، فهذا تحريم ما أحل الله.
قلنا: هذا التحريم ليس لحق الله، بل لحق الآدمي، وحق الآدمي الأمر فيه إليه، فإذا أسقطاه بعد العقد أو نفياه مع العقد فلا بأس.
قوله: «وإن أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر» أي: إذا تم العقد، وقال: أحدهما أسقطت خياري، أو طلب منه الآخر أن يسقط خياره فأسقطه، بقي خيار صاحبه، ويدل لذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» (1) . فدل ذلك
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .(8/269)
على أنه يصح أن يسقط أحدهما الخيار عنه لصاحبه.
وَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُه لَزِمَ البَيْعُ
الثّانِي: أنْ يَشْتَرِطَاهُ فِي العَقْدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَلَو طَوِيْلَةً وابتِدَاؤُهَا مِن العَقْدِ.
قوله: «وإذا مضت مدته لزم البيع» عبارة المؤلف توهم أن خيار المجلس له مدة معينة إذا مضت بطل، ولكن هذا ليس مراداً للمؤلف، بل مراده إذا كان التفرق، ولو قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: وإذا تفرقا لزم البيع، لكان أولى لموافقة الحديث لقوله: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» (1) .
وقوله: «لزم البيع» أي: وقع لازماً، ليس لأحدهما فسخه إلا بسبب، وهذه المسألة مجمع عليها، ومستند الإجماع، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فقد وجب البيع» ، واللزوم هنا من الطرفين، أي: يلزم من جهة المشتري، ومن جهة البائع، وبهذا عرفنا أن البيع من العقود اللازمة.
والعقود ثلاثة أقسام:
الأول: لازمة من الطرفين.
الثاني: جائزة منهما.
الثالث: لازمة من أحدهما دون الآخر.
فاللازمة من الطرفين لا يمكن فسخها إلا برضاهما، أو بسبب شرعي آخر، مثل: البيع والإجارة.
والجائزة من الطرفين يجوز فسخها برضاهما أو بغير رضاهما، كالوكالة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .(8/270)
والجائزة من طرف واحد كالرهن، فهو جائز من قبل المرتهن، لازم من قبل الراهن؛ لأن الراهن لا يمكنه أن يفسخ الرهن، أما المرتهن فله أن يفسخه.
مسألة ذكرها العلماء: قالوا: إذا تولى واحد طرفي العقد فمتى يكون الخيار؟
يقولون: ليس فيه خيار؛ لأننا لو قلنا له الخيار بقي البيع جائزاً؛ لأنه لا يمكن أن يفارق الشخص نفسه.
مثاله: وكلتك أن تشتري لي كتاباً ووكلك آخر أن تبيعه له، فقلت: اشتريت الكتاب من فلان لفلان، فهنا تولى الوكيل طرفي العقد، والصحيح أن تولي طرفي العقد فيه الخيار ويكون المدار على مفارقة هذا الرجل للمكان الذي أمضى فيه البيع، فإذا قال الوكيل: اشتريت هذا الكتاب من فلان لفلان، ثم قام ومشى فالآن لزم البيع.
قوله: «الثاني» أي من أقسام الخيار.
قوله: «أن يشترطاه» «الثاني» : مبتدأ، وجملة «أن يشترطاه» ، «أن» وما دخلت عليه في تأويل المصدر خبر المبتدأ، فنفهم من قول المؤلف: «الثاني: أن يشترطاه» أن هذا القسم خيار شرط، أي: الأصل عدمه إلا إذا اشترط؛ لأن إضافته إلى الشرط من باب إضافة الشيء إلى سببه، فهذا خيار الشرط.
وقوله: «أن يشترطاه» الفاعل المتبايعان فلا بد أن يكون الشرط من البائع والمشتري، والمفعول به الهاء تعود على الخيار، وهذا القسم دل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله(8/271)
فهو باطل» (1) ، فمفهوم هذا الحديث أن كل شرط في كتاب الله فهو صحيح، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (2) ، ويمكن أن يستدل له من القرآن في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والأمر بالوفاء بالعقد أمر بالوفاء بالعقد وما يشترط فيه؛ لأن الشروط التي في العقد أوصاف في العقد.
قوله: «في العقد» في للظرفية، فيقتضي أن يكون هذا الشرط في نفس العقد، أي: في صلب العقد، وليس قبله وليس بعده، لكن تقييد ذلك في صلب العقد فيه نظر.
والقول الثاني: أنه يصح في صلب العقد، وفي زمن الخيارين؛ لأن حال الخيار كحال العقد.
والقول الثالث: أنه يصح قبل العقد وفي صلب العقد وفي زمن الخيارين؛ لأن الحق لهما، فإذا اشترطاه، ورضي كل واحد منهما بذلك فلا بأس، فلو قال: أنا أشتري منك البيت، لكن اجعل لي الخيار لمدة شهر، فقال: لا بأس، ثم قال: بعتك البيت بمائة ألف، فقال: قبلت، فهنا يصح الشرط؛ لأنه حق لهما وقد اتفقا عليه، وهذا مثل ما سبق في الشروط في البيع.
إذاً قول المؤلف: «في العقد» ، يقتضي أنه لا يصح شرطه قبل العقد ولا بعد العقد، وظاهره ولو في زمن خيار المجلس أو الشرط.
فلو اتفقا على الشرط قبل العقد ما صح؛ لأنه إضافة شرط قبل وجود السبب، والسبب هو العقد، ولا خيار بدون عقد، والشيء قبل وجود سببه ملغى ولا عبرة به، ولو اتفقا عليه بعد
__________
(1) سبق تخريجه ص (189) .
(2) سبق تخريجه ص (224) .(8/272)
انتهاء زمن الخيار ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأنه إلحاق شرط بعد اللزوم، واللازم لا ينقلب جائزاً، وهذا الشرط مخرج للعقد عن مقتضاه الشرعي فلا يصح.
والصحيح أنه يصح قبل العقد؛ لأننا نقول: العقد هنا مبني على اتفاق سابق، وأنتم تجوِّزون في باب النكاح لو اشترط الزوج على الزوجة شرطاً، أو الزوجة على الزوج شرطاً قبل العقد فإنه يصح، وكذلك في شروط البيع السابقة إذا شرطت قبل العقد، فإن فيها وجهاً قوياً بالصحة، وعلى هذا نقول: الخيار نوع من الشروط، ولا فرق، ما دمنا نحن متفقين عند العقد أن لكل واحد منا الخيار شهراً، ما الذي يبطل هذا؟! وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
كذلك ـ أيضاً ـ الخيار بعد اللزوم، فاللزوم بالتفرق ـ مثلاً ـ من حق المتعاقدين، فإذا رضيا بعد التفرق أن يجعلا أجلاً معيناً لكل منهما الخيار فهو من حقهما، مثل ما يجوز أن يجعلا هذا الخيار عند العقد، فما الذي يمنعه بعد لزومه وهو من حقهما؟! فالصواب في هذه المسألة أنهما إذا ألحقا شرط الخيار بعد لزوم البيع فلكل منهما الخيار، فإن قال قائل: هذا يقتضي أن يكون العقد اللازم جائزاً، وهذا ينافي حكم الشرع.
قلنا: المنافاة نوعان: منافاة مطلقة ومطلق منافاة، أما المنافاة المطلقة، فنعم لا تصح، وأما مطلق المنافاة فتصح، فهنا سيجعل عقد البيع جائزاً إلى مدة لا دائماً، أليس الرجل إذا اشترى شيئاً ملكه ومنافعه من حين العقد، ومع ذلك لو شرط(8/273)
البائع منافع المبيع لمدة سنة فإنه يجوز، وهنا نافى مطلق العقد لا العقد المطلق، لأنه لو كان العقد على كماله وتمامه ما استحق البائع المنافع ولو يوماً واحداً، ثم هذا قد تدعو الحاجة إليه.
وكذلك يصح شرط الخيار مع العقد، وبعد العقد، وزمن الخيار، إما خيار الشرط وإما خيار المجلس، لكن كيف في خيار الشرط؟ الجواب: أن يدخل شرطاً على آخر، مثل: أن يقول: اشتريت منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فلما صار اليوم الثالث، قال: أريد أن أمدد الخيار إلى ستة أيام فله ذلك؛ لأن العقد لم يلزم الآن، فلا يلزم إلا بعد انتهاء مدة الخيار.
قوله: «مدة معلومة ولو طويلة» علم من هذا أنه لا بد أن تكون المدة معلومة، بأن يقول: إلى دخول شهر رجب أو يوم كذا أو سنة كذا، لو قال إلى وقت الحصاد والجذاذ، فالمذهب أنه لا يصح؛ لأن الحصاد يختلف، فمن الناس من يحصد مبكراً، ومنهم من يحصد متأخراً، وكذلك الجذاذ ـ جذاذ النخيل ـ يختلف فلا يصح؛ لأنه غير معلوم، والقول الثاني يصح ويكون الحكم متعلقاً بغالبه أو بأوله والمسألة متقاربة، وهذا هو الصحيح.
وقوله: «مدة معلومة» يُخرج المدة المجهولة، واختار ابن القيم أنه تجوز المدة المجهولة إذا كان لها غاية مثل أن يقول: أبيعك هذا البيت ولكن لي الخيار حتى أشتري بيتاً، فهذا له غاية، ولكن وإن قلنا: إن هذا له وجه ينبغي أن يحدد أعلاه بأن يقول: لي الخيار حتى أشتري بيتاً ما لم يتجاوز الشهر مثلاً؛ دفعاً للمماطلة.(8/274)
والمدة إذا كانت مجهولة دخل ذلك في الغرر، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع الغرر (1) ؛ ولأن المدة المجهولة يحصل فيها نزاع وخصومة، وكل شروط أو عقود تستلزم ذلك فإنها ملغاة في الشرع.
فإن شرطاه إلى مدة مجهولة وتبايعا على ذلك، وقلنا: إن الخيار فاسد، فهل لمن فات غرضه الخيار؟
نعم، سبق لنا في باب الشروط في البيع أن كل شرط فاسد لا يفسد العقد، فإن من اشترطه له الخيار إذا فات عليه.
وقوله: «مدة معلومة ولو طويلة» أي لو فرض أنه جعل خيار الشرط لمدة شهر أو سنة أو سنتين فلا بأس.
فإن قال قائل: إن هذا الشرط ليس في كتاب الله، لأنه يستلزم أن يكون العقد اللازم عقداً جائزاً؛ لأنه لو كان مدة الخيار شهراً ـ مثلاً ـ فلكل منها أن يفسخ، فهذا يكون منافياً لمقتضى العقد فيكون باطلاً.
فالجواب: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمتعاقدين إسقاط خيار المجلس، وفي إسقاط خيار المجلس تنقيص للمدة التي يكون العقد فيها جائزاً، وهذا فيه زيادة للمدة التي يكون العقد فيها جائزاً ولا فرق بين الزيادة والنقص، بل قد يقال: إن الزيادة أرفق بالمتعاقدين من قطع ما هو لهما.
وظاهر كلام المؤلف: حتى فيما يفسد قبل تمام المدة، مثل
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .(8/275)
أن يشتري منه بطيخاً، وقال: لي الخيار لمدة أسبوع فيصح، فإذا خيف فساده بيع، ثم إن أُمضي البيع فالقيمة للمشتري، وإن فسخ البيع فالقيمة للبائع، ويرجع المشتري بثمنه، هكذا قالوا.
ولكن لو قيل: إنه إذا شرط الخيار في شيء يفسد قبل تمام المدة لا يصح لكان له وجه؛ لأنه إذا بيع فإن كانت القيمة أكثر، فسوف يختار المشتري الإمضاء، وإن كانت أقل فسوف يختار الفسخ، وحينئذٍ يكون ضرر على أحد الطرفين.
قوله: «وابتداؤها من العقد» أي: ابتداء مدة الخيار من العقد؛ لأنها شرطت في العقد فيكون ابتداؤها من العقد، فإذا عقد في تمام الساعة الثانية عشرة عند زوال الشمس، وجعل الخيار يوماً فانتهاؤه عند الساعة الثانية عشرة من اليوم التالي.
فإن قيل: ألا يقال: ابتداؤها من التفرق؛ لأن ما قبل التفرق ثابت بالشرع لا بالشرط؟
فيقال: بل من العقد؛ لأنه لا يمنع أن يتوارد سببان على شيء واحد فيكون ما بين العقد والتفرق ثابتاً بالشرع والشرط، ولا مانع.
لكن إن قال: لي الخيار ثلاثة أيام بعد التفرق فحينئذٍ يكون ابتداؤه من التفرق، على أنه لو قال قائل: لي ثلاثة أيام من التفرق لا يصح؛ لأن التفرق أمده مجهول، فيكون الأمد الذي قيد ابتداؤه به مجهولاً، لكن مثل هذا يتسامح فيه، وغالباً أن التفرق يكون قريباً.
وقوله: «ابتداؤها من العقد» لو شرط الخيار بعد العقد(8/276)
بساعة وهما في مكان البيع، فهل تبتدئ المدة من العقد أو من حين الشرط؟ نقول: من حين الشرط، لكن المؤلف قال: «من العقد» ؛ لأنه يرى أن خيار الشرط إنما يكون في صلب العقد، ولهذا قال: «وابتداؤها من العقد» .
وَإِذَا مَضَتْ مُدَّتُهُ أَوْ قَطَعاهُ بَطَلَ وَيَثْبُتُ فِي البَيْعِ والصُّلْحِ بِمَعْنَاهُ، وَالإجَارَةِ فِي الذّمّة، أو عَلَى مُدّةٍ لاَ تَلِي الْعَقْدَ..........
قوله: «وإذا مضت مدته» أي: مدة خيار الشرط.
قوله: «أو قطعاه بطل» «بطل» جواب الشرط للمسألتين كلتيهما، أي: المسألة الأولى «إذا مضت مدته» ، والمسألة الثانية «إذا قطعاه» ، ولا يصح أن نقول: إذا مضت مدته بطل؛ لأنه تمت المدة ومضت على أنها صحيحة، فلو قال: إذا مضت مدته لزم البيع، وإن قطعاه بطل لكان أحسن؛ لأن بطلانه بعد تمامه لا وجه له، لكن قد يعتذر عن المؤلف ـ رحمه الله ـ بأنه أراد بذلك الاختصار.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو قطعاه، أي: في أثناء المدة اتفقا على إلغاء الخيار فإن ذلك صحيح؛ لأن الحق لهما، مثل: أن يقول: اشتريت منك هذا الشيء ولي الخيار لمدة شهر، وفي أثناء الشهر قالا: نريد إلغاء هذا الشرط، حتى يكون لنا التصرف الكامل فلا بأس.
مثال آخر: بعت هذا البيت على رجل بمائة ألف والخيار لمدة شهر، وبعد مضي نصف الشهر جاء إليَّ المشتري، وقال: نريد أن نقطع الخيار حتى أتصرف بما شئت، وأنت ـ أيضاً ـ تتصرف في الثمن، فوافق البائع فإنه يكون ملغى ويبطل؛ ووجه ذلك أن الحق لهما، فإذا أسقطاه سقط ولا محذور في إسقاطه، فإن مات أحدهما فإن الخيار يكون لورثته؛ لأن المبيع انتقل بحقوقه إلى ورثته، فيكون الخيار لهم.(8/277)
قوله: «ويثبت في البيع والصلح بمعناه» سبق أن خيار المجلس يثبت في البيع، ويثبت ـ أيضاً ـ في الصلح بمعناه، وقد سبق ـ أيضاً ـ معنى الصلح بمعناه، وهو الصلح على إقرار، مثل أن يقر له بعين أو بدَين، ثم يصالحه على بعضه أو على عين أخرى، أو ما أشبه ذلك، فهذا صلح بمعنى البيع.
قوله: «والإجارة في الذمة» الإجارة في الذمة، مثل أن يؤجره على خياطة ثوب، فيقول: خط لي هذا الثوب بعشرة ريالات، فهذه إجارة على عمل في الذمة، فقال: لي الخيار لمدة يومين فالشرط صحيح، لأنه لا محظور فيه؛ إذ إن هذه إجارة على عمل، والعمل يثبت في الذمة.
قوله: «أو على مدة لا تلي العقد» إذا كان على مدة بأن قال: أجّرتك هذا البيت بمائة ريال سنة من الآن، فإن كانت تلي العقد فإن خيار الشرط فيها لا يصح، وإن كانت لا تلي العقد فإنه يصح، ولو قال المؤلف: ابتداؤها بعد انتهاء الخيار لكان أوضح، وهذا يخالف خيار المجلس؛ لأن خيار المجلس يثبت في الإجارة على المدة مطلقاً، أما خيار الشرط فيثبت في الإجارة على مدة بشرط أن تكون ابتداء المدة بعد انتهاء زمن الخيار، على رأي المؤلف.
مثال الإجارة على عمل: قال: آجرتك على أن تحمل لي الحطب إلى بيتي، قال: لا بأس، وتم العقد على أن له الخيار لمدة يوم أو يومين، فيصح الشرط؛ لأنه على عمل وليس فيه ضرر ولا تفوت منفعة وليس فيها محظور إطلاقاً.(8/278)
مثال على المدة: قال: آجرتك هذا البيت لمدة سنة بمائة ريال، وابتداء المدة من العقد، قال: لا بأس لكن لي الخيار لمدة عشرة أيام، فهذا لا يصح الشرط.
مثال آخر: قال: آجرتك بيتي هذا لمدة سنة بمائة ريال، على أن تبتدئ المدة في أول يوم من رجب، والخيار بيننا إلى خمس وعشرين من شهر جمادى الثانية، ونحن الآن في الليلة الثانية عشرة، فيجوز؛ لأن ابتداء مدة الإيجار بعد انتهاء مدة خيار الشرط وليس فيها ضرر.
ولكن لماذا لا يصح خيار الشرط في إجارة تبتدئ من العقد؟
التعليل؛ لأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين: إما تعطيل المنافع، أو استيفاؤها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز.
الآن إذا قلت: أجرتك بيتي لمدة سنة بعشرة آلاف على أن لي الخيار شهراً، هذا الشهر الذي يمضي ما ندري هل يكون لصاحب البيت أو يكون للمستأجر؟ لأنه إن بقيت الإجارة صار للمستأجر، وإن فسخت الإجارة صار لصاحب البيت، وحينئذٍ تكون هذه المدة التي فيها الخيار لا يعلم لمن هي، فكان الأمر متردداً بين أن تكون الإجارة في مدة الخيار للمؤجر أو للمستأجر، وهذا يؤدي إلى الغرر وما أدى إلى الغرر فهو باطل.
وهذا التعليل عليل، والصحيح أنه يجوز اشتراط الخيار، ولو على مدة تلي العقد، ولو في خيار لا ينتهي إلا بعد بدء المدة التي لا تلي العقد.(8/279)
مثال ذلك: قال: آجرتك بيتي مدة سنة بمائة ريال، ابتداء من اليوم، قال: نعم لكن لي الخيار لمدة شهر، فعلى كلام المؤلف وهو المذهب لا يصح؛ لأن المدة تلي العقد، وعلى القول الراجح يصح، فالعقد تم وسكن المستأجر، وبعد مضي عشرين يوماً فسخ الإجارة، فنقول: لا بأس، وعليك أجرة المثل في المدة التي سكنتها، فالآن لم يفت شيء لا على المستأجر ولا على المؤجر، وإنما قلنا: على المستأجر أجرة المثل وليس عليه القسط من الأجرة؛ لأن العقد بعد فسخه رُفع من أصله وتبين أنه لا عقد، والإنسان إذا استوفى منافع من غيره فعليه أجرة مثله، وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة؛ لأن هذا في الحقيقة لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، ولا يضيع لأحدهما حقاً، وكل منهما رضي بهذا الشرط؛ لأنه في الحقيقة سوف يعطي صاحب البيت حقه، وسوف يستوفي المستأجر حقه أيضاً، فليس فيه غرر.
وهذا قد تدعو الحاجة إليه، فقد تدعو الحاجة إلى أن يستأجر هذا البيت لمدة سنة بكذا وكذا، يقول: ولي الخيار لمدة شهر؛ لأن بيتي الآن يعمر وربما ينتهي قبل الشهر، فالصواب أنه يصح خيار الشرط، ولو على مدة تلي العقد، أو على مدة تبتدئ قبل انتهاء وقت خيار الشرط، وإذا فسخ من له الخيار، فإن المدة التي سكنها تقدر عليه بأجرة المثل.
وسكت المؤلف عن أشياء مرت في خيار المجلس ولم يذكرها، مثل الصرف، فذكر أن خيار الشرط يثبت في البيع ولم يذكر أن خيار الشرط يثبت في الصرف؛ لأنه يشترط في الصرف(8/280)
التقابض قبل التفرق؛ لأن الشارع إنما اشترط القبض قبل التفرق؛ لئلا يبقى لكل منهما علقة فيما تصرف فيه، فشرط الخيار ينافي ذلك، فلهذا لا يصح خيار الشرط فيما قَبْضُهُ قبل التفرق شرط لصحته.
ولكن الصحيح ثبوته في الصرف، ونقول: اقبضا قبل التفرق، ويبقى بأيديكما على حسب ما اشترطتما، فإما أن تمضيا البيع، وإما أن تفسخاه؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (1) ، وقوله: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (2) .
وَإِنْ شَرَطَاهُ لأحَدِهمَا دُونَ صَاحِبِه صَحّ، وَإِلَى الغَدِ أوْ اللّيْلِ يَسْقُطُ بِأوَّلِهِ وَلِمِنْ لَهُ الخِيَارُ الفَسْخُ وَلَوْ مَع غَيْبَة الآخَرِ وَسَخَطِهِ، وَالمِلْكُ مُدَّةَ الخِيَارَينِ لِلمُشْتَرِي.....
قوله: «وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح» الألف في قوله: «شرطاه» تعود على المتعاقدين، والضمير «الهاء» يعود على خيار الشرط، أي: شرط المتبايعان الخيار «لأحدهما» ، أي: للبائع أو للمشتري، «دون صاحبه» صح وسقط خيار الآخر.
ويدل لذلك ما سبق من أدلة جواز خيار الشرط مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» ، ويدل عليه ـ أيضاً ـ حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أو يخير أحدهما صاحبه» (3) ، فما دام الحق لهما، وشرطاه لأحدهما دون الآخر فهو صحيح، وإن لم يشترطاه لأحدهما، ولا لهما نفذ البيع، فلا خيار.
قوله: «وإلى الغد أو الليل يسقط بأوله» أي إذا قال: لي
__________
(1) سبق تخريجه ص (224) .
(2) سبق تخريجه ص (189) .
(3) سبق تخريجه ص (262) .(8/281)
الخيار إلى الغد، أو لي الخيار إلى الليل فيسقط بأوله؛ لأن الغاية ابتداؤها داخل وانتهاؤها غير داخل، فإذا قال: «إلى الغد» لم يدخل الغد، فينتهي الخيار بطلوع الفجر.
و «إلى الليل» لا يدخل الليل، فينتهي الخيار بغروب الشمس؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] .
وقال بعض العلماء: يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا قال: إلى الغد، فيمكن أن يحمل على ابتداء السوق، وابتداء الأسواق في الغالب لا يكون من أذان الفجر؛ بل من ارتفاع الشمس، وخروج الناس إلى الأسواق.
وهذا هو الصحيح، فإذا كان عرف التجار أنهم إذا قالوا: «إلى الغد» ، أي: إلى افتتاح السوق، فالأمد إلى افتتاح السوق، نعم إذا لم يكن هناك عرف أو كان العرف غير مطرد فنرجع إلى اللغة، واللغة أن الغد يبتدئ من طلوع الفجر، وإلى الليل إلى غروب الشمس، فإن قدر أن هناك عرفاً يجتمع التجار فيه بعد العشاء، ويرون أن الآجال المؤجلة في الليل، أي: جلسة ما بعد العشاء فإنه يتقيد به، وهذه قاعدة ينبغي أن نعرفها «أن المرجع فيما يتداوله الناس من الكلام والأفعال إلى العرف» ، فإن لم يكن عرف أو كان العرف مضطرباً، رجعنا إلى اللغة ما لم يكن للشيء حقيقة شرعية، فإن كان للشيء حقيقة شرعية، فهي مقدمة على كل الحقائق.
قوله: «ولمن له الخيار الفسخ ولو مع غيبة الآخر وسخطه» أي: الذي له الخيار سواء كان البائع أو المشتري أو كليهما، فله(8/282)
الفسخ، سواء كان بحضور الآخر أو غيبته أو رضاه أو كراهته؛ لأن الحق له، فإذا تبايعا هذه الدار وجعلا الخيار لهما لمدة عشرة أيام، ثم إن أحدهما فسخ، فقال الآخر: لا أرضى أنا لي الخيار أيضاً، وأنا لم أفسخ فينفسخ ولو لم يرض، ولا يشترط أيضاً علم الآخر بالفسخ؛ لأن القاعدة الفقهية: «أن من لا يشترط رضاه لا يشترط علمه» ، ولهذا يجوز للرجل أن يطلق زوجته وإن لم تعلم؛ لأنه لا يشترط رضاها، وإذا لم يشترط رضاها، فلا فائدة من اشتراط العلم.
ولكن كيف يفسخ في غير حضرته؟
الجواب: يُشهد أو يكتب كتابة ويرسلها له بالبريد أو يودعها عند إنسان ثقة، على أنه في اليوم الفلاني قد فسخ عقد البيع الذي اتفق عليه مع فلان ... إلخ.
وقوله: «ولو مع غيبة الآخر وسخطه» والتعليل ما يلي:
أولاً: لأن الحق له.
ثانياً: أنه لا يشترط علم صاحبه، فلا يشترط رضاه، ولهذا يجوز أن يفسخ ولو مع غيبة صاحبه، لكن ينبغي أن يقال: يشهد على الفسخ؛ لئلا يقع النزاع بين البائع والمشتري، فيحصل في ذلك فتنة وعداوة وبغضاء.
قوله: «والملك مدة الخيارين للمشتري» فالمِلك، أي: ملك المبيع و «مدة الخيارين» ، أي: خيار المجلس، وخيار الشرط «للمشتري» (1) ، وإن لم تتم مدة الخيار فله غنمه وعليه غرمه،
__________
(1) وهذا هو المذهب.(8/283)
ولهذا لو تلف ولو بدون تعد أو تفريط، فالضمان على المشتري؛ لأنه ملكه، والدليل على هذا أمران: الأثر والنظر.
أما الدليل الأثري: فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) ، فقوله: «ماله للذي باعه» ، أي: من حين العقد؛ لأن البيع يتم بمجرد الإيجاب والقبول «إلا أن يشترطه المبتاع» فيكون للمبتاع الذي هو المشتري؛ لأن أصل هذا المال وهو العبد ملك للمشتري بمجرد العقد، هذا هو الدليل والدلالة فيه خفية جداً، فكون المال لم يدخل للمشتري إلا بشرطه، يدل على أن العبد قد دخل ملكه بدون شرط بل بمجرد العقد.
ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة، هل الملك مدة الخيارين للبائع أو للمشتري أو في ذلك تفصيل؟
فقيل: إنه للبائع؛ لأن البيع لم يلزم بعد؛ إذ أنه لا يلزم حتى تتم المدة قبل الفسخ، وعلى هذا فيكون الملك للبائع.
وقيل: إنه منتظر، فإن تبين الإمضاء فهو للمشتري، وإن فسخ فهو للبائع، وهذا القول من حيث النظر قوي، لكن قد يقال: إن الحديث مقدم على النظر، وهو أن الملك يثبت بمجرد البيع والشراء، يعني بمجرد الإيجاب والقبول، فهذا هو الدليل الأثري.
أما الدليل النظري: فلأن هذا المبيع لو تلف لكان من ضمان المشتري، وإذا كان من ضمانه فكيف نجعل عليه الغرم،
__________
(1) سبق تخريجه ص (61) .(8/284)
ولا نجعل له الغنم؟! فالصحيح ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الملك من حين تمام القبول بعد الإيجاب يكون للمشتري.
وَلَهُ نَماؤُهُ المُنْفَصِلُ وَكسْبُهُ، وَيَحْرُمُ وَلاَ يَصِحُّ تَصَرُّفُ أحَدِهِمَا فِي الْمَبِيعِ وَعِوَضِه المُعَيَّنِ فِيْهَا
قوله: «وله نماؤه المنفصل» «له» أي: للمشتري «نماؤه» أي: نماء المبيع، «المنفصل» الذي ينفصل عن المبيع، احترازاً من المتصل، فالمنفصل على اسمه، ما ليس متصلاً بالمبيع، مثل: اللبن، والولد، والثمرة، والنماء المتصل ما لا يمكن انفكاكه عن الأصل، مثل: السمن، وتعلم الصنعة، والصحة بعد المرض، وزوال العيب بعد وجوده، هذا نسميه نماء متصلاً؛ لأنه لا يمكن انفكاكه عن العين، فالنماء المنفصل للمشتري، والنماء المتصل للبائع.
مثال ذلك: اشترى شاة بمائة درهم، واشترط الخيار لمدة شهر، وهذه الشاة فيها لبن، ويأخذ منها كل ليلة ما شاء الله من اللبن، فاللبن للمشتري؛ لأنه نماء منفصل.
وهذه الشاة سمنت وصارت ذات لحم وشحم، فهذا الشحم واللحم للبائع؛ لأنه نماء متصل لا يمكن تخليصه من الأصل، فيكون تبعاً له ويثبت في التابع ما لا يثبت في المستقل.
ولو اشترى شاة حاملاً وفي أثناء الخيار وضعت؟
نقول: إن نشأ الحمل في زمن الخيار فهو نماء منفصل للمشتري، وأما إذا كان قد وقع عليه العقد فهو أحد المبيعين، فيكون للبائع؛ ولهذا لو ردها لرد الولد معها لأن الولد قد وقع عليه العقد.
قوله: «وكسبه» أي: الذي يحصله المبيع، إذا قدر أن(8/285)
المبيع عبد واشترط المشتري الخيار لمدة أسبوع، وفي هذا الأسبوع كسب العبد بأن باع واشترى، فكسب في مدة الأسبوع مثلاً ألف درهم، فالألف للمشتري؛ لأن الكسب نماء منفصل.
وهذا العبد اشتراه وهو هزيل؛ لأنه يأكل وجبة ويحرم من وجبة عند بائعه، فلم يكن عليه لحم، فجاء عند المشتري ووجد ما شاء الله من الأكل، وراحة البال، فسمن في خلال أسبوع فهذا النماء للبائع؛ لأنه تابع ولا يمكن فصله عن الأصل، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وعن الإمام أحمد رواية، أن النماء المتصل لمن حصل في ملكه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وقال: هذا حصل من عمل المشتري الذي هو في ملكه «والخراج بالضمان» (1) ، أي: من عليه ضمان شيء فله خراجه، والنماء المتصل قد يكون أهم من المنفصل فيكون للمشتري، وإذا كان للمشتري فإذا فسخ البيع يُقَوَّمُ حين العقد، وهو هزيل وحين فسخ البيع وهو نشيط أحمر أزهر سمين، فالفرق نصف القيمة، فتكون نصف القيمة للمشتري، لكن إذا قال البائع: أنا لا أقبل، خذ نماءك المتصل، فماذا نفعل؟ هل نفعل كما فعل سليمان فنقول: ائت بالسكين أم ماذا نعمل؟ نقول: يلزمك ولا بد.
قوله: «ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما» رتب على التصرف حكمين: التحريم، والفساد، كلمة تحرم غير كلمة لا يصح؛ لأنه
__________
(1) سبق تخريجه ص (242) .(8/286)
لا يلزم من التحريم عدم الصحة، ويلزم من عدم الصحة التحريم، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تَلقوا الجَلَب فمن تلقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» (1) ، فهذا تحريم والعقد الصحيح، لأن قوله: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» ، يدل على صحة العقد؛ إذ لا خيار إلا بعد صحة العقد؛ لأن الخيار فرع عن الصحة، والدليل على أن كل شيء لا يصح فهو حرام، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (2) ، قال ذلك محذراً من الشروط التي ليست في كتاب الله.
الأول: يسمى عند الأصوليين حكماً تكليفيّاً، والثاني: يسمى حكماً وضعيّاً؛ لأن عندهم ما ترتب عليه الثواب والعقاب، أو انتفى عنه الثواب والعقاب فهو تكليفي، وما كان صحة أو فساداً أو شرطاً أو مانعاً فهو وضعي.
وقوله: «ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما» فيه تنازع بين يحرم ويصح فأيهما يعمل؟
الجواب: يجوز هنا هذا وهذا؛ لأن الضمير ليس ضميراً ظاهراً وإنما هو مستتر.
وقوله: «تصرف أحدهما» يعني البائع والمشتري؛ لأن البائع لو تصرف وأنفذنا تصرفه جَنَينا على المشتري، والمشتري لو
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519) (17) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (189) .(8/287)
تصرف وأنفذنا تصرفه جنينا على البائع، وعلى هذا فنقول: لا يجوز أن يتصرف لا البائع ولا المشتري في المبيع في مدة الخيار.
قوله: «في المبيع» أي: المنتقل من البائع للمشتري.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح مطلقاً حتى في التأجير، وأن ما يمكن تأجيره يبقى معطلاً، فالبيت مثلاً يبقى لا يؤجر؛ لأن التأجير نوع من التصرف، ولأنه إذا أجره ثم اختار البائع الفسخ تعلق به حق المستأجر فيمنعه بعض الحق، ولكن الصحيح أنه يصح تأجيره؛ لأن تأجيره خير من بقائه هدراً، ثم إن أمضي البيع فالأجرة للمشتري وإن فسخ فالأجرة للبائع.
قوله: «وعوضه المعين فيها» أي: المنتقل من المشتري إلى البائع، فالمؤلف قيد العوض الذي هو الثمن بكونه معيناً؛ لأن الثمن الذي في الذمة يتصرف فيه المشتري كما يشاء، فلو قال مثلاً: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، فالمبيع هنا معين والثمن مقدر ولكنه غير معين، فلم يقل له: بهذه العشرة، وتثبت العشرة في ذمة المشتري؛ لأنه غير معين، فلو كان المشتري في جيبه عشرة ريالات وكان في نيته أن يدفع هذه العشرة قيمة للساعة، ثم إن العشرة سرقت فلا ينفسخ البيع؛ لأن الثمن ليس العشرة التي في الجيب، بل هي في الذمة.
مثال المعين: أن يقول: اشتريت منك هذه الساعة بهذه العشرة، فوقع العقد الآن على عين العشرة، كما وقع على عين الساعة، وعلى هذا فيكون الثمن إما في الذمة، وإما معيناً.(8/288)
والذي يحرم هو التصرف في الثمن المعين، أما الذي في الذمة فإن المشتري حر حتى يسلمه للبائع.
وفي المثال الذي ذكرتُ: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات وهو ينوي أن ينقد العشرة التي في جيبه ثمناً للساعة، هل يمكن أن يتصرف في هذه العشرة؟
الجواب: نعم، لكن لو قال: بهذه العشرة ثم وضعها في جيبه، فإنه لا يمكن أن يتصرف فيها؛ لأنه لما وقع العقد على عين الثمن صار ملكاً للبائع بمجرد العقد، كما يكون المبيع الذي وقع العقد على عينه ملكاً للمشتري بمجرد العقد.
وهل يمكن أن يكون المبيع في الذمة؟
الجواب: نعم يمكن، فالسلم كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسلفون في الثمار السنة والسنتين (1) ، والثمار معلوم أنها في الذمة، إذاً كل من الثمن والمثمن يمكن أن يكون في الذمة، فما كان في الذمة فإن صاحبه يتصرف فيه كما يشاء، وما كان معيناً فإنه لا يتصرف فيه من انتقل ملكه عنه، فالمشتري لا يتصرف في الثمن والبائع لا يتصرف في المبيع.
وقوله: «وعوضه» يشمل ما إذا كان العوض نقداً كما لو قال: اشتريت هذا البيت بهذه الدراهم، أو غير نقد كما لو قال: اشتريت هذا البيت بهذه السيارة، ولهذا قال المؤلف: «بعوضه» ، ولم يقل: والدراهم المعينة، حتى يشمل ما إذا كان العوض دراهم أو أعياناً أخر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (150) .(8/289)
بَغَيْرِ إِذْنِ الآخَرِ بِغَيْرِ تَجْرِبَةِ المَبِيْعِ إِلاَّ عِتْقَ المُشْتَرِي وَتَصَرُّفُ المُشْترِي فَسْخٌ لِخِيَارِهِ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمَا بَطَلَ خِيَارُه.....................
قوله: «بغير إذن الآخر» فإن أذن أحدهما أن يتصرف الآخر في هذا بإجارة أو بإعارة أو بمنفعة فلا حرج، أما بغير إذن فلا.
قوله: «بغير تجربة المبيع» إذا كان تصرف المشتري بتجربة المبيع بأن كان فرساً فيُجرَّب عَدْوُهُ وامتثالُه للأمر، وإذا كانت سيارة يجربها إذا كانت تمشي أو لا جاز؛ فتصرف المشتري في المبيع من أجل التجربة جائز.
وهل من التجربة أن يحلب الشاة أو البقرة؟
الجواب: نعم؛ لأن بعض البقر إذا أردت أن تحلبها فإنها تضربك برجلها، فلا تتمكن من الحلب وكذلك بعض الغنم، وكذلك بعض الإبل، فإذا حلبها للتجربة فلا بأس، وهل يبطل خياره إذا كانت للتجربة؟
الجواب: لا؛ لأنه قد يكون من أسباب اشتراط الخيار تجربة المبيع.
وهل يصح التصرف مع البائع بتأجير أو بيع؟
نعم يجوز؛ لأن قبوله لهذا التصرف إذن لا شك فيه؛ فصار التصرف الجائز في ثلاثة أمور: إذا أذن من له الحق، وإذا كان التصرف مع من له الحق، وإذا كان التصرف لتجربة المبيع.
قوله: «إلا عتق المشتري» «عتق» مصدر مضاف إلى الفاعل، أي: إذا اشترى عبداً واشترط البائع الخيار أو المشتري، فإنه يجوز للمشتري أن يعتق العبد.
هل يحرم أو لا؟
ظاهر كلام المؤلف أنه لا يحرم ويصح.(8/290)
وقيل: إنه يحرم ويصح وهذا المذهب.
وقيل: يحرم ولا يصح.
وتعليل المذهب أن للعتق نفوذاً قوياً فينفذ، ولذلك لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد، بأن يكون عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه من العبد، فإن العبد يعتق كله، ويلزم هذا المعتِقُ بدفع قيمة نصيب صاحبه إليه، لقوة نفوذ العتق؛ ولأن الشارع يتشوَّف إلى العتق تشوفاً كبيراً، ويحرم لأنه تصرف بغير إذن صاحبه فهو إسقاط لحقه؛ لأنه إذا أعتقه لا يمكنه أن يفسخ البيع.
ولكن الصحيح أنه يحرم ولا يصح ولا يستثنى العتق، فالعتق كغيره من التصرفات، أما كونه يحرم؛ فلأنه اعتداء على حق صاحبه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» (1) ، وهذا من الاعتداء على الأموال، وأما كونه لا يصح فلقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ، وليس أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على العدوان على الناس، بل العكس، وعلى هذا فلا يصح.
وهناك ـ أيضاً ـ تعليل فيقال: إن العتق يقع قربة لله ـ عزّ وجل ـ وهل يمكن أن يتقرب إلى الله بمعصيته؟! لا يمكن فهذا تضاد ونوع من الاستهزاء بشريعة الله.
وقوله: «إلا عتق المشتري» لو أن البائع أعتق العبد فلا
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رب مبلغ أوعى من سامع» (67) ؛ ومسلم في القسامة/ باب تغليظ تحريم الدماء (1679) عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (97) .(8/291)
يصح، والفرق بين البائع والمشتري، أن المشتري قد انتقل إليه الملك، وأما البائع فليس له ملك في هذا المبيع، فلهذا صح عتق المشتري دون عتق البائع.
قوله: «وتصرف المشتري فسخ لخياره» أي: إذا تصرف المشتري في المبيع الذي اشترط فيه الخيار له وحده، فإن تصرفه فسخ لخياره، ويؤخذ من كلام أهل العلم هنا أن الفسخ يثبت بما دل عليه من قول أو فعل.
مثال ذلك: اشترى الرجل بيتاً من شخص واشترط الخيار لمدة شهر، وفي أثناء الشهر آجَره من يسكنه فيبطل خياره، فإن قال: أنا ما أبطلت الخيار؟ نقول: تصرفك دليل على رضاك به، وأنك أسقطت الخيار، وكذلك البيع مع اشتراط الخيار لنفسه في هذا البيت لمدة شهر، وقد اشتراه بمائة ألف، ثم جاءه إنسان وقال: بعني إياه بمائة وعشرة، فباعه بمائة وعشرة فيبطل خياره؛ لتصرفه في البيت، وتصرفه فيه دليل على رضاه به، وأنه لا يريد رده.
ويستثنى من هذا ما سبق من تجربة المبيع، فإن تصرف المشتري بتجربة المبيع لا يفسخ خياره، ولو كان الخيار له وحده؛ لأن هذا هو المقصود من الشرط أن ينظر هل يصلح له أو لا؟
وقوله: «وتصرف المشتري فسخ لخياره» ظاهر كلامه أن تصرف البائع ليس فسخاً لخيار المشتري؛ لأن المشتري حقه باق.(8/292)
أما لو كان الخيار للبائع وحده فلا يجوز أن يتصرف، وإذا تصرف فلا يصح تصرفه؛ لأن ملك المبيع للمشتري، ولكن يستطيع أن يقول: فسخت البيع ثم يتصرف، والصحيح أنه فسخ لخياره.
مثال ذلك: باع زيد على عمرو هذا البيت بمائة ألف، وقال البائع وهو زيد: لي الخيار لمدة شهر، ثم إن زيداً باعه على رجل آخر فهذا فسخ لخياره؛ لأن بيعه إياه يدل على أنه ألغى البيع الأول، وهذا الفسخ دلالته فعلية لا قولية، أما لو قال البائع: اشهدوا أني فسخت، فهذا دلالته قولية، ولا إشكال فيها، ولكن إذا كان فسخ خياره من أجل تصرفه، فهو فسخ فعلي.
قوله: «ومن مات منهما بطل خياره» أي: من البائع أو المشتري بطل خياره، سواء شرط الخيار له وحده، أو له ولصاحبه فإنه يبطل الخيار.
مثاله: اشترى رجل من آخر بيتاً بمائة ألف، وجعل الخيار له لمدة شهر، ثم مات فإن الخيار يبطل، وعلى هذا فلا خيار للورثة في هذا المبيع، وهذه المسألة ظاهر كلام الماتن فيها غير المذهب.
فإذا قال الورثة: لماذا لم يكن لنا خيار، أليس قد انتقل إلينا من مورثنا بحقوقه ومنها الخيار؟.
نقول: على كلام المؤلف، لا خيار؛ لأن اختيار الإمضاء أو الفسخ لا يكون إلا من قبل المشتري الذي مات، فلا ندري الآن، هل يريد الإمضاء أو يريد الفسخ فيبطل، فإن علمنا أنه يريد(8/293)
الفسخ بحيث يكون قد طالب به، بأن قال: إني أريد الفسخ فإنه يورث من بعده؛ لأن مطالبته به دليل على أنه اختار الفسخ، أما إذا لم يطالب فإننا لا ندري، والأصل بقاء العقد، وهذا هو التعليل عند الأصحاب ـ رحمهم الله ـ.
ولكن تفسير المطالبة بهذا فيه نظر؛ لأنه إذا قال: فسخت، انفسخ البيع، ولم يبق خيار، وأما إذا فسرت المطالبة بأنه قد قال: أنا على خياري، فهذه ثابتة وإن لم يقلها؛ لأنه ما دام اشترى بشرط الخيار ولم يسقط الخيار فالأصل بقاؤه.
القول الثاني: أنه يورث سواء طالب به أم لم يطالب؛ وعللوا ذلك بأن الملك انتقل إلى الورثة بحقوقه، وهذا الذي اشتُرِيَ بشرط الخيار انتقل إلى الورثة بحقوقه، فيثبت لهم ذلك، وإذا كان الخيار للبائع فقد انتقل منه إلى الورثة، فيورث عنه؛ لقوله تعالى في المواريث: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] ، وكلمة {تَرَكَ} تشمل كل متروكاته من أعيان أو منافع أو حقوق، وهذا هو القول الصحيح أنه ينتقل الحق إلى الورثة، ولهم الخيار بين الإمضاء أو الفسخ؛ لأنهم ورثوه من مورثهم على هذا الوجه.
وأما قولهم: لا بد أن يطالب، فيقال: إذا طالب لا حاجة أن نقول: إن خيار الشرط باقٍ؛ لأنه إذا طالب به فقد انتهى الخيار؛ لأنه اختار الفسخ.
مسألة: إذا اختلف الورثة فبعضهم قال: أريد الإمضاء، وبعضهم قال: أريد الفسخ.(8/294)
فيقال: إن كان الوارث واحداً لم يتصور الخلاف إما أن يفسخ أو يُمْضي، وإن كان أكثر من واحد، واختار بعض الورثة الفسخ، واختار آخرون الإمضاء؛ فإن كان لا ضرر على البائع في تفريق الصفقة، فلكل حكمه، مثل ما لو كانت الصفقة عشر سيارات، كلها متساوية القيم ومن نوع واحد فمات الرجل وخلف أربعة أبناء وبنتين، فيكون لكل بنت سيارة واحدة ولكل ابن سيارتان، إذا قال أحد الأبناء: أنا أختار فسخ البيع، يرد على البائع سيارتين، ويعطيه ثمنهما ولا نقص على البائع، وإذا قالت إحدى البنات: أنا أختار فسخ البيع، يعطى البائع سيارة، ويعطيها ثمنها، وهذا لا إشكال فيه. ولكن إن كان باع عليه حذاء بمائة ريال، وقال: لي الخيار لمدة أسبوع، ومات خلال الأسبوع، وخلف ابنين أحدهما اختار الفسخ والثاني اختار الإمضاء، فهنا لا يمكن تفريق الصفقة؛ لأن البائع يتضرر، فيقال: إما أن تفسخا جميعاً، وإما أن تمضيا جميعاً.
وقوله: «ومن مات منهما بطل خياره» لو مات أحدهما في خيار المجلس يبطل خياره، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن من أعظم التفرق التفرق بالموت، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» (1) .
مسألة: لو نام أحدهما في خيار المجلس بأن كان متعباً جداً وفيه نوم، فقال البائع: بعتك هذا الشيء، فقال: قبلت، وإذا رأسه على صدره ينعس فنام، فهذا لا يبطل خياره ما داما في
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .(8/295)
المجلس، ولو طال نومه؛ لأنه لم يفارق الحياة بخلاف من مات.
الثَّالِثُ: إِذا غُبِنَ في المَبِيْعِ غَبْناً يَخْرُج عَن العَادَةِ وبِزِيَادَةِ النَّاجِشِ وَالمُستَرسِلِ.
قوله: «الثالث: إذا غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة» «الثالث» أي: من أقسام الخيار، خيار الغبن، وأشار إليه بقوله: «إذا غبن في المبيع» ، وكذلك إذا غبن في الثمن، فإذا كان الثمن غير نقود أو كان نقوداً مغشوشة أو ما أشبه ذلك، فالمهم أنه غبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة، والغبن معناه الغلبة، أي: إذا غلب غلبة تخرج عن العادة فله الخيار، فالمؤلف قيد الغبن بأن يخرج عن العادة، فمثلاً إذا غبن بريال واحد من مليون بأن اشترى أرضاً بمليون وهي تساوي مليوناً إلا ريالاً، فهذا مما يتغابنه الناس، وواحد من ألف كذلك، وواحد من مائة كذلك لا يخرج عن العادة، وهل واحد من عشرة يعتبر غبناً؟.
الظاهر لي يعتبر غبناً، ولا سيما إذا كانت السيولة بأيدي الناس عزيزة؛ لأن واحداً من عشرة ربما يكون صعباً على كثير من الناس إذا كانت السيولة قليلة، أما مع وفرة المال، فقد يقال: واحد من عشرة ليس بشيء.
وقال بعض العلماء: إن الغبن الذي يخرج عن العادة هو واحد من خمسة، ونسبة واحد من خمسة إلى المائة عشرون في المائة، ولكن في القلب من هذا شيء، بل يقال: إذا جعلنا الأمر مرتبطاً بالعادة فهو أحسن، فإن اختلفنا نرجع إلى أهل الخبرة، إلى الدلاَّلين المعتبرين في البلد، فيقال: ما تقولون إذا غبن في واحد من عشرة؟ وقد يقال: أيضاً إنه يختلف باختلاف الأموال، بعضها الواحد من عشرة غبن، وبعضها غير غبن.(8/296)
فإذا غُبن الإنسان غبناً يخرج عن العادة، فهل له الخيار به أو لا خيار له؟
يرى بعض العلماء أنه لا خيار له إلا إذا اشترط لنفسه وتحفظ، ويستدلون بحديث الرجل الذي شكى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه يُغبن في البيوع، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بايعت فقل: لا خلابة» ، فكان يبايع ويقول: لا خلابة (1) ، فقالوا: إن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ جعله يشترط لنفسه أن لا خلابة، أي أن لا غلبة، فلو كان هذا الغبن موجباً للخيار بدون شرط، لقال له الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: إذا غبنت فرد ما غبنت به، ولم يقل له: إذا بايعت فقل: لا خلابة.
هذا رأي لبعض العلماء وهو قوي جداً، ويرى آخرون أنه يثبت به الخيار وإن لم يشترط، قالوا: إن هذا من الغش والخيانة، ولو لم نثبت الفسخ لكان في ذلك فتح لباب الغش والخيانة، والشارع يأتي بدرء المفاسد وجلب المصالح، فما دمنا نعرف أن في هذا درءاً للمفسدة وقطعاً على أهل الخيانة والغش طريقهم، فإن الواجب سلوك هذا الطريق، وهذا تعليل قوي، ولكنه يحتاج إلى الإجابة عن الحديث؛ لأن صاحب القول إذا رجح قوله لا بد أن يأتي بالمرجحات، وبالدافعات التي تدفع قول خصمه، فيقولون: إنما أمره الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يشترط وإن كان ثابتاً له بدون اشتراط، لأمرين:
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب ما يكره من الخداع في البيع (2117) ؛ ومسلم في البيوع/ باب ما يخدع في البيع (1533) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(8/297)
الأول: أنه إذا قال: «لا خلابة» ، صار له الخيار فيما غلب فيه سواء كان يخرج عن العادة أم لا يخرج؛ لأن «لا» نافية للجنس، و «خلابة» نكرة في سياق «لا» النافية للجنس فتفيد العموم، أي: لا خلابة، قليلة أو كثيرة.
الثاني: قطع النزاع بين الطرفين لأنه إذا لم يشترط أنه لا خلابة، يمكن للبائع أن يقول: أنا ما غلبتك، فبمجرد ما يقول: لا خلابة، فإن البائع يمتنع من الخلابة من أول الأمر؛ لأنه إذا شرط عليه سيعرف أنه إذا غبن سوف يرد عليه، فهذا فائدة إرشاد النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الرجل لاشتراط أن لا غبن، وعلى هذا يتوجه أن القول الراجح إثبات خيار الغبن، سواء شرط أو لم يشترط.
وقوله: «يخرج عن العادة» أحالنا المؤلف إلى العرف، فما عدّه الناس غبناً فهو غبن، وما لم يعدّوه غبناً فليس بغبن، وقدره بعض العلماء بالثلث، وبعضهم بالربع، وبعضهم بالخمس.
ولكن ما ذهب إليه المؤلف أولى أن يرجع في ذلك إلى العادة، والمحكم في العادة هم أصحاب الخبرة، فإذا قالوا: هذا غبن؛ لأنه يخرج عن العادة، قلنا: يثبت الخيار له.
مسألة: هل خيار الغبن مقيد بشيء معين، أو متى حصل الغبن حصل له الخيار؟.
الجواب: هذه المسألة فيها خلاف، أما المذهب فإن خيار الغبن مخصص بثلاث صور:
الصورة الأولى: تلقي الركبان، أي: أن يخرج عن البلد ليتلقى الجالبين إليه فيشتري منهم، ومن المعلوم أن هذا المتلقي(8/298)
سوف يشتري بأقل من الثمن، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه ـ أي: من الجلب ـ فإذا أتى سيده السوق ـ وهو البائع ـ فهو بالخيار» (1) ، هذا خيار غبن.
وقوله: «فهو بالخيار» إذا قال قائل: الحديث مطلق «فهو بالخيار» ، ولم يقل: إذا غبن؟.
فالجواب: أنه يحمل على الغالب المعتاد؛ لأن الجالب إذا قدم للسوق، ولم يجد أنه غبن فإنه لن يفسخ، إذ لا فائدة من الفسخ ثم البيع مرة أخرى، فيحمل الحديث على أنه إذا غبن، وإن كان ظاهر الحديث الخيار مطلقاً.
الصورة الثانية: قوله: «وبزيادة الناجش» «الباء» في قوله: «بزيادة» للسببية، أي: بسبب زيادة الناجش، والناجش اسم فاعل من نَجَش يَنْجُش، وأصل النجش الإثارة، فإثارة الشيء نجشه.
والناجش هو من يزيد في السلعة، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد الإضرار بالمشتري، أو نفع البائع، أو الأمرين جميعاً.
مثال ذلك: عرضت سلعة للسوم فصار الناس يتزايدون فيها، وكان أحد هؤلاء يزيد في الثمن، وهو لا يريد الشراء، ولكن من أجل منفعة البائع؛ لأنه صاحبه، أما هو فلا يريد السلعة، أو يريد إضرار المشتري؛ لأنه عدوه، أو يريد نفع نفسه كأن يكون عنده سلعة مثلها فزاد في ثمنها لأجل أن يزيد ثمن سلعته، أو يريد أن يقول الناس: فلان ما شاء الله يزيد في السلعة، وهذا معناه أنه عنده أموال وتاجر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (287) .(8/299)
فالضابط هو: أن يزيد وهو لا يريد الشراء، وإنما يريد غرضاً آخر، فإذا غبن المشتري بسبب هذه الزيادة غبناً يخرج عن العادة فإن له الخيار.
والنجش محرم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه فقال: «لا تناجشوا» (1) ولأنه يورث العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنه إذا علم أن هذا ينجش من أجل الإضرار بالمشترين كرهوه وأبغضوه، ثم عند الفسخ في الغبن ربما لا يرضى البائع بالفسخ، فيحصل بينه وبين المشتري عداوة أيضاً.
الصورة الثالثة: قوله: «والمسترسل» وهو المنقاد مع غيره المطمئن إلى قوله، هذا في اللغة.
وفي الاصطلاح: من جهل القيمة ولم يحسن المماكسة.
والمماكسة هي المحاطة في الثمن، وهي التي تعرف عندنا بالمكاسرة، فإذا أتى إلى صاحب الدكان، وقال: بكم هذه الحاجة؟ قال: بعشرة ريالات، وهو رجل يجهل القيمة ولا يحسن أن يماكس فأخذها بعشرة، فلما عرضها على الناس، قالوا: هذه بخمسة ريالات، قال: ما علمت، فنسمي هذا مسترسلاً له الخيار؛ لأنه إذا كانت قيمة الشيء بخمسة، واشتراها بعشرة فهذا غبن يخرج عن العادة فله الخيار، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غش فليس منا» (2) ، وهو من الخيانة للمسلمين، وكل من غش
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ... } (6066) ؛ ومسلم في البر والصلة/ باب تحريم الظن (2563) (30) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا» (164) (101) ، وأبو داود في البيوع/ باب في النهي عن الغش (3452) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية الغش ... (315) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/300)
فيجب أن يحال بينه وبين مأربه، فإن كان يعلم القيمة ويدري أن قيمتها خمسة، ولكنه أخذها بعشرة تطييباً لقلب البائع، كما يعمله بعض الناس مثلاً إذا وجد رجلاً فقيراً عنده بسطة صغيرة، قال: بكم هذه يا فلان؟ قال: بعشرة وهو يعرف أنها بخمسة فأخذها بعشرة فلا يكون مسترسلاً؛ لأنه يعلم القيمة، وكذلك لو رأى مع صبي دجاجة تساوي عشرة، قال: بكم يا بني هذه؟ قال: هذه يا عم بعشرين وهو يدري أنها تساوي عشرة، لكن جبراً لقلب هذا الصبي وإدخالاً للسرور عليه، قال: خذ هذه العشرين، ثم بعدئذٍ ندم قال: كيف أبذل عشرين بما يساوي عشرة؟ فرجع إلى الصبي وقال: يا بني غبنتني فلا خيار له؛ لأنه يعلم القيمة ودخل على بصيرة.
وقوله في الروض (1) : «ولم يحسن المماكسة» ظاهره أنه إذا كان يحسن المماكسة فإنه لا خيار له ولو غبن، مثاله: رجل يجهل قيمة الأشياء لكنه جيد في المماكسة، فأتى إلى صاحب الدكان، وقال له: كم قيمة هذا المسجل؟ قال: قيمته مائتا ريال وصاحب الدكان وضع ورقة عليه صغيرة وكتب عليها مائتي ريال، وهو جيد في المماكسة، لكن ظن أن هذه قيمته في الأسواق، فأخذ المسجل ثم لما عرضه على إخوانه، قالوا: هذا يباع في السوق بثمانين ريالاً، فغبن بمائة وعشرين، فرجع إلى الرجل، وقال له: هذا بثمانين ريالاً، فعلى كلام المؤلف لا خيار له؛ لأنه يحسن المماكسة ويقدر أن يحاطه في الثمن حتى يصل إلى الثمانين.
__________
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع (4/436) .(8/301)
ولكن الصحيح أن له الخيار لجهله بالقيمة ولتغرير البائع به، فلا ينبغي إلا أن نعامل البائع بنقيض قصده لما غره، ونقول: له الخيار.
فإذا قال: هذا الرجل يعرف البيع والشراء لماذا لم يماكسني؟.
نقول: جزاه الله خيراً وثق بك ولست أهلاً للثقة، والآن له الخيار.
ومن المناجشة وهي نوع من الاسترسال أن يقول البائع للمشتري: أعطيت في السلعة كذا وهو يكذب، والمشتري سوف يقول: إذا كانت سيمت بمائتين فسأشتريها بمائتين وعشرة، وفعلاً اشتراها بمائتين وعشرة، وتبين أن قيمتها مائة وخمسون فإن له الخيار؛ لأنه غبن على وجه يشبه النجش.
ومن ذلك ـ أيضاً ـ إذا قال: اشتريتها بمائة وهو كاذب اشتراها بخمسين فأخذها المشتري بمائة وخمسة؛ ليربح ذاك خمسة ريالات، وتبين أنه اشتراها بخمسين فإنه له الخيار؛ لأن هذا من النجش؛ لأنه استثار المشتري حتى اشتراها بأكثر من ثمنها.
فإن قيل: ما حكم النجش، وما حكم أن يفعل ما يسترسل معه المشتري؟.
فالجواب: كله حرام؛ لأنه خلاف ما يجب أن يكون عليه المؤمن لأخيه، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (201) .(8/302)
فإن قيل: بعض الباعة إذا سئل عن قيمة السلعة، قال: قيمتها مائة وهو يبيعها بثمانين، لكنه يخشى أن يكون المشتري ممن يماكسون، فقال: بمائة على تقدير أنه سيماكس حتى تنزل إلى ثمانين، فهل يجوز له ذلك؟.
الجواب: فيه تفصيل، إذا كان المشتري سيطمئن ويأخذها بما قدره فهذا حرام؛ لأنه من الغش، وإن كان البائع إذا رأى المشتري عازماً على الأخذ، قال له: اصبر يا أخي أنا قلت لك: بمائة؛ لأن بعض الناس يماكسني ويضطرني إلى أن أنزل، ولكن قيمتها الحقيقية ثمانون فهذا جائز، وإن كان فيه شيء بالنسبة للبائع، لكن هو الذي جنى على نفسه؛ لأنه إذا قال: يا أخي القيمة ثمانون، لكني قلت لك بمائة خوفاً من المماكسة فإن المشتري سوف لا يطمئن ـ أيضاً ـ إلى أن القيمة ثمانون، ولهذا نجد بعض المشترين إذا قال له البائع هذا الكلام يأنف ويستنكف ويذهب إلى غيره، فيقال للبائع: قل الثمن ثمانون ولا مماكسة، إن أخذ فهذا المطلوب وإن لم يأخذ فالسلعة باقية.
ويوجد ـ أيضاً ـ بعض الناس إذا جاءه الرجل المحنك الجيد في المماكسة أعلمه بالثمن فَوراً، وإذا جاءه الرجل الذي يكون سليم الصدر، ولا يعرف أو امرأة أو فتى شاب لا يعرف الأمور زاد عليهم في الثمن، فهذا لا يجوز؛ لأنه أخذ للناس بالغرات، فالإنسان الغرير له عنده ثمن، والذكي الجيد له ثمن فهذا حرام، فالواجب أن يكون مخلصاً ناصحاً للعباد؛ لأن هذا من الدين.
فإن قال قائل: هل الغبن يكون للبائع أيضاً؟(8/303)
الجواب: نعم وهذه تقع كثيراً لا سيما فيما سبق من الزمان، ـ فمثلاً ـ يعلم التاجر بأن السكر ارتفعت قيمته، فيذهب إلى من عندهم السكر، ويشتري كل ما عندهم بالقيمة الحاضرة، وهم لا يعلمون أن قيمته ارتفعت فيكون غبناً ولا شك، وهم لم يفرطوا في الواقع في مثل الصورة التي ذكرتها الآن؛ لأنه باع على أن هذه القيمة، وأن الأسعار مستقرة.
والحاصل أنه كما أن للمشتري الحق إذا غبن في فسخ البيع، فللبائع الحق إذا غبن في فسخ البيع ولا فرق.
الرَّابِعُ: خِيَارُ التَّدْلِيْسِ، كَتَسْوِيدِ شَعْرِ الجَارِيَةِ، وَتَجْعِيدهِ، وَجمْع مَاءِ الرَّحَى، وَإِرسَالِهِ عِنْدَ عَرْضِهَا.
قوله: «الرابع: خيار التدليس» التدليس مأخوذ من الدُّلسة وهي الظلمة، ومعناه خيار الإخفاء؛ لأن الذي يخفي الشيء مدلس.
ولو صورتان:
الأولى: أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما كان عليه.
الثانية: أن يظهر الشيء على وجه كامل وفيه عيب.
والفرق بينهما ظاهر، فالأولى ليس في المبيع عيب ولكنه يظهره على وجه أجود وأكمل، وفي الثانية فيه شيء ولكنه أخفاه وأظهره على وجه سليم.
أمثلة التدليس فعل الصحابي ـ عفا الله عنه ـ حين وضع الطعام السليم فوق الطعام الذي أصابته (1) السماء، فإن هذا تدليس.
__________
(1) سبق تخريجه ص (301) .(8/304)
ومنه أن يكون عند الإنسان بيت قديم فيليسه حتى يظهره، وكأنه جديد.
ومنه أن يكون عنده سيارة مخدشة فيضربها صبغاً حتى يظن الظان أنه ليس فيها شيء.
قوله: «كتسويد شعر الجارية» أي: عند بيعها، بأن يكون عنده جارية يريد أن يبيعها، وشعرها أبيض إما لآفة أو كبر فيسوِّده؛ ليظن الظان أنها شابة صغيرة، فهذا حرام، وفيه الخيار كما سيأتي.
قوله: «وتجعيده» بمعنى أن يدهنه بدهن يجعله مموجاً، لأنه إذا ظهر مجعداً دل ذلك على أنه قوي، وضده السَّبِط اللين الذي لا يكون له تجعيد، والأول أرغب عند الناس، فإذا كان الشعر قوياً متجعداً فهو أرغب من أن يكون ليناً سهلاً مسترسلاً، فهذا الرجل لما أراد أن يبيع الجارية جعد رأسها من أجل أن يزيد الثمن، فنقول: هذا حرام لا يجوز لأنه غش.
قوله: «وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها» هذان شيئان، لكنهما شيء واحد في الواقع، وذلك بأن يجمع ماء الرحى ثم يرسله عند عرضها للبيع، والرحى كيف يكون لها ماء؟.
هناك أرحية تدور على حسب جريان الماء، فيجعل صاحب الرحى سداً ينحبس به الماء، فإذا أراد بيعها فتح هذا السد ثم اندفع الماء بشدة وسرعة فتدور الرحى دوراناً سريعاً، فيظن المشتري أن هذا هو وصفها وأنها جيدة، وأن الماء يندفع بسرعة(8/305)
فيزيد الثمن، فهذا من التدليس؛ لأنه أظهر المبيع بمظهر مرغوب فيه، وهو خالٍ منه.
فإذا قال قائل: كيف يكون للرحى ماء وهي ستطحن الدقيق؟ وهذا يقتضي أن يكون الدقيق عجيناً؟.
نقول: تُجعل عجلة أي بكرة لها رِيَشٌ يضرب فيها الماء فتدور، ثم في هذه البكرة سير متصل بالرحى البعيدة عن الماء، وهذا السير هو الذي يدير هذه الرحى البعيدة، ويشبهه من بعض الوجوه جنزير العجلة (الدراجة) ، فيظن الظان أن هذا هو ماؤها، وأن هذه قوتها فيزيد في ثمنها.
واقتصار المؤلف ـ رحمه الله ـ على هذه الأمثلة الثلاثة، تسويد شعر الجارية، وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها، لا يعني أنه لا يثبت إلا في هذه فقط، بل هذه أمثلة.
والضابط ما ذكرناه، وهو إظهار المبيع بصفة مرغوب فيها وهو خالٍ منها، ومن ذلك:
تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، أي: جمع اللبن في ضرع البهيمة، وهو محرم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصروا الإبل والغنم» ، فيربط ضرع البهيمة ويجتمع اللبن في الضرع، فإذا جلبها في السوق ورآها المشتري ظن أن هذه عادتها، وأن لبنها كثير فيزيد في ثمنها، فإذا وقع هذا من البائع أعني هذا التدليس، نقول: أما التصرية فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم فيها بحكم الله ـ عزّ وجل ـ قال: «ومن ابتاعها بَعْدُ ـ أي بعد التصرية ـ فهو(8/306)
بالخيار إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» (1) ، وفي رواية: «هو بالخيار ثلاثة أيام» (2) ، أي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل له الخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسك، وإن شاء رد، وجعل الثلاثة لأجل أن يستقر اللبن؛ لأنه ربما يستقر على هذه الكثرة، فإن شاء أمسكها بلا أرش؛ لأن الحديث ظاهر في ذلك، وإن شاء ردها، ورد معها صاعاً من تمر، وربما يمسكها ولو كان لبنها قليلاً؛ لأنه يريد عين هذه البهيمة، أو يرتفع السعر في أثناء هذه المدة فيختارها ولو كان لبنها قليلاً، لكن إذا قال: أنا أريد أن أردها، فنقول: لا بأس ردها ورد معها صاعاً من تمر، وحينئذٍ يرد علينا مسائل:
الأولى: هذا الصاع من التمر هل هو عوض عن اللبن الحادث بعد العقد، أو هو عوض عن اللبن الموجود حين العقد؟
الجواب: هذا الصاع عوض عن اللبن الموجود حين العقد؛ لأن اللبن الموجود حين العقد ملك للبائع، أما ما حدث بعد العقد فهو ملك للمشتري، وقد سبق أن نماء المبيع المنفصل للمشتري.
الثانية: لماذا قدره بصاع، وقد يساوي أكثر من صاع، وقد يساوي أقل؟.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل ... (2150) ؛ ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (1515) (11) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجها مسلم في البيوع/ باب حكم بيع المصراة (1524) (24) (25) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/307)
الجواب: قدره النبي صلّى الله عليه وسلّم بصاع قطعاً للنزاع؛ لأنه ربما يتنازع المشتري والبائع، فيقول البائع: اللبن فيها كثير، والمشتري يقول: اللبن فيها قليل، فقطعاً للنزاع قدره النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوَّمه للأمة إلى يوم القيامة.
الثالثة: لماذا لم يقل: صاعاً من طعام، وجعله كالفطرة من البر، أو الشعير، أو الزبيب، بل قال: صاعاً من تمر؟.
الجواب: لأن التمر أقرب ما يكون شبهاً إلى اللبن، ففي اللبن حلاوة، وغذاء، والتمر كذلك، فلو أنك أردت أن تشبه بين اللبن والخبز لوجدت الفرق أكثر، لكن اللبن والتمر متقارب، وكله يؤكل ويشرب طرياً بدون كلفة وبدون طبخ.
مسألة: إذا فقد التمر فما يقوم مقامه يجزئ عنه.
الرابعة: لو أراد المشتري أن يرد اللبن الذي حلبه، وقال للبائع: أنا حلبت صاعاً من اللبن أو نصف صاع من اللبن، وهو موجود الآن أرده عليك بعينه، فهل نقول: إنه يجب على البائع أن يقبله؛ لأنه رد عليه عين ملكه، أو نقول: إن الشرع ورد بتقديره من التمر، فلا نعدل عما جاء به الشرع؟.
الجواب: بعض العلماء قال: إذا رده بحاله لزم البائع أن يقبل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل هذا عوضاً عنه؛ لأنه في الغالب أن المشتري إذا حلبه استهلكه.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجبر على قبول اللبن؛ لأنه باع اللبن متصلاً بالبهيمة، وفصله المشتري، فكان عرضة للحموضة(8/308)
والفساد، والتمر جنس عيَّنه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلا نتعداه.
وعندي أن هذا أقرب إلى الصواب لو لم يكن فيه إلا اتباع السنة لكان كافياً، فيقال: للمشتري إذ أراد أن يرد اللبن: يجب أن ترد صاعاً من تمر، كما أن البائع لو أراد الحليب، قال: أعطني الحليب الذي حلبته، وهو عندك الآن لم تشربه ولم تتصرف فيه، وقال المشتري: أبداً أعطيك صاعاً من التمر، أيهما يقبل؟.
الجواب: يقبل قول المشتري أن يرد الصاع من التمر، إذاً يقبل قول من قال: أرد الصاع؛ لأن البائع ربما يقول للمشتري: أعطني اللبن الذي حلبت وهو عندك الآن، واللبن يساوي ثلاثة آصع من التمر، والمشتري يقول: لا أعطيك إلا ما قدره النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: أن كل من طلب ما قدَّره الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعيَّنه فهو المقبول.
الخامسة: إذا كان اللبن لا قيمة له شرعاً، كما لو اشترى حمارة مصراة، فهل يرد صاعاً من تمر؟ وذلك إذا قال المشتري: أنا عندي أتان صغير، واللبن هذا وإن كان ليس له قيمة بالنسبة للآدمي؛ لأنه حرام. لكن بالنسبة للأتان الصغير له قيمة.
فيقال: إن هذا ليس له قيمة شرعاً فليس له عوض، لكن ما دام قد دلس عليك واشتريت حمارة مصراة، فلك الرد.(8/309)
الخَامِسُ: خِيَارُ العَيْبِ، وَهُوَ مَا يُنَقِّصُ قِيمَةَ الَمبِيْع كَمَرَضِهِ، وَفَقْدِ عُضْوٍ أوْ سِنٍّ أَوْ زِيادتِهِمَا،..
قوله: «الخامس» أي: من أقسام الخيار.
قوله: «خيار العيب» خيار مضاف والعيب مضاف إليه وهو من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الخيار الذي سببه العيب، والعيب ضد السلامة، فيقال: هذا معيب، وهذا سليم، ويقال في البهيمة التي لا تجزئ في الأضحية: هذه معيبة، والسالمة يقال لها: سليمة، فالعيب ضد السلامة، والمعيب ضد السليم والفرق بين خيار العيب وخيار التدليس، أن العيب فوات كمال، أما التدليس فهو إظهار محاسن والمبيع خالٍ منها.
قوله: «وهو ما يُنَقِّصُ قيمةَ المبيع» فإذا كان هذا المبيع لولا هذا العيب لكان يساوي ألفاً، وبالعيب يساوي ثمانمائة، فهنا نقص قيمة المبيع.
وظاهر كلام المؤلف أنه ولو كان النقص مما يتغابن به عادة، أي: ولو كان النقص يسيراً كاثنين في المائة فظاهر كلامه أن هذا عيب؛ لأنه أطلق فقال: «ما ينقص» وكلمة «ما» اسم موصول تفيد العموم.
وقوله: «ما ينقص قيمة المبيع» هذا هو الضابط، وما بعده فأمثلة.
قوله: «كمرضه» ولو كان المرض يسيراً؛ لأنه من الجائز أن يتطور هذا المرض حتى يتدهور، فإذا وجد في المبيع مرضٌ ولو يسيراً، حتى وإن كان لا ينقص القيمة إلا شيئاً يسيراً، فله الخيار.(8/310)
قوله: «وفقد عضو» أي: وكفقد عضو، مثل إن وجد أحد أصابعه مقطوعاً فهذا فقد عضو، وظاهر كلامه ـ رحمه الله ـ ولو كان خصاءً، فإذا اشتراه على أنه فحل فتبين أنه خصي، فظاهر كلام المؤلف أنه عيب؛ لأن هذا فقد عضو حتى وإن زادت القيمة لأنه ربما تزيد القيمة.
أما في الرقيق فظاهر أن الخصي أرغب عند الناس من الفحل؛ لأنه أقل فتنة وشراً، وأما في البهائم فقد يكون الخصي أرفع قيمة من الفحل، وقد يكون الفحل أرفع قيمة من الخصي، فقد يشتري هذا الذكر من الضأن على أنه فحل من أجل أن يُنزيه على الشياه، فإذا كان خصيّاً لم ينفع فتنقص قيمته، وقد يشتريه للأكل على أنه فحل فيتبين أنه خصي والخصي في الأكل أرغب عند الناس من الفحل؛ لأنه أطيب لحماً وأكثر قيمة، وعلى كل حال، الخصاء، الصحيح أنه ليس بعيب مطلقاً وليس سلامة مطلقاً، بل على حسب مقاصد المشترين، إذا قصدوا فحلاً فتبين خصيّاً فهو عيب، وإن كان الأمر بالعكس فليس بعيب.
فإذا قال مشتري الرقيق: أنا أريد أن يكون فحلاً لعله في يوم من الأيام يتزوج ويأتيه أولاد، نقول: وإذا تزوج وأتاه أولاد ما فائدتك منه؟! لأنه إن تزوج بحرة فأولادها أحرار، وإن تزوج بمملوكة فأولادها لسيدها ولن تستفيد من ذلك شيئاً، فإن قال: لعلي إذا أعتقته تزوج وأنجب، فيقال: إذا تزوج وأنجب بعد إعتاقه فلا فائدة منه، والخصاء في الرقيق لا شك أنه رفعة لقيمته، وهذا أمر معروف.(8/311)
والخلاصة: أن فقد عضو عيب، إلا في الخصاء ففيه التفصيل الذي سبق.
قوله: «أو سن» السن ليس عضواً؛ لأنه في حكم المنفصل، ولهذا لو مس إنسان سن امرأته بشهوة، وقلنا: إنه إذا مس امرأته بشهوة انتقض وضوؤه، فمس سنها، وحدث منه أعلى شهوة إلا أنه لم يخرج منه شيء فإن وضوءه لا ينتقض؛ لأنه ليس عضواً وفي حكم المنفصل؛ فلهذا قال: «وفقد عوض أو سن» ولا يقال: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن السن ليس من جنس الأعضاء، بل هو من عطف المغاير على مغايره.
وقوله: «سن» سواء كان من الأسنان أو من الأضراس، فإذا وجد في المبيع أنه فقد سناً واحداً أو أكثر فإنه عيب، ولو أنه جعل بدل السن تركيبة فإنه عيب؛ لأن المركب ليس كالأصلي.
قوله: «أو زيادتهما» فقد العضو أو السن إذا كانا زائدين فليس عيباً؛ لأن هذا زيادة خير والأصبع الزائد الناس يقطعونه، وكذلك السن الزائد، فبعض الناس يكون عنده أسنان مترادفة زائدة، فإذا فقد الزائد فليس بعيب، ولهذا قال:
«أو زيادتهما» فزيادة العضو عيب، وزيادة السن عيب أيضاً؛ لأن ذلك ينقص القيمة، فإذا كان له يدان من المرفق متساويتان، وقال المشتري: هذا عيب، وقال البائع: بل هذا زيادة خير بدلاً من أن يكون له يد واحدة تعمل صار له الآن اثنتان، يقال: يرجع إلى عرف الناس، فإذا قالوا: إن قيمته تزيد بزيادة هذا العضو فليس بعيب، لكن الغالب أنها عيب تنقص قيمته حتى وإن كان يعمل بهما سويّاً.(8/312)
مسألة: هل يجوز قطع الإصبع الزائدة أو لا؟
الفقهاء يقولون: لا يجوز، ويعللون ذلك بالخطر، ولكن بناء على تقدم الطب الآن فإن الصحيح جواز ذلك؛ لأن هذا إزالة عيب، وليس من باب التجميل، ولو كان من باب التجميل لكان حراماً، ولهذا لعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النامصة والمتنمصة» (1) ، لأنها تزيل شيئاً خلقه الله للتجميل، وأما هذا فيقطع أصبعاً زائدة من باب إزالة العيب، وأنت الآن قدر نفسك قد أصبت بهذا الأمر ألست تحب أن لا يراك الناس؟ بلى ما في ذلك شك، فالصواب أن إزالة الأصبع الزائدة في وقتنا الحاضر جائزة ولا شيء فيها، وهذا نظير ما قال العلماء في البواسير، قالوا: إن قطع البواسير حرام؛ لأنه يمكن أن ينزف الدم حتى يموت، فيكون متسبباً في قتل نفسه، ولكنه في الوقت الحاضر أصبحت هذه العملية عملية بسيطة وليس فيها أي نوع من الخطر، فلكل مقام مقال، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وَزنَا الرَّقِيقِ وَسَرِقَتِهِ، وإِبَاقِهِ، وَبَوْلِهِ فِي الفِرَاشِ.
قوله: «وزنا الرقيق» إذا زنا الرقيق فزناه عيب معنوي، وظاهر كلامه ولو مرة واحدة؛ لأن ذلك ينقص قيمته، إذا تبين أن هذا الرقيق الذي اشتراه قد زنا، إن كان ذكراً فالأمر واضح، وإن كان أنثى فكذلك. ولم يفصح المؤلف عن سن الرقيق إذا زنا؛ ولهذا اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فقال بعضهم: يشترط أن
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس/ باب المتنمصات (5939) ومسلم في اللباس/ باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة ... (2125) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ واللفظ لمسلم.(8/313)
يكون الرقيق قد بلغ عشراً وأطلقوا (1) .
ويحتمل أن يقال: إذا بلغ عشراً في الذكور، أو تسعاً في الإناث؛ لأن بنت التسع قد تحمل، وابن العشر قد يُحمل له، وما دون ذلك لا حمل.
وقال بعض الفقهاء: العبرة بالبلوغ؛ لأنه قبل ذلك ليس بمكلف.
ولكن الأقرب أن يحدد بعشر سنين في الذكور وبتسع سنوات في النساء، أما ما دون ذلك فينظر إن استمر به هذا الأمر فهو عيب، وإن كان وقع منه مرة واحدة فليس بعيب؛ لأن هذا يكثر فيما بين الصبيان الصغار.
قوله: «وسرقته» أي: أن يكون سارقاً، إذاً فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله، فإذا تبين أنه يسرق فإنه يعتبر عيباً.
وظاهر كلامهم ولو مرة واحدة؛ لأنه لا بد أن يخدشه حتى لو تاب من السرقة ومن الزنى، فإن الناس لا يزال في نفوسهم شيء من ذلك، وليست المسألة مبنية على عدالته في دينه، حتى يقال: إنه إذا تاب فقد زال فسقه، بل المسألة راجعة إلى عرف الناس، فإذا قالوا: إن زناه أو سرقته يوجبان أن تنقص قيمته فهذا عيب.
قوله: «وإباقه» أي: هربه، وسواء كان الإباق مطلقاً بمعنى أن يهرب أياماً، أو كان إباقه مؤقتاً مثل أن يخرج
__________
(1) وهو المذهب.(8/314)
الصبح فلا يرجع إلا في الليل، فإذا كان هذا الرقيق قد عرف بالإباق فهو عيب؛ لأنه يهرب فيفوت على سيده، والإباق لا شك أنه ينقص قيمة المبيع.
قوله: «وبوله في الفراش» فإذا كان يبول في الفراش فهو عيب، وحدَّه الفقهاء بعشر سنوات، ولكن يجب أن يقيد بكونه في سن لا يبول فيها مثله في فراشه، فلو اشترى رقيقاً طفلاً، فالطفل لا بد أن يبول في الفراش، فيكون المراد بقوله: «وبوله في الفراش» أي: إذا بلغ سناً لا يبول فيها مثله في الفراش، وقيده في «الروض» بأن يكون قد بلغ عشر سنين (1) ، ولكننا إذا كنا نقول: إن العيب ما ينقص قيمة المبيع عرفاً، فإننا نرجع في ذلك إلى العرف، والظاهر أن الناس إذا كان الطفل يبول وعمره ثمان سنوات يعتقدون أن هذا من العيب، وإذا كان به سلس فهذا عيب ومرض أيضاً.
وكونه أعسر لا يعمل بيمينه عملها المعتاد، ويعمل باليسار أكثر مما يعمل بيمينه، فيكتب بيساره، ويرمي بيساره، ويضرب بيساره، ويساره هي التي فيها القوة، واليمين لا يعرف أن يعمل بها شيئاً إلا الأكل، ولولا أنه نهي عن الأكل بالشمال لأكل بشماله، وهذا يسمى أعسر، فإذا اشترى عبداً وتبين أنه أعسر فهو عيب.
وقال بعض العلماء: إنه ليس بعيب إذا كان يعمل بيساره عمل يمينه لو كان غير أعسر، فإن ذلك لا ينقص قيمته، بل ربما يكون عمله باليسار أقوى، ولهذا يقول بعض الناس: هذه ضربة أشدف، والأشدف هو الأعسر الذي لا يضرب إلا باليسار،
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/442)(8/315)
ويقال: إن ضرب الأعسر أشد، فإذا كان عمله بيساره أشد من عمله بيمينه فكيف يكون عيباً؟! ولدينا قاعدة نبني عليها: هل تنقص قيمته إذا كان أعسر؟ إذا قال أهل البيع في الرقيق: إنها لا تنقص فليس بعيب، وإن قالوا: تنقص فهو عيب، فإذا كان أعسر يَسِر لم يكن عيباً؛ لأن هذا زيادة خير، والأعسر اليسر الذي يعمل بيديه جميعاً على حد سواء، فيوجد بعض الناس يعمل باليد اليمنى واليسرى سواءً، يكتب باليمنى ويكتب باليسرى، فنقول: إذا وجد أعسر يسر فهو زيادة خير.
اقتصر الماتن على أمثلة، وزاد في «الروض» (1) أمثلة كثيرة لا حاجة لقراءتها؛ لأن لدينا ضابطاً، وهو أن العيب كل ما ينقص قيمة المبيع.
فَإذَا عَلِمَ المُشْتَرِي العَيبَ بَعْدُ أمْسَكَهُ بَأرْشِهِ، وَهُوَ قِسْطُ مَا بَيْنَ قِيمَةِ الصّحَةِ والعَيْبِ، أَوْ رَدَّه وَأخَذَ الثَّمَنَ، ...
قوله: «فإذا علم المشتري العيب بعدُ» الفاعل المشتري، هذا إذا كان العيب في المبيع، أو البائع إذا كان العيب في الثمن وهذا يمكن.
مثاله: بعتك شاة بماعز، الشاة مبيع والماعز ثمن، فإذا علم سواء المشتري، أو البائع في ثمن معين.
وقوله: «بعدُ» فيه إشكال بكون الكلمة مرفوعة مع أنها ظرف زمان.
والجواب على الإشكال أنه حُذِف المضاف إليه ونوي معناه، فصار مبنيّاً على الضم، فالحركة هنا حركة بناء، وليست حركة إعراب.
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن القاسم» (4/442) .(8/316)
وذكروا أن (قبل وبعد) لهما أربع حالات:
إما أن يذكر المضاف إليه، أو يحذف وينوى لفظه، أو يحذف وينوى معناه، أو يحذف ولا ينوى لفظه ولا معناه، فهو في الحالة الأخيرة معرب منون، ومنه قول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً
أكاد أغص بالماء الفرات
والشاهد قوله: «وكنت قبلاً» .
فإذا حذف المضاف ونوي لفظه، فهو معرب غير منون، فتقول: أتيت من قبلِ فوجدت صاحبي، فهنا معرب غير منون؛ لأنه نوي لفظ المضاف إليه.
وإذا حذف المضاف ونوي معناه، فحينئذٍ يبنى على الضم، فتقول: أتيت من قبلُ، أي: من قبل هذا الزمن فوجدت صاحبي.
وإذا ذكر المضاف إليه فحينئذٍ يعرب، وبالطبع لا ينون؛ لأن الشاعر يقول لمخاطبه:
كأني تنوين وأنت إضافة
فأين تراني لا تحل مكاني
فهنا نقول: حذف المضاف إليه ونوي معناه، ويمكن أن تنصب «بعد» وتنوي اللفظ؛ لأن هذا على نية المتكلم، فإذا قال مثلاً: «فإذا علم المشتري العيب بعدَ» ، عرفنا أنه حذف المضاف إليه ونوى لفظه.
وقوله: «بعد» أي علم المشتري العيب بعد العقد، فإذا علم به عند العقد فلا خيار له؛ لأنه عقده عليه مع علمه بعيبه يدل على رضاه به، وإذا رضي بالعيب فقد لزم البيع، وكذا لو شُرط عليه ولكن إذا لم يعلم ثم علم به يقول المؤلف:(8/317)
«أمسكه» أي: أمسك المبيع المعيب.
قوله: «بأرشه، وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب» والأرش فسَّره المؤلف: بقوله: «قسط» ، أي: قسط ما بين قيمة الصحة والعيب، وقال: «قيمة» ولم يقل: ثمن، والفرق بين القيمة والثمن، أن القيمة هي ثمنه عند عامة الناس، والثمن هو الذي وقع عليه العقد، فإذا اشتريت ما يساوي ثمانية بستة، فالقيمة ثمانية والثمن الستة، ولهذا انتبه عند كتابة العقود لا تقل: باعه عليه بقيمة قدرها كذا وكذا، قل: بثمن قدره كذا وكذا، وما أكثر الكُتَّاب الذين يخطئون في هذا، أو يقول: باعه بثمن قدره كذا وكذا، والقيمة واصلة، بدلاً من أن تقول: القيمة، قل: الثمن واصل.
ولهذا قال: «قسط ما بين قيمة الصحة والعيب» فيقوم هذا الشيء صحيحاً ثم يقوم معيباً، وتؤخذ النسبة التي بين قيمته صحيحاً وقيمته معيباً، وتكون هي الأرش، فيسقط نظيرها من الثمن، ويكون التقويم وقت العقد، ولا وقت العلم بالعيب، لأن القيمة قد تختلف فيما بين وقت العقد والعلم بالعيب.
مثال ذلك: باع سيارة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً، ثم تبين بها عيب، وقلنا: لأهل الخبرة: قدروا العيب، قالوا: هي معيبة تساوي ثمانين وسليمة تساوي مائة، فالأرش الآن الخمس، والثمن كان خمسين ألفاً فينقص عشرة آلاف، ولو قلنا: ينقص ما بين القيمتين كان النقص عشرين وتبقى بثلاثين ألفاً وهذا غلط، ولو باعها بمائتي ألف وتبين بها عيب فقوِّمت السيارة، وقيل إن(8/318)
السيارة سليمة بمائة ومعيبة بثمانين، فالقسط الخمس وينقص من الثمن أربعون ألفاً.
قوله: «أو رده وأخذ الثمن» أي: لك أن ترد المبيع وتفسخ البيع وتأخذ الثمن، فالمشتري بالخيار، هذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله، لكن شيخ الإسلام يقول: إما أن يأخذه مجاناً وإما أن يرده، أما الأرش فلا بد من رضا البائع لأنه معاوضة، فالبائع يقول: أنا بعت عليك هذا الشيء إما أن تأخذه وأما أن ترده، أما الأرش فهذا يعتبر عقداً جديداً، وما ذهب إليه الشيخ وجيه إلا إذا علمنا أن البائع مدلس ـ أي عالم بالعيب لكنه دلس ـ فهنا يكون الخيار بين الإمساك مع الأرش وبين الرد، معاملة له بأضيق الأمرين، وكذلك يقال في خيار التدليس وخيار الغبن.
فإن باعه بشرط البراءة من العيب، فقد سبق أنه إن أبرأه بعد العقد فالإبراء صحيح، وقيل: العقد لا يصح على المذهب.
وتقدم أن القول الصحيح أنه إن أبرأه، وهو مدلس، أي: البائع، فإنه لا يبرأ، سواء كان قبل العقد أو بعده، وإن كان غير مدلس صح، سواء كان قبل العقد أو بعد العقد.
وَإِنْ تَلِفَ المَبِيعُ أَوْ عتَقَ العَبْدُ تَعَيَّنَ الأرْشُ وَإِنْ اشْتَرى مَا لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ بِدُونِ كَسْرِهِ كَجَوْزِ هِنْدٍ، وَبَيْضِ نَعَامٍ فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِداً فَأمسَكَهُ فَلَهُ أرْشُهُ وإِن رَدَّهُ رَدَّ أرْشَ كَسرِهِ.......
قوله: «وإن تلف المبيع أو عتق العبد تعين الأرش» المشتري بين خيارين، وإما أن يرد وإما أن يأخذ الأرش، لكن يتعين الأرش إذا تعذر الرد، فهذه القاعدة: إذا تعذر الرد تعين الأرش، ويتعذر الرد إذا تلف المبيع المعيب، وحينئذٍ يتعين الأرش.
مثاله: رجل اشترى ناقة فوجد فيها عيباً، ولكن الناقة ماتت قبل أن يردها فيتعين الأرش.(8/319)
مثال آخر: اشترى عبداً فأعتقه، ثم وجد فيه عيباً، فيتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد.
فإذا قال قائل: العبد موجود فكيف يتعذر الرد؟.
قلنا: لأن عبوديته الآن زالت، فماليته تلفت في الواقع.
ويتعين الرد إذا لزم من الأرش الربا، مثل أن يبيع حليّاً من الذهب بوزنه دنانير ثم يجد في الحلي عيباً، فهنا لا يمكن أن يأخذ الأرش؛ لأنه يلزم منه الوقوع في الربا، إذ سيكون للمشتري ذهب بوزن الذهب الذي دفع، ثم يزاد على ذلك الأرش.
فالضابط: إذا تعذر الرد تعين الأرش، وإذا لزم منه الوقوع في الربا تعين الرد.
فيقال لهذا الذي وجد في الحلي عيباً: إما أن ترده، وإما أن تمسكه بدون أرش؛ لأنك لو أخذت الأرش لزم من هذا الربا فلا يجوز.
قوله: «وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز هند وبيض نعام فكسره فوجده فاسداً فأمسكه فله أرشه، وإن رده رد أرش كسره» إذا اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره كجوز الهند، وجوز الهند كبير وكبيض النعام أو نحوه، والمقصود منه ما كان(8/320)
داخل القشر، فإذا كسره فوجد ما كان داخل القشر فاسداً، وهذا عيب، فنقول: أنت الآن بالخيار إن شئت رددته وأخذت الثمن، وإن شئت أمسكته وأخذت الأرش، لكن إن رددته وأخذت الثمن لزمك رد أرش الكسر؛ لأن قشر بيض النعام ينتفع به كأوانٍ.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا لم يكن هناك فساد في الكسر فإنه لا يرد أرش الكسر، كما لو شذبه شذباً متساوياً فصار قطعتين، يمكن أن ينتفع بهما على أنهما إناءان فحينئذٍ نقول: لا أرش لهذا الكسر؛ لأنه لم يتأثر، ثم نقول: إذا كسره كسراً لا يبقى له قيمة بعده، مثل أن يكسره، فيرضَّه رضًّا فإنه حينئذٍ يتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد، فصارت هذه المسألة لها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكسره متوازياً بحيث يصلح أن يكون إناء ولا تنقص به القيمة، فهذا لا أرش له؛ لأنه لم ينقص.
الثانية: أن يكسره كسراً لا تبقى معه قيمة، فيتعين الأرش؛ لأنه تعذر الرد.
الثالثة: أن يكسره كسراً تبقى معه القيمة لكنها تنقص، فهذا يأخذ أرش الكسر، وإن أبقاه وأخذ الأرش فهو بالخيار، يعني أنه على الخيار الأول.
وَإِنْ كَانَ كَبَيْضِ دَجَاجٍ رَجَعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَخِيَارُ عَيْبٍ مُتَرَاخٍ مَا لَمْ يُوْجَدْ دَلِيلُ الرّضَا.
قوله: «وإن كان كبيض دجاج رجع بكل الثمن» لأن بيض الدجاج لا ينتفع الناس بقشره، بل يرمى في الزبالة، فإذا كسر بيض الدجاج فوجده فاسداً لا يصلح للأكل، فإن المشتري يرجع بكل الثمن؛ لأنه تبين أن العقد عليه فاسد، إذ من شرط العقد أن يكون على عين ينتفع بها، وهذا لا نفع فيه.(8/321)
ولو قال البائع: أعطني القشور إذا كنت تقول: إن العقد فاسد، فإنه لا يلزمه؛ لأنه لا قيمة لها عادة، وترمى في الزبالة.
وإذا كان بطيخة «حبحبة» فلما شقها وجدها فاسدة، فهل يرجع بكل الثمن؟.
الجواب: لا يرجع بكل الثمن؛ لأن هذه البطيخة يمكن أن تكون علفاً للدواب، فيقال له: لك أن تردها، ولكن ترد أرش الشق الذي حصل منك، والفرق بينها وبين البيض، أن البيض لا ينتفع بقشره بخلاف البطيخة.
قوله: «وخيار عيب متراخٍ» (1) أي: أنه لا يلزم المشتري أن يطالب بالرد بالعيب من حين أن يعلم به؛ بل له أن يؤخر الطلب، فإذا علم بالعيب في أول النهار، ولم يطالب بالرد إلا في آخر النهار فله ذلك، ولو قلنا: إنه على الفور لكان إذا علم في أول النهار ولم يطالب بالرد إلا في آخره فليس له الخيار، ولكن الصحيح أنه على التراخي؛ لأنه حق للمشتري لا يلزمه أن يطالب به فوراً، ولا يسقط إلا بما يدل على إسقاطه، ولكن بعض أهل العلم يقول: إنه على التراخي ما لم يؤخر تأخيراً يضر البائع، وهذا أرجح.
قوله: «ما لم يوجد دليل الرضا» ودليل الرضا له صور:
الصورة الأولى: أن يصرح بذلك بأن يقول لصاحبه: باع فلان عليَّ حاجة فوجدتها معيبة، ولكن نظراً لحقه عليَّ فأنا راضٍ بذلك ولن أطالبه بالرد، وهذا صريح فلا يمكن أن يرد بعد هذا القول.
الصورة الثانية: أن يتصرف فيه بعد أن علم بالعيب بأن باعه، أو وقفه أو رهنه أو ما أشبه ذلك، فعلى المذهب يسقط خياره؛ لأن تصرفه فيه دليل على رضاه به.
والصحيح أن في ذلك تفصيلاً، فإن قال: إني تصرفت فيه راضياً بالأرش وعدم الرد فله الأرش، وإن قال: تصرفت فيه مسقطاً للخيار سقط خياره؛ لأن هذا الأمر يعود إلى نيته.
فإن قال البائع: أنا أريد أن أُحلِّفَهُ أنه إنما تصرف فيه راضياً بالأرش لا بالعيب فإنه يُحَلَّف، ويقال: احلف أنك إنما تصرفت فيه إمضاءً للعقد ورضا بالأرش، فإذا حَلَفَ فالأمر موكول إلى ذمته.
__________
(1) وهذا هو المذهب.(8/322)
وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمٍ وَلاَ رِضَا وَلاَ حُضُورِ صَاحِبِهِ وَإِن اخْتَلَفَا عِنْدَ مَنْ حَدَثَ العَيْبُ، فَقَوْلُ مُشْتَرٍ مَعَ يمينِهِ، وَإِن لَمْ يَحْتَمِلْ إِلاّ قَوْلَ أحَدِهِمَا قُبِلَ بِلاَ يَمينٍ.
قوله: «ولا يفتقر إلى حكم» أي: لا يفتقر الفسخ بالعيب إلى حكم حاكم، فلا يلزم المشتري إذا أراد أن يفسخ أن يذهب إلى القاضي، ويقول: إنني أريد أن أفسخ البيع الذي حدث مع فلان؛ لأن هذا حق من الحقوق ثابت لصاحبه فلا يحتاج إلى محاكمة، وليس شيئاً مختلفاً فيه حتى نقول: إن الحاكم يرفع حكمه الخلاف بل هو أمر متفق عليه.
قوله: «ولا رضا ولا حضور صاحبه» كذلك لا يفتقر إلى رضا وحضور صاحبه. و «رضا» هنا غير منونة؛ لأنها بنية المضاف إليه، فلا يفتقر إلى رضا صاحبه، ولا حضور صاحبه، أي: فلا يفتقر إلى رضا صاحب المشتري، وهو البائع، ولا إلى حضوره.(8/323)
ووجه ذلك أن الحق للمشتري، فهو الذي له حق الفسخ، فلم يُشترط رضا المفسوخ عليه، كالطلاق بيد الزوج، ولا يشترط أن ترضى الزوجة ولا أن تحضر، ولهذا لو طلق زوجته، وهي غير حاضرة طلقت وإن لم تعلم إلا بعد يومين أو ثلاثة؛ لأنه لا يشترط رضاها، كذلك أيضاً لا يشترط رضا البائع ولا حضوره.
فإن ادعى المشتري أنه قد فسخ، وأنكر البائع، فالقول قول المشتري؛ لأن هذا لا يعلم إلا من جهته.
قد يقول قائل: إن الأصل عدم الفسخ، فعليه يكون القول قول البائع؟
فيقال: هذا الأصل معارض بأصل آخر، وهو أنه لا يعلم إلا من جهته، فإذا قال: إني فسخت، أخذنا بقوله.
قوله: «وإن اختلفا عند من حدث العيب» الفاعل البائع والمشتري، و «من» استفهامية، اختلفا فقال البائع: حدث العيب عندك فلا خيار لك، وقال المشتري: بل هو سابق للعقد فلي الخيار.
قوله: «فقول مشترٍ مع يمينه، وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما قُبل بلا يمين» فهذه المسألة، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يمتنع صدق أحدهما، فهنا القول قول من لا يحتمل قوله الكذب.(8/324)
الحال الثانية: أن يكون هناك احتمال، فهنا يكون القول قول المشتري.
مثال ما لا يحتمل قول البائع: الإصبع الزائدة، فإذا اشترى عبداً فوجد فيه إصبعاً زائدة، فأراد رده، فقال البائع: حدث هذا العيب عندك، وقال المشتري: أبداً، فالقول قول المشتري؛ إذ لا يمكن أن يحدث له إصبع زائدة، ولو أمكن أن يحدث لكان كل إنسان يتوقع أن يحدث له ذلك، وإذا قبلنا قول المشتري فلا يشترط أن يحلف؛ لأنه لا حاجة للحلف.
مثال ما لا يحتمل قول المشتري: اشترى بهيمة ثم ردها، والعيبُ الذي فيها جُرْحٌ، ادعاه المشتري فنظرنا إلى الجرح وإذا هو يثعب دماً، جرح طري والبيع له مدة أسبوع، فالقول قول البائع بلا يمين؛ لأنه لا يحتمل أن يكون هذا الجرح قبل العقد.
أما إذا كان يحتمل هذا وهذا، كعرج وفساد في طعام، وما أشبه ذلك فالمؤلف يقول: إن القول قول المشتري.
وعلة ذلك أن العيب فوات جزء في البيع وهو الكمال، فالمعيب قد فاته الكمال، والأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت، والذي يدعي عدم قبضه المشتري، فيكون القول قول المشتري وهذا وجهه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، فالبائع الآن يقول: إني بعت عليك هذا الشيء
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ} ..} (4552) ؛ ومسلم في الأقضية/ باب اليمين على المدعى عليه (1711) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ولفظه: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» واللفظ الذي أشار إليه الشيخ ـ رحمه الله ـ عند البيهقي (10/252) هكذا: «ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، قال الحافظ في «البلوغ» (1408) : بإسناد صحيح.(8/325)
سليماً، وهو يقول بعته علي معيباً، والمسألة محتملة فالقول: قول المشتري؛ لأن الأصل عدم قبض هذا الجزء الفائت بالعيب، فيكون المشتري مدعى عليه والبائع مدعياً، وهذه الرواية من مفردات مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والقول الثاني: أن القول قول البائع، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ـ رحمهم الله ـ وهو القول الراجح؛ للأثر والنظر، أما الأثر فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادَّان» (1) ، وهذا نص صريح؛ ولأن المشتري مدعٍ أن العيب سابق، حتى على قاعدة الفقهاء، المدعي: من إذا سكت تُرك، والمشتري هنا لو سكت لم يُطالب، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «البينة على المدعي» ، والمدعي هنا بلا شك هو المشتري، فنقول له: إيت ببينة أن العيب حدث عند البائع.
وأما النظر فلأن الأصل عدمُ وجودِ العيب والسلامةُ، ودعوى أن العيب سابق على العقد خلاف الأصل، وإذا كان لا
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/466) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب إذا اختلف المتبايعان والمبيع قائم (3511) والنسائي في البيوع/ باب اختلاف المتبايعين في الثمن (7/302) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء إذا اختلف البيعان (1270) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب البيعان يختلفان (2186) ، واللفظ لأحمد وابن ماجه عن ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ، والحديث صححه الحاكم (2/45) ووافقه الذهبي، وحسنه البيهقي (5/332) وقال: «قد روي بأسانيد مراسيل إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قوياً» . وانظر: «التلخيص» (1222) و «الإرواء» (5/166) .(8/326)
يقبل قول المشتري في أصل العيب، فكذلك لا يقبل قوله في زمن العيب.
ولكن يجب أن نعلم أن كل من قلنا القول قوله، فإنه لا بد من اليمين، وهذه قاعدة عامة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين على المدعى عليه ـ وفي لفظ ـ على من أنكر، لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجال دماء قوم وأموالهم» (1) .
فإن قال قائل: المدعي يسهل عليه أن يحلف، أولاً: لأجل أن يصر على قوله، وثانياً: طمعاً.
ولكن نقول: إذا حلف على يمين هو فيها كاذب يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، ولا يمكن لمؤمن أن يُقدم على هذا العمل، وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: اليمين الفاجرة تدع البلاد بلاقع، أي: أنها متلِفة، وهذا هو الواقع.
ولقد حدثني أحد الأشخاص الموثوقين أنه صار له دعوى على شخص بدراهم، وليس له بها بينة وهي ثابتة، فتحاكموا إلى القاضي وحكم ببراءة المدعى عليه باليمين، وحلف أنه بريء منها، فدعا عليه المحكوم عليه، فخرج هو وعائلته من البلد التي جرى فيها التحاكم إلى بلد قريبة منها، فأصيب بحادث ومات هو وعائلته، وهذا شاهد لقول الإمام أحمد: إنها تدع الديار بلاقع، أي: خالية ليس فيها أحد، ففائدة اليمين أن فيها خطراً عظيماً دنيوياً وأخروياً، ولا يقدم عليها إنسان إلا رأى النتيجة سيئة قريباً أو بعيداً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (325) .(8/327)
السّادِسُ: خِيَارٌ فِي البَيعِ بِتَخْبِيرِ الثّمَنِ، مَتَى بَانَ أقَلّ أوْ أكْثَرَ، وَيَثْبُتُ فِي التَّوْلِيَةِ، وَالشّرِكَةِ، والمُرَابَحَةِ، وَالمُواضعَةِ وَلاَ بُدَّ فِي جَمِيْعِها مِن مَعرِفَةِ المُشتَرِي رَأسَ المَالِ..
قوله: «السادس» أي من أقسام الخيار.
قوله: «خيار في البيع بتخبير الثمن» «بتخبير الثمن» متعلق بالبيع، وليس متعلقاً بخيار، أي: فيما إذا باعه بتخبيره بالثمن، وتخبير بمعنى إخبار؛ لأنه مصدر خبر يخبر تخبيراً، ويماثله أخبر يخبر إخباراً.
والظاهر ـ والله أعلم أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ تناقلوها، عبَّر بها الأول ثم تبعه الآخر، وإلا لو قيل: خيار يثبت فيما إذا أخبره بالثمن لكان أوضح، أي: إذا باع الشيء، وقال المشتري: كم الثمن؟ قال: الثمن مائة ريال وهو باعه برأس ماله، الآن أخبره بالثمن، بأن رأس المال مائة ريال، فإذا تبين أن رأس المال تسعون ريالاً، فحينئذٍ يثبت له الخيار بسبب إخبار البائع إياه بالثمن؛ فتبين أن إخباره بالثمن غير صحيح؛ لأنه قال: بمائة، ثم ثبت أنه اشتراه بثمانين.
مثال آخر: جاءني رجل فقال: أنا اشتريت سيارة بثمانين ألفاً، فجاءني رجل وقال: بعنيها برأس مالها، قلت: بعتها عليك برأس المال، فكم رأس المال؟ قلت: مائة ألف، فقال: قبلت، ثم تبين بعد ذلك أن الثمن ثمانون ألفاً، فالبائع حينئذٍ كذب على المشتري حيث أخبره بما لا صحة له.
فسبب ثبوت الخيار للمشتري التخبير الكاذب بالثمن؛ لأن البائع أخبره خبراً كاذباً بثمن هذه السلعة، وهو نوع من الغش والتدليس، فإنه أظهر السلعة بثمن كثير وهي في الواقع بثمن قليل، وهذا حرام، ولهذا جُعل للمشتري الخيار.(8/328)
والبيع بالتخبير يقابله البيع بالمساومة، فالبيع بالتخبير فيه نوع من التقييد والبيع بالمساومة فيه نوع من التحرر، فالبائع والمشتري غير مقيدين بثمن، والبيع بالمساومة أسلم من وجه ولكنه أخطر من وجه آخر، أسلم من جهة أنه لا يكون فيه كذب، ولكنه أخطر من جهة أن البائع ربما يزيد في ثمن السلعة كثيراً، ففي كل منهما سهولة من وجه وخطورة من وجه آخر، والغالب أن التخبير أشد طمأنينة للمشتري.
قوله: «متى بان أقل أو أكثر» «متى بان أقل» واضح؛ لأن المشتري مغبون، أي: متى بان الثمن أقل مما أخبر به، لكن قوله: «أو أكثر» تصويرها صعب، ولهذا لا توجد هذه العبارة «أكثر» لا في «الإقناع» ، ولا في «المنتهى» ، ولا في «المقنع» الذي هو أصل هذا الكتاب، ولا غيره، وهي عند التأمل لا وجه لها، فلعلها سبق قلم من المؤلف.
فإذا بان أكثر فليس بمغبون، اللهم إلا إذا قال المشتري: أنا لا أريد أن يمن علي، أنا أريد الثمن الحقيقي بلا زيادة، فهذه ربما تكون صورة المسألة، وأما من الناحية المالية فمتى بان أكثر، فالواقع أن الحظ في جانب المشتري، فكيف يثبت له الخيار؟!
قوله: «ويثبت في التولية، والشركة، والمرابحة، والمواضعة» وجه حصره في هذه الأربع أن هذه هي الصور الممكنة عقلاً، فالبيع بالتخبير يمكن في صور أربع فقط.(8/329)
التولية هي أن يبيعه برأس ماله، وسميت تولية؛ لأن المشتري صار بدلاً عن البائع، وكأنما يصير وليّاً له أي متابعاً له، كأنه يقول له: وليتك ما توليت، فيشتريه بمائة، ويأتيه آخر ليشتريه منه، فيقول: بعته عليك برأس المال فهذه تولية.
والشركة أن يبيع عليه بعضه بقسطه من الثمن، مثل أن يبيع عليه النصف فيكون على المشتري الثاني نصف الثمن، أو الثلث، أو الربع، أو أكثر، أو أقل، والبيع بالشركة قد يكون تولية وقد يكون مرابحة وقد يكون مواضعة.
والمرابحة أن يبيعه برأس ماله وربح معلوم، فيقول: بعتك برأس ماله وربح عشرة ريالات، أو بعتك برأس ماله مع ربح العشر، أي: سواء عين الربح أو نسبته.
المواضعة أن يضع من الثمن، فيقول: بعتك إياه بخسارة عشرة ريالات، أو العشر، أو الخمس، أو ما أشبه ذلك.
أمثلة أخرى على هذه الصور الأربع:
مثال التولية: أن يقول: اشتريت سيارة بمائة ألف، فجاءني رجل فقال: بعنيها برأس مالها، فقلت: بعتكها برأس مالها.
مثال الشركة: اشتريت أرضاً بمائة ألف، فجاءني رجل فقال لي: اجعل لي نصف الأرض، أنا أريد أن أعمر مستراحاً لي، فقلت: أشركتك بنصف الأرض على حسب رأس المال، فهذه شركة، لكنها حسب الثمن تولية؛ لأنه لم يربح عليه ولا نزل له من الثمن.(8/330)
مثال المرابحة: اشترى سيارة بمائة ألف فجاءه إنسان، وقال: أنا أريد أن أربحك فبعنيها بربح عشرة آلاف، فيقول: بعتك، هذه مرابحة، أو يقول: بعنيها بربح العشر، فتكون مائة وعشرة آلاف، فالمرابحة تكون بالنسبة، وتكون بالتعيين.
مثال المواضعة: عكس المرابحة، فيقول: اشتريتها بمائة وأضع لك عشرة في المائة، أو يقول: العشر، فتكون بتسعين.
قوله: «ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال» أي: إن بعتها تولية لا بد أن يعرف المشتري رأس المال؛ لأنه إذا لم يعرفه صار مجهولاً، ومن شرط صحة البيع العلم بالثمن.
وظاهر كلام المؤلف حتى ولو كان البائع ممن عرف بالمتاجرة، ووثق من شرائه، فإنه لا بد أن يعرف المشتري رأس المال، فلو جاءني وقال: اشتريت منك هذه الأرض برأس مالها، فقال: بعتك إياها، والمشتري لا يعلم كم رأس المال، فإن البيع لا يصح؛ لأن الثمن مجهول، ومن شروط البيع أن يكون الثمن معلوماً.
ويتخرج القول بالجواز على جواز البيع بمثل ما باع به فلان إذا كان المشتري معروفاً بالحذق في البيع والشراء، والمشتري الذي هو البائع في المسألة الثانية.
مثاله: اشتريتُ أرضاً بمائة ألف ريال، وأنا ممن يتجر في الأراضي ولا يُغبن فيها، فجاءني رجل وقال: بعني الأرض التي اشتريتها برأس مالها، فقلت: بعتها عليك، وهو لا يدري(8/331)
بكم اشتريتها، لكنه يعرف أنني رجل متاجر حاذق لا أغبن في الشراء.
فعلى المذهب لا يجوز، لكن كما سبق يتخرج على القول بجواز البيع كما يبيع الناس أو كما يبيع فلان أنه يجوز، وهو الصحيح؛ لأن كثيراً من الناس إذا عرف أن هذا الرجل ممن يتاجرون بهذه السلعة، وأنه حاذق فيها يثق به، بل ربما لو أراد أن يشتريها لجاء إليه يستشيره، ولكن لا شك أن الأولى والأحسن أن يعلم بالثمن؛ لأن الإنسان قد يقدر ثمن هذه السلعة قليلاً ويكون كثيراً، وهذا يقع بكثرة، فإذا عقد البيع ولزم البيع، فإنه ربما يستحي أن يقول: رجعت، فمن ثم نقول: لا شك أن الأولى بيان الثمن للمشتري؛ لما يلي:
أولاً: للخروج من الخلاف.
ثانياً: لأنه أطيب للقلب، لكن كون هذا شرطاً فيه نظر، بل نقول: إذا كان البائع الذي باع برأس المال ممن عرف بالحذق بالتجارة فإنه يكفي الاعتماد على حذقه واتجاره.
قال في «الروض» (1) : «لا بد من معرفة المشتري والبائع رأس المال» الماتن حذف كلمة «البائع» والشارح قال: «والبائع» وإنما حذفها الماتن؛ لأن الغالب أن البائع يعلم رأس المال، لكن قد لا يعلم، بل كثيراً ما يقع وهو لا يعلم؛ مثل أن يكون البائع تاجراً له وكلاء، فاشترى وكيله له أرضاً ثم
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن القاسم» (4/459) .(8/332)
جاء رجل، وقال للتاجر: بعني الأرض المذكورة برأس المال، قال: أبيعها عليك، فالبائع حينئذٍ لا يعلم، والوكيل هو الذي يعلم، واشتراط علم البائع برأس المال أوكد من اشتراط علم المشتري برأس المال؛ لأن البائع ربما يغبن غبناً كثيراً، فربما يكون وكيله قد اشتراها في زمن الرخص مثلاً بمائة ألف، وهي تساوي مائتين، أو ارتفع السعر وبلغت ضعف قيمتها، وهذا التاجر لا يعلم، فإذا باعها عليه برأس المال، وقال الوكيل: رأس مالها مائة ألف، وهي تساوي مائتي ألف أو أكثر، فسيقول البائع: إن هذا المشتري غبنني وخدعني ويكون في قلبه حسرة، لا سيما إن كان من الحريصين على الدنيا، ويمثلون قول المتنبي:
بليت بِلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
تشبيه عجيب!! الأطلال هي بقايا الديار، فهذا رجل شحيح ضاع خاتمه في التراب، فسيبقى في التراب يبحث حتى يجد الخاتم.
فالحاصل أنه لا بد في الخيار بتخبير الثمن من علم البائع والمشتري برأس المال؛ لأن عدم معرفتهما بذلك جهل، والجهل غرر، وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر (1) .
فإذا باع عليَّ رجل سلعة برأس مالها، فقلت له: كم رأس المال؟ فقال لي: مائة، ثم تبين أن رأس المال ثمانون، فإن لي الخيار، إن شئت أمسكتها وإن شئت رددتها، وهذا الذي مشى
__________
(1) سبق تخريجه ص (143) .(8/333)
عليه المؤلف رواية عن الإمام أحمد، والمذهب أنه لا خيار، فيقال له: نضع عنك الزائد وتلزمك؛ لأن هذا من مصلحته، فكيف نثبت له الخيار بشيء اشتراه برأس المال، وقيل له: إن رأس المال مائة ورضي بمائة، ثم تبيّن أن رأس المال ثمانون، فالخيار لدفع الضرر، وهذا الذي اشترى برأس المال على أنها بمائة، ثم تبين أنها بثمانين وسيأخذها بالثمن الحقيقي ليس عليه ضرر فلا خيار له.
لكن لو رأى القاضي إذا ترافعوا إليه أن من المصلحة إثبات الخيار له؛ لكونه يعلم أن البائع مدلس، فحينئذٍ يتوجه القول بإثبات الخيار تأديباً للبائع على التدليس والكذب، وأما إذا لم يكن هناك شيء فلا يمكن؛ لأن المشتري قد يجعل كون الخيار له وسيلة لترك المبيع؛ لأن قيمته في السوق نقصت فنفتح باب الحيل على الناس.
لكن لو قال البائع: غلطت، قلت: إن الثمن مائة وظننت أنها السلعة الفلانية، أو أن قيمة هذه السلعة مائة غلطاً، فإنه لا يقبل قوله إلا ببينة؛ لأنه مدعٍ، وإذا لم يكن عنده بينة فالقول قول المشتري، فيحلف أنه لا يعلم أن البائع غلط، ويثبت له الخيار على القول بالخيار.
وسبق أنه لو قيل بقول وسط في هذه المسألة، وهو أنه إذا ثبت أن البائع كاذب متعمد، فإنه ينبغي أن يمكن المشتري من الخيار، تأديباً للبائع وعقوبة له.
وَإِن اشْتَرى بِثَمَنٍ مُؤجَّلٍ أوْ مِمّنْ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، أَوْ بأكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ حيِلَةً،.
قوله: «وإن اشترى بثمن مؤجَّل» «اشترى» الفاعل يعود على(8/334)
البائع تولية ولم يبين، مثل أن يقول: بعتك هذا الكتاب برأس ماله، وهذا بيع تولية، فقال: كم رأس ماله؟ قال: رأس ماله عشرون درهماً، قال: اشتريته، وكان هذا الذي باعه قد اشتراه بعشرين درهماً مؤجلاً ولم يخبر المشتري ـ ومعلوم أن الثمن المؤجل يكون أكثر ـ فاشتراه المشتري وصدقه وأخذه بعشرين، ثم تبين أن هذا الثمن كان ثمناً مؤجلاً، فهو صادق في أنه اشتراه بعشرين، لكنه ثمن مؤجل، فنقول: للمشتري الخيار إن شاء أمسكه وإن شاء رده؛ وتعليل ذلك أن البائع غرَّه وخدعه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لعرق ظالم حق» (1) ، فجزاؤه أن يفسد عليه أمره، وأن يقال للمشتري: أنت بالخيار.
هذا هو الذي مشى عليه المؤلف ـ وهو وجيه جداً ـ وهو الصواب إذا كان البائع الذي باع برأس ماله قد خدعه فنعامله بنقيض قصده.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً في الحرث والمزارعة باب/ من أحيا أرضاً مواتاً؛ وأبو داود في الخراج/ باب في إحياء الموات (3073) ؛ والترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (1378) ؛ عن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: (حسن غريب، وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً) ؛ وأخرجه أبو داود (3074) عن عروة بن الزبير قال: قال رجل من الصحابة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحسنه الحافظ في «البلوغ» (897) .
وقد روي أيضاً عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرفوعاً عند الطيالسي (1440) ؛ والدارقطني (4/217) ؛ والبيهقي (6/142) ، وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ في زيادات عبد الله على «المسند» (5/326) ؛ والطبراني في الكبير كما في المجمع (4/174) .
قال الحافظ في الفتح (5/19) : «وفي أسانيدها مقال، ولكن يتقوى بعضها ببعض» ، ومثله في «الإرواء» (5/356) .(8/335)
والمذهب أنه ليس له حق الفسخ، ولكنه يأخذه بأجله؛ وتعليل ذلك أنه في هذه الحال لا ضرر عليه؛ إذ إنه زاده خيراً، فهو في الأول قد رضي أن يشتريه نقداً بعشرين، والآن صار عليه مؤجلاً بعشرين، والتأجيل أرفق به فيكون قد زاده خيراً؛ لأنه سينتفع بالثمن فيبيع به ويشتري، وإذا حل الأجل سلمه للبائع وليس له الخيار؛ لأن الخيار إنما هو لدفع الضرر، وهنا لا ضرر.
ولكن مع ذلك يقال: قد يكون زاده خيراً، وقد يكون زاده شراً، وربما يقول المشتري: أنا أَحَبُّ إلي أن أشتري بنقد؛ لأن الدراهم الآن معي فإن بقيت معي إلى الأجل فربما أصرفها في أشياء غير مفيدة لي، وقد لا يرضى بالتأجيل، فلا يريد أن يبقى الشيء ديناً في ذمته، وربما يكون ـ أيضاً ـ في بلد ظالم واليها، فيخشى إن بقي عنده شيء من المال أن يؤخذ منه مصادرة، ويقول: التعجيل أحب إلي من التأجيل.
ولكن الجواب على هذا أن يقال: إن هذه حال نادرة، والأصل عند جميع الناس من حيث العموم أن المؤجل أيسر على باذله من الحالّ.
ولكن كما سبق إذا علمنا أن البائع قد خدعه يقيناً فإنه في هذه الحال نقطع عليه الطريق، ونقول للمشتري: أنت بالخيار إن شئت افسخ، وإن شئت خذه بأجله.
فإذا قلنا: يأخذه بأجله، فهل يكمل الأجل، أو يبتدئ الأجل من جديد؟(8/336)
الجواب: يأخذه من جديد؛ لأن الثمن من أوصافه أن يكون مؤجلاً، فيأخذه بأجله ابتداءً، فإذا قدر أنه باعه بعد أن اشتراه بثلاثة أشهر والأجل ستة أشهر يستأنف ستة؛ لأن هذا هو الثمن.
قوله: «أو ممن لا تقبل شهادته له» أي: أو اشترى البائع بتخبير الثمن ممن لا تقبل شهادته له، ثم باعه على آخر ولم يخبره فللثاني الخيار؛ لأن الغالب أن الإنسان مع من لا تقبل شهادته له، لا يستقصي في الثمن، فالغالب أنه لا يماكس.
والذي لا تقبل شهادته له أصوله وفروعه، الآباء والأمهات والأجداد والجدات، والأبناء والبنات وأبناء الأبناء وأبناء البنات، وكذلك الزوجان لا تقبل شهادة أحدهما للآخر.
مثاله: رجل اشترى من أبيه سلعة بمائة، ثم باعها على آخر برأس مالها، ثم تبين للمشتري أن الذي باع عليه قد اشترى من والده، فيقول المؤلف: له الخيار.
وظاهر كلامه أن له الخيار سواء غبن أم لم يغبن، بناءً على أن العادة أن الإنسان لا يستقصي فيما إذا اشترى ممن لا تقبل شهادته له.
ووجه الخيار للمشتري أن البائع لو اشترى من أجنبي لماكسه وكاسره، أما أبوه فيستحي منه، وكذلك يقال في الابن.
والصحيح في هذه المسألة أنه لا يثبت له الخيار إلا إذا ظهر في ذلك غبن، فله الخيار ويكون من باب خيار الغبن، أما إذا لم يكن هناك غبن فإنه كثيراً ما يشتري الإنسان من أصوله أو فروعه، ويستقصي في الثمن.(8/337)
قوله: «أو بأكثر من ثمنه حيلة» أي: إذا اشترى البائع الذي باعه بتخبير الثمن بأكثر من الثمن حيلة.
مثاله: رجل يطلب من آخر مائة ريال، والمطلوب يماطل، كلما جاءه قال: انتظر، وفي يوم من الأيام اشترى منه سلعة تساوي ثمانين بمائة، فلما اشتراها، قال المشتري ـ الذي هو الطالب ـ للبائع ـ المطلوب الذي يماطل ـ: إذاً مقاصة، فهذا الشراء ليس لرغبة في السلعة؛ بل حيلة على استخلاص حقه؛ فإذا جاء رجل آخر، وقال له: بعني هذه السلعة، فقال: أبيعها عليك برأس المال مائة، ثم تبين بعد ذلك أنه اشتراها بمائة حيلة، ليخلص دينه من هذا المماطل وهي تساوي ثمانين فللمشتري الخيار.
وكذلك إذا كان بأكثر من ثمنه محاباة، أي أن الذي باع بالتخبير اشترى هذه السلعة من شخص صديق له، وهي لا تساوي مائة، لكن اشتراها بمائة؛ لأنه صديقه، أو اشتراها بمائة؛ لأنه رأى أن هذا الرجل فقير، فقال: أزيد الثمن محاباة له وجبراً لخاطره، ثم إن هذا المشتري باعها بالتخبير بالثمن، وقال: إن ثمنها مائة، فنقول للمشتري الذي اشترى بالتخبير بالثمن: لك الخيار إذا تبين أنها أكثر من ثمنها من أجل المحاباة؛ لأن الإنسان إذا حابى أحداً لا يهمه أن يزيد عليه ريالين أو ثلاثة أو عشرة، وأنه إذا باع عليه ـ أيضاً ـ لا يهمه أن ينقص ريالين أو ثلاثة أو عشرة.
قال في «الروض» : «أو لرغبة تخصه» (1) ، أي الذي باع
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/461) .(8/338)
بتخبير الثمن، اشترى هذه السلعة لرغبة تخصه ليس لأنها زادت في السوق، بل لرغبة تخصه.
مثاله: رجل اشترى بيتاً إلى جنب بيته، فالبيت يساوي مائة ألف، واشتراه بمائة وعشرين؛ لأنه إلى جانب بيته ويداخل البيت، فهذه رغبة تخص المشتري، فلو لم يكن جاراً له لم يشتره بمائة وعشرين، ثم إنه طابت نفسه من البيت وباعه على إنسان بالتخبير بالثمن، فقال المشتري الآخر: بكم اشتريته؟ قال: بمائة وعشرين، قال: أخذته برأس ماله، وتبين أن المائة والعشرين أكثر من الثمن، وأن ثمنه مائة، وزاد العشرين لرغبة تخص المشتري، وهو كونه إلى جنبه ومداخلاً بيته.
مثال آخر: اشترى شاة حلوباً بمائة وعشرين؛ لأن عنده خروفاً من الغنم يحتاج إلى لبن، فاشتراها بمائة وعشرين؛ من أجل أن ترضع هذا الخروف، ثم انتهى رضاعه، وجاء إنسان وقال: اشتريها منك برأس المال مائة وعشرين، ثم تبين أنه اشتراها بمائة وعشرين من أجل إرضاع الخروف.
قال في «الروض» : «أو موسم فات» (1) ، أي: اشتراه في أيام الموسم.
مثاله: اشترى شاة في عيد الأضحى، وعادة أن الغنم في عيد الأضحى ترتفع قيمتها، فاشترى هذه الشاة بمائة وفي غير الموسم تساوي ثمانين، ثم إنه بعد أن فات الموسم باعها برأس مالها مائة، وهو أكثر من الثمن؛ لأنه اشتراها في موسم، والموسم قد فات.
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/461) .(8/339)
أما لو باعها في نفس الموسم فهذا لا بأس، لكنه الآن قد فات، فنقول: للمشتري الخيار.
إذاً متى بان الثمن أكثر لسبب من الأسباب يتعلق بالمشتري أو يتعلق بالمبيع، فإن للمشتري الآخر الخيار.
أوْ بَاعَ بَعْضَ الصّفْقَةِ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ، وَلَمْ يُبَيّن ذَلِكَ في تَخْبِيْرِهِ بِالثَّمَنِ، فَلِمُشْتَرٍ الخِيّارُ بَيْنَ الإِمْسَاكِ والرّدِ، وَمَا يُزَادُ فِي ثَمَنٍ، أَو يُحَطُّ مِنْهُ فِي مُدَّةِ خيَارٍ أوْ يُؤخَذُ أرْشاً لعَيْبٍ، أو جنَايةٍ عَلَيْهِ يُلْحَقُ بِرَأسِ مَالِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ لُزُومِ البَيْعِ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَإِنْ أخْبَرَ بِالحَالِ فَحَسَنٌ.
قوله: «أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشترٍ الخيار بين الإمساك والرد» مثال ذلك: اشترى ثلاث سيارات بستين ألفاً، ثمن كل واحدة عشرون ألفاً، باع واحدة منها بقسطها من الثمن عشرين ألفاً، ثم باع الثنتين تولية بأربعين ألفاً، ثم تبين أنه اشترى ثلاث سيارات وباع واحدة، فللمشتري الخيار، وهذا معنى قوله: أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن فللمشتري الخيار، لماذا لم تقل له: إني بعتك سيارتين من ثلاث تولية من رأس المال؟ لا بد أن تبين.
والمذهب أنه إذا كان الثمن ينقسم على المبيع بالأجزاء فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ضرر، وإن كان ينقسم عليه بالقيمة ففيه الخيار؛ لأنه إذا كان ينقسم عليه بالقيمة، فالقيمة قد تزداد إذا زاد المبيع وقد تنقص، كما هو معروف في بيع الجملة والتفريد.
أما إذا كان الثمن ينقسم عليه بالأجزاء بحيث إن كان جزء له قسطه من الثمن، فإنه إذا باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن وباع الباقي تولية ولم يذكر أنه باع منها شيئاً، فلا خيار له؛ لأنه لا ضرر عليه، فلو باع ثلاث سيارات بستين ألفاً، قِيمتها مجموعة(8/340)
ومفردة واحدة، فإذا باع واحدة بعشرين ألفاً، فإنه بالضرورة يكون الباقي بأربعين ولا ضرر على المشتري، بخلاف ما إذا اشترى كيساً من القمح بتسعين درهماً ثم باع ثلثه بثلاثين درهماً، فإنه في هذه الحال ربما يكون الباقي يساوي ستين وقد يساوي أكثر، فإذا كان الثمن ينقسم بالقيمة على المبيع، فإنه إذا باع بعضه ولم يخبر به فللمشتري الخيار، وإن كان ينقسم بالأجزاء فإنه لا حرج أن يبيع الباقي بقسطه من الثمن وإن لم يخبر المشتري، وهذا التفصيل أقرب إلى الصواب؛ لأن المشتري لا ضرر عليه إطلاقاً، أما ظاهر كلام المؤلف فإن فيه الخيار مطلقاً، سواء كان الثمن ينقسم على المبيع بالأجزاء أو ينقسم عليه بالقيمة.
فإذا قال قائل: كيف يكون له الخيار؟.
نقول: لأن الناس يفرقون بين بيع التجزئة وبيع الجملة، وقد يزيد الإنسان الثمن في الجملة أو في التجزئة حسب الرغبات، وبهذا نعرف حرص العلماء ـ رحمة الله عليهم ـ على الصدق في البيع والشراء، وإلا لقال بعض الناس: ما دام أنه باع النصف بنصف الثمن، فلماذا لا يكون ملك هذا بخمسين، فيجب أن يصدق، فيقال: هو لم يحصله بخمسين، وإنما حصل عليه مع البقية بمائة، وهذا يساوي خمسين، فالواجب أن يبين.
قوله: «وما يزاد في ثمن» أي: في مدة الخيار فإن يجب أن يخبر به.
مثاله: اشترى شيئاً بمائة وفي أثناء المجلس، قال البائع: أنا مغبون لا أبيعه إلا بمائة وعشرين، وإلا لي الخيار فنحن الآن(8/341)
في المجلس، قال المشتري: قبلت بمائة وعشرين، فجاء رجل آخر يريد أن يشتري من المشتري برأس المال، هل يقول: رأس مالي مائة وعشرون؟
الجواب: لا، لا بد أن يخبر به فيقول: اشتريته بمائة، ثم في زمن الخيار زاد عليَّ؛ لأن العقد الأول كان على مائة فيجب أن يصدق، حتى في هذه الصورة يجب أن يلحق الزيادة برأس المال ويخبر به.
قوله: «أو يحط منه في مدة خيارٍ» أي: في مدة الخيار كذلك فيجب أن يخبر به.
مثاله: لما تم البيع بين البائع والمشتري وهما في المجلس، قال المشتري: أنا مغبون، اشتريته منك بمائة وهو لا يساوي إلا ثمانين، واتفقا على ثمانين فباعه بثمانين، فإذا اشتراه أحد منه برأس ماله فلا بد أن يقول: اشتريته بمائة، ثم حاططته إلى ثمانين مراعاة للعقد الأول؛ لئلا يلغى العقد الأول، أما إذا كان الإسقاط بعد التفرق، مثل: أن اشتريت هذا البيت بعشرة آلاف ريال وتفرقنا وأتيت بالدراهم إلى البائع، فقال: إني الآن أسقط عنك ألف ريال، فإنه هنا لا يجب الإخبار؛ لأنه قال: في مدة خيار وهنا الإسقاط وقع بعد لزوم البيع.
قوله: «أو يؤخذ أرشاً لعيب» مثاله: اشترى رجل شاة بمائة ريال، ثم وجد بها عيباً قُوِّمَ بعشرين، فدفعها البائع للمشتري، والذي اشترى الشاة باعها برأس مالها فهل يقول: إني اشتريتها بثمانين أو يقول بمائة ثم نزلت للعيب عشرين؟(8/342)
الجواب: الثاني، فلا بد أن يقول هذا، حتى يكون صادقاً في أنه اشتراها بمائة، ثم رُدَّ عليه عشرون من أجل العيب.
قوله: «أو جناية عليه يلحق برأس ماله ويخبر به» .
مثاله: اشترى عبداً بمائة، ثم إن العبد جُنِيَ عليه، بقطع بعض أطرافه أو ما أشبه ذلك، وكان أرش الجناية التي جُنِيَ بها على العبد خمسين فباعه برأس مالها، فإذا باعه برأس ماله وهو معيب يجب أن يقول: إني اشتريته بمائة فجُني عليه بخمسين، فيبين الواقع.
قوله: «وإن كان ذلك» المشار إليه الزيادة والنقص، وليس الجناية.
قوله: «بعد لزوم البيع لم يُلحق به» لأن البيع استقر على الثمن الأول، وأما ما أخذ أرشاً لعيب أو أخذ أرشاً لجناية فيخبر به، وإن كان بعد لزوم البيع، لكن الزيادة والنقص في الثمن يشترط لأن يخبر به أن يكون ذلك قبل لزوم البيع، أما بعد لزوم البيع فإنه لا يجب، ولذلك لو أن البائع الأول الذي باعه بمائة وتم البيع وتفرقا أبرأ المشتري من الثمن، ثم إن المشتري باعه برأس ماله، هل يلزمه أن يقول: إني اشتريته بمائة وأبرأني منها؟
الجواب: لا يلزمه؛ لأن هذا بعد لزوم البيع؛ ولهذا قال: «وإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم يُلحق به» .(8/343)
مسألة: إنسان اشترى ثوباً متسخاً بعشرة دراهم ثم أعطاه القصَّار «الغسَّال» فغسله بدرهمين، فيكون قد تحصل عليه باثني عشر درهماً، فجاءه إنسان وقال: أريد أن تبيعني إياه برأس المال، قال: رأس المال اثنا عشر درهماً، فلا يجوز، مع أنه لم يتحصل عليه إلا باثنى عشر درهماً، فلا بد أن يقول: اشتريته بعشرة دراهم، وغسلته بدرهمين، كل هذا تحرياً للصدق في المعاملات؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في المتبايعين: «إن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما» (1) .
وعلى هذا فكل شيء يتغير به الحال في باب التولية فلا بد من بيانه.
قوله: «وإن أخبر بالحال» يعني حتى ولو بعد لزوم العقد.
قوله: «فحسن» وعلل ذلك في «الروض» بقوله: لأنه أبلغ في الصدق (2) .
مسألة: هل يلزمه أن يخبر بكسب العبد، ونماء البهيمة المنفصل فيسقطه من الثمن أو لا يلزم؟.
الجواب: لا يلزم، فلو اشترى عبداً بعشرة آلاف، وبقي عنده شهراً أو شهرين وكسب في هذه المدة ألفين، ثم باعه برأس ماله، وقال: رأس ماله عشرة آلاف، ولا يلحق بها الألفين؛ لأن هذا نماء منفصل وهو للمشتري؛ لأنه في ملكه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (262) .
(2) «الروض مع حاشية ابن القاسم» (4/464) .(8/344)
السّابِعُ: خِيَارٌ لاِخْتَلاَفِ المُتَبَايِعَيْنِ، فَإذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثّمَنِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ بَائِعُ أوّلاً مَا بِعْتُهُ بكَذَا وَإِنّمَا بِعْتهُ بِكَذا، ثُمّ يَحْلِفُ المُشْتَرِي مَا اشْتَرَيتُهُ بِكَذا، وَإِنّمَا اشْتَريْتُهُ بِكَذَا،
قوله: «السابع: خيار لاختلاف المتبايعين» والخلاف بين المتبايعين من قديم الزمان، فيختلفان في الجنس أو في القدر أو في الصفة أو في العين، أو في أجل أو شرط، والاختلافات لا حصر لها.
والعلماء ـ رحمهم الله ـ ذكروا ما يشبه القواعد في هذا الباب، إذ إن جزئيات المسائل لا يمكن الإحاطة بها، وليس كل اختلاف يوجب الخيار، بل الاختلاف الذي دلت السنة على ثبوت الخيار في مثله، ولهذا يقول في «الروض» : «في الجملة» (1) ، والفقهاء إذا قالوا: «في الجملة» ، فالمعنى أكثر الصور، وإذا قالوا: «بالجملة» ، فالمعنى جميع الصور، هذا مصطلح عندهم، والفرق أن «في» للظرفية و «الباء» للاستيعاب.
قوله: «فإذا اختلفا في قدر الثمن» بأن قال البائع: بعته بعشرة، وقال المشتري: اشتريته بثمانية، ولم توجد بينة، فإن وجد بينة تشهد بقول أحدهما فالأمر ظاهر، يحكم بما قالت البينة.
وهل القرينة هنا تنفع؟ أي: لو قيل: إن ما ادعاه المشتري أقرب إلى الثمن في السوق مما ادعاه البائع؟
الجواب: في هذا تفصيل، فإذا كان ما ادعاه أحدهما بعيداً لا يمكن، فهذا لا يقبل، ولا يلتفت له، ولا تُسمع دعواه، وإن كان محتملاً فعلى ما قال المؤلف وسيذكر إن شاء الله.
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن القاسم» (4/465) .(8/345)
مثال هذا: باع شخص سيارة على آخر تساوي في السوق ستين ألفاً، ثم اختلفا في الثمن، فقال البائع: بعتها بستين ألفاً، وقال المشتري: اشتريتها بعشرة آلاف، فهذا لا يمكن إلا لسبب من الأسباب، والأصل عدم السبب، ولذلك لو أن أحداً عرض هذه السيارة التي تساوي ستين ألفاً بعشرة آلاف، لقيل: إن هذا سارقها، أو فيها بلاء، كما قلنا في العيب فيما سبق إذا لم يحتمل إلا قول أحدهما قبل بلا يمين.
قوله: «تحالفا» أي: كل واحد يحلف (1) ، وهذا مشروط بما إذا لم يكن بينة أو قرينة تكذب قول أحدهما.
فإذ قال قائل: كيف نلزمهما بالحلف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (2) ؟
قلنا: حقيقة الأمر أن كل واحد منهما مدع ومنكر، فتلزم اليمين كل واحد منهما، فالبائع مدعٍ أن الثمن مائة ومنكر أنه ثمانون، والمشتري مدع أنه ثمانون ومنكر أنه مائة، ولهذا ألزمنا كل واحد منهما بالحلف، فيتحالفان.
قوله: «فيحلف بائع أولاً ما بعته بكذا وإنما بعته بكذا» لأنه هو الذي انتقل الملك عنه، فكان جانبه أقوى؛ لأن الأصل عدم خروج الملك من يد صاحبه، ولأن البائع يريد أن يثبت والمشتري يريد أن ينفي، والنفي لا يكون إلا بعد الإثبات، فيحلف البائع أولاً، فيقول: والله ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، وعلى المثال
__________
(1) وهذا هو المذهب.
(2) سبق تخريجه ص (325) .(8/346)
الذي معنا: والله ما بعته بثمانين وإنما بعته بمائة، فيبدأ بالنفي أولاً كما هي العادة أن التخلية قبل التحلية، ولدفع دعوى المشتري.
قوله: «ثم يحلف المشتري ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا» ، فيحلف المشتري: والله ما اشتريته بمائة وإنما اشتريته بثمانين، فإذ تمت المحالفة ولم يرض أحدهما بقول الآخر فلكل واحد منهما الفسخ.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا بد من تقدم حلف البائع، فلو بدأ المشتري أولاً لم يصح، فإذا قلنا: للبائع احلف ثم حلف المشتري، فيلزم المشتري في هذه الحال أن يحلف ثانية؛ لأن المؤلف يقول: «فيحلف بائع أولاً» .
وظاهر كلام المؤلف ـ أيضاً ـ أنه لا بد من الجمع بين النفي والإثبات، نفي ما ادعاه خصمه وإثبات ما ادعاه هو، وإنما شرط ذلك ليكون دافعاً لما ادعاه خصمه بالنفي مثبتاً لما ادعاه هو بالإثبات، فلو نفى ما ادعاه خصمه فقط، وقال: والله ما بعته بثمانين، فلا يكفي حتى يحلف على ما ادعاه، ولو اقتصر على الإثبات فقط وقال: والله لقد بعته بمائة، وإن هذا المشتري كاذب، فهذا لا يكفي أيضاً، فلا بد أن يقول بالنفي: ما بعته بثمانين وإنما بعته بمائة، ولو قدم الإثبات على النفي فقال: والله لقد بعته بمائة، وما بعته بثمانين، فعلى كلام المؤلف لا يصح، فلا بد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يحلف البائع أولاً.
الثاني: أن يجمع بين النفي والإثبات.(8/347)
الثالث: أن يقدم النفي.
وكذلك يقال بالنسبة لحلف المشتري لا بد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون هو الثاني في اليمين.
الثاني: أن يبدأ بالنفي قبل الإثبات.
الثالث: أن يجمع بين النفي والإثبات.
وقال بعض أهل العلم: إن القول قول البائع، والدليل على ذلك ما يلي:
1 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادَّان» (1) .
2 ـ أن الملك خرج من يده، ولا يمكن أن يخرج إلا بما يرضى به هو ما لم توجد بينة.
وهذا القول أقوى؛ لأنه يؤيده ظاهر الحديث، ويؤيده المعنى أيضاً، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع وإلا فملكه باقٍ، إلا إذا ادعى البائع ثمناً خارجاً عن العادة فحينئذٍ لا يقبل، بأن قال: بعتها بمائة وهي لا تساوي خمسين في السوق.
فإذا قال قائل: لماذا لا يقبل ادعاء البائع؛ لأنه ليس على المشتري ضرر إذ إنه سيفسخ إذا لم يرض بما ادعاه البائع؟
فالجواب: أن في ذلك ضرراً على المشتري؛ لأن المشتري قد تكون حاجته متعلقة بهذه السلعة وقد اشتراها، أو يكون السوق ارتفعت أسعاره أو ما أشبه ذلك، فحينئذٍ نقول: إذا ادعى ثمناً أكثر مما جرت به العادة فإننا لا نقبل قوله لبعده.
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(8/348)
وأما على القول بأنهما يتحالفان، فالصحيح أنه لا يحتاج إلى الجمع بين النفي والإثبات، والمقصود هو نفي ما ادعاه صاحبه فقط، أو إثبات ما ادعاه هو، وهذا يحصل بإفراد النفي أو إفراد الإثبات، والجمع بينهما ليس بلازم، وهذا ـ أيضاً ـ أقوى من وجوب الجمع بينهما؛ وذلك لأن المقصود من الألفاظ هو المعاني، فإذا ظهر المعنى اكتفينا به بأي صيغة كانت، فلا يشترط على القول الراجح الجمع بينهما بل نقول: إذا أثبت كفى سواء جاء بطريق الحصر: «والله ما بعته إلا بكذا» ، أو قال: «والله لقد بعته بمائة» .
وإذا قلنا بالجمع ـ أيضاً ـ فالقول الراجح أيضاً، أنه لا يشترط تقديم النفي، وأنه لو قال: والله لقد بعته بمائة وما بعته بثمانين كفى؛ لأن المقصود حصل.
فإن عكسا في الترتيب فبدأ المشتري أولاً ثم البائع فنقول: يعيد المشتري؛ لأنه لا بد من الترتيب كما قال: «فيحلف بائع أولاً» .
وقيل: إنه لا يشترط الترتيب، وأن المشتري لو بدأ أولاً لاعتبرت يمينه؛ لأن المقصود حاصل.
وقيل: يبدأ المدعي، فمثلاً إذا كان المشتري هو الذي قال: اشتريته بكذا قبل أن يدعي عليه البائع أنه باعه بكذا قدم المشتري.
والظاهر بناء على القاعدة العامة: «أن العبرة في الألفاظ(8/349)
بمعانيها» ، فإذا حصل المقصود فإنه يصح ويحكم به، سواء بالتقديم أو التأخير وبتقديم النفي على الإثبات، أو بالاقتصار على الإثبات.
وقوله: «فيحلف بائع أولاً ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا» المراد هذا اللفظ أو معناه، فلو قال: والله لست بائعاً له بثمانين بل أنا بائع إياه بمائة، فإن ذلك كافٍ، فالعبارة التي ذكرها المؤلف لا يشترط لفظها إنما المقصود المعنى، لكن يبدأ أولاً بالنفي، ثم بالإثبات.
وَلِكُلٍّ الفَسْخُ إِذَا لَمْ يَرْضَ أحَدُهُما بِقَوْلِ الآخَرِ، فَإِنْ كَانَتْ السّلْعَةُ تَالِفَةً رَجَعَا إِلَى قِيْمَةِ مِثْلِهَا فإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهَا فَقَوْلُ مُشْتَرٍ، وَإِذَا فُسِخَ العقدُ انْفَسَخَ ظَاهِراً وَبَاطِناً.
قوله: «ولكل الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر» أي: بعد التحالف نقول: الآن كل واحد منكما بالخيار، فإن رضي أحدهما بقول الآخر فلا فسخ.
فمثلاً المشتري لما رأى أن البائع حلف اتهم نفسه، وقال: إن هذا الرجل لن يحلف هذا الحلف البات إلا عن يقين، ثم رضي، فالقول ما قال البائع، وكذلك لو أن البائع لما رأى المشتري قد حلف وأكد، فقال: أنا أصدقه وأوهم نفسي فإنه يبقى المبيع على ما هو عليه، ولهذا قال: «إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر» . قوله: «فإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها» .
مثاله: اشترى شاة ثم ذبحها وأكلها، ولما أراد أن يسلم الثمن للبائع قال البائع: الثمن مائة، وقال الذي اشترى الشاة وذبحها: بل الثمن ثمانون، فلو فسخنا العقد فالمبيع تالف، فنرجع إلى قيمة المثل.(8/350)
وصريح كلام المؤلف أننا لا نرجع إلى المثل بل إلى القيمة؛ وذلك لأن البائع أقر بأنها خرجت من ملكه بالقيمة، فهي مضمونة بالقيمة، وليست كضمان المتلف يرجع فيه إلى المثل ثم إلى القيمة.
وقوله: «قيمة مثلها» هل ذلك وقت العقد أو وقت التلف أو وقت التحالف؟ هذا ينبني على أن الفسخ هل هو رفع للعقد من أصله أو من حينه؟ إن قلنا: إنه رفع للعقد من أصله فهو وقت العقد، وإن قلنا: إنه رفع للعقد من حين الفسخ فالتقويم حين الفسخ، ولكن هنا قد يعارضه أمر آخر وهو التلف، إذ هي حين الفسخ تالفة، فكيف تقوَّم وهي تالفة؟! وعلى هذا يتحول إلى قيمتها وقت التلف؛ لأنه ربما يشتريها ولا يفسخ إلا بعد أسبوع ويتغير السعر، والظاهر أننا نرجع إلى قيمتها وقت العقد؛ لأنه من المعلوم أن المبيع وقت الخيار ملك للمشتري، وزيادة القيمة له، والبائع قد أخرجه من ملكه وقت العقد، فليس له إلا قيمتها وقت العقد.
بقي النظر الآن في اختلافها في القيمة، فظاهر كلام المؤلف أنه يرجع إلى قيمة المثل، ولو كانت أقل مما قال المشتري أو أكثر مما قال البائع.
مثاله: قال البائع: إنها بمائة، والمشتري قال: بثمانين، والسلعة تالفة، وقلنا: نرجع إلى قيمة المثل، فقالوا: إن قيمة المثل لهذه الشاة مائة وخمسون، فصارت القيمة أكثر مما قال البائع، أو قالوا: إن القيمة بستين فهي أنقص مما قال المشتري،(8/351)
فالآن المشتري مقر بأن في ذمته لهذا الرجل ثمانين، والبائع قد أقر أنه لا يطالب المشتري بأكثر من مائة، والآن البائع سيأخذ مائة وخمسين، أو سيدفع المشتري ستين أقل مما ادعى، هذا ظاهر كلام المؤلف؛ وعللوا ذلك بأنه لما انفسخ العقد وصار لا عبرة به، رجعنا إلى الأصل، وهو قيمة المثل، فألغي قول البائع والمشتري.
وقال بعض أهل العلم: إذا صارت القيمة أكثر مما قال البائع فإنه لا يستحق أكثر مما ادعى، وإن كانت القيمة أقل مما قال المشتري ألزم بما أقر به، ولا شك أن هذا هو الورع ألا يأخذ البائع أكثر مما ادعى أنه باع به، والمشتري يدفع ما أقر أنه اشترى به، ولا شك أن هذا هو طريق الورع، لكن هل يلزم حكماً؟
هذا محل خلاف، المذهب أنه يلزم بالقيمة سواء كانت أكثر مما ادعى البائع أو أقل مما ادعى المشتري، ولهذا قال: رجعا إلى قيمة مثلها دون المثل؛ لأن البائع أقر بالخروج من ملكه بالقيمة فهو لا يستحق المثل.
قوله: «فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر» أي: صفة السلعة التالفة فالقول قول المشتري.
مثاله: أن يقول البائع: إن العبد الذي هلك كان كاتباً، وقال المشتري: بل كان غير كاتب، فهنا إذا رجعنا إلى القيمة فبينهما فرق عظيم فالكاتب أغلى، فالقول قول المشتري، وذلك بناءً على القاعدة: (أن كل غارم فالقول قوله) ؛ لأن ما زاد على(8/352)
غرمه دعوى فيحتاج إلى بينة، فتقدر قيمته غير كاتب.
والعلة أنه غارم، والغارم لا يلزم بأكثر مما أقر به؛ لأن الأكثر مما أقر به دعوى تحتاج إلى بينة.
وقوله: «فإن اختلفا في صفتها فقول مشتر» هل مثل ذلك إذا اختلفا في قدرها؟ بأن قال البائع: إني قد بعت عليك شاتين، وقال المشتري: بل واحدة، وقد تلفت الشاتان، فالقول قول مشتر بناءً على القاعدة؛ لأن البائع يدعي الآن أن المبيع اثنتان والمشتري لم يقر باثنتين، بل أقر بواحدة وأنكر الثانية، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، إذاً إذا اختلفا في قدر المبيع أو في صفته فالقول قول المشتري.
قوله: «وإذا فسخ العقد انفسخ ظاهراً وباطناً» أي: ردت السلعة إلى البائع يتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم، ورجع الثمن إلى المشتري يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم، سواء كان أحدهما صادقاً أم كاذباً، حتى الكاذب ينفسخ العقد في حقه. وقوله: «ظاهراً وباطناً» ظاهراً في الدنيا والحكم، وباطناً عند الله وفي الآخرة، فلا حق لأحدهما على الآخر ولو كان كاذباً (1) .
مثاله: اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فقال البائع: بعت عليك هذه الشاة بمائة، وقال: المشتري: بل بثمانين، ولا بينة فتحالفا وتفاسخا، فترجع الشاة إلى البائع، والقيمة المدفوعة للمشتري إذاً انفسخ العقد الآن ظاهراً وباطناً، أما ظاهراً فواضح،
__________
(1) وهذا هو المذهب.(8/353)
فلو ترافعا إلى الحاكم، لحكم برد السلعة إلى البائع، ورد الثمن إلى المشتري.
وأما باطناً فلو فرضنا أن البائع كاذب، وأن البيع بثمانين، والسلعة ردت إليه، الآن نقول له: تصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا بعتها أو أجرتها أو وهبتها، فكل العقود التي تكون بعد فسخ العقد الأول تكون نافذة وصحيحة، حتى وإن كنت كاذباً، هذا ما مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ ولكن هذا قول ضعيف جداً.
والصواب أن الكاذب منهما لا ينفسخ العقد في حقه باطناً، وأنه لا يحل له أن يتصرف فيه، أي: فيما رجع إليه من ثمن إن كان مشترياً، أو من سلعة إن كان بائعاً، كما قالوا ذلك في الصلح فيمن ادعي عليه بدين وأنكر، وهو كاذب، وجرى الصلح بينه وبين المدعي، فإنهم قالوا هناك: من كذب لم يصح الصلح في حقه باطناً، فيقال: أي فرق بين هذا وهذا؟! فالصواب أن الكاذب منهما ينفسخ العقد في حقه ظاهراً فقط، أما باطناً فلا.
مثال: حلف أنه لم يبع بما قال المشتري، وإنما باع بما ادعاه، وفسخنا العقد فرجعت السلعة إلى البائع، ثم باعها لشخص آخر، فالبيع هذا صحيح ظاهراً وباطناً، حتى لو ترافعا إلى القاضي فيما بعد، فيما لو حصل خلاف بين المشتري الثاني وبين البائع، فإن الحاكم يحكم بأنها ملكه، أما إذا كان كاذباً فهنا محل الخلاف، فالمذهب أن البيع الثاني صحيح حتى عند الحاكم.(8/354)
والقول الثاني أنه ليس بصحيح، وأن هذا البائع يعتبر كالغاصب الذي تصرف في ملك غيره؛ لأن أصل انفساخ العقد ظلم، إذ إن القول هنا ما قاله المشتري، لكن البائع ظلمه، فادعى أكثر من الثمن من أجل أن يسترد المبيع.
وإِن اخْتَلَفَا فِي أجَلٍ أوْ شَرْطٍ فَقَوْلُ مَن يَنْفِيِه وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ المَبِيعِ تَحَالَفَا، وَبَطَلَ البَيْعُ،
قوله: «وإن اختلفا في أجل أو شرط فقول من ينفيه» مثال ما إذا اختلفا في أجل، أن يقول البائع: بعتك هذا الشيء نقداً غير مؤجل، فقال المشتري: بل بعتنيه مؤجلاً، فالقول قول البائع، أي: قول من ينفيه، فيلزم المشتري بدفعه نقداً؛ لأن الأصل عدم التأجيل، فلهذا كان القول قول من ينفيه.
وكذلك لو اختلفا في مقدار الأجل، فالقول قول من ينفي الزيادة، يعني اتفقا على أن الثمن مؤجل، لكن قال البائع: مؤجل إلى ستة أشهر، وقال المشتري: مؤجل إلى سنة، فالقول قول البائع؛ لأن الأصل عدم الزيادة، فهما قد اتفقا على ستة أشهر واختلفا فيما زاد، والأصل عدم الزيادة.
فإن قال قائل: هل يمكن أن نرجع إلى القرائن في هذه الحال؟ بمعنى أن هذه السلعة لو كانت نقداً لكانت بمائة، ولو كانت مؤجلة إلى سنتين أو أكثر لكانت بمائتين، والثمن الآن مائتان، والمشتري يقول: إنه مؤجل، والبائع يقول: غير مؤجل، فهنا الأصل مع البائع؛ لأن القول قول من ينفيه.
ولكن إذا كانت القرينة تؤيد قول أحدهما، فالقول قوله.
مثاله: هذه السلعة قيمتها في السوق مائة، وإذا كان الثمن(8/355)
مؤجلاً فسوف تكون بمائتين، والثمن مائتان، فالبائع يقول: إنه نقد، والمشتري يقول: إنه مؤجل فالقرينة مع المشتري، ولو سألنا أهل السوق فقلنا: كم تساوي هذه نقداً؟ لقالوا: لا تساوي إلا مائة، وكم تساوي مؤجلة إلى سنتين؟ قالوا: تساوي مائتين فهنا القرينة مع المشتري وعلى هذا فيترجح جانبه، ويقال: يحلف على أن الثمن مؤجل إلى سنتين ويحكم بذلك.
وعلى هذا فيكون إطلاق المؤلف إن كان مراداً ففيه نظر، وإن كان غير مراد وأن هذه الصورة تخرج منه، فالأمر ظاهر.
إذاً إذا اختلفا في الأجل فالقول قول من ينفيه، ما لم تقم قرينة على أن القول قول من يثبته فيحكم بهذه القرينة.
فإذا قال قائل: القرينة أمر ظاهر، فكيف تغلبونه على الأصل، والأصل عدم الأجل؟
قلنا: هذه قاعدة في كل الدعاوى، وإلا فما الذي جعل القول قول المدعي إذا كان عنده بينة، لولا القرينة بالشهادة؟! ثم ما الذي جعل سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يحكم بأن الولد للصغرى حين تنازعت مع الكبرى (1) إلا القرينة؟!
وما الذي جعل حاكم يوسف يقول: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} (3427) ؛ ومسلم في الأقضية/ باب بيان اختلاف المجتهدين (1720) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/356)
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [يوسف: 26، 27] إلا القرينة؟!
وما الذي جعل الأصحاب يقولون: إذا ادعت المرأة المطلقة بأن دِلال المجلس ومبخرة المجلس لها، وقال الزوج: بل هي لي، فالقول قول الزوج إلا القرينة؟!
فالمهم أن القرائن دلائل، فإذا ادعى الإنسان ما يخالف الظاهر فإن القول مع خصمه؛ لأن مخالفة الظاهر قرينة على كذبه.
وقوله: «أو شرط» أي: إذا اختلفا ـ أيضاً ـ في شرط فالأصل عدمه.
مثال ذلك: باع رجل بيته على آخر بثمن، ثم ادعى البائع أنه قد اشترط سكناه لمدة سنة، فالقول قول المشتري؛ لأنه ينفي الشرط، والأصل عدم وجوده.
وأيضاً باع عليه عبداً فقال المشتري: إني اشترطت عليك أن يكون كاتباً، وقال البائع: لم تشترط أنه كاتب، فالقول قول البائع ما لم توجد قرينة، وهنا نضرب مثلاً، فإذا قدر أن هذا العبد بيع بعشرة آلاف ريال، وهو غير كاتب يساوي ألفي ريال، فالقول قول المشتري لوجود القرينة؛ لأنه إذا كان غير كاتب لا يباع بعشرة آلاف، وإنما بألفين، فالقول هنا قول المشتري.
لكن إذا اشتراه صاحب تجارة، ويغلب على ظننا أنه إنما اشتراه ليكون كاتباً عنده في المحل، فقال المشتري: إني قد اشترطت عليك أن يكون كاتباً، وقال البائع: لا، فهذه قرينة خاصة بالطالب الذي هو المشتري، وليست قرينة ظاهرة في(8/357)
العموم، ومن المعلوم أن المشتري ولو كان تاجراً يمكن أن يشتريه للخدمة، لا للكتابة فهذه ليست قرينة، وبهذا نعرف أن القرائن قد تقوى وقد تضعف، لكن إذا كانت القرينة قوية فحينئذٍ ترجح جانب المدعي.
وقوله: «فقول من ينفيه» ظاهره بلا يمين، ولكن ليس مراداً، بل قول من ينفيه بيمينه، فيقول ـ مثلاً ـ: والله ما بعته مؤجلاً، وإنما بعته حالًّا، ويقول الآخر: والله ما اشتريته حالًّا، وإنما اشتريته مؤجلاً.
قوله: «وإن اختلفا في عين المبيع تحالفا» أي: البائع والمشتري، بأن قال البائع: بعتك هذه السيارة، وقال المشتري: بل هذه السيارة لسيارة أخرى، فهنا اختلفا في عين المبيع.
أو قال: بعتك هذا الجمل، فقال: بل بعتني هذه الناقة، فيقول المؤلف: إنهما يتحالفان ويُفْسَخ البيع، والتحالف هنا كالتحالف فيما سبق في قدر الثمن، فيقول البائع: والله ما بعتك هذه، وإنما بعتك هذه، ويقول المشتري: والله ما اشتريت هذه وإنما اشتريت هذه، فإذا تحالفا ولم يرض أحدهما بقول الآخر فسخ البيع، ورجع للمشتري الثمن إن كان قد سلمه، وإلا فالثمن عنده، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف رحمه الله.
والقول الثاني في المسألة: أن القول قول البائع، وهذا هو الراجح وهو المذهب أيضاً، وهذه المسألة مما خالف فيها «الزاد» المشهور من المذهب.
فالصحيح أن القول قول البائع؛ وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:(8/358)
«إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان» (1) وعلى هذا فنقول للمشتري: إما أن تأخذ السلعة التي عيَّنها البائع، وإما أن تترك البيع؛ ولأن البائع غارم، فهو الذي ستؤخذ منه السلعة، فلا يغرم غير ما أقر به، فيكون في هذه المسألة دليل وتعليل.
ومثل ذلك الاختلاف في قدر الثمن على ما سبق، فالقول قول البائع للحديث، ولأنه غارم، فلا يمكن أن تخرج السلعة من ملكه إلا بثمن يرتضيه، فإما أن يقبل المشتري بذلك، وإما أن يفسخ البيع، ولا حاجة للتحالف، وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في قدر الثمن، وكذلك في عين المبيع من باب أولى.
قوله: «وبطل البيع» في هذا التعبير نظر عند أهل العلم حسب المصطلح بينهم؛ لأن البيع لم يبطل ولكن فسخ، وفرق بين البطلان وبين الفسخ، فصواب العبارة أن يقال: وانفسخ البيع.
وَإِنْ أَبى كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْلِيمَ مَا بِيَدِهِ حَتّى يَقْبضَ العِوَض، والثّمَنُ عَيْنٌ، نُصِبَ عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا، وَيُسَلِّمُ المَبِيْعَ ثُمّ الثّمَنَ، وَإِن كَانَ دَيْناً حَالاًّ أُجبِرَ بَائِعٌ ثُمّ مُشْتَرٍ إِن كَانَ الثّمَنُ فِي المَجْلِسِ..
قوله: «وإن أبى كل منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض» هذه ـ أيضاً ـ من مسائل الخلاف بين المتبايعين، فإذا اختلفا أيهما يسلم أولاً، فقال البائع: لا أسلمك حتى تسلمني الثمن، وقال المشتري: لا أسلمك حتى تسلمني المبيع، وهذه المسألة لها صور.
قوله: «والثمن عين» أي: معين، هذه الصورة الأولى.
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(8/359)
قوله: «نصب عدل يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن» «نُصب» مبني لما لم يسم فاعله، والناصب هو الحاكم الشرعي، يعني أن هذين المتبايعين يختصمان إلى الحاكم، ثم ينصّب الحاكم رجلاً يستلم منهما، ثم يسلم المبيع أولاً ثم الثمن ثانياً.
مثاله: اشترى رجل من آخر ساعة، فقال المشتري: أعطني الساعة وأعطيك الثمن، فقال البائع: أعطني الثمن وأعطيك الساعة، تنازعا، فنقول: اذهبا إلى الحاكم في المحكمة الشرعية، ثم الحاكم يجب عليه أن ينصب رجلاً عدلاً موثوقاً، فيأخذ الساعة من البائع، ويأخذ الثمن من المشتري، ثم يسلم الساعة للمشتري، ويسلم الثمن للبائع، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف.
قوله: «وإن كان دَيْناً حالاًّ أجبر بائع، ثم مشتر إن كان الثمن في المجلس» ، الضمير في قوله: «إن كان» يعود على الثمن؛ لأنه قال في الأول: «والثمن عين» فإذا كان ديناً حالاً أجبر بائع، ثم مشترٍ إن كان الثمن في المجلس. هذه الصورة الثانية.
وقوله: «وإن كان ديناً» أي: لم يقع العقد على عينه؛ لأن الثمن المعين هو الذي وقع العقد على عينه، والثمن الذي لم يقع العقد على عينه يسمى ديناً، فإذا قلت: بعني هذه الساعة بهذه الدراهم فالثمن معين، وإذا قلت: بعنيها بعشرة، فقال: بعتكها بعشرة، فالثمن هنا دَين؛ لأنه غير معين، والدين عند الفقهاء ليس(8/360)
هو الدَّين الذي يعرفه العامة، فكل ما لم يعين من ثمن، فهو دين.
وقوله: «أجبر» مبني لما لم يسم فاعله، والمجبِر القاضي (الحاكم) ، وعلى هذا نقول: إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده، والثمن غير معين يذهبان إلى الحاكم، فيقول للبائع: سلم المبيع، ويقال للمشتري: سلم الثمن، ولا حاجة إلى نصب عدل يقبض منهما، وهذا هو الفرق بين هذه المسألة والمسألة الأولى.
ووجه الفرق بينهما، أن الثمن في الثانية تعلق بذمة المشتري، وأما في الأولى فحق البائع تعلق بعين الثمن؛ لأنه قد عين له، ولهذا قلنا في الأولى: يُنْصَبُ عدل يقبض منهما، ثم يسلم المبيع ثم الثمن، أما هنا فقلنا: يجبر البائع.
فإذا قال: كيف تجبرونني؟ انصبوا عدلاً أنا الآن إذا سلمت المبيع أخشى أن يهرب المشتري، فلماذا تجبرونني ولا تنصبوا عدلاً يقبض مني ومنه، ثم يسلم المشتري ويسلمني؟
الجواب: عندنا حقان، الحق في المسألة الأولى تعلق بعين العوض، أما الآن فحقك في المسألة الثانية تعلق بذمته فلا حاجة أن ننصب عدلاً، فسَلِّمْه المبيع الآن وهو يسلمك الثمن، فإذا قال: أخشى إذا سلمته المبيع أن يهرب، قلنا: إذا هرب، فهو مدرك إن شاء الله.
قوله: «وإن كان غائباً في البلد حجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره» «إن كان» الضمير يعود على الثمن.
وقوله: «غائباً في البلد» أي: ليس معه في المجلس، لكنه(8/361)
في البلد في الدكان، فإنه يحجر على المشتري في المبيع وبقية ماله حتى يحضره، هذه الصورة الثالثة.
مثال ذلك: قال: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، وهي في بيتي، فإننا نعطيه المبيع لكن نحجر عليه في المبيع، فلا يتصرف فيه، وفي بقية ماله، فلو كان عنده من الأموال عقارات وسيارات وأدوات حراثة وغير ذلك حجرنا عليه، فنغلق الدكان فلا تتصرف في أي شيء من مالك حتى تحضر ثمن الساعة «عشرة ريالات» ، والدكاكين والعقارات بملايين، فنقول: الآن يوقف التصرف حتى تحضر عشرة ريالات؛ لأنه يخشى أن يتصرف في ماله تصرفاً يضر البائع، وهذا التعليل يقتضي أنه لا يحجر عليه إلا إذا كان الثمن كثيراً، أما إذا كان عنده من الملايين ما عنده، والثمن قليل كعشرة ريالات فنقول: نحجر عليك في هذه الساعة، فما تتصرف فيها ولا في أي شيء من مالك حتى تحضر الثمن!! هذا ظاهر كلام المؤلف.
والتعليل ظاهره: أنه يفرق بين الثمن الكثير والثمن القليل.
وَإِنْ كَانَ غَائِباً فِي البَلَدِ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي المَبِيْعِ وَبَقِيَّةِ مَالِهِ حَتَّى يُحْضِرَهُ، وإِنْ كانَ غَائِباً بَعِيْداً عَنْها وَالمشتَرِي مُعْسِرٌ، فلِلْبَائِعِ الفَسْخُ. وَيَثْبُتُ الخِيَارُ للْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ وَلِتَغَيُّرِ مَا تَقَدَّمَتْ رُؤْيَتُهُ.
قوله: «وإن كان غائباً بعيداً عنها» هذه الصورة الرابعة، فإن للبائع الفسخ.
مثال ذلك: قال: اشتريت منك هذه الساعة بعشرة ريالات، قلنا: سلِّم، قال: عشرة الريالات في منزلي في الرياض، ونحن الآن في عنيزة والرياض بعيدة، فنقول للبائع: لك الفسخ، فتفسخ البيع وترجع السلعة لك، وهذا ثمنه عنده، فصارت صور المسألة كالتالي:(8/362)
الأولى: إذا كان الثمن معيناً فالحكم أن ننصب عدلاً يقبض من البائع والمشتري ثم يسلم المبيع ثم الثمن.
الثانية: إذا كان الثمن دَيناً حالًّا أي غير معين، وهو في المجلس، يجبر البائع أولاً ثم المشتري ثانياً.
الثالثة: إذا كان الثمن غائباً وهو في البلد، فإنه يحجر عليه في المبيع وبقية ماله حتى يحضره.
الرابعة: إذا كان بعيداً عن البلد فإن للبائع الفسخ.
وهناك صورة خامسة وهي أن يكون الثمن مؤجلاً فيجبر البائع على التسليم، وعلى الانتظار حتى يحل الأجل؛ لأنه دخل على بصيرة.
هذا هو التفصيل فيما إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده.
والقول الراجح في هذه المسألة أن للبائع حبس المبيع على ثمنه، فيقول: نعم أنا بعت عليك، لكني لا آمن أن تهرب ولا توفيني أو تماطل أو ما أشبه ذلك، فأبقيه عندي محبوساً حتى تسلمني، وهذا القول هو الذي لا يتأتى العمل إلا به، ولا تستقيم أحوال الناس إلا به؛ لأن هذه الصور التي ذكرها المؤلف، فيها مشقة على الناس، فإذا افترضنا أن المحكمة عندها مائة معاملة، تنجز منها كل يوم معاملتين، فعليه أن ينتظر خمسين يوماً، حتى يقال للحاكم: انصب عدلاً يقبض منهما، وهذا لا تستقيم به أحوال الناس، فالصواب أن يقال: إذا أبى كل واحد منهما أن يسلم ما بيده فللبائع أن يحبس المبيع.(8/363)
وإذا كان كل منهما لا يثق بالآخر فهما بأنفسهما ينصبان عدلاً فيقول: أنت لا تثق بي، وأنا لا أثق بك، نذهب إلى فلان ونعطيه الثمن والسلعة ويسلمنا، هذا هو القول الراجح.
قوله: «والمشتري معسر فللبائع الفسخ» هذه العبارة فيها قلق؛ لأن ظاهر قوله: «والمشتري معسر» أنها قيد فيما إذا كان غائباً بعيداً عنها، وأن الواو للحال، ولكن الواقع خلاف ذلك، فالواو هنا بمعنى «أو» يعني وكذلك إذا ظهر أن المشتري معسر فللبائع الفسخ.
وقوله: «والمشتري معسر» أي: أو ظهر أن المشتري معسر، يدل على أنه لو كان البائع يعلم بعسرة المشتري، فإنه لا خيار له وهو كذلك، فالرجل مثلاً إذا باع على إنسان سلعة يظن أنه غني، ثم تبين أنه معسر فله الفسخ؛ لأن في إنظاره ضرراً عليه، أما إذا باع هذه السلعة على شخص، وهو يعلم أنه معسر فإنه لا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، فإن ظهر أنه مماطل ليس معسراً، فهل له الفسخ؟
الجواب: نعم، والمذهب لا، فإذا ظهر أنه مماطل يحاكم عند القاضي حتى تجري عليه أحكام المماطلين.
لكن الصحيح أنه إذا ظهر أنه مماطل فللبائع الفسخ؛ لأن بعض المماطلين أسوأ حالاً من الفقراء، فإن الفقير ربما يرزقه الله المال فيوفي، والمماطل إذا كان هذا من عادته فإنه يصعب جداً أن يوفي، فالصواب أن للبائع الفسخ حفاظاً على ماله، وفيه ـ أيضاً ـ مع كونه حفاظاً على مال البائع ردع للمماطل؛ لأن المماطل إذا علم أنه إذا ماطل فُسِخَ البيع فسوف يتأدب ولا يماطل في المستقبل.(8/364)
فثبت الآن عندنا خيار ثامن، وهو إذا ظهر أن المشتري معسر أو مماطل على القول الراجح.
قوله: «ويثبت الخيار للخلف في الصفة» وهذا هو الخيار التاسع، والخلف في الصفة غير الخلف في الشرط السابق، الذي قلنا: إنه يشترط أن يكون كاتباً أو غير كاتب، الخلف في الصفة أي: أنه باعه شيئاً موصوفاً، مثل أن يقول: بعتك سيارة صفتها كذا وكذا، ثم اختلفا في الصفة، فقال المشتري: وصفتها لي بكذا، وقال البائع: بل وصفتها بكذا وبكذا، فهنا لا مرجح لأحدهما فيثبت لهما الخيار.
والقول الراجح ما سبق من أن القول قول البائع، أو يترادَّان، فيقال: إما أن تقتنع بقول البائع، وإلا فالملك ملكه.
قوله: «ولتغير ما تقدمت رؤيته» أي: لو باعه شيئاً معيناً، ثم تغير بعد ذلك قبل العقد، فإنه يثبت الخيار للمشتري، وهذا فيما إذا كان المبيع مما يمكن تغيره في مدة وجيزة، مثل بعض الألبان التي يكون لها وقت معين، أو غير ذلك من الأشياء التي تتغير قبل العقد.
مثاله: باع عليه لبناً وقد شاهده المشتري بالأمس، ثم في اليوم الذي عقد عليه البيع تغيرت صفته، فتنازعا في ذلك، فإذا تنازعا في ذلك فللمشتري الفسخ؛ لأن المبيع تغير عن رؤيته السابقة.
وبذلك تمت أقسام الخيار، وعلى هذا فحصر الخيار في خمسة أو عشرة أو سبعة لا يستقيم؛ لأن الخيار يثبت فيما يفوت به مقصود أحد المتعاقدين، وإن لم يكن من هذه الأقسام التي عدها المؤلف رحمه الله.(8/365)
فَصْلٌ
وَمَنْ اشْتَرى، مَكِيْلاً وَنَحْوَهُ صَحَّ وَلزِمَ بِالعَقْدِ، وَلَمْ يَصِحَّ تَصرفُهُ فِيه حَتَّى يَقْبِضَهُ وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَمِنْ ضَمَانِ البَائِعِ، وَإِن تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيّةٍ بَطَل البَيْعُ، وَإِنْ أتْلَفَهُ آدَمِيٌّ، خُيِّرَ مُشْتَرٍ بَيْنَ فَسْخٍ وَإِمْضَاءٍ وَمُطَالَبَةِ مُتْلِفِهِ بِبَدَلِهِ.
قوله: «فصل» هذا الفصل عقده المؤلف لمسألتين:
المسألة الأولى: التصرف في المبيع.
المسألة الثانية: في ضمان المبيع، هل هو من ضمان المشتري من حين العقد أو هو مضمون على البائع؟ وهل للمشتري أن يتصرف في المبيع بمجرد العقد، أو يحتاج إلى تقدم شيء على هذا التصرف؟
قوله: «من اشترى مكيلاً ونحوه» «من» اسم شرط جازم، وجواب الشرط قوله: «صح ولزم بالعقد» .
رتب المؤلف على شراء المكيل ونحوه أحكاماً ابتدأها بقوله:
«صح ولزم بالعقد» هذا هو الحكم الأول والثاني.
وقوله: «مكيلاً ونحوه» كالموزون، والمعدود، والمذروع، فهذه ثلاثة أشياء بالإضافة إلى المكيل تكون أربعة، فإذا اشترى شيئاً من ذلك «صح» ، والفاعل يعود على الشراء؛ لأنه قال: من اشترى شيئاً، ومعلوم أنه إذا صح الاشتراء صح الشراء. فيصح الشراء وإن لم يوكل وإن لم يوزن وإن لم يُعد وإن لم يُذرع.
وقوله: «ولزم بالعقد» أي: لزم الاشتراء بالعقد، أي: بمجرده، ولكن حيث لا خيار، أما إذا كان هناك خيار مجلس فلا يلزم العقد إلا بالتفرق بعده، فيلزم بالعقد إلا أن يكون فيه خيار.
قوله: «ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» فرتب المؤلف على هذا الاشتراء ثلاثة أشياء:(8/366)
أولاً: الصحة، أي يصح العقد على المكيل قبل أن يكال وعلى الموزون قبل أن يوزن، وعلى المعدود قبل أن يعد، وعلى المذروع قبل أن يذرع، وهذه تقيد بما إذا تمت شروط الصحة وانتفت الموانع، وهذا أمر قد يقال: إنه معلوم من قوله: «ومن اشترى» ؛ لأن الاشتراء الشرعي لا يكون إلا إذا تمت الشروط وانتفت الموانع.
ثانياً: لزم بالعقد، ويقيد هذا حيث لا خيار.
ثالثاً: لم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه، بكيل إن اشتراه بكيل، وبوزن إن اشتراه بوزن، وبذرعٍ إن اشتراه بذرع، وبِعَدٍّ إن اشتراه بِعَدٍّ.
وهل يقيد أو لا؟
ظاهر كلام المؤلف أن أي تصرف فيه فإنه لا يصح حتى يقبضه، سواء تصرف فيه ببيع، أو هبة، أو جعله صداقاً، أو عوض خلع، أو أجرة إجارة أو غير ذلك؛ لعموم قوله: «تصرفه» ؛ لأن «تصرف» مفرد مضاف فيكون عاماً حتى يقبضه، ولكن هذا العموم المستفاد من قوله: «تصرفه» عموم أريد به الخصوص، فالمراد التصرف العوضي، أي: أن يكون تصرفه بعوض، مثل البيع، والهبة بعوض، وجعله أجرة.
وأما تصرفه فيه بهبة أو صدقة أو هدية أو ما أشبه ذلك فلا بأس، هذا هو المراد وهو المذهب أيضاً؛ لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ باع على النبي صلّى الله عليه وسلّم بعيراً، فوهبه النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عمر ـ رضي الله عنه ـ(8/367)
وكان راكبها قبل أن يقبضها من عمر (1) ـ رضي الله عنه ـ، فهذا تصرف بهبة بغير معاوضة، ولهذا جاء في الحديث: «فلا يبعه حتى يقبضه» (2) ، ومعلوم أن البيع معاوضة، وإذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر البيع وحده، فهو دليل على أن ما شابهه كالأجرة، وهبة الثواب ـ يعني الهبة على عوض ـ فهي مثله، أما ما لم يوافقه في العلة ولم يقصد به المعاوضة، وإنما قصد به وجه الله إن كان صدقة، أو التودد والتحبب إن كان هدية وهبة، فإنه لا يساويه في الحكم، وقياس الهبة والهدية على البيع قياس مع الفارق.
وقوله: «ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» هذا هو الحكم الثالث. وظاهر كلامه ولو مع البائع يعني، ولو كان مع البائع.
مثاله: اشتريت مائة صاع من هذا الرجل، وهي عندي الآن بيدي، ثم بعتها عليه بثمنها أو أكثر فهل يصح؟
ظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح، فلا يصح التصرف حتى مع البائع (3) .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أنه يصح تصرفه مع البائع، وأن قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فلا يبعه حتى يقبضه» ،
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا اشترى شيئاً فوهب من ساعته (2115) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يقبض (2135) ؛ ومسلم في البيوع/ باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1525) (30) واللفظ لمسلم، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ولفظه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه» ، قال ابن عباس: «وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام» .
(3) وهذا هو المذهب.(8/368)
يعني لا يبيعه على غير بائعه؛ لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيعها بالدنانير، فنأخذ عنها الدراهم، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» (1) ، وهذا هو الصحيح.
واختار ـ أيضاً ـ أنه إذا باعه تولية فلا بأس، ومعنى تولية أي: برأس المال، وقال: إن العلة في النهي أنه إذا باعه بربح، فقد ربح فيما لم يضمن، أي: فيما لم يدخل في ضمانه، وأيضاً فإن العلة من النهي خوف العداوة والبغضاء، أو محاولة البائع فسخ العقد؛ لأن البائع إذا رأى أن المشتري قد ربح فيه قبل أن ينقله إلى بيته فربما يحاول فسخ العقد بأي طريق، فيحصل بذلك نزاع وخلاف، ولكن الأولى أن يقال: إن النهي في الحديث على ظاهره، وأنه يشمل حتى ما إذا باعه على بائعه، أو باعه تولية أو مشاركة أو مواضعة أو أي شيء، فهذا هو ظاهر النص، والذي ينبغي لنا أن نأخذ بعموم الحديث، وقد سبق لنا أن العلة المستنبطة لا تقوى على تخصيص العموم؛ لأنه من الجائز أن تكون هذه العلة خطأ وأن استنباطنا لها ليس بصواب، فلا نخصص بها عموم الكتاب والسنة بمجرد أن نقول: إن الحكم مبني على هذه العلة، وعلى هذا فيكون هذا من المواضع التي يخالف فيها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مع أن غالب اختياراته أقرب إلى الصواب من غيره، كل ما اختاره إذا تأملته وتدبرته
__________
(1) سبق تخريجه ص (208) .(8/369)
وجدته أقرب إلى الصواب من غيره، لكنه ليس بمعصوم، لدينا نحو عشر مسائل أو أكثر نرى أن الصواب خلاف كلامه ـ رحمه الله ـ؛ لأنه كغيره يخطئ ويصيب، ثم هو ظاهر تعليل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما سأله طاووس بن كيسان قال له: لم النهي؟ قال: لأنه دراهم بدراهم، والقبض مرجأ (1) ، أي: مؤخر، وجه ذلك أنني إذا اشتريت من هذا الرجل سلعة بمائة دينار وأبقيتها عنده، ثم بعتها بمائة دينار وعشرة دنانير، صار كأنني بعت مائة دينار بمائة وعشرة فقط؛ وهذه السلعة ممر، وهذا الاستنباط من ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قريب جداً؛ لأنها في هذه الحال تشبه العينة من بعض الوجوه.
وإذا كان ابن عباس ـ رحمه الله ورضي عنه ـ يرى هذا التعليل، وهو صحابي جليل فقيه، فإنه يدلك على قبح المعاملات المشهورة الآن، والتي يسمونها التقسيط، بأن يختار المشتري سلعة معينة، ثم يذهب إلى تاجر من التجار ويقول: اشترها لي ثم بعها عَلَيَّ بربح، فهذا واضح أنه ربا ولا يخفى إلا على إنسان لم يتأمل؛ لأن حقيقته أنه أقرضه الثمن بزائد، فبدلاً من أن يقول: أعطني ـ مثلاً ـ قيمة هذه السلعة وأعطيك فيها ربحاً، قال: اشترها لي ثم بعها عَلَيَّ، والتاجر لم يرد الشراء إطلاقاً، ولولا هذا ما اشتراها بفلس واحد، وواضح أن المقصود هو الربا، ولا يشكل هذا على إنسان إذا تأمله، وإذا كان ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أن العلة في النهي عن بيع الشيء قبل قبضه، هو أنه يشبه بيع
__________
(1) سبق تخريجه ص (211) .(8/370)
الدراهم بالدراهم مع تأخير القبض، فهذه من باب أولى وأعظم، وهي واضحة جداً، لكن مع الأسف أن الناس الآن انكبوا عليها انكباباً عظيماً، ثم إن هؤلاء ينكرون إنكاراً عظيماً على الذين يتبايعون بالربا الصريح مثل البنوك، فالبنك يقول: خذ هذه الألف بألف ومائة صراحة، وهذا يقول: خذ هذه الألف بألف ومائة مع اللف والدوران، ومعلوم أن من يأتي الشيء صريحاً أهون ممن يأتيه مخادعة؛ لأن المخادعة يكون الإنسان قد وقع في مفسدة الربا مع مفسدة الخداع، ثم إن الذي يأتي الشيء بالخداع يأتيه وكأنه أمر حلال، يعني لا يكون عنده خشية لله ـ عزّ وجل ـ، أو يرى أنه مذنب فيخجل من الله، أو أنه مذنب فيحاول أن يستعتب؛ لكنه يرى أن هذا مباح، وأنه سيستمر عليه، لكن من أذنب ذنباً صريحاً فسيكون في قلبه شيء من خشية الله ـ عزّ وجل ـ، وخوف العقوبة والإنابة إلى الله ـ عزّ وجل ـ.
وقوله: «من اشترى مكيلاً ونحوه صح ولزم بالعقد ولم يصح تصرفه فيه حتى يقبضه» .
ظاهر كلام المؤلف أن المكيل ونحوه لا يجوز التصرف فيه ولو بيع جزافاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وهو الذي دل عليه حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافاً فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعوه حتى يحوّلوه» (1) ، ولأن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ قال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (212) .(8/371)
يا رسول الله إن لي بيوعاً فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: «إذا ابتعت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه» (1) ، و «شيئاً» نكرة في سياق الشرط فتكون للعموم، ويؤيد ذلك تفقه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما قال ـ حينما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الطعام حتى يقبض ـ: «ولا أحسب كل شيء إلا مثله» (2) . وهذا القياس من ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قد دل عليه النص صريحاً، ولعل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لم يسمع هذا الحديث من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك حديث زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (3) ، فالصحيح أن كل شيء لا يباع حتى يقبض.
وقيل: إذا بيع جزافاً فلا بأس من التصرف فيه قبل القبض وهو المذهب.
ثم انتقل المؤلف إلى الكلام عن ضمان المبيع قبل قبضه، هل يكون على البائع أو يكون على المشتري؟
قوله: «وإن تلف قبل قبضه فمن ضمان البائع» الضمير يعود على المكيل ونحوه مما بيع جزافاً أو بتقدير فقط. وهذا هو الحكم الرابع.
فالمذهب أنه إذا كان بتقدير يعني بيع المكيل كيلاً، والموزون وزناً، والمعدود عدّاً، والمذروع ذرعاً، فهذا إذا تلف
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/402) ؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع الطعام قبل أن يستوفى (7/286) ؛ وصححه ابن حبان (4983) .
(2) سبق تخريجه ص (368) .
(3) سبق تخريجه ص (212) .(8/372)
قبل القبض فمن ضمان البائع، وبعد القبض يكون من ضمان المشتري.
مثال ذلك: بعت عليك هذا الكيس من الحنطة، كل صاع بعشرة دراهم، وقبل أن نكيله تلف إما بسرقة أو بأمطار حملته، أو ما أشبه ذلك، فالضمان على البائع؛ لأنه لم يستوف حتى الآن، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخراج بالضمان» (1) ، فكما أن الشارع منعني من بيعه والكسب فيه، فإن ضمانه على من هو في ملكه أولاً، وهذا قد يشكل عليك من جهة أن الملك انتقل بالعقد إلى المشتري. لكن هذا لما كان يحتاج إلى حق توفية منع الشارع من التصرف فيه، وجعل ضمانه على البائع.
قوله: «وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع» «بطل» بمعنى انفسخ؛ وذلك لأن هذا التلف حصل به الانفساخ دون البطلان، فالبطلان يكون لفوات شرط أو لوجود مانع، وهنا لم يفت شرط، ولم يوجد مانع، فيجب أن يفسر البطلان بأنه الانفساخ، وهذا كقوله فيما سبق: «تحالفا وبطل البيع» ، وقلنا: إن الصواب انفساخ البيع.
وقوله: «وإن تلف بآفة سماوية بطل البيع» الآفة السماوية كل ما لا صنع للآدمي فيه، مثل أمطار أتلفته، أو صاعقة أحرقته، أو رياح حملته، إلى غير ذلك، فالآفة السماوية هي التي ليس للآدمي فيها صنع.
__________
(1) سبق تخريجه ص (242) .(8/373)
مثال ذلك: رجل باع على شخص كيس حنطة، كل صاع بكذا، ثم أتى السيل فحمله وأفسده وذهب به، فالتلف هنا بآفة سماوية، أو نزلت صاعقة فأحرقته، أو هبت رياح فحملته، فالضمان على البائع، فإن كان قد استلم الثمن رده على المشتري، وإن كان لم يستلمه فهو عند المشتري.
ويشبه الآفة السماوية من لا يمكن تضمينه، كما لو تلف بأكل حيوان له أو تلف بأكل الجند له، يعني مرت جنود السلطان فأخذته، فهذا يلحق بالآفة السماوية؛ لأنه لا يمكن تضمينه، فالحيوان الذي أكله لا يمكن أن يضمن، والجيش الذي مر به فأخذه لا يمكن أن يضمن، وحينئذ نقول: إذا أتلفه ما لا يمكن تضمينه ألحق بالآفة السماوية.
قوله: «وإن أتلفه آدمي» معين يمكن تضمينه.
قوله: «خُيِّر مشترٍ بين فسخ، وإمضاء، ومطالبة متلفه ببدله» فهذه ثلاثة أشياء، وإذا أمضى طَالَب مُتْلِفَهُ، وعلى هذا فقوله: «مطالبة متلفه» ليست داخلة في التخيير، لكنها مفرعة على الإمضاء، يعني فإذا أمضى طالب متلفه ببدله، إذاً: إذا تلف المكيل ونحوه فعلى أربعة أقسام:
أولاً: أن يتلفه البائع.
ثانياً: أن يتلف بآفة سماوية.
ثالثاً: أن يتلفه ما لا يمكن تضمينه.
رابعاً: أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه.(8/374)
وكل قسم من هذه الأقسام له حكم.
القسم الأول: إذا أتلفه البائع انفسخ البيع، وقيل: إن أتلفه البائع ضمنه، وهذا هو الراجح.
والفرق بين القولين أننا إذا قلنا: انفسخ البيع لم يرجع عليه المشتري بشيء، إن كان المشتري قد سلم الثمن فيأخذه، وإن كان لم يسلمه فهو عنده، وإذا قلنا: إنه يضمنه، فإنه ربما تكون القيمة قد زادت بين الشراء والإتلاف، فالمشتري يرجع على البائع بما زاد على الثمن إن زادت القيمة، وهذا القول هو الراجح؛ وذلك لأن البائع الآن أصبح ظالماً غاصباً.
القسم الثاني: أن يتلف بآفة سماوية فينفسخ البيع، ويرجع المشتري بالثمن إن كان قد سلمه، وإن لم يسلمه فالثمن عنده، ويستدل لذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (1) ، فجعل ضمانه على البائع ولا يرجع بشيء.
القسم الثالث: أن يتلفه ما لا يمكن تضمينه من آدمي أو غيره، فحكمه حكم ما تلف بآفة سماوية، أي: أنه ينفسخ البيع.
القسم الرابع: أن يتلفه آدمي يمكن تضمينه، فهنا يخير المشتري بين أمرين، بين أن يفسخ البيع، ويرجع على البائع بالثمن، أو يمضي البيع ويرجع على المتلف بالبدل، والفرق بين
__________
(1) أخرجه مسلم في المساقاة/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(8/375)
قولنا بالبدل وقولنا بالثمن، أنه إذا فسخ البيع فليس له إلا الثمن، وإذا لم يفسخه رجع بالبدل.
مثال ذلك: اشترى شخص كيساً من الحنطة، كل صاع بكذا، فجاء آدمي فأتلفه بإحراق أو أكل أو غير ذلك، فنقول للمشتري: الآن أنت بالخيار إن شئت فسخت البيع ورجعت على البائع بالثمن، فإن فسخ البيع يعطيه البائع مائة ريال، أو نقول: أبقِ البيع على ما هو عليه وارجع على المتلف بالبدل، فإذا كان الآن عند إتلافه يساوي مائة وعشرين فالمشتري في هذه الحال سوف يختار الإمضاء ويرجع على المتلف بالبدل، أي: بمثله إن كان مثليّاً، وقيمته إن كان متقوَّماً، فالحنطة من المثليات فيرجع عليه بمثل الحنطة التي أتلفها.
وعلى هذا فلا يمكن أن يكون المكيل إلا مثلياً ما لم ينتقل هذا الطعام إلى صنعة، فيصنع خبزاً أو طبيخاً، فحينئذ يكون غير مثلي.
وَمَا عَدَاهُ يَجُوزُ تَصَرّفُ المُشْتَرِي فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
قوله: «وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه» أي: ما عدا ما اشتري بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة أو صفة، فيجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه.
مثاله: باع عبداً، أو بعيراً، أو داراً، أو سيارة معينة ولم يقبضها، فيجوز أن يتصرف فيها قبل القبض؛ لأنه لا يحتاج إلى توفية، أي ليس مبيعاً بكيل حتى يحتاج إلى كيل، وربما يزيد أو ينقص، أو وزن وربما يزيد أو ينقص، فهذا شيء معين يجوز أن تبيعه قبل قبضه ولو في مكان بيعه.(8/376)
والقول الثاني: أنه لا يجوز أن يتصرف في المبيع قبل قبضه مطلقاً في كل شيء، وهذا ما ذهب إليه عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حيث قال: «ولا أحسب كل شيء إلا مثله» (1) ، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وقال: إن المبيع لا يباع قبل القبض سواء بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع أو رؤية سابقة أو صفة، وهذا الذي يؤيده حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أنهم كانوا يبيعون الطعام جزافاً على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم في السوق فنهاهم أن يبيعوه حتى ينقلوه» (2) ، أي: إلى مكان آخر.
واستدل الشارح لهذه المسألة: بحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم ـ وفي لفظ بالنقيع بالدراهم ـ فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس» ، أي: بالدنانير فنأخذ الدراهم فسألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها ما لم يفترقا وبينهما شيء» (3) .
والحديث دليل لا يطابق المدلول؛ وجه ذلك أن الحديث إنما هو بيع ما في الذمة، وليس بيع شيء معين، فقد كانوا يبيعون الإبل بالدراهم، والدراهم ثابتة في ذمة المشتري، ويبيعونها بالدنانير وهي ثابتة في ذمة المشتري، فيأخذون عن الدراهم دنانير، وعن الدنانير دراهم، وكلامنا نحن في الشيء المعين، هل يجوز أن يباع قبل أن يقبض أو لا؟ وعليه فلا دلالة في الحديث
__________
(1) سبق تخريجه ص (368) .
(2) سبق تخريجه ص (212) .
(3) سبق تخريجه ص (208) .(8/377)
لما استدل به الشارح عليه (1) ، وأنا سقت هذا الحديث لفائدة، وهي أنه يجوز بيع الدين على من هو عليه بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون بسعر يومه.
والشرط الثاني: أن يتقابضا قبل التفرق، لكن هذا فيما يشترط فيه التقابض كالدراهم بالدنانير، والدنانير بالدراهم، والبر بالشعير، والشعير بالبر، وما أشبهها.
أما شرط التقابض بين الدراهم والدنانير ونحوها فظاهر، ووجه ظهوره أنه لا يباع الشيء بالشيء في مثل هذه الصورة إلا بالتقابض؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (2) ، وأما كونها بسعر يومها فلئلا يربح فيما لا يدخل في ضمانه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن ربح ما لم يضمن» (3) .
مثاله: أن يكون لي في ذمة رجل دنانير فبعتها عليه بدراهم، وبيع الدنانير بالدراهم يشترط فيه القبض ولا يشترط التساوي للحديث: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» ، فيعطيني الدراهم فقط، وليس بلازم أن يحضر الدنانير، فالدنانير عنده في ذمته قد قبضها.
مثال كونها بسعر يومها: إذا قدرنا أن عشرة دنانير قيمتها في السوق مائة درهم فأبيعها عليه بمائة درهم لا أزيد ولا أنقص؛
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (481) .
(2) سبق تخريجه ص (207) .
(3) سبق تخريجه ص (209) .(8/378)
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بسعر يومها» (1) ، فلو بعت الدنانير بمائة وعشرة فهذا لا يجوز؛ لأني ربحت عشرة في شيء في ذمة البائع لم يدخل في ضماني إلى الآن، ولو بعت الدنانير العشرة ـ التي تساوي مائة ـ بتسعين، فإذا نظرنا إلى ظاهر الحديث قلنا: إنه لا يجوز، ولو نظرنا إلى العلة والحكمة فإن هذا الرجل الذي باع العشرة التي تساوي مائة بتسعين لم يربح، بل إنه أبرأ البائع من عشرة، لكن لم يُذْكر هذا في الحديث؛ لأنه أمر نادر، والذي يكون غالباً هو الربح، ولهذا قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «بسعر يومها» ، وتحرير المسألة أن نقول: إذا باعها بأقل فقد زاد المدين خيراً، وإن باعها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وهذا حرام ولا يجوز.
وقوله: «وما عداه يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه» ظاهر كلام المؤلف أنه يشمل حتى المبيع برؤية سابقة أو بصفة، ولم يتكلم على المبيع برؤية أو صفة، إنما تكلم على المكيل، والموزون، والمعدود، والمذروع، فظاهر كلامه أن ما عدا ذلك يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه، ولكن المذهب يلحقون ما بيع بصفة أو رؤية سابقة بالمكيل ونحوه؛ لأنه يحتاج إلى حق توفية، ولهذا إذا تغير المبيع عن الرؤية السابقة أو الصفة فله الخيار كما سبق، ونحن رجحنا أن كل مبيع لا يجوز بيعه إلا بعد القبض.
__________
(1) سبق تخريجه ص (208) .(8/379)
مسألة: هل يجوز بيع ثمر النخل على رؤوس النخل؟ أي: إذا اشتريتُ ثمراً، ثم بعتُها جاز، وهي من ضمان البائع، فلو تلفت بآفة سماوية بعد أن بعتُها رجع المشتري عليّ، وأنا أرجع على البائع الأول.
إذاً ليس كل شيء يكون من ضمان البائع لا يصح التصرف فيه، بل قد يكون من ضمان البائع، ويصح التصرف فيه كالثمر على رؤوس النخل.
فصارت الأشياء التي يصح التصرف فيها قبل القبض ستة أشياء: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عدٍّ، أو ذرع، أو صفة، أو رؤية متقدمة، فهذه لا يصح التصرف فيها حتى تستوفى، وكلها مضمونة على البائع قبل أن تستوفى، ويُزاد شيء سابع وهو الثمر على الشجر، فإنه من ضمان البائع ومع ذلك يصح تصرف المشتري فيه.
هذا القبض الذي عرف ينفع في مواضع كثيرة، ينفع في كل ما يعتبر فيه القبض شرطاً لصحته أو شرطاً للزومه، كل ما يعتبر القبض فيه شرطاً لصحته كمسائل الربا، أو شرطاً للزومه كمسألة الرهن والهبة، فإنه على المذهب لا تلزم إلا بالقبض، فمعرفة ما يحصل به القبض أمر لا بد منه وليس مسألة هينة؛ لأنه سيمر في مواضع كثيرة من أبواب الفقه.
وَإِنْ تَلِفَ مَا عَدَا المَبِيْعَ بِكَيْلٍ وَنَحْوِهِ فَمِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ بَائع مِن قَبْضِهِ.
قوله: «وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه» أي: ضمان المشتري، و «ما» هنا اسم موصول بمعنى «الذي» و «عدا» بمعنى «جاوز» أو بمعنى «سوى» ، أي: إن تلف ما سوى(8/380)
المبيع بكيل ونحوه وهو: الوزن، والعد، والذرع «فمن ضمانه» أي من ضمان المشتري.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) ، فجعل الملك ينتقل بمجرد العقد، والأصل أن الضمان على من انتقل الملك إليه لحديث «الخراج بالضمان» (2) ، أي: من له غنم شيء فعليه غرمه، فكما أن الملك للمشتري وله غنم المملوك فعليه ـ أيضاً ـ غرمه، فإذا تلف ما عدا المبيع السابق وقد عددناه سبعة أصناف فهو من ضمان المشتري؛ ولأن ذلك لا يحتاج إلى حق توفية وقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فمن ضمان المشتري» (3) يعني ما أدركته الصفقة غير محتاج إلى أن يستوفى، فهو من ضمان المشتري.
وهل كلام المؤلف هنا على ظاهره؛ لأنه لم يستثن إلا ما بيع بكيل ونحوه؟
الجواب: ليس على ظاهره؛ لأننا نقول: وإن تلف ما عدا المبيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع أو صفة، أو رؤية سابقة أو الثمر على الشجر، فالمؤلف أسقط ثلاث مسائل،
__________
(1) سبق تخريجه ص (61) .
(2) سبق تخريجه ص (242) .
(3) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في البيوع/ باب إذا اشترى متاعاً أو دابة فوضعه عند البائع، دون قوله: «مضت السنة» ؛ ووصله الدارقطني (3/54) ؛ والحافظ في «تغليق التعليق» (3/242) موقوفاً على ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصحح إسناده إليه، وصحح وقفه أبو حاتم كما في «العلل» (1182) .(8/381)
وعليه فيكون قوله: «ما عدا المبيع بكيل ونحوه» فيه قصور، والصواب أن يزاد ثلاثة أشياء المبيع برؤية سابقة، أو بصفة، والثمر على الشجر.
قوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» «يمنعه» الهاء تعود على المشتري، أي: إلا إذا منع البائعُ المشتريَ من قبضه، فإنه يكون من ضمان البائع.
مثال ذلك: باع عليه سيارة، والسيارة ليست بكيل، ولا وزن، ولا عد، ولا ذرع، ولا برؤية سابقة ولا صفة، فأراد المشتري أن يأخذها فقال البائع: لا، فمنعه، فهنا الضمان على البائع، لكنه يضمنها ضمان غصب، ومعنى ضمان الغصب أن عليه أجرتها مدة منعه إياها، وأنها لو تلفت ضمنها بقيمتها وقت التلف، لا بما وقع عليه العقد، وإذا ضمنها ضمان غصب بما تساوي وقت التلف فإنه يضمنها بقيمتها، سواء زادت على ثمنها أم نقصت، فإن زادت فالأمر ظاهر؛ لأن الغنم للمشتري فزيادة سعرها من مصلحته، فإذا قدرنا أنه اشتراها بخمسين ألفاً ومنعه البائع من قبضها واحترقت وكانت تساوي حين الاحتراق ستين ألفاً، فإن البائع يضمن ستين ألفاً وهذا واضح؛ وذلك لأن المشتري له غنمها وعليه غرمها، وهذا الرجل يضمنها ضمان غصب.
فإن كانت حين احتراقها لا تساوي إلا أربعين، فهل يضمنها بأربعين أو بخمسين؟
الجواب: إذا قلنا: ضمان غصب، فإنه قد اختلف العلماء هل نقص السعر مضمون على الغاصب أو لا؟ فإن قلنا: إنه(8/382)
مضمون على الغاصب فإنه يضمنها بخمسين، وإن قلنا: ليس بمضمون فإنه لا يضمنها إلا بأربعين، لكن ينبغي أن يقال: إنه يضمنها بخمسين على كل حال؛ لأنه معتد بمنعها.
وقوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» سواء تمكن من قبضه أم لم يتمكن، واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن المدار على التمكن من القبض، فما تمكن المشتري من قبضه فعليه، وما لم يتمكن من قبضه فعلى البائع. وقال: إن هذا هو منصوص الإمام أحمد، وكلامه أقيس؛ لأن الثمرة على الشجرة إنما كانت من ضمان البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضها، لأن المشتري لن يأخذها جملة بل سيتفكه ويأخذها شيئاً فشيئاً، والمبيع بكيل أو نحوه ما دام لم يكل ولم يعرف مقداره فضمانه على البائع؛ لأن المشتري لا يتمكن من قبضه، وعلى هذا فإن بيع الشيء جزافاً فإنه لا يصح بيعه، ولكن إن تلف فمن ضمان المشتري؛ لتمكنه من قبضه.
وقوله: «ما لم يمنعه بائع من قبضه» يفهم منه أن ما كان ضمانه على شخص فمنع منه عاد الضمان على المانع؛ لأن الضمان فيما عدا ما بيع بكيل ونحوه من ضمان المشتري إلا إذا منعه البائع، والعكس كذلك، أي: فيما سبق أنه من ضمان البائع إذا سلمه البائع المشتري، ولكن المشتري أبى قال: لا أستلم حتى تلف، فإن الضمان حينئذٍ يكون على المشتري؛ لأن البائع قد بذله ولكنه امتنع، والبائع يقول: أنت الآن وضعته عندي على سبيل الوديعة، فضمانه عليك وأنا قد بذلته، وهذه تجري كثيراً،(8/383)
ربما يكون المشتري لم يهيئ مكاناً للسلع، أو أراد أن يضار البائع بشغل مكانه بسلعه التي باعها، فحينئذ نقول: إنه من ضمان المشتري؛ لأنه هو الذي امتنع من قبضه الواجب عليه.
فصار البائع إذا منع المشتري من قبض ما يجب عليه إقباضه فالضمان عليه، وكذلك إذا امتنع المشتري من قبض ما يجب عليه قبضه، فإن الضمان ينتفي عن البائع حتى في الأمور التي ضمانها على البائع.
مثال ذلك: باع عليه براً مكايلة، ثم قال له البائع: خذه، ولكن المشتري قال: انتظر، ثم تلف، فالضمان على المشتري وليس على البائع؛ لأن البائع بذل ما يجب عليه والمشتري هو الذي تأخر وفرط، ولأنه ربما يؤدي ذلك إلى المضارة بالبائع بحيث يحبس المبيع عنده حتى يتضرر بشغل مكانه.
لنعود الآن ونقرر هذه المسائل، وهي مسائل عظيمة وليست هينة، أولاً لنحرر المذهب فيها:
أولاً: التصرف، فيجوز للمشتري أن يتصرف فيما اشتراه إلا في ست مسائل وهي: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة، أو صفة.
ثانياً: من جهة الضمان، الضمان على المشتري إلا في سبع مسائل وهي: ما بيع بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، أو رؤية سابقة، أو صفة، أو الثمر على الشجر، أما الثامنة وهي ما منعه البائع من قبضه فهذه على المذهب وغيره واضحة، والضمان فيها مخالف للضمان فيما سبق؛ لأن الضمان فيها ضمان غصب بمعنى(8/384)
أنها لو تلفت بآفة سماوية فإنه يرجع المشتري على البائع بالبدل بمثلها إن كانت مثلية وبقيمتها إن كانت متقومة.
أما عند شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ فكل مبيع لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه إلا إذا باعه تولية أو باعه على البائع، كما أنه يخص التصرف بالبيع، ونحن نقول: نلحق بالبيع ما كان بمعناه، وأما بالنسبة للضمان فيقول: إن المدار في الضمان على التمكن من القبض، فإن تمكن المشتري من القبض فالضمان عليه، وإن لم يتمكن فالضمان على البائع، ويوافق المذهب فيما إذا منعه البائع فإن الضمان على البائع، ويوافق المذهب أيضاً فيما إذا بذل البائع التسليم فأبى المشتري ـ فيما يضمنه البائع ـ فالضمان على المشتري.
وَيَحْصُلُ قَبْضُ مَا بِيْعَ بكَيْلٍ أوْ وَزْنٍ أوْ عَدٍّ أوْ ذَرْعٍ بِذَلِكَ وَفِي صُبْرَةٍ، وَمَا يُنْقلُ بِنَقْلِهِ، وَمَا يُتَنَاوَلُ بِتَنَاوُلِهِ، وَغَيْرِهِ بِتَخْلِيَتِهِ والإقَالَةُ فَسْخٌ، تَجُوْزُ قَبْلَ قَبضِ المَبِيْعِ بِمِثْلِ الثّمَنِ وَلاَ خِيَارَ فِيْهَا، وَلاَ شُفْعَةَ.
قوله: «ويحصل قبض ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك» المشار إليه ما سبق، فما بيع بكيل يحصل قبضه بكيله، ووزن بوزنه، وعد بعده، وذرع بذرعه، ولا يكفي أن تستولي يد المشتري عليه، فلو فرض أن المشتري قبضه وهو مبيع مكايلة، ولكنه لم يكله، فإنه لم يقبضه حقيقة؛ لأنه لا يقبض إلا بالاستيفاء بكيل ما يكال، ووزن ما يوزن، وعد ما يعد، وذرع ما يذرع.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا حصل الكيل والوزن والعد والذرع جاز التصرف فيه وإن لم ينقله عن مكانه؛ لأنه حصل القبض، ولكن سبق لنا أن القول الراجح أن السلع لا تباع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، وعلى هذا فلا يكفي(8/385)
الكيل حتى يقبضه، فيكون ما بيع بكيل أو وزن أو عد أو ذرع بذلك لا يتم قبضه إلا بأمرين:
الأول: حيازته.
الثاني: استيفاؤه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
أما على كلام المؤلف ـ وهو المذهب ـ فإنه متى حصل الكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذرع، ولو في مكانه فهذا قبض.
قوله: «وفي صبرة» «الصبرة» هي الكومة من الطعام.
قوله: «وما ينقل بنقله» مثل: الثياب والحيوان والسيارات وما أشبه ذلك، يحصل قبضها بنقلها؛ لأن هذا هو العرف.
قوله: «وما يتناول بتناوله» أي: ما يتناول بالأيدي فإنه يحصل القبض بتناوله، مثل: الدراهم والجواهر والساعات والأقلام، فهذه نقلها باليد يناولها صاحبها.
قوله: «وغيره بتخليته» أي: ويحصل قبض غير هذه الأشياء بالتخلية، ومعنى التخلية أن يخلي بين المبيع والمشتري فيسلمه المفتاح ـ مثلاً ـ في البيت، وينتقل عن الأرض في الأرض، وما أشبه ذلك.
وإذا قال قائل: إنه يرجع في ذلك إلى العرف لكان صحيحاً ما دام لا يحتاج إلى حق استيفاء، أي: لا يحتاج إلى كيل أو وزن أو عد أو ذرع، فنرجع إلى العرف، فما عده الناس قبضاً فهو قبض وما لم يعدوه قبضاً فليس بقبض، لكن المؤلف ـ رحمه الله ـ(8/386)
عين ما ذكره بناءً على أن هذا هو العرف في هذه الأشياء.
قوله: «والإقالة فسخ» الإقالة: هي أن يرضى أحد المتبايعين بفسخ العقد إذا طالبه صاحبه بدون سبب، أي: لا يلزمه بالعقد ويفسخه.
وحكمها التكليفي أنها سنة، وحكمها الوضعي أنها فسخ، ومعلوم في أصول الفقه أن الأحكام نوعان: تكليفية ووضعية، فحكمها التكليفي أنها سنة، ولكن هي سنة في حق المقيل، ومباحة في حق المستقيل، أي: لا بأس أن تطلب من صاحبك أن يقيلك، سواء كنت البائع أو المشتري، أما في حق المقيل فهي سنة لما فيها من الإحسان إلى الغير، وقد قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» (1) ، ولأن فيها إدخال سرور على المُقال وتفريجاً لكربته، لا سيما إذا كان الشيء كثيراً وكبيراً، فتكون داخلة في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (2) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع،
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع/ باب في فضل الإقالة (3460) ؛ وابن ماجه واللفظ له، في التجارات/ باب الإقالة (2199) ؛ وابن حبان (5029) «موارد» ؛ والحاكم (2/45) ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وصححه ابن دقيق العيد وابن حزم؛ انظر: «التلخيص» (1197) .
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/387)
سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى» (1) ، فتكون سبباً للدخول في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرحمة، فعليه إذا جاءك أخوك نادماً وقال: أنا اشتريت منك هذا الشيء وليس بيننا خيار، والعقد لازم، لكني ندمت فأرجو منك أن تفسخ العقد، فإننا نقول: يسن لك أن تفسخ رجاء هذا الثواب أن الله ـ تعالى ـ يقيل عثرتك يوم القيامة، ثم إن من المشاهد المحسوس أن الغالب أن الإنسان إذا أقال أخاه فإن الله ـ تعالى ـ يبارك له في المبيع وتزداد قيمته، وكم من أناس أقالوا بيعاتهم، ثم ارتفعت الأسعار فباعوها بأكثر من ثمنها الأول، وهذا جزاء دنيوي مقدم، أما بالنسبة للمستقيل فهي مباحة لا حرج فيها، وليست من السؤال المذموم، ونظيرها العاريَّة مباحة للمستعير سنة للمعير، والعلة في هذا أنها إحسان.
وقوله: «فسخ» هذا حكمها الوضعي، أي: أنها فسخ لا بيع، وعندنا ثلاثة أمور: إبطال وفسخ وعقد، والفرق أنه إذا قلنا: إنها إبطال صار معناه أن العقد الأول بطل، وإذا قلنا: إنها فسخ صار العقد الأول ثابتاً ويكون الفسخ من حين الإقالة، وعلى هذا فما حصل من نماء بين الإقالة والعقد يكون للمشتري، وما حصل من عيب يكون على المشتري، وإذا قلنا: إنها عقد، ترتب عليها شروط البيع، فكأنها تكون بيعاً جديداً، وإذا كانت بيعاً جديداً فلا بد أن تراعى شروط البيع، ولكن الصواب أن الإقالة فسخ؛ لأنها قبل الإقالة على ملك المشتري، وبعد الإقالة ليست إبطالاً
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع (2076) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(8/388)
للعقد الأول ولا عقداً جديداً، فلو جاء رجل واشترى مني سيارة، ثم جاء يطلب الإقالة والفسخ، فإن فسخت البيع فهو إقالة، وإن قلت: أنا لن أفسخ البيع ولكن أشتريها منك شراءً جديداً، أنت اشتريتها مني بعشرة آلاف ونقدت الثمن، وأنا أشتريها منك بثمانية آلاف ريال، فهذا بيع.
قوله: «تجوز قبل قبض المبيع» ولو كان المبيع مكيلاً أو موزوناً، فلو باع شخص على آخر كيساً من البر، كل صاع بدرهم، فإنه لا يجوز أن يبيعه على أحد ولا على بائعه نفسه حتى يقبضه بالكيل، لكن لو استقال من البيعة وأقاله البائع صح؛ لأنها ليست بيعاً؛ بل هي فسخ، أي إلغاء للعقد الأول فيرد ما كان على ما كان عليه، ولو قلنا: هي بيع ما جاز أن يقيله حتى يقبضه ويستوفيه.
قوله: «بمثل الثمن» أي: أنها لا تجوز إلا بمثل الثمن، فلا تجوز بزيادة ولا نقص ولا اختلاف نوع أو اختلاف جنس.
مثال ذلك: اشترى هذه السيارة بمائة دينار ثم ندم المشتري، وقال للبائع: أقلني، فقال: أقيلك بشرط أن تعطيني بدل الدنانير دراهم، فالإقالة هنا لا تصح؛ لأنه أقاله بغير مثل الثمن، أي بنوع آخر؛ إذ إنها انتقلت من الفسخ إلى المعاوضة والمصارفة.
مثال آخر: اشترى هذه السيارة بخمسين ألفاً ثم عاد إلى البائع وقال: أقلني، فقال: أقيلك بشرط أن تعطيني خمسة آلاف ريال فهذا لا يجوز؛ لأنها زادت على الثمن الآن، فسوف(8/389)
تصير القيمة خمسة وخمسين ألفاً فلا تصح، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: لأنها تشبه العينة، حيث ربح البائع على المشتري.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو أن البائع طلب من المشتري الإقالة فقال: أقيلك على أن تعطيني كذا وكذا زيادة على الثمن فإنه لا يجوز؛ لأنها تشبه العينة حيث زيد على الثمن.
ولكن القول الراجح أنها تجوز بأقل وأكثر إذا كان من جنس الثمن؛ لأن محذور الربا في هذا بعيد فليست كمسألة العينة؛ لأن مسألة العينة محذور الربا فيها قريب، أما هذه فبعيد، وقد قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في «القواعد» : إن للإمام أحمد رواية تدل على جواز ذلك، حيث استدل ببيع العربون الوارد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ (1) ، وقال: الإقالة بعوض مثله، وعليه فيكون هناك رواية أومأ إليها الإمام أحمد بجواز الزيادة على الثمن والنقص منه، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه عمل الناس، وهو من مصلحة الجميع؛ وذلك لأن البائع إذا أقال المشتري، فإن الناس سوف يتكلمون ويقولون: لولا أن السلعة فيها عيب ما ردها المشتري، فيأخذ البائع عوضاً زائداً على الثمن من أجل جبر هذا النقص.
قوله: «ولا خيار فيها» أي: ليس في الإقالة خيار، و «خيار» نكرة في سياق النفي فتشمل خيار العيب، وخيار الشرط وغير ذلك؛ لأنها ليست بيعاً، وإنما هي رجوع في العقد، فلو أقاله
__________
(1) سبق تخريجه ص (255) .(8/390)
وبعد أن أقاله في مجلس الإقالة رجع، فهل له ذلك؟ لا، لما سبق أنها ليست بيعاً.
قوله: «ولا شفعة» أي: ليس فيها شفعة، والشفعة معناها انتزاع حصة الشريك ممن انتقلت إليه بعوض مالي.
مثال ذلك: رجلان بينهما أرض، فباع أحدهما نصيبه منها، فلشريكه أن يُشَفِّعَ، أي: أن يضم هذا السهم إلى نصيبه فيأخذه من المشتري قهراً، فمثلاً، زيد وعمرو شريكان في أرض، فباع عمرو نصيبه على بكر، فزيد هو الذي له حق الشفعة، لكن زيداً قال: إن بكراً حبيب إلي ولا أريد أن آخذها بالشفعة، فأسقط حقه من الشفعة، ثم إن بكراً جاء إلى عمرو وقال له: إني نادم وأحب أن تقيلني، فأقاله، أي: أقال عمرو بكراً، فهل لزيد أن يأخذها من عمرو بالشفعة؟
الجواب: لا؛ لأن الإقالة فسخ، ولو أن بكراً باعها على عمرو، يعني أن زيداً لم يأخذها بالشفعة من بكر، ثم إن بكراً باعها على عمرو بيعاً جديداً، فهل لزيد أن يأخذ بالشفعة؟
الجواب: نعم.
إذاً قول المؤلف: «لا شفعة» يعني أنه لو أقيل المشتري الذي أسقط الشريك شفعته عنه فإنه لا يرجع بالشفعة، لأنها ليست بيعاً.(8/391)
بَابُ الرّبَا والصَّرْفِ
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39] أي: اهتزت بأشجارها وعشبها، وربت أي: زادت، وليس المراد الأرض نفسها، بل المراد ما ينبت فيها.
وأما شرعاً فهو زيادة في أشياء ونسأ في أشياء، ولو قيل: إن ربا الفضل هو التفاضل في بيع كل جنس بجنسه مما يجري فيه الربا، وربا النسيئة تأخير القبض فيما يجري فيه الربا.
فليس كل زيادة ربا في الشرع، وليس كل زيادة في بيع ربا، إذا كان المبيعان مما تجوز فيهما الزيادة، فلو بعت سيارة بسيارتين فلا بأس، وكتاباً بكتابين فلا بأس؛ لأنه ليس كل زيادة تكون ربا، بل الزيادة التي تكون ربا هي ما إذا وقع العقد بين شيئين يحرم بينهما التفاضل، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيان ذلك، وأما الصرف فسيأتي تعريفه.
والربا محرم بالقرآن، والسنة، وإجماع المسلمين، ومرتبته أنه من كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279] ، ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال:(8/392)
هم سواء» (1) ، فهو من أعظم الكبائر. وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه «إبطال التحليل» ، أنه جاء من الوعيد في الربا ما لم يأت في أي ذنب آخر سوى الشرك والكفر.
وهو مُجْمَعٌ على تحريمه، ولهذا من أنكر تحريمه ممن عاش في بيئة مسلمة فإنه مرتد؛ لأن هذا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها.
ولكن إذا قلنا هذا، هل معناه أن العلماء أجمعوا على كل صورة؟
الجواب: لا، فقد وقع خلاف في بعض الصور، وهذا مثل ما قلنا في أن الزكاة واجبة بالإجماع، ومع ذلك ليس الإجماع على كل صورة، فاختلفوا في الإبل والبقر العوامل، واختلفوا في الحلي وما أشبه ذلك، لكن في الجملة العلماء مجمعون على أن الربا حرام، بل من كبائر الذنوب.
والربا ينقسم إلى قسمين، ربا الفضل، ربا النسيئة، ربا الفضل هو الزيادة، يعني أن يكون الربا بالزيادة كما لو بعت عليك صاعين من البر بثلاثة أصواع من البر.
وربا النسيئة هو أن أبيع عليك شيئاً ربوياً بشيء ربوي مع تأخير القبض فيهما، مثل أن أبيع عليك صاعاً من البر بصاع من الشعير مع تأخير القبض، واعلم أن هذين القسمين قد ينفردان وقد يجتمعان وقد يرتفعان، فإذا بعت عليك عشرة دراهم بدينار مع تأخير القبض فهذا ربا نسيئة، وإذا بعت عليك صاعاً من البر
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب لعن آكل الربا ومؤكله (1598) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(8/393)
بصاعين من البر مع القبض في مجلس العقد فهذا ربا فضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاعين منه مع تأخير القبض، اجتمع فيه ربا النسيئة وربا الفضل، وإذا بعت عليك صاعاً من البر بصاع من البر مع التسليم انتفى ربا الفضل وربا النسيئة.
مسألة: ما هي الأشياء الربوية؟.
الجواب: حددها النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعد، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) .
وهذه الأشياء الستة مجمع عليها على حسب ما جاء في الحديث، أي مجمع على أنها هي الأموال الربوية، وأن الربا يجري فيها، واختلف العلماء في سواها، هل يلحق بها بالقياس أو لا يلحق؟
فأما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها شيء، والربا خاص بهذه الأشياء الستة؛ لأن أهل الظاهر يمنعون القياس.
وقال أهل المعاني: بل يقاس عليها ما يماثلها، ووافق بعض أهل المعاني ـ أعني القياسيين ـ أهل الظاهر، وأنه لا يجري الربا إلا في هذه الستة فقط لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حصره، وقد أعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ جوامع الكلم (2) واختصر له الكلام
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .
(2) أخرجه البخاري في الجهاد/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» (2977) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب المساجد ومواضع الصلاة (523) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(8/394)
اختصاراً (1) ، ولو كان الربا يجري في كل مكيل أو موزون لقال: المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون؛ لأن هذا أعم وأخصر وأوضح، فلما عيَّن لا نتعدى ما قال ولا نتجاوز ما جاءت به السنة، وهذا استدلال قوي في الواقع.
وقال ابن عقيل وهو من أصحاب الإمام أحمد وهو ليس من أهل الظاهر بل من أهل المعاني والقياس، قال: إنه لا يجري الربا إلا في الأصناف الستة؛ لأن العلماء اختلفوا في العلة، فلما اختلفوا تساقطت أقوالهم، فنرجع إلى القول الفصل وهو تخصيص الربا بهذه الأصناف الستة، وعلى هذا فهو يرى أن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة، لكن مأخذه غير مأخذ الظاهرية.
ولكن الراجح أن الشريعة عموماً لا يمكن أن تفرق بين متماثلين؛ لأن الشريعة محكمة من لدن حكيم خبير، والقياس فيها ثابت، فأي فرق بين بر ببر وأرز بأرز؟ فقد يكون الأرز في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن موجوداً فالشارع لا يمكن أن يفرق بين متماثلين، لكننا نحصر العلة على أضيق نطاق لأن الأصل الحل،
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في «مسنده الكبير» كما في «المطالب العالية» (3851) من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ.
قال الهيثمي في المجمع (1/173) : «فيه عبد الرحمن بن إسحق ضعفه أحمد وجماعة» ، وأخرجه الدارقطني (4/144) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال في التعليق المغني: «في إسناده زكريا بن عطية قال أبو حاتم: منكر الحديث» ، قال الألباني: «لكن في معناه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وهو حديث صحيح» ، انظر التعليق على بداية السول في تفضيل الرسول صلّى الله عليه وسلّم (74) والصحيحة (1483) .(8/395)
وكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه الأشياء فعلى سبيل التمثيل؛ لأنه هو الذي كان موجوداً، مثل صدقة الفطر قال: «صاعاً من بر وصاعاً من شعير» (1) ، مع أنه يوجد أشياء أخرى، ولكن ما هو مناط الحكم، أي: ما هي العلة الدقيقة التي يمكن أن نلحق بها ما سوى هذه الأصناف الستة؟ هذا ـ أيضاً ـ محل نزاع.
فقال بعض العلماء: العلة الكيل والوزن؛ لأن هذه الأشياء إما مكيلة أو موزونة، فالكيل في الأصناف الأربعة، والوزن في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وبناءً على هذا نقول يجري الربا في كل مكيل قياساً على الأصناف الأربعة، وفي كل موزون قياساً على الصنفين الآخرين الذهب والفضة، ولا يجري الربا في غير المكيل والموزون، ولا يشترط أن يكون مطعوماً حتى ولو كان لا يؤكل، وعلى هذا فالإشنان يكال ولا يؤكل فيجري فيه الربا لأنه يكال.
ولو أبدل برتقالة ببرتقالتين فهذا يجوز، إذ ليس مكيلاً ولا موزوناً، ويعتبر من المعدود، والدليل حديث الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر، ولننظر هل الدليل يطابق المدلول أم المدلول أعم؟ ومعلوم أنه إذا كان المدلول أعم فإنه لا يصح الاستدلال؛ لأنه الدليل الأخص يخرج ما عدا المخصوص، وإذا كان الدليل أعم واستدللنا به على أخص يجوز؛ لأن الأخص فرد من أفراد العموم، فهذه قاعدة في الاستدلال أنه متى كان الدليل أخص فإنه لا يصح الاستدلال به على الأعم والعكس بالعكس،
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب نص صدقة الفطر (1503) ومسلم في الزكاة/ باب زكاة الفطر على المسلمين ... (984) (16) .(8/396)
فالرسول صلّى الله عليه وسلّم عين أشياء ولم يذكر أشياء، فإذا استدللنا بالحديث على كل مكيل أو موزون فقد استدللنا بالأخص على الأعم.
وقال بعض العلماء: العلة الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعي، وبناءً على هذا إذا أبدل برتقالة ببرتقالتين فإنه لا يجوز؛ لأنها مطعومة، وأيضاً إذا أبدل طناً من الحديد بطنين من الحديد فهذا يجوز، وعلى القول الأول لا يجوز.
وأقرب شيء أن يقال: إن العلة في الذهب والفضة كونهما ذهباً وفضة، سواء كانا نقدين أو غير نقدين، والدليل على أن الربا يجري في الذهب والفضة، وإن كانا غير نقدين، حديث القلادة الذي رواه فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ: «أنه اشترى قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً ففصلها فوجد فيها أكثر، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تباع حتى تفصل» (1) . ومعلوم أن القلادة خرجت عن كونها نقداً، وعلى هذا فيجري الربا في الذهب والفضة مطلقاً سواء كانا نقداً أم تبراً أم حليّاً، على أي حال كانا، ولا يجري الربا في الحديد والرصاص والصفر والماس وغيرها من أنواع المعادن.
أما العلة في الأربعة فكونها مكيلة مطعومة، يعني أن العلة مركبة من شيئين الكيل والطعم، إذ هذا هو الواقع، فهي مكيلة مطعومة، ويظهر أثر الخلاف في الأمثلة:
فإذا باع صاعاً من الإشنان بصاعين، منه، فإذا قلنا: إن
__________
(1) أخرجه مسلم في المساقاة/ باب بيع القلادة فيها خرز وذهب (1591) (90) عن فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ.(8/397)
العلة الكيل فلا يجوز، وإن قلنا: إن العلة الطعم جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز أيضاً.
وإذا باع فاكهة بجنسها متفاضلة، فإن قلنا: العلة الطعم فلا يجوز، وإن قلنا: العلة الكيل جاز، وإن قلنا: العلة الكيل مع الطعم جاز، فالأمثلة تبنى على الخلاف في تحديد العلة.
فإن قال قائل: سلمنا أنها مطعومة في البر والشعير والتمر، لكن ما القول في الملح؟ أجاب عنه شيخ الإسلام بأن الملح يصلح به الطعام فهو تابع له، ولهذا يقال: «النحو في الكلام كالملح في الطعام» ، فالملح من توابع الطعام، وبناءً على هذا التعليل يجري الربا في التوابل التي يصلح بها الطعام؛ لأنها تابعة له.
فإذا تأملنا هذه الأقوال الثلاثة وجدنا:
أولاً: أقربها إلى الصواب هذا القول؛ ووجه ذلك أننا إذا تأملنا الأصناف الستة التي بينها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجدنا أنها مطعومة مكيلة.
ثانياً: أن الأصل في البيع والشراء الحل فلا يمكن أن نحرم على الناس ما الأصل فيه الحل، حتى يتبين لنا ذلك على وجه بيَّن، فما دام لم يتبين إلا ما اجتمع فيه العلتان الكيل والطعم، فإننا نقول: ما عدا ذلك باقٍ على الأصل، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
يَحْرُمُ رِبَا الفَضْلِ فِي كُلِّ مَكِيْلٍ وَمَوْزُونٍ بِيْعَ بِجِنْسِهِ، وَيَجِبُ فِيْهِ الحُلُولُ والقَبْضُ وَلاَ يُبَاعُ مَكِيْلٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ كَيْلاً، وَلاَ مَوْزُونٌ بِجِنْسِهِ إِلاّ وَزْناً وَلاَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ جُزَافاً، فَإنْ اخْتَلَفَ الجِنْسُ جَازَت الثَّلاَثَةُ.
قوله: «يحرم ربا الفضل في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» بناءً على أن العلة الكيل والوزن، الكيل في الأربعة، والوزن في(8/398)
الذهب والفضة، فيحرم في كل مكيل وموزون بيع بجنسه.
وقوله: «ربا الفضل» أي: ربا الزيادة في كل مكيل بيع بجنسه بر ببر يحرم فيهما ربا الفضل، شعير بشعير يحرم، تمر بتمر يحرم، ملح بملح يحرم، ذهب بذهب يحرم، فضة بفضة يحرم، حديد بحديد يحرم على كلام المؤلف؛ لأنه موزون.
وقوله: «في كل مكيل وموزون بيع بجنسه» فبر بشعير لا يحرم؛ لأن المؤلف قيده فقال: «بجنسه» ، والشعير ليس جنساً للبر.
وكل شيء حرم فيه ربا الفضل فإنه يحرم فيه ربا النسيئة، لا العكس، ولهذا لم يقل المؤلف في «ربا الفضل والنسيئة» ؛ لأن هذا معلوم أنه متى حرم ربا الفضل حرم ربا النسيئة.
قوله: «ويجب فيه الحلول» أي: في مكيل أو موزون بيع بجنسه «الحلول والقبض» يعني أن يكون البيع حالًّا، وأن يقبض، فلو باع ذهباً بذهب مؤجلاً فهذا يحرم؛ لأنه يجب فيه الحلول، وإنما وجب فيه الحلول؛ لئلا يَدْخُلَهُ ربا النسيئة.
قوله: «والقبض» إذا قال قائل: أليس القبض يغني عن الحلول؟ يعني لو قال: يشترط فيه القبض، كما جاء في الحديث لقوله: «يداً بيد» (1) ، في الواقع أنه يغني، لكن قد تأتي صورة يكون فيها القبض، ولا يكون فيها الحلول، مثل: أن يبيع عليه ذهباً بذهب مؤجلاً لشهر، ويقول: خذ هذا عندك وديعة، وإذا جاء الشهر فاقبضه، فهذا يمكن، ففيه قبض وليس فيه الحلول،
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/399)
ولهذا بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يشترط الحلول والقبض.
فإذا قال قائل: الحديث ليس فيه إلا القبض، وكلام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا شك أنه أبلغ من كلام المؤلف.
قلنا: ليس في كلام المؤلف إلا زيادة الإيضاح فقط، فهو للحديث بمنزلة الشرح، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يحمل على المعهود، والمعهود أنه إذا تقابض الرجلان في البيع فالبيع حال؛ لأنه ما معنى أن يقول: اشتريت منك كيلو من الذهب بكيلو من الذهب، وخذ هذا الكيلو عندك وديعة لمدة شهر، ثم بعد ذلك اقبضه لنفسك، فهي صورة نادرة أو لا توجد أيضاً، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما يتكلم في الأمور الدائمة المعروفة والغالبة.
فالقاعدة: «أنه إذا بيع مكيل بجنسه وجب شيئان التساوي والقبض قبل التفرق» .
لما بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ الضابط فيما يحرم فيه الربا، بيّن الطريق الذي نصل به إلى المساواة؛ لأن بيع الشيء بجنسه من الأموال الربوية يشترط فيه الحلول والقبض، فبأي شيء يكون القبض؟ وأي شيء نعرف به المساواة؟
بيّنه بقوله: «ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلاً ولا موزون بجنسه إلا وزناً» وعلى هذا فالتساوي في المكيل عن طريق الكيل، وفي الموزون عن طريق الوزن، فيضاف للتساوي قيد بناء على ما ذكره المؤلف وهو التساوي بالمعيار الشرعي، وهو كيلاً فيما يكال ووزناً فيما يوزن، والفرق بينهما أن المكيل تقدير(8/400)
الشيء بالحجم، والوزن تقديره بالثقل والخفة، فالبر مكيل، فإذا بيع ببر فلا بد من أن يكون طريق التساوي هو الكيل، فلو بيع بجنسه وزناً فإنه لا يصح ولا يعتبر ذلك تساوياً، حتى فيما لا يختلف بالوزن والكيل كالأدهان والألبان، فإنهما من قسم المكيل؛ لأن كل مائع يجري فيه الربا فهو مكيل، فعلى هذا تكون الألبان من المكيلات، ولا يختلف فيها الوزن والكيل، ومع ذلك لو بيعت وزناً فإنها على كلام المؤلف لا يصح، فلو بعت لبناً بلبن من جنسه وزناً فإنه لا يصح مع أنه لو كيل لكان متساوياً.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه إذا كان الكيل والوزن يتساويان فلا بأس أن يباع المكيل بجنسه كيلاً أو وزناً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثلاً بمثل» (1) ، والمثلية هنا متحققة، أما ما يختلف بالكيل والوزن فلا بد أن يباع المكيل كيلاً، والموزون يباع وزناً.
وقوله: «ولا موزون بجنسه إلا وزناً» مثل اللحم، فلو باع الإنسان لحماً من خروف بلحم من خروف آخر فهذا موزون، فلو أراد أن يقطع اللحم قطعاً صغيرة ويضعه في إناء ويبيعه بجنسه كيلاً فإنه لا يصح؛ لأن معيار اللحم هو الوزن.
وقال بعض العلماء: يجوز أن يباع المكيل وزناً فيعتبر بالوزن، ولا العكس، يعني فلا يباع الموزون كيلاً، لكن الاحتياط ألاّ يباع المكيل إلا كيلاً، ولا يباع الموزون بمثله إلا
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/401)
وزناً، إلا ما يتساوى فيه الكيل والوزن فلا شك في أن بيعه كيلاً أو وزناً جائز.
وقول المؤلف: «ولا يباع مكيل» كلمة «مكيل» نكرة في سياق النفي تشمل القليل والكثير والمساوي في الجودة والمخالف، فلو باع الإنسان تمرة بتمرة فالتساوي بالكيل، فلا بد من أن يتساويا كيلاً، لكن كيف تكال التمرة؟.
الجواب: يؤتى بإناء صغير كملعقة مثلاً، توضع التمرة في هذه الملعقة وتوضع التمرة الأخرى فيها.
وقال بعض أهل العلم: ما لا يكال لقلته وحقارته فإنه لا يعتبر فيه التماثل، كتمرة بتمرتين ـ مثلاً ـ فلا بأس، فمن أخذ بعموم الحديث: التمر بالتمر، مثلاً بمثل» (1) ، قال: هذا يشمل التمر القليل والكثير، ومن أخذ بما تعارف عليه الناس، وقال: لا يمكن أن تكال التمرة، قال: هذا محمول على ما يعرفه الناس مما يمكن فيه الكيل، لكن ظاهر كلام المؤلف: «ولا يباع مكيل» أنه يشمل القليل والكثير.
قوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» يقال: جُزافاً، جِزافاً وجَزافاً، فهي مثلثة، أحياناً يقولون: مثلث اللام أو مثلث العين وأحياناً يقولون: بالمثلثة، والفرق بينهما أنهم إذا قالوا بالمثلثة أي: بالثاء، وإذا قالوا: مثلث الفاء يعنون الحركات.
ومعنى الجزاف: أي الذي يكون بدون تقدير، أي: ولا
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/402)
يباع بعض المكيل بالمكيل جزافاً، ولا بعض الموزون بالموزون جزافاً؛ لأنه لا بد فيه من العلم بالتساوي، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، يعني حتى لو فرض أننا أتينا بخارص حاذق، وقال: هذه الكومة من البر تساوي هذه الكومة من البر، فإنه لا يجوز تبايعهما؛ لأنه لا بد من العلم بالتساوي عن طريق الكيل، إلا أنه يستثنى مسألة واحدة تأتينا ـ إن شاء الله ـ، وهي العرايا، فإن العرايا يجوز أن تباع خرصاً.
وقوله: «ولا بعضه ببعض جزافاً» فلو باع بعضه ببعض جزافاً، وقبل التقابض كال كل منهما ما آل إليه فوجده مساوياً للآخر فيصح العقد؛ لأن المحظور قد زال وليس هناك جهل، فالمبيع معلوم من الطرفين، وإنما العلة هي معياره، وقد علمنا الآن أنهما سواء في المعيار الشرعي.
قوله: «فإن اختلف الجنس جازت الثلاثة» إن اختلف الجنس أي: بين المبيعين بأن يباع بر بشعير، فإنها تجوز الثلاثة وهي: أن يباع كيلاً، أو يباع وزناً، أو يباع جزافاً.
ووجه الجواز أنه إذا بيع الربوي بغير جنسه جاز فيه التفاضل.
مثال ذلك: اشترى شعيراً ببر، أي: كيلو بر بكيلو شعير فهذا جائز؛ لأنه من غير جنسه وإذا اختلف الجنس، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) ، وإذا باع شعيراً بتمر وزناً، كيلو من هذا بكيلو من
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/403)
هذا، فهذا جائز؛ لاختلاف الجنس، وإذا اختلف الجنس لم يشترط التساوي.
وإذا باع تمراً ببر من غير تقدير لا بالوزن ولا بالكيل، فهذا جائز أيضاً؛ وذلك أنه لا يشترط فيه التساوي.
وخلاصة الكلام أنه إذا بيع الربوي بجنسه يشترط فيه شرطان:
الأول: التقابض من الطرفين.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي، المكيل بالمكيل، والموزون بالوزن.
وإذا بيع الربوي بربوي من غير جنسه اشترط شرط واحد، وهو التقابض قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط، ولهذا يجوز بيعهما مكايلة وموازنة وجزافاً.
فإن اختلفا في المعيار الشرعي بأن كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، يقول الفقهاء: إنه يجوز كل شيء، يعني يجوز الكيل والوزن والجزاف والحلول والتأجيل، مثل أن أبيع عليك رطلاً من الحديد بصاعين من البر مؤجلين إلى شهر، فهذا جائز؛ لأن معيار الحديد الوزن ومعيار البر الكيل.
وإذا بيع ربوي بغير ربوي فيجوز التفرق قبل القبض، ويجوز التفاضل، مثل أن يبيع شعيراً بشاة، أو يبيع شعيراً بثياب، أو ما أشبه ذلك، فهذا يجوز فيه التفرق قبل القبض والتفاضل، هذا هو خلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى.
مسألة: يجوز أن يبيع ورقاً نقدياً مئة ريال مثلاً بخمسة(8/404)
وتسعين ريالاً من المعدن، والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذا مقابل الجنس؛ لأن حقيقة الأمر أن هذا جنس مقصود بنفسه، وذلك جنس مقصود بنفسه أيضاً، وكوننا نقول: إن هذا الريال الورقي يقابل هذا الريال المعدني في قيمته النظامية، لا يلزم أن يكون مساوياً له في قيمته الحقيقية، وهذا هو المذهب، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ أيضاً أنه يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض ولو متفاضلاً ولو تأخر القبض، لكن بشرط ألا يكون مؤجلاً بأن أقول: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال إلى سنة، فهذا لا يجوز عنده لكن إذا قال: بعت عليك مائة دولار بأربعة آلاف ريال ولم نتقابض فهذا صحيح عنده، لكن فيه نظر؛ لأنه مبني على أن هذا كالفلوس والفلوس على المذهب ليس فيها ربا نسيئة ولا ربا فضل، وفي المسألة قول آخر في الفلوس أنه يجري فيها ربا النسيئة دون الفضل، وهذا هو الأقرب؛ لأن الفلوس في الحقيقة قيمتها قيمة رسمية فقط، فالأوراق النقدية مثل الفلوس، وهذا قول وسط، وهناك قول آخر يحرم ربا النسيئة وربا الفضل، وهناك قول آخر أنه لا يجوز التعامل بها مطلقاً وأن التعامل بها حرام؛ لأنها دين على الحكومة فأنت إذا اشتريت بها أو بعت فقد اشتريت ديناً بدين، ولكن تتعامل بها للضرورة فتتقدر بقدرها.
فأرجح ما يكون عندي أنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، فلا يجوز أن نتفرق إلا بالقبض، وهم الآن يجوزون أن يبيع الإنسان ثماني ورقات وثمانية قروش بريال واحد من الفضة(8/405)
مع أن هذه الورقة معتبرة ريالاً، فهذه مثل تلك المسألة.
وَالجِنْسُ: مَا لَهُ اسْمٌ خَاصٌ يَشْمَلُ أنْوَاعاً؛ كَبُرٍّ وَنَحْوِهِ وَفُرُوعُ الأجْنَاسِ؛ كَالأدِقَّةِ، وَالأخْبَازِ، وَالأدْهَان، واللّحْمِ أجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أصُولِهِ،.
قوله: «والجنس ما له اسم خاص يشمل أنواعاً كبُرٍّ ونحوه» الجنس ضابطه، هو الشيء الذي يشمل أشياء مختلفة بأنواعها.
والنوع ما يشمل أشياءً مختلفة بأشخاصها، هذا هو الفرق، فمثلاً البر جنس؛ لأنه يشمل أشياءً مختلفة بأنواعها، والبر فيه ما يسمى بالحنطة، وما يسمى بالمعية، وما يسمى بالجريباء، وما يسمى باللقيمي هذه أربعة أنواع، إذاً فالبر جنس شمل أنواعاً.
والنوع شيء يشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، كالحنطة مثلاً تشمل أشياء مختلفة بأشخاصها، تشمل الحنطة التي عندي والتي عندك، وما أشبه ذلك.
الإنسان جنس أو نوع؟
الجواب: جنس يشمل أشياء مختلفة بأنواعها، وهو ذكر وأنثى.
والحيوان جنس، لكنه أعم من الإنسان؛ لأنه يشمل الإنسان وغير الإنسان، فيشمل الإنسان والإبل والبقر والغنم، وغير ذلك فهو أعم.
والجسم جنس أعم مما سبق، فيشمل الجماد والحيوان والإنسان، وكما سبق الحيوان يشمل أنواعاً.
فتبين بهذا أن الشيء قد يكون جنساً باعتبار ما تحته، ونوعاً باعتبار ما فوقه؛ وقد يكون الجنس نوعاً، باعتبار ما فوقه وجنساً باعتبار ما تحته، والمراد هنا الجنس الأخص لا الأعم، ولهذا لو بعنا بقرة ببعير فقد اتفقا في الجنس الأعم وهو الحيوانية،(8/406)
لكن يجوز التفاضل ويجوز التفرق قبل القبض، لكن المراد هنا الجنس الأخص، أي: أخص الأجناس، وإذا أردنا أن نبتعد عن أهل الكلام واصطلاحاتهم، نقول: «البر، والتمر، والشعير، والملح، والذهب، والفضة» ، ما نحتاج أن نقول: الجنس الأعم والجنس الأخص؛ لأنه قد يشكل على الإنسان هذا الشيء، وعلى هذا فإذا قلنا: لا يباع الربوي بجنسه، فمعناه لا يباع البر بالبر، أما الشعير فإنه جنس مستقل، فإذا أردت أن تبيع براً ببر، فالواجب شيئان:
الأول: التقابض قبل التفرق.
الثاني: التساوي بالمعيار الشرعي.
وإذا أردت أن تبيع براً بشعير، فالواجب شيء واحد، وهو التقابض قبل التفرق.
قوله: «وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان واللحم أجناس باختلاف أصوله» فروع الأجناس أجناس، لكن هل هي أجناس مستقلة أو هي أجناس تابعة لأصولها؟
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ في كلامه هذا أنها أجناس تابعة لأصولها، وعلى هذا فإذا بيع برٌّ حباً ببرٍّ دقيقاً فإنه لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الحب إذا طحن انتشر ولا يمكن تقديره بالكيل ولا يمكن ـ أيضاً ـ تقديره بالوزن؛ لأن البر لا يباع بالبر إلا كيلاً.
وإذا بيع برٌّ حباً بشعير دقيقاً يجوز بدون كيل ولا وزن؛ لأن بيع البر بالشعير لا بأس فيه بالتفاضل، والدقيق جنس باعتبار الأصل.(8/407)
وكذلك ـ أيضاً ـ الأخباز، فإذا أردت أن تبيع خبزاً من البر بجريش، والجريش عبارة عن حب لكنه مطحون، ليس طحناً دقيقاً يطبخ فهذا لا يجوز لتعذر التساوي؛ لأن الجريش قد ترطب بالماء ولا يمكن كيله؛ وحتى إذا أمكن كيله فالخبز لا يمكن كيله.
فإذا قال قائل: يمكن أن نملأ إناءً من الجريش، ونفتت الخبز ونضع عليه ماء ونبدل هذا بهذا.
قلنا: لا يمكن التساوي والجنس واحد.
وخبز شعير بجريش من البر فهذا يجوز، لعدم اشتراط التساوي، هذا ما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ أن فروع الأجناس تعتبر أجناساً بحسب أصولها.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: ما صنع من هذه الأجناس فإن خرج عن القوت بسبب هذا الصنع، خرج عن كونه ربوياً، بناءً على أن العلة في الربا هي كونه قوتاً، وإن لم يخرج فهو جنس مستقل ليس تابعاً لأصله، وعلى هذا فيجوز أن أبيع خبزاً من البر بجريش من البر؛ لأن كل واحد منهما اختلف اختلافاً بيناً، لا بالنسبة لأكله ولا بالنسبة للقصد منه فيكون جنساً مستقلاً، ولكن الاحتياط ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البر بالبر مثلاً بمثل» ، وهذا يعم البر على أي حال كان، «والشعير بالشعير» (1) ، كذلك يعم الشعير على أي حال.
فإذا قال: أنا ما عندي إلا خبز، وأنا أريد جريشاً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/408)
نقول له: بع الخبز واشتر جريشاً، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في التمر الجيد والتمر الرديء (1) .
وقوله: «الأدقة والأخباز» الأدقة جمع دقيق، والأخباز جمع خبز.
وقوله: «والأدهان» هذا بناءً على أن الربا يجري في الدهن لأنه يباع بالكيل في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مكيل، وكل مائع فهو مكيل كالدهن والزيت وغيره، أما إذا قلنا: إنه لا يجري في الدهن فلا بأس ببيع بعضه ببعض متفاضلاً أو متساوياً.
وقوله: «واللحم» اللحم ـ أيضاً ـ أجناس، فلحم الإبل جنس، ولحم الضأن جنس آخر، ولحم البقر جنس آخر، ولحم المعز جنس آخر، ولحم الأرانب جنس، ولحم الظباء جنس، واللحم موزون فلا يجوز أن أبيع كيلو من لحم الغنم بكيلوين من لحم الغنم ـ أيضاً ـ؛ ولأن الجنس واحد فلا يجوز فيه التفاضل.
وكيلو من لحم البقر بكيلوين من لحم الخروف، يجوز لاختلاف الجنس، وهذا ـ أيضاً ـ بناءً على أن اللحم يجري فيه الربا، وهو وجيه إذا كنا في بلاد قوتهم اللحم، أما إذا كنا في بلاد لا يعتبر اللحم فيها قوتاً فإنه لا يجري فيه الربا؛ لأنه ليس بقوت، والمذهب: أنه يجري فيه الربا؛ لأنه مما يوزن، والعلة على المذهب الكيل والوزن، فإذا بعت عليك خروفاً بخروفين
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه (2201) (2202) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1593) (95) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ.(8/409)
فهذا جائز؛ لأنه ليس بمكيل ولا موزون، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يستقرض على إبل الصدقة، فيأخذ البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة» (1) ، وعلى هذا فلا ربا في الحيوان ما دام حياً، أما إذا ذبح فإنه يكون لحماً فيجري فيه الربا، فإذا بيع بجنسه فإنه لا بد من التساوي وإلا فلا يصح.
وَكَذَا اللَّبَنُ وَاللّحْمُ والشَّحْمُ والكَبِدُ أجْنَاسٌ، وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوانٍ مِن جِنْسِهِ، وَيَصِحُّ بِغَيْرِ جِنْسِهِ.
قوله: «وكذا اللبن» اللبن أجناس باختلاف أصوله، فلبن الإبل جنس، ولبن البقر جنس آخر، فلو بعت صاعاً من لبن الإبل بصاعين من لبن البقر فهذا جائز؛ لأن الجنس مختلف، ولو بعت صاعاً من لبن بقرة بكر وصاعين من لبن بقرة عجوز فهذا لا يجوز؛ لأن الجنس واحد.
قوله: «واللحم والشحم والكبد أجناس» انتقل المؤلف من الجنس باعتبار استقلال البهيمة إلى الجنس باعتبار وحدة البهيمة، فالبهيمة فيها لحم منوع، ففيها لحم وشحم وكبد وقلب وأَلية وطحال ورئة وكراع وعين ورأس، فهذه كل واحد منها جنس، وعلى هذا فيجوز أن يبيع عليك رطلاً من الكبد برطلين من الرئة، ولو من الضأن؛ لاختلاف الجنس، ويجوز أن أبيع رطلاً من الرئة برطلين من اللحم من الشاة نفسها؛ لاختلاف الجنس،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/171) ، وأبو داود في البيوع/ باب في الحيوان بالحيوان والرخصة في ذلك (3357) ؛ والحاكم (2/56) ؛ والبيهقي (5/287) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ.
وقال الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي؛ وصححه البيهقي، قال الحافظ في «الدراية» (2/159) : «في إسناده اختلاف لكن أخرجه البيهقي من وجه آخر قوي، وحسنه الألباني في «الإرواء» (5/205) .(8/410)
إذاً نفس البهيمة بأجزائها أجناس، وكل جزء يعتبر جنساً مستقلاً، وعلى هذا فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، ولكن هل يجب التقابض؟
الجواب: نعم؛ لاتفاقهما في المعيار الشرعي، فاللحم كله موزون، فلما اتفقا في المعيار الشرعي كان لا بد من أن يتقابضا قبل التفرق، أما التساوي فليس بشرط.
قوله: «ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه ويصح بغير جنسه» .
مثال ذلك: عندي كومة من لحم الضأن فأردت أن أبيعها بشاة فلا يجوز؛ لأنه من جنسه.
فإذا قال قائل: الذي عندي لحم والشاة أو الخروف فيها كبد وقلب ورئة، وأنتم ذكرتم أن هذه الأشياء كل واحد منها جنس مستقل؟
قلنا: إذا كان الذي عندك لحم، وفي الشاة لحم فقد بعت لحماً بلحم ومعه من غير الجنس، فيكون هذا من باب ما يسمى عند الفقهاء: بمُد عجوة ودرهم فلا يجوز.
وإذا بعت عليك عشرة أصواع من التمر، بصاعين من التمر ومعهما ثمانية أصواع من الشعير فهذا لا يجوز؛ لأنك بعت جنساً بجنسه ومع الثاني من غير جنسه، فهذه مسألة مد عجوة ودرهم بمد عجوة، أو بمُدَي عجوة ودرهم، كما سيأتي إن شاء الله.
إذاً بيع اللحم بحيوان من جنسه، يقول المؤلف: لا يجوز.
واستدل بما يلي:(8/411)
أولاً: بعموم نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن بيع اللحم بالحيوان (1) ، وهذا الحديث لو أخذنا بظاهره، لقلنا: إنه عام يشمل ما إذا كان الحيوان من جنس اللحم أو من غير جنسه، وهذا لا ينطبق على كلام المؤلف، فالمؤلف ـ رحمه الله ـ يقول: إنه لا يباع اللحم بحيوان من جنسه.
مثاله: خمسون كيلو من لحم الخروف بخروف من جنسه فلا يجوز للنهي عن بيع اللحم بالحيوان، وهذا الحديث في تصحيحه مقال بين أهل العلم وفيه اختلاف.
ثانياً: أنه إذا باع هذا اللحم بهذا الحيوان، فكأنه باع طعاماً بجنسه ومع الآخر من غير الجنس؛ لأننا إذا قدرنا أن هذه الكومة لحم، أي: هبر، فالحيوان الذي بيع، فيه لحم وشحم وكبد ورئة وقلب وطحال وكرش وأمعاء ... إلخ، فيكون كالذي باع ربوياً بمثله ومع الآخر من غير جنسه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء بمد عجوة ودرهم، هذا هو حكم المسألة على كلام المؤلف.
وقال بعض أهل العلم: إنه لا بأس ببيع اللحم بالحيوان مطلقاً، سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ وذلك لاختلاف المقاصد بين الحيوان وبين اللحم، فالحيوان يراد للأكل وللتنمية
__________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/655) ؛ وأبو داود في المراسيل ص (178) ؛ وعبد الرزاق (14162) ؛ والدارقطني (3/71) ؛ والبيهقي (5/296) عن سعيد بن المسيب مرسلاً.
وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (4/322) : لا أعلم هذا الحديث يتصل من وجه ثابت من الوجوه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب هذا. اهـ.(8/412)
وللتجارة ولغير ذلك، واللحم يراد غالباً للأكل، فلما اختلفت المنافع والمقاصد صار كل واحد منهما لا صلة له بالآخر ولضعف الحديث الوارد في ذلك.
ويرى بعض أهل العلم أنه لا يجوز بيع اللحم بالحيوان مطلقاً سواء من جنسه أو من غير جنسه؛ لأنه بيع حي بميت، ويروون عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه «نهى عن بيع الحي بالميت» (1) ، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الحديث الوارد فيه ضعيف، والأصل في البيع الحل لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
وفصل بعض أهل العلم فقال: إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يصح بيعه بجنسه، وإن أراد بذلك الانتفاع بالحيوان بركوب أو تأجير أو حرث أو غير ذلك فلا بأس؛ لأنه إذا أراد به اللحم اتفقت المقاصد فصار المراد بهذا الحيوان هو اللحم والأعمال بالنيات، وإذا أراد انتفاعات أخرى فإنه يختلف المقصود.
وهذا القول أصح الأقوال الأربعة: أنه إن أراد بالحيوان اللحم فإنه لا يجوز؛ لأنه صار كأنه باع لحماً بلحم من غير تساوٍ، أي: مع التفاضل، وإن أراد بالحيوان الانتفاع بغير الأكل فهذا لا بأس به، وهذا القول لا يعارض حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان؛ لأنه يمكن أن يحمل الحديث على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في المراسيل (166) عن سعيد بن المسيب مرسلاً، وأخرجه الإمام مالك (2/655) عن سعيد بلفظ: «نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، انظر: نصب الراية (4/39) .(8/413)
وهل يمكن أن يريد باللحم الحيوان؟
الجواب: لا يمكن؛ لأن هذا اللحم لا يمكن أن يعود حيواناً، لكن أن يريد بالحيوان اللحم فيمكن بأن يذبحه ويأكل اللحم، فهذا الحديث إن صح يحمل على ما إذا أراد الإنسان بالحيوان اللحم.
وقوله: «ويصح بغير جنسه» مثل أن يبيع لحم ضأن ببقرة؛ لأن اختلاف الجنس يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) ، فإذا باع لحماً مأكولاً بحمار جاز لاختلاف الجنس، واختلاف المقاصد أيضاً.
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَبٍّ بِدَقِيْقِهِ وَلاَ سَوِيقِهِ وَلاَ نَيْئِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَأصْلِهِ بِعَصِيْرِهِ، وَخَالِصِهِ بِمَشُوبِهِ وَرَطْبِهِ بِيَابِسِهِ....
قوله: «ولا يجوز بيع حب بدقيقه» ولو تساويا وزناً.
مثاله: إنسان عنده صاع من البر باعه بصاع من دقيق البر فإنه لا يجوز لعدم التساوي؛ لأن الحب بالطحن تنتشر أجزاؤه.
فإذا قال: أنا أزيد على الدقيق بمقدار ما يساوي وزن الحب.
قلنا: لا يجوز أيضاً؛ لأن المعتبر في الحب والدقيق هو الكيل، فلا يصح.
وقال بعض العلماء: إنه إذا تساويا في الوزن فلا حرج؛ لأن تساويهما في الوزن يدل على تساويهما في الكيل حباً، واستدلوا لذلك بأمرين:
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/414)
أحدهما: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «البر بالبر مثلاً بمثل» (1) ، والمثلية هنا محققة.
الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاز بيع العرايا بخرصها تمراً (2) ، والعرايا بيع رطب بتمر، والرطب أثقل من التمر وينتفخ أيضاً، والتمر يضمر ويخف لكن يحول الرطب إلى تمر ويباع بخرصه، وهذا إذا وزن فإنه قد حول إلى حب، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن التماثل حاصل، والحاجة داعية إلى إبدال هذا بهذا أو يحول الدقيق إلى حب وذلك بالميزان.
وهذا كما قالوا فيما إذا جُبِّن التمر ـ أي: صار تمراً مرصوصاً يتعذر كيله ـ فإنه يعتبر بالوزن، وإن كان لا ينتقل عن كونه مكيلاً.
ولو باع شعيراً حباً ببر دقيقاً جاز لاختلاف الجنس، ولهذا يجوز أن يبيع صاعاً من البر بصاعين من الشعير.
فإذا قال: أنا أبيع عليك صاعاً من الحب بصاع من الدقيق واعتبر الزيادة في مقابلة الطحن، فهذا لا يجوز لأن الزيادة بالصنعة كالزيادة بالصفة، وقد منع النبي صلّى الله عليه وسلّم التفاضل مع اختلاف الصفة والدليل أنه جيء إليه بتمر جنيب جيد فقال: «أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا يا رسول الله ولكن نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً» (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب تفسير العرايا (2192) ومسلم في البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا (1539) عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ.
(3) سبق تخريجه (409) .(8/415)
هنا زاد القدر لنقص الصفة وقلَّ القدر باعتبار الطيب لجودة الصفة، فجودة الصفة زيادة في وصف خلقه الله، والزيادة من أجل الصنعة زيادة في وصف من فعل الآدمي، فإذا كان لا يجوز فيما فعله الله فلا يجوز فيما فعله الآدمي، وهذا القول هو الراجح وإن كان بعض العلماء يقول: إذا زاد بقدر الصنعة فإنه لا بأس به.
قوله: «ولا سويقه» الفرق بين الدقيق والسويق، أن الدقيق يطحن الحب بدون أن يحمص على النار، والسويق يحمص، أي: يشوى على النار ثم يطحن ثم يُثَرَّى بماء أو عسل أو نحوه فيختلف، فإذا امتنع أن يباع الحب بالدقيق غير المحمص فمنع بيعه بالدقيق المحمص من باب أولى؛ لأن فيه شيئين:
الأول: تفرق الأجزاء بالطحن.
الثاني: اختلافها بالتحميص، فهو أشد من بيع الحب بالدقيق.
قوله: «ولا نيئه بمطبوخه» مثل حنطة بهريسة، والهريسة معروفة، فلا يجوز أن يباع الحب بالهريسة.
والجريش هو عبارة عن الحب يطحن طحناً ليس دقيقاً بحيث يتكسر، ويكون أجزاء، ثم بعد ذلك يطبخ على مرق من لحم أو غيره فيسمى جريشاً، ويسمى هريسة، وأحياناً يجعل معه شيء من الحلوى فيوضع عليه سكر أو نحوه حتى يكون له حلاوة، المهم أن النَّيء بالمطبوخ لا يجوز؛ لتعذر التساوي، فلو بعنا حب شعير بهريسة الحنطة، فهذا يجوز لاختلاف الجنس.
مثال آخر: مبادلة كيلو من اللحم النَّيء بكيلو من اللحم(8/416)
المطبوخ فلا يجوز؛ لأن الطبخ يؤثر في الوزن، إذ يدخل فيه أشياء كالماء، وإذا كان من غير الجنس جاز.
قوله: «وأصله بعصيره» الأصل لا يباع بالعصير، كما لو كان إنسان عنده زيتون وزيت، ـ والزيت من الزيتون ـ فباع زيتوناً رطلاً منه أو أكثر أو أقل برطل من زيت فإنه لا يصح، ومثله أن يبيع تمراً بدبس، ـ والدبس هو الماء الذي يخرج من التمر ـ فإنه لا يجوز، وذلك لتعذر التساوي.
قوله: «وخالصه بمشوبه» الخالص هو الذي لم يخالطه غيره، والمشوب هو الذي خلط معه غيره، فهذا لا يجوز؛ لتعذر التساوي.
مثاله: رجل عنده صاع من البر الخالص، وآخر عنده صاع من البر المخلوط بشعير، فلا يجوز أن يباع هذا بهذا لتعذر التساوي، إلا أنه يستثنى من ذلك الخلط اليسير أو ما كان لإصلاح المخلوط كالملح في الطعام، فالخلط اليسير لا يضر، فإنك لا تكاد تجد براً خالصاً ليس فيه حبة شعير، وكذلك ما يكون لإصلاحه كما لو بعنا خبزاً من البر بخبز من البر أحدهما قد جعل فيه حلوى، ولكن بعناهما متساويين فلا بأس، أو أحدهما فيه ملح فلا بأس، فصار يستثنى الشيء اليسير، والشيء الذي خلط للإصلاح من قوله: «خالصه بمشوبه» .
قوله: «ورطبه بيابسه» رطبه، الضمير يعود على الربوي، أي: ولا يباع رطب الربوي بيابسه، مثل أن يبيع رطباً بتمر، فالتمر يابس والرطبُ رَطْبٌ، فلا يجوز حتى وإن تساويا وزناً؛(8/417)
لأن الرطب أثقل من التمر، والذي أثقله من غير جنسه، فيكون محرماً، ولهذا لما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع التمر بالرطب فقال: «أينقص إذا جف؟» ، قالوا: نعم، فنهى عن ذلك (1) ، لكنه يستثنى من ذلك العرايا.
والعرايا هي أن يكون عند إنسان تمر من العام الماضي وجاء الرطب هذا العام، وأراد أن يتفكه بالرطب، لكنه ليس عنده دراهم، وليس عنده إلا تمر يابس من العام الماضي، فهنا رخص الشرع بجواز شراء الرطب بالتمر، وسميت عرايا لعروها عن الثمن، فيأتي هذا الرجل الفقير الذي عنده تمر من العام الماضي إلى صاحب البستان، ويقول: بعني تمر هذه النخلة الذي هو الآن رطب بالتمر فهذا جائز؛ لدعاء الحاجة إليه، فإن هذا الفقير يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، وليس عنده دراهم فيشتري الرطب على رؤوس النخل بالتمر، لكن بشروط هي:
الشرط الأول: ألاّ يجد ما يشتري به سوى هذا التمر، فإن وجد ما يشتري به سوى هذا التمر، كالدراهم والثياب والحيوان وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز أن يشتري رطباً بتمر.
__________
(1) أخرجه مالك (2/624) ؛ وأحمد (1/175) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في التمر بالتمر (3359) ، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (1225) ؛ والنسائي في البيوع/ باب اشتراء التمر بالرطب (7/268) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب بيع الرطب بالتمر (2264) عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ.
قال الترمذي: «حسن صحيح» ؛ وصححه ابن حبان (4997) ؛ والدارقطني كما في «سننه» (3/49) ، وانظر: «التلخيص» (1142) .(8/418)
الشرط الثاني: أن تكون من خمسة أوسق فأقل، والوسق ستون صاعاً، فتكون خمسة الأوسق ثلاثمائة صاع.
الشرط الثالث: أن يكون مآل هذا الرطب بقدر التمر، أي: أن يأتي الخراص الماهر العارف، ويقول: هذا الرطب إذا جف يكون مساوياً للتمر الذي اشتري به.
فإن قال: إن الرطب إذا جف سيكون أكثر من هذا التمر أو أقل، فإنه لا يجوز، فلا بد أن يكون مساوياً. وهنا اكتفي بالمساواة خرصاً؛ من أجل دفع حاجة الفقير.
الشرط الرابع: أن يكون محتاجاً للرطب، بمعنى أنه يريده للأكل والتفكه لا يريد أن يبقيه إلى أن يتمر؛ لأنه قد يقول: أنا أريد أن أشتري الرطب وأبقيه حتى يكون تمراً؛ ليكون هذا التمر تمر هذا العام، وهو أجَدُّ من تمر العام الماضي، فنقول: لا بد أن تكون محتاجاً إلى الرطب لتأكله، ولهذا قال العلماء: لو أنه اشترى عرية رطباً ثم أتمرت بطل البيع؛ لأن الشرط الذي من أجله جاز هذا فُقِدَ.
الشرط الخامس: أن يكون الرطب على رؤوس النخل، فإن كان في أوانٍ بمعنى أن صاحب البستان خرف النخل، وجعله في أوانٍ وعرضه للبيع، فجاء إنسان فقير، فقال: ليس معي دراهم، لكن عندي تمر فاخرص هذا الإناء من الرطب وأعطيك بمثل خرصه تمراً، فهذا لا يجوز؛ لأنه يفوت التفكه؛ لأن كونه على رؤوس النخل يتفكه به الإنسان شيئاً فشيئاً.
فإن قال قائل: كيف جازت العرايا وهي حرام من أجل(8/419)
الحاجة دون الضرورة، والقاعدة أن المحرم لا يجوز إلا للضرورة؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ؟ فهذا إيراد جيد لا شك فيه.
فالجواب: أن نرده بالقاعدة المعروفة عند العلماء، وهي: (أن ما حرم تحريم الوسائل جاز للحاجة) ؛ لأن المحرمات نوعان:
محرمات تحريم غاية لذاتها، ومحرمات تحريم وسيلة.
وربا الفضل هل تحريمه تحريم غاية أو وسيلة؟
الجواب: يقول العلماء: إن تحريمه تحريم وسيلة، ويستدلون على ذلك بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ: «إنما الربا في النسيئة» (1) ، وهذه الجملة جملة حصر، كأنه قال: لا ربا إلا في النسيئة، فيقال: المراد بهذا الربا الربا الذي هو الغاية، أما ربا الوسيلة فموجود في التفاضل إذا بيع الشيء الربوي بجنسه.
مثال آخر: الحرير حرام على الذكور، ويجوز أن يلبسه الإنسان إذا كان فيه حكة من التهاب في جسده؛ ليخفف هذه الحكة، ومع أن هذا ليس ضرورة، لكن جاز؛ لأن أصل تحريم الحرير على الذكور أنه غير لائق بهم، وأنه وسيلة إلى أن يكون الإنسان الذكر الذي فضله الله بالرجولة بمنزلة الأنثى التي تنشأ في الحلية، ولهذا حرم الذهب والحرير على الذكور.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الدينار بالدينار نساء (2178) ؛ ومسلم في البيوع/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1596) (104) .(8/420)
مثال ثالث: آنية الفضة حرام، فإذا كان عند إنسان إناء من غير الفضة وانكسر، وأراد أن يلم بعضه إلى بعض بسلسلة من فضة جاز، مع أنه سوف يستعمل هذا الإناء، وفيه شيء من الفضة، لكن يقال: يجوز للحاجة مع أنه في الأصل محرم؛ لأنه حرم تحريم الوسائل، إذ إن الذهب والفضة استعمالهما في الأواني يؤدي إلى الفخر والخيلاء والاستكبار والتعاظم، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (1) .
والخلاصة أن قول المؤلف: «ورطبه بيابسه» يستثنى منه العرايا، وهي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، بالشروط السابقة.
فإن قال قائل: حاجة المشتري واضحة، أي: أن المشتري محتاج إلى رطب، لكن لو كان البائع محتاجاً لتمر، وليس عنده مال إلا ما في رؤوس النخل من الرطب فهل يجوز أو لا؟ والفرق بين الصورتين واضح، ففي العرايا التي ورد فيها الحديث يكون المشتري هو المحتاج للرطب، فإذا كان صاحب الرطب هو المحتاج للتمر، فهل يجوز أن ندفع حاجته إذا لم يكن عنده دراهم، ونقول: لا بأس أن تشتري تمراً بالرطب بالشروط التي ذكرناها؟
قال بعض العلماء: لا يجوز؛ لأن هذه الصورة مستثناة، والمستثنى لا يقاس عليه غيره.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأطعمة/ باب الأكل في إناء مفضض (5426) ومسلم في اللباس/ باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة (2067) عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ.(8/421)
وقال بعض أهل العلم: إنه يصح القياس؛ لأن المقصود دفع الحاجة.
والأقرب عندي: صحة ذلك، أنه لو كانت الحاجة لصاحب الرطب فلا بأس؛ إذ إن المقصود دفع حاجة الإنسان، فلا فرق بين كونه هو البائع أو المشتري.
فإن قال قائل: وهل تجوز العرايا في غير النخل؟ كإنسان عنده زبيب وأراد أن يشتري به عنباً يتفكه به، فهل يجوز أو لا؟
فالجواب: في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه يجوز قياساً على التمر، والزبيب طعام كما في حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ في زكاة الفطر قال: «وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط» (1) ، فهو طعام، فإذا احتاج الإنسان إلى عنب، وليس عنده إلا زبيب فلا بأس بالشروط التي ذكرنا في العرية، وهذا ـ أيضاً ـ أقرب إلى الصواب من المنع واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ؛ لأن العلة التي من أجلها رخص في عرايا النخل موجودة في عرايا العنب، وهكذا ما كان مثله مما يحتاج الناس للتفكه به وليس عندهم مال.
والدليل على منع بيع الرطب بالتمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل «عن بيع الرطب بالتمر، فقال: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك» (2) ، فأراد صلّى الله عليه وسلّم أن يكون السائل مقتنعاً تماماً، فقال: «أينقص
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة قبل العيد (1510) .
(2) سبق تخريجه ص (418) .(8/422)
إذا جف؟» قالوا: «نعم، فنهى عن ذلك» أي عن بيع الرطب بالتمر.
أما التعليل؛ فلأن بيع الرطب بالتمر يفقد شرطاً من الشروط وهو التساوي.
وَيَجُوْزُ بَيْعُ دَقِيقِهِ بِدَقِيقِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النُّعُومَةِ، ومَطْبُوخِهِ بِمَطْبُوخِهِ، وَخُبْزِهِ بِخُبزِهِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي النّشَافِ وَعَصِيرِهِ بِعَصِيرِهِ، وَرَطْبِهِ بِرَطْبِهِ، وَلاَ يُبَاعُ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ وَمَعَهُ أوْ مَعَهُمَا مِن غَيْرِ جِنْسِهِمَا.
قوله: «ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة» مثل أن يكون الطاحون الذي طحن الحب طاحوناً واحداً، ووزنه وزن واحد، فأبيع عليك دقيقاً من الحنطة بدقيق من اللقيمي، ـ وهو نوع من حب البر ليس بجنس ـ، فيجوز بشرط أن يستويا في النعومة، وإن اختلفا في النعومة بأن كان أحدهما ناعماً جداً والثاني دون ذلك فهذا لا يجوز؛ لأنه كلما كان أنعم كان انتشار الحب أكثر، فلا يمكن التساوي لكن كما قلنا أولاً لو وزناهما فكانا سواءً فلا بأس.
قوله: «ومطبوخه بمطبوخه» كسمن بقر بسمن بقر طبخاً، فيجوز بيع هذا بهذا؛ لأنه لا اختلاف بينهما.
قوله: «وخبزه بخبزه إذا استويا في النشاف» أي: وكذلك يجوز بيع خبزه بخبزه إذا استويا في النشاف، لكن الخبز بالخبز كيف نكيله؟
الجواب: يقولون: إن اعتبار المساواة في الخبز بالوزن لتعذر الكيل، ولكن هل إذا قلنا: إنه يعتبر بالوزن يخرج عن كونه مكيلاً؟
الجواب: لا يخرج؛ لأننا إنما عدلنا عن المعيار الأصلي،(8/423)
وهو الكيل إلى الوزن للضرورة، لكن ليس معنى ذلك أن هذا الخبز ينتقل إلى كونه موزوناً، ولو قلنا: ينتقل إلى كونه من الموزونات لجاز أن يباع الخبز بحبه مع التفاضل، ولجاز بيعه ـ أيضاً ـ بحبه مع التفرق؛ لأن بيع المكيل بالموزون لا يشترط فيه التساوي ولا يشترط فيه التقابض، ولهذا يغلط بعض الناس إذا رأى الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إنه يعتبر بالوزن في هذا، أو التمر إذا جبن يظنون أنه ينتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، ولكن هذا غلط؛ بل هو باقٍ على كونه مكيلاً، لكن يعتبر بالوزن للضرورة لعدم إمكان كيله.
وإذا قلنا: إن الخبز يعتبر فيه التساوي بالوزن، وقلنا: إنه انتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، أي: جنساً موزوناً، لزم من ذلك أنه يجوز أن نبيع مائة خبزة بعشرة أصواع من البر ولو لم نعلم التساوي؛ لأن بيع المكيل بالموزون يشترط فيه التماثل، وكذلك يجوز أن أبيع هذا الخبز بالبر وإن لم يحصل القبض، وهذا غلط، بل نقول: لا بد من التقابض في مجلس العقد، ولا يجوز بيع الخبز بالحب لعدم إمكان التساوي. والتمر المعجون بخلاف التمر المفرد كل تمرة وحدها، فهذا الأخير يمكن كيله؛ لأنه حب متناثر، أما المعجون فلا يمكن كيله، فهل نقول: في هذه الحال لما كان لا يمكن كيله انتقل من كونه مكيلاً إلى كونه موزوناً، وبناءً على ذلك يجوز أن أبيع تمراً مكنوزاً بتمر غير مكنوز وإن اختلفا، ويجوز ـ أيضاً ـ أن أبيعه به وإن حصل التفرق قبل القبض؟
الجواب: لا نقول بهذا؛ لأن معنى قولهم: «إنه ينتقل(8/424)
للوزن» ، إنما يقصدون به تقديره بالوزن فقط، لا أنه ينتقل إلى كونه موزوناً، فهذه مسألة يجب التنبه لها لئلا يحصل الخطأ.
قوله: «وعصيره بعصيره» أي: عصير الربوي بعصيره، كعصير عنب بعصير عنب؛ لأنهما متساويان، ولكن بأي معيار يكون هذا التساوي؟
الجواب: يكون بالكيل؛ لأن العصير مائع وكل مائع فهو مكيل.
قوله: «ورطبه برطبه» كرُطَبٍ برُطَبٍ بشرط أن يتساويا في الرطوبة، فإن اختلفا في الرطوبة فإنه لا يجوز؛ لأن الجاف ناقص عن الرطْب.
قوله: «ولا يباع ربوي بجنسه ومعه أو معهما من غير جنسهما» هذه المسألة يعبر عنها الفقهاء «بمد عجوة ودرهم» .
مثال ذلك: باع تمراً بتمر، ومع كل واحد منهما دراهم، يعني باع صاعاً من تمر ودرهماً بصاع من تمر ودرهم، فلا يجوز، هذا معنى قوله: «أو معهما من غير جنسهما» ، فهنا مع المبيعين من غير جنسهما.
وقال بعض أهل العلم: إذا كان معهما من غير الجنس جاز ولا حرج؛ لأننا نجعل الجنس مقابلاً لغير جنسه ونسلم من الربا، مثل ما لو بعت عليك مداً ودرهماً بمد ودرهم، هذا ليس فيه محظور؛ لأنك إن جعلت المد مقابل المد فقد تساويا، وإن جعلت المد مقابل الدرهم فليس بينهما ربا.(8/425)
وقوله: «ومعه» مثل أن يبيع صاعاً من التمر ودرهماً بصاع من التمر فلا يجوز أيضاً؛ لأن مع أحدهما من غير الجنس، وهذا مبني على أن الصفقة إذا جمعت بين شيئين وزع الثمن على الشيئين على وجه الشيوع، وحينئذٍ نجهل التساوي بين الربويين.
مثال ثانٍ: باع صاعين من التمر بصاعٍ ودرهم من التمر، فلا يجوز؛ لعدم التماثل بين التمر.
مثال ثالث: باع درهمين بدرهم وتمر فلا يجوز؛ لأن مع أحدهما من غير جنسه.
والدليل هو: حديث فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ أنه اشترى قلادة فيها خرز وذهب باثني عشر ديناراً، ثم فصل الذهب من الخرز فوجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تباع حتى تفصل (1) ، أي: حتى يفصل بعضها من بعض، ويعرف قدر الذهب من الخرز، ووجه النهي أنه تبين الآن أنه اشترى ذهباً بذهب أقلَّ منه؛ لأنه لما فَصَلَ هذه القلادة وجد فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فلما كان الاحتمال وارداً في مثل هذا فإنه يمنع منه سداً للباب، حتى لا يتجرأ أحد على أن يبيع شيئاً ربوياً بجنسه ويضيف إلى أحدهما شيئاً يسيراً، مثل أن يقول: أنا أبيع مثلاً كيلو من الذهب بكيلو إلا يسيراً وأجعل مع الثاني (الذي نقص) أجعل معه منديلاً مثلاً، وهذه حيلة لا شك، فَسُدَّ الباب.
__________
(1) سبق تخريجه (ص397) .(8/426)
وهذه هي قاعدة المذهب «أنه لا يباع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير الجنس» على أي حال من الأحوال، حتى لو قال قائل: إذا باع صاعاً من تمر ودرهماً بدرهمين، والصاع يساوي درهماً أفلا نجعل الصاع في مقابلة درهم، والدرهم في مقابلة الدرهم، وليس فيه ربا؟ ولهذا إذا قال: بعتك هذا الصاع بدرهم، وصارفتك هذا الدرهم بدرهم، لو قال هكذا جاز، فأي فرق بين أن أقول: بعتك صاعاً ودرهماً بدرهمين ما دام أن الصاع لا يساوي أكثر من درهم، ولا أقل؟
قال العلماء رحمهم الله: هذا سداً للذريعة؛ لأن باب الربا أمره عظيم فيجب أن يسد كل طريق يمكن أن يوصل إليه، ولهذا حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم بيع العينة مع أنه قد يكون الربا فيها بعيداً (1) .
وبيع العينة هو أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل، ثم يشتريه نقداً بأقل مما باعه به، فصورة المسألة ليس فيها شيء، لكن لئلا يكون وسيلة إلى التحيل على الربا بأن يعطيه ثمانين درهماً، وتكون مائة درهم في ذمته، فمن أجل هذا نسد كل باب يوصل إلى الربا.
ولكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ نازع في هذا، وقال: إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، وكانت هذه الزيادة تقابل الشيء الآخر، فإن ذلك جائز، ولا بأس به، والحاجة قد تدعو إليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (211) .(8/427)
مثاله: باع صاعين من التمر بصاع ودرهم، والصاع الزائد في الطرف الذي ليس فيه إلا التمر يساوي درهماً، قال: هذا لا بأس به؛ لأننا نجعل الصاع الزائد في مقابل الدرهم، والصاع الثاني الذي مع الدرهم، في مقابلة الصاع الآخر، وليس في هذا حيلة إطلاقاً، والحاجة قد تدعو إلى ذلك، فقد يكون هذا الإنسان عنده تمر من السكري صاعان، وهذا عنده تمر من نوع آخر، لكن ليس عنده صاعان، عنده صاع واحد وعنده دراهم، فقال: أنا أعطيك هذا الصاع ودرهماً، والصاع يساوي الصاع الآخر لا يزيد ولا ينقص.
وما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أصح، فإذا تيقنا أنه لا ربا، وأن القيمة واحدة فإنه لا بأس به ولا حرج، والشارع الحكيم لا يحرم شيئاً يتبين أنه لا ربا فيه إطلاقاً، مع أن الحاجة قد تدعو إليه.
مثال آخر: إذا اشترى كيساً من البر بنصف كيس من البر ومع الثاني سيارة مثلاً، فلا يجوز؛ لأن البر لا يقابل السيارة، فلا يصح حتى على رأي شيخ الإسلام لا يصح، بل لا بد أن يكون المفرد يساوي أكثر من الصاع الذي معه غيره بحيث يقابل الزائد ما مع الآخر ولا يزيد عليه.
فإن قال أنا: أريد أن أبيع صاعاً ودرهماً بصاع ودرهم، فهذا لا يجوز على المذهب، وعلى رأي الشيخ يجوز إذا كانت القيمة واحدة، أو قال: صاع ودرهم لكن هذا الدرهم مقابل(8/428)
الصاع وهذا الدرهم الثاني مقابل الصاع فهذا واضح؛ لأن هذه الصفقة وإن كانت واحدة، لكن كأنها صفقتان.
مسألة: إذا كان الذهب مصوغاً وأراد أن يعطيه ذهباً غير مصوغ، فهل يشترط التساوي؟
الجواب: جمهور العلماء على أنه يشترط التساوي وأن الصنعة لا تؤثر شيئاً، وقال بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: يجوز أن يعطيه بمقدار الصنعة، مثلاً إذا كان هذا الذهب وزنه واحداً، ولكن أعطاه زيادة لأنه مصنوع، فعند شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ جائز وتجعل هذه الزيادة في مقابل الصنعة، لكن الجمهور على المنع واستدلوا بحديث التمر ـ بيع الطيب بالرديء ـ لكن يجاب عن هذا الاستدلال بأن التمر الطيب والرديء ليس من صنعة الإنسان، وهذا من صنعة الإنسان، والإنسان يريد أن يأخذ لنفسه أجراً، إلا أن سد الباب أولى؛ لأن تقدير قيمة الصنعة قد يحصل فيه اختلاف، وقد يطمع صاحب الذهب المصوغ ويحمل الثاني أكثر من قيمة الصنعة.
مثال ذلك: لو كان ذهب مكسر فجاء صاحبه إلى الصائغ وقال: أبدل هذا الذهب بحلي آخر وأعطيك مقابل الصنعة، ربما يكون صاحب الدكان يزيد أكثر من قيمة الصنعة نظراً لرغبة هذا، فسد الباب أولى وأصح.
وَلاَ تَمْرٌ بِلا نَوَى بِمَا فِيْهِ نَوَى، وَيُبَاعُ النّوى بِتَمْرٍ فِيهِ نَوَى، وَلَبَنٌ وصُوفٌ بِشَاةٍ ذَاتِ لَبَنٍ وَصُوفٍ.
قوله: «ولا تمر بلا نوى بما فيه نوى» هناك تمر يعجن، وينزع نواه ويسمى عندنا (العبيط) ، فإذا جاء إنسان وقال: أريد أن أبيع عليك تمراً فيه نوى بتمر لا نوى فيه، أي: بعبيط، فلا يجوز(8/429)
حتى لو تساويا كيلاً أو وزناً فإنه لا يصح؛ وذلك لأن النوى زائد على التمر، فإذا وزناهما جميعاً فإن النوى سوف يكون لا مقابل له فلا يصح.
فإن قال قائل: إذا كان هذا الذي اشترى التمر لا يهمه النوى ولا يخطر على باله، لكنه رجل نزل به ضيف، وقال: إن قدمت له العبيط فإنه لا يليق، ولا يعد هذا إكراماً ـ حسب العادة ـ وأنا أريد أن أشتري تمراً فذهب إلى صاحب التمر واشترى منه تمراً بالعبيط، فنقول: هذا ـ أيضاً ـ لا يجوز؛ لأن النوى حجمه كبير يسع مساحة بالنسبة للكيل وبالنسبة للوزن أيضاً، فلا يمكن التساوي، ولو اشترى تمراً بلا نوى بتمر بلا نوى مع التساوي فهو جائز، وأيضاً تمر بنوى بتمر بنوى مع التساوي جائز كما جاء في الحديث.
وإذا قدر أن بعض النوى أكبر من بعض، فهذا شيء مغتفر، وإلا فمن المعلوم أنه أحياناً يكون نوى بعض التمر كبيراً، لكن الشرع لم يلتفت لهذا؛ لأنه أمر يشق اعتباره، وليس مقصوداً في الغالب.
قوله: «ويباع النوى بتمر فيه نوى» هذا غريب، النوى يباع بتمر فيه نوى، والتمر لا يباع بتمر ليس فيه نوى.
ووجه ذلك أن هذا غير مقصود؛ لأن الذي باع النوى بتمر فيه نوى يقصد التمر لا يقصد النوى؛ لأنه لو كان قصده النوى، لعرف أن النوى سوف ينقص عما اشتراه به، فتبين بهذا أن القصد له أثر في الحل والتحريم.(8/430)
قوله: «ولبن وصوف بشاة ذات لبن وصوف» اللبن والصوف على المشهور من المذهب يجري فيهما ربا؛ لأن اللبن مكيل، والصوف موزون، وكان اللبن مكيلاً؛ لأنه مائع، والصوف كان موزوناً؛ لأنه لا يمكن كيله، فإذا باع لبناً وصوفاً بشاة ذات لبن وصوف فإن ذلك جائز، ولا يقال: إن هذا من مسألة «مد عجوة ودرهم» ؛ لأنه باع ربوياً بربوي، ومع أحدهما من غير الجنس، فلا يقول أحد هذا القول، فلبن وصوف بشاة فيها لبن وصوف أيهما الزائد على الآخر؟
الجواب: الشاة، أي: زاد اللحم والشحم والعظم وغير ذلك، فلا يقول قائل: إن هذا من باب مسألة مد عجوة ودرهم فلا يصح؛ لأن اللبن والصوف غير مقصود فيما إذا اشترى إنسان شاة ذات لبن وصوف بلبن وصوف، والدليل أنه غير مقصود أنه سوف يُقَوِّم الشاة نفسها باللبن والصوف الذي معه، ولا يعير اهتماماً لصوفها الذي على ظهرها، ولا للبنها الذي في ضرعها، فلما لم يكن مقصوداً لم يكن من باب مسألة «مد عجوة ودرهم» وبهذا نعرف أنه إذا كان مع الربوي شيء من الجنس لكن غير مقصود، فإنه لا يؤثر مثل الأبازير وما أشبه ذلك مما يصلح به الطعام فإنه لا يضر، والمسألة السابقة بناء على أن اللبن ربوي، والصوف ربوي.
والصحيح أن الصوف ليس ربوياً، وأما اللبن فإن كان أهل هذا البلد قد اعتادوا أن يكون قوتهم اللبن فإننا نلحقه بالبر والتمر والشعير، وأما الذين لا يرونه قوتاً كما عندنا في نجد فليس(8/431)
ربوياً؛ لأنه لم يُنص عليه ولا هو في معنى المنصوص، بل هو من جنس الشراب الذي يشرب من غير اللبن.
وَمَردُّ الكَيْلِ لعُرفِ المَدِينَةِ، والوَزْنِ لعُرْفِ مَكَّةَ زَمَنَ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وَمَا لاَ عُرْفَ لَهُ هُنَاك اعتُبِرَ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
قوله: «ومرد الكيل لعرف المدينة، والوزن لعرف مكة زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم» أي: مرد كون الشيء مكيلاً أو كون الشيء موزوناً إلى عرف مكة والمدينة، فالكيل نرجع فيه إلى عرف المدينة، فلو كان هذا الشيء مكيلاً في المدينة، وموزوناً في مكة فإننا نعتبر المكيل بالمدينة، ولو كان هذا الشيء موزوناً في مكة مكيلاً في المدينة رجعنا إلى مكة، فعليه يختلف الحكم فيما إذا كان الإنسان في مكة، أو إذا كان في المدينة، فإذا كان في المدينة فالمكيال مكيال المدينة، وإذا كان في مكة فالميزان ميزان مكة، فإن اتفق البلدان على كون الشيء مكيلاً أو موزوناً صار هذا الشيء مكيلاً أو موزوناً، سواء كان في مكة أو في المدينة والمعتبر عرف مكة على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا قد يجهله كثير من الناس فلا يعلمه.
وقد ذكر أهل العلم ـ رحمهم الله ـ ضوابط للمكيل والموزون فيها ما سبق من أن كل مائع مكيل.
ومنها أن ما تعذر كيله يعتبر بالوزن كالخبز والتمر المكنوز المجبن وما أشبه ذلك، فإنه يعتبر بالوزن لكن لا يخرج عن كونه مكيلاً.
وهناك أشياء لا يعرف لها كيل ولا وزن في مكة والمدينة فإلى أي شيء نرجع؟ قال المؤلف:(8/432)
«وما لا عرف له هناك اعتبر عرفه في موضعه» نرجع إلى العرف في موضعه، فإن كان الناس يتبايعونه بالوزن فهو موزون، أو بالكيل فهو مكيل، أو بالعدد فهو معدود؛ لأنه ليس هناك ضابط نرجع إليه بالنسبة لمكة والمدينة.
وقال بعض العلماء: نرده إلى أقرب الأشياء شبهاً به في مكة والمدينة، فإذا كان أقرب الأشياء إليه الكيل في المدينة فهو مكيل، أو الوزن في مكة فهو موزون، وهذا القول أقرب إلى النظر؛ لأن ما لا يمكن فيه اليقين يرجع فيه إلى غلبة الظن، وقد يقال: بل إنه إذا لم يكن له عرف في مكة والمدينة فإننا نطرح الشَّبَهَ ونقول: يرجع إلى ما تعارفه الناس، وهذا القول الثاني من جهة السهولة على المسلمين والتيسير أقرب إلى الصواب؛ لئلا يحصل النزاع فيقول: هذا يشبه المكيل في المدينة، وهذا يشبه الموزون في مكة، فيقال: ما دام ليس له عرف في مكة والمدينة، وإنما طرأ حديثاً فإننا نعتبر عرفه في موضعه، هذا هو الذي مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وذلك لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة» (1) .
وقال بعض العلماء: ما نص الشرع على أنه مكيل فهو
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المكيال مكيال أهل المدينة» (3340) ؛ والنسائي في البيوع/ باب الرجحان في الوزن (7/284) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وصححه ابن حبان (3283) «إحسان» ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وصححه الدارقطني والنووي وابن دقيق العيد والعلائي، قاله المناوي في «فيض القدير» (6/374) ؛ وصححه الألباني في «الإرواء» (5/191) .(8/433)
مكيل، وما لم ينص عليه الشرع فالمرجع فيه إلى العرف؛ لأنه يضعِّف هذا الحديث: «المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة» ويقول: ما نص الشرع عليه، مثل التمر مكيل، والبر مكيل، والشعير مكيل، والزبيب مكيل، والملح مكيل، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدر زكاة الفطر بالكيل، فقال: «صاع من تمر وصاع من شعير» (1) ، وكذلك قال أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «كنا نخرجها صاعاً من طعام وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط» (2) ، فما نص الشرع على أنه مكيل فهو مكيل، وليس لنا أن نتعدى، أما ما لم ينص عليه فإنه يعتبر عرفه في موضعه إن كانوا يبيعونه بالوزن فهو موزون، وإن كانوا يبيعونه بالكيل، فهو مكيل وإن كانوا يبيعونه بالعد فهو معدود.
ولنطبق هذا القول على حالنا اليوم، فالآن الناس يتبايعون الرز والبر بالوزن، هل نعتبر الوزن فيه؟ أو نقول: هذا منصوص على أنه مكيل؟
الجواب: الثاني، فإذا أردنا أن نبيع براً ببر لا نعتبر الوزن، بل نعتبر الكيل؛ لأن هذا مكيل بالنص فلا نتعدى النص.
ولو فرضنا أن هناك ذرة يتبايعها الناس بالوزن فهل نقول: هي موزونة بناء على العرف؟ أو هي مكيلة لأنها كالبر؟
الجواب: نرجع إلى العرف؛ لأنه ليس هناك نص على أن الذرة من المكيل، وهذا القول يريح الإنسان أكثر؛ لأننا إذا قلنا:
__________
(1) سبق تخريجه ص (396) .
(2) سبق تخريجه ص (422) .(8/434)
إن المرد مرد المدينة أو مكة قد يحصل اشتباه عند كثير من الناس.
وقال بعض أهل العلم: المرجع إلى العرف مطلقاً، فما كان مكيلاً عند الناس فهو مكيل، وما كان موزوناً فهو موزون، فصارت الأقوال ثلاثة:
القول الأول: أن المرجع إلى ما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن الوزن لمكة والكيل للمدينة.
القول الثاني: الأصناف الستة تبقى على ما كانت عليه البر والتمر والشعير والملح مكيلة، والذهب والفضة موزونان، وما عدا ذلك فيرجع فيه إلى العرف، إن كانوا يتبايعون بالكيل فهو مكيل وإن كانوا يتبايعون بالوزن فهو موزون.
القول الثالث: أن المرجع في ذلك إلى العرف مطلقاً؛ لأنه هو الذي يكون به التساوي أو النقص أو الزيادة.(8/435)
فَصْلٌ
وَيَحْرُمُ رِبَا النَّسِيئَةِ فِي بَيْعِ كُلِّ جِنْسَيْنِ اتَّفَقَا فِي عِلَّةِ رِبَا الفَضْلِ لَيْسَ أحَدُهُمَا نَقْداً.
قوله: «فصل» أي: في ربا النسيئة، فالذي سبق البحث فيه ربا الفضل.
وربا النسيئة وهو تأخير التقابض في بيع الربويين وهو الأصل، ومن أجله حَرُمَ ربا الفضل، كما جاء في حديث أسامة بن زيد: «إنما الربا في النسيئة» (1) ، وقد اختار ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هذا في أول الأمر، وقال: إن ربا الفضل جائز، وأنك إذا بعت صاعين من البر بصاع يداً بيد فهو جائز، لكن لما ناظره أبو سعيد الخدري (2) وغيره من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رجع عن قوله.
ويُشكل على طالب الدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الربا في النسيئة» ، لأن (إنما) من أدوات الحصر، وتكون النتيجة لا ربا إلا في النسيئة.
وأجاب العلماء عن ذلك أن هذا الحصر منقوض بالأحاديث الصحيحة الدالة على ثبوت ربا الفضل، والذي قال: «إنما الربا في النسيئة» ، هو الذي قال: «مثلاً بمثل سواءً بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربا» (3) .
فإذا قال قائل: إذا كان كذلك، فلماذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الربا في النسيئة» ؟
__________
(1) سبق تخريجه ص (420) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع الدينار بالدينار نساء (2178) ، (2179) ومسلم في البيوع/ باب بيع الطعام مثلاً بمثل (1956) .
(3) أخرجه مسلم في البيوع/ باب الصرف وبيع الورق نقداً (1584) (82) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(8/436)
قلنا: لينبه على أن ربا النسيئة أعظم من ربا الفضل؛ لأن هذا هو المعروف في الجاهلية، حيث إن الإنسان إذا استدان من شخص آخر ثم حل الأجل ولم يوف قال: نؤخر ونزيد، فكأنه قال: إنما الربا الأعظم والأكثر إثماً هو ربا النسيئة، ومن هنا نعلم أنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض بين كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول والآخر إذا صح عنه، بل لا بد أن يكون العمل بكل منهما ما لم يوجد نسخ.
فإذا قال قائل: إذاً ما الفائدة من حصره في هذا؟
قلنا: لأنه أعظم نوعي الربا، فلهذا قال: «إنما الربا في النسيئة» .
فما الأشياء التي يحرم فيها ربا النسيئة؟
قوله: «ويحرم ربا النسيئة» النسيئة معناها المؤخر، كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] ، يعني التأخير، ولكن ليس المراد بالآية ربا النسيئة، بل المراد ما بينه الله في آخر الآية: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} ، وذلك أن الأشهر الحرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، لا يجوز فيها القتال، فكان العرب يتلاعبون فيها، أحياناً يؤجلون المحرم إلى صفر، فيحلون شهر محرم ويحرمون صفراً، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، لا عين ما حرم الله؛ لأن العدة أربعة، فيوافقون العدة ولكن يخالفون التعيين، ولهذا قال: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} ، فالنسيء المذكور في الآية غير النسيء الذي نتكلم عنه هنا، النسيء الذي نتكلم عليه هنا هو تأخير(8/437)
القبض في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل عن مجلس العقد؛ وذلك أن البيع إما أن يقع في جنس واحد ربوي أو في جنسين ربويين اتفقا في علة ربا الفضل، أو في جنسين ربويين لم يتفقا في العلة أو في شيئين ليسا ربويين، فالأقسام أربعة:
الأول: إذا كان البيع في جنس واحد ربوي، حرم فيه التفاضل والنساء.
الثاني: إذا كان في جنسين ربويين اتفقا في علة ربا الفضل، حرم بينهما النساء فقط دون الفضل.
الثالث: إذا كان بين جنسين ربويين لم يتفقا في العلة، جاز الفضل والنساء.
الرابع: إذا كان بين شيئين ليسا ربويين، جاز كل شيء، الفضل والنسيئة.
قوله: «في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل» «كل جنسين» احترازاً من الجنس الواحد، فالجنس الواحد فيه ربا نسيئة وربا فضل، وكلام المؤلف الآن يبين ربا النسيئة، ولهذا نقول قاعدة: «أن كل شيئين يجري بينهما ربا الفضل فبينهما ربا نسيئة ولا عكس» ، ولهذا قال: «في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل» ، فما هي علة ربا الفضل؟
الجواب: سبق لنا في أول باب الربا أن العلماء اختلفوا فيها، والمذهب عندنا، وهو المشهور الذي مشى عليه المتأخرون من أصحاب الإمام أحمد أن العلة هي الكيل والوزن، سواء كان هذا المكيل مما يؤكل أو لا، أو مما يقتات أو لا، وكذلك(8/438)
الموزون، فكل شيئين بينهما اتفاق في الكيل فإنه يجري بينهما ربا النسيئة، وهما قطعاً ربويان؛ لأن العلة هي الكيل.
فقوله: «اتفقا في علة ربا الفضل» إذا بعنا مكيلاً بمكيل من غير جنسه وجب التقابض قبل التفرق، سواء كان مطعوماً أو غير مطعوم، ولو بعنا صاعاً من البر بصاع من الإشنان ـ والإشنان عبارة عن دقيق يشبه الصابون الذي في العلب تغسل به الثياب، وهو من شجر ييبس ويدق، والإشنان مكيل ـ فإذا باع صاعاً من الشعير بصاع من الإشنان وجب التقابض قبل التفرق، ولا يجب التساوي؛ لاختلاف الجنس؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) . قوله: «كيف شئتم» أي: بزيادة أو نقص ولكن «يداً بيد» ، وإذا باع صاعاً من البر بصاع من الجص فلا بد من التقابض؛ لأن الجص يباع كيلاً، فقد كانوا بالأول يبيعونه بالكيل، فتأتي إليه، وتقول له: أعطني صاعاً من الجص فيعطيك.
قوله: «ليس أحدهما نقداً» فإن كان أحدهما نقداً فإنه لا يحرم النساء، كما لا يحرم التفاضل.
مثال ذلك: باع حديداً بدنانير، فعلة ربا الفضل موجودة فيهما، فكلاهما موزون، فمقتضى القاعدة أنه يحرم النساء، ولكن المؤلف ـ رحمه الله ـ استثنى فقال: «ليس أحدهما نقداً» ، ودليل هذا الاستثناء حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/439)
فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» (1) ، وجه الدلالة من الحديث أن السلم لا بد فيه من تقديم الثمن وتأخير المثمن وهذا نسيئة وقد أقره النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعلوم أن الإسلاف يكون في الدراهم وهي موزونة، أو في الدنانير وهي موزونة، ولهذا قال: «أو وزن معلوم» فدل هذا على أنه إذا كان أحدهما نقداً فإنه يصح النساء؛ لئلا ينسد باب السلم في الموزونات؛ لأننا لو لم نقل بهذا الاستثناء لم يصح السلم في الموزونات إذا كان الثمن دراهم أو دنانير.
ومعلوم أنه إذا كان أحدهما نقداً واشتري به مكيل أنه يجوز فيه النساء؛ لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل، لكن المشكل الذي يرد عليه هذا الاستثناء هو إذا أسلف في شيء موزون، فلولا هذا الاستثناء لقلنا: لا يجوز الإسلاف في الموزون إلا إذا أسلف غير الذهب والفضة.
والتعليل: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لو لم يجوِّز النَّساء في بيع النقد في الموزون لانسد باب السلم في الموزونات غالباً، ومعنى قولنا: غالباً أنه ربما نقول: إن السلم في الموزونات لا ينسد ونجعل الثمن مكيلاً، فيقول مثلاً: أسلمت إليك مائة صاع من البر بطن من الحديد، فهنا يجوز النساء؛ لأن العلة مختلفة، فهما لم يتفقا في علة ربا الفضل، ولهذا نقول: لانسد باب السلم في الموزونات غالباً، ولا نقول: دائماً، لأنه يمكن السلم في غير الموزون، كالمكيل، والحيوان.
__________
(1) سبق تخريجه ص (149) .(8/440)
وقوله: «ليس أحدهما نقداً» ، لم يقل: ليس أحدهما ذهباً ولا فضة؛ لأنه لو كان أحدهما ذهباً أو فضة فلا بد من التقابض في مجلس العقد، فلو بعتك درهماً بدينار فلا بد من التقابض في مجلس العقد كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلو بعت عليك حلياً من الذهب بشيء من النحاس فلا بد فيه من التقابض؛ لأن المؤلف يقول: ليس أحدهما نقداً ولم يقل: ذهباً أو فضة.
كَالْمَكِيلَيْنِ وَالمَوزُونَيْنِ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ القَبْضِ بَطَلَ.
قوله: «كالمكيلين» أي: إذا بيع بعضهما ببعض.
قوله: «والموزونين» أي: إذا بيع بعضهما ببعض، فإنه يحرم فيهما النساء.
ودليل هذا: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) ، فأوجب القبض، وإيجاب القبض يعني تحريم النساء.
الأمثلة:
باع شعيراً ببر لا يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الكيل.
باع براً بحديد يجوز النساء؛ لأنهما اختلفا في علة ربا الفضل.
باع طناً من الرصاص بطن من النحاس لا يجوز؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل، وهي الوزن.
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/441)
باع صاعاً من التمر بصاع من البر، لا يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الكيل.
اشترى صاعاً من البر بدرهم، يجوز النساء؛ لأنهما لم يتفقا في علة ربا الفضل.
اشترى طناً من الرصاص بمائة درهم، يجوز النساء؛ لأنهما اتفقا في علة ربا الفضل وهي الوزن، لكن استثني إذا كان أحدهما نقداً.
واستثناء النقد يدل على أن الموزونات ليس فيها ربا كما رجحناه من قبل وقلنا: إن الصحيح في الذهب والفضة العين والنقدية، فنفس الذهب والفضة يجري فيهما الربا مهما كانا بدليل حديث القلادة (1) ، وأيضاً هما نقد للناس وأثمان وقيم للأشياء ليس لأنهما موزونان، والسلم يدل على هذا القول؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أو وزن معلوم» ، ومعلوم أن الموزون سيشرى بدراهم، فدل هذا على أن الموزونات ليس فيها ربا وهو القول الصحيح، إلا ما كان قوتاً فهو يرجع للعلة الأخرى.
قوله: «وإن تفرقا قبل القبض بطل» إذاً القبض شرط لاستمرار صحة العقد، أي أن العقد تم وصح، لكن يشترط لاستمرار صحته القبض، ولهذا قال: «وإن تفرقا قبل القبض بطل» والدليل الحديث الذي ذكرنا.
مثلاً: باع عليه براً بشعير في الدكان، لكن الشعير في
__________
(1) سبق تخريجه ص (397) .(8/442)
المخزن وقال: ائتني بعد ساعة في المخزن لأعطيك الشعير، فهذا لا يجوز؛ لأنهما تفرقا قبل القبض، فإن قال: أعطني يدك ومشيا إلى المستودع وسلمه فهذا جائز؛ لأنهما لم يتفرقا.
وَإِنْ بَاعَ مَكِيلاً بِمَوْزُونٍ جَاز التّفَرُّقُ قَبْلَ القَبضِ والنَّسَاءُ، وَمَا لاَ كَيْلَ فِيْهِ وَلاَ وَزْنَ؛ كَالثِّيَاب والحَيوانِ يَجُوْزُ فِيْهِ النَّسَاءُ.
وَلاَ يَجُوز بَيْعُ الدّينِ بِالدَّيْنِ.
قوله: «وإن باع مكيلاً بموزون جاز التفرق قبل القبض والنَّساء» مثاله: باع مائة صاع من البر بمائة كيلو من النحاس فهذا يجوز؛ لأنهما لم يتفقا في علة ربا الفضل وفي الجنس أيضاً، فيجوز التفرق ويجوز النساء.
قوله: «وما لا كيل فيه ولا وزن كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء» لأنه ليس بربوي، إذ إن الربوي إما مكيل وإما موزون، فما لا كيل فيه ولا وزن فإنه يجوز فيه النساء، ولم يقل: ربا الفضل؛ لأنه إذا جاز النساء جاز الفضل ولا عكس، فقد يجوز الفضل ولا يجوز النساء كالبر بالشعير ـ مثلاً ـ يجوز فيه الفضل، ولا يجوز فيه النساء.
مثال ما سبق: لو بعت عليك ثوباً بثوبين، الثوب حاضر الثوبان بعد ستة أشهر جاز؛ لأن الثياب لا يقع فيها الربا؛ لأنها ليست مكيلاً ولا موزوناً.
مثال آخر: إنسان احتاج إلى بعير وليس عنده دراهم، فجاء إلى شخص وقال: أعطني بعيراً الآن وأعطيك بعيرين بعد سنة جاز؛ لأنه ليس بربوي؛ لأنه ليس فيه كيل ولا وزن؛ ويدل له أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن(8/443)
ينفذ جيشاً فكان يأخذ على قلائص (1) الصدقة البعير بالبعيرين، والبعيرين بالثلاثة (2) ، وهو منطبق على القواعد حيث إنه جارٍ على التعليل الذي ذكرنا.
قوله: «ولا يجوز بيع الدَّين بالدَّين» هذا ليس على إطلاقه ولكن له صور:
الأولى: بيع الدين على الغير، فلا يجوز أن يباع بالدين، بل ولا بالعين على المذهب مطلقاً.
مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة صاع بر، فجعل هذا الرجل يطلبه يقول: أعطني يا فلان، وهو يماطل به، فقيل للرجل الذي له الحق: نعطيك عنها مائة درهم، ونحن نأخذها من المطلوب فلا يجوز، حتى وإن كان بعين فإنه لا يجوز، فلو قيل لهذا الرجل الذي له مائة الصاع في ذمة فلان: سوف نعطيك عنها مائة ريال تأخذها نقداً، فإنه لا يجوز؛ لأنه يشبه أن يكون غير مقدور على تسليمه، وإذا كان كذلك فإنه يكون فيه غرر، إذ إن المطلوب قد يوفي كاملاً وقد لا يوفي، وقد يوفي ناقصاً، فلا يصح.
لكن لو كان الذي اشترى دَين فلان قادراً على أخذه منه، كرجل له سلطة يستطيع أن يأخذ هذا المال الذي في ذمة الرجل، فالصحيح أنه يجوز وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ؛ لأن العلة في النهي عن بيع ما في الذمم إنما هي
__________
(1) القلائص: جمع قلوص وهي الناقة المسنة.
(2) سبق تخريجه ص (410) .(8/444)
الخوف من الغرر، وعدم الاستلام فإذا زالت العلة زال المعلول وزال الحكم، ثم إن عجز عن أخذه فله الفسخ، وبشرط ألا يربح فيه البائع بمعنى ألا يبيعه بأكثر من ثمنه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ربح ما لم يضمن (1) ، ولحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (2) ، وبشرط ألا يكون بينهما ربا نسيئة مثل أن أبيع عليه مائة صاع من التمر في ذمة فلان بمائة صاع من الشعير فهذا لا يجوز، لأنه يجري فيه ربا النسيئة وأنا لم أقبض العوض.
الثانية: بيع الدين على من هو في ذمته.
مثاله: أنا أطلب شخصاً مائة صاع بر، فجاء إلي وقال: أنا ليس عندي بر، ولكن أنا أعطيك عن مائة الصاع مائتي ريال؛ فهنا بيع دين بدين ففيه تفصيل:
إن كان باعه بسعر وقته فلا بأس، وإن باعه بأكثر فإنه لا يجوز، والدليل: حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كنا نبيع الإبل بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ عنها الدراهم» ، فسألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» ، فاشترط النبي صلّى الله عليه وسلّم شرطين:
الشرط الأول: أن تأخذها بسعر يومها.
الشرط الثاني: ألاّ يتفرقا وبينهما شيء.
ووجه ذلك أنه إذا أخذها بأكثر فقد ربح فيما لم يدخل في
__________
(1) سبق تخريجه ص (209) .
(2) وهو قوله: «كنا نبيع الإبل ... » وقد سبق ص (208) .(8/445)
ضمانه، مَثَلاً الدينار يساوي عشرة دراهم فقال: أنا آخذ منك بأحد عشر، فهذا لا يجوز؛ لأن الذي أخذ أحد عشر بدل الدينار ربح درهماً فربح في شيء لم يدخل في ضمانه؛ لأن الدنانير في ضمان من هي في ذمته، ولم تدخل عليه إلى الآن، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربح ما لم يضمن، وقلنا فيما سبق: المفهوم لا عموم له، إذ يصدق المفهوم بالمخالفة ولو في صورة واحدة، فإذا أخذها بأقل من سعر يومها، أي: الدينار يساوي عشرة فأخذه الطالب بتسعة فمفهوم الحديث: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» أن هذه الصورة لا تجوز، لكنها في الواقع تجوز؛ لأنه لم يربح فيما لم يدخل في ضمانه، بل نزل بعض حقه، فأبرأه من بعض حقه، وإبراؤه من بعض حقه لا بأس به، فصار المفهوم الآن ليس له عموم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن يفهمها، أن المفهوم لا عموم له، بل يصدق بصورة واحدة مخالفة، والصورة الواحدة المخالفة في المثال إذا أخذها بأكثر، أي: الدينار يساوي عشرة وأخذها بأحد عشر، فهذا لا يجوز؛ لأنه يدخل في ربح ما لم يضمن.
فهمنا العلة في قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» ، فما هي العلة في قوله: «ما لم تتفرقا وبينكما شيء؟» .
الجواب: العلة ظاهرة أيضاً؛ لأنه سيأخذ عن الدنانير دراهم، وبيع الدنانير بالدراهم لا بد فيها من القبض في مجلس العقد، وحينئذ لو لم يقبض لبطل العقد، كما لو باع دنانير بدراهم ولم يقبض فإنه يبطل العقد، فتبين أن حديث عبد الله بن عمر(8/446)
ـ رضي الله عنهما ـ متمشٍ على القواعد العامة في الشريعة، والمعروفة في أبواب الربا.
ويشترط ـ أيضاً ـ ألا يتخذ حيلة على الربا، فإن اتخذ حيلة على الربا فهو حرام، مثل أن يبيع الدين الذي حل بدين أكثر مؤجلاً، فيقول: عندك الآن مائة صاع من البر وقد حل، ولكن ليس عندك، أبيعه عليك بمائة صاع من التمر مؤجلاً، ومائة الصاع من التمر أكثر قيمة من مائة الصاع من البر، فهذا لا يجوز لئلا يتخذ حيلة إلى قلب الدين.
إذاً بيع الدين بالدين: إذا باع ما في ذمة الغير لنفسه وهو مما يشترط فيه التقابض وجب القبض، وإذا كان لا يجب فيه التقابض فلا بأس أن يتأخر القبض لكن بشرط ألاّ تزيد القيمة لتأخر القبض.
مثاله: هذا الرجل في ذمته لفلان مائة ريال فجاء المطلوب وقال: ليس عندي مائة ريال، بل عندي عشرة دنانير، والدينار يساوي عشرة ريالات، قال: أعطني عشرة دنانير عن المائة، فهذا يجوز بشرط التقابض؛ لأنه بيع دراهم بدنانير، أما لو قال: أنا ليس عندي مائة ريال، وليس عندي دنانير لكن عندي بر، والصاع منه يساوي درهماً، فيكون عوض مائة الدرهم مائة صاع، قال: أنا أعطيك مائة صاع عن مائة درهم فوافق فلا يشترط التقابض؛ لأن بيع البر بالدراهم لا يشترط فيه التقابض؛ لعدم اتفاقهما في علة ربا الفضل.
أما لو قال: أنا أقبل البر؛ لكن أعطني عن مائة الدرهم مائة(8/447)
صاع وعشرة أصواع فهذا لا يجوز؛ لأنه ربح في شيء لم يدخل في ضمانه.
أما لو قال: أنت فقير أعطني بدل مائة الدرهم ثمانين صاعاً فهذا يجوز، لأنه يُعتبر إحساناً منه حيث اقتصر على بعض حقه، إذ إن حقه أن يكون مائة صاع، لكنه اختار ثمانين صاعاً، فصار كلام المؤلف ليس على إطلاقه: «لا يصح بيع الدين بالدين» ، بل لا بد فيه من التفصيل، وصار حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ (1) ميزاناً في هذا الأمر، أي: في بيع الدين على من هو عليه.
أما بيع الدين على غير من هو عليه فلا يجوز إلا على قادر على أخذه، ولكن إذا قلنا: يجوز إذا كان قادراً على أخذه لا بد أن يكون المدين قد أقر بالدين، أما إذا كان منكراً، وجاء إنسان وقال: أنا أريد أن أشتري دين فلان الذي هو لك وهو منكر ولم يقر، ولكن قال: أخاطر فأشتريه وأطالبه عند القاضي، فلا يجوز؛ لأنه مخاطرة، لكن كلامنا فيما إذا باع ديناً في ذمة مقر على شخص قادر على استخراجه، فالصواب أنه جائز، لأنه لا دليل على منعه، والأصل حل البيع لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
__________
(1) سبق تخريجه ص (208) .(8/448)
فَصْلٌ
وَمَتَى افْتَرَقَ الْمتَصَارِفَان قَبْلَ قَبْضِ الكُلِّ أو البَعْضِ بَطَلَ العَقُدُ فِيْمَا لَمْ يُقْبَضْ.
قوله: «فصل» هذا الفصل ذكر فيه المؤلف حكم الصرف وهو بيع النقد بالنقد، وهذا لا يخرج عن ما سبق من القواعد في الربا، لكن خصّوه بفصل لطول فروعه والكلام عليه.
قوله: «ومتى افترق المتصارفان» المتصارفان هما المتبايعان بالصرف، والصرف في اللغة الصوت، ومنه ما جاء في حديث المعراج: «حتى بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام» (1) ، يعني صوتها، والصرف بيع نقد بنقد، تبيع مثلاً ذهباً بفضة أو فضة بفضة يعني دراهم بدراهم أو دراهم بدنانير، وسمي صرفاً لأنهم كانوا يزنون الدراهم والدنانير، يتبايعون بالوزن، حينما نضعها في الميزان يكون لها صريف، أي: صوت ولهذا سمي صرفاً.
قوله: «قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض» أي: وصح فيما قبض.
مثال ذلك: اشترى مائة درهم بعشرة دنانير فهذا صرف، فإذا استلم كل واحد منهما ما آل إليه صح العقد، أي: تبين أن العقد صحيح، وإذا سلمه خمسين درهماً فقط وتفرقا، صح العقد في خمسين الدرهم ويقابلها خمسة دنانير والباقي لا يصح، وهذا بناء على تفريق الصفقة وأنه يمكن أن يصح بعضها دون بعض؛
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (349) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب الإسراء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم (163) عن ابن عباس وأبي حبة الأنصاري ـ رضي الله عنهم ـ.(8/449)
لأن الحكم يدور مع علته، فما وجد فيه شرط الصحة فهو صحيح، وما لم يوجد فيه شرط الصحة فليس بصحيح.
مثال آخر: أعطاه ديناراً يصرفه بعشرة دراهم فلم يجد إلا خمسة دراهم، فهل يصح؟
نقول: يصح العقد فيما قبض، ولا يصح فيما لم يقبض، فيصح العقد في نصف الدينار، ويبقى نصفه أمانة عند البائع، فيكون هذا الدينار مشتركاً بين البائع والمشتري.
وفائدة ذلك أنه لو زاد سعر الذهب فيما بين هذه الصفقة، وبين استلام حقه إذا وجد الآخر بقية الدراهم، فإذا تغير السعر فهو على حساب صاحبه، فمثلاً لو كان حين صرف الدينار بالدراهم يساوي الدينار عشرة دراهم، ثم صار يساوي عشرين درهماً فإنه يبقى نصف الدينار بعشرة دراهم؛ لأن ما بقي من الدينار بقي عند الآخر وديعة، ولا يصح العقد فيه.
فإن لم يسلم شيئاً إطلاقاً بطل العقد في الجميع، وهذه المسألة نظيرها إذا اشترى الإنسان حلياً من شخص بعشرة آلاف ريال وسلمه خمسة آلاف ريال فقط، والباقي قال: أحضره لك غداً فإنه يصح في النصف، والباقي لم يدخل في ملكه ولا يصح فيه العقد، فإن لم يعطه شيئاً بأن قال: سآتيك بالدراهم بعد العصر وأعطني الحلي الآن، بطل العقد في الجميع، فإن قال المشتري: أنا ليس عندي دراهم وأريد أن أشتري منك حلياً، فقال البائع: أنا أسلفك، فسلفه عشرة آلاف ريال ثم ردها على(8/450)
البائع فهذا حيلة بلا شك، فلا يجوز؛ لأن مفاسد المحرمات لا تزول بالحيل عليها، بل إن الحيل لا تزيد المفاسد إلا مفاسد، أما لو سلفه آخر فلا بأس.
وقوله: «بطل العقد فيما لم يقبض» وجه ذلك أن القبض شرط لصحة العقد؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) .
والدراهم والدّنَانِيْرُ تَتَعَيَّنُ بِالتّعْيينِ فِي العَقْدِ، فَلاَ تُبَدّلُ.
قوله: «والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل» هذه مسألة خلافية، ويترتب على الخلاف فيها عدة مسائل ذكرها ابن رجب ـ رحمه الله ـ في آخر كتاب «القواعد» ، هل الدراهم والدنانير تتعين بالعقد أو لا؟ في ذلك خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنها لا تتعين؛ لأن المقصود واحد، فالمقصود بالدينار هذا والدينار هذا واحد، إنما اختلفا في عينهما فقط، وهذا لا يدل على أن الدراهم تتعين بالتعيين بالعقد.
ومنهم من قال: بل تتعين.
مثال ذلك: اشتريت منك هذا الثوب بهذا الدرهم، فالثوب الآن معين ولا إشكال فيه، ولهذا لو أراد البائع أن يبدل الثوب لم يستطع ذلك إلا بموافقة المشتري، لكن المشتري عين هذا الدرهم، فهل يتعين هذا الدرهم؟
فإذا قلنا بالتعيين فإن المشتري لا يمكنه أن يبدلها؛ لأنه لما
__________
(1) سبق تخريجه ص (207) .(8/451)
عيَّنَها ووقع العقد على عينها، وتم العقد صارت ملكاً للبائع، فلا يمكن أن يبدلها المشتري، كما أن البائع لا يمكن أن يبدل الثوب، أما إذا قلنا: إنها لا تتعين فله أن يبدلها، ويأخذ من جيبه درهماً غير الذي عينه ويسلمه للبائع، هذا مما يترتب على الخلاف، فإذا قلنا: إنها تتعين بالتعيين بالعقد فإنها لا تبدل، وإن قلنا: إنها لا تتعين فإنها تبدل؛ لأنه لا فرق بين هذا الدرهم وهذا الدرهم.
وفي الأوراق النقدية كذلك، لو قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه العشرة، ثم أراد أن يعطيه بدلاً عنها عشرة أخرى، فهل له أن يبدلها؟ على الخلاف، إن قلنا: إنها تتعين بالتعيين لم يملك أن يبدلها، وإن قلنا: لا تتعين ملك، والأقرب إلى مقصود الناس عدم التعيين، إذ إن البائع لا يهمه أن تكون هذه العشرة أو العشرة الأخرى.
ثم إنه ـ أيضاً ـ يمكن أن يختلف، فلو أنه اختلف بأن أخرج العشرة فإذا هي ورقة جديدة فأراد أن يغيرها إلى ورقة أخرى قديمة قد تكون آيلة إلى التلف عن قرب، فهل له أن يغير؟ على الخلاف، لكن حتى إذا قلنا: إنها لا تتعين فإنه في هذه الحال للبائع أن يقول: لا أريد هذا، ففرق بين ورقة آيلة للتلف عن قرب، وورقة جديدة، فالغرض هنا يختلف فالظاهر أنه حتى لو قلنا: إنها لا تتعين، فإنها في هذه الصورة تتعين؛ لأن الرغبة عند الناس تختلف بين هذا وهذا، فإن بدلت فهو عقد جديد على هذه الدراهم الجديدة.(8/452)
وَإِنْ وَجَدَهَا مَغْصُوبَةً بَطَلَ.
قوله: «وإن وجدها مغصوبة بطل» الضمير يعود على الدراهم أو الدنانير التي عينها في العقد، أي: تبين أنها مغصوبة فإن العقد يبطل؛ لأنه وقع على عين مغصوبة لا يملك الغاصب أن يتصرف فيها، وتصرفه فيها باطل فيبطل العقد.
مثال ذلك: إنسان غصب درهماً من شخص، ثم جاء إلى صاحب الدكان، وقال: اشتريت منك هذا الثوب بهذا الدرهم، فتبين أن الدرهم مغصوب، فَمَالِكُ هذا الدرهمِ ليس المشتري، فهذا المشتري أجرى العقد على ما لا يملكه، والعقد على ما لا يملكه باطل، فيكون العقد باطلاً، كما لو كان الأمر بالعكس، بأن اشترى ثوباً بدرهم، فتبين أن الثوب مغصوب فلا يصح العقد؛ لأن المبيع يتعين بالتعيين، لا إشكال فيه، وعلى القول بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين، إذا تبين أن الدراهم التي عيّنها مغصوبة أو مسروقة أو ما أشبه ذلك فهنا لا يبطل العقد، ويرد المغصوب إلى مالكه ويلزم المشتري ببدله.
فإذا قال البائع: أنا بعت عليك بثمن معين وقبضته، والآن لما تبين أنه ملك للغير فإني أريد أن أفسخ العقد؛ لأني أخشى أن تماطل بي فما الجواب؟.
الجواب: على الخلاف هل يفسخ لإعسار المشتري أو لا؟ لكن في هذه الصورة ينبغي أن يقال: بأن له الفسخ قولاً واحداً؛ وذلك لأن هذا الرجل خدعه وغره وخانه، ولا ينبغي أن يعامل الخائن إلا بما يردعه عن خيانته.
إذاً إذا وجدها مغصوبة أو مسروقة أو منهوبة، المهم تبين(8/453)
أنها ليست ملكاً للمشتري، فإن العقد يبطل على القول بأنها تتعين.
وَمَعِيْبَةً مِنْ جِنْسِهَا أمْسَكَ أوْ رَدَّ.
قوله: «ومعيبة من جنسها أمسك أو رد» أمسك يعني بلا أرش، أو رد.
مثال ذلك: اشترى ديناراً بدينار ثم وجد أن الدينار معيب من جنسه، أي: مخلوط معه ذهب رديء، فالبيع واقع على دينار بدينار، ويشترط في بيع الدينار بالدينار التساوي، فهذا الرجل وجد أن الدينار الذي عينه معيباً من جنسه، فماذا نقول؟ نقول له: أنت الآن بالخيار إن شئت فأمسك بلا أرش، وإن شئت فرد، أما كونه يرد فواضح؛ لأنه معيب، وهو لم يشتر إلا شيئاً سالماً، وأما كونه بلا أرش، فلأن الأرش يستلزم زيادة في بيع الجنس بجنسه، ومعلوم حسب ما مر علينا من القواعد أن بيع الجنس بجنسه يشترط فيه التماثل، ولهذا قال: «أمسك» أي بلا أرش «أو رد» .
وعلم من قول المؤلف ـ رحمه الله ـ «من جنسه» ، أنه إذا كان من غير الجنس فإنه لا يصح العقد إذا وجدها معيبة من غير الجنس، فنقول: ليس فيه خيار بل هو باطل.
مثال ذلك: باع درهماً بدرهم، ووجد أن أحد الدرهمين معيب بنحاس فهنا يبطل العقد؛ لأن العيب من غير الجنس، فيكون من باب «مد عجوة ودرهم» لأنه باع جنساً بجنسه، ومع أحدهما من غير الجنس فلا يصح.
وهذا كله بناءً على أن الدنانير والدراهم تتعين بالتعين(8/454)
بالعقد، أما إذا قلنا: إنها لا تتعين، فإنه إذا وجدها معيبة يبقى العقد على ما هو عليه، ويطالب ببدلها سليماً.
وَيَحْرُمُ الرِّبا بَيْنَ المُسْلِمِ والحَرْبِيِّ، وَبَيْنَ المُسْلِمِيْنَ مُطْلَقاً بِدَارِ إِسْلاَمٍ وحَرْبٍ.
قوله: «ويحرم الربا بين المسلم والحربي» تحريم الربا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهذا من حيث الجملة إذ إن العلماء يختلفون في بعض المسائل اختلافاً كثيراً، أما الكتاب فنص صريح في قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وأما السنة فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» (1) ، وهذا يقتضي أن يكون الربا من كبائر الذنوب، وأما الإجماع فلم يختلف المسلمون في أن الربا محرم وإن اختلفوا في بعض المسائل، مثل اختلافهم في علة الربا وهل يتعدى الحكم إلى غير المنصوص عليه أو لا؟ وكما مر علينا فيما سبق أن هناك اختلافاً، لكن في الجملة هم مجمعون على تحريم الربا، كما نقول مثلاً: إن العلماء مجمعون على وجوب الزكاة وإن كانوا مختلفين في بعض الأشياء هل فيها زكاة أو ليس فيها.
وقوله: «يحرم الربا بين المسلم والحربي» كما يحرم بين المسلمين، والحربي مباح الدم والمال بالنسبة لنا، فماله حلال لو أخذناه قهراً فهو لنا، لكن عند المعاملة تُجرى المعاملة على ما تقتضيه الشريعة، ثم إن الحربي إذا عاقدت معه فإن العقد نوع من العهد، وقد قال الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، والربا في
__________
(1) سبق تخريجه ص (392) ..(8/455)
الشريعة محرم، والنصوص عامة، فيحرم الربا بين المسلم والحربي، فلو أن إنساناً وجد حربياً، ومعه مال وليس بقادر على أخذه منه قهراً، فقال: أنا أريد أن أشتري منك مائة دينار بخمسين ديناراً فإن ذلك لا يجوز، أو مائة صاع برّ جيد بخمسين صاعاً رديئاً مثلاً أو بالعكس فإنه حرام؛ لأنه متى جرى الأمر بصورة العقد وجب أن يطبق على ما تقتضيه الشريعة.
وقال بعض العلماء: إنه لا يحرم الربا بين المسلم والحربي وأنه يجوز لك أن تتعامل مع الحربي بالربا؛ لأن ماله مباح كما أن دمه مباح، ولكن هذا قياس في مقابلة النص فيكون فاسد الاعتبار.
وبين المسلم والذمي من باب أولى أن يكون الربا جارياً؛ لأن مال الذمي محترم.
قوله: «وبين المسلمين مطلقاً» أي: يحرم ـ أيضاً ـ الربا بين المسلمين مطلقاً، وهذا الإطلاق فسره:
بقوله: «بدار إسلام وحرب» بدار إسلام كالبلاد الإسلامية، ودار حرب كالبلاد الحربية إذا دخلها المسلم بأمان وتبايع مع حربي، أو مع مسلم فإنه يحرم الربا؛ وذلك لعموم الأدلة.
ومن العلماء من اعتبر الدار، وقال: إن الدار إذا كانت دار حرب فلا ربا فيها بين المسلمين وأهل الحرب، وهذا أبعد من القول الأول؛ لأن دار الحرب لا تغير الحكم، والنصوص عامة، والعقود يجب أن تجرى على ما تقتضيه الشريعة.(8/456)
مسائل في «الروض» (1) :
يقول: «لا ربا بين السيد ورقيقه» فيجوز للإنسان أن يشتري ثلاثة دراهم بدرهمين من رقيقه؛ لأن المال ماله لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه» (2) .
وهل يجري بين الأب وابنه؟
الجواب: نعم يجري بين الأب وابنه؛ لأن مال الابن مستقل، ومال الأب مستقل، وكون الأب يملك أن يتملك من مال ولده ما شاء لا يعني أن مال ولده ملك له، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» (3) ، فمراده أن لأبيك أن يتملك من مالك، وليس معناه أنك ملك لأبيك، أو أن مالك ملك له، فإن هذا يمنعه الإجماع، فالابن ليس ملكاً لأبيه، وإذا كان الابن ليس ملكاً لأبيه فماله ليس ملكاً له، ولهذا قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، فجعل الميراث جارياً بين الآباء والأبناء، ولو كان ملك الأبناء للآباء لم يكن هناك جريان للإرث.
وهل يجري الربا بين الزوج وزوجته؟
الجواب: نعم يجري.
مسألة: تشتري الأختان أحياناً حلياً، ثم إذا وصلتا إلى البيت قالت إحداهما: هذا الحلي لا أريده، فقالت الأخرى: أنا أريده، فقالت: نتبادل، وبينهما تفاضل، يعني هذه أسورتها واسعة
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/529)
(2) سبق تخريجه ص (61) .
(3) سبق تخريجه ص (131) .(8/457)
وثقيلة وهذه بالعكس، فقالت: ليس بيننا حساب خذي الأسورة التي لي، وآخذ التي لك وأتنازل، فهذه أسورتها مثلاً عشر أواق وهذه خمس عشرة أوقية، والفقهاء يقولون: البيع مبادلة مال بمال، فهذا الذي في هذه المسألة تبادل، فإن قالوا: تنازل، قلنا: التنازل لا يجوز إذا أدى إلى فعل محرم، وهذا يؤدي إلى فعل محرم، وإذا كانت تريد أن تتنازل عن الحلي لأختها مجاناً لا مانع، لكن بعوض والتفاضل بينهما ممنوع ولا ينفع كلمة «تنازل» ؛ فالحقائق إذا سميت بغير اسمها لا تتغير، وإلا فالكفار يسمون الخمر الشراب الروحي، وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها (1) ، فالأسماء لا تغير حقائق المسميات.
إذاً يجري الربا بين الأقارب كلهم، وليس أحد يعامل أحداً بربا، وليس بينهما ربا إلا السيد مع رقيقه، وحقيقة الأمر أن تعامل السيد والرقيق ليس معاملة حقيقية؛ وإنما هي صورة معاملة؛ إذ إن مال الرقيق للسيد.
قوله: «وإذا كان له على آخر دنانير فقضاها دراهم شيئاً فشيئاً» (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/342) وأبو داود في الأشربة/ باب في الداذي (3688) وابن ماجه في الفتن/ باب العقوبات (4020) عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه النسائي في الأشربة/ باب منزلة الخمر (8/312) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصححه الألباني في الصحيحة (90) .
(2) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/529) .(8/458)
مثاله: إنسان في ذمته عشرة دنانير لشخص فقضاها دراهم شيئاً فشيئاً، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدنانير صح؛ فالدنانير عشرة تساوي مائة، فصار هذا المطلوب كلما جاء بعشرة دراهم قال: هذه مقابل دينار فهذا يصح؛ لأن صاحب الدنانير قد قبضها في الواقع إذ هي عنده، وإن كان لا يقول هكذا لكنه يأتي كل يوم بعشرة دراهم حتى انتهى وسلمه مائة فإنه لا يصح.
قال: «وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعده فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، وأن قبض أحدهما من الآخر ما له عليه، ثم صارفه بعين وذمة صح» (1) .
«إن لم يفعل» أي: إن لم يعطه كل درهم بحسابه يقول: هذا في مقابل كذا «ثم تحاسبا بعد» يعني بعد أن تمت الدراهم تحاسبا، وصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين، صار يأتي كل يوم بعشرة دراهم فانتهت المائة، وقال: الآن نتصارف فما عندك من المائة مقابل ما علي من الدنانير؛ ولم يحضر لا دنانير ولا دراهم، إذاً هو بيع دين بدين، بيع ما في ذمة المطلوب ـ دنانير ـ بما استلمه الطالب من الدراهم فلا يصح.
والطريق أن يحضر إحداهما ولهذا قال: «وإن قبض أحدهما من الآخر ما له عليه، ثم صارفه بعين وذمة صح» فيقال: أحضر عشرة دنانير ثم بعد ذلك قل: هذه الدنانير هي مقابل ما عندك من الدراهم، وهي مائة فيكون الصرف الآن عيناً بذمة، وإن أحضر
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (4/529) .(8/459)
كل واحد ما عنده فيصح من باب أولى؛ لأنه الآن صرف عين بعين.
والصحيح أنه يصح في هذه المسألة وفيما إذا تصارفا في الذمة؛ لأن ظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نبيع الإبل بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم» (1) أنه لا تحضر الدراهم ويقع العقد على عينه فهذا ظاهر الحديث، ولأن التقابض قبل التفرق قد حصل، فالدراهم الآن في ذمتك والدنانير الآن في ذمتي، وتفرقنا وليس بيننا شيء، فالصحيح أنه يصح، وأنه ليس من باب بيع الدين بالدين، وإنما المنهي عنه من بيع الدين بالدين ما سبق تصويره ومر علينا.
مسألة: إذا اشترى إنسان أشياء من بقالة وكان يحاسبه كل شهر، فإذا انتهى الشهر قال: كم علي؟ قال البقال: كذا وكذا، فسلمه دون أن يعين الدراهم حين تسليمها فهذا يجوز، وهذا مما يؤيد القول بأنهما إذا تصارفا في الذمة، وكان كل واحد منهما قد قبض ما يؤول إليه فإنه صحيح.
__________
(1) سبق تخريجه ص (208) .(8/460)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد التاسع
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1425هـ(9/)
بَابُ بَيْعِ الأُصولِ والثِّمَارِ
قوله: «باب: بيع الأصول والثمار» .
أفرد المؤلف ـ رحمه الله ـ بيع الأصول والثمار بباب مستقل لكثرة فروعه، وإلا فهو داخل ضمن باب البيوع.
فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يتفرع منه الشيء أو يُبنى عليه الشيء، فالأب أصل للابن؛ لأن الابن متفرع منه، وأساسُ الجدار أصلٌ للجدار؛ لأن الجدارَ مبنيٌّ عليه.
أما الأصل في الاصطلاح فإنه يختلف بحسب المواضع، فإذا تكلمنا عن الأدلة فإنما نعني بالأصل الدليل، ولهذا تجد في الكتب التي تعتني بالأدلة، إذا ذكر حكم المسألة قال: والأصل في ذلك قوله تعالى أو قوله صلّى الله عليه وسلّم، وتارة يطلق على كل ما تفرع عنه غيره كالقواعد والضوابط وما أشبه ذلك، وفي هذا الباب الأصول هي الأشياء الثابتة من العقار، أي: الأراضي، والدور، والأشجار.
والثمار جمع ثمر، وهو ما ينتج من الأشجار، فالنخلة تعتبر أصلاً، وتمرها ثمر؛ لأنه نامٍ منها.
وسكت المؤلف عن الزروع مع أنه قد تكلَّم عليها، إما اقتصاراً، وإما اختصاراً.
وليس المقصود بهذا الباب الكلام على شروط البيع؛ لأن شروط البيع قد سبق ذكرها، ولا على موانع البيع؛ لأن موانع(9/5)
البيع ـ أيضاً ـ سبق ذكرها، ولكن المقصود بيان ما يدخل في البيع وما لا يدخل.
إذَا بَاعَ دَاراً شَمِلَ أَرْضَهَا، وَبِنَاءَهَا، وَسَقْفَهَا، وَالبَابَ المَنْصُوبَ، وَالسُّلَّمَ، وَالرَّفَّ المَسْمُورَيْنِ، وَالخَابِيَةَ المَدْفُونَةَ،...........
قوله: «إذا باع داراً» فقال: بعت عليك هذه الدار بكذا، فلا بد أن يكون الثمن معلوماً كما هو ظاهر، ولا بد أن تكون الدار ملكاً للبائع أو له ولاية عليها أو وكالة، والمهم هنا إذا باع داراً فما الذي يدخل في الدار؟ يقول:
«شمل أرضها» إلى الأرض السابعة، ويشمل ـ أيضاً ـ هواءها إلى السماء الدنيا، أما ما وراء السماء الدنيا فلا يملك؛ لأن السماء الدنيا سقف فليست ملكاً.
قوله: «وبناءها» كذلك ـ أيضاً ـ يشمل بناءها، أي: ما بني فيها من الحجر والسور وما أشبه ذلك.
قوله: «وسقفها» ؛ لأنه تابع لما بني فيها.
قوله: «والباب المنصوب» يشمل ـ أيضاً ـ الباب المنصوب، يعني المركب، فإذا باع أحد داراً ثم أراد أن يأخذ أبوابها، قلنا: لا؛ لأن الباب داخل في الدار، هذا إذا كان منصوباً، بالتسمير أو مبنيّاً عليه، المهم إذا كان منصوباً، فإن لم يكن منصوباً، بأن كان هذا الباب على فوهة الحجرة ينقل، يأخذه بيديه إذا أراد أن يدخل، وإذا دخل الحجرة وأراد أن يغلقه رده إلى مكانه، فالباب هنا غير منصوب، فعلى قول المؤلف لا يدخل، فللبائع أن يأخذه؛ لأنه ليس منصوباً إذ لو أراد البائع أن يكون هذا تابعاً(9/6)
للدار لنصبه، فهو كالخرقة ـ مثلاً ـ فإذا كانت الخرقة ـ أيضاً ـ غير مسمرة يأخذها البائع.
قوله: «والسلم والرف المسمُورَين» السُّلَّم الذي يصعد به إلى السّقف إذا كان مسمّراً يدخل، فإن لم يكن مسمراً فإنه لا يدخل، وكذلك الرف إن كان مسمراً دخل وإلا فلا، فإذا كانت أيدي الرف مسمَّرة والخشبة التي هي الرف موضوعة على هذه العضائد فهل يدخل في البيع؟ نقول: أما العضائد فتدخل؛ لأنها مسمرة، وأما الخشب الموضوع فإنه لا يدخل؛ لأنه غير مُسمّر.
ومثل ذلك الرَّحَى، أسفلها يدخل في البيع؛ لأنه مبني ثابت، والفوقاني لا يدخل في البيع؛ لأنه ينزع.
قوله: «والخابية المدفونة» الخابية إناء من فخار كانوا يجعلون فيه التمر وشبهه، إذا كانت مدفونة دخلت، وإن كانت موضوعة على سطح الأرض فإنها لا تدخل كسائر الأواني.
وما ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ ليس له دلالة شرعية، وإنما له دلالة عُرفية، فهذه الأمور في أعرافهم لا تدخل فلا يكون البيع شاملاً لها، لكن لو اختلف العرف، وصار الباب داخلاً في المبيع سواء كان منصوباً أو غير منصوب فهل يدخل؟
الجواب: نعم، وكذلك ـ أيضاً ـ مسألة الرف الذي مثلنا به، فعضائد الرف مسمرة ثابتة، ولكن الخشب الذي يوضع على هذه العضائد غير مسمَّر، جرت العادة والعرف أنه تبع فيدخل.
وأيضاً الرّحى، الطبقة السفلى منها مسمرة بالأرض أو مبنية عليها، والعليا غير مسمَّرة.(9/7)
فعلى كلام المؤلف العليا لا تدخل، ولكن لا شك أن الطبقة العليا تدخل؛ لأنه لا يمكن أن تكون رحى بدون طبق أعلى، ثم إذا أخذ البائع هذه العليا لن ينتفع بها إلا بالسفلى.
فالصواب ـ أيضاً ـ في مسألة الرّحى أنها داخلة إذا كانت منصوبة في الأرض يعني مثبتة، فإنه يدخل الأعلى كما يدخل الأسفل.
دُونَ مَا هُوَ مُودَعٌ فيِهَا مِنْ كَنْزٍ وَحَجَرٍ وَمُنْفَصِلٍ مِنْهَا كَحَبْلٍ وَدَلْوٍ وَبَكَرَةٍ وَقُفْلٍ وَفُرُشٍ ومِفْتَاحٍ.
قوله: «دون ما هو مودع فيها من كنز» الكنز مودع في الأرض فلا يدخل في البيع؛ لأنه منفصل، فإذا وجد المشتري في هذه الأرض كنزاً فإنه لا يدخل في البيع، بل يكون لصاحبه، إذا كان مكتوباً عليه، أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مكتوباً عليه فإنه لمن وجده؛ لأنه ليس داخلاً في البيع، فلو استأجرت عمالاً يحفرون لي بيارة في البيت، وأثناء الحفر وجدوا هذا الكنز يكون للعمال، إلا إذا استأجرهم لحفر الكنز فيكون له، وعلى هذا فلو وجد المشتري كنزاً مدفوناً، فليس للبائع أن يطالبه ويقول: إن الكنز لي، حتى يثبت ببينة أنه له؛ لأن الكنز لا يتبع الأرض.
قوله: «وحجر» بعض الأحجار يكون لها قيمة فتدفن في الأرض فيجدها هذا الرجل، فنقول: إن هذا الحجر لا يدخل في الدار؛ لأنه مودع فيها، فإذا كان مودعاً فيها فإنه لا يدخل، أما الحجر الذي من طبيعة الأرض فيدخل؛ لأنه من طبيعة الأرض.
قوله: «ومنفصل منها» كذلك لا يدخل فيها ما هو منفصل، ومثاله قوله:(9/8)
«كحبل ودلو وبكرة وقفل وفرش ومفتاح» هذا لا يدخل في البيع؛ لأنه منفصل، فإذا باع داراً فيها بئر وهذا البئر فيه بكرة، وفيه حبل الرِّشا، وفيه دلو فإن البكرة لا تدخل، والبكرة هي المحالة التي يدور عليها الرِّشا، والرشا ـ أيضاً ـ لا يدخل، والدلو لا يدخل.
وظاهر كلام المؤلف أن البكرة لا تدخل ولو كانت مسمرة، وفي هذا نظر؛ لأنها إذا كانت مسمرة فقد أعدت للبقاء فهي كالرف المسمر ولا فرق.
أما الرشا والدَّلو فمنفصلان فلا يدخلان في البيع، وكذلك القفل ليس داخلاً في بيع الدار؛ لأنه منفصل، وأما القفل الذي في الأبواب نفسها فهو تبع للأبواب، إن دخلت دخل وإن لم تدخل لم يدخل.
والفرش ـ أيضاً ـ لا تدخل؛ لأنها منفصلة، وظاهر كلام المؤلف حتى وإن كانت ملصقة كما يوجد في الفرش الآن، فيوجد فرش ملصقات بالأرض، وفرش منفصلة تحمل، لكن قد يقال: إن الفرش الملصقة كالرف المسمر تدخل في البيع ولا تُنزع.
فالفرش فيها تفصيل، فما كان ملصقاً ثابتاً فهو داخل، وما كان منفصلاً ينقل فهو غير داخل.
وكذا المفتاح لا يدخل في البيع، وعلى هذا فإذا بعت عليك داراً أخذت المفتاح؛ لأنه منفصل، ولكن هذا خلاف العادة والعرف، ولا شك أن المفاتيح داخلة، كذلك لا يوجد مفتاح(9/9)
بدون قفل والأقفال مثبتة، إذاً فهي فرع عن الأقفال فتكون تابعة للأقفال بلا شك، وعليه فإن المفاتيح إذا كانت لأقفال مثبتة فهي داخلة في البيع وإلا فلا.
وَإِنْ بَاعَ أرْضاً وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِحُقُوقِهَا شَمِلَ غَرْسَهَا وَبِنَاءَها. وَإِنْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ كَبُرٍّ وشَعِيرٍ فَلِبَائِعٍ مُبَقَّى،.
قوله: «وإن باع أرضاً ولو لم يقل بحقوقها شمل غرسها وبناءها» أي: إذا باع الأرض وفيها غرس فإن الغرس يتبع الأرض؛ لأن الغرس بالنسبة للأرض يعتبر فرعاً تابعاً لأصله، وكذلك البناء، فإذا باع أرضاً وفيها بناء فإنه يدخل في بيع الأرض؛ لأن البناء بالنسبة للأرض فرع فيتبع الأصل.
مسألة: إذا كانت الأرض بيضاء ليس فيها بناء ولا غرس ولا زرع، فإذا باع هذه الأرض دخل كل ما فيها، ولكن هل يدخل فيها ما ينبته الله تعالى من الكلأ؟
الجواب: لا يدخل؛ لأنه لا يملك بملك الأرض لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ، والنار» (1) ، فلا يدخل في البيع، أما ما غرسه الآدمي فيدخل.
وقوله: «ولو لم يقل بحقوقها» (2) إشارة إلى خلاف في هذه المسألة، وأنه إذا لم يقل بحقوقها فإن البناء والغراس لا يدخلان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/364) ، وأبو داود في البيوع/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخرجه ابن ماجه في الرهون/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وضعفه البوصيري.
وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (2473) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، مرفوعاً بلفظ: «ثلاث لا يمنعن ... » الحديث، وصححه البوصيري في زوائده، والحافظ في التلخيص (1304) وانظر: الإرواء (1552) .
(2) وهذا هو المذهب.(9/10)
في الأرض، وعلى هذا فيقدر لهما قيمة من جديد، وإلا فللبائع أخذهما، والصواب: أنهما داخلان في الأرض تبعاً لها.
وإن باع غرساً، نخلاً ـ مثلاً ـ فهل تدخل الأرض؟
الجواب: لا؛ لأن النخل فرع فلا يتبعه الأصل، فالأرض أصل والنخل فرع، ولا يمكن أن يتبع الأصلُ الفرعَ، ولكن في عرفنا نحن وإلى عهد قريب، إذا باع عليه نخله، أو باع عليه أثله، أو ما أشبه ذلك، فإنه يشمل الأرض ولا يعرف الناس إلا هذا، وعليه فيجب أن تنزل الألفاظ على الحقائق العرفية، ما لم ينص على أن المراد بها الحقائق اللغوية، فيتبع ما نصّ عليه، وأما عند الإطلاق فالواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف.
وهذه قاعدة مطردة: (أن الواجب حمل الألفاظ على لسان أهل العرف) ، فما اقتضاه لسان أهل العرف وجب حمل اللفظ عليه وما لا فلا.
قوله: «وإن كان فيها زرع كَبُر وشعير فلبائع مبقّى» أي: إذا كان في الأرض زرع فهو على نوعين:
الأول: أن يكون مما يؤخذ مرة واحدة كالبرّ والشعير فهذا يبقّى للبائع، أي: لا يشمله البيع، فيكون للبائع ما لم يشترطه المشتري، ويبقى ـ أيضاً ـ للبائع إلى الحصاد، فلو طلب المشتري أن يُخْلِيَ الأرض منه فليس له الحق في هذا، بل يقال: أنت اشتريتها وفيها الزرع، ومعلوم أن الزرع يبقى إلى الحصاد والجذاذ، ومؤنة سقيه على البائع؛ لأن البائع لم يملكه من قِبَلِ المشتري، بل إن ملكه استمر عليه.(9/11)
فإذا بلغ الحصاد وبيع بعد بلوغ الحصاد فهو للبائع، قال العلماء: وعليه أن يجزه في الحال، فإن تركه حتى نما بطل البيع؛ لأن نموه يكون شيئاً فشيئاً، ولا ندري ما مقدار الزائد بعد نموه فيعود ذلك إلى جهالة الأصل، وإذا كان مجهولاً فإن البيع يبطل.
فإذا قال المشتري للبائع: احصده علفاً؛ لأن الزرع يصلح أن يكون علفاً للبهائم، وقال البائع: لا، أنا أريد أن أبقيه حتى يكون سنبلاً وحبًّا، فهنا نتبع قول البائع؛ لأن البائع يملك إبقاء هذا الزرع إلى الحصاد، فإذا جاء زمن حصاده فللمشتري أن يطالبه بحصاده، فإن لم يفعل كان عليه أجرة بقائه في الأرض؛ لأنه معتد.
النوع الثاني من الزرع ذكره بقوله:
وَإِنْ كَانَ يُجَزُّ أَوْ يُلْقَطُ مِرَاراً فَأَصُولُهُ لِلْمُشْتَري، وَالجَزَّةُ وَاللَّقْطَةُ الظَّاهِرتَانِ عِنْدَ البيعِ للبائِعِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ المُشْتَرِي ذَلِكَ صَحَّ.
«وإن كان يُجَزُّ أو يُلقط مراراً فأصوله للمشتري، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع» إذا كان هذا الزرع الذي في الأرض يجز مراراً، مثل البرسيم (القت) ، فهذا يجز مراراً، يحصد اليوم ثم ينمو فيما بعد، ويحصد مرة ثانية وثالثة، ويبقى سنة أو سنتين على هذه الحال، وربما يبقى أكثر من ذلك حسب طيب الأرض ورداءتها، فهذا يقال فيه: الأصول للمشتري يعني العروق والجذوع للمشتري، والجزة الظاهرة تكون للبائع مبقاة إلى أوان جزها عادة.
واللقطة كذلك، فإذا كان هذا الزرع مما يلقط مراراً كالباذنجان، واللوبيا، والطماطم، وما أشبهها، فالأصول للمشتري تبعاً للأرض، واللقطة الموجودة تكون للبائع مبقاة إلى أوان أخذها.(9/12)
فتبين بهذا أن الأرض إذا بيعت وفيها غراس شجر فهو تابع للأصل، وإذا بيعت وفيها زرع لا يحصد إلا مرة فإنه لا يتبع الأرض بل يكون للبائع، وإذا كان فيها زرع أو شجر صغير يلقط مراراً أو يجز مراراً، فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة واللقطة الظاهرة تكون للبائع، هذا هو التفصيل.
وكل هذا ما لم يشترط أحدهما على الآخر شرطاً يخالف ذلك، فعلى ما شرط ولهذا قال المؤلف:
«وإن اشترط المشتري ذلك صح» المشار إليه اللقطة الظاهرة والجزة الحاضرة، فإذا قال المشتري: أنا لا أريد أن تدخل علي كل يوم تلقط الثمرة الظاهرة أو تجز الحصدة الظاهرة، أنا أشترط عليك أن يكون لي، فقبل البائع فلا بأس، ودليل هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع» (1) أي المشتري، وقوله: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» (2) ، وكذلك نقول: من باع أرضاً وفيها زرع يجز مراراً، واشترط المشتري أن تكون الجزة الظاهرة له فله ذلك؛ لأن المسألة حق لآدميّ، وحق الآدميّ له إسقاطه إذا لم يتضمن شيئاً محرماً، فلو قال قائل: كيف تجيزون أن يشترطه المشتري وهو للبائع، والمشتري إذا اشترطه فلا بد
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب من باع نخلاً قد أبرت (2204) ، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) أخرجه البخاري في المساقاة/ باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط (2379) ، ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها ثمر (1543) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(9/13)
أن يزيد الثمن؟ فلو بعت الأرض وفيها عشرة آلاف كيلو من البر، واشترطه المشتري لنفسه فإنه يلزم زيادة الثمن، فكيف يصح ذلك وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الحب حتى يشتد (1) ؟
الجواب: لأن هذا وقع تبعاً للأرض وفرعاً لها، كما لو بعت الشاة وفيها لبن فإنه يصح مع أن بيع اللبن وحده لا يصح، وكما لو بعت الشاة وهي حامل فإنه يصح مع أنه لو بيع الحمل لم يصح، فهذا مثله.
فصارت الأشجار والزروع التي على الأرض المبيعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الأشجار، فإذا بيعت الأرض وفيها أشجار، تكون تبعاً للأرض وتكون للمشتري.
الثاني: إذا كان فيها زرع يجز مراراً، فالجزة الموجودة تكون للبائع والأصول للمشتري، ولو اشترط المشتري أن تكون الجزة الظاهرة له صحَّ.
الثالث: إذا كان فيها زرع لا يحصد إلا مرة، كالبُرِّ والشعير فهو للبائع إلى حين حصاده.
وهل يلزم البائع في هذه الحال أجرة للمشتري؟
الجواب: لا يلزم؛ لأن له حقّاً ثابتاً.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/221) ، وأبو داود في البيوع/ باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3367) ، والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1228) ، وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (2217) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ، وصححه ابن حبان (4993) ، والحاكم (2/19) على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه في الإرواء (5/211) .(9/14)
فصلٌ
وَمَنْ بَاعَ نَخْلاً تَشَقَّقَ طَلْعُهُ فَلِبَائِعٍ مُبَقًّى إِلَى الْجَذَاذِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَشْتَرٍ. وَكَذَلِكَ شَجَرُ العِنَبِ والتُّوتِ والرُّمَّانِ وغَيْرِهِ،.
قوله: «ومن باع نخلاً تشقق طلعه فلبائع مبقى إلى الجذاذ إلا أن يشترطه مشتر» هذا بيع النخل وليس بيع الأرض، فإذا باع نخلاً ـ أي: النخلة نفسها ـ تشقق طلعها يعني انفرج؛ وذلك لأن النخلة أول ما تظهر ثمرتها تكون مغطاة بالكُفُرَّى، وعندنا نسميه في اللغة العامية الكافور، ثم إذا نمى هذا العذق، داخله انشق وانفرج، فإذا باع نخلاً تشقق طلعه، فالطلع هنا يكون للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع، وإن لم يتشقق فهو للمشتري؛ لأنه تبع للنخلة، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبّر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع» (1) ، ولننظر هل الدليل مطابق للمدلول أو لا؟
الجواب: لا؛ لأن المؤلف ـ رحمه الله ـ علّق الحكم بالتشقق سواء أبّره البائع أم لا.
والتأبير التلقيح، وهو أن يؤخذ من طلع الفحل شيء يوضع في طلع النخلة، فإذا وضع صلحت الثمرة وإن لم يوضع فسدت، ولهذا لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وجدهم يؤبرون، فيرقى الفلاح إلى الفحل ويأخذ العِذْقَ ويجعل منه على ثمرة النخلة فيصعد مرة وينزل ويصعد مرة وينزل مع التعب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا أرى ذلك يغني شيئاً» ، فلما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا الكلام
__________
(1) سبق تخريجه ص (13) .(9/15)
تركوه، فلم يؤبروا النخل فصارت النتيجة أن النخل فسد، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» (1) ، وتركهم يؤبرون، ومراده أنتم أعلم بأمور دنياكم ليس بالأحكام الشرعية فيها، ولكن بتصريفها والتصرف فيها، فنحن أعلم بالدنيا من حيث الصناعة، أما من جهة الأحكام فهي إلى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا أخطأ من قال: إن الدين الإسلامي لا ينظم المعاملات، واستدل بهذا الحديث، فنقول: هذا خطأ عظيم، فالدين الإسلامي ينظم كل شيء؛ أليس الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تباع الثمار قبل بدو صلاحها (2) ؟! أليس هو الذي قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها» (3) ؟! فهذه أحكام شرعية، لكن مسألة التأبير وعدم التأبير هذا داخل في الصناعة. وهذا يرجع إلى التجارب، والناس يعرفون إذا كانوا مجربين أكثر ممن لم يكن مجرباً، فالمؤلف علق الحكم بالتشقق، فمتى باع البائع نخلاً متشققاً طلعه، فالطلع له، سواء أبّره أم لم يُؤبّره.
لكن الحديث قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر» ، فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث على ما حكم به المؤلف ـ رحمه الله ـ والصواب أن الحكم معلق بالتأبير لما يلي:
__________
(1) أخرجه مسلم في الفضائل/ باب وجوب امتثال ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم شرعاً ... (2363) عن عائشة وثابت وأنس ـ رضي الله عنهم ـ.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه ... (1486) ، ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ... (1534) عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) سبق تخريجه ص (13) .(9/16)
أولاً: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم علقه به، وليس لنا أن نتجاوز ما حده الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ثانياً: أن البائع إذا أبّره فقد عمل فيه عملاً يصلحه وتعلقت نفسه به، بخلاف ما إذا لم يؤبره فإنه لم يصنع شيئاً فيه.
وعلى هذا فالصواب: أنه إذا باع نخلاً تشقق طلعه قبل أن يؤبره فالثمر للمشتري، وإن أبره فهو للبائع.
فإذا أبر نخلة ولم يؤبر الأخرى فلكلٍ حكمه، فتكون ثمرة النخلة المؤبرة للبائع، وثمرة النخلة غير المؤبرة للمشتري.
وإن أبر بعض النخلة ـ لأن الطلع قد لا يكون متساوياً كما هو الواقع ـ فللبائع تغليباً للتأبير؛ ولأنه من المعلوم أنه لا يمكن أن يؤبر النخل جميعاً إلا في هذه السنوات الأخيرة بالنسبة لبلادنا، فإنهم كانوا يؤبرونها جميعاً، ينتظرون قليلاً بعد أن تتشقق الأولى، ويشقون الصغار قبل أن تتشقق ليوفر عليهم الطلوع والنزول للنخلة، وفي الزمن السابق لما كان الناس نشطاء متفرغين، كان الشخص يمكن أن يصعد للنخلة عدة مرات يلقح أول الثمر ووسطه وآخره.
إذا قال قائل: لماذا عدل بعض الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن التأبير إلى التشقق؟
قالوا: لأن التشقق هو سبب التأبير، فعلق النبي صلّى الله عليه وسلّم الحكم بالتأبير والمراد سببه.
فيقال: من أين الدليل على أن هذا هو مراد الرسول صلّى الله عليه وسلّم(9/17)
وكلامه صريح واضح؟ فكيف يجوز لنا أن نحرفه إلى معنى آخر خلاف ظاهر اللفظ؟ ثم إن العلة في كون الثمر للبائع بعد التأبير واضحة، ولا تنطبق على ما إذا تشقق بدون تأبير، وحينئذ لا يصح القياس ولا تحريف الحديث إلى معنى آخر.
وقوله: «إلا أن يشترطه مشتر» فإن اشترطه المشتري يكون له، والدليل على ذلك:
أولاً: عموم قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، والأمر بالوفاء بالعقد أمر به وبأوصافه وشروطه التي تشترط فيه.
ثانياً: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، والشرط الذي التزمه الإنسان هو عهد على نفسه.
ثالثاً: ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً» (1) ، وهذا لا يحرم حلالاً ولا يحلّل حراماً.
__________
(1) علقه البخاري بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجر السمسرة، ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمون على شروطهم (3594) ، والحاكم (2/92) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
وأخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلح بين الناس (1352) عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه الدارقطني (3/27 ـ 28) ، والحاكم (2/49 ـ 50) عن عائشة وأنس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» وصححه النووي في المجموع (9/464) والألباني في الإرواء (1303) .(9/18)
فإذا قال قائل: أيهما أولى للمشتري أن يشترط أن تكون الثمرة المؤبرة أو التي تشقق طلعها له؟ أو أن يبقيها للبائع؟
الجواب: أن يشترط أنها له؛ لأنه يسلم من تردد هذا البائع على الثمرة، ومن المعلوم أن البائع إذا باع النخلة صارت ملكاً للمشتري ليس له عليها سبيل إطلاقاً، فإذا كان فيها ثمرة مؤبرة، ولم يشترطها المشتري صار البائع يتردد على هذه الثمرة، فهذا الذي اشترط أن تكون الثمرة له بعد التأبير أعني المشتري ربما يتضرر إذا لم يشترط، أو على الأقل يتأذى بتردد البائع عليه، فنرى أن الأولى في هذه الحال أن يشترط أن تكون الثمرة له؛ إبعاداً عن النزاع والعداوات والمشكلات.
وهنا مسألة ينبغي لطالب العلم ـ أيضاً ـ أن يفهمها وهي أن الحقوق التي يذكرها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أنها حق للإنسان أو ليست حقّاً هم يذكرونها على سبيل البيان، لكن ينبغي لطالب العلم تربيةً للعالَم أن يقول: الأفضل كذا إذا رأى أن هذا الشرط يبعد عن الخصومة والنزاع، فلا تكن فقيهاً كالقاضي بل كن فقيهاً مربيّاً، فإذا جاء إنسان يستشيرك ويقول: هل ترى أن الأفضل أن أشترط أن تكون الثمرة لي وقد أبرها البائع أو أن أدعها له؟
نقول: الأفضل أن تشترط، فتسلم من التردد والتأذي، وربما تكون هذه النخلة في بيت وسوف يتردد على البيت فهذه مشكلة.
قوله: «وكذلك شجر العنب والتوت والرمان وغيره» يعني: وشجر غيره.(9/19)
وَمَا ظَهَرَ مِنْ نَوْرِهِ كَالمِشْمِشِ وَالتُّفَّاحِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ كَالْوَرْدِ وَالقُطْنِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَالوَرَقُ فَلِمُشْتَرٍ، وَلاَ يُبَاعُ ثَمَرٌ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ،.
قوله: «وما ظهر من نَوره كالمشمش والتفاح، وما خرج من أكمامه كالورد والقطن» كل هذا يكون للبائع، إذا كان قد ظهر؛ لأنه يشبه النخل المؤبر على القول الراجح، أو النخل الذي تشقق طلعه.
قوله: «وما قبل ذلك» ما: اسم موصول مبتدأ.
قوله: «والورق» معطوف على (ما) .
قوله: «فلمشتر» خبر المبتدأ، يعني والذي قبل ذلك والورق للمشتري، ولكن حَسُنَ أن يقرن الخبر بالفاء لفائدتين:
الأولى: أن (ما) الموصولة تفيد العموم فهي كالشرط، ومن المعلوم أن الشرط إذا كان جوابه جملة اسمية فإنها تقرن بالفاء، فلذلك تقترن الفاء بخبره دائماً.
الثانية: أنه أوضح في المعنى؛ لأنه لو قال: وما قبل ذلك، والورق لمشتر، ربما يظن الإنسان أن قوله: «لمشتر» متعلق بمحذوف حالاً من الورق، يعني والورق حال كونه لمشترٍ فيتطلع إلى الخبر، فإذا جاءت الفاء قطعت هذا الاحتمال.
وعلى كل حال ما كان قبل التشقق ـ على ما مشى عليه المؤلف ـ أو قبل التأبير ـ على القول الراجح ولو تشقق ـ وكذلك ما ظهر من العنب وما ظهر من نوره ـ أي: الزهر ـ وما أشبه ذلك، فإنه للمشتري.(9/20)
قوله: «ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه» أيُّ ثمرٍ لا يباع حتى يصلح، فلنمثل بالنخل: فلا يجوز أن تبيع ثمرة النخلة حتى يبدو صلاحها، ويجوز أن تبيع النخلة قبل بدو صلاح ثمرها.
إذن كلامه الأخير في الثمر أنه لا يجوز أن يباع قبل بدو صلاحه، فما صلاحه؟
صلاحه أن يحمرّ أو يصفرّ، والدليل على ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري (1) ، وسئل أنس ـ رضي الله عنه ـ: ما بدو الصلاح؟ قال: أن تحمارّ أو تصفارّ» (2) ، وهذا دليل أثري، وهناك دليل نظري، وهو أنها إذا بيعت قبل بدو صلاحها فإنها لا تصلح للأكل وتكون عرضة للآفات والفساد، وإذا حصل هذا صار نزاع بين البائع والمشتري، والشريعة تقطع كل شيء يكون سبباً للنزاع والبغضاء والفرقة.
فلو أن إنساناً باع ثمرة نخلة خضراء ليس فيها تلوين فالبيع فاسد؛ لأن النهي وقع على عقد البيع، وكل نهي وقع على عمل سواء كان عبادة أو معاملة فإنه يقتضي الفساد، إذن نقول في هذه الحال: البيع فاسد، والثمر للبائع، والثمن للمشتري.
مسألة: إن بدا في النخلة صلاح حبة واحدة فهل يجوز بيعها؟
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها (2197) .(9/21)
الجواب: نعم يجوز؛ لأنه بدا الصلاح، فإن أخذ الحبة التي بدا صلاحها فهل يجوز البيع بعد أخذها؟
الجواب: يجوز، وكذلك لو أخذ الملونة بعد البيع فهذا يجوز، يعني لو أنه كان فيها حبة واحدة بدا صلاحها، ثم إنها أخذت وبيعت بعد ذلك فالظاهر الجواز؛ لأنه بدا صلاحها، فتدخل في الحديث.
مسألة: إذا بدا صلاح النخلة فبيعت. فهل تباع جارتها التي لم يبد صلاحها من نوعها؟
الجواب: إن باع هذه النخلة التي بدا صلاحها على فلان، ثم باع جارتها عليه أو على غيره بعقد آخر جديد فهذا لا يجوز؛ لأن العقد عقدان في هذه الصورة، أما لو باعهما جميعاً وهما من نوع واحد فالبيع صحيح.
وإذا كانت من نوع آخر فالبيع غير صحيح، فمثلاً عندنا نخل سكري وإلى جانبه برحي، فباع سكرية بدا صلاحها وبرحية لم يبد صلاحها فهذا لا يجوز؛ لأنهما نوعان مختلفان، فإذا باع سكرية بدا صلاحها وسكرية أخرى لم يبدُ صلاحها صفقة واحدة فهذا يجوز؛ لأنهما من نوع واحد فكأنهما نخلة واحدة.
وقال بعض أهل العلم: إذا بدا الصلاح في البستان في نخلة واحدة منه جاز بيع جميعه، سواء كان جملة أم تفريداً؛ لأن هذا النخل الآن بدا صلاحه.
وتوسَّع آخرون فقالوا: إذا بدا صلاح ثمرة القرية جاز بيع جميع النخل فيها.(9/22)
لكن القول الأول أصحّ أننا نعتبر كل واحدة بنفسها، فإن بيع جميعاً فإننا نرجع إلى النوع، فما كان من نوع واحد فصلاح الواحدة منه صلاح للجميع، وإذا اختلفت الأنواع فلكل نوع حكمه.
وقوله: «ولا يباع ثمر قبل بدو صلاحه» لا نافية، والنفي هنا للتحريم وإن كان يحتمل الكراهة، لكن الاستدلال بالحديث يدل على أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أرادوا التحريم؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري (1) .
وَلاَ زَرْعٌ قَبْلَ اشْتدَادِ حَبِّه، وَلاَ رَطْبَةٌ وَبَقْلٌ، وَلا قِثَّاءٌ وَنَحْوُه كَبَاذِنْجَانٍ دُونَ الأصْلِ إلاَّ بِشَرْطِ القَطْعِ فِي الحالِ،
قوله: «ولا زرع قبل اشتداد حبه» الزرع يُشترى لأجل الحبّ الذي في السنبل، والحب الذي في السنبل يكون ليناً، حتى يتم نموه وحينئذ يشتد ويقوى، ويكون جوف الحبة من السنبلة أبيض، فلا يباع الزرع قبل أن يشتد حبه؛ لما ذكرنا سابقاً من أنه ربما يحصل فيه الفساد؛ لأن المشتري سوف يبقيه حتى ينضج ويصلح للأكل، فربما يعتريه الفساد في أوان نموه، وحينئذ يقع النزاع والخصومة، وربما ـ أيضاً ـ يقصر البائع في سقيه فيحصل نزاع بينه وبين المشتري، فقطعاً لهذا النزاع نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه (2) ، وعن بيع الحب حتى يشتد (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع (1535) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
(2) سبق تخريجه ص (16) .
(3) سبق تخريجه ص (13) .(9/23)
وقوله: «ولا يباع زرع قبل اشتداد حبه» هذا ما لم يُبع للعلف، فإن بيع للعلف فإنه لا يشترط أن يشتد حبه، بل مجرد ما يبلغ الحصاد يباع ولا حرج في ذلك.
قوله: «ولا رطبة وبقل ولا قثاء ونحوُه كباذنجان دون الأصل إلا بشرط القطع في الحال» كذلك ـ أيضاً ـ لا تباع الرطبة ـ وهي المعروفة عندنا بالبرسيم أو القَتِّ ـ دون أصله إلا بشرط القطع في الحال؛ لأنه لو بيع دون أصله بدون شرط القطع في الحال، فإنه إذا تأخر ولو يوماً واحداً سوف ينمو، وهذا النماء الذي حصل بعد بيعه يكون للبائع وهو مجهول، فيؤدي إلى أن تكون الصفقة مجهولة؛ لأننا لا ندري مقدار نموه فيما بين البيع وجذه؛ ولهذا نقول: لا تبع هذا القت إلا أن تشترط على المشتري أن يقطعه في الحال، هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ.
ولكن الصحيح أنه لا يشترط ذلك، إذا كان قطعه في وقت يقطع مثله؛ لأن تأخير الحصاد لمدة يوم أو يومين أو أسبوع عند الناس لا يعتبر جهالة ولا يوجب نزاعاً، والأصل في البيع الحل والصحة حتى يقوم دليل على المنع، وهذا هو الذي عليه العمل، وكان الناس فيما سبق ـ ولعلهم إلى الآن ـ إذا تم تنامي الرطبة ـ يعني القت ـ باعوها، مع أنه ربما يتأخر الحصاد إلى عشرة أيام، إذ إن هذه الأرض الواسعة التي كلها مملوءة قتّاً لا يمكن أن تُحصد في يوم أو يومين.(9/24)
فالصواب: أنه إذا كان ذلك بعد تمام نمائها، فإنها إذا بيعت لا يشترط القطع في الحال، بل يجزها المشتري حسب ما جرت به العادة.
وقوله: «ونحوه كباذنجان» والباذنجان عندنا باللغة العامية يسمونه (بَيْدَجان) وهذا تحريف لا بأس به؛ لأنه عرفي، ويذكر أن بائع باذنجان عرضه للبيع في السوق، ولكن الناس لم يشتروا منه فقال: حدثنا فلان عن فلان إلى أن بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: (الباذنجان لما أكل له) (1) ! وقصده بذلك ترغيب الناس فيه فتساقط الناس يشترون منه، وهذا مما مثل به العلماء في المصطلح للموضوع لغرض الدنيا؛ لأن أغراض الوضاعين كثيرة، منها إفساد الدين، والدنيا، وغير ذلك.
وهذا لا شك أنه لا يجوز للإنسان أن يرويه للناس إلا مقروناً ببيان وضعه.
وقوله: «دون الأصل» خرج به ما لو باعه مع أصله فإن البيع صحيح، ولهذا لو باع ثمرة النخلة قبل بدو
__________
(1) انظر: «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» ، للشوكاني ص (167) .(9/25)
الصلاح لم يجز، ولو باع النخلة وعليها ثمرة جاز، فإذا باع هذه الأشياء البقول والقثاء وما أشبه ذلك مع الأصل فهو جائز، فلو أن إنساناً عنده أرض كلها بطيخ، فجاء إنسان يريد أن يشتري هذا البطيخ، واشتراه بأصله كان ذلك جائزاً، وما حدث بعد البيع فهو للمشتري، وما نما بعد البيع فهو ـ أيضاً ـ للمشتري؛ لأن الفرع يتبع الأصل ولا عكس.
وقوله: «إلا بشرط القطع في الحال» فإذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها واشترط المشتري أن يجزها في الحال، كان ذلك جائزاً؛ لأن المشتري لا يريد أن يبقيها حتى يبدو صلاحها، ولكن يشترط في هذه الحال أن تكون الثمرة مما ينتفع به إذا قطعت في الحال، فإن لم تكن مما ينتفع به فإن البيع باطل؛ لأنه سبق لنا أن من شروط البيع أن يقع على عين فيها نفع مباح.
فإذا قال: أنا أريد أن أشتري هذا الثمر الأخضر من النخلة وأقطعه الآن.
قلنا: البيع صحيح لكن بشرط أن ينتفع بهذا البلح، وكيف ينتفع به؟
الجواب: للبهائم مثلاً، أو للطيور، أو ربما يجرى عليه التجارب، أو ما أشبه ذلك، المهم أنه إذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فالبيع جائز بشرط أن تكون الثمرة مما ينتفع به إذا قطعت في الحال، وإلا فلا يجوز.
مثاله: باع زرعاً فيه سنبل ولكنه لم يشتد، واشترط البائع على المشتري حصاده في الحال، فالبيع جائز بشرط أن يكون منتفعاً به، والزرع إذا جز قبل أن يشتد يكون علفاً، وهذا أمر قد يكون فيه مصلحة للبائع ومصلحة للمشتري، أما مصلحة المشتري فإنه يحتاجه لعلف الدواب، وأما البائع فإنه ربما يكون محتاجاً إلى الأرض ليبني عليها أو يزرعها زرعاً آخر.
استثنى الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ما إذا باع الثمرة أو الزرع لمالك الأصل فلا بأس، وكيف يبيع على مالك الأصل؟
مثاله: الفلاح زرع هذه الأرض لمالكها، ثم أراد أن يبيع(9/26)
الزرع على صاحب الأرض قبل اشتداد حبه، فهذا يجوز على كلام الفقهاء؛ لأنه باع الفرع لمالك الأصل، وكذلك في الثمرة، الثمرة للبائع؛ لأنه باع النخلة بعد أن أبرها فالثمرة له، لكن بعد أن تمت الصفقة طلب المشتري من البائع الذي كانت الثمرة له أن يبيع عليه الثمرة، فرغب أن يبيعها عليه، فعلى كلام الفقهاء يصح؛ لأنه باع الفرع على مالك الأصل فجاز، ولهم استدلال في الحديث، قالوا: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز أن يشترط المشتري الثمرة التي يستحقها البائع؛ لأنه ملك الأصل، فكذلك ـ أيضاً ـ إذا باعها البائع عليه بعد تمام الصفقة فقد باعها على مالك الأصل.
ولو أن البائع باع النخلة وفيها ثمر مؤبر، واشترط المشتري أن يكون الثمر له أليس هذا جائزاً؟
الجواب: بلى بنص الحديث لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إلا أن يشترطه المبتاع» (1) .
هم يقولون: إذا كان يجوز اشتراط الثمرة التي للبائع لتكون للمشتري، فكذلك إذا باع البائع الثمرة على مشتري الشجرة لتكون الثمرة له.
فنقول: هذا ليس بصحيح ولا يصح القياس؛ لأن اشتراط الثمرة التي للبائع إنما كان في صفقة واحدة فكانت الثمرة تبعاً للأصل، وأما إذا انتهت الصفقة الأولى ثم أراد المتبايعان أن يعقدا صفقة جديدة على الثمرة وهي لم يبد صلاحها، فإن ذلك لا
__________
(1) سبق تخريجه ص (13) .(9/27)
يجوز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن تباع الثمار حتى يبدو صلاحها (1) .
إذن القول الراجح في هذه المسألة: أن الثمرة لا تباع قبل بدو صلاحها ولو على مالك الأصل، وأن الزرع لا يباع قبل اشتداد حبه ولو على مالك الأصل.
أَوْ جَزَّةً جَزَّةً، أوْ لَقْطَةً لَقْطَةً وَالحَصَادُ وَاللَّقَاطُ عَلَى المُشْتَرِي. وَإنْ بَاعَهُ مُطْلَقاً، أَوْ بِشَرْطِ البَقَاءِ،.
قوله: «أو جزة جزة» الرطبة ذكرنا أنها البرسيم أو القَتّ لغتان معروفتان.
مثاله: قال: أبيع عليك هذا البرسيم جزة جزة يعني تجزه الآن فقال: نعم، فيجوز؛ لأنه هنا سوف يجز قبل أن ينمو ولا جهالة فيه؛ لأنه مشاهد ومعلوم، ولكن الجزة لا بد أن تكون في الحال كما سبق.
والصحيح أنه يتبع في ذلك العرف، قد يجزها في الحال، وقد يتأخر عشرة أيام؛ لأن المساحة واسعة وهو يجزها يوماً بعد يوم.
قوله: «أو لقطة لقطة» اللقطة غير الجزة، والذي يلقط مثل الباذنجان والقثاء والكوسة والباميا واللوبيا وهكذا، هذا يباع لقطة لقطة، أي: اللقطة الحاصلة الآن الموجودة يبيعها، أما ما لم يوجد فإنه مجهول وينطبق عليه نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر (2) .
قوله: «والحصاد واللقاط على المشتري» الحصاد في الزرع، واللقاط للقثاء ونحوه، والجذاذ للنخل ونحوه، هذا على
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .
(2) أخرجه مسلم في البيوع/ باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/28)
المشتري؛ لأنه تفريغ ملكه من ملك غيره، فهو المسؤول عنه، لكن لو اشترط المشتري على البائع أن يكون ذلك عليه فصحيح، فلو قال المشتري: أنا اشتريت منك ثمر النخل، لكن ليس عندي من يجذه فأنت أيها الفلاح جُذه لي وأت به، فقال البائع: لا بأس، فالجذاذ عليه بالشرط، وهذا شرط لا يستلزم جهالة ولا غرراً ولا ظلماً ولا ربا، والأصل في الشروط الحل والصحة إلا ما قام الدليل على منعه، ولأن غاية ما فيه أنه أضاف إلى البيع ما يصح عقد الأجرة عليه، وهذا جائز ولا حرج فيه.
قوله: «وإن باعه مطلقاً» الضمير يعود على ما سبق تحريم بيعه، أي: إن باعه مطلقاً، والإطلاق يقول العلماء: يفهم معناه من شرط سابق أو لاحق، أي: باعه من غير شرط القطع، يعني باع الثمرة قبل بدو صلاحها ولم يشترط القطع ولا التبقية.
قوله: «أو بشرط البقاء» فإنه لا يصح البيع؛ وذلك لأن الأمر لا يخلو من أحوال ثلاثة:
إما أن يبيعه بشرط القطع في الحال، أو بشرط التبقية، أو يسكت ولا يشترط لا بقاء ولا قطعاً.
ففي الحال الأولى: يصح البيع بشرط أن ينتفع به، وإلا صار البيع حراماً من جهة أنه إضاعة للمال.
وفي الحال الثانية والثالثة: لا يصح.
مثال ذلك: إنسان أتى إلى فلاح وعنده نخلة فيها ثمر لم يَبْدُ صلاحه، فقال: بعني هذا الثمر، فباعه إياه، واشترط المشتري على البائع أن يبقى إلى الصلاح فهذا لا يصح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم(9/29)
نهى عن ذلك، وإن سكت كذلك لا يصح؛ لأن هذه الصورة الثالثة تدخل في عموم نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها (1) ، ولأن البيع مطلقاً معناه تمكين المشتري من إبقائه، وإذا أبقاه عاد إلى الجهالة كما سبق، ولهذا قال: «وإن باعه مطلقاً ـ أي: بدون شرط ـ أو بشرط البقاء» لم يصح، وكذلك يقال في الزرع قبل اشتداد حبه.
أَوْ اشْتَرَى ثَمَراً لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ بِشَرْطِ القَطْعِ وَتَرَكَهُ حَتَّى بَدَا، أَوْ جَزَّةً أو لَقْطَةً فَنَمَتا أَوْ اشْتَرَى مَا بَدَا صَلاَحُهُ وَحَصَلَ آخَرُ وَاشْتَبَهَا أَوْ عَرِيَّةً فَأتْمَرَتْ بَطَلَ والكلُّ للبائِعِ،
قوله: «أو اشترى ثمراً لم يبد صلاحه بشرط القطع وتركه حتى بدا» فإنه يبطل البيع، أي: اشترى ثمراً قبل أن يبدو صلاحه بشرط القطع، لكنه تهاون وتركه حتى بدا صلاحه فإن البيع يبطل.
والبطلان هل هو لأجل ما حصل من النماء الزائد؟ أو لأنه يتخذه ذريعة إلى بيع الثمر قبل بدو صلاحه؟
الجواب: الثاني؛ لأننا لو قلنا بصحة البيع في هذه الصورة لزم من هذا أن يتحيل، فيبيع الثمر بشرط القطع ثم يتركه حتى يبدو صلاحه، وحينئذ يقع فيما نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا بطل البيع فأين يكون الثمن؟
الجواب: الثمن يرجع به المشتري على البائع إن كان قد أقبضه إياه، ويسقط عنه إن كان لم يقبضه إياه.
قوله: «أو جزة أو لقطة فنَمتا» يعني فإنه يبطل البيع، والجزة فيما يحصد ويجز، واللقطة فيما يلقط.
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .(9/30)
فالأول: كالرطبة يعني (القت) ، أو ما يسمى بالبرسيم.
والثاني: مثل الباذنجان والقثاء وما أشبه ذلك.
مثاله: رجل اشترى جزة أو لقطة بشرط القطع، ولكنه تركها حتى نمت، يقول المؤلف: إن البيع يبطل؛ لأن النماء الحاصل بعد العقد مجهول فيؤدي إلى اختلاط المعلوم بالمجهول، واختلاط المجهول بالمعلوم يصيِّره مجهولاً؛ لأنه مَنْ الذي يحصي نمو هذه الباذنجانة؟ أو نمو هذه الجزة؟ فيبقى حينئذ مجهولاً.
ولكن المسألة فيها خلاف، والصواب: أنه إذا نمت الجزة أو اللقطة برضا البائع فإن البيع لا يبطل، فإذا استأذن المشتري البائع، وقال: أنا أريد أن تمهلني عشرة أيام، أو عشرين يوماً حتى أُصرِّف ما عندي مثلاً، أو حتى يرتفع السعر، فقال: لا بأس، فنمت في هذه المدة فالأصل أن النماء للبائع، لكن البائع سمح وقال: لا بأس، فالبيع حينئذ صحيح.
مثاله: إنسان اشترى لقطة حبحب (البطيخ الأحمر) ثم قال للبائع: أريد أن تمهلني عشرة أيام حتى يرتفع السعر؛ لأن السعر ناقص قال: لا بأس، وهذه الحبحبة الصغيرة نمت وأصبحت كبيرة فيما بين العقد عليها ولقطها، فالزيادة في الأصل للبائع؛ لأن المشتري اشتراها على قدر معلوم، لكن البائع قد سمح وقال: لا بأس، فما دام البائع سمح وأسقط حقه فإننا نقول له: أنت مشكور على ذلك، ولا خيار للبائع.
وأما إذا كان بغير رضاه بأن تهاون المشتري حتى كبرت ونمت فله الخيار إن شاء أمضى البيع؛ لأن الزيادة له، فإذا رضي(9/31)
أن تكون للمشتري فلا حرج عليه، وإن شاء فسخ؛ لأن ملكه الآن اختلط بملك غيره على وجه يصعب التمييز بينهما والمفرِّط في ذلك المشتري فيقال: الخيار للبائع، وهذا القول هو الراجح؛ لأن هذا ليس كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها وتترك حتى يبدو الصلاح، إذ إن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وتترك حتى يبدو الصلاح مخالف للنص، أما هذا فليس فيه مخالفة للنص.
قوله: «أو اشترى ما بدا صلاحه وحصل آخر واشتبها» أي: فإن البيع يبطل، فالزرع يمكن أن يتلاحق، فيكون أول الزرع قد اشتد، وفي النخل أيضاً، في بعض النخيل تخرج في السنة مرتين، فبِيْع الطلع الأول؛ لأنه بدا صلاحه، ثم نما الثاني واشتبه الأول بالثاني، يقول المؤلف: إن البيع يبطل؛ لأنه اختلط المباح بالحرام على وجه لا يمكن التمييز بينهما، واجتناب الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم اجتناب الحرام إلا باجتناب الجميع، وعلى هذا فيبطل البيع.
ولكنك إذا تأملت هذه العلة وجدت أنها لا تقتضي البطلان؛ وذلك لأن الحق بينهما الآن، فإذا اصطلحا على شيء، أو قال من كانت له الثمرة الثانية: هي لك، لا أريدها فما المانع من الصحة؟!
ربما يقول قائل: المانع من الصحة أن هذه الثمرة الأخيرة وقع عليها العقد قبل أن توجد، أو وقع العقد عليها إن كانت قد وجدت قبل بدو صلاحها، قد يقول قائل هكذا، أي: ليست العلة الاختلاط والاشتباه، فالعلة أن هذه الثمرة الجديدة، إما أن تكون(9/32)
مخلوقة عند بيع الأولى فيكون بيعها قبل بدو الصلاح، وإما أن تكون معدومة فيكون ذلك بيع معدوم.
لكن يمكن أن يجاب عن ذلك فيقال: إنَّ تَنازُلَ من له الثمرة الثانية ليس بيعاً ولكنه هبة وتبرع، ومعلوم أنه يجوز أن يتبرع الإنسان بثمر النخل قبل بدو صلاحه؛ لأن المنهي عنه إنما هو البيع، وأما الهبة والتبرع فإن الموهوب له والمتبرع له إما غانم وإما سالم، إما غانم إن بقي الثمر وصلح، وإلا سالم، فليس فيه غرر ولا جهالة ولا ميسر، وهذا القول الثاني أصح، أنه إذا حصلت الثمرة واشتبهت بالأولى فنقول: اصطلحا، فإن تنازل من له الثمرة الثانية فقال: الكل عندي سواء، والثمرة التي حصلت بعد البيع هي له، فحينئذ نقول: البيع يبقى ولا نزاع ولا خصومة.
لكن يبقى إذا أبيا أن يصطلحا وأبى من له الثمرة الثانية أن يهبها للأول فماذا نصنع؟
يقول الفقهاء الذين قالوا بعدم بطلان البيع: يجبرون على الصلح، فيجبر المشتري ومن له الثمرة الجديدة على الصلح؛ لأنه لا يمكن الانفكاك إلا بهذا، وكوننا نبطل البيع قد يكون فيه ضرر على البائع أو المشتري، إن كانت الثمرة قد رخصت فالضرر على البائع، وإن كانت الثمرة قد زادت قيمتها فالضرر على المشتري، فإن أبيا إلا بثالث يصلح بينهما قلنا: لا بأس، فنقيم ثالثاً يصلح بينهما وتنتهي المشكلة.
قوله: «أو عرية فأتمرت» العريَّة مأخوذة من العرو بمعنى الخلو، واختلف العلماء في تفسيرها، فقال بعض أهل العلم: إن(9/33)
العرية هي هبة الثمرة وسميت عارية؛ لأنها خالية من العوض. ولكن الصحيح أن العرية هي بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر لمن احتاج إلى الرطب وليس عنده ثمن يشتري به؛ وسميت بذلك لأنها عارية عن النقدين فإنه يخرص الرطب حتى يكون مساوياً للتمر القديم في الكيل، ثم يشتريها صاحب التمر القديم، وبشرط أن تكون خمسة أوسق أو أقل، فهذا الفقير الذي ليس عنده مال وعنده تمر قديم جاء للفلاح فقال له: أنا محتاج للرطب، بعني ثمرة هذه النخلة التي تصبح بعد يبسها خمسين صاعاً بخمسين صاعاً من التمر الذي عندي، فهذا جائز؛ لأن خمسين الصاع أقل من خمسة أوسق وهذا محتاج وليس عنده مال.
فهذا أعطاه التمر وذاك تخلى عن النخلة، فَقَبْضُ التمر بالكيل وقبض النخلة بالتخلية، فصاحب النخلة خلاها له، وذاك أعطاه التمر بالكيل ثم إن المشتري تركها حتى أتمرت.
قوله: «بطل» أي: إن البيع يبطل؛ لأن الشرع إنما أجاز بيع الرطب بالتمر ـ مع أن الأصل أنه محرم ـ من أجل دفع حاجة هذا الفقير الذي هو محتاج للرطب، والآن لما أهمل وتركها حتى أتمرت، زالت العلة التي من أجلها أجاز الشرع بيع الرطب بالتمر.
ولا يمكن أن نفتح للناس باب الخداع، نقول: لو أننا صححنا البيع وألزمنا بائع النخلة ببقاء العقد تحيل الناس على هذا، فلذلك يقول المؤلف: إذا اشترى عرية فأتمرت بطل البيع.
قوله: «والكل للبائع» أي: الكل في هذه المسائل كلها إذا بطل البيع رجع للبائع؛ لأنه ملكه، ويأخذ المشتري الثمن من البائع(9/34)
إن كان قد أقبضه إياه، وإن كان لم يقبضه إياه سقط عن ذمته.
وَإِذَا بَدَا مَا لَهُ صَلاحٌ فِي الثَّمَرَةِ واشتَدَّ الحَبُّ جَازَ بَيْعُهُ مُطْلَقاً وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ
وللمشتَري تبقِيَتُهُ إِلى الحَصادِ والجَذَاذِ ويَلْزَمُ البائِعَ سَقْيُهُ إِن احْتاجَ إِلى ذلكَ وإنْ تَضَرَّرَ الأَصْلُ
قوله: «وإذا بدا ما له صلاح في الثمرة» يعني بالثمرة ثمرة النخل، وثمرة العنب، وكل ما يسمى ثمراً، وهو ما تخرجه الأشجار؛ لأن ما يخرج من الشجر ثمر، وما يخرج من الأرض زرع.
قوله: «واشتد الحب» أي: حب الزرع
قوله: «جاز بيعه مطلقاً» يعني بدون شرط، ودليل الجواز أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه (1) ، وعن بيع الحب حتى يشتد (2) ؛ وجه الدلالة أن (حتى) للغاية، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فإذا كان ما قبل بدو الصلاح واشتداد الحب محرماً كان ما بعده جائزاً.
وقوله: «جاز بيعه مطلقاً» يبين إطلاق قوله:
«وبشرط التبقية» وبشرط القطع من باب أولى، وعلى هذا فنقول في بيع الثمار بعد بدو صلاحها والحب بعد اشتداد حبه: له ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يبيعه بشرط القطع، فإنه يصح البيع ويقطعه.
الحال الثانية: أن يبيعه بشرط التبقية، فهذا جائز.
الحال الثالثة: أن يبيعه ويسكت، فهذا جائز، والدليل نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع الحب حتى يشتد.
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .
(2) سبق تخريجه ص (13) .(9/35)
قوله: «وللمشتري تبقيته إلى الحصاد والجذاذ» للمشتري أن يبقيه إلى «الحصاد» وهذا في الزرع، «والجذاذ» وهذا في الثمر، وله أن يجذه قبل ذلك؛ لأنه ملكه، المشتري الآن ملك الثمرة فله أن يجذها قبل أن يأتي أوان جذها، وله أن يبقيها حتى يأتي أوان جذها، وكذلك في الزرع له أن يحصده قبل وقت الحصاد، وله أن يبقيه إلى وقت الحصاد؛ لأنه ملكه.
لكن هذا ليس على إطلاقه بل يقال بشرط ألا يتضرر الأصل بعد تأخيره عن وقت الحصاد والجذاذ، فإن تضرر فليس له ذلك، ويقال: إن ثمرة النخل إذا لم تجذ في أوان جذها ضرَّ النخلة، فإذا ثبت قلنا للمشتري: إذا جاء وقت الجذاذ لا بد أن تجذ ولا يمكن أن تؤخر؛ لما في ذلك من الضرر، كذلك وفي الحصاد إذا جاء وقت الحصاد وقال: ليس عندي آلة تحصد، نقول: لا بد أن تحصد؛ لأن الحق للبائع.
إذاً قول المؤلف: «تبقيته إلى الحصاد والجذاذ» يفهم منه أنه ليس له أن يبقيه إلى ما بعد ذلك إلا برضا البائع، وهو كذلك.
قوله: «ويلزم البائع سقيه» أي سقي الزرع، وسقي الثمر، والمراد سقي الشجر لكنه قيد ذلك بقوله:
«إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل» بأن يكون الوقت حارًّا وتيبس أصوله فيضمر الثمر ويتغير، فنقول: يلزم البائع أن يسقيه حتى وإن الأصل.
فإن قال قائل: كيف نقول إنه يلزمه سقيه وإن تضرر(9/36)
الأصل، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ؟ قلنا: ليس هنا مضارة، البائع باعه والعادة جرت أنه يلزمه حفظه والقيام عليه إلى الجذاذ، فهو الذي ألزم نفسه بذلك، وهو الذي رضي لنفسه بالضرر فيلزمه.
وقوله: «إن احتاج إلى ذلك» مفهومه إن لم يحتج فإنه لا يلزمه، وهذا هو الصحيح، خلافاً للمذهب في هذه المسألة، حيث قالوا: يلزمه سقيه سواء احتاج أم لم يحتج، والصواب أنه لا يلزمه إلا إذا احتاج.
وَإِنْ تَلِفَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ رجَعَ عَلى البَائِعِ
قوله: «وإن تلفت بآفة سماوية» الضمير يعود على الثمرة، أي: إذا تلفت الثمرة بعد أن بيعت بعد بدو الصلاح بآفة سماوية مثل حر شديد أفسد الثمر، أو بَرَدٍ أسقط الثمر، أو جرادٍ أكلها، فالآفة السماوية أعم مما يظهر من لفظها، إذ إن المراد بها ما لا يمكن المشتري تضمينه، سواء كان بآفة سماوية لا صنع للآدمي فيه، أو بصنع آدمي لا يمكن أن يضمن، إما لسلطته أو لجهالته كما لو نزل الجند ـ الأعداء ـ فيما حول البلد وأتلفوا البساتين فهؤلاء لا يمكن تضمينهم، فيكون إتلافهم كالتلف بالآفة السماوية، وهذا قول وجيه.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/326) ، وابن ماجه في الأحكام/ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه الإمام أحمد (1/313) ، وابن ماجه (2341) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ. وأخرجه مالك (2/745) مرسلاً، وللحديث طرق كثيرة يتقوى بها، ولذلك حسنه النووي في الأربعين (32) ، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/210) والألباني في الإرواء (896) .(9/37)
قوله: «رجع على البائع» أي: يرجع المشتري، على البائع بكل الثمن الذي دفعه له، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» (1) ؟ وثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه أمر بوضع الجوائح (2) ، واللفظ الأول مفصل: «إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق» .
فإن قال البائع: كيف أضمن وهو في ملك المشتري الآن؟
قلنا: لأن بيعك إياه التزام منك بحفظه والقيام عليه حتى يأتي وقت الجذاذ، فهي الآن في حفظك وإن كان المشتري قد ملكها وله أن يجذها، وله أن يبيعها، لكنها مضمونة عليك؛ لكونك أنت المطالب بحفظها إلى وقت الجذاذ.
يستثنى من ذلك ما إذا أخَّر المشتري جذها عن العادة فإن الضمان عليه لا على البائع، فإذا قدر أن المشتري تهاون في جذها في وقت الجذاذ حتى جاء المطر فأفسدها فهل يرجع على البائع؟ لا يرجع؛ لأنه هو الذي فرط، فإذا قال المشتري: أنا لي سيارات أجذ النخل وأحمله ولم تأت السيارات بعد، وتركها حتى فات وقت الجذاذ وتلفت بآفة سماوية، فهنا لا يرجع؛ لأن هذا التفريط من نفس المشتري فلا يرجع على البائع بشيء.
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الجوائح (1554) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في البيوع/ باب وضع الحوائج (1554) (17) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(9/38)
مسألة: إذا كان الذي حصل على الثمر ليس تلفاً ولكنه نقص، بمعنى أن بعض القنوان تغير، صار حشفاً فهل يضمن البائع النقص؟ نعم يضمن النقص؛ لأنه إذا ضمن الكل ضمن البعض. فهذا التمر الذي حشف وصار لا يأكله إلا البهائم هو كالتالف في الواقع، فضمان النقص على البائع، فإن كان النقص بسبب المشتري، كأن يكون المشتري لا يعرف الجني والخراف ففسد الثمر، فهل يضمنه البائع؟ الجواب: لا؛ لأنه من فعل المشتري.
وإنْ أَتْلَفَهُ آدمِيٌّ خُيِّرَ مُشْتَرٍ بَيْنَ الفَسْخِ والإِمْضَاءِ ومُطَالَبَةِ المُتْلِفِ
وصَلاحُ بَعْضِ الشَّجَرةِ صَلاَحٌ لَها ولِسَائِرِ النَّوْعِ الَّذِي فِي البُسْتانِ
قوله: «وإن أتلفه آدمي خُيِّرَ مشتر بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف» إذا أتلف الثمر آدمي معين يمكن تضمينه، فللمشتري الخيار إن شاء فسخ البيع وحينئذ يكون الضمان على البائع، وإن شاء أمضى البيع وطالب المتلف؛ ولهذا قال: «والإمضاء ومطالبة المتلف» .
ومن المعلوم أنه إذا كان الخيار له فسوف يختار ما هو أنفع له، فإذا قدر أن ثمن الثمرة زاد والمتلف تسهل مطالبته فما الذي يختاره؟ يختار الإمضاء ومطالبة المتلِف، فمثلاً إذا قدر أنه اشترى الثمرة بمائة، ثم جاء إنسان وأتلفها وصارت تساوي مائتين، أيهما أحسن أن يفسخ البيع ويأخذ مائة من البائع، والبائع يرجع على المتلف بمائتين؟ أو أن يأخذ من المتلف مائتين؟ الثاني لا شك، والعكس بالعكس، إذا كانت الثمرة قد نقصت فسيختار الفسخ ويرجع على البائع، وكذلك لو كان المتلف مماطلاً أو فقيراً والبائع غنياً فسيختار الفسخ، والعكس بالعكس، يختار الإمضاء.(9/39)
فإذا قال قائل: كيف تخيِّرونه بين الفسخ والإمضاء، والثمرة ملكه، وقد تلفت على ملكه فإذا تلفت فليطالب من أتلفها؟
قلنا: هذا سؤال وجيه ووارد، لكن لما كانت الثمرة في ضمان البائع فعليه حفظها وحراستها، فكأنه هو المفرط في ذلك حتى أتلفه من أتلفه من الآدميين، فصح أن نقول للمشتري: إن شئت فافسخ البيع؛ لأنها وإن كانت في ملكك أيها المشتري لكنها في ضمان البائع، فهذا وجهه.
لكن لو قيل: بأنه لا يستحق الفسخ لكان له وجه؛ لأن حقيقة الأمر أن الثمرة تلفت في ملكه، ومطالبة المتلف ممكنة فلا يرجع على البائع، نعم لو تبين أن البائع مفرط كما سبق ورأى الرجل قد صعد الشجرة ليجذ الثمرة، فحينئذ نقول: القول بأنه يخير بين الفسخ وبين الإمضاء ومطالبة المتلف قول وجيه.
قوله: «وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان» مثال ذلك: البستان فيه أنواع من التمر كالسكري والبرحي وأم حمام، بدا الصلاح في واحدة من البرحي يقول المؤلف: إن بدو الصلاح في هذه الشجرة صلاح لها ولسائر النوع، الذي هو البرحي، أما السكري وأم الحمام فلا يكون صلاح البرحية صلاحاً لهما؛ لأن النوع مختلف.
وظاهر كلام المؤلف أنه سواء بيع النوع جميعاً أو بيع تفريداً، بأن بعنا التي بدا صلاحها وانتقل ملكها إلى المشتري، ثم بعنا البقية من نوعها على آخرين، فالكل صحيح حيث ذكر(9/40)
المؤلف أن صلاح بعض الثمرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان، وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد: أنه إذا بدا صلاح في شجرة فهو صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان.
أما المذهب فإنه إذا بِيعَ النوع جميعاً فصلاح بعض الشجرة صلاح للنوع؛ لأنه لما بيع جميعاً صار كأنه نخلة واحدة، وصلاح بعض النخلة صلاح لجميعها، فالعقد يقع عليها جميعاً، أما إذا أفرد فإنك إذا بعت ما بدا صلاحه ثم جددت عقداً لِمَا لم يبد صلاحه، صدق عليك أنك بعت ثمرة قبل بدو صلاحها، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1) ، والمذهب أصح مما هو ظاهر كلام المؤلف.
وقال بعض العلماء: إن صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولنوعها ولجنسها، فمثلاً إذا كان عند إنسان بستان فيه عشرة أنواع من النخل، وبدا الصلاح في نوع منها جاز بيع الجميع صفقة واحدة، الذي من نوعه والذي ليس من نوعه، لكن المذهب لا يعتبرون ذلك، يعتبرون النوع، والمذهب أحوط وإن كان هذا القول قوياً جداً؛ لأن الصفقة واحدة واختلاف الأنواع لا يخرجها عن الجنس، والتمر جنس واحد كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه «التمر بالتمر مثلاً بمثلٍ» (2) ، فلما اعتبره النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئاً واحداً قلنا: إنه إذا بيع جميعاً وقد لوَّن منه واحدة
__________
(1) سبق تخريجه ص (16) .
(2) أخرجه مسلم في المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1587) (81) عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ.(9/41)
كفى، لكن هل يجوز بيع العنب لأنه بدا صلاح ثمر النخل؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس من جنسه فلكل واحدة حكم نفسها.
وبُدُوُ الصَّلاحِ في ثَمَرِ النَّخْلِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وفي العِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهَ حُلْواً
وَفِي بَقِيَّةِ الثَّمَرِ أَنْ يَبْدُوَ فِيهِ النُّضْجُ ويَطِيبَ أَكْلُهُ، ومَنْ بَاعَ عَبْداً لَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِبائِعِهِ
قوله: «وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر» وذلك للحديث المتقدم (1) ، ولأن ذلك علامة على نضجها، يعني أن تلون، ولون النخل إما أحمر وإما أصفر، ولا نعلم لوناً غير الأحمر والأصفر، ولو فرض أنه وجد بعض النخل أخضر، ثم إذا قارب النضوج صار أسود مثلاً، فالحكم يدور مع العلة، وتقييد ذلك بالاحمرار والاصفرار بناء على الغالب، وما جرى بناءً على الغالب فليس له مفهوم.
قوله: «وفي العنب أن يتموَّه حلواً» شرط شرطين: أن يتموَّه، وأن تظهر فيه الحلاوة، ومعنى يتموَّه يعني يلين، يصير ماءً؛ لأن العنب ما دام حصرماً فهو قاسٍ، فإذا لان فهذا هو التموُّه، لكن لا بُد مع ذلك أن يكون حلواً، احترازاً مما لو تموه بآفة كقلة الماء ـ مثلاً ـ فإنه لا يكون ذلك صلاحاً بل لا بد أن يتموه حلواً.
وعبر بعض العلماء بقولهم: «العنب أن يسود» قياساً على تلوين النخل، وهذا صحيح بالنسبة لما صلاحه باسوداده، لكن هناك عنب لا يسود، ولو بلغ الغاية في النضوج.
وربما يوجد ـ أيضاً ـ عنب لا يتموه، عنب قاسٍ ولو كان قد بدا صلاحه، ولهذا عبر بعض أهل العلم بعبارة جامعة قال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (21) .(9/42)
«أن يطيب أكله» كما ذكره المؤلف في بقية الثمار، ولذلك يوجد الآن عنب موجود في الأسواق ليس متموهاً ولا مسوداً، بل أخضر قاس، ومع ذلك هو حلو يطيب أكله.
قوله: «وفي بقية الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله» هذا في بقية الثمر مثل البرتقال والخوخ والتفاح وغير ذلك، وكلها تدور ـ حتى ثمار النخيل وثمار العنب وغيرهما ـ على إمكان أكله واستساغته؛ لأنه إذا وصل إلى هذا الحد أمكن الانتفاع به، وقبل ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا أحياناً، وهو ـ أيضاً ـ إذا وصل لهذه الحال من النضج قلّتْ فيه الآفات والعاهات.
ويستفاد من هذا النهي (1) أن الشارع ينهى عن كل ما يوجب الخصومة والبغضاء والعداوة؛ لأنه إذا حصل اختلاف ومنازعات صار هناك عداوة وبغضاء وخصومة، فلهذا نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «ومن باع عبداً له مال فماله لبائعه» مناسبة ذكر هذه المسألة في باب بيع الأصول والثمار؛ لأن العبد أصل والمال فرع، فماله كالثمرة وهو نفسه كالأصل، فلهذا ذكروها في هذا الباب.
وقوله: «عبداً» هنا تشمل العبيد والإماء، يعني من باع مملوكاً له مال فماله لبائعه، قد يبدو للإنسان أن هناك تناقضاً في العبارة، «له مال» ثم قال: «فماله لبائعه» ، فعلى هذا يرد على
__________
(1) ما سبق من نهي النبي (ص) عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ص (16) .(9/43)
المال الواحد مالكان وهذا غير ممكن، أن يرد على مال واحد مالكان من جهة واحدة، لكن قوله: «ومن باع عبداً له مال» اللام هنا ليست للملك ولكنها للاختصاص، كما تقول: للفرس لجام وللدابة مقود، وما أشبه ذلك، فاللام هنا للاختصاص.
إذاً ما هو المال الذي يكون للعبد؟ هو المال الذي اختصه سيده به، وقال له: خذ أيها العبد هذا المال اتجر به، سُكَّراً أو أرزاً أو سيارات أو غير ذلك أعطاه إياه، قال له: هذا بيدك أنت بعه واتجر به، نقول: هذا المال للسيد ملكاً وللعبد اختصاصاً.
إذاً قوله: «عبداً له مال» إضافة المال للعبد هنا إضافة اختصاص.
وقوله: «فماله لبائعه» هذه اللام في بائعه لام الملك يعني للتملك، فالمال للبائع، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) ، وهنا نسأل هل العبد يملك بالتمليك أو لا؟ يعني لو أن إنساناً رأى عبداً عليه ثياب رثة ويحتاج إلى ثياب تقيه البرد، فملَّكه ثوبه فقال: خذ هذا ثوباً لك، هل يملك هذا الثوب؟ الجواب: عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فماله للذي باعه» يشمل ما كان بيده اختصاصاً أو تملكاً وأنه لا يملك.
وقال بعض أهل العلم: إنه يملك بالتمليك، وفصَّل آخرون فقالوا: يملك بتمليك سيده دون غيره؛ لأن تمليك سيده إياه يعني رفع ملكه عن هذا الذي ملَّكه إياه، والحق للسيد، وعلى هذا يكون ما ملكه سيده ملكاً له، ليس لسيده، فيما بعد أن يرجع فيه
__________
(1) سبق تخريجه ص (13) .(9/44)
على سبيل الرجوع في الهبة، وللعبد أن يتصرف فيه كما شاء بدون إذن السيد؛ لأنه ملكه.
وظاهر الحديث العموم «فماله للذي باعه» حتى لو قلنا يملك بالتملك، صار الذي ملَّكه السيد له، وإذا كان له دخل في عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فماله للذي باعه» .
مسألة: إذا مات العبد وبيده مال أعطاه له السيد ليتجر به، وللعبد ابن حر، فمن الذي يرث هذا المال؟ إن قلنا: بأنه يملك بالتمليك فماله لابنه، وإن قلنا: لا، فماله للسيد، وقد ذكر ابن رجب في القواعد هذه المسألة وفرع عليها مسائل كثيرة، وهو اختلاف العلماء هل العبد يملك بالتمليك أو لا يملك؟
إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ المُشْتَري فإِنْ كانَ قَصْدُهُ المالَ اشتُرِطَ علمُهُ وسائِرُ شُرُوطِ البَيْعِ وإلاَّ فلا وثيابُ الجَمَالِ للبَائِعِ، والعَادَةِ للمُشْتَرِي.
قوله: «إلا أن يشترطه المشتري» «الهاء» في «يشترطه» تعود على المال، فإذا اشترط المشتري المال فهو له للحديث: «إلا أن يشترطه المبتاع» فهو نص في ذلك، وحتى لو لم يرد النص في هذا فإن عموم قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] يشمله؛ لأن الوفاء بالعقود يشمل الوفاء بأصل العقد ووصف العقد، والشروط المشروطة في العقد أوصاف له، ولحديث: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (1) .
لكن هنا يشكل علينا إذا قدرنا أن هذا العبد عنده عشرة آلاف ريال نقداً، واشتراه المشتري بمائة ألف، واشترط أن المال الذي معه يتبعه فتكون هذه المسألة من مسألة (مد عجوة ودرهم) ؛
__________
(1) سبق تخريجه ص (18) .(9/45)
لأنه فيه دراهم ومع أحد العوضين من غير الجنس، فهل يصح هذا أو لا؟ الجواب: فيه تفصيل يقول المؤلف:
«فإن كان قصده المال اشتُرط علمه وسائر شروط البيع وإلا فلا» يعني إذا كان قصده المال فلا بد من علمه بالمال وسائر شروط البيع، أي: كل شروط البيع الثمانية، ولا بد أن يكون خالياً من الربا وإلا فلا.
إذاً كيف نعلم أن قصده المال أو أن قصده العبد؟ نعلم ذلك بالقرائن، إذا كان هذا الرجل محتاجاً إلى خادم ـ أعني المشتري ـ ويبحث عن رقيق يملكه ويجعله خادماً له، لكنه اشترط أن يكون ماله تبعاً له؛ لأنه لا يحب أن يصرف هذا العبد عن تصرفه الذي كان عليه من قبل؛ لأن المال لو أخذه البائع الأول ربما يتأثر العبد، فاشترط أن يكون ماله تبعاً له من أجل راحة العبد فهنا: لا يشترط علمه بالمال، ولا يشترط ألاّ يكون بينه وبين عوضه ربا، ولا يشترط أي شيء من الشروط، فلو قيل للمشتري: أنت اشترطت أن يكون ماله تبعاً له، فهل تعلم ماله؟ قال: لا، ما أعلمه، لكنني لا يهمني المال، يهمني العبد، قلنا: لا يضر أن تجهل المال؛ لأن قصدك العبد، لكن لو قال المشتري: قصدي المال، حيث إني رأيت هذا العبد يتجر في محل تجارة وهو ناجح، والمحل فيه أنواع من التجارة، فنقول: إنما الأعمال بالنيات، فما دام قصدك المال لا بد أن تجرد المال كله، حتى علبة الكبريت، ولا بد أن يكون هذا المال لا يجري(9/46)
فيه الربا بينه وبين الثمن، فليفرد المال بعقد والعبد بعقد آخر، حتى لا ترد علينا مسألة «مد عجوة» ، ولا بد أن يكون المبيع مشاهداً معلوماً، المهم أنه يشترط جميع شروط البيع.
فإذا قال قائل: ما الدليل؟ قلنا: عندنا حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هذا الحديث العظيم الذي تنبني عليه كل مسائل الدين وهو: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، فإن كان يريدهما جميعاً فلا بد من علمه وسائر شروط البيع.
قوله: «وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري» أي: ثياب الجمال للبائع؛ لأنها خارجة عن حاجة العبد، وأما ثياب العادة فهي للمشتري.
وهل تختلف الأعراف في هذا، بمعنى أن ثياب جمال في عُرف ثياب عادة في عرف آخر وبالعكس؟ الجواب: نعم لا شك أن هذا يتبع العادة في ذلك، فيقال: إن عُدَّ هذا من ثياب الجمال فهو للبائع، وإن عد من ثياب العادة فهو للمشتري.
فإن كان معه ساعة وقلم فهي للبائع؛ لأنها ليست من الثياب لكن على الأقل من المال.
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ، ومسلم في الإمارة/ باب قوله: «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر رضي الله عنه.(9/47)
بَابُ السَّلَمِ
قوله: «باب السَّلَمِ» السَّلمُ مأخوذ من التسليم والإسلام، ويقال: السلف، فزعم بعض العلماء أن السلف لغة الحجاز، وأن السلم لغة العراق.
وقال آخرون: بل هما بمعنى واحد، ويستعمل هذا هنا وهناك، وهذا هو الصحيح، والدليل على هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الحجازيين، بعث في مكة وهاجر إلى المدينة وكلاهما من الحجاز، ومع ذلك يقول: «من أسلم في شيء فليسلم» (1) ، فالصواب الذي عليه المحققون من أهل اللغة أنه لا فرق بينهما، وأنّ أسلف وأسلم بمعنى واحد في لغة الحجاز والعراق، فهو إذن مأخوذ من التسليم؛ وذلك لأن المسلِم يقدم الثمن إلى المسلَم إليه، وأما السلف فهو مأخوذ من التقديم.
وصورة ذلك: أن تأتي لرجل فلاح وتقول: يا فلان خذ هذه عشرة آلاف ريال بمائة كيلو من التمر تحل بعد سنة، فهذا هو السلم؛ لأن المشتري قدم الثمن، والمثمن مؤخر.
والسّلم جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح:
أما الكتاب فقوله ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري في السلم/ باب السلم في وزن معلوم (2240) ، ومسلم في البيوع/ باب السلم (1604) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ واللفظ للبخاري.(9/48)
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . وقد استدل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بهذه الآية على جوازه (1) ؛ لأن قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} يعم ما إذا كان الدين هو الثمن أو المثمن، فإن كان الدين هو المثمن فهذا هو السلم.
وأما السنَّة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» ، أو «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (2) .
وأما الإجماع فقد انعقد الإجماع على ذلك.
وجواز السلم هو القياس الصحيح الموافق للأصول خلافاً لمن قال: إن السلم على خلاف الأصول؛ لأنه بيع معدوم والواقع أنه ليس بيع معدوم في الحقيقة؛ لأنه بيع موصوف في الذمة، أنا لم أبع عليك شيئاً معدوماً ليس في ملكي حتى يدخل في الجهالة والغرر، هذا موصوف في الذمة، وأيضاً القاعدة أن كل ما ثبت بالشرع ليس مخالفاً للقياس، بل كل قياس يخالف ما جاء به الشرع فهو قياس باطل، لكنه قد يخفى دخول ذلك في القياس على بعض الناس فيظنه مخالفاً للقياس، فالصواب أن السلم على وفق القياس؛ لأن فيه مصلحة للبائع وللمشتري، أما المشتري فمصلحته أنه يحصل على أكثر، وأما البائع فمصلحته أنه يتعجل له الثمن.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (14064) ؛ والطبري في تفسيره (6/43) ؛ والحاكم (2/286) ؛ والبيهقي (6/18) ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(2) سبق تخريجه ص (48) .(9/49)
ونقول فيما ادعي أنه على خلاف القياس: إنه على وفق القياس، ونبين ذلك، أو نقول: خالف القياس لمصلحة راجحة، والمحظور الشرعي إذا قابلته مصلحة راجحة أرجح منه أصبح جائزاً بمقتضى ترجح المصلحة، وإذا كان الشرع يحرم الشيء؛ لأن إثمه أكبر، فإنه يبيح الشيء إذا كانت مصلحته أكبر، ولهذا العبارة المشهورة (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) هذه يجب أن تكون مقيدة بما إذا تساوت المفاسد والمصالح، أو غلب جانب المفاسد، وإلا فإنه قد يكون في بعض الأشياء مصلحة ومضرة فترجح المصلحة، فيحلل من أجل هذا الرجحان.
كذلك فإن السلم ينضبط بالصفات، ولهذا لا يصح فيما لا ينضبط بالصفات، فكيف يصح أن يكون مخالفاً للأصول وعلى خلاف القياس؟! بل هو القياس والأصول؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية واسعة سهلة ميسرة، والعقود فيها من هذه الجهة أربعة أنواع:
حالّ بحالٍّ، ومؤجّل بمؤجلٍ، ومؤجّل ثمنه معجّل مثمنه، ومعجّل ثمنه مؤجّل مثمنه.
الأول: الحال بالحال كأن تقول: اشتريت منك هذا الكتاب بعشرة ريالات، هذا حال بحال ولا إشكال فيه.
الثاني: المؤجل بمؤجل أن تقول اشتريت منك كتاباً صفته كذا وكذا تسلمنيه بعد سنة بعشرة ريالات مؤجلة إلى ستة أشهر، وهذا لا يصح؛ لأنه بيع كالئ بكالئ أي مؤخر بمؤخر.
الثالث: أن يعجل الثمن ويؤخر المثمن وهذا هو السلم.(9/50)
الرابع: أن يعجل المثمن ويؤخر الثمن وهذا كثير في المعاملات.
ذكرنا الصورة الثانية: أن يكون كل من الثمن والمثمن مؤجلاً، وقلنا: هذا لا يصح، وهذا يقع كثيراً بين الناس اليوم، لكنهم لا يعلمون عن حكمه، فيشتري منه الشيء مؤجلاً ـ مثلاً ـ إلى سنة ثم يعطيه شيكاً مؤجلاً لمدة ستة أشهر، يعني لا يقبضه إلا بعد ستة أشهر.
فالثمن مؤجل والمثمن مؤجل، فهذا لا يصح؛ لأن كلًّا منهما مؤجل ولا بد أن يكون أحدهما أو كلاهما مقبوضاً، أما مع تأجيلهما فلا يصح.
فإن تأخر القبض بدون تأجيل، مثل أن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بمائة ريال ولم يسلمه، على أن يأتي به العصر أو الغد أو بعد غد لكن الثمن غير مؤجل هل يصح أم لا؟
المذهب: لا يصح، قالوا: لأن هذا بيع دَين بدين، إذ أنه ليس واحد منهما معيناً، لا عُيّن الثمن، ولا عُين المثمن.
ولكن الصحيح أن هذا صحيح، والمحظور أن يكون كل منهما مؤجلاً، أما إن لم يكن فيه تأجيل فإنه لا يشترط القبض، إلا شيئاً واحداً لا بد فيه من القبض، وهو بيع الربوي بجنسه.
فما السلم؟ هل هو بيع مستقل، أو نوع من البيع؟ الصحيح أنه نوع من البيع، لا يخرج عن كونه بيعاً.(9/51)
وَهُوَ عَقْدٌ عَلَى مَوْصوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ بِمَجْلِسِ العَقْدِ وَيَصِحُّ بِأَلفَاظِ البَيْعِ والسَّلَمِ والسَّلَفِ ...
قوله: «وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد» التعريف لا بد أن يكون جامعاً مانعاً وهو الحدّ، يعني يقال: تعريف، ويقال: حدّ، فهنا يصلح أن نقول: عَرَّفَ السَّلَم، ويصلح أن نقول: حَدَّ السلم، ويصلح أن نقول: تعريف السَّلَم كذا، وحدّ السلم كذا، والتعريف لا بدّ أن يكون جامعاً مانعاً، جامعاً لجميع أفراد المحدود، مانعاً لدخول غيره، فإن لم يكن مانعاً أو لم يكن جامعاً فإنه لا يصح.
فلننظر الآن إلى حد السلم:
قوله: «عقد على موصوف» احترازاً من المعين، فلا يصح السلم في المعين؛ لأنه لا حاجة إلى الإسلام فيه، ما دام حاضراً يباع بيعاً بدون أن يكون سلماً.
مثال ذلك: رجل عنده مائة صاع برٍّ في أكياس، فقال له آخر: أسلمت إليك مائة ريال بهذا البر، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس على موصوف، فهذا على معين، إذاً لا يصح، حتى وإن كانا قد اتفقا على أن البائع لا يسلم هذا البر إلا بعد سنة فإنه لا يصح ولا يكون سلماً.
وقوله: «في الذمة» احترازاً من الموصوف المعين؛ لأن هناك شيئاً موصوفاً معيناً ليس في الذمة، مثل أن يقول: أسلمت إليك أربعين ألفاً بسيارتك التي في الكراج، صفتها كذا وكذا، فهذا موصوف معين فلا يصح السلم فيه؛ لأن هذا كالمعين الحاضر، فالمؤلف اشترط أن يكون موصوفاً في الذمة.(9/52)
أما إن قال: أسلمت إليك هذه الأربعين ألفاً بسيارة بعد سنة فهذا يصح؛ لأنه موصوف في الذمة، ولم يعينه وليست موصوفة معينة في مكان معين.
وقوله: «مؤجل» أيضاً لا بد فيه من التأجيل، فإن لم يكن مؤجلاً فإنه لا يصح سلماً.
مثال ذلك: أن يقول: أسلمت إليك مائة الريال التي بيدي الآن بمائة صاع بر، فحكم هذا العقد لا يصح سلماً؛ لأن السلم لا بد أن يكون مؤجلاً، والدليل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فليسلف في شيء معلوم إلى أجل معلوم» (1) . فهل قوله: «إلى أجل معلوم» الشرط في الأمرين جميعاً أن يكون أجلاً وأن يكون معلوماً، أو الشرط عائد إلى المعلوم فقط؟
إن قلنا بالأول فلا بد أن يكون مؤجلاً، وإن قلنا بالثاني فلا يشترط التأجيل، ولكن إن أجلت فليكن الأجل معلوماً.
ومن ثم اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فمنهم من قال لا بد أن يكون له أجل، ومنهم من قال: لا بأس أن يكون بدون أجل.
والذي يظهر لي أنه يصح بدون أجل، ونقول: سمّه ما شئت: سلماً أو بيعاً؛ لأن هذا ليس فيه غرر ولا ربا ولا ظلم، ومدار المعاملات المحرمة ـ أي: معاملات المعاوضة ـ على هذه الثلاثة، الرّبا والظلم والغرر، وهذا ليس فيه غرر، وليس فيه ظلم، وليس فيه ربا.
__________
(1) سبق تخريجه ص (48) .(9/53)
وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم «إلى أجل معلوم» يعود إلى علم الأجل، يعني لا إلى أجل مجهول، وهو الراجح.
وقوله: «بثمن مقبوض» يعني لا بد أن يكون الثمن مقبوضاً، فإن لم يقبض بطل ولم يصح، وإن أجل فمن باب أولى أنه يبطل.
وقوله: «بمجلس العقد» يعني لا بد أن يقبض المسلم إليه الثمن بمجلس العقد، فإن قبضه بعد التفرق فلا يصح، وهل يشترط أن يكون في المجلس الذي وقع فيه العقد، أو المراد ألا يتفرقا قبل القبض؟
الجواب: الثاني، فالمراد ألا يتفرقا قبل القبض، فلو اتفقا على السلم في السوق، ثم اصطحبا إلى بيت المُسْلِم وأعطاه الثمن من بيته وهما لم يتفرقا فالسلم صحيح؛ لأنه حصل القبض قبل التفرق، فمراد المؤلف بقوله: «في مجلس العقد» أي: ما لم يتفرقا، كما قلنا في خيار المجلس يمتد إلى أن يتفرقا ولو فارقا مجلس العقد، فالمهم ألا يتفرقا.
وجواز السلم من محاسن الإسلام، ويدل على هذا أن الفلاحين فيما سبق يحتاجون إلى دراهم، فيأتي الفلاح إلى التاجر فيقول: أعطني ـ مثلاً ـ مائة ريال، فيقول: لا أعطيك، فيقول: أعطيك بعد تمام ستة أشهر أو سنة بالمائة ريال مائة صاع برّ، فينتفع هذا وهذا، المسلم إليه ـ أي: البائع ـ منتفع بالثمن الذي قدم له، والمُسْلِمُ انتفع بأنه سوف يكون الثمن أقل من بيع الحاضر، يعني إذا كانت مائة الصاع بر تساوي خمسين سيسلم إليه أربعين؛ لأنه لا بد أن ينتفع، ولو أراد أن يُسلم إليه بالثمن العادي(9/54)
ما قبل؛ لأنه لو أسلم إليه بالثمن الحاضر صار كأنه قرض، فيقول: بدلاً من أن أعقد السلم وأتعب معك خذ قرضاً.
فصار كل من المسلِم والمسلَم إليه مستفيداً منتفعاً، أما المسلم إليه فينتفع بالدراهم التي حصل عليها، وأما المسلم فينتفع بنقص الثمن؛ لأنه سيأخذها بثمن أقل، فهو من محاسن الشريعة في الحقيقة.
قوله: «ويصح بألفاظ البيع» يصح السلم بألفاظ البيع بأن يقول: اشتريت منك مائة صاع بر بعد سنة بهذه الدراهم، وإذا أراد المسلَم إليه أن يعقده فقال: بعتك مائة صاع بر تحل بعد سنة بمائة ريال، فيصح بألفاظ البيع.
إذا قال قائل: كيف يصح بألفاظ البيع؟
نقول: نعم؛ لأنه نوع من البيع، فالبيع أعم منه.
قوله: «والسَّلَم والسَّلَف» أي: يصح بألفاظ السلم والسلف مع أن السلف يُطلق أحياناً على القرض، لكن لما كان العقد على هذا الوجه تعين أن يكون سلماً لا قرضاً.
والصواب أن جميع العقود تنعقد بما دل عليه اللفظ عرفاً وأنها لا تتقيد بشيء؛ لأن هذه الأمور لم يرد الشرع بتعيينها وتقييدها، وليست من أمور العبادة التي يتقيد الإنسان فيها باللفظ، ويستثنى من ذلك على المذهب عقد النكاح، فإنه لا يصح إلا بلفظ إنكاح وتزويج، أو قول السيد لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، ولكن الصواب ما ذكرناه، وأن جميع العقود تنعقد بكل ما دل عليها من قول أو فعل.(9/55)
بِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ: أحَدُهَا: انْضِبَاطُ صِفاتِهِ بِمَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَذْرُوعٍ وَأَمَّا المَعْدُودُ المُخْتَلِفُ كَالفَوَاكِهِ وَالبُقُولِ وَالجُلُودِ والرُّؤُوسِ والأوَانِي المُخْتَلِفَةِ الرُّؤُوسِ والأوْسَاطِ، كالقُماقِمِ والأَسْطَالِ الضَّيِّقَةِ الرُّؤُوسِ، والجَوَاهِرِ وَالحَامِلِ مِن الحَيَوَانِ، وكُلِّ مغْشُوشٍ،.....
قوله: «بشروط سبعة» هذه الشروط قال بعض أهل العلم: إنها زائدة على الشروط التي للبيع؛ لأن هذه الشروط السبعة تشترط مع شروط البيع السابقة، فتكون زائدة على ذلك، ولكن الصحيح أن هذه الشروط بعضها داخل في شروط البيع السابقة وبعضها زائد عليها، وهي شروط للصحة ليست للزوم؛ لأن شروط اللزوم إنما هي الشروط في العقد، وأما شروط العقد فهي شروط لصحته.
قوله: «أحدها انضباط صفاته» أي: أن يكون انضباط صفاته ممكناً، وأما ما لا يمكن انضباطه فلا يصح السلم فيه لوجود الغرر والجهالة، ويحصل الانضباط بما ذكره المؤلف في قوله:
«بمكيل وموزون ومذروع» فقوله: «بمكيل» إما أن نجعل الباء بمعنى الكاف يعنى كمكيل وموزون ومذروع، وإما أن نجعل بمكيل، أي: بكيل مكيل؛ لأن انضباط صفاته بكيل ليس بمكيل، والمكيل هو الذي وقع عليه العقد، وانضباط الصفات يكون بالكيل والوزن والذرع، والظاهر أن المعنى الأول أحسن، وهو أن الباء بمعنى الكاف؛ لأنه سيأتي أن الصفات يمكن أن تنضبط بغير ذلك.
وقوله: «بمكيل» مثل البر.
وقوله: «وموزون» كاللحم، والسكر، وما أشبه ذلك.
وقوله: «ومذروع» كالأقمشة والفرش والحبال وما أشبهها.
وقد تقدم أنه يمكن الانضباط بالكيل وبالوزن وبالذرع؛ لأن(9/56)
المكيال معروف، والصنجة التي يوزن بها معروفة، والذراع الذي يذرع به معروف.
لكن المعدود هل يصح فيه السلم؟
نقول فيه تفصيل: إذا أمكن انضباطه صح وإن لم يمكن فلا، فالبرتقال لا يمكن انضباطه؛ لأن بعضه صغير وبعضه كبير، والبطيخ لا ينضبط، وهلم جرّاً.
قوله: «وأما المعدود المختلف كالفواكه» فلا يصح السلم فيه؛ لأنه مختلف اختلافاً عظيماً، فبعض البرتقال مثل الأترج وبعضه مثل اليوسفي فتختلف اختلافاً عظيماً، فإذا قلت: أسلمت إليك مائة ريال بألف برتقالة فهذا لا يصح، إذ كيف نضبطها؟ لذلك لا يصح.
قوله: «والبقول» جمع بقل وهو الذي ليس له ساق من الزورع، مثل: البصل والكراث وما أشبه ذلك، فهذه ـ أيضاً ـ لا تصح؛ لأنها لا يمكن انضباطها، فأسلمت إليك مائة ريال بمائة حزمة من البصل، فهذا لا يصح؛ لأنه لا يمكن انضباطه، لكن لو جعلتها وزناً صح؛ لأنها لا تختلف.
قوله: «والجلود» أيضاً لا يمكن انضباطها، إذا قلت: أسلمت إليك ألف ريال بمائة جلد شاة فهذا لا يصح؛ لأنها تختلف اختلافاً عظيماً بالكبر والصغر والقوة وحسن السلخ؛ لأن بعض الذين يسلخون يأتي الجلد وكأنه منخل؛ لأنه لا يعرف أن يسلخ؛ وبعضهم يكون سلخه جيداً، وبعضه يُلحِقُ اللحم بالجلد، فالمهم أنه لا يصح في الجلود، وقال بعض الفقهاء: إنه يصح في(9/57)
الجلود، إذا قال مثلاً: جلد رَباعية أو ثنية وعين السن، فإن هذا لا بأس به؛ لأن الاختلاف فيه يسير.
قوله: «والرؤوس» أي: إذا أسلمت إليك ألف ريال بمائة رأس شاة بعد سنة، فهذا لا يصح؛ لأن الرؤوس تختلف لا شك، حتى لو قلت: مائة رأس شاة رباعية ـ مثلاً ـ فهنا لا يصح؛ لأنه يختلف، فبعض الضأن إذا رأيت رأسه تقول: هذا رأس بقرة تقريباً، وبعضه يكون صغيراً جداً، فالمذهب لا يصح، لكن لو بعتها وزناً يجوز؛ لأن الوزن يضبطها.
قوله: «والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط كالقُماقم» القُماقم نوع من الأواني يكون أسفلها واسعاً وأعلاها ضيقاً، فالأواني قسمان: قسم مختلف الرؤوس والأوساط وهي التي تكون منتفخة في الوسط ورأسها مضموم، فهذه لا يصح السلم فيها؛ لأن الصناعة فيما سبق صناعة باليد وقل أن تنضبط الصفة، أما الآن فالصناعة بالآلات، فإذا قلت: أسلمت إليك بأوانٍ من طراز كذا وكذا فيمكن ضبطه، بل وأشد ضبطاً من المكيل والموزون، أما فيما سبق فلما كانت الأواني تصنع باليد كان ضبطها صعباً.
وفهم من قوله ـ رحمه الله ـ: «المختلفة الرؤوس والأوساط» أنه لو كانت رؤوسها وأوساطها سواءٌ لجاز عقد السلم عليها؛ لأنه يمكن ضبطها، فمثلاً إذا كانت مثل العمود يمكن ضبطها بالمتر، فإذا ضبطنا أعلاها انضبط أسفلها؛ لأنها لا تختلف، أما التي تختلف فلا يجوز السلم فيها لما سبق.(9/58)
هذا فيما كان في زمانهم، وأما في زماننا فإنه يمكن ضبطها، لكن يحدد من أي شيء هي.
وقوله: «والأسطال الضيقة الرؤوس» الأسطال جمع سطل، وهو معروف، والأسطال بعضها ضيق الرأس بمعنى أن أسفلها أوسع، وبعضها بالعكس أعلاها أوسع، وبعضها متساوٍ أعلاها وأسفلها، أما التي تساوى أعلاها وأسفلها فالسلم فيها جائز وصحيح؛ لأنها تنضبط بالصفة وليس فيها غرر، وأما ضيقة الرؤوس فلا يصح السلم فيها لعدم انضباطها؛ لأنه قد يكون رأسها ضيقاً والنسبة بينه وبين أسفلها العشر ـ مثلاً ـ وقد يكون الخمس، وقد يكون أكثر فهي مختلفة، فإذا كانت الأسطال متساويةً أعلاها وأسفلها فالسلم فيها جائز، وكل هذا كما قلت فيما كانت الصناعة فيه باليد، أما إذا كانت الصناعة بالآلات كما هو الموجود الآن، فإنه يمكن انضباطها ولو كانت ضيقة الرؤوس، ولهذا فالأباريق المعروفة الآن يمكن أن تحكم عليها بالدقة إذا قلت: من نوع كذا حجم كذا فإنها سوف تنضبط تماماً.
قوله: «والجواهر» وهي ما يلقط من البحر، وهي لا يمكن أن يسلم فيها؛ لأنها لا يمكن انضباطها؛ لأن من الجواهر ما يصل إلى الآلاف، ومنها ما لا يساوي العشرات؛ ولذلك لا تباع بالصفة، فلا يمكن أن تباع الجواهر إلا بالمعاينة؛ لأن انضباطها بالصفة غير ممكن.
قوله: «والحامل من الحيوان» فلا يمكن السلم فيه؛ لأنه يندر(9/59)
جداً أن تجد حاملاً يمكن ضبط صفاتها مع حملها، وإن أطلقت فقلت: حامل فقط فلا صفة؛ لأن الحامل إن أردت أن تصفها وتصف حملها فهذا متعذر، وإن أطلقت فهذا فيه غرر؛ لأن هناك فرقاً بين الحامل الكبير حملها والحامل الصغير حملها.
وعُلمَ من قوله: «والحامل من الحيوان» أنه يصح السلم في الحيوان؛ لأنه يمكن انضباط صفاته، ولهذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: «أن يأخذ على إبل الصدقة البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة» (1) ، وهذا عكس السلم، لكن يدل على جواز البيع بالصفة بالنسبة للحيوان.
وهل يشمل الحاملُ من الحيوان الأنثى من بني آدم إذا كانت حاملاً؟ نعم يشمل؛ لأن الإنسان يسمى حيواناً، لكنه حيوان ناطق، إذ أن الحيوان ما فيه الروح، لكن لا بد أن تقيّده بالنسبة للآدمي بقولك ناطق، ولهذا يعتبر قول القائل: يا حيوان، لواحد من البشر سبّاً يعزر عليه؛ لأن الإنسان ليس بحيوان مطلقاً.
قوله: «وكل مغشوش» لا يصح السلم فيه، وهذا ـ أيضاً ـ يقال فيما سبق، فإنه كانت توجد فضة مغشوشة وذهب مغشوش، ولا يعلم قدر الغش، أما الآن فإن قدر الغش معلوم يحكم عليه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/171، وأبو داود في البيوع/ باب في الرخصة في ذلك (3357) ، والحاكم 2/56، والبيهقي (5/287) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه البيهقي، قال الحافظ في الدراية (2/159) في إسناده اختلاف، لكن أخرجه البيهقي من وجه آخر قوي، وحسنه الألباني في الإرواء (5/205) .(9/60)
بأدق ما يكون، فيقال: هذا الذهب من عيار كذا، وهذا من عيار كذا، وهذه الفضة فيها غش ونسبته كذا.
لكن إذا وجد مغشوشات أخرى لا يمكن انضباطها فلا يصح السلم فيها.
وَما يَجْمَعُ أخْلاَطاً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالغَالِيَةِ وَالمعَاجِينِ فَلاَ يَصحُّ السَّلَمُ فِيهِ، وَيَصِحُّ فِي الحَيَوَانِ والثِّيَابِ المنْسُوجَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ، وَمَا خِلْطُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ كَالجُبْنِ وَخَلِّ التَّمْرِ والسَّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِهَا.
قوله: «وما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية» الغالية أنواع من الطيب تخلط وتجمع، وكذلك ما يجمع من الأدوية أخلاطاً غير متميزة، قالوا: لا يصح السلم فيه؛ لأن الخلط غير المتميز مجهول، فإذا كان مجهولاً فإنه لا يصح.
وعلم من كلامه أنه إذا كانت متميزة فلا بأس، مثل أن يقال: هذه الأخلاط عشرة في المائة من كذا، وعشرة في المائة من كذا، وعشرة في المائة من كذا، فهنا تكون متميزة، وكذلك لو تميزت بالرؤية لا بالنسبة، بحيث تكون أخلاطاً لكن معروفٌ أنها متميزة فتظهر حبات وما أشبه ذلك، وكل هذا يعود إلى ما سبق من إمكان انضباط الصفة، فالبيع بالصفة أضيق من البيع بالرؤية.
قوله: «والمعاجين فلا يصح السلم فيه» وهذه المعاجين يستعملها الناس للمرضى، فلا يصح السلم فيها والعلة الجهل؛ لأننا لا ندري ما قدر المخلوط في هذه المعاجين من هذا النوع ومن هذا النوع، فلا يصح السلم فيه؛ لأنه لا يمكن انضباط صفاته، والصحيح أنه يصح السلم فيها؛ لأنه وإن كانت النسبة مجهولة لكنها قليلة والغرض من ذلك منفعتها.
قوله: «ويصح في الحيوان» هذا مطلق، فيشمل أي حيوان(9/61)
من إبل أو بقر أو غنم أو حُمُر أو ظباء أو أرانب، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسلف من رجل بَكراً (1) ، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قد أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على إبل الصدقة البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة (2) ، فهذا دليل على جواز السلم في الحيوان، لكن لا بد من ضبطه، فيقال: ثني أو رباع أو جذع، سمين، ضعيف، متوسط، فلا بد أن يضبط، بكل وصف يختلف به الثمن.
وهل يستثنى من الحيوان شيء؟ نعم، الحامل كما سبق، فعليه يصح في الحيوان بشرط ألا يكون حاملاً.
قوله: «والثياب المنسوجة من نوعين» يصح السلم فيها مثل الخز منسوج من الحرير ومن القطن أو من الصوف، فيصح؛ لأن هذا معلوم وينضبط بالصفة فيصح السلم فيها.
قوله: «وما خِلطه غير مقصود كالجبن» الجبن فيه خلط وهو الإِنْفِحَّةُ، وهذه الإنفحة توضع في اللبن فيكون جبناً.
والإنفحة هي التي تكون في معدة الرضيع، الذي رضع أول مرة ثم ذبح، فهذا الذي في معدته جُبْن يجبِّن الأشياء، فلو وضعت منه شيئاً قليلاً في ماء وجدته يجمد، فهذا الجبن نقول: لا بأس به؛ لأن ما خلط فيه من الإنفحة غير مقصود.
قوله: «وخل التمر» يعني الماء الذي يوضع فيه التمر ليكون
__________
(1) سيأتي تخريجه ص (94) .
(2) سبق تخريجه ص (60) .(9/62)
خلاً فيصح السلم فيه، مع أن التمر غير معلوم لكنه غير مقصود، فالذي اشترى خل التمر إنما أراد الشراب (الخل) ولم يرد التمر، لكن قد يكون هناك فرق بين ما إذا كان التمر كثيراً فيزداد حلاوة، أو قليلاً فتنقص حلاوته.
قوله: «والسكنجبين» الظاهر أنه لغة غير عربية (1) ، وهو نوع من الشراب، وعلى كل حال الضابط: (ما خلطه غير مقصود) .
وكذلك ـ مثلاً ـ الخبز فيه الملح غير مقصود، فنأخذ بالضابط، وأما الأمثلة فلا عبرة بها.
قوله: «ونحوها» يعني فهذه السلم فيها صحيح؛ لأن خلطها غير مقصود.
الثَّانِي: ذِكْرُ الجِنْسِ والنَّوْعِ وَكُلِّ وَصْفٍ يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ ظَاهِرَاً وَحَدَاثَتِهِ وقِدَمِهِ
قوله: «الثاني» أي: من شروط السلم.
قوله: «ذكر الجنس والنوع» لا بد من معرفة الفرق بين هذه الأمور الثلاثة: الجنس والنوع والواحد بالعين.
الجنس: ما له اسم خاص يشمل أنواعاً.
والنوع: واحد الجنس.
والواحد بالعين: واحد النوع.
فالحب: جنس، والبر: نوع، وزنبيل من البر: واحد بالعين.
ففي السلم لا بد من أن نذكر الجنس والنوع، فإذا أسلمت
__________
(1) في المطلع ص (246) : «وأما السكنجبين فليس من كلام العرب، وهو معروف مركب من السكر والخل ونحوه» .(9/63)
إليك في بر وقلت: هذه مائة ريال بمائة صاع بر توفيني إياه بعد سنة، فإن ذلك لا يكفي؛ لأنك لم تذكر الجنس، بل لا بد أن تقول: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حب بر، حَبٌّ: هذا جنس، وبر: هذا نوع، فلا بد أن تقول هكذا، فإن قلت: بمائة صاع بر لا يصح، هذا ما ذهب إليه المؤلف وهو قول ضعيف.
والصواب: أنه لا يشترط ذكر الجنس؛ لأن ذكر النوع كاف، إذ أن مَنْ ذكر النوع فقد ذكر الجنس؛ لأن النوع أخص، والأخص يدخل في الأعم، فلا حاجة من ذكر الأعم، وهذا القول هو الراجح، بل هو ظاهر المذهب؛ لأن صاحب المنتهى ـ وهو العمدة في مذهب الإمام أحمد عند المتأخرين ـ لم يذكر ذكر الجنس، وعلى هذا فإذا قلت: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر فلا بأس، لكن هذا البر يحتاج إلى ذكر نوع أخص؛ لأن البر في الواقع أنواع كما أن التمر أنواع، فنذكر النوع فنقول: بر حنطة، أو بر معية، أو بر لقيمي، كما هو معروف من هذه الأنواع في القصيم، وبناء على ذلك نقول: هل لا بد من ذكر الجنس الأعلى ثم الأوسط ثم النوع؟ أو نكتفي بالجنس الأوسط؟
الجواب: الثاني، وعلى هذا فلا يحتاج أن نقول: حب؛ لأن هذا هو الجنس الأعلى، فإذا قال: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حنطة، فإنه يكفي على القول الذي رجحناه.
بهذا نعرف أن الجنس قد يكون نوعاً باعتبار ما فوقه، ففي المثال الذي ذكرناه حَبٌّ جنس أعلى، بُرٌّ جنس أدنى، حنطة نوع،(9/64)
فالمقصود ذكر الجنس الأدنى، يعني أقرب جنس للنوع هو الواجب ذكره، وأما الأعلى فلا حاجة لذكره.
فمثلاً: أسلمت إليك في بهيمة الأنعام، وأنواعها ثلاثة: إبل، وبقر، وغنم.
بهيمة الأنعام جنس، ثم الإبل جنس أدنى، ثم كونها بخاتي ـ ذات سنامين ـ أو ذات سنام، أو ما أشبه ذلك، هذا نوع.
والغنم جنس، وكونها ضأناً أو ماعزاً نوع، قد يقال: إنه ربما ينشأ من هذه الأنواع أنواع أخرى، فقد يكون الماعز ـ أيضاً ـ أنواعاً، والمهم أنه لا بد أن تذكر الجنس الأدنى، والنوع الذي يليه وهو أخص شيء.
والصواب الذي لا شك فيه أنه يُكتفى بذكر أخص شيء. فمثلاً عندما نريد أن نسلم في تمر، فعلى كلام المؤلف لا بد أن نقول: تمر سكري، أي: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع تمر سكري.
والصحيح أنه يكفي أن نقول: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع سكري؛ لأنك إذا ذكرت النوع لزم منه ذكر الجنس.
قوله: «وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً» فمثلاً إذا كان ذا ألوان فتقول: أبيض، أو أحمر، أو أسود، وكذلك ـ أيضاً ـ إذا كان النسج في الثياب مختلفاً، يذكر الوصف الذي يختلف به الثمن اختلافاً ظاهراً، أما الاختلاف اليسير فإنه يعفى عنه؛ لأنه قل أن ينضبط الموصوف على وجه لا اختلاف فيه إطلاقاً،(9/65)
ولهذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: كل سلم يختلف لا بد؛ لأنه مهما كان الإنسان في دقة الوصف لا يمكن أن يدرك كل الأوصاف، فمثلاً نسلم في سيارة فنحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن الثمن يختلف به، ونذكر الموديل (الطراز) ؛ لأن الثمن يختلف به، وهل هي غمارة أو غمارتان؟
ومما لا يختلف فيه الثمن ـ مثلاً ـ المسجل، فالسيارات تختلف فيه كأن يكون في بعض السيارات بالوسط، وفي البعض الآخر إلى جانب السائق، وكذلك يكون الحال في الساعة، بعضها يكون ـ مثلاً ـ فوق، وبعضها يكون أسفل، وبعضها يكون مائلاً للجانب الأيمن، وبعضها مائلاً إلى الجانب الأيسر، فهذه الأوصاف لا نذكرها؛ لأنها ليست ذات أهمية، ولا يرفع الإنسان بها رأساً، وكذلك بقية الأوصاف التي لا يختلف بها الثمن اختلافاً ظاهراً فإنه لا يجب ذكرها؛ لأن الإحاطة بها متعسرة.
قوله: «وحداثته وقدمه» يعني لا بد أن يذكر أنه جديد أو أنه قديم وهذا حق لا بد منه؛ لأن الثمن يختلف اختلافاً ظاهراً بين الجديد والقديم، فلا بد أن نقول في التمر؛ من تمر هذا العام، أو من تمر العام الماضي؛ لأنه يختلف اختلافاً ظاهراً، لكن كيف يكون من تمر العام الماضي؟!
الجواب: بأن يكون عنده مجبناً ـ يعني مكنوزاً في التنك ـ ويكون عنده قديم من العام الماضي، إذاً لا بد أن يذكر أنه جديد أو قديم.(9/66)
ولا بد أن تذكر جودته ورداءته؛ لأن الجودة والرداءة يختلف بها الثمن اختلافاً ظاهراً.
وَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ الأرْدَأ وَالأجْوَدِ بَلْ جَيِّدٌ وَرَديءٌ، فَإنْ جَاءَ بِمَا شَرَطَ أو أجْوَدَ منه مِنْ نَوْعِهِ وَلَوْ قَبْلَ مَحِلِّهِ وَلاَ ضرَرَ فِي قَبْضِهِ لَزِمَهُ أخْذُهُ.
قوله: «ولا يصح شرط الأردأ والأجود» أي: لو قال: من أجود ما يكون أو أردأ ما يكون، يقولون: إنه لا يصح.
مثاله: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع حنطة أجود ما يكون، يقول المؤلف: لا يصح؛ لأنه ما من جيد إلا ويوجد أجود منه، وأجود ما يكون في هذا البلد قد يكون أردأ ما يكون في البلد الآخر، فماذا نعمل وهو يقول: أجود ما يكون؟! ثم حتى أجود ما يكون في البلد، قد يكون ما عرض في السوق أجود ما يكون في السوق، لكن في البيوت ما هو أجود منه، فاشتراط الأجود لا يصح.
والأردأ كذلك؛ لأنه ما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ما قاله المؤلف أنه لا يصح شرط الأردأ ولا الأجود (1) ؛ والعلة هي أنه ما من جيد إلا ويوجد أجود منه، والأردأ نفس الشيء فما من رديء إلا ويوجد أردأ منه، إذاً فهذه الصفة لا يمكن تحقيقها، فلما لم يمكن تحقيقها صار كالذي لا يمكن انضباط صفاته كالجواهر وغيرها.
القول الثاني: يصح شرط الأردأ دون الأجود بأن يشترطه المسلم إليه، فإذا اشترط البائع الذي هو المسلم إليه أنه أردأ ما
__________
(1) وهو المذهب.(9/67)
يكون ورضي المسلم، وقال: نجري العقد على أردأ ما يكون صحَّ، وهذا هو القول الصحيح؛ لأنه إذا قال: أردأ، وقال: هذا أردأ ما يكون، وقبل المسلم فالحق له، إذ أن المسلم لا يمكن أن يقول للمسلم إليه: اذهب فابحث عن أردأ من هذا، وإلا لا أقبل، وحتى لو أمكن أن يقول هكذا فقد قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: لو جاء إليه بأجود من حقه لزمه القبول، وإذا كان كذلك فأي مانع يمنع من صحة هذا الشرط؟ مع أن هذا الشرط في نظري حسب الواقع لا يقع؛ لأن المسلم إليه لا يقول: أردأ ما يكون، بل سيقول: سأبيعك طعاماً ليس بأجود شيء.
القول الثالث: أنه يصح شرط الأردأ أو الأجود ويحمل على ما يكون في سوق البلد، أي أجود ما يكون في السوق وأردأ ما يكون في السوق، وهذا معروف عند أهل العرف، والاختلاف الذي يمكن أن يقع فيه اختلاف لا يضر؛ لأنه ما من سلم إلا ويختلف كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ.
فالمسألة فيها ثلاثة أقوال أقطعها للنزاع وأقربها للصواب هو الثاني، الذي هو شرط الأردأ دون شرط الأجود؛ لأن شرط الأردأ لو أراد المسلم أن يلزم المسلم إليه بطلب ما هو أردأ فإنه لا يلزمه حتى على المذهب، وإذا كان لا يلزمه فما المانع؟!
قوله: «بل جيد ورديء» أي: يصح أن يقول: جيد أو يقول: رديء.
ولو قال قائل: إن كلمة «جيد ورديء» قد تكون أشد جهالة(9/68)
من الأجود والأردأ؛ لأن المسلم إذا جاءه المسلم إليه بما عقدا عليه البيع، قال: هذا ليس بجيد هذا رديء، وذاك يقول: جيد فيحصل النزاع لكن مع ذلك قالوا: إن هذا يصح؛ لأن هذه الأوصاف يمكن الإحاطة بها، وإذا اختلفا في كونه جيداً أو رديئاً يرجع إلى أهل الخبرة في ذلك.
قوله: «فإن جاء بما شرط» يعني من جيد أو رديء.
«إن جاء» الفاعل يعود على المسلم إليه، وقوله: «بما شَرَط» أي: المسلم، لزمه أخذه.
قوله: «أو أجود منه من نوعه» يعني كان المشروط عليه تمراً وسطاً، فَحَلَّ الأجل وجاء المسلم إليه بتمر جيد، فقال المسلم: بيني وبينك تمر وسط والآن جئتني بجيد فأنا لا أقبل، فهنا يقول المؤلف: يلزمه القبول.
فإذا قال المسلم: كيف تجبرونني أن أقبل هبة بدون رضاي؟
قلنا: إن هذا المسلم إليه لم يأت إليك بعين زائدة، يعني ليس الذي عليه مائة صاع جاء بمائتين إنما جاء بزيادةِ وصفٍ، فالمشروط عليه وسط فجاء بجيد، فلم يأت بأكثر مما وجب عليه، وهذا عبارة عن هبة وصف فيلزمك قبوله، كما قلنا بأن المُبْرأ لا يشترط رضاه، إذاً يلزمه.
وقوله: «من نوعه» أي: بأجود منه من نوعه، فلو كان الإسلام في سكري وأتى إليه ببرحي، والبرحي أكثر قيمة من السكري فهل يلزمه قبوله؟(9/69)
الجواب: لا يلزمه؛ لأنه ليس من نوعه، فهنا ليس الاختلاف اختلاف صفة بل اختلاف ذات؛ لأنه أتى بنوع آخر فهنا لا يلزمه، وإذا أتى بغير جنسه ـ مثلاً ـ كان الإسلام في بر، ثم أتى إليه بتمر فهذا لا يجوز.
إذن الأقسام ثلاثة:
الأول: إذا أتى بأجود منه من نوعه لزمه القبول.
الثاني: إذا أتى بأجود منه من جنسه لم يلزمه القبول، لكن يجوز له القبول.
الثالث: إذا أتى بغير جنسه حرم القبول.
الأمثلة:
الأول: أسلم إليه في سكري فجاء بسكري أجود، يلزمه القبول.
الثاني: أسلم إليه في سكري فجاء إليه ببرحي لا يلزمه القبول، ولكن يجوز له القبول.
الثالث: أسلم إليه في تمر سكري وجاء إليه ببر، فلا يجوز القبول، حتى لو رضي؛ والسبب قالوا: إنه إذا أخذ عنه بدلاً من غير الجنس صار ذلك بيعاً، وبيع المسلم فيه لا يصح قبل قبضه وهذا على قاعدة المذهب وسيأتي.
أما القسم الأول: فإننا نرى أنه لا يلزمه قبوله إذا جاء بأجود من نوعه؛ لأن ذلك قد يُفضي إلى منَّة عليه في المستقبل، فيقول: أنا لا أريد أن أتحمل قبول الطيب عن الرَديء؛ لأني أعرف هذا الرجل، غداً يقطع رقبتي في المجالس، فيقول: أنا(9/70)
أوفيته بأحسن من حقه وهذا جزائي، فأنا أحسن إليه وأعطيه أحسن من حقه ثم هو يسيء إلي! وهذا واقع؛ لأن كثيراً من الناس الآن يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، ولذلك يقول المسلِم: أنا أريد أن يعطيني حقي ولا أريد غيره.
فنرى أنه لا يلزمه إلا إذا علم أن هذا الرجل لا يمكن أن يمن عليه في المستقبل بذلك، فربما نقول: يلزمه؛ لأن هذا من باب التيسير على أخيك؛ لأنه إذا قال: أنا لا أقبل هذا، فسيذهب يبيعه في السوق، ثم يشتري له حسب شرطه، وقد يحصل بهذا تعب، وقد تحصل فيه ـ أيضاً ـ أجور تربو على الفرق بين الجيد والوسط، فإذا لم يكن عليه ضرر بالمنة لزمه الأخذ وإلا لم يلزمه.
وأما القسم الثالث: فنرى ـ أيضاً ـ أنه إذا جاءه بشيء من غير جنسه ورضي الآخر فإنه لا بأس به، مثل أن يقول: هذه مائة صاع من البر بمائة صاع تمر سكري ورضي المسلم إليه، فنرى أنه لا بأس بهذا؛ لأن البر والتمر ليس بينهما ربا فضل، وهنا إذا أحضره هو وسلمه إياه انتفى ربا النسيئة، فأي محظور في هذا؟ فليس فيه ربا ولا ظلم ولا غرر.
فنحن نخالف الآن المؤلف في مسألتين:
الأولى: وجوب قبول الجيد عن الوسط من النوع.
الثانية: جواز أخذ غير الجنس إذا أحضره وصار القبض قبل التفرق؛ لأنه لا يتضمن رباً ولا ظلماً ولا غرراً.(9/71)
قوله: «ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه» محِله بكسر الحاء بمعنى حلول، ومحَل بفتح الحاء بمعنى موضع أي: مكان، يعني: ولو قبل حلوله، فإذا قدرنا أنه يحل في رمضان وجاء إليه في رجب، لزمه قبوله، لكن اشترط المؤلف شرطاً وهو ألا يكون عليه ضرر في قبضه، والذي عليه الضرر هو المسلم، فإن كان عليه ضرر مثل أن يسلم إليه بتمر، أي: أعطاه دراهم على أن يأتيه بتمر في رمضان وجاءه بالتمر في رجب، فهنا جاء به قبل محله، فقال المسلم: لا أقبله، وقال المسلم إليه: تقبله؛ لأن هذا ثبت في ذمتي والتأجيل إرفاق بي، وأنا مسقط لهذا الإرفاق فلا بد أن تأخذه.
فقال المسلم: التمر الآن يملأ السوق، والتمر يكون رائجاً في رمضان، حيث يحتاج الناس إلى التمر في الإفطار، فالآن السعر نازل فعلي ضرر، ففي هذه الحال للمسلم أن يمتنع من قبضه؛ لأن عليه ضرراً.
وكذلك لو حدث خوف في البلد قبل حلول أجله، ـ مثلاً ـ حلول الأجل في رمضان، وحدث خوف في البلد في رجب، فجاء المسلم إليه بما أسلم فيه، فقال المسلم: أنا لا أقبله، البلد الآن مخوف وأخشى أن يُسطَى عليه ويؤخذ، فلا أقبله إلا في رمضان، فهل يلزم بقبضه؟
الجواب: لا؛ لأن عليه ضرراً، إذاً إذا جاء المسلم إليه بما وقع عليه العقد قبل حلوله لزم المُسلِمَ قبولُه، إلا أن يكون عليه(9/72)
ضرر في قبضه، فلا يلزمه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
وما هي العلة في وجوب القبول؟
الجواب: العلة: أن التأجيل إرفاق بالمسلم إليه، فإذا أسقط حقه من الإرفاق وقال: أنت جعلت الأجل إلى رمضان رفقاً بي، والآن أنا حصلت ما أسلمت إلي فيه فخذه، فهنا يلزم ذاك قبوله إذا لم يكن هناك ضرر؛ لأن في ذلك مصلحتين، مصلحة للمسلم ومصلحة للمسلم إليه، أما المسلم إليه فمصلحته تخلصه من هذا الدين وإبراء ذمته منه، وأما المسلم فلأنه عُجل له حقه، وما من أحد يعجل له حقه إلا كانت المصلحة له.
الثَّالِثُ: ذِكْرُ قَدْرِهِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ يُعْلَمُ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي المَكِيْلِ وَزْنَاً، أوْ فِي المَوزُونِ كَيْلاً لَمْ يَصِحَّ.
قوله: «الثالث: ذكر قدره بكيل أو وزن أو ذرع يُعْلَم» يعني لا بد أن يذكر قدره بكيل في المكيل، ووزن في الموزون، وذرع في المذروع ولم يقل: أو عدٍّ؛ لأن العد فيه تفصيل، إن كان المعدود يختلف فإنه لا يصح الإسلام فيه، وإن كان لا يختلف صح الإسلام فيه.
قوله: «يعلم» يعني يعلم بين الناس ويكون معهوداً بينهم، لا أن يعلم بين الطرفين مثل الصاع والمد والرطل والوزنة والكيلو وما أشبه ذلك، فقوله: «يعلم» احترازاً مما لو قيد بشيء لا يعلم، مثل أن يقول: ملء هذا الإناء عشر مرات ـ مثلاً ـ لا يجوز؛ لأن هذا غير معلوم بين الناس؛ لأن هذا الإناء ربما يضيع، وحينئذ لا
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(9/73)
يبقى لنا شيء نرجع إليه، فلو قال ـ مثلاً ـ المسلم للمسلم إليه: أسلمت إليك بمائة ملء هذا الإناء، فإنه لا يصح؛ لأنه ليس معهوداً وقد يضيع، وحينئذ يحصل النزاع، والشرع جاء بسد كل ما يوجب النزاع.
مسألة: لو عينه بصاع فلان؟ يقول الفقهاء: يجوز لكن يبطل التعيين، فما دام أن صاع فلان هو صاع الناس فلا فرق، إلا أن بعضهم قال: إذا كان صاع فلان معروفاً فإنه يلزم الأخذ بالتعيين، ولكن الصواب أنه لا يلزم التعيين؛ لأن صاع فلان هذا ربما يتلف.
قوله: «وإن أسلم في المكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً لم يصح» ؛ لأنه يجب أن يقدر بالمعيار الشرعي، فالبر ونحوه يقدر بالكيل، والسكر واللحم وما أشبه ذلك يقدر بالوزن، فلو أسلم في المكيل وزناً، أو في الموزون كيلاً لم يصح، وهذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
والصواب: أنه يصح أن يسلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً؛ لأنه معلوم، والتساوي هنا ليس بشرط، وإنما وجب في بيع الربوي بجنسه أن يقدر بالمعيار الشرعي؛ لأنه يشترط فيه المساواة، فلهذا لا يصح أن أبيع عليك وزن عشرة كيلوات من البر بعشرة كيلوات من البر؛ وذلك لأنه لا بد من التساوي في المعيار الشرعي، والمعيار الشرعي للحبوب ونحوها هو الكيل، وأما السلم فالمقصود انضباط الصفات والقدر، وهذا(9/74)
يحصل فيما إذا أسلم في المكيل وزناً أو في الموزون كيلاً، فالصواب أنه يجوز، وهو أحد القولين في المذهب.
أما المعدود فإن كان لا يختلف يسلم فيه عداً، وإن كان يختلف يسلم فيه وزناً.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَهُ وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ فَلاَ يَصِحُّ حَالًّا، وَلاَ إِلَى الحَصَادِ وَالجَذَاذِ، وَلاَ إِلَى يَوْمٍ إلاَّ فِي شَيْءٍ يأْخُذُه مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ كَخُبْزٍ وَلَحْمٍ وَنَحْوِهِمَا.
قوله: «الرابع: ذكر أجل معلوم له وقع في الثمن» هذه ثلاثة قيود: ذكر أجل، معلوم، له وقع في الثمن، ومعنى: «له وقع في الثمن» ، أي: له تأثير في الثمن بالزيادة أو النقص، وعلى هذا فإذا أسلم في شيء حالٍّ فإنه لا يصح السلم؛ لأنه لا بد من ذكر أجل، ولا بد ـ أيضاً ـ أن يكون الأجل معلوماً، بأن يقال: أسلمت إليك مائة ريال بمائة صاع بر تحل في أول يوم من رمضان.
وقوله: «له وقع في الثمن» يعني له تأثير، فإن لم يكن له تأثير فإنه لا يصح الأجل؛ لأنه لا فائدة منه، وقد صرح المؤلف ـ رحمه الله ـ بمفهوم ذلك فقال:
«فلا يصح حالًّا» هذا مفهوم قوله: «إلى أجل» .
قوله: «ولا إلى الحصاد والجذاذ» هذا مفهوم من قوله: «معلوم» .
أي: لا يصح؛ لأن الحصاد والجذاذ غير معلومين، والناس منهم من يحصد مبكراً ومنهم من يتأخر، ومنهم من يجذ النخلة مبكراً ومنهم من يتأخر، وحينئذ يبقى الأجل مجهولاً.
ولكن الصحيح أنه يصح إلى الحصاد والجذاذ، وهو اختيار(9/75)
شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، والمراد إلى زمن الحصاد والجذاذ وليس إلى الجذاذ نفسه أو الحصاد بل إلى زمنه، فإذا قال المسلم إليه: الآن بدأ الناس يحصدون أو يجذون فحينئذ يكون قد حل الأجل، وكأنك ترى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين إنما يوفون من النخل في الجذاذ، أو البر في الحصاد.
ولكن يمكن أن نتخلص من ذلك على المذهب بشيء بسيط، فننظر متى يكون وقت الجذاذ؟ فإذا قالوا: وقت الجذاذ في ربيع الأول، فنقول إلى ربيع الأول، وينتهي الإشكال، فنكون بذلك قد أتينا بالشرط الذي اشترطه هؤلاء بدون إخلال بالمقصود، وما دام الأمر يمكن أن يؤتى به على سبيل الاحتياط فهو أولى، إنما التحديد بالحصاد والجذاذ من حيث هو فالصحيح جوازه.
قوله: «ولا إلى يوم» لأنه ليس له وقع في الثمن، ولماذا اشترطنا أن يكون له وقع في الثمن؟ قالوا: لأن هذا هو الفائدة من السلم، أن المسلَم إليه ينتفع بالثمن المقدم، والمسلِم ينتفع بزيادة المبيع، فإذا لم يكن للأجل وقع في الثمن فاتت فائدة السلم، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «إلى أجل» ، فقيد السلف بالأجل، «ومعلوم» قيد الأجل بكونه معلوماً، وهذا الذي ذكره المؤلف هو ظاهر الحديث، وقد سبق أن الصحيح أن الحديث نص في اشتراط الأجل المعلوم، بمعنى أنه إذا كان مؤجلاً فلا بد أن يكون الأجل معلوماً، ويؤيد ذلك أن(9/76)
الحديث فيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (1) ، فكأنه أراد أن يقول هذا الأجل الذي تجعلونه لا بد أن يكون معلوماً، فليس نصاً في اشتراط الأجل، وبناء على هذا القول قالوا يجوز السلم حالاً، وهذا قول لبعض أهل العلم.
وأما اشتراط أن يكون له وقع في الثمن، فليس في الحديث ما يدل عليه، ففي الحديث: «إلى أجل معلوم» ، وليس فيه قيد أن يكون له وقع في الثمن؛ ولذلك لم يشترطه كثير من الفقهاء، وقد تبين أن اشتراط أن يكون له وقع في الثمن مبني على تعليل، والتعليل ينظر فيه هل يكون صحيحاً فيقبل أو غير صحيح فلا يقبل؟ فمن نظر إلى ظاهر الحديث قال: هذا لا دليل عليه، ومن نظر إلى العلة التي من أجلها شرع السلم، قال: هذا الاشتراط لا بد منه؛ لأنه إذا كان من الصباح إلى المساء والأسعار لا تختلف في هذه المدة القصيرة فلا فائدة من السلم، فهو في الحقيقة كالذي ليس له أجل، وعلى كل حال فمثل هذه المسائل إذا لم يتبين فيها الدليل من الجانبين، فهل نراعي الأحوط أو نأخذ بالرخصة؟ قد يقال إن مراعاة الأحوط أحسن لا سيما إذا كان هذا الأحوط هو الذي يكون فيه الحكم إذا رفعت القضية إلى المحكمة؛ لأنك إذا صححت هذا الشيء، والحكم المشهور بين الناس خلاف ما صححت يؤدي إلى مفاسد في المستقبل، هذه
__________
(1) سبق تخريجه ص (48) .(9/77)
المفاسد قد تعود عليك أنت وقد تعود على غيرك، فإذا كنت لست ذا ثقة بين الناس فإنه يعود عليك أنت، يقال: هذا رجل لا يعرِف ولهذا أبطلت المحكمة ما أفتى به، وإذا كنت ذا قيمة صارت المضرة على المحكمة، واتهم القاضي بالقصور في العلم، أو بالميل إلى أحد المتخاصمين.
فلا بد من أن يكون أجل، والثاني: معلوم، والثالث: له وقع في الثمن.
مثال ذلك: أسلم إليه مائة ريال بمائة صاع بر تحل في أول يوم من رمضان، فهذا أجل معلوم له وقع في الثمن، فيصح، فإذا كان حالًّا فإنه لا يصح السلم في الحالِّ؛ وذلك لأننا نستغني ببيعه عن السلم فيه، ولكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ اختار جواز السلم الحال وهو مذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ؛ لأنه إذا لم يصح أن يكون سلماً صار بيعاً، ومتى أمكن تصحيح العقود فإنه يجب.
قوله: «إلا في شيء يأخذه منه كل يوم كخبز ولحم ونحوهما» أي: إلا ما يؤخذ شيئاً فشيئاً، كما لو أسلم إليه في خبز، أو لحم يعطيه إياه تبدأ من الغد، فهذا لا بأس به؛ لأن غايته ستكون متأخرة إلى وقت يكون له وقع في الثمن.
الخَامِسُ: أنْ يُوجَدَ غَالباً فِي مَحِلِّه وَمَكَانِ الوَفَاءِ لاَ وَقْتَ العَقْدِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَوْ بَعْضُهُ فَلَهُ الصَّبْرُ أَوْ فَسْخُ الكُلِّ أَوْ البَعْضِ، وَيَأْخُذُ الثَّمَنَ المَوْجُودَ أَوْ عِوَضَهُ.
قوله: «الخامس: أن يوجد غالباً» لأنه لا يمكن أن نقول يقيناً؛ لأن هذا الأمر مستقبل، والمستقبل لا يمكن لأحد أن يحكم عليه حكماً يقينياً.
قوله: «في محله ومكان الوفاء» ـ أيضاً ـ لا بد أن يكون(9/78)
المسلم فيه مما يوجد غالباً في محله، أي: في وقت حلوله. وقوله: «ومكان الوفاء» هذا مكان الحلول، فاشترط المؤلف أن يوجد المسلم فيه في الزمن والمكان عند الحلول؛ فإن جعله إلى وقت لا يوجد فيه المسلم فيه فإنه لا يصح، مثل أن يسلم إليه في عنب يحل في الشتاء فهذا لا يصح؛ لأن العنب في الشتاء لا يوجد، لكن في وقتنا الحاضر يمكن أن يوجد بواسطة الثلاجات، فيكون كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ مقيداً بهذا، فمتى وجد في محله ومكان الوفاء فإنه يصح.
وقوله: «ومكان الوفاء» ليس مكان العقد؛ لأنه ربما نتعاقد في عنيزة والوفاء يكون في الرياض، فلا بد أن يكون في الرياض، فالعبرة بمكان الوفاء لا مكان العقد. والدليل على هذا الشرط ما يفيده حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «كانوا يسلفون في الثمار السنة والسنتين» ، ومعلوم أن الإسلاف في الثمار إنما يكون في مكان وجودها، إذ كيف يسلف الإنسان في الثمار في مكان هي غير موجودة فيه؟! هذا من جهة، ومن جهة أخرى التعليل؛ لأنه إذا لم يوجد في مكان الوفاء، وزمن الوفاء، أدى ذلك إلى التنازع والخصومة بين المسلم والمسلم إليه.
قوله: «لا وقت العقد» يعني لا يشترط أن يكون المسلم فيه موجوداً وقت العقد؛ وذلك لأن المسلم فيه متعلق بالذمة لا بشيء معين، فإذا حدده بأجل يوجد فيه، فإنه لا يشترط أن يكون موجوداً وقت العقد وإنما نص على ذلك «لا وقت العقد» ؛ لنفي الخلاف في هذه المسألة، فإن من أهل العلم من قال يشترط أن(9/79)
يكون المسلم فيه موجوداً في وقت العقد وفي وقت الوفاء، وهذا مذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ ولكن لا دليل عليه.
فإن كان لا يوجد في وقت الوفاء لكن يوجد في مكان آخر، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح؛ وذلك لما يترتب عليه من المشقة في تحصيله من مكان آخر.
قوله: «فإن تعذر أو بعضه فله الصبر، أو فسخ الكل أو البعض، ويأخذ الثمن الموجود أو عوضه» يعني لو أنه جعل السلم ينتهي إلى وقت يوجد فيه المسلم فيه لكن تعذر، إما أن تكون الثمار قد أصابتها جوائح ولم يتمكن من الوفاء، أو عدا عليها جند وأخذوها، ففي هذه الحال نقول للمسلم: أنت بالخيار، إن شئت فسخت العقد ورجعت بالثمن، وإن شئت أبقيت العقد حتى يقدر المسلَم إليه على تسليمه إليك، ولهذا يقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «أو فسخ الكل أو البعض ويأخذ الثمن الموجود» والثمن الموجود مثل أن يكون دراهم أسلم فيها إلى المسلم إليه.
وهل يملك الفسخ في البعض؟ يقول المؤلف: نعم؛ لأن من ملك الفسخ في الكل ملك في الجزء؛ إذ أن الجزء بعض الكل، ونضرب مثلاً لذلك: أسلم إليه مائة درهم بخمسين صاعاً من البر تحل في جمادى الثانية، وجاء جمادى الثانية وإذا الثمار قد أصيبت بآفات أتلفتها، نقول للمسلم: أنت بالخيار إن شئت فسخت العقد في الكل وإن شئت فسخت في البعض، وأعطيناك ما يقابله من الثمن، فإذا قال: أنا أسلمت في خمسين وأنا(9/80)
فسخت العقد في نصفها فنرد إليه خمسين درهماً، فإن قال: فسخت في الكل فإنه يرد المائة كاملة، فإن كان المسلم إليه قد أنفق الثمن ولم يبق عنده منه شيء، قال المؤلف: يأخذ عوضه، والعوض مثله إن كان مثلياً وقيمته إن كان متقوماً.
السَّادسُ: أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ تَامّاً مَعْلُوماً قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَإِنْ قَبِضَ البَعْضَ ثُمَّ افْتَرَقَا بَطَلَ فِيمَا عَدَاهُ. وَإنْ أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ عَكْسُه صَحَّ إِنْ بَيَّنَ كُلَّ جِنْسٍ وَثَمَنَهُ وَقِسْطَ كُلِّ أَجَلٍ.
قوله: «السادس: أن يقبض الثمن تامّاً» الفاعل المسلَم إليه، وهذا مأخوذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف في شيء فليسلف» (1) ، فإن هذا يقتضي أنه لا بد من أن يقبض الثمن تامّاً، ومن المعنى أنه إذا لم يقدم الثمن فقد يتأخر، وحينئذ يكون الضرر على المسلم إليه؛ لأنه سيعطي المسلم أرخص مما يعطي الناس في مقابل تقديم الثمن، فإذا تأخر الثمن خسر مرتين، المرة الأولى حين غلب فاشتري منه ما يساوي عشرة بثمانية، والمرة الثانية حينما تأخر عليه قبض الثمن فلم ينتفع به، ثم إنه يسمى سلماً وسلفاً وهو مشتق من التقديم، فإذا أخر صار منافياً لما اشتق منه، فيدل على هذا الشرط المعنى واللفظ والأثر.
قوله: «معلوماً قدره» هذا في الكمية.
قوله: «ووصفه» هذا في الكيفية، يعني لا بد أن يقبض الثمن تامّاً معلوماً قدره ومعلوماً وصفه، ولا يكفي أن يقول: أسلمت إليك هذا الشيء المعين بكذا وكذا، بينما لو قلت: بعت عليك هذا الشيء المعين، ولو لم يعلم وصفه، يجوز لكن هذا لا بد أن يكون معلوماً وصفه، أي مما يمكن ضبطه بالوصف؛ وذلك من أجل الرجوع إذا تعذر الوفاء إلى هذا الثمن المعلوم قدره ووصفه؛ لأنه إذا كان غير مضبوط بالوصف يبقى الأمر مجهولاً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (48) .(9/81)
قوله: «قبل التفرق» لا بد ـ أيضاً ـ أن يكون القبض قبل التفرق من مجلس العقد، ولو قمنا عن المكان ومشينا جميعاً، مثل أسلمت إليه بمائة درهم مائة صاع من البر، ولكن ليس معي مائة الدرهم، فمشينا جميعاً إلى أحد أصدقائي وتسلفت منه مائة الدرهم وأعطيتها الرجل يجوز؛ لأننا لم نتفرق.
وعندنا قاعدة وهي: أنه يشترط في الثمن والمثمن ألا يكون بينهما ربا نسيئة، فإن كان بينهما ربا نسيئة لم يصح إسلام أحدهما في الآخر؛ لأن ما يجري فيهما ربا النسيئة يشترط فيهما التقابض، والسلم يشترط فيه التأخير، وهذا من التضاد، فلو أسلمت براً بتمر لم يجز، ولو أسلمت ذهباً في فضة لم يجز.
قوله: «وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما عداه» البعض، أي بعض الثمن، فإذا قدر ـ مثلاً ـ أنه أسلم ألف درهم بمائة صاع بر، وسلمه خمسمائة درهم فقط، فالذي يصح خمسمائة فيقابلها خمسون، والباقي لا يصح؛ لأنه لا بد من قبض الجميع، فما لم يقبض لا يصح، وهذا مبني على ما سبق من القول الصحيح من تفريق الصفقة، وأما إذا قلنا بعدم تفريقها، لم يصح في الجميع.
قوله: «وإن أسلم في جنس إلى أجلين» مثاله: أسلم بألف ريال إلى شخص في بر، ولكنه جعل بعضه يحل في رجب، والبعض الثاني يحل في شوال، فقد أسلم في جنس إلى أجلين.
قوله: «أو عكسه» أسلم في جنسين إلى أجل واحد، بأن أسلم في بر وشعير إلى أجل واحد.(9/82)
قوله: «صح إن بيَّن كل جنس وثمنه» كأن يقول: مائة صاع بر وشعير بألف درهم؛ فلا بد أن يبين مقدار كل جنس، فيقول مثلاً: خمسون صاعاً من البر وخمسون صاعاً من الشعير، ولا بد ـ أيضاً ـ أن يبين ثمنه، ـ مثلاً ـ خمسون صاعاً من البر يقابلها ستمائة من الألف، وخمسون صاعاً من الشعير يقابلها أربعمائة من الألف، لا بد من هذا حتى إذا تعذر البعض يعرف قسطه من الثمن، وإذا كان الأمر مجهولاً أدى إلى النزاع.
قوله: «وقِسْطَ كل أجل» هذا فيما إذا أسلم في جنس إلى أجلين، بأن يقول: أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع بر إلى أجلين، لا بد أن يبين قسط كل أجل، فمثلاً يقول: الأجل الأول خمسون، والثاني خمسون؛ وذلك أنه إذا حصل اختلاف، أو تعذر وفاء نرجع إلى ما عُين.
وعلى كلام المؤلف لا يحتاج أن يبين قسطه من الثمن؛ لأنه سيقسط عليه بالقسط؛ لأنه معروف.
السَّابِعُ: أَنْ يُسْلِمَ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يَصِحُّ فِي عَيْنٍ. وَيَجبُ الوَفَاءُ مَوْضعَ العَقْدِ، وَيَصِحُّ شَرطُهُ فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ عُقِدَ بِبَرٍّ أَوْ بَحْرٍ شَرَطَاهُ. وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ المُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلاَ هِبَتُهُ وَلاَ الحَوَالَةُ بِهِ وَلاَ عَلَيْهِ وَلاَ أَخْذُ عِوَضِهِ، وَلاَ يَصِحُّ الرَّهْنُ وَالكَفِيْلُ بِهِ.
قوله: «السابع: أن يُسلم في الذمة» أي: ذمة المسلم إليه.
قوله: «فلا يصح في عين» بأن يقول: أعطيتك مائة درهم بمائة كيلو بر، فإن أسلم في عين بأن قال: أسلمت إليك مائة درهم بهذه العين فإنه لا يصح؛ لأنه ما دام المسلم فيه معيناً فلا حاجة فيه إلى السلم، يعطيه الدراهم ويأخذ هذا الشيء، ولا يبقى وديعة عند البائع، لا يستفيد منه البائع ولا يستفيد منه المشتري، ولأنه قد يتلف قبل حلول الأجل.(9/83)
وقال بعض أهل العلم: إنه لا يصح سلماً في عين ولكنه يصح بيعاً، وهذا يرجع إلى قاعدة وهي: هل إذا وقع العقد على صورة تخالف ذلك العقد ولكنها تصح على وجه آخر، هل نقول بالصحة أو نقول بالبطلان؟ معلوم أني لو بعت عليك هذا الشيء المعين جاز، ولكن لو أسلمت إليك فيه فإنه لا يجوز، فهل نقول: لما تعذر تحقيق السلم في هذا المعين يتحول العقد إلى بيع؛ أو نقول لا يصح؛ لأن السلم له أحكام خاصة به، والبيع له أحكام خاصة به؟ المذهب هذا، وذكر ابن رجب في القواعد أن المسألة فيها قولان في المذهب، قول بالصحة وأنه ينزل على العقد الذي يصح عليه، وقول ثان أنه لا يصح وهو المذهب.
ولكن هذا الشرط فيه نظر، بل إنه يصح أن يسلم في عين، وتبقى هذه العين عند المسلم إليه حتى يحل أجلها؛ لأن عموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، يشمل هذا، والأصل الصحة حتى يقوم دليل على الفساد.
مسألة: إذا قال: أسلمت إليك في هذا البستان فلا يصح ـ أيضاً ـ على المذهب؛ لأنه ليس في الذمة، وهذا البستان قد يثمر وقد لا يثمر، وإذا كان الشارع نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فهذا من باب أولى، ولكن يصح أن يسلم في بساتين القرية عامة، مثل أن يقول: أسلمت إليك في ثمر هذا البلد؛ لأن بعض البلدان يكون ثمره جيداً؛ وذلك لأن تخلف الثمر في البلد(9/84)
أمر نادر بعيد، والنادر لا حكم له، بخلاف ما إذا كان في بستان معين فقد يتخلف كثيراً، ولذلك لا يصحِّحونه.
وقيل: يصح أن يسلم في بستان معين بشرط أن يكون أقل مما يثمر عادة، فإذا قدر أن هذا البستان يأتي بألف كيلو، فيكون السلم بثمانمائة ونحوه احتياطاً، ولكن لو قلت: بألفي كيلو، فهذا لا يجوز؛ لأن ما زاد على ما يثمر عادة كالمعدوم بل كالموهوم في الواقع. فصار عندنا الآن ثلاث مراتب: في شجرة معينة، في بستان معين، في البلد، أما في البلد فيصح، وأما الشجرة المعينة فلا يصح، وأما البستان المعين ففيه خلاف.
قوله: «ويجب الوفاء موضع العقد» يعني لو أسلم إلى شخص في عنيزة مائة درهم بمائة صاع بر، ولم يذكر محل الوفاء، فإن الوفاء يكون في مكان العقد، فلو قال المُسلِمُ: أنا أريد أن تعطيني إياه في بريدة، لم يلزمه؛ لأن الواجب أن يكون في موضع العقد.
قوله: «ويصح شرطه في غيره» أي: في غير موضع العقد، لو عقد السلم في عنيزة، وقال: أريد أن يكون الوفاء في بريدة ـ مثلاً ـ، فإنه يجب الوفاء بالشرط ما لم يتسامحا، فإن تسامحا فالحق لهما.
إلا إذا شرطناه في مكان لا يمكن الوصول إليه، كما لو قلت: بشرط أن توفيني إياه على سطح القمر فإنه لا يمكن، فإن لم يشترط في غير مكان العقد، فإنه في مكان العقد، حتى وإن لم يكن مكان العقد بلداً لهما، فلو تعاقدا عقد سلم في مكة وهما حجاج وحل الأجل، فالواجب أن أوفيه بمكة وإن لم تكن مكة بلداً لهما، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن المرجع في ذلك(9/85)
إلى العرف، فيجب الوفاء في المكان الذي دل العرف على وجوب الوفاء به، ومعلوم أنه إذا عقدا السلم في مكة وهما حجاج، فإن العادة أنه يوفي في مكان المسلِم، ولكن على المذهب نتخلص من ذلك بأن نشترطه في بلد المسلِم.
قوله: «وإن عقد بِبَرٍّ أو بحر شرطاه» أي وجب أن يشترطا مكان الوفاء؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يوفي في البحر أو في البر وليس البلد الفلاني أولى من البلد الفلاني، فيجب أن يعينا مكان الوفاء، فمثلاً: لو أن شخصاً أسلم إلى آخَرَ مائة درهم بمائة صاع بر في البَرِّ وهو قادم من مكة ـ مثلاً ـ، نقول: في هذه الحال لا بد أن يذكر مكان الوفاء، وكذلك لو كانا في سفينة في البحر، وتم العقد بينهما في السفينة فإنه لا بد أن يُذكر محل الوفاء؛ وذلك لتعذر الوفاء في البر والبحر.
والقول الثاني في المسألة: أن يرجع في ذلك إلى العرف، والعرف أن يسلم في بلد المسلِم، وعلى هذا فلا حاجة إلى التعيين اعتماداً على ما جرى به العرف.
مسألة: لو عقداه في بلد ثم توافقا في بلد آخر، وأوفى المسلَمُ إليه المسلِمَ، فهل يجب القبول أم لا؟ مثلاً أسلم إليه في المدينة توافقا في مكة وأوفاه المسلَم فيه في مكة، فلا يجب عليه القبول، فإن قبل باختياره فلا بأس وإلا فلا.
ولو طلب المسلِم من المسلَم إليه أن يوفيه إياه في مكة وأبى فهل يُلزمه بذلك؟ لا يلزمه؛ لأن الواجب أن يوفي في مكان العقد، فلو قال أنا أوفيك إياه في مكة لكن أضيف إليه الأجرة، فالمذهب لا يجوز أن يوافق؛ لأن المسلم فيه لا يزاد ولا ينقص، فنقول بدون أجرة وإلا فلا.(9/86)
قوله: «ولا يصح بيع المسلَم فيه قبل قبضه» سواء بيع على المسلم إليه أو على رجل أجنبي؛ لأنه بيع دين في ذمة الغير، والمشتري قد يتمكن من القبض وقد لا يتمكن، ولحديث: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (1) ، لكن هذا الحديث ضعيف لا يحتج به.
فإن قال قائل: إذاً هل يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه؟
فالجواب: نعم يجوز بيعه على المسلم إليه، وعند شيخ الإسلام يجوز بيعه حتى على أجنبي، لكن فيه نظر؛ لأنه حقيقة إذا بعته على غير من هو عليه قد يتعذر عليه أخذه، ثم إذا بعته على غير من هو عليه بما يباع نسيئة معناه ما قبضه، فالتوسع غير ظاهر لي جداً، وشيخ الإسلام يجوز بيع الدين على غير من هو عليه، ولكنه يشترط القدرة على أخذه، لكن إن باعه على المسلم إليه فإنه يشترط ثلاثة شروط:
الأول: ألا يربح، بأن يبيعه بسعر يومه؛ لأنه لو باعه بأكثر من سعر يومه لربح فيما لم يضمن، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربح ما لم يضمن (2) ، فمثلاً أسلم في مائة صاع بُر حلَّت وقيمتها عند الوفاء مائتا درهم فقط، فقال: أبيعها عليك بمائتين وخمسين درهماً، لا
__________
(1) أخرجه أبو داود في البيوع/ باب السلف يحول (3468) ، وابن ماجه في التجارات/ باب من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (2283) . قال الحافظ: «فيه عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف، وأعله أبو حاتم، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان» . «التلخيص» (1203) ، وانظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (884) ، و «نصب الراية» (4/51) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/174) ، وأبو داود في البيوع/ باب الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234) ، والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/295) ، وابن حبان (4321) والحاكم (2/17) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.(9/87)
يجوز؛ لأنه ربح في هذا البر قبل أن يدخل في ضمانه؛ لأنه لم يملكه ولم يقبضه، فيكون قد ربح فيما لم يضمن، ولحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وفيه: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها» (1) ، حتى لا يربح فيما لم يضمن، فإن كانت مائة الصاع تساوي مائتي درهم وباعها عليه بمائة وخمسين يجوز؛ لأنه إذا جاز بسعر يومها فبما دونه من باب أولى، ولأننا عللنا منع الزيادة بألا يربح فيما لم يضمن، وهذا لم يربح بل خسر، والمراد بقوله «بسعر يومها» ألا تزيد، فإن نقصت فقد فَعَلْتَ خيراً.
الشرط الثاني: أن يحصل التقابض قبل التفرق فيما إذا باعه بشيء يجري فيه ربا النسيئة، مثاله: أن يبيع البر بشعير، مائة صاع بر بمائتي صاع شعير، فهذا جائز بشرط التقابض قبل التفرق؛ لأن بيع البر بالشعير يشترط فيه التقابض قبل التفرق، ولحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء» لأنه يبيع دراهم بدنانير أو دنانير بدراهم، وبيع الدراهم بالدنانير يشترط فيه التقابض قبل التفرق.
الشرط الثالث: ألا يجعله ثمناً لسلم آخر؛ لأنه إذا جعله ثمناً لسلم آخر فإن الغالب أن يربح فيه، وحينئذ يكون ربح فيما لم يضمن، مثاله: حل السلم مائة صاع من البر، فقالا: سنجعلها
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/83، 139، وأبو داود في البيوع/ باب اقتضاء الذهب من الورق (3354) والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في الصرف (1242) والنسائي في البيوع/ باب بيع الفضة والذهب (7/281) ، وابن ماجه في التجارات/ باب اقتضاء الذهب من الورق (2262) وصححه ابن حبان (18620) إحسان، والحاكم (2/44) وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصوب شعبة والترمذي والبيهقي (2/284) أنه موقوف ورجحه الحافظ في الدراية (2/155) .(9/88)
سلماً في خمس من الغنم ـ لأن السلم في الحيوان يجوز كما سبق ـ خمس من الغنم صفتها كذا وكذا تحل بعد سنة، فهذا لا يجوز؛ لأن الغالب أنه لا يفعل هذا إلا بربح، وأن هذه الغنم الخمس تساوي مائة وعشرين صاعاً؛ ولأنه يؤدي إلى قلب الدين بحيث يكون كلما حل دينه جعله سلماً آخر، وهذا حيلة على قلب الدين وازدياده في ذمة المدين بهذه الطريقة، وكلما حل الدين قال: اجعله سلماً آخر، وهكذا حتى تتراكم عليه الديون، فالراجح أن بيعه جائز لكن بالشروط الثلاثة المذكورة، أما المذهب فإن بيعه لا يجوز مطلقاً ودليلهم حديث: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (1) كما سبق، لكن هذا الحديث ضعيف كما حققه ابن القيم في تهذيب السنن، وعلى تقدير صحته فإنه يتعين أن يكون معناه من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره، أي: إلى سلم غيرِهِ، أي: لا يجعله رأس مالٍ لسلم جديد، وأما إذا قلنا: إن الحديث ليس بصحيح فإن بيعَهُ الأَصلُ فيه الحِلُّ؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولأن حديث ابن عمر ـ رضي الله عنها ـ يدل على جواز مثل هذه المعاملة؛ إذ لا فرق بين دين السلم وغيره، ومن ادعى فرقاً بين دين السلم وغيره فليأت به.
قوله: «ولا هبته» أي هبة المسلم فيه فلا يجوز أن تهبه، وهذه العبارة تحتها نوعان:
الأول: أن يهبه لمن هو عليه.
الثاني: أن يهبه لرجل آخر، وعموم كلام المؤلف يشمل هذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(9/89)
وهذا، فلا يجوز أن تهب المسلَم فيه لمن هو عليه، ولا لرجل آخر، أما هبته لمن هو عليه فقالوا: إن هذا داخل في قوله: «فلا يصرفه إلى غيره» (1) ، وأيضاً الهبة تقتضي عيناً مملوكة تعطيها لشخص.
والجواب: أما الحديث فقد قال: «فلا يصرفه إلى غيره» وهذا لم يصرفه إلى غيره، وأما التعليل فنقول: إنه إذا وهب المسلم فيه لمن هو عليه، وقال: وهبتك ما في ذمتك من البر، فهذه الهبة بمعنى الإبراء، وهم قد ذكروا في باب الهبة أن من أبرأ غريمه بلفظ الإبراء أو الهبة أو الإسقاط أو ما أشبه ذلك برئ، فكيف تجيزون الإبراء بلفظ الهبة في الديون ولا تجيزونه في دين السلم؟! أليس دين السلم من جملة الديون؟! فلا شك أنه إذا وهب المسلم فيه إلى المسلم إليه جاز؛ لأن أكثر ما فيه أنه أبرأه منه، والإبراء خير وإحسان فكيف نمنعه؟!
أما إذا وهبه لغيره، مثل أن يأتي رجل فقير إلى المسلِم، فيقول: أنا محتاج إلى قوت فقال له: عند فلان لي سلم، مائة صاع بر، وهبتك إياها، فعلى رأي المؤلف لا يصح؛ لأنه لم يقبض السلم ولم يصر ملكاً له حتى يهبه، ولكن الصحيح أنه يصح؛ لأن هذه المعاملة ليس فيها ضرر إطلاقاً، فكأنه أحاله على هذا الرجل يقبض الحق منه ثم يتملكه لنفسه، وأي مانع شرعي يكون في هذا؟! وليس هناك غرر فلو كان بيعاً نعم، إذا باع المسلَم فيه لغير المسلم إليه ربما يتعذر قبضه ويصير فيه جهالة، لكن في الهبة، فالموهوبُ له إما غانم أو سالم، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه يجوز هبة المسلم فيه، سواء وهبته للمسلم إليه أو لآخر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(9/90)
قوله: «ولا الحوالة به» مثل أن يقول المسلم إليه للمسلم: أحلتك بدينك على فلان؛ لأني أطلبه، فهذه حوالة به، أي: لما حل الأجل جاء المسلِم إلى المسلَم إليه وقال: أعطني السلم، قال: إن فلاناً عنده لي مائة صاع بر على قدر ما أنت تطلبني وإني أحيلك به عليه، فيقول المؤلف: إنه لا يصح؛ لأنه ربما يؤدي إلى أخذ شيء من غير جنسه ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره.
قوله: «ولا عليه» أي: الحوالة عليه، وذلك بأن يكون المسلم في ذمته دين لشخص، فلما جاء يطلبه قال: أحيلك على فلان؛ لأن في ذمته لي مائة صاع بر سلماً، فيقول المؤلف: لا يصح؛ لأن هذا يقتضي صرف المسلم فيه إلى غيره وقد ورد النهي عنه؛ ويعللون بأنه يشترط في الدين المحال عليه أن يكون مستقراً ودين السلم ليس مستقراً؛ لأنه سبق أنه إذا تعذر الوفاء فله الصبر أو الفسخ، فنقول: في الواقع إنه مستقر؛ لأن هذا المحال إذا حل الأجل ولم يجد شيئاً فله الصبر أو الفسخ ويرجع بالثمن.
وأما الحديث فلا دلالة فيه؛ لأنه إما ضعيف أو متأول كما سبق.
والصواب أنه يصح، فيصح أن يحال به وأن يحال عليه؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيل بدينه على مليء فليتبع» (1) .
قوله: «ولا أخذ عوضه» أليس هذا هو البيع، وقد سبق أنه لا يجوز بيعه؟ فنقول: المراد بالبيع فيما سبق إذا باعه بالنقود،
__________
(1) أخرجه البخاري في الحوالات/ باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟ (2287) ، مسلم في البيوع/ باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة (1564) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/91)
أما أخذ العوض هنا إذا اعتاض عنه بغير النقود فلا يجوز؛ وذلك نظراً لأنهم جاؤوا بعبارتين فلا بد أن ننزل كل واحدة على معنى يخالف الأخرى حتى لا يكون في ذلك تكرار، فنقول: ولا أخذ عوضه فيما إذا اعتاض عنه ما ليس بنقد، فلا يجوز، أي: لو أنه لما حل الأجل قال المسلِم للمسلَم إليه: في ذمتك لي مائة صاع بر، وأريد أن تعطيني شعيراً أو أرزاً فإن هذا لا يصح؛ لأنه حوله وصرفه إلى غيره، ولحديث: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» (1) ، لكن كما سبق أن هذا الحديث غير صحيح، وعليه فإذا أخذ عوضه فلا بأس لكن بالشروط الثلاثة السابقة.
قوله: «ولا يصح الرهن والكفيل به» أي: لو أن المسلم قال للمسلم إليه: أنا أريد أن ترهنني شيئاً أتوثق به، فقال: أرهنك نخلي، أو أرهنك سيارتي، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يصح؛ لأنه عند تعذر الوفاء يرجع المسلم إلى هذا الرهن، فيكون قد صرف السلم إلى غيره.
وكذلك لا يصح أخذ الكفيل به؛ لأنه إذا تعذر الوفاء من المكفول أخذ من الكفيل، وحينئذ يكون المسلم فيه قد صُرف إلى غيره، وهذا ضعيف أيضاً؛ لأنه إذا تعذر الاستيفاء من المكفول وأخذته من الكفيل لم أصرفه إلى غيره، صحيح أنه انتقل من ذمة إلى ذمة، وأما المسلم فيه فهو نفسه لم أصرفه إلى غيره.
فالصواب إذاً جواز أخذ الرهن والكفيل والضمين به، كلها جائزة؛ لأنه ليس فيها محظور ولا ربا ولا ظلم ولا غرر ولا جهالة، وهذه عقود توثقة والأصل في العقود الحل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (87) .(9/92)
بَابُ القَرْضِ
قوله: «باب القرض» القرض من عقود التبرعات؛ لأن العقود تنقسم إلى أقسام: منها عقود معاوضات، ومنها عقود تبرعات، ومنها عقود توثيقات، فالرهن والضمان ـ مثلاً ـ عقود توثيقات، والهبة والوصية والصدقة وما أشبهها عقود تبرعات ومنها القرض، وعقود المعاوضات كالبيع والإجارة وشبهها.
والقرض في اللغة: القطع، ومنه المقراض، أي: المقص؛ لأنه يقطع الثوب.
وأما في الشرع: فهو إعطاء مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
فقولنا: «يرد بدله» خرج بذلك العارية؛ لأن العارية لا يرد بدلها، وإنما يرد عينها.
وهذا التعريف فيه نظر، والصحيح أن يقال: «تمليك مال..» ؛ لأنك إذا قلت: «إعطاء مال لمن ينتفع به..» ، معناه أن المقترض لا يملك إلا الانتفاع، والحقيقة أنه يملك العين ملكاً تاماً، فهو تمليك مال لمن ينتفع به ويرد بدله.
وهو عقد إرفاق يقصد به تمليك المُقرَض للمقترض، أي: تمليك الرجل الذي أقرضتَه لِمَا تُقْرِضُه من أعيان أو منافع ـ على القول بجواز الإقراض فيها ـ فهو إذاً عقد إرفاق ولا يقصد به المعاوضة والمرابحة، وإنما هو إحسان محض، ولهذا جاز القرض مع أن صورته صورة ربا، فإنه إذا باع درهماً بدرهم ولم(9/93)
يحصل بينهما تقابض كان ربا، وإذا أقرضه درهماً وبعد شهر أعطاه إياه لم يكن ربا، مع أن الصورة صورة ربا ولا يختلف إلا بالقصد، ولما كان المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان صار جائزاً.
وأما حكمه فيقول المؤلف:
وَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ صَحَّ قَرْضُهُ إلاَّ بَنِي آدَمَ وَيُمْلَكُ بِقَبْضِهِ فَلاَ يَلْزَمُ رَدُّ عَيْنِهِ بَلْ يَثبتُ بِدَلُهُ فِي ذِمَّتِهِ حَالًّا وَلَوْ أجَّلَهُ فَإِنْ رَدَّهُ المُقْتَرِضُ لَزِمَ قَبُولُهُ،
«وهو مندوب» فهذا بالنسبة للمقرض، أما بالنسبة للمستقرض فهو مباح، ولا يقال: إن هذا من المسألة المذمومة، فهنا طرفان: مقرض ومستقرض، المقرض: القرض في حقه مندوب، أي: مستحب؛ وذلك لأنه من الإحسان فيدخل في عموم قول الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ، ومن حيث المعنى فإن فيه دفع حاجة أخيك المسلم، وربما يكون القرض أحياناً أكثر ثواباً من الصدقة؛ لأنه لا يستقرض إلا محتاج في الغالب، والصدقة أفضل من جهة أنها لا تشغل الذمة، فإذا أعطيته لم يكن في ذمته شيء.
ويجب القرض أحياناً فيما إذا كان المقترض مضطراً لا تندفع ضرورته إلا بالقرض، ولكن لا يجب إلا على من كان قادراً عليه من غير ضرر عليه في مؤونته ولا مؤونة عياله.
كما أنه يكون أحياناً حراماً إذا كان المقترض اقترض لعمل محرم لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولكنه من حيث الأصل هو بالنسبة للمقرض مندوب؛ لأنه من الإحسان.
وأما بالنسبة للمستقرض فإنه مباح، ولا يقال: إنه من المسألة المذمومة، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه استقرض (1) .
__________
(1) من ذلك ما رواه مسلم في البيوع/ باب جواز اقتراض الحيوان ... (1600) عن أبي رافع ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استسلف من رجل بَكراً فقدمت عليه إبل من الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رَباعياً، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاءً» .(9/94)
وظاهر كلام الفقهاء أنه مباح مطلقاً، وينبغي أن يقال: إنه مباح لمن له وفاء، وأما من ليس له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة، ولهذا لم يرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم الرجل الذي أراد أن يتزوج وقال: «ليس عندي شيء» إلى أن يقترض، بل زوجه بما معه من القرآن (1) ، فدل هذا على أنه ينبغي للإنسان ما دام عنده مندوحة عن الاقتراض أن لا يقترض، وهذا من حسن التربية؛ لأن الإنسان إذا عوَّد نفسه الاقتراض سهل الاقتراض عليه، ثم صارت أموال الناس التي في أيديهم كأنها مال عنده لا يهمه أن يقترضها، فلهذا ينبغي للإنسان أن لا يقترض إلا لأمر لا بد منه، هذا إذا كان له وفاء، أما إذا لم يكن له وفاء فإن أقل أحواله الكراهة وربما نقول بالتحريم، وفي هذه الحال يجب عليه أن يبين للمقرض حاله؛ لأجل أن يكون المقرض على بصيرة.
ولكن إذا قال قائل: الولي على مال اليتيم هل يندب له أن يقرض؟
فالجواب: لا؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 158] ، لكن لو كان إقراضه من مصلحته
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310) ، ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ.(9/95)
فهنا يكون الإقراض مستحبّاً من وجهين: من جهة الإحسان للمستقرض، ومن جهة الإحسان في حفظ مال اليتيم.
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ ضابط ما يصح قرضه فقال:
«وما يصح بيعه صح قرضه» (ما) هنا يجوز أن تكون اسماً موصولاً، أي: والذي يصحُّ بيعه صح قرضه، وأجيب بما يشبه جواب الشرط؛ لأن اسم الموصول يشبه الشرط في العموم، ومنه المثال المشهور الذي يأتيني فله درهم، فهذه بمنزلة قولك من يأتني فله درهم، ويحتمل أن تكون اسم شرط ويكون فعل الشرط «يصحَّ» على أنها مجزومة حركت بالفتح لالتقاء الساكنين وجوابه «صح» .
هذا هو الضابط، فكل ما صح بيعه صح قرضه، وكل ما لا يصح بيعه لا يصح قرضه.
وعلى هذا، فالكلب لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه، والميتة لا يصح قرضها حتى لمن حلت له فإنه لا يصح قرضها؛ لأنه لا يصح بيعها، والمرهون لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه، والموقوف لا يصح قرضه؛ لأنه لا يصح بيعه وهلم جرّاً.
وظاهر كلام المؤلف في قوله: «وما يصح بيعه» أنه يصح قرض المنافع؛ لأن المنافع يجوز بيعها مثل الممر في الدار، فأملك المنفعة في هذا الممر لكن لا أملك الممر، فبيع المنافع جائز أما إقراضها، فالمذهب لا يجوز، واختار شيخ الإسلام جواز ذلك بأن أقول: أقرضني نفسك اليوم لتساعدني على الحصاد وغداً أوفيك، أي: أحصد معك، وهذا هو الصحيح، لوجهين:(9/96)
أولاً: أن الأصل في المعاملات الإباحة.
ثانياً: أن المنافع تجوز المعاوضة عنها، فإذا كانت تجوز المعاوضة عنها فإنه يجوز إقراضها، مثل ما أقول للعامل: اشتغل عندي بأجرة قدرها كذا وكذا، فهو عمل يصح العقد عليه ويقابل بالعوض، فتشتغل عندي يوماً وأشتغل عندك يوماً آخر، والاختلاف اليسير لا يضر، لأنه قد تختلف منافع هذا عن منافع هذا، والاختلاف الكثير لا يرضى به.
قوله: «إلا بني آدم» فإن بني آدم يصح بيعهم ولا يصح قرضهم، ويعني بذلك المماليك، فإذا كان عند الإنسان مملوك فإنه يصح بيعه لا شك لكن لا يصح قرضه؛ لأنه لم تجر العادة بذلك، ولما في هذا من الإذلال للمسلم؛ ولأنه يخشى من الفتنة والفساد، فيخشى أن يقترض الإنسان أمة ثم يجامعها لمدة أيام ثم يردها؛ لأن الإنسان إذا رد القرض، وجب قبول عينه، فيفضي إلى أن يستقرض الإنسان أمة، ثم يجامعها مدة أيام، ثم يردها إلى مالكها.
وقال بعض العلماء: يصح قرض الذكر للذكر، يعني أن يقرض الإنسان رجلاً مملوكاً لشخص؛ وذلك لأنه مأمون أن يفعل به شيئاً، ولو أقرضت أنثى لأنثى فلا بأس، ويصح أن يقرض امرأة لمحارمها، ولكن هذا فيه إشكال؛ لأنه سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في باب العتق أن من ملك ذا رحم محرم عليه فإنه يعتق عليه.
على كل حال استثناء المؤلف بني آدم له وجه، فيقال: بنو آدم يصح بيعهم ولا يصح قرضهم.(9/97)
أما الحيوان غير بني آدم كالخيل والبقر والحمر والغنم وغيرها يجوز قرضه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسلف بَكراً ورد خيراً منه وقال: «خيركم أحسنكم قضاء» (1) ، وعلى هذا يجوز للإنسان إذا نزل به ضيف فجاء إلى جاره وقال: أقرضني شاة أذبحها للضيف، فإنه يجوز.
قوله: «ويُملك بقبضه» الضمير يعود على المُقْرَض، فإذا قبضه المستقرض ملكه، وصار ملكه عليه تامّاً يجوز أن يبيعه وأن يؤجره وأن يوقفه وأن يرهنه، وأن يتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم.
قوله: «فلا يلزم رد عينه» هذا مما يتفرع على قولنا: إنه يملكه فلا يلزم المقترض رد عينه، أي: عين القرض، فلو طالب المقرض المستقرض بأن يرده فله أن يقول: لا، أنا ملكته بقبضه ولك عليّ بدله، ولا يلزمني أن أرده بعينه، ولهذا قال: «لا يلزم رد عينه» ، ولكن لو رد عينه وهي لم تتغير فإنه إن كان مثليّاً لزم قبوله، وإن لم يكن مثليّاً لم يلزم قبوله، كما سيذكر المؤلف إن شاء الله.
قوله: «بل يثبت بدله» أي: بدل المُقْرَض، وهذه عبارة جامعة لم يقل: يثبت مثله، بل قال: يثبت بدله؛ لأن البدل قد يكون المثل، وقد يكون القيمة، ولذلك عبر المؤلف بكلمة صالحة للوجهين، فإن القرض إما أن يكون مثلياً أو قيمياً، ويعبر عنه الفقهاء بالمتقوم، فإن كان مثلياً فالواجب رد مثله، وإن كان قيمياً يلزم رد قيمته.
__________
(1) سبق تخريجه ص (94) .(9/98)
قوله: «في ذمته» أي: في ذمة المستقرض.
قوله: «حالًّا» لا مؤجلاً، حتى وإن أجله لا يتأجل؛ لأن القرض موضوعه الحلول، فإذا أجلناه فقد خرجنا به عن موضوعه فخالفنا مقتضى العقد، وكل شرط يخالف مقتضى العقد فهو باطل؛ لأنه يخرج بالعقد عن موضوعه الشرعي، فيكون مخالفاً لكتاب الله ـ عزّ وجل ـ وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل؛ ولأنه ليس معاوضة فكيف نلزم هذا المحسن ألا يطالب إلا بعد الأجل؟!
فإذا قال إنسان: أقرضني صاعاً من بر، فأقرضته إياه ملكه وثبت في ذمته بدله، فبدل صاع البر صاع بر مثله؛ لأنه مثلي، فيلزمه صاع بر في ذمته، حالًّا يعني: للمقرض أن يطالب المستقرض بالوفاء حالاًّ ولو بعد نصف ساعة.
قوله: «ولو أجَّله» هذه إشارة خلاف، أي: قال المستقرض للمقرض: سأوفيك بعد سنة فإنه لا يصح هذا الشرط ويلغى ويكون القرض حالًّا؛ لأن الإمام أحمد نصّ على أن القرض حال، فقال: «كل قرض فهو حال» ، أي: لا يقبل التأجيل، وهذا من حيث الحكم الوضعي، فإذا شرط التأجيل كان شرطاً منافياً لمقتضى العقد، وكل شرط يخالف مقتضى العقد فهو شرط فاسد وكل شرط فاسد فهو حرام، وهذا من حيث الحكم التكليفي، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
والصحيح: أنه إذا أجله ورضي المُقْرِض فإنه يثبت الأجل، ويكون لازماً، ولا يحل للمقرض أن يطالب المستقرض حتى يحل الأجل.(9/99)
وهو اختيار شيخ الإسلام؛ لأن هذا لا ينافي مقتضى العقد بل هو من تمام مقتضى العقد؛ لأن المقصود بالقرض الإرفاق والإحسان وإذا أجلته صار ذلك من تمام الإحسان، فالأرفق للمقترض التأجيل، ومن وجه آخر أن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وهذا عقد شرط فيه التأجيل فيجب أن يُوفى به؛ لأن أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود يشمل الوفاء بأصلها والوفاء بوصفها، وهو الشروط التي تشترط فيها؛ وقال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، والمقرض الذي أجله قد تعهد ألا يطالب إلا بعد انتهاء الأجل فيكون هذا العهد مسؤولاً عنه عند الله؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1) ، فعلم من ذلك أن الشرط الذي لا ينافي كتاب الله فليس بباطل، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً» (2) ؛ ولأن المطالبة به وهو مؤجل إخلاف للوعد، وإخلاف الوعد من سمات المنافقين، فكل هذه الأدلة تدل على أنه إذا كان مؤجلاً وجب أن يبقى مؤجلاً؛ ولأنه ربما يكون في ذلك ضرر عظيم على المستقرض.
مثلاً: هذا الرجل أقرضني خمسين ألفاً لشراء سيارة أنتفع بها، فاشتريت السيارة على أن القرض مؤجل إلى سنة، فعلى
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155) ، ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) (8) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) سبق تخريجه ص (18) .(9/100)
كلام المؤلف لصاحب القرض أن يطالبني الآن ويقول: أوفني، ويلزمني بأن أبيع السيارة، وأوفيه، وفي ذلك ضرر عظيم، وكذلك لو أني استقرضت من شخص دراهم لأشتري بيتاً للسكنى، فاشتريت وسكنت، وكان هذا القرض مؤجلاً إلى سنة أو أكثر، ثم جاء يطالبني ويقول: أعطني قرضي، فهذا فيه ضرر لا شك، ويستقبحه العقل والعرف والمروءة فضلاً عن الشرع.
إذاً دلالة الكتاب والسنة والمعنى كلها متفقة على أن التأجيل في القرض جائز وأنه ملزم ولا بد منه.
ويقال: إن قول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «كل قرض فهو حالٌّ» ، يعني هذا هو الأصل، لكن كم من أشياء خرجت عن أصولها بالشروط التي تُدْخَل فيها.
إذن القول الراجح: أنه يتأجل بالتأجيل، ويثبت الأجل، وليس للمقرض الحق في أن يطالب؛ لأنه هو الذي رضي بتأجيله، وللأدلة التي ذكرناها من قبل.
قوله: «فإن رده المقترض لزم قَبوله» الهاء في قوله: «رده» تعود على المُقْرَضِ إن «رده المقترض» على المقرض «لزمه» ، أي: لزم المُقْرِض قبوله؛ لأنه عين ماله لكن بشرط ألا يتغير، وألا يكون متقوماً؛ لأنه لما أقرضه ثبتت القيمة في ذمته، فيقول: أنا لم يثبت لي المثل، لكن وجبت لي القيمة فأعطني القيمة.
وظاهر كلام المؤلف حتى وإن كان المستقرض انتفع به في هذه المدة، فإنه يلزم المقرض قبوله، لا سيما إن كان قد اقترضه وهو جديد، ثم استعمله ولو لمدة يسيرة، فسوف تنقص قيمته بلا شك.(9/101)
القول الثاني: أنه لا يلزم المقرض قبوله سواء تغير أم لم يتغير، فإذا قال المقترض للمقرض: هذا مالك أنا رددته عليك، فقال له: أنت اقترضته وقبضته، فصار ملكاً لك، فلا يلزمني أن أقبله وأدخله ملكي.
وهذا القول هو الصحيح: أنه إذا رده المقترض فإنه لا يلزم المقرض قبوله، لكن لو قبله فلا بأس؛ لأن الحق له، ولا فرق بين أن يكون مثليّاً أو متقوماً، فإنه لا يلزم القبول على القول الراجح.
وَإِنْ كَانَتْ مُكَسَّرَةً أوْ فُلُوساً فَمَنَعَ السُّلْطَانُ المُعَامَلَةَ بِهَا فَلَهُ القِيمةُ وَقْتَ القَرْضِ، وَيَرُدُّ المِثْلَ فِي المِثْلِيَّاتِ وَالقِيمَةَ فِي غَيْرِهَا.
قوله: «وإن كانت» يعني العين المُقرَضَة.
قوله: «مكسرة» والمكسرة هي المجزأة؛ لأنهم كانوا فيما سبق يجزؤون الدراهم، فالدرهم له ربع ونصف من الفضة وأدركنا ذلك، ريال الفضة كان له نصف وله ربع، وهذا منذ زمن.
قوله: «أو فلوساً» الفلوس هي كل نقد من غير الذهب والفضة، مثل النقد المعدني الآن، ومنذ زمن ـ أيضاً ـ يسمى فلوساً جمع فَلْس.
قوله: «فمنع السلطان المعاملة بها» أي: ألغاها، وهذه الجملة عطف على قوله: «وإن كانت مكسرة أو فلوساً» .
ربما يفهم من ظاهر كلامه أن السلطان لا يحرم إلا المكسرة والفلوس، أما أصل الدراهم والدنانير فإن السلاطين لا يحرمونها، بل يبقونها نقداً يتعامل به الناس، ومع هذا قال العلماء: يحرم على السلطان أن يحرم السكة الجارية بين الناس؛ لما في ذلك من الضرر العظيم؛ لأنه إذا حرمها صارَت سلعة من(9/102)
السلع، ولم تكن نقداً، وهذا قد يضر بالمسلمين، ولهذا يحرم على الإمام أن يفعل ذلك، لكن ربما تدعو الحاجة إلى هذا بحيث يدخلها الغش والتلفيق وما أشبه ذلك، فيرى السلطان أن من المصلحة أن يُحرم التعامل بها.
قوله: «فله القيمة وقت القرض» مثال ذلك: رجل أقرضني أربعين ربعاً، أي: عشرة دراهم، لكنها بعد التحريم لا تساوي إلاّ خمسة، إذاً له القيمة وقت القرض، وهي عشرة دراهم.
وكذلك الفلوس وهي ـ معدن غير الذهب والفضة ـ فإذا أقرضني ألف قرش قيمتها مائة درهم، ثم إن السلطان حرم هذه الفلوس، فالواجب على المقرض مائة درهم، أي: القيمة وقت القرض؛ ووجه ذلك أن هذا المستقرض ملكها من حين القرض، فخرجت بالقرض عن ملك الأول، ودخلت في ملك الثاني، فحينئذٍ يضمنها بقيمتها وقت القرض.
إذاً لو استقرض مكسرة أو فلوساً ثم حرمت المعاملة بها، فهل له القيمة وقت القرض، أو وقت الوفاء، أو وقت التحريم؟
فمثلاً كان وقت القرض سنة ثلاث عشرة، ووقت التحريم سنة خمس عشرة، ووقت الوفاء سنة ست عشرة، فنأخذ بقيمة سنة ثلاث عشرة، أي: قيمة أول سنة للقرض، وهذا هو المذهب.
القول الثاني: أن المعتبر قيمتها وقت المنع، ووجه هذا القول أن الواجب للمقرض نفس هذه الفلوس إلى أن منعت.
القول الثالث: أن له قيمتها وقت الوفاء؛ لأنها واجبة في ذمة المقترض بأعيانها إلى أن يوفي، فيكون عليه القيمة وقت الوفاء.(9/103)
وأقرب شيء أن المعتبر القيمة وقت المنع؛ وذلك لأنه ثابت في ذمته عشرة فلوس إلى أن منعت، يعني قبل المنع بدقيقة واحدة لو طلبه لأعطى عشرة فلوس، ولكان الواجب على المقرض قبولها، فإذا كان كذلك فإننا نقدرها وقت المنع.
قوله: «ويرد المثلَ في المثليات، والقيمة في غيرها» يعني إذا أراد المستقرض الوفاء، فالواجب أن يرد المثل في المثليات، والقيمة في غير المثليات، وتسمى المتقومات.
والمثلي على كلام الأصحاب ـ رحمهم الله ـ (كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة) .
فقولنا: (كل مكيل أو موزون) خرج به ما سواهما كالمعدود، والمذروع، والحيوان، والثياب، وهلمّ جرّاً.
وقولنا: (يصح السلم فيه) فإن كان لا يصح السلم فيه كالغالية والمعاجين وما أشبه ذلك، فإنه ليس مثليّاً بل هو متقوّم.
وقولنا: (ليس فيه صناعة مباحة) فالحديد موزون، فإذا صنع أواني خرج عن كونه موزوناً؛ لأن فيه صناعة مباحة، والذهب موزون فإذا صُنع أواني، فالصناعة هنا غير مباحة، فيبقى موزوناً، فإذا استقرضت من شخص أواني ذهب مقدارها تسعون جراماً، وهي تساوي إذا لم تكن آنية ثمانية آلاف ريال، وإذا كانت آنية تساوي عشرة آلاف ريال، فالأكثر الأواني، لكن هذه الزيادة في مقابلة صنعة محرمة فلا تعتبر، ولذلك نقول: هذه تعتبر مثلية؛ لأن الصناعة غير مباحة، وإذا كانت غير مباحة فلا قيمة لها، ونقول: عليك أن تضمن مقدار هذا الذهب وزناً؛ لأن الصناعة غير مباحة.(9/104)
مثال آخر: الأقلام متقومة، وكذلك الساعات متقومة؛ لأن فيها صناعة مباحة، فعلى المذهب يجب أن يرد قيمتها، ولكن كيف تعرف القيمة؟
الجواب: أن نقول: ماذا يساوي هذا الشيء حين القرض؟ ويثبت في ذمة المستقرض قيمته، هذا هو القول الراجح.
مثاله: أقرضني شخص بعيراً والبعير متقوم، فنقول: كم قيمته وقت القرض؟ قال: قيمته خمسة آلاف، إذاً يثبت في ذمة المستقرض خمسة آلاف؛ لأن غير المثلي تثبت قيمته، ولهذا قال: «والقيمة في غيرها» .
لو قال قائل: لماذا لا تجعلون القيمة وقت الوفاء؟
نقول: لأنها دخلت ملك المستقرض من حين قبضها، فاعتبرت القيمة في ذلك الوقت.
وقيل: إن المعتبر وقت القرض إلا في الجواهر ونحوها مما يتغير بسرعة، ولكن الصحيح أن المعتبر القيمة وقت القرض؛ لأنه هو الوقت الذي ملكت فيه ما أقرضني.
إذاً الذي يثبت في ذمة المستقرض المثلي في المثليات، والقيمة في المتقومات.
ولكن هل نسلم أن المثلي هو كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه وليس فيه صناعة مباحة؟
الصحيح لا، فالمثلي ما كان له مثيل مقارب، وليس بلازم أن يكون مطابقاً، ولهذا نعلم لو أن إنساناً أقرض بعيراً، ثم أراد(9/105)
المستقرض أن يرد بعيراً مثله في السن واللون والسمن والكبر، فهو أقرب إلى المماثلة من القيمة؛ لأن القيمة مخالفة له في النوع ومقاربة له في التقدير، لكن المماثل من الحيوان أقرب بلا شك، ولهذا كان القول الصحيح أن المثلي ما كان له مثل أو مقارب، وعلى هذا فالحيوان مثلي، ولهذا استسلف النبي صلّى الله عليه وسلّم بَكْراً ورد خياراً رباعيّاً (1) ، فجعله مثليًّا، ولما جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو عند إحدى نسائه بطعام، ضربت المرأة ـ التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيتها ـ يد الغلام حتى سقط الطعام وانكسرت الصحفة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إناء بإناء وطعام بطعام» (2) ، وأخذ طعام التي كان عندها وصحفتها وردهما مع الغلام، فهنا ضمن الإناء بالمثل مع أن فيه صناعة، فجعله النبي صلّى الله عليه وسلّم مثليّاً، ولا شك أن هذا القول هو الأقرب، وعلى هذا فإذا استقرض بعيراً ثبت في ذمته بعير مثله، وإذا استقرض إناء ثبت في ذمته إناء مثله، وهذا أقرب من القيمة.
إذاً خالفنا المؤلف في هذه المسألة في معنى المثل، لكننا نتفق معه في أنه يرد المثل في المثليات والقيمة في غيرها.
فَإِنْ أعْوَزَ المِثْلُ فَالقِيْمَةُ إذاً.
قوله: «فإن أعوز المثل فالقيمةُ إذاً» ويصح «فالقيمةَ» بالنصب، والتقدير فيرد القيمةَ، فقوله: «فإن أعوز المثل» ، أي:
__________
(1) سبق تخريجه ص (94) .
(2) أخرجه أبو داود في البيوع/ باب فيمن أفسد شيئاً يغرم مثله (3568) ، والنسائي في عشرة النساء/ باب الغيرة (7/71) ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (5/125) .(9/106)
أعسر أو تعذر، بمعنى أنه عند الوفاء لم يجد المقترض مِثْلاً فنرجع إلى القيمة، والعلة أنه إذا تعذر الأصل رجعنا إلى البدل وهو القيمة، حتى في العبادات {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] ، لكن بماذا يكون الإعواز؟
الجواب: يكون بأمور:
أولاً: العدم، بأن ينقطع من السوق فلا يوجد، فهذا إعواز لا شك.
ثانياً: الغلاء الفاحش، فمثلاً هذا الشيء يساوي عشرة فارتفع في السوق حتى صار يساوي مائة، فهذا غلاء فاحش مضر بالمقترض.
ثالثاً: البعد الشاق بأن يكون موجوداً، لكن نحن الآن في عنيزة، وهو موجود في بِكِّين، وهي عاصمة الصين.
فالحاصل: أن الإعواز يكون بواحد من الأمور الثلاثة: وهي العدم، والغلاء الفاحش، والبعد الشاق، ولهذا قال المؤلف: «فإن أعوز» ليشمل التعذر والتعسر.
وقوله: «فالقيمة إذاً» أي: وقت الإعواز، فإذا أعوز فإنه يرد القيمة وقت الإعواز، أي: قبل أن يُعدم، فإذا قال المقرض: أنا أريد المثل، فقال له المقترض: والله ليس موجوداً، إلا في بلاد بعيدة، قال: اذهب واشتره، فلا يلزمه؛ لأنه إذا اشتراه سيأتي بأضعاف أضعافه، فيصل إلى بلد المقرض(9/107)
بأضعاف أضعاف القيمة، وهذا إضرار، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
وَيَحْرُمُ كُلُّ شَرْطٍ جَرَّ نَفْعاً، وَإِنْ بَدَأ بِهِ بِلاَ شَرْطٍ، أَوْ أَعْطَاهُ أجْوَدَ، أَوْ هَدِيَّةً بَعْدَ الوَفَاءِ جَازَ، وَإِنْ تَبَرَّعَ لِمُقْرِضِهِ قَبْلَ وَفَائِهِ بِشَيءٍ لَم تَجْرِ عَادَتُهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ، إِلاَّ أنْ يَنْوِيَ مُكَافَأتَهُ أَوِ احْتِسَابَهُ مِنْ دَيْنِهِ.
قوله: «ويحرم كل شرط جر نفعاً» «يحرم» يعني في القرض كل شرط يشترطه المقرِض يجر إليه نفعاً، أما إذا كان يجر نفعاً إلى المستقرض فهو الأصل، إذاً كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو محرم.
وقوله: «كل شرط» الشرط يقع في هذه الحال من المقرض، وهو حرام على المقترض لموافقته على المحرم، فيكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، لكن الأصل أن الشارط هو المقرض.
وقوله: «يحرم كل شرط جر نفعاً» مثال ذلك: جاء رجل إلى شخص، وقال: أريد أن تقرضني مائة ألف، قال: ليس هناك مانع، لكن أسْكُنُ بيتك لمدة شهر، فهنا القرض جر نفعاً للمقرض، فهذا حرام ولا يجوز.
ولماذا لا يجوز؟! أليس المسلمون على شروطهم؟! بلى، لكن إلا شرطاً أحل حراماً أو حرَّم حلالاً، وهذا أحل حراماً؛ وذلك أن الأصل في القرض هو الإرفاق والإحسان إلى المقترض، فإذا دخله الشرط صار من باب المعاوضة، وإذا كان من باب المعاوضة، صار مشتملاً على ربا الفضل وربا النسيئة، فاجتمع فيه الربا بنوعيه.
مثال ذلك: لما استقرض مني مائة ألف، واشترطت عليه أن أسكن داره شهراً، صار كأني بعت عليه مائة ألف بمائة ألف، بزيادة
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(9/108)
سكنى البيت شهراً، وهذا ربا نسيئة وربا فضل، ربا فضل؛ لأن فيه زيادة، وربا نسيئة؛ لأن فيه تأخيراً في تسليم العوض، ولهذا قال العلماء: كل قرض جر منفعة بشرط فهو ربا، وقد ورد «كل قرض جر منفعة فهو ربا» (1) ، لكنه حديث ضعيف أما معناهُ فصحيح.
وعُلِم من قول المؤلف: «كل شرط جر نفعاً» أنه لو لم يكن شرط فإنه لا يحرم، أي: لو جر منفعة للمقرض بدون شرط فإنه ليس حراماً.
مثال ذلك: رجل عنده أرض قد زارع فيها، فجاء المزارع إلى صاحب الأرض، وقال: أنا الآن ليس عندي مواشٍ أحرث عليها، فقال له: أنا أقرضك تشتري مواشي تحرث عليها، فهنا فيه منفعة للمقرض؛ لأن أرضه الآن ستعمر بالزرع، وسيأتيه سهمه الذي اشترط على العامل، لكن المسألة بدون شرط، ثم المصلحة هنا ليست متمحضة للمقرض بل هي لهما جميعاً، فالمقرض ينتفع بعمارة أرضه، والمستقرض ينتفع بما يحصل له من الزرع، فيكون هذا جائزاً:
أولاً: لأن النفع لم يتمحض للمقرض.
ثانياً: أن فيه مصلحة لهما جميعاً.
ثالثاً: أنه لم يكن بشرط.
__________
(1) رواه الحارث بن أسامة في مسنده عن علي رضي الله عنه كما في المطالب العالية (1453) قال الحافظ في التلخيص (1227) : في إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك. وأخرجه البيهقي في الكبرى (5/350) موقوفاً على فضالة ابن عبيد رضي الله عنه.(9/109)
ولو جاء شخص إلى آخر، واستقرض منه دراهم في عنيزة، وقال المقرض: أنا أريد أن أسافر إلى الرياض لأشتري بضاعة، وأشترط عليك أن توفيني في الرياض، فسيأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف في هذا، والصحيح أنه جائز؛ وذلك أن المقرض لم يأته زيادة على ما أقرض، فإنه استقرض منه ـ مثلاً ـ مائة ألف وأوفاه مائة ألف، لكن اختلف المكان فقط، ولهذا بعض العلماء يقول في هذه المسألة: يشترط ألا يكون لحمله مؤونة، والصحيح أن هذا ليس بشرط كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ تفصيله في كلام المؤلف.
قوله: «وإن بدأ به» أي بما يجر النفع.
قوله: «بلا شرط» بأن أعطاه المقترض ما ينتفع به بلا شرط.
قوله: «أو أعطاه أجود» بلا شرط.
قوله: «أو هدية بعد الوفاء جاز» يعني بلا شرط، هذه صور ثلاث.
مثال ذلك: رجل أقرض شخصاً مائة ألف ثم أوفاه، ثم أعطى المقترض سيارته للمقرض ليتمتع بها لمدة عشرة أيام، مكافأة له على إحسانه، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا من باب المكافأة، والمسألة ليست مشروطة حتى نقول إن هذا شرط جر نفعاً.
وكذلك إذا أعطاه أجود فإنه لا بأس به، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رد خياراً رباعيّاً بدلاً عن بكر وقال: «خيركم(9/110)
أحسنكم قضاء» (1) .
وكذلك إذا أعطاه هدية بعد الوفاء، بأن أهدى إليه هدية قليلة أو كثيرة، لكن بعد الوفاء فإن ذلك جائز؛ لأنه في هذه الحال لم يكن معاوضة، أي: القرض، بل كان باقياً على الإرفاق ولكن المقترض أراد أن يكافئ هذا المقرض بما أعطاه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه» (2) .
وعُلم من قول المؤلف: «أو أعطاه أجود» أنه لو أعطاه أكثر بلا شرط فإنه على المذهب لا يجوز، والفرق أن الأجود في الصفة، والأكثر في الكمية، فلا يجوز.
والصحيح أنه جائز بشرط ألا يكون مشروطاً، بأن يقترض منه عشرة ثم عند الوفاء يعطيه أحد عشر فإنه لا بأس؛ لأنه إذا جازت الزيادة في الصفة جازت في العدد؛ إذ لا فرق، بل قد تكون الصفة أحياناً أكثر من العدد، كما لو كان جيداً جدّاً فإنه قد يكون أكثرَ من العدد فائدةً للمقرض.
لكن قد يقول قائل: إذا جوزنا هذا لزم أن نجوِّز الفوائد البنكية، لأنك تعطي البنك مائة ألف ويعطيك بعد سنة مائة وعشرة.
فالجواب على هذا أن البنك زيادته تعتبر مشروطة شرطاً عرفياً، والشرط العرفي كالشرط اللفظي؛ لأن هذا معلوم من
__________
(1) سبق تخريجه ص (94) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/68، 99) ، وأبو داود في الزكاة/ باب عطية من سأل بالله (672) ، والنسائي في الزكاة/ باب من سأل بالله ـ عز وجل ـ (5/82) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، وصححه ابن حبان (3408) ، والحاكم (1/412) وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(9/111)
تعاملهم، لكن من أخذ من حروف أقوال أهل العلم قال: إنه يجوز أخذ الفوائد البنكية؛ لأن الإنسان حينما أعطاهم الدراهم لم يشترط عليهم أن يوفوه أكثر، مع أن المذهب يرون أنه لا يجوز قبول الأكثر، بل يجوز الأجود دون الأكثر، لكن على القول بالجواز لا ترد علينا مسألة البنوك؛ لأنها مشروطة شرطاً عرفياً، فموظف البنك إذا قال: ماذا تريد؟ قال: أريد حساباً بنكياً، وهذا معناه أنه يريد الفوائد.
وفُهم من قوله: «بعد الوفاء» أنه لو كان قبل الوفاء فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يهاديه المقترض كلما مضى شهران أو ثلاثة أشهر، وبهذا يزيد في تأخير الطلب، ثم يكون كالربا الزائد لكل شهر أو لكل سنة.
مسألة: لو قال أعطيك قرضاً مائة ألف على أن تزوجني ابنتك، وقال: أنا لم أشترط مالاً؟
الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن فيه منفعة وأصبح معاوضة ولم يرد به وجه الله، إنما أراد به امرأة يتزوجها.
مسألة: لو قال: أقرضك مائة ألف على أن تؤجرني بيتك لمدة سنة وأعطيك الإيجار كاملاً، وبيتك الآن متعطل وأنا محتاج إليه، فهذا على المذهب لا يجوز؛ لأنه إذا لم تكن منفعة فهي شرط عقد في آخر، ولأنه لولا أنه يريد أن يؤجره ما جعل التأجير شرطاً في القرض، فهو سيضغط على نفسه بتأجير هذا الرجل، وإن كان يكره أن يؤجره من أجل القرض.
قوله: «وإن تبرع» أي المقترض.(9/112)
قوله: «لمقرضه قبل وفائه بشيء لم تجر عادته به لم يجز» سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً.
وعُلم من قوله: «لم تجر عادته به» أنه لو كان من عادته أن يتبرع له في مثل هذه المناسبة، فإنه لا بأس أن يقبل وإن لم يحتسبه من دينه.
مثاله: أن يكون الذي أقرضه صاحباً له، وجرت العادة أنه إذا سافر يعطيه هدية بعد رجوعه من السفر، كما هو معروف فيما سبق، فهذا المقترض سافر ورجع من سفره، وكان من عادته أن يعطي الذي أقرضه هدية السفر، فأعطاه هدية السفر بعد أن اقترض منه، فهذا لا بأس به؛ لأن الحامل له ليس هو الاقتراض، بل الحامل له هو المودة والمصاحبة بينه وبين صاحبه.
قوله: «إلا أن ينوي» أي: المقترض.
قوله: «مكافأته» أي: مكافأة المقرض.
مثال هذا: إنسان استقرض من شخص ألف ريال، ثم إن المقترض أهدى إلى هذا المقرض ساعة تساوي مائتي ريال، فله أن يقبلها بشرط أن ينوي المكافأة بمثل قيمتها أو أكثر.
فإن قال قائل: لماذا لا يردها أصلاً ما دامت المسألة حراماً؟
قلنا: إنه قد يمنعه الحياء والخجل وكسر قلب صاحبه من الرد؛ لأنه من الصعب أن يقول: لا أريدها، فأنا قد أقرضتك،(9/113)
فنقول: خذها وانوِ المكافأة، كأن تعطيه ساعة تساوي مائتي ريال، أو ثلاثمائة ريال، أما أقل من ذلك، مثل أن تكون الساعة بمائة فلا يجوز؛ لأنها ليست مكافأة، فالمائة لا تكافئ المائتين.
قوله: «أو احتسابه من دينه» فيقبل الهدية ولا يكافئه.
مثال هذا: أقرضه ألف ريال ثم إن المقترض أهدى إليه هدية تساوي مائتي ريال فقبلها، لكن قيدها له، فقال: وصل من فلان مائتا ريال، فهذا جائز ولا بأس به؛ لأنه الآن نوى احتسابها من دينه فسقطت عن ذمة المقترض.
مسألة: هل تحسب الضيافة من الدَّين؟
الجواب: يقول الفقهاء: تحسب الضيافة من الدين، يقال: كم أكلت من تمرة، ومن خبزة، ومن برتقالة؟ ويحسب من الدين، وهذا هو المذهب.
لكن ذكر صاحب الفروع أنه يتوجه ألا يحسب ذلك من الدين؛ لأن الضيافة ما جرت العادة أنها تعتبر هدية، إلا إذا كان الرجل المقرض تعمد ذلك، بأن كان البلد يوجد فيه فنادق ومطاعم، وقال المقرض: بدلاً من أن أخسر في الفندق، أنزل على من أحسنت عليه بالقرض، فإذا تعمد ذلك فربما نقول: هذا لا يجوز؛ لأنه جر إلى نفسه نفعاً.
مسألة: إذا حصل عند المقترض مناسبة من المناسبات، وليمة عرس، أو وليمة قدوم غائب، أو وليمة ختان، أو ما أشبه ذلك فدعا المقرض، فإن له إجابته حتى على المذهب، والعلة أنه(9/114)
في الدعوات كغيره، ولهذا القاضي إذا دعاه أحد من أهل البلد التي هو قاض فيها فإنه يجيبه.
وَإنْ أقْرَضَهُ أَثْمَاناً فَطَالَبَهُ بِهَا بِبَلَدٍ آخَرَ لَزِمَتْهُ، وَفِيمَا لِحَمْلِهِ مُؤونَةٌ قِيمَتُهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ بِبَلَدِ القَرْضِ أَنْقَصَ.
قوله: «وإن أقرضه» أي: أقرض شخصاً.
قوله: «أثماناً» وهي: الدراهم والدنانير.
قوله: «فطالبه بها ببلد آخر لزمته» أي: لزمت المقترض.
مثاله: أقرضه دنانير في مكة وطالبه بها في المدينة، فيلزمه الوفاء إذا كان معه الدنانير؛ لأنه لا ضرر عليه، القيمة واحدة في مكة أو في المدينة؛ لأن النقد كله نقد واحد، ولا يختلف بين بلد وآخر فله الحق أن يلزمه، بخلاف ما سبق في باب السلم فيكون الوفاء في موضع العقد، والفرق بينهما أن السلم من باب المعاوضات، وهذا من باب الإحسان ولا ضرر عليه أن يعطيه الدنانير في البلد الآخر.
أما إذا كان في بلد يختلف عن البلد الذي أقرضه فيه، فهنا قد يلحقه ضرر، فقد تكون قيمته أغلى، وحينئذٍ نقول: لا يلزمه الموافقة، إن وافق فذلك المطلوب وإن لم يوافق فلا يلزمه.
فإذا قال: أقرضك ألف ريال بشرط أن توفيني إياها في المدينة ـ مع العلم بأن المقترض في مكة ـ قالوا: إذا كان لحمله مؤونة ـ وهذا لا يتصور في مسألة النقود ـ فإنه لا يجوز؛ لأنه في هذه الحال يجر إلى المقرض نفعاً، وإذا لم يكن لحمله مؤونة كالأثمان فإنه يجوز؛ لأنه ليس فيه نفع؛ لأنه لم يزد العدد ولم يزد النوع، وإنما هو يريد أن يكون وفاؤه في بلده أحب إليه، والمقرض من أهل المدينة.(9/115)
مسألة: إذا طالبه بها ببلد آخر وليس معه شيء فهو معسر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، فإن قال المقرض: نعم هو الآن ليس معه إلا مقدار نفقته فقط، لكنه غني يستطيع أن يذهب إلى أي دكان ويقول: أقرضني، فلا يجوز له مطالبته؛ لأنه إذا طلبه فإنه لا يوفي إلا بعد إشغال ذمته.
قوله: «وفيما لحمله مؤونة قيمته» يعني إذا أقرضه شيئاً لحمله مؤونة فله القيمة في بلد القرض.
مثال ذلك: أقرضه مائة صاع بر في مكة وطالبه بها في المدينة، ومن المعلوم أن مائة صاع بر لحملها مؤونة، فيقول المقترض: لا يلزمني، ومكان الوفاء هو بلد القرض، وهذه لحملها مؤونة يشق علي فلا يلزمه أن يوفي.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا فرق بين أن يكون المُطَالَبُ به قيمته مساوية لبلد القرض أو مخالفة، إلا أنه استثنى فقال:
«إن لم تكن ببلد القرض أنقص» والصواب: «أكثر» ؛ لأنه إذا كانت أنقص فلا ضرر عليه، فمن باب أولى أن تجب القيمة.
مثال ذلك: أقرضه مائة صاع بر في مكة، وطالبه بها في المدينة، وقيمتها في مكة مائتا ريال، وقيمتها في المدينة ثلاثمائة ريال، فهنا يلزمه الوفاء في المدينة؛ لأنه لن يوفي برّاً، بل له القيمة في بلد القرض، ففي بلد القرض القيمة مائتان، وفي المدينة القيمة ثلاثمائة، فنقول: سلم مائتين الآن؛ لأنه ليس عليك(9/116)
ضرر، أما إذا كانت في مكة وهي بلد القرض بثلاثمائة، وفي المدينة وهي بلد الطلب بمائتين، هنا لا يلزمه القيمة في مكة؛ لأن عليه ضرراً؛ لأنها ستزيد، فيقول: أنا أشتري لك الآن مائة صاع من المدينة بمائتي ريال، فيرد هنا المثل، حتى وإن كان لحمله مؤونة؛ لأنه الآن كسب، فثلث الثمن سينزل عنه والمؤونة ربما تكون عشرة ريالات تأتي بها من مكة إلى المدينة.
فالحاصل الآن: أنه إذا طالب المقرض المقترض بماله بغير بلد القرض، فإن كان لحمله مؤونة، فإنه لا يلزم المقترض أن يدفع المثل، وإنما يدفع القيمة، إلا إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر منها في بلد الطلب، فحينئذٍ يدفع المثل؛ لأنه لا ضرر عليه، وكُلٌّ يعرف أنه إذا اشترى مائة صاع من المدينة بمائتين أحسن مما لو اشتراها من مكة بثلاثمائة، وحينئذٍ يُلزم بدفع المثل.
ولهذا يُعتبر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ فيه سبق قلم حيث قال: «إن لم تكن ببلد القرض أنقص» ولهذا تعقبه صاحب الروض بقوله: (صوابه: أكثر) (1) لأنها إذا كانت القيمة في بلد القرض أكثر فلا ضرر عليه في هذه الحال أن يشتري المثل ويرده، وما قاله الشارح هو الصواب.
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/49) .(9/117)
بَابُ الرهن
قوله: «باب الرهن» الرهن: مصدر رهن يرهن رهناً.
وهو في اللغة: الحبس، ويطلق على الثبوت، فمن الأول قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *} [المدثر] ، أي: محبوسة بما كسبت، وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، أي: محبوس، وأما الثبوت فمنه قولهم: ماء راهن، أي: راكد ثابت.
وأما في الاصطلاح: فهو توثقة دَين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضِه منها أو من بعضها.
مثاله: إنسان في ذمته لي ألف ريال، فأعطاني ما قيمته ألفا ريال رهناً بالدين، فهنا يمكن استيفاء الدين من بعض الرهن.
مثال آخر: رجل في ذمته لي ألف ريال، وأعطاني رهناً يساوي خمسمائة ريال، فهذا يمكن استيفاء بعضه منها، وكله جائز يعني سواء كان الرهن أكثر من الدين أو الدين أكثر من الرهن؛ لأنه إن كان الرهن أكثر من الدين فالتوثقة ظاهرة، وإن كان أقل من الدين فالتوثقة في بعض الدين خيرٌ من عدم التوثقة.
وقولنا: «توثقة دين بعين» يفيد أنه لا بد أن يكون الرهن عيناً؛ لأن الاستيفاء الكامل لا يكون إلا بالعين، فإن كان منافع أو ديناً فإنه لا يصح على كلام الفقهاء.(9/118)
مثال الرهن بالمنافع، أن يقول: رهنتك منافع هذا البيت، فإنه لا يصح لأنه ليس بعين، بل نقول: ارهن البيت، فإذا قال: البيت وقف لا يمكن بيعه، أنا سأرهنه المنافع، فلا يصح.
مثال الدَّين: أنا أطلب فلاناً عشرة آلاف ريال فأمسكته وقلت: أعطني عشرة آلاف ريال، فقال: ما عندي، قلت: أنت تطلب فلاناً عشرة آلاف ريال، اجعل دينه الذي لك رهناً لي، فهنا توثقة دين بدين فلا يصح؛ وذلك لأن الدين الذي في ذمة الآخر لا يجوز بيعه إلا على من هو عليه، فإذا كان كذلك فإنه لا يصح أن يكون رهناً.
وقيل: بل يصح أن يوثق الدين بالمنافع؛ لأن المقصود التوثقة، وبالدين، ويكون المدين الثاني كأنه ضامن، فيقول: نعم أنا مستعد أن أوفيك ما في ذمتي لفلان إذا لم يوفك.
وهذا هو الصحيح، فقد يكون رجائي لحصولي على الدين من ذمة فلان أقوى من رجائي لحصوله من الأصل، فمثلاً باع على فلان هذا الشيء بمائة ألف ريال، هو معسر لكن له دين على فلان الموسر فرهنه إياه، فقد استفاد من هذا الرهن أنه إذا حل الأجل ولم يوفه، يذهب إلى فلان وهو موسر فبكل سهولة يعطيه هذا الدين.
وأما المنافع فكذلك أيضاً، فإنه إذا رهنه منفعة هذا البيت فيؤجره ويأخذ الأجرة رهناً ففيه فائدة، وليس هذا من باب المعاوضة حتى نقول: إن المنفعة مجهولة، بل هو من باب التوثقة؛ لأنه إن حصل على شيء وإلا رجع على الأصل الذي رهنه هذا الشيء، ولأنه يجب أن نفهم قاعدة مفيدة جدّاً وهي:(9/119)
(أن الأصل في المعاملات الحل والصحة ما لم يوجد دليل على التحريم والفساد) ، وهذا من نعمة الله، أن الطريق الموصل إلى الله ـ أي: العبادات ـ الأصل فيها المنع، حتى يقوم دليل على أنها مشروعة، وأما المعاملات بين الناس، فمن رحمة الله وتوسعته على عباده، أن الأصل فيها الإباحة والحل، إلا ما ورد الدليل على منعه، وعلى هذا فنقول: ما المانع من أن نوثق الدين بالدين؟! ما دام ليس فيه ظلم ولا غرر ولا رباً فالأصل الصحة.
والرهن من عقود التوثقات، وعقود التوثقة ثلاثة أشياء: الشهادة والرهن والضمان ومنه الكفالة أيضاً.
وكلها في القرآن، أما الشهادة فقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وأما الرهن فقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، وأما الضمان والكفالة فقوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، أي كفيل وضامن، فهذه الأمور الثلاثة يكون بها توثق صاحب الحق لحقه؛ ولهذا من التفريط أن تتعامل مع شخص بدون شهادة ولا رهن ولا ضمان.
قوله: «يصح في كل عين يجوز بيعها» بيَّن المؤلف ما الذي يصح رهنه، وربما نأخذ من ذلك ـ أيضاً ـ حكم الرهن.
فالأصل في الرهن الصحة كما قلنا، ودليله من كتاب الله، وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والإجماع، والنظر الصحيح، فأدلته أربعة:
أما الكتاب: فقال الله ـ تعالى ـ {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
وأما السُّنة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الظهر يُركب بنفقته إذا كان(9/120)
مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (1) .
وأما الفعل فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات ودرعه مرهونة عند يهودي (2) .
والإجماع منعقد على هذا، والنظر والقياس يقتضي ذلك؛ لأن الناس محتاجون إلى أن تمشي معاملاتهم فيستفيد الراهن والمرتهن؛ لأن المرتهن يقول: أنا لا أقرضك إلا برهن، فإذا أعطى الراهن المرتهن رهناً انتفع المرتهن، والراهن ينتفع ـ أيضاً ـ حيث يجد من يقرضه ويقضي حاجته، وكل شيء يتضمن مصلحة بدون مفسدة راجحة فإن القياس يقتضي حله وجوازه؛ لأن أصل الشريعة مبني على المصالح الخالصة أو الراجحة، هذا مبنى الشريعة الإسلامية.
يَصِحُّ فِي كُلِّ عَيْنٍ يَجْوزُ بَيْعُهَا حَتى المُكَاتَبُ مَعَ الحقِّ وَبَعْدَهُ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ،
وقوله: «يصح في كل عين» ، أفاد حكم الرهن وأنه يجوز فليس بواجب ولا مستحب ولا حرام.
ويجوز في الحضر والسفر؛ لأنه ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رهن درعه عند يهودي في المدينة، وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، فلأن الحاجة هنا تدعو إلى الرهن أكثر مما إذا كان في الحضر ووجد كاتباً؛ لأنه إذا كان في الحضر ووجد كاتباً توثق لحقه بهذا الكاتب، فإذا
__________
(1) أخرجه البخاري في الرهن في الحضر/ باب من رهن درعه (2512) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في المغازي/ باب (4467) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(9/121)
كان على سفر ولم يجد كاتباً فإنه يحتاج إلى الرهن أكثر، ولذلك الذين قالوا: إن الرهن لا يصح إلا في السفر تناقضوا، فقالوا: يصح في السفر ولو مع وجود الكاتب مع أن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} ؛ فالصحيح ـ ما أشار إليه المؤلف ـ الجواز مطلقاً.
وقوله: «يصح في كل عين يجوز بيعها» فما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا ما سيأتي من رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه، فإنه يجوز رهنه مع أن بيعه في هذه الحال غير جائز.
إذاً القاعدة: «كل عين يجوز بيعها يجوز رهنها وما لا فلا» .
المثال الأول: إنسان أراد أن يستدين، فقال له الدائن: لا أديِّنك إلا إذا رهنتني ولدك، فقال: لا بأس أرهنك ولدي، فهذا لا يصح؛ لأن الولد لا يصح بيعه.
المثال الثاني: إنسان بدوي عنده ماشية وله كلب يحرس هذه الماشية، فجاء إلى إنسان وقال: أريد أن تقرضني ألف ريال، قال: لا أقرضك إلا برهن، قال: أرهنك كلبي، فهذا لا يصح؛ لأن الكلب لا يصح بيعه، فإذا كان لا يصح بيعه فما فائدته، فلا يكون فيه توثقة، فإذا كانت العين لا يصح بيعها فلا فائدة في رهنها إطلاقاً؛ لأنه إذا حل الدين، وأراد صاحب الدين أن يبيع الرهن ليستوفي حقه، صار الرهن ممنوعاً بيعه فلا يستفيد.
المثال الثالث: إنسان عنده بيت موقوف عليه وعلى ذريته، فأراد أن يستدين من آخر، فقال: لا بد من رهن، قال: أرهنك(9/122)
هذا البيت، فلا يجوز؛ لأنه لا يصح بيعه وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.
المثال الرابع: إنسان آخر قال: أريد منك رهناً، قال: أرهنك بيتي، وكان البيت مرهوناً لإنسان سابق فلا يصح؛ لأنه لا يصح بيعه، والمشغول لا يشغل.
وإذا قال: رهنتك ما في بطن هذه الشاة فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز بيعها، والصحيح أنه يصح رهنها؛ لأن الرهن ليس عقد معاوضة حتى نقول: لا بد من تحريره وعلمه، فهذا الحمل الذي في البطن لا يخلو من أربع حالات: إما أنه أكثر من قيمة الدين أو يكون أقل أو يكون مساوياً أو يموت، فإذا مات أو خرج معيباً بحيث لا يساوي قيمة الدين فلم يَضِع الحق، وغاية ما هنالك أن الوثيقة التي كان يؤمل عليها نقصت أو عدمت ولكن حقه باق، فإذا خرج الحمل أكثر من الحق فقد زاد على الحق، ويجوز أن أرهن عيناً أكثر من الدين، فما دامت المسألة توثقة فقط والحق باق لن يضيع، فالصحيح أنه جائز، والرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما نهى عن بيع الغرر (1) ، وفرق بين البيع الذي يقصد فيه التحري في مقابلة العوض بالعوض، وبين شيء لا يقصد منه إلا التوثقة، إن حصلت فهي كمال وإن لم تحصل فالحق باق.
قوله: «حتى المكاتب» وهو العبد الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر.
والكتابة مطلوبة شرعاً، بل قال بعض العلماء: إنها واجبة
__________
(1) سبق تخريجه ص (28) .(9/123)
إذا طلبها العبد، وعلم السيد فيه خيراً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، أي: صلاحاً في دينهم وكسباً في دنياهم.
فهذا الرجل له مكاتب، يعني له عبد اشترى نفسه منه، وأراد أن يرهنه فإنه يجوز رهنه؛ لأن المكاتب يصح بيعه، ولأن المرتهن سينتفع بهذا الرهن؛ لأن هذا المكاتب إن عجز عاد رقيقاً وأمكنه بيعه، وإن قدر فإن كسبه في هذه المدة يكون رهناً، وهذا مما يؤيد القول بجواز الرهن إذا كان منفعة، إذاً فالمكاتب يصح رهنه.
وأما المدبَّر، وهو الذي عُلِّقَ عتقه بالموت، أي: قال سيده: إذا مت فعبدي حر، فهل يجوز له أن يرهنه؟
الجواب: نعم يجوز؛ لأنه يجوز أن يبيعه فجاز أن يرهنه؛ لأن هذا المدبَّر لم يعتق حتى الآن، ويعتق إذا مات سيده.
قوله: «مع الحق» أي: يصح الرهن مع الحق، أي: مع الدين.
مثاله: قال: بعتك هذا البيت بمائة ألف، على أن ترهنني بيتك الثاني فقال: قبلت، فهنا الرهن مع الحق، فيجوز؛ لأنه صادف ثبوت شيء في ذمة الراهن فصح.
قوله: «وبعده» أي: بعد الحق، مثاله: رجل أقرض شخصاً مائة ألف، ثم جاء يطلبه فقال: أعطني مائة الألف؛ لأني أقرضتك بدون تأجيل، قال: ليس عندي، قال: إذن أرهني بيتك، قال: رهنتك إياه، فهذا يصح، وهذا بعد الحق.
ويدل لذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ(9/124)
إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282، 283] ، فدل على أن الرهن يكون بعد الحق، فهل يصح قبل الحق؟ كلام المؤلف يدل على أنه لا يصح؛ لأنه قال: «مع الحق وبعده» أما قبله فلا.
مثاله: إنسان جاء يطلب مني قرضاً مائة ألف، وقلت أنا: لا بد من أن أتوثق، أترهنني بيتك؟ قال: نعم، رهنتك بيتي بالقرض الذي ستقرضني إياه، فهنا الرهن قبل الحق، قالوا: لا يصح؛ لأنه متقدم على سببه، إذ أن الرهن توثقة دَين بعين، فإذا وثقت قبل الدين فإنه لا يصح؛ لأنه قبل وجود السبب، وكل شيء يقدم على سببه فهو ملغى، ولهذا قالوا: لو أن إنساناً أراد أن يحلف يميناً، ثم قدم الكفارة قبل أن يحلف لم تجزئه؛ لأنها قبل وجود السبب.
وما ذهب إليه المؤلف هو المشهور عند فقهائنا ـ رحمهم الله ـ أن الرهن لا يصح قبل ثبوت الحق.
وقيل: إنه يصح قبل الحق، وكونه قبل السبب لا يضر، كما لو أن الإنسان اشترط في المبيع شرطاً قبل العقد فإنه يصح، وهذا ـ أيضاً ـ إذا اتفقا على الرهن قبل العقد فما المانع؟! فلا مانع في الحقيقة، ولو أننا فتحنا الباب، وقلنا: إنه لا يصح لتحيل المتحيلون، فجاء المستدين للدائن وقال: أريد منك مائة ألف ولكني أعرف أنك لن تقرضني إلا برهن، وأنا الآن أكتب لك رهن بيتي، فرهنتك بيتي بالمائة ألف التي تقرضني، فقال: لا مانع ما دمت رهنتني البيت هذه المائة ألف، ولما انتهى العقد قال(9/125)
له المستدين: الرهن غير صحيح، وليس لك رهن فيكون بهذا فتح باب لأهل الحيل.
فالصواب: أن الرهن جائز مع الحق وقبل الحق وبعد الحق، وأنه لا مانع؛ لأنه عقد توثقة.
قوله: «بدين ثابت» هذا متعلق بقوله: «يصح» أي: لا بد أن يكون الرهن بدين ثابت على الراهن، فالراهن هو الذي يبذل الرهن وهو الذي عليه الدين، فلا بد أن يكون دينه ثابتاً ـ أي: الدين الذي عليه ـ فإن كان غير ثابت كدين الكتابة ـ مثلاً ـ، فإنه ليس ثابتاً على المكاتب؛ إذ في إمكان المكاتب أن يُعجز نفسه، فلا يصح الرهن به، وكذلك الدين الذي على العاقلة، فإذا جاء أحد إلى عاقلة شخص قاتل خطأً، وقال: أعطوني الدية، فقالوا: الدية مؤجلة، فقال: أعطوني بها رهناً، فإن الرهن هنا لا يصح؛ لأن الدية ليست ديناً ثابتاً، إذ أنها لا تجب على العاقلة إلا إذا كانوا أغنياء في وقت الدفع، فلا يصح الرهن بها؛ وذلك لأن الرهن عقد لازم، والدين غير الثابت ليس بلازم، ولا يمكن أن يوثق غير الثابت بالثابت، فلذلك قالوا: لا يصح أن يرهن إلا بدين ثابت.
والقول الراجح أنه يصح الرهن بالدين غير الثابت، ويكون الرهن تبعاً للدين، إن استقر الدين وثبت، ثبت الرهن واستقر، وإلا فلا؛ لأن الرهن فرع عن الدين، فإذا كان الدين غير ثابت، صار الرهن كذلك غير ثابت حتى يثبت الدين.(9/126)
وَيَلْزَمُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ فَقَط. وَيَصِحُّ رَهْنُ المُشَاعِ
وقوله: «بدين ثابت» ظاهره أن الرهن بالعين لا يصح، مثال ذلك: جاء رجل وقال لآخر: أعطني السيارة، فقال: نعم لكن أريد أن ترهنني شيئاً، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس ديناً ثابتاً، وكذلك لو استعار من شخص كتاباً فقال: لا أعيرك إلا إذا رهنتني شيئاً، فإنه لا يصح؛ لأنه لم يثبت عليه دين حتى يرهنه.
والصحيح أنه يصح أن يؤخذ رهن بالأعيان؛ لأن ذلك عقد جائز لا يتضمن شيئاً محظوراً، وليس فيه ضرر، وليس هذا كالتأمين؛ لأن التأمين يدفع المؤمِّن الدراهم على كل حال سواء حصل النقص أم لم يحصل، أما هذا فهو رهنه هذا الشيء، فإن حصل على السيارة تَلَفٌ أخذه من الرهن، وإن لم يحصل تلف فالرهن لصاحبه وكذلك الكتاب.
قوله: «ويلزم في حق الراهن فقط» يلزم أي: يجب الوفاء به، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الرهن عقد لازم من وجه، وجائز من وجه آخر، والمراد باللزوم والجواز هنا ليس الشرعيين، بل المراد الوضعي، فهو لازم في حق الراهن، جائز في حق المرتهن.
مثال ذلك: رجل استدان من شخص مائة ألف وأرهنه سيارته، فالسيارة الآن بيد المرتهن، فالرهن لازم في حق الراهن، لا يمكنه أن يفسخ الرهن ويقول: أعطني السيارة، والمرتهن في حقه جائز.
ووجه ذلك أن الرهن حق على الراهن للمرتهن، وحق للمرتهن على الراهن، وكل ذي حق فله أن يسقط حقه؛ لأنه(9/127)
يملك ذلك، فإذا قال المرتهن: أنا أبرأتك من رهنك، وخذ الرهن، وأنت في حِلٍّ، بقي الدين مرسلاً لا رهن فيه.
لكن هل يُؤجَر المرتهن على ذلك أو لا؟
الجواب: ينظر، فإذا كان هناك مصلحة، بأن كان الراهن محتاجاً للرهن، وكان رجلاً عاقلاً نعرف أنه يقدر الأمور، وأنه لن يلعب بالمال، فهنا قد نقول: من المصلحة أن يتنازل عن الرهن؛ لأجل أن ينتفع به صاحبه، أما إذا علمنا أن الراهن رجل مبذر سفيه، لو أطلقنا له الرهن لباعه وتصرف، وأضاع ذمته، وأضاع حق الآخرين، فهنا نقول: الأفضل ألا يتنازل؛ لأن الله تعالى قال في العفو ـ وهو مما يحبه الله عزّ وجل ـ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، فأما بدون إصلاح فعدم العفو هو الخير والصلاح.
فأفادنا المؤلف بهذا أن الرهن عقد لازم من وجه، جائز من وجه آخر، وهناك قسم آخر من العقود لازم من الطرفين، مثل عقد البيع؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» (1) ، وجب يعني لزم من الجانبين.
وهناك عقد جائز من الجانبين، كعقد الوكالة: إنسان وكّل شخصاً أن يشتري له سيارة، فلكل واحد من الوكيل أو الموكل أن يفسخ الوكالة، لكن لو فُرض أن ذلك يتضمن
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إذا خير أحدهما صاحبه (2112) ، ومسلم في البيوع/ باب ثبوت خيار المجلس (1531) (44) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(9/128)
ضرراً على أحدهما، فإن عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) يمنع الضرر، وقياس قوله تعالى {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، مع أنها رجعية يريد إمساكها قبل أن يتم أجل العدة، يقول الله ـ عزّ وجل ـ {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} يعني لتقعوا في العدوان، فإذا قدرنا أن الوكيل قَبِلَ الوكالة في مَوْسِمٍ الناسُ فيه نشيطون على البيع والشراء، ثم لما فتر الناس فسخ الوكالة، أو لما رأى أن الوكلاء المعروفين قد انشغلوا فيما وُكلوا فيه، فسخ الوكالة؛ من أجل أن يضطر الموكل إلى البحث عن وكيل ولا يجد، ففي هذه الحال نقول: إن فسخه يتضمن ضرراً على الآخرين، فلا نجيز له ذلك إلا بعذر، كعجز أو ما أشبه ذلك، لكن بلا عذر نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المبدأ العظيم وهو قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} .
إذاً العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
لازم من الطرفين، جائز من الطرفين، لازم من طرف دون آخر، وذلك حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
قوله: «ويصح رهن المشاع» أي: المشترك على الشيوع، فيصح أن يُرهن المشاع (2) .
مثال ذلك: بيت بين رجلين، لكل واحد منهما النصف،
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .
(2) وهو المذهب.(9/129)
فرهن أحدهما نصيبه لدائنه، فإنه يصح؛ لأن هذا الجزء المشاع يجوز بيعه، فإذا حل أجل الدين ولم يوف بيع.
والدليل على جواز بيع المشاع قول جابر ـ رضي الله عنه ـ «قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشفعة في كل ما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» (1) ، فهذا يدل على جواز بيع المشاع، فإذا كان بيع المشاع جائزاً كان رهنه جائزاً؛ لأنه إذا حل أجل الدين ولم يوف بيع، وبيع المشاع جائز، إذاً يصح رهن المشاع.
وَيَجُوزُ رَهْنُ المَبِيعِ غَيْرِ المَكِيلِ وَالمَوْزُونِ عَلَى ثَمَنِهِ وَغَيْرِهِ
قوله: «ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون على ثمنه وغيره» أي: يجوز أن يرهن المبيع على ثمنه وغيره سواء قبضه أم لم يقبضه.
مثال ذلك: باعه كتاباً بعشرة دراهم لمدة ستة أشهر بشرط أن يرهنه نفس الكتاب، فهذا رهن المبيع على ثمنه، وهو رهن مع الحق.
وقوله: «وغيره» أي: كما لو كان عند المشتري له دين سابق فقال: سأبيعك هذا الشيء وأرهنه بدينك السابق، فهذا جائز وهو رهن بعد الحق.
ويجوز رهنه على ثمنه وغيره جميعاً، فمثلاً باعه كتاباً بعشرة دراهم ثمناً مؤجلاً، وعليه من قبل عشرة دراهم، فقال البائع: أرهني هذا الكتاب على ثمنه وعلى الدين السابق فهذا يجوز.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشفعة/ باب الشفعة فيما لم يقسم (2257) ، ومسلم في البيوع/ باب الشفعة (1608) (134) ، عن جابر ـ رضي الله عنه ـ، واللفظ للبخاري.(9/130)
فَرَهْنُهُ على ثمنه رَهْنٌ مع الحق، وبالنسبة للدين السابق رهن بعد الحق، فكل مبيع يجوز أن يرهن على ثمنه، وعلى غيره من دين سابق.
وقوله: «غير المكيل والموزون» المكيل والموزون لا يجوز رهنه على ثمنه، ولا على غيره، وهذا إنما يستثنى فيما إذا رهنه قبل القبض؛ لأن المكيل والموزون لا يجوز بيعهما إلا بعد القبض، أي: لو بعت عليك مائة صاع بر بمائتي ريال، وقلتُ: أنا سوف أرهن المائة صاع حتى تعطيني مائتي الريال، فالمؤلف يقول لا يجوز؛ لأن ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، والمكيل قبل أن يقبض لا يجوز بيعه، فلا يجوز رهنه، هذا وجه العلة، ومثل ذلك المعدود والمذروع؛ لأنه لا يجوز التصرف في المعدود حتى يعده، فكل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.
إذاً كل مبيع يرهنه الإنسان على ثمنه، إن كان بعد القبض فلا بأس به مطلقاً بدون تفصيل، وإن كان قبل القبض نظرت فإن كان يصح بيعه قبل قبضه جاز رهنه وإلا فلا؛ لأن الرهن فرع للبيع وهذا هو المذهب.
والصحيح الجواز؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما نهى عن بيع المبيع قبل قبضه على غير بائعه؛ والحكمة من ذلك لئلا يربح فيما لم يدخل في ضمانه، ولئلا يربح ربحاً يغار منه البائع ويحاول فسخ البيع، أما إذا رهنه على البائع وهو مكيل أو موزون، فالصحيح أنه جائز، وأنه لو قال البائع الذي باع عليه مائة صاع بمائتي ريال: أنا لا أسلمك الأصواع إلا أن تأتيني بالثمن، أريد أن(9/131)
تكون عندي رهناً، فالقول الراجح أنه جائز؛ وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما نهى عن بيع المكيل والموزون قبل قبضه على غير بائعه، وهذا رهن على بائعه، فإذا حلَّ الأجل، وكان الدين مؤجلاً ولم يوفِ، باعه البائع واستوفى حقه.
وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ إِلاَّ الثَّمرةَ والزَّرْعَ الأخْضَرَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهِمَا بِدُونِ شَرْطِ القَطْعِ..
قوله: «وما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه» كل ما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه؛ لأن رهنه حينئذٍ لا فائدة منه، ولهذا لو أنك رهنت ولدك فإنه لا يصح، إذاً القاعدة: «ما لا يصح بيعه لا يصح رهنه» ؛ لأن رهن ما لا يصح بيعه لا فائدة منه، والعقود التي لا فائدة منها كلها لغوٌ، لا يعتبرها الشارع شيئاً، فأي فائدة أن أرهن شيئاً لا يصح بيعه، فإذا حل الأجل ماذا أعمل؟! ليس إلا زيادة عناء ومشقة لا فائدة منها.
قوله: «إلا الثمرة والزرع الأخضر قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع» وبدو صلاح الثمرة إذا اصفرت أو احمرت، والزرع إذا اشتد حبه، فبيعهما قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع لا يصح، لكن رهنهما قبل بدو صلاحهما بدون شرط القطع صحيح؛ لأنه إذا حل الأجل فإن كان قد بدا صلاحهما أمكن البيع وإلا انتظر حتى يبدو الصلاح، والمرتهن إذا كان يعرف أن الصلاح قد بقي عليه شهران أو ثلاثة قد دخل على بصيرة، فليس فيه إشكال، وهذا الاستثناء واضح، فيجوز أن ترهن الثمرة قبل بدو صلاحها، وإن لم يشترط القطع؛ لأن حق المرتهن لا يضيع؛ بل إن شرط القطع قد يكون مفسداً للعقد؛ لأنه لا فائدة منه.(9/132)
مسألة: رهن الثمرة قبل خروجها، والزرع قبل زرعه لا يصح، يؤخذ من قوله: «إلا الثمرة والزرع» ، وقبل الخروج الثمرة معدومة، والرهن توثقة دين بعين، وهنا لا عين، وعلى هذا فإذا جاء الفلاح إلى التاجر، وقال: أنا أريد أن أحرث هذه الأرض وأزرعها فأريد أن تقرضني، قال: نعم أنا أقرضك عشرة آلاف ريال، لكن بشرط أن أرهن الزرع الذي سوف تزرعه في هذه الأرض، فإنه لا يصح؛ لأن الزرع الآن ليس موجوداً، فكيف يرهن شيئاً معدوماً؟! لكن عمل الناس على خلاف ذلك فيرهنون ذلك باعتبار المآل.
فإن قال قائل: لماذا لا نعدل عن رهن الثمرة إلى رهن الشجرة، فالشجرة قائمة، وعن رهن الزرع إلى رهن الأرض، فالأرض قائمة؟
نقول: الأرض قد تكون لغير المستدين، فيكون المستدين مجرد زارع، وكذلك الشجر قد يكون لغير المستدين، فالمستدين فلاَّح ليس له إلا الثمرة، والشجر لمالك الأرض فلا يمكن، لكن لو أمكن بأن يكون المستدين هو مالك الأصل والفرع، قلنا: لا بأس ارهن الشجرة وتدخل فيها الثمرة، أو ارهن الأرض ويدخل فيها الزرع، أما ألا يكون له ملك في الأرض، ولا ملك في الشجرة فهذا لا يصح، لكن كما ذكرنا عمل الناس اليوم على خلاف ذلك، فيأتي الفلاح، ويقول للتاجر: أنا أريد أن أحرث في هذه الأرض، وأريد أن تدينني وأرهنك الزرع، فيعطيه ما يطلب.(9/133)
وإذا تأملت وجدت أنه ليس في الشرع ما يمنع ذلك؛ لأن المعاملات الممنوعة ـ كما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ وقوله صحيح ـ مبناها على ثلاثة أشياء: الظلم، والغرر، والميسر، فإذا وجدت معاملة تشتمل على واحد من هذه الأمور الثلاثة فاعلم أن الشرع لا يقرها، وأما ما عدا ذلك مما ينفع الناس، وييسر أحوالهم فاستعن بالله وأفتِ بحله، حتى يتبين لك التحريم، وأنت إذا أفتيت بحل ما لم يتبين تحريمه، فأنت على حق؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويوم القيامة سوف يسألك الله ـ عزّ وجل ـ لماذا حرمت على عبادي ما لم أحرمه؟ فماذا يكون الجواب؟! ليس عندك جواب، لكن لو أحللت لهم شيئاً لا تعلم أنه حرام قلت: يا ربي مشيت على قاعدة شرعية «أن الأصل الإباحة» ، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وليس في كتاب الله بطلان هذا الشرط، والمسلمون على شروطهم، وقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
فالإنسان في هذه المسألة بالذات ينبغي أن يغلِّب جانب الحل؛ لأن تحليل المحرَّم أهون من تحريم الحلال؛ لأن تحليل المحرم في المعاملات مبني على أصل، لكن تحريم الحلال مبني على غير أصل، وفيه تضييق على العباد بدون برهان من الله ـ عزّ وجل ـ.
وهذه القاعدة ـ إن شاء الله ـ مفيدة، تنفعنا وتنفع غيرنا، لكن عسى الناس أن يمشوا على هذا، لكن الناس الآن بدؤوا(9/134)
يتفلتون، والحلال ما حل باليد، فهذا يسمونه تأميناً تعاونياً وغير ذلك، فبدأ الناس الآن يظهرون علينا بمعاملات تحتاج إلى تأمل كبير، هل تنطبق على الشريعة الإسلامية، أو هي لعبة من اللعب، أو ماذا؟!
وَلاَ يَلْزَمُ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالقَبْضِ وَاسْتدَامَتُهُ شَرْطٌ، فَإِنْ أَخْرَجَه إِلى الرَّاهِنِ بِاخْتِيَارِهِ زَالَ لُزُومُهُ، فَإِنْ رَدَّهَ إِليْهِ عَادَ لُزُومُهُ إِليْهِ، ...
قوله: «ولا يلزم الرهن إلا بالقبض» «لا يلزم» أي: في حق من هو لازم في حقه وهو الراهن، إلا بالقبض من المرتهن، يعني لا بد أن يقبض المرتهن الرهن، فلا يلزم بمجرد العقد، فإن لم يقبضه فالعقد صحيح، لكنه ليس بلازم.
دليل هذا: قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، فوصفها بأنها مقبوضة.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (1) ، وهذا يدل على أن المرتهن يقبض الرهن؛ ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما رهن درعه لليهودي أقبضه إياه (2) ، فإذا كان كذلك فإنه لو لم يقبضه لم يكن الرهن لازماً.
والتعليل أنه لا يتم الاستيثاق إلا بقبض الرهن؛ لأنه قبل القبض على وشك أن يتصرف الراهن فيه بأخذ شيء منه أو بيعه وما أشبه ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، وعلى هذا فإذا رهن شخص بيتاً بدين عليه، ولكن المرتهن لم يقبضه، فللراهن
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .
(2) سبق تخريجه ص (121) .(9/135)
أن يبيع البيت ويتصرف فيه؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، ولا قبض هنا، وهذا أحد القولين في هذه المسألة.
القول الثاني: أنه يلزم بالعقد في حق من هو لازم في حقه، بدون قبض وأن القبض من التمام؛ لأننا متفقون على أن الرهن يثبت بالعقد فإذا كان كذلك فقد قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وهذا يدخل فيه عقد الرهن سواء قبض المرهون أم لم يقبض.
وقوله ـ تعالى ـ {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، لأن جميع الناس يستقبحون هذا، أي: أن يرهنه ويعطيه ثقةً، ثم بعد ذلك يبيع ويفسخ الرهن، وأيضاً فإننا لو قلنا بعدم اللزوم، لكان في ذلك فتح باب لكل متحيِّل، يتحيل عليه بعدم القبض، ثم إذا تم العقد والرهن ذهب فباعه، وما كان ذريعة إلى الباطل فهو باطل، وهذا القول هو الراجح، للأدلة التي ذكرت.
وأما قوله ـ تعالى ـ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، فليقرأ الإنسان ما بعدها، حيث قال {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، فإن آخر الآية يدل على أنه إذا حصل الائتمان بيننا فإنه لا يجب رهن ولا إشهاد ولا كتابة، وأيضاً ظاهر الآية أنه لا يجوز الرهن إلا في حال السفر، وأنتم ترون جوازه في السفر والحضر وهو الحق، وإنما نص الله ـ تعالى ـ على القبض في المسألة الأولى؛ لأنه لا يمكن أن يتمكن من(9/136)
التوثقة حق التمكن إلا إذا قبض، فهو على سفر، وليس عنده كاتب فلا يتوثق من حقه إلا بالرهن المقبوض؛ لأنه إذا لم يقبضه فإنه يجوز أن ينكر المدين الرهن، كما أن الرهن إنما كان من أجل ألا يحصل هناك تناكر بين البائع والمشتري، وعلى هذا فنقول: ليس في الآية ما يدل على أن القبض شرط، وإنما يدل على أن القبض من كمال التوثقة؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكره في صورة معينة: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، ثم أعقب ذلك بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] .
أما الحديث وهو: «الظهر يركب بنفقته، ولبنُ الدَّرِّ يشرب بنفقته» (1) فهذا نعم، نقول بموجبه إذا قبض، وهل هذا يدل على أن القبض شرط للزوم؟
الجواب: لا، وكذلك نقول في مسألة رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعه عند اليهودي (2) ، فالصواب أنه يلزم بمجرد العقد وهو الذي عليه عمل الناس من قديم الزمان ـ وهو خلاف المذهب ـ فتجد الفلاح يستدين من الشخص ويرهن مزرعته وهو باقٍ في المزرعة، ويستدين صاحب السيارة من شخص ويرهن السيارة والسيارة بيد صاحبها، وكلٌ يعرف أن هذا المرهون لا يمكن أن يتصرف فيه الراهن، وأن الرهن لازم، ولا يملك الراهن أن يفسخه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .
(2) سبق تخريجه ص (121) .(9/137)
قوله: «واستدامته شرط» هذه زيادة على القبض، يعني استدامة القبض شرط في اللزوم، فلو قبضه المرتهن لمدة يوم أو يومين، ثم رده على الراهن زال اللزوم؛ لأنه لا بد أن يستمر القبض.
مثال ذلك: رجل رهن سيارته عند إنسان بدين عليه، وقبضها المرتهن ـ صاحب الدين ـ، وبعد مضي يومين أتى إليه الراهن، وقال: أرجو أن تعطيني السيارة؛ لأني أحتاجها وهي عندك واقفة لا تستفيد منها، قال: نعم، فردها المرتهن إلى الراهن، ففي هذه الصورة يزول لزوم الرهن، وللراهن أن يتصرف فيه، هذا على كلام المؤلف، ولهذا قال:
«فإن أخرجه إلى الراهن باختياره زال لزومه، فإن رده إليه عاد لزومه إليه» وهذا كله مبني على أن القبض شرط في لزوم الرهن، وأن استدامته شرط كذلك.
وقوله «باختياره» يفهم منه أنه إن أخرجه مكرهاً فاللزوم باق، مثاله: أتى الراهن إلى المرتهن بعد أن سلمه الرهن وقال: لتعطيني رهني أو لأقتلنك، وهو قادر على تنفيذ ما هدد به، فقال المرتهن: خذ الرهن، فإن اللزوم يبقى؛ لأنه مكره.
ولو أن المرتهن قال له أبوه: أعطِ الراهن سيارته لينتفع بها وهي برهنها، فمن أجل بره بوالده أعطى الراهن سيارته، فلا يبقى اللزوم؛ لأن والده لم يكرهه وهو باختياره.
ولو فرض أن المرتهن أراد أن يسافر فرد الرهن إلى الراهن(9/138)
على أنه وديعة عنده وأنه نائب منابه، فاللزوم على رأي المؤلف يزول لأنه رده إلى الراهن، وقد أطلق المؤلف ولم يشترط إلا شرطاً واحداً وهو «باختياره» ، وعلى رأي المؤلف لو تصرف فيه الراهن ببيع ونحوه فتصرفه حلال؛ لأن اللزوم زال، وهذا مما يدل على بطلان هذا القول؛ لأن القول إذا لزم منه شيء ينكر دل ذلك على بطلانه.
وقوله: «فإن رده إليه عاد لزومه إليه» فإن رده الراهن إلى المرتهن، فلا يحتاج لزومه مرة ثانية إلى تجديد العقد، فيعود لازماً بمجرد رده إلى المرتهن، فصار هذا الرهن يوم السبت لازماً، يوم الأحد غير لازم، ويوم الاثنين لازماً، ويوم الثلاثاء غير لازم.
وقوله: «فإن أخرجه إلى الراهن» علم منه أنه لو أخرجه إلى غير الراهن فلا يزول اللزوم، مثل أن يودعه ثقة، لكنه لا يمكن أن يودعه أحداً إلا بموافقة الراهن؛ لأن الراهن له حق الملكية والمرتهن له حق التوثقة.
وقوله: «فإن رده إليه» فلو رده الراهن إلى غير المرتهن فلا يعود اللزوم، نعم لو كان هذا الشخص وكيلاً للمرتهن فرده الراهن إليه عاد اللزوم.
وقوله: «فإن رده إليه عاد لزومه إليه» ولم يقل باختياره، فلو ذهب المرتهن إلى الراهن وقال: أعطني الرهن وإلا فعلت، وفعلت حتى رده إليه، فهنا يعود اللزوم؛ لأن هذا الإكراه بحق؛ لأن حقه ما زال موجوداً في هذا الرهن، فهو لم يكرهه على شيء ليس من حقه، هذا ظاهر كلام المؤلف، لكن قد يقال: إن المؤلف أسقط(9/139)
قوله باختياره؛ لأن الأصل في الفعل أن يكون اختيارياً.
والصواب خلاف هذا فليس القبض شرطاً ولا استدامته شرطاً.
وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بغَيْرِ إِذْنِ الآخَرِ إلاَّ عِتْقَ الرَّاهِنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الإِثْمِ وَتُؤْخَذُ قِيمَتُهُ رَهْنَاً مَكَانَهُ وَنَمَاءُ الرَّهْنِ وَكَسْبُهُ وَأرْشُ الجِنَايَةِ عَلَيْهِ مُلْحَقٌ بِهِ وَمُؤونَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَكَفَنُهُ وَأُجْرَةُ مَخْزَنِهِ.
قوله: «ولا ينفذ تصرف واحد منهما فيه» يعني لو أن أحدهما أي: الراهن أو المرتهن، تصرف فيه بأي تصرف فإنه لا ينفذ، لماذا؟
الجواب: أما كون الراهن لا ينفذ تصرفه؛ فلأن الرهن مشغول بحق غيره، وتصرفه فيه إبطال لحق الغير، وأما كون المرتهن لا يملك التصرف؛ فلأن المرتهن ليس مالكاً ولا قائماً مقام المالك، فالرهن ملك للراهن له غُنمه وعليه غُرمه، فلا يصح أن يتصرف، لا الراهن، ولا المرتهن في المرهون.
وظاهر كلام المؤلف سواء كان هذا التصرف نقلاً لملكية العين أو لمنافعها، فمعناه أن الراهن لا يبيع المرهون ولا يؤجره، وعلى هذا فيبقى الرهن معطلاً إذا امتنع كل منهما أن يأذن للآخر.
فلو أن الإنسان رهن بيتاً في دين، والدين خمسمائة ألف، والبيت تساوي أجرته خمسين ألفاً، فطلب الراهن من المرتهن أن يؤجر البيت لينتفع بالأجرة فأبى المرتهن، أو طلب المرتهن من الراهن أن يؤجر البيت فأبى الراهن، فإن البيت يبقى معطلاً لا ينتفع به أحد، وهذا القول كما ترى فيه شيء من إضاعة المال.
والصواب أنه إذا طلب أحدهما عقداً لا يُضِرُّ بحق المرتهن فإن الواجب إجابته، وأن الممتنع منهما يجبر على استغلال هذا النفع.(9/140)
فإذا قال الراهن: أنا أريد أن أؤجر البيت وأنتفع بالأجرة، خمسون ألفاً تمثل قسطاً كبيراً من الدين الذي عليَّ، وأبى المرتهن، فإنه يجبر أن يوافق لكن بشرط أن يكون على وجه لا يضيع به حق المرتهن، فإن كان يضيع به حق المرتهن، مثل أن يطلب الراهن تأجيره على من يدمر البيت فيكسر الأبواب، ويكسر الزجاج، ويفسد الدهان، وما أشبه ذلك، فللمرتهن أن يمتنع؛ لأن ذلك يضر به، إذ أن هذا المرهون عند بيعه سوف ينقص فله أن يمتنع، أما إذا لم يكن هناك نقص فإن الممتنع منهما يجبر؛ لأن في تركه وإهماله إضاعة للمال وضرراً على الراهن.
قوله: «بغير إذن الآخر» عُلم منه أنه إذا أذن أحدهما للثاني أن يتصرف فإنه جائز، فإذا قال المرتهن للراهن؛ أجِّره من شئت، فأجره فلا حرج، ولكن أين تكون الأجرة؟
الجواب: تكون تبعاً للرهن تحفظ في أي مكان تحفظ فيه الدراهم حتى يحل الدين، وكذلك إذا أذن الراهن للمرتهن، وقال: لا بأس أجره، فإنه يؤجره، وإذا قبض الأجرة أسقط قدرها من دينه، وهذا هو المتعين، أعني أنه إذا امتنع أحدهما أجبر، ما لم يكن هناك ضرر على المرتهن.
قوله: «إلا عتق الراهن فإنه يصح مع الإثم وتؤخذ قيمته رهناً مكانه» يعني إلا عتق الراهن، وهذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل يعني إلا عتق الراهنِ المرهونَ، فإنه ينفذ، ويعتق العبد المرهون، لكن مع الإثم، ويُضَمَّن الراهن قيمته، وتكون رهناً مكانه.(9/141)
مثال ذلك: رجل استدان من شخص خمسين ألفاً، وأرهنه عبده، ثم إن الراهن أعتق العبد، يقول المؤلف: إعتاقه العبد حرام، لكن العتق ينفذ (1) ، أما كون إعتاقه حراماً؛ فلأنه تصرف يسقط به حق المرتهن فكان حراماً، وأما كونه نافذاً فلأن العتق مبني على السراية والتغليب فينفذ مع التحريم، ولأن الشارع متشوف إلى العتق ويحث عليه ويرغب فيه، ولكن ماذا عن حق المرتهن؟
يقول المؤلف: «وتؤخذ قيمته رهناً مكانه» تؤخذ القيمة من الراهن الذي أعتقه وتجعل رهناً، ولم يقل يؤخذ ثمنه؛ لأنه لم يبعه، وعلى هذا فيقوّم هذا العبد ثم تجعل القيمة رهناً مكانه، فيتعلق بعتق الراهنِ المرهونَ ثلاثةُ أحكام: النفوذ، والتحريم، وأن تؤخذ قيمته فتكون رهناً.
فإذا كان الراهن ليس عنده شيء، فماذا يصنع؟
يبطل حق المرتهن؛ لأنه ليس عنده شيء، ويبقى الدين الأصلي في ذمة الراهن.
وعُلم من قول المؤلف «إلا عتق الراهن» أن عتق المرتهن لا يصح ولا ينفذ؛ والعلة أنه ليس مالكاً له، فالمرتهن لا ينفذ عتقه مطلقاً.
أما لو باع الراهن هذا العبد ولم يعتقه، فهذا يحرم ولا يصح، وتقدم لماذا نفذ العتق مع التحريم، وأن العلة قوة سريان العتق، لكن هذا القول ضعيف جداً.
__________
(1) وهو المذهب.(9/142)
والصواب أن عتقه حرام، ولا يصح، أما كونه حراماً؛ فلأن في تنفيذه إسقاطاً لحق المرتهن، وأما كونه لا ينفذ؛ فلأنه أمر ليس عليه أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، إذ هو حرام، فكيف نقول: هو حرام، ثم نقول: ينفذ؟! فهذا تناقض، بل محادة لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (1) ، وكيف يتقرب إلى الله بمعصيته؟!
وأما قولهم: إن هذا من أجل قوة سريان العتق، فنقول: قوة سريان العتق ما لم يبطل به حق الغير، وإذا بطل فلا يجوز، فالعتق عبادة، ولهذا جاء كفارة في القتل والظهار واليمين فهو من أعظم العبادات، فإذا وقع على وجه محرم كان باطلاً، فإذا أذن المرتهن للراهن أن يعتقه فهذا يجوز ولا إشكال.
قوله: «ونماء الرهن وكسبه وأرش الجناية عليه ملحق به» الرهن أي: المرهون، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والمصدر بمعنى اسم المفعول يأتي كثيراً في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] ، الأحمال جمع حمل بمعنى محمول، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي: مردود، فنماء الرهن، أي: ما يحصل منه من ثمر ودر ونسل، ملحق به، وكسبه ملحق به، وأرش الجناية عليه ملحق به، يعني أنه يكون رهناً.
النماء يكون متصلاً ويكون منفصلاً، فإذا رهنه شاة هزيلة،
__________
(1) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(9/143)
ثم سمنت، وزاد لحمها، وكبر جسمها، فهذه الزيادة لا شك أنها تدخل في الرهن، ولو قلنا: إنها لا تدخل لقال الراهن للمرتهن: ليس لك إلا قيمته هزيلاً، ولكن الأمر كما قال المؤلف، فالزيادة المتصلة تلحق ولا إشكال، والزيادة المنفصلة ـ أيضاً ـ تلحق.
مثاله: رهنه شاة، فحملت الشاة بعد الرهن وولدت، وأولادها ولدوا، فالأولاد منها ومن أولادها يتبعون الرهن؛ لأنها نماؤه، وكذلك يقال فيما لو رهنه نخلاً فنما النخل وكبر، فإن النماء يتبع الأصل، وكذلك لو أثمر النخل بعد أن رُهِن فإن ثمرته تكون رهناً؛ لأنها نماء له.
وقوله: «وكسبه» أي: ما اكتسبه الرهن، كعبد اتجر، يعني رهن عبداً واتجر العبد، وكسب، فَكَسْبُ العبد رهن تبعاً لأصله، وكذلك لو أذن الراهن للمرتهن أن يؤجر البيت المرهون، وأجَّره فأجرته تكون رهناً؛ لأن الفرع يتبع الأصل.
وقوله: «وأرش الجناية عليه ملحق به» ـ أيضاً ـ أرش الجناية عليه، أي: ما يؤخذ بسبب الجناية على الرهن، يتبع الرهن، مثال هذا: رهن شاة عند إنسان ثم إن أحداً من الناس اعتدى عليها، وكسر رجلها، ونقصت قيمتها، فإن الراهن صاحب الشاة سوف يأخذ النقص من المعتدي الذي جنى، فهذا النقص الذي أخذه من الجاني يكون رهناً، وهكذا ـ أيضاً ـ لو كان عبداً رهنه، ثم جنى عليه إنسان، فأتلف منه عضواً، فإن دية هذا العضو تكون رهناً.
فصار النماء والكسب وأرش الجناية يُلحق بالرهن، أي: جميع ما يتفرع من الرهن يُلحق به.(9/144)
قوله: «ومؤونته على الراهن» مؤونته: يعني طعامه وشرابه وكسوته إن كان يحتاج إلى كسوة، على الراهن؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَغلق الرهن من صاحبه له غُنمه وعليه غرمه» (1) ، فله غنمه وعليه غرمه.
مثال ذلك: إذا كان الرهن يحتاج إلى حراسة، واستأجرنا حارساً يحرسه، فتكون الأجرة على الراهن؛ لأنها حراسة لملكه، ولا يقول قائل: إنه بين الراهن والمرتهن؛ لأن كلاًّ منهما سوف يستفيد.
نقول: هذا خطأ؛ لأن الغرم بالغنم، فمن له غنم شيء فعليه غرمه.
قوله: «وكفنه» كذلك كفنه لو مات، يعني لو كان المرهون عبداً فمات، فإذا مات يحتاج إلى أجرة غاسل، وقيمة ماء، وقيمة كفن، فتكون هذه على الراهن؛ لأنه ملكه، له غنمه وعليه غرمه.
قوله: «وأجرة مخزنه» يعني لو كان الرهن يحتاج إلى خزن،
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند (2/164) ، وابن ماجه في الرهون/ باب لا يغلق الرهن (2441) ، وابن حبان (5943) إحسان، والدارقطني (3/232) ، والحاكم (2/51) ، والبيهقي (6/39) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، واخرجه مالك في الموطأ (2/728) ، والشافعي (2/163) ومن طريقه البيهقي (6/39) ، وعبد الرزاق (15034) ، وأبو داود في المراسيل (186، 187) عن الزهري عن سعيد مرسلاً، قال البيهقي: «وهو المحفوظ» ورجحه ابن عبد الهادي في المحرر (892) ، وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/430) : وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللونها، وانظر: بيان الوهم والإيهام لابن القطان (2334) ونصب الراية (4/320) والتلخيص (1232) .(9/145)
واستأجرنا مكاناً نخزنه فيه، فأجرة المخزن على الراهن، ولا يقال: إن المخزن فيه مصلحة للجميع، فينبغي أن تكون أجرة المخزن على الجميع، نقول: لا؛ لأن عين هذا المال للراهن فغنمه له وغرمه عليه.
وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ المُرْتَهِنِ إِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلاَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِهِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ، وَإِن تَلِفَ بَعْضُهُ فَبَاقِيهِ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَلاَ يَنْفَكُّ بَعْضُهُ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ دَيْنِهِ وَإِنْ رَهَنَ عِندَ اثْنَيْنِ شَيْئاً فَوَفَّى أَحَدَهُمَا، أَوْ رَهَناهُ شَيْئاً فَاسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِما انْفَكَّ فِي نَصِيبِهِ.
قوله: «وهو» الضمير يعود على المرهون.
قوله: «أمانة في يد المرتهن» فيد المرتهن يد أمانة؛ وجه ذلك أنه حصل المال في يده بإذن من مالكه، وكل مال حصل بإذن من المالك، أو إذن من الشارع فهو بيد صاحبه أمانة، بإذن من المالك كالوكيل ـ مثلاً ـ فهو يقبض المال بإذن صاحبه فهو إذاً أمين، وإذنٍ من الشارع مثل ولي اليتيم فإنه يقبض مال اليتيم، ويتصرف فيه بالتي هي أحسن بإذن من الشارع، وضد ذلك الغاصب فإن المال بيده ليس أمانة ولهذا يضمنه مطلقاً، أما هذا فيقول المؤلف: «وهو أمانة في يد المرتهن» ؛ لأنه لم يعتد بل قبضه بحق، وإذا كان أمانة، فإنه لا يجوز له أن يتصرف فيه، إلا ما استثنى الشرع في قوله: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً» (1) ، وما عدا ذلك لا يجوز التصرف فيه، وقد سبق.
ولكن يتفرع على قوله أنه أمانة قوله:
«إن تلف من غير تعد منه فلا شيء عليه» «إن تلف»
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .(9/146)
الضمير يعود على الشيء المرهون، «من غير تعدٍ منه فلا شيء عليه» ، فإن كان منه تعد فالضمان عليه أي: على المرتهن، وكذلك لو فرط فإن ضمانه عليه، وعلى هذا ينبغي أن يزاد في كلام المؤلف: «من غير تعد ولا تفريط» ، والفرق بين التعدي والتفريط:
أن التعدي: فعل ما لا يجوز.
والتفريط: ترك ما يجب.
مثاله: لو أن شخصاً ارتهن ناقة من آخر، ثم لم يحطها بعناية فقضى عليها البرد، فإننا نقول: هذا تفريط؛ لأن الواجب عليه أن يجعلها في مكان دافئ؛ لئلاّ تموت.
مثال آخر: رجل رهن بعيراً، ثم إن المرتهن صار يحمل عليه ويكده فإننا نسمي ذلك تعدياً.
فإن تعدى أو فرط المرتهن فهو ضامن، وإن لم يتعد ولم يفرط فليس بضامن؛ والعلة في ذلك أنه قبضه من صاحبه بإذنه، فهو أمانة بيده.
قوله: «ولا يسقط بهلاكه» أي: الرهن.
قوله: «شيء من دينه» أي: من الدين الذي عليه، بل يبقى الدين على ما هو عليه.
مثال ذلك: رجل استدان من شخص وأرهنه سيارته، ثم إن السيارة احترقت، وكانت مرهونة بخمسين ألف ريال، فهل يسقط شيء من الدين في مقابل الاحتراق؟
الجواب: لا، ولهذا قال: «شيء» وهي نكرة في سياق(9/147)
النفي، فلا يسقط من الدين لا قليل ولا كثير إذا هلك الرهن كله أو بعضه، لكن يجب أن يلاحظ أنه لا يسقط إذا لم يكن بتعدٍّ أو تفريط، فإن كان بتعدٍّ أو تفريط ألزم المرتهن بالضمان، وحينئذٍ لا بد أن يسقط من الدين بمقدار ما لزمه من ضمانه، لكن الكلام فيما إذا لم يتعد أو يفرط، فإنه لا يسقط بهلاكه شيء من الدين؛ لأن الجهة منفكة، فهذا رهن توثقة، وهذا دين ثابت في الذمة فلا يتساقطان.
مثال آخر: رجل رهن خمس شياه متقاربة الثمن بخمسائة ريال، فتلفت واحدة، هل يسقط مقابلها مائة؟
الجواب: لا؛ لانفكاك الجهة، فإذا تلفت اثنتان فإنه يثبت الخمسمائة وهلم جرًّا.
فما هلك من المرهون فإنه لا يسقط من الدين، إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً، فهنا يضمن ويُسقَط من دينه إلا إذا أوفاه.
فإن أسقطه المرتهن، يعني أن المرتهن رحم الراهن الذي تلف ماله المرهون فأسقط شيئاً من دينه فهذا يجوز؛ لأن الحق له، بل يحمد ويشكر على أن جَبَر قلب أخيه بإسقاط شيء من الدين مقابل ما تلف.
قوله: «وإن تلف بعضه فباقيه رهن بجميع الدين» أي: بعض المرهون، فباقيه رهن، لكن هل هو رهن فيما يقابله من الدين، أو رهن بجميع الدين؟
الجواب: بجميع الدين.
مثال ذلك: رجل رهن عشر شياه بمائة ريال، وتلف من الشياه العشر خمس، وبقي خمس، هل نقول: إن هذه الخمس(9/148)
رهن بجميع الدين، أو رهن بما يقابلها من الدين وهو خمسون، ويبقى النصف الثاني من الدين مرسلاً ليس فيه رهن؟
الجواب: الأول؛ لأن هذا عقد توثقة، وليس عقد معاوضة حتى نقول: ما تلف فإنه يقابل بعوض، فالرهن عقد توثقة، والتزاحم فيه تزاحم استحقاق، وعلى هذا فنقول: إذا تلف بعضه فباقيه رهن بكل الدين، ولا نقول: إن الدين نصفه له رهن ونصفه ليس له رهن؛ لأن المرهون تلف بعضه أي نصفه.
قوله: «ولا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين» هذا ـ أيضاً ـ مهم: لا ينفك بعض الرهن مع بقاء بعض الدين، ومع بقاء كل الدين من باب أولى.
مثاله: رجل رهن خمس شياه بخمسائة درهم، ثم إنه أوفى من الدراهم الخمسمائة ثلاثمائة درهم والمرهون خمس شياه، فهل نقول: إن ما يقابل الوفاء ينفك به الرهن؟
الجواب: لا، بل نقول: يبقى الرهن بجميع الدين، ولهذا قال: «لا ينفك بعضه مع بقاء بعض الدين» ، بل يبقى على ما هو عليه، رهناً بباقي الدين.
قوله: «وتجوز الزيادة فيه دون دينه» تجوز الزيادة في الرهن دون دينه، أما الزيادة في الرهن فلأن فيها مصلحة وهو زيادة التوثقة، وأما الزيادة في دينه فلا يجوز؛ لأنه يريد أن يشغل هذا الرهن بالدين الثاني، مع أنه مشغول بالدين الأول، والمشغول لا يشغل.(9/149)
مثال الزيادة في الرهن رجل استدان من شخص خمسين ألفاً وقال له الشخص: أريد رهناً، فقال: هذه سيارتي، فأخذها، وانتهى العقد على هذا، أن الرهن سيارة واحدة، ثم إن صاحب الدين وهو المرتهن شعر بأن السيارة لا تكفي في الدين، فطلب ممن رهنه السيارة أن يرهنه سيارة أخرى، فهذا يجوز، لكن هل يجبر المدين على أن يرهن الأخرى؟
الجواب: لا يجبر، لكن لو اتفقا فلا بأس؛ لأنه ليس فيه ظلم ولا ربا.
وأما الزيادة في الدين فلا.
مثاله: رجل استدان من شخص خمسين ألفاً، وقال له: لك البيت رهناً، ثم إن المدين احتاج زيادة مال فجاء إلى المرتهن وقال: أقرضني، قال: أعطني رهناً، قال: الرهن الأول، فالدين الأخير يتبع الرهن الأول، يقول المؤلف: إن هذا لا يجوز؛ لأن الرهن مشغول بالدراهم الأولى.
والصواب: الجواز، وأنه لا بأس بزيادة الدين؛ لأنه برضا الطرفين وفيه مصلحة للراهن، وهو قول لبعض العلماء؛ وذلك لأن المرتهن قد توثق لنفسه، فإذا جاء الراهن وطلب منه أن يضيف إلى الدين الأول شيئاً يدخل في الرهن صار من نصيب الراهن، وما المانع أن يكون لأحد الطرفين مصلحة، وهي مصلحة ليس فيها ربا؟!
وقولهم: إن المشغول لا يشغل، فصحيح إذا كان الشاغل(9/150)
أجنبياً، أما إذا كان الشاغل هو الشاغل الأول ورضي بذلك فما المانع؟! ولهذا عمل الناس على جواز الزيادة في الدين، أي: خلاف المذهب، فيأتي الفلاح عندنا ويستدين من التاجر ويقول: أرهنك الفلاحة بهذا الدين، ثم يستدين منه مرة ثانية، ويقول: هذا الدين داخل في الرهن الأول، والقضاة يحكمون بصحة ذلك.
قوله: «وإن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما» هذا الشيء المرهون مُلكٌ لواحد، رهنه عند اثنين، فوفى أحدهما فإنه ينفك الرهن في نصيبه دون نصيب صاحبه.
مثال ذلك: استدان زيد من عمرٍو وبكر مائة ألف، فكل واحد أدانه خمسين ألفاً، ثم قال: هذا البيت رهن بدينكما، ثم أوفى عَمراً، فهل ينفك في نصيبه؟
الجواب: نعم، ويبقى هذا البيت مرهوناً نصفه فقط، وباقيه غير مرهون، هذا معنى قوله: «إن رهن عند اثنين شيئاً فوفى أحدهما» .
قوله: «أو رهناه شيئاً فاستوفى من أحدهما» المرهون شركة.
مثاله: هذا بيت مشترك بين زيد وعمرو، استدان الرجلان من شخص فرهناه البيت المشترك، فاستوفى من أحدهما، فهل ينفك الرهن في نصيبه؟
يقول المؤلف: «انفك في نصيبه» وذلك لأن الصفقة اشتملت على عقدين، فإذا انفك الرهن في أحد العقدين، بقي الرهن الآخر.(9/151)
وَمَتَى حَلَّ الدَّيْنُ وَامْتَنَعَ مِن وَفَائِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهنُ أَذِنَ للْمُرْتَهِنِ أوْ العَدْلِ فِي بَيْعِهِ بَاعَهُ وَوَفَّى الدَّيْنَ، وَإِلاَّ أجْبَرَه الحاكمُ عَلَى وَفَائِهِ أَوْ بَيْعِ الرَّهنِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَاعَهَ الحَاكِمُ وَوَفَّى دَيْنَهَ.
قوله: «ومتى حَلَّ الدَّين» على المدين الذي هو الراهن.
قوله: «وامتنع من وفائه» أي: امتنع المدين الذي هو الراهن من وفائه.
قوله: «فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفَّى الدَّين» أي: أذن للمرتهن إذا كان الرهن بيد المرتهن، أو العدل إذا كان الرهن عند عدل، يعني عند رجل عدل اتفقا عليه، فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو للعدل في بيعه باعه ووفى الدين.
مثاله: رهن سيارته عند شخص استدان منه مائة ألف، ثم حلَّ الدين، وكان قد أذن للمرتهن أنه إذا حل الدين ولم أوف فبع، فهنا نقول: إذا حل الدين، وقال: أوفني، فقال: ليس عندي شيء، فهنا يبيعه ولا يحتاج إلى تجديد الإذن؛ لأنه يكفي الإذن الأول.
وقوله: «أو العدل» مثل أن تكون السيارة التي رهنها عند الدائن بيد شخص ثالث، يعني أن الراهن الذي استدان لم يثق بالمرتهن، وجعل السيارة عند شخص آخر عدل مأمون، وقال له: إذا حل الدين ولم أوف فبع السيارة وأوف المرتهن، فنقول: إذا حل الدين وامتنع الراهن من الوفاء، فإن العدل يبيعها، ولا يحتاج إلى تجديد إذن للإذن السابق، ولهذا قال: «فإن كان الراهن أذن للمرتهن أو العدل في بيعه باعه ووفى الدين» .
قوله: «وإلا أجبره الحاكم على وفائه أو بيع الرهن» يعني إن(9/152)
لم يكن أذن، يعني رهن العين ولم يأذن في بيعها عند حلول الأجل إذا امتنع من الوفاء، فهنا يترافع الطرفان إلى الحاكم، ما لم يرض الدائن ببقاء الدين بدون أن يباع الرهن، فيجبره الحاكم على وفائه، وهذا إن كان المدين بيده شيء، وإن كان فقيراً أو مماطلاً أجبره على بيع الرهن، فقال: بعه أو ائذن للمرتهن أو العدل في البيع، أي: يأمره أن يبيعه مباشرة أو أن يأذن للعدل أو للمرتهن في بيعه.
قوله: «فإن لم يفعل باعه الحاكم ووفَّى دينه» وإنما احتجنا إلى هذه المراتب، مع إمكان الحاكم أن يتولى بنفسه من أول الأمر بيع الرهن والوفاء، حفاظاً على أموال الناس، وألا نعتدي عليها، حتى الحاكم لا يعتدي على أموال الناس، إلا إذا تعذرت مباشرتهم إياها بأنفسهم، فإذا لم يتعذر فإن الواجب أن تكون أموال الناس محترمة، فلا نبيع عن الراهن ملكه بدون أن يعجز عن وفائه، فإذا عجز عن وفائه، فحينئذٍ يتولى الحاكم بيع الرهن ووفاء الدين.
وحينئذٍ إما أن يكون ثمن الرهن أقل من الدين أو أكثر أو مساوياً.
فإن كان مساوياً فهذه بتلك، أعطيناه ثمنه وانتهى الأمر، وإن كان أقل، يعني الدين عشرة آلاف ريال وثمن الرهن ثمانية، أعطيناه ثمن الرهن وبقي له على الراهن ألفان، ولا نقول: إن قيمة الرهن تكفي؛ لأن المرتهن رضي بالرهن فليس له إلا ما ارتهن؛ لأن الدين متعلق بالذمة، والذمة الآن لم(9/153)
تبرأ، فالذمة مشغولة بعشرة آلاف، وهذا الرهن بيع بثمانية فبقي ألفان.
وإن كان الرهن بيع بأكثر من الدين، استوفى المدين حقه، والباقي يرد إلى الراهن، وهذا واضح.
وإذا كان الرهن من جنس الدين ـ وإن كان بعيداً ـ فإن العلماء يقولون: لا حاجة لبيعه، بل نقول للمرتهن: خذ الرهن، فإن كان بقدر مالك فالأمر ظاهر، وإن كان أقل أتممنا لك الحق، وإن كان أكثر أخذنا منك الزائد.(9/154)
فصلٌ
وَيُكونُ عِنْدَ مَنْ اتفَقَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَذِنَا لَهُ فِي البَيْعِ لَمْ يَبِعْ إِلاَّ بِنَقْدِ البَلَدِ، وَإِن قَبَضَ الثَّمَنَ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ فَمِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ،
قوله: «ويكون عند من اتفقا عليه» «يكون» الضمير يعود على الرهن، «اتفقا» الألف تعود على الراهن والمرتهن، هذا ما لم يرض الراهن بكونه بيد المرتهن، فإن رضي فذاك المطلوب وإن لم يرض لعدم ثقته به، قيل لهما: اختارا من يكون بيده، فإذا اختارا فلاناً صار بيده، فإن اختلفا قال أحدهما: أنا أريد فلاناً، وقال الثاني: أنا أريد فلاناً الآخر فكيف نعمل؟ هل نقدم قول الراهن؛ لأنه المالك الذي يخشى على ملكه، أو نقدم قول المرتهن؛ لأنه الطالب للحق الذي يريد أن يتوثق، أو نقول: لا نأخذ بقولكما ونرجع إلى القاضي؟
الثالث: أقرب إلى الصواب؛ لأنه إن راعينا قول الراهن؛ لأنه المالك، فقد يختار المالك رجلاً لا يثق به المرتهن، وإن قدمنا قول المرتهن؛ لأنه صاحب حق ويريد أن يتوثق بحقه فإن الراهن قد لا يثق به، فيقول: أخشى على ملكي إذا كان بيد هذا الرجل، لذلك نرى فكّاً للنزاع وحلاً للمشكلة أن ترفع إلى القاضي ويُعيِّن من شاء، فعلى هذا قال: «ويكون عند من اتفقا عليه» إن اتفقا على أحد، وإن اختلفا فالمرجع إلى القاضي؛ لأن له الولاية العامة.
قوله: «وإن أذنا» الضمير يعود على الراهن والمرتهن.
قوله: «له» أي: للعدل.(9/155)
قوله: «في البيع لم يبع إلا بنقد البلد» ولا يبيع بنقد آخر، فمثلاً هنا نقد البلد الريال السعودي، فلا يبيع بدولار ـ مثلاً ـ لأنه إذا أطلق العقد رجع إلى العرف بين الناس، والمتعارف بين الناس هو النقد المتداول بينهم، فهو لا يبيع إلا بنقد البلد.
ولو قال: أنا أريد أن أبيعه بمثل الدَّيْن، يعني أن هذا مرهون بدولارات وأذنا له في البيع، هل يبيع بالدولارات أو بنقد البلد؟
الجواب: بنقد البلد، هذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأنه ربما ترتفع قيمة الدولارات فيخسر الراهن، وربما تنخفض فيكون في هذا ضرر على المرتهن، وعلى هذا فلا عبرة بالدين أو بجنس النقد الذي هو الدين، بل العبرة بنقد البلد.
والصحيح أنه يبيعه أولاً بجنس الدين ثم بنقد البلد.
وهل يبيع بفئة خمسمائة أو بفئة مائة أو بفئة خمسين أو فئة عشرة أو فئة ريال؟
الجواب: له أن يبيع بما شاء؛ لأن الأمر كله واحد، لكن في ظني أن الدين إذا كان كثيراً فالأحسن الخمسمائة، وعلى كل حال لا بد من نقد البلد، أما كونه من فئة كبيرة أو صغيرة، فهذا يرجع إلى ما تقتضيه المصلحة.
قوله: «وإن قبض الثمن فتلف في يده فمن ضمان الراهن» وذلك لأن الدين ثابت في ذمة الراهن حتى يستلمه المرتهن، فالمرتهن الآن لم يستلم الثمن، فلم يوف دينه، فإذا تلف فمن(9/156)
ضمان الراهن، ولكن يشترط في ذلك أن يكون بلا تعدٍّ ولا تفريط، فإن كان بتعدٍّ أو تفريط صار هناك ضامن آخر، وهو العدل الذي وُكِل من قبل الطرفين.
مثاله: باع العدل الرهن وقبض الثمن، ثم شب حريق في البيت وتلف الثمن، فهنا المرتهن يرجع على الراهن، ولا إشكال، ولا يرجع الراهن على العدل؛ لأنه تلف بلا تعدٍّ ولا تفريط.
مثال آخر: قبض العدل الثمن، ووضعه على عتبة المحل، ثم نسي وذهب يصلي، فأتى وقد سُرق، فالضمان للمرتهن على الراهن، والراهن يرجع على العدل؛ أما رجوع المرتهن على الراهن فظاهر؛ لأن الدين في ذمته وهو لا يعرف إلا الراهن، وأما رجوع الراهن على العدل؛ فلأنه فرَّط؛ لأن هذا ليس حفظاً للمال، فالأموال المهمة توضع في الصندوق؛ لأن الإنسان معرض للنسيان، وهذه ـ أيضاً ـ مسألة ينبغي للإنسان أن يسير عليها في حياته، وقد نبهنا عليها، وهي أن يبدأ الإنسان بالأهم، وذكرنا هذا في حديث عتبان بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما جاء إليه قال: أين تريد أن تصلي؟ وقد صنع له طعاماً ولكنه لم يبدأ بالطعام؛ لأنه إنما جاء ليصلي في مكان يتخذه عتبان مصلى (1) ، وذكرنا ـ أيضاً ـ أنه لما بال الصبي في حجره دعا بماء فأتبعه إياه (2) فالإنسان لا يفرط، فلا يقول: أترك
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (33) ، عن عتبان بن مالك ـ رضي الله عنه ـ.
(2) رواه البخاري في الوضوء/ باب بول الصبيان (222) ، ومسلم في الطهارة/ باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله (286) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(9/157)
هذا وإذا انتهيت وضعته في مكانه، حتى في المراجعة، فالإنسان يراجع ـ مثلاً ـ خمسة كتب، كل كتاب في رف فإذا راجعت واحداً، لا تقل أضعه عندي؛ لأنك الآن لست محتاجاً إليه، ضعه أولاً في مكانه؛ لأنك ستضعه ولا بد، ولأجل أن يسلم المكان حولك من تكديس الكتب، ولأجل أن يكون منظماً.
فالدراهم إذا أُعْطِيتَها أمانة لا تجعلها أمامك، وتقول: إذا قمت وضعتها في الصندوق، ضعها مباشرة؛ لأن الإنسان بشر ربما ينسى، وكذلك إذا عَنَّ في ذهنك وأنت طالب علم مسألة، قلت هذه سهلة أراجعها فيما بعد، الأولى أن تراجعها أولاً ما دمت في حاجة لها، ولست تراجع مسألة معينة من قبل، أما إذا كنت تراجع مسألة معينة من قبل فلا تتلهى بغيرها فتضيع عليك، أيضاً يمر بك فائدة قد لا تراها في أي كتاب، وقد لا تكون هذه الفائدة في الموضع الذي تظن أنها فيه، فيقول الإنسان أنا أضبطها في قلبي، ولا أنساها ولا يقيدها، أو على الأقل يشير إلى صفحتها في جانب الكتاب، ثم بعد ذلك ينساها وتضيع عليه وهي تعتبر فائدة درة، لكنه ينسى؛ لأن الإنسان بشر.
وَإِنِ ادَّعَى دَفْعَ الثَّمَنِ إِلى المُرْتَهِنِ فَأنْكَرَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ وَلَمْ يَكُنْ بِحُضُورِ الرَّاهِنِ ضَمِنَ كَوكِيلٍ.
قوله: «وإن ادعى دفع الثمن» أي العدل.
قوله: «إلى المرتهن فأنكره ولا بينة ولم يكن بحضور الراهن ضمن» أي: ضمن العدل.
صورة المسألة: أذن الراهن للعدل أن يبيع الرهن ويوفي صاحبه، فباعه ثم جاء إلى صاحبه في دكانه، وقال: يا فلان هذا(9/158)
ثمن الرهن الذي ارتهنته، فأخذ الدراهم وشكر له، وفي آخر النهار ذهب المرتهن إلى الراهن وقال: أوفني، فرجع الراهن إلى العدل وقال: ألست تقول: إنك أوفيته؟ قال: بلى، فذهبا إلى المرتهن فقال: لا ما وفاني، والعدل ليس عنده بينة، والراهن لم يحضر، فهنا يضمن العدل؛ لأنه فرط بعدم إشهاده، وكان عليه أن يشهد حتى تبرأ ذمته ويؤدي الأمانة كما أمر، فيرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الدَّين ثابت في ذمته ويرجع الراهن على العدل.
لكن لو أن العدل استأذن من الراهن، وقال: يا فلان إن المرتهن رجل شريف كريم، وليس هناك حاجة لأن أحضر إليه من يشهد عليه بالوفاء؛ لأن هذا ليس بطيب في حقه، فقال: أوفه وإن لم تشهد، وثبت أن الراهن قال هذا، فهنا لا يضمن العدل، وكَذلك لو كان بحضور الراهن الذي عليه الدين، فلا ضمان على العدل؛ لأن المفرط هنا الراهن الذي عليه الحق، فلماذا لم يطلب شهوداً يشهدون أنه أوفى؟ فيرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الدين ثابت لم يثبت قضاؤه، ولا يرجع الراهن على العدل.
والخلاصة: أن العدل إذا أوفى المرتهن بدون بينة، ولا حضور الراهن وأنكر المرتهن فعليه الضمان.
قوله: «كوكيل» ، يعني كما لو فعل الوكيل في قضاء الدين وقال: إني وفيت، وأنكر الدائن ولم يكن هناك بينة، ولم يكن بحضور الموكل فإنه يضمن، وهذه المسألة تقع كثيراً.
مثال ذلك: صاحب بقالة اشتريت منه كيس خبز ثمنه ريال، وبعد أن ذهبت به إلى البيت ذهب جاري يشتري خبزاً، فأعطيته(9/159)
ريالاً قيمة الكيس ليعطيه للبقال، فأخذ الريال وأعطاه للبقال وقال: هذا عن الرجل الذي أخذ منك كيس الخبز، ولم يكن هناك شهود، ثم إن صاحب البقالة لما مر به المشتري قال: أعطني قيمة الخبز، فقال: أعطيته جاري ودفعه لك، فقال: ما أعطاني شيئاً، فهنا يضمن الجار الريال؛ لأنه لم يُشهد عليه بشاهدين.
لكن ينبغي أن يقال: لكل مقام مقال، فالدراهم الخطرة الكثيرة لا بد أن يُشهد عليها، فإن لم يفعل فهو مفرط، أما الشيء اليسير الذي جرت العادة أنه لا يُشهد عليه، فإنه لا يعد مفرطاً، والرجل المدين قد ائتمنه ورضي بأمانته.
فالصحيح في هذا أنه لا يضمن؛ لأن هذا الوكيل يقول للذي وكله: أنت لو ذهبت توفي بهذا الريال ما أشهدت عليه، فكيف تعدني مفرطاً وأنت بنفسك تفعل ما أفعل؟!
ولو أعطى صاحب الدكان فاتورة للوكيل بأنه تسلم الثمن، فالأصل أن الإقرار مقبول، فيكفي إعطاء الفاتورة عن الإشهاد.
وَإِنْ شَرَطَ ألاَّ يَبِيعَهُ إِذَا حَلَّ الدَّيْنُ، أوْ إِن جَاءَهُ بِحَقِّهِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَإِلاَّ فَالرَّهْنُ لَهُ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَحْدَهُ،............
قوله: «وإن شرط» الفاعل هو الراهن.
قوله: «ألا يبيعه» أي: المرتهن.
قوله: «إذا حل الدين» مثاله: قال: رهنتك هذه السيارة بخمسين ألفاً بشرط ألا تبيعها إذا حل الدين، فالرهن صحيح، والشرط فاسد، ولو أن أحداً قال بعدم صحة الرهن والشرط لكان له وجه؛ لأن هذا الشرط لو صححناه، لكان منافياً لمقتضى العقد، إذ مقتضى العقد هو التوثقة، وإذا كان إذا حل الدين لم يبعه فأين التوثقة؟! لكن المذهب أن العقد صحيح والشرط فاسد،(9/160)
وبناء على ذلك إذا حل الدين، فهل يجوز للمرتهن أن يبيعه؟ نعم؛ لأن الشرط غير صحيح.
قوله: «أو إن جاءه» الفاعل الراهن، والمفعول المرتهن.
قوله: «بحقه في وقت كذا وإلا فالرهن له لم يصح الشرط وحده» «بحقه» الضمير يعود على المرتهن، والحق هو الدين، فإن جاءه بحقه في الوقت، انفك الرهن، وإن لم يأت بحقه في الوقت المحدد، بقي الرهن بحاله، وبقي الدين بحاله؛ لأن الشرط غير صحيح.
مثال ذلك: رجل أرهن شخصاً سيارة، قال: خذ السيارة رهناً عندك، فإن جئتك بحقك أول يوم من رمضان، وإلا فالسيارة لك، فقال: ليس هناك مانع، فإن هذا الشرط لا يصح، فإذا جاء أول يوم من رمضان، ولم يوف بحقه، بقيت السيارة على رهنها وبقي الدين في ذمة الراهن، يعني كأن شيئاً لم يكن.
والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَغْلَقُ الرهن من صاحبه» (1) ، يعني لا يؤخذ منه قسراً، والتعليل أنه بيع معلق ومن شروط البيع أن يكون منجزاً، فالبيع المعلق غير صحيح.
أما الحديث: «لا يغلق الرهن، من صاحبه» فهنا الرهن لم يغلق من صاحبه، غَلْقُ الرهن من صاحبه، أنه إذا حل الدين ولم
__________
(1) سبق تخريجه ص (145) .(9/161)
يأت به أخذه المرتهن قهراً، سواء يساوي الدين أو أكثر أو أقل، هذا الذي يقال: إنه غلق من صاحبه، وكانوا في الجاهلية إذا رهنوا الشيء وحل الأجل ولم يوفوا امتلكه المرتهن، وأخذه ملكاً له، رضي الراهن أم لم يرض، فهذا لا شك أنه إغلاق للرهن، وتَمَلُّكٌ له بغير حق، وأما إذا كان باختيار صاحبه فإنه لم يغلق عليه أحد.
وأما التعليل بأن البيع المعلق لا يصح فيحتاج إلى دليل، فما الدليل على أن البيع المعلق غير صحيح؟ فصار هذا التعليل غير صحيح والاستدلال غير صحيح، فنرجع إلى الأصل، والأصل في العقود وشروطها الجواز والصحة؛ لقول الله ـ عزّ وجل ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وهذا يشمل الوفاء بالعقد أصله وشرطه، ولقوله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] ، والشرط عهد، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1) ، فعلم منه أن الشرط الذي لا ينافي كتاب الله صحيح، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (2) . فهذه أربعة أدلة من الكتاب والسنة، مع بطلان ما استدل به الأصحاب رحمهم الله.
وحينئذٍ يكون القول الثاني أن هذا الشرط صحيح، فإذا قال الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك في وقت كذا، وإلا فالرهن لك، وقبل فهو صحيح، وبهذا أخذ الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في
__________
(1) سبق تخريجه ص (100) .
(2) سبق تخريجه ص (18) .(9/162)
فعله، فإنه اشترى من بقال شيئاً ورهنه نعليه وصار يمشي حافياً، وقال له: إن جئتك بحقك في وقت كذا، وإلا فالنعال لك، فوافق صاحب البقالة؛ لأن النعال يمكن أن تكون أكثر من الدين، والله أعلم.
فيكون في المسألة عن الإمام أحمد روايتان:
الرواية القولية: أنه لا يصح لدخوله في الحديث: «لا يغلق الرهن من صاحبه» (1) .
الرواية الفعلية: وهو أنه فعل ذلك بنفسه، وهذا هو القول الراجح.
بقي علينا أن يقال: ربما يكون الرهن حين العقد مساوياً للدين، لكن عند حلول الدين قد تزيد قيمته وقد تنقص.
مثاله: رهنه هذه السيارة بخمسين ألفاً، وقال: إن جئتك بحقك في أول يوم من رمضان وإلا فالسيارة لك، وهي تساوي في ذلك الوقت خمسين ألفاً، لكن لما دخل رمضان صارت تساوي عشرين ألفاً، أو صارت تساوي ثمانين ألفاً، فيكون حينئذٍ الثمن مجهولاً، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عن بيع الغرر» (2) .
يقال: أما إذا نقصت قيمة الرهن فإن المرتهن قد أسقط بعض الدين باختياره، ودخل على بصيرة، وأما لو زادت فإن الراهن لا يمكن أبداً أن يؤخر الوفاء عن وقته؛ لئلا تفوته هذه الزيادة، إذاً فلا غرر وذلك بالنسبة للمرتهن، أنه يجوز أن يسقط
__________
(1) سبق تخريجه ص (145) .
(2) سبق تخريجه ص (28) .(9/163)
بعض حقه، وحصوله على بعض حقه خير من عدمه بالكلية، أما بالنسبة للراهن، فهو كما سبق أنه لا يمكن أبداً أن يؤخر الوفاء عن وقته، إذا كان يعلم أن قيمة الرهن أكثر من الدين؛ لأنه لا أحد يرضى بهذا، ولو ذهب يستقرض ويوفي لفعل؛ لئلا تفوته هذه الزيادة، وبهذا يجاب عن هذا الإيراد فيزول الإشكال.
إذاً الصحيح: أنه إذا رهنه شيئاً وقال: إن جئتك بحقك في الوقت الفلاني، وإلا فالرهن لك، أن هذا شرط صحيح ولازم.
وَيُقْبَلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ وَالرَّهْنِ وَرَدِّهِ وكَوْنِهِ عَصِيراً لاَ خَمْراً، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُلْكُ غَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ جَنَى قُبِلَ عَلَى نَفْسِهِ وَحُكِمَ بِإقْرَارِه بَعْدَ فَكِّهِ إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ المُرْتَهِنُ.
قوله: «ويقبل قول الراهن في قدر الدين» يعني لما حل الدين أتى الراهن بألف ريال، وقال للمرتهن: هذا دينك أعطني الرهن، فقال: الدين ليس بألف ريال، الدين خمسة آلاف ريال، فقال الراهن: بل هو ألف ريال، يقول المؤلف: «يقبل قول الراهن» ، وهذا مقيد بما إذا لم يكن للمرتهن بينة، أما إذا كان للمرتهن بينة، فالقول قول من شهدت له البينة، وهي شهدت للمرتهن فيلزمه في المثال خمسة آلاف.(9/164)
كذلك ـ أيضاً ـ يقبل قول الراهن مع يمينه، فلا بد أن يحلف؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، ونحن الآن عندنا طرفان، الطرف الأول الراهن ينكر أن يلزمه خمسة آلاف.
والطرف الثاني المرتهن يدعي أن له خمسة آلاف.
نطبق على الحديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (2) ، فنقول: القول قول الراهن بيمينه، وأما المرتهن فلا نقبل قوله إلا بالبينة.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا فرق بين أن يكون الدين الذي ادعاه الراهن قريباً من قيمة الرهن أو بعيداً.
فلو رهنه سيارة بدين، ولما حل الدين جاء الراهن إلى المرتهن بمائة ريال، فقال المرتهن: الدين خمسة آلاف ريال، فقال: لا، بل مائة ريال، فهنا عندنا أصل وعندنا ظاهر.
فالأصل عدم ثبوت ما ادعاه المرتهن؛ لأن الراهن ينكره، فيقول: أبداً لا يلزمني إلا مائة ريال.
والظاهر ثبوت ما ادعاه المرتهن في هذه الصورة؛ إذ لم تجر العادة أن شخصاً يرهن سيارة تساوي خمسين الفاً بمائة ريال، فإذا كان هناك ظاهر وأصل، فكلام المؤلف ظاهره ما ذكرناه من أنه لا فرق بين أن يكون الدين الذي ادعاه الراهن قريباً من قيمة الرهن أو بعيداً، لكن إذا أردنا أن نطبقها على قواعد الشريعة، فإننا نقدم الأقوى من الظاهر أو الأصل، ولهذا لو ثبت ببينة أخذنا بما قالت البينة، ولو كان الراهن قد ادعى أقل.
وعلى هذا نقول: إن الظاهر يكذب قول الراهن، فيكون الأصل مع المرتهن.
__________
(1) أخرجه البيهقي (10/252) ، وقال الحافظ في البلوغ (1408) : إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه.
(2) سبق تخريجه ص (164) .(9/165)
وفي المسألة قول ثالث أن القول قول المرتهن مطلقاً لكنه ضعيف، فالقول بأن القول قول الراهن مطلقاً ضعيف، والقول بأنه قول المرتهن مطلقاً ـ أيضاً ـ ضعيف، والصواب في ذلك التفصيل وأن القول قول من يشهد العرف له؛ لأن الظاهر إذا قوي غُلِّب على الأصل، فإذا وجدت قرينة قوية تدل على رجحان من ادعى الظاهر غلب على الأصل كما سبق.
ولكن يبقى النظر إذا ادعى المرتهن أن الدين خمسون ألفاً بناءً على أن قيمة السيارة تساوي خمسين ألفاً، ولكن لما رأى أنه غير مقبول قال: إذاً الدين أربعون ألفاً. فهل في هذه الحال نقول: إن رهن سيارة قيمتها خمسون ألفاً، قريب من أن يكون الدين أربعين ألفاً، فنقبل قوله لما رجع، أو نقول: إن هذا الرجل كاذب فلا يقبل قوله؟
الجواب: الظاهر الثاني هو الأولى، وعليه فنقول: يكون الدين ما ادعاه الراهن.
وعلى هذا فالقاعدة: «متى ادعى أحدهما ما يخالف الظاهر مخالفة بينة فإننا لا نقبله» .
قوله: «والرهن» إذا قال المرتهن: رهنتني شيئين، وقال الراهن: بل رهنتك شيئاً واحداً، فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الزيادة، مثال ذلك، قال المرتهن: إنك رهنتني البيتين جميعاً وقال الراهن، بل رهنتك بيتاً واحداً، فالقول قول الراهن، وعلى هذا فيكون البيت الثاني طِلقاً لا رهناً، وللراهن أن يتصرف فيه كما شاء؛ ووجه ذلك ما سبق من الحديث: «البينة على المدعي(9/166)
واليمين على من أنكر» (1) ، فالراهن والمرتهن اتفقا على أن البيت الأول مرهون، واختلفا في الثاني فقال المرتهن: إنه مرهون، وقال الراهن: ليس بمرهون، فالبيت الثاني فيه مدعٍ ومنكر، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يكون هذا الاختلاف يشهد العرف لأحدهما أو لا يشهد، فمثلاً إذا أقرضه مائة ألف، ثم ادعى المرتهن أنه رهنه البيت الأول والثاني وكلاهما لا يساوي مائة ألف، وادعى الراهن أنه لم يرهنه إلا البيت الأول، فالأقرب إلى الصواب قول المرتهن؛ لأن البيتين جميعاً قيمتهما ستون ألفاً، فكونه يرهن البيتين أقرب من أن يرهن واحداً لا يساوي إلا ثلاثين ألفاً، وعلى هذا نقول: القول الثاني في المسألة أن القول قول من يشهد له العرف، فإذا كان قول أحدهما تدل القرينة على صدقه كان أولى، أما المذهب فيطردون القاعدة على أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
قوله: «ورده» أي: يقبل قول الراهن في رد الرهن، يعني لو ادعى المرتهن أنه رد الرهن إلى الراهن، وقال الراهن: لم ترده، فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الرد، ولأننا اتفقنا على أنه في يدك واختلفنا في انتقاله عن يدك، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والرهن الآن بيد المرتهن.
فإذا قال قائل: ألستم تقولون: إن المودَع إذا ادعى رد
__________
(1) سبق تخريجه ص (164) .(9/167)
الوديعة إلى المودِع قبل قوله، فلماذا لا تقبلون قول المرتهن في رد الرهن؟ أي: إنسانٌ أعطى شخصاً وديعة وقال: خذ هذه الساعة أمانة عندك، وبعد مدة جاء صاحب الساعة يطلبها، فقال المودَع: إني قد أعطيتكها، فيقبل قول المودَع، وهذا المرتهن لا نقبل قوله؛ لأن المودَع محسن، والله تعالى يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، وكثيراً ما تحصل مثل هذه الأمور بدون إشهاد، فلو أعطاني ماله، وقال: خذ هذا وديعة عندك، فجاء يطلبه فقلت له: لا أعطيك إياه إلا بشهود، فسيقول أنا أعطيتك إياه بلا شهود، فكيف لا تعطيني إياه إلا بشهود؟! فلما كان العرف يقتضي عدم الإشهاد وكان هذا الرجل محسناً، لم يكن عليه من سبيل، ولدينا قاعدة: «أن من قبض الشيء لحظ نفسه كالمستعير لم يُقبل قوله في الرد، ومن قبضه لحظ مالكه كالمودَع قُبل قوله في الرد، ومن قبضه لحظهما جميعاً مثل الرهن والعين المؤجرة لم يقبل قوله في الرد، كمن قبض الشيء لحظ نفسه؛ تغليباً لجانب الحماية، وعلى هذا فلا يقبل قول المستأجر في رد العين المؤجرة إلا ببينة.
أما في التلف فكل من كانت بيده العين بإذن من مالكها أو من الشرع فقوله في التلف مقبول، إلا إذا ادعى التلف بسبب ظاهر، فإنه يلزم بإقامة البينة على هذا الظاهر، ثم يقبل قوله في أن هذا المال تلف من جملة ما تلف، وعليه يقبل قولهما ـ أي: المرتهن والمودع جميعاً ـ، يعني لو ادعى المرتهن أن الرهن تلف قبل قوله؛ لأنه أمين، وفي نظم القواعد:(9/168)
كل أمين يدعي الرد قُبل (1) .
وعلى هذا فنقول: إذا ادعى المرتهن أنه رد الرهن إلى الراهن فإننا لا نقبل قوله، فالقول قول الراهن.
وليعلم أن من كان القول قوله فلا بد من اليمين؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين على من أنكر» (2) .
قوله: «وكونه عصيراً لا خمراً» يعني يقبل قول الراهن في كونه عصيراً لا خمراً، ولكن هذا في صورة معينة، في عقد شُرِطَ فيه الرهن، ولهذا لا بد من القيد، «في عقد شرط فيه الرهن» .
بأن قال المرتهن: بعتك هذه السلعة على أن ترهنني هذا العصير، فوافق فأرهنه العصير، ثم رجع المرتهن وقال: إن العصير كان خمراً، يعني فلا يصح الرهن؛ لأنه إذا كان خمراً لم يصح الرهن، وإذا لم يصح الرهن يقول البائع: فلي الفسخ؛ لأني اشترطت رهناً، وتبين أن الرهن غير صحيح فلي الفسخ؛ لأن العقد الآن صار بلا رهن، وأنا لم أبعه إلا برهن، فقال الراهن: إنه كان عصيراً وليس خمراً، وإذا كان عصيراً كان الرهن صحيحاً، وإذا كان صحيحاً فلا خيار للبائع.
إذا قال قائل: لماذا نقبل قول الراهن في هذه المسألة، ولا نقبل قول المرتهن؟
الجواب: لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، فالأصل السلامة وعدم التخمر؛ لأنه في الأصل عصير، فيكون
__________
(1) منظومة في أصول الفقه لشيخنا ـ رحمه الله ـ ص (17) .
(2) سبق تخريجه ص (164) .(9/169)
تخمره في عُهدة المرتهن، فالأصل أن هذا العصير باق لم يتخمر، وحينئذٍ لا فسخ للبائع.
إذاً كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ يحتاج إلى قيد، والقيد هو (عقد شرط فيه الرهن) فرهن عصيراً ثم ادعى المرتهن أنه كان خمراً من أجل أن يفسد الرهن، ثم يكون له الخيار في عقد البيع.
قوله: «وإن أقر أنه ملك غيره» «أقر» الفاعل يعود على الراهن، أي: أقر الراهن أنه ملك غيره، قُبِل على نفسه، ولم يقبل على المرتهن، وهذا لا شك أنه عين الحكمة.
مثاله: رجل رهن سيارة لشخص استدان منه مائة ألف، ثم بعد يومين أو ثلاثة رجع الراهن وقال: السيارة ليست لي، السيارة لفلان وهذه استمارتها، فهنا نقول: القول قول الراهن من وجه، لكن لا على حق المرتهن، فنقول: يقبل إقرارك، لكن لا نحكم بمقتضاه حتى ينفك الرهن، فتبقى السيارة مرهونة، وإذا انفك الرهن قلنا: أرجعها لمن أقررت أنها ملكه، أما الآن فلا؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال حق المرتهن، وحق المرتهن سابق على هذا الإقرار فيقدم عليه.
وهذا لا شك أنه عين الحكمة؛ لأننا لو لم نقل بذلك لكان كلُّ راهنٍ مبطلٍ، إذا رهن ادعى أنه ملك لفلان، بأن يتفق هو وفلان، ويقول: أنا أريد أن أقر بأن هذا الشيء لك؛ من أجل أن أقول: أنا رهنت ملك غيري، فنقول: الرهن باق بحاله وإذا انفك الرهن أخذه المُقَرُّ له.
مسألة: إذا قدرنا أن الرجل لم يوف الدين فهل يباع الرهن؟(9/170)
الجواب: نعم يباع ويرجع المُقَر له على الراهن؛ لأن الراهن هو الذي أتلفه، هذا إن بقي على إقراره أنه لغيره.
قوله: «أو أنه جنى» أي: الرهن.
قوله: «قُبل» الضمير يعود على الإقرار، أي: إقرار الراهن.
قوله: «على نفسه» الضمير هنا يعود على الراهن، يقبل على نفسه لا على المرتهن.
قوله: «وحكم بإقراره بعد فكه» أي: بمقتضى إقراره بعد فكه، فإذا أقر أنه ملك غيره نقول: إذا انفك الرهن ينتزعه المقر له، وإذا كان جانياً، فإما أن يفديه سيده ويقول: أنا أدفع الجناية كلها، أو يسلم العبد للمجني عليه، أو يبيع العبد ويعطي قيمته للمجني عليه.
صورة المسألة: رجل رهن عبداً، وبعد أن تم عقد الرهن قال: إن هذا العبد قد جنى على فلان، إما بالنفس أو بما دونها أو بالمال، والعبد إذا جنى تتعلق الجناية برقبته، فيقال لسيده: إما أن تُسَلِّم قيمة الجناية، وإما أن تسلم العبد في مقابلة الجناية، وإما أن تبيع العبد وتسلم ثمنه للمجني عليه، ثلاثة أمور.
والراهن ادعى أن العبد جنى على فلان، ومعلوم أن حق المجني عليه المتعلق بالرقبة، أقوى من تعلق حق المرتهن، وحق المرتهن متعلق بالرهن تعلق توثقة ليس بضمان، فهو أراد أن يبطل حق المرتهن بهذا الإقرار، فيقال له: إقرارك مقبول من وجه، غير مقبول من وجه، فمن جهة المجني عليه الذي أقررت أن العبد جنى عليه فالإقرار مقبول، ومن جهة حق المرتهن، غير مقبول،(9/171)
إذاً ماذا نعمل بالنسبة للمجني عليه؟ نقول: يبقى العبد الآن رهناً، ثم إذا انفك الرهن أوفينا المجني عليه حقه.
قوله: «إلا أن يصدقه المرتهن» «يصدقه» الضمير يعود على الراهن، والمرتهن فاعل، يعني إلا إذا صدق المرتهنُ الراهنَ في دعوى أنه ملك غيره أو أنه جنى، فإذا قال المرتهن: نعم هو ملك غيرك، حينئذٍ يبطل الرهن؛ لأن المرتهن أقر بأن الرهن غير صحيح، إذ أن الراهن رهن ما لا يملك فيبطل الرهن، ويسلم لمن أقر له الراهن.
وكذلك إذا قال المرتهن: نعم العبد جنى، نقول: الآن الجناية مقتضاها تَعَلَّق برقبته، فسلم العبد لسيده.
لكن هل يمكن أن المرتهن يصدق الراهن في أمر يبطل حقه؟
الجواب: يمكن، إما أن يعرف أن هذا الراهن رجل صدوق لا يمكن أن يكذب، لكن اغتر أو نوى الخداع في أول الأمر ثم تاب، وإما أن يثبت ذلك ببينة، لكن إذا ثبت ببينة حكم بمقتضى البينة، سواء صدقه المرتهن أم لم يصدقه؛ لأن الكلام الآن على مجرد الإقرار.(9/172)
فصلٌ
وَلِلْمُرتَهِنِ أَنْ يَرْكَبَ مَا يُرْكَبُ وَيَحْلِبَ مَا يُحْلَبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ بِلاَ إِذْنٍ، وَإِنْ أنْفَقَ عَلَى الرَّهْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّاهِنِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ وَإنْ تَعَذَّرَ رَجَعَ،
قوله: «فصل: وللمرتهن أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته» للمرتهن أي: الذي له الدين أن ينتفع بما ذكر «أن يركب ما يركب ويحلب ما يحلب بقدر نفقته» .
وقوله: «بقدر نفقته» متعلقة بيركب ويحلب، فقد تنازعها عاملان.
يعني إذا كان الرهن مما يركب من الحيوان من بعير، أو حمار فله أن يركبه بقدر النفقة، سواء ركبه في داخل البلد أو ركبه في سفر، بشرط ألا يكون عليه في السفر ضرر، فإن كان عليه ضرر فليس له ذلك.
فيقال ـ مثلاً ـ: هذا البعير الذي يركبه المرتهن لو استأجره لمدة عشرة أيام لكانت الأجرة مائة، والنفقة قدرها مائة، حينئذٍ تساوت النفقة والأجرة، فلا شيء له وليس عليه شيء؛ لأنه ركب بقدر النفقة.
فإذا كانت أجرته أكثر من النفقة، فلا بد أن يدفع ما زاد على النفقة، فإذا قدرنا أن نفقته خمسون، وأن أجرته مائة، فعليه أن يدفع خمسين؛ لأنه لو لم يفعل لكان ظالماً للراهن، وإذا كان دينه قرضاً صار دينه قرضاً جر نفعاً.
ولو كان بالعكس، نفقته مائة وأجرته خمسون، فيرجع على الراهن بما زاد عليه، فالنفقة مائة، وأجرة مثله خمسون، فيطالب الراهنَ بما زاد على النفقة وهو خمسون، وكذلك يقال فيما يحلب كالشاة والبقرة.(9/173)
مثاله: إنسان رهن بقرة وصار المرتهن يحلبها، فنقول: لك أن تحلبها بقدر النفقة، فإذا كان ثمن حليبها مائة في الأسبوع، ونفقتها في الأسبوع مائة، ففي هذه الحال لا له ولا عليه، وإن كان الحليب يساوي مائتين في الأسبوع، والنفقة مائة دفع للراهن مائة، لكن هذه المائة تكون رهناً؛ لأنها من نمائه، وإن كان بالعكس النفقة مائتان، واللبن يساوي مائة، فإنه يرجع على الراهن بما زاد على ثمن الحليب.
فإذا قال قائل: ما الدليل، وما الحكمة؟
قلنا: الدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» (1) .
ولو قال قائل: ظاهر الحديث، أن اللبن في مقابل النفقة وأن الركوب في مقابل النفقة سواء كان أكثر أو أقل؟
الجواب: أن هذا ليس ظاهر الحديث، فالحديث يقول: «بنفقته» ، فإما أن نجعل الباء للعوض، وإما أن نجعلها للسببية، فإن جعلناها للعوض فالأمر ظاهر في أنه لا يأخذ أكثر من النفقة، وإن جعلناها للسببية فكذلك؛ لأن السبب لا يتجاوز موضعه، فيقال: إن الباء هنا للسببية، والسببية لا تتجاوز موضع المسبب، وعلى كل تقدير فإن الركوب والحلب يكون بقدر النفقة.
أما الحكمة فلأن الحيوان يحتاج إلى نفقة، فيحتاج إلى طعام، وشراب، وظلال، وتدفئة في أيام الشتاء، ولو قلنا: بأن المرتهن
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .(9/174)
يقوم بهذا ثم يرجع على الراهن، لحصل في هذا نزاع وشقاق، فكل يوم يأتي للراهن ويقول له: أعطني نفقة هذا، ويحصل بذلك مشقة.
فمن الحكمة أن الشرع جعل المركوب يُركب بالنفقة، والمحلوب يحلب بالنفقة.
وما سوى ذلك فليس للمرتهن أن ينتفع به أبداً، فلا يسكن الدار ولا يستعمل السيارة ولا يقرأ في الكتاب ولا يكتب بالقلم بل يبقيه لصاحبه؛ لأن الأصل في مال الغير أنه محترم لا يجوز الانتفاع به، ولأنه لا يحتاج إلى نفقة، واستثنيت هذه المسألة؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
قوله: «بلا إذن» أي: بلا إذن من الراهن، اكتفاءً بإذن الشارع، بإذن محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «الظهر يركب، ولبن الدر يشرب» (1) ، ومعلوم أن إذن الشارع مقدم على كل إذن، ولهذا إذا لم يأذن الشارع بشيء وأذن المالك به لا ينفذ، فإذا أذن الشارع بشيء نفذ، وإن لم يأذن به المالك وهنا صرح المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «بلا إذن» .
قوله: «وإن أنفق على الرهن بغير إذن الراهن مع إمكانه لم يرجع وإن تعذر رجع» .
قوله: «وإن أنفق» الضمير يعود على المرتهن، أي: إن أنفق المرتهن على الرهن بغير إذن الراهن.
__________
(1) سبق تخريجه ص (121) .(9/175)
مثال ذلك: احتاج البيت المرهون إلى تعمير فعمره بأن أتى بأناس يليِّسونه، أو يصلحون باباً سقط، أو ما أشبه ذلك، فهل يرجع المرتهن على الراهن أو لا يرجع؟
الجواب: فيه تفصيل:
أولاً: إن كان الراهن قد أذن له رجع عليه، يعني إن كان الراهن قد قال له: إن خرب شيء من البيت فأصلحه، فإنه يرجع عليه؛ لأنه إذا عمل ذلك صار وكيلاً فيرجع عليه، وحينئذٍ يُقبل قوله في قدر ما أنفق بيمينه، إلا أن يدعي شيئاً يكذبه الحس فلا يُقبل، فلو قال: أذنت لي أن أصلح الأبواب إذا تكسرت، قال: نعم أذنت لك، قال: قد فعلت وقد أنفقت على كل باب ألف ريال، والنفقة المعتادة مائة ريال في مثل هذا العمل، فلا يُقبل قوله؛ لأن هذا يكذبه الحس، أما إذا ادعى شيئاً قريباً فإنه يقبل قوله لكن بيمينه.
ثانياً: أن ينفق بلا إذنه على الرهن فينظر ـ أيضاً ـ هل يمكن أن يستأذن منه لكونه قريباً منه، أو بالهاتف، أو بالمكاتبة، فإنه لا يرجع إلا إذا استأذنه، فإن كان لا يمكن لكون الراهن رجلاً مغموراً، دخل هذه المدينة الواسعة ولايدري أين هو؟ والرهن يحتاج إلى تعمير عاجل، فهنا يعمره ويرجع وإن لم يستأذنه؛ لأنه لا يمكن استئذانه، فصارت المسألة لها أحوال:
الحال الأولى: أن يكون الراهن قد أذن له بالتعمير، فهنا يرجع؛ لأنه صار وكيلاً له.
الحال الثانية: ألا يأذن له بالتعمير ويتعذر استئذانه، فهنا(9/176)
يرجع ـ أيضاً ـ حفظاً لأصل الرهن؛ لأنه لو لم يعمره ازداد خرابه، وانتشر، وفسد، وصار في ذلك ضرر على الراهن والمرتهن.
الحال الثالثة: ألا يأذن له بالتعمير، ويمكن استئذانه ولكنه عمره بدون استئذانه، فهنا لا يرجع؛ لأنه إن أنفق بغير نية الرجوع فهو متبرع، والمتبرع لا يرجع في تبرعه؛ لأن رجوعه في تبرعه رجوع في الهبة وهو حرام، وإن كان قد نوى الرجوع فهو مفرط لأنه لم يستأذن المالك، فهو مفرط لوجوب الاستئذان عليه فلم يفعل.
فإن قال المرتهن: أنا عمرته لأجل المصلحة لي وله.
قلنا: وإذا كانت المصلحة لك وله، فليكن التعمير منك ومنه، بمعنى أنك تعمر بإذنه وحينئذٍ ترجع، أما إذا لم تستأذن منه مع إمكان إذنه فالنفقة عليك.
مسألة: إذا قدر أن الإنفاق عليه وقع في حال تستدعي الفورية قبل أن يستأذنه، مثل أن يكون الرهن قد سقط في بئر، فلو أبقيناه حتى نذهب ونستأذن الراهن هلك، وإذا أتينا بإنسان يستخرجه من البئر في الحال يسلم فهنا يرجع؛ لأن في ذلك إنقاذاً لمال الغير من الهلاك، وكل من أنقذ مال غيره من هلكة فله الرجوع بمثل عمله.
وقوله: «وإن تعذر رجع» (1) لكن بشرط أن ينوي الرجوع، هذا ما ذكره في الروض، وظاهر كلام الماتن ما لم ينو التبرع؛ لأن الماتن لم يشترط نية الرجوع، والصواب مع المتن، وأنه يرجع
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/93) .(9/177)
ما لم ينو التبرع، فإن نوى التبرع لم يرجع؛ لأن رجوعه مع نية التبرع رجوع في الهبة وهو حرام، ولا يشترط أن ينوي الرجوع.
فإذا أنفق بنية الرجوع رجع بكل حال، وإذا أنفق بنية التبرع لم يرجع بكل حال على القولين، وإذا أنفق وهو لم ينو لا رجوعاً ولا تبرعاً فعلى المذهب لا يرجع؛ لأنه يشترط أن ينوي الرجوع، وعلى ما قاله الماتن يرجع؛ لأن الأصل أن ما أنفقه على ملك غيره فهو له يرجع فيه، إلا إذا عارض ذلك نية التبرع.
وَلَو لَمْ يَسْتَأذِن الحَاكِمَ، وَكَذَا وَدِيعَةٌ وَدَوابٌّ مُسْتَأجَرَةٌ هَرَبَ رَبُّهَا، وَلَو خَرِبَ الرَّهْنُ فَعَمَّرَهُ بِلاَ إِذنٍ رَجَعَ بآلتِهِ فَقَطْ.
قوله: «ولو لم يستأذن الحاكم» الحاكم أي: القاضي، هذه إشارة خلاف، فبعض العلماء يقول: لا يرجع حتى يستأذن الحاكم، بمعنى أنه إذا تعذر على المرتهن أن يستأذن من الراهن، قلنا له: الحاكم ينوب منابه، فاستأذن منه، فإن لم تفعل فلا رجوع لك، وهذا القول يزيد المسألة تعقيداً؛ لأنه يحتاج إذا تعذر استئذان المالك ـ وهو الراهن ـ أن يذهب إلى المحكمة، والمحكمة لن تقبل منه بسهولة، بل ستطلب البينة على أنه يحتاج إلى تعمير، فإذا أتى بالبينة أذنت له، وهذا قد يصعب.
والصحيح ما ذهب إليه المؤلف أنه لا يحتاج إلى إذن الحاكم، وأنه إذا تعذر استئذان الراهن الذي هو المالك، فإن المرتهن يعمره ويرجع بنفقته، سواء استأذن الحاكم أم لم يستأذنه، لأن بقاءه في يده بإذن الراهن معناه التزام بما يجب له من النفقة.
قوله: «وكذا وديعة» احتاجت إلى تعمير، وربها موجود فهنا نقول: إن كان رب الوديعة أذن لك في تعميرها فعمِّرْها وترجع(9/178)
عليه؛ لأنه أذن له فهو وكيل، وإن لم يأذن له فهل يتعذر استئذانه؟
الجواب: إن كان يتعذر فإنه يرجع ـ أيضاً ـ لأن تعميرها مما تدعو الحاجة إليه، وصاحبها الآن بعيد لا يمكن استئذانه، وإن كان يمكن وعمرها بلا إذن، فلا يرجع على المودِع؛ لأنه تمكن من استئذانه ولم يفعل.
قوله: «ودواب مستأجرة هرب ربها» مثاله: إنسان عنده ناقة أجرها شخصاً يسافر عليها إلى مكة، وهرب المالك من أجل أن يورطه وينفق عليها، والدواب تحتاج إلى نفقة فهي تريد علفاً وشراباً، فهذا الرجل الذي استأجر الدواب قد أذن له ربها بأن ينفق عليها، فأنفق عليها فصار يشتري لها علفاً وماءً ويقوم برعايتها، فيرجع على ربها؛ لأنه أذن له فيكون وكيلاً عنه، وأما لو لم يأذن له ربها وتعذر استئذانه؛ والحاجة ملحة في الإنفاق عليها عاجلاً فيرجع عليه، فإن كان موجوداً وتسهل مراجعته وأنفق عليها بدون إذنه، فإنه يضمن، بمعنى أنه لا يرجع بما أنفق على صاحب هذه الدواب.
لكن لو فرض أن هذا المستأجر ذبحها واحتفظ بلحمها لصاحبها، وادعى صاحبها أنها لم تصل إلى حال يضطر فيها إلى ذبحها، وقال: أنت ذبحتها وهي صحيحة معافاة، فقال: إنه ذبحها بعد أن خاف أن تموت فتفوت، فالقول قول المستأجر؛ لأنه أمين والقاعدة: «أن كل إنسان أمين فإنه يقبل قوله فيما ائتمن فيه» ، وإلا لحصلت مشاكل كثيرة إذا لم نقل بقبول قوله.
وقوله: «هرب ربها» أي: مالكها، والرب يكون بمعنى(9/179)
المالك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في اللقطة: «فإن جاء ربها، وإلا فشأنك بها» (1) ، وفي بعض ألفاظ حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «أن تلد الأمة ربها» (2) بدل «ربتها» ، وهذا جائز سائغ شرعاً ولغة.
قوله: «ولو خرب الرهن فعمَّره بلا إذن رجع بآلته فقط» لو خرب الرهن كالدار ـ مثلاً ـ «فعمَّره» المرتهن «رجع بآلته فقط» والآلة عندهم أي: مادة الشيء، يعني مواد البناء، أي: بما جعل فيه فقط، كاللَّبِن والحديد والأبواب وما أشبهها، فيرجع بهذه فقط دون أجرة العمال، والماء، وما أشبه ذلك، والفرق بين هذا وبين الحيوان، أن الحيوان يحتاج إلى نفقة أما هذا فلا.
مثال ذلك: إنسان ارتهن داراً وسقط جزء منها، فقام بإصلاحه وأحضر اللبن والمواد والأبواب وبناها، فمادة البناء بعشرة آلاف ريال وأجرة العمال وجلب الماء بعشرة آلاف ريال، فبماذا يرجع؟
الجواب: بعشرة آلاف ريال التي هي الآلة فقط، وأما الباقي فلا يرجع به، هذا إذا كان لم يستأذن من رب البيت الذي هو الراهن، أما لو استأذن فإنه يرجع بالجميع؛ لأنه وكيل.
وقال بعض العلماء: بل يرجع بالجميع؛ لأنه ليس كالإنفاق على الحيوان، فالإنفاق على الحيوان إذا أكله الحيوان ذهب، ولم
__________
(1) أخرجه البخاري في اللقطة/ باب ضالة الإبل (2429) ، ومسلم في اللقطة/ باب معرفة العفاص والوكاء ... (1722) عن زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله (9) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/180)
ينتفع به الراهن لكن هذا ينتفع به الراهن؛ لأن أثر العمل باق والمصلحة للجميع، للراهن؛ لأن ملكه عُمر، وللمرتهن؛ لأن وثيقته بقيت؛ لأنه لو خرب ما بقي له شيء.
وفَصَّل بعضهم فقال: إن عمره بما يكفي لتوثيق دينه فقط يرجع، وإن كان بأزيد لم يرجع؛ لأنه ليس في ضرورة إلى أن يعمره بأكثر مما يوثق الدين، فلو فرضنا أن الذي خرب غرفتان ولو أصلح واحدة كفى لتوثقته في دينه ولكنه عمَّر الاثنتين جميعاً، فهو يرجع بالأولى ولا يرجع بالثانية إلا بالآلة فقط، وهذا القول قول وسط بين القولين، أي: أن يقال: إن المرتهن يرجع بقدر ما يتوثق به دينه فقط؛ ووجهه أن ما زاد لم يعمره لحفظ حقه بل زاد على ذلك.
وبعض العلماء يقول: إذا كان لو تركه ـ أي التعمير ـ لتداعى بقية البيت، وهذا وارد، يعني لو ترك عمارة المنهدم لانهدم البيت كله فهنا يرجع بالجميع؛ لأن هذا لحفظ البيت كله، وأما إذا كان ما بقي من البيت لا يتأثر بما انهدم فعلى التفصيل الذي سبق.(9/181)
بَابُ الضمان
قوله: «باب الضمان» . الضمان هو النوع الثاني من عقود التوثقة، والضمان لغة مشتق من الضِّمن، والضمن معناه دخول الشيء في الشيء؛ لأن ذمة الضامن دخلت في ذمة المضمون عنه.
وأما في الشرع: فهو التزام جائز التصرف ما وجب أو يجب على غيره، من حق مالي.
مثال الأول: التزام ما وجب: أن يكون شخص مديناً لآخر بدراهم فيمسكه صاحب الدين، ويقول: أعطني ديني الآن، وإلا رفعت أمرك إلى السلطات، فيأتي إنسان من أهل الخير ويقول: أنا أضمن دينه.
ومنه ضمان أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ دين الميت الأنصاري، حين قُدِّم إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه فقال: «أعليه دين» ؟ قالوا: نعم، فتأخر وقال: «صلوا على صاحبكم» ، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فتقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فصلى عليه (1) .
أما التزام ما يجب: فمثل أن يكتب شخص لآخر ورقة: أنا ضامن كل ما يستدينه هذا الرجل من هذا المحل التجاري، أي: إنسان أراد أن يشتري بضاعة من صاحب دكان وليس معه
__________
(1) أخرجه البخاري في الكفالة/ باب الدين (2298) ، ومسلم في الفرائض/ باب من ترك مالاً فلورثته (1619) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/182)
مال، فجاء إلى رجل آخر غنيٍّ فقال له: أنا أريد أن أشتري بضاعة من المحل الفلاني، ولكن ليس معي نقود، أعطني ورقة ضمان فيعطيه ورقة ضمان، يقول فيها: ما استدانه هذا الرجل من هذا المحل فضمانه عليَّ، فهذا التزام ما قد يجب وهو لم يجب بعد.
وإنما توسع الفقهاء في ذلك من أجل التيسير على الناس حتى تسير أمورهم بسهولة؛ ولأن الأصل في المعاملات كلها الحل إلا ما قام الدليل على منعه، وهذا مصلحة ـ أي: ضمان ما يجب ـ، فلا ينبغي أن يكون ممنوعاً وإن كان فيه جهالة؛ لأنه قد يشتري شيئاً كثيراً، وقد يشتري شيئاً قليلاً، لكن نظراً للمصلحة المترتبة على ذلك صار جائزاً، وإن شاء الضامن حدد فقال: أنا أضمن ما اشترى من هذا التاجر في حدود ألف ريال ـ مثلاً ـ فهذا ضمان شيء محدد، وهذا أولى أي: أن الأولى للضامن إذا ضمن ما لم يجب، أن يحدد مقدار ما يضمنه؛ لئلا يستدين المضمون شيئاً يجحف بمال الضامن.
أما حكم الضمان، فنقول: في حق المضمون عنه جائز؛ لأنه لو جاء شخص، وقال لآخر: اضمني جاز كما يجوز أن يقول: أقرضني.
أما في حق الضامن فهو سنة مستحبة؛ لأنه من الإحسان، والله يحب المحسنين، ولكنه سنة بقيد وهو قدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادراً فلا ينبغي أن تأخذه العاطفة في مساعدة أخيه لمضرة نفسه، فإن هذا من الخطأ، ويوجد الآن أناس(9/183)
غارمون، وسبب الغرم الضمان، فنقول: هذا خطأ لا تحسن إلى غيرك وتسيء إلى نفسك؛ فإن هذا ليس من الحكمة.
والضمان من عقود التوثيقات، ففيه توثيق صاحب الدَّين بدينه وقد مر علينا الرهن وسيأتينا ـ إن شاء الله ـ الكفالة من الشهادة، فالأشياء التي تحفظ بها الحقوق: الشهادة، وهذه يستوفى بها الحق، والضمان والكفالة والرهن، وهذه يستوفى منها الحق، فالضمان مما يتوثق به الحق؛ لأنني إذا لم أتمكن من قبضه من المضمون عنه أخذته من الضامن.
وللضمان شروط منها:
لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِن جَائِزِ التَّصَرُّفِ وَلِرَبِّ الحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فِي الحَيَاةِ وَالمَوْتِ.
قوله: «لا يصح إلا من جائز التصرف» ، «لا يصح» الفاعل يعود على الضمان، وجائز التصرف، هو البالغ العاقل، الحر، الرشيد، أي: من جمع أربعة أوصاف:
الأول: أن يكون بالغاً، وضده الصغير، والصغير لا يعطى ماله، حتى وإن كان يحسن التصرف؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فاشترط الله لدفع المال شرطين:
الأول: {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} .
الثاني: أن نبصر منهم الرشد، لقوله: {آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} .
والرشد: هو إحسان التصرف في المال، وهو في كل موضع بحسبه، فمثلاً الرشد في الدين استقامة الدين، الرشد في باب الولي في النكاح، معرفة الكفء ومصالح النكاح، والرشيد في العبادات هو الذي قام بالواجبات وترك المحرمات، والرشد(9/184)
في المال إحسان التصرف فيه؛ لأن هناك كلمات تفسر في كل موضع بما يناسب.
الثاني: أن يكون عاقلاً، وضده المجنون، ودليله أن الله اشترط إيناس الرشد، والرشد لا يكون مع الجنون أبداً.
الثالث: أن يكون حراً، والحر ضده العبد، فالعبد لا يصح أن يضمن؛ لأن العبد لا يتصرف إلا بإذن سيده.
الرابع: أن يكون رشيداً، والرشيد هو الذي يحسن التصرف في ماله، قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بألا يصرف المال في محرم، ولا فيما لا فائدة فيه.
فهل هذا القيد مقبول؟
الجواب: لا؛ لأننا لو قبلنا هذا لكان جميع المدخنين سفهاء غير رشيدين، ولحجرنا عليهم كلهم.
لكن نقول: الرشيد هو من أحسن التصرف في ماله بيعاً وشراء وتأجيراً وإيجاراً ورهناً وارتهاناً، وما أشبه ذلك.
أما كونه لا يصرفه في المحرم أو ما أشبه ذلك، فلا شك أن الذي يصرفه في المحرم سفيه، لكنه ليس السفه الذي يمنع من التصرف، وإلا لوجب أن نحجر على كل من يتعامل بشيء محرم.
فلا يصح من صغير، فلو أراد الصغير أن يضمن، فإنه لا يصح حتى وإن كان شيئاً يسيراً، فلو أن صبياناً يتبايعون في الدجاج، فباع أحدهم على الآخر، وقال البائع: لا أقبل حتى تأتي بضامن، فقال: هذا صاحبي، وصاحبه مثله صبي، فهذا لا يصح؛ لأنه ليس جائز التصرف، لكونه صغيراً.(9/185)
وكذلك يقال في المجنون وفي السفيه.
هذا الذي ذكره شرط، والشرط التالي ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في آخر الباب، وهو أن يكون الدين واجباً، أو مآله إلى الوجوب، فإن كان غير واجب ولا مآله إلى الوجوب، فلا يصح ضمانه كما سيأتي.
قوله: «ولرب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت» رب الحق هو الدائن، له مطالبة من شاء منهما، أي: من الضامن والمضمون عنه في الحياة وفي الموت.
أما في الحياة فأن يكون كل منهما حيّاً، فيأتي صاحب الحق لزيد الذي هو الضامن، أو لعمرو الذي هو المضمون، فيطالب هذا وهذا، وله أن يطالبهما جميعاً بأن يأتي هذا في الصباح، وهذا في المساء، أو يطلب واحداً منهما، ويسكت عن الآخر.
وأما في الموت فلو مات الضامن، فله أن يطالبه في تركته؛ لأن الدين المضمون صار ديناً على الضامن كأنه أصيل، فكما أن الإنسان إذا مات مدينه يطالب الورثة من التركة فهكذا الضامن، فإن لم يخلف مالاً فإنه يطالبه في الآخرة لأنه التزم أن يقضي هذا الدين.
أما المضمون عنه فواضح، فلو مات المضمون عنه فإن لصاحب الحق أن يطالبه في تركته، فإن لم يخلف تركة طالبه يوم القيامة.
فَإِنْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ المَضْمُونِ عَنْهُ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ لاَ عَكْسُهُ، وَلاَ يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الضَّامِنِ للمَضْمُونِ عَنْهُ وَلاَ لَهُ؛ بَلْ رِضَا الضَّامِنِ،
وقوله: «لرب الحق مطالبة من شاء منهما» ظاهره أنه لا(9/186)
فرق بين أن يتمكن صاحب الحق من استيفاء الحق من المضمون عنه أو لا يتمكن، أي أنه لا يشترط لجواز مطالبة الضامن، أن تتعذر مطالبة المضمون عنه، وهذا هو المذهب، فلو أن صاحب الدين جاء إلى الضامن، وقال: أعطني، أنت ضمنت فلاناً بعشرة آلاف ريال، قال: اذهب إليه هو الأصل، فهل يملك ذلك؟
الجواب: لا؛ لأن صاحب الحق له مطالبة هذا أو هذا، هذا ما ذهب إليه المؤلف؛ وتعليل ذلك أن الضامن التزم وفاء الحق بدون شرط، أي: لم يقل الضامن حين ضمانه: إن تعذر استيفاؤك من المضمون عنه فأنا ضامن، فلو قال هذا لكان المسلمون على شروطهم، لكن لما لم يقل هذا بل التزم التزاماً مطلقاً فلرب الحق أن يطالبه.
القول الثاني: أنه لا يملك مطالبة الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه بموت، أو غيبة، أو مماطلة، أو فقر، فإذا تعذرت مطالبة المضمون عنه فله أن يطالب الضامن.
وحجة هؤلاء أنه لا يرجع للفرع مع تمكن الاستيفاء من الأصل، فإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يستغنى به عن الفرع، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ وعمل الناس اليوم على هذا القول، أما في المحاكم، فالظاهر أنهم يحكمون بالمذهب وأن صاحب الحق إذا طالب الضامن ألزم بأن يدفع عنه الحق الذي ضمنه.
ولو أنه شرط فقال: إنك لا تطالبني إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالقاعدة على المذهب أن كل شرط يخالف مقتضى(9/187)
العقد فإنه لا يصح، ومعلوم أنه إذا كان مقتضى العقد مطالبة الرجلين جميعاً، فإنه إذا شرط ألا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه صار منافياً لمقتضى العقد، ولكن الصحيح ـ حتى لو قلنا: بأن له مطالبة الرجلين ـ أنه إذا اشترط الضامن ألا يطالبه إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالصحيح أنه شرط صحيح؛ لعموم قوله: «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (1) ، وهذا الشرط لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وغاية ما هنالك أن صاحب الحق أسقط مطالبة الضامن باختياره، فقد أسقط حقاً جعله الشارع له ولا ينافي الشرع.
وعلم من كلام المؤلف أن المضمون عنه لا تبرأ ذمته لو التزم به الضامن؛ لأنه قال: له مطالبتهما جميعاً.
وقال بعض العلماء: إذا ضمن عن الميت برئت ذمة الميت؛ لأن الميت لا ذمة له، فإذا ضمن عنه صارت الذمة واحدة وهي ذمة الضامن؛ لأن ذمته عامرة بخلاف الميت.
واستدلوا لذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ضمن أبو قتادة ـ رضي الله عنه ـ الدينارين عن الميت تقدم وصلى عليه، وقال: «حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم» (2) ، فهذا يدل على أنه إذا ضمن ميتاً برئت ذمة الميت، كما قلنا في الرهن: إنه إذا مات الميت وعليه دين برهن يوفي فإن ذمته بريئة، وهذا القول لا شك
__________
(1) سبق تخريجه ص (18) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/330) والحاكم (2/58) وصححه، والبيهقي (6/75) عن جابر رضي الله عنه، وحسنه الهيثمي في المجمع (3/39) .(9/188)
أن له قوته، حتى وإن صحت الرواية التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي قتادة: «أوفيت أو أديت عنه، قال: نعم، قال: الآن برَّدْتَ عليه جلدته» (1) ، فهذه اللفظة لا نعرف عن صحتها، لكن إن صحت فليس معنى ذلك أن ذمة الميت لم تبرأ؛ لأنه لولا أن ذمة الميت برئت ما صلى عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بل إنه اشترط قال: «حق الغريم وبرئ منه الميت؟ قال: نعم» (2) .
أيضاً ظاهر كلام المؤلف أن من ضمن دين ميت فإن ذمة الميت لا تبرأ، بدليل أنه أجاز للمضمون له أن يطالب في تركة الميت، ولكن الذي يظهر أنه إذا التزم التزاماً كاملاً، بغير نية الرجوع فإن ذمة الميت تبرأ، أما إذا التزم مع نية الرجوع، فمعلوم أن ذمة الميت ـ وإن برئت من الأول ـ تعلق بها حق الثاني، لكن حق الثاني لا يتعلق بذمة الميت وإنما يتعلق بالتركة.
فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه
قوله: «فإن برئت ذمة المضمون عنه برئت ذمة الضامن لا عكسه» وبماذا تبرأ ذمة المضمون عنه؟
الجواب: تبرأ بإيفائه، والمضمون عنه إذا أوفى برئت ذمة
__________
(1) أخرجها الإمام أحمد (3/330) ؛ والدارقطني (3/79) ؛ والحاكم (2/58) والبيهقي (6/74) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/39) : «رواه أحمد والبزار وإسناده حسن» وليس فيه: «أوفيت أو أديت» ، وإنما فيه: «حق الغريم وبرئ منهما الميت» ، وفي لفظ آخر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «هو عليك وهو بريء منه» ، قال في «المجمع» (3/40) : «رواه الطبراني في الأوسط وفيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات» .
(2) سبق تخريجه ص (188) .(9/189)
الضامن؛ لأن الضامن فرع، فإذا برأ الأصل برأ الفرع؛ ولأنه إن برئت ذمة المضمون عنه لم يبق هناك شيء يضمن.
وقوله: «إن برئت» لم يقل إن قضى المضمون عنه الدين؛ لأن براءة الذمة قد تكون بقضاء الدين وقد تكون بالإبراء وقد تكون بشراء شيء يكون عوضاً عن الدين مثلاً، فكلمة «إن برئت» أعم من قوله: «إن قضى الدين» .
وقوله: «لا عكسه» أي: لو برئت ذمة الضامن فإنها لا تبرأ ذمة المضمون عنه، وتحصل براءة ذمة الضامن بأمرين:
الأول: إما أن يُبرئه صاحب الحق ويقول له: يا فلان أسقطت ضمانك، اذهب ليس عليك شيء.
الثاني: أن يوفي الضامن، فإذا أوفى برئت ذمته، لكن إذا أوفى بنية الرجوع فيرجع على المضمون عنه، وعلى هذا فإذا برئت ذمة الضامن، فلا تبرأ ذمة المضمون سواء برئت ذمة الضامن بإيفاء أو بإبراء.
ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه
قوله: «ولا يعتبر معرفة الضامن للمضمون عنه» هل يمكن أن يضمن عمن لا يعرفه؟
الجواب: يمكن بأن يجد شخصاً يشتري شيئاً في السوق، وهو لا يعرفه لكن رق له، وقال: أنا أضمنك، فهذا لا بأس به، لكن لاَحِظْ أنه في هذه الحال، قد عرض نفسه لخطر وهو ألا يوفي المضمون عنه، ويأتيه المضمون له الذي هو صاحب الحق، ويقول له: أوفني، فإذا أوفاه ربما يضيع حقه، إلا أن يسَّر الله أن يأتي هذا المجهول.(9/190)
ولا له بل رضا الضامن
قوله: «ولا له» فليس بشرط أن يعرف المضمون له، وهذا واضح جدّاً؛ لأن المضمون له هو الذي يطلب الضامن، ويبحث عنه فلا يشترط أن يعرفه.
وهل يُشترط معرفة الدَّين المضمون؟
الجواب: لا يشترط أن يعرف الدين المضمون، لكن على كل حال كلما عرفه فهو أحسن وأبعد عن المشكلات، ولكنه ليس بواجب.
فعندنا الآن: ضامن، ومضمون، ومضمون له، ومضمون عنه، فالمضمون له والمضمون عنه لا تشترط معرفتهما، والمضمون الذي هو الدين لا تشترط معرفته، كذلك الضامن لا يشترط أيضاً، لكن من المعلوم أن صاحب الحق لا يمكن أن يقبل ضامناً بدون معرفة، لكن المسألة تصح.
قوله: «بل رضا الضامن» أي: بل يعتبر رضا الضامن، أي: أننا لا نكره أحداً على أن يضمن، فلا بد أن يرضى، فإن لم يرض فإنه لا يُلزم بالحق، حتى لو أراد سلطان جائر أن يُلزم فلاناً بأن يضمن فلاناً فإنه لا يلزمه؛ لقول الله تعالى في التجارة: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما البيع عن تراض» (1) ، وهكذا جميع العقود لا بد فيها من الرضا، إلا من أكره بحق كالمحجور عليه ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في التجارات/ باب بيع الخيار (2185) ، وابن حبان (4967) إحسان، والبيهقي (6/17) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ، وقال البوصيري: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات» .(9/191)
وأما رضا المضمون له والمضمون عنه فليس بشرط، لكن إذا علمنا أنه يضر بسمعة المضمون عنه فقد نشترط ذلك، ويمكن التخلص من ذلك بأن يأتي بالحق ويسلمه.
وَيَصِحُّ ضَمَانُ المَجْهُولِ إِذَا آلَ إِلَى العِلْمِ، والعَوَارِي، وَالمَغْصُوبِ، وَالمَقْبُوضِ بِسَوْمٍ وَعُهْدَةِ مَبِيعٍ، لاَ ضَمَانُ الأمَانَاتِ، بَلْ التَّعَدِّي فِيهَا.
قوله: «ويصح ضمان المجهول إذا آل إلى العِلم» ضمان المجهول إذا آل إلى العلم جائز، ومنه ما يعرف عند الفقهاء بضمان السوق، بأن يلتزم الإنسان بضمان كل ما يجب على هذا المضمون في معاملته في هذا السوق.
مثلاً: سوق الذهب، كل معاملة تجري في سوق الذهب فأنا ضامن لهذا الرجل، فهذا يجوز مع أنه مجهول.
لكن يقال: ضمان المجهول لا بأس به، إلا أننا ذكرنا أنه ينبغي أن يحدد مقدار الدين، وأن يحدد الرجل الذي يريد أن يستدين منه؛ لأنه إذا لم يحدد وضمن في حدود عشرة آلاف، فيمكن أن يقف على أحد الدكاكين ويقول: هذا الضمان بعشرة آلاف، فيشتري بعشرة آلاف، ثم يذهب إلى دكان آخر ويشتري بعشرة آلاف، ويقول: هذا الضمان، إلا إذا قال: متى قدمت هذه الوثيقة واشتريت بمقدار ما ضمنته لك فليكتب تحتها: انتهى مقدار المضمون، فلا بأس، وإلا فيمكن أن يتلاعب المستدين.
والدليل على صحة ضمان المجهول إذا آل إلى العلم قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وحمل البعير غير معلوم قد يزيد وقد ينقص وإن كان الغالب أنه معلوم؛ فقد يقال: إن الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ لأن الحمل قد يكون معلوماً بالعرف والعادة، لكن يقال: هناك تعليل، وهو(9/192)
أن الضمان عقد تبرع وليس عقد معاوضة، وعقد التبرع يسامح فيه ما لا يسامح في عقد المعاوضة؛ ولهذا جازت الجعالة مع أن العمل فيها مجهول؛ لأنها تشبه عقد التبرع، وجاز هبة المجهول على القول الراجح؛ لأنها تبرع.
وعُلم من قوله: «إذا آل إلى العلم» أنه إذا لم يؤل إلى العلم فإنه لا يجوز، كضمان متلفات لشخص لا يدري ما هي.
مثاله: أتلف إنسان متلفات عظيمة، فقيل له: ما هي؟ قال: لا يحضرني، فلا أدري تساوي مليوناً، أو عشرة ريالات، ولا يمكن أن نعلم بها، فهذا مجهول لا يمكن العلم به، فلا يصح ضمانه؛ لأن الضامن لا يدري ماذا يؤدي؟ حتى لو جاءه من أتلفت له هذه المتلفات، وقال: أنا أطالب، قيل له: حدد وعين، فلا بد من أن يكون هذا المجهول مآله إلى العلم.
قوله: «والعواري» العواري جمع عارية، وهي إباحة نفع العين لمن ينتفع بها ويردها.
مثاله: جاء إنسان يستعير سيارة من شخص ليسافر بها إلى بريدة، فقال صاحب السيارة: أنا أريد ضامناً يضمن السيارة لي، قال: هذا فلان يضمن فيصح.
مثال آخر: إنسان أتى يستعير كتاباً من شخص، فقال: أنا أريد أن تأتي بضامن يضمن الكتاب، فيصح هذا؛ لأن العارية مضمونة فإذا كانت مضمونة، صارت آيلة إلى الوجوب، أي: إلى وجوب الضمان، بمعنى أن الإنسان إذا استعار شيئاً فتلف، فالمستعير ضامن على كل حال سواء فرط، أو تعدى، أو لم(9/193)
يفرط ولم يتعدَّ، ويأتي ـ إن شاء الله ـ الخلاف في هذه المسألة.
فالمذهب أن العارية مضمونة بكل حال، ولهذا صح ضمانها أي: ضمان العواري؛ لأنها مضمونة على قابضها بكل حال.
القول الثاني: أن العارية كسائر الأمانات لا تضمن إلا بالتعدي، أو التفريط، فالأمانات لا يصح فيها الضمان؛ لأنها لا تؤول إلى الوجوب، فصار ضمانها غير صحيح؛ لأنها غير مضمونة على الآخذ وهو الأصل، فلا تضمن على الفرع الذي هو الضامن.
فإن ضمن التعدي فيها أو التفريط صح؛ لأنه إذا ضمن التعدي أو التفريط فإن المستعير سيضمن في هذه الحال فيصح ضمانه.
فالقول الثاني: أن العارية لا تضمن إلا بتعدٍّ أو تفريط، بمعنى أن الإنسان لو استعار الكتاب ووضعه في بيته في مكان محرز، وجاء سارق فسرقه، أو نزل عليه مطر فأفسده، أو احترق المكان فاحترق الكتاب، فإنه غير ضامن؛ لأنه ليس متعدياً ولا مفرطاً، وهذا القول هو الراجح.
فعلى هذا القول هل يصح ضمان العارية في هذه الحال مطلقاً؟
الجواب: لا، لكن يصح أن يضمن التعدي أو التفريط، بمعنى أن يقول: أنا ضامن إن تعدى أو فرط.
قوله: «والمغصوب» وهو ما أخذ من صاحبه قهراً بغير(9/194)
حق، فضمان المغصوب صحيح؛ لأن الغاصب ضامن بكل حال.
مثاله: إنسان غصب آخَرَ ساعة وأخذها قهراً منه، وهرب فوجده صاحب الساعة فأمسكه، وقال: أذهب بك إلى السجن، أو أعطني ساعتي، فقال: الساعة في البيت ليست معي، قال صاحب الساعة: سوف أرفعك حتى تسجن، فتقدم رجل آخر وقال: أنا أضمن الساعة، فهنا يصح الضمان؛ لأن المغصوب مضمون على كل حال والغاصب ضامن على كل حال؛ لأنه معتدٍ، يده ليست يد أمانة، وعلى هذا ففي هذه الحال يصح للضامن أن يضمن هذه الساعة؛ لأنها مضمونة بكل حال.
قوله: «والمقبوض بسوم» أي: ويصح ـ أيضاً ـ ضمان المقبوض بسوم، والمقبوض على وجه السوم له صور:
الصورة الأولى: أن يساومه ويقطع الثمن.
مثاله: أن يقف الإنسان على صاحب محل، ويقول: هذه السلعة اشتريتها منك بمائة ريال، فسامها منه الآن، وقال صاحب المحل: لا بأس، قال: سأذهب إلى أهلي أريهم إياها، إن وافقوا أخذتها وإن لم يوافقوا رددتها، قال: لا بأس، فأخذها الذي سامها ليذهب بها إلى أهله، فتلفت السلعة، فهي مضمونة على كل حال على السائم، سواء تعدى أو فرط أو لم يتعد ولم يفرط؛ وذلك لأنه قبضها وقطع الثمن فصار كأن البيع تم، فهي مضمونة عليه بكل حال، ولهذا صح ضمان هذه السلعة المقبوضة على وجه السوم.(9/195)
وكيف يضمن؟
الجواب: هذا الرجل الذي أراد أن يأخذ السلعة ليريها أهله إن وافقوا أخذها، وإن لم يوافقوا ردها، قال له صاحب الدكان: لا أعرفك، فتقدم رجل وقال: أعطه وأنا ضامن، فهذا يصح، فيصح أن يضمن المقبوض على وجه السوم، بناءً على أنه مضمون على القابض بكل حال، والمقبوض على وجه السوم ليس محل اتفاق أنه مضمون بكل حال.
فالقول الثاني: وهو الصحيح، أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط؛ ووجه ذلك أن هذا المقبوض حصل بيد السائم بإذن مالكه، فيده يد أمانة، وكونه سامه وقطع الثمن أو سامه ولم يقطع الثمن، فإنه لا أثر له في الضمان؛ لأن الرجل الذي قبضه أمين ائتمنه صاحب السلعة، وعلى هذا فيكون المقبوض على وجه السوم ليس مضموناً على قابضه إلا أن يتعدى أو يفرط، وبناءً على هذا القول هل يصح ضمان المقبوض على وجه السوم؟
الجواب: لا يصح؛ لأنه ليس مضموناً على القابض، وإذا لم يكن الأصل ضامناً، فالفرع لا يصح أن يكون ضامناً، لكن يصح أن يضمن التعدي أو التفريط، فيقول: أنا أضمن إذا تعدى أو فرط؛ لأنه كسائر الأمانات.
الصورة الثانية: أن يساومه بدون قطع الثمن، مثل أن يساومه ولكن لم يرض بالسوم، فقال: أعطني أذهب به إلى أهلي إذا رضوا أتيت إليك، وزدتك واشتريت، فهذا يضمن على المذهب؛ لأنه إذا قبضه بعد المساومة صار مضموناً عليه،(9/196)
والصحيح أنه لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط؛ لأن هذا الرجل الذي أخذ المال بعد المساومة أخذه من صاحبه باختياره، فصار المال بيده بإذن مالكه فهو أمين، والأمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
الصورة الثالثة: أن يقبضه قبل أن يساومه، فقال: أعطني هذا أريه أهلي إذا رضوا اشتريته منك، فهذا مقبوض بلا مساومة، فهذا لا يصح ضمانه؛ لأنه لم يسم؛ لأن الضمان إنما يكون فيما يجب.
الخلاصة: هل المقبوض على وجه السوم مضمون بكل حال؟ المذهب نعم إذا ساومه وقطع الثمن.
والقول الثاني: أنه ليس مضموناً إلا إذا حصل تعدٍ أو تفريط.
والفرق بين التعدي والتفريط أن التعدي فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب.
قوله: «وعهدة مبيع» وذلك أن البائع إذا باع الشيء فقد ضمن عهدته، أي تعهد بأن هذا البيع صحيح، وأن المال ملكه وما أشبه ذلك، والمشتري إذا اشتراه فقد تعهد بإقباضه الثمن وتسليمه، فعهدة المبيع يصح ضمانها سواء ضمنت عهدة المبيع للمشتري أو ضمنت عهدة الثمن للبائع، مثاله: عنده سيارة وعند الآخر سيارة فقال له: بعني سيارتك الكبيرة بسيارتي الصغيرة، فالثمن السيارة الصغيرة، فقال المشتري: من يضمن لي عهدة السيارة الكبيرة، ومعنى عهدتها أنني خفت أنها مسروقة أو(9/197)
مستعارة وليست للبائع أو ليس له ولاية عليها، بمعنى أنها إذا خرجت مستحقة أو أن البيع فاسد فإنه يضمن لي القيمة، فهذا عهدة المبيع للمشتري.
وعهدة الثمن للبائع فالصغيرة هي الثمن، فقال البائع: أنا أخشى أن هذه السيارة الصغيرة مسروقة فأطلب أحداً يضمن العهدة، فهذا يصح؛ لأنه لو ظهر الثمن مستَحَقاً لكان الذي دفعه واجباً عليه أن يضمن فصار ضمانه جائزاً.
وفي ضمان عهدة المبيع فوائد: أن فيه راحة لمن ضمن له، وأيضاً تمشية حال للمضمون عنه؛ فلهذا كان من محاسن الشريعة أنه يصح ضمان عهدة المبيع سواء كان ذلك عهدة الثمن للبائع، أو عهدة المثمن للمشتري.
هل من ضمان عهدة المبيع إذا ظهر به عيب أن يرجع الإنسان بأرش العيب، فقال: أريد أحداً يضمن لي العهدة إذا ظهر فيه عيب، أن يضمن لي الأرش أو يضمن لي التمكن من الرد؟ نعم هذا جائز.
قوله: «لا ضمان الأمانات» أي: لا يصح ضمان الأمانات، وهي كل عين بيدك بإذن من الشرع أو إذن من المالك.
ولا ضمان فيها إلا بتعدٍّ أو تفريط فلا يصح ضمانها؛ لأن الأصل غير ضامن، وإذا كان الأصل غير ضامن، فلا يصح أن يبنى على شيء لم يثبت فلم يضمن الفرع.
قوله: «بل التعدي فيها» أي: لكن التعدي فيها يصح ضمانه؛ لأنه إذا تعدى الأمين انتفت عنه الأمانة وصار ضامناً بكل حال، فيصح أن يضمن التعدي فيها.(9/198)
مثاله: رجل أودع عند آخر وديعة، ولتكن ألف ريال، ثم بعد أن أودعه صار عنده إشكال، فتقدم رجل آخر، وقال: أنا أضمن لك الوديعة، فالضمان هنا لا يصح؛ لأن الأصل غير ضامن، لكن لو قال: أنا أضمن لك إن تعدى أو فرط، فهذا صحيح؛ لأنه في حال التعدي أو التفريط يكون ضامناً، فحينئذٍ يصح الضمان.
وهذا مأخوذ من الشرط الذي اشترطناه، وهو أن يكون الدين واجباً أو مآله إلى الوجوب؛ لأن ما ليس مضموناً بكل حال ليس بواجب فلا يستحقه صاحبه.
مسألة: لو قضى الضامن الدين، فهل يرجع على المضمون عنه؟
الجواب: نعم يرجع؛ لأنه هو الأصيل، ومعلوم أنه لا يمكن أن نجعل الضامن يخسر ولا يُعوض، ورجوعه لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن ينوي التبرع فهذا لا يرجع.
الثانية: أن ينوي الرجوع فيرجع.
الثالثة: إذا أوفى ولم يطرأ على باله نية الرجوع أو عدمها، على المذهب لا يرجع، والصحيح أنه يرجع؛ لأنه إنما التزمها فرعاً عن أصل.
وعلى هذا فإنه على القول الراجح يرجع في حالين، إذا نوى الرجوع، وإذا لم ينو شيئاً، ولا يرجع إذا نوى التبرع، والمذهب يرجع إذا نوى الرجوع فقط، قال العلماء: وهكذا كل(9/199)
من أدى عن غيره ديناً واجباً، فإنه يرجع إن نوى الرجوع، ولو بغير إذنه، إلا إذا كان الدين مما تشترط فيه نية المدين، فإنه لا يرجع إلا بإذن مثل الزكاة والكفارة؛ لأن الذي عليه الزكاة لم ينوِ ولم يوكل.
مثاله: جاء رجل وقال: أنا سأذهب إلى المجاهدين أعطوني دراهم من الزكاة، وكنت أعلم أن صاحبي عنده زكاة كثيرة، فأعطيت هذا الرجل ثلاثين ألفاً على أنها زكاة صاحبي فهل أرجع؟ لا؛ لأن الزكاة تجب فيها النية، وهنا الذي عليه الزكاة لم ينو، وأما الثلاثون ألفاً فلا تذهب، بل عند الله وفيها أجر وتكون صدقة للذي بذلها.
فلو أنني أخبرته، وقلت: إنني دفعت عنك زكاة، فقال: جزاك الله خيراً، وأنا مجيز لك هذا التصرف، فالمذهب لا يجزئ؛ لعدم وجود النية حين الدفع، والصحيح جواز ذلك، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في قصة حفظه التمر، وهو وكيل للرسول صلّى الله عليه وسلّم على صدقة الفطر يحفظها، فجاءه الشيطان ليلة من الليالي وأخذ من التمر فأمسكه أبو هريرة، فقال الشيطان: إنه فقير وله عائلة، فَرَقَّ له أبو هريرة وتركه، وهكذا الليلة الثانية، والليلة الثالثة قال: لا بد أن تذهب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فخاف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: أخبرك بآية تقرؤها، فإن قرأتها في ليلة لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأعلمه بآية الكرسي، فلما أصبح قال له الرسول صلّى الله عليه وسلّم: ما فعل أسيرك البارحة؟ وقال: إنه صدقك وهو(9/200)
كذوب، فقال: أتدري من تخاطب منذ ثلاثة أيام؟ فقال: لا، فقال: ذلك شيطان (1) .
فأبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين دفع من الزكاة لم يدفع بإذن الرسول، لكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجازه.
فالصحيح أن الإنسان لو دفع عن غيره زكاة وأجازه الغير، فإن الصحيح جواز ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب إذا وكل رجلاً ... (2311) معلقاً بصيغة الجزم.(9/201)
فصلٌ
وَتَصِحُّ الكَفَالَةُ بِكُلِّ عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، وَبِبَدَنِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، لاَ حَدَّ وَلاَ قِصَاصَ، وَيُعْتَبَرُ رِضَا الكَفِيلِ لاَ مَكْفُولٍ بِهِ، فَإِنْ مَاتَ أَوْ تَلِفَتِ العَيْنُ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى، أوْ سَلَّمَ نَفْسَه بَرِئَ الكَفِيلُ.
قوله: «فصل: وتصح الكفالة» الكفالة هي العقد الثالث من عقود التوثقة؛ لأن عقود التوثقة رهن وضمان وكفالة.
والكفالة التزام جائز التصرف إحضار بدن من عليه الحق، وإن شئت فقل: إحضار من يصح ضمانه؛ حتى تدخل الأعيان المضمونة كالعواري على القول بأنها مضمونة بكل حال، والمغصوب، وعهدة المبيع، وضمان التعدي في الأمانات.
وبهذا التعريف نعرف الفرق بينها وبين الضمان، فالضمان أن يلتزم إحضار الدين، وهذا إحضار البدن، فإذا أحضر الكافل المكفول وسلمه لصاحب الحق برئ منه، سواء أوفاه أو لم يوفه، وهذا فرق واضح وحينئذٍ تكون الكفالة أدنى توثقة من الضمان؛ لأن الضمان يضمن الدين، وهذا يضمن من عليه الدين، فإذا أحضره برئ منه، وإذا مات المكفول برئ، وإذا مات في الضمان لا يبرأ.
ولكن لو كان العرف عند الناس أن الكفالة بمعنى الضمان، فهل يحمل المعنى على العرف أو على الشرع؟
الجواب: على العرف؛ لأن هذه معاملات يجري الناس فيها على أعرافهم، فعندنا الآن عرف متبع، إذا قال: أنا أكفل فلاناً، يريدون بذلك أن يضمن ما عليه من الدين.
لكن بدؤوا الآن يعرفون بعض الشيء، فصار إذا قال: أنا أكفله، إن أضاف إليها كفالةَ غُرمٍ صار ضامناً، وإن أطلق فهي كفالة بدن، فيُعمل بالعُرف سواء في هذا أو هذا.(9/202)
وقوله: «وتصح الكفالة» المؤلف ـ رحمه الله ـ تكلم على الكفالة وعلى الضمان، فيما سبق من حيث الحكم الوضعي، هل هما صحيحان أو غير صحيحين، لكن لم يتكلم عنهما من حيث الحكم التكليفي.
فما حكم الضمان، وما حكم الكفالة؟
سبق أن قلنا في الضمان: إنه سنة للضامن؛ لما فيه من مساعدة أخيه وتفريج كربته وغير ذلك، ولكننا قيدنا ذلك بما إذا كان الضامن قادراً على الوفاء، أما إذا كان فقيراً ثم بعد أن يحل الأجل يطالب وليس عنده شيء، فهذا خطأ وليس بمستحب؛ بل هو في أقل الأحوال أن يكون مكروهاً؛ لأنه يُلزم نفسه ما لا يلزمه.
وكذلك يقال في الكفالة، فالكفالة من حيث هي سنة للكفيل وهذا بشرط أن يعلم أنه قادر على إحضار بدن المكفول، أو إيفاء الدين عنه، فإن عرف من نفسه أنه غير قادر فلا ينبغي أن يكفل أحداً؛ ولهذا نجد الآن أناساً كثيرين يأتون وهم يشكون ديوناً عظيمة عليهم، سببها أنهم يكفلون الناس، والإنسان إذا عرف أن مكفوله متساهل ومتلاعب فلا يكفله.
فنقول: احرص على ألا تكفل؛ لأن الناس في الوقت الحاضر خاصة لا أحد يوثق به إلا من شاء الله.
أما من حيث المكفول والمضمون، فهذا لا يعتبر له رضاً، ولا يعتبر له علم؛ لأنه ليس عليه ضرر، وقد سبق لنا التفصيل في(9/203)
مسألة الضمان أنه إذا كان عليه ضرر، فإنه لا ينبغي للضامن أن يُقْدِم ويضمن.
قوله: «بكل عين مضمونة» هل الأعيان التي تضمن هي التي تكفل؟
الجواب: لا، وإنما الذي يكفل بدن من عنده عين مضمونة، ولهذا تعتبر عبارة المؤلف ـ رحمه الله ـ قاصرة، أي: أنه اختصر اختصاراً مُخِلًّا؛ لأن الذي يقرأ هذه العبارة يفهم بأن الذي تكفل هي العين، وليس كذلك، بل الذي يكفل هو الشخص الذي عنده العين.
إذاً كل عين مضمونة، يصح كفالة بدن من هي عنده.
والعين المضمونة هي التي تضمن بكل حال سواء بتفريط أو بغير تفريط.
مثاله: المسروق عند السارق عين مضمونة، والمغصوب عند الغاصب عين مضمونة، المبيع بكيل أو وزن أو ما أشبه ذلك قبل قبضه هذا ـ أيضاً ـ من الأعيان المضمونة على البائع، فكل عين تضمن بكل حال فإنها تصح الكفالة ببدن من هي عنده.
أما بالنسبة للعارية فعلى ما جرى عليه المؤلف فهي عين مضمونة تصح كفالة من هي عنده، وأما على القول الصحيح فليست من الأعيان المضمونة؛ بل هي أمانة وإذا وجد فيها تلفاً، نظرنا هل يضمن أو لا يضمن؟.
قوله: «وببدن من عليه دين» لأن الحقوق الواجبة للغير إما(9/204)
أعيان ـ واشترط المؤلف أن تكون مضمونة ـ، وإما ديون في الذمم.
فقوله: «وببدن من عليه دين» أي: تصح الكفالة ببدن من عليه الدين، كرجل في ذمته لشخص ألف ريال، فطالبه صاحب الحق، وأمسك به وقال: أوفني، ولكنه ليس معه شيء، فقال: سوف أرفعك إلى الجهات المسؤولة، فتقدم إنسان محسن، وقال: أنا أكفل الرجل؛ لأنه لو قال: أنا أكفل الدين صار ضامناً، لكن قال: أنا أكفل الرجل، يعني إحضاره، فهذا يصح.
ولا فرق في الدين بين أن يكون عن قرض، أو عن إجارة، أو عن قيمة متلف، أو قيمة مبيع، أو صداق، أو غير ذلك، المهم أن يكون الدين ثابتاً، فتجوز الكفالة ببدن من عليه دين.
قوله: «لا حد» أي: لا ببدن من عليه حد.
مثاله: رجل سارق أمسكته الجهات المسؤولة لتقطع يده، فقال: ذروني أذهب إلى أهلي، وأخبرهم بأني مستحق لقطع اليد فقالت الجهات المسؤولة: لا نتركك، لا بد من القطع الآن، فقال السارق: لي من يكفلني وهو فلان، يكفلني إلى أن أرجع، فتقدم رجل وقال: أنا أكفله فلا يصح أن يكفله؛ لأنه لو تعذر الاستيفاء من السارق، لم يمكن الاستيفاء من الكفيل، فأي فائدة في الكفالة؟ فلا فائدة في الواقع، أما لو كان عليه مال وجاء وقت الإحضار ولم يحضره أخذنا المال منه.
وقد يقول قائل: بل هناك فائدة؛ لأن هذا الرجل الذي كفله(9/205)
له سلطة، فهو ـ مثلاً ـ أمير قومه، وهذا الرجل من قومه، ويستطيع أن يحضره، وَتَعَذُّر إحضاره أمر طارئ، وإلا فالأصل أن هذا الكفيل قادر على إحضاره، وبناءً على هذا يمكن أن يفرق بين شخص له القدرة التامة على إحضار بدن من عليه حد، وبين شخص عاديٍّ لا يستطيع، فالأول قد يقال: بصحة كفالته، والثاني: لا تصح بلا شك.
والمشهور من المذهب ـ الذي مشى عليه المؤلف ـ أنه لا تصح كفالةُ مَنْ عليه حَدٌّ بأي حال من الأحوال؛ والعلة في ذلك ما ذكرنا وهي تعذر الاستيفاء من الكفيل، لو تعذر الاستيفاءُ من المكفول.
قوله: «ولا قصاص» أي: من عليه قصاص، أي: أن يكون قاتلاً وطالب أولياء المقتول بقتله وثبت ذلك، وأردنا أن نقتله، فقال: ذروني أذهب إلى أهلي، وأكتب وصيتي، وأخبرهم بما عليّ من الديون وغيرها، ثم أرجع، فقيل له: من يكفلك؟ قال: يكفلني فلان، فلا يصح؛ لأنه لو تعذر حضور هذا الذي وجب عليه القصاص لم نتمكن من استيفائه من الكفيل، لكن يلاحظ أن القصاص أهون؛ لأنه إذا تعذر القصاص رجعنا إلى الدية، والدية يمكن أن يقوم بها الكفيل، ولهذا من صحح الكفالة في الحد فيمن يستطيع إحضار المكفول، فإنه يصحح الكفالة فيمن عليه قصاص من باب أولى؛ وذلك لأنه إذا تعذر القصاص لعدم حضور المكفول فإنه يمكن أن يعاد إلى الدية.
والمذهب أنه لا تصح كفالة بدن من عليه قصاص؛ ووجه(9/206)
ذلك أنه لو تعذر حضور المكفول، لم نتمكن من استيفاء القصاص من الكفيل، فتكون الكفالة لا فائدة منها.
فالقاعدة في هذا تؤخذ من التعليل (أن كل شخص لا يمكن الاستيفاء منه لو تغيب المكفول فإنه لا يصح أن يكفل) .
مثال آخر: امرأة أمسكت بزوجها ولها ضرة، وقالت: أنت لا تقسم لي، فالليلة المقبلة لي، وأنت لم تحضر قبل ليلتين، أو أربع ليالٍ والآن لا بد من المحاكمة، فقال لها: أمهليني، فقالت: لا أمهلك، فقام رجل فقال: أنا أكفل الرجل أن يحضر إليك، فهذا لا يمكن؛ لأن المكفول لو لم يحضر، فإن الكفيل لا يمكن أن يقوم مقام المكفول.
فالقاعدة أنه متى تعذر الاستيفاء من الكفيل فإن الكفالة لا تصح؛ وذلك لعدم الفائدة منها، وأحكام الله لا تؤخذ باللعب واللغو الذي لا فائدة منه.
قوله: «ويعتبر رضا الكفيل لا مكفول به» وهذا معلوم؛ لأنه سوف يلتزم بحق وإذا لم يرض بذلك فإنه لا يلزم به، والمكفول له لا تمكن له الكفالة إلا بطلب منه، فإذا تقدم إنسان يكفل له، وقال المكفول له: لا حاجة في أن تكفل فلاناً أنا أعرفه، فهنا لا كفالة؛ لأن المكفول له يجوز له إسقاط الكفالة بعد ثبوتها، فعدم قبولها من أول الأمر من باب أولى.
وقوله: «لا مكفولٍ به» المكفول به في الواقع هو الدين أو الحق، والعبارة السليمة: «لا مكفول» يعني لا يعتبر رضا المكفول، فلو قال إنسان لشخص: أنا أكفل فلاناً، فقال(9/207)
المكفول: أنت تكفلني؟! أنا أوثق منك عند الناس وأوفى منك، وأعلى منك حسباً، أنت تكفلني، من أنت؟!
فهنا يقول: أنا لا أرضى أن تكفلني، فهل يعتبر؟
الجواب: لا يعتبر؛ لأن عندنا حقاً للمكفول له، وحقاً للكفيل فهما صاحبا الحق، أما المكفول فليس له حق، لكن كما سبق في الضمان، إذا كان يترتب على هذا سوء السمعة بالنسبة للمكفول، فإنه لا يجوز أن يتقدم أحد في كفالته؛ لأن ذلك يضر بسمعته، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
قوله: «فإن مات» الضمير يعود على المكفول، أي: إن مات برئ الكفيل حتى من الدين؛ لأنه لما مات المكفول فلا يمكن إحضاره، فإن طالب من له الحق بإحضاره، قال له الكفيل: تعال وأوقفه عند المقبرة، وقال له: خذ حقك منه!! وهذا لا يمكن، ولو قيل هذا القول له، لقال: إنها سخرية بي، فيقال: إذا مات المكفول برئ الكفيل، وهذا من الفروق بين الكفالة والضمان، فالضمان إذا مات المضمون لم يبرأ الضامن، أما الكفالة فإذا مات المكفول برئ الكفيل.
قوله: «أو تلفت العين بفعل الله تعالى» وهذا يعود على ما إذا كفله بعين مضمونة فتلفت العين بفعل الله، مثل أن يأتي سيل عظيم يجترف هذه العين، فهذه تلفت بفعل الله لا بتعدٍّ ولا تفريط فيبرأ الكفيل، ولو كان ضماناً لم يبرأ.
وعلم من قول المؤلف: «بفعل الله» أنها لو تلفت بفعل
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(9/208)
آدمي فإن الكفيلَ لا يبرأ؛ لأن الكفيل في هذه الحال يمكنه مطالبة المتلف، فيقول للمتلف: أحضر بدل ما أتلفت، لكن إذا كانت العين تلفت بفعل الله فإنه يبرأ ولا ضمان عليه.
قوله: «أو سَلَّم نفسه برئ الكفيل» «سلم» الفاعل هو المكفول، سلم نفسه وجاء في الوقت المحدد فإنه يبرأ الكفيل، وهذا واضح إذا سلمه عند حلول الأجل.
مثاله: الدين يحل في أول يوم من رمضان، فجاء هذا الرجل أول يوم من رمضان وسلم نفسه لصاحب الحق، فإنه يبرأ الكفيل، سواء قدر على الاستيفاء منه أم لم يقدر؛ لأنه إنما التزم بإحضار بدنه وقد حضر.
فإن سلم نفسه قبل حلول الأجل فهل يبرأ؟ فيه تفصيل، إن سلم نفسه قبل حلول الأجل وليس ثَمَّة يد ظالمة تحول بينه وبين استيفاء حقه فلا بأس وإلا فلا؛ لأنه لو سلم نفسه قبل أن يحل الدين، ربما يكون هذا حيلة ليبرأ الكفيل، ثم بعد ذلك يهرب، لكن إذا لم يكن هناك يد حائلة ظالمة تمنع من استيفاء الحق، فلا بأس بأن قال: أنا الآن أسلم نفسي وأعطيك الحق الآن.
وإن أُبرئ المكفول برئ الكفيل، كما ذكرنا في الضمان، إذا برئ المضمون عنه برئ الضامن؛ لأن القاعدة أنه إذا برئ الأصل برئ الفرع، وإن أبرئ الكفيل لم يبرأ المكفول، لأنه لا يبرأ الأصل ببراءة الفرع.(9/209)
بَابُ الحَوَالَةِ
قوله: «باب الحَوَالَة» الحوالة معناها التحويل أو التحول، أي: تحول الحق من ذمة إلى ذمة، وهو عبارة عن انتقال الحق من فلان إلى فلان، مثاله: عندي لشخص مائة درهم وعند زيد لي مائة درهم، فجاء يطلبني حقه الذي عليَّ فقلت له: أحلتك به على زيد، فالآن نقلتُ الحق من ذمتي أنا المطلوب، إلى ذمة رجل آخر وهو الذي أنا أطلبه.
وهي من حسن القضاء والاقتضاء؛ لأن المحال إذا قَبِل فقد يسر الأمر على المحيل؛ ولأن المحيل ـ أيضاً ـ إذا أحال صاحبَ الدين بدينه فهذا من التيسير؛ لأن المحيل قد يكون معسراً فيحيله على موسر.
وهي من الإحسان والمعروف، إذا كان فيها تسهيل وتيسير على المكلف.
أما حكمها شرعاً فإنها جائزة بل مستحبة بل واجبة عند بعض العلماء لكن بشروط، والدليل على جوازها قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ومن أحيل بدَينه على مليء فليحتل» (1) فهذا أصل في جواز الحوالة، لكنها لها شروط:
الشرط الأول: ذكره المؤلف في قوله:
__________
(1) سبق تخريجه ص (91) .(9/210)
لاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَلاَ يُعْتَبَرُ اسْتِقْرَارُ المُحَالِ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ الدَّيْنَيْنِ جِنْساً وَوَصْفاً وَوَقْتاً وَقَدْراً، وَلاَ يُؤَثِّرُ الفَاضِلُ.
«لا تصح إلا على دينٍ مستقر» أي: أنه لا بد من استقرار المحال عليه، عندنا الآن دَيْنان، محال به ومحال عليه، وعندنا مُحيل ومحتال ومُحال عليه، فالدَّينان أحدهما عند المحيل والثاني عند المحال عليه، والمحيل هو المطلوب والمحتال هو الطالب والمحال عليه ـ أيضاً ـ هو المطلوب للمحيل.
فلا بد أن يكون الدين المحال عليه مستقرّاً، أي ثابتاً ثبوتاً ليس فيه فسخ أو عرضة لفسخ، كثمن المبيع، والأجرة بعد تمام المدة، والقرض، وغُرم الجنايات، وما أشبهها.
المهم أن يكون على دين مستقر، احترازاً من الدَّين غير المستقر كدين الكتابة.
مثاله: إنسان كاتب عبده بعشرة آلاف، فصار على العبد دين، حيث اشترى نفسه من سيده بعشرة آلاف ريال، فلا يملك السيد الآن أن يحيل على الدين الذي في ذمة المكاتب؛ لأنه غير مستقر، فإذا كان هذا السيد عليه عشرة آلاف وأراد أن يحيل صاحب الدين على دين الكتابة، فقد تحصل وقد لا تحصل، فيكون هذا الذي تحول إما سالماً وإما غارماً، أي: أنه لا يدري هل يغرم أو يحصل على حقه؛ لأن هذا العبد قد يعجز عن تسليم المال المكاتب عليه فيضيع حق المحتال، فلهذا لا بد من أن يكون المحال عليه مستقراً.
كذلك مهر المرأة قبل الدخول غير مستقر على الزوج؛ لأنه لا يستقر إلا بالدخول، فإذا أحالت المرأة به على الزوج صارت الحوالة غير صحيحة؛ لأنه غير مستقر؛ لأنه ما دام لم يدخل فيجوز أن يجد فيها عيباً فيفسخ النكاح ويأخذ المهر كاملاً، ويجوز أن(9/211)
يطلقها فتستحق نصف المهر، ويجوز أن يدخل بها فتستحق المهر كاملاً، إذاً فالمهر هنا دين غير مستقر فلا تصح الحوالة عليه.
قوله: «ولا يُعتبر استقرارُ المحالِ به» أي أن المحال به لا يشترط استقراره وهو الدين الذي على المحيل، والمحال عليه هو الدين الذي على الشخص المحال عليه، فلو أن المكاتب أحال سيده بدينه على من في ذمته دين مستقر للمكاتب، فإن الحوالة صحيحة؛ لأنه لا يشترط استقرار المحال به، ومثل لو أحال الزوج زوجته بمهرها قبل الدخول على شخص يطلبه فيجوز، مثال ذلك: تزوجت امرأة بعشرة آلاف ريال وأطلب رجلاً بعشرة آلاف ريال، فأحلتها بعشرة آلاف ريال على الرجل الذي أطلبُه فهذا يجوز؛ لأن طلبي على فلان مستقر، لكن طلب المرأة عليَّ غير مستقر، لكنه لا يضر؛ لأن استقرار المحال به ليس بشرط، لكن هذه المرأة لا تملك أن تطالب هذا الرجل بمهرها قبل الدخول، لكنها تعرف أن حقها عند هذا الرجل.
فالشرط أن تكون على دين مستقر، فإن كانت على عين فتوكيل، وإن كانت على دين غير مستقر لم تصح، وإن كان على غير دين ولا عين فهذه لا تصح حوالة، لكنها توكيل في الاستقراض.
الشرط الثاني قوله: «ويشترط اتفاق الدَّينين» أي المحال به، والمحال عليه.
قوله: «جنساً ووصفاً ووقتاً وقدراً» أي: اتفاقهما في أربعة أمور:(9/212)
الأمر الأول: الجنس، بأن يحيل مائة صاع بر في ذمته، على من له في ذمته مائة صاع بر، فإن أحاله بمائة صاع بر على مائة صاع شعير فإنه لا يصح، لاختلاف الجنسين، فهي ليست حوالة ولكنها في الحقيقة بيع.
وأيضاً لو أحاله بعشرة دنانير على عشرة دراهم، فلا يصح لاختلاف الجنسين.
الأمر الثاني: الوصف بأن يكون كل منهما جيداً، أو رديئاً، أو وسطاً، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يصح أن يحيل جيداً على رديء، ولا رديئاً على جيد، وفي هذا نظر؛ لأنه لا محظور من ذلك، فإذا أحال بجيد على رديء، وقَبِلَ المحال الرديء عن الجيد فما المانع؟ ما دام الجنس واحداً والقدر واحداً، فليس فيه ربا ولا غرر.
فهذا الذي أحيل بالجيد على رديء، يقول: أنا أحب أن آخذ الرديء ولا يبقى حقي في ذمة هذا الرجل الفقير أو المماطل.
وكذلك العكس، لو أحال بمائة صاع رديء على مائة صاع جيد فليس في ذلك شيء؛ لأن المحيل الآن أحال باختياره، كما لو أوفاه جيداً عن رديء.
فالصواب أن الوصف إذا قصد به الرداءة والجودة أنه لا بأس به.
الأمر الثالث: الوقت، وذلك فيما إذا كان الدَّينان مؤجلين، فلا بد من اتفاق الدينين في الأجل، فلا يحيل ما يحل بعد شهر،(9/213)
على ما يحل بعد شهرين، أو ما يحل بعد شهرين على ما يحل بعد شهر؛ وذلك لعدم الاتفاق في الوقت، ولا يجوز أن يحيل مؤجلاً بحال ـ أيضاً ـ للاختلاف في الوقت.
وهذا ـ أيضاً ـ فيه نظر، فأي مانع يمنع إذا أحلت عشرة دراهم تحل بعد شهر، على عشرة دراهم لا تحل إلا بعد شهرين ورضي المحال؟ فليس في ذلك أي ضرر، والصحيح أنه جائز.
قد يقول قائل: إن هذه تشبه بيع الدراهم بالدراهم إلى أجل؟
فيقال: هذا ليس بيعاً، ولكنه استيفاء، ومن المعلوم أنه لو عجل المؤجل، أو أجل المعجل، فإنه لا بأس به، فالصواب إذن أنه لا يشترط اتفاقهما في الوقت.
الأمر الرابع: القدر فيشترط ـ أيضاً ـ اتفاق الدَّينين قدراً، فلا يحيل بعشرة على ثمانية؛ لأن هذا يشبه البيع، والبيع مع التفاضل لا يجوز، فلو أسقط عنه اثنين، وأحاله على فلان بثمانية فهذا يجوز، لأنه لما أسقط الاثنين صار الذي عنده ثمانية، فإذا أحاله بها على من يطلبه ثمانية تساويا.
أما بثمانية على عشرة فلا بأس، ولهذا قال المؤلف:
«ولا يؤثر الفاضل» يعني الزائد في المحال عليه، ولا بأس به؛ لأنه كأنه أحاله على ثمانية من عشرة، وهذا لا بأس به، وهذا معنى قوله: «ولا يؤثر الفاضل» ويبقى الفاضل لصاحبه.
فإن قال: أحلتك بثمانية على عشرة ليقبض كل العشرة؟ فهذا لا يجوز، لأنه صار معاوضة، والمعاوضة بين جنسين ربويين لا بد أن يكون أحدهما مساوياً للآخر إذا كان الجنس واحداً،(9/214)
ومعلوم أنه إذا اختلف الجنس فهو معاوضة من باب أولى.
فصار اتفاقهما في القدر تحته أمران:
الأول: التحويل بالناقص على الزائد، على أساس أنه يأخذ مقدار حقه والباقي يبقى في ذمة المحال عليه، فهذا جائز.
الثاني: التحويل بالزائد على الناقص ـ على كلام المؤلف ـ لا يصح، لكن ما هو الطريق للصحة؟
الجواب: الطريق أن يبرئه من الزائد، ثم يحيله على المساوي.
فإذا قال: أنا أريد أن أبرأ منه نهائيّاً؟ قلنا: الطريق إلى هذا أن يبرئه من الزائد ثم يحيله، وهذه حيلة لا بأس بها؛ لأنها حيلة على مباح.
ولو قيل: إذا لم يكن في المسألة إجماع، فإنه يصح بدون إبراء لكان له وجه؛ لأن حقيقة تحول الدائن على ما هو أقل من حقه حقيقته الإبراء، لكن بدلاً من أن يقول: أبرأتك ثم ذاك يقول: أحلتك، اكتفى بالحوالة.
والخلاصة: (أن الحوالة من باب الاستيفاء، فإذا انقلبت إلى معاوضة صار لا بد من مراعاة شروط البيع المعروفة) ، هذه هي القاعدة، أما هذه الشروط التي ذكرها المؤلف فكما سبق أن بعضها فيه نظر.
وَإِذَا صَحَّتْ نَقَلَتِ الحَقَّ إِلَى ذِمَّةِ المُحَالِ عَلَيْهِ وَبَرِئَ المُحِيلُ. وَيُعَتَبرُ رِضَاهُ لاَ رِضَا المُحَالِ عَلَيْهِ، وَلاَ المُحْتَالِ عَلَى مَلِيءٍ
قوله: «وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل» وتصح الحوالة بتمام الشروط وانتفاء الموانع؛ لأن كل(9/215)
شيء من عبادة أو معاملة لا يصح إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه، فإذا صحت نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحيل براءة تامة، والحوالة غير الضمان، فالضمان سبق أنه لا ينقل الحق؛ فلا ينقل الحق من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن، وكذلك الكفالة، لكن الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبقى المحيل بريئاً.
ولكن يشترط هنا وفي كل عقد أن يكون العاقد جائز التصرف، وكل عقد ـ أيضاً ـ لا بد أن يكون من مالك للعقد أو من يقوم مقامه، فهذان الشرطان يُصطحبان في كل عقد في البيوع والأوقاف والرهون والهبات والأنكحة وغيرها.
ولو فرض أن المحال عليه أعسر، فهل يرجع المحال على المحيل؟
الجواب: لا؛ لأن الحق انتقل وبرئ المحيل براءة تامة.
وقوله: «وإذا صحت نقلت الحق إلى ذمة المحال عليه وبرئ المحيل» ، دليل ذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «من أحيل بدينه على مليء فليحتل» (1) ، أي: يتحول من المحيل إلى المحال عليه، فلو كان رجل عليه مائة ألف، وأحال بها على شخص، وتمت الشروط، ثم إن المحال عليه افتقر، فإن المحال لا يملك الرجوع إلى المحيل، فيقول المحيل: أنا أحلتك والحوالة تمت، وإذا تمت، فإنها تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (91) .(9/216)
قوله: «ويعتبر رضاه» هذا هو الشرط الثالث من شروط صحة الحوالة.
والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، فالرضا لا بد منه في جميع العقود حتى عقد النكاح ـ على القول الراجح ـ فيما إذا كانت البنت بكراً.
قوله: «لا رضا المحال عليه» المحال عليه لا يعتبر رضاه، فلو أحال رجل بدينه على آخر، وقال المحال عليه: لا أقبل؛ لأن المحتال رجل سيئ الطلب، ويتعب المطلوب، أنا أريد الأول؛ لأنه أسهل وأيسر، فلا يملك ذلك، قال العلماء: لأنه ـ أي: صاحب الحق ـ يملك استيفاءه بنفسه وبوكيله، والمحتال كأنه وكيل، فكما أن لصاحب الحق أن يوكل رجلاً خصماً لدوداً في استيفاء حقه فله أن يحيله أيضاً.
وإذا امتنع المحيل عن الحوالة لكونه فقيراً، فهل يملك صاحب الدين أن يجبره على إحالته على دينه في ذمة غني؟
الجواب: على كلام المؤلف لا يملك؛ لأنه يشترط رضاه على كل حال.
فلو قال الدائن: أنت الآن ليس عندك شيء، لكن لك في ذمة فلان الغني الباذل كذا وكذا، فأحلني عليه، فقال: لا أحيلك، فإنه لا يلزمه، لكن لو رأى القاضي أن إحالته لا بد منها فله ذلك، ونظير هذا، لو أن المدين غيَّبَ ماله وقال: ليس عندي شيء، وكان عنده مال، لكنه غيبه وكتمه، فإنه يُلزم بأن يظهر هذا(9/217)
المال ويوفي منه، فالقول بأنه في هذه الحال لا يعتبر رضاه وأنه يجبر على الإحالة قول قوي؛ لئلا يضيع حق صاحب الدين.
قوله: «ولا المحتال على مليء» المحتال في رضاه تفصيل إن كان على مليء لم يعتبر رضاه، وإن كان على غير مليء اعتبر رضاه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم بدينه على مليء فليحتل» (1) ، ومفهومه أنه إذا أحيل على غير مليء لا يلزمه الاحتيال، فصار المحيل والمحتال والمحال عليه باعتبار الرضا على ثلاثة أقسام:
الأول: من يعتبر رضاه بكل حال وهو المحيل.
الثاني: من لا يعتبر رضاه على كل حال وهو المحال عليه.
الثالث: من فيه التفصيل وهو المحتال، إن كان على مليء لم يشترط رضاه، وإن كان على غير مليء اشترط رضاه.
ومن هو المليء؟
الجواب: قال العلماء: هو القادر على الوفاء بقوله وماله وبدنه.
أما «قوله» : فألا يكون كاذباً يَعِدُ ويُخْلِفُ، وهذا هو المماطل، فإذا أحاله على شخص غني، لكن من عادَته أن يماطل فيعد ويكذب، فإنه يعتبر رضا المحتال.
«وماله» بأن يكون عنده مال يستطيع الوفاء منه، فإن كان فقيراً اعتبر رضا المحتال.
__________
(1) سبق تخريجه ص (91) .(9/218)
«وبدنه» وهو أن يمكن إحضاره عند المحاكمة إلى مجلس الحكم، فإن كان لا يمكن محاكمته شرعاً أو عادة، فإنه لا يلزمه أن يتحول، ولا بد من رضاه.
والذي لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم شرعاً الأب، فإن العلماء ـ رحمهم الله ـ يقولون: لا تمكن مطالبة الأب بالدَّيْن، إلا ما كان من النفقة فقط، أما غيره فلا يمكن، فلو استقرض أبوك منك مالاً، وطالبته به فلا يمكن أن تحضره إلى مجلس الحكم، ولو طالبته أن يحضر فإن القاضي لا ينظر في ذلك، فإذا أحالك إنسان إلى أبيك، فقال: أنت تطالبني بعشرة آلاف، وأنا أطالب والدك بعشرة آلاف، أحيلك على أبيك، فهل لك أن ترفض؟ هذه مشكلة؛ لأنك لو رفضت، صار قدحاً عظيماً في والدك، وإن قبلت ربما يضيع حقك.
ونحن عرفنا المسألة فقهاً، أما واقعاً، فينبغي للإنسان أن ينظر إلى ما يترتب على ذلك من مفاسد، فقد يكون بره بأبيه ورفع معنوية أبيه خيراً من أن يحصل على مقصوده.
ومثال من لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم عادة السلطان.
مثاله: إنسان يطلب منك عشرة آلاف ريال، وأنت تطلب من الأمير عشرة آلاف ريال، فقلت: أحلتك على الأمير، فهنا لا يلزمه القبول، ولا بد من رضاه؛ لأن الأمير لا تمكن مطالبته، فإذا ألزمناه بأن يتحول صار هذا سبباً لضياع حقه، والظلم ظلمات يوم القيامة.
إذاً رضا المحتال فيه تفصيل: إن كان على مليء لم يُعتبر(9/219)
رضاه، وإن كان على غير مليء اعتبر رضاه، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وهو ما مشى عليه المؤلف، بناء على أن الأمر في قوله: «فليحتل» للوجوب، وعلى هذا فيجبر المحتال أن يتحول وتبرأ ذمة المحيل إذا كان المحال عليه مليئاً.
وذهب أكثر العلماء إلى اعتبار رضاه حتى وإن أحيل على مليء، وقالوا: إن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «فليحتل» (1) ، على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب؛ لأنه من حُسن الاقتضاء، وأنا أميل إلى هذا القول وأنه لا يجب قبول التحول؛ لأنه صاحب حق، وأنت ربما تُحيلني على مليء، قادر على الوفاء بقوله وماله وبدنه، وأستطيع أن أحضره إلى مجلس الحكم، لكن له احترام عندي، إما أنه أخ، أو قريب، أو صديق، أو ذو شرف وجاه، فكيف تجبرني؟ أو بالعكس، فلا أُنَزِّل نفسي بمنزلة هذا السفيه مثلاً.
فالصواب أنه لا بد من رضا المحتال سواء كان على مليء أم على غير مليء، وهو قول الجمهور.
وَإِنْ كَانَ مُفْلِسَاً وَلَمْ يَكُنْ رِضِيَ رَجَعَ بِهِ وَمَنْ أُحِيلَ بِثَمَنِ مَبِيعٍ، أَوْ أُحِيلَ بِهِ عَلَيْهِ فَبَانَ البَيْعُ بَاطِلاً فلا حَوَالَةَ، وإذا فُسِخَ البيعُ لم تَبْطُلْ. ولَهُمَا أَنْ يُحِيلا.
قوله: «وإن كان مفلساً» أي: المحال عليه.
قوله: «ولم يكن» أي: المحتال.
قوله: «رضي» أي: بالحوالة عليه.
قوله: «رجع به» أي: بما أحيل به.
مثال ذلك: أحلت فلاناً على زيد ثم تبين أنه مفلس، فإنه يرجع بذلك؛ لأن صاحبه كان مفلساً، لكن إن رضي المحتال،
__________
(1) سبق تخريجه ص (91) .(9/220)
وتبين أن المحال عليه مفلس، فإنه لا يرجع، وهذه المسألة لها ثلاث حالات:
الحال الأولى: ألا يكون المحتال رضي، بأن قال المحيل للمحتال: أحلتك على فلان وهو مفلس ليس عنده دراهم، فقال: لا أقبل، فهنا يرجع قولاً واحداً، ولا خلاف في ذلك؛ لأنه يشترط للمحتال على غير مليء أن يكون راضياً، وهنا لم يرض، فيرجع بلا خلاف.
الحال الثانية: أن يعلم أنه مفلس ويرضى بذلك، فهنا لا يرجع بلا خلاف؛ لأنه رضي به فلا يرجع.
الحال الثالثة: أن يرضى وهو لا يعلم بحاله ثم يتبين أنه مفلس، فعلى كلام المؤلف لا يرجع؛ لأنه قيد ذلك بما إذا لم يكن رضي، وهذا الرجل رضي.
فإن قال المحتال: أنا رضيت، أحسب أن فلاناً غني، فلما تبين أنه مفلس أريد أن أرجع إلى الذي أحالني، وآخذ حقي منه؟
قلنا: لا رجوع لك؛ لأنك فرطت، فلماذا لم تشترط الملاءة حين أحالك، وأنت لا تدري عن صاحبك المحال عليه؟
فيقال: ما دمت أنك لم تشترطها فأنت الذي فرطت فلا رجوع لك.
فالأحوال إذن ثلاث:
حالتان لا خلاف فيهما، وحالة فيها التفصيل.(9/221)
الأولى: إذا كان يعلم أنه مفلس ورضي، فلا رجوع، قولاً واحداً.
الثانية: إذا كان لم يرض، والمحال عليه مفلس، فيرجع بكل حال.
الثالثة: إذا كان رضي، ولم يعلم عن حال المحال عليه، ثم تبين أنه مفلس فيقول المؤلف: إنه لا يرجع؛ لأنه مفرط، فلماذا لم يشترط أن يكون المحال عليه مليّاً حين كان يجهل حاله؟
وقيل: إنه يرجع في هذه الحال؛ لأن كثيراً من الناس قد يستحي أن يستفصل أو يشترط عند الحوالة، ويحسن الظن بالمحيل والمحال عليه ويسكت، فإذا تبين أنه مفلس فإنه يرجع، ولا سيما إذا غلب على ظننا أن المحيل قد غرَّه، وهو يعلم أنه مفلس ولم يخبره، فهنا يتوجه القول بالرجوع.
كذلك ـ أيضاً ـ لو كانت حال المحال عليه جيدة، وكان غنيّاً بالأمس، وقَبِلَ المحتال الحوالة دون اشتراط الملاءة، بناءً على حال المحال عليه، وأنه غني، ثم تبين أن المحال عليه قد أصيب بجائحة، وأنه لا يمكن الاستيفاء منه، فحينئذٍ يتوجه القول بأنه يرجع؛ لأن المحتال إنما قبل بناءً على ما كان من حال المحال عليه.
فتبين الآن ما ذهب إليه المؤلف، والراجح فيه تفصيل، وهو أننا إذا علمنا أن المحيل قد غر المحتال بحيث يكون عالماً بإفلاس المحال عليه ولم يخبره، أو كان المحتال قد بنى على(9/222)
حال المحال عليه من قبل، حيث كان غنيّاً ثم اجتيح ماله فإن له أن يرجع، وإلا فإن ما ذهب إليه المؤلف وجيه؛ لأن المحتَال مفرِّط، إذ كان يلزمه أن يسأل ويبحث عن المحال عليه، أو على الأقل أن يشترط عند التحويل أن يكون مليّاً.
قوله: «ومن أحيل بثمن مبيع، أو أحيل به عليه فبان البيع باطلاً فلا حوالة، وإذا فسخ البيع لم تبطل» الصورة الأولى عندنا بائع ومشترٍ ومحال عليه، ثلاثة، فالذي يُحال بثمن المبيع البائع، يعني أن المشتري أحال البائع على مدين له فَقَبِل الحوالة، ولكن تبين أن البيع باطل، فالحوالة باطلة؛ وذلك لأن المبني على باطل يكون باطلاً.
مثال ذلك: عبد الرحمن اشترى من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات، فأحال عبدُ الرحمن الطاهرَ على سامي، لأنه كان مديناً له، فتبين بطلان البيع لكون الكتاب وقفاً والوقف لا يباع، فهنا تبطل الحوالة والبائع يرجع على المشتري بالمبيع، وهو هنا الطاهر فيأخذ كتابه وتنتهي المسألة.
ولكن إذا فسخ البيع فإنها لا تبطل، مثلاً لما اشترى عبد الرحمن الكتاب من الطاهر وجد فيه عيباً، فرده لعيبه، فهذا فسخ للعقد فالحوالة لا تبطل، وللطاهر أن يطالب سامياً بالثمن؛ لأنه أحيل عليه به، فله أن يطالبه، ولكنه إذا قبضه يرده إلى المشتري وهو عبد الرحمن؛ لأنه فسخ العقد.(9/223)
إذاً إن كانت الحوالة مبنية على باطل فهي باطلة، وإن كانت مبنية على صحيح ولكن فُسخ، فالحوالة صحيحة ولا تبطل.
فإن طالب الطاهر ـ الذي هو البائع ـ المحال عليه ـ وهو سامي ـ بالثمن، فقال سامي: ما دام البيع قد فسخ فلا حق لك، أنا أعطي ديني الذي عليَّ لصاحبي فهل يملك ذلك؟ لا يملك هذا؛ لأن المفروض أن الذي يسلم الثمن بعد الفسخ هو البائع، وهو سيقول: إن البيع لما فسخ فإن المشتري سوف يطالبني، فأعطني الدراهم التي أُحلت بها عليك وأنا أسلمها للمشتري.
وقوله: «أو أحيل به عليه» هذه هي الصورة الثانية، أي: أحيل بثمن المبيع على شخص، أي أن البائع أحال شخصاً يأخذ الثمن من المشتري، يعني عكس الصورة الأولى، مثلاً الطاهر باع كتاباً لعبد الرحمن، وسامي يطلب الطاهرَ ديناً له عليه فأحال الطاهرُ سامياً على عبد الرحمن.
فللمسألة صورتان، تارة يحيل المشتري البائعَ على مدين له، وتارة يحيل البائعُ مدينَه على المشتري.
قوله: «ولهما أن يحيلا» يعني للمشتري في الأولى، وللبائع في الثانية.
ففي المثال الأول عبد الرحمن اشترى من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات وأحال الطاهرَ على سامي بالعشرة، فثبتت العشرة التي في ذمة سامي للطاهر، فللطاهر لما فسخ البيع أن يحيل المشتري ـ عبد الرحمن ـ على سامي؛ لأن عبد الرحمن لا يملك(9/224)
مطالبة سامي؛ لأن الحق انتقل إلى البائع ـ الذي هو الطاهر ـ فللبائع أن يحيل عبد الرحمن على سامي.
فالطاهر الآن صار مديناً للمشتري ـ عبد الرحمن ـ فأحاله على مدينه ـ سامي، وسامي كان مديناً لعبد الرحمن ـ المشتري؛ ثم صار مديناً للبائع ـ الطاهر ـ فأحال البائع بدينه عليه.
وفي المسألة الثانية: [المثال الثاني] بالعكس، البائع أحال مدينه على المشتري.
مثال ذلك: اشترى عبد الرحمن من الطاهر كتاباً بعشرة ريالات، فثبت في ذمة عبد الرحمن للطاهر عشرة ريالات، كان سامي يطلب الطاهر عشرة ريالات، فقال له الطاهر: أحلتك على عبد الرحمن ـ المشتري ـ فإذا فسخ البيع، فإن سامياً سوف يستلم من المشتري ـ عبد الرحمن ـ وهنا سوف يحيل المشتري ـ عبد الرحمن ـ سامياً على البائع ـ الطاهر ـ.(9/225)
بَابُ الصُّلح
قوله: «باب الصلح» الصلح مصدر صالح يصالح صلحاً، ويشتق منه ـ أيضاً ـ أصلح يصلح إصلاحاً، وهو في اللغة قطع النزاع.
والصلح عقد يحصل به قطع النزاع بين المتخاصمين، هذا هو الأصل، وله أنواع كثيرة، ويتعلق بجميع الحقوق المالية وغيرها، فكلها يمكن أن يقع فيها الصلح، قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] .
وهذا فيما بين الزوجين من حقوق، وقال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ، وجاز شرعاً أن يكذب الإنسان من أجل السير إلى الصلح والمصالحة بين الناس، وحث الشرع على الإصلاح بين الناس، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صالح المشركين في غزوة الحديبية (1) ، وهذا فيما يقع بين المسلمين والمشركين من العهود.
ولكن يمتنع الإصلاح في حالة واحدة، وهي ما إذا تبين للقاضي أن الحق مع أحد الخصمين، فإن الصلح هنا ممتنع ولا يجوز ما لم يبين لصاحب الحق أن الحق له، ثم يطلب منه الصلح؛ لأنه يوجد قضاة علمهم ضعيف، فكل مسألة ترد عليهم يجعلونها صلحاً، وهذا حرام ولا يجوز.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2731) و (2732) .(9/226)
المهم أن الصلح جارٍ في كل شيء، وبين كل متعاقدين، وهو كما جاء في الحديث المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول «الصلح جائز بين المسلمين» ، أي في كل شيء، وجائز بمعنى نافذ، «إلاَّ صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (1) ، أي: فإنه لا ينفذ.
والصلح أنواع، فيكون في الحقوق والأموال والأعراض، كل شيء، ولهذا أطلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ فقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وهنا في هذا الباب، يريد الفقهاء به الصلح في الأموال، ويذكرون الصلح في النزاع بين الزوج وزوجته في باب عِشْرَة النساء، وفي باب أهل الزكاة في الغارم لإصلاح ذات البين، ففي كل موضع بحسبه، فالذي معنا هنا الصلح في الأموال، وهو على نوعين صلح على إقرار وصلح على إنكار، أي: الصلح يكون على شيء أقرَّ به مَنْ عليه الحق، ويكون على شيء أنكره من عليه الحق.
الأول: الصلح على إقرار، وقد بينه المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح» .
__________
(1) أخرجه الترمذي في الأحكام/ باب ما ذكر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح.
ورواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في الإجارة/ باب أجرة السمسرة، بلفظ «المسلمون على شروطهم» ووصله أبو داود في القضاء/ باب المسلمين على شروطهم (3594) ، والحاكم (2/92) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني (3/27 ـ 28) والحاكم (2/49 ـ 50) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما بلفظ «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» وصححه النووي في المجموع (9/464) والألباني في الإرواء (1303) .(9/227)
إِذَا أقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ أوْ عَيْنٍ فَأسْقَطَ أَوْ وَهَبَ البَعْضَ وَتَرَكَ البَاقِيَ صَحَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَاهُ، وَمِمَّنْ لاَ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ.
قوله: «إذا أقر له بدين» بأن قال: في ذمتي لك ألف ريال.
وقوله: «أو عين» بأن قال: هذا المسجل لك.
وقوله: «فأسقط» يعود على الدين.
وقوله: «أو وهب» يعود على العين، ففيه لف ونشر مرتب، يعني يذكر شيئين ثم يثني بمثل حكمهما مرتباً؛ لأنه أعاد الأول على الأول والثاني على الثاني، ومن ذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *} {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود] ، فهذا يسمى لفّاً ونشراً مرتّباً.
وهناك لف ونشر غير مرتب، بأن يُذكر ما يعود على الثاني، ثم ما يعود على الأول، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] ، هذا لف ونشر غير مرتب.
وهذه كلها من أساليب البلاغة، ولا بد لكل ما خالف الأصل من فائدة، وإلا فالأصل أن يكون اللف والنشر مرتبين.
وقوله: «فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح» ، بأن قال حينما أقر له بمائة ريال قال: أسقطت عنك خمسين ريالاً صح؛ لأن هذا إبراء محض وإحسان ومطلوب، ولكن قد يقال: أين هذا من الصلح؟ فهل حصل نزاع حتى يحصل صلح؟! الجواب: الفقهاء يقولون: لو وقع هذا بلفظ الصلح لم يصح، وهذا وجه إدخاله في باب الصلح، فلو أن صاحب الحق قال للمقر: قد صالحتك على بعض الدين، يقولون: لا يصح، لأنه لا(9/228)
يمكن أن يصالحه عن ماله ببعضه، لكن القول الثاني أنه يصح بلفظ الصلح؛ لأن المقصود المعنى.
وكذلك لو أقر له بعين فقال: وهبتك نصفها أو ربعها أو ما أشبه ذلك فإنه جائز، لكن لو قال: صالحتك بنصفها فالفقهاء يقولون: لم يصح؛ وهذا وجه إدخاله في باب الصلح، والصحيح أنه يجوز ولو وقع بلفظ الصلح ولكن بشروط:
قوله: «إن لم يكن شرطاه» أي: المتنازعان، أو إن لم يكن شرطاً، أي: بشرط ألا يكون المقر أقر للشخص بهذا الشرط، أي: بأن منعه حقه إلا بأن يسقط أو يهب، فإن كان كذلك فإنه لا يجوز؛ لأنه لا يحل له أن يمنعه حقه إلا إذا تنازل عن بعضه فهذا حرام، ومن أكل المال بالباطل، ولكن هل لا يجوز للمسقِط أو لا يجوز للمسقَط عنه؟ أيهما الظالم؟
الجواب: الظالم هو المسقَط عنه، إذا قال: أنا أقر لك بهذا الدين بشرط أن تسقط كذا وكذا، فالظالم المسقَط عنه، إذا كان الدَّين حقيقة ثابتاً، فيشترط ألا يكون شرطاه، فإن شرطاه فإنه لا يصح، لكن في حق المعتدي منهما؛ لأن العبرة بما في الأمر نفسه.
قوله: «وممن لا يصح تبرعه» هذه الجملة معطوفة على قوله: «شرطاه» يعني وإن لم يكن ممن لا يصح تبرعه، أي: ويشترط ـ أيضاً ـ ألا يكون ممن لا يصح تبرعه، أي: بذله المال مجاناً، وهناك فرق بين من يصح تبرعه ومن يصح تصرفه، فالذي يصح تصرفه أوسع من الذي يصح تبرعه، فمثلاً ولي اليتيم يصح تصرفه ولا يصح تبرعه، وكذلك الوكيل.(9/229)
إذاً يشترط أن يكون الإسقاط أو الهبة ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه لم يصح الإسقاط ولا الهبة لفوات الشرط.
فإذا أسقط ولي اليتيم بعض دينه وأخذ الباقي فلا يصح الإسقاط؛ لأن ولي اليتيم لا يصح تبرعه، ولكن قد يقال: إنه إذا لم يتمكن من الوصول إلى حقه إلاّ بالإسقاط، فإن الإسقاط جائز؛ لما في ذلك من المصلحة، فمثلاً هذا رجل مماطل وأنا بعت عليه على أنه رجل موفٍ وأنه مليء ثم تبين الأمر بالعكس، ثم صالحته على إسقاط بعض الشيء، فهنا استدراك بعض الشيء خير من فوات الكل، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] وهل يضمن الولي في هذه الحال؟
الجواب: ينظر إن كان مفرطاً ضمن، وإن كان غير مفرط لم يضمن.
ومن الشروط ـ أيضاً ـ ألا يقع بلفظ الصلح؛ لأنه لا يصح أن يصالح بشيء من ماله على ماله.
مثاله: أن يقول: أقرضتك مائة درهم فصالحني على بعضها، فيقول: صالحتك، فهذا لا يصح. هكذا قالوا ـ رحمهم الله ـ.
ولكن ينبغي أن يقال: إذا فهم من هذه المصالحة أنها إسقاط في دين، أو هبة في عين، فينبغي قَبول ذلك؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا علمنا أن مرادهما بالمصالحة، الهبة في العين، والإسقاط في الدين، فلا مانع.(9/230)
صحيح أن المصالحة لا تكون إلا بعد نزاع، ولا تكون إلا لفض النزاع، وهنا لا نزاع في المسألة؛ لأنه إقرار وهبة، لكن يقال: ما دمنا عرفنا أن المقصود بالمصالحة هنا، الإسقاط في الدين، والهبة في العين، فإن الألفاظ قوالب في الواقع، والعبرة بالمعاني.
إذاً هذا يسمى الصلح على إقرار، وشرطه ألا يكون مشروطاً، ومن باب أولى ألا يمنعه حقه بدونه، فإن منعه حقه بدونه، قال: لا أقر لك إلا أن تسقط، فإنه لا يصح، وهذا معنى قولنا: ألا يكون شرطاً، والثاني: أن يكون ممن يصح تبرعه.
وَإِنْ وَضَعَ بَعْضَ الحَالِّ وَأجَّلَ بَاقِيَهُ صَحَّ الإسْقَاطُ فَقَطْ. وَإِنْ صَالَحَ عَنْ المُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالاًّ، أَوْ بِالعَكْسِ،................
قوله: «وإن وضع بعض الحال وأجَّل باقيه صح الإسقاط فقط» أي: دون التأجيل.
مثال ذلك: إنسان عنده لشخص مائة درهم قد أقر بها، فقال له: أنا أريد أن تسقط عني خمسين درهماً وتؤجل الباقي، فقال: لا بأس أفعل، ففعل.
يقول المؤلف: يصح الإسقاط ولا يصح التأجيل، فيصح الإسقاط؛ لأنه أسقط عنه، فقال: وضعت عنك خمسين درهماً، وفي ذمتك خمسون درهماً، لكن التأجيل لا يصح؛ لأن الفقهاء عندهم ـ رحمهم الله ـ قاعدة: وهي أن الحال لا يمكن أن يتأجل، ولا يقبل التأجيل، ولهذا مر علينا في القرض، أنه إذا استقرض شيئاً، وأجَّل وفاءه، فإنه لا يصح التأجيل ولا يلزم.
ولكن الصحيح في هذه المسألة، وفي مسألة القرض أنه(9/231)
يصح، فإذا قال: وضعت عنك خمسين درهماً وأجَّلت الخمسين، فإنه يجب أن يفي بوعده؛ لأن إخلافَ الوعدِ ـ ولا سيما في مثل هذه الأمور المالية التي قد يترتب عليها ضمان أو نقص ـ محرمٌ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال محذراً منه: «آية المنافق ثلاث ومنها إذا وعد أخلف» (1) ، ويلزمه خمسون مؤجلة.
فالصواب أنه يصح الوضع، وأن الحال يتأجل بالتأجيل وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لأنه عهد ووعد، وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ، ولأن هذا الذي أجلته عليه ربما يبني على تأجيلك إياه تصرفاً لولا أنك أجلته لم يتصرفه، فإذا قلت: أعطني إياه الآن تضرر، ونظير ذلك جئت إلى رجل وقلت: أنا محتاج عشرة آلاف ريال، اشتري سيارة وليس عندي شيء أقرضنيها وأجلها إلى سنة، فقال: تفضل، فأخذتها واشتريت السيارة، فلما اشتريت السيارة، أتى إليَّ من الغد وقال: أعطني عشرة آلاف الريال، على المذهب له أن يطالبني؛ لأن القرض حال والحال لا يتأجل، فيترتب عليَّ من الضرر الكثير، ولا شك أن هذا حتى الفطرة السليمة لا تقبله، وأما على رأي شيخ الإسلام فإنه يتأجل لعموم: «المسلمون على شروطهم» (2) .
قوله: «وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً» فإنه لا يصح.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب علامة المنافق (33) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب خصال المنافق (58) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (18) .(9/232)
مثاله: رجل في ذمته لآخر مائة درهم مؤجلة إلى سنة، وفي أثناء السنة جاء الدائن للمدين، وقال: أعطني منها خمسين وأبرئك من الباقي، يقول المؤلف: «لم يصح» ؛ لأن هذا يشبه الربا، حيث أخذ عن المائة خمسين.
والصواب أنه جائز، وأن الإنسان إذا أخذ البعض في المؤجل وأسقط الباقي فإن ذلك صحيح؛ لأن السنة وردت به في قصة إجلاء بني النضير من المدينة، حيث قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ضعوا وتعجلوا» (1) ، ضعوا أي: أسقطوا، وتعجلوا أي: المؤجل؛ ولأن فيه مصلحة للطرفين، أما الطالب فمصلحته التعجيل، وأما المطلوب فمصلحته الإسقاط، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بمنع عقد فيه مصلحة للطرفين، وليس فيه غرر ولا جهالة، وأيضاً فإن الربا في هذا بعيد جداً؛ لأن المدين لم يطرأ على باله حين استدان أنه سوف يرده أنقص معجلاً، فمحظور الربا بعيد جداً، وهذا اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ.
لكن لو أجبر أحدهما الآخر على هذا الفعل فإنه لا يصح، أي: لو قال المطلوب للطالب: هذا نصف حقك أعجله لك، وأسقط عني الباقي، قال: لا، أنا أريد حقي كاملاً متى حلَّ، فإنه لا يجبره.
فإن أعطاه حقه كاملاً حالاً عن المؤجل فهل يجبره أو لا؟
__________
(1) أخرجه الدارقطني (3/46) ؛ والبيهقي (6/28) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
قال الدارقطني: «اضطرب في إسناده مسلم بن خالد وهو سيئ الحفظ ضعيف» ، وضعفه ابن القطان، انظر: «بيان الوهم والإيهام» رقم (431) .(9/233)
الجواب: في هذا خلاف، فالمذهب لا يجبره.
والصواب: أنه يجبره ما لم يكن عليه ضرر.
مثال ذلك: إنسان في ذمته لشخص مائة درهم تحل بعد سنة، وقبل تمام السنة جاء المطلوب إلى الطالب بالمائة درهم، وقال: خذ حقك، قال: لا، حتى تحل، فهل يجبر الطالب؟
في هذا خلاف، فالمشهور من المذهب أنه لا يجبر؛ لأنه حق مؤجل لا يلزمه قبل أجله.
والصحيح أنه يجبر إلا إذا كان في ذلك ضرر عليه؛ ووجه ذلك أنه إذا عجل له دينه فهو مصلحة بلا مضرة، وفيه مصلحة للمطلوب؛ لأن المطلوب يقول: الآن توفر عندي المال، وأخشى إذا جاء أجل الدين ألا يكون عندي مال، فيكون في هذا ضرر عليك.
فالصواب أنه إذا عجل المؤجل فإنه يلزم الطالب القبول ويجبر عليه؛ لأنه زاده خيراً، إلا إذا كان فيه ضرر، بأن قال الطالب: نحن الآن في وقت خوف، وأخشى أن آخذ المال منك فيسرق، أو قال: إني على سفر وليس عندي ما أودعه به، وما أشبه ذلك فإنه لا يلزم بالقبول.
قوله: «أو بالعكس» أي إذا صالح عن الحال بزائد عليه مؤجل، فإنه لا يصح.
مثال ذلك: رجل في ذمته لشخص مائة درهم حالة، فقال المطلوب: أصالحك على أن تؤجل الحق، وتكون بمائة وعشرة، فهذا لا يجوز؛ ووجه ذلك أنه ربا، وهذا هو الربا الذي كانوا(9/234)
يتعاطونه في الجاهلية والذي قال الله فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [آل عمران] ، فإن صالح عن بعضه مؤجلاً، فهي المسألة الأولى، ولهذا اضطررنا إلى أن نقول: «بالعكس» أن يصالح عن الحال بأكثر منه مؤجلاً لا ببعضه مؤجلاً بل بأكثر منه مؤجلاً، فإنه لا يصح، والعلة واضحة.
أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِبَيْتٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سُكْناهُ، أَوْ يَبْنِيَ لَهُ فَوْقَهُ غُرْفَةً، أَوْ صَالَحَ مُكَلَّفاً لِيُقِرَّ لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ، أَوْ امْرأةً لتُقرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ بِعِوَضٍ لَمْ يَصِح...............
قوله: «أو أقر له ببيت فصالحه على سكناه» أي: أقر لشخص ببيت وصالحه على أن يسكنه، فهذا صلح على إقرار، بأن قال: هذا البيت لك ولكن صالحني على أن أسكنه لمدة سنة، فإنه لا يصح؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه، ولكن يمكن أن نقول في مثل هذا، إذا أقر له بالبيت: إن للمُقَرَّ له أن يمنحه إياه للسكن سنة ـ مثلاً ـ أو أقل أو أكثر، أما أن يجعل ذلك صلحاً فلا يصح.
قوله: «أو يبني له فوقه غرفة» فلا يصح، لأنه صالح عن ماله ببعض ماله، فإذا قال: الذي فوق ليس لك؟ نقول: له إلى السماء، وإلى الأرض السابعة، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين» (1) ، والغالب أن مثل هذا لا يتأتى إلا إذا امتنع المقر من
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2452) ، ومسلم في البيوع/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) عن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ، واللفظ لمسلم.(9/235)
الإقرار إلا أن يبنيها له، أما أن يقر ويقول: البيت بيتك، ثم يقول: صالحني على أن أبني، هذا لا يستقيم في الغالب إلا إذا منعه، وسبق لنا أن الصلح على إقرار إذا كان بشرط أو منع حقه بدونه فإنه لا يصح.
قوله: «أو صالح مكلفاً ليقر له بالعبودية» وهذا يقع حيلة في الغالب، مثاله: قال: يا فلان أنا أريد أن أدعي أنك عبدي، تعال فأَقِرْ عند القاضي ففعل، فذهبا إلى القاضي، وقال: هذا عبدي وأريد أن توثق ملكي به، فقال: نعم، فكتب وثيقة بأن فلاناً بن فلان عبد لفلان، فهذا لا يصح؛ لأن الحر لا يمكن أن يكون عبداً، بل قد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال الله ـ تعالى ـ: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجره» (1) .
فإن قال قائل: وهل يمكن هذا؟
الجواب: نعم بأن يتفق اثنان على أن يقر أحدهما للآخر بالعبودية، ثم إن المقر له يبيعه، ويأخذ الثمن ويقول للذي أقر بالعبودية: الثمن بيني وبينك ثم يوصيه، ويقول: إذا بعتك على فلان وأخذت الثمن فعليك بالإباق، إذاً نقول: هذه المصالحة لا تصح، وهي حرام ومن كبائر الذنوب؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الله خصم هؤلاء، وهذا وعيد.
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب إثم من باع حرّاً (2227) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/236)
وقوله: «أو صالح مكلفاً» عبر بقوله: مكلفاً؛ لأن غير المكلف لا يصح إقراره أصلاً، وإذا كان لا يصح إقراره فإنه لا تصح المصالحة معه.
قوله: «أو امرأة لتقر له بالزوجية بعوض لم يصح» ، مثاله: الدولة فرضت للإنسان الأعزب شيئاً من بيت المال وللمتزوج ضعفه، فطلب إنسان من امرأة أن تقر بأنها زوجته؛ ليعطى مكافأة متزوج، وفعلت، فهذا حرام؛ لأنه يترتب على هذا أمور كثيرة، لو أنه مات لورثته، ولو ماتت لورثها، ثم لو أتت بولد زنا لألحق بهذا الرجل الذي أقرت له بالزوجية، وترتب عليه مسائل كثيرة، فلا يحل أن يصالح امرأة لتقر له بالزوجية.
هذا لو صالح امرأة لتقر له بعوض، فلو صالحها بغير عوض فالحكم كذلك، ولكن في الغالب أنه لا يكون إلا بعوض، إما عين وإما منفعة أو غير ذلك.
مسألة: لو كانت المرأة زوجة حقيقية وأنكرت أنها زوجته، والشهود قد ماتوا ووثيقة النكاح ضاعت، ولم يبق الآن إلا إقرارها، فصالحها لتقر له بالزوجية فما حكم هذا الصلح؟
الجواب: هذا بالنسبة للمرأة حرام عليها أن تأخذ عوضاً عن هذا الإقرار لأنها امرأته، أما بالنسبة للرجل فهو جائز أن يبذل العوض، لأن فيه استنقاذاً لحقه، ونظير ذلك لو أن أحداً أخذ منك شيئاً وأبى أن يقر أنه لك إلا بعوض تعطيه إياه، فأعطيته إياه فهذا بالنسبة لك جائز، وبالنسبة له محرم.(9/237)
وَإِنْ بِذَلاَهُمَا لَهُ صُلْحاً عَنْ دَعْوَاهُ صَحَّ، وَإِنْ قَالَ: أَقِرَّ بِدَيْنِي وَأعِطيكَ مِنْهُ كَذَا فَفَعَلَ، صَحَّ الإِقْرِارُ لاَ الصُّلْحُ.
قوله: «وإن بذلاهما له صلحاً عن دعواه صح» «بذلاهما له» يعني بذل المُدَّعى عليه العبودية والمُدَّعى عليها الزوجية، والضمير في «هما» للعوضين، «وله» الضمير يعود على المدعي «صلحاً عن دعواه صح» ، لأن المراد بذلك دفع الدعوى فقط فيصح.
مثال ذلك: رجل قال لآخر: أنت عبدي وألح عليه، وقال له: نذهب إلى المحكمة لأثبت أنك عبدي، إما أن نذهب إلى القاضي أو تعطيني ألف درهم، وهذا الذي ادعيت عليه العبودية لا يريد مشكلات ففعل، قال: خذ ألف درهم ولا نذهب للقاضي، فهذا يصح، فالإقرار غير صحيح ظاهراً، أما في الآخرة فالظالم منهما لا يصح الإقرار في حقه، ويصح في حق المظلوم.
وكذلك بالنسبة للزوجية، رجل أمسك امرأة وقال: أنت زوجتي، فأنكرت وقالت: لست بزوجة لك، فأصر إلا أن تقر، أو تذهب إلى المحكمة، فقالت: هذه ألف درهم صلحاً عن دعواك، فهنا يصح في حقها هي ظاهراً وباطناً، ويصح في حق المدعي ظاهراً لا باطناً، ولهذا يحاسب عند الله ـ عزّ وجل ـ على كذبه على هذه المرأة.
قوله: «وإن قال: أقرَّ بديني وأعطيك منه كذا ففعل صح الإقرار لا الصلح» .
مثاله: رجل قال: أقر بديني ولك نصفه، بأن قال: أنا أطلبك بعشرة آلاف ريال، أقر بها ولك منها خمسة آلاف، قال: نعم، فأقر بها عند القاضي بأن في ذمتي لفلان عشرة آلاف ريال،(9/238)
على أنه سيعطيه منها خمسة آلاف، فيصح الإقرار؛ لأنه وقع من أهله ولا يصح الصلح؛ لأنه أكل للمال بالباطل.
ولكن الصحيح أن في هذا تفصيلاً، فإذا كان المدين أبى أن يقر إلا بهذا، فالصلح باطل والإقرار ثابت، يُطَالَبُ به ظاهراً، وأما إذا كان غير ممانع وهو مقر فإن إسقاط بعضه يكون من باب الوعد، والصحيح أن الوفاء بالوعد واجب، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخلف الوعد؛ لأن إخلاف الوعد من صفات المنافقين، ما لم يكن هناك ضرر.(9/239)
فصلٌ
وَمن ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَسَكَتَ، أَوْ أَنْكَرَ وَهَوَ يَجْهَلُهُ ثُمَّ صَالَحَ بِمالٍ صَحَّ.
قوله: «فصل» هذا الفصل فيه الصلح على إنكار، وفيه بيان حقوق الجيران بعضهم على بعض، وإنما جعل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ حقوق الجيران بعضهم على بعض في هذا الباب؛ لكثرة المصالحة بين الجيران في حقوقهم.
قوله: «ومن ادُّعي عليه بدين أو عين فسكت أو أنكر وهو يجهله ثم صالح بمال صح» أي: إذا ادعي عليه بدين أو عين، بأن قال شخص لآخر: أنا أطالبك بمائة ألف ريال، فسكت فلم يقر ولم ينكر، ثم صالح بمال عوضاً عن مائة ألف، فيصح، فإن أقر وصالح عنه بمال، فهو من باب الصلح على الإقرار وسبق.
وقوله: «أو أنكر» أي: أنكر المدعى عليه، قال: ليس في ذمتي لك شيء، ثم صالح بمال، فالمصالحة صحيحة.
وكذلك إذا ادُّعي عليه بعين، بأن قال شخص لآخر: هذا المسجل لي، فقال من بيده المسجل: لا، ليس لك، فهذا إنكار، ثم صالح عنه بمالٍ بأن تصالحا على أن يعطيه مائة ريال عن هذا المسجل، فهو صحيح؛ لأن الأصل الحل، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (1) ؛ فإن مفهومه كل شرط في كتاب الله فهو حق، وقوله: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» (2) ، وهذا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً فيجوز.
__________
(1) سبق تخريجه ص (100) .
(2) سبق تخريجه ص (227) .(9/240)
وكذلك إذا جاء إليَّ شخص وقال: إن في ذمتك لي مائة درهم، فقلت: ليس لك عليَّ شيء، فإنكاري هذا قد يكون عن علم أو عن نسيان وقد يكون عن جهل، أي: إني لا أدري هل الذي يطلبني فلان أو فلان، فهذا جهل، فالمهم أنه ادعى علي وأنكرتُ إما عن علم أو جهل أو نسيان، مع ذلك قلت: ما دمت تدعي عليَّ بهذا وأنا لا أقر به، فلنجعل بيننا صلحاً، فأعطيك عن مائة الدرهم خمسين درهماً فيجوز وينفذ الصلح، ويلزم كل من الطرفين بما تم عليه الاتفاق، ولهذا قال المؤلف: «ثم صالح بمال صح» .
وقوله: «بمال» يشمل الحالَّ والمؤجل، ولو صالح بمنفعة بأن قال: أصالحك على أن تسكن داري شهراً، يجوز؛ لأن المنفعة المباحة مال.
ولكن هل يدخل هذا في باب الإبراء، أو في باب البيع؟ الجواب:
وَهُوَ للْمُدَّعِيِ بَيْعٌ، يَرُدُّ مَعِيبَهُ وَيَفْسَخُ الصُّلْحَ وَيُؤْخذُ مِنْهُ بِشُفْعَةٍ، وَللآخَرِ إِبْراءٌ فَلاَ رَدَّ وَلاَ شُفْعَةَ، وَإِنْ كَذَبَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ بَاطَناً وَمَا أَخَذَهُ حَرَامٌ ...
قوله: «وهو للمدعي بيع» فإذا ادعى عليه بأن هذا المسجل ملكه، فقال: ليس ملكك، ثم تصالحا على مال، فالمدعي الآن يعتقد أنه أدخل ملكه على هذا الشخص بعوض، فهذا الصلح صحيح، لكن هو للمدعي بيع؛ لأنه يعتقد أن ما ادعاه حق، وأن ملكه انتقل إلى الآخر بعوض، وهذا هو حقيقة البيع، فهو له بيع، وإذا كان له بيع فإنه:
«يرد معيبه ويفسخ الصلح، ويؤخذ منه بشفعة» لأنه بيع،(9/241)
فيعامل المدعي معاملة البائع تماماً أو المشتري، فالمهم أنه يكون في حقه بيعاً، ولنفرض أن هذا الذي ادعى المسجل، وأنكر من هو بيده، صالحه على راديو، أخذ الراديو ثم إنه وجد في الراديو عيباً فله أن يرده، فيقول: أنا أخذت الراديو، لكن تبين أن به عيباً، وأنا قد أخذته منك على أنه عوض عن ملكي، فأنا أعتبر نفسي بائعاً، فوجدت هذا العيب في هذا الراديو فلي أن أرده وأفسخ الصلح وأطالب بالمسجل؛ لأن الصلح في حقه هنا بيع، وإذا رده تبقى دعواه على ما هي عليه أولاً قبل الصلح.
وقوله: «ويؤخذ منه بشفعة» مثاله ادعيتُ على هذا الرجل أن البيت الذي يسكنه لي، فقال: ليس لك، وليس عندي بينة، ثم صالحني وقال: سأعطيك عوضاً وهو نصيبي في هذه الأرض، لي نصفها ولشريكي نصفها، فقبلت، فقام شريكه وأخذه مني بالشفعة فله الحق في ذلك؛ لأنه دخل ملكي على سبيل المعاوضة؛ لأني أعتقد أن البيت ملك لي، وأن هذا عوض عنه فيأخذه شريكه مني بالشفعة.
قوله: «وللآخر إبراء فلا رد» الآخر، أي: المدعى عليه، يعني المنكر، هو في حقه إبراء فلا رد ولا شفعة.
وقوله: «فلا رد» هذا الذي ادعي عليه أن المسجل للمدعي وأنكر ثم صالح براديو، وبعد ذلك وجد في المسجل عيباً، فإنه لا يرده على ذاك؛ لأنه لا يعتقد أنه ملكه من قِبَلِهِ، هذا المنكر يعتقد أنه ملكه من الأصل وأن ذاك ليس له به ملك، ولكنه(9/242)
أبرأه من المطالبة بما صالحه عليه من الراديو، فإن وجد المنكر في المسجل عيباً فإنه لا رد له؛ لأن هذا مقتضى الإقرار والإنكار، أنت حينما أنكرت أن هذا المسجل له تعتقد أنه ملكك، وأنك لم تملكه من قِبَلِهِ فكيف ترده عليه؟! فهو في حقك إبراء فلا رَدَّ لك.
قوله: «ولا شفعة» فلو قلتُ لرجل إن البيت الذي أنت فيه لي نصفه فقال: لا، ثم أخذت منه عوضاً عما ادعيت، فشريكه في هذا البيت لا يأخذ هذا الشقص الذي ادعيته بالشفعة؛ لأن هذا الشخص دخل على المنكر لا على سبيل المعاوضة لكن على سبيل الإبراء؛ لأنه لما أعطاني العوض أبرأته منه إبراءً.
قوله: «وإن كذب أحدهما لم يصح في حقه باطناً وما أخذه حرام» «أحدهما» أي: المدعى عليه أو المدعي، لم يصح في حقه باطناً، أي: فيما بينه وبين الله، أما ظاهراً فإنهما لو ترافعا إلى القاضي في المحكمة حكم بالصلح، لكن باطناً فيما بينه وبين الله، فالكاذب لا يصح الصلح في حقه، وعلى هذا فلا يصح أن يتصرف في العين التي أخذها وهو يعتقد أنها ليست له في الواقع؛ لأنه ادعاها كذباً، وما أخذه من العوض ـ سواء كان المدعي أو المدعى عليه ـ حرام لا يحل له؛ لأنه أخذه بغير حق.
مثال ذلك: رجل ادعى على رجل أن قطعة الأرض هذه له، وهي أرض مشتركة، فأنكر من بيده الأرض ثم اتفقا على الصلح، فأعطى المدعى عليه للمدعي مائة درهم، عوضاً عن الأرض، إن(9/243)
كان المدعي صادقاً، والمنكر ـ المدعى عليه ـ كاذباً، فالأرض حرام على المدعى عليه كالأرض المغصوبة تماماً، وإن كان بالعكس، المدعى عليه هو المحق والمدعي هو المبطل، فالعوض الذي أخذه عن الأرض وهو الدراهم تكون حراماً عليه، وهذا واضح ويتمشى مع القواعد الشرعية؛ لأن كلَّ من أخذ شيئاً بغير حق فهو حرام عليه؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنكم تختصمون إليَّ ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئاً من مال أخيه فإنما أقتطع له جمرة من النار فليستقل أو ليستكثر (1) ، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الحكم له جهتان، جهة الظاهر يحكم بحسب الظاهر، وجهة الباطن يعذب على حسب الباطل، لو كان الحكم الظاهر يقضي على الحكم الباطن، لكان إذا حكم لأخيه بشيء حسب الدعوى لا تكون قطعة من النار، لكنها إذا كانت دعوى باطلة كانت قطعة من النار.
وَلاَ يَصِحُّ بِعِوَضٍ عَنْ حَدِّ سَرِقَةٍ وَقَذْفٍ، وَلاَ حَقِّ شُفْعَةٍ وَلاَ تَرْكِ شَهَادَةٍ، وَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ والحَدُّ.
قوله: «ولا يصح بعوض عن حد سرقة» لأن حد السرقة لله ـ عزّ وجل ـ فلا يمكن أن يأخذ المخلوق عوضاً عنه، وإذا بلغت الحدود السلطان فلا شفعة، وإنما مثل المؤلف بالسرقة؛ لأنها تتعلق بالآدمي، بدليل أن المسروق منه لو لم يطالب لم تقطع يد السارق، بدليل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لصفوان بن
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب من أقام البينة بعد اليمين (2680) ، ومسلم في الأقضية/ باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن (1713) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ.(9/244)
أمية ـ رضي الله عنه ـ: هلاَّ كان قبل أن تأتيني به (1) .
وعلم من قوله: «عن حد سرقة» أنه يصح عن المال المسروق، فلو أن شخصاً سرق من آخر حليّاً، فضاع الحلي واعترف السارق به، ثم صالح عنه بعوض، فالصلح جائز ولا بأس به، لكن لو صالح عن حد السرقة فإنه لا يصح، فلو مُسِكَ السارق، وقال للذي أَمْسَكَهُ: دعني، وأعطيك عشرة آلاف ريال، ولا ترفعني للولاة، لا يصح فليس له ذلك، فإما أن يرفعه للولي، وإما أن يستر عليه ويدعه إن كان يرى أن المصلحة في ذلك، أما أن يأخذ عوضاً عن هذا فلا يجوز، ثم فيه مفسدة عظيمة، فكل واحد يُمْسَكُ على شيء يبذل عوضاً ويترك.
قوله: «وقذف» فلا يصح بعوض عن حد قذف، حد القذف للمخلوق لكنه فيه شائبة حق لله ـ عزّ وجل ـ، فلو قال المقذوف للقاذف: سأرفعك إلى ولي الأمر، فقال القاذف: لا ترفعني، أنا أعطيك عن حقك في القذف مائة ألف ولا ترفعني، فوافق فلا يجوز؛ لأن حد القذف لله ـ عزّ وجل ـ فإما أن ترفعه لولي الأمر أو تتركه، لا سيما على القول بأنه لا يشترط لإقامة حد القذف مطالبة المقذوف؛ لأن بعض أهل العلم يقول: لا يشترط في إقامة الحد مطالبة المقذوف؛ لأنه حق لله، حماية لأعراض المسلمين،
__________
(1) أخرجه أحمد (3/401) ، وأبو داود في الحدود/ باب فيمن سرق من حرز (4394) ، والنسائي في قطع السارق/ باب ما يكون حرزاً وما لا يكون (8/69) ، وابن ماجه في الحدود/ باب من سرق من حرز (2595) ، وصححه الحاكم (4/380) ووافقه الذهبي، وانظر: الإرواء (2317) .(9/245)
ولهذا جاء في الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، فهو كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، لكن على القول بأنه حق للمقذوف وأن للمقذوف إسقاطه، قالوا: إنه لا يصح بعوض؛ لأن هذا الحق ليس ماليّاً، ولا يقصد به المال فلا يصح بعوض، وهذا هو القول الأول.
والقول الثاني: أنه يصح بالعوض؛ لأن الذي سوف تسود صحيفته به هو المقذوف، فبدلاً من هذا، يقول: أعطني مائة ألف ريال، وأنا ـ إن شاء الله ـ سأدافع عن نفسي فيما يتعلق بالقذف، وهذا القول له وجهة نظر؛ لأنه حق لآدمي في الواقع، ولهذا لا يقام حد القذف إلا بمطالبة من المقذوف.
أما إذا قلنا: إنه حق محض لله، وأنه لا تشترط مطالبة المقذوف، فإنه لا يصح بعوض.
قوله: «ولا حق شفعة» حق الشفعة يتضح بالمثال: شخصان شريكان في أرض، فباع أحدهما نصيبه على ثالث، فالذي له الشفعة هو الشريك الذي لم يبع، فذهب المشتري إلى الشريك، وقال: أنت لك حق الشفعة، ولكن أنا سأعطيك عشرة آلاف ريال وأسقط حقك ففعل، يقول المؤلف: إنه لا يصح عن إسقاط الشفعة؛ لأن الشريك إما أن يأخذ بالشفعة وإما أن يدع ويتركها مجاناً بلا عوض.
القول الثاني: أنه يصح بعوض عن إسقاط حق الشفعة؛ لأن حق الشفعة يتعلق بالمال، فهو حق آدمي فالمشتري صالح الشفيع(9/246)
عن حق له فهو حق محض للآدمي، فإذا أسقط الآدمي حقه بعوض فلا بأس بذلك، وما المحظور؟! فإذا قال: أنا أعطيك كذا وتنازل عن المطالبة بالشفعة، فلا مانع وهو حق له، وهذا هو الصواب في هذه المسألة، أنه يصح أن يصالح عن حق الشفعة، وتسقط الشفعة.
قوله: «ولا ترك شهادة» أي: لو صالح إنساناً يشهد عليه بحق، وقال له: لا تقم الشهادة عليّ وأعطيك كذا وكذا.
مثاله: إنسان طلق زوجته في حضور شاهدين، ثم أنكر الطلاق، فقالت المرأة: عندي شهود، رجلان يشهدان، فذهب الزوج إلى الشاهدين، وقال: أنا سأعطي كل واحد منكما ألف ريال واتركا الشهادة، فهذا لا يجوز ولا إشكال فيه؛ لأن الله ـ عزّ وجل ـ يقول: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ولا يصح بأي حال من الأحوال حتى لو فرضنا أن المسألة حق مالي لا زوجية، فإنه لا يجوز.
وهل يجوز أن يصالح إنساناً يشهد له بغير حق؟
مثاله: ادعى على زيد بأن عنده له ألف ريال، وليس عنده شهود، فذهب إلى رجلين وقال: اشهدا لي وأعطيكما كذا وكذا، فلا يجوز، وفي بعض البلاد يقولون: الشهادة مقننة على حسب الحق، فإذا كان حقّاً كبيراً فالشهادة بمائة ريال، أو صغيراً فبعشرة ريالات، فلا يجوز للإنسان أن يعطي شخصاً ليشهد له، فهذه شهادة زور من أكبر الكبائر.
قوله: «وتسقط الشفعة والحد» أي: حد القذف يسقط؛ لأن(9/247)
الرجل أسقطه، لكن لو قال: أنا أسقطته بعوض، فإما أن تعطوني العوض، وإلا فأنا أريد إقامة الحد على القاذف، نقول له: لا نعطيك عوضاً، ولا نقيم لك الحد؛ لأنك أسقطته.
وكذلك الشفعة؛ لأنه أسقطها، وليس له عوض؛ لأن العوض على ترك الشفعة غير صحيح.
والصحيح أنه كما قلنا: تجوز المصالحة بعوض عن إسقاط الشفعة.
وأما بالنسبة للقذف فتقدم حكم الصلح عنه، لكن للمقذوف أن يطالب بحقه إذا علم أن الصلح غير صحيح؛ لأنه أسقطه بناء على أن الصلح صحيح وأنه سيأخذ عوضاً عنه، فإذا لم يكن هناك عوض فلا يمكن أن يفوت حقه بالمطالبة بحد القاذف.
وَإِنْ حَصَلَ غُصْنُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ غَيْرِهِ أَوْ قَرَارِهِ أزَالَهُ، فَإِنْ أَبَى لَوَاهُ إِنْ أمْكَنَ، وَإِلاَّ فَلَهُ قَطْعُهُ.
قوله: «وإن حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره أزاله» بدأ المؤلف بذكر شيء من حقوق الجار، وإنما ذكر الفقهاء حقوق الجار في هذا الباب؛ لأن الغالب أن النزاعات التي تكون بين الجيران تحل عن طريق المصالحة؛ لهذا ذكروا أحكام الجوار في هذا الباب، ولها مناسبة أخرى فيمكن أن تكون في آخر الفقه لكن هنا رأوا أنه أنسب، ومن المعلوم أن الجار له حق كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ، فإن كان مسلماً قريباً كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، فإن كان مسلماً غير قريب، فله حقان حق الإسلام، وحق الجوار، وإن كان كافراً غير قريب فله حق واحد، وهو حق الجوار.(9/248)
فالجار له حق حتى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» (1) ، وقال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه» (2) ، أي: تعديه وظلمه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (3) . ولننظر في أنفسنا نحن، هل قمنا بحق الجوار؟
الجواب: أكثر الناس في غفلة عن هذا الحق، ولا يرون أن للجار حقّاً، ولكن هذا خطأ، فالذي ينبغي للإنسان أن يواصل جاره بحسب ما تقتضيه الحال وطبيعة الناس، وأن يكف شره عن الجار، يعطيه من الخير ويكف عن الشر، حتى قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (4) .
ومن الأشياء التي يجب أن تُكَفَّ عن الجار،، إذا حصل غصن شجرته في هواء غيره أو قراره.
القرار الأرض، والهواء ما فوق الأرض، فإذا حصل غصن
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6019) عن أبي شريح العدوي ـ رضي الله عنه ـ ومسلم في الإيمان/ باب الحث على إكرام الجار والضيف ... (47) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الأدب/ باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) عن أبي شريح ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري في الأدب/ باب الوصاءة بالجار (6014) ، ومسلم في الأدب/ باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2624) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(4) أخرجه مسلم في الأدب/ باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (142) عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ.(9/249)
الشجرة في الهواء بأن يكون الإنسان عنده شجرة في بيته، ولها أغصان متدلية على ملك جاره هذا هواء.
والقرار إنسان عنده شجرة في البيت، لكنها من الشجر الذي يمتد على الأرض مثل البطيخ، فحصل غصن هذه الشجرة في أرض جاره، فهذا حصل في القرار، وهناك شيء ثالث يمتد ـ أيضاً ـ إلى الجار وهو العروق، والعروق في باطن الأرض، فعندنا الآن ثلاثة أشياء: غصن على القرار، وغصن في الهواء، والثالث عروق في باطن الأرض.
أما الغصن في الهواء أو على القرار، فإنه يجب على صاحب الغصن أن يزيله إذا طالبه صاحب الأرض الذي هو الجار، فإذا قال: أزل عني هذا الغصن، وجب عليه أن يزيله.
فإن قال صاحب الشجرة: هذا الغصن ينفعك، يظلك، فتجلس أنت وأهلك في ظلاله، قال: أنا لا أريد هذا الغصن، فهل يلزم صاحب الشجرة إزالته؟
الجواب: نعم يلزم.
فإن تصالحا على أن تكون الثمرة التي في هذا الغصن الممتد بينهما، قال العلماء: إنه يصح.
وكذلك لو كان في القرار، أي: تسرح الأغصان على الأرض، فإنه إذا طالبه الجار يجب عليه إزالته.
وعلم من هذا الكلام أن الهواء ملك لصاحب الأرض إلى السماء الدنيا، فلا يمكن لأحد أن يتخذ روشناً، أو ما أشبه ذلك على أرضه، إلا بإذنه.(9/250)
وأما العروق، إذا امتدت عروق الشجرة إلى أرض الجار، فهل للجار أن يطالب صاحب الشجرة بقطع العروق؟
نقول: في هذا تفصيل، إن كانت العروق تؤذيه أو تضره فله أن يطالب، وإن كانت لا تؤذيه ولا تضره فليس له حق المطالبة؛ لأن هذا مما جرت العادة بالتسامح فيه، فتؤذيه وتضره بأن كانت تنقل الرطوبة إلى أرضه، أو ربما كانت تبرز على سطح الأرض، فبعض الأشجار يكون لها عروق قوية تدفع حتى الحصى، وهذا الإنسان عنده قبو في الأرض، وعروق شجرة الجار تدفع الجدار، وربما تدفعه حتى يسقط أو ربما تشقه إذا كان من الطين ثم تتدلى في هذا القبو، فهذا ضرر، فلصاحب الملك أن يطالب صاحب الشجرة بقطع هذه العروق، أما إذا كان لا يتأذى ولا يتضرر فلا نلزمه بإزالتها؛ لأن هذا مما جرت العادة بالتسامح فيه.
قوله: «فإن أبى لواه» أي: إن أبى صاحب الشجرة أن يزيله لوى صاحب الأرض الغصن.
قوله: «إن أمكن» يعني إن أمكن لَيُّهُ.
قوله: «وإلا فله قطعه» فصار هذا الغصن له مراحل:
الأولى: أن نطالب صاحب الغصن بالإزالة.
الثانية: إذا أبى فيلوي الغصن.
الثالثة: فإن لم يمكن ليه لكونه قاسياً، أو لا يمكن أن يلتوي إلا بالكسر فله قطعه دفعاً لأذاه.
لكن لو قال قائل: إنه لا ينبغي للإنسان أن يطالب بإزالة(9/251)
الغصن الذي في الهواء من غير أن يكون عليه ضرر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» (1) ، فإذا كان الشارع نهاني أن أمنع جاري من وضع الخشب على الجدار، فكيف بالعسبان التي هي بعيدة لا تؤذي ولا يسقط منها ورق مثل النخل؟! ولا يضرني إذا كان العسيب على ملكي، ولأنه من حسن الجوار الذي أمر به الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» (2) ، ولأن ذلك مما جرت به عادة الناس.
لكن لو تدلت الشجرة كلها عليَّ، مثل نخلة كبيرة أصابها عاصف فمالت حتى صارت كلها على بيتي، فلي مطالبته بإزالته؛ لأن هذا يهددني.
ولو أن صاحب الشجرة قال لصاحب الأرض: أنا أصالحك على أن أدفع لك كل شهر كذا وكذا، فهل تصح الأجرة؟
نقول: لا تصح؛ لأن الأغصان تمتد وتكبر فيكون ما تشغله فيما بعد مجهولاً فلا يمكن أن تكون بأجرة، لكن لو فرض أنه آجره إياه على حسب المساحة، وقال: إذا شغل الغصن مساحة متر فبكذا، أو مساحة مترين فبكذا، فالظاهر الصحة؛ لأن هذا ليس فيه محظور شرعي ولا جهالة، وإذا صالحه على أن له نصف
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره (2463) ، ومسلم في البيوع/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (249) .(9/252)
الثمر الذي في هذا الغصن المتدلي فهذا يصح؛ لأن الغصن حتى لو كبر وامتد، فسوف يزيد الثمر، فيصح؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك، وليس فيه غرر كثير.
وَيَجُوزُ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ فَتْحُ الأبْوابِ للاسْتِطْرَاقِ، لاَ إِخراجَ رَوْشَنٍ وَسَابَاطٍ وَدَكَّةٍ وَمِيزَابٍ، وَلاَ يَفْعَلُ ذلِكَ فِي مُلْكِ جَارٍ وَدَرْبٍ مُشْتَرَكٍ بِلاَ إِذْنِ المُسْتَحِقِّ،...........
قوله: «ويجوز في الدرب النافذ فتح الأبواب للاستطراق» الدروب يعني الطرق، تنقسم إلى قسمين: قسم نافذ، وقسم مسدود لا ينفذ، والطريق النافذ ملك للجميع فيجوز أن يفتح باباً للاستطراق في الدرب النافذ، سواء من أول الدرب أو من وسطه، أو من آخره ما دام بيته ممتدّاً من أول الشارع إلى آخره، وما دام هو للاستطراق فهو ملك عام له أن يفتح الباب.
وقوله: «للاستطراق» ، مفهومه أنه إذا جاز فتح الباب للاستطراق ففتح الباب للهواء والإضاءة من باب أولى؛ لأنه لا يضر أحداً؛ ولأنه يجوز أن يهدم جداره حتى لا يبقى إلا نحو قامة الرجل.
إذن له أن يفتح المنافذ الهوائية، وله أن يفتح الأبواب للاستطراق.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يفتحه في مقابل باب جاره أو في غير مقابل باب جاره؛ لأن الطريق ملك للجميع، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يكون أمام باب جاره أو لا، إلا إذا كان الجار يتأذى بفتح باب أمامه، فحينئذٍ لا يحل له أن يفتحه أمام باب بيت جاره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» (1) ، وقال: «والله لا يؤمن، والله لا
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .(9/253)
يؤمن، والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه» (1) .
قوله: «لا إخراج روشن وساباط ودكة وميزاب» أي لا يجوز إخراج الروشن والساباط والدكة والميزاب في الدروب النافذة.
و «الروشن» هو أن يجعل سقفاً لا يتصل بالجدار الآخر.
و «الساباط» أن يجعل سقفاً يتصل بالجدار الآخر.
فلا يجوز أن يخرج على الشارع العام شيئاً زائداً عن ملكه.
ووجه ذلك أن الهواء تابع للقرار، وهذا الطريق ملك لعامة الناس، فلا يجوز أن تخرج شيئاً يكون على هواء هذا الطريق.
وكذلك الساباط، لو كان الإنسان له ـ مثلاً ـ بيتان، يفصل بينهما طريق نافذ، فأراد أن يجعل جسراً بين البيتين فإنه ليس له ذلك؛ لأن الهواء تابع للقرار، والشارع ملك لعامة الناس لا يختص به أحد دون آخر.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ سواء كان في ذلك ضرر أم لم يكن، بل ظاهر كلامه حتى ولو كان في ذلك مصلحة لمن طرق هذا الشارع، مثل أن يكون ظلاً يقي من الشمس ومن المطر، فإنه ليس له ذلك.
والصحيح أنه لا بأس أن يُخْرِجَ ما جرت به العادة، مما لا يضر الناس وبإذن الإمام، فإن كان مما يضرهم فإنه لا يجوز حتى لو أذن من له الولاية على البلد، كرئيس البلدية ـ مثلاً ـ، فلو أذن
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .(9/254)
له أن يخرج هذا الساباط أو الروشن وهو يضر بالناس فإنه ليس له أن يفعله، فإن أخرجه وكان نازلاً بحيث يضرب الراكب أو ما أشبه ذلك فإنه ممنوع.
وقوله: «ودكة» وهي العتبة، أي ليس له أن يخرج عتبة، ولو كان بيته أرفع من الشارع، فإنه لا يحل له أن يخرج عتبة في الشارع؛ لأن الشارع ملك للجميع؛ ولأن العتبة تضيق الشارع وربما تكدم أقدام الناس، لا سيما إذا كان الشارع يتطرق معه أناس كثيرون، فلا يجوز أن يخرج دكة.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان الشارع واسعاً، ولو بإذن من له الإذن في ذلك، وهذه ـ أيضاً ـ يقال فيها ما قلنا في الروشن والساباط، وهو أنه إذا لم يكن في ذلك ضرر بأن كان الطريق واسعاً والعتبة منخفضة، ولا ضرر فيها على أحد وأذن الإمام فله أن يفعل ذلك كما جرت به العادة، أما ما يفعله بعض الناس الآن فيجعل في الشارع الضيق درجاً ربما يصل إلى خمس درجات، أو ست درجات فهذا لا يجوز؛ لأن في ذلك تضييقاً للشارع وضرراً على المسلمين، والشارع ليس ملكاً لأحد، بل هو ملك عام.
وقوله: «وميزاب» وهو المثعب الذي يصب منه الماء من السطوح، فلا يجوز أن يخرجه على الدرب النافذ، إذاً ماذا نصنع؟
الجواب: نجعل المطر يصب في داخل البيت ويخرج من أسفل.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز مطلقاً، سواء كان في ذلك(9/255)
أذية وضرر أم لا، وسواء كان بإذن ولي الأمر في البلد أم لا.
والصحيح خلاف ذلك، وأن له إخراج الميازيب بشرط ألا يحصل بها ضرر؛ لأن هذا عادة الناس حتى في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، الميازيب تكون في الشارع (1) ، وقال شيخ الإسلام: إن استئذان الإمام خلاف السنة، وأن السنة جرت أن الناس يخرجون ميازيبهم بدون استئذان الحاكم، وهذا هو الصحيح والعمل عليه إلى يومنا هذا.
فالصواب أنه يجوز أن يخرج الميزاب، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر، والضرر أن يكون الميزاب نازلاً يضرب رأس الراكب وما أشبه ذلك.
فإن قال قائل: الضرر لا بد أن يكون في الميزاب؛ لأنه إذا جاء المطر فسوف يصب على المارة؟
فيقال: أولاً: هذا ليس دائماً.
وثانياً: الناس في أوقات المطر الشديد، الذي يصب من الميازيب سوف يكونون في البيوت لا يخرجون، وهذا ضرر مغتفر في جانب المصلحة التي تكون للناس.
__________
(1) مما يدل على ذلك قصة قلع عمر ـ رضي الله عنه ـ لميزاب بيت العباس ـ رضي الله عنه ـ وكان مشرعاً على الشارع، فقال له العباس ـ رضي الله عنه ـ: والله ما وضعه حيث كان إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمره عمر ـ رضي الله عنه ـ برده، أخرجه عبد الرزاق (15264) ؛ والحاكم (3/332) ؛ والبيهقي (6/66) ؛ وقال الهيثمي في «المجمع» (4/206) : «رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله» . وضعفه الألباني في «الإرواء» (5/256) .(9/256)
قوله: «ولا يفعل ذلك في ملك جار ودرب مشترك بلا إذن المستحق» «ذلك» المشار إليه كل ما سبق، إخراج الروشن والساباط والدكة والميزاب، لا يفعله في ملك جار إلا بإذنه، ومثاله: بيتي جداره إلى جاري فأردت أن أخرج روشناً فمنعني الجار فيحرم عليَّ إخراجه؛ لأن الهواء تابع للقرار، فجاري ملكه إلى السماء وإلى أسفل الأرض، والساباط من باب أولى؛ لأنه يصل إلى الجدار، والدكة، والميزاب كذلك لا يجوز إلا بإذنه، وهل يجوز أن أفتح نافذة عليه؟
يجوز بشرط ألا يكون بذلك مشرفاً عليه بأن يكون رفيعاً؛ لأنه إذا كان لي أن أنهي الجدار إلى هذا الحد، فأنا إذا فتحت نافذة فقد أنهيت بعض الجدار إلى هذا الحد.
وقوله: «ودرب مشترك» هذا هو النوع الثاني من الدروب، وهو الدرب المشترك الذي ليس بنافذ، فالشارع الذي ليس بنافذ مشتركٌ للجيران وهم أهل الحق فيه، فلا يجوز أن يخرج هذه الأشياء الأربعة التي هي: الروشن، والساباط، والدكة، والميزاب، إلا بإذن المستحق، والمستحقون هم الذين لهم أبواب شارعة على هذا الدرب، وليس الذين لهم بيوت على الدرب؛ فالذي له بيت على الدرب وليس له باب، لا حق له في الدرب، لكن إذا كان له باب فله حق في الدرب، فلا يجوز إخراج هذه الأربعة إلا بإذنهم، فإذا أذنوا فالحق لهم، وإن لم يأذنوا فإنه لا يحل له ذلك، لكن يختلف هذا عن الدرب النافذ بأن الواحد منهم(9/257)
لا يُخرج باباً أدنى من بابه إلا بإذن الآخرين، أي: لو كان أحد هؤلاء المشتركين في الدرب له باب في أوله، فأراد أن يحوله إلى آخره فليس له ذلك؛ لأنه لا يملك من هذا الدرب إلا ما كان محاذياً لبابه أو أدنى منه لفم الدرب.
فلو فرضنا أن هذا الدرب عليه ستة أبواب، بابان في الآخر عند نهاية الدرب، وبابان على اليمين، وعلى اليسار، فأصحاب الأبواب التي في الآخر، هؤلاء لهم حق أن يفتحوا في أي مكان من هذا الدرب، والسبب لأنهم يملكون كل الدرب، فلهم حق في كل الدرب.
وأصحاب الأبواب التي على اليمين واليسار من كان منهم أدنى إلى فم الدرب، فليس له أن ينقل بابه إلى الداخل إلا بإذنهم، وأما ما أراد نقله إلى فم الدرب فله ذلك؛ لأنه أسقط حقه، لكن بشرط ألا يفتحه أمام باب جاره إلا بإذنه؛ لأنه ربما يتأذى.
وهل له أن يفتح باباً للهواء في الطريق المشترك؟
الجواب: نعم، له ذلك ولا يحتاج إلى إذن، والسبب أنه لا ضرر على أهل الشارع؛ ولأن له الحق في أن يهدم من جداره إلى مقدار قامة الرجل، فإخراج النوافذ للهواء لا بأس به.
وَلَيْسَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّسْقِيفُ إِلاَّ بِهِ، وَكَذَلِكَ المَسْجِدُ وَغَيْرُهُ.
قوله: «وليس له وضع خشبه على حائط جاره إلا عند الضرورة» هذه مسألة جديدة، فالجيران لا بد أن يكون بينهم، جدار، وهذا الجدار إما أن يكون لواحد منهم فقط أو يكون مشتركاً، فإذا كان لواحد منهم فهو ملكه، وإذا كان مشتركاً فهو(9/258)
ملك للجميع، وكلام المؤلف الآن فيما إذا كان خاصّاً بأحدهما أي: بأحد الجارين، فهل للثاني أن يضع خشبه على هذا الجدار؟
يقول المؤلف: إذا كان هناك ضرورة فلا بأس وإلا فليس له ذلك إلا إذا أذن المالك، فإنه يجوز مطلقاً سواء اضطر إلى ذلك أم لم يضطر، وسواء كان على الجدار ضرر أم لم يكن؛ لأن الجدار ملك للجار فإذا أذن فلا بأس، ولا أحد يحول بينه وبين ماله، وأما إذا لم يأذن فإنه لا يجوز أن يضع الخشب إلا بشرطين:
الأول: الضرورة إلى وضعه.
الثاني: ألاَّ يكون على الجدار ضرر.
قوله: «إذا لم يمكنه التسقيف إلا به» هذه الضرورة مثل أن يكون الخشب قصيراً لو أنه سَقَّفَهُ على جداره هو لكانت المسافة بعيدة، فلا يمكن التسقيف به لقصر الخشب.
مثاله: حجرة طولها أربعة أمتار وعرضها متران، والعرض هو جدار الجار، والخشب الذي عنده طوله متران ونصف، فلو أراد أن يجعل الخشب على الأمتار الأربعة لا يمكن، إذن لا بد أن يجعله على المترين، والمتران هما الجدار الذي لصاحبه، فنقول: لك أن تضع الخشب على جدار جارك سواء رضي أم لم يرض، فإن قال هل لذلك شرط؟
قلنا: نعم، الشرط ألا يتضرر الجدار بذلك، مثل أن يكون الجدار رهيفاً والخشب ثقيلاً، ويتضرر الجدار، ويخشى عليه من الانهدام فحينئذٍ لا يحل له أن يضعه، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر(9/259)
ولا ضرار» (1) ، لكن إذا كان لا يضره فإنه لا يمنعه ما دام محتاجاً إلى ذلك.
فإذا قال الجار: أخرج عمودين واجعل بينهما جسراً، وضع الخشبة عليهما من داخل بيتك فإنه لا يلزمه؛ لأننا إذا قلنا: يلزمه، لم يبق للحديث الذي ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم معنى من المعاني أبداً، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» ، والنهي هنا للتحريم، وإنما حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم المنع؛ لأن في وضع الخشب مصلحة لصاحب الجدار ومصلحة للجار.
أما مصلحة الجار فظاهرة؛ لأنه يسلم من أن يقيم أعمدة وسقوفاً قوية تحمل الخشب، وأما مصلحة ذلك لصاحب الجدار؛ فلأن الخشب يشد الجدار ويقويه، ويقيه الشمس، والمطر، ففيه مصلحة للطرفين، ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجار أن يمنع جاره من وضع خشبه على جداره، قال أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» (2) ، قال ذلك حين كان أميراً على المدينة، وكلامه ـ رضي الله عنه ـ يحتمل معنيين:
المعنى الأول: «ما لي أراكم عنها» ، أي: عن هذه السنة «معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» ، وخص الأكتاف لأنها موضع التحمل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .
(2) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار أن يغرز خشبه في جداره (2463) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/260)
المعنى الثاني: «ما لي أراكم عنها معرضين» ، أي: تمنعون من وضع الخشب، «والله لأرمين بها ـ أي بالخشب ـ بين أكتافكم» ، يعني لو لم أجد ما أضعها عليه إلا أكتافكم لوضعتها على أكتافكم؛ لأنه كان أميراً، وهذا كقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لمحمد بن مسلمة: «والله لأجرينه ولو على بطنك» (1) ؛ وذلك أن له مُلْكَين وبينهما ملك لجاره، فأراد أن يجري الماء من ملكه إلى ملكه الثاني مارّاً بملك جاره، فمنعه جاره وقال: لا يمكن أن تجري الماء على أرضي، فألزمه عمر ـ رضي الله عنه ـ بذلك، أي: بأن يجري الماء على أرضه؛ لأنه لم تكن هناك مصلحة من المنع، فصاحب الأرض ينتفع فيزرع ويغرس على هذا الساقي الذي يمشي، والجار ـ أيضاً ـ ينتفع، لكن لو فرض أن الجار الذي منع من جريان الماء يريد أن يقيم عليها بيتاً فحينئذٍ له الحق، أما وهي بستان فجريان الماء ينفعها.
ولو قال صاحب الجدار: لا تضع الخشب حتى تسلم نصف قيمة الإيجار، فإنه لا يلزمه أن يسلمه؛ لأن الجدار ملك لبانيه، وهذا الجار إن رضي أن يكون شريكاً له في هذا الجدار ويشتريه منه فله، وإن لم يرض فإنه لا يجبر، وبناء على ذلك فإن ما يعرف عند الناس بالمباناة لا تحل للجار، فبعض الناس إذا بنى بيته وجاء جاره وبنى قال له: أعطني نصف تكاليف الجدار، فهذا حرام عليه؛ لأنه إنما بنى الجدار على أنه ملكه، فما الذي
__________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/746) ؛ وصحح إسناده الحافظ في «الفتح» تحت الحديث (2463) .(9/261)
يُحل له أن يأخذ نصف تكاليفه من هذا الجار؟! نعم تلزمه إن علمنا أن الجار تباطأ في البناء وتأخر من أجل أن يبني الجار.
فالشرط لوضع الخشب ألا يكون على الجدار ضرر، والشرط الذي أشار إليه المؤلف أن يكون الجار محتاجاً إلى وضع الخشب.
قوله: «وكذلك المسجد» أي: أن المسجد كالجار، فإذا احتاج جار المسجد إلى أن يضع خشبه على جدار المسجد، أو أن يغرزها فيه غرزاً، فلا بأس بالشرطين المذكورين وهما الضرورة، وعدم الضرر على الجدار.
ولا يُقال: إن المسجد وقف عام للمسلمين، بل يُقال: إن العلة هي مصلحة الطرفين، وهذا لا يضر المسجد وهو مصلحة للجار.
قوله: «وغيره» أي: كالمدارس والرُّبُط وبيوت الأيتام وما أشبه ذلك من الأوقاف العامة، فإنه يضع خشبه عليها كما يضع على جدار الجار بالشرطين المذكورين، وهما الضرورة إلى وضع الخشب، وعدم الضرر على الجدار.
وظاهر كلام المؤلف أن للجار أن يُعَلِّيَ بناءه على جاره فيجعله ـ مثلاً ـ خمسة طوابق أو ستة طوابق، وجاره ليس له إلا طابق واحد؛ لأن الهواء تابع للقرار وهذا صحيح، فله ذلك حتى لو حجب الشمس والهواء عنه؛ لأن هذا ملكه، لكن إن علمنا أنه قصد الإضرار بجاره فهنا نمنعه؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يُضَار جاره، والمضارة ممنوعة شرعاً، حتى إن الرجل إذا أراد أن(9/262)
يُراجع زوجته التي طلقها حَرُم عليه إذا كان قصده المضارة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .
أما إذا كان لغرض صحيح، كأن يستغل ملكه فيجعله شققاً ويؤجرها فله ذلك.
وَإِذَا انْهَدَمَ جِدَارُهُمَا أوْ خِيفَ ضَرَرُهُ فَطَلَبَ أحَدُهُما أَنْ يُعَمِّرَهُ الآخَرُ مَعَهُ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا النَّهْرُ والدُّولاَبُ والقَنَاةُ.
قوله: «وإذا انهدم جدارهما أو خيف ضرره فطلب أحدهما أن يعمره الآخر معه أجبر عليه» .
«إذا انهدم جدارهما» الضمير يعود على الجارين، أي: هذا جدار مشترك بين أرضيهما، وأقيم على نفقتيهما ثم انهدم الجدار فطلب أحدهما من الآخر أن يُعَمِّره، فقال الآخر: أنا لن أعمره؛ لأنه ليس لي حاجة لإقامة الجدار، فإنه يجبر على ذلك؛ لأنه شريك مع صاحبه فيجبر على عمارة ما كانا شريكين فيه.
فإذا أراد أحدهما أن يهدمه ليعمره بالإسمنت وهو قد عُمِّر بلبن الطين، فهل يجبر؟
الجواب: لا؛ لأن هناك فرقاً بين إصلاح ما فسد، وبين التجميل والتزويق والنقل إلى أفضل، فإصلاح ما فسد يجبر الآخر عليه، كما لو انهدم، أو خيف ضرره بأن يكون مَالَ أو تشقق، أما أن ينقل إلى أفضل فلا يجبر الآخر.
وإذا قال: أنا أريد أن أقوم به ـ والجدار مشترك ـ على نفقتي وامتنع الشريك، يُنظر في هذا فإن كان قصده من الامتناع المراغمة لجاره، وقال أهل الخبرة: إن الجدار إذا أقيم على(9/263)
الطراز الحديث أفضل وأحسن فهنا يجبر؛ لأنه في هذه الحال ليس عليه ضرر.
فإذا قال: اللبن ملكي كيف تأخذونه وتهدمونه؟ قلنا له: إنما نقلناه إلى أحسن وأنت ليس عليك ضرر، فالنفقة ليست عليك والجدار باق على الشركة، فأي ضرر في ذلك؟! وأنت إذا امتنعت لا تريد إلاَّ المراغمة فقط.
فإن قال: أنا لا أريد المراغمة، لكن إذا كان طيناً أمكنني أن أضرب الوتد في الجدار، أما الآن فلا يمكنني، فهذا قد يكون غرضاً، بأن يكون ممن يغسل الثياب ويريد أن يضع أوتاداً على الجدار؛ من أجل أن ينشر عليها الثياب.
والخلاصة: أنه إذا امتنع لغرض صحيح فهنا لا نجبره، أما إذا امتنع مراغمة لجاره، فإنه لا ضرر ولا ضرار.
وقوله: «أو خيف ضرره» بأن يكون الجدار متشققاً ويخشى سقوطه والشقوق عرضية فإنه يخشى منه، وإذا كانت الشقوق طولا فلا يخشى منه وهذا بالنسبة لبيوت الطين، وأما بالنسبة للبيوت المسلحة، فالظاهر أنها كلها عيب، لكن الشقوق العرضية أخطر، إلا إذا كان يوجد جسر فوق، فالظاهر أنه لا يؤثر، فإذا خيف أن يسقط الجدار ففي هذه الحال إذا طلب أحدهما من الآخر أن يعمر أجبر عليه.
قوله: «وكذا النهر» أي: لو كان بين أراضيهما نهر، وذلك بأن فتح على النهر الأم ساقية ينطلق منها الماء، فخربت الساقية(9/264)
وهي مشتركة بين الجارين، فهل يجبر أحدهما الآخر على إصلاحها؟
الجواب: نعم يجبره؛ لأنها مشتركة، والآن خربت ولا بد من إصلاحها، فإن طلب أحدهما من الآخر أن يوسع النهر فهل يجبر؟
الجواب: لا يجبر؛ لأن هذا كمال وليس إصلاح فاسد، فلو اتسع ملك أحدهما واحتاج إلى زيادة ماء، فقال: أنا أريد أن أوسع مدخل الماء حتى يكثر، وقال الآخر: لا، فهل يجبر؟
الجواب: لا يجبر؛ لأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى زيادة الماء، ولا يمكن أن ترهقني بالنفقة، فإن قال الجار: أنا أقوم بالنفقة وأبى، فهل يجبر؟
الجواب: فيه تفصيل، إن كان يقول: أخشى إن زاد مدخل الماء أن يغرقني وأنا لا أتحمل، والنهر يزيد وينقص، فأخشى أن يغرقني، وإذا كان مدخله ضيقاً أمكنني أن أدرأه فأنا لا أوافق، والثاني يقول: أنا أرضي اتسعت وأحتاج إلى زيادة الماء، فينظر في الحقيقة، نقول: إذا كان الاحتمال الذي أبداه الشريك وهو خوف زيادة الماء وإغراق الزرع وارداً فهذا له حق الامتناع، ويقول لصاحبه: افتح نهراً لك، وأما إذا كان غير وارد والنهر مطرد على حال واحدة ولا يخشى منه، فإننا نجبره إذا التزم الشريك بالنفقة.
قوله: «والدولاب» وهو دولاب الماء المعروف، فإذا خرب هذا الدولاب المشترك، وطلب أحد الشريكين من الآخر أن يعمره ألزم بذلك.(9/265)
قوله: «والقناة» وهي الماسورة، يعني إذا كان هؤلاء لهم ماسورة تنطلق من نهر أو بئر وخربت، وطلب أحدهما من الآخر أن يعمرها وجب عليه.
والخلاصة:
أولاً: أن إصلاح الفاسد يُجبر عليه الممتنع.
ثانياً: فعل الأكمل لا يجبر عليه، إلا إذا التزم من أراد إصلاحه بالنفقة، ولم يكن على الآخر ضرر فإنه يجبر.
ثالثاً: إذا أراد نقله لمساوٍ فإنه لا يجبر مطلقاً، حتى ولو التزم الآخر بالنفقة، مثل أن ينقل الجدار بمواد هي المواد الأولى، لكن أراد أن يجعله أبيض بدل أسود أو أحمر بدل أبيض وما أشبه ذلك، فإنه لا يجبر؛ لأنه ليس فيه مصلحة.
قال في الروض (1) : «ومن له عُلوٌ لم يلزمه عمارة سفله إذا انهدم بل يجبر عليه مالكه» ويُتصور هذا، فيمكن لواحد أن يشتري الدور الأعلى، والآخر الدور الأسفل فإذا انهدم الأسفل فإن الأعلى سينهدم، فقال الأعلى للأسفل: اعمر، فقال: لا، بل سأرحل إلى محل آخر فهنا يجبر صاحب الأسفل، ونقول له: إذا كنت لا تريده أقم الأعمدة والجسور والسقف؛ لأنه مالكه، فإذا قال المالك: لك الأرض لا أريدها ولن أعمرها، اعْمُرْ أنت على الأرض، فهنا ننظر أيهما أحسن أن يسكن فوق، أو أسفل؟ فالأعلى أفضل من وجوه، إذاً ما دام الأسفل ليس أحسن مطلقاً لا يجبر عليه بل يعود إلى رضاه، فإن رضي وإلا فله الحق
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/160) .(9/266)
بمطالبته بالبناء، أما لو كان الأسفل أحسن مطلقاً فإننا نلزمه؛ لأنه إذا أبى مع أنه أحسن مطلقاً علمنا أنه يريد بذلك المضارة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، ونقول في مثل هذه الحال: يجبر على القبول وإلا فهو وشأنه.
قال في الروض (2) : «ويلزم الأعلى سترة تمنع مشارفة الأسفل» ، فمثلاً لي بيت مرتفع فيجب أن أبني جداراً يمنع مشارفة الأسفل، وكم ارتفاعه؟ العلماء يقولون: العبرة في ذلك بقامة الرجل المتوسط، فلا بد أن يضع جداراً بحيث إذا وقف الإنسان لا يشرف على جاره.
وإذا كان الجار ليس ملاصقاً لكن بيني وبينه سور، وبيتي يطل عليه فهنا يلزمني أن أضع سترة؛ لأن هذا ضرر على الجيران، ومِثْلُ ذلك النَّوافِذُ، فلا بد أن يكونَ جدارُها رفيعاً، فإن كان غير رفيع فإنه لا يجوز، فإن قال قائل: لن أرفع هذه النوافذ، ولكن سأضع زجاجاً مثلجاً يمنع الرؤية، فقال الجار: هذا الزجاج إن كانت أبوابه متحركة فيمكن تبقى مفتوحة، وإن كانت ثابتة فصحيح ربما يمنع لكن الزجاج قابل للكسر، لو يأتي بَرَد من السحاب ويضرب الزجاج كسره، أو يعبث شخص بالحصى لكسر الزجاج، فأنا أتوقف في هذه المسألة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .
(2) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/161) .(9/267)
بَابُ الحَجْرِ
وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَفَاءِ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ وَحَرُمَ حَبْسُهُ، وَمَنْ مَالُهُ قَدْرَ دَيِنِه لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ وَأُمِرَ بِوَفَائِهِ، فَإنْ أَبَى حُبِسَ بِطَلَبِ رَبِّهِ، فَإِنْ أصَرَّ وَلَمْ يَبِعْ مَالَهُ بَاعَهُ الحَاكِمُ وَقَضَاهُ وَلاَ يُطَالَبُ بمُؤَجَّلٍ.
قوله: «باب الحجر» الحجر في اللغة: المنع والتضييق، ومنه سمي العقل حِجْراً، قال: ـ تعالى ـ: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ *} [الفجر: 5] ، أي: لذي عقل، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل ما لا يليق شرعاً أو عرفاً.
أما في الاصطلاح: فهو منع إنسان من التصرف في ماله، وذمته، أو في ماله فقط.
وهو قسمان: إما لمصلحته أو لمصلحة غيره، أي أن الحجر قد يكون لمصلحة المحجور عليه، وقد يكون لمصلحة غيره، فإن كان لمصلحته فهو حجر في المال والذمة، وإن كان لمصلحة الغير فهو حجر في المال فقط.
فمثلاً إذا قلنا للموصي: لا توص بأكثر من الثلث، أي: حجرنا عليه فيما زاد على الثلث فهذا لمصلحة الغير، فيمنع من التصرف في ماله ولا يمنع من التصرف في ذمته، وإذا حجرنا على السفيه ألا يتصرف في ماله أو ذمته فهذا لمصلحة نفسه، فالمهم أن الحجر تارة يكون لمصلحة الغير، وتارة يكون لمصلحة المحجور عليه نفسه، وله أسباب تتبين في الشرح.
قوله: «ومن لم يقدر على وفاء شيء من دَينه لم يطالب به وحرم حبسه» .(9/268)
قسم المؤلف ـ رحمه الله ـ المدين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من لم يقدر على وفاء شيء من دينه، يعني ليس عنده شيء يفي به، كرجل عليه مائة درهم، لكن ليس عنده شيء، فكيف نعامل هذا؟
يقول المؤلف: «لم يطالب به وحرم حبسه» يعني لا يحل لغريمه أن يطالبه، بل ولا أن نطلبه؛ دليل ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، ولما قال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . قال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] ، إذاً هذا لا يتعرض له ويترك حتى يرزقه الله ويوفي دينه، هذا الذي لا يستطيع وفاء شيء من دينه، فليس عنده شيء أبداً.
وبهذا نعرف أن أولئك الظلمة، الذين يطالبون الغرماء الذين ليس عندهم شيء، لا يخافون الله، ولا يرحمون عباد الله، لا يخافون الله؛ لأنهم عصوا الله، فالله يقول: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، وهؤلاء لم ينظروه، ولم يرحموا عباد الله؛ لأنهم يكلفون العبد ما لا يطيق، وربما أدى ذلك إلى حبسه؛ لأن بعض القضاة قد لا يتصرف تصرفاً حسناً، فيحبس هذا الغريم مع أنه لا يستطيع الوفاء، وما أحسن أن تقرأ في حاشية العنقري كلاماً لابن هبيرة.
وقوله: «وحرم حبسه» حرم على ولي الأمر أن يحبسه، سواء حبسه في السجن العام، أو حبسه في بيته؛ لأن الحبس لا يعني أن يكون في السجن العام، بل قد يحبس الإنسان في بيته ويرسم عليه،(9/269)
ويقال: لا تخرج من البيت؛ لما سبق من الآيات التي ذكرناها.
فلا يحل للقاضي أن يحكم بحبس المطلوب؛ لأن حبسه ليس فيه فائدة بل لا يزيد الأمر إلا شدة، ليدعه يطلب الرزق في أرض الله فلعله أن يوفي، بل ويحرم على القاضي سماع الدعوى في مطالبته متى تبين له أنه فقير، ويجب على القاضي إذا نهى من له الدين عن الطلب وأصرَّ، أن يؤدب هذا المطالب؛ لأنه فعل معصية، وقد قال العلماء: التعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، لكن لو ادَّعى العسرة وهو كاذب فلا بد من بينة، فلو ادعى العسرة وليس هناك قرينة تدل على أنه موسر فإنه يحلف ويخلى، فإن كان هناك قرينة تدل على أنه موسر فللقاضي أن يحبسه.
قوله: «ومن ماله قدر دينه لم يحجر عليه» لا يعني بذلك أن يكون المال قدر الدين سواء بسواء، بل المراد من ماله قدر دينه أو أكثر فإنه لا يحجر عليه، كرجل عليه مائة درهم وبيده مائة درهم، فهذا ماله قدر دينه، فلا يحجر عليه؛ لأنه لا حاجة للحجر.
مثال آخر: رجل عليه مائة درهم وبيده مائتا درهم، فهذا لا يحجر عليه، إذاً مراد المؤلف بقوله: «من ماله قدر دينه» هذا الحد الأدنى، يعني قدر الدين أو أعلى فإنه لا يحجر عليه، ولا يمنع من التصرف في ماله ولكن ماذا نفعل؟
يقول: «وأمر بوفائه» «أمر» مبني لما لم يسمَّ فاعله، فمن الفاعل الآمر؟(9/270)
الجواب: هو ولي الأمر من قاض، أو أمير، أو غيرهما، فإن أبى حبس بطلب رب الدين أي: صاحب الدين، فيحبسه ولي الأمر إما في السجن العام، وإما في بيته، وإما في بيت آخر، المهم أنه يمنع من التصرف، ومن التجول.
قوله: «فإن أبى حبس بطلب ربه» أي: رب الدين، والرب هنا بمعنى الصاحب، فهو يطلق على عدة معانٍ منها الصاحب، يعني إذا طلب صاحب الدين أن يحبس حبس؛ والدليل على الحبس قول النبي عليه الصلاة والسلام: «لَيُّ الواجد ظلم يُحل عرضه وعقوبته» (1) ، «لَيّ» بمعنى مطل، و «الواجد» هو القادر على الوفاء، «عرضه» ، أي: غيبته في الشكوى بأنه مماطل، و «عقوبته» لم يبين نوع العقوبة، فقال بعض العلماء: الحبس، وعندي أن الحديث ينبغي أن يكون على إطلاقه، وأن يراد بالعقوبة ما تجعله يوفي ما عليه، فقد يكون الحبس أنكى له فيبادر بالوفاء، وقد يكون الضرب أنكى، وقد يكون التشهير به أنكى له فيبادر بالقضاء، فالصحيح أن العقوبة مطلقة ترجع إلى اجتهاد القاضي، هذا إذا كان ماله قدر دينه.
فإن لم يطلب وقال للقاضي ـ مثلاً ـ لما رأى أنه متوجه إلى
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في الاستقراض وأداء الديون/ باب لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/222) وأبو داود في القضاء/ باب في الدين هل يحبس به؟ (3628) ، والنسائي في البيوع/ باب مطل الغني (7/316) ، وابن ماجه في الصدقات/ باب الحبس في الدين والملازمة (2427) عن الشريد بن سويد ـ رضي الله عنه ـ، وصححه الحاكم (4/102) ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (5/76) ط/دار الريان.(9/271)
حبسه: لا تحبسه، إذا آل الأمر إلى حبسه فأنا أصبر، فهنا لا يحبس؛ لأن الحق لصاحب الدين ولو شاء أن يبرئه لأبرأه، فإذا كان الحق حقه ولو شاء أن يبرئه لأبرأه فهنا يبرئه من الحبس، فيقول: لا يُحبس اتركه متى أراد أوفى، فإن أصر حبس، وهذه الصورة قد تكون نادرة، لكن ربما تقع من بعض السفهاء أو من بعض من يريد الإضرار بالدائن، المهم يحبس يومين أو ثلاثة أو أكثر.
قوله: «فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه» ولم يذكر المؤلف الضرب، يعني أنه يحبس ولا يضرب، وظاهر كلامه أنه لا يضرب.
وقال بعض أهل العلم: بل يضرب، فيعزر كل يوم، لكن لا يزاد على عدد الجلدات التعزيرية، وهي على المشهور عشر جلدات، كل يوم نجلده عشر جلدات، فيحبس ليلاً ونهاراً ويجلد صباحاً، ويقال له: أوف ما عليك وإذا لم ينفع فيه حبس ولا ضرب، حينئذٍ يبيع الحاكم ماله ويقضي دينه، لكن المؤلف ـ رحمه الله ـ مشى على أنه لا ضرب؛ لأنه لا فائدة، فرجل صبر على الحبس ولم يوف فما الفائدة من ضربه؟ لكن لو رأى ولي الأمر من قاض أو أمير، أن ضربه قد يفيد فله أن يضربه ضرباً غير مبرح، وعلى هذا فنجعل الضرب ليس لازماً بل هو راجع إلى المصلحة.
وظاهر كلام المؤلف أن الحاكم لا يبيع ماله فوراً، بمعنى أنه إذا قيل له: أوف الدين، قال: لا، قلنا: نحبسك، قال:(9/272)
احبسوني، فظاهر كلام المؤلف: أنه لا يباع، وإنما يستعمل معه الحبس، وإلى متى؟ إلى يومين أو ثلاثة أو أربعة، فلم يحدد، بل إلى أن يوفي، وإلا سيبقى في الحبس دائماً، ولا شك أن هذا فيه إضرار بلا مصلحة، إضرار بصاحب الدين من جهة، وإضرار بالغريم المدين من جهة أخرى.
ولهذا لو كان أحد من العلماء يقول: بأنه لا يحبس ولا يضرب، وإنما يتولى الحاكم الوفاء مباشرة مما عنده، لو قيل بهذا لكان له وجه؛ لأن في ذلك مصلحة للطرفين، أما صاحب الحق فمصلحته ظاهرة أنه يسلم إليه الحق، وأما المدين وهو الغريم فالمصلحة في حقه انتفاء الضرر عليه بالسجن أو الضرب، وحينئذٍ نقول: إذا استوفى صاحب الحق حقه، فلا حرج على القاضي أو ولي الأمر أن يؤدب هذا المماطل بحبس، أو ضرب، فيكون هنا التأديب فيه مصلحة، ألا يعود مثل هذا إلى المماطلة، وأما المبادرة بتولي قضاء الدين ففيه مصلحة لصاحب الدين.
وقوله: «فإن أصر ولم يبع ماله باعه الحاكم وقضاه» «باعه» الهاء تعود على المال، و «الحاكم» القاضي، وكلما جاءت كلمة «الحاكم» ، فالمراد به القاضي، لكن لو أنه جَعَلَ هيئةً للنظر في الديون، صارت هذه الهيئة تتولى شؤون الديون، ولا يتولاها الحاكم.
مسألة: هل يجوز أن يشتري الناس والمالك لم يرضَ؟ يجوز، لأنه بيع بحق والبيع لا يصح إذا كان مكرهاً بغير حق، أما إن كان بحق فلا بأس به، ومن ثَمَّ ننتقل إلى مسألة مشكلة(9/273)
وهي ما تأخذه الحكومة تعزيراً، فهل يجوز أن نشتريه إذا عرض للبيع؟ نعم يجوز؛ لأنها أخذت بحق مثل السيارات والأراضي ونحوها.
وقوله: «باعه الحاكم» هذا مقيد بما إذا لم يكن المال عنده من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فلا حاجة لبيعه.
مثاله: رجل يُطْلَبُ منه مائة صاع بر، وعنده مائة صاع بر، إذاً ماله الآن قدر دينه فلا يحجر عليه، ومن جنس دينه فلا يباع، اللهم إلا أن يكون ما في ذمته موصوفاً بصفات لا توجد في هذا البر الذي عنده، فحينئذٍ لا بد من بيعه، سواء كان الذي عنده أطيب أو أردأ، إن كان أردأ فإن صاحب الحق لا يرضى، وإن رضي فلا حرج، وإن كان أطيب فإن المدين لا يرضى وإن رضي فلا حرج.
قوله: «ولا يطالب بمؤجل» يعني أن المدين لا يطلب ولا يطالب ـ أيضاً ـ بمؤجل حتى يحل أجله، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون على شروطهم» (1) ، وصاحب الدين قد رضي بتأجيله، فيجب عليه الانتظار حتى يحل الأجل، فإذا حل الأجل عملنا ما سبق، يعني صار كالحال.
وَمَنْ مَالُهُ لاَ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ حَالًّا وَجَبَ الحَجْرُ عَلَيْهِ بِسُؤَالِ غُرَمَائِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَيُسْتَحَبُّ إِظْهَارُهُ، وَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ الحَجْرِ، وَلاَ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ بَاعَهُ أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئاً بَعْدَهُ رَجَعَ فِيهِ إِنْ جَهِلَ حَجْرَهُ وَإِلاَّ فَلاَ،
قوله: «ومن ماله لا يفي بما عليه حالًّا وجب الحجر عليه» هذا هو القسم الثالث، مثاله: رجل له ألف ريال وهو مطلوب
__________
(1) سبق تخريجه ص (18) .(9/274)
بألفين، فالمال الذي عنده لا يفي بما عليه حالًّا، فماذا نصنع؟
يقول المؤلف: «وجب الحجر عليه» أي: وجب على الحاكم الذي يتولى هذه الأمور الحجر على من ماله لا يفي بما عليه.
قوله: «بسؤال غرمائه» يعني إذا سأل الغرماء الحجر عليه.
قوله: «أو بعضهم» أي: أو سأل بعضهم الحجر عليه وجبت إجابته، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حجر على معاذ ـ رضي الله عنه ـ وباع ماله في دين عليه (1) ، هذا من جهة الأثر، وإن كان فيه مقال.
ومن جهة النظر؛ فلأنه في الحجر عليه حماية لحق الدائن وحماية لذمة المدين، فالدائن حتى يعطى حقه أو بعضه، وحماية لذمة المدين لئلا تبقى ذمته معلقة مشغولة بالدين دائماً، وهذه مصلحة كبرى عظيمة للدائن والمدين، فكان مقتضى النظر الصحيح أن يثبت الحجر.
ومن جهة النظر ـ أيضاً ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل مطل الغني ظلماً (2) ، وهذا وإن لم يكن غنيّاً الغناء التام الذي يوفي، لكن عنده بعض الشيء فيكون ظالماً بمنع الحقوق، والظلم يجب
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (15177) ؛ والدراقطني (4/231) ؛ والحاكم (2/58) ؛ والبيهقي (6/48) عن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ، وأخرجه أبو داود في «المراسيل» (171، 172) ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ورجح إرساله أبو داود وعبد الحق، انظر: «بيان الوهم الإيهام» (311) ؛ و «التلخيص» (1233) .
(2) سبق تخريجه ص (271) .(9/275)
رفعه، ولا سبيل لنا إلى رفعه في هذه الحال إلا بالحجر عليه؛ لأنه لو قال قائل: احبسوه، كما في القسم الثاني، قلنا: ولو حبسناه ليس فيه فائدة؛ لأن المال الذي عنده لا يفي بخلاف القسم الثاني فالمال يفي، أما هنا فلا حاجة، والظلم تجب إزالته، فلهذا وجب الحجر.
ومعنى الحجر أن نمنعه من التصرف في ماله، لا في ذمته، فلا يتصرف ببيع ولا شراء ولا هبة ولا وقف ولا رهن، ولا غير ذلك، فإذا كان صاحب متجر أغلقنا المتجر بحيث لا يتصرف فيه بشيء، ولو صاحب زراعة، منعناه من التصرف في زراعته، المهم أن نمنعه من التصرف في أعيان ماله، حفظاً لذمته ولحق الغرماء.
قوله: «ويستحب إظهاره» أي: إظهار الحجر بوسائل الإعلام، فلان محجور عليه؛ وذلك لفائدتين:
الأولى: ليظهر من له دين عند هذا الرجل؛ لأنه إذا اشتهر أنه حجر عليه فأهل الدين سيأتون.
الثانية: لئلا يغتر الناس فيعاملوه بعد الحجر، ومعلوم أن معاملته بعد الحجر باطلة، يعني لو أن أحداً اشترى منه شيئاً بعد الحجر، فإن الشراء لا يصح ولا ينفذ، فيعلم الناس حتى لا يغتروا بمعاملته؛ لأنه إذا لم يعلم فإنه ربما يغتر الناس ويعاملونه، فيستحب إظهاره لما فيه من الفائدة للمحجور عليه، وللغرماء ولغيرهم من الناس.
قوله: «ولا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر» يعني بعد أن نحجر عليه لا ينفذ تصرفه في ماله، لا ببيع ولا شراء ولا تأجير(9/276)
ولا هبة ولا رهن ولا وقف، فأي تصرف في المال لا ينفذ؛ لأنه محجور عليه فأصبحت أمواله مشغولة بحقوق الغرماء، فصار كالراهن يبيع الرهن، وبيع الرهن ـ كما سبق ـ غير صحيح، وهذه فائدة الحجر، أن نمنعه من التصرف في ماله لحق الغرماء، فهذا محجور عليه لحق غيره.
مثال ذلك: رجل حجرنا عليه وعنده سيارة قد وضعها في المعرض قبل الحجر عليه، فهل يمكن أن يبيعها؟
الجواب: لا يمكن؛ لأنه إذا حجر عليه لا يمكن أن يتصرف.
وقوله: «في ماله» يؤخذ منه أنه يصح تصرفه في ذمته، بأن يشتري شيئاً بثمن مؤجل، وهو كذلك، فلو اشترى المحجور عليه في ذمته لم نمنعه؛ لأن المال الذي حجر عليه لا يتضرر بذلك، ولكن البائع لا يدخل مع الغرماء فيما حجر عليه فيه هذا الشخص، فإذا اشترى من شخص سيارة فنقول: الشراء صحيح، لكن لا ينقد ثمنها من المال الذي عنده، وتكون السيارة للمحجور عليه.
وصاحب السيارة لا يدخل مع الغرماء في ماله السابق؛ وذلك لأنه حجر عليه قبل هذا التصرف.
وقوله: «بعد الحجر» يؤخذ منه أن تصرفه قبل الحجر صحيح، ولو أضر بالغرماء، فلو كان عليه دين وماله أقل من دينه، وتصرف فيه بالهبة بأن وهب من وجد من الناس، فتصرفه صحيح.(9/277)
مثاله: إنسان عليه عشرة آلاف، وليس عنده إلا ثمانية آلاف، فذهب يتبرع للناس، فكل من وجد تبرع له، فنقول: لا يصح التبرع، مع أنه بالغ عاقل رشيد؛ لأن المال الآن تعلق به حق الغرماء.
فظاهر كلام المؤلف أن تصرفه صحيح ولو أضر بالغرماء ولكنه آثم، وهذا هو المذهب.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن تصرفه قبل الحجر، إن كان مضراً بالغرماء فهو غير صحيح ولا نافذ، وإن كان غير مضر فهو صحيح ونافذ، وهذا أصح؛ ووجهه أن تصرفه في ماله تصرفاً يضر الغرماء حرام ـ حتى على المذهب ـ والشيء الحرام لا يجوز أن ينفذ؛ لأن تنفيذ ما حرم الله مضادة لله ـ عزّ وجل ـ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط» (1) ، ولهذا سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن المدين، هل يتصدق أو لا؟ قال: بالشيء اليسير كالخبزة وشبهها، وأما ما يضر بالغرماء فلا يجوز، على أننا نرى أنه لا يجوز أن يتصدق ولو بالقليل ما دام عليه دين أكثر مما عنده من المال؛ لأن القليل، مع القليل كثير، فإذا قلنا تصدق ـ مثلاً ـ بدرهم على هذا الفقير، فجاء فقير آخر تصدق بدرهم وهلم جراً، فصار القليل كثيراً فالمنع أولى؛ ولأننا إذا منعناه من الصدقة، وقلنا: لا يمكن أن تتصدق، صار ذلك أشحذ لهمته في وفاء دينه؛ لأن الإنسان قد لا يحتمل أن يبقى لا يتصدق.
__________
(1) سبق تخريجه ص (100) .(9/278)
ولو أراد أن يعتمر وعليه دين أكثر من ماله، ومعه مال الآن يستطيع أن يعتمر به، فإننا نقول: لا تعتمر، وهذا حرام عليك، قال: ما أديت الفريضة، قلنا: لا فريضة عليك؛ لأن من شرط وجوب العمرة والحج ألا يكون على الإنسان دين، فليس عليك فريضة الآن، قال: زملائي يحجون، قلنا: ولو كان، فلا يمكن حتى توفي الدَّين، فإذا قال: يريدون أن أذهب معهم مجاناً، فهذا فيه تفصيل:
إن كان يمنعه من عمل يكسب به فلا يجوز، وإن كان لا يمنعه وهو إنسان عاطل ليس عنده عمل، أو جاءت الإجازة ـ مثلاً ـ فلا حرج؛ لأنه هنا لا يضر بالغريم في شيء.
والعجب أن بعض الناس ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ تكون عليهم الديون ويقومون بإكرام الناس ودعوتهم كما يفعل الغني، هذا خطأ! وهو آثم في ذلك؛ لأن قضاء الدين واجب، ومثل هذه الأمور مستحبة وليست بواجبة؛ لكن أكثر الناس لا يعقلون هذا الأمر ويستهينون بأمر الدَّيْن، مع أن أمر الدَّيْن عظيم جدّاً، حتى إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يفتح الله عليه كان إذا قدمت إليه جنازة وعليها دين يمتنع من الصلاة عليها (1) ، وهذا أمر عظيم، الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يشفع له! وكذلك ـ أيضاً ـ الرجل يقتل في سبيل الله، تكفر الشهادة كل شيء إلا الدَّين، ولهذا لما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشهادة قال: «إنها تكفِّر كل شيء» ، فانصرف
__________
(1) سبق تخريجه ص (182) .(9/279)
الرجل فناداه فقال: «إلا الدَّين أخبرني بذلك جبريل آنفاً» (1) ، فالتهاون بالدين ليس من العقل ولا من الشرع أيضاً.
والخلاصة الآن: يحجر على المدين إذا كان ماله أقل من دينه، لكن بشرط سؤال الغرماء أو بعضهم، فإن لم يسألوا فلا حرج إذا لم يحجر عليه، لكن الصحيح أنه محجور عليه شرعاً، لا حكماً، والدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مطل الغني ظلم» ، (2) والتبرع بماله يؤدي إلى المطل، وعدم الوفاء، فيكون ذلك ظلماً، لكن يفترق عن المحجور عليه حكماً، بأن هذا يصح أن يتصرف في ماله بغير التبرع، فيجوز أن يتصرف لكن لا يتبرع فيبيع ويشتري ـ مثلاً ـ ولا حرج، فهذا هو الفرق.
ولهذا نقول للمدين الذي ماله أقل من دينه ولم يحجر عليه: بع واشتر ليس ثمة مانع، لكن لا تتصدق ولا تتبرع، وإذا جاءه صاحب له وأراد أن يبيع عليه ما يساوي عشرة بثمانية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا تبرع في الواقع.
قوله: «ولا إقراره عليه» يعني لا يصح بعد الحجر أن يقر على شيء من ماله الذي بيده، ويصح إقراره في ذمته.
مثال ذلك: لما حجرنا عليه قال: هذه السيارة لفلان، فلا يقبل إقراره على المال، لكن يقبل في ذمته وكيف ذلك؟ نقول: أما السيارة الآن فإنها تباع ويوفى منها الدين، وأما الذي أقر له
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد/ باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدَّين (1885) عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) سبق تخريجه ص (271) .(9/280)
بالسيارة فيطالبه بعد فك الحجر عنه، ويقول: أعطني قيمة السيارة، فإقراره على عين ماله لا يقبل.
والحكمة من أنه لا يقبل؛ لئلا يتواطأ الغريم وآخر على الإقرار، بأن هذا الشيء للآخر؛ من أجل ألا يباع في دينه.
مثاله: إنسان حجرنا عليه وعنده سيارة تساوي خمسين ألفاً، فجاءه صاحب له فقال: يا فلان أقر بأن السيارة لي؛ من أجل ألا تباع في الدين، هذا وارد لا شك، ولهذا يسد الباب.
كذلك لو قال لشخص: إن له علي ألف درهم في ذمتي، بعد أن حجرنا عليه، فهنا لم يقر بعين وإنما أقر بدين.
قلنا: لا يقبل بمعنى أنه لا يدخل مع الغرماء، ولكن يطالب بعد فك الحجر عنه؛ لأن التهمة حاصلة، فقد يأتي إنسان صاحباً له ويقول: أنت عليك دراهم للناس، أقر لي بشيء حتى أشاركهم، وإذا أخذته أعطيتك إياه، وهذا وارد، فإننا نقول: لا يقبل إقراره بالنسبة لمشاركة الغرماء، أما بالنسبة لبقاء الدين في ذمته فهو باق، ولهذا قال: «ولا إقراره عليه» أي: على ماله، يعني على أعيان ماله لا يقبل.
قوله: «ومن باعه أو أقرضه شيئاً بعده» أي: بعد الحجر.
قوله: «رجع فيه» أي: فيما باعه أو أقرضه.
قوله: «إن جهل حجره وإلا فلا» يعني إنسان باع على المحجور عليه شيئاً وهو لا يعلم ـ والمراد أنه باعه في ذمته؛ لأنه(9/281)
سبق أنه لو باعه بماله لم يصح ـ ثم علم أنه محجور عليه، فإننا نقول له: ارجع بمالك ولا ضرر؛ لأن التصرف معه بعد الحجر غير نافذ، حتى لو فرض أن هذا المحجور عليه استعمله يومين أو ثلاثة أو أكثر، فيكفيك أن يرجع إليك عين مالك.
مثال هذا: رجل باع على هذا المحجور عليه سيارة بخمسين ألفاً، وهو لا يدري أنه محجور عليه ثم علم، فنقول: خذ السيارة ما دمت لم تعلم، فإن كان عالماً فإنه لا يرجع وتدخل السيارة في دينه، تباع وتوزع على الغرماء، ولا يدلي مع الغرماء؛ لأن هذا التصرف وقع بعد أن منع هذا من التصرف.
وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ، أَوْ أقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ جِنَايَةٍ تُوجِبُ قَوَداً أَوْ مَالاً صَحَّ وَيُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ عَنْهُ، وَيَبِيْعُ الحَاكِمُ مَالَهُ وَيُقَسِّمُ ثَمَنَهُ بَقَدْرِ ديونِ غُرَمَائِهِ،
قوله: «وإن تصرف في ذمته» المحجور عليه لا يصح تصرفه في عين ماله، فإذا حجرنا على الرجل لوجود دين عليه أكثر مما معه فإنه لا يمكن أن يبيع شيئاً من ماله ولو قلّ، فلا يمكنه أن يبيع قلماً، ولا ساعة، ولا غيره؛ لأن أعيان ماله تعلق بها حق الغرماء، لكن إن تصرف في ذمته فلا بأس، ومعنى تصرفه في ذمته أي: لو استقرض من شخص شيئاً فلا حرج، فهذا الرجل الذي حجرنا عليه لو احتاج إلى مال واستقرض من غيره فلا حرج، فإذا كان عليه دين يبلغ عشرة آلاف، والمال الذي عنده يساوي ثمانية آلاف، فإننا نحجر عليه ولا يتصرف في ماله، فإذا استقرض من شخص مالاً فالقرض هنا صحيح؛ لأنه لم يتصرف في المال الذي حجرنا عليه فيه وإنما يتصرف في ذمته، وكذلك ـ أيضاً ـ لو اشترى شيئاً لكن لم يشتر بعين ماله، كما لو اشترى من شخص بيتاً أو سيارة فلا بأس؛ لأن الحجر عليه(9/282)
إنما هو في أعيان المال فقط، أما الذمة فليس عليها حجر.
قوله: «أو أقر بدين» أي: حال الحَجْر أقر بدَين، يعني أن هذا الرجل الذي عليه عشرة آلاف، وعنده ثمانية وحجرنا عليه، بعد الحجر قال: في ذمتي لفلان أربعة آلاف، فإننا لا نقبله على المال الموجود نقبله في ذمته، فنقول: الآن ثبت في ذمتك للذي أقررت له أربعة آلاف، لكن لا تؤخذ أربعة الآلاف من المال؛ لوجهين:
الأول: أن هذا التصرف بعد الحجر والتصرف بعد الحجر لا يمكن أن يصح فيما يتعلق بالمال.
الثاني: أن هذا المدين ربما يتفق مع شخص ويقول: سأقر لك بخمسين ألف ريال من أجل أن يشارك الغرماء، فإذا وزعت الدراهم وأخذ هذا المُقَرُّ له الدراهم، أعادها على المحجور عليه.
قوله: «أو جناية توجب قوداً» أي: أقر بجناية توجب قوداً، فقال: إن عبده قطع يد إنسان من المفصل، أو أقر بأنه قطع يد إنسان من المفصل واختار المجني عليه الدية.
فكلمة «توجب قوداً» تشمل ما إذا أقر على نفسه بجناية توجب قوداً فإنه يصح، لكن لا يطالب بالدية إلا بعد فك الحجر.
والجناية التي توجب قوداً مثل أن يقر أنه قطع يد إنسان من المفصل عمداً، فهذه جناية توجب القود وهو القصاص، فنقول: الإقرار صحيح، لكن المُقَرَّ له إذا اختار الدية لا يشارك الغرماء؛(9/283)
لأن هذا الإقرار بعد الحجر ولا يطالبه إلا بعد فك الحجر، ما لم يطالب بالقود، فإن طالب بالقود فلا بأس أن يقاد، بأن قال المقر له: أنا أريد أن يقتص منه وتقطع يده، قلنا: لا بأس؛ لأن هذا لا يتعلق بماله.
قوله: «أو مالاً صح» الجناية التي توجب المال، مثل القطع من دون المفصل، يعني لو قطعه من الذراع من دون المفصل فلا قود فيه، وإنما يجب المال، والمال إذا كان في الإنسان شيئان فإن في أحدهما نصف الدية، فهذا قطع يده من نصف الذراع فلا قود ولكن فيه نصف الدية، فإذا أقر بذلك يقبل الإقرار، ولا يطالب به إلا بعد فك الحجر.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن تكون الجناية جديدة أو قديمة، فلو فرض أن هذا الرجل الذي أقر المحجور عليه بأنه هو الذي قطع يده، أن يده قد برئت منذ زمن والحجر ليس له إلا عشرة أيام فقط، فهنا نعلم أن القطع كان قبل الحجر، وأن الدية وجبت قبل الحجر، لكن نقول: شرط وجوب الدية هو الإقرار ولم يكن إلا بعد الحجر، واحتمال أن يكون المحجور عليه كاذباً في إقراره وارد، فالمهم أنه لو أقر بجناية توجب قوداً أو مالاً فالإقرار صحيح، لكن لا يطالب به إلا بعد فك الحجر.
وكذلك لو كان له عبد وأقر بأن عبده جنى، والعبد من جملة المال يباع في الدين، فإننا لا نقبله إلا بعد فك الحجر، أما الآن فلا.(9/284)
قوله: «ويطالب به بعد فك الحجر عنه» أي: بما أقر به بعد فك الحجر، ويفك الحجر إذا أعطينا الغرماء ما وجدوه من ماله، فإذا قسم ما وجدنا من ماله على الغرماء فقد انتهى الحجر، فيطالب بما أقر به ويطالب بما ثبت في ذمته، فإن حجرنا عليه مرة ثانية شارك من أقر لهم غرماءه الأولين، فالأحكام التي تترتب على الحجر هي:
الأول: لا ينفذ تصرفه في ماله.
الثاني: أن إقراره بعد الحجر لا يصح على ماله، ولكن يصح في ذمته ويطالب به بعد فك الحجر.
قوله: «ويبيع الحاكم ماله» هذا هو الحكم الثالث، الحاكم أي: القاضي، وهل المراد أن الحاكم نفسه يتولى بيعه فيقف في السوق ويقول: من يشتري هذا، أو يأمر من يبيع؟
الجواب: الثاني؛ لأن الحاكم عادة ـ الذي هو القاضي ـ لا يقف في الأسواق يقول: من يشتري هذا المال؟ لكن يأمر من يبيع ماله، أي: مال المحجور عليه، لكن بشرط ألا يكون ماله من جنس الدين، فإن كان من جنس الدين فإنه لا يبيعه؛ لأنه لا حاجة للبيع حينئذٍ، ولأن البيع قد يضر هذا المحجور عليه، فربما يباع الشيء بأقل من قيمته، والبيع يحتاج إلى نقل وتفريغ وأجرة دلاَّل، وهذا ضرر على المحجور عليه.
قوله: «ويقسِّم ثمنه بقدر ديون غرمائه» أي: ثمن المبيع يقسم بقدر ديون الغرماء، ولا فرق بين ما ثبت قريباً وما ثبت(9/285)
بعيداً، بمعنى أننا لا نقدم الدين الأول، على الدين الثاني.
وكيفية ذلك أن تَنْسِبَ الموجود للدين، فما حصل من النسبة فهو لكل واحد من دينه بقدر تلك النسبة.
مثال ذلك: الدَّيْنُ عشرة آلاف ريال والموجود ثمانية، انسب الثمانية إلى العشرة تكن أربعة أخماس، فلكل واحد من الغرماء أربعة أخماس ماله، فمن له ألف نعطيه ثمانمائة، ومن له مائة نعطيه ثمانين، وإذا كان دين أحدهم خمسة ريالات فإننا نعطيه أربعة ريالات وهلم جرّاً؛ لأن النسبة هكذا تكون.
وَلاَ يَحِلُّ مُؤَجَّلٌ بِفَلَسٍ وَلاَ بِمَوْتٍ إِنْ وَثَّقَ وَرَثَتُهُ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ وَإنْ ظَهَر غَرِيمٌ بَعْدَ القِسْمَةِ رَجَعَ عَلَى الغُرَمَاءِ بقِسْطِهِ وَلاَ يَفُكُّ حَجْرَهُ إِلاَّ حَاكِمٌ.
قوله: «ولا يحل مؤجل بفلس» يعني إذا كان على الإنسان دين مؤجل وحجر عليه فهل يحل الدين أو يبقى على أجله؟
يقول المؤلف: إنه لا يحل فيبقى على أجله ويطالب إذا حل الأجل.
مثال هذا: إنسان استدان من شخص ديناً لمدة سنة، وفي أثناء السنة حجر على المدين، فجاء صاحب الدين ليطالب مع الغرماء، فنقول: لا حق لك؛ لأنه لم يحل دينك المؤجل؛ لأن الأجل حق للمدين، وحق المدين لا يسقط بفلسه.
فإذا قال صاحب الدين المؤجل: أنتم لما حجرتم عليه سوف تبيعون ماله، ولا يبقى لي شيء، فإننا نقول: لا؛ لأنه لا حق لك فيه، بل أنت على حقك، وربما إذا حل دينك يأتي الله تعالى برزق.
قوله: «ولا بموت» كذلك لا يحل المؤجل بموت، أي موت المدين إلا أن المؤلف استثنى فقال:(9/286)
«إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء» فإن لم يوثقوا حل.
مثال هذا: رجل عليه عشرة آلاف ريال تحل بعد سنة، ثم مات الرجل فهل يحل الدين؟
الجواب: لا يحل؛ لأن المال انتقل إلى الورثة بأعيانه وأوصافه، ومن أوصافه أنه مؤجل، فالحق للورثة الآن فإذا قالوا: لن نوفيك؛ لأن دينك لم يحل، فالقول قولهم، ولكن اشترط المؤلف «إن وثق ورثته برهن أو كفيل مليء» يعني إذا قالوا: حقك الآن لم يحل ولا تطالبنا بشيء.
فإذا قال: أخشى أن تقتسموا المال ويضيع حقي، قالوا: لك هذا البيت رهناً، والبيت يساوي عشرين ألفاً، والدين عشرة آلاف، وهذا الرهن يكفي للدين، فإذا لم يرهنوه شيئاً، وقال: قدموا لي كفيلاً، قالوا: هذا فلان يكفل دينك، نظرنا فإن كان مليئاً لم يحل الدين، وإن كان غير مليء حل الدين.
والمليء هو القادر على الوفاء بماله وقوله وبدنه.
فالمليء بماله أن يكون عنده أموال تكفي لهذا الدين.
والقادر ببدنه أن يكون ممن يمكن إحضاره لمجلس الحكم عند التحاكم.
والقادر بقوله ألا يكون مماطلاً، فيقول: غداً بعد غد، ويماطل، فإذا أتوا بكفيل غني لو أبى أن يوفي حوكم فالدين لا يحل.
وعلم من قوله: «أو كفيل مليء» أنهم لو جاؤوا بكفيل غير(9/287)
مليء فإن الدين يحل؛ لئلا يضيع حق الدائن، فإذا جاؤوا إليه بكفيل، والكفيل لا يملك إلا ألف ريال، والدين عشرة آلاف، فإنه لا يكفي؛ لأنه ليس مليّاً بماله، وإذا أتوا بكفيل عنده أموال كثيرة، لكنه مماطل لا يكاد يخرج الحق منه، فهذا ـ أيضاً ـ لا يكفي في إحرازه.
فلو أتوا بإنسان غني وعنده مال وغير معروف بالمماطلة، لكن لو ماطل لم نتمكن من إحضاره إلى القضاء، إما لأنه ذو سلطان لا يمكن أن يؤتى به إلى القضاء؛ وإما لأنه قريب للإنسان يخجل أن يجر قريبه إلى القضاء كأبيه ـ مثلاً ـ فهنا نقول: هذا الكفيل لا يكفي فيحل الدين؛ لئلا يضيع حق الدائن، وعلى هذا فإذا توفي رجل وعليه دين لآخر يحل بعد سنة، وجاء صاحب الدين يطالب الورثة، ففيه تفصيل:
إن أعطوه رهناً يكفي، أو أقاموا كفيلاً مليئاً فإن الدين لا يحل، وإلا فإن الدين يحل، ويطالب صاحب الدين الورثة بدينه.
بقي أن يقال: إذا كان هذا الدين ثمن مبيع، فالغالب أن الدين إذا كان ثمن مبيع سوف يزيد على الثمن الحاضر، فإذا كنت أبيع هذه السيارة بعشرة آلاف اليوم، سأبيعها إذا كان الثمن مؤجلاً باثني عشر ألف مثلاً.
مثاله: رجل اشترى سيارة من شخص باثني عشر ألف إلى سنة، وثمنها الحاضر عشرة آلاف ثم مات يوم شرائه، ولم يكن عند الورثة رهن يحرز، ولم يأتوا بكفيل، فحل الدين، فهل للدائن أن يأخذ جميع الدين، أو لا يأخذ إلا ثمنه الحاضر؟(9/288)
الجواب: على المذهب، أنه يحل بكامله ولا ينزل منه شيء؛ لأنه ثبت في ذمة الميت اثنا عشر ألفاً، والميت لو كان حيّاً لم يوف إلا بعد سنة.
لكن لو قيل: بأنه إذا مات بمثل هذه السرعة في يومه، فينبغي أن يثبت له قيمة السيارة في اليوم الحاضر؛ لأن السعر لم يتغير، أو يقال له: خذ سيارتك لم يأتها شيء.
فالخلاصة الآن: إذا أفلس الرجل المدين فإنه لا يحل دينه ويبقى مؤجلاً.
وإذا مات المدين، فإن فيه تفصيلاً: فإن وثق الورثة من له الدين، برهن يكفي، أو أتوا بكفيل مليء فالدين باق لا يحل؛ لأنه لا ضرر على صاحب الدين، وأما إذا لم يأتوا برهن أو لم يأتوا بكفيل مليء، فإنه يحل الدين؛ لئلا يضيع حقه.
بقي علينا الإشكال الذي أوردناه، هل يحل الدين بكامله، أو يخصم منه ما كان زائداً على الثمن الحاضر؟
فالمذهب أنه يحل الدين بكامله؛ لأنه دين ثبت في ذمة الميت فيبقى على ما هو عليه، والذي ينبغي أن يقال: إنه لا يحل الدين بكامله؛ لئلا نظلم الورثة.
قوله: «وإن ظهر غريم بعد القسمة رجع على الغرماء بقسطه»(9/289)
أي: بعد قسمة ماله، يعني حجرنا على الرجل وقسمنا ماله ولم يبق عنده شيء، ظهر بعد ذلك غريم لم يعلموا به من قبل، وقد سبق دينُهُ الحَجْرَ عليه، قال المؤلف: «رجع على الغرماء بقسطه» وما قسطه؟ ننظر نسبة دينه إلى ما أخذه الغرماء، فإذا وجدناه نصف ما أخذه الغرماء، يرجع على كل واحد بنصف ما أخذ، ولو الربع يرجع على كل واحد بربع ما أخذ.
مثال ذلك: الدين ثمانية آلاف والموجود ستة آلاف، قسمنا الستة بين الغرماء، ثم ظهر غريم دينه أربعة آلاف، فإنك تضمها إلى الدين السابق فيكون مجموع الدين اثني عشر ألفاً، ونسبة الدين الذي ظهر إلى مجموع الدين الثلث، فيرجع على كل واحد بثلث نصيبه.
قوله: «ولا يفك حجره إلا حاكم» أي: حجر المحجور عليه لفلس لا يفكه إلا حاكم، والتعليل: لأنه ثبت بحكم الحاكم، وما ثبت بحكم الحاكم لا يرتفع إلا بحكمه.
فلا نقول: إننا إذا قسمنا ماله بين غرمائه انفك الحجر؛ بل لا بد أن يفكه الحاكم، وعلى الحاكم أن يبادر بفك الحجر عنه فلا يماطل، فمثلاً نحن قسمنا ماله الموجود بين الغرماء يوم السبت، فلا يجوز للقاضي أن يؤخر فك الحجر إلى يوم الجمعة مثلاً؛ لأن في ذلك ضرراً عليه، بل نقول: يجب أن يفكه فور قسمته.(9/290)
فصلٌ
وَيُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ والصَّغِيرِ والمَجْنُونِ لِحَظِّهِمْ وَمَنْ أعْطَاهُمْ مَالَهُ بَيْعَاً أَوْ قَرْضَاً رَجَعَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ أتْلَفُوهُ لَمْ يَضْمَنُوا،
قوله: «ويحجر على السفيه والصغير والمجنون لحظِّهم» هذا هو القسم الثاني من أقسام الحجر، وهو المحجور عليه لحظِّ نفسه، وهم ثلاثة:
السفيه: وهو الذي لا يحسن التصرف في المال، فهو بالغ عاقل لكن لا يحسن التصرف في المال، فيذهب يشتري به ما لا نفع فيه ولا فائدة.
الصغير: وهو الذي لم يبلغ.
المجنون: وهو فاقد العقل.
فهؤلاء الثلاثة يحجر عليهم، فلا يمكنون من التصرف في مالهم، لكن لحظهم لا لحظ غيرهم، فإذا كان السفيه مراهقاً حجرنا عليه من وجهين، هما: السفه، والصغر، ولكن لا بأس أن نعطيه ما يتصرف به مما جرت به العادة لنختبره؛ لأن الله تعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، بمعنى أننا لا نحجر عليه حجراً تاماً، بل نعطيه ما يتصرف به بقدره، حتى نعرف أنه يحسن التصرف فإذا بلغ أعطيناه ماله.
والمجنون هل نعطيه شيئاً للاختبار؟
الجواب: لا؛ لأنه مجنون، فلو أعطيناه أيَّ شيء فسوف يفسده.
والسفيه البالغ كالمراهق، بمعنى أننا لا نمكنه من التصرف في ماله كما يريد، ولكن نعطيه شيئاً مما جرت به العادة من الأشياء اليسيرة.(9/291)
وأطلق المؤلف فلم يقل: يحجر عليهم في أموالهم أو في ذممهم، فهؤلاء محجور عليهم في الأموال، بمعنى أنهم لا يتصرفون في أموالهم، وفي الذمم بمعنى أنهم لا يتصرفون في ذممهم، فلا يستقرضون ولا يشترون شيئاً بدين؛ لأنهم محجور عليهم في المال والذمة.
وقوله: «لحظهم» هذه إشارة إلى الحكمة من الحجر عليهم وهو حظهم ومنفعتهم، فلسنا نحجر على هؤلاء من باب التضييق ولكن من باب المصلحة.
قوله: «ومن أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً رجع بعينه وإن أتلفوه لم يضمنوا» «من أعطاهم» «من» اسم شرط، واسم الشرط يدل على العموم، يعني أيَّ إنسان أعطاهم ماله بيعاً أو قرضاً رجع بعينه، وإن أتلفوه لم يضمنوا.
مثال ذلك: رجل باع على السفيه ساعة ثم إن السفيه أتلفها، فهل يصح البيع؟
الجواب: لا يصح، فإن كان أخذ ثمنها من السفيه وجب عليه رده، وهل يضمنها هذا السفيه؟
الجواب: لا يضمنها؛ لأن الرجل هو الذي سلطه على ماله فلا يضمن، وكذلك لو جاء إنسان سفيه لشخص فقال: أقرضني مائة ريال، وهو يعرفه فقال: هذه مائة ريال، فلو أتلف هذا السفيه مائة الريال فإنه لا يضمنها، لكن إن بقيت المائة في يده فلمن أقرضه إياها أن يأخذها منه؛ لأن هذا التصرف غير صحيح،(9/292)
وإذا قدر أن هذا السفيه اشترى بها حاجة، فهل يرجع عليه بها؟
الجواب: نعم يرجع؛ لأن البدل له حكم المبدل، فإذا جاء هذا السفيه إلى شخص، وقال: أقرضني مائة ريال، قال له: هذه مائة ريال، فذهب واشترى بها ساعة، فهل يرجع الذي أعطاه المائة ريال بالساعة أو لا؟
الجواب: يرجع؛ لأنها بدل ماله، لو وجد ماله عند السفيه لأخذه، فكذلك إذا وجد بدله، أما لو اشترى هذا السفيه بالمائة ريال حلوى وأكلها، أو بطيخاً وأكله، أو عمل بها وليمة دعا إليها أصحابه وأكلها، فإنه لا يضمن؛ لأنه هو الذي سلطه على ماله وهذا سفيه، فكيف تعطي مالك للسفهاء؟!
ومثل ذلك الصغير، فلو جاء الصغير وقال لشخص: سلفني عشرة ريالات، فقال له: خذ هذه العشرة، فأخذها الصغير واشترى بها أشياء وأتلفها فلا يضمن الصغير، لكن لو وجد العشرة بيده، أخذها منه؛ لأنها عين ماله.
ولو جاء الصغير وقال لرجل: إن أبي يقول لك: من فضلك أقرضني مائة ريال، فادعى أن أباه أوصاه بذلك، فأقرضه، ثم إن الصبي أتلفها، هل يضمن؟
الجواب فيه تفصيل: إن صَدَّق الوالد ابنه فإن الأب يضمن؛ لأن الولد قبضها وكيلاً عن أبيه، فإذا تلفت بيد الولد كأنما تلفت بيد أبيه، وإن قال: لم أرسله ولا علمت بذلك، فلا ضمان على الصبي؛ لأن هذا الرجل هو الذي سلط الصغير على ماله.
والذي قررناه هو مقتضى كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ لكن(9/293)
فيه إشكال؛ لأنها جرت العادة في مثل هذا أن الإنسان يقول لابنه، الذي لم يبلغ بأن يكون مراهقاً، أو له إحدى عشرة سنة أو ما أشبه ذلك: يا بني اذهب لجارنا، وقل له: أقرضني مائة ريال مثلاً، فهنا لا شك أن الرجل لم يعطه مائة ريال إلا وهو واثق من أن أباه قد أوصاه، وإلا لم يعطه، فهذه المسألة عندي فيها توقف، وهو أنه إذا جرت العادة بأن صاحبه يرسل إليه ولده ليستقرض منه، فينبغي أن يقال: إنه يضمن، لكن في هذه الحال الذي يضمن هو الوالد؛ لأن الرجل إنما أقرضه بناءً على أن أباه أرسله.
هذا إذا كانت العادة جارية بينهما مطردة، أما إذا لم تكن العادة جارية مطردة فإن هذا الصغير لا يضمن، ووالده ـ أيضاً ـ لا يضمن، إذا كذبه.
وقوله: «ومن أعطاهم» ذكرنا أنها عامة، فإذا كان الذي أعطاهم مثلهم يعني صغيراً أعطى صغيراً، وتلف المال عند الصغير، فهل نقول: عليهم الضمان؛ لأن عطية الصغير هنا غير معتبرة، فكأن الصغير الذي أعطي المال أتلفه بدون إعطاء؛ لأن هذا الإعطاء غير معتبر لكونه ممن لا يصح تصرفه؟ أو نقول: إن هذا الصغير لما سلط الصغير على المال فإنه لا ضمان؟ الأقرب الضمان؛ لأن حق الآدمي مضمون بكل حال، وإعطاء الصغار لمثلهم لا عبرة به.
وَيَلْزَمُهُمْ أرْشُ الجِنَايَةِ، وَضَمَانُ مَالِ مَنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ تَمَّ لِصَغِيرٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً،
قوله: «ويلزمهم أرش الجناية» يعني إذا جنى هؤلاء الثلاثة فإن أرش الجناية ـ أي: ما تقدر به الجناية ـ لازم لهم، سواء(9/294)
كانت الجناية على النفس أو على المال، فلو أن هؤلاء الثلاثة اعتدوا على شاة إنسان وكسروها لزمهم أرش الجناية، ولو اعتدوا عليه نفسه وكسروا يده لزمهم أرش الجناية؛ لأن حق الآدمي لا يفرق فيه بين المكلف وغير المكلف؛ إذ إنه مبني على المشاحة، ولا يمكن أن يضيع حق بعمل مكلف أو غير مكلف، فلا بد أن يضمن، لكن إن كانت دية فالدية على عاقلته، وإن كان دون ثلث الدية فهو عليه نفسه.
قوله: «وضمان مال من لم يدفعه إليهم» حتى وإن لم يكن لهم تمييز، فلو أن المجنون اعتدى على مال إنسان وأحرقه فإنه يضمنه؛ لأنه لم يسلطه عليه.
فإذا قال قائل: أليس قد رفع القلم عن ثلاثة؟
قلنا: نعم رفع القلم عن ثلاثة باعتبار حق الله، ولهذا لا يأثم هذا المجنون، ولا يأثم هذا السفيه، ولا يأثم هذا الصغير، ويأثم إذا كان بالغاً، ولكن الضمان لازم لهم؛ لأن هذا حق للآدمي؛ ولذلك لو أن نائماً انقلب على مال أحد وأتلفه فإنه يضمنه؛ لأن الإتلاف يستوي فيه العامد والمخطئ والصغير والكبير.
فإن لم يكن عندهم مال فإنه لا يؤخذ من وليهم، لكن يبقى في ذممهم حتى يكبروا ويتوظفوا أو يتجروا ويؤخذ منهم.
فخلاصة هذا أن هؤلاء الثلاثة محجور عليهم في أموالهم وذممهم، وأن من سلطهم على ماله(9/295)
ببيع أو إجارة أو قرض أو غير ذلك فإنه لا ضمان عليهم؛ لأنه هو الذي سلطهم على ماله، وأما إن اعتدوا هم بأنفسهم فعليهم الضمان، فيلزمهم أرش جناية وضمان مال من لم يدفعه إليهم.
قوله: «وإن تم لصغير خمس عشرة سنة» (خمسَ عشرةَ) بالفتح؛ لأنها مبنية على الفتح، وكل الأعداد المركبة ما عدا اثني عشر مبنية على الفتح، ثلاثةَ عشرَ عاماً، وأربعَ عشرةَ سنة، خمسةَ عشرَ، ستةَ عشرَ، وسبعةَ عشرَ، وثمانيةَ عشرَ، وتسعَ عشرةَ، وأحدَ عشرَ أيضاً، أو إحدى عشرة، أي مبنية على فتح الجزءين، أما اثنا عشر فإنها بحسب العوامل، فتقول: جاءني اثنا عشر رجلاً وأكرمت اثني عشر رجلاً.
أَوْ نَبَتَ حَولَ قُبُلِهِ شَعْرٌ خَشِنٌ أَوْ أَنَزَلَ، أَوْ عَقَلَ مَجْنُونٌ وَرَشَدَ، أَوْ رَشَدَ سَفِيهٌ زَالَ حَجْرُهُم بِلاَ قَضَاءٍ وَتَزِيدُ الجَارِيَةُ فِي البُلُوغِ بِالحَيْضِ، وَإِنْ حَمَلَتْ حُكِمَ بِبُلُوغِهَا، وَلاَ يَنْفَكُّ قَبْلَ شُرُوطِهِ.
قوله: «أو نبت حول قُبُله شعر خشن أو أنزل» هذه ثلاثة أشياء بها يحصل البلوغ، الأول: إذا تم له خمس عشرة سنة فقد حصل البلوغ، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «عرضت على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أُحُد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني» .
وفي رواية صحيحة للبيهقي وابن حبان: «ولم يرن بلغت» (1) ، «وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ورآني بلغت» (2) ، الشاهد قوله: «ورآني بلغت» ، لأننا لو اقتصرنا على الرواية الأولى رواية البخاري، لنازع منازع وقال:
__________
(1) أخرجها ابن حبان (4728) ؛ إحسان، والبيهقي (6/55) .
(2) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (2664) ؛ ومسلم في المغازي/ باب بيان سن البلوغ (1868) .(9/296)
إنه لم يجزه، لا لأنه لم يبلغ، ولا لأنه بلغ، ولكن لأنه ليس أهلاً للقتال، إما لضعف جسمه، وإما لغير ذلك من الأسباب، لكن رواية البيهقي وابن حبان تدل على أنه لم يجزه لعدم البلوغ، وللبلوغ أجازه، قال نافع: فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته بهذا الحديث، فقال: هذا هو حد البلوغ، وكتب إلى عماله بذلك (1) ، وعلى هذا فنقول: إذا تم للإنسان خمس عشرة سنة فهو بالغ، وإن كان صغيراً في جسمه، وإن لم يحتلم، وإن لم تنبت عانته، فيمكن أن يكون الإنسان في أول النهار غير مكلف، وفي آخر النهار مكلفاً، إذا ولد عند زوال الشمس وتم له خمس عشرة سنة عند زوال الشمس بلغ.
فإذا قال قائل: كيف يمكن البلوغ بين دقيقة ودقيقة؟ قلنا: لا بد من حد، إذا اعتبرنا البلوغ بالسنين، حتى لو جعلناها ثماني عشرة سنة فسوف يبلغ في آخر النهار، وفي أول النهار ليس ببالغ، حتى في الإنزال إذا احتلم نصف النهار، كان أول النهار غير بالغ وآخره بالغاً، فلا بد من حد.
وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيه إشكال:
حيث يقول: «إنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة» (2) . فالفرق سنة، ومن المعلوم أن أُحُداً في السنة
__________
(1) أخرجه البخاري في الشهادات/ باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (2664) ، ومسلم في المغازي/ باب بيان سن البلوغ (1868) .
(2) سبق تخريجه ص (296) .(9/297)
الثالثة، والخندق في السنة الخامسة، فكيف يُخرج هذا الحديث؟
يمكن أن يخرج على أحد وجهين:
الوجه الأول: أنه كان في أحد في أول السنة الرابعة عشرة، وفي الخندق في آخرها.
الوجه الثاني: أن يقال: إنه ابن خمس عشرة سنة، يعني قد بلغها ولا يمنع أن يكون قد تجاوزها، كما نقول للرجل الذي له ست عشرة سنة: هذا له خمس عشرة سنة يعني فأكثر.
الثاني: أن ينبت حول قُبُله شعر خشن ـ سواء كان ذكراً أو أنثى ـ أي: قوي صلب، احترازاً من الشعر الناعم الخفيف، فهذا يحصل حتى لابن عشر أو أقل، لكن الشعر الخشن القوي الصلب، هذا علامة البلوغ، فلو نبتت لحيته ولم تنبت عانته فليس ببالغ، فالعبرة هي نبات العانة، والدليل حديث عطية القرظي «أنهم عرضوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لا فلا» (1) ، وهذا يكون قرينة على أن هذا هو البلوغ.
وقوله: «نبت» ظاهره أنه نبت بدون علاج، أما لو كان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/310) ؛ وأبو داود في الحدود/ باب في الغلام يصيب الحد (4404) ؛ والترمذي في السير/ باب ما جاء في النزول على الحكم (1584) ؛ والنسائي (8/92) في كتاب قطع السارق/ باب حد البلوغ وذكر السن الذي إذا بلغها الرجل والمرأة أقيم عليهما الحد، وابن ماجه في الحدود/ باب من لا يجب عليه الحد (2541) ؛ والحاكم (2/123) ؛ وابن حبان (4780) .
وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن حبان، وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي، وصححه النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/335) .(9/298)
هناك علاج بأن ادهن هذا الصبي بدهن ينبت به الشعر، فإنه لا يحصل البلوغ بذلك؛ لأن هذه معالجة، لكن إذا نبت بالطبيعة فهذا يحصل به البلوغ.
وقوله: «أو أنزل» هذا هو الثالث، أي: أنزل منيّاً سواء في اليقظة أم في المنام بشهوة، فإنه يحكم ببلوغه، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] .
ولقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] والإنسان يبلغ النكاح إذا أنزل؛ لأنه صالحٌ الآن للتزوج حيث ينجب بهذا الإنزال، وهذه علامة على البلوغ بإجماع المسلمين، أما العلامتان السابقتان ففيهما خلاف عند أهل العلم.
فلو أنزل بمحاولة إنزال كأن عالج نفسه وحرك بدنه حتى أنزل يعني بدون احتلام، حصل البلوغ بذلك، وكذلك لو قبَّل امرأة أجنبية حرام عليه تقبيلها، فإنه إذا أنزل بهذا يكون بالغاً، فالمهم أن وسيلة الإنزال لا يشترط أن تكون مباحة.
قوله: «أو عقل مجنون» أي: مجنون بالغ؛ لأن البلوغ الذي سبق يكون للعاقل والمجنون، لكن لو عقل مجنون كان بالغاً زال حجره.
قوله: «ورشد» الفاعل يعود على الصغير والمجنون، فعلى هذا يكون قوله: «ورشد» شاملاً للصغير والمجنون.
وقوله: «أو عقل مجنون ورشد» معطوف على ما سبق،(9/299)
ومعنى الرشد في كل موضع بحسبه، وهنا الرشد هو الصلاح في المال وإحسان التصرف فيه، والرشد في ولاية النكاح، هو معرفة الكفء ومصالح النكاح، فالرشد في كل موضع بحسبه.
قوله: «أو رشد سفيه» أي: عاقل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الأصل في العطف المغايرة؛ لأن السفيه هنا من كان عاقلاً بالغاً، لكنه لا يحسن التصرف في ماله، ثم رشد.
قوله: «زال حجرهم بلا قضاء» أي: بلا قضاء حاكم، أي: بمجرد ما يحصل البلوغ مع الرشد أو العقل مع الرشد أو الرشد بعد السفه، ينفك الحجر عنه ولا حاجة أن نذهب للقاضي، فلو أن يتيماً بلغ بالسن مع رشده في نصف النهار، فله أن يطالب وليه بماله الذي عنده في آخر النهار، ولو قال الولي: لا نعطيك حتى نذهب إلى القاضي، ويحكم بأن الحجر زال فإنه لا يطاع؛ لأن الحجر يزول بزوال سببه، ودائماً يمر علينا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذا وبين من حجر عليه لفلس؟ لأنه قال هناك: «ولا يفك حجره إلا حاكم» .
الجواب: أن هذا الحجر ثبت بدون القاضي فزال بدونه، بخلاف الحجر على المفلس لحظ غيره فإنه لا يثبت إلا بحكم القاضي، ولا يزول إلا بحكم القاضي.
وقال بعض العلماء: إنه إذا وزع ماله وقسم انفك الحجر.
لكن المذهب أقرب إلى الصواب، أنه من حجر عليه لحظِّ الغير، فلا بد من حاكم ينقض الحجر، أما من حجر عليه لحظِّ(9/300)
نفسه، وهم هؤلاء الثلاثة الصغير والمجنون والسفيه، فإنه بمجرد زوال العلة التي أوجبت الحجر ينفك الحجر.
قوله: «وتزيد الجارية في البلوغ بالحيض» الجارية يعني الأنثى، فتكون علامات البلوغ عندها أربعاً: تمام خمس عشرة سنة، إنبات الشعر الخشن حول القبل، والإنزال، والحيض.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» (1) ، والمراد بالحائض التي أصابها الحيض؛ لأن الحائض التي حاضت لا يمكن أن تصلي والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .
قوله: «وإن حملت حكم ببلوغها» ويمكن أن تحمل الجارية قبل أن تتم خمس عشرة سنة، قال أهل العلم: يمكن لبنت تسع سنين أن تحمل، ويمكن لابن عشر أن يولد له، فهذه جارية لها اثنتا عشرة سنة تزوجت وليس لها عانة ثم ولدت، فهل حصل البلوغ بالحمل، أو حكم ببلوغها بالحمل؟
قال العلماء: يحكم ببلوغها بالحمل عن طريق اللزوم؛ لأنه لا حمل بلا إنزال وإذا أنزلت بلغت بإنزالها، ولهذا قال المؤلف:
__________
(1) أخرجه أحمد (6/150) ، وأبو داود في الصلاة/ باب المرأة تصلي بغير خمار (641) ، والترمذي في الصلاة/ باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار (377) وابن ماجه في الطهارة وسننها/ باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار (655) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة (775) ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(9/301)
«وإن حملت حكم ببلوغها» ولم يقل: وإن حملت بلغت، والحكم بالبلوغ هل هو بالحمل، أو بالإنزال السابق له؟
الجواب: الثاني، بالإنزال السابق له، وعلى هذا فإذا ولدت امرأة ولها اثنتا عشرة سنة، ولم تر الحيض ولم تر إنباتاً، نقول: إنها بالغة بالإنزال السابق للحمل.
قوله: «ولا ينفك قبل شروطه» يعني لا ينفك الحجر على هؤلاء الثلاثة قبل شروطه، فما شرطه في الصغير؟
الجواب: البلوغ والرشد، وفي المجنون العقل والرشد، وفي السفيه الرشد، فلا بد إذن من تمام الشروط، فإذا تمت الشروط انفك، ولا حاجة للحاكم.
وَالرُّشْدُ الصَّلاَحُ فِي المَالِ بأنْ يَتصَرَّفَ مِرَاراً فَلاَ يُغْبَنُ غَالباً وَلاَ يَبْذُلُ مَالَهُ فِي حَرامٍ أَوْ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ وَلاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ حَتَّى يُخْتَبَرَ قَبْلَ بُلُوغِهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَوَليُّهُم حَالَ الحَجْرِ الأبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ الحَاكِمُ،
قوله: «والرشد الصلاح في المال» الرشد في كل موضع بحسبه كما سبق.
وقوله: «الصلاح في المال» لا في الدين، فلا يشترط صلاح الدين في هذا الباب؛ لأن الكلام في هذا الباب عن التصرف في المال، فإذا كان في الدين غير صالح وفي المال صالحاً فهو رشيد، يدفع إليه المال، قال المؤلف في تفسيره:
«بأن يتصرف مراراً فلا يغبن غالباً» كلمة «مراراً» جمع فلا يدخل فيه المرتان، فإن كان كلما باع أو اشترى غبن، بأن يشتري ما يساوي عشرة بعشرين، ويبيع ما يساوي عشرين بعشرة، فهذا ليس رشيداً، وإذا كان يعطي بلا شيء تبرعاً، فهذا سفيه.(9/302)
قوله: «ولا يبذل ماله في حرام» كما لو صار ـ والعياذ بالله ـ ينفق ماله في السكر فإنه سفيه.
قوله: «أو في غير فائدة» كذلك ـ أيضاً ـ لو كان يبذل ماله في غير فائدة، كإنسان يشتري مفرقعات ويفرقعها، أو معه أوراق نقدية فوضع ورقة بيده وطار بها الهواء فأعجبه هذا، فجعل يخرج من الكيس وينصبها في الهواء وتطير فهذا سفيه؛ لأنه بذل ماله في غير فائدة، لكن هل يحجر على من يبذل أمواله في حرام؟
ظاهر كلام المؤلف أنه يحجر عليه؛ لأنه يبذل أمواله فيما يضره، وفي هذا نظر؛ وذلك لأن الناس يعتبرون هذا رشيداً في ماله، ولو كان يشتري به الدخان ويشرب، ويشتري به الخمر ويشرب، ويشتري به المخدرات ويأكلها، لكن لنا أن نحجر عليه من طريق آخر يعني بأن نحبسه ونجلده، وإذا كان يشرب الخمر جلدناه ثلاث مرات وفي الرابعة نقتله إذا لم ينته بغير ذلك، وكذلك في المخدرات يرجع للعقوبة المقررة شرعاً، أما أن نقول: إنه محجور عليه وهو رجل جيد في البيع والشراء، ولكنه يشرب الدخان هذا غير صحيح، فنقول: هذا لا يصح أن يبيع بيته! ولا يصح أن يبيع سيارته! ولا يصح أن يشتري خبزاً لأولاده! فلا نقول بهذا، ولذلك نجد كثيراً من الناس ممن يشرب الدخان فيصرف ماله في حرام، ومع ذلك لم يقل أحدٌ من القضاة: إن بيعه لبيته، أو سيارته، أو ما أشبه ذلك باطل؛ لأن هذا في الواقع يحسن التصرف في المال، لكنه ضل في دينه، وصار لا يبالي أن يبذله فيما حرم الله عليه.(9/303)
إذاً الأولى أن نقول: السفيه هو الذي لا يحسن التصرف في ماله، بأن يغبن ويغر ويخدع، أو يبذله في شيء لا ينتفع به، كما ذكرنا مسألة الذي يُطَيِّرُ الأوراق النقدية، ويتفرج عليها، ومثله لو فرضنا أن رجلاً، ابتلي بشراء المفرقعات، فصار يشتري مفرقعات ويفرقعها، فهذا سفيه لا شك يحجر عليه.
فإذا كان إذا أعطي المال تصدق به كله، فهل هذا رشيد؟ هذا غير رشيد، نعم لو تصدق بالشيء اليسير الذي جرت العادة بمثله فهذا يعتبر رشيداً؛ والدليل على ذلك أن الفقهاء يقولون: إن الصبي لا يصح أن يتبرع بشيء من ماله، لكن يصح أن يوصي بشيء من ماله، وعللوا ذلك أنه إذا أوصى بشيء من ماله، فإنه لا يضره؛ لأنه سوف يدفع بعد موته، بخلاف ما إذا تبرع.
قوله: «ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به» أي: لا يدفع حتى يختبر قبل البلوغ، والمراد بالاختبار هنا الوصول إلى العلم بباطن حاله لأنه من الخبرة، والخبرة هي العلم ببواطن الأمور.
وقوله: «قبل بلوغه» يعني لا بد أن يكون قبل بلوغه، لأجل إذا بلغ فمن حين بلوغه يدفع إليه المال؛ لأن الأصل في بقاء المال في يد الولي التحريم، ولهذا نقدم الاختبار قبل البلوغ من أجل أن ندفع إليه ماله فور بلوغه إذا علمنا رشده، قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ} ... } [النساء: 6] .
وقوله: «بما يليق به» فإذا كان ولدَ تاجرٍ، فالذي يليق به(9/304)
البيع والشراء، وإذا كان ولدَ فلاَّحٍ فالذي يليق به إحسان التصرف في الزرع، وإذا كانت امرأة فالذي يليق بها أن تحسن ما يتعلق بشؤون البيت، فيختبر كل إنسان بما يليق به.
وينبغي أن يقال: إنه لا يتعين هذا الذي قاله المؤلف؛ لأنه ربما تكون المرأة جيدة في شؤون البيت، لكنها خرقاء في مسألة المال فهل نقول: هذه رشيدة؟ لا.
فلو قيل: حتى يختبر بما يدل على رشده في ماله لكان أحسن؛ لأننا الآن نتكلم عن المال وليس عن الأعمال.
فيكون الصواب أن يقال: ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه فيما يتعلق بتصرف المال، حتى يعلم به رشده في التصرف في ماله.
قوله: «ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم» تنحصر ولاية هؤلاء في ثلاثة، الأب، والمراد به الأب الأدنى الذي خرجوا من صلبه، ثم وصي الأب، وهو من أوصى إليه بعد الموت في النظر على هؤلاء الأولاد الصغار، ثم الحاكم أي: القاضي.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا ولاية للجد ولو مع فقد الأب، فأبناء الابن يتولى مالَهم والنظرَ فيه، إذا لم يكن لأبيهم وصي يتولاه الحاكمُ، حتى ولو كان الجد حانياً عليهم قد ضمهم إلى أولاده، وهو من أنصح الناس لهم، وأحسن الناس تصرفاً في مالهم، فالمؤلف يقول: إن الجد ليس وليّاً، والأخ(9/305)
الكبير ليس وليّاً، والعم ليس وليّاً، والأم ليست ولية، فتنتقل الولاية من الأب مباشرة إذا لم يكن وصي إلى الحاكم، وهذا لا شك فيه نظر؛ لأن أولى الناس بهم جدهم، أو أخوهم الكبير، أو عمهم وهم أرفق الناس بهم، فكيف نجعل الولاية لإنسان بعيد؟!
ولكن طريق هذا على المذهب، بأن يذهب الجد إلى الحاكم، ويطلب أن يكون وليّاً عليهم، والحاكم إذا رأى أن هذا أهل للولاية ولاه، حتى الحاكم يتمنى أن يأتي أحد يكفيه مؤونتهم.
هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وهو المذهب. والقول الثاني في المسألة: أن الولاية تكون لأولى الناس به، ولو كانت الأم إذا كانت رشيدة؛ لأن المقصود حماية هذا الطفل الصغير أو حماية المجنون أو السفيه، فإذا وجد من يقوم بهذه الحماية من أقاربه فهو أولى من غيره، وهذا هو الحق ـ إن شاء الله تعالى ـ وعليه فالجد أو الأب يكون ولياً لأولاد ابنه، والأخ الشقيق ولياً لأخيه الصغير، والأم إذا عدم العصبة تكون ولية لابنها، نعم إذا قدر أن أقاربه ليس فيهم الشفقة والحب والعطف، فحينئذٍ نلجأ إلى الحاكم ليولي من هو أولى.
وَلاَ يَتَصَرَّفُ لأَِحَدِهِمْ وَلِيُّهُ إِلاَّ بِالأحَظِّ ويتَّجِرُ لَهُ مَجَّاناً وَلَهُ دَفْعُ مَالِهِ مُضَارَبةً بِجُزْءٍ مِنَ الرِّبْحِ وَيَأْكُلُ الوَلِيُّ الفَقِيْرُ مِنْ مَالِ مَوْلِيِّهِ الأقلَّ مِن كفايتِهِ أو أجرتِهِ مَجَّاناً.
قوله: «ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ» ، لقول الله ـ تعالى ـ {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] .
ولأن هذا الولي يتصرف لغيره فوجب أن يأخذ بالأحظ، وهذا شامل للولايات الدينية والولايات الدنيوية، فلا يتصرف الولي لغيره إلا بالأحسن، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمَّ أحدكم(9/306)
الناس فليخفف، وإذا صلى وحده فليطول ما شاء» (1) ، لأنه إذا كان إماماً فهو ولي وإن كان يصلي وحده فهو أمير نفسه، ومن ثمَّ ـ أيضاً ـ نقول: لا يجوز للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب، ويكره أن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يستحب، ولو قيل: بأنه يحرم عليه أن يخالف السنة لكان له وجه، لا سيما إذا علمنا أن المأمومين يودون تطبيق السنة، ـ فمثلاً ـ لو أراد أن يصلي الفجر بقصار المفصل، فالمذهب أن هذا جائز، لكن لو قيل: إنه ليس بجائز؛ لأنه خلاف السنة، لكان له وجه؛ لأن القاعدة أن من يتصرف لغيره فإنه يجب عليه أن يعمل بالأحسن.
وقوله: «بالأحظ» يخرج ما لا حظ فيه إطلاقاً، وما فيه حظ، لكن غيره أحظ منه.
فالأقسام إذن ثلاثة:
الأول: أن يكون فيه حظ، لكن غيره أحظ.
الثاني: ألا يكون فيه حظ إطلاقاً.
الثالث: أن يكون التصرف هو الأحظ.
والذي يجب اتباعه هو الأحظ؛ لما ذكرناه من الآية الكريمة {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، ولنضرب لكل واحد مثالاً.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (703) ، ومسلم في الصلاة/ باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة (467) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/307)
مثال ما لا حظ فيه: اشترى لهم أرضاً، يعلم أنها لن تزيد قيمتها وليس في شرائها فائدة، لكن عرضت عليه واستحيا من الذي عرضها أن يرده، واشتراها لليتيم من مال اليتيم، فهذا ليس فيه حظ وربما يكون فيه خسران.
مثال الأحظ، عرضت عليه سلعتان، إحداهما يؤمل أن تربح عشرين في المائة، والثانية يؤمل أن تربح أربعين في المائة، فيشتري السلعة التي تربح أربعين في المائة.
كذلك ـ أيضاً ـ لو دار الأمر بين أن يتَّجِرَ بمالٍ آفاتُهُ كثيرةٌ، ومالٍ قليل الآفات، فالواجب أن يتَّجر بالمال القليل الآفات.
وهل له أن يتبرع من ماله؟ لا.
وهل له أن يتصدق؟ لا؛ لأن هذا ليس فيه حظ للصغير.
وهل له أن يكسوه ثوباً جديداً في العيد؟ له أن يشتري ثوباً بمائتي ريال، وهو يمكن أن يغسل الثوب القديم بعشرين ريالاً، فالشراء أحظ؛ لأنه من مصلحة الصبي أن يفرح مع الناس ويكون عليه ثوب جديد.
وإذا جاء عيد الأضحى هل يشتري من ماله أضحية له، أو لا؟
الجواب: أما في عُرفنا فلا؛ لأن اليتيم لا يهمه سواء ضُحي له أو لا، لكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ذكر أنه يضحى لليتيم من ماله؛ لأنه هو الذي جرت به العادة، وهذا عندهم فيما سبق أن اليتيم يفتخر إذا ضحى، فيكون هذا من باب الإنفاق عليه(9/308)
بالمعروف، أما في عهدنا الآن فنرى أن اليتيم لا يهمه أن يضحى له أو لا.
قوله: «ويتجر له مجاناً» يعني أن ولي الصغير والمجنون والسفيه يتجر له، أي: لموليه، مجاناً يعني لا يأخذ شيئاً، فيبيع ويشتري بماله، ولكن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه أمين يتصرف لحظ هذا الذي ولاه الله عليه.
ولكن إذا قال: أنا لن أشغل نفسي بالاتجار له، إلا أن يُجعل لي سهم من الربح كالمضارب؟
فيقال: إذا كان يصده عن أشغاله إذا اتجر له، ويقول: أنا لن أشتغل به عن أشغالي الخاصة إلا إذا كان لي سهم من الربح، فحينئذٍ نقول: لا بد أن ترجع إلى القاضي وهو الذي يفرض لك ما يراه مناسباً، وعلى هذا فقول المؤلف: «يتجر له مجاناً» ، ظاهره مطلقاً سواء شغله عن أشغاله الخاصة أم لا، ولكن ينبغي أن يُقيد بما لم يشغله عن أشغاله الخاصة، ويأبى أن يتجر إلا بسهم، فحينئذٍ نقول: لا بأس، ولكن تُرفع المسألة إلى القاضي ليقرر ما يراه مناسباً.
قوله: «وله» أي: لولي المحجور عليه.
قوله: «دفع ماله» أي: مال المحجور عليه.
قوله: «مضاربة» مأخوذة من الضرب لقوله ـ تعالى ـ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] ؛ لأن الغالب أن التجار يسافرون إلى البلاد ويأتون بالأموال ويبيعونها، ويسافرون إلى البلدان بأموالهم ويبيعونها هناك.(9/309)
ومعنى المضاربة: دفع المال لمن يتجر به بجزء مشاع معلوم من الربح.
فقولنا: «بجزء» لا بكل فلو أعطاه المال وقال: اتجر به ولك جميع ربحه، فليس هذا مضاربة بل هو إحسان وتبرع.
ولو قال: لك من الربح مائة درهم فلا يصح مضاربة؛ لأنه معين فلا بد من جزء مشاع، ولو قال: لك بعض ربحه لا يصح؛ لأنه غير معلوم، ولو قال: خذ هذا واتجر به ولك نصف ربحه يجوز، لكن بشرط أن يرى أن هذا أحسن ما يكون في مال هذا الصبي.
وهذا من سعة الشريعة الإسلامية؛ لأنه يوجد من الناس من عنده مال لكنه لا يحسن التصرف، ومن الناس من هو قادر على التصرف، لكن ليس عنده مال، فيكمل هذا بهذا، بأن يعطي صاحبُ المالِ المالَ لمن يحسن التصرفَ، مضاربة، بجزء من الربح، وهنا يجب على الولي، أن يختار أقل العروض في الربح، إذا تساووا في الحذق والأمانة.
فمثلاً: عرض عشرة آلاف وقال: أريد أن أجعلها مضاربة، تقدم إليه رجلان أحدهما قال: يكفيني السدس من الربح، والثاني قال: لا يكفيني إلا الربع، فنعطي الذي طلب السدس، لكن بشرط أن يتساوى الشخصان في الأمانة والحذق، فإن كان من طلب الربع أقوى أمانة وأشد حذقاً، فإنه يقدم؛ لأن هذا أقرب إلى أن يحصل على ربح كثير، وإن كان الله تعالى قد يسوق الربح لرجل أبله لا يعرف، لكن الإنسان ليس له إلا الظاهر.(9/310)
وهل له أن يأخذ هو بنفسه المال مضاربة، يعني يفرض لنفسه سهماً ويتجر؟
الجواب: لا؛ لأنه قال: «ويتجر له مجاناً» ، فإذا قال: أنا أريد أن أتجر بمال المحجور عليه ولي نصف الربح، أو ربع الربح حسب ما يرى في السوق، فإنه ليس له ذلك؛ لأنه متهم، فلا يجوز أن يفعل، لكن كما سبق، إذا كان يقول: أنا لن أتجر إلا بسهم؛ لأنه يصدني عن اتجاري بمالي، نقول: حينئذٍ تُحوَّلُ المسألة إلى القاضي ليفرض له من السهم ما يرى أنه مناسب.
قوله: «بجزء من الربح» جزء مشاع؛ لأنه لا تصح المضاربة مع سهم معين أبداً، فلا بد أن تكون المضاربة بجزء مشاع معلوم كما سبق.
مثاله: إنسان أعطى ماله مضاربة لشخص، وقال: لك ربح شهر المحرم ولي ربح شهر صفر، فهذا معين لا يجوز، ولو قال: لك ربح المال الفلاني كالسكر ـ مثلاً ـ ولي ربح المال الفلاني كالأرز، فهذا لا يجوز؛ لأنه معين، ولو قال: لك من الربح مائة ريال، والباقي لي فلا يجوز ـ أيضاً ـ؛ لأنه معين، فلا بد أن يكون مشاعاً، النصف، الربع، السدس.
ولو قال: خذ هذا المال مضاربة بسهم، فلا يجوز؛ لأنه غير معلوم، فلا بد أن يكون معلوماً.
ولما ذكر المؤلف أن الولي يتجر مجاناً، وأن له أن يعطي غيره المال مضاربة، ذكر مسألة أخرى: هل يجوز للوكيل أن يفرض لنفسه أجرة على النظر في مال المحجور عليه؟(9/311)
الجواب: لا.
وهل له أن يأكل؟ فيه تفصيل بينه بقوله:
«ويأكل الوليُّ الفقيرُ» وهو الذي ليس عنده ما يكفيه من كسب يده أو غلة أو راتب أو مكافأة، ليس عنده إلا مال هذا اليتيم.
قوله: «من مال موليِّه الأقلَّ من كفايته أو أجرته مجاناً» فإذا قدرنا أن كفايته ألف ريال وأجرته خمسمائة ريال، فنعطيه خمسمائة؛ لأنها الأقل، فإذا قال: هذه ما تكفيني، أنا إلى الآن فقير، نقول: ليس لك إلا الأجرة فقط.
وبالعكس، أجرته ألف ريال وكفايته خمسمائة، فنعطيه خمسمائة، وهذه لا إشكال فيها، الإشكال في المسألة الأولى، إذا كانت الأجرة أقل من الكفاية فإنه سوف يبقى فقيراً، وظاهر الآية الكريمة: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] أنه يأكل بالمعروف، وأنه إذا كانت الأجرة أقل تُكمل له الكفاية وعلى هذا فنقول: يأكل كفايته سواءً كانت بقدر الأجرة أو أقل أو أكثر؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
فإذا قال هذا الولي: أنا إذا أكلت من مال المحجور عليه، هل يعتبر أكل أغنياء الناس أو أكل فقراء الناس أو أكل متوسطي الناس؟
الجواب: يقول الله ـ عزّ وجل ـ: {بِالْمَعْرُوفِ} ، وإذا كان بالمعروف فإننا نعرف أن الفقراء لهم أكل، والأغنياء لهم أكل،(9/312)
والمتوسطين لهم أكل، هذا هو المعروف منذ أن خلقت الدنيا.
جارية لم تأكل المرققا
ولم تذق من البقول الفستقا
لأنها فقيرة، لا تأكل إلا الخبز المكسر اليابس، فلكل مقام مقال، فالذي يظهر أنه يعطى بالمعروف، وإذا كان عديم المال فإنه يعطى كفاية الفقير.
ويُقْبَلُ قَولُ الوَلِيِّ والحَاكِمِ بَعْدَ فَكِّ الحَجْرِ فِي النَّفَقَةِ والضَّرورَةِ والغِبْطَةِ والتَّلَفِ وَدَفْعِ المَالِ وَمَا اسْتَدَانَ العَبْدُ لَزِمَ سيِّدَهُ إِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلاَّ ففِي رَقَبَتِهِ كاسْتِيدَاعِهِ وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ وقِيمَةِ مُتْلَفِهِ.
قوله: «ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة والضرورة والغبطة والتلف ودفع المال» هذه مسائل:
أولاً: يقبل قول الولي؛ لأنه مؤتمن، ويقبل قول الحاكم، لكنهم فرقوا في قبول قول الولي وقول الحاكم، بأن الولي يقبل قوله بيمين، والحاكم بلا يمين؛ لأن الحاكم يقول بمقتضى السلطة، فقوله كأنه حكم لا يحتاج إلى يمين، وأما الولي فإنه لا يقبل قوله على أنه محل سلطة ولكن على أنه مدعٍ، ويشترط لقبول قول الولي ألا يخالف العادة، فإن خالف العادة فإنه لا يقبل إلا ببينة.
وقوله: «بعد فك الحجر» لأنه قبل فك الحجر لن يخاصمه أحد، لكن بعد فك الحجر سيخاصمه المحجور عليه.
إذاً يقبل قول الولي بيمينه، والحاكم بغير يمين في هذه الأمور الآتية:
أولاً: «في النفقة» قدرها وأصلها، فإذا فُك الحجر، وقال المحجور عليه: أنا مالي عشرة آلاف، والآن لا يوجد إلا ثمانية آلاف، فأين الباقي؟ فقال الولي: أنفقتها عليك، وقوله محتمل أنه(9/313)
أنفق في هذه المدة ألفي ريال، فهنا يقبل بيمينه، وكذلك إذا قال: إني أنفقت، وقال المحجور عليه: لم تنفق إطلاقاً، فالذي يقبل قوله هو الولي، والحجة أنه أمين، والأمين يقبل قوله فيما أنفقه على ما ائتمن فيه.
ثانياً وثالثاً: «الضرورة والغبطة» وهذه تتعلق فيما إذا باع عقاره، فإذا كان للمحجور عليه عقار من حيطان أو بيوت، فإنها لا تباع إلا للضرورة أو الغبطة.
الضرورة: ألا يكون للمحجور عليه دراهم إطلاقاً، والمحجور عليه يضطر إلى أكل وشرب فيبيع البستان مثلاً.
الغبطة: أن يُبذل فيه مال كثير أكثر من قيمته المعتادة، فيأتي إنسان يقول: أنا أريد أن أشتري هذا البستان أو هذا البيت بمائة ألف، وهو لا يساوي في السوق، إلا خمسين ألفاً، فهذه غبطة.
فإذا قال قائل: كيف يُبذل فيه مال كثير خارج عن العادة؟ نقول: نعم ربما يكون شخص له جار محتاج إلى هذا البيت ـ مثلاً ـ أو هذا البستان، ولضرورته إليه بذل فيه مالاً كثيراً، فهذا يقبل قوله.
فإذا قال المحجور عليه: لماذا تبيع عقاري؟ قال: بعته لضرورة الإنفاق، قال: أبداً ما عندي ضرورة، فيقبل قول الولي بيمينه.
الغبطة قال له: لماذا تبيع عقاري؟ قال: لأنني أعطيت فيه غبطة مالاً كثيراً، قال: أبداً عقاري في ذلك الوقت يساوي ما بعت به عند عامة الناس، فالقول قول الولي؛ لأنه مؤتمن.
رابعاً: «التلف» لو ادعى الولي أن مال اليتيم تلف، وقال(9/314)
المحجور عليه: إنه لم يتلف، فإن القول قول الولي؛ لأنه مؤتمن، لكن لو ادعى الولي أنه تلف بأمر ظاهر، لا يخفى على الناس بأن قال: تلف في أمطار أتتنا كثيرة، فيحتاج أولاً إلى إثبات هذا الشيء الظاهر، ثم يقبل قول الولي بأن المال تلف به.
أيضاً لو قال: المال تلف بالحريق الذي شب في بيته، والحريق شيء ظاهر، نقول: أثبت الحريق أولاً، ثم نقبل قولك بأنه تلف به، وهكذا كل أمين إذا ادعى التلف، فإنه يقبل قوله بيمينه ما لم يدعِهِ بأمر ظاهر، فإذا ادعاه بأمر ظاهر كالحريق والغرق والجنود التي احتلت البلاد، وما أشبه ذلك، فلا بد من أن يقيم البينة على وجود هذا الحادث الظاهر، ثم يقبل قوله في التلف، وهذه قاعدة ذكرت في الأبواب السابقة.
خامساً: «دفع المال» لما بلغ الصبي ورشد، قال لوليه: أعطني المال، قال: دفعته إليك، قال: ما دفعت، فلدينا الآن دعوى وإنكار، المنكِر هو المحجور عليه، والمدعي الرد هو الولي، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1) ، على كلام المؤلف يقبل قول الولي في دفع المال، وحينئذ يحتاج إلى إخراجه من الحديث: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» ، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه لا يقبل قول الولي في دفع المال إلى المحجور عليه إلا ببينة.
ودليل المؤلف أنه أمين وأنه محسن، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، ولو قلنا: إن قوله لا
__________
(1) سبق تخريجه ص (164) .(9/315)
يقبل لكان عليه سبيل، فكيف نضمنه ما دامت ذمته بريئة منه؟ ولهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقبل قوله في الرد ما لم يكن له أجرة، بأن كان فقيراً وأعطيناه أجرة أو نفقة فإنه لا يقبل قوله؛ لأن المال بيده لحظ نفسه، وكل إنسان المال بيده لحظ نفسه، فإنه لا يقبل قوله في الرد.
القول الثاني: أن الولي لا يقبل قوله في الرد؛ لأنه مدعٍ والمحجور عليه منكر، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» .
والدليل الثاني: أن الله ـ تعالى ـ قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] فأمر بالإشهاد؛ لأنه لو كان قوله مقبولاً لم يحتج إلى إشهاد، وأنت إذا لم تشهد فقد خالفت أمر الله فتكون بين معتدٍ أو مفرط، والمعتدي أو المفرط ليس بأمين، نقول: لماذا لم تشهد؟ فإن ربك أمرك أن تشهد؛ والتعليل أن الأصل عدم الدفع.
هذه أدلة من يرى أنه لا يقبل قوله في الرد، وكما أسلفنا كثيراً أن من رجح قولاً على قول فلا بد من أمرين:
الأول: بيان دليل الرجحان.
والثاني: والإجابة على أدلة الخصوم.
ولا يكفي أن تذكر أدلتك حتى ترد على أدلة خصومك، فأجابوا عن قوله ـ تعالى ـ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} بأن هذا الرجل لم يحسن؛ لأنه فرط، حيث لم يشهد، ولماذا لم يشهد؟!
ولو قال قائل: أنا أريد أن أتوسط بين القولين فإذا كان(9/316)
الولي معروفاً بالورع والتقوى والصدق، فالقول قوله، وإن كان الأمر بالعكس فلا يقبل قوله، مع أننا لا نقبل قوله إلا بيمين، لو قال قائل بهذا القول الوسط، لكان وسطاً، ولأخذ بقول بعض هؤلاء وقول بعض هؤلاء، ودائماً العلماء يسلكون هذا المسلك إذا اختلف الناس على قولين، جاء إنسان بقول ثالث يأخذ بأحد القولين في حال، وبأحد القولين في حال أخرى، ومن ذلك ـ تقعيداً للقاعدة ـ أن العلماء اختلفوا في وجوب الوتر، فمنهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه ليس بواجب، ونحن نذكر الخلاف بقطع النظر عن الدليل، وإلا فالدليل يدل على أنه ليس بواجب، لكن من العلماء من قال: يجب على من له ورد من الليل دون من ليس له ورد، يعني من كان من عادته أن يقوم ويتهجد وجب عليه أن يوتر، ومن لا فلا، وهذا القول أخذ بقول البعض في حال والبعض في حال أخرى، ولهذا يقول قائله: وهو بعض قول من يوجبه مطلقاً، وهذه عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ولا يعد هذا خروجاً عن الإجماع، ولكنه جعله بدلاً من أن يقول: واجب بكل حال، إنه واجب في حال دون حال.
قوله: «وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له» ما استدان العبد من قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك، فإن كان بإذن سيده، لزم السيد بأن قال له سيده: اذهب إلى فلان، واستقرض منه ألف ريال ـ مثلاً ـ فذهب واستقرض فهنا يلزم سيده؛ لأنه استدان بإذنه، وسواء استدان بإذنه لمصلحة السيد، أو لمصلحة العبد، فقد يأتي العبد ويقول: أنا أريد أن أتزوج وأحتاج إلى ألف ريال(9/317)
أو أكثر أو أقل، فيقول: اذهب إلى فلان واستدن منه، فيلزم السيد، وقد يكون السيد عليه حاجة، فيقول: اذهب يا فلان إلى الرجل الفلاني واستقرض منه كذا وكذا، فالمهم أن ما استدانه لسيده فهو على سيده.
قوله: «وإلا» يعني وإلا يأذن له.
قوله: «ففي رقبته» أي: يتعلق برقبة العبد، والفرق بين تعلقه برقبة العبد وتعلقه بذمة السيد، أنه إذا تعلق بذمة السيد لزمه وفاؤه مهما بلغ، حتى لو كان أكثر من قيمة العبد عشر مرات.
أما إذا تعلق برقبة العبد، فإنه يخير السيد بين أمور ثلاثة، إما أن يبيعه ويعطي ثمنه من استدان منه العبد، وإما أن يسلمه لمن استدان منه عوضاً عن الدين، وإما أن يفديه السيد بما استدان.
مثال ذلك: استدان العبد ألف ريال بغير إذن سيده، فإنه يتعلق برقبته، فنقول للسيد: أنت مخير إن شئت أعطِ صاحب الدين العبد، وقل: لك العبد بالدين الذي استدانه منك، أو يبيع العبد ويأخذ قيمته ويعطيها صاحب الدين، أو يفديه بقدر ديْنِهِ، فيقول: الدين كذا وكذا وأنا لا أريد أن أبيع العبد، ولا أريد أن أعطيك إياه، ولكن هذا دينك الذي ديَّنته، أيهما الذي يختار؟ سوف يختار السيد الأقل؛ لأنه من مصلحته، والفرق بين كونه يبيعه ويسلم ثمنه لصاحب الدين، وبين أنه يسلمه إلى صاحب الدين، أنه قد يلاحظ مصلحة العبد.
فإذا قال صاحب الدين: أنت الآن لك الخيار بين أن تعطيني إياه أو تبيعه، أو تفديه، ويكون عندك العبد، لكن ما دمت(9/318)
ستخرج العبد عن ملكك فأنا أريده؛ لأنه الذي استدان مني، فقال سيد العبد: أنا أريد أن أبيعه وأعطيك ثمنه، فالآن عندنا نزاع بين السيد وصاحب الدين.
فالقول قول السيد، ولكن قد يقول قائل: لماذا ينازع السيد في هذا أليس كله سواء؛ لأنه سيخرج من ملكه؟
قلنا: قد يرى السيد أن صاحب الدين ليس أهلاً أن يكون عنده هذا العبد، إما لسوء أخلاقه، وإما لاتهامه في أخلاقه، أو لغير ذلك، فهذا العبد غال عنده، ولا يحب أن يملكه صاحب الدين؛ لأن صاحب الدين سيئ المعاملة أو رجل سفلة، أخشى على العبد منه خصوصاً، إذا كان العبد شابّاً ـ مثلاً ـ فأنا أريد أن أبيعه وأعطيه الثمن.
ولو قال من له الدين: قد دينته عشرة آلاف، وإذا بعته لا يساوي إلا خمسة آلاف ريال فيكون عليّ نقص.
نقول: أنت المفرط ولو حصل عليك النقص، لماذا تعطيه ديناً يبلغ عشرة آلاف وأنت تعرف أنه عبد؟ لماذا لم تمتنع حتى تستأذن السيد؟
وهذا التخيير الذي يكون للسيد تخيير تَشَهٍّ، فالتخيير يكون تخيير مصلحة إذا كان الإنسان يتصرف لغيره، أما إذا تصرف لنفسه فهو تخيير تشهٍّ، لكن في هاتين المسألتين، أي: بيعه، أو تسليمه لصاحب الدين، يجب أن نقول: إن التخيير هنا تخيير مصلحة، ينظر فيه إلى مصلحة العبد.(9/319)
قوله: «كاستيداعه وأرش جنايته وقيمة متلَفه» هذه ثلاث مسائل:
الأولى: «استيداعه» يعني أن يأخذ وديعة فيتلفها فيتعلق برقبته.
الثانية: «وأرش جنايته» أي: قيمة الجناية، يعني إذا جنى على أحد فإنه يخير سيده بما ذكرنا.
الثالثة: «قيمة متلفه» أي قيمة ما أتلف فإنه يتعلق برقبته، فعندنا الآن أربع مسائل: إذا استدان بغير إذن السيد، أو استودع، أو جنى، أو أتلف، كل هذه تتعلق برقبته، وكل شيء يتعلق برقبته فإن سيده يخير بين الأمور الثلاثة:
الأول: أن يعطيه صاحب الحق ويقول: هو لك بدينك أو بجنايتك أو قيمة متلفك.
الثاني: أن يبيعه ويعطي صاحب الحق قيمة العبد.
الثالث: أن يفديه ويبقى العبد عنده.(9/320)
باب الوكالة
قوله: «باب الوكالة» يقال: وَكالة ووِكالة، كوَلاية، ووِلاية، وهي في اللغة التفويض، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 132] ، أي كفى به مُفَوضاً إليه الأمور، يقال: وكلت الأمر إليه، أي: فوضته إليه.
وهي في الاصطلاح: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
جائز التصرف هو الحر البالغ العاقل الرشيد، من جمع أربعة أوصاف، يستنيب ـ أي: جائز التصرف ـ مثله فيما تدخله النيابة.
وقولنا: «فيما تدخله النيابة» احترازاً مما لا تدخله النيابة، فلو وكل إنساناً أن يتوضأ عنه، فقال: وكلتك أن تتوضأ عني، وأنا أصلي فهذا لا يجوز؛ لأنه لا تدخله النيابة، ولو وكله أن يصوم عنه كأن يكون عليه قضاء من رمضان، فقال: وكلتك أن تقضي عني؛ فهذا لا يصح فلا بد أن تدخله النيابة.
وحكمها التكليفي أنها جائزة بالنسبة للموكل، سنة بالنسبة للوكيل؛ لما فيها من الإحسان إلى أخيه وقضاء حاجته، أما بالنسبة للموكل فهي جائزة؛ لأنها من التصرف الذي أباحه الله، ويدل على جوازها كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
أما كتاب الله فقد قال الله ـ تعالى ـ عن أصحاب الكهف(9/321)
لما استيقظوا من نومهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] ، فهذا توكيل، وكَّلوا واحداً منهم أن يذهب إلى المدينة ويأتي بطعام، ويكون في ذهابه متلطفاً يعني مستتراً ما أمكنه، ولا يخبر عنهم؛ لأنهم قالوا: {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، وكانوا قد أووا إلى الغار خوفاً من ظلم رجل مشرك هربوا منه، لكن تغيرت الأحوال؛ لأنهم بقوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وهم أوصوه بهذه الوصايا بناء على بقاء الملك الأول.
وقال الله ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] ، وهذه وكالة، ووكل سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ الهدهد فقال: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 28] .
أما من السنة: فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه وكل في العبادات، ووكل في المعاملات، فوكل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: «أن ينحر ما تبقى من هديه وأن يقسم لحومها وجلودها» (1) ، ووكل رجلاً في أن يشتري له أضحية بدينار فاشترى الرجل اثنتين بدينار، وباع واحدة بدينار، ثم رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بشاة ودينار، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك في بيعك» ، فكان لا يبيع شيئاً أو يشتريه إلا ربح فيه، حتى ولو
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.(9/322)
كان تراباً (1) ؛ ببركة دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكذلك ـ أيضاً ـ النظر يدل على جواز الوكالة؛ لأنها من مصلحة العباد فكم من إنسان لا يستطيع أن يعمل أعماله بنفسه، فمن رحمة الله ـ عزّ وجل ـ وحكمته أن أباح لهم الوكالة، فإذا كان ـ مثلاً ـ مشتغلاً بطلب العلم أو بغير ذلك من الأعمال، وهو يريد أن يشتري لأهله خبزاً ولا يستطيع أن يترك عمله ليشتري الخبز فإنه يوكل، إذاً المصلحة تقتضي أن تكون الوكالة جائزة، هذا من حيث الشرع، إذاً دل عليها الكتاب والسنة والنظر الصحيح.
أما حكمها الوضعي فيقول ـ رحمه الله ـ:
تَصِحُّ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلى الإِذْنِ وَيَصِحُّ القَبُولُ عَلَى الفَوْرِ والتَّراخِي بِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ ومَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي شيءٍ فَلَهُ التَّوْكِيلُ والتوكُّلُ فِيهِ........
«تصح بكل قول يدل على الإذن» الصحة والفساد والبطلان والسبب والشرط والمانع، كل هذه أحكام وضعية، فتصح الوكالة بكل قول يدل على الإذن، فلو قال رجل: يا فلان خذ هذه السيارة بعها ـ مثلاً ـ فإن الوكالة تصح، وإن لم يقل وكلتك في بيعها؛ لأن قوله: «خذها بعها» يدل على هذا، وإن لم يكن فيه لفظ الوكالة.
فالإيجاب وهو اللفظ الصادر من الموكل وهو التوكيل، لا بد فيه من قول وليس له صيغة معينة شرعاً، وفي هذا الباب نص الفقهاء على أن العقود تنعقد بما دل عليها، وهذا هو القول الراجح المتعين.
أما القبول فهو أوسع، فيصح بكل قول أو فعل يدل عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب/ باب (3642) عن عروة بن الجعد ـ رضي الله عنه ـ.(9/323)
وهل يصح التوكيل بالفعل؟ وهل يصح بالكتابة؟
الجواب: ظاهر كلام المؤلف لا، والصحيح أنه يصح التوكيل بالفعل، ويصح التوكيل بالكتابة، فلو كتب إلى آخر وقال: وكلتك في بيع بيتي، وهو في بلد آخر صح ولا مانع، ولو كان إنسان معروف بأنه يبيع الأطعمة، فجاء إنسان بكيس من الطعام من مزرعته، ووضعه في دكان هذا الذي يبيع، فإن هذا يكون توكيلاً لكن بالفعل، ما دام أنه قد عرف أن هذا الرجل قد أعد نفسه للبيع، وأتى إليه بشيء ووضعه في مكان المبيعات، فهذا يعني أنه وكله في بيعه، وهذه وكالة بالفعل، فلا يقول قائل: ربما وضع الكيس على أنه وديعة، أو على أنه هدية، أو ما أشبه ذلك، فهذا فيه احتمال، لكن ظاهر الحال أنه وضعه للبيع.
إذاً القول الراجح أن الوكالة تصح بالقول والكتابة والفعل، وتصح مطلقة ومقيدة، ومؤقتة ومؤبدة، فالمهم أن الوكالة من أوسع الأبواب.
قوله: «ويصح القبول على الفور والتراخي» يعني قبول الوكالة على الفور والتراخي، القبول هو اللفظ الصادر من الوكيل.
فيصح أن يقبل الوكالة على الفور، بمعنى أنه من حين أن يقول له الموكل: وكلتك في بيع بيتي، قال: أعطني المفتاح لأبيع.
وعلى التراخي بأن يقول: وكلتك، ثم يسكت وبعد ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين يقول: قبلت، أو يبيع البيت ـ مثلاً ـ(9/324)
فهذا يصح، لكن لو وكله وقال: لا أستطيع أنا مشغول، ثم ذهب الموكل، وبعد ذلك ندم الوكيل وقال: كيف أرده؟! ثم قَبِل وتصرف، فلا يصح؛ لأنه ردها، وإذا ردها معناه بطل الإيجاب الأول الصادر من الموكل، فلا بد من توكيل آخر.
قوله: «بكل قول أو فعل دال عليه» كأن يقول: قبلت وأبشر، ولو أخذ السلعة من الذي قال له: وكلتك في بيع هذه، ولم ينطق بكلمة ثم باعها فيصح، وهذا قبول بالفعل.
هذه القاعدة في العقود ليست مطردة عند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فإن بعض العقود يشددون فيها، ولكن الصحيح أن العقود كلها بابها واحد، وأن كل عقد يصح بكل قول أو فعل يدل عليه، وأما ما شدد فيه بعض الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في بعض العقود فلا دليل عليه، فالأصل أن هذا يرجع إلى العرف، فما عرفه الناس عقداً فهو عقد، ولو كان بقول أو فعل.
إلا أنه يستثنى من هذا ما لا بد من الإشهاد عليه، فهذا لا بد أن يكون بقول واضح مثل النكاح، فلو أن رجلاً قال لشخص: زوجتك بنتي هذه، فأخذ البنت ومشى، فإن النكاح لا ينعقد؛ لأن هذا يحتاج إلى إشهاد، ومجرد الفعل لا يدل على القبول.
ولو قال: وهبتك هذه الساعة، فأخذها وسكت، فهذا قبول.
إذاً الوكالة ليس لها صيغة معينة، بل تنعقد بكل قول أو فعل يدل عليها، وقلنا: إن هذا ينبغي أن يكون عامّاً لجميع العقود.(9/325)
قوله: «ومن له التصرف في شيء فله التوكيل، والتوكل فيه» «من» موصولة وليست شرطية؛ لأنها لا تدخل إلا على الفعل، فإذا قلنا: إنها شرطية، نحتاج إلى تقدير فعل الشرط، وإذا قلنا: موصولة، لا نحتاج إلى تقدير، وإذا دار الأمر بين التقدير وعدمه، فالأصل عدمه، وأما الفاء في قوله: «فله» فقد سبق مراراً أن الاسم الموصول يجوز أن يقترن خبره بالفاء؛ لأنه يشبه الشرط في العموم.
هذه قاعدة: فكل من له التصرف في شيء فله أن يوكل وله أن يتوكل، ومن ليس له التصرف فيه فليس له أن يوكل، وليس له أن يتوكل.
مثال ذلك: رجل بالغ عاقل حر رشيد، وكّل مثله في شراء سيارة ـ مثلاً ـ فهذا جائز؛ لأن من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه.
ومفهومه أن من ليس له التصرف في شيء فليس له أن يوكل فيه، فلو أن صبيّاً لم يبلغ قال لشخص: وكلتك في بيع بيتي فلا يصح؛ لأنه هو نفسه لا يصح له التصرف فيه فلا يصح أن يوكل.
ولو كان الأمر بالعكس، رجل بالغ عاقل حر رشيد وكل صبياً في بيع بيته فلا يصح أيضاً؛ لأن الوكيل لا يتصرف في مثل هذا التصرف، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] .
يستثنى من ذلك توكيل الأعمى بصيراً فيما يشترط لصحة(9/326)
بيعه الرؤية، فالأعمى إذا اشترى شيئاً لا يصح شراؤه إلا برؤية لا يصح منه؛ لأنه مجهول له، وكذلك رجل لا يشم يريد أن يشتري طيباً فيجوز أن يوكل شخصاً يشم، فهذا مستثنى من قوله: «ومن له التصرف في شيء فله التوكيل» فيستثنى من ذلك ما يشترط لعلمه الرؤية، فإن الأعمى يجوز أن يوكل فيه بصيراً ليشتري له، وما يشترط لصحة بيعه الشم فإن للذي لا يشم أن يوكل فيه، وما يشترط لصحة بيعه العلم به وهو لا يعلم بهذه الأشياء، لكن وكل شخصاً في ذلك فإنه جائز.
وإذا وكل شخص شخصاً أن يعقد له النكاح، قال: وكلتك أن تقبل النكاح لي من فلان، وهذا الوكيل بالغ عاقل حر رشيد فيصح؛ لأن الوكالة في عقد النكاح جائزة.
وقوله: «والتوكل فيه» أي: من له التصرف في شيء فله التوكل فيه، فمن ليس له أن يتصرف في شيء فليس له أن يتوكل فيه، ولكن يستثنى من هذا أشياء، فمثلاً: فقير وكَّل غنياً في قبض الزكاة له فإنه يجوز، فجاز أن يتصرف لغيره بالوكالة، ولا يجوز أن يتصرف لنفسه.
مثال آخر: امرأة لا يجوز أن تطلِّق نفسها، فوكلها زوجها في طلاق نفسها يجوز؛ لأن هذا لمعنى يتعلق بالزوج، والزوج قد أذن فيه.
فحقوق الآدميين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يصح التوكيل فيه مطلقاً، وقسم لا يصح مطلقاً، وقسم يصح عند العذر.
وَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي كُلِّ حقِّ آدَمِيٍّ مِنَ العُقُودِ والفُسُوخِ والعِتْقِ، والطَّلاقِ، والرَّجْعَةِ،
قوله: «ويصح التوكيل في كل حق آدمي من العقود» هذا هو(9/327)
القسم الذي يصح مطلقاً، أي: سواء كانت عقود تبرعات أو معاوضات أو أنكحة أو توثيقات، أو غير ذلك، فحق الآدمي من العقود يبدأ بالبيع، فيجوز أن يوكل في بيع أو شراء، وكذا الإجارة، فيجوز أن يوكل شخصاً يستأجر له بيتاً، أو يؤجر بيته، وكذا الرهن فيصح أن يوكل شخصاً أن يرتهن له شيئاً أو يرهن له شيئاً، والوقف فيصح أن يقول: وكلتك أن توقف بيتي الفلاني وتثبته عند المحكمة.
قوله: «والفسوخ» وتَرِدُ على كل عقد.
مثاله: إنسان اشترى شيئاً معيباً، ووكل إنساناً أن يفسخ البيع مع البائع، وقال: أنا اشتريت السيارة الفلانية من فلان ووجدت فيها عيباً وأنا لن أنازعه؛ لأنه رجل صاحب قوة وبيان، وقد وكلتك أن تفسخ البيع معه، فهذا جائز.
وَكَّلَ زوج رجلاً أن يخالع زوجته، والمخالعة الفراق على عوض؛ لأن الطلاق على عوض شيء، والخلع شيء آخر، فالطلاق على عوض يحسب من الطلاق على المذهب، فلو كانت هذه آخر طلقة على عوض حرمت عليه، لكن إذا كان خلعاً وقد طلق قبل ذلك مرتين فإنها لا تحرم عليه؛ لأن الخلع فسخ وليس طلاقاً.
فإذا وكل إنساناً في مخالعة زوجته فهذا جائز، لكن لا بد من أن يذكر مقدار العوض؛ لأنه ربما يوكله في خلع زوجته، ثم تكون غالية في قلب الزوج، ولا يمكن أن يخلعها بأقل من عشرة آلاف، فيأتي هذا الوكيل ويخلعها بألف ريال فلا بد من التعيين.(9/328)
ويجوز التوكيل في الإقالة، وهي فسخ عقد البيع أو الإجارة أو غيره، مثاله: اشتريت من فلان سيارة ثم لم تعجبني السيارة، فرجعت إليه وقلت: أريد أن تقيلني البيع، فقال: نعم، فلو وكلت إنساناً في الإقالة يجوز سواء من البائع أو من المشتري، وهذا نسميه فسخاً، والفرق بين العقد والفسخ، أن العقد إيجاد العقد، والفسخ إزالة العقد.
قوله: «والعتق» فيصح أن يوكل شخصاً في إعتاق عبده؛ لأن هذا يصح التوكيل في عقده، فصح التوكيل في عتقه والتخلي عنه.
قوله: «والطلاق» أن يوكل فيه فيقول: يا فلان وكلتك أن تطلق زوجتي، وتكون الفائدة ـ مثلاً ـ أنه يثبت طلاقها عند المحكمة.
ويصح أن يوكل زوجته في طلاق نفسها؛ لأن من له التصرف في شيء فله التوكيل والتوكل فيه، وهل للزوجة أن تتصرف في الطلاق وتطلق زوجها؟!
الجواب: لا، لكن هذه مستثناة، فيجوز أن يوكل زوجته في طلاق نفسها.
ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيَّر نساءه بين أن يردن الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أو يردن الحياة الدنيا (1) ، وهذا مثل الطلاق فتكون هذه المسألة مستثناة، وتقول: طلقت نفسي من موكلي فلان.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} (4786) ؛ ومسلم في الطلاق/ باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلاّ بالنية (1475) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(9/329)
قوله: «والرجعة» يصح التوكيل فيها، بأن يقول لشخص حين طلق زوجته: وكلتك في مراجعتها.
فإذا قال قائل: لماذا يوكل في مراجعتها، لماذا لم يراجع هو بنفسه؟
نقول: قد يكون غائباً ويقول للوكيل: راقبها لا تنقضي عدتها حتى تراجعها، الزوج لا يريد أن يراجعها بنفسه، بل ربما يريد أن يهينها بعض الشيء حتى تستقيم، وربما لا يخبرها بأنه راجعها حتى تستقيم أيضاً، ويجوز أن يوكل أبا الزوجة في رجعتها، فيقول: وكلتك في مراجعة ابنتك، لكن لو خاف ألاّ يراجع، إذا كان أبو الزوجة لا يحب أن يرجع الزوج لزوجته، ففي هذه الحال يجب أن يحتاط لنفسه وألا يوكله؛ لئلا يفوت عليه الرجعة.
وتَمَلُّكِ المُباحَاتِ مِنَ الصَّيْدِ والحَشِيشِ وَنَحْوِهِ لا الظِّهَارِ واللِّعَانِ والأَيْمَانِ وَفِي كُلِّ حقٍّ تَدْخُلُه النِّيابَةُ مِنَ العِباداتِ والحُدُودِ في إثبَاتِها واستِيفَائِها ...
قوله: «وتملك المباحات من الصيد» «المباحات» أي: التي لم تكن على ملك الغير، فالمباح هو الذي حصل من غير فعل آدمي، مثل الكلأ أو الصيد، يعني له أن يوكله في تملك المباحات، فيقول: وكلتك أن تصيد لي طيراً وأرنباً وغزالاً، فيقول: قبلت، ويأخذ البندقية ويذهب ويصيد، فعلى كلام المؤلف يجوز؛ لأن هذا فعل مباح اسْتَنَبْتُ فيه غيري فجاز.
والقول الثاني: أنه لا يجوز التوكيل في تملك المباحات؛ لأن الموكِّل حين التوكيل لا يملكها، فلا يملك التصرف فيها، وبناءً على هذا القول، لو أن الوكيل تصرف وأتى بالصيد فيكون للوكيل؛ لأن الوكالة لم تصح، وإذا أراد الوكيل أن يعطيه الموكل(9/330)
يكون هبة؛ لأنه حين صاده صار في ملكه، فإذا أعطاه الموكل فهو هبة، وليس عن طريق الوكالة.
وقوله: «والحشيش» فإذا وكله فقال: يا فلان وكلتك أن تحش لي هذه المنطقة، فحشَّها، فالمؤلف يرى أنه يصح، وأنه إذا حشَّها فإنها تكون على ملك الموكل.
ويجب على الإنسان أن يبين ما يريد من الألفاظ المشتركة، فالآن الحشيش مشترك بين ما تنبته الأرض كما في الحديث: «لا يحش حشيشها» (1) ، وبين ما يستعمل في التخدير، فيجب في مثل هذه المسائل المشتركة لا سيما إذا كان يتبادر إلى أذهان العامة الشيء المحرم، أن تبين الأمور وتوضح حتى يكون الإنسان على بصيرة، فقول المؤلف ـ رحمه الله ـ «والحشيش» ، أي: ما تنبته الأرض.
قوله: «ونحوه» أي: من الأشياء المباحة كأخذ الكمأة، فإنها لا تعد من الحشيش؛ ولهذا يجوز أن يستخرج الإنسان الكمأة ولو في أرض مكة؛ لأنها ليست من الحشيش.
قوله: «لا الظهار واللعان والأيمان» فهذه لا يجوز فيها الوكالة؛ لأنها متعلقة بالفاعل نفسه، فلو وكل شخصاً في الظهار من امرأته وذهب الرجل إلى المرأة، وقال لها: أنت على زوجك كظهر أمه عليه، فهنا لا يثبت الظهار؛ لأن هذا عقد يتعلق بالفاعل نفسه فلا يصح، أما إذا وكله في الطلاق فإنه يصح؛ لأنه فسخ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الإذخر والحشيش في القبر (1349) ، ومسلم في الحج/ باب تحريم مكة (1355) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(9/331)
ولذلك لو فرضنا أنه صح التوكيل في الظهار، وأراد الزوج الرجوع، فالزوج هو الذي يتحمل الكفارة، وإذا كانت الكفارة تتعلق بالموكِّل فإنه لا يصح التوكيل فيه.
وقوله: «واللعان» ـ أيضاً ـ لا يصح التوكيل فيه، وهو مشتق من الملاعنة، وهي أيمانٌ مؤكدة بشهادات سببها ما يكون بين الزوج وزوجته إذا رماها بالزنا ـ والعياذ بالله ـ فقال: إن امرأته زنت فهذا له حالات ثلاث:
أولاً: إن أقرت الزوجة بذلك ارتفعت عنه العقوبة، ووجبت العقوبة على الزوجة.
ثانياً: إن أنكرت وأتى ببينة ارتفعت عنه العقوبة، ووجب الحد على الزوجة.
ثالثاً: إن أنكرت ولم يجد بينة فحينئذٍ نجري اللعان، فيشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ويقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فإن ردت عليه اللعان فله حكمه، وإن لم ترد اللعان فهل يثبت عليها الحد أو لا؟
من العلماء من يقول: إن الزوج إذا لاعن ثم نكلت الزوجة وجب عليها الحد.
ومنهم من يقول: إذا لاعن الزوج ونكلت الزوجة، فإنها تحبس حتى تقر أو تلاعن أو تموت.
والقول الأول هو الصحيح، وهو المتعين؛ لأنه يكون كإقامة البينة، فقول الله ـ تعالى ـ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *} [النور] ، فالعذاب يعني الحد،(9/332)
وليس الرجم، بدليل أن الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *} [النور] ، فسمى الله الحد عذاباً، فإن لم تشهد وجب الحد عليها.
فإذا أراد الزوج أن يلاعن الزوجة؛ لإثبات ما ادعاه عليها، ولكنه أراد أن يوكل من يلاعن عنه، فهذا لا يقبل؛ لأن اللعان يتعلق بالزوج نفسه، إذ أنه إذا لم يلاعن وجب عليه حد القذف، وإن لاعن ونكلت هي وجب عليها حد الزنا، فالوكيل لا يجوز أن يقول: «وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» ، وهو ـ أيضاً ـ لم يقذف، وكذلك المرأة لا توكل من يلاعن عنها.
وقوله: «والأيمان» لا تدخل فيها النيابة فلا تصح فيها الوكالة، فلو أن شخصاً ادعى على زيد بمائة ريال وليس عنده بينة، فالحكم أن يحلف زيد المدعى عليه يميناً بأنه لا حق لفلان عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «واليمين على من أنكر» (1) ، فلما توجهت اليمين على المنكر، قال: أُوكِّلُ فلاناً يحلف عني، فهذا لا يصح؛ لأن هذه مما تتعلق بالإنسان نفسه، وهو الذي يكون آثماً أو بارّاً، فلا يصح فيها الوكالة.
ولو أن يهودياً عليه جزية، وكان موعد أخذ الجزية منه يوم الاثنين، فقال اليهودي لخادمه: اذهب أعطِ المسلمين الجزية، فذهب الخادم وأعطى الجزية، فلا يصح التوكيل؛ لأن هذا يتعلق بالإنسان نفسه، لقول الله ـ تعالى ـ في صفة أخذ الجزية: {حَتَّى
__________
(1) سبق تخريجه ص (164) .(9/333)
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، ولهذا إذا جاء بها لا بد أن يسلمها «عن يد» يعني من يده، أو «عن يد» أي: عن قوةٍ مِنَّا عليه، وهو ـ أيضاً ـ صاغر، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيد للمسلمين هذا المجد الذي فقدوه بفقدهم كثيراً من دينهم.
قوله: «وفي كل حق تدخله النيابة من العبادات» أي: وتصح الوكالة في كل حق لله تدخله النيابة.
حق الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يدخله التوكيل مطلقاً، وقسم لا يدخله مطلقاً، وقسم فيه تفصيل.
القسم الأول: كل العبادات المالية تدخلها النيابة، كتفريق زكاة وصدقة وكفارة.
القسم الثاني: العبادات البدنية لا تصح فيها الوكالة، مثل الصلاة والصيام والوضوء والتيمم وما أشبهها، فهذه عبادة بدنية تتعلق ببدن الإنسان فلا يمكن أن تدخلها النيابة، ولكن لو وكلت شخصاً يستفتي عني فهذا لا بأس به؛ لأن هذا نقل علم يقصد به الإخبار فقط؛ ولذلك كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يوكل بعضهم بعضاً في استفتاء النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، فإن قيل: يرد على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (2) ، فهذا يدل على أن العبادة البدنية يكون فيها نيابة، فالجواب: أن هذا
__________
(1) من ذلك توكيل علي المقداد رضي الله عنهما ليسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن حكم المذي، أخرجه البخاري في العلم/ باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال (132) ، ومسلم في الطهارة/ باب المذي (303) عن علي ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الصوم/ باب من مات وعليه صوم (1952) ، ومسلم في الصيام/ باب قضاء الصوم عن الميت (1147) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(9/334)
ليس عن طريق التوكيل، ولكن هذا تشريع من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهو في الحقيقة أصيل وليس بوكيل، ولهذا يصوم الإنسان عن ميته سواء أوصى به أم لم يوصِ به، فالمسألة هنا ليست من باب الوكالة، لكنها من باب القيام مقام الشخص بأمرٍ من الشرع.
القسم الثالث من العبادات: هو الذي يصح فيه التوكيل على التفصيل، مثل الحج، فيجوز فيه التوكيل في الفرض للذي لا يستطيع أن يحج، أي أنه عاجز عن الحج عجزاً مستمراً، وسيأتي تفصيل ذلك.
المهم أن الأصل في حقوق الله أنه لا يجوز فيها الوكالة؛ لأن حقوق الله المقصود بها إقامة التعبد لله ـ عزّ وجل ـ وهذه لا تصح إلا من الإنسان نفسه؛ لأنك لو وكلت غيرك، فهل بفعله تحس بأن إيمانك زاد به؟ الجواب: لا؛ ولذلك كان الأصل في حقوق الله ألاّ تصح الوكالة فيها، هذا هو الضابط؛ وذلك لأن المقصود بها التعبد لله، وهذا لا يصح فيما إذا قام به غير المكلف، إذاً لا نجيز الوكالة في شيء من العبادات إلا فيما ورد فيه الشرع، هذا هو الأصل، ولننظر:
أولاً: الصلاة هل ورد التوكيل فيها؟
الجواب: لا، لا فرضها ولا نفلها.
هل ورد قضاؤها عمَّن مات وعليه صلاة؟
الجواب: لا، لم يرد، لا في الفرض ولا في النفل.
إذاً الصلاة لا تصح الوكالة فيها في حالة العجز، ولا(9/335)
في حال القدرة، ولا في الفرض، ولا في النفل.
ثانياً: الزكاة هل تصح الوكالة فيها؟
الجواب: نعم، تصح الوكالة فيها للعاجز والقادر، يعني يصح أن يوكل القادر شخصاً يؤدي زكاته إلى الفقراء، حتى لو قال: خذ زكاتي من مالي وهو لا يعلم عنها، بأن قال له: أحصِ مالي وخذ زكاته وتصدق بها على الفقراء، فإن ذلك جائز. والوكالة في الزكاة لها صورتان:
الصورة الأولى: أن يحصي الإنسان ماله ويعرف زكاته، ويأخذها ثم يسلمها إلى الوكيل، وهذا لا إشكال فيه، والثمرة التي تحصل بأداء الزكاة تحصل في هذه الحال؛ لأن الإنسان يشعر الآن بأنه أخرج من محبوباته ما يكره أن يخرج منها، لكن الله يحب ذلك فأخرجها لله.
الصورة الثانية: أن يوكل شخصاً في إحصاء ماله ويقول: أحصِ مالي وأخرج زكاته، وهذا لا شك أنه لا يكون في قلبه، ما كان في قلب الأول؛ لأنه لا يحس بأنه أخرج شيئاً معيناً تتعلق به النفس من ماله المحبوب إليه، لكن مع ذلك تصح الوكالة، وهذا ثابت بالسنة، وإذا ثبت بالسنة فهي الفاصل، فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يوكل في إخراج الزكاة، ويوكل في حفظها، ويوكل في قبضها صلّى الله عليه وسلّم.
وإذا صحت الوكالة في الزكاة فلا فرق بين أن يعيِّن المدفوع له أو لا يعين، بأن يقول: ادفع زكاتي لفلان أو يقول: ادفعها لمستحق، لكنه إذا عين الجهة فإن الوكيل لا يصرف الزكاة في(9/336)
غيرها، إلا بعد مراجعة الموكل، فلو قال: أعطها فلاناً، فلا يمكن أن يصرفها لغيره إلا بإذن موكله؛ لأن الوكيل محدود تصرفه بما وكل فيه، لكن لو فرض أن صاحب المال قال: أعطِ زكاتي فلاناً، وهو يعلم أن فلاناً لا يستحق، لكنه لم يعلم إلا بعد أن فارقه الموكِّل؛ لأن الموكل إذا كان يعلم أنه ليس بأهل سيقول له فوراً: إنه لا يستحق، ويجب عليه أن يقول: بأنه ليس أهلاً؛ لأن بعض العوام المساكين يقولون: لا تقطع رزقه، فإذا قال لك أعط زكاتي فلاناً فأعطه إياها سواء يستحق أو لا، وهذا غلط وخيانة ولا يجوز، فإذا كنت تعلم أنه لا يستحق قل: يا أخي هذا لا يستحق، فإذا قال: أعطها إياه وإن لم يستحق، فإنك تقول: لا؛ لأني لو فعلت لأعنته على الإثم، حيث وضع الزكاة في غير محلها، أما إذا لم أعلم إلا بعد أن فارقني الموكِّل، أي: أعطاني الموكل مائة ريال وقال: خذ هذه زكاة أعطها فلاناً، وبعد أن فارقني عرفت أن فلاناً لا يستحق، فهنا أوقف العطاء حتى أراجعه وأقول: إن فلاناً لا يستحق، فإذا قال: أعطه ولو كان لا يستحق، أقول: لا، لا أعينك على الإثم.
فإن قال: أعطها إياه تطوعاً، فهنا يصح ويعطيها إياه.
إذاً الزكاة يجوز التوكيل في قبضها وإخراجها للعاجز والقادر؛ لأن السنة وردت به؛ ولأنها في الحقيقة يتعلق بها حق ثالث، وهو المستحق، فمتى وصلت إلى مستحقها من أي جهة كانت فهي في محلها.
ثالثاً: الصوم هل يجوز أن يوكل أحداً يصوم عنه؟(9/337)
الجواب: لا، لا فرضاً ولا نفلاً، حتى لو كان عاجزاً عليه كفارة يمين، أو فدية أذى صيام ثلاثة أيام وهو شيخ كبير وله أولاد، فقال لأبنائه: صوموا عني ثلاثة أيام، فلا يجزئ هذا عنه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا لم يرد فقد قلنا: إن الأصل في العبادات أنه لا يجوز التوكيل فيها؛ لأنه يفوت المقصود من التعبد لله ـ عزّ وجل ـ إذاً لو أن العاجز وكَّل في الصوم، ما أجزأ إذا كان عجزه لا يرجى زواله، ولو وكل في الإطعام عنه فهذا يجزئ؛ لأن الإطعام يشبه الزكاة فيجزئ.
إذا مات فهل يقضى عنه أو لا يقضى؟ أما النفل فلا يقضى؛ لأنه لم يرد، وما دام أنه لم يرد فالأصل عدم القضاء، فلو أن إنساناً كان من عادته أن يصوم الأيام الثلاثة البيض ولكنه لم يصمها، ثم توفي قبل استكمال الشهر فإنه لا يصام عنه.
وإذا كان واجباً فمن العلماء من قال: إنه لا يصام عنه؛ لأنه إذا مات وهو لم يصم صار كالشيخ الكبير والمريض الميؤوس منه، فيطعم من تركته عن كل يوم مسكيناً ولا يصام عنه.
وقال بعض العلماء: يصام عنه صيام الفرض سواء كان واجباً بأصل الشرع كرمضان والفدية والكفارة، أو كان واجباً بالنذر، واستدلوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في الصحيحين: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (1) ، فقوله: «وعليه صيام» ، يشمل الفرض بأصل الشرع أو الفرض بالنذر فهو عام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (334) .(9/338)
وفصل بعض العلماء فقال: إن كان واجباً بالنذر قضي عنه، وإن كان واجباً بأصل الشرع فإنه لا يقضى عنه.
واستدلوا بأن امرأة أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن أمها نذرت أن تصوم شهراً فلم تصم فقال: «صومي عنها» (1) ، فأذن لها أن تصوم عنها، والصيام نذر ولا يقاس عليه الواجب بأصل الشرع؛ لأن الأصل في العبادات عدم جواز الوكالة، لكن هذا القول ضعيف.
والصواب القول الثاني أنه يجوز أن يصام عن الميت ما وجب عليه من فرض بأصل الشرع أو فرض بالنذر، والدليل عموم حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وما قصة المرأة التي سألت عن النذر إلا فرداً من أفراد هذا العموم، لا يخالفه ولا يقيده، فهي قضية عين وقع فيها أن الميت مات وعليه صوم مفروض، فأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصيام عنها، ثم نقول ـ أيضاً ـ: أيهما أكثر أن يموت الإنسان، وعليه صيام من رمضان أو عليه صيام نذر؟
الجواب: الأول لا شك، فمتى يأتي إنسانٌ نَذَرَ أن يصوم ومات قبل أن يصوم؟! فلا يمكن أن نحمل الحديث العام على الصورة النادرة، دون الصورة الشائعة، فهذا في الحقيقة خلل في الاستدلال.
فالصواب أنه يصام عنه إذا مات وعليه صيام، لكن متى يكون عليه الصيام؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب من مات وعليه صوم (1953) ، ومسلم في الصيام/ باب قضاء الصوم عن الميت عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (1148) (155) .(9/339)
الجواب: إذا أمكنه أن يصوم ولكنه فرط ثم مات، وأما من لم يفرط فإنه لا صيام عليه؛ لأنه إن كان مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه ففرضه الإطعام، وإن كان مرضاً يرجى برؤه واستمر به المرض حتى مات، فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يدرك أن يقضي، ومثل ذلك إذا حصل حادث ومات الإنسان المخطئ في نفس الحادث في الحال، والمخطئ إذا قتل نفساً خطأ فيكون عليه إما عتق رقبة، وإما صيام شهرين متتابعين، فإن مات وكان ذا مال يتسع لعتق الرقبة، أُعتق من ماله؛ لأنه دين عليه، وإن كان ليس عنده مال أو لا توجد الرقبة فلا صيام عليه؛ لعدم التمكن من الأداء، فالرجل لم يتمكن من الأداء؛ لأنه مات في الحال، فكيف نلزمه صيام أيام لم يعشها؟! الله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وهذا أبلغ، هذا غير ممكن إطلاقاً.
فحكم التوكيل في الصيام لا يصح مطلقاً في حال الحياة لا فرضاً ولا نفلاً، ولا عاجزاً ولا قادراً.
رابعاً: الحج: الحج كغيره من العبادات؛ والأصل فيه عدم جواز التوكيل؛ لأنه عبادة، والأصل في العبادة أنها مطلوبة من العابد، ولا يقوم غيره مقامه فيها، وحينئذٍ نقول: الحج وردت النيابة فيه عن صنفين من الناس.
الأول: من مات قبل الفريضة فإنه يحج عنه؛ لأنه ثبت ذلك بالسنة (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب الحج والنذور عن الميت (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(9/340)
الثاني: من كان عاجزاً عن الفريضة عجزاً لا يرجى زواله، فهذا جاءت السنة بالحج عنه (1) ؛ وعليه فإذا عجز الإنسان عن الحج بعد وجوبه عليه مع قدرته عليه ماليّاً، والعجز لا يرجى زواله كالكبر والمرض الذي لا يرجى برؤه، قلنا: ينوب عنه من يحج عنه؛ لأن ذلك ثبت بالسنة.
لو وكَّل في حج الفريضة وهو قادر فلا يصح، فإذا حج الوكيل فالحج له؛ لأن هذه الوكالة فاسدة، والفاسد وجوده كالعدم.
والنافلة إذا وَكَّلَ فيها شخصٌ مريضٌ مرضاً لا يرجى برؤه، فحج عنه هذا الوكيل، فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك إنما ورد في حج الفريضة، وما دمنا قلنا: إن الأصل في العبادات عدم جواز التوكيل فإنه لا يوكل؛ لأن النافلة لم يرد فيها التوكيل، فنقول لهذا: إن كنت قادراً فحج بنفسك، وإن كنت عاجزاً فلم يوجب الله عليك الحج فلا تحج، ونقول لمن كان قادراً بنفسه: الصدقة بهذا المال أفضل بكثير من أن توكل من يحج عنك، وإعانة حاج لتأدية فرض الحج بهذه خمسة الآلاف، أفضل من أن يحج عنك نفلاً.
لكن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ توسع في هذا، وقال: إذا كان يجوز له أن يستنيب في الفرض جاز أن يستنيب في النافلة، وعلى هذا فإذا كان عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله، فله أن يوكل من يحج عنه، قالوا: لأن طلب الفريضة من الإنسان بدنيّاً أقوى وأشد
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج/ باب وجوب الحج (1513) ، ومسلم في الحج/ باب الحج عن العاجز (1334) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.(9/341)
من طلب النافلة، فإذا جاز التوكيل في الأشد جاز التوكيل في الأخف، لكن هذا التعليل معارض بالتعليل الأول، وهو أن المطالب بالفريضة لا بد أن يأتي بها، إما بنفسه أو بنائبه.
وبعضهم ـ أيضاً ـ توسع وقال: النفل يجوز التوكيل فيه ولو كان قادراً، وهذا من غرائب العلم؛ لأن هذا لا يصح أثراً ولا نظراً، فلا يصح أثراً؛ لأنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أحداً حج عن أحد نافلة.
وأما نظراً فلأننا إن قلنا بالقياس على الفريضة، فالفريضة لم ترد إلا في حال العجز عجزاً لا يرجى زواله.
وبعضهم ـ أيضاً ـ توسع توسعاً ثالثاً، وقال: يجوز أن يوكل الإنسان في حج النفل ولو في أثنائه، وعلى هذا إذا ذهب إنسان للعمرة وطاف ووجد مشقة وهي نافلة، وقال لإنسان: يا فلان وكلتك تسعى عني وتحلق عني، جاز على هذا القول، وهذا في الحقيقة من أضعف الأقوال، أن يستنيب شخصاً في إكمال النافلة؛ لأن الحج إذا شرع فيه الإنسان، صار فرضاً واجباً عليه لا يمكن أن يتحلل منه إلا بإتمامه، أو بالإحصار عنه، أو بالعذر إن اشترط، لقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالَعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، فالحج من بين سائر الأعمال إذا شرعت فيه وهو نفل يلزمك أن تتمه، قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] ، فجعل الإحرام بالحج فرضاً، وقال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} يعني الحُجاج {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] .(9/342)
وأقرب الأقوال: أن التوكيل في النفل للقادر لا يصح أبداً، فيقال للقادر: إما أن تحج بنفسك وإما ألا تحج، وأما العاجز ففي إلحاق النفل بالفرض ثقل على النفس، فالإنسان لا يجزم بأنه يلحق بالفرض؛ لأن الفرض لازم يطالب به الإنسان، والنفل تطوع ليس بلازم، فإذا أجازت الشريعة التوكيل في الفرض فإنه لا يلزم أن يجوز ذلك في النفل؛ لأن الإنسان من النفل في سعة، والقول بأنه إذا جاز في الفرض جاز في النفل من باب أولى ضعيف، وكون الفرض أشد مطالبة أن يقوم الإنسان فيه ببدنه نقول: هذا صحيح، لكن العبادات الأصل فيها منع التوكيل فيقتصر على ما ورد، ولذلك بعض الناس يوكل في حجج كثيرة، نافلة لأبيه، وأمه، وعمه، وخاله، وما أشبه ذلك، ولكنه جالس من غير عجز، فأين الحج الذي جعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم جهاداً حين سألته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: «عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» (1) ؟!
خامساً: الشهادتان، لا يجوز التوكيل فيهما مطلقاً، فلو قال شخص غير مسلم: يا فلان أنا أريد أن أسلم لكن وكلتك أن تشهد عني، فهذا لا يصح، ولو كانت وثيقة من كاتب عدل فهذا لا يمكن.
فالقاعدة: «أن الأصل في العبادات منع التوكيل فيها» ؛ لأن التوكيل فيها يفوت المقصود من العبادة وهو التذلل لله ـ عزّ وجل ـ والتعبد له، ويقتصر فيها على ما ورد.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/71، 165) ، وابن ماجه في المناسك/ باب الحج جهاد النساء (2901) قال الحافظ في البلوغ (709) : إسناده صحيح.(9/343)
قوله: «والحدود في إثباتها» الحدود جمع حد، وهو في اللغة المنع، والمراد به هنا كل عقوبة مقدرة من الشرع على معصية لتمنع من الوقوع في مثلها وتكفر ذنب صاحبها، والمراد بإثباتها، مثل أن يقول الحاكم لشخص: اذهب إلى فلان ليقر بما يقتضي الحد، فهذا في إثباتها.
قوله: «واستيفائها» بأن يكون المذنب قد اعترف وثبت الحد، فيوكل الحاكم من يقيم هذا الحد، فهذا لا بأس به، والدليل قول النبي لرجل من الأنصار: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فقوله: «فإن اعترفت» هذا إثبات، وقوله: «فارجمها» هذا استيفاء.
فلنستعرض الحدود وهي: حدّ الزنا، وحدّ القذف، وحد السرقة، وحد قطع الطريق.
أولاً: الزنا، وهو حد بنص القرآن، قال الله ـ تعالى ـ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . وجاءت السنة بزيادة على ذلك، وهي أن يُغرَّب الزاني والزانية عن البلد الذي حصل فيه الزنا لمدة عام، وإن كان محصناً ـ وهو الذي قد تزوج بنكاح صحيح وجامع زوجته ـ فإن حده الرجم، حتى وإن كان قد فارق الزوجة.
ثانياً: القذف، وحده ثمانون جلدة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] .
ثالثاً: السرقة، وحدها قطع اليد اليمنى من مفصل الكف؛(9/344)
لقول الله ـ تعالى ـ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [المائدة] .
رابعاً: قطاع الطريق وحدّهم ما ذكره الله في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] .
هل (أو) في هذه الآية للتخيير أو للتنويع؟ في ذلك للعلماء قولان:
القول الأول: أنها للتنويع.
القول الثاني: أنها للتخيير.
فعلى القول بأنها للتنويع، فقوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} يحمل على أنهم إن قتلوا فقط بدون أخذ المال قتلوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال فقط تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، أما إذا أخافوا الطريق دون أن يعتدوا على مال أو نفس فإنهم ينفون من الأرض، والنفي من الأرض، هل معناه أن يطردوا من هذا المكان، أو أن يحبسوا؟
في هذا قولان ـ أيضاً ـ للعلماء، منهم من قال: إن النفي من الأرض أن يحبسوا لا أن يطردوا إلى بلاد أخرى؛ لأنهم ربما إذا طردوا إلى بلاد أخرى، عادوا مرة أخرى إلى حالهم فلم نستفد من نفيهم، أما إذا حبسوا فإنهم يحبسون عن الناس فلا يتعدى شرهم إلى أحد.(9/345)
والأرجح في هذا، أنه يرجع إلى اجتهاد القاضي إن رأى أن ينفيهم من الأرض إلى بلاد أخرى، أو أن يحبسوا على حسب ما يرى.
وأما شرب الخمر فقد اختلف العلماء، هل هو حد أو تعزير؟
فأكثر أهل العلم على أنه حد، ثم اختلفوا هل هو أربعون، أو ثمانون، أو يخير الإمام بينهما؟.
ومن تدبَّر عقوبة شارب الخمر، عرف أنها تعزير لا حد، لكنه لا يُنْقَص عن أربعين جلدة.
ودليل ذلك أنهم كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم يؤتى بالشارب فيقوم الناس إليه يضربونه، منهم من يضرب بيده، ومنهم من يضرب بالنعل، ومنهم من يضرب بالرداء أو بالجريد (1) أو ما أشبه ذلك، ولهذا جاء في بعض ألفاظ الحديث: «نحواً من أربعين» (2) . ثم إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ جلد أربعين، ثم جلد عمر ـ رضي الله عنه ـ أربعين، ولما كثر شرب الخمر جمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يستشيرهم، وهذا من دأبه ـ رضي الله عنه ـ، فقال عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون (3) ، يعني فاجلد شارب
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6773) ؛ ومسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1706) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ بمعناه.
وأخرجه البخاري أيضاً عن عقبة بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ (6775) ؛ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ (6777) وعن السائب بن يزيد ـ رضي الله عنه ـ (6779) .
(2) أخرجه مسلم الحدود/ باب حد الخمر (1706) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه مسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1706) (36) ، عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(9/346)
الخمر ثمانين، فأقر ذلك عمر، وعمر له سُنَّةٌ متبوعة فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، وسموا ذلك حداً، لكن من تدبر النصوص الواردة في ذلك عرف أنه ليس بحدٍّ، وأنه تعزير لا ينقص عن أربعين جلدة؛ لأنه لو كان حدّاً ما استطاع عمر ـ رضي الله عنه ـ ولا غيره أن يزيد فيه ولهذا لو كثر الزنا في الناس ـ نسأل الله العافية ـ هل يمكن أن نزيد على مائة جلدة؟
الجواب: لا يمكن حتى لو كثر الزنا، فكون أمير المؤمنين عمر ومعه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يزيدون على ذلك، يدل على أن المقصود هو التعزير الذي يردع الناس عن هذا الشيء الخبيث.
ودليل آخر: قول عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ: (أخف الحدود ثمانون) (1) ، وأقره الصحابة، إذاً لا يوجد حَدٌّ يقدر بأربعين جلدة، وهذا يشبه أن يكون إجماعاً، لأن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يقل: لا أزيد؛ لأن فيه حداً، فالصواب أنه تعزير، وبناءً على ذلك لو كثر شرب الخمر في الناس، فَلِوَلِيِّ الأمر أن يزيد على ثمانين بالكم أو بالنوع أو بالكيفية، حتى لو أنه رأى أن يعزر شارب الخمر بغير ذلك فلا بأس، إلا أنه لا يقطع عضواً من أعضائه؛ لأن بدن الإنسان محترم، وليس فيه قطع، اللهم إلا السارق وقطاع الطريق.
ويرى بعض العلماء أن من الحدود الردة، ويكتبون هذا في مؤلفاتهم، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن الردة إذا تاب المرتد ولو
__________
(1) سبق تخريجه ص (346) .(9/347)
بعد القدرة عليه فإنه يرفع عنه القتل ولا يقتل، ولو كانت حدّاً ما ارتفع بعد القدرة عليه؛ لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المائدة] .
فالصواب أن القتل بالردة ليس حدّاً، حتى على قول من يقول: إن من أنواع الردة ما لا تقبل فيه التوبة، مع أن الصحيح أن جميع أنواع الردة تقبل فيها التوبة، حتى لو سب الإنسان رب العالمين، أو الرسل أو الملائكة، ثم تاب فإن توبته مقبولة؛ لأن من المشركين من سب الله ـ عزّ وجل ـ ومع ذلك قبلت توبتهم، ثم إن عموم الأدلة كقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ، يدل على أن أي ذنب تاب الإنسان منه فإن الله يتوب عليه، حتى لو سب الله جهاراً نهاراً ثم تاب وحسنت حاله، قبلت توبته، والحمد لله؛ لأن باب التوبة مفتوح.
لكن من سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ثم تاب فإننا نقبل توبته، ولكننا نقتله؛ لأن سبه للرسول صلّى الله عليه وسلّم حق آدمي، ولا نعلم هل عفا عنه الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أم لا؟ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد مات فالقتل لا بد منه، لكنه إذا تاب يقتل على أنه مسلم، يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدعى له بالرحمة، ويدفن مع المسلمين.
على كل حال الحدود يجوز التوكيل في إثباتها واستيفائها.
ومن الموكل؟ الموكل من له إقامة الحد، ففي عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم الأمير والقاضي والرسول والقائد والإمام هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا إشكال في الموضوع.(9/348)
وكذلك إذا كان الأمراء هم القضاة فلا إشكال ـ أيضاً ـ؛ لأنهم سوف يحكمون أولاً ثم ينفذون ثانياً، فالأمراء هم الذين يوكلون في إقامة الحدود، لكن في وقتنا الحاضر تفرقت المسؤولية، فصار القاضي عليه مسؤولية، والأمير عليه مسؤولية، فمن الذي يملك تنفيذ الحدود؟
الجواب: الأمير، وعلى هذا فالقاضي يرفع الحكم، ثم الأمير يوكل من شاء إن ينفذ الحكم.
وما الدليل على التوكيل في الحدود في إثباتها واستيفائها؟
الدليل قصة المرأة التي زنا بها أجير عند زوجها، وقيل لهذا الأجير: إن عليك الرجم، فذهب أبوه وافتداه بمائة شاة ووليدة يعني جارية؛ لئلا يرجم، وهذه فتوى جهل وخطأ، فسأل أهل العلم، فقالوا: على ابنك الجلد وعلى امرأة الرجل الرجم؛ لأن الابن غير محصن، أي: بكر، وزوجة المستأجر ثيِّب، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما الغنم والوليدة فهي رد عليك» ، أي: مردودة، يعني لا يملكها الزوج ولا الزوجة؛ وذلك لأن هذا الحكم مخالف لحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبه نعرف أن ما قبض بغير حق يجب أن يرد إلى صاحبه، وأن على زوجة هذا الرجل الرجم، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، ثم قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لرجل من الأنصار: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح/ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2695) ؛ ومسلم في الحدود/ باب من اعترف على نفسه بالزنا (1697) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/349)
فهذا توكيل في إثبات الحد واستيفائه، في إثباته حين قال: «إن اعترفت» ، وفي استيفائه حين قال: «فارجمها» ، وعلى هذا فيجوز لولي الأمر أن يوكل في إثبات الحدود، أي فيما تثبت به وفي تنفيذها.
ولكن الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه ولا سيما في عصرنا الآن؛ لئلا يحصل خطأ في الإثبات أو خطأ في التنفيذ، لكن الكلام على أن هذا جائز، والدليل هذه القصة.
وَليْسَ لِلْوَكِيلِ أنْ يُوكِّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يُجْعَلَ إِلَيْهِ والوَكَالَةُ عَقْدٌ جَائِزٌ وتَبْطُلُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا وَمَوْتِهِ وَعزْلِ الوَكِيلِ وَبِحَجْرِ السَّفَهِ ...
قوله: «وليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكِّل فيه» الوكيل يتصرف بالإذن من الموكل، وإذا كان يتصرف بالإذن من الموكل فإنه يجب ألا يتعدى ما وكل فيه لا بصفة العقد، ولا بالمعقود له، فإذا قال: وكلتك أن تبيع هذا العبد على فلان، فعندنا الآن تعيين في المبيع وتعيين في المشتري، فهل يملك الوكيل أن يبيع عبداً آخر من عبيد الموكل؟
الجواب: لا؛ لأنه خص بمعين، وهل يملك أن يبيع العبد المعين على شخص غير زيد؟
الجواب: لا؛ لأنه يتصرف بالإذن فوجب أن يكون تصرفه بحسب ما أذن له فيه.
فالقاعدة أن الوكيل يتصرف بالإذن، فوجب أن يكون تصرفه بحسب ما أذن له فيه ولا يتعداه، إما لفظاً وإما عُرْفاً.
وهل له أن يوكل؟
الجواب: لا، ليس له أن يوكل، فإذا وكلت فلاناً أن يبيع هذه السيارة فليس له أن يوكل غيره؛ لأنني وكلته هو بنفسه،(9/350)
فليس له أن يوكل غيره؛ لأني قد أثق به، ولا أثق بغيره، ولا سيما في الأمور التي يختلف فيها القصد اختلافاً كبيراً، كما لو وكلت شخصاً يفرق زكاة، وأراد أن يوكل غيره فهذا لا يمكن؛ لأن الزكاة أمرها عظيم، وربما أثق بفلان، ولا أثق بغيره.
فلا يجوز إذاً أن يوكل فيما وُكِّل فيه إلا في أحوال ثلاث:
الحال الأولى:
قوله: «إلا أن يجعل إليه» «يجعل» هذا مبني لما لم يسم فاعله، والفاعل هو الموكل، يعني إلا أن يجعل الموكل ذلك للوكيل، فيقول: وكلتك في كذا ولك أن توكل من شئت، أو من تثق به، أو أن توكل فلاناً قريبك، أو ما أشبه ذلك.
فإذا جعل إليه ووكل حسب ما جُعل إليه، يكون قد تصرف بحسب الوكالة.
الحال الثانية: إذا كان مثله لا يتولاه عادة.
فلو قلت لجارك وهو رجل شريف وزير، أو قاض، أو أمير: يا فلان أنا سوف أسافر، اشتر للبقرة العلف كل يوم، الرجل الآن سوف يشتري علفاً كل يوم للبقرة، فهل له أن يوكل من يشتري العلف؟ أو نقول: اذهب بنفسك؟ نقول: له أن يوكل من يشتري العلف؛ لأن هذا مما جرت العادة ألا يتولاه بنفسه، فله أن يوكل من يشتري، وإن لم يُؤذن له في ذلك، لكن عليه أن يتحرى الرجل الأمين أكثر مما يتحراه لماله.
الحال الثالثة: إذا كان يعجز عن القيام بمثله عادة.(9/351)
مثال ذلك: وكلتَ رجلاً أن يصعد بحجر كبير إلى السطح؛ لأنك تريد أن تبني به السطح، وهو رجل ضعيف لا يقوى على ذلك، فهل له أن يوكل من يحمل الحجر إلى فوق؟
الجواب: نعم؛ لأن مثله يعجز عنه.
وكذلك لو وكلته في بيع أموال كثيرة، وقلت له: اصرف هذه الأموال في هذا الموسم، ولا تتعدى هذا الموسم، وهي أموال كثيرة لو أنه باشرها بنفسه لانتهى الموسم قبل التصريف، فهنا له أن يوكل؛ لأن كون الموكل يقول: بع هذه في هذا الموسم، وهي أموال كثيرة يعرف أنه لا يستطيع أن يقوم ببيعها وحده، معناه أنه قد أذن له في أن يوكل غيره، فيكون الإذن معلوماً من قرينة الحال.
فإذا قال قائل: كيف أجزتم أن يوكل في الحالين الأخريين؟ نقول: لأن هذا وإن لم يأذن فيه الموكل لفظاً فهو كالمأذون فيه عرفاً، فكل أحد يعرف أنك إذا قلت لرجل شريف: يا فلان اشتر العلف للبقرة كل يوم، فالمعروف أنه لا يشتريه بنفسه، وكل يعرف أنك إذا قلت للموكل: اصرف هذه البضاعة في هذا الموسم، وهو عشرة أيام وهي بضاعة كثيرة، كل واحد يعرف أن المراد أن يصرفها بنفسه أو بوكيله.
ففي الحقيقة أن هاتين الحالتين داخلتان في قوله: «إلا أن يجعل إليه» ، لكن لما ذكرها العلماء نقول: إلا أن يجعل إليه لفظاً، وأما الثانية والثالثة فقد جعل ذلك إليه عرفاً.
قوله: «والوكالة عقد جائز» وهو جائز من الناحية التكليفية،(9/352)
ومن الناحية الوضعية ذكرنا من قبل أنها تصح بكل قول يدل على إذن، وأنه يصح التوكيل في كل حق آدمي.
لكن من الناحية التكليفية هل هي من العقود الجائزة، أو من العقود اللازمة؟ يقول المؤلف: إنها عقد جائز، والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.
ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الوكالة من الموكل إذن ومن الوكيل تبرع، فللوكيل أن يرجع، وللموكل أن يرجع ـ أيضاً.
وقوله: «والوكالة عقد جائز» يفيد أن العقود منها جائز، ومنها لازم، ومنها جائز من طرف لازم من طرف.
فعقد البيع بعد التفرق من المجلس عقد لازم إلا أن يكون شرط الخيار؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فقد وجب البيع» (1) .
والرهن عقد جائز من جانب المرتهن، ولازم من جانب الراهن، ووجهه ظاهر؛ لأن الحق في الرهن للمرتهن، فإذا رضي بإطلاق الرهن وإزالته فالحق له، لكنه حق على الراهن فلا يملك أن يتخلص منه.
والوكالة جائزة من الطرفين، وبهذا تمت أقسام العقود، وهي ثلاثة أقسام:
عقد لازم من الطرفين.
عقد جائز من الطرفين.
__________
(1) سبق تخريجه ص (128) .(9/353)
عقد لازم من طرف جائز من طرف.
قوله: «وتبطل بفسخ أحدهما» «تبطل» بإسقاط الواو، وهو الأصح؛ لأنك إذا قلت: «وتبطل» لم تكن هذه الجملة تفسيراً لقوله: «جائز» ، والجملة في الواقع استئنافية، فهي تفسير لمعنى قوله: «جائز» .
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» مَنْ أحدهما؟ الوكيل والموكل، تبطل بفسخه.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أنها تبطل بفسخ أحدهما مطلقاً ولو مع ضرر، ولكن يجب أن نقيد هذا بما إذا لم تتضمن ضرراً، فإن تضمنت ضرراً فإنه ليس لأحدهما أن يضر صاحبه، ودليل ذلك قول الله ـ عزّ وجل ـ: {أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} [النساء: 12] ، ويقول ـ عزّ وجل ـ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) ، ولذلك قال العلماء: إذا تضمَّن الفسخ ضرراً على أحد الطرفين فإن العقود الجائزة تنقلب لازمة درءاً للضرر.
فعلمنا بذلك أن ما كان فيه ضرر فإنه ممنوع شرعاً، فلو أن الوكيل قبِلَ الوكالة على أنه سوف يُصرِّفها في الموسم، ثم انصرف من عند الموكل وفسخ، فقال: اشهدوا أني فسخت الوكالة، والموكل لم يعلم، ففات الموسم، فهنا الفسخ فيه ضرر على الموكل، إذاً لا يحل للوكيل هنا أن يفسخ إلا إذا استأذن من
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(9/354)
الموكل؛ من أجل أن يعرف الموكل كيف يتصرف؟ أو يقال يجوز الفسخ مع ضمان الضرر، فنقول: الوكالة عقد جائز، لكن إذا تضمن ضرراً فتنفسخ الوكالة، وعليك ضمان الضرر.
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» ظاهره سواء علم الوكيل أم لم يعلم، فإذا وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي ثم في اليوم التالي أشهدت رجلين بأني فسخت الوكالة، ثم باع الوكيل البيت في اليوم الثالث ولم يعلم، فالمذهب أن البيع غير صحيح؛ لأني فسخت وكالته قبل أن يبيع، فباع وهو لا يملك العقد عليه.
والقول الثاني: أنه لا ينفسخ إلا بعد العلم؛ لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم زواله فكان تصرفاً صحيحاً، ويقال للموكل أنت الذي فرطت، لماذا لم تخبره بفسخ الوكالة من فوره؟ وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن أحمد، لا سيما وهو في هذه الحال تعلق به حق المشتري، أما إذا لم يتعلق به حق أحد فقد يقال بفسخ الوكالة.
وقوله: «تبطل بفسخ أحدهما» يشمل الفسخ بالقول والفسخ بالفعل، بالقول بأن يقول: فسخت الوكالة، وبالفعل بأنه يفعل فعلاً ينافي تصرف الوكيل، مثل أن يوكله في بيع عبد ثم أَعْتَقَ العَبْدَ، فإعتاقه إياه يتضمن فسخ التوكيل في البيع؛ لأنه لا يمكن بيعه بعد عتقه، وكذلك لو وكله في بيع شيء ثم رهنه تنفسخ الوكالة؛ لأن بيع المرهون لا يصح فعلم أنه عَدَلَ عن بيعه.
قوله: «وموته» أي: إذا مات الوكيل بطلت الوكالة، وإذا مات الموكل بطلت الوكالة.(9/355)
وجه ذلك أنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلا بد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل، أما الوكيل فتبطل بموته؛ لأن الموكل إنما رضيه بعينه فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.
مثال ذلك: رجل وكل شخصاً في بيع بيته، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم قدر الله على الموكل أن يموت، فحينئذ لا يحل للوكيل أن يبيع البيت، ولا أن يتصرف فيه، بل يجب أن يبلغ الورثة أنه قد انتهت الوكالة؛ لأن الملك الآن انتقل إلى الورثة.
مثال آخر: رجل وكَّل شخصاً في بيع ثم قدَّر الله أن يموت الوكيل فتنفسخ الوكالة، ولا يحل للوكيل أن يوكل شخصاً بعد موته يتولى البيع؛ لأن الوكالة انفسخت بموته.
وهنا يجب أن ننبه إلى مسألة يكتبها إخواننا الكُتَّاب الذين يكتبون وصايا للناس، إذا كانت الوصية وقال: أوصيت بثلث مالي يُتصدق به على الفقراء، كثير من الكتَّاب يكتب: والوكيل على ذلك فلان، والصواب أن يقول: الوصي على ذلك فلان؛ لأن هناك فرقاً بين الوكيل والوصي، الوصي من أذن له بالتصرف بعد الموت، والوكيل من أذن له بالتصرف في حال الحياة، وإذا قال: الوكيل على ثلثي فلان، فلو أخذنا باللفظ لقلنا: إذا مات هذا الرجل انفسخت الوكالة، لكن الحكام ـ القضاة ـ يفتون بأن هذا اللفظ من العامة بمعنى الوصية، وإن كان بلفظ الوكالة، ولكننا نقول للكتاب: ينبغي أن تحرروا الكتابة، وإذا ذكرتم وصية فلان بشيء لا تقولوا: والوكيل فلان، قولوا: الوصي.(9/356)
لكن لو قال: «الوكيل بعد موتي» ، ارتفع الإشكال؛ لأنه لو قيد الوكالة بعد الموت فإننا نعلم علم اليقين أنه أراد الوصية.
قوله: «وعزل الوكيل» هذه العبارة لم نرها في المنتهى، ولا في الإقناع، ولا في المقنع ـ أيضاً ـ الذي هو أصل الكتاب، وهي في الحقيقة زائدة، لأن عزل الوكيل يغني عنه قوله: «بفسخ أحدهما» ؛ لأن فسخ الموكل يعني عزل الوكيل، إذاً ليس هناك حاجة إلى أن يقول: «وعزل الوكيل» ، لكن لعل هذا من المؤلف ـ رحمه الله ـ سبق قلم.
على كل حال تبطل الوكالة بعزل الوكيل، وعزل الوكيل هو فسخ الموكل للوكالة.
مسألة: لو أنه وكَّل إنساناً أن يبيع بيته، وبعد انصراف الوكيل باع الموكل نفسه البيت، ثم إن الوكيل باعه، فالمالك باعه على زيد، والوكيل باعه على عمرو، فالوكيل انعزل؛ لأن بيع المالك للشيء الذي وكل شخصاً في بيعه، يعني أنه عزله، وهذا عزل بالفعل، وحينئذ الوكيل باع على عمرو، والمالك باع على زيد، إن أبطلنا بيع الوكيل فقد تعلق به حق عمرو، وإن أبطلنا تصرف المالك أبطلنا حق زيد، فنقدم الآن صاحب الأصل وهو المالك، وحينئذ نقول: إن بيع الوكيل وقع على شيء انتقل ملكه عن صاحبه، حتى صاحبه الآن لا يمكن أن يتصرف فيه، فنقول في بيع الوكيل: إنه باطل؛ لأن هذه المسألة تعلق بها حق ثالث، ثم إن الموكَّل فيه انتقل عن ملك الموكِّل إلى ملك آخر، فلا يمكن أن يبطل هذا الانتقال، وإن صححنا تصرف الوكيل لزم من ذلك إبطال تصرف المالك.(9/357)
مسألة: إذا تصرف الموكل تصرفاً لا يمنع تصرف الوكيل مثل: أن يقول وكلتك في بيع بيتي ثم بعد ذهاب الوكيل، أجّرَهُ الموكل؛ فهل تبطل الوكالة ونقول: إن هذا عزل؟
الجواب: لا؛ لأن التأجير لا ينافي البيع، إذ يجوز بيع المؤجر، فإذا كان يجوز بيع المؤجر، فإن تصرف الموكل الآن لا يعتبر فسخاً للوكالة؛ لأنه لا منافاة بين ما وَكَّل فيه وتصرفه.
إذاً إذا تصرف تصرفاً ينافي الوكالة فهو عزل، وإذا تصرف تصرفاً لا ينافي الوكالة فليس بعزل.
قوله: «وبحجر السفه» لم يقل المؤلف: الصِّغَر؛ لأن الكبير لا يصغر فهو غير وارد أبداً، وأما الحجر للجنون ففيه تفصيل:
إن كان مطبِقاً انفسخت الوكالة، وإن كان غير مطبِق كأن يكون ساعة ويذهب لم تنفسخ، فثلاثة أسباب للحجر، الصغر والجنون والسفه، إذا حُجر على الوكيل أو الموكل حجر سفه انفسخت الوكالة.
وفي قول المؤلف: «وبحجر السفه» منطوق وله مفهوم، ومفهومه حجر الفلس، فمن كان لا يحسن التصرف فالحجر عليه حجر سفه، ومن كان يحسن التصرف لكنه غريم مدين، دينه أكثر من ماله، فالحجر عليه حجر فلس، فالوكالة تبطل بحجر السفه.
مثال هذا: الوكيل قال لشخص: بع بيتي، ثم إن الرجل الذي وكَّله في البيع ـ أي: مالك البيت ـ أصيب بخلل في عقله أفسد تصرفه، فلا تستمر الوكالة بل تنفسخ؛ لأن الموكل الآن لو(9/358)
أراد أن يتصرف بنفسه لم يتمكن، فبوكيله من باب أولى، ويمكن أن تقع بأن يحصل لإنسان حادث يختل به فكره، فنقول الآن: انفسخت الوكالة، ونقول للذي وُكِّلَ في البيع: لا تبع؛ لأن الوكالة انفسخت، فالموكل نفسه لو أراد أن يتصرف لا يمكنه، فكيف بفرعه وهو الوكيل؟
إذاً كلمة «السفه» إنما تعود إلى العقل، بحيث يكون فيه جنون أو سوء تصرف، بحيث يختل فكره وعقله ويبدأ لا يعرف شيئاً.
والحجر لفلس هل تبطل به الوكالة أو لا؟
فيه تفصيل: إن كانت في أعيان مال الموكل انفسخت، وإن كانت في ذمته لم تنفسخ.
أما الوكيل فإنه إذا حجر عليه لفلس لا تنفسخ الوكالة بذلك؛ لصحة تصرفه في مال غيره، إذن إذا حجر عليه لفلس فبالنسبة للوكيل لا تتأثر الوكالة ولا تنفسخ، وبالنسبة للموكل ففيه تفصيل.
مثال ذلك بالنسبة للوكيل: وكل إنساناً يبيع بيته، ثم إن هذا الوكيل صار مديناً دينه أكثر من ماله فحجر عليه؛ فالآن الوكيل لا يمكن أن يبيع شيئاً من ماله؛ لأنه محجور عليه، لكن هل يبيع بيت من وكله؟
الجواب: نعم؛ لأن من حجر عليه لفلس إنما يحجر عليه في أعيان ماله لا في أعيان مال غيره، فتبقى الوكالة.
مثال ذلك بالنسبة للموكل، قال: وكلتك أن تبيع بيتي، ثم(9/359)
إن الموكل لَحِقَهُ الدينُ وصار دينه أكثر من ماله، فحجرنا عليه، هل يملك الوكيل أن يبيع البيت؟
الجواب: لا، وتنفسخ الوكالة؛ لأن الموكل الآن لا يملك بنفسه بيع بيته، فإذا كان الأصل لا يملك البيع، فالفرع من باب أولى.
فصار الحجر لفلس فيه تفصيل، والحجر لسفه ليس فيه تفصيل، فتبطل به الوكالة سواء حجر على الوكيل، أو حجر على الموكل.
وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لَم يَبِعْ وَلَمْ يَشْتَرِ مِنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَلاَ يَبِيعُ بَعَرَضٍ وَلاَ نَسَاءٍ وَلاَ بِغَيْرِ نَقْدِ البَلَدِ......
قوله: «من وُكِّل في بيع أو شراء لم يبع ولم يشتر من نفسه وولده» إذا وكل في بيع فإنه لا يبيع على نفسه، ولا يبيع على ولده، ولا على والده، ولا على من لا تقبل شهادته له؛ لأنه متهم في ذلك، ولأنه لو أراد أن يبيعه على فلان لقال: اشتر مني هذا، واستغنى بذلك عن توكيله.
مثال ذلك: وكلت إنساناً أن يبيع البيت، قلت: وكلتك في بيع بيتي، باعه على ابنه، فإنه لا يصح البيع؛ لأنه متهم، فإذا كان لا تقبل شهادته لولده بالمال لاتهامه بذلك، فكذلك بيعه ما وكل فيه لولده فهو متهم، وإذا كان الوكيل الذي باع على ابنه ثقة عدلاً مرضياً، نقول: ولو كان؛ سداً للباب، ولئلا يقول قائل: لماذا صححتم بيع فلان على ولده ولم تصححوا بيع فلان؟ فنسد الباب، بل لا يبيع على أحد من الأصول كالأب والجد أو الفروع كولد الولد أو ولد البنت؛ لأنه متهم، والأمر في هذا سهل، وهو أن يستأذن من الموكل، فيقول له: إن ابني يريد البيت أتأذن أن أبيعه؟ إذا قال: نعم، انتهى الإشكال، واستثنى بعض العلماء من ذلك مسألتين:(9/360)
الأولى: إذا كان البيع في المزايدة وانتهى الثمن على ولده أو نفسه فإن البيع يصح؛ لأنه ليس فيه تهمة.
مثاله: أعطاه ليبيع السيارة مزايدة بالحراج علناً، زادت ثم زادت ثم زادت، وآخر السعر صار على ولده وباعها عليه، فهذا ليس فيه اتهام، ولهذا استثنى بعض العلماء هذه المسألة، قال: في المناداة إذا انتهى السعر على ولده فلا بأس أن يبيع؛ وذلك لأنه لا تهمة.
الثانية: إذا حدد الموكل الثمن للوكيل وقال: بعها، قال: بكم أبيعها؟ قال: بعها بعشرة آلاف، وباعها على ولده بعشرة آلاف، فهذا يجوز؛ لأن الموكل حدد الثمن، فهو لا يريد أكثر من ذلك، فيصح أن يبيعها على ولده لانتفاء التهمة حينئذ.
ولكن لو أن الموكل قال للوكيل: بعها بعشرة آلاف بناءً على أن هذا أعلى سعر، وكانت السلع قد زادت لكن الموكل لم يعلم، فهل يجوز في هذه الحال أن يبيعها الوكيل على ولده؟
الجواب: لا؛ لأن هذا غش، والواجب أن يخبره إذا كان الوكيل يعلم أن قيمة الأشياء قد زادت، والموكل رجل جاهل بالأسعار، فعليه أن يبين له ويخبره بأن السلعة تساوي أكثر وجوباً؛ لأنه لو كتم وجعلها تباع بعشرة آلاف لكان غاشّاً، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غش فليس منا» (1) ؛ لأن بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يستغل سذاجة الموكل وجهله بالواقع ولا يخبره به فهذا
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا» ، (101) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/361)
حرام، هذا غش، عامِلْ الناسَ بما تحب أن يعاملوك به، لا تغشهم ولا تخدعْهم.
وإذا باع على بنته، فهي من الولد؛ لقوله ـ تعالى>;ـ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، فجعل الله الأنثى من الولد وهو كذلك.
وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يبيع على ولده ووالده وأمه وجدته وبنته وبنت بنته إلا إذا ظهرت المحاباة؛ لأنه وكله في البيع ولم يقل: لا تبع على هؤلاء، فاللفظ يشمل هؤلاء وهؤلاء، وهذا القول هو الصحيح إلا إذا كان شريكاً لهم؛ لأن حقيقة الأمر أنه باع على نفسه، وبناء عليه يجوز أن يبيع على إخوته وأعمامه وبني إخوته ما لم يكن شريكاً لهم.
مسألة: إذا كان لا يبيع على نفسه، فهل يجوز أن يوكل شخصاً يشتريها له؟
مثاله: أعطاه هذه السيارة لبيعها، قلنا: لا يصح البيع على نفسه، لكن قال: يا فلان لا يجوز أن أشتريها لنفسي، لكن وكلتك أن تشتريها لي، وصار الذي يزيد وكيله حتى انتهت عليه واشتراها، فهذا لا يجوز؛ لأنه حيلة، ووكيله قائم مقام نفسه.
وبناءً على أنه لا يجوز للوكيل أن يشتري السلعة لنفسه، فإنه لا يجوز أن يزيد في ثمنها.
مثاله: أخرجها أمام الناس وقال: من يريد أن يسوم بعشرة آلاف، أو باثني عشر ألفاً، وأراد هو أن يزيد لما قال واحد باثني عشر قال: بثلاثة عشر ألفاً أي: الوكيل وهو الذي يسمى الدلال،(9/362)
فهذا لا يجوز؛ لأنه لو زاد لا يمكن أن يشتريها، فيكون في زيادته هنا إضرار بالمشترين، وتضييق عليهم، فما دمت تعرف أنك لا يمكن أن تشتريها فإنه لا يجوز أن تزيد.
فإن أذن الموكل للوكيل أن يشتري فهنا يجوز أن يزيد؛ لأنه إذا أذن الموكل للوكيل أن يشتري فلا بأس، وحينئذ فإذا زاد في الثمن فقد زاد زيادة أذن له فيها، فصار ذلك صحيحاً.
قوله: «ولا يبيع بعرض» مثاله، قال: وكلتُك أن تبيع السيارة فبعتَها بعمارة، فالسيارة تساوي عشرة آلاف، والعمارة تساوي خمسة عشر ألفاً، فهذا لا يجوز، لأني إذا قلت: بعها يعني بدراهم، لا أقول: بعها ببيت.
مثال آخر: قال: بع هذه السيارة، فذهب وباعها بسيارة أخرى فهذا لا يجوز؛ لأني إذا قلت: بعها يعني بعها بدراهم ليس بعرض، وهلم جرّاً.
والفلوس من العَرَض عند الفقهاء، والأوراق النقدية من العرض؛ لأن النقد عندهم هو الدرهم والدينار فقط يعني الذهب والفضة، وعلى هذا فالأوراق النقدية عند الفقهاء عرض، فهل نقول: كلام المؤلف يدل على أني إذا قلت بع هذا البيت ـ مثلاً ـ وباعه بعشرة آلاف من الأوراق النقدية لم ينعقد البيع؛ لأنه باع بعرض نقول: هذا مقتضى كلام المؤلف؛ لأنهم صرحوا أنه لا يبيعها بالفلوس، ولكننا نقول: أصبحت النقود الورقية الآن عند الناس نائبة مناب الدينار والدرهم، فإذا باعها بالفلوس التي هي الأوراق صح البيع.(9/363)
ولو قال الموكل: أنا قلت الدراهم والدنانير هي النقود، أما الأوراق هذه فتأتي بها عندي، وتأكلها الأرضة، والنار تحرقها، لا أريد هذا، لا بد أن تعطيني ذهباً أو فضة فلا يملك هذا؛ لأن العرف الآن المطرد أن هذه الأوراق قائمة مقام الذهب والفضة، بدل الدينار والدرهم.
قوله: «ولا نَسَاء» أي: بثمن مؤخر، سواء كان مؤجلاً أم غير مؤجل، فلا بد أن يكون نقداً يداً بيد، فعلى كلام المؤلف إذا باع شيئاً أذنت له في بيعه، ولم يقبض الثمن فإنه يكون ضامناً، لكن كلام المؤلف هنا ينبغي أن يقيد بما إذا لم يدل العرف على التأخير، والآن عند الناس لو بعت عليك شيئاً اليوم، يمكن أن تذهب به ولا آخذ الثمن منك إلا بعد يوم أو يومين، حسب كثرة الثمن وقلته، وحسب حال المشتري، إلا إذا كان المشتري لا يُعرف، فإنه إذا لم يبعه نقداً يداً بيد فهو ضامن؛ لأنه مفرِّط.
مثاله: إنسان عرض سيارة للمزايدة، فجاء أجنبي لا يعرفه وقال: السيارة تساوي عشرة، وأنا آخذها منك بأحد عشر ألفاً، فأخذها وذهب، فلا يمكن للوكيل أن يدعه يذهب بدون نقد، ولو فعل لكان ضامناً؛ لأنه مفرط.
وهل يبيع مؤجلاً؟ المؤجل غير النسأ، والنسأ هو تأخير القبض ولو كان غير مؤجل، والمؤجل تأخير الوفاء.
مثال ذلك: قلت: بعتك هذا الشيء بثمن يحل بعد شهر فهذا مؤجل، وبعتك هذا الشيء ولم أقبض الثمن فهذا نسأ؛ لأن فيه تأخيراً، وبعتك هذا الشيء بعشرة وأعطيتني إياها وأخذته فهذا يداً بيد.(9/364)
فإن باع مؤجلاً فإن ذلك لا يصح ولو كان الثمن المؤجل أكثر.
قوله: «ولا بغير نقد البلد» نقد البلد عندنا الآن الريال السعودي، فهذا الرجل أخذ السلعة، وذهب وباعها بدولار، فهنا لا يصح البيع؛ لأنني إذا أذنت لك في البيع فبعت بالدولار فقد بعت بغير ما ينصرف الإطلاق إليه، والدولار عندنا ليس نقداً ولكنه سلعة، يزيد وينقص فإذا باع بالدولار لا يصح، وإذا باع بالجنيه المصري ـ مثلاً ـ فهذا لا يصح، وإذا وكله في مصر، وباع بالجنيه المصري فهنا يصح؛ لأنه نقد البلد.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يبيع بغير نقد البلد ولو باع بنقد أغلى.
مثاله: وكلتك أن تبيع هذه السيارة وهي تساوي بنقد البلد مائة مليون وبالدولار ألف دولار وباعها بألف دولار، فهنا على كلام المؤلف لا يصح البيع؛ لأنه غير نقد البلد، مع أنه أغلى من نقد البلد، فهل نقول: إن كلام المؤلف مقيد بما إذا لم يكن النقد الذي باع به أغلى من نقد البلد؟ ربما يقال: إن الرجل إذا باعها بنقد أغلى فإننا نقول: هذا يصح؛ لأنه زاده خيراً، وكما لو قلت: بعها بدراهم فبعتها بدنانير، أليس عروة بن الجعد ـ رضي الله عنه ـ وكَّله الرسول صلّى الله عليه وسلّم يشتري له أضحية فأعطاه ديناراً، فاشترى أضحيتين وباع واحدة بدينار فرجع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأضحية ودينار (1) ، لم يخسر شيئاً، فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك؟ فهذا يدل
__________
(1) سبق تخريجه ص (323) .(9/365)
على أنه إذا كان تصرف الوكيل فيه خيرٌ للموكل فينبغي أن ينفذ؛ لأن مطالبة الموكل بنقد البلد مع أن ما باع به أغلى، ما هو إلا إضرار، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
وإِنْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ أَوْ دُونِ ما قَدَّرَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَى لَهُ بِأكثَرَ مِنْ ثَمَنِ المِثْلِ أَوْ ممَّا قَدَّرَهُ لَهُ صَحَّ وَضَمِنَ النَّقْصَ والزِّيادَةَ.....
قوله: «وإن باع بدون ثمن المثل» هذا تصرف مخالف للوكالة لكنه ليس مخالفاً لها في أصل العقد، بل في وصف العقد، ولهذا يصح ويضمن.
مثاله: قال له: بع سيارتي، وكانت هذه السيارة يُباع مثلها بأربعين ألفاً، فباعها بخمسة وثلاثين ألفاً.
يقول المؤلف: إن البيع صحيح؛ لأنه تعلق به حق لإنسان وهو المشتري فلا نبطل حقه بسوء تصرف غيره، ولأن الوكالة لم تتعد البيع، أي: لم يهبه لأحد أو يعطه إياه مضاربة أو يوقفه؛ بل باعه لكنه خالف في الوصف؛ لأنني من حين أقول: بع السيارة إنما أريد أن تبيعها بثمن المثل، فعلى هذا يصح البيع ويضمن الوكيل النقص؛ لأنه من المعلوم أن الإذن المطلق ينصرف إلى ما تعارف عليه الناس وهو ثمن المثل، فالوكيل باعها بخمسة وثلاثين ألفاً وقيمتها في السوق أربعون ألفاً، إذاً تبقى السيارة مع المشتري؛ لأن البيع صحيح، وعلى الوكيل أن يضمن لصاحب السيارة خمسة آلاف ريال، التي هي قيمة النقص، فإن عفا عنه فالحق له.
وظاهر كلام المؤلف أنه ضامن مطلقاً حتى وإن اجتهد
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(9/366)
وتصرف تصرفاً تاماً، لكن تبين أن السلع قد زادت وهو لا يعلم، والصحيح أنه لا يضمن في هذه الحال لأنه مجتهد وحريص، بل لو باع الموكل في هذه الحال لَعَذَرَ نفسه، كذلك ـ أيضاً ـ الوكيل، ولو قلنا بأنه يضمن في هذه الحال ما استقامت الوكالة أبداً؛ لأن كل وكيل يقول: يحتمل أن تكون القيمة قد زادت ولم أدرِ، فإذا كان الرجل قد اجتهد وتحرى ولكن أتى أمرٌ بغير اختياره ولا يحتمل تفريطه، فالصواب أنه لا ضمان عليه.
قوله: «أو دون ما قدره له» هذه الصورة الثانية بأن قال: بع هذه السيارة بأربعين ألفاً، ومثلها في السوق بخمسة وثلاثين ألفاً، فباعها بخمسة وثلاثين، كما هو سعرها في السوق، يقول المؤلف: إن البيع صحيح، وعليه ضمان النقص بكل حال وهو خمسة آلاف؛ لأن صاحب السيارة حدد الثمن فقال: بع بأربعين، وهذا باع بخمسة وثلاثين، فإذا قال الوكيل: أنا بعت بثمن المثل ولا تساوي أكثر من هذا، قلنا: لكن الموكل حدد لك.
فإذا قال قائل: لماذا لا يبطل العقد من أصله؟
قلنا: لأن هذا الرجل لم يخالف في أصل العقد؛ لأن الوكيل أراد أن يبيعها فباعها، ولا ضرر عليه إلا في النقص وسوف يُضمن.
قوله: «أو اشترى له بأكثر من ثمن المثل» هذه الصورة الثالثة، مثاله قلت لرجل: اشترِ لي مسجلاً فذهب واشترى مسجلاً بأربعمائة ريال وهو يساوي مائتين يصح الشراء؛ لأنه تعلق به حق ثالث، لكن الوكيل يضمن الزيادة.(9/367)
قوله: «أو مما قدره له صح» هذه الصورة الرابعة، قال له: اشتر لي ـ مثلاً ـ ساعة ماركة كذا، وهي تباع بأربعين ريالاً، لكن صاحب الساعات صاحب للوكيل، فاشتراها بخمسة وأربعين، فنقول: الشراء صحيح؛ لأنه حصل مقصود الموكل، والزيادة عن ثمن المثل نُضمِّنُها الوكيلَ وهي خمسة الريالات.
لو قال الوكيل: الموكل قَدَّرَ لي أربعين لكن السعر زاد، واشتريتها بما تساويه كما هو معلوم في جميع محلات بيع الساعات أن قيمتها تساوي خمسة وأربعين؟
نقول: لكن الموكل حدد لك، لماذا لم ترجع إليه وتخبره أن القيمة زادت ثم تنظر، هل يستمر في التوكيل أو لا؟
قوله: «وضمن النقص» هذا فيما إذا باع بدون ثمن المثل، أو دون ما قدره له، ضمن النقص.
قوله: «والزيادة» هذا فيما إذا اشترى بأكثر من ثمن المثل، أو مما قدره له، وهذا يسمى عند البلاغيين (اللف والنشر المرتب) ، وأحياناً يكون اللف والنشر غير مرتب، فيبدأ بالثاني ثم الأول.
مثاله قال الله ـ تعالى ـ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] ، هذا لف ونشر غير مرتب، وقوله ـ تعالى ـ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} ، ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 105 ـ 108] هذا لف ونشر مرتب.
فإذا قال قائل: ما هو الأصل أن يكون اللف والنشر مرتباً أو أن يكون غير مرتب؟(9/368)
قلنا: الأصل أن يكون مرتباً؛ لكنه يأتي أحياناً غير مرتب لنكتة بلاغية تظهر عند التأمل، فالمؤلف هنا مشى على اللف والنشر المرتب.
وإِنْ بَاعَ بِأَزْيَدَ أَوْ قَالَ: بِعْ بِكَذَا مُؤَجَّلاً فَبَاعَ بِهِ حَالًّا، أو اشْتَرِ بِكَذَا حالًّا فَاشْتَرى بِهِ مُؤَجَّلاً، ولا ضَررَ فِيهِمَا صَحَّ وإِلاَّ فَلاَ.
قوله: «وإن باع بأزيد» أي: أزيد من ثمن المثل فإنه يصح، كما لو عَيّن واحداً واشترى اثنين، والثاني قد جاءت به السنة، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم طلب من الجعد بن عروة ـ رضي الله عنه ـ أن يشتري أضحية بدينار فاشترى شاتين، ثم باع واحدة بدينار وأقره الرسول صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وقد يقال: إن هذا يمكن فيه المنازعة؛ لأن هذا أقره الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنقول: إقرار الرسول صلّى الله عليه وسلّم له وعدم قوله: لا تَعُد، يدل على أن مثل ذلك جائز.
مثال ما إذا باع بأزيد مما قدره له: قال: يا فلان بِعْ هذه الساعة بأربعين درهماً، فذهب وباعها بخمسة وأربعين، وجاء وقال له: خذ الخمسة والأربعين، فهذا يصح وإن عين، فإن أبى قال له الوكيل: أعطني الخمسة، وقدِّرْ أنك بعتها بأربعين.
لكن لو عَيّن من يبيعها عليه فقال: بعها على فلان بأربعين، ثم باعها عليه بخمسة وأربعين، فهنا لا يصح؛ لأن تعيين الموكل للشخص يدل على أنه أراد بذلك محاباة الشخص، وهذا لما باعها بأزيد فوت على الموكل غرضه، وحينئذ نقول: لا يصح، ارجع إليه ورد عليه الخمسة، أو نقول بأسوأ الأمرين: إن البيع غير صحيح.
__________
(1) سبق تخريجه ص (323) .(9/369)
قوله: «أو قال بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا، أو اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً ولا ضرر فيهما صح وإلا فلا» هاتان مسألتان:
الأولى: «بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا» قال: يا فلان خذ هذه الساعة بعها بأربعين درهماً لكنها مؤجلة إلى سنة، فذهب الوكيل وباعها بأربعين نقداً وجاء بالأربعين، فقال له الموكل: أنا قلت لك: بعها بأربعين مؤجلة إلى سنة، قال: هذا أحسن لك، أنا أتيت لك بالأربعين وبدلاً من أن تنتظر الوفاء لمدة سنة، الآن حصل الوفاء، فيقول المؤلف: يصح بشرط ألا يكون هناك ضرر.
وعُلِمَ من كلامه أنه إذا كان هناك ضرر فالبيع غير صحيح، وصورة الضرر أن يكون هذا الموكل يريد السفر، وليس راجعاً إلى البلد إلا بعد سنة، ويعلم أنه لو أخذ الدراهم الآن ضاعت منه، فله غرض في التأجيل، فالغرض هو ألا يضيع ماله، فنقول: في هذه الحال لا يصح البيع؛ لأن الموكل له غرض في التأجيل وأنت فوت عليه غرضه.
مثال آخر: أن يكون هذا الموكل في بلد فيه ولاة ظلمة يسطون على الناس، ومن وجدوا عنده مالاً ضربوا عليه ضرائب، أو أخذوا ماله، وهو يقول: لو أخذت الثمن حالًّا، ووضعته عندي، فجاءت أعين الظلمة وقالوا: هذا الرجل عنده مال وتسلطوا عليه، فهذا غرض صحيح، قال: أنا قلت لك بعه مؤجلاً؛ لأن الولاة الظلمة قد نشروا أعينهم في البلد، ومن رأوا(9/370)
عنده مالاً أخذوه أو جعلوا عليه ضريبة، وأنا لا أريد ذلك، نقول: هذا فيه ضرر فَبَيْعُهُ نقداً فيه ضرر على الموكِّل.
الخلاصة: أنه إذا قال: بع بكذا مؤجلاً فباع به حالاً فالبيع صحيح، ويُلزم الموكل بقبض الثمن، إلا إذا كان في ذلك ضرر فالبيع غير صحيح ولا يلزم الموكل بقبض الثمن، وضربنا مثالين للضرر.
الثانية: «اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً» مثاله: قال: يا فلان هذه أربعون درهماً ـ والدرهم هو النقد من الفضة ـ اشتر لي ساعة بأربعين درهماً وعيَّن الساعة، فذهب الوكيل واشترى ساعة مؤجلة إلى سنة بأربعين درهماً، ورد الأربعين درهماً إلى الموكل، وقال ـ الحمد الله ـ جاءك ساعة بأربعين درهماً مؤجلة، وانتفع بدراهمك الآن، وإذا جاءت السنة فأوف، فهذا يصح بشرط ألا يكون هناك ضرر، والأحسن للناس التعجيل، حتى لو كان لك حق على شخص مؤجل، وقلت: يا فلان عندي لك عشرة آلاف إلى سنة، يكفيني منك ثمانية آلاف نقداً فأعطني ثمانية آلاف، فهذا يجوز، مع أنه أخذ عن العشرة ثمانية، فكُلٌّ يرغب التعجيل إلا أن يكون هناك ضرر.
الضرر أن هذا الموكل يقول: إذا جاءت الفلوس عندي فأنا رجل يدي خرقاء لا تمسك الدراهم، فيمكن أن أعمل وليمة لأصدقائي اليوم بأربعين ريالاً وأخسرها، فهذا ضرر علي، وهذا غرض صحيح، وكثير من الناس إذا كانت الدراهم عنده يضيعها.(9/371)
فالخلاصة: أنه إذا باع بأقل من ثمن المثل أو مما قدر له فالبيع صحيح، وعليه ضمان النقص.
وإذا اشترى بأكثر مما قدر له أو بأكثر من ثمن المثل فالشراء صحيح، وعليه ضمان الزيادة.
وهذا إذا كانت المخالفة في الكمية، أما في الكيفية بأن قال: بع بكذا مؤجلاً فباع به حالًّا أو اشتر بكذا حالًّا فاشترى به مؤجلاً، فإننا نقول: يصح؛ لأنه هنا ليس فيه زيادة ولا نقص، إلا إذا كان في ذلك ضرر على الموكل فإنه لا يصح، والذي يقدر الضرر أهل الخبرة، فإذا قالوا: إن هذا الغرض الذي ذكره الموكل صحيح، وأن في التعجيل ضرراً، أو في التأخير ضرراً عمل به.(9/372)
فصلٌ
وَإِنِ اشْتَرَى مَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ لَزِمَهُ إِنْ لَمْ يَرْضَ مُوَكِّلُهُ، فَإِنْ جَهِلَ رَدَّهُ........
قوله: «وإن اشترى» الفاعل هنا الوكيل.
قوله: «ما يعلم عيبه لزمه إن لم يرض موكله» وذلك أن الموكِّل إنما وكله في شراء شيء سليم، لا في شراء شيء معيب، وكلٌّ يعرف أنه لا أحد يقول: اشتر لي شيئاً معيباً.
مثاله: وكله في شراء سيارة، واشترى سيارة معيبة بثمن المثل ليس فيها زيادة ولا نقص، فنقول: يلزمك أنت أيها الوكيل، وتضمن للموكل الدراهم التي أعطاك، فإن رضي الموكِّل، بأن قال: هذا رجل محسن إلي وتعب في تحصيل السيارة وأنا راضٍ وإن كان فيها عيب، فإننا نقول: يصح ولا يلزم الوكيل شيء؛ لأن الحق له وقد رضي به.
لكن يبقى النظر إذا قلنا: إنه يلزم الوكيل هذا المبيع المعيب، وأن الموكل ليس له إلا مبيع سالم، هل يملك الوكيل أن يرد السلعة على من اشتراها منه؟
الجواب: لا يملك؛ لأن المؤلف يقول: «وإن اشترى ما يعلم عيبه» . فالوكيل الآن عالم بالعيب داخل على بصيرة وليس له حق الرد، إلا أنه يستثنى من ذلك ـ أي: في حق الرد ـ إذا قال الوكيل: أنا مشتريها لفلان بالوكالة، وأنا راض بالعيب، لكن إن لم يرض موكلي فهو على خياره، فإننا نقول: له الرد؛ وذلك لأن البائع دخل على بصيرة وقبل هذا الشرط.
قوله: «فإن جهل رده» الفاعل يعود على الوكيل، يعني إن(9/373)
جهل العيب ولم يَدْرِ به رده، ولم يقل هنا: إنه يخير بين الرد وبين الأرش، والذي قرأ في باب الخيار يمر عليه أنه يخير إذا وجد العيب، بين إمضاء البيع مجاناً أو إمضائه بالأرش أو رده، وهنا يقول المؤلف: «إن جهل رده» فقط ولا يملك أخذ الأرش؛ لأن أخذ الأرش معاوضة جديدة إذ أن الأرشَ عوض عن الجزء الفائت بالعيب، ولا يملك أن يعاوض هو لأنه ليس أصيلاً بل هو وكيل وفرع، إلا إذا قال الموكل: لا بأس أن تأخذ الأرش.
إذن إذا اشترى معيباً وهو لا يعلم بعيبه ثم وجد العيب، نقول الآن: لك الخيار بين الرد والإمضاء، لكن الإمضاء لا بد أن يرضي الموكِّل، ولا نقول: لك الخيار بين الرد والإمضاء مع الأرش.
مثال ذلك: إنسان اشترى سيارة على أنها سليمة بأربعين ألفاً؛ ولما ذهب بها وجد أن فيها عيباً ينقص من قيمتها عشرة آلاف، فتكون قيمتها في الواقع ثلاثين ألفاً، نقول للمالك: أنت الآن بالخيار، إما أن ترد السيارة على البائع وتأخذ الأربعين، وإما أن تبقيها، وتأخذ عشرة عن العيب، أما الوكيل فقد سبق أنه لا يملك الأرش.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن لا أرش وأنه يقال لمن اشترى المبيع المعيب: إما أن ترد وإما تأخذه معيباً ولا أرش إلا برضا البائع، والبائع يقول للمشتري: خذ السلعة بعيبها وإلا ردها، وخذ دراهمك، أما أن تلزمني أن أخصم من الثمن فهذا لا يلزمني.(9/374)
وَوَكِيلُ البَيْعِ يُسَلِّمُهُ وَلاَ يَقْبِضُ الثَّمنَ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ وَيُسَلِّمُ وَكِيلُ المُشْتَري الثَّمَنَ، فَلَوْ أخَّرَهُ بِلاَ عُذْرٍ وتَلِفَ ضَمِنَهُ......
قوله: «ووكيل البيع» أي: الذي وُكل في بيع.
قوله: «يسلِّمه» أي: يسلم المبيع؛ لأن هذا من مقتضى العقد.
مثاله: أعطيت رجلاً ساعة يبيعها لك فباعها، فسلمها إلى المشتري مع أن الموكل لم يقل: بعها وسلمه إياها، إنما أمرك بالبيع، فنقول: التسليم من مقتضى العقد؛ لأنه إذا تم البيع مَلَكَ المشتري السلعة، ووجب أن تسلمها له.
وهل يقبض الثمن؟
قال المؤلف: «ولا يقبض الثمن» وجه ذلك أمران:
الأول: أنه وُكل في البيع دون قبض الثمن، وقبض الثمن ليس من مقتضى البيع.
الثاني: أنه قد يرضى أن يبيع له، ولا يرضى أن يقبض الثمن؛ لأنه غير أمين عليه عند الموكل، فلهذا قالوا: إنه يملك تسليم المبيع، ولا يملك تسلُّم الثمن؛ لهذين الوجهين.
وهذا أحد الأقوال الثلاثة، فالقول الأول: أنه لا يقبض الثمن مطلقاً إلا بتوكيل خاص، والقول الثاني: أنه يقبضه مطلقاً، والقول الثالث أنه يقبضه بالقرينة، والذي عليه عمل الناس أن الوكيل وكيل في البيع وقبض الثمن وهذا هو القول الراجح.
قوله: «بغير قرينة» يعني فإن وُجدت قرينة فإنه يقبض الثمن وجوباً، والقرينة نوعان: شرعية، وعُرفية.
فالقرينة الشرعية هي ما إذا كان البيع يشترط فيه التقابض، فإنه لا بد أن يقبض الثمن.(9/375)
مثاله: أعطاه حُليًّا من الذهب وقال: بعه، فهنا لا يمكن أن يبيع الذهب بدراهم دون قَبض؛ بل لا بد من القبض، وحينئذ نقول: هذه القرينة، قرينة شرعية.
والقرينة العرفية لها صورتان:
الأولى: مثل أن يبيعه على رجل، غريب لا يُعرف، فإذا لم يقبض الثمن منه فإنه سوف يضيع، فهنا القرينة تدل على أنه لا بد أن يقبضه.
والثانية: مثل ما لو باعه على من عُرِفَ بالمماطلة، فهنا يقبض الثمن؛ لأنه من مصلحة الموكل.
فإن قال قائل: لماذا لا تمنعونه من الأصل، بأن يبيع على غريب، أو على مماطل؟
قلنا: إنه قد تقتضي المصلحة وزيادة الثمن أن يبيع على الغريب والمماطل، وإذا كان سيُسلم له الثمن فلا ضرر.
وإذا أذن الموكل للوكيل أن يقبض الثمن فهل يقبضه؟
الجواب: نعم يقبضه من باب أولى.
وإذا قال: لا تقبض الثمن، فلا يقبضه ولو وجدت قرينة؛ لأنه نهاه وقال له: لا تقبض الثمن.
لكن إذا قال قائل: إذا نهاه أن يقبض الثمن، فمن المعلوم أن الموكل ليس غبياً، بحيث لا يأذن له إذا دلت القرينة على أنه يقبضه.
فيقال: إذا كنا نعلم هذا من حال الموكل، أنه لو باعه على(9/376)
من يخشى ألا يُسَلِّم الثمن، فحينئذ نقول: هذه قرينة فليقبضه.
قوله: «ويسلم وكيل المشتري الثمن» أي: إذا أعطاه دراهم، وقال: اشتر لي بها سلعة، فاشترى السلعة، نقول: يجب أن يسلم الثمن، حتى وإن لم يقل له: سَلِّمهُ للبائع؛ لأن هذا من مقتضى العقد، كما أن وكيل البيع يُسَلِّم المبيع، فوكيل الشراء يُسَلِّم الثمن، وهل يقبض المبيع أم لا؟ المذهب لا يقبضه إلا بإذن أو قرينة، والصحيح أنه يستلمه مطلقاً، والعرف عندنا الآن أنني إذا وكلت في شراء شيء فإنه يتضمن الإذن في قبضه، بل لو اشترى الوكيل من صاحب الدكان وأعطاه الدراهم ورجع بدون استلام السلعة لعد هذا مفرطاً بلا شك.
إذاً نقول: إن استلام الوكيل في الشراء للسلعة المشتراة أقوى من استلام الثمن بالنسبة للوكيل في البيع، ومع ذلك فالصحيح أن العرف يقتضي استلام الثمن من الوكيل في البيع، واستلام السلعة من الوكيل في الشراء.
قوله: «فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه» أي: لو أخر الوكيل تسليم الثمن بلا عذر ضمنه إذا تلف.
مثاله: أعطيت رجلاً أربعين درهماً يشتري بها سلعة، واشترى السلعة في أول النهار وقال للبائع: آتي لك بالثمن في آخر النهار، أو سكت ولم يأت به إلا آخر النهار، لكنه فيما بين الشراء وآخر النهار تلف الثمن، فإن المشتري يضمنه؛ لأنه مفرط، إذ أن الواجب عليه أن يُسَلِّم الثمن مباشرة، هذا ما ذهب إليه المؤلف.(9/377)
ولكن الصواب أن يقال: الحكم يدور مع علته، والناس إذا اشترى منهم الإنسان سلعة في أول النهار وأتى بالثمن في آخره، لا يعدُّونه مفرطاً؛ لأن هذا مما جرت به العادة.
فالصواب أن يقال: إن أخر تسليم الثمن تأخيراً يُعَدُّ به مفرِّطاً فهو ضامن، وإلا فلا.
وتعليل الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يدل على هذا، وليس من المتيسر أن تكون الدراهم في جيبه، بل ربما يمر بالشارع ويجد السلعة التي وكل في شرائها ويشتريها، ثم إذا صار في آخر النهار أتى له بالثمن، وهذا أمر شائع ومعروف.
وقوله: «فلو أخره بلا عذر وتلف ضمنه» أي: لو أخره بإذن البائع وتلف هل يكون من ضمان البائع أو من ضمان الموكل؟
الجواب: من ضمان البائع؛ لأن الموكل بمجرد الشراء صار الثمن مستحقّاً للبائع، والبائع قال للوكيل: يمكن أن تعطيني الدراهم اليوم أو غداً أو بعد غد ولا مانع، وفي هذه الأثناء تلف الثمن بدون تعدٍّ ولا تفريط من الوكيل فضمانه على البائع؛ لأن الوكيل إنما أبقاه بإذن مستحقه وهو البائع.
وَإِن وكَّلَهُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ فَبَاعَ صَحِيحَاً، أَوْ وَكَّلَهُ فِي كلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ، أَوْ شِرَاءِ ما شَاءَ، أو عَيْناً بِمَا شَاءَ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يَصِحَّ. ........
قوله: «وإن وكله في بيع فاسد فباع صحيحاً، أو وكله في كل قليل وكثير، أو شراء ما شاء، أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح» تضمن كلام المؤلف أربع مسائل:
المسألة الأولى: إذا وكله في بيع فاسد، فباع بيعاً صحيحاً، مثل أن يوكله في بيع جمل شارد فالتوكيل لا يصح؛ لأن البيع(9/378)
حينئذ فاسد، فلو حضر الجمل فباعه بدون توكيل جديد لم يصح؛ لأن أصل الوكالة فاسد؛ إذ إن الموكل لا يملك بيع الجمل الشارد حتى يحضر، فإن علق الوكالة بحضوره فقال: متى حضر فأنت وكيل في بيعه، صحت الوكالة؛ لأنها تصح معلقة.
مثال ثانٍ: إذا وكله في بيع خمر، بأن كان عنده قلة خمر، فقال له: بعها، فبيعُ الخمر بيع فاسد، لكن الخمر تخللت بنفسها، وإذا تخللت بنفسها صارت حلالاً، فهل يملك الوكيل بعد أن تخللت بنفسها أن يبيعها؟
الجواب: لا؛ لأن أصل الوكالة غير صحيح، فلا يبيعها بعد ذلك.
مثال ثالث: باع شيئاً مجهولاً، بأن قال: وكلتك في بيع ما في بيتي من المتاع وهو مجهول، حتى الموكل لا يعلمه، لكن الوكيل ذهب وباعه قبل أن يعلم، فالوكالة تكون غير صحيحة والبيع غير صحيح، لكن لو ذهب ورآه، فهذا يأتي ـ إن شاء الله ـ الكلام عليه في كلام المؤلف إذا وكله في شيء مجهول.
المسألة الثانية: «أو وكله في كل قليل وكثير» هذا ـ أيضاً ـ لا يصح، إذا وكله في كل قليل وكثير، على أنه يشمل جميع الأجناس، وجميع الأنواع وجميع الأفراد، فهذا لا يصح، قال: اذهب إلى السوق وأنت وكيلي في كل شيء، في كل قليل وكثير، فوجد سيارات فاشترى له السيارات، ووجد إبلاً فاشتراها، ووجد بقراً فاشتراها، ووجد حميراً فاشتراها، أو طلق نساءه الأربع أو أعتق جميع عبيده؛ فهذا لا يصح؛ لأن هذا يعظم به الضرر، وفيه(9/379)
جهالة عظيمة، هذه هي العلة؛ إذن نقول: الوكالة غير صحيحة، فليس للوكيل أن يتصرف.
أما لو عيّن نوعاً وقال ـ مثلاً ـ: اشتر لي أرزاً قليلاً كان أو كثيراً، ولو أتيت لي بكل ما في السوق، فهنا الخطر قليل، فالصحيح أنه جائز؛ لأن الموكل أراد أن يشتري جميع ما في السوق؛ لأجل أن يوزعه على الفقراء في وقت الحاجة.
المسألة الثالثة: «أو شراء ما شاء» قال: اشتر ما شئت، أنت وكيل عني، فلا يصح هذا؛ لأنه لو أتى له بقلم بخمسة ريالات وقال له: أنت وكلتني وقلتَ: اشتر ما شئت، وأنا اشتريت لك قلماً بخمسة ريالات، وهذا الرجل ممن يقتني الأقلام التي بمائتي ريال، أو ذهب واشترى له سيارة قيمتها مليون ريال، فهذا فيه خطر، ولا يصح.
أما لو عين النوع وقال ـ مثلاً ـ: أنا وكلتك لتشتري شاة لوليمة، فيشمل الصغيرة والكبيرة والسمينة والهزيلة، فهذا الخطر فيه قليل، ويتسامح فيه؛ لأنه مما جرت به العادة، لكن اشتر ما شئت بدون أن يذكر نوعاً، فهذا خطره عظيم ولا تصح الوكالة فيه.
المسألة الرابعة: «أو عيناً بما شاء ولم يعين لم يصح» كلام المؤلف فيه نظر.
مثاله: قال: اشتر لي الساعة الفلانية موديل كذا وصفتها كذا وكذا، فقال له: بكم؟ قال: بما تشاء، يقول بأن هذا لا يصح؛ لأنه ربما لا تساوي إلا عشرة، ويقول للبائع: أخذتها(9/380)
بخمسين، فإذا جاء بها إلى الموكل قال: خذ هذه الساعة بخمسين، فقال: هذه لا تساوي إلا عشرة، قال: أنت قلت لي: اشتر بما شئت وأنا شئت أن أشتريها بخمسين، فهنا المؤلف يقول: لا يصح، لكن نحن نعلم علم اليقين أن الموكل لما قال للوكيل: بما شئت، فإنما وَكَلَهُ إلى أمانته، وليس من الأمانة أن يشتري ما يساوي عشرة بخمسين.
ولو عين له عيناً، وقال: اشترها، قال: بكم؟ قال: بما ترى أنه مناسب، فهذا يصح، وقد يقال: إنها داخلة في كلام المؤلف، وأنها لا تصح، وقد يقال: إنها غير داخلة؛ لأنه هنا لم يقيده بالمشيئة المطلقة، وإنما قيده بما يرى أنه مناسب، وهذا نوع من التخصيص فلا يكون كالمشيئة المطلقة.
مثال آخر: قال: اشتر للوفد الذين يحضرون إليَّ أو الضيوف شاة، فقال: بكم؟ قال: بما ترى أنه مناسب، فهذا جائز؛ لأن هذا وإن كان فيه شيء من الجهالة وربما يشتريها بثمن لم يخطر على بال الموكل، لكن مثل هذا يكون قليلاً، ومما يتسامح الناس فيه عادة، وحقيقة الأمر أن هذه مسائل فردية لكن ينبغي أن نعرف لها ضابطاً.
والضابط في ذلك: «أن كل ما دل عليه العُرف أو القرينة مما يحتمله كلام الموكل، وليس فيه محظور شرعي، فإنه صحيح» ؛ وذلك لأن الأصل في المعاملات الحل، فإذا لم تخالف الشرع، ولم تخالف العُرف، ولم تخالف لفظ المتعامِلَيْنِ فإن الأصل فيها الصحة.(9/381)
وَالوَكِيلُ في الخُصُومَةِ لا يَقْبِضُ وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ وَاقَبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ لا يَقْبِضُ مِنْ وَرَثَتِهِ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: الذي قِبَلَهُ وَلاَ يَضْمنُ وَكيلُ الإيداعِ إِذا لَمْ يُشْهِدْ.
قوله: «والوكيل في الخصومة لا يقبض» أفادنا المؤلف أولاً أنه يجوز التوكيل في الخصومة، يعني يجوز أن توكل شخصاً أن يخاصم عنك.
وهل يجوز قبول هذه الوكالة أو لا؟ في ذلك تفصيل فلا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن تعلم أنه محق، أو تعلم أنه مبطل، أو تتردد.
فإن علمت أن الموكل محق لكن خصمه خَصِمٌ جَدِلٌ، فهنا يجوز لك أن تقبل الوكالة في الخصومة، بل قد نقول: إنه يُشرع أو يجب؛ لأن في هذا استنقاذاً لحق أخيك، ونصرة له وللظالم ـ أيضاً ـ أما نصرته؛ فلأنك سبب لوصول الحق إليه، وأما نصرة الظالم؛ فلمنعه من الظلم.
وإذا علمت أنه مبطل لكنه اختار هذا الوكيل؛ لأنه وكيل جدلي يستطيع أن يقلب الباطل حقّاً، والحق باطلاً، فهنا لا يجوز أن تقبل هذه الوكالة؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
وإذا ترددت فالسلامة أولى، أي: لا تقبل الوكالة، فالإمام أحمد ـ رحمه الله ـ لا يعدل بالسلامة شيئاً، ولا سيما في أوقاتنا هذه عند تغير الزمان واختلاف الذمم.
فالذين يتوكلون ويسمون (بالمحامين) ، فالمحامي إذا قال: هل يجوز أن أشتغل بالمحاماة؟
نقول: في هذا تفصيل، إن كنت تحامي عن شخص عاجز عن دفع الظلم عن نفسه فهذا خير، وهو دائر بين الوجوب أو(9/382)
الاستحباب، وإن كنت تحامي من أجل أن تحصل على المال، سواء كان صاحبك محقاً أو مبطلاً، فهذا لا يجوز، وإن علمت أنه مبطل صار ذلك أشد تحريماً.
نرجع الآن ونقول: هل يجوز أن يوكل من يخاصم عنه؟
الجواب: نعم، يجوز.
فإذا قيل: ما الدليل؟ قلنا: لا حاجة لطلب الدليل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، فأي إنسان يطالبك بدليل أي معاملة، فقل: الدليل عليك أنت، هات الدليل على التحريم وأنا ألتزم به.
فإذا وكله في الخصومة فيقول المؤلف: إنه لا يملك القبض، فإذا وكل زيد عمراً أن يخاصم عنه خَصْمَه، فخاصمه وحكم القاضي للموكل، فهل للوكيل أن يقبض ما حصلت فيه الخصومة؟
يقول المؤلف: لا؛ لأن اللفظ لا يتناول القبض، ولأنه ربما يرضى في وكالة الخصومة من لا يرضاه في وكالة القبض، فربما يكون هذا الرجل قويّاً في الخصومة لكنه غير أمين، وربما لو قبض المال ذهب وأفسده، أو ادعى التلف، أو يؤذي صاحب المال في تخليصه منه، فقد أوكِّل في الخصومة من لا أرضاه في القبض.
وقال بعض أهل العلم: يُنظر في ذلك إلى قرائن الأحوال، فإذا كان الوكيل في الخصومة في بلد غير الموكل، فهنا القرينة تقتضي أن يقبض؛ لأن الموكل ليس حاضراً حتى يُقال: إن الموكل هو الذي يقبض، وقد جرت العادة في مثل هذا أن الوكيل(9/383)
في الخصومة يقبض، إلا إذا نهاه وقال: أنت وكيلي في الخصومة ولكن لا تقبض شيئاً، فهنا لا يقبض على كل حال.
وحينئذ نقول: على القول الراجح لا تخلو المسألة من ثلاث حالات:
الأولى: أن يقول: أنت وكيلي في الخصومة والقبض، فهنا يملك الخصومة والقبض.
الثانية: أن يقول: أنت وكيلي في الخصومة لا في القبض، فيكون وكيلاً في الخصومة ولا يقبض.
الثالثة: أن يسكت، فالمؤلف يرى أنه لا يقبض.
والراجح أنه يرجع في ذلك إلى قرائن الأحوال، فإن دلت القرينة على أنه يقبض قبض، وإلا فلا، وإذا قلنا بهذا القول ولم يقبض صار مفرطاً فيكون عليه الضمان.
قوله: «والعكس بالعكس» الوكيل في القبض له أن يخاصم، يعني لو قلت: يا فلان أنت وكيلي، اقبض حقي من زيد، فإذا طلب الحق من زيد، وقال زيد: ليس له عندي شيء فأنكر، فهنا نحتاج إلى خصومة، فهل يملك الوكيل في القبض أن يخاصم؟
نعم والتعليل؛ لأنه قد لا يتأتى القبض إلا بخصومة، فالخصومة قد تكون أحياناً هي التي يتمكن بها من القبض، فلهذا إذا وكله في القبض فله أن يخاصم، هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ وأطلق، ولكن في الإطلاق نظر؛ لأنني قد أثق به في القبض لكنني لا أعتمد عليه في الخصومة؛ لكونه رجلاً ضعيفاً لا يمكنه(9/384)
أن يحاج ولا يعرف أن يخاصم، وصاحبي الذي أنا أطلب منه رجل قوي في الخصومة، فيقول له: ما عندي لك شيء، ولا عندي لموكلك شيء، وإذا خاصم وكيلي في القبض غلبه، فهذا الكلام الذي قاله المؤلف فيه نظر.
بل نقول: إذا وكله في القبض، فإنه لا يملك الخصومة، إلا إذا قال: وإن احتجت إلى خصومة فخاصم، فإذا وكله في القبض ثم ذهب إلى الغريم، وقال: ليس عندي شيء، فهنا يرجع إلى موكله ويقول: الرجل أنكر، فهل توكلني أن أخاصم أو توكل غيري؟ لأن الإنسان ليس ملزماً، إذا وكل في شيء أن يتمه؛ لأن الوكالة عقد جائز، فإذا طلب الحق وقال المحقوق: ليس عندي لموكلك شيء، يجب أن يتوقف ولا يخاصم؛ لأنه قد يخاصم فَيُغْلَبُ والحقُ معه؛ لأن صاحبه خصم لدود، وهو ضعيف، فنقول: الوكيل في القبض لا يملك الخصومة، إلا بإذن خاص.
قوله: «واقبض حقي من زيد لا يقبض من ورثته» إذا وكله في قبض حقه من زيد، قال: يا فلان لي عند زيد عشرة آلاف ريال، فأنت وكيلي في قبضها، فذهب الوكيل إلى زيد ووجده قد توفي، فإن المال ينتقل إلى ورثته، فهل يقبض من الورثة؟
يقول المؤلف: لا يقبض من الورثة؛ لأن الوكالة تتقيد بما قيدها به الموكل، والموكل قال: اقبض(9/385)
حقي من زيد، فوجد زيداً قد توفي، فإننا نقول: لا تقبض من الورثة، حتى لو قال الورثة: يا فلان أنت وكيل فلان؟ قال: نعم، قالوا: عند أبينا له كذا وكذا، تفضل وخذه، فإنه لا يتسلمه؛ لأن الموكل قال: اقبض حقي من زيد، وقد تتغير حال الموكل إذا علم أن غريمه قد توفي، ويكون قد ترك صغاراً وأيتاماً وعجائز، فيريد أن يبرئهم منه، وعلى هذا فماذا يصنع إذا كان لا يريد أن يأخذ من ورثته؟ يخبر الموكل، فيقول: إني وجدته قد توفي، فهل توكلني في أن أقبض من ورثته أو لا؟ فهو الآن بالخيار.
قوله: «إلا أن يقول الذي قِبله» الضمير يعود على الموكل أي: إلا إذا قال: اقبض حقي الذي قِبَلَ زيد ـ أي: من جهته ـ فاقبض حقي من زيد، هذا لا يقبض من الورثة، واقبض حقي الذي قِبَلَ زيد، فهنا يقبض من الورثة؛ لأنه وكله في قبض حقه دون تعيين من يقبضه منه.
فهنا فرق بين العبارات مع أن أكثر الناس لا يميز الفرق بين اقبض حقي من زيد، واقبض حقي الذي قبل زيد أو عند زيد، وما أشبه ذلك، لكن الواقع أن بينهما فرقاً واضحاً؛ لأن اقبض حقي من زيد عَيَّنَ المقبوض منه، واقبض حقي الذي قِبَلَ زيد لم يُعَيَّن المقبوض منه لكنه عيّن الجهة، لكن هذه المسائل الدقيقة لا أظن أن العوام يفرقون بينها، فالعامي إذا قال: اقبض حقي من زيد، فهو بمنزلة قوله: اقبض حقي الذي قبل زيد، فإذا علمنا يقيناً أن هذا هو المراد فإن الوكيل يقبض من الورثة، وإذا شككنا فالسلامة.
ومتى شككنا في ملك الشيء فخذوا بالسلامة، وكان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ لا يعدل بالسلامة شيئاً، وأنت الآن إذا قبضت من الورثة وأنت شاك فقد أخذت ما ترددت فيه، لكن إذا(9/386)
لم تقبض فليس عليك لوم، فأنت سالم، وعليه فمتى تردد الإنسان في الإمضاء أو التوقف فالسلامة التوقف.
قوله: «ولا يضمن وكيل الإيداع إذا لم يُشهد» وكيل الإيداع، مثاله: وكلتك أن تودع شيئاً عند شخص، فقلت: يا فلان هذه عشرة آلاف ريال اذهب بها إلى فلان وديعة عنده، ومعنى وديعة، أي: يكون حافظاً لها، فأخذها الوكيل وذهب بها إلى فلان، وأعطاها إياه بدون شهود.
يقول المؤلف: إنه لا يضمن الوكيل؛ لأنه لو فرض أن المُوْدَع أنكر فقال: ما أعطيتني وديعة، فقال له الوكيل: يا رجل جئت إليك في البيت وأعطيتك عشرة آلاف ريال، وقلت: هذه وديعة من فلان، احفظها له حتى يرجع من سفره، فأنكر، فهل يضمن الوكيل في الإيداع؟ أي: الذي وكلته أن يودعها عند زيد؟
يقول المؤلف: لا يضمن؛ لأن المُودَع يقبل قوله في الرد، فلو أن إنساناً ادعى أنه أودع شخصاً مالاً، وقال: رددته، فهل يلزمه شيء؟
الجواب: لا يلزمه؛ لأن الأصل براءة ذمته، فالوكيل لما لم يُشْهِدْ لم يكن مفرِّطاً؛ إذ لو قدر أنه أشهد وثبتت الوديعة عند المودَع، ثم ادعى ردَّها وقال: صحيح أنت أودعتني لفلان عشرة آلاف ريال لكنني رددتها عليه، فإنه يقبل قوله، فيكون إذن الإشهاد لا فائدة منه، سواء أشهد أو لم يشهد، فإن المودَع يقبل قوله في رد الوديعة، هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ.
ولكن في كلامه نظر، والصحيح أنه يضمن، إلا في حالين:(9/387)
الأولى: إذا كان المُودَعُ شيئاً زهيداً، لم تجر العادة بالإشهاد عليه.
الثانية: إذا كان المُودَعُ رجلاً مبرِّزاً في العدالة، جرت العادة ألا يُشْهَدَ عليه إذا أودع؛ لأنه أمين عند الناس كلهم، فهنا نقول: إن المودِع الذي وكل في الإيداع لا يضمن؛ لأن الناس كلهم لا يقولون: هذا مفرط.
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً عشرة ريالات، وقال: أنا سوف أسافر وهذه الريالات العشرة، خذها واجعلها وديعة عند فلان وأعطاها إياه، فهل يضمن إذا لم يُشهد؟
الجواب: لا؛ لأنها شيء زهيد، فلو أن هذا الوكيل، ذهب وأتى بشاهدين، وقال: اشهدا أني أعطيت هذا الرجل عشرة ريالات وديعة، فإن الناس يستخفون به لا شك، ولا يعدون هذا مناسباً.
مثال آخر: رجل أعطى شخصاً دراهم، وقال: دعها أمانة عند شخص يحفظها لي، فذهب الرجل إلى رجل مبرز في العدالة، أمين عالم عابد حافظ، ليس كثير النسيان حتى نقول: خرف ونسي، ثم أودعها عنده، فإن العادة لم تجر أن يُشْهَدَ على مثل هذا.
فالصواب أن يقال: إن الوكيل، في الإيداع إذا لم يُشهد إن عُدّ مفرّطاً فهو ضامن وإلا فلا، ولكن كيف يعد مفرطاً؟
نقول: هو مفرط إذا لم يشهد مطلقاً إلا في حالين: إما لزهادة الوديعة، وإما لاعتبار المودَع.(9/388)
وإذا قال قائل: ما الفائدة من الإشهاد إذا كان قول المُودَع مقبولاً في الرد؟
الجواب: الفائدة هو أنه قد لا يدعي الرد، فقد يكون عنده من الإيمان، ما يمنعه أن يدعي الرد وهو لم يرد، لكن ينسى فينكر الوديعة، فيقول: ما أودعتني، فحينئذ إذا لم يكن شهود فإن الوديعة تضيع، وإذا كان هناك شهود فلا تضيع؛ لأن الشهود سيثبتونها، وحينئذ يكون عدم الإشهاد فيه تفريط من الوكيل، فيضمن.
وتعليل كلام المؤلف أن الوديعة يقبل فيها قول المودَع إذا ادعى الرد فلا فائدة من الإشهاد، حتى لو أقر بأن قال: أودعتني ولكني رددتها.
فنقول: هذا التعليل صحيح من جهة؛ لكنه عليل من جهة أخرى، فنقول: يُشهد خوفاً من النسيان كما سبق.
فالمذهب إذاً أن لا يضمن مطلقاً، والقول الثاني يضمن مطلقاً، وهذا قول ذكره صاحب الرعاية، والقول الثالث التفريق بين ما يعد عدم الإشهاد عليه تفريطاً وما لم يُعَد، فما عد تفريطاً وجب عليه الضمان، وما لم يعد فلا، وهذا هو القول الراجح.(9/389)
فصلٌ
والوَكِيلُ أَمِينٌ لاَ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بيدِهِ بِلا تَفْرِيطٍ ويُقْبَلُ قَوْلُهُ في نَفْيِهِ وَالهَلاَكِ مَعَ يَمِينِهِ.
قوله: «والوكيل أمين» أمين بمعنى مؤتمن، فهو فعيل بمعنى مفعول؛ لأن المال حصل بيده بإذن مالكه، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الناس الذين بأيديهم أموال الناس منهم أمناء ومنهم غير أمناء، فما هو الضابط للأمين من غير الأمين؟
نقول الضابط: (كل من كان المال بيده بإذن من الشارع أو بإذن من المالك فهو أمين، ومن كان في يده بغير إذن من الشارع أو من المالك فليس بأمين) ، فلننظر ولي اليتيم: أمين، أذن له الشرع، ناظر الوقف: أمين، أذنَ له الواقف، المُوصَى إليه: أمين، أذن له الموصِي، المستأجر الذي تحتَ يده العين مؤجرة: أمين، أذن له المُؤجر وهلم جَرّاً.
والوكيل أمين؛ لأن العين حصلت بيده بإذن من الموكِّل، ومتى ترتفع الأمانة؟
ترتفع الأمانة إذا تعدى أو فرط، وصارت يده غير أمينة.
مثال ذلك: أودعت شخصاً عشرة آلاف ريال، وجعلها أمام عينه في الصندوق وبقيت في الصندوق لم يتصرف فيها، فهو الآن أمين؛ لأن الدراهم تحت يده بإذن من المالك، هذا الرجل احتاج يوماً من الأيام واستقرض هذه الدراهم، واشترى بها حاجة ثم ردها في يومها إلى الصندوق، فتزول أمانته؛ لأن يده صارت غير أمينة؛ لأنه تصرف في المال بغير إذن مالكه، وهذا من التعدي.
فإذا قال قائل: هو أخذ عشرة آلاف وردها في اليوم نفسه، وفي الصندوق نفسه؟(9/390)
نقول: لكن ليس له حق أن يتصرف في عين مال الغير إلا بإذنه، وهذا لم يُؤذن له.
ولو فرض أن هذا الصندوق احترق وتلفت الأموال التي فيه، ومن جملتها عشرة الآلاف، وذلك بعد أن تصرف فيها وردها فإنه يضمنها؛ لأنه صار غير أمين بتصرفه فيها، أما لو أبقاها ولم يتصرف فيها، ثم احترق الصندوق فليس عليه ضمان؛ لأنه أمين، انتبه لهذه القواعد لأنها مفيدة جدّاً.
وقوله: «والوكيل أمين» ثم بين الحكم الذي يترتب على كونه أميناً فقال:
«لا يضمن ما تلف بيده» أي: من المال الذي ائتمن عليه.
قوله: «بلا تفريط» أي: ولا تعدٍ، وإنما لم يذكر المؤلف التعدي؛ لأنه إذا كان يضمن بالتفريط فضمانه بالتعدي من باب أولى، ولكن مع هذا الأولى أن يذكر، فشَرْطُ عدمِ الضمان ألا يفرط ولا يتعدى، والفرق بين التفريط والتعدي:
التعدي أن يفعل ما لا يجوز، والتفريط أن يترك ما يجب.
فما طُلب فعله فتركه يسمى تفريطاً، وما طلب الامتناع منه ففعله يسمى تعدياً.
ففي المثال الذي ذكرنا من قبل في مسألة الوديعة، إذا أخذ الدراهم التي أودعَها وتصرف فيها فهذا تعدٍّ، وإذا وضع الدراهم فوق سطح الصندوق، وغفل ثم سُرقت فهذا تفريط؛ لأنه ترك ما يجب، إذ إن الواجب عليه أن يحفظها فوراً بما تحفظ فيه عادة.(9/391)
مثال آخر: الوكيل وكله في شراء ساعة، واشترى الساعة، ثم وضعها في بيته على رف يتناوله الصبيان، فأخذ الصبيان الساعة وخرَّبوها، فإنه يضمن؛ لأنه فرَّط.
مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة فاشتراها، ثم إنه نسي ساعته في البيت فوضع الساعة التي اشتراها لي في يده ـ يعني استعملها ـ فجاءها شيء وكسرها، فإنه يضمن؛ لأن هذا من التعدي.
مثال آخر: اشترى الساعة ووضعها في رف عال لا يتناوله الصبيان، ولكن أحد الصبيان كان بذيّاً، أتى بسلم، وصعد على الرف وأخذ الساعة وكسرها، فهنا لا يضمن؛ لأن هذا ليس تعدياً ولا تفريطاً، إذ إنه جرت العادة أن الناس يحفظون مثل الساعة وشبهها في الرفوف العالية عن الصبيان، وهذا الصبي خرج عن العادة.
فعلى كل حال، إذا تلف الشيء الذي تحت يده بتعدٍّ أو تفريط فهو ضامن، وبلا تعدٍّ ولا تفريط فهو غير ضامن.
قوله: «ويقبل قوله» أي: الوكيل.
قوله: «في نفيه» أي: في نفي التفريط.
قوله: «والهلاك مع يمينه» أي: ويقبل قوله في التلف، لكن «مع يمينه» ؛ لأن كل من قلنا القول قوله فيما يتعلق بحق العباد فلا بد فيه من اليمين، أي: لو قال الموكل: إنك قد فرطت، فقال: لم أفرط، فالقول قول الوكيل لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم التفريط.(9/392)
الثاني: أن الموكل قد ائتمنه على ذلك، وإذا ائتمنه فإنه لا يصح أن يعود فَيُخَوِّنَهُ بدون سبب أو ثبوت شرعي.
وكذلك يقبل قوله في الهلاك، أي: تلف المال، مثل أن يقول: أخذت منك هذه السلعة لأبيعها لك لكن تلفت، فإنه يقبل قوله.
وهل يقبل قول الموكل في طلب التفصيل، بمعنى أن يقول الموكل: بأي شيء تلفت؟
الجواب: لا يلزم الوكيل أن يبين بماذا تلفت، ويكفي أن يقول قد تلفت، وإذا قال تلفت فهو أمين، لكن لا بد من اليمين كما سيأتي، لكن لو ادعى الوكيل الهلاك بسبب ظاهر، مثل أن يقول: المال تلف؛ لأن دكاني احترق، فالسبب الآن ظاهر، فيقال: هات بينة على أنه احترق، ولا بد، فإذا أتى ببينة قُبِلَ قوله أن المال الذي وُكِّلَ فيه مع المال الذي تلف.
وكذلك ـ أيضاً ـ لو قال: إنه انهدم عليه الدكان، نقول: هات بينة؛ لأن انهدام الدكان سبب ظاهر، فإذا أتى ببينة، وقال: إن المال الذي وكل فيه مع المال الذي تلف بانهدام الدكان، فإنه يقبل قوله.
فالخلاصة الآن أنه يقبل قوله في التلف، وهو الذي ذكره المؤلف بلفظ الهلاك ولا يُلزم بالتفصيل، فلا يقال له: بماذا تلف؟ وكيف تلف؟ ومتى تلف؟ لكن لو أنه ادعاه بسبب ظاهر، وقال: الدكان احترق أو الأمطار هطلت وهدمت البناء، أو ما(9/393)
أشبه ذلك، نقول: أقم بينة على أنه حصل الحريق، أو أقم بينة أنه حصل الهدم.
فإذا ادعى الموكِّل أن المال لم يكن مع ما احترق، فالقول قول الوكيل؛ لأنه مؤتمن.
وَمَنْ ادَّعى وَكَالةَ زَيْدٍ فِي قَبْضِ حَقِّهِ مِنْ عَمْروٍ، لَم يلزَمْهُ دفعُهُ إِنْ صَدَّقَهُ وَلاَ اليمينُ إِنْ كَذَّبَهُ فَإِنْ دَفَعَهُ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ الوَكَالةَ حَلَفَ وضَمِنَهُ عَمْرٌو، وَإِنْ كَانَ المُدْفوعُ وَدِيعةً أَخَذَهَا فإِنْ تَلِفَتْ ضَمَّنَ أيُّهما شَاءَ.
قوله: «ومن ادعى وكالة زيد في قبض حقه من عمرو، لم يلزمه دفعه إن صدقه» «وكالة» هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، يعني ادعى أن زيداً وكَّلَه «في قبض حقه» ، أي: حق زيد من عمرو، فأركان المسألة ثلاثة: زيد هو الطالب، وعمرو هو المطلوب، وعبد الله هو الوكيل، فجاء عبد الله إلى عمرو وقال: إن زيداً وكلني في قبض حقه منك، قال: أنت رجل صدوق دَيِّنٌ ورع، ولكن لا أعطيك، ولذا قال المؤلف: «لم يلزمه دفعه إن صدقه» أي: لم يلزم عمراً «دفعه» أي: الحق، «إن صدقه» أي: إن صدق مدعي الوكالة وهو عبد الله، فعمرو قال لعبد الله: أنا لا أقول لك إنك كاذب، فأنت رجل صدوق، وكأني أسمعه وهو يوكلك من أمانتك عندي وصدقك، لكن لن أسلمك، فنقول: لا يلزمه؛ لاحتمال أن زيداً ينكر التوكيل، ويقول: أنا ما وكلته، حتى لو كان صادقاً أنه وكله فزيد قد يكون ظالماً، فينكر الوكالة، فإذا قال: ما وكلته، فإنه يضيع حق عمرو، فيؤخذ الحق من عمرو مرتين؛ لأن زيداً الذي هو صاحب الحق سيقول لعمرو: حقي لم يصلني؛ لأني لم أوكل عبد الله، فإن له الحق.(9/394)
ولو قدرنا أن زيداً أخذ الحق من عمرو، رجع عمرو إلى عبد الله الذي ادعى الوكالة؛ لأنه أخذه منه.
ولو ادعى زيد عدم قبض حقه من عمرو، وأتى ببينة، أو شهود، أو وثيقة من المحكمة، فإنه يلزمه الدفع؛ لأن زيداً صاحب الحق، له أن يقبضه بنفسه وبوكيله، فإذا أتى ببينة قلنا: يلزمك أن تدفع.
قوله: «ولا اليمين إن كذَّبه» يعني ولا يلزم عَمْراً اليمينُ «إن كذبه» أي: كذب مدعي الوكالة وهو عبد الله، فلما جاء عبد الله إلى عمرو وقال: إن زيداً وكلني في قبض حقه منك، قال: أنت كذاب، فإنه لا يلزمه أن يحلف على كذب مدعي الوكالة؛ لأن اليمين إنما تلزم من إذا نكل عنها حكم عليه، فلو أن عَمْراً نكل وقال: لا أحلف، فإن القاضي لا يقول له: إذاً يلزمك الحق؛ لأنه سبق لنا أنه لا يلزمه التسليم ولو صدقه.
إذاً لدينا مسألتان:
الأولى: ادعى عبد الله أن زيداً وَكَّلَه في قبض حقه من عمرو، فقال عمرو: صدقت، ولكن لا أسلمك، فهنا يصح.
الثانية: ادعى عبد الله أن زيداً وَكَّلَه في قبض حقه من عمرو، فقال عمرو: كذبت، ولا أصدقك، هات بينة وإلا فأنت غير صادق، فهنا لا يلزمه أن يسلم الحق.(9/395)
وهل يلزمه اليمين إذا قال عبد الله: احلف أنه ما وكلني؟
الجواب: لا يلزمه؛ لأنه لا يُقضى عليه بالنكول، حتى لو قال: إنه صادق، فإنه لا يُلزم بالدفع على ما سبق.
قوله: «فإن دفعه» أي: الحق، الفاعل عمرو، والمدفوع إليه عبد الله.
قوله: «فأنكر زيد الوكالة» وقال: ما وكلت، فهنا نقول لزيد: احلف، ولهذا قال:
«حلف وضمنه عمرو» أي: حلف زيد الذي له الحق، فإذا حلف فإن عَمْراً يضمنه لزيد، ويرجع بالحق الذي دفعه على عبد الله الذي ادعى الوكالة بلا بينة، ولهذا قال: «وضمنه عمرو» يعني ويرجع عمرو على مدعي الوكالة بما أقبضه إياه.
وإن لم يحلف زيد فإنه يقضى عليه بالنكول، ويقال: حقك وصل إلى وكيلك، ولا شيء لك.
فإذا قال: لا أحلف خشية الإثم، فإننا نقول له: إن كنت صادقاً فلا إثم عليك، وإن كنت كاذباً فالإثم عليك.
قوله: «وإن كان المدفوع وديعة» يعني ليس حقّاً ثابتاً في ذمة الآخر.
قوله: «أخذها» أي: صاحبها الذي هو زيد، فزيد قال لعبد الله: إن لي عند عمرو وديعة، اذهب وائت بها إليّ، فذهب إلى عمرو وصدقه، فقال: أعطني الوديعة التي عندك لفلان، قد وكلني في قبضها، فأعطاها إياه، ثم إن زيداً أنكر الوكالة، فنقول: إذا أنكر الوكالة، فالوديعة موجودة الآن، خذها من عبد الله الذي هو مدعي الوكالة.
قوله: «فإن تلفت ضَمّن أيهما شاء» «ضَمَّنَ» الفاعل زيد(9/396)
«أيهما شاء» أي عمراً أو عبد الله مدعي الوكالة، فإذا تلفت نقول: ضَمِّن من شئت، فيُضَمِّن مدعي الوكالة؛ لأنه أنكر الوكالة، فيكون مدعي الوكالة أخذ المال بغير حق فيضمنه، ويضمن المودَع الذي كان محسناً وهو عمرو؛ لأنه فرط حيث دفعها إلى هذا بدون بينة، فصار الآن يخير إن شاء ضمَّن هذا وإن شاء ضمَّن هذا.
والمسألة الأولى ليست في الوديعة بل هي دين، زيد له حق على عمرو فادعى عبد الله أنه موكل في قبضه، أما هذه فهي وديعة.
هذه المسائل في الحقيقة تنبني على ضابط دلت عليه السنة هو: (أن الأصل في أموال المحترمين العصمة، وأنك لا تتصرف فيها إلا حسب ما أُذِنَ لك فيها) ، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (1) .
هذه القاعدة الأساسية، ثم التفريعات هذه تكون على حسب القواعد، وقد يصح التفريع وقد لا يصح.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/72) ، والدارقطني (3/26) ، والبيهقي (6/100) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعاً، وأخرجه الدارقطني (3/26) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
والحديث حسّنه البيهقي لطرقه كما في خلاصة البدر المنير (1591) وانظر: الإرواء (1459) .(9/397)
بَابُ الشركة
وَهِيَ اجتماعٌ فِي اسْتِحقَاقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ...............
قوله: «الشركة» الشركة لفظها بوزن عَرَفَة ونَمِرَة وحِكْمة، فإذا كان بوزن عَرَفَة نقول: شَرَكَة، وبوزن نَمِرَة نقول: شَرِكَة، وبوزن حِكْمة نقول: شِرْكَة، وكلها جائزة.
وهي في الأصل: الاختلاط، فالاختلاط يسمى شركة.
وتعريفها: يقول المؤلف:
«وهي اجتماع في استحقاق أو تصرف» .
فقوله: «اجتماع في استحقاق» بمعنى أن يكون شيء بين شخصين فأكثر اشتركا فيه باستحقاق، وهذه تسمى شركة الأملاك.
مثاله: ورثة ورثوا من أبيهم عقاراً، فهؤلاء اجتمعوا في استحقاق ليس بينهم عقد، وكذا اشتراك المجاهدين في الغنيمة، وكذا لو وُهِبَ لرجلين كتاب، وقد تكون في المنافع لا في الأعيان كما لو منحت رجلين الانتفاع بهذا البيت.
ودليلها قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، هذا اجتماع في استحقاق، والاجتماع في الاستحقاق يسمى شركة أملاك.
وقوله: «أو تصرف» وتسمى شركة عقود، وهي التي قد قسمها المؤلف إلى الأقسام الخمسة الآتية، بمعنى أن يتعاقد(9/398)
شخصان في شيء يشتركان فيه، وهذه لا تثبت إلا بعقد بين المتعاقدين.
واعلم أن من رحمة الله ـ عزّ وجل ـ وتوسيعه على عباده أنه أباح عقود الشركة؛ وذلك أن الإنسان قد لا يستطيع الاستقلال باستغلال ملكه، فهذا رجل عنده أموال كثيرة لكنه مشلول أو زَمِنٌ أو أعمى، فيعطي غيره من هذا المال لينتفع به ويتجر به ويكون الربح بينهما.
وأما حكمها فهي جائزة وليست حراماً، وهنا نسأل هل نحتاج إلى دليل على الجواز أو لا؟
الجواب: لا نحتاج إلى دليل على الجواز، فلو قال لنا قائل: ما دليلكم على جواز الشركة؟ قلنا: لا حاجة إلى دليل؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، فنقول: دليلنا عدم الدليل على المنع؛ لأن الأصل في المعاملات هو الحل، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19] ، فأضاف الوَرِق إليهم جميعاً، وهذا لا شك أنه اشتراك في تصرف؛ لأن الظاهر أنهم ليسوا ورثة ورثوا هذه الدراهم.
إذاً هي اجتماع في استحقاق، أو تصرف، وهي جائزة حكماً تكليفيّاً، والدليل على الجواز عدم الدليل على المنع.
ثم لنا دليل من الشرع، أما شركة الاستحقاق فقوله ـ تعالى ـ: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ، وأما شركة العقود فكما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف ـ وأيضاً ـ قال الله ـ تعالى ـ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ(9/399)
شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] ، فدل على أن الشركة ممكنة.
أما حكمها من حيث الحكم الوضعي فإنها من العقود الجائزة وليست من العقود اللازمة، بمعنى أنه يجوز لكل واحد من المشتركين أن يفسخ الشركة.
مسألة: هل الأولى المشاركة أو الأولى الانفراد؟ يعني هل الأولى أن يتصرف الإنسان في ماله بنفسه ولا يجعل معه شريكاً، أو الأولى أن يشارك؟
الجواب: لا تستطيع أن تقول: هذا أولى أو غير أولى، لكن إذا تردد الإنسان فالانفراد أولى؛ لأن الإنسان يكون حرّاً في ماله لا أحد يحاسبه، وهو إن شاء تبرع وإن شاء منع، وإن شاء تصدق وإن شاء جمع؛ ولأنه أسلم في الغالب، لكن قد يكون الإنسان لا يستطيع أن يتصرف في ماله بنفسه، فيحتاج إلى المشاركة، وعلى هذا فتجويز المشاركة من نعمة الله ـ عزّ وجل ـ ومن رحمته بالخلق، وإلا لو قيل: لا أحد يتصرف إلا في ماله الخاص، صار في هذا تضييق، فقد يكون الإنسان عنده مال كثير لكنه لا يحسن التصرف، إما لعجز في بدنه أو لعجز في فكره أو لانشغاله في علمه أو ما أشبه ذلك، لكن المال كثير فيعطيه لإنسان حاذق في البيع والشراء، ويقول له: خذ بع واشتر في هذا المال، ولك نصف الربح أو ربع الربح أو ما أشبه ذلك.
وَهِيَ أَنْوَاعٌ فَشَرِكَةُ عِنَانٍ أَنْ يَشْتَرِكَ بَدَنَانِ بِمَاليْهِمَا المَعْلُومِ وَلَوْ مُتَفَاوِتاً لِيَعْمَلا فِيهِ بِبَدَنَيْهِمَا.
قوله: «وهي أنواع» كأن الدليل على هذا التنويع هو التتبع والاستقراء، والتتبع والاستقراء طريق من طرق الأدلة، على أنه(9/400)
ربما تحدث أنواع من الشركات يصعب تنزيلها على ما قاله الفقهاء، فإذا وجدنا نوعاً من الشركات حدث كما يحدث الآن في المعاملات الأخيرة، فلا نقول: إنه حرام؛ لأنه خارج عما قال الفقهاء؛ لأن الأصل الحل والإباحة.
وظاهر كلام المؤلف: «وهي أنواع» أنه يعود إلى الشركة بقسميها، أي شركة الأملاك وشركة العقود، ولكن هذا غير مراد وهو إنما يريد شركة العقود.
قوله: «فشركة عِنان» من إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأن الشركات أجناس، وأفرادها أنواع، قيل: إنها مشتقة من أعنة الخيل، فالشريكان كالمتسابقين كل منهما قد أمسك بعنان فرسه.
وقيل: إنها مشتقة من «عَنَّ له» إذا طرأ عليه، كأن كل واحد منهما طرأ عليه أن يشارك الآخر، لكن الاشتقاق الثاني لا يمنع دخول بقية الأنواع؛ لأن بقية الأنواع كلها إنما تحدث بما عَنَّ لكل واحد، أي: بما طرأ، فاشتقاقها من المعنى الأول أقرب إلى الصواب، فما هي شركة العنان؟
قوله: «أن يشتركا بدنان» يعني شخصين.
قوله: «بماليهما المعلوم ولو متفاوتاً ليعملا فيه ببدنيهما» إذاً هناك مال، وهناك بدن.
مثاله: زيد وعمرو أرادا أن يشتركا في المال والتصرف، كل واحد جاء بماله وقال للآخر: نحن شركاء، فهذه نسميها شركة عنان؛ لأنها جامعة بين المال والبدن.(9/401)
وإذا قال قائل: ما الفائدة؟
قلنا: فائدتها:
أولاً: أن كلًّا من الشريكين ينشط الآخر.
ثانياً: ربما يكون مال كل واحد منهما ليس كثيراً يُمَكِّنُهُمَا أن يستوردا البضائع الكثيرة التي بها الفائدة الكثيرة، وهذا واقع، فمثلاً شخص عنده مليون ريال، والآخر عنده مليون ريال، لكن مليوناً واحداً لا يكفي لشراء بضائع كبيرة، تكون فائدتها كثيرة، فيجتمعان ويشتريان البضائع.
ثالثاً: أنه قد لا يتمكن كل واحد منهما أن يتجر بماله، فيحتاج إلى ضم مال الآخر إليه، حتى تتسع التجارة.
لكن اشترط شروطاً:
أولاً: قوله: «بماليهما» وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون مملوكاً لهما، ولكن هل هذا شرط؟ أو نقول: بماليهما أو مال لهما حق التصرف فيه؟
الثاني: يعني إما أن يكون مالاً لهما، أو يكون مالاً هما فيه وكلاء، أو فيه أولياء، أو ما أشبه ذلك، لكن بالنسبة للوكلاء، لا بد فيه من الإذن.
ثانياً: قوله: «المعلوم» وضده المجهول؛ وذلك لأنه لا بد أن نرجع عند فسخ الشركة إلى المال، فكل شخص منا يريد ماله، فإذا كان لا بد من الرجوع إلى المال، فإنه لا يمكن الرجوع، إلا إذا كان مال كل واحد منهما معلوماً، حتى يعرف عند تنضيض المال، ما لكل واحد منهما.(9/402)
وقوله: «ولو متفاوتاً» يعني بعضه أكثر من بعض، فمثال ذلك: إنسان شارك بمليون ريال، والثاني بخمسمائة ريال، فلا يشترط أن يكون المالان سواءً؛ بل يجوز أن يتفاوتا، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ كيفية توزيع الربح.
وقوله: «ليعملا فيه ببدنيهما» أي: بأبدانهما أو بأبدان من ينيبانه، كما لو كان أحدهما عنده عبد أو خادم أو ما أشبه ذلك يتصرف في ماله، فهذا كأنه هو الذي تصرف، فقوله: «بأبدانهما» بناءً على الغالب، وإلا فإنه يجوز أن يكون أحدهما شريكاً في المال، وببدن خادمه أو عمه أو ابن عمه أو ما أشبه ذلك.
فإن قال: يعمل فيه أحدنا فقط؟ يقول في الروض (1) : إنه من العنان، وظاهر كلام الماتن أنه ليس من العِنان، والواضح أن هذا فيه شبه من العِنان، وفيه شبه من المضاربة، فبالنظر إلى أن هذا يعمل بماله وبدنه يكون شبيهاً بالعنان، وبالنظر إلى أن أحدهما لا يعمل ببدنه، وإنما العمل في ماله يشبه المضاربة، فيمكن أن نقول: إن هذا جامع بين المضاربة وبين العنان، ولكن يشترط في هذا النوع أن يكون لمن عمل ببدنه من الربح أكثر من ربح ماله؛ لأجل أن يشتمل على شيء من المضاربة، فمثلاً أتيت بعشرة آلاف ريال وأتى هو بعشرة آلاف، وقلت له: اعمل أنت أما أنا فلا أستطيع العمل، ولك من الربح النصف فهذا لا يصح، لا بد أن يكون له أكثر من ربح ماله؛ لأن الذي دفع المال ولم
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (5/244) .(9/403)
يعمل أتاه ربح ماله كاملاً، والذي دفع وعمل لم يأته إلا ربح ماله فقط، فيكون عمله هباء لا ينتفع منه بشيء.
وعندي أنه لا مانع من هذا العمل، أن يكون له بمقدار ماله؛ لأن صاحب المال الذي لم يعمل إذا أعطي ربح ماله كاملاً فهو إحسان من العامل، ومن يمنع الإحسان؟! أليس يجوز أن أعطيه مالي ليعمل فيه ويكون الربح كله لي؟! ويكون هو متبرعاً لي بالعمل.
فالصواب أنه يجوز أن يعطى من الربح بقدر ماله؛ وذلك لأنه يكون بهذا محسناً إلى صاحبه.
فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ كُلٍّ مِنْهُما فِيهِمَا، بِحُكْمِ المِلْكِ في نَصِيبِهِ وبِالوَكَالةِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ.
قوله: «فينفذ تصرف كل منهما فيهما، بحكم الملك في نصيبه وبالوكالة في نصيب شريكه» لما اشتركا أصبح كل واحد ينفذ تصرفه في المالين جميعاً، بالنسبة لملكه يتصرف بالأصالة بحكم الملك، وبالنسبة لشريكه يتصرف بالوكالة؛ لأنه فرع عنه، وكونه يتصرف بالوكالة وهو لم يوكله؛ لأن مقتضى عقد الشركة أن يتصرف في هذا المال المشترك، والوكالة تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل، فعلى هذا يغني عقد الشركة عن الإذن الصريح في التوكيل؛ لأنه من لازم عقد الشركة أن يتصرف في المال المشترك بطريق الأصالة في نصيبه، وطريق الوكالة في نصيب شريكه.
مثال ذلك: اشترك اثنان في شركة عنان أحدهما يبيع أقمشة، والآخر يبيع أطعمة، فيجوز لبائع الأطعمة أن يبيع شيئاً من(9/404)
الأقمشة ولو كانت عند صاحبه، ويجوز لصاحب الأقمشة أن يبيع شيئاً من الأطعمة ولو كانت عند صاحبه، وكيف يبيع شيئاً ليس في دكانه بل في دكان آخر؛ بل قد يكون في بلد آخر ـ أيضاً ـ؟
نقول: لأن الشركة، تقتضي أن كل واحد يتصرف في المال كله مجموعاً؛ لأننا لما عقدنا الشركة صار نصف مالك لي ونصف مالي لك، إذا تصرفتَ فيه يكون بالملك في نصيبك وبالوكالة في نصيب شريكك، وإن لم يَخْلُطَا المالين، كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ.
وقوله: «بحكم الملك في نصيبه، وبالوكالة في نصيب شريكه» إذا تصرف في نصيب شريكه وتبين أن شريكه قد باعه مثلاً، فإننا نقول ـ كما ذكرنا فيما سبق في الوكالة ـ: إنه ينعزل الوكيل في مثل هذه الحال؛ لأن الموكل تصرف تصرفاً يمنع الوكيل من أن ينفذ تصرفه فيه.
مثاله: إنسان شارك آخر، لأحدهما معرض سيارات، وللآخر أطعمة، فصاحب الأطعمة باع سيارة من المعرض عند صاحبه، ثم تبين أن صاحبه قد باع السيارة، فإن الحكم أنه يبطل بيع الأخير؛ لأن بيع صاحبه للسيارة صحيح.
فإن قيل: ألست تقول: إنهم شركاء في ماليهما؟
أقول: بلى؛ لكن لما باع صاحب المعرض السيارة، باعها بحكم ملكه في نصيبه وبالوكالة في نصيب شريكه، وانتهى البيع وتم العقد، ولما جاء الشريك الآخر وباعها بعد بيع الأول لم يصح البيع؛ لأنه وكيل في بيعها، لكن تصرف فيها الشريك قبل أن يبيع هذا.(9/405)
وَيُشْتَرطُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ المالِ مِنَ النَّقْدَيْنِ المَضْرُوبَيْنِ وَلَوْ مَغْشُوشَيْنِ يَسِيراً وَأنْ يَشْتَرِطَا لكُلٍّ مِنْهُمَا جُزْءاً من الرِّبْحِ مُشَاعَاً مَعْلُوماً.....
قوله: «ويشترط» يعني مع الشروط السابقة، وهي أن يكونا مالكين، أو لهما حق التصرف، وأن يكون المال معلوماً.
قوله: «أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين» هذا الشرط الثالث، أي: أن يكون رأس المال الذي فيه الشركة من النقدين، وهما الذهب والفضة، «المضروبين» وهما الدراهم والدنانير، والمضروب هو الذي جعل سِكة ونقداً، أي: جعل دراهم ودنانير، فلو أن كل واحد منهما أتى بصُرَّة من ذهب، واشتركا فإنه لا يصح؛ لأنه غير مضروب، ولو أن كل واحد أتى بمائة ربطة فئة عشر أوراق، فلا يصح؛ لأنهما ليسا نقدين، ولو أن كل واحد أتى بعشرين سيارة، فلا يصح؛ لأن ذلك ليس من النقدين، ولو عملا فَرِبْحُ مالِ كلِّ واحدٍ لَهُ، والثاني لا حق له فيه، لعدم صحة الشركة وهذا هو المذهب.
وقوله: «من النقدين» يشمل ما إذا كان أحدهما أتى بدنانير والآخر أتى بدراهم، فمثلاً أحدهم أتى بعشرة دنانير، والآخر أتى بمائة درهم، فيصح.
لكن هذا فيما سبق في زمن العلماء السابقين، الدراهم والدنانير لا تتغير، يعني اثنا عشر درهماً بدينار، أما في وقتنا الحاضر فتتفاوت، فأحياناً يزيد الذهب وأحياناً ينقص، وبناءً على ذلك نقول: لا بد أن يكون النقد من جنس واحد، إما من ذهب وإما فضة.
هذا هو الذي مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ وهو أنه لا بد أن يكون رأس المال من النقدين المضروبين.(9/406)
وقيل: يصح أن يكون رأس المال من عروض التجارة لكن يقوَّم عند عقد الشركة بنقد، فأحدهما يأتي بأطعمة والثاني يأتي بأقمشة ويختلطان، لكن عند فسخ الشركة لا نقول لأحدهما: اشتر طعاماً لأخيك، ولا نقول للثاني: اشتر أقمشة لأخيك، فقد ترتفع الأقمشة وقد ترتفع الأطعمة، لكن عند عقد الشركة نقول: ماذا تساوي الأطعمة؟ وماذا تساوي الأقمشة؟ فإذا قالوا: الأطعمة بعشرة آلاف، والأقمشة بعشرة آلاف، عند الفسخ نرجع إلى القيمة، فنعطي كل واحد عشرة آلاف فيكون المال أنصافاً، والربح يُقسم حسب الشرط.
وإذا كانت السيارات تساوي مليوناً، والأطعمة خمسمائة ألف، صار المال أثلاثاً لصاحب السيارات الثلثان، ولصاحب الأطعمة الثلث.
إذاً القول الثاني في المسألة: أنه يصح أن يكون رأس المال من غير النقدين المضروبين، ولكن تقدر قيمته بالنقدين عند عقد الشركة؛ ليرجع كل واحد منهما إلى قيمة ملكه عند فسخ الشركة، وهذا القول هو الراجح، وعليه العمل.
وقوله: «ويشترط أن يكون رأس المال من النقدين» ، ظاهره ولو كان أحدهما ذهباً والآخر فضة، وهذا مبني على أن سعر الفضة لا يتغير كما في الزمن السابق، فإنه في الزمن السابق كان الدينار يساوي اثني عشر درهماً، وعلى هذا تكون ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار؛ ولهذا جاء في السرقة: «لا تقطع اليد إلا في(9/407)
ربع دينار فصاعداً» (1) وقطع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سرقة مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم (2) ، فدل هذا على أن الدينار في ذلك الوقت قيمته من الفضة اثنا عشر درهماً.
وكذلك ـ أيضاً ـ في الدية ألف دينار تساوي اثني عشر ألف درهم، لكن في الوقت الحاضر وقبل هذا الوقت لا يستقيم هذا؛ لأن الذهب والفضة ليسا مستقرين فقد ترتفع قيمة الذهب وقد ترتفع قيمة الفضة، وعلى هذا فلا يصح أن يأتي أحدهما بذهب والآخر بفضة، إلا على القول بأنه لا بأس أن يأتي أحدهما بعروض وتقدر قيمتها عند انعقاد الشركة.
قوله: «ولو مغشوشين يسيراً» هذه إشارة خلاف، كانت الدنانير والدراهم فيما سبق يُتلاعب بها، فيغش بعض الناس، فيخلط مع الذهب معدناً آخر، أو مع الفضة معدناً آخر.
يقول العلماء: إن كان هذا الخليط شيئاً يسيراً من أجل تصليب الذهب، وتصليب الفضة، فهذا لا يضر، لأنه كالإنفحة مع اللبن من أجل أن تجبنه، وهذا لمصلحة النقدين ولا يضر، أما إذا كان الغش كثيراً يُراد به الترويج فإنه لا يصح أن يكون نقداً
__________
(1) أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (6789) ؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1684) (2) ـ واللفظ له ـ عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في الحدود/ باب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} (6795) ؛ ومسلم في الحدود/ باب حد السرقة ونصابها (1686) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(9/408)
يُتعامل به؛ لأنه صار في الحقيقة كعروض التجارة، ولا يصح أن يكون رأس مال شركة.
فالغش في النقدين ينقسم إلى قسمين:
الأول: يسير من أجل تصليب النقدين، قالوا: إنه لا يخلو منه الذهب ولا الفضة غالباً؛ لأنهما لو لم يُصَلَّبا صارا ليِّنَيْن، فهذا لا بأس به؛ لأنه لمصلحتهما.
الثاني: يراد به الغش والخداع، فهذا لا يجوز التعامل به، ويجب على ولي الأمر أن يمنع التعامل به؛ لأنه غش، ولا يصح أن يكون رأس مال الشركة، وهذا هو محترز قوله: «ولو مغشوشين يسيراً» .
وتقدم أنه لا يشترط أن يكون رأس المال من النقدين، لكن يجب أن يُقَوَّم مال كل واحد منهما عند عقد الشركة بالنقدين، على أن يكون التقدير بالأكثر رواجاً.
قوله: «وأن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً» هذا هو الشرط الرابع، مثال ذلك: قالا: اشتركنا في المال ولكل واحد منا من الربح النصف، فهذا يصح.
مثال آخر: اشتركنا في المال ولك يا زيد من الربح ألف والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه غير مشاع، وغير المشاع ربما لا يكون الربح إلا مقدار ما شُرِطَ لأحدهما، ويبقى الثاني لا ربح له.
مثال آخر: قال: لك بعضه ولي بعضه، فهذا لا يصح؛ لأن البعض مجهول، فلا بد أن يكون معلوماً، ومشاعاً؛ لقوله: «جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً» .(9/409)
والمشاع أي: مشتركاً يكون المضارِب والمضارَب شريكين في كل حبة.
قوله: «فإن لم يذكرا الربح أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً أو دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين لم تصح» كل هذه الصور مخالفة للشرط.
َإِنْ لَمْ يَذْكُرَا الرِّبْحَ أو شَرَطَا لأحدِهِمَا جُزْءَاً مجهولاً أو دَرَاهِمَ مَعْلُومةً أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ لَمْ تَصِحَّ وَكَذَا مُسَاقَاةٌ ومُزارعَةٌ ومُضَارَبةٌ............
فقوله: «إن لم يذكرا الربح» بل قالا: نحن شريكان شركة عنان، ولم يتعرضا للربح، هل هو بينهما بالأنصاف؟ أو بالأرباع؟ أو ما أشبه ذلك؟ فالشركة لا تصح؛ لأنه يبقى الأمر مجهولاً فيحصل النزاع والعداوة بين الناس، ويكون لكل واحد منهما ربح ماله، ولا يرجع على الثاني بشيء، حتى لو تلف أحد المالين لم يرجع على صاحبه؛ لأن العقد فاسد، والعقد الفاسد لا يترتب عليه أثره.
وقوله: «أو شرطا لأحدهما جزءاً مجهولاً» قال: نحن الآن شريكان سنعمل في المال، ولك بعض الربح ولي بعضه، أو لك بعضه ولي باقيه، فهذا لا يصح؛ لأنه مجهول.
وقوله: «أو دراهم معلومة» قال: سنشترك شركة عنان والربح يكون لك منه عشرة آلاف والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما(9/410)
لا يربح إلا عشرة الآلاف، ويبقى الثاني لا ربح له، والشركة مبنية على أصل وهو اشتراك الشريكين في المغنم والمغرم.
وقوله: «أو ربح أحد الثوبين» اشتركا فقال أحدهما للآخر: لك ربح السيارات ولي ربح الأطعمة، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما يربح في السيارات ولا يربح في الأطعمة أو بالعكس، والأصل أن الشركة مبنية على التساوي.
قال: لك ربح النصف الأول من السنة، ولي ربح النصف الثاني، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما يربح في أول السنة كثيراً، وفي آخر السنة لا يربح إلا قليلاً، أو لا يربح أصلاً.
قال: لك ربح السفر إلى مكة، ولي ربح السفر إلى المدينة، فهذا لا يصح؛ لأنه قد يربح في هذا، ولا يربح في هذا، والأصل في الشركة أن يشترك الاثنان في المغنم والمغرم.
قوله: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» كذا أي: كشركة العنان مساقاة ومزارعة ومضاربة وكلها لم تأتِ بعد، لكن استطرد المؤلف بذكرها.
فالمساقاة هي أن يدفع الإنسان أرضه ونخله لشخص يقوم عليها بجزء من الثمر.
مثال ذلك: إنسان عنده أرض وعليها أشجار من نخيل وأعناب ورمان وغيرها، فأعطاها شخصاً ينميها بجزء من الثمر، فهذا يجوز، ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (1) .
والمزارعة أن يدفع أرضاً لمن يزرعها بجزء معلوم مشاع من الزرع، مثال ذلك: إنسان عنده أرض بيضاء، وليس فيها زرع،
__________
(1) أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب إذا لم يشترط السنين في المزارعة (2329) ؛ ومسلم في البيوع/ باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر (1551) ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(9/411)
فأعطاها فلاحاً يزرعها، وله نصف الزرع ـ مثلاً ـ فهذا يجوز؛ لأن هذا منه العمل، وهذا منه الأرض، وكذلك في الشجر، هذا منه الأرض والشجر، وهذا منه العمل.
المضاربة وهي أن يدفع ماله لشخص يتجر فيه، وله جزء من الربح.
مثال ذلك: أعطى رجلاً مائة ألف ريال يتجر بها، على أن له نصف الربح، فإننا نسمي هذا مضاربة.
كل هذه الثلاث لا بد أن يُشترط لأحدهما جزء مشاع معلوم.
ففي المساقاة لو قال له: خذ هذا الشجر اعمل فيه ولك بعضه، فهذا لا يصح؛ لأنه غير معلوم، أو قال له: خذ هذا الشجر اعمل فيه ولك ثمر الشجر السكري والباقي لي، فهذا لا يصح؛ لأنه ربما تثمر هذه ولا تثمر تلك، أو قال له: خذ هذه الأرض وشَجَرَها ولك ثمرتها عام ستة عشر ولي ثمرتها عام سبعة عشر، فهذا لا يصح؛ لأنه مجهول؛ وقد تثمر في هذه السنة ولا تثمر في الأخرى، أو قال له: خذ هذه الأرض مساقاة بشجرها، ولك ثمرة الجزء الغربي منها، ولي ثمرة الجزء الشرقي منها، فهذا لا يصح، أو قال له: خذ هذه الأرض مساقاة، ولك من ثمرها مائة صاع والباقي لي، فهذا لا يصح، لأنه غير مشاع.
كذلك نقول في المزارعة، إذا قال له: خذ هذه الأرض البيضاء وازرعها هذا العام، ولك من الزرع شرقيه ولي غربيه، لا(9/412)
يصح، أو قال له: لك بعضه ولي بعضه، فهذا لا يصح، أو قال له: لك ما تزرعه من شعير، ولي ما تزرعه من بر، فهذا لا يصح، أو قال له: لك زرع هذا العام ولي زرع العام الثاني، لا يصح، فلا بد أن يكون الربح جزءاً مشاعاً معلوماً.
والمضاربة كذلك، أعطيتُ هذا الرجل مالاً يتجر به وقلت له: لك بعض الربح، ولي بعضه، فهذا لا يصح، أو قلت له: لك ربح هذا الشهر، ولي ربح الشهر الثاني، فلا يصح.
أو لك ربح ما تجلبه من مكة، ولي ربح ما تجلبه من المدينة، فلا يصح، أو لك ربح السيارات، ولي ربح الأطعمة، فلا يصح.
المهم أن كل هذا يخالف القاعدة الأصلية في المشاركة، وهي تساوي الشريكين في المغنم والمغرم.
والوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ المَالِ وَلاَ يُشْتَرَطُ خَلْطُ المَالَيْنِ وَلاَ كَوْنُهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
قوله: «والوضيعة على قدر المال» الوضيعة يعني ما يوضع من القيمة، أي: الخسارة، فالخسارة على قدر المال بخلاف الربح فعلى ما شرطاه، فلو جاء أحدهما بعشرة آلاف وجاء الثاني بعشرين ألفاً، فالمال الآن أثلاث، فإذا اتفقوا على أن تكون الخسارة أنصافاً، فهذا لا يصح هنا؛ لأن الخسارة يجب أن تكون على قدر المال، وإذا خسرت الشركة فعلى صاحب عشرة الآلاف ثلث الخسارة، وعلى صاحب العشرين ألفاً الثلثان، ولا يصح أن تكون الخسارة على خلاف ذلك؛ ولهذا قال: «والوضيعة على قدر المال» أما الربح فيكون على ما شرطاه، يعني لو أن أحدهما جاء بعشرين ألفاً والثاني بعشرة آلاف، وقالا: الربح بيننا مناصفة، فهنا اختلف الربح عن قدر المال، فهذا يصح.(9/413)
فإذا قيل: كيف يصح أن يعطى هذا أكثر من ربح ماله؟
قلنا: نعم؛ لأنه ربما جعل للثاني أكثر منه؛ لأنه أخبر منه في البيع والشراء، فأعطاه أكثر من ربح ماله، أما الوضيعة فلا يمكن أن نحمِّل أحدهما أكثر من خسارة ماله؛ لأن تحميلنا إياه أكثر من خسارة ماله، معناه إضافة شيء من ماله إلى مال الآخر وهذا أكل للمال بالباطل، فلو كان المال بينهما أحدهما ثلاثة أرباع والآخر الربع، والخسارة أربعمائة وقد قالوا: إن الخسارة أنصافاً فيكون على صاحب الربع زيادة، فمعنى ذلك أننا اقتطعنا من ماله شيئاً أضفناه إلى مال الآخر، وهذا لا يجوز لقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [البقرة: 188] .
فصار الربح على ما شرطاه، وأما الوضيعة فعلى قدر المال.
قوله: «ولا يشترط خلط المالين» يعني لا يشترط أن يَخلطا المالين، بل لو عمل كل واحد منهما بماله فلا بأس؛ لأن المقصود الربح لا الخلط، وهذا نفاه المؤلف، واعلم أن لدى العلماء قاعدة وهي أنهم لا ينفون شيئاً إلا لوجود خلاف فيه؛ لأنه إذا لم يكن خلاف فالسكوت عن ذكره يغني عن نفيه، لكن إذا كان هناك خلاف، فإنهم يذكرون النفي دفعاً لهذا الخلاف، فقوله: «ولا يشترط خلط المالين» إشارة إلى نفي القول باشتراطه، والقول باشتراط الخلط نوعان:
الأول: أنه لا بد أن يؤتى بالمالين، ويجعلا في متجر واحد، ولو كان كل واحد منهما ماله متميزاً.(9/414)
مثاله: شخص ماله أقمشة، والثاني ماله أطعمة، يقول: لا بد أن يؤتى بالأطعمة إلى مكان الأقمشة، أو بالعكس ويكون محلهما واحداً، وإن كان هذا يعمل بماله وذاك يعمل بماله، وهذا اختلاط في المكان، وبه قال الإمام مالك رحمه الله.
الثاني: أنه لا بد أن يختلط المالان جميعاً، ويتصرف كل واحد منهما فيهما جميعاً، بمعنى أن المالين صارا خليطين كالمال الواحد كأنه متجر لشخص واحد، وكل منهما يعمل به، وهذا اختلاط تام، وبه قال الشافعي.
إذاً الاختلاط نوعان: اختلاط تام، واختلاط في المكان.
القول الثاني: أنه ليس بشرط، وكل واحد منهما يعمل بماله في مكانه، حتى لو كان أحدهما في مكة والآخر في المدينة، واشتركا شركة عِنان فلا بأس.
فالذين قالوا بالاشتراط قالوا: أين الشركة إذا كان كل واحد يعمل في مكان، وفي ماله الخاص؟! أجيب أنهما إذا اختلطا صار المال الذي في البلد هناك، بينه وبين شريكه نصفين، والمال الذي في بلده بينه وبين شريكه نصفين، كما لو كانا شريكين شركة أملاك، فإنهما يكونان هكذا.
والقول الراجح أنه لا يشترط خلط المالين كما قال المؤلف؛ لأن الشركة حاصلة بدون الخلط إذ المقصود الربح.
قوله: «ولا كونهما من جنس واحد» يعني في النقدين فمثلاً: لو أتى أحدهما بذهب والثاني بفضة فلا بأس، ولكن هذا مبني على أن سعر الذهب والفضة لا يتفاوت.(9/415)
والقول الثاني في المسألة: أنه يجب أن يكونا من جنس واحد؛ وعللوا ذلك بأنهما إذا كانا من جنسين مختلفين، فقد يرتفع أحد الجنسين حتى يحيط بالربح كله، لكن الصحيح ما ذهب إليه المؤلف بشرط ألا يزيد سعر الدنانير ولا ينقص، بأن يكون مقرراً من قبل الدولة، فإن كان يمكن فيه الزيادة والنقص فإنه لا يجوز، وفي الوقت الحاضر الدنانير (الذهب) غير مقدر، فبناء على ذلك فإنه لا يصح أن يكون أحدهما دنانير والآخر دراهم، إلا على القول الذي أشرنا إليه فيما سبق أنه يجوز أن يكون رأس المال عرضاً ولكن يقدر بقيمته، فحينئذٍ يؤتى بالدنانير والدراهم لكن تقدر الدنانير بدراهم.(9/416)
فصلٌ
الثَّانِي المُضَارَبَةُ لِمُتَّجِرٍ بهِ بِبَعْضِ رِبْحِهِ،.............
قوله: «الثاني المضاربة» الثاني، أي: من أنواع شركة العقود، المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، قال الله ـ تعالى ـ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .
ومعلوم أن كل تجارة فهي مضاربة، يعني يضرب الإنسان في الأرض، لكن خُصت بهذا النوع من المعاملة اصطلاحاً لا لغة، كما قيل: مزدلفة تسمى جمعاً، مع أن الحجاج يجتمعون في عرفة، لكن هكذا اصطلح أهل اللغة على أن مزدلفة تسمى جمعاً، وسميت مزدلفة كذلك لقربها من الحرم، مع أن منى أقرب من مزدلفة إلى الحرم، لكن هكذا اصطُلِح، وقد يقال: إن مزدلفة سميت بهذا باعتبار أنها مشعر وعرفة مشعر أيضاً، وهي أقرب المشعرين إلى مكة.
قوله: «لمتَّجرٍ به» والمعروف أن كل مجرور لا بد له من عامل يتعلق به، وهذا العامل إما مذكور وإما محذوف، فإن كان مذكوراً فالأمر واضح، وإن كان محذوفاً فلا بد أن يُقَدَّر بما يناسب السياق، فهنا نقدر المضاربة دفع مال لمِتَّجرٍ به، وعلى هذا فتكون متعلقة بمحذوف هو المصدر، أي: دفع مال لمتجر به.
وقوله: «لمتَّجِر به» أي: لمن يتجر به.
قوله: «ببعض ربحه» المؤلف قال: «ببعض ربحه» ولم يبين هذا البعض، فهل يجوز أن تقول: خذ هذا المال مضاربة ببعض ربحه؟
الجواب: لا، لكن المؤلف اعتمد على قوله في الفصل(9/417)
السابق: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» فكما يُشترط في شركة العنان أن يكون الربح جزءاً معلوماً مشاعاً، فكذلك في المضاربة.
إذاً قوله: «ببعض ربحه» هذا مبهم لا بد أن يُفسَّرَ، كأن يُقال: بالربع، أو بالثمن، أو بالخمس، حسب ما يتفقان عليه.
مثال ذلك: أعطى رجل آخر مائة ألف ريال، وقال له: خذ هذه اتجر بها ولك نصف الربح، فهذا يصح، أو قال له: خذ هذه اتجر بها ولك ربع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، أو خذ هذه واتجر بها ولك ثلاثة أرباع الربح، فهذا ـ أيضاً ـ يصح، فلا بد أن يكون معلوماً مشاعاً، ولهذا قال:
فإِنْ قَالَ: والرِّبْحُ بينَنَا فَنِصْفَانِ، وإنْ قَالَ: ولِي أَوْ لَكَ ثلاثةُ أَرباعِهِ أَوْ ثلثُهُ صَحَّ، والبَاقِي لِلآخَرِ، وَإنِ اخْتَلَفَا لِمَن المَشْرُوطُ فلِعَامِلٍ..............
«فإن قال: والربح بيننا فنصفان» أي: إن قال الدافع وهو المضارِب، والعامل يسمى المضارَب بفتح الراء، إن قال المضارِب ـ وهو رب المال ـ «والربح بيننا فنصفان» أي: فهو نصفان، نصف للعامل ونصف للمضارِب؛ لأن هذا مقتضى البينية، ومقتضى البينية هو التساوي؛ ولهذا لو أعطيت جماعة دراهم وقلت هذه بينكم، فإنهم يمتلكونها بالتساوي، إذا كانت عشرة دراهم وهم عشرة رجال فلكل واحد درهم.
قوله: «وإن قال: ولي أو لك ثلاثة أرباعه أو ثلثُهُ صح، والباقي للآخر» لأن المال بين اثنين، فإذا حدد نصيب أحدهما تبين حق الآخر، فإذا قال: لي ربعه ولم يقل ثلاثة أرباعه لك، فهذا يصح؛ لأنه إذا أخذ الربع فالباقي للآخر.
وكذلك لو قال: لي ثلاثة أرباعه، وسكت عن الربع الباقي،(9/418)
فهنا يصح ويكون الربع الباقي للعامل أي للمضارَب؛ ولهذا قال: «صح والباقي للآخر» .
قوله: «وإن اختلفا لمن المشروط فلعامل» يعني اتفقا على أنه قيل: ثلاثة أرباعه لك والباقي لي، ثم اختلفوا، أحدهما يقول: ثلاثة أرباعه مشروطة لي، والثاني يقول: مشروطة لي، فإن القول قول العامل؛ لأن الربح إنما حصل بفعله فكان هو أولى به، فلذلك نقول: القول قول العامل وهذا هو المذهب قل أو كثر.
والصحيح أنه للعامل ما لم يدع خلاف العادة، فإن ادعى ما يخالف العادة فلا يقبل، فإذا كانت العادة أن الأرباع الثلاثة في مثل هذه التجارة لرب المال، فالقول قول رب المال، إذ البضائع تختلف، فبضاعة الصيرفة سهلة، وبضاعة الأطعمة متعبة؛ لأنه يحتاج إلى تحميل وتنزيل وعمال وسيارات.
مثال ذلك: كان الجزء المشروط ثلثين، ادعى العامل أنه له، وادعى صاحب المال أنه له، والعادة أن المضاربة لا يعطى فيها العامل إلا الثلث فأقل، فهنا العرف يشهد لصاحب المال فيؤخذ بقول صاحب المال.
وهذا نظير ما سبق في باب الرهن، أن الراهن والمرتهن إذا اختلفا في قدر الدين، فإنه يرجع إلى الرهن إذا كان الرهن كثيراً والمدين يدعي أن الدين قليل فإن القول قول صاحب الحق.
وإن اختلفا في قدر المشروط فالقول قول رب المال، بأن قال العامل: شرطنا لك ثلث الربح، وقال صاحب المال: بل(9/419)
نصف الربح، فهما متفقان على أن المشروط له هو رب المال، لكن اختلفوا في القدر، فصاحب المال يقول: النصف، والعامل يقول: الثلث، فإذا قدرنا أنه الثلث فإنه يكون للعامل الثلثان، وإذا قدرنا أنه النصف فليس له إلا النصف، فالقول قول رب المال؛ لأن الربح تبع للأصل، فما دام أنهما الآن لم يختلفا لمن المشروط له، لكن اختلفا في قدره فالربح تابع للأصل، وإذا ادعى العامل أنه النصف، قلنا: اتفقتما على الثلث، فأنت أيها العامل ادعيت الزائد وهو السدس والبينة على المدعي.
إذاً إذا اختلفا في تعيين المشروط له فالقول قول العامل، وإن اختلفا في قدر المشروط مع اتفاقهما على المشروط له، فالقول قول رب المال.
وكذا مُسَاقَاةٌ وُمُزارعةٌ ومُضَاربَةٌ وَلاَ يُضَارِبُ بِمَالٍ لآخَرَ إِنْ أَضَرَّ الأَوَّلَ ولَمْ يَرْضَ..
قوله: «وكذا مساقاة ومزارعة ومضاربة» يعني اختلف المُسَاقي والمزارع، وعرفنا أن المساقاة هي أن يدفع الإنسان أرضه ونخله لشخص يقوم عليها بجزء من الثمرة، والمزارعة أن يدفع إنسان أرضه البيضاء التي ليس فيها زرع إلى فلاح يزرعها وله نصف الزرع ـ مثلاً ـ، والفرق بينهما، المساقاة على أشجار، والمزارعة على أرض تزرع.
فإذا اختلفا لمن المشروط في المساقاة والمزارعة فللعامل على المذهب، وعلى الراجح ينظر إلى القرائن فيعمل بها، وإن اختلفا في قدره فالقول قول صاحب الأرض في المزارعة، وصاحب النخل في المساقاة.
مثال ذلك: أعطيتُ فلاحاً هذا البستان بما فيه من نخيل(9/420)
وعنب ورمان ليقوم عليه بثلث ما يخرج منه، يعني ولي الثلثان، فنسميها مساقاة.
ومثال المزارعة: عندي أرض بور ليس فيها شيء أعطيتها شخصاً يزرعها شعيراً، أو بُرّاً، أو أرزاً، أو ما أشبه ذلك بالنصف أو بالربع أو بالثلث، فهذه نسميها مزارعة، فالمساقي يقول في الصورة الأولى: خذ هذا النخل والأشجار، واتفقوا على أن المشروط الثلثان، وعند جذ النخيل وجمع العنب وما أشبه ذلك اختلفوا، فقال العامل: المشروط لي، وقال صاحب النخيل: هو مشروط لي، فالقول هنا قول العامل على المذهب.
وإن اختلفا في قدر المشروط، قال العامل: إنك قد شرطت لي ثلاثة أرباع، وقال صاحب الأصل: قد شرطت لك النصف، فهما الآن متفقان على أن المشروط له هو العامل، لكن اختلفا في قدر المشروط، فالقول هنا قول صاحب الأرض، وكذلك يقال في المزارعة.
فهنا فرق بين الاختلاف في تعيين المشروط له، وبين الاختلاف في تعيين المشروط، إن كان الاختلاف في تعيين المشروط له، فالقول قول العامل، وإن كان في قدر المشروط مع الاتفاق على تعيين المشروط له فالقول قول رب المال.
والتعليل أن العامل استحق السهم في عمله بالعمل فكان القول قوله، وهذا على المذهب، والقول الثاني: أنه للعامل إن كانت دعواه مقاربة، أما إن كانت بعيدة عن الواقع فالقول قول صاحب الأرض.(9/421)
وأما الاختلاف في القدر فالأصل أن الربح في المضاربة، والنماء في المساقاة والمزارعة، أنه تابع لأصله، فيكون القول قول رب المال.
وكل من قلنا القول قوله فلا بد من اليمين لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين على من أنكر» (1) فإذا قالا: المشروط ثلاثة أرباع، والعامل يقول: لي، ورب المال يقول: لي، وجرت العادة أن مثل هذا يعطى رب المال، فعلى الراجح يكون لرب المال، لكن مع يمينه؛ لأن العامل مدعٍ، ورب المال منكر، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين على من أنكر» .
مسألة: إذا فسدت المضاربة فالربح كله لرب المال، وللعامل أجرة المثل، فمثلاً إذا كان مثل هذا العامل راتبه الشهري ألف ريال، فيكون له على رب المال ألف ريال، حتى لو أحاطت بالربح كله، أو كانت جزءاً من ألف جزء من الربح، هذا هو المشهور من المذهب؛ والتعليل أن هذه المضاربة فاسدة فيستحق العامل أجر عمله.
والصحيح في هذه المسألة أن للعامل سهم المثل، فيقال: لو اتجر الإنسان بهذا المال كم يعطى في العادة؟ فقالوا ـ مثلاً ـ: يعطى نصف الربح، فيكون له نصف الربح، وهكذا؛ لأن العامل إنما عمل على أنه شريك، لا على أنه أجير، ولأنا لو قلنا: يعطى الأجرة فربما تحيط الأجرة بالربح كله، وحينئذٍ يخسر رب المال، ورب المال لم يعطه على أنه أجير.
__________
(1) سبق تخريجه ص (164) .(9/422)
قوله: «ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض» فقوله: «ولا يضارب» الفاعل المضارَب، فالمضارَب لا يضارب بمال لآخر.
مثاله: أعطيت رجلاً مالاً يتجر به مضاربة، فذهب إلى آخر وقال: أعطني مالاً مضاربة، فهنا يقول المؤلف: لا يجوز، لكن متى لا يجوز؟ يقول: «إن أضر الأول ولم يرض» ، فإن رضي جاز، وإن لم يضر به جاز.
وإضرار الأول يحصل بأحد أمرين:
الأول: أن ينشغل المضارَب بالمضاربة الثانية عن المضاربة الأولى مع اختلاف المال.
الثاني: أن يشتري مالاً من جنس ما ضاربه الأولُ عليه حتى تتخم الأسواق من هذا النوع من المال فيرخص، فكل هذا ضرر.
مثال ذلك: أعطيت رجلاً عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز؛ لأنني أعرف أن الأرز عليه طلب فأخذها، ثم ذهب إلى آخر وأخذ منه عشرة آلاف ريال مضاربة في الأرز، فهل هذا التصرف يضر بالأول أو لا؟
الجواب: نعم يضره؛ لأن السوق إذا امتلأ بالأرز فسوف يرخص السعر، فيتحقق الضرر بالمضارب الأول.
أما إذا أخذ عشرة آلاف ريال مضاربة من شخص آخر ليشتري بها سيارات، ومعلوم أن السيارات لا تؤثر على الأرز، لكن ربما ينشغل هذا المضارَب بالاتجار بالسيارات، لا سيما إذا علم أن ربحها أكثر، فيترتب على ذلك أن يترك المضارب الأول(9/423)
مع أرزه، ويقول: السيارات أكسب، ومعلوم أن هذا التصرف يضره.
وقوله: «ولم يرض» فإن رضي فلا بأس؛ لأن الحق له.
وقوله: «ولا يضارب» المؤلف لم يفصح تماماً بالحكم، فهل هو مكروه أو حرام؟ هذه العبارة إذا جاءت في كلام العلماء (لا يفعل كذا) فهي محتملة للكراهة وللتحريم، كما لو قالوا في الصلاة ـ مثلاً ـ (ولا يفعل كذا في الصلاة) فهي محتملة للكراهة وللتحريم، لكن الفقهاء صرحوا بأن ذلك حرام، فيحرم أن يضارب بمال لآخر بالشرطين المذكورين: أن يضره، وألا يرضى، فإن لم يضره فلا بأس، وإن رضي فلا بأس، فإن أقدم العامل، وضارب بمال لآخر مع الضرر قال المؤلف:
«فإن فعل رد حصته في الشركة» أي: ضارب العامل بمال لآخر، وحصل له ربح في المضاربة الثانية، فإنه يرد حصته من هذا الربح في الشركة الأولى، فكأنه ربح من المال الأول؛ لأن وقت المضارَب مستحق لصاحب المال الأول.
مثال ذلك: رجل أعطى شخصاً عشرة آلاف ريال مضاربة على النصف، ثم إن هذا العامل أخذ مضاربة من شخص آخر عشرة آلاف ريال، فربحت عشرة الآلاف الأولى ألف ريال فيكون نصيب العامل خمسمائة، وربحت العشرة الثانية عشرة آلاف ريال، فيكون نصيب العامل خمسة آلاف ريال، فنضيف خمسة الآلاف إلى الألف؛ لأن نصيب العامل من المضاربة الثانية خمسة آلاف، فنضيف خمسة الآلاف إلى الألف، فكأن المضاربة الأولى(9/424)
ربحت ستة آلاف، ولهذا قال:..........
فَإِنْ فَعَلَ رَدَّ حِصَّتَهُ في الشَّرِكَةِ وَلاَ يُقْسَمُ مَعْ بَقَاءِ العَقْدِ إِلاَّ باتفاقِهِمَا وَإِنْ تَلِفَ رأسُ المالِ أَو بعضُهُ بَعْدَ التصرُّفِ أَوْ خَسِرَ جُبِرَ مِنَ الرِّبْحِ قبل قِسْمَتِهِ أو تَنْضِيضِهِ.
«فإن فعل رد حصته في الشركة» .
إذن إذا ضارب العامل بمال لشخص وربح، فإن هذا الربح يضاف إلى ربح المضاربة الأولى، ويكون المضارِب الأول شريكاً، كأن هذا الربح من المضاربة الثانية ربح مالهما، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إنه لا يستحق من ربح المضاربة الثانية شيئاً؛ لأنها ليست من ماله، وإنما هي من كسب العامل، والعامل أخطأ في كونه يضارب بمال الآخر مع الإضرار بالأول، لكن ما الذي يُحل هذا الربح لصاحب المال الأول؟! ففي الواقع أنه لا يحل، ولهذا كان هذا القول هو الراجح، أنه لا يضيف ربحه من المضاربة الثانية إلى ربح المضاربة الأولى، بل هو له لكنه آثم.
فإن قال قائل: لو فرض أنه فوت على المضارب الأول، أي: على رب المال أرباحاً، فهنا ربما نضمنه، وقد لا نضمنه أيضاً، لكن الكلام على أن الربح من المضاربة الثانية، لا يرد في ربح المضاربة الأولى على القول الراجح، أما المذهب فكما سبق بيانه.
قوله: «ولا يقسم مع بقاء العقد إلا باتفاقهما» الضمير يعود على الربح؛ لأن الذي يقسم بين المضارب والمضارب هو الربح، أما رأس المال فهو لصاحبه فيتعين أن يكون الضمير في «يقسم» يعود إلى الربح، يعني العامل اتجر بالمال وربح، والعقد باقٍ لم يفسخ حتى الآن، يقول المؤلف: «لا يقسم» ، فلا يقسم الربح مع(9/425)
بقاء العقد إلا باتفاقهما، أما إن فسخ العقد فيقسم الربح؛ لأنه انتهى، لكن مع بقاء العقد لا يقسم إلا باتفاقهما؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فربما يقول العامل: اقسم الآن، فيخشى أن يتجر به مرة ثانية فيخسر، فيطالب العامل بالقسمة؛ لئلا يخسر، فيقول مثلاً: المال الآن ربح عشرة في المائة فنقسمها؛ لأنني أخشى إذا اتجرت مرة ثانية أن أخسر ولا أربح، فيكون عمل العامل هباءً ولا فائدة منه.
أما رب المال فقال: لا نقسم، فأنت الآن إذا اشتريت بعشرة آلاف أقل مما لو اشتريت بأحدَ عشرَ والربح الآن مستمر، فإذا اشتريت بأحد عشر، صار الربح أكثر مما لو اشتريت بعشرة.
فلا يجبر العامل رب المال على القسمة؛ لأن العقد باق، ولو كان بالعكس بأن طلب رب المال قسمة الربح؛ من أجل أن يأخذ ربح ماله وذاك يأخذ ربح عمله، وقال العامل: لا نقسم، الربح مضمون، وإذا ربحنا من أحد عشر، صار أكثر مما لو ربحنا من عشرة؛ فأنا لا أريد القسمة، فإننا نقول: نعم لا يقسم مع بقاء العقد.
والخلاصة أنه ما دام العقد باقياً؛ فإنه إذا طلب أحدهما قسمة الربح فإنه لا يقسم إلا باتفاقهما؛ لأن الحق لهما.
قوله: «وإن تلف رأس المال أو بعضه بعد التصرف أو خسر جُبر من الربح قبل قسمته أو تنضيضه» إن تلف رأس المال فلا يخلو من حالين: إما أن يكون قبل التصرف، وإما أن يكون بعده،(9/426)
فإن كان قبل التصرف انفسخت الشركة؛ لأن المال المعقود عليه تلف ولا يلزم ربَ المالِ بدلُهُ، أما بعد التصرف فيقول ـ رحمه الله ـ: إنه يجبر من الربح إذا تلف رأس المال أو بعضه؛ لأنه ما دامت الشركة مؤقتة فالعقد باق حتى يتم الوقت، فما حصل من زيادة أو نقص فإنه يكون على الربح، لكن بشرط أن يكون قبل القسمة، أما بعد القسمة فكُلٌّ أخذ حقه.
مثاله: إنسان مضارَب اتجر، وجعل الدراهم في الصندوق، وكانت عشرة آلاف، وصارت بالربح عشرين ألفاً، فسرق منها عشرة آلاف، يقول المؤلف: «جبر من الربح» وفي هذا المثال الذي مثلنا به هل يبقى للعامل شيء؟ لا؛ لأن كل الربح الآن سُرِق، وكلام المؤلف أن ما تلف قبل القسمة أو التنضيض يكون من الربح، وحينئذٍ تبقى العشرة الباقية لرب المال.
في المثال السابق نفسه لو سرق من العشرين ألفاً خمسة آلاف، فإن الربح يكون خمسة آلاف، وعشرة آلاف تبقى لرب المال؛ لأن الخسارة قبل القسمة والتنضيض تكون من الربح.
وقوله: «أو خسر» إذا خسر ـ أيضاً ـ يجبر من الربح.
مثال ذلك: اتجر شخص برأس مال قدره عشرة آلاف ريال فصارت خمسة عشر ألفاً، فأخذ الخمسة وهي الربح ووضعها في المصرف، ثم اتجر بعشرة الآلاف فخسرت وصارت ثمانية آلاف، فإننا نأخذ الألفي ريال مقدار الخسارة من الربح ويكون الربح على هذا ثلاثة آلاف ريال، ولهذا قال: «أو خسر جُبر من الربح» .(9/427)
وقوله: «قبل قسمته» فإن قُسِم فكل واحد منهما أخذ نصيبه.
مثاله: قدرنا أن رأس المال عشرة آلاف، والربح كان مقدراً بألفي ريال، واتفق رب المال والعامل على أن يُقسم الربح، فأخذ العامل نصيبه من الربح وهو ألف ريال، فيبقى عندنا الآن ألف من الربح وعشرة آلاف من رأس المال، فنقول لرب المال: الألف هذه إن شئت اجعلها رأس مال، وإن شئت فخذها، لكن العامل بعد أخذ نصيبه خسر المال، فلا نقول للعامل: أعطنا ما أخذت من الربح؛ لأنه لما قسمه صار ملكه خاصّاً به، خارجاً من الشركة.
وقوله: «أو تنضيضه» يعني تحويله إلى نقد، والتنضيض يعني التصفية، فلو خسر بعد التصفية فالضمان على رأس المال؛ لأنه نُض وعَرَفَ العامل نصيبه وصفيت الشركة، لكن ما دام لم يُنضض فإن الخسارة تكون على الربح، وأما بعد التنضيض فلا، هذا ما ذهب إليه المؤلف ـ رحمه الله ـ.
والصحيح أنه إن كان التنضيض يعني فسخ الشركة، أو يعني المطالبة بالقسمة، فكما قال المؤلف.
وأما إذا كان التنضيض (التصفية) من أجل أن يشتري بضاعة أخرى؛ لأنه أحياناً يرى العامل أن هذه البضاعة ثقيلة، وليس عليها إقبال، فيبيعها ويصفي المال من أجل أن يشتري به بضاعة أخرى يكون عليها إقبال، فهنا لا نقول: إن التنضيض يعتبر كالقسمة؛ لأن العامل ورب المال كليهما يعتقدان أن هذا ليس فسخاً ولا قسمة.(9/428)
مثال ذلك: اشترى العامل عقارات ليؤجرها من أجل الربح، لكنه رأى أن العقارات لا مكسب فيها بسبب انخفاض الإجارة، فباعها جميعاً بمائة ألف ريال ـ مثلاً ـ، فصار بيده الآن مائة ألف ريال، لكن يريد أن يشتري بها نوعاً آخر من المال، يرى أنه أفيد، فهنا نقول: هذا التنضيض ليس تنضيض قسمة، ولا تنضيض فسخ، إنما هو تنضيض لمصلحة الشركة، فلو قُدِّرَ أنه خسر بعد ذلك، فالخسارة على الربح.
وخلاصة الموضوع أن أي خسران يكون قبل القسمة أو فسخ الشركة فهو على الربح، فإن خسر كل شيء، فعلى الربح وعلى رأس المال.
الثالث: شَرِكَةُ الوُجُوهِ أَنْ يَشْتَرِيَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا بِجَاهِهِمَا فَمَا رَبِحَا فَبَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ منهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ وكَفِيلٌ عَنْهُ بِالثَّمَنِ، والمِلْكُ بينهما على ما شَرَطَاهُ، والوضيعةُ على قدرِ مِلْكَيْهِمَا والرِّبْحُ على ما شَرَطَاهُ.
قوله: «الثالث شركة الوجوه» أي: الثالث من أنواع شركة العقود؛ لأن المؤلف قال في الأول: «وهي أنواع» والمراد بالوجه هنا الجاه، وجاه الإنسان يعني شرفه وقيمته عند الناس ومنزلته بينهم.
قوله: «أن يشتريا في ذمتيهما بجاههما فما ربحا فبينهما» مثال ذلك: هذان رجلان عاملان، لكن ليس عندهما مال، وكلاهما فقير، فذهبا إلى رجل غني كبير، وقالا له: نريد أن نشتري منك هذا المحل، فقال: أعطوني المال، فقالا: ليس عندنا شيء، لكننا نشتري بالذمة، فهو الآن ـ مثلاً ـ يساوي مائة ألف، فنشتريه منك بمائة ألف وعشرة في ذمتينا، فهذه تسمى شركة الوجوه؛ لأنهما اكتسبا المال بجاههما وثقة الناس بهما،(9/429)
فقال رب المحل: بعته عليكما، فصارا شريكين في هذا المحل بدون أن يسلما دراهم، لا منهما ولا من أحدهما؛ لأنهما لو سلما دراهم منهما صار ذلك شركة عنان، ولو سلم أحدهما فمضاربة، فهذان لم يسلما مالاً؛ لأنهما اشتريا في ذمتيهما بجاههما.
مثال آخر: رجلان آخران ذهبا إلى صاحب محل، وهما من أصحاب الحيلة والمكر، وقالا: بع علينا المحل، فقال: أعطوني المال، فقالا: ليس لنا مال ولكن لك جاهنا ووجاهتنا وذمتنا، ولكنهما معروفان بالحيل والمكر والخداع والمماطلة، فهنا لا يعطيهما، أما في المثال الأول فقد أعطاهما؛ لأن لهما جاهاً ووجاهة وذمة.
فتبين الآن أن شركة الوجوه معناها أن الشريكين ليس لهما مال، لا منهما، ولا من أحدهما، وإنما لهما الذمة والجاه والاعتبار عند الناس.
وهذه الشركة يحتاج إليها الفقراء الأقوياء على التكسب، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصدقة: «لا تحل لغني، ولا لقوي مُكْتَسِب» (1) ، والناس قد لا يكون عندهم مال فيذهبون إلى التجار ويقولون: أعطونا أموالكم نتجر بها واكتبوها في ذمتنا، فالملك هنا ملكهما، والتاجر ليس له إلا ثمن ثابت في الذمة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب من تحل له المسألة (1044) عن قبيصة ـ رضي الله عنه ـ.(9/430)
وقوله: «فما ربحا فبينهما» أي: على حسب ما شرطاه، فقد يكون أحدهما أحذق من الآخر، فيشترط له من الربح أكثر، والثاني أقل، وقد يتساويان، فيجعلان الربح بينهما مناصفة.
قوله: «وكل واحد منهما وكيل صاحبه» حتى وإن لم يصرِّحا بالتوكيل، فإن مقتضى هذه الشركة أن يكون كل واحد منهما وكيلاً لصاحبه.
قوله: «وكفيل عنه بالثمن» كفيل بمعنى ضامن، أي: كفيل غَرَّام بالثمن كما يقولون، فما دام البائع باع عليهما بوجهيهما، فإنه يعتقد أن كل واحد منهما غارم عن صاحبه، فلو أن أحدهما هرب ـ مثلاً ـ بعد عقد الشركة، وبقي واحد منهما، فللبائع عليهما أن يُضَمِّن هذا الذي لم يهرب.
فإذا قال: إننا شركاء وإن لصاحبي الذي هرب النصف؟ قال: لكن كل واحد منكما كفيل عن صاحبه.
قوله: «والملك بينهما على ما شرطاه» فمثلاً إذا قالا: ثلث لزيد وثلثان لعمرو فلا حرج، ولو قالا: ربع لزيد وثلاثة أرباع لعمرو فلا حرج، أو نصف لزيد ونصف لعمرو فلا حرج.
قوله: «والوضيعة» يعني الخسارة.
قوله: «على قدر ملكيهما» فإذا اتفقا على أن يكون لزيد قدر الثلث، ولعمرو قدر الثلثين، وخسر المال، فيكون لعمرو قدر الثلثين من الخسارة، ولزيد قدر الثلث؛ لأن الوضيعة على قدر المال في جميع الشركات.(9/431)
قوله: «والربح على ما شرطاه» ؛ لأنه ربما يشترطان لأحدهما أكثر من ربح ماله لكونه حاذقاً في البيع والشراء، فالخلاصة كما يلي:
أولاً: تصرفهما كل واحد بالأصالة عن نفسه والوكالة عن صاحبه.
ثانياً: كل واحد يضمن عن نفسه، ويضمن عن صاحبه.
ثالثاً: يملكان هذا المال المشترك على ما شرطاه، فقد يجعلان لأحدهما الثلثين وللآخر الثلث أو يجعلانه أنصافاً.
رابعاً: الخسارة وهي الوضيعة، تكون على قدر المال.
خامساً: الربح يكون على ما شرطاه.
ولو قُدِّرَ أن المال تلف بغير تعدٍّ ولا تفريط فهل يضمنان لمن أعطاهما بوجهيهما أو لا؟
الجواب: نعم يضمنان، لأنهما أخذا هذا المال على أنه ملك لهما، عليهما غرمه ولهما غنمه، وليس هذا من باب المضاربة، أو من باب الأمانة أو ما أشبه ذلك، بل هذا بيع وشراء، فقد تم هذا البيع والشراء على هذين المشتركين، فكانت الغرامة عليهما كما أن الغنيمة لهما.
الرابع: شَرِكةُ الأَبْدانِ أَنْ يَشْتَرِكا فِيمَا يَكْتسِبانِ بأبْدَانِهِمَا فَمَا تَقبَّلَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ عَمَلٍ يَلزَمْهُمَا فِعْلُهُ وَتَصِحُّ في الاحْتِشَاشِ والاحْتِطَابِ وَسَائِرِ المُبَاحَاتِ وَإِنْ مَرِضَ أَحَدُهُما فالكَسْبُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ طَالَبَهُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقِيمَ مُقامَهُ لَزِمَه.
قوله: «الرابع: شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما» وهذه ـ أيضاً ـ ليس فيها مال، وقد يكون عند كل واحد(9/432)
منهما مال، لكنهما لم يشتركا في المال، وشركة الأبدان شركة في العمل بأن يشترك اثنان فيما يكتسبانه بأبدانهما.
قوله: «فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله» ما: شرطية، وتقبل فعل الشرط، ويلزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه يجوز أن يكونا مضارعين، أو يكونا ماضيين، أو يكونا مختلفين.
مثال الأول: إن يقم زيد يقم عمرو.
ومثال الثاني: إن قام زيد قام عمرو.
ومثال الثالث: إن قام زيد يقم عمرو، وإن يقم زيد قام عمرو.
فقوله: «فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله» فهنا فعل الشرط وجوابه مختلفان، فقوله: تقبل فعل الشرط، ويلزمهما: جواب الشرط، ولهذا قلنا: إنه مجزوم، ويجوز رفعه من الناحية العربية، كما قال ابن مالك:
وبَعْدَ ماضٍ رَفْعُكَ الجَزَا حَسَنْ
وَرَفْعُهُ بَعْدَ مُضَارِعٍ وَهَنْ
فهنا «تقبل» ماض فيجوز أنه نرفع المضارع الذي هو جواب الشرط، لكن لو رفعناه هنا لاختلف المعنى؛ لأنك لو رفعته قلت: «يلزمُهما» وتكون الجملة صفة لـ: «عمل» ، ويختلف المعنى.
ومعنى العبارة: أن أي عمل يتقبله أحدهما فإنه يلزم الجميع، ومعنى يتقبل أي: يلتزم به، فما التزم به أحدهما من عمل لزم الجميع، وهذا مع اتفاق الصنائع واضح ـ فمثلاً ـ اشترك(9/433)
اثنان في النجارة فجاء شخص، وقال لأحدهما: اصنع لي باباً، قال: لا بأس أصنع الباب، هنا لو أن الذي اتفق معه لم يصنع الباب، فإنه يلزم الثاني أن يصنع الباب؛ لأنهما شريكان متضامنان، فما تقبله أحدهما لزم الآخر.
ومع اختلاف الصنائع، مثل أن يكون أحدهما خشاباً والثاني حداداً، فإذا التزم الخشاب أن يصنع باباً من خشب فهل يلزم الحداد؟
الجواب: نعم، يلزم على كلام المؤلف؛ لأنهما شريكان، فيقال للحداد: اصنع باب الخشب لنا، فقال: أنا لست بخشاب لا أعرف، قلنا له: استأجر من يصنعه لنا؛ لأنك ملتزم بما التزم به شريكك فيلزمك، وكذلك بالعكس، فلو جاء شخص إلى الحداد وقال: اصنع لي باباً خشباً، فالتزم، فإنه يلزم صاحبه، فعلى كل حال ما تقبله أحدهما من عمل لزم الآخر؛ لأنهما شريكان وكل واحد ملتزم بما التزم به الآخر، وهذا هو المذهب.
وشركة الأبدان لها عدة صور منها:
قوله: «وتصح في الاحتشاش والاحتطاب» الاحتشاش مثل أن يخرج رجلان إلى البر ليأتيا بالحشيش، ويبيعانه في السوق، فقال أحدهما للآخر: نحن شركاء فيما نكتسب، فقال: «لا بأس نشترك ويذهب كل واحد منا في وادٍ، وكل واحد أتى بوقر من الحشيش.
والاحتطاب مثله، خرجا إلى البر ليأتيا بحطب يبيعانه، فقال(9/434)
أحدهما: نحن شركاء، فقال الآخر: لا بأس، فعلى حسب ما يتفقان عليه.
وتصح مؤجلة ومطلقة، فيجوز نحن اليوم شركاء، أو نحن هذا الشهر شركاء، أو نحن هذا الأسبوع شركاء، أو تطلق ومتى شاءا فسخاها.
ويكون الملك على ما شرطاه، والربح على ما شرطاه، والوضيعة على قدر المال.
وهذه ليس فيها مال وإنما هو عمل، والفرق بينها وبين شركة الوجوه، أن شركة الوجوه، يأخذان المال من ثالث ويعملان بأبدانهما، أما هذه فلا يأخذان من أحد مالاً ولا يأتي أحدهما بمال، وإنما يشتركان في العمل.
قوله: «وسائر المباحات» من المباحات التقاط السمك والجوهر، وما أشبه ذلك من البحر، فهذه جائزة وهي شركة أبدان.
ومنها: الاشتراك في جمع الكمأة وهي (الفقع) تنبت في البر، فيأخذانها ويبيعانها.
ومنها: الاشتراك ـ أيضاً ـ في الصيد، مثل أن يذهبا إلى مكان يكثر فيه الصيد واشتركا، فهذه ـ أيضاً ـ شركة أبدان.
ومن صور الاشتراك في العمل أن يكون كل منهما نجاراً ـ مثلاً ـ، أو أن أحدهما نجار والثاني حداد والثالث بَنَّاء، فيشتركون فهذا ـ أيضاً ـ جائز، وتسمى شركة أبدان، وهذه تقع أحياناً مع اتفاق الصنائع، كأن يشترك نجاران في ورشة يعملان(9/435)
فيها، أو يشترك حدادان في ورشة حدادة، أو ميكانيكيان في ورشة ميكانيكا وهلم جرّا.
فهذا اشتراك في عمل صناعة، فالمادة ليست لهما بل لغيرهما، لكنهما يصنعانها ويحوِّلانها إلى شيء معين، أو يصلحانها أو ما أشبه ذلك.
ومنها ـ أيضاً ـ شركة الدلالين، بأن يكون في هذا السوق دلاَّلون مشهورون بالحذق، فيشترك هؤلاء الدلالون في الدلالة فلا بأس، فأحدهما ـ مثلاً ـ يبيع الثياب، والثاني يبيع الأواني، والثالث يبيع الفرش، والرابع يبيع سلعاً أخرى، وتسمى شركة الدلالين؛ لأنهم يشتركون في عمل بدني، ليس عندهم مال، والمال ليس لهما ـ أيضاً ـ وإنما هو لغيرهم ويأخذون عليه الأجرة بالدلالة.
الخلاصة: أن شركة الأبدان شركة في عمل ولها أنواع.
قوله: «وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما» على ما شرطاه إذا كان النصف أو الربع أو الثلث حسب ما شرطاه، مع أن هذا المريض لم يعمل، لكنه ترك العمل لعذر، وهل لصاحبه في هذه الحال أن يفسخ الشركة؟
الجواب: نعم له ذلك، فله أن يفسخ الشركة وله أن يطالبه بمن يقوم مقامه، فيقول له: أنت الآن تركت العمل فأرسل مكانك أحداً، ولنفرض أنهما نجاران، مرض أحدهما ولم يأت للعمل، فلصاحبه أن يقول له: ائتني ببدلك، من يقوم بالعمل؛ لأن هذه شركة بدن، ولا بد أن يشترك الشريكان في العمل.
وقوله: «وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما» لو ترك العمل(9/436)
لغير عذر، مثل إنسان لا يهتم ولا يعمل بدون عذر، فالمذهب الكسب بينهما؛ لأنه يمكن للشريك أن يطالب شريكه بمن يقوم مقامه ولم يفعل، ولكن هذا فيه نظر.
والصواب أن ما كسبه صاحبه في هذا اليوم له، يختص به؛ لأن هذا ترك العمل بغير عذر، والآخر انفرد بالكسب.
فإذا قال قائل: أليس يلزمه أن يطالبه بأن يقيم مقامه من يكون بدله؟
قلنا: بلى، لكن ربما يستحيي الإنسان، وربما يظن أنه ترك العمل لعذر فيخجل أن يذهب إليه ويطالبه بالعمل، فلذلك القول الراجح في هذه المسألة أنه إذا ترك العمل لغير عذر، فإنه لا يستحق كسب ذلك الزمن الذي ترك فيه العمل بغير عذر.
قوله: «وإن طالبه الصحيح» يعني الذي لم يمرض.
قوله: «أن يقيم مقامه لَزِمَه» مُقامه أو مَقامه، إذا كانت رباعية فهي بضم أوله، وإن كانت ثلاثية فهي بالفتح هذه القاعدة، فتقول: قَام مَقام، وتقول: أقَام مُقامه؛ لأنه رباعي.
فنقول: إذا كان رباعيّاً فضم أوله، وإذا كان ثلاثيّاً فافتح أوله.
فإن طالبه الصحيح أن يقيم مُقامه لزمه، فإن أبى فللآخر فسخ الشركة، فيقول: إذا كنت لا تقيم معي من يقوم مقامك فإني أفسخ الشركة، ولكن كيف يمكَّن من الفسخ وقد تم العقد بينه وبين صاحبه وهما شريكان؟! قلنا: لما تعذر العمل من قبل صاحبه ولا يمكن أن ينفرد هذا بالعمل، صار له حق الفسخ.(9/437)
الخَامِسُ: شَرِكةَ المفاوَضَةِ، أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلى صاحِبهِ كُلَّ تَصَرُّفٍ مَاليٍّ وبَدَنِيٍّ مِنْ أَنْواعِ الشَّرِكَةِ، والرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ والوَضِيعَةُ بِقَدْرِ المَالِ فَإِنْ أَدْخَلاَ فِيهَا كَسْباً، أَوْ غَرامةً نَادرِيْنِ أَوْ مَا يَلزمُ أَحَدَهُمَا مِنْ ضَمانِ غَصْبٍ أَوْ نَحْوِهِ فَسَدَتْ.
قوله: «الخامس: شركة المفاوضة» والمفاوضة في الحقيقة شركة عامة لجميع أنواع الشركات السابقة وهي أربع: العنان، المضاربة، الوجوه، الأبدان.
وشركة المفاوضة أن يشتركا في جميع أنواع الشركة.
قوله: «أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة» فيفوض كل واحد منهما للآخر كل نوع من أنواع الشركة: مضاربة، عنان، أبدان، وجوه، فهي عامة، وهذه عليها عمل كثير من الناس اليوم، وأكثر الشركات اليوم على هذا، فتجد الشركاء ـ مثلاً ـ كل واحد منهم يبيع بمؤجل، ويضارب، ويسافر بالمال، ويقرض المال يعني في كل شيء، وهذه اختلف فيها الفقهاء رحمهم الله، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها، وقال: إننا لو أجزنا هذه الشركة وهي واسعة فلا تمكن الإحاطة بها، فهي مفاوضة قد تؤدي إلى الفوضى والغرر؛ لأن فيها كل شيء، يعني أحدهما ضارب والثاني شارك في بدن، والثالث شارك في وجوه، والرابع شارك في عنان.
فنقول: لا مانع فيه؛ لأن كل أنواع الشركة تدخل في عقد المفاوضة، فلم تَعْدُ أن تجمع بين متفرق؛ لأن المضاربة وحدها جائزة، والعنان وحدها جائزة، والوجوه جائزة، والأبدان جائزة، إذاً هذه لم تعدُ إلا أنها جمعت بين هذه الأربعة، وما جاز أفراداً جاز جمعاً، فالصواب هو ما ذهب إليه الحنابلة ـ رحمهم الله ـ أنها جائزة والحاجة تدعو إليها، وعمل الناس اليوم على هذا،(9/438)
فكثير من الشركاء التجار الكبار، شركاتهم مفاوضة، تجد أحدهم ـ مثلاً ـ في المدينة والثاني في مكة، هذا يعطي مضاربة ويعطي قرضاً، وربما ـ أيضاً ـ يتبرع أحياناً في الشيء الذي ليس بكثير وأخوه يجيزه، فالصواب أنها جائزة؛ ولهذا يقول المؤلف: «أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة» .
إذاً أنواع الشركة أربعة، والخامسة المفاوضة وهي تجمع الأنواع الأربعة.
قوله: «والربح على ما شرطاه» أي: إذا قال أحدهما للآخر: لك الربع، ولي ثلاثة أرباع وقبل فإنه جائز، وثلثان وثلث جائز، والنصف جائز.
إذا قال قائل: كيف تجعلون الربح على ما شرطاه، والمال قد يختلف؟ قلنا: لأن الربح مبني على العمل والحذق، وقد يكون أحدهما أحذق من الآخر وأقوى عملاً، بل ربما يكون عند الناس ـ أيضاً ـ أوثق؛ ولذلك تجد ـ مثلاً ـ من يعرض عليك سلعة يقول: قيمتها بعشرة، فإنك تتردد هل قيمتها عشرة أو لا؟ ولو أتاك آخر دلال تعرف أنه حاذق وعارف بالأسعار، فقال لك: قيمتها اثنا عشر فإنك لا تتردد؛ لأنك تعرف أن هذا حاذق ويعرف الأسعار، وذاك ليس حاذقاً ولا يعرف الأسعار، فتخشى أنه قال بعشرة وهي لا تساوي إلا ثمانية.
قوله: «والوضيعة بقدر المال» وهذه قاعدة، الوضيعة بقدر المال في جميع أنواع الشركة؛ لأنه لا يمكن أن نلزم أحدهما غرم(9/439)
صاحبه؛ لأنك لو قلت: إن الوضيعة على ما شرطاه، وكان المال مختلفاً لزم من ذلك أن نلزم أحدهما بغرم مال صاحبه، أما الغنم فالإنسان كاسب على كل حال، حتى لو نقص غنمه عن غنم ماله فلا بأس.
فالربح على ما شرطاه، فيجوز أن يبذل كل واحد منهم عشرة آلاف، ويكون الربح ثلاثة أرباع فإنه جائز، والوضيعة إذا كان كل واحد أتى بعشرة آلاف لا يمكن أن تكون على هذا ثلثين وعلى الآخر ثلثاً؛ لأنه كما قلنا: إننا حملنا غرم أحدهما على مال الآخر، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا حيف وجور، فالوضيعة على قدر المال.
قوله: «فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادرين» ، الكسب النادر كالركاز ـ مثلاً ـ فالركاز كسب لكنه نادر، واللقطة نادرة، فمتى تجد لقطة؟! ثم إذا وجدتها فمتى تعدم صاحبها؟! فربما تنشد عليها ثم يأتي صاحبها فلا تكسب، فهذه من المكاسب النادرة، إذا أدخلت في شركة المفاوضة، بأن قال: حتى ما نجده من لُقطة وما نطلع عليه من ركاز فهو داخل في الشركة، فهنا يقول المؤلف: الشركة لا تصح؛ لأنهما أدخلا فيها كسباً نادراً.
وقوله: «أو غرامة» الغرامة النادرة كالجناية، فمثلاً إنسان جَنى على شخص خطأ، ولزمته دية ما جنى، فهذه حكمها على الجاني، لكن لو أدخلاها في ضمن الشركة لم يصح؛ لأنه ربما تكون هذه الغرامة مجحفة بمال الشركة كله، فلا يصح هذا الشرط، والمذهب أنه فاسد مفسد؛ لأنه يعود بجهالة الربح والأصل، وكل شرط يعود إلى الشركة بجهالة الربح فهو فاسد(9/440)
مفسد لها، وعلى المذهب لو تمت الشركة على هذا الشرط واشتغلا في الشركة لمدة سنة ثم قيل لهما: إن الشركة فاسدة، يقولون حينئذٍ يكون لكل واحد منهما ربح ماله، ولا يشاركه الآخر فيه؛ لأن الشركة فاسدة، ويكون لكل واحد منهم على الآخر أجرة مثله بما عمله في ماله.
والقول الثاني: أنها إذا فسدت الشركة فإنه يرجع إلى سهم المثل لا أجرة المثل؛ لأن هذا إنما أخذ المال برضا صاحبه على أساس الشركة وعلى أنه شريك لا أجير، فإذا فسدت الشركة فإننا نرجع إلى سهم المثل، فيكون لكل واحد منهما من الربح سهم مثله، أما خسارة المال أو ربح المال فهو ضمن الشركة؛ لأنه ليس بنادر.
ولو أدخلا فيها ميراثاً لأحدهما بأن مات قريبه، وكسب من ورائه ألف مليون ريال، وقال: ندخلها في الشركة فهنا لا يدخل؛ لأنه من النادر، ولا علاقة له بعمل الشريك، والهبة ـ أيضاً ـ نادرة، فيقولون: لا يصح وتفسد الشركة.
لكن لو قال قائل: النوادر أقسام:
الأول: لا أثر للإنسان فيه، فهذا نعم لا يدخل في الشركة كالميراث.
الثاني: ما كان بكسب من الإنسان كالتقاط وشبهه، فهذا لا بأس أن يدخل في الشركة وإن كان نادراً، فكون الإنسان يجد لقطة هذا أمر نادر لكن الإنسان يتملكه باختياره.
الثالث: ما كان باختيار الإنسان لا فعله كالهبة ـ مثلاً ـ،(9/441)
فالهبة لو شاء الإنسان لم يقبلها، فإذا قبلها صار هذا نوعاً من الكسب، وكونه نادراً لا يمنع أن يدخله في الشركة، فإذا قال: أنا راضٍ إذا وُهِبَتْ لي هبة أن أدخلها، فإن الفقهاء يقولون: هذا لا يجوز؛ لأن هذا فيه نوع من الجهالة والغرر؛ إذ أنه ليس شيئاً مطرداً معروفاً بل هذا شيء نادر، فكيف يدخل في الشركة؟!
ولكني أقول: إذا قال الكاسب الذي كسب النادر، سواء بفعله أو بغير فعله: أنا أدخله في الشركة وأجعله تبرعاً مني لصاحبي فيجوز، لكن أن تجعله في ضمن العقد فلا يجوز، فإذا قال: أنا راضٍ أن أجعله في ضمن العقد، قلنا: ربما ترضى اليوم ولكن إذا جاءت الدراهم لن ترضى وتندم؛ لهذا نقول: إن الشركة تكون فاسدة إذا أدخل فيها كسباً نادراً، ولو قيل بفساد الشرط لا العقد لكان له وجه.
قوله: «أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت» هذا غير الغرامة، فالغرامة تأتي بغير اختيار الإنسان، والغصب باختياره، مثل أن يقولا: نحن شركاء مفاوضة، لكن ما لزم أحدنا من ضمان غصب فهو على الشركة، فقال أحدهما: ليس هناك مانع، فاتفقا على هذا، فإن المؤلف يقول: إن الشركة تكون فاسدة وصدق ـ رحمه الله ـ؛ لأن هذا قد يجحف بمال الشركة، ولأنه ربما يكون هذا الشريك يُغِيرُ على الناس، ويغصب أموالهم، فإذا أدخلا في الشركة ما يلزم أحدهما من ضمان الغصب والإتلافات وما أشبهه، فإن الشركة تكون فاسدة؛ لأنه يترتب على ذلك أن يتعدى أحدهما على حقوق الناس، بالغصب، والسرقة،(9/442)
والتكسير، والإحراق، وغير ذلك، ويقول: على الشركة!! وهذا لا شك أنه ضرر عظيم.
وقوله: «أو نحوه» كخيانة في أمانة، وما أشبه ذلك.
إذاً شركة المفاوضة ما كان من ربح المال، أو من عملهما فهو داخل في الشركة، والخسارة ما كان من تصرف أحدهما في المال بغير عدوان منه، ولكن لمصلحة المال فهو على الشركة؛ لأن ذلك لمصلحتها وليس كل إنسان يجتهد يكون مصيباً.(9/443)
بَابُ المساقاة
قوله: «باب المساقاة» أصل المساقاة مساقية، لكن تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فهي مفاعلة، والمفاعلة لا تكون غالباً إلا من طرفين، وقولنا: لا تكون غالباً احترازاً من غير الغالب، ومنه: سافر يسافر مسافرة، فليس معه أحد يغالبه في السفر، لكن الغالب أن المفاعلة لا تكون إلا بين اثنين.
إذاً المساقاة عقد بين اثنين، وهي أن يدفع شجراً لمن يقوم عليه بجزء من ثمره.
وهي جائزة بالدليل العام والسنة، والنظر الصحيح.
أما الدليل العام فهو أن الأصل في المعاملات الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه.
أما السنة فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فتح خيبر، طلب منه أهلُها أن يعاملَهم وقالوا: نحن نكفيكم المؤونة ولنا شطر الثمر؛ لأن أهل خيبر كانوا عالمين بالفلاحة، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا مشتغلين بالجهاد عن العمل في هذه المزارع، فعاملهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع (1) ، والشطر النصف.
وأما النظر الصحيح؛ فلأنها من المصلحة، فقد يكون الإنسان مالكاً لبساتين كثيرة ويعجز عن القيام بما تحتاجه هذه
__________
(1) سبق تخريجه ص (411) .(9/444)
البساتين عجزاً بدنياً أو عجزاً مالياً فيكون حينئذٍ بين أمرين، إما أن يهمل هذا الشجر فيموت ويهلك وهذا فساد وإضاعة مال، وإما أن يعطيه من يعمل به بأجرة، وهذا قد يكون شاقاً عليه، فهو جائز لكن قد يشق على صاحب المال، وقد يكون هناك أناس عاطلون عن العمل يحتاجون إلى عمل، فإذا انضم كثرة البساتين عند هذا، وحاجة العمال إلى العمل، صار من المصلحة أن نُجَوِّز المساقاة، ونقول: ادفعها لهؤلاء العمال بجزء من الثمرة.
فاتضح الآن أن المساقاة تكون على شجر، وليس على أرض، ولا على زرع، فهل هي من العقد الجائز من ناحية الحكم التكليفي أو من المحرم؟
الجواب: هي من العقود الجائزة، والدليل عدم الدليل؛ لأنها معاملة، والأصل في المعاملات الحل والإباحة، فإذا لم يقم دليل على التحريم فهي حلال، وإن شئنا قلنا: الدليل هو انتفاء الدليل المُحَرِّم وثبوت الدليل المُجَوِّز، وذلك في معاملة أهل خيبر، وأن المصلحة تقتضيها، فهي إذاً جارية على القياس، وذلك خلافاً لمن قال: إنها جارية على خلاف القياس؛ لأن الجزء المشروط للعامل مجهول، فإن هذا الشجر قد يثمر ثمراً كثيراً يقابل أضعاف ما أنفق العامل عليه، وقد يثمر ثمراً قليلاً، وقد لا يثمر شيئاً فيكون العامل خاسراً، لذلك كان نصيب العامل مجهولاً، فيقال: هذه نظير المضاربة تماماً؛ لأن المضاربة يأخذ العامل الدراهم ويسافر ويتعب ويربح ربحاً كثيراً عظيماً، وفي النهاية(9/445)
يشتري سلعة تجحف بجميع الربح، فهذا خسر البدن والمال، ومع ذلك فهي جائزة، فإذا قال: والمضاربة على خلاف القياس أيضاً.
فنقول: ما هو القياس الذي تعنيه؟ الممنوع أن يكون أحد المتشاركين غارماً والثاني غانماً، أما إذا اشتركا في المغنم والمغرم فإن هذا على وفق القياس، وكون العامل تحت الحظ لا يعني خلاف القياس؛ لأن كل إنسان يعمل في الدنيا فهو تحت الحظ حتى صاحب المال تحت الحظ، ولذلك فهي لما تتضمنه من المصلحة ولكونها جارية على سنن الحياة على وفق القياس.
تَصِحُّ عَلَى شَجَرٍ لَهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ وَعَلَى ثَمرَةٍ مَوْجُودَةٍ وَعَلَى شَجَرٍ يغْرِسُهُ وَيَعْمَلُ علَيْهِ حتى يُثْمِرَ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرَةِ ويَشْتَرطُ أَنْ يَكُونَ الجُزْءُ مَعْلُومَاً مُشَاعَاً.........
قوله: «تصح» الفاعل المساقاة.
قوله: «على شجر» أي: أن يعقد على شجر.
قوله: «له ثمر يؤكل» فاشترط المؤلف في الشجر أن يكون له ثمر، واشترط في الثمر أن يكون مأكولاً.
مثاله: النخل، فالنخل شجر له ثمر يؤكل، وكذلك العنب، والبرتقال، والتفاح.
أما البرسيم ـ مثلاً ـ فليس بشجر؛ لأن الشجر ما له ساق، والبرسيم ليس له ساق، مع أن كلام الفقهاء في أن الشجر ما له ساق، فيه نظر، لأن الله تعالى أثبت الساق للزرع، فقال الله ـ تعالى ـ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29] ، المهم أن الزرع لا يدخل في هذا؛ لأنه ليس شجراً.
وقوله: «له ثمر» احترازاً مما لا ثمر له، كشجر السَّرْوِ، وهو شجر قوي كبير يرتفع، تتخذ منه الأبواب لكن ليس له ثمر، وفيه يقول الشاعر:(9/446)
في شجر السرو لهم مثل
له رواء وما له ثمر
أما بالنسبة للأثل فله ثمر؛ ولكنه لا يؤكل، كما أنه قليل الثمر، فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن التعب عليه لا يعطي ربحاً، والمؤلف يقول: «له ثمر يؤكل» وهذا ظاهر كلام المؤلف.
وقال بعض العلماء: إنه يجوز على شجر لا ثمر له، إذا كانت أغصانه يُنتفع بها، مثل أن تكون أغصانه تقطع وتجعل أبواباً صغاراً ـ مثلاً ـ أو ما أشبه ذلك، أو سدر يمكن أن يُنتفع بأوراقه، وعلى شجر له ثمر لكن لا يؤكل لكنه مقصود، مثل الأثل له ثمر فيؤخذ هذا الثمر ويجعل في الدِّيار، تدبغ به الجلود، فهو ثمر مقصود لكنه لا يؤكل، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن القاعدة هي أن يكون للعامل شيء في مقابلة عمله من ثمر يؤكل أو ثمر لا يؤكل لكنه مقصود ينتفع به، أو من قطع الشجر نفسه عند تكامل نموه فلا مانع؛ وفيه فائدة للطرفين، فما الفرق بين أن نقول: أغصان تُقطع وتُباع ويُنتفع بها، أو نقول: ثمر يُجذ ويؤكل؟!
إذاً موضوع المساقاة هو الشجر، ويشترط أن يكون له ثمر، وأن يكون ثمره يؤكل، وهذه هي الصورة الأولى.
قوله: «وعلى ثمرة موجودة» مثاله: رجل عنده نخلة وأثمرت النخلة، لكنه تعب من سقيها وملاحظتها فساقى عليها شخصاً، فقال: أنا أساقيك على هذه الثمرة إلى أن تجذ، فهنا لا بأس بذلك.
فإن قال قائل: هذا يعني بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها،(9/447)
نقول: هذا ليس ببيع، لكنه كالمؤاجرة على سقيها وإصلاحها، والبيع يتخلى عنه البائع نهائيّاً وينتقل ملكه إلى المشتري، أما هذا فلا ينتقل، وإنما هو كالأجير يقوم على هذه الثمرة حتى تنضج، وهذه هي الصورة الثانية.
قوله: «وعلى شجر يغرسه» يعني وتصح المساقاة على شجر لم يغرس بعد، وإنما يغرسه العامل، والشجر من رب الأرض، وهذه هي الصورة الثالثة، فالصور إذن:
الأولى: شجر قائم يُساقي عليه.
الثانية: ثمر على شجر يُساقي عليه.
الثالثة: شجر لم يغرس بَعْدُ، إنما أتى رب المال بالأشجار وجمعها، وقال للعامل: ساقيتك على هذه الأشجار تغرسها بجزء من ثمرتها، فهذا يجوز؛ لأن الأصل في المعاملات الجواز؛ ولأن هذا هو ظاهر فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع أهل خيبر، فصارت الصور ثلاثاً.
قوله: «ويعمل عليه» هذا العامل.
قوله: «حتى يثمر بجزء من الثمرة» وسيأتي ـ إن شاء الله ـ ما الذي يلزمه وما الذي يلزم رب الأصل.
هناك صورة رابعة: وهي لو ساقاه على الشجر بكل الثمرة، قال: لك كل الثمرة، فالمذهب أن هذا لا يجوز، والصحيح أنه جائز بلا شك؛ لأنه إذا جازت المساقاة بجزء من الثمرة جازت بكل الثمرة؛ لأن ذلك أحظ للعامل.
ولو ساقاه على أن يعمل ولا شيء له من الثمر، فالمذهب(9/448)
لا يجوز؛ لأن العامل ما ربح شيئاً، لكن لو قيل بالجواز لكان له وجه؛ لأن العامل تبرع بنفسه أن يعمل في هذا البستان، لكن قد يقال: إذا قلنا بالجواز هنا، فيجب أن تكون مؤنة المواد على المالك لئلاً نجمع على العامل بين الخسارة المالية والبدنية، ولأن هذا مجهول إذ لا يدرى ما يستحقه النخل من المواد؟
قوله: «ويشترط أن يكون الجزء معلوماً مشاعاً» وهذه سبقت في الشركة، فلا بد أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً مثل: ربع، ونصف، وثلث، وثمن، وعشر، حسب ما يتفقان عليه.
فإن كان غير معلوم، بأن قال: ساقيتك على هذا الشجر ببعض ثمره، فهذا لا يجوز؛ لأنه مجهول.
ولو قال: ساقيتك على هذا الشجر بمائة كيلو منه، فهذا لا يصح؛ لأنه غير مشاع.
ولو قال: ساقيتك على هذا الشجر، ولك مقطران، ولي مقطران، والمقاطر هي صفوف النخل، فلا يجوز؛ لأنه ليس مشاعاً.
لو قال: ساقيتك على هذا النخل على أنَّ ثمرة العام لك، وثمرة الثاني لي، فهذا لا يجوز؛ لأنه غرر وجهالة ويؤدي إلى النزاع، ويؤدي إلى المغرم أو المغنم لأحدهما دون الآخر، والأصل في الشركة اشتراك الشريكين في المغنم والمغرم.
يقول رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ: «كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء(9/449)
من الزرع ـ يعني غير مشاع ـ فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به» (1) ، يريد بالشيء المعلوم المضمون المشاع المعلوم.
وَهِي عَقْدٌ جَائِزٌ فَإِنْ فَسَخَ المالكُ قَبْلَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فلِلعَامِلِ الأُجْرَةُ، وَإِنْ فَسَخَها هُوَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ........
قوله: «وهي عقد جائز» وذلك باعتبار الحكم الوضعي؛ لأن الحكم التكليفي هو ما يترتب عليه الثواب والعقاب.
والحكم الوضعي هو ما يترتب عليه الصحة والفساد، فقولنا جائز في الحكم الوضعي، يعني أنها من العقود التي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخها بدون رضى الآخر، وضد الجائز اللازم، وهو الذي لا يملك أحد المتعاقدين فسخه إلا بسبب شرعي، أما من جهة الحكم التكليفي فأقول: جائز، أي لا إثم فيه، وضده المحرم.
وعلى هذا فمالك الشجر لا يُلزم الفلاح، والفلاح لا يُلزم مالك الشجر، لكن المشكل إذا كان هذا الفلاح قبض النخل في شهر المحرم ـ مثلاً ـ، وتَعبَ فيه، وسقاه، وعمل فيه كل ما يكون سبباً لنمو وظهور ثمره، ثم قال المالك: أنا فسخت، فهنا هل يضيع حق العامل، أو نقول: الآن صار العقد لازماً؟ بَيَّن المؤلف الحكم فقال:
«فإن فسخ المالك قبل ظهور الثمرة فللعامل الأجرة» إذاً فلا
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب كراء الأرض بالذهب والورق (1547) (116) .(9/450)
يضيع حق العامل، وعلينا أن نلاحظ أن الثمرة في المساقاة هي المعقود عليها، فمثلاً المالك أعطى العامل النخل في مثل وقتنا الآن، الثمر قد جُذ والنخيل ليس عليها ثمرة، وبعد مضي شهرين رأى المالك أن هذا العامل لا يقوم باللازم تجاه النخيل، ففسخ المالك المساقاة بينه وبين العامل، فهنا نقول: لا بأس، لكن العامل تعب في ملكك بإذنك، فيكون له الحق، ويُفرض له على قول المؤلف أَجرة المثل، فيقال: كم يُعطى الرجل لو عمل على هذا البستان لمدة شهرين؟ قالوا: يعطى في الشهر الواحد ـ مثلاً ـ عشرة آلاف، فنقول: له عشرون ألفاً.
ولو قال قائل: إنه يعطى بالقسط من سهم المثل لكان له وجه؛ لأن العامل لم يعمل على أنه أجير، بل عمل على أنه شريك، فيقال ـ مثلاً ـ: لو أن العامل أكمل نصيبه، فمعروف أنه قد جُعل له سهم، فالآن مضى ـ مثلاً ـ شهران من ثمانية، فيستحق ربع السهم الذي اتفق مع صاحب الملك عليه، فيكون أكثر من الأجرة، وقد يكون أقل، فعلى كل حال لو قيل: بأنه يُعطى بالقسط من السهم الذي شُرط له، لكان قولاً له وجه.
قوله: «وإن فسخها هو» الضمير هنا يعود على العامل.
قوله: «فلا شيء له» لأنه هو الذي أسقط عمله بنفسه، وهذا قبل ظهور الثمرة، أي: إذا فسخ العامل المساقاة فلا شيء له.
لو قال قائل: قد يكون هذا ضرراً على المالك، مثل أن يكون من عادة الناس أنه في وقت الجذاذ، يكون إقبال العمال(9/451)
على أخذ البساتين مساقاة، والآن ليس هناك نشاط، ألا يلزم العامل بما يعود من النقص على صاحب الأصل؟
الجواب: بلى، قد نقول: إنه يلزم بذلك، وعلى هذا التقدير نقول: إذا كان فسخه لعذر ـ أي العامل ـ مثل أن ينفد ما بيده من المال، أو يكون عنده خادم فيموت أو يهرب ولا يستطيع أن يكمل العمل بنفسه، فهنا نقول: إنه معذور فلا يضمن شيئاً، أما إذا كان غير معذور وفات غرض صاحب الأصل، فينبغي أن يُضَمَّن، وإلا يلزم بإتمام العمل، وهذا قبل ظهور الثمرة، فإذا كان الفسخ بعد ظهور الثمرة، فلا يملك مالك الأصل أن يفسخ، والعامل ـ أيضاً ـ يُلزم بإتمام العمل، يعني تكون لازمة بعد ظهور الثمرة؛ لأن العامل أصبح الآن شريكاً في الثمرة، ولا يمكن لرب الأصل أن يطرده، وصاحب الأصل ـ أيضاً ـ لا يُمَكّن العامل من الفسخ إلا إذا رضي أن يفسخ مجاناً فلا بأس، فلو قال العامل: أنا الآن لا أستطيع، فله ذلك بشرط أن يتنازل عن حقه ويقول: أنا لا أريد شيئاً، فصار قبل ظهور الثمرة كما سبق، إن فسخ المالك لزمه أجرة المثل، وعلى قولنا يلزمه قسط السهم الذي عامل عليه، والعامل إذا فسخ قبل ظهور الثمرة فلا شيء له؛ لأنه هو الذي رضي لنفسه ذلك، ولكن هل يضمن العامل للمالك؟ الجواب: إن فسخ لعذر فلا شيء عليه، وإن فسخ مضارَّة فينبغي أن يضمن.
والمالك بعد بدو الثمرة لا يملك أن يفسخ، والعامل يملك(9/452)
أن يفسخ بشرط أن يتنازل عن حقه؛ لأنه في هذه الحال لم يزد صاحب الأصل إلا خيراً.
والقول الثاني في هذه المسألة: أن المساقاة عقد لازم كالإجارة، وبناء على هذا القول يتعين تعيين المدة، فيقال: ساقيتك على سنة أو سنتين أو ثلاث سنين أو ما أشبه ذلك؛ لأن العقد اللازم لا بد أن يحدد؛ حتى لا يكون لازماً مدى الدهر، فيتعين تحديد المدة، ولا يمكن لأحد منهما فسخها ما دامت المدة باقية، فإن تعذر العمل عليه لمرض أو غيره أقيم من يقوم بالعمل على نفقة العامل، وله السهم المتفق عليه وهذا هو الصحيح، وعليه عمل الناس اليوم وربما يستدل لذلك بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع، وقال: نقركم في ذلك ما شئنا (1) ، أي نقركم ما شئنا من الإقرار وأنتم ما دمتم باقين فعلى المعاملة، ولأننا لو قلنا: إنه عقد جائز كثر الضرر والنزاع بين الناس، ولأن العامل ربما يتحيل فيأتي إلى صاحب الملك ويأخذ منه الملك مساقاة في موسم المساقاة، فإذا زال الموسم جاء إلى المالك وفسخ، وكذلك بالعكس ربما يكون المالك أعطى العامل هذا الملك ليعمل فيه، فإذا زادت الأسهم للملاك فسخها وأعطاه أجرة المثل، فالصواب أن المساقاة عقد لازم ويتعين فيها تحديد المدة.
ثم بدأ المؤلف يبين ما يلزم العامل وما يلزم المالك فقال:
__________
(1) سبق تخريجه ص (411) .(9/453)
وَيَلْزَمُ العَامِلَ كُلُّ ما فِيهِ صلاحُ الثَّمَرَةِ من حَرْثٍ وسَقْيٍ وزِبَارٍ وتَلقِيحٍ وتشْمِيسٍ وإِصْلاحِ موضعِهِ وطُرُقِ الماءِ وحصادٍ ونحوِه وعلى ربِّ المَالِ ما يُصْلِحُهُ كسَدِّ حَائِطٍ وإِجْرَاءِ الأَنْهَارِ والدُّولابِ وَنَحْوِهِ.
«ويلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة» أما ما فيه بقاء الأصل فعلى المالك كما سيأتي.
قوله: «من حرث» أي: حرث الأرض.
قوله: «وسقي» أي: سقي الشجر.
قوله: «وزبار» الزِّبار هو قطع الأغصان الرديئة، والشجر والنخيل يكون فيه أغصان رديئة يابسة، فهذه على العامل، ويسمى عند العامة التقليم.
قوله: «وتلقيح» أي: لثمر النخل.
قوله: «وتشميس» للثمر بعد أن يجذ، فيحتاج إلى أن يوضع في الشمس حتى ييبس، فهذا على العامل.
قوله: «وإصلاح موضعه» أي: إصلاح موضع التشميس وهو ما يسمى بالبيدر، فكانوا في الزمن السابق يجعلون موضعاً للتشميس في أرض واسعة، ويضربون حولها ـ مثلاً ـ بحصى يصفونه ويجعلون فيه الجص من أجل أن يكون نقيّاً فييبس عليه الثمر.
قوله: «وطرق الماء» أي: إصلاح طرق الماء، وهي السواقي، والفلاحون يجعلونها حياضاً.
قوله: «وحصاد ونحوه» أيضاً الحصاد على العامل، والجذاذ يرون أنه على كل واحد منهما بقدر حصته، وإن شُرط على العامل فلا بأس، أي جذاذ النخل، فإذا كانت أثلاثاً فعلى(9/454)
صاحب الثلث الثلث، وعلى صاحب الثلثين الثلثان، وإذا كانت أنصافاً فعلى كل واحد منهما نصفه، إلا إذا شُرِطَ على العامل فيصح.
والصواب أنه يتبع في ذلك العُرف، فإذا جرت العادة أن الجذاذ يكون على العامل فهو على العامل، وإذا جرت العادة أن يكون على صاحب المال فهو على صاحب المال، والعادة عندنا أنه إذا نضجت الثمار قَسَمُوها على رؤوس النخل، وقيل: لك أنت أيها الفلاح هذا الجانب وللثاني الجانب الآخر، وكل واحد منهما يجذ نخله، وهذا في عُرفنا ولا ندري عن عُرف الآخرين.
قوله: «وعلى رب المال ما يصلحه» أي: ما يصلح المال، يعني ما يعود بصلاح النخل على رب المال، وما يعود بتصريفه على العامل.
قوله: «كسد حائط» أي: إذا انثلم سور البستان يسده صاحب البستان، لا العامل؛ لأن هذا تابع لإصلاح البستان، فيكون على رب المال.
قوله: «وإجراء الأنهار» وهذا ـ أيضاً ـ على رب المال، والآن ليس عندنا أنهار، ومقابل إجراء الأنهار إخراج الماء، وإخراج الماء عندنا استخراجه بالمكاين، وهذا يكون على العامل، لكن حفر البئر على رب المال، هذا هو العرف، والعرف المطرد كالشرط اللفظي، يعني الاطراد العرفي كالشرط اللفظي، فما دام الناس اطرد عندهم أن حفر الآبار على رب المال، وأن استخراج الماء على الفلاح العامل، فإننا نمشي على ما كان الناس عليه.(9/455)
قوله: «والدولاب ونحوه» الدولاب هو آلة استخراج الماء من البئر ونحوه، ويستعمل بدل الدولاب الرحى، حيث يستعمل الدولاب في الآبار، والرحى تستعمل في الأنهار، وقد مر علينا استعمال الرحى في باب خيار التدليس، حيث قال المؤلف: «وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها» ، وهذا يشبه التدليس في تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام.
وعلى هذا يكون الدولاب في المساقاة على صاحب الأصل، وإدارة الدولاب، وتحريكه أي: تشغيله يكون على العامل.
وقوله: «ونحوه» يعني مما يحتاجه الأصل
لو قال قائل: أين في كتاب الله أو سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن هذا عليه كذا أو عليه كذا؟.
نقول: المرجع في ذلك إلى العرف، وذلك على القاعدة المعروفة:
وكُلُّ ما أَتَى ولَمْ يُحَدَّدِ
بالشَّرعِ كالحِرْزِ فبِالْعُرْفِ احْدُدِ (1)
فإذا كان العرف مطرداً فبها ونعمت، وهذا هو المطلوب، ونمشي على ما جرى عليه العرف، وإذا لم يكن مطرداً، وجب على كل منهما أن يُبَيِّن للآخر ما عليه وما له حتى لا يقع نزاع؛ لأنه من المعلوم أن المتعاقدين عند أول الدخول في العقد، يكون كل واحد منهما مشفقاً، وربما ينسى أو يتناسى بعض الشروط، ويقول: هذا هَيِّن، لكن نقول: هذا لا يجوز، فلا بد أن يكون الشيء واضحاً بيّناً؛ لأنه ربما يحدث نزاع ثم لا نستطيع أن نؤلف بين الطرفين.
__________
(1) منظومة قواعد الفقه وأصوله لشيخنا ـ رحمه الله ـ.(9/456)
فصلٌ
وَتَصِحُّ المُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مَعْلوم النِّسْبَةِ ممَّا يَخْرُجُ مِنَ الأَرْضِ لرَبِّها أَوْ لِلعَامِلِ وَالبَاقِي للآخَرِ، ولا يُشْتَرطُ كَوْنُ البَذْرِ والغِراسِ مِنْ ربِّ الأَرْضِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ.
«فصل: وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة» المزارعة هي أن يدفع أرضاً لمن يزرعها بجزء من الزرع.
والفرق بينها وبين المساقاة أن المساقاة على الشجر، والمزارعة على الزرع، والفرق بين الشجر والزرع أن ما له ثمر وساق وأغصان يسمى شجراً، وما ليس كذلك فإنه يسمى زرعاً.
مثال الزرع: القمح، والذرة، والشعير، والأرز، وما أشبه ذلك.
وإباحتها من حكمة الشرع، وتيسير الإسلام، فقد يكون عند الإنسان أرض بيضاء لا يستطيع زرعها، وفي مقابل ذلك عمال ليس لهم ما يكتسبون، فيأخذون هذه الأرض ويزرعونها، فيكون في ذلك مصلحة لصاحب الأرض وللعامل، وهذا لا شك أنه من محاسن الإسلام.
وقوله: «وتصح المزارعة بجزء معلوم النسبة» اعلم أن كل صحيح فهو جائز، يعني إذا قيل: يصح، فالمعنى أنها جائزة؛ لأن الصحة فرع عن الجواز في الحكم الشرعي لا الوضعي.
وهل كل محرم غير صحيح؟
الجواب: يُنْظَر، فإذا عاد التحريم إلى ذات الشيء، فهو غير صحيح، وإن عاد إلى أمر خارج فهو صحيح، فتلقي الركبان ـ مثلاً ـ: محرم، والشراء من الركبان حرام، لكن البيع صحيح؛ لأنه لا يعود إلى جهالة المبيع، ولا إلى الربا، وإنما يعود إلى(9/457)
خوف تغرير البائع الذي لم يقدم البلد ولم يدرِ عن الأسعار، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» (1) .
وقوله: «بجزء» هذا شرط خرج به ما لو دفع الأرض لمن يزرعها مجاناً، فهذه لا تسمى مزارعة؛ لأن الزرع كله للعامل.
مثال ذلك: رجل عنده أرض، وله صديق عاطل، فقال له: يا فلان خذ أرضي، وازرعها واسترزق الله بها، بدون أي سهم لصاحب الأرض، فهذه لا تسمى مزارعة، وإنما هي منحة منحها صاحب الأرض لمن يعمل فيها فلا تصح مزارعة؛ لأن المزارعة نوع من المشاركة، لكنها تبرع.
وقوله: «معلوم النسبة» خرج به المجهول، فلو قال: خذ هذه الأرض مزارعة ببعض الزرع، فهذا لا يجوز؛ لأن البعض مجهول، فلا بد أن يُحَدِّد.
وأيضاً لا بد أن يكون معلومَ النسبة يعني أن علمه نسبي، وليس بالتعيين، فالنسبة أن يقول: ربع، ثلث، عُشر، وما أشبه ذلك، احترازاً من المعلوم بالتعيين، والمعلوم بالتعيين لا تصح معه المزارعة، مثل أن يقول: لك الجانب الشرقي من الأرض، ولي الجانب الغربي، فهذا لا يجوز؛ لأنه قد يسلم هذا ويهلك هذا أو بالعكس.
والقاعدة في المشاركة أن يتساوى الشريكان في المغنم والمغرم، فلو قال: لك الزرع هذا العام، ولي زرع العام القادم
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم تلقي الجلب (1519) (17) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(9/458)
فلا يصح ـ أيضاً ـ لتعيين الزمن لأحدهما دون الآخر، والمثال الذي قبله تعيين المكان لأحدهما دون الآخر.
لو قال: لك ما تزرعه من شعير ولي ما تزرعه من بُر، فهذا لا يصح؛ لأنهما لم يشتركا في النوع.
لو قال: إن زرعتها شعيراً فلك النصف، وإن زرعتها بُرّاً فلك الربع فهذا يصح؛ لعدم الإشكال فإن زرعها براً له سهم معلوم وهو الربع، وإن زرعها شعيراً فله سهم معلوم وهو النصف.
قوله: «مما يخرج من الأرض» أي من الزرع، فإن أعطاه إياها بجزء أو بشيء معلوم مما لا يخرج من الأرض، فليست مزارعة بل هي إجارة، مثل أن يقول: خذ هذه الأرض ازرعها بمائة صاع من البر فهذا يصح، لكن يكون إجارة؛ لأنني لم أقل: بمائة صاع مما يخرج منها، بل مائة صاع من البر، فالعوض الآن ثابت في الذمة، ليس ناتجاً من عمل هذا المزارع، بل هو ثابت في الذمة حتى وإن لم يزرعها يلزمه مائة صاع.
قوله: «لربها أو للعامل» يعني الجزء المعين تارة يعين لربها، وتارة يعين للعامل، فإذا قال: خذ الأرض ازرعها ولك الربع، فهنا عُين للعامل، ولو قال: خذ الأرض وازرعها ولي الربع، فهنا عُين لرب الأرض.
وإذا عُين لأحدهما سهم فهنا يقول المؤلف: «والباقي للآخر» .
قوله: «ولا يشترط كون البذر والغراس من رب الأرض» يعني(9/459)
لا يشترط كون البذر في المزارعة من رب الأرض، ولا كون الشجر وهو الغراس في المغارسة من رب الأرض.
قد يقول قائل: لماذ ينفي المؤلف الشرط؟
نقول: لدينا قاعدة سبق ذكرها، وهي أن العلماء المؤلفين إذا نفوا شيئاً فهو لدفع قول قيل، وإلا كان سكوته عن اشتراطه يدل على أنه ليس بشرط، لكن إذا نفاه فكأنه يشير إلى قول بإثباته، فإذا قال: لا يشترط كذا، فإننا نقول: هذا إشارة إلى قول بخلاف ذلك، أي: دفعاً لهذا القول؛ لأن من العلماء من قال: يشترط في المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض، فإذا أعطيت شخصاً أرضاً يزرعها فأعطه البذر، وإذا كان البذر منه لم يصح؛ لأن المزارعة صنو المضاربة، إذ المزارعة دفع أصل لمن يعمل به بجزء من ربحه، والمضاربة هي دفع مال لمن يعمل به بجزء من ربحه، فإذا كانت مضاربة فلا بد أن يكون المال من المضارب، فكذلك يجب أن يكون البَذر من رب الأرض لا من العامل. والصحيح أنه ليس بشرط وهو الذي مشى عليه صاحب المتن والدليل على ما قاله سلبي وإيجابي.
فالسلبي أن نقول: الأصل عدم الشرط وأن العقود بين المسلمين جائزة بدون شرط، ولهذا نقول لمن منع عقداً من العقود: إيتِ بالدليل، ومن منع عقداً من العقود إلا بشرط قلنا: إِيتِ بالدليل؛ لأنه إذا كان منع العقد من أصله يحتاج إلى دليل، فمنع وصف في العقد يحتاج ـ أيضاً ـ إلى دليل؛ لأن منع العقد إلا بوصف أو شرط هو في الحقيقة منع لكنه ليس منعاً مطلقاً، بل(9/460)
منع مقيد بحال وهي عدم وجود الشرط. فإذا ثبت جواز العقد فالأصل عدم الشرط فيه، ولأننا إذا أضفنا شرطاً إلى حل العقد، معناه أننا نمنع هذا العقد عند عدم وجود الشرط، وهذا يقتضي أن هذا العقد ممنوع في بعض الأحوال، فنقول: منعك إياه عند تخلف هذا الشرط يحتاج إلى دليل، فاشتراط أن يكون البذر من رب الأرض يحتاج إلى دليل.
والدليل الإيجابي أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (1) ولم يعطهم البذر والغراس، ولو كان شرطاً لأعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم البذر والغراس، والدليل الإيجابي فيما دليله سلبي نحتاجه للتقوية من جهة وللتنصيص عليه من جهة أخرى.
وقوله: «والغراس» إشارة إلى المغارسة، والمؤلف لم يذكرها، فهناك عقد ثالث غير المساقاة والمزارعة، ويسمى المغارسة، ويسمى المناصبة، وهي أن يدفع الإنسان الأرض لشخص، يغرسها بأشجار ويعمل عليها بجزء من الأشجار، ليس بجزء من الثمرة، بل بجزء من الغرس، والثمرة تتبع الأصل، والفرق بينها وبين المساقاة، أن المساقاة بجزء من الثمرة، والأصل ـ أي: الشجر ـ لرب الأرض، وهذه بجزء من الأصل نفسه، أي: من الغرس، وهي جائزة، وإذا تمت كان للعامل نصف الشجر، أو ربعه، حسب الشرط، والمساقاة إذا تمت كان للعامل نصف الثمرة أو ربعها حسب الشرط، إذن بينهما فرق.
__________
(1) سبق تخريجه ص (411) .(9/461)
ففي المغارسة الجزء المشروط للعامل من الأصل، أي: من الشجر نفسه، فهل يشترط إذا أعطيت شخصاً أرضاً مغارسة، أن يكون الفرخ الصغير من رب الأرض، أو يجوز أن يكون من العامل؟
الجواب: المذهب أنه لا بد أن يكون من رب الأرض، كالمزارعة تماماً، لكن ما مشى عليه المؤلف أنه ليس بشرط.
فيجوز أن تقول: يا فلان هذه أرض بيضاء، تحمل ألفاً خذها مغارسة بالنصف، فعلى كلام المؤلف الذي يشتري الغراس هو العامل، ثم إذا انتهت مدة المغارسة يقسم النخل، وعلى المذهب لا بد أن الذي يدفع ثمن الغرس هو رب الأرض.
ولكن الصحيح ما مشى عليه المؤلف، أنه ليس بشرط، وعلى هذا تكون المشاركات في الزروع والنخيل والأشجار ثلاثة أنواع: مغارسة ومساقاة، ومزارعة، وقد تبين حكم كل واحدة منها والحمد لله.
قوله: «وعليه عمل الناس» أي المزارعين؛ لأن الأصل في ذلك معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ولم ينقل أنه كان يعطيهم البذر كما سبق، فكان الناس على ذلك من عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وظاهر كلام المؤلف أنه إلى وقت المؤلف، وعمل الناس أن البذر من العامل إلى يومنا هذا، ولا ريب أنه الصواب.
وقوله: «وعليه عمل الناس» هل عمل الناس حجة أو لا؟ نحن نعرف أن الأدلة أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس،(9/462)
وعمل الناس لم نسمع به، ولو كان عمل الناس حجة لكان الناس إذا عملوا أشياء محرمة وطال عليهم الزمن، وصاروا لا يرون إلا أنها مباحة نقول: إنها مباحة؛ لأن عمل الناس عليها.
ولكن هذا لا يقوله أحد، فيقال: المراد بعمل الناس أي عمل المساقين والمزارعين من عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن أصل المسألة هي معاملة أهل خيبر، وبقيت المعاملة هذه في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي عهد أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ، حتى أجلاهم عمر ـ رضي الله عنه ـ (1) ؛ لأنهم فعلوا ما يقتضي إجلاءهم فأجلاهم، لكن نعم يستأنس بعمل الناس إذا كان يعيش بينهم علماء أقوياء في الله، لو كان الأمر منكراً لأنكروه، وإن كان لا يعيش بينهم إلا علماء أمة فهؤلاء لا حجة بعملهم، ولتعلم أن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: علماء دولة.
الثاني: علماء أمة.
الثالث: علماء ملة.
علماء الدولة هم الذين ينظرون ماذا تريد الدولة فيلتمسون له أدلة متشابهة، فيتبعون ما تشابه من الأدلة إرضاءً للدولة، ولهم أمثلة كثيرة في غابر الزمان وحديثه، فظهرت الاشتراكية في الدول العربية، وتأميم أموال الناس الخاصة، وظلم الناس، فحاول
__________
(1) أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله (2338) ؛ ومسلم في البيوع/ باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع (1551) (6) ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.(9/463)
علماء الدولة أن يجدوا دليلاً ليرضوا الدولة؛ لأن العامة لا يرضون أن تؤخذ أموالهم، ويقال لهم: أمموها، فأتوا بمتشابهات، يتعسفون في رد النصوص ويلوون أعناقها من أجل أن توافق رأي الدولة، واستدلوا بالنصوص على وجه عجيب قالوا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «الناس شركاء في ثلاث» (1) ، فأثبت المشاركة، يعني الاشتراكية، وقالوا ـ أيضاً ـ إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان له أرض فليَزْرَعْها أو ليُزْرِعْها أخاه» (2) ، وأنت عندك فدادين كثيرة وأرض واسعة، لا تستطيع زراعتها، فنأخذها منك ونعطيها للآخرين، وقالوا: إن الله ـ تعالى ـ قال في القرآن: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] ، أي: ما رزقناكم فأنتم والعبيد فيه سواء، وإذا كان الحر مع العبد سواء فالحر مع الحر من باب أولى، وهلم جرّاً، فهؤلاء نسميهم علماء دولة، ولكن والله لا تغنيهم الدولة شيئاً، سيكون لهم ـ إن لم يغفر لهم ـ موقف من يقولون: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيرًا *} [الأحزاب] .
علماء الأمة ليس لهم دخل في الدولة، لكن ينظرون ما
__________
(1) سبق تخريجه ص (10) .
(2) أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة/ باب ما كان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمر (2340) ، ومسلم في البيوع/ باب كراء الأرض (1536) (88) ـ واللفظ له ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(9/464)
يصلح للأمة والعامة، ويقولون: العامة مثل الذر إن عارضناهم أكلونا، لكن نرى ماذا يكون أصلح.
فيأتون العالم ويقولون: البنوك هذه مفيدة فائدة عظيمة، ترفع الاقتصاد وينتفع الفقير، ويأخذ أموالاً يعمل ويحرث بها، والبنك ـ أيضاً ـ يستفيد من الربا فيقولون للعالم: رخص لنا ـ جزاك الله خيراً ـ، فقال العالم: دعوني أفكر، فجاءوا إليه بعد ما شاء الله من الزمن قال: وجدت أن هذا لا بأس به؛ لأن الشرع مبني على تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وهذه مصلحة كما قلتم، ففيه مصلحة لهذا ومصلحة لهذا، ولم يلاحظ الضرر الديني، فهؤلاء نسميهم علماء أمة، يعني الذين ينظرون ماذا تريد الأمة ويمشون عليه.
وعلماء الملة هم الذين لا يريدون إلا أن يكون دين الله هو الأعلى وكلمته هي العليا، ولا يبالون بدولة ولا بعوام، فهؤلاء إذا وجدوا في الأرض وشاعت معاملة بين الناس ولم ينكروها، حينئذٍ نقول: إن عمل الناس في ظل هؤلاء العلماء يعتبر حجة، وإن كان ليس كحجة النصوص لكنه يطمئن الإنسان لوجود علماء ربانيين، لا ينكرون هذا، فهذا مما يستأنس به الإنسان، ويقول: إن العمل مع وجود هؤلاء العلماء يعتبر معضداً لما أذهب إليه.
وكلمة: «وعليه عمل الناس» توجد كثيراً في كتاب «الإنصاف» و «التنقيح» للمرداوي رحمه الله تعالى.(9/465)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد العاشر
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1426هـ(10/)
بَابُ الإِجَارَةِ
قوله: «الإجارة» مأخوذة من الأجر وهو العوض المقابل بعمل، ولهذا يُسمى ثواب العمل أجراً، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] وهي عقدٌ على منفعة معلومة أو على عمل معلوم، فمستأجر الدار عَقَدَ على منفعة معلومة، ومستأجر العامل، البَنَّاء، عقد على عمل معلوم، ولهذا لا يملك الذي يستأجر العامل أن يؤجره لشخص آخر؛ لأنه لم يملك إلا المنفعة فقط، ما مَلَك الرجل، فالإجارة تكون على عمل وتكون على منفعة في عين، وهي نوع من البيع، ولذلك يحرم عقد الإجارة في المسجد كما يحرم البيع، ويحرم عقد الإجارة بعد نداء الجمعة الثاني، كما يحرم البيع؛ لأنها بيع منافع في الواقع.
وعقد الإجارة جائز بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما القرآن ففي قول المرأتين اللتين سقى لهما موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وأما السنة فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استأجر عبد الله بن أريقط على أن يدله على الطريق من مكة إلى المدينة (1) ، وأما إجماع الأمة فمعلوم، وتجويزها من محاسن
__________
(1) أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، وليس في البخاري التصريح باسم عبد الله بن أريقط، وإنما ورد اسمه في كتب السيرة كما قال الحافظ في الفتح.(10/5)
الشريعة؛ وذلك لأن الإنسان قد يضطر إلى سكنى بيت وليس معه ما يستطيع أن يملك به البيت فإنه ليس له طريق إلا الاستئجار، كذلك ـ أيضاً ـ صاحب البيت قد يكون ممسكاً ببيته ويريد الانتفاع به ولا يتعطل، وليس له سبيل إلى ذلك إلا بالتأجير، فلما كانت المصلحة للمستأجر والمؤجر واضحة ولا ظلم فيها ولا ربا كان من محاسن الشريعة المطهرة أن تباح، ولكن لا بد لها من شروط، وكل عقد من العقود يذكر له شروط، فلا بد أن نستدل لكل شرط من هذه الشروط، وإلا فإن الأصل عدم الشرط، وحل الشيء على الإطلاق، فكل من ادعى في عقد بيع أنه حرام قلنا له: هات الدليل؛ لأن الأصل في عقد البيع الحل، ولهذا فالشروط التي يذكرها العلماء في العقود لا بد لها من دليل، وإلا فإنها لا تقبل.
تَصِحُّ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: معْرِفَةُ المَنْفَعَةِ كَسُكْنَى دَارٍ، وَخِدْمَةِ آدَمِيٍّ، وَتَعْلِيمِ عِلْمٍ.
قوله: «تصح بثلاثة شروط» أفادنا المؤلف أن الإجارة تقع صحيحة وفاسدة، فما وافق الشرع منها فصحيح وما خالف الشرع ففاسد، وإذا فسدت الإجارة فإنه لا يترتب عليها ما جاء في العقد، بل يثبت فيها أجرة المثل.
قوله: «معرفة المنفعة» هذا هو الشرط الأول، أن تكون المنفعة معلومة للطرفين، المُؤجِّر، والمستأجر، وضد ذلك المنفعة المجهولة، والدليل على هذا الشرط قوله تعالى: {} [المائدة: 90 ـ 91] وجه الدلالة من الآية: أنه إذا كانت المنفعة مجهولة صارت من الميسر؛ لأن(10/6)
المستأجر وكذلك المؤجر بين غانم وغارم للجهالة، ولحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن بيع الغرر» (1) ، وكل مجهول فهو غرر، والإجارة بيع لكنه بيع للمنافع، ولأنه إذا كانت المنفعة مجهولة ستؤدي إلى الخصومة والمنازعة المؤدية إلى العداوة والبغضاء.
وقوله: «معرفة المنفعة» يعني بأن تكون المنفعة معلومة:
إما بالتحديد القولي وإما بالتحديد العُرفي.
فمثال القولي أن يقول: أريد كذا وكذا ويعيِّن.
ومثال العُرفي سيأتي في كلام المؤلف.
قوله: «كسكنى دار» مثال ذلك: استأجر رجل بيتاً لسكناه، وكان المستأجر يبيع الحُمُر ـ جمع حمار ـ فجعل هذا البيت مَرْبطاً للحَمير، فلا يجوز؛ لأن سكنى الدار معناها أن يسكنها آدميون ليس الحمير.
ولو أراد المستأجر أن يتصرف في الدار، وقال: هذه حجرة ضيقة فسوف أسقط الجدار الذي بينها وبين الحجرة الأخرى لتكونا واحدة واسعة، فإنه لا يملك هذا، إنما يملك السكنى فقط، وليس من العادة أن الساكن يتصرف في عين المستَأجَر إلا بإذن المالك.
قوله: «وخدمة آدمي» مثاله: استأجر آدمياً يخدمه، فصار
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر (1513) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/7)
يستخدمه في العادة ويقول: يا فلان هات الفطور، أو هات العلف للبهيمة، اذهب بالأبناء إلى المدرسة، أو ما أشبه ذلك، فهذا يصح، أما لو قال في يوم من الأيام: احملني على ظهرك إلى السوق فله أن يمتنع؛ لأن هذا مما لم تجر العادة به إلا بشرط.
كذلك يوجد أناس يستأجرون خادماً ليكون في البيت ليقضي الحوائج ويسوق السيارة وما أشبه ذلك، ثم يستخدمه في رعي الإبل، فهذا لا يجوز إلا إذا استأجره لذلك، فلو أراد أن يحوله من أثقل إلى أخف فلا يجوز إلا بإذنه؛ لأنه حر استؤجر لعمل معين فلا يتجاوز هذا العمل المعين إلا إذا رضي، وفي ظني أنه إذا حُول من أشد إلى أخف فإنه سوف يرضى، فلو حُول من كونه يرعى الإبل في قفار الأرض وصحرائها وغير ذلك، إلى أن يكون في البيت في ظل ظليل يأكل مع الناس ويشرب معهم، فإن الثاني أحسن له وسيختاره، لكن إذا لم يكن للخدمة عُرْفٌ معين، وكان قد استأجره لعمل معين فإنه لا ينقله إلى غيره إلا بإذنه.
وهل يملك إذا استأجره لخدمته أن يؤجره آخرَ لخدمته؟ لا يملك ذلك؛ لأنه غير مالك له؛ لأنه إنما ملك منفعته لنفسه، ولا يمكن أن يحولها إلى آخر إلا إذا رضي فلا بأس، وعلى هذا يتنزل ما يفعله بعض الناس الآن، يأتون بالخدم من الخارج متفقين معهم على عمل معين، ثم يستأجره إنسان آخر من الرجل الذي أتى به، فنقول: إن وافق الأجير فلا بأس، والفرق بين(10/8)
الأجرتين إذا رضي العامل فهي لمستأجر العامل الأول، فمثلاً: لو جاء به وراتبه ثلاثمائة ريال في الشهر، يعني كل يوم عشرة ريالات، فأجره بإذنه بخمسة عشر ريالاً في اليوم، فإن الخمسة الزائدة تكون للذي استأجره أولاً؛ لأنه رضي أن يعمل عند شخص آخر وهو مالك لمنفعته، أما إذا أبى وقال: أبداً أنا لا أعمل عند غيرك إلا إذا أعطيتني الفرق بين أجرتك وأجرة الآخر، فهو حر يملك هذا.
قوله: «وتعليم علم» بأن يستأجر شخصاً يعلمه باباً من أبواب العلم، كمن استأجر شخصاً يعلمه ـ مثلاً ـ باب الطهارة، أو باب الإجارة، فإن هذا جائز، لكن لا بد أن يحدد نوع العلم.
فإن قال قائل: علم المنفعة هنا قد يكون متعذراً؛ لأنك لا تدري متى يتعلم هذا الرجل؟ فمن الناس من يكون سريع الفهم، سريع الحفظ، بطيء النسيان فهذا يتعلم بسرعة، ومن الناس من هو على عكس ذلك، تعلمه عدة مرات وتبين له وتشرح له وعلى السبورة، وبكل طريقة، ومع ذلك لا يفهم، إذاً كيف تصح الإجارة على تعليم العلم؟! نقول: هذا مما يُتسامح فيه ويُحمل على الوسط من الناس، لا على سريع الفهم والحفظ وعدم النسيان ولا على البطيء، بل يحمل على العادة.
وقوله: «وتعليم علم» ليس على إطلاقه؛ لأنه سيأتينا أن العلوم المحرمة لا يجوز تعليمها ولا الاستئجار لتعلمها، وكذلك ـ أيضاً ـ ليس على إطلاقه؛ لأن من أفضل العلوم القرآن وقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أنه لا يصح الاستئجار لتعليم القرآن؛ لأن(10/9)
تعليم القرآن عبادة كما جاء في الحديث: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» (1) ولا يجوز أخذ الأجرة على العبادة، وعلى هذا فيجب أن نقيد العلم هنا بما ليس بمحرم، وقيد آخر ألا يكون تعليماً للقرآن.
أما الأول: فنعم، يشترط في العلم ألا يكون محرماً، فلو استأجره ليعلمه علماً محرماً كعلم النجوم، وأقصد بذلك علم التأثير لا علم التسيير (2) ، فهنا الأجرة حرام.
وأما الثاني: فلو استأجره ليعلمه القرآن فهو ـ أيضاً ـ حرام على المذهب، والراجح أنه ليس بحرام وأنه يجوز أن يستأجر الإنسان لتعليم القرآن، ويدل لذلك ما يأتي:
أولاً: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (3) وهذا صريح.
ثانياً: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أجاز أخذ الجعل على الرقية في حديث اللديغ (4) .
ثالثاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوَّج المرأة رجلاً ليس عنده صداق بما
__________
(1) أخرجه البخاري في فضائل القرآن/ باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027) عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ.
(2) ينظر كتاب: القول المفيد للشيخ رحمه الله/ باب ما جاء في التنجيم (2/5) .
(3) أخرجه البخاري في الطب/ باب الشرط في الرقية بفاتحة الكتاب (5737) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
(4) أخرجه البخاري في الإجارة/ باب ما يعطى في الرقية ... (2276) ؛ ومسلم في الطب/ باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (2201) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(10/10)
معه من القرآن ليعلمها (1) فجعله عوضاً.
فإذا قال قائل: كيف تجيزونه وهو قربة؟
قلنا: نعم، نجيزه وهو قربة؛ لأن إجازتنا إياه من أجل انتفاع المستأجر، ولهذا لو أننا استأجرنا شخصاً ليقرأ القرآن فقط لكانت الإجارة حراماً لا تصح أما التعليم فلا؛ لأن المعلم يتعب ويلقن هذا الجاهل حتى يعرف وسيعيد عليه ما حفظ من القرآن بالتعاهد، ففيه عمل مباح لشخص آخر، إذاً القول الراجح أنه تجوز الأجرة على تعليم القرآن وذكرنا ثلاثة أدلة، منها دليل لفظي ودليلان عمليان.
الثَّاني: مَعْرِفَةُ الأُجْرَةِ، وَتَصِحُّ فِي الأَجِيرِ وَالظِّئْرِ بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا. وَإِنْ دَخَلَ حَمَّاماً، أَوْ سَفِينَةً، أَوْ أَعْطَى ثَوْبَهُ قَصَّاراً، أَوْ خَيَّاطاً بِلاَ عَقْدٍ صَحَّ بِأُجْرَةِ العَادَةِ.
قوله: «الثاني: معرفة الأجرة» أي: الشرط الثاني أن تكون الأجرة معلومة، ودليل ذلك هو دليل اشتراط معرفة المنفعة؛ لأنها أحد المعقود عليهما، فلا بد من العلم بها.
فلو قال: استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم، فالإجارة غير صحيحة؛ لأن ما في يده من الدراهم مجهول، وبعضه ـ أيضاً ـ مجهول، حتى لو كان الذي في يده من الدراهم معلوماً، بأن كان معه عشرة آلاف ريال، وقال: ببعض ما في يدي من الدراهم، فإن الأجرة لا تصح.
ولو قال: استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس، فهو ـ أيضاً ـ لا يصح؛ لأن الأجرة غير معلومة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب وكالة المرأة الإمام في النكاح (2310) ، ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن (1425) عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ.(10/11)
قوله: «وتصح في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما» أي: تصح الإجارة في الأجير بطعامه وكسوته، بأن تستأجر شخصاً يعمل عندك بأكله وشربه وكسوته ومنزله، وعلم الأجرة هنا بالعُرف، فيحمل على العرف وهو أدنى الكفاية، فلو قال العامل: أنا استؤجرت بالطعام وأنا أريد طعام الملوك، أي: أعلى ما يكون من الطعام، فإنه لا يجاب وإنما يعطى طعام مثله.
وقوله: «والظئر» هي المرضعة، يجوز أن تستأجرها بطعامها وكسوتها؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وأطلق وقال: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فيجوز أن تستأجر امرأة لإرضاع الولد بطعامها وكسوتها، ومرجع ذلك العرف.
وهل تصح في المركوب بطعامه وشرابه وما يلزم لبقاء حياته؟ ظاهر كلام المؤلف: لا؛ لأنه خص هذه المسألة في الآدمي وفي الظئر أيضاً، والصواب أنه يجوز أن يستأجر حيواناً بالقيام عليه بالتغذية من طعام وشراب ووقاية من البرد والحر؛ لأنه لا فرق بينه وبين الأجير؛ لأن كليهما استيفاء منفعة، ويُرجع في ذلك إلى العرف.
وهل يصح أن يستأجر الدار بإصلاح ما انهدم منها؟ لا يصح؛ لأنه غير معلوم، قد ينهدم منها شيء كثير، وقد لا ينهدم منها شيء فهي مجهولة تماماً، إلا إذا كان المنهدم موجوداً الآن، وقال: أجرتك إياها بإصلاح ما انهدم الآن، وهو معلوم، فهنا الإجارة صحيحة؛ وذلك لأن الأجرة معلومة بالمشاهدة.
وإذا قال: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما ينهدم(10/12)
منه، فهذا لا يصح؛ لأن ما زاد مجهول، وإذا قال: أجرتك هذا البيت بعشرة آلاف وإصلاح ما انهدم منه من الأجرة، فهذا يصح لأن الأجرة معلومة، ولو قُدِّر أنه قد انهدم بما يصلح بخمسة آلاف فإنه يجوز، لكن لا بد من إضافة شرط آخر وهو أن يقول: محتسباً به من الأجرة وما زاد فعلى رب البيت؛ لأنه ربما يزيد المنهدم على الأجرة، مثل أن تكون الأجرة ألف ريال وينهدم هدماً يستحق ألفي ريال.
والخلاصة: أن استئجار البيت بإصلاح ما ينهدم منه لا يجوز، والإجارة غير صحيحة، أما استئجاره بإصلاح ما ينهدم منه محتسَباً به من الأجرة، فهذا جائز بشرط ألا يزيد على مقدار الأجرة.
قوله: «وإن دخل حماماً» هذه أجرة بالمعاطاة، فإذا دخل حماماً ثم اغتسل فيه وخرج، والحمام مكتوب عليه للإيجار، الساعة بكذا، وهو لم يرَ صاحبه فإنه يصح بأجرة العادة، والعادة في مثل هذا تقدر بالزمن كل ساعة بكذا، فيؤخذ ممن دخل الحمام ما جرت به العادة.
ومثل ذلك ما يفعله الناس الآن من إدخال السيارة في مواقف السيارات، تجده يدخل ويأخذ البطاقة لتعيين وقت الدخول ثم إذا خرج حاسب، بدون أن يكون هناك كلام، نقول: هذا ـ أيضاً ـ لا بأس به، وهذا ربما يكون أبلغ في الجواز من المساومة، يعني من قوله: لا أدخلك إلا الساعة بكذا وكذا؛ لأن هذا معلوم لدى الناس جميعاً.(10/13)
قوله: «أو سفينة» أي: وجد سفينة تحمل الناس فدخل فيها بدون أن يتفق مع الملاح، أي: مع قائد السفينة، فهذا يجوز وعليه أجرة العادة، وسيارة الأجرة كذلك إذا ركب ثم وصل إلى المحطة وقال له صاحب السيارة: عليك ـ مثلاً ـ عشرة ريالات، إن قال: العشرة كثيرة وما أعطيك إلا خمسة، فهل يُلزم بالعشرة؟ نعم، يلزم ما دامت العادة عشرة فإنه يلزم بالعشرة.
قوله: «أو أعطى ثوبه قصَّاراً» القصَّار: هو الغسَّال، أعطاه الثوب ليغسله، فغسله الغسَّال وعند تسليمه طلب مبلغاً من المال مع أن صاحب الثوب لم يعلم به، فيقال: يلزمه أجرة العادة وإن لم يتعاقدا عليها؛ لأن هذا معلوم بين الناس.
قوله: «أو خياطاً بلا عقدٍ صح بأجرة العادة» كذلك لو أعطى ثوبه خياطاً يخيطه، ولما انتهى قال له الخياط: الأجرة كذا وكذا فهذا يصح ولو بلا عقد.
وفُهم من قول المؤلف ـ رحمه الله ـ «قصاراً أو خياطاً» أنه لا بد أن يكون معداً نفسه للعمل، فإن لم يكن معداً نفسه للعمل فلا شيء له إلا بشرط، مثل أن يعطي شخص ثوبه لإنسان، فقال: خذه اغسله لي، فلما غسله قال له: الأجرة كذا وكذا، فلا يلزم صاحب الثوب أجرة؛ لأن الآخذ الذي غسله ليس معداً نفسه لذلك، والمؤلف يقول: «قصاراً» فلا يلزمه شيء.
فإذا تخاصم الرجلان فإننا نقول للقصار: لماذا لم تشترط لنفسك؟ هو يظن أنك محسن، والعقد لا بد له من قرينة إما لفظية(10/14)
بالإيجاب والقبول، وإما فعلية بالمعاطاة فيما اشتهر بذلك، وكذلك يقال في الخياط والحلاق، كل هؤلاء الذين أعدوا أنفسهم للعمل، فإنه يجوز الدخول معهم فيما أعدوا أنفسهم له بدون عقد، وعلى الداخل أجرة العادة.
الثَّالِثُ: الإِبَاحَةُ فِي العَيْنِ، فَلاَ تَصِحُّ عَلَى نَفْعٍ مُحَرَّمٍ، كَالزِّنَا، وَالزَّمْرِ، وَالغِنَاءِ، وَجَعْلِ دَارِهِ كَنِيسَةً، أَوْ لِبَيْعِ الخَمْرِ.
قوله: «الثالث الإباحة في العين» أي الشرط الثالث الإباحة في العين أي: في نفعها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الباب باب الإجارة، والمعقود عليه في الإجارة هو نفع العين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن المقصود الإباحة في النفع لا في العين، ولهذا يجوز استئجار الحمار للعمل عليه مع أن عينه حرام، فيشترط أن يكون النفع المعقود عليه مباحاً، فإن كان محرماً فإن الإجارة لا تصح، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه» (1) والإجارة نوع من البيع، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» (2) وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) .
والنفع الذي يكون في الأعيان إما محرم وإما مكروه وإما مباح، وظاهر كلام المؤلف أنه لا بد أن يكون مباحاً.
قوله: «فلا تصح على نفع محرَّم» ظاهره أن المكروه لا بأس
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/247، 322) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في ثمن الخمر والميتة (3488) ؛ وصححه ابن حبان (4938) ، والنووي في المجموع (9/273) ، وابن القيم في الهدي (5/746) .
(2) أخرجه البخاري في البيوع/ باب الشراء والبيع مع النساء (2155) ؛ ومسلم في العتق/ باب بيان أن الولاء لمن أعتق (1504) (8) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(3) أخرجه مسلم في الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) (18) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.(10/15)
بالاستئجار عليه، فلدينا ثلاثة أشياء: إباحة، وتحريم، وكراهة، فإذا نظرنا إلى كلام المؤلف: «الإباحة في العين» قلنا: إنها لا تصح الإجارة على مكروه، وإذا نظرنا إلى قوله: «فلا تصح على نفع محرم» قلنا: تصح على المكروه، لكن لا شك أنها خلاف الأولى؛ لأن الإعانة على المكروه مكروهة لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، المهم عندنا ثلاثة أشياء: النفع المباح لا بأس بعقد الإجارة عليه، المحرم: يحرم عقد الإجارة عليه، والمكروه: يجوز مع الكراهة.
مثال النفع المباح: ما سبق من استئجار البيت للسكنى وما أشبه ذلك.
ومثال المكروه: أن يستأجر شخصاً ليحلق له حلق (قزع) فالقزع مكروه، فإذا استأجره لهذا العمل كان استئجاراً على عمل مكروه. والمحرَّم قال:
«كالزنا» لو استأجر امرأة ليزني بها فالإجارة باطلة وغير صحيحة وحرام؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مهر البغي خبيث» (1) فلا تبيح الإجارة الزنا، وليست شبهة ـ أيضاً ـ في إسقاط الحد كما زعمه بعض العلماء، فبعض العلماء قال: إذا أراد أن يزني بامرأة وخاف أن يقام عليه الحد فليستأجرها، لكن لا شك أن هذا القول من أبطل الأقوال، ولا تحل المرأة بذلك، وهنا قاعدة
__________
(1) أخرجه مسلم في البيوع/ باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ... (1567) (41) عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ.(10/16)
يجب أن تعلم وهي «كل عقد محرم فإنه لا يترتب عليه آثاره» فمثلاً البيع الفاسد لا يملك المشتري السلعةَ ولا البائعُ الثمنَ، وكذلك لو استأجر امرأة يزني بها فإنه لا يستبيح بذلك فرجها؛ لأن الإجارة فاسدة، ولأن الزنا محرم بالنص والإجماع.
قوله: «والزّمر» يعني استعمال المزمار يعني آلة اللهو، ويقاس على ذلك كل المعازف، فلو استأجر شخصاً على عزف أو على زمر فالإجارة محرمة وغير صحيحة، والفاعل لا يستحق الأجرة فنقول له: ليس لك شيء ونقول للذي استأجره: ليس عليك أجرة؛ لأن الإجارة غير صحيحة، فإذا طالب الزامر بأجرة المثل وقال: ألغوا الإجارة ولكن أعطوني أجرة المثل لأنني عملت، فإننا نقول له: ليس لك أجرة، ويبقى النظر في المستأجِر، فإذا قلنا: ليس عليك أجرة؛ لأن هذا عمل محرم، فصار هذا الرجل قد كسب العمل وكسب الأجرة، ولا ينبغي أن نجمع له بين عوضين، وعلى هذا فنقول: تؤخذ الأجرة من المستأجر ولا تعطى الزامر ولكن تُصْرَفُ في بيت المال، أما أن نقول للمستأجر: ليس عليك شيء، وللزامر ليس لك شيء، فهذا فيه نوع من الظلم، فيقال: أنت أيها الزامر لا شيء لك، وعليك أن تتوب إلى الله وتستغفر، وأنت أيها المستأجر نأخذ منك الأجرة؛ لأنك عقدت على أنك ملتزم بها فنلزمك بها، لكن لا نعطيها الزامر؛ لأنها عوض عن محرم، وإنما نجعلها في بيت المال.
قوله: «والغناء» بالمد، وليس بالقصر؛ لأن «الغنى» بالقصر(10/17)
ضد الفقر، و «الغناء» بالمد هو تلحين القصائد، والشعر، وما أشبه ذلك.
ثم الغناء أقسام: منه ما هو مباح، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم، فالمراد هنا الغناء المحرم، وهو يدور على شيئين:
إما أن يكون موضوع الأغنية موضوعاً فاسداً، وإما أن تكون مصحوبة بآلة لهو محرمة، هذا هو الغناء المحرم، إما أن يكون الموضوع موضوعاً فاسداً كوصف النساء والمردان والخمر وما أشبه ذلك، هذا محرم لذات القصيدة؛ لأن الموضوع موضوع فاسد محرم.
أو يكون الموضوع غير محرم في حد ذاته، فهذا إن صحبه آلة لهو صار حراماً لما صحبه، وإن لم يصحبه آلة لهو فليس بحرام، وإذا كانت الأغنية في مدح آلهة المشركين فهذا حرام ولا يحل؛ لأن هذا أشد من وصف الزنا واللواط وما أشبه ذلك.
أما الغناء المباح فمثل حُداء الإبل، أو الغناء على الأعمال المباحة يستعان به على التعب، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يبني المسجد مع الصحابة ـ رضي الله عنه ـ ينشدون على العمل ويقرهم على ذلك (1) .
فإذاً نقول: العمل الذي يستعان به على مصلحة شرعية أو غرض صحيح لا بأس به، أما العمال الذين لا يبنون المسجد ولا
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة/ باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد (428) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب ابتناء مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم (524) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.(10/18)
يحفرون خنادق الحروب، لكنهم يبنون أبنية مباحة، فهل يحل لهم الغناء من أجل التقوي على العمل؟ نعم يجوز ذلك.
فالمهم أن مراد المؤلف بقوله: «الغناء» يعني الغناء المحرم، إما لذاته وإما لما يصحبه من فعل محرَّم، وقولنا: «مِنْ فِعْل محرم» ؛ لأنه أعم لأجل أن يشمل العزف ويشمل الطرب ويشمل الرقص وما أشبه هذا.
قوله: «وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر» يعني لو استأجر من شخص داره ليقيم فيها شعائر النصارى فجعلها كنيسة فالإجارة حرام؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ومثل ذلك لو استأجرها لبيع الخمر أو الدخان أو القنوات الفضائية، أو لبيع التلفزيونات، فالإجارة حرام إذا كان الغالب على مشتري التلفزيونات أن يستعملها في المحرم؛ لأن التلفزيون فيه شيء محرم وفيه شيء غير محرم؛ لأنه آلة يُصَرّفها الإنسان كما يريد.
لكن لو استأجر البيت على أن يسكنه وكان نصرانياً، فجعل في البيت معبداً فإن الإجارة صحيحة؛ لأنه حين العقد إنما عقد على عمل مباح وهو السكنى، فالمعصية هنا معصية في البيت لكنه لم يستأجر البيت من أجلها.
ولو أنه أجر شخصاً بيتاً ثم وضع فيه القنوات الفضائية، وصار يأتي بكل قناة فاسدة، فحكمه أنه إذا كان قد استأجر البيت لهذا الغرض فالإجارة محرمة وفاسدة، وإن استأجره للسكنى ثم وضع هذا فيه فلا بأس، ولكن إذا تم العقد أي: إذا تمَّت مدة الإجارة يقول(10/19)
لهذا المستأجر: إما أن تخرج هذه الآلة ـ القنوات الفضائية ـ وإما ألاَّ أجدد لك العقد، وأما ما تم عليه العقد من قبل فإنه يجب إتمامه لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
وَتَصِحُّ إِجَارَةُ حَائِطٍ لِوَضْعِ أَطْرَافِ خُشُبِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ تُؤَجِّرُ المَرْأَةُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
قوله: «وتصح إجارة حائط لوضع أطراف خشبه عليه» الحائط: يعني الجدار، فلو أراد الإنسان أن يستأجر حائط جاره ليضع أطراف خشبه عليه فإنه لا بأس بذلك، ولكن قد يشكل على هذا أنه يجب على الجار أن يمكن جاره من وضع أطراف خشبه على جداره، كما جاء في الحديث الصحيح: «لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه، أو قال: خشبة على جداره» . قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكان أميراً على المدينة ـ: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرميَنَّ بها بين أكتافكم» (1) وهذا الحديث يدل على أنه يجب تمكين الجار من وضع الخشب، فيقال: نعم، لكن أحياناً لا يجب، وذلك فيما إذا أمكن التسقيف بدون وضع الخشب على الجدار فإنه لا يجب، يعني لو كانت الحجرة ضيقة ويمكن أن تضع الخشب عرضاً، وجدار الجار يكون طولاً، فهنا يمكن أن تسقف بدون أن تحتاج إلى جدار الجار، وكذلك ـ أيضاً ـ ربما يكون الجار لا يحب النزاع والمخاصمة، وَرَفَعَ الأمرَ إلى القاضي حتى يجبر الجار على أن يضع الخشب على جداره، فهنا نقول: في الحال التي يجب على الجار أن يمكِّن جاره من وضع الخشب على الجدار، إذا كان المحتاج لوضع الخشب لا يريد
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم/ باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره (2463) ؛ ومسلم في البيوع/ باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(10/20)
المقاضاة والمحاكمة، وأراد أن يدفع له عوضاً من أجل تمكينه من وضع الخشب فإن ذلك جائز للمستأجر، وليس جائزاً لصاحب الجدار؛ لأن الواجب على صاحب الجدار إذا لم يكن على الجدار ضرر وكان جاره محتاجاً أن يمكِّنه منه.
فإذا قال قائل: هل يشترط في هذه الحال تقدير المدة؟ أو يتسامح عنه للحاجة؟ الجواب الثاني؛ لأننا لا ندري متى ينهدم الجدار، وعلى هذا فنقول: يُضرب عليه أجرة كل سنة بكذا، ولا يحتاج إلى تقدير مدة السنين، للحاجة إلى ذلك، ولا يمكن أن نحيط علماً متى يقع هذا الجدار، وعلى هذا فيكون اشتراط تعيين المدة هنا غير واجب؛ وذلك لدعاء الحاجة إلى عدم اشتراطه.
قوله: «ولا تؤجر المرأة نفسها بغير إذن زوجها» المرأة إذا تزوجت إنساناً ملَكَها، وقد وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء بأنهن عوانٍ عند الأزواج (1) ، والعواني جمع عانية والعانية هي الأسيرة، وقد سمى الله ـ تعالى ـ في القرآن الزوج سيداً فقال: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] أي: زوجها، فهي إذاً مملوكة ونفعها مملوك للزوج،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الرضاع/ باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (1163) ؛ وابن ماجه في النكاح/ باب حق المرأة على الزوج (1851) عن عمرو بن الأحوص ـ رضي الله عنه ـ، قال الترمذي: «حسن صحيح» .(10/21)
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه» (1) فالوقت مملوك للزوج فلا تؤجر نفسها بغير إذن زوجها حتى يأذن، وإذا أذن فالحق له، وإذا طلبت المرأة من زوجها أن يأذن لها أن تخدم فأذن جاز لها ذلك، ولو استأذنت من زوجها أن تشتغل بالتدريس وأذن لها جاز، فإن لم يأذن فإنه لا يحل لها أن تؤجر نفسها إلا بإذن الزوج.
فإن شُرِطَ على الزوج عند العقد أن تؤجر نفسها، فلا بأس، فالمسلمون على شروطهم، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» (2) ، وهذا يقع كثيراً في الآونة الأخيرة؛ لأن من النساء من تكون مُعَلّمة أو دارسة، فإذا تزوجت ولم يذكر في الشرط أن الزوج يُمَكّنُها من التدريس أو الدراسة فله منعها من ذلك، وأما إذا اشتُرِطَ عليه فالمسلمون على شروطهم.
وقوله: «ولا تؤجر المرأة نفسها» يخرج بذلك ما لو استؤجرت على عمل مشترك، بمعنى أجرناها ـ مثلاً ـ أن تخيط ثوباً، أو تخصف نعلاً، أو ترقع ثوباً، أو ما أشبه ذلك فهنا لم تؤجر نفسها؛ لأن المستأجر لها لا يملكها، إنما استأجرها على عمل، وهذا فيه تفصيل:
إن كان يشغلها عن حقوق زوجها فإنه لا يحل لها إلا بإذن الزوج، وإن كان لا يشغلها فلا بأس، فإذا قدرنا أن هذه المرأة
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه (2195) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب ما أنفق العبد من مال مولاه (1026) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في المهر عند عقد النكاح (2721) ؛ ومسلم في النكاح/ باب الوفاء بالشروط في النكاح (1418) عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ.(10/22)
لها زوج موظف في أول النهار ليس موجوداً عندها، واستؤجرت لخياطة ثوب تخيطه في وقت غيابه عن البيت دون أن تقصر في أعمال البيت فإن هذا جائز؛ لأنه ليس على الزوج ضرر في هذا، وكذلك لو كان الزوج غائباً، واستؤجرت لتخيط ثوباً أو تغسله أو ما أشبه ذلك فلا بأس؛ لأنه في هذه الحال لا يضيع شيء من حق الزوج.
فإن أجَّرت نفسها في حال غياب الزوج، فظاهر كلام المؤلف أن ذلك لا يجوز لقوله: «لا تؤجر المرأة نفسها» ؛ لأنه قد لا يرضى الزوج أن تخرج من بيته وإن كان غائباً، فلا تؤجر نفسها مطلقاً إلا بإذن الزوج.(10/23)
فَصْلٌ
وَيُشْتَرَطُ فِي العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ: مَعْرِفَتُهَا بِرُؤْيَةٍ أَوْ صِفَةٍ فِي غَيْرِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا
قوله: «ويشترط في العين المؤجرة معرفتها برؤية أو صفة» هذا هو الشرط الأول من الشروط في العين المؤجرة أن تكون معروفة برؤية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر (1) ، ولأن عدم معرفتها يفضي إلى النزاع، وما أفضى إلى النزاع فإن الشارع ينهى عنه، مثال ذلك: لو استأجرت من شخص سيارة فلا بد أن تراها، أو يصفها لك بصفة تتميز بها عن غيرها، وتنضبط بها.
قوله: «في غير الدار ونحوها» فالدار ونحوها لا يكفي فيها الصفة فلا بد من الرؤية، فالسيارة ـ مثلاً ـ تكفي فيها الصفة، وكذا البعير، والحيوان لو استأجره فإنه يكفي فيه الصفة، لكن الدار ونحوها كالأرض للزرع وما أشبه ذلك لا تجوز إلا برؤيتها بالعين؛ لأنه لا يمكن إحاطة الوصف بها، فلو أتاك إنسان من أشد الناس دقة في الوصف فإنه لا يمكن أن يحيط بالدار، فلو قال لك ـ مثلاً ـ: البيت فيه عشر حُجَر، وساحة وحمامات، فما تستطيع أن تتصورها، بل إن بعض الناس ربما يكون من أدق الواصفين لكن تدخل البيت فتجدك مغموماً، فبعض البيوت ـ سبحان الله ـ إذا دخلها الإنسان سُرَّ بها، وبعضها إذا دخلها غُمَّ بها، إذاً فلا بد في استئجار البيت من الرؤية.
وكذلك الأرض، لو استأجر أرضاً للزرع فلا بد أن يراها
__________
(1) سبق تخريجه ص (7) .(10/24)
بنفسه؛ لأن الأرض تختلف من حيث كونها سبخة، أو رملية، أو ترابية، أو حجرية، وكذلك ـ أيضاً ـ تختلف ارتفاعاً وانخفاضاً، فلا يمكن أن يحيط بها الوصف، إذاً لابد أن يراها المستأجر بعينه.
فقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «في غير الدار ونحوها» عائد على قوله: «أو صفة» يعني إلا في الدار ونحوها فإنه لا يجوز تأجيرها بالصفة، بل لا بد فيها من الرؤية.
لكن هناك قول ثان وهو أنه تجوز الإجارة وله الخيار إذا رآها، يعني يجوز أن تؤجر الدار بالصفة، بأن يصفها له تماماً ولو على الخارطة، وله الخيار إذا رآها.
فإذا قال قائل: إذا كان كذلك فلماذا لا يصبر حتى يراها؟
نقول: الفائدة من قولنا: إنها تصح وله الخيار إذا رآها، أنه لو جاء شخص آخر فاستأجر من صاحب الدار، وقلنا: إن الإجارة صحيحة، فلا يملك الثاني أن يستأجر؛ لأنها الآن مؤجرة، والمنفعة تكون للمستأجر بمجرد العقد، وعلى القول بأنها لا تصح، له أن يؤجرها، فلو قال قائل: ننتظر حتى يراها، قلنا: ربما يكون الناس عندهم إقبال شديد على البيوت والشقق، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ـ من الناحية الحكمية ـ كل عقد غير صحيح فهو حرام؛ لأنه ليس في كتاب الله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وهذه قاعدة جميع العقود والشروط الفاسدة عقدها حرام واشتراطها حرام؛ لأنه من المضادة لله ـ عزّ وجل ـ،(10/25)
فإذا قلنا بأنه يصح العقد وله الخيار إذا رآها صار العقد حلالاً، وإذا قلنا: لا يصح العقد، صار العقد حراماً، وكل من المستأجر والمؤجر آثمين؛ لأنهما فعلا حراماً.
فالمذهب أنه لا يصح مطلقاً، وعلى هذا فيحرم تعاطي هذا العقد ويجب عليه إذا رآها واقتنع بها أن يعيد العقد.
مسألة: ما يستأجر لصوته فإنه يُعلَم بالسماع، مثل ما لو استأجرت ساعة منبهة، من أجل أن تنبهك لعمل ما، فلا بد أن تسمع، ولا تكفي الرؤية، اللهم إلا إذا كانت ـ مثلاً ـ من صناعة معينة معروفة، وأن صوتها في التنبيه معروف فهنا ربما يكتفى بذلك، على أنه ربما يكون هذا النوع غُيّرت نغمة صوته، أو حصل فيها خلل، فلا بد من السماع.
ولو استأجر ديكاً من أجل أذانه فلا بد أن يسمع صوته؛ لأن بعض الديكة صوته جميل، وبعضه ليس بجميل (أَبَحٌّ) فهي تختلف اختلافاً عظيماً، لكن لو استأجر ديكاً يوقظه للصلاة فإنه لا يصلح؛ لأنه لا يمكن استيفاء المنفعة؛ لأن الديك ربما ينام في بعض الأيام.
إذاً الديك يُستأجر لصوته، أما لكونه يوقظك للصلاة فهذا شيء لا يمكن؛ لأن استيفاء المنفعة منه غير ممكن.
وخلاصة القول: أنه يشترط معرفة العين المؤجرة، فما استؤجر للرؤية فبالرؤية، وما استؤجر للصوت فبالصوت، وما لا يمكن إدراكه إلا بالرؤية فلا بد من الرؤية، وما يمكن إدراكه بالصفة فيكفي فيه الصفة.(10/26)
وَأَنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْعِهَا دُونَ أَجْزَائِهَا، فَلاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الطَّعَامِ لِلأَكْلِ، وَلاَ الشَّمْعِ لِيُشْعِلَهُ، وَلاَ حَيَوَانٍ لِيَأْخُذَ لَبَنَهُ إِلاَّ فِي الظِّئْرِ، وَنَقْعُ البِئْرِ، وَمَاءُ الأرْضِ يَدْخُلاَنِ تَبَعاً..
قوله: «وأن يعقد على نفعها دون أجزائها» هذا هو الشرط الثاني من الشروط في العين المؤجرة.
وقوله: «أن يعقد» أي المستأجر والمؤجر ولهذا لو قال: «أن يعقدا» أو قال: «أن يكون العقد» لكان أوضح في الشمول.
وقوله: «على نفعها دون أجزائها» يعني أن يكون المعقود عليه النفع دون الجزء، فالبعير نفعها بركوبها وحملها، والدار نفعها بالسكنى، والدكان بعرض البضاعة فيه، وهكذا، فلا بد أن يكون العقد على النفع دون العين، فإن عقد على العين، بأن قال: بعت عليك داري لمدة سنة بكذا وكذا، فإنه على المذهب لا يصح العقد؛ لأنه أضيف العقد إلى العين، ومورد العقد في الإجارة النفع، فإن قال: بعتك سكناها لمدة سنة صح؛ لأن العقد ورد على المنفعة.
قوله: «فلا تصح إجارة الطعام للأكل» مثال ذلك إنسان وجد إناء من التمر، فقال: أجرني هذا التمر من أجل أن آكله، فهنا لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يمكن أن ينتفع به إلا بأكله وذهاب أجزائه، إذاً كيف العمل إذا كان إنسان يريد أن يأكل ملء بطنه والباقي يكون لصاحبه؟ فإذا قلنا: اشترِ منه بمقدار ملء البطن، فهذا لا يجوز؛ لأنه مجهول، ولا ندري قد يكون هذا الرجل قنوعاً وقد يكون أكولاً، إذاً الطريق أن يبيعه جميعاً، فلو قال ـ مثلاً ـ: أبيعه عليك بقدر ما تأكل منه، بمعنى أننا نزن هذا التمر أو نكيله، فإذا بلغ خمسة من الكيلوات بعت عليه مقدار ما يأكل(10/27)
والباقي ينزل من الثمن بقسطه، فهو أكل كيلوين وقد بعت عليه خمسة كيلوات بخمسين ريالاً فهنا يبقى ثلاثة من الكيلوات فينزل من الثمن ثلاثون ريالاً، هل يجوز هذا أو لا يجوز؟ المذهب لا يجوز، فلا بد أن نعرف مقدار ما يؤكل عند العقد وهذا متعذر، والقول الثاني: الجواز، وأنه لا بأس ما دام أنه عُلِم أن قيمة الخمسة كيلوات خمسون ريالاً أي: أن كل كيلو بعشرة ريالات، فما أكلت منه فبقسطه من الثمن وما أبقيت فينزل من الثمن بقسطه، فهذا ليس فيه جهالة؛ لأنه حتى لو قدر أنه حين العقد فيه جهالة فسيؤول إلى العلم.
وننتقل من هذا إلى مسألة بدأ الناس يتعاملون بها الآن وهي البيع على التصريف، مثال ذلك قال: هذه خمسة كراتين حليب أو خمس سلات خبز يبيعها على البقال على التصريف، يعني يأتي إليه في آخر النهار ويقول: كم صرفت؟ يقول كذا وكذا، فيقول له: هو عليك بكذا والباقي رُدَّهُ ويسقط من الثمن، فهذا على المذهب لا يجوز، لكن على القول الذي قلنا: إنه لا بأس به في مسألة التمر المأكول، نقول: يجوز بشرط أن يُقَدِّر لكل شيء ثمناً، أما أن يقول: على ما تصرف ولم يقل له: كل كرتون بكذا، أو كل سلة من سلات الخبز بكذا، فهذا يؤدي إلى الجهالة.
فمسألة التصريف لها طريقان: إما أن يوكله يعني الذي أتى بالخبز أو اللبن يوكل البقال، فيقول: خذ هذا بعه ولك على كل كرتون كذا وكذا فهذا جائز قولاً واحداً؛ لأنه توكيل بعوض فليس فيه إشكال.(10/28)
أو يقول على القول الراجح: هذه ـ مثلاً ـ عشرة صناديق هي عليك بمائة، كل صندوق بعشرة وما لم تصرفه يرد بقسطه من الثمن، فهذا نرى أنه جائز؛ لأنه ليس على أحد الطرفين ضرر وليس فيه ظلم، وصاحب السلعة مستعد لقبول ما تبقى.
إذاً المهم أن نحدد مقدار ثمن كل واحد وحينئذٍ يكون صحيحاً، إذاً الطعام للأكل لا تصح إجارته لكن يصح بيعه.
قوله: «ولا الشمع ليشعله» أيضاً لا تصح إجارة الشمع ليشعله، والشمع عبارة عن شيء جامد يذوب مع النار، لكنه يغذي النار مثل الفتيلة تماماً، فلو قال المستأجر: أنا أريد أن أستأجر هذه الشمعة؛ من أجل أن عندي الليلة ضيوفاً، وأستأجرها منك بكذا لمدة ساعة أو ساعتين، المذهب لا يجوز؛ لأننا لا ندري ماذا يستهلك من الشمعة، واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن ذلك جائز، ولكن كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ لا بد فيه من تحرير، والتحرير أن نقول: إما أن يقدر بمساحة الشمعة فيقول: مثلاً مساحتها شبر بعشرة ريالات وما نقص من الشبر فبقدره، هذه تكون معلومة.
أو يقدرها بالساعة ونحن نعرف استهلاك النار من الشمعة بالساعة والدقيقة، فهذا ـ أيضاً ـ يكون معلوماً.
قوله: «ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر» الحيوان لا يجوز أن يستأجره لأخذ لبنه، مثال ذلك: رجل عنده أطفال صغار من الضأن، أمها ماتت، فاستأجر شاة من إنسان لمدة يوم أو يومين حتى يشتري شاة ترضع أطفال الضأن، فهذا لا يجوز؛ لأن المعقود عليه الآن هو اللبن، واللبن أجزاء، والإجارة لا تكون(10/29)
إلا على منافع، لا تكون على أجزاء، ومثل ذلك ما كانوا يستعملونه قديماً، يكون عند الإنسان ضيوف فيستأجر من جاره بقرته لمدة يوم أو يومين من أجل أخذ اللبن، فعلى المذهب لا يجوز؛ لأن اللبن مجهول، ثم حلبها ـ أيضاً ـ مجهول، فبعض البهائم تمنع الحليب لا ترضى أن تحلب، لكن «الظئر» مستثنى، والظئر هي المرضعة لولد غيرها، فيجوز للإنسان أن يستأجر امرأة ترضع ولده بأجرة معلومة، مع أن المعقود عليه هو اللبن، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ أورد عليهم إيراد واضح، قيل لهم: إن الظئر إجارتها جائزة بنص القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقال: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] فأي فرق بين لبن الآدمية ولبن غير الآدمية؟!
أجاب بعضهم بجواب ليس بسديد، فقال: لأن الآدمية إنما تستأجر لأجل أخذ الطفل ووضعه في حجرها وإلقامه الثدي وما أشبه ذلك، والحيوان لا يفعل هذا، لكنه يقف لما يرضعه ويتأنى ويفتح رجليه فلا شك أنه يخدمه، فهل من المعقول أن الإنسان يستأجر مرضعة ترضع ولده من أجل أن تأخذه وتضعه في حجرها وتلقمه الثدي، إذا لم يكن في الثدي شيء؟! ما يمكن أبداً، إذاً المقصود هو اللبن لا شك، لكن هذه وسائل إلى الحصول على اللبن، فالمقصود أولاً هو اللبن، وما دمنا قياسيين يجب أن نقول: إن استئجار الحيوان لأخذ لبنه جائز بالقياس على الظئر، وهذا(10/30)
اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو الصواب، وسواء استأجره وأتى به إلى محله أو استأجره وهو عند صاحبه؛ لأن استئجار الحيوان لأخذ اللبن على وجهين:
إما أن يستأجره ويأتي به إلى بيته وينفق عليه.
وإما أن يستأجره وهو عند صاحبه ويكون الإنفاق على صاحبه، كل ذلك جائز على القول الصحيح، لكن على المذهب ماذا يصنع إذا كان عنده ضيوف ويريد أن يأخذ لهم لبناً؟ يشتري ولا يجوز بيع اللبن في الضرع بل نقول له احلبها وإذا حلبتها اشتر اللبن إذا كنت محتاجاً، فالمهم حتى لو سددنا الباب في مسألة استئجار الحيوان لأخذ لبنه، فهناك أبواب مفتوحة والحمد لله.
قوله: «ونقع البئر وماء الأرض يدخلان تبعاً» فلو استأجر شخص من آخر بئراً يسقي منه إبله، أو زرعه، فهذا جائز، مع أن المعقود عليه الآن هو الماء وهو عين وأجزاء.
فكيف يجيبون عن قولهم: (إن الإجارة لا بد أن تقع على المنفعة) ؟ يقولون: هذا يدخل تبعاً؛ لأن المعقود عليه هو البئر، أما الماء فليس معقوداً عليه.
قد يثبت الشيء لغيره تبع
وإن يكن لو استقل لامتنع (1)
وهذا غير صحيح! لأن المقصود هو الماء، فقولهم: (إن ماء البئر يدخل تبعاً) الحقيقة أنه بالعكس، فالأصل هو الماء، والبئر لو لم يكن فيها ماء ما استأجرها أحد.
__________
(1) منظومة القواعد الفقهية لشيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ.(10/31)
وقوله: «وماء الأرض» أيضاً يدخل تبعاً، إنسان ـ مثلاً ـ استأجر أرضاً للزرع، فلا بأس، والأرض فيها ماء، إما من نهر، أو من وادٍ يأتي إليها، أو ما أشبه ذلك، فإنهم يقولون: الماء يدخل تبعاً، وهذا عكس ما يريده كل إنسان؛ لأن كل إنسان يستأجر أرضاً للزرع فإنما يستأجرها من أجل مائها؛ لأنها لو لم يكن فيها ماء ما استؤجرت وكذلك البئر.
والصواب الذي يظهر هو ما اختاره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ حيث قال: إن الأجزاء التي تتولد وتتتابع شيئاً فشيئاً بمنزلة المنافع تماماً؛ ولهذا اختار ـ رحمه الله ـ أنه يجوز استئجار الحيوان لأخذ لبنه، واستئجار البئر لأخذ مائها، واستئجار الأرض لأخذ مائها، وقوله ـ رحمه الله ـ: إن الأعيان التي تأتي شيئاً فشيئاً بمنزلة المنافع، هو الصواب.
فإذا قلنا: استأجر حيواناً لأخذ لبنه، وقلنا بهذا القول الراجح، فأبى الحيوان أن يحلب؛ لأنه لا يحلب حتى يؤتى له بولده ويحلب عليه، وإما أنه لا يحلب حتى يؤتى له بطعام، المهم أن الحيوانات تختلف، فإذا أبى هذا الحيوان أن يحلب إطلاقاً، فماذا يكون الحكم على القول بأن الإجارة صحيحة؟ نقول: للمستأجر الفسخ، وذلك لتعذر استيفاء المنفعة بغير سبب منه، إذ إن المعقود عليه تعذر بغير سبب منه، وليس هو المفرط، وبذلك يتبين أن القول الراجح هو ما اختاره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة.
وَالقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَلاَ تَصِحُّ إجَارَةُ الآبِقِ، وَالشَّارِدِ، وَاشْتِمَالُ العَيْنِ عَلَى المَنْفَعَةِ، فَلاَ تَصِحُّ إجَارَةُ بَهِيمَةٍ زَمِنَةٍ لِحَمْلٍ،....
قوله: «والقدرة على التسليم» هذا هو الشرط الثالث من(10/32)
شروط العين المؤجرة، أن يكون قادراً على تسليمها للمستأجر؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تبع ما ليس عندك» (1) والإجارة نوع من البيع، وغير المقدور عليه ليس عند الإنسان ولا في حوزته ولا في استطاعته أن يقدر عليه، ولنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر (2) ، وغير المقدور عليه إجارته غرر؛ لأن مؤجره سوف يخفض من الأجرة، وإلا لما استؤجر منه، فإن قدر عليه المستأجر صار غانماً وإن عجز صار غارماً وهذا نوع من الغرر، ولأن الإجارة نوع من البيع فإذا كنا نشترط في البيع القدرة على تسليم المبيع، فكذلك نشترط في الإجارة القدرة على تسليم المستأجَر.
قوله: «فلا تصح إجارة الآبق» يعني: العبد الآبق، وهو الذي هرب من سيده، ولا يدري عنه سيده شيئاً، فهذا لا تصح إجارته؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، وحينئذٍ إما أن يستطيع المستأجر استلامه وإما أن لا يستطيع، فإن استطاع أن يتسلمه صار غانماً وإن لم يستطع صار غارماً؛ لأن العبد الآبق لا يمكن أن تكون أجرته كأجرة العبد الحاضر؛ فسوف تنزل أجرته ويعتبر المستأجر نفسه مخاطراً، فإذا قدرنا أن هذا العبد يؤجر في اليوم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/402) ، وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3503) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1232) ؛ والنسائي في البيوع/ باب بيع ما ليس عند البائع (7/289) ؛ وابن ماجه في التجارات/ باب النهي عن بيع ما ليس عندك (2187) عن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ؛ وحسنه الترمذي؛ وصححه النووي في المجموع (9/311) ؛ والألباني في الإرواء (1292) .
(2) سبق تخريجه ص (7) .(10/33)
بخمسين ريالاً لو كان حاضراً، فإذا كان آبقاً سيؤجر في اليوم بخمسة ريالات أو عشرة ريالات، وحينئذٍ إن وجده فهو غانم ـ أي: المستأجر ـ وإن لم يجده فهو غارم، والقاعدة الشرعية: (أن كل عقد يكون متردداً بين الغنم والغرم فهو باطل) ؛ لأنه ميسر، ويدخل ـ أيضاً ـ في ضمن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر (1) .
قوله: «والشارد» يعني الجمل الشارد، مثل إنسان له جمل شارد هارب، فجاء شخص يستأجره منه، فقال: أنا أريد أن أستأجر منك الجمل شهراً بكذا وكذا ابتداؤه من اليوم، إما أن أجده اليوم وإما أن لا أجده إلا بعد عشرة أيام وإما أن لا أجده أبداً، نقول: هذه إجارة فاسدة باطلة؛ وذلك لعدم القدرة على التسليم، والعجز عن التسليم يقتضي أن يكون المستأجر غانماً أو غارماً.
قوله: «واشتمال العين على المنفعة» هذا هو الشرط الرابع في العين المؤجرة، وهذا شرط مهم؛ لأن المعقود عليه بالإجارة هو المنفعة، فلا بد أن تكون العين مشتملة على هذه المنفعة، فإن لم تكن مشتملة على هذه المنفعة صار من باب إضاعة المال الذي لا فائدة فيه، ولهذا قال:
«فلا تصح إجارة بهيمة زَمِنة لحمل» الزمنة هي التي لا تستطيع السير، فلو أتى إنسان يستأجرها ليحمل عليها، قلنا: هذه
__________
(1) سبق تخريجه ص (7) .(10/34)
الإجارة غير صحيحة؛ لأنها غير واردة على منفعة؛ لأنها لا تستطيع أن تمشي فكيف يحمل عليها؟! فتكون الإجارة غير صحيحة وباطلة، فإذا قال المستأجر: أنا أريد أن أنفع صاحبها وأجبر قلبه؛ لأن بهيمته شُلَّت وانكسر قلبه وكان يأخذ عليها كل يوم عشرة ريالات في تأجيرها، وأنا سوف أستأجرها منه عشرة أيام كل يوم بعشرة ريالات فما المانع؟ نقول: أنت إذا كنت تريد أن تجبر قلبه فاجبر قلبه بالهبة، أعطه مالاً ودع ناقته عنده، أما أن تعقد عقداً فاسداً من باب أكل المال بالباطل فهذا لا يجوز، وباب التبرع والإحسان مفتوح ولسنا نقول لك: لا تنفعه، إذاً لا تصح إجارة بهيمة زمنة لحمل.
فلو أجَّر سيارة محركها معطل للسفر عليها، فإن الإجارة لا تصح، وإذا قال المستأجر لصاحبها: متى أصلحتها فقد استأجرتها منك الشهر بكذا وكذا، فهنا لا تصح الإجارة أيضاً؛ لما يلي:
أولاً: أن العقود والمعاوضات لا يصح تعليقها كما هو المذهب.
ثانياً: أن هذا مجهول، أي ابتداء المدة من التصليح، والتصليح غير معلوم وعلى هذا فلا تصح، فإذا كان فيها خراب قليل ونعلم أنها تصلح خلال يوم أو يومين فإنه يجوز تأجيرها.
وَلاَ أَرْضٍ لاَ تُنْبِتُ لِلزَّرْعِ، وَأَنْ تَكُونَ المَنْفَعَةُ لِلْمُؤْجِّرِ أَوْ مَأْذُوناً لَهُ فِيهَا. وَتَجُوزُ إِجَارَةُ الْعَيْنِ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لاَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ضَرَراً. .........
قوله: «ولا أرض لا تنبت للزرع» يعني لا يصح استئجار أرض لا تنبت للزرع، مثلاً: إنسان عنده أرض واسعة لكنها سبخة لا تنبت أبداً، فاستأجرها للزرع، فإننا نقول: لا يجوز(10/35)
أن يستأجرها لعدم وجود المنفعة المعقود عليها، لكن لو استأجرها على أن تكون مستودعاً له فإنه يجوز؛ لأنه يمكن الانتفاع بها.
قوله: «وأن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها» هذا هو الشرط الخامس في العين المؤجرة، وهذا يعني أنه يشترط أن يكون مالكاً أو قائماً مقام المالك، وهذا شرط في جميع العقود، فكل العقود لا بد أن يكون العاقد مالكاً للمعقود عليه، إما بملك أو بنيابة عن المالك، ودليل ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فلا بد أن تكون المنفعة المعقود عليها ملكاً للمؤجر أو مأذوناً له فيها.
ولم يقل المؤلف: أن تكون العين للمؤجر؛ لأن الإنسان قد يملك المنفعة ولا يملك العين، والشرط أن تكون المنفعة للمؤجر أو مأذوناً له فيها، مثل شخص وهبت له منفعة هذه العين، وهي ليست ملكه بل ملكاً لصاحبها، فأجرها فإن الإجارة صحيحة؛ لأنه يملك المنفعة، وإن لم يملك العين، وكرجل أوصي له بمنفعة عبد ليخدمه.
وقوله: «أو مأذوناً له فيها» وهو إما وكيل وهو من أذن له في التصرف في حال الحياة، وإما ولي وهو من يتصرف بإذن من الشارع كولي اليتيم، وكولاية الحاكم على الأموال التي لا يعلم لها مالك، وإما وصي وهو من أذن له في التصرف بعد موت الآذن، وإما ناظر وقف هو من أذن له في التصرف في الوقف،(10/36)
فلا بد من أن يكون مالكاً أو قائماً مقام المالك، وهم أربعة: الولي، والوصي، والوكيل، والناظر.
فإن أجر ملك غيره فإنه لا تصح الأجرة، فإن وافق صاحب العين على ذلك، فعلى المذهب لا يصح؛ بناءً على أنه لا يصح تصرف الفضولي.
والقول الثاني: أنه يصح، وهذا القول هو الراجح، فلو أن شخصاً عنده علم بأن صاحبه يريد أن يؤجر بيته، وجاء أناس يريدون أن يستأجروه، ورب البيت غير موجود، ولكن صاحب ربِّ البيت موجود فأجَّر لهؤلاء، ثم وافق المالك على ذلك، فالصحيح أن الأجرة صحيحة؛ لأن أصل منع نفوذ العقد في مملوك الغير لحق الغير، فإذا وافق فقد أسقط حقه.
قوله: «وتجوز إجارة العين لمن يقوم مقامه» يعني يجوز للمستأجر أن يؤجر غيره، كرجل استأجر بيتاً لمدة سنة، ثم جاءه شخص وقال: أجرني مدة إجارتك، فأجره، فلا بأس، وهذا المؤجر الذي أجر غيره مالك للمنفعة، وعقد الإجارة يكون على المنفعة وليس على العين، فإذا استأجرت شيئاً وأجرته غيرك فالإجارة صحيحة، لكن اشترط المؤلف فقال:
«لا بأكثر منه ضرراً» يعني يقوم مقام المستأجر الذي أجر، لكن ليس أكثر منه ضرراً؛ فإن كان أكثر منه ضرراً فإنه لا يملك ذلك، مثاله: رجل استأجر دكاناً لبيع الحلي، ثم جاءه إنسان آخر بائع حلي فاستأجره مدة استئجاره، فهذا جائز؛ لأن الثاني يقوم مقام الأول.(10/37)
رجل آخر استأجر دكاناً لبيع الحلي، فجاءه رجل صاحب مخبزٍ وقال: أريد أن أستأجره منك، فهذا لا يجوز أن يستأجره منه؛ لأن صاحب الفرن يضر الدكان أكثر من صاحب الذهب، إذاً يجوز أن يؤجره لمن يقوم مقامه، أي: أن يكون مثله في استيفاء المنفعة، أو أقل منه ضرراً.
مثال آخر: رجل آجر هذا الدكان لخباز، ثم جاءه بائع حلي، وقال: أجرني إياه مدة إجارتك، ففيه تفصيل:
إذا كان للمؤجر غرض صحيح في تأجيره صاحب المخبز، وهو أن يخدم هذه المنطقة؛ لأنها منطقة ليس فيها خباز، ومنع المالك المستأجر أن يؤجره غيره ولو كان أقل منه ضرراً، فهنا نقول: إن شرط عليه ذلك بأن قال: لا بد أن تقيم هنا مخبزاً، فليس له أن يؤجره من لا يخبز فيه، وإن لم يكن اشترط، فالظاهر لي في هذه الحال أنه ما دام له غرض صحيح فله أن يمنعه؛ لأن بعض الناس قد يكون له غرض، أما إذا لم يكن غرض صحيح فإنه إذا أجره لمن هو دونه فلا بأس.
وظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز أن يؤجره بمثل الأجرة أو أكثر، فهل نأخذ بهذا الظاهر؟ الجواب: نعم، فيجوز للمستأجر أن يؤجر بقية مدته لغيره بأكثر من أجرته.
مثال ذلك: استأجر إنسان دكاناً في بلد فيه مواسم كمكة والمدينة، فيستغله في غير وقت المواسم، ثم جاءه شخص يريد أن يستأجره منه في وقت الموسم بأضعاف الأجرة التي استأجره بها، فهذا يجوز، وهذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأن المؤلف لم(10/38)
يقل: بشرط أن لا يأخذ أكثر من أجرته؛ لأنه مالك للمنفعة ملكاً تاماً والمالك له أن يتصرف، يبيع بقليل أو بكثير فليس فيه مانع.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز أن يؤجر بأكثر، واستدلوا لذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ربح ما لم يضمن (1) ، والمنافع غير مضمونة، ولهذا لو انهدم الدكان مثلاً انفسخت الإجارة، ولم يطالب صاحب الدكان بأن يؤمن له دكاناً آخر، والذين قالوا بالجواز أجابوا عن الحديث بأنه خاص في البيع، أما الإجارة فلا يشملها الحديث، والعمل الآن على القول الأول، أي: أن المستأجر له أن يؤجر مدة إجارته ولو بأكثر من الأجرة، وهو فيما يبدو أقرب إلى الصواب من المنع؛ لأن الحديث ليس صريحاً في مسألة الإجارة.
مسألة: لو أن الإنسان استؤجر على عمل في الذمة، بأن قيل له: نريد أن تنظف هذا البيت كل يوم ولك في الشهر مائة ريال، فاستأجر من ينظف البيت كل يوم على حسب ما حصل عليه العقد لكن بخمسين ريالاً، يجوز؛ لأن هذا من جنس ما إذا قلنا: إنه يجوز أن يؤجر بقية مدته بأكثر من الأجرة، وعلى هذا عمل الناس اليوم، تجد الدولة ـ مثلاً ـ تتفق مع شركة على تنظيف المساجد، كل مسجد الشهر بكذا وكذا، ثم إن هذه الشركة تأتي
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/174) ، وأبو داود في البيوع/ باب في الرجل يبيع ما ليس عنده (3504) ؛ والترمذي في البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك (1234) ؛ والنسائي في البيوع/ باب سلف وبيع (7/295) ؛ وابن حبان (4321) ؛ والحاكم (2/17) عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ.
قال الترمذي: حسن صحيح؛ وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي.(10/39)
بعمال يقومون بما تم عليه العقد بأقل من ربع ما اتفقت الشركة مع الحكومة عليه، إلا إذا كان الغرض يختلف بالنسبة للمستَأجَر، فإذا كان يختلف فهذا لا يجوز، مثل: إنسان استأجرته لينسخ لك زاد المستقنع، وتعرف أن الرجل خطه جيد وأن خطأه قليل، فاستأجر إنساناً خطه جميل يخطه بأقل مما أجرته به؟ يقول العلماء: إنه لا يجوز؛ لأن العبرة بالنسخ وليس بجمال الخط فحسب، ولكن بجمال الخط ووضع الفواصل والعلامات والإملاء، كم من إنسان خطه من أجمل الخطوط لكن في الإملاء يكتب {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بالظاء المُشَالَة في الموضعين فهذا خطأ في الإملاء، وكثير من الطلاب خطوطهم جميلة لكن في الإملاء ليس عندهم قاعدة، وكثير من الناس خطه رديء ولا يعرف قراءته إلا من تمرَّن عليه ولكنه في الإملاء جيد، المهم على كل حال ما يختلف فيه الغرض لا يجوز لأحد أن يقيم مقامه غيره.
وَتَصِحُّ إِجَارَةُ الوَقْفِ، فَإِنْ مَاتَ المُؤَجِّرُ وَانْتَقَلَ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ لَمْ تَنْفَسِخْ،......
قوله: «وتصح إجارة الوقف» الوقف هو العين التي سُبِّلت منفعتها وحُبِّس أصلها، ويسمى عند الناس السبيل.
مثاله: إنسان أوقف بيته قال: هذا وقف على الفقراء، فإن البيت يبقى ولا يباع وأجرته أو سكناه للفقراء، وشخص آخر قال: هذا البيت وقف على أولادي، وأولاده الآن لا يمكن أن يبيعوه؛ لأنه وقف محبوس لكن يمكن أن ينتفعوا به بالسكنى أو بالتأجير أو ما أشبه ذلك، فالوقف تجوز إجارته، والمؤلف ـ رحمه الله ـ قال: «وتصح إجارة الوقف» لا لمجرد أن يبين لنا أن إجارة(10/40)
الوقف صحيحة؛ لأن هذا أمر لا يحتاج إلى تنبيه لكن لما يتفرع عليه، إذاً الوقف تجوز إجارته ولا يجوز بيعه؛ لأن الإجارة واردة على المنفعة، والمنفعة ملك للموقوف عليه، وليست واردة على العين التي لا يجوز بيعها.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين الوقف على معين كعلى أولاده، أو على غير معين كعلى الفقراء، أو على جهة تملك كما مثلنا، أو على جهة لا تملك كما لو وقف هذا البيت لمصالح المساجد، والمساجد لا تَمْلِك، فعلى كل تقدير تصح إجارة الوقف.
قوله: «فإن مات المؤجر وانتقل إلى من بعده لم تنفسخ» أَجَّر الوقفَ باعتبار أنه مستحِق ومات، فإن الوقف ينتقل إلى من بعده.
مثاله: قال: هذا وقف على أولادي ثم أولادهم، والأولاد أجَّروا ثم ماتوا، فإن الوقف انتقل إلى أولادهم، الآباء أجَّروا الوقف لمدة عشر سنين، لكن الله ـ تعالى ـ قضى عليهم بالموت في خلال ثمان سنوات وبقي من المدة سنتان، فهل تنفسخ الإجارة؟ المؤلف يقول: لا تنفسخ؛ لأن الآباء أجَّروا في وقت هم يملكون المنفعة، فنفذ العقد، فإذا انتقل إلى من بعدهم انتقل على أنه مؤجر، بقي علينا الأجرة هل تكون جميعها للأولين أو تكون جميعها للأولاد الذين انتقل إليهم الوقف أو كل له بقسطه؟(10/41)
وَلِلثاني حِصَّتُهُ مِنَ الأُجْرَةِ، وَإِنْ أَجَّرَ الدَّارَ وَنَحْوَهَا مُدَّةً وَلَوْ طَويلَةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ العَيْنِ فِيهَا صَحَّ. ........
الجواب قوله: «وللثاني حصته من الأجرة» أي نصيبه، فعلى المثال الذي ذكرناه، مضى من المدة ثمانية من عشرة وهي أربعة أخماس فيبقى خمس، تكون خمس الأجرة للأولاد، فإذا قدَّرنا أنهم أجَّروها بألف ريال، فللذين أجَّروا وقد ماتوا في السنة الثامنة: ثمانمائة، وللآخرين: مائتان، فهذا هو كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ.
ولكن يجب علينا أن نعرف الفرق في قيمة المنفعة، فقد تكون في بعض السنوات أكثر من بعض، ولكن يقال: إن كل منفعة قد قبضها أصحابها ولا سيما إذا كانوا يقولون: عشر سنوات كل سنة بمائة، إذا حددوا فواضح أن للآخرين مائتين من ألف، وإن لم يحددوا فربما ينظر في الموضوع ويعتبر فرق السعر بين الأول والثاني.
وقوله: «وللثاني حصته من الأجرة» هذا ما قرره المؤلف ـ رحمه الله ـ أنها لا تنفسخ، والعلة أن أولئك أجروا في وقت هم مالكون للمنفعة فكان عقدهم صحيحاً، وانتقل إلى البطن الثاني وهم الأولاد ومنفعته مملوكة للمستأجر، فتبقى الإجارة على ما هي عليه، كما لو أن رجلاً أجر بيته لشخص ثم مات فإن الورثة لا يفسخون الإجارة، ووجه المماثلة بين هذا وهذا، أن هذا الرجل أجر بيته في حال يملك تأجيره فلم تنفسخ الإجارة بموته، وهذا الموقوف عليه أجر الموقوف في زمن يملك منفعته فلم تنفسخ الإجارة بموته.
وقال بعض العلماء وهو المذهب: إنه إذا مات المؤجر(10/42)
فإن الإجارة تنفسخ؛ لأن البطن الثاني يتلقى المنفعة من الواقف رأساً لا من البطن الأول، فهؤلاء انتهى استحقاقهم للوقف بمجرد موتهم ولم يبق لهم فيه شيء، وأما مسألة الميت إذا أجر ملكه ثم مات، فإن الورثة يتلقون الملك من المورث رأساً، والمورث حر في ملكه، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
إلا أنهم قالوا: إذا كان المؤجِّر مشروطاً له النظر فإن الإجارة لا تنفسخ، سواء كان الشرط من الواقف، أو من الشارع، كأن يقول الواقف: هذا وقف على ذريتي والناظر فلان، وسمَّاه، سواء كان من الذرية أو من غير الذرية، ثم إن هذا الناظر أجَّر الوقف لمدة ثم مات، فإن الإجارة لا تنفسخ قولاً واحداً؛ لأنه أجر الوقف بنظر خاص من الواقف.
فإن كان الناظر على هذا الوقف هو القاضي، كأن يكون هذا الوقف موقوفاً على الفقراء ثم أجره القاضي ومات، فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن القاضي مشروط له النظر بمقتضى الولاية العامة.
مثال: رجل وقف هذا البيت على ولده ثم أولاده، فهذا الولد أجر البيت عشر سنوات، ومات حين تم للأجرة خمس سنوات، فإن الوقف انتقل إلى الولد، فالمؤلف مشى على أن الإجارة باقية وللولد حصته من الأجرة، يعني من حين وفاة أبيه يأخذ الأجرة، لكن القول الثاني: أنها تنفسخ الإجارة، وللولد أن يطالب المستأجر بالخروج من البيت أو زيادة الأجرة أو يبقيه(10/43)
بالأجرة أو يبقيه بأقل، وكذلك ـ أيضاً ـ المستأجر قد يقول: انفسخت الأجرة وأنا سوف أخرج، وهذا قد يكون من مصلحته، إذا نزلت الأجور.
فصار المؤجر للوقف ثلاثة أقسام:
الأول: مؤجر للوقف بمقتضى الوقفية، أي أن له النظر والتصرف؛ لأنه موقوف عليه.
الثاني: مؤجر بمقتضى شرط الواقف.
الثالث: مؤجر بمقتضى الولاية العامة مثل القاضي.
فالإجارة لا تنفسخ إذا كان المؤجرُ مشروطاً له النظر، أو الحاكمَ.
أما إذا كان التأجير من الموقوف عليه لا لأنه مشروط له النظر ولكن لأنه هو المستحق فهنا خلاف، فالمذهب واختيار شيخ الإسلام أنها تنفسخ، والمؤلف على أنها لا تنفسخ.
وعمل الناس الآن عندنا أنها لا تنفسخ، ولكن يبقى النظر إذا قلنا بأنها لا تنفسخ كما هو عمل القضاة وعمل الناس اليوم، فهل يجوز للبطن المستحقين أن يؤجروا مدة يغلب على الظن أنهم لا يعيشون إليها أو لا يجوز؟
نقول: لا يجوز، ما دمنا قلنا إن الإجارة لا تنفسخ، فهذا يعني أنهم سوف يعتدون على حقوق الآخرين وهذا لا يحل، فمثلاً لو قدرنا أن صاحب الوقف الآن بلغ إلى تسعين سنة، وأجره شخصاً آخر لمدة خمسين سنة فيكون عمره مائة وأربعين، والغالب أنه لا يعيش إلى هذه المدة، نقول: لا يحل لك أن(10/44)
تؤجره، فكم يؤجرها؟ سنة مثلاً، لكن خمسين سنة هذا بعيد، فيقال له: أنت الآن مستحق ولا ننكر استحقاقك، لكن لا تؤجر مدة أكثر مما يغلب على الظن بقاؤك فيها وهذا حق؛ لأنه لو أجر وكان المعمول به أنها لا تنفسخ الإجارة، فهو اعتداء على حقوق الآخرين وهذا لا يجوز.
وهل للقاضي أن يؤجر مدة طويلة، أو لا؟ هذه تنبني على المصلحة، إن رأى المصلحة في تأجيرها مدة طويلة أجر، وإلا أجر في نحو سنتين أو ثلاث، حتى لا يحرم أصحاب البطون الأخرى.
وهل يجوز للبطن الأول أن يستسلف الأجرة؛ بمعنى أن يأخذ الأجرة مقدماً، فمثلاً إنسان هذا المحل وقف عليه، جاءته شركة وقالت: أنا أريد أن أستأجر منك هذا المحل عشر سنوات، وسأعطيك الآن الأجرة نقداً، كل سنة بعشرة الآف، عشرة في عشرة بمائة ألف.
فهذا لا يجوز، يعني لا يجوز للبطن الأول أن يستسلف الأجرة لأنه لا يدري، قد يموت وإذا مات معناها أنها دخلت في تركته، وربما ينفقها، وتضيع على البطن الثاني، فليس له أن يستسلف الأجرة.
ولو قال: أنا آخذ الأجرة مقدماً؛ لأنني سوف أعمر في الوقف، والوقف محتاج إلى التعمير فإن هذا يجوز؛ لأن هذا في مصلحة الوقف، وما دام لمصلحة الوقف فلا حرج.
قوله: «وإن أجر الدار ونحوها» كالدكان مثلاً.(10/45)
قوله: «مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها صح» سواء ظن بقاء العاقد أم لم يظن، مثل أن يؤجر هذا البيت لمدة ستين سنة، فالإجارة صحيحة؛ لأن ستين سنة يغلب على الظن أن يبقى البيت إليها، ولا سيما إذا كان من الإسمنت، وكان جديداً، فإن الغالب أنه يبقى، فإذا أجرها هذه المدة صح، لكن لو انهدمت قبل تمام المدة انفسخت الإجارة لتلف العين المعقود عليها، وللمستأجر حصته من الأجرة فيما لم يستوف منفعته.
وقوله: «مدة ولو طويلة يغلب على الظن بقاء العين فيها» لو أجرها مدة طويلة يغلب على الظن أنها لا تبقى فيها، فظاهر كلام المؤلف أن الإجارة لا تصح.
ولكن يجب أن نعرف الفرق بين الأجرة التي يكون فيها العقد على نفس الدار، وبين الحِكر أو الحُكُورة التي يكون العقد فيها على منفعة الأرض، وهذا أظنه موجوداً في كثير من البلدان مثل الحجاز ونجد ومصر، تكون الأجرة على الأرض وليست على نفس البيت، ولهذا يملك المستأجر أن يهدم هذا البيت وأن يغيره وأن يتصرف فيه كما شاء، لكن في الإجارة المحضة لا يملك أن يتصرف في البيت.
ففرق بين أن آتي إلى رجل وأنا أريد أن أبقى في هذا البلد سنتين أو ثلاثاً وأقول: أجرني بيتك فيؤجرني إياه فالبيت لصاحبه، فالمستأجر لا يملك إلا الانتفاع، حتى إنه لا يملك أن يعدِّل باباً من الأبواب ولا أن يفتح فرجة في جدار؛ لأنه إنما استأجر المنفعة فقط أما العين فلا يتصرف فيها.(10/46)
وفي مسألة (الحُكورة) وتسمى عندنا (الصُّبْرَة) من الصبر وهو الحبس، المعقود عليه ليس العين، بل المعقود عليه منفعة الأرض، ولهذا يجوز لمن عقد عقد (حكورة) أن يهدم البيت وينشئه من جديد، وصاحب الأرض لا يقول له شيئاً؛ لأنه يعرف أنه إنما أجره مدة بدراهم معينة، وليس له رغبة في نفس البيت أو في نفس الدكان، وهذا هو الذي عليه العمل الآن، ولهذا في بلدنا هذه يؤجرون الحكرة إلى مدة خمسمائة سنة وستمائة سنة وألف سنة.
على كل حال أقول: إن هناك فرقاً بين الأجرة المحضة وبين الحِكر؛ لأن الحكر إنما يقع العقد على الأرض ولا يلتفت الآخذ بهذا العقد إلى مسألة العين، لكن إذا كانت العين، يقول المؤلف: لا بد أن يكون إلى مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها.
لو أجره البعير لمدة خمسين سنة فإنه لا يصح؛ لأن البعير لا يبقى إلى خمسين سنة، أو أجره سيارة لمدة مائة سنة فلا يصح؛ لأن الغالب أنها لا تبقى إلا أن توقف ولا تستعمل فهذا شيء آخر، لكن إذا استعملت فلا تبقى إلى هذه المدة.
فاشترط المؤلف في تأجير العين مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، فإن لم يغلب على الظن بقاء العين فيها فإنه لا يصح؛ لأنه لا يتم استيفاء المنفعة، ومن شرط الإجارة أن يمكن استيفاء المنفعة، فإذا استأجرها لمدة يغلب على الظن بقاء العين فيها، ولكنها لم تبقَ؛ فإن الإجارة تنفسخ ويسقط عن المستأجر بقسطه من الأجرة.(10/47)