قوله: «ويُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر» أي: يُكره إذا كان الإِمامُ عالياً على المأموم ذِراعاً فأكثر.
ودليله: الحديث: «إذا أمَّ الرَّجُلُ القومَ؛ فلا يَقُمْ في مكانٍ أرفع مِن مقامهم» (1) ، ولكن هذا الحديث لا تقوم به الحُجَّةُ.
والجَمْعُ ـ عند من احتجَّ به ـ بينه وبين الحديث الثَّابتِ في الصَّحيحين بأنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى بهم على المِنبر: أنَّ المِنبرَ لا يتجاوز الذِّراع غالباً، فيُحمل هذا الحديثُ على ما إذا كان العلوُّ كثيراً، ولكن يبقى النَّظرُ في تقديره بالذِّراعِ.
والجواب: أن درجات المِنبرِ غالباً لا تزيد على الذِّراعِ.
والخلاصةُ: أنَّ المؤلِّفَ رحمه الله يرى أنَّه لا بأسَ أن يكون الإِمامُ أعلى مِن المأمومِ، إلا أنَّه يُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر.
القول الثاني: أنَّه لا يُكره علوُّ الإِمامِ مطلقاً؛ لأنَّ الحديثَ الذي استدلَّ به الأصحابُ ـ رحمهم الله ـ ضعيف، والضَّعيفُ لا تقومُ به الحُجَّةُ.
وقيَّدَ بعضُ العلماءِ هذه المسألةَ بما إذا كان الإِمامُ غيرَ مُنفردٍ بمكانِه، فإذا كان معه أحدٌ فإنه لا يُكره؛ ولو زادَ على الذِّراع؛ لأنَّ الإِمامَ لم ينفردْ بمكانِه، وهذا لا شَكَّ أنَّه قولٌ وجيهٌ؛ لأنه إنِ انفردَ الإِمامُ بمكانٍ؛ والمأمومُ بمكانٍ آخر؛ فأين صلاةُ الجماعةِ والاجتماع؟
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يقوم مكاناً أرفع من مكان القوم (598) .(4/301)
مسألة: لو كان المأمومُ في مكان أعلى فلا يُكره، فإذا كان الإِمامُ هو الذي في الأسفل، كأن يكون في الخَلوة مثلاً، وفيه أناسٌ يصلُّون فوقَه فلا حَرَجَ ولا كراهة.
هل المعتبر في قوله: «ذراع فأكثر» ذراع الحديد، أو ذراع اليد؟
الجواب: المعتبر ذراع اليد، وهو ما بين المرفق ورؤوس الأصابع؛ لأنَّ هذا هو المعروف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والمراد باليد: اليد المتوسِّطة، لأنَّ بعض النَّاس تكون ذراعُه طويلةً، وبعضُهم تكون قصيرةً.
كَإِمَامَتِهِ فِي الطَّاقِ،............
قوله: «كإمامته في الطاق» أي: كما يُكره دخول الإِمامِ في الطَّاق، والمراد بالطَّاقِ طاقُ القِبْلة الذي يُسمَّى «المِحراب» وطاقُ القِبْلة يكون مقوَّساً مفتوحاً في عرض الجِدار، وأحياناً يكون واسعاً بحيث يقفُ الإِمامُ فيه ويصلِّي ويسجدُ في نَفْسِ المِحراب، فيُكره؛ لآثارٍ وَرَدت عن الصحابة رضي الله عنهم (1) ؛ ولأنه إذا دَخَلَ في الطَّاق استتر عن بعض المأمومين فلا يَرَونه لو أخطأ في القيام أو الرُّكوع أو السُّجود فلهذا يُكره، ولكن إذا كان لحاجة مثل: أن تكون الجماعةُ كثيرةً؛ واحتاج الإِمامُ إلى أن يتقدَّمَ حتى يكون في الطَّاقِ فإنه لا بأس به.
أما إذا كان الإِمامُ في باب الطَّاقِ، ولم يدخل فيه، ولم يتغيَّب عن النَّاس، وكان محلُّ سجودِه في الطَّاق، فلا بأس به.
__________
(1) انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» ، كتاب الصلوات، باب الصلاة في الطاق (2/59) .(4/302)
ويمكن أن يُؤخذ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ هذا الطَّاق الذي هو المِحراب ليس بمكروه وهو كذلك، فاتخاذ المحراب ليس بمكروه، وإن كان بعضُ العلماء استحبَّه؛ لما فيه مِن الدلالة على القِبْلة، وعلى مكانِ الإِمامِ.
وبعضُهم كَرِهَه، وقال: إنَّه غيرُ معروف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم نَهى عن اتِّخاذِ المساجدِ مذابحَ مثلَ مذابحِ النَّصارى يجعلون لها الطَّاق (1) . فهذا يقتضي كراهته.
والصَّحيحُ: أنَّه مباحٌ، فلا نأمرُ به ولا ننهى عنه، والقول بأنه مستحبٌّ أقربُ إلى الصَّوابِ مِن القول بأنه مكروه، لأنَّ الذي وَرَدَ النَّهيُ عنه مذابح كمذابح النصارى، أي: أن نتخذَ المحاريبَ كمحاريب النَّصارى، أما إذا كانت تختلِفُ عنهم فلا كراهة؛ لأن العِلَّةَ في المحاريب المشابهة لمحاريب النَّصارى هي التشبُّه بهم، فإذا لم يكن تشبُّه فلا كراهة.
فلو قال قائل: إذا كان الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلْها فما بالُنا نفعلها؟
فالجواب: أن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلْها إما لعدمِ الحاجةِ إليها، أو لأن ذلك قد يكلِّفُ في البناء في ذلك الوقت، أو لغير ذلك مِن الأسبابِ، فما دامت ليست متَّخذة على وَجْهِ التعبُّدِ، وفيها مصلحةٌ؛ لأنَّها تبين للنَّاسِ محلَّ القِبْلة فكيف نكرهها؟!
ولو أنَّ المسجدَ لا مِحراب فيه ثم دَخَلَ رَجُلٌ غريبٌ فسوف
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/59) ، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للعلامة الألباني رحمه الله (448) ..(4/303)
تشتبه عليه القِبْلة، ولهذا قالوا في باب استقبالِ القبلة: إنَّه يُستدلُّ عليها بالمحاريبِ الإِسلاميةِ (1) .
وَتَطَوُّعُهُ مَوْضِعَ المَكْتُوبَةِ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ، وَإِطَالَةِ قُعُودِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ نِسَاءٌ لَبِثَ قَلِيلاً لِيَنْصَرِفْنَ.
قوله: «وتطوعه موضع المكتوبة» أي: يكره تطوُّع الإِمام في موضع المكتوبة، أي: في المكان الذي صلَّى فيه المكتوبةَ.
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: ما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يُصَلِّ الإِمامُ في مُقَامِهِ الذي صَلَّى فيه المكتوبةَ، حتى يَتَنَحَّى عنه» (2) ولكنه ضعيف لانقطاعه.
ثانياً: ربما إذا تطوَّعَ في موضع المكتوبة يَظنُّ مَن شاهدَه أنَّه تذكَّرَ نقصاً في صلاته؛ فيلبس على المأمومين. فلهذا يُقال له: لا تتطوّع في موضع المكتوبة، ولا سيَّما إذا باشر الفريضة، بمعنى أنَّه تطوَّع عقب الفريضة فوراً.
وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يتطوَّع في هذا المكان قبل الصَّلاة أو بعدَها، وهذا غير مراد بل المراد بعد الصلاة.
أمَّا المأموم؛ فإنه لا يُكره له أن يتطوَّع في موضع المكتوبة (3) . لكن؛ ذكروا أنَّ الأفضلَ أن يَفْصِلَ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ
__________
(1) انظر: (2/275) .
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الإمام يتطوع في مكانه (616) ؛ وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة النافلة حيث تُصلَّى المكتوبة (1428) . قال الحافظ ابن حجر: «رواه أبو داود وإسناده منقطع» . «الفتح» شرح حديث (848) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب مُكث الإمام في مصلاه بعد السلام (848) عن نافع قال: «كان ابن عُمر يُصلِّي في مكانِهِ الذي صَلَّى فيه الفريضةَ، وفَعَلَه القاسمُ» .(4/304)
بكلامٍ أو انتقال مِن موضعه (1) .
قوله: «إلا من حاجة» الحاجةُ دون الضَّرورة؛ لأنَّ الضَّرورةَ هي التي إذا لم يقم بها الإِنسانُ أصابه الضَّرر.
والحاجة هي التي تكون مِن مكمِّلات مراده، وليس في ضرورة إليها. مثال الحاجة هنا: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكان ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجاً إلى أن يتطوَّع في موضع المكتوبة.
قوله: «وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة» أي: يُكره للإِمام أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلام مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: «أستغفرُ الله ـ ثلاث مرات ـ اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ» (2) ثم ينصرفُ: هذه هي السُّنَّةُ، فإطالةُ قعودِه بعدَ السَّلامِ مستقبلَ القِبْلة فيه محاذير هي:
أولاً: أنَّه خِلافُ السُّنَّةِ.
ثانياً: حَبْسُ النَّاسِ؛ لأنَّ المأمومينَ منهيون أنْ ينصرفوا قبل انصرافِ الإِمامِ، فإذا بقي مستقبلَ القِبْلة كثيراً حَبَسَ النَّاسَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة (883) عن معاوية بن أبي سفيان قال: « ... فإنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم أمَرَنَا بذلك، أنْ لا تُوصَلَ صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نخرجَ» .
(2) تقدم تخريجه (3/220) .(4/305)
ثالثاً: أنه قد يَظنُّ مَن خلفَه أنه يتذكَّرُ شيئاً نسيه في الصَّلاةِ، فيرتبكُ المأمومُ في هذا.
وابتداءُ الانصرافِ مِن اليسار أو مِن اليمين كُلُّ ذلك وَرَدَ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. فَوَرَدَ أنه ينصرفُ عن يمينه ثم يستقبلُ النَّاسَ (1) ، وأنَّه ينصرفُ عن يسارِه، ثم يستقبلُ النَّاسَ (2) ، فأنت إنْ شئتَ انصرفْ عن اليمين، وإن شئتَ انصرفْ عن اليسارِ، كُلُّ هذا سُنَّةٌ.
قوله: «فإن كان ثَمَّ نساء» أي: في المسجدِ نساءٌ.
قوله: «لبث قليلاً» أي: لَبِثَ مستقبلَ القِبْلة قليلاً.
قوله: «لينصرفن» أي: النساء قبل الرِّجال، كما ثَبَتَ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سَلَّمَ، قامَ النِّساءُ حين يقضي تَسْلِيمَهُ، ويمكُثُ هو في مَقَامِهِ يسيراً قبل أنْ يقومَ. قال: نرى ـ والله أعلم ـ أنَّ ذلك كان لكي ينصرفَ النِّساءُ، قبل أن يُدْرِكَهُنَّ أحدٌ مِن الرِّجالِ» (3) .
وذلك لأن الرِّجالَ إذا انصرفوا قبلَ انصرافِ النِّساءِ لَزِمَ مِن هذا اختلاطُ الرِّجالِ بالنِّساءِ، وهذا مِن أسبابِ الفتنة، حتى إنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرها، وَشَرُّها أوَّلُها» (4) ، لأن أوَّلَها أقربُ إلى الرِّجالِ مِن آخرها، فهو أقربُ إلى الاختلاطِ.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال (708) (60) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال (852) ؛ ومسلم، الموضع السابق (707) (59) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال (870) .
(4) تقدم تخريجه ص (222) .(4/306)
وفي هذا دليلٌ واضحٌ جداً على أنَّ مِن أهدافِ الإِسلامِ بُعْدُ النساءِ عن الرِّجال، وأنَّ المبدأ الإِسلاميَّ هو عَزْلُ الرِّجالِ عن النساءِ، خلاف المبدأ الغربيِّ الكافرِ الذي يريد أن يختلِطَ النساءُ بالرِّجالِ، والذي انخدعَ به كثيرٌ مِن المسلمين اليوم، وصاروا لا يبالون باختلاطِ المرأةِ مع الرِّجالِ، بل يَرَون أنَّ هذه هي الديمقراطية والتقدُّم، وفي الحقيقة أنَّها التأخُّر؛ لأنَّ اختلاطَ المرأةِ بالرِّجال هو إشباعٌ لرغبةِ الرَّجُلِ على حسابِ المرأةِ، فأين الديمقراطية كما يزعمون؟!
إن هذا هو الجَور، أما العدلُ فأن تبقى المرأةُ مصونة محروسة لا يَعبثُ بها الرِّجالُ، لا بالنَّظَرِ ولا بالكلامِ ولا باللَّمس ولا بأي شيء يوجب الفتنة.
لكن؛ لضعفِ الإِيمانِ والبُعدِ عن تعاليم الإِسلام صار هؤلاء المخدوعون منخدعين بما عليه الأممُ الكافرةُ، ونحن نعلمُ بما تواترَ عندنا أنَّ الأممَ الكافرةَ الآن تَئِنُّ أنينَ المريضِ المُدنفِ تحت وطأة هذه الأوضاع، وتودُّ أن تتخلَّصَ مِن هذا الاختلاطِ، ولكنه لا يمكنها الآن؛ فقد اتَّسعَ الخرقُ على الرَّاقعِ. لكن الذي يُؤسفُ له أيضاً: مَن يريدُ مِن المسلمين أنْ يلحقوا برَكْبِ هؤلاء الذين ينادون بما يسمُّونه «الحرية» ، وهي في الحقيقة حرية هوًى، لا حرية هُدًى، كما قال ابن القيم رحمه الله:
هربوا مِن الرِّقِّ الذي خُلقوا له
فَبُلوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشيطان
فالرِّقُ الذي خُلقوا له هو: الرِّقُ لله عزّ وجل، بأن تكون عبداً لله حقاً، لكن؛ هؤلاء هربوا منه، وبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ(4/307)
والشيطان، فصاروا الآن ينعقون ويخطِّطون مِن أجلِ أن تكون المرأةُ والرَّجُلُ على حَدٍّ سواءٍ في المكتب، وفي المتجر، وفي كُلِّ شيء، وإني لأشهد بالله أنَّ هؤلاء غاشُّون لدينهم وللمسلمين؛ لأنَّ الواجب أن يتلقَّى المسلمُ تعاليمه مِن كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وهَدي السَّلفِ الصَّالح، ونحن إذا رأينا تعاليمَ الشَّارعِ الحكيم وجدنا أنَّه يسعى بكُلِّ ما يستطيع إلى إبعاد المرأةِ عن الرَّجُلِ، فيبقى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مصلاَّه إذا سَلَّمَ حتى ينصرفَ النساءُ (1) من أجلِ عدم الاختلاط، هذا مع أنَّ النَّاسَ في ذلك الوقت أطهرُ مِن النَّاسِ في أوقاتنا هذه، وأقوى إيماناً كما قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم» (2) .
وقوله: «فإنْ كان ثَمَّ» «ثَمَّ» بمعنى: هناك، وهي مفتوحةُ الثاء، وليست مضمومة قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] وما أكثر الذين يغلطون فيها فيقولون: (ثُمَّ) بالضَّمِ، و «ثُمَّ» بالضَّمِ حرفُ عطفٍ لا ظرف.
وَيُكْرَهُ وُقُوفُهُمْ بَيْنَ السَّوَارِي إِذَا قَطَعْنَ الصُّفُوفَ.
قوله: «يكره وقوفهم» أي وقوفُ المأمومين.
قوله: «بين السواري» أي: الأعمدة.
قوله: «إذا قطعن الصفوف» اشترط المؤلِّفُ للكراهةِ أن تقطع الصفوف.
وما مقدار القطع؟ قيَّده بعضُهم بثلاثة أذرع، فقال: إذا كانت السَّاريةُ ثلاثةَ أذرعٍ فإنها تقطع الصَّفَّ، وما دونها لا يقطعُ الصَّفُّ.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (306) .
(2) تقدم تخريجه في المجلد الأول ص (156) .(4/308)
وقال بعضُ العلماء: بمقدار قيام ثلاثة رِجالٍ، ومقدار قيامٍ ثلاثة رجال أقل مِن ثلاثةِ أذرع، وقيل: المعتبر العُرف وهو ظاهر كلام المؤلِّفِ، وأما السَّواري التي دون ذلك فهي صغيرة لا تقطعُ الصُّفوفَ، ولا سيَّما إذا تباعدَ ما بينها. وعلى هذا؛ فلا يُكره الوقوفُ بينها، ومتى صارت السَّواري على حَدٍّ يُكره الوقوفُ بينها فإنَّ ذلك مشروطٌ بعدمِ الحاجةِ، فإنْ احتيجَ إلى ذلك بأن كانت الجماعةُ كثيرة والمسجدُ ضيقاً فإن ذلك لا بأس به من أجلِ الحاجةِ، لأنَّ وقوفَهم بين السَّواري في المسجدِ خيرٌ مِن وقوفهم خارجَ المسجدِ، وما زال النَّاسُ يعملون به في المسجدين المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النَّبويِّ عند الحاجةِ؛ وإنما كُرِهَ ذلك لأنَّ الصَّحابةَ كانوا يَتوقَّون هذا (1) ، حتى إنَّهم أحياناً كانوا يُطْرَدون عنها طَرْداً (2) . ولأنَّ المطلوبَ في المصافةِ التَّراصُ مِن أجل أن يكون النَّاسُ صفَّاً واحداً، فإذا كان هناك سواري تقطع الصُّفوفَ فاتَ هذا المقصود للشَّارعِ.
فَصْلٌ
وَيُعْذَرُ بِتَرْكِ جُمُعَةِ وَجَمَاعَةٍ مَرِيضٌ، وَمُدَافِع أَحَدَ الأَخْبَثَيْنِ،..........
قوله: «فصل» هذا الفصلُ عَقَدَه المؤلِّفُ لبيان الأعذارِ التي تُسقِطُ الجمعةَ والجماعة، وهو مبنيٌّ على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الصفوف بين السواري (673) ولفظه: «صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .
وأخرجه الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري (229) وقال: «حسن صحيح» .
(2) أخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب الصلاة بين السواري في الصف (1002) ؛ وابن خزيمة (1567) ؛ والحاكم (1/218) .(4/309)
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . ومِن القواعدِ المشهورة: المشقةُ تجلبُ التيسير، ولا شَكَّ أنَّ الجمعةَ أوكد بكثير مِن الجماعة لإجماعِ المسلمين على أنَّها فَرْضُ عَين؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] .
أما الجماعةُ فإنَّه سَبَقَ الخِلافُ فيها، وأنَّ القولَ الرَّاجحَ أنَّها فَرْضُ عَين (1) ، لكن آكديتها ليست كآكدية صلاة الجُمُعة، ومع ذلك تسقط هاتان الصَّلاتان للعُذر. والأعذار أنواع:
قوله: «يعذر بترك جمعة وجماعة مريض» هذا نوعٌ مِن الأعذارِ.
والمراد به: المَرض الذي يَلحق المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي وهذا هو النَّوعُ الأول.
ودليله:
1 ـ قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
2 ـ وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
3 ـ وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] .
4 ـ وقول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» (2) .
__________
(1) انظر: ص (132) .
(2) تقدم تخريجه (1/381) .(4/310)
5 ـ وأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم: «لما مَرِضَ تخلَّف عن الجماعةِ» (1) مع أن بيته كان إلى جَنْبِ المسجد.
6 ـ وقولُ ابن مسعود رضي الله عنه: «لقد رَأيتُنا وما يتخلَّفُ عن الصَّلاةِ إلا منافقٌ قد عُلِمَ نفاقُهُ أو مريضٌ ... » (2) فكلُّ هذه الأدلَّةِ تدلُّ على أنَّ المريضَ يسقطُ عنه وجوبُ الجُمعةِ والجَماعةِ.
قوله: «ومدافع أحد الأخبثين» هذا نوعٌ ثان يُعذر فيه بتركِ الجُمعة والجَماعة.
و «مدافع» تَدلُّ على أنَّ الإِنسانَ يتكلَّفُ دَفْعَ أحد الأخبثين.
والأخبثان: هما البولُ والغائطُ، ويَلحقُ بهما الرِّيحُ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يكون عنده غَازات تنفخُ بَطنَه وتَشُقُّ عليه جداً، وقد يكون أشقَّ عليه مِن احتباسِ البولِ والغائطِ، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1 ـ قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان» (3) والنَّفيُ هنا بمعنى النَّهي، أي: لا تصلُّوا بحضرةِ طعامٍ ولا حالَ مدافعةِ الأخبثين.
2 ـ أنَّ المدافعةَ تقتضي انشغالَ القلبِ عن الصَّلاةِ، وهذا
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة (680) ؛ ومسلم، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما (419) (98) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد: باب صلاة الجماعة من سُنن الهُدى، رقم (654) .
(3) سبق تخريجه (3/235) .(4/311)
خَلَلٌ في نَفْسِ العبادةِ، وتَرْكُ الجماعةِ خَلَلٌ في أمْرٍ خارجٍ عن العبادة، لأنَّ الجماعةَ واجبةٌ للصَّلاةِ، والمحافظةُ على ما يتعلَّقُ بذات العبادةِ أَولى مِن المحافظةِ على ما يتعلَّقُ بأمْرٍ خارجٍ عنها، فلهذا نقول: المحافظةُ على أَداءِ الصَّلاةِ بطمأنينة وحضورِ قلبٍ أولى مِن حضورِ الجماعةِ أو الجُمعة.
3 ـ أنَّ احتباسَ هذين الأخبثين مع المدافعة يَضرُّ البدنَ ضرراً بيِّناً؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى جَعَلَ خروجَ هذين الأخبثين راحةً للإِنسان، فإذا حبسهما صار في هذا مخالفةً للطبيعة التي خُلِقَ الإِنسانُ عليها، وهذه قاعدة طبية: أنَّ كُلَّ ما خالفَ الطَّبيعة فإنَّه ينعكس بالضَّررِ على البَدنِ، ومِن ثَمَّ يتبيَّنُ أضرارُ الحُبوب التي تستعمِلُها النِّساءُ مِن أجل حَبْسِ الحيضِ، فإنَّ ضررَها ظاهرٌ جدَّاً، وقد شَهِدَ به الأطباءُ.
وَمَنْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَخَائِف مِنْ ضَيَاع مَالِهِ، أَوْ فَوَاتِهِ، أَوْ ضَرَرٍ فِيهِ،....
قوله: «ومن بحضرة طعام محتاج إليه» هذا نوعٌ ثالثٌ فيُعذر بتَرْكِ جُمُعَةٍ وجماعةٍ مَن كان بحضْرَةِ طعامٍ، أي: حَضَرَ عنده طعامٌ وهو محتاجٌ إليه، لكن بشرط أن يكون متمكِّناً مِن تناولِه.
مثاله: رَجُلٌ جائعٌ حَضَرَ عنده الطَّعامُ وهو يسمعُ الإِقامةَ، فهو بين أمرين: إنْ ذهبَ إلى المسجدِ انشغل قلبُه بالطَّعامِ لجوعِه، وإنْ أكَلَ اطمأنَّ وانسدَّ جوعُه، فنقول: كُلْ ولا حَرَجَ، وقد قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قُدِّمَ العشاءُ فابْدَؤُا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب» (1) فأمرنا بأنْ نبدأ به.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة (672) ؛ ومسلم، كتاب المساجد، باب كراهية الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال (557) (1242) .(4/312)
وكان ابنُ عُمرَ رضي الله عنهما يَسمعُ قراءةَ الإِمام وهو يتعشَّى (1) . مع أنَّ ابنَ عُمرَ رضي الله عنهما مِن أشدِّ النَّاسِ تمسُّكاً بالسُّنَّةِ.
إذاً؛ إذا حَضَرَ العشاءُ فتعشَّ ولو أُقيمت الصَّلاةُ.
وهل الأكلُ بمقدارِ ما تنكسِرُ نهمتُك، أو لك أنْ تشبعَ؟
نقول: لك أنْ تشبعَ؛ لأنَّ الرُّخصةَ عامَّةٌ «إذا قُدِّمَ العَشاءُ فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا صلاةَ المغرب» .
ويُشترط أنْ يتمكَّنَ مِن تناولِه، فإنْ لم يتمكَّن بأنْ كان صائماً وحَضَرَ طعامُ الإِفطارِ، وأُذِّنَ لصلاةِ العصرِ وهو بحاجةٍ إلى الأكلِ فليس له أنْ يؤخِّرَ صلاةَ العصر حتى يُفطرَ ويأكلَ؛ لأنَّ هذا الطَّعامَ ممنوعٌ منه شرعاً، حتى لو اشتهى الطَّعامَ شهوةً قويَّةً.
ولا بُدَّ أيضاً مِن قيد آخر، وهو أنْ لا يجعلَ ذلك عادةً بحيث لا يُقَدَّم العشاءُ إلا إذا قاربت إقامةُ الصَّلاةِ، لأنه إذا اتَّخذَ هذا عادةً فقد تَعمَّدَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ، لكن إذا حصلَ هذا بغير اتِّخاذِه عادةً فإنه يبدأ بالطَّعامِ الذي حَضَرَ، سواءٌ كان عشاء أم غداء.
قوله: «وخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه» هذا نوعٌ رابعٌ مما يُعذر فيه بتَرْكِ الجُمعةِ والجماعةِ، أي: إذا كان عنده مال يَخشى إذا ذَهَبَ عنه أن يُسرقَ، أو معه دابةٌ يَخشى لو ذهبَ للصَّلاةِ أن تنفلتَ الدَّابةُ وتضيع، فهو في هذه الحال معذورٌ في
__________
(1) أخرجه البخاري في الموضع السابق (673) .(4/313)
تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ؛ لأنَّه لو ذَهَبَ وصَلَّى فإن قلبَه سيكون منشغلاً بهذا المال الذي يَخافُ ضياعه.
وكذلك إذا كان يَخشى مِن فواتِه بأن يكون قد أضاعَ دابَّته، وقيل له: إنَّ دابَّتك في المكان الفلاني؛ وحضرتِ الصَّلاةُ، وخَشيَ إنْ ذهب يُصلِّي الجُمعةَ أو الجماعةَ أنْ تذهبَ الدَّابةُ عن المكان الذي قيل إنَّها فيه، فهذا خائفٌ مِن فواتِه، فله أنْ يتركَ الصَّلاةَ، ويذهب إلى مالِه ليدرِكَه.
ومِن ذلك أيضاً: لو كان يخشى مِن ضَررٍ فيه، كإنسان وَضَعَ الخُبزَ بالتنورِ، فأُقيمت الصَّلاةُ، فإنْ ذهبَ يُصلِّي احترقَ الخبزُ؛ فله أن يَدَعَ صلاةَ الجماعة مِن أجلِ أن لا يفوتَ مالُه بالاحتراق.
والعِلَّةُ: انشغالُ القلبِ، لكن يُؤمرُ الخَبَّازُ أن يلاحظ وقت الإِقامةِ، فلا يدخل الخبزَ في التنور حينئذٍ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين المالِ الخطير والمال الصَّغيرِ الذي لا يُعتبر شيئاً؛ لأنه أطلق فقال: «مِن ضياع ماله» وقد يُقال: إنَّه يُفرَّقُ بين المالِ الخطير الذي له شأن، وبين المال القليل في صلاة الجُمعةِ خاصَّة؛ لأنَّ صلاةَ الجُمعة إذا فاتت فيها الجماعةُ لا تُعادُ وإنَّما يُصلَّى بدلها ظُهراً، وغير الجُمعةِ إذا فاتت فيها الجماعةُ يصلِّيها كما هي.
أَوْ مَوْتِ قَرِيبِهِ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ضَرَرٍ، أَوْ سُلْطَانٍ، أَوْ مُلاَزَمَةِ غَرِيمٍ وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ،...............
قوله: «أو موت قريبه» هذا نوعٌ خامسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، أنْ يخشى مِن موتِ قريبِه وهو غيرُ حاضرٍ، أي: أنَّه في سياق الموتِ فيخشى أن يموت وهو غيرُ حاضرٍ وأحبَّ أنْ يبقى عندَه ليلقِّنه الشَّهادةَ، وما أشبه ذلك، فهذا عُذر.(4/314)
قوله: «أو على نفسه من ضرر» هذا نوعٌ سادسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرِكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، وهو: أن يَخشى على نفسِه مِن الأمور التي ذكرها المؤلِّفِ، مِن ضَررٍ بأن كان عند بيتِه كلبٌ عقورٌ، وخَافَ إنْ خَرَجَ أنْ يعقِره الكلبُ، فله أنْ يصلِّيَ في بيتِه ولا حَرَجَ عليه.
وكذلك لو فُرِضَ أن في طريقِه إلى المسجدِ ما يضرُّه، مثل: ألا يكون عنده حِذاء، والطريقُ كلُّه شوكٌ أو كله قِطعُ زُجاجٍ، فهذا يضرُّه، فهو معذورٌ بتَرْكِ الجَماعة والجُمُعة.
وكذلك لو كان فيه جُروح وخاف على نفسِه مِن رائحةٍ يزيدُ بها جرحُه فإنَّه يُعذرُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة.
وقوله: «أو سلطان» يعني: إِذا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ مثل: أنْ يطلبَه ويبحث عنه أميرٌ ظالمٌ له، وخافَ إن خَرَجَ أن يمسكَه ويحبسَه أو يغرِّمه مالاً أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّ في ذلك ضرراً عليه، أما إذا كان السلطانُ يأخذُه بحقٍّ فليس له أن يتخلَّفَ عن الجماعةِ ولا الجُمُعةِ، لأنَّه إذا تخلَّفَ أسقط حقّين: حَقَّ الله في الجماعةِ والجُمُعةِ، والحَقَّ الذي يطلبه به السلطانُ.
قوله: «أو ملازمة غريم ولا شيء معه» هذا نوعٌ سابعٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ: بأن كان له غريمٌ يطالبُه ويلازِمُه، وليس عنده فلوسٌ، فهذا عُذْرٌ؛ وذلك لما يلحَقَه مِن الأذيَّةِ لملازمةِ الغريمِ له، فإنْ كان معه شيءٌ يستطيع أن يوفي به(4/315)
فليس له الحَقُّ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّه إذا تركهما في هذه الحال أسقطَ حَقَّين: حَقَّ اللهِ في الجماعة والجُمُعةِ، وحَقَّ الآدميِّ في الوفاءِ.
مسألة: إذا كان عليه دينٌ مؤجَّلٌ، لكن غريمه لازَمه فهل له أن يتخلَّفَ؟
الجواب: ينظر؛ فإن كانت السُّلطةُ قويةٌ بحيث لو اشتكاه على السُّلطة لمنعته منه، فهو غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ له الحَقُّ أن يُقدِّمَ الشَّكوى إلى السُّلطةِ، أما إذا كانت السُّلطةُ ليست قويةً، أو أنها تحابي الرَّجُلَ فلا تمنعه مِن ملازمةِ غريمه، فهذا عُذرٌ بلا شَكٍّ.
أَوْ مِنْ فَوَاتِ رُفْقَةٍ، أَوْ غَلَبَةِ نُعَاسٍ، أَوْ أَذًى بِمَطَرٍ، أَوْ وَحَلٍ وَبِرِيْحٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ.
قوله: «أو من فوات رفقة» هذا نوعٌ ثامنٌ من أعذار تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، إذا كان يخشى من فوات الرُّفْقةِ وهذا عُذْرٌ لوجهين:
الوجه الأول: أنه يفوت مقصده من الرفقة إذا انتظر الصَّلاةَ مع الجماعةِ أو الجُمعةِ.
الوجه الثاني: أنه ينشغلُ قلبُه كثيراً، إذا سَمِعَ رفقته يتهيَّأون للسير وهو يُصلِّي فإنه يقلَقُ كثيراً، فإذا خِفْتَ فواتَ الرُّفقةِ فإنك معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفراً مباحاً، وسفر الطاعة كالسفر لعُمرةٍ أو حَجٍّ أو طلب عِلمٍ، والمباح كالسَّفر للتجارة ونحوها.
قوله: «أو غلبة نعاس» هذا نوعٌ تاسعٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة؛ إذا غلبه النُّعاسُ فإنه يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. مثال ذلك: رجل متعبٌ بسبب عَمَلٍ أو سَفَرٍ فأخذه النُّعاسُ فهو بين أمرين:(4/316)
إما أن يذهبَ ويصلِّي مع الجماعةِ، وهو في غَلَبَةِ النُّعاسِ لا يدري ما يقول.
وإما أن ينامَ حتى يأخذَ ما يزولُ به النُّعاسُ ثم يُصلِّي براحةٍ.
فنقول: افعلْ الثاني؛ لأنك معذورٌ.
قوله: «أو أذى بمطر أو وحل» هذا نوعٌ عاشرٌ مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ.
فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ فهو معذورٌ.
والأذيَّة بالمطرِ أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابه أو ببرودة الجَوِّ، أو ما أشبه ذلك، وكذلك لو خاف التأذِّي بوَحْلٍ، وكان النَّاسُ في الأول يعانون مِن الوحلِ؛ لأن الأسواقَ طين تربصُ مع المطر فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضور إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ، وأما في وقتنا الحاضرِ فإن الوَحْلَ لا يحصُل به تأذٍّ لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة، وليس فيها طين، وغاية ما هنالك أن تجدَ في بعض المواضع المنخفضة مطراً متجمِّعاً، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثل هذه الحال إنما يكون بنزولِ المطرِ فإذا توقَّفَ المطرُ فلا عُذر، لكن في بعض القُرى التي لم تُزفَّت يكون العُذرُ موجوداً، ولهذا كان منادي الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم ينادي في الليلةِ الباردةِ أو المطيرة: ألا صَلُّوا في الرِّحالِ» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الرخصة في المطر، والعلة أن يصلّي في رحله (666) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال في المطر (697) (22) .(4/317)
وفُهِمَ مِن قوله: «أو أذًى بمطرٍ» أنه إذا لم يتأذَّ به بأن كان مطراً خفيفاً فإنَّه لا عُذر له، بل يجب عليه الحضورُ، وما أصابه مِن المشقَّةِ اليسيرةِ فإنه يُثابُ عليها.
قوله: «وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة» هذا نوعٌ حادي عشر مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، وهو الرِّيحُ، بشروط:
الأول: أن تكون الرِّيحُ باردةً؛ لأنَّ الرِّيحَ السَّاخنةَ ليس فيها أذًى ولا مشقَّة، والرِّياحُ الباردةُ بالنسبة لنا في هذه المنطقة هي التي تأتي مِن الشمالِ، لأننا نحن الآن إلى القُطبِ الشّمالي أقربُ منَّا إلى القُطبِ الجنوبي، وفي الجهة الجنوبية مِن الأرض تكون الرياحُ الباردةُ هي التي تأتي مِن الجنوبِ.
الثاني: كونها شديدةً؛ لأنَّ الرِّيحَ الخفيفةَ لا مشقَّةَ فيها ولا أذًى، ولو كانت باردةً، فإذا كانت الرِّياحُ باردةً وشديدةً فهي عُذرٌ بلا شَكٍّ؛ لأنَّها تؤلم أشدَّ مِن ألم المطرِ.
الثالث: أن تكونَ في ليلةٍ مظلمةٍ: وهذا الشرطُ ليس عليه دليلٌ؛ لأنَّ الحديثَ الذي استدلُّوا به وهو حديثُ ابنِ عُمر «في الليلةِ الباردةِ أو المطيرةِ» (1) ليس فيه اشتراطُ أن تكونَ الليلةُ مظلمةً، ولأنَّه لا أثرَ للظُّلمةِ أو النور في هذا الأمر، فالظُّلمةُ لا تزيد مِن برودة الجَوِّ، والصَّحو لا يزيد مِن سخونةِ الجو في الليل.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (317) .(4/318)
فالصحيح: أنه إذا وُجِدت ريحٌ باردةٌ شديدةٌ تشُقُّ على النَّاسِ فإنَّه عُذر في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعة، وهو أَولى مِن العُذرِ للتأذِّي مِن المطر، ويَعرفُ ذلك مَن قاساه، ومع هذا فإن المشقَّة في البردِ يلحقُها مشقَّةٌ أخرى، وهي: أنَّ الغالبَ في البردِ كثرة نزولِ البولِ فيتعب الإِنسانُ منه، فإذا توضَّأ شَقَّ عليه الوُضُوءُ مع البرودةِ، ولا سيَّما في الزَّمنِ السَّابقِ فليس هناك سخَّانات تُسخِّنُ الماء، وأحياناً يكون الماءُ شديدَ البرودةِ جداً، فلهذا نقول: ما دامت العِلَّةُ هي المشقَّة، فإن المشقَّة تحصُل في الرِّيح الباردةِ الشديدةِ، أما الرِّيحُ الخفيفةُ العاديةُ أو الساخنةُ فليس فيها مشقة.
تنبيه: قوله: «في ليلة مظلمة» لا يتأتَّى هذا الشَّرط في الجُمُعةِ، وهو يؤيّد ما ذكرناه مِن عدم اشتراط الليلةِ المظلمةِ. والله أعلم.
مسألة: هل يُعذرُ الإِنسانُ بتطويل الإِمامِ؟
الجواب: يُعذرُ بتطويلِ الإِمامِ إذا كان طولاً زائداً عن السُّنَّةِ.
ودليل ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يوبِّخ الرَّجُلَ الذي انصرفَ مِن صلاتِه حين شَرَعَ معاذٌ في سورة البقرةِ، بل وَبَّخَ معاذاً» (1) ، وإذا لم يوجد مسجدٌ آخر سَقَطَ عنه وجوبُ الجَماعة.
مسألة: هل يُعذرُ بسرعة الإِمام؟
الجواب: أنَّ هذا مِن بابِ أَولى أن يكون عُذراً مِن تطويلِ
__________
(1) تقدم تخريجه (192) .(4/319)
الإِمامِ، فإذا كان إمامُ المسجدِ يُسْرِعُ إسراعاً لا يتمكَّنُ به الإِنسانُ مِن فِعْلِ الواجبِ، فإنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجماعةِ في هذا المسجدِ، لكن؛ إن وُجِدَ مسجدٌ آخرٌ تُقامُ فيه الجماعةُ وجبت عليه الجماعةُ في المسجدِ الثاني.
مسألة: إذا كان الإِمامُ فاسقاً بحَلْقِ لحيتِه، أو شُرْبِ الدُّخَّان، أو إسبالِ ثوب، فهل هذا عُذر في تَرْكِ الجماعةِ؟
الجواب: إنْ قلنا بأنَّ الصَّلاةَ خلفَه لا تَصِحُّ كما هو المذهب (1) فهو عُذرٌ، وأما إذا قلنا بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَه ـ وهو الصَّحيح ـ فإنَّ ذلك ليس بعُذرٍ؛ لأنَّ الصَّلاةَ خلفَه تَصِحُّ وأنت مأمورٌ بحضورِ الجماعةِ.
مسألة: إذا كان الإِنسانُ مجرماً، وخافَ إن خَرَجَ أن تمسِكَه الشرطةُ، فهل هو عُذرٌ؟
الجواب: ليس بعُذرٍ؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، أما إذا كان مظلوماً فإنَّه عُذرٌ.
مسألة: إذا كان في طريقِه إلى المسجدِ منكراتٌ كتبرُّجِ النِّساءِ، وشُرْبِ الخَمْر، وشُرْبِ الدُّخَّان، وما أشبه ذلك، فهل هذا عُذر؟
الجواب: ليس بعذر فيخرجُ، وينهى عن المنكرِ ما استطاع، فإن انتهى النَّاسُ فله ولهم، وإن لم ينتهوا فله وعليهم.
مسألة: إذا طرأت هذه الأعذارُ في أثناءِ الصَّلاةِ، فمثلاً: في
__________
(1) انظر: ص (216) .(4/320)
أثناءِ الصَّلاةِ أصابه مدافعةُ الأخبثين؛ فله أنْ ينفردَ ويتمَّ صلاتَه إلا إذا كان لا يستفيدُ بانفرادِه شيئاً، بمعنى أن الإِمام يخفِّفُ تخفيفاً بقَدْرِ الواجبِ، ففي هذه الحال لو انفردَ لم يستفدْ شيئاً؛ إذ لا يمكن أن يخفِّفَ أكثر مِن تخفيفِ الإِمامِ.
وهل له أن يقطعَ الصَّلاة؟
الجواب: نعم، له أنْ يقطعَ الصَّلاةَ؛ إذا كان لا يمكنه أن يكمِلها على الوجه المطلوبِ منه، إلا إذا كان لا يستفيدُ مِن قطعِها شيئاً؛ فإنه لا يقطعها، مثاله: لو سمعَ الغريمَ يدعوه في أثناءِ الصَّلاةِ، ففي هذه الحال لو انصرفَ لأمسكَه، فلا يستفيد بقطعِ الصَّلاةِ شيئاً؛ فلا يقطعها.
مسألة: هل هذه الأعذارُ عُذرٌ في إخراج الصَّلاةِ عن وقتِها؟
الجواب: ليست عُذراً، فعلى الإِنسان أن يصلِّيها في الوقت على أيِّ حالٍ كانت، إلا أنَّ بعضَ أهلِ العِلم قال: إنَّ مدافعةَ الأخبثين عُذرٌ في إخراجِ الصَّلاةِ عن وقتِها؛ وذلك لأنَّ حَبْسَ الأخبثينِ، يكون به ضررٌ على الإِنسانِ، وبعضُ النَّاسِ أيضاً يَحسُّ إذا حبس الأخبثين، ولا سيما البول بخفقان شديدٍ في القلب فيخشى على نفسه منه، ولكننا نقول: إذا كانت هذه الأعذارُ في الصَّلاة الأُولى التي تُجمع لما بعدَها، فإن هذه الأعذار تُبيحُ الجَمْعَ، وهذه فائدةٌ مهمَّةٌ، فالأعذارُ التي تُبيحُ تَرْكَ الجُمُعةِ والجَماعةِ تُبيحُ الجَمْعَ. وحينئذٍ إذا حصلت لك في وقتِ الصَّلاةِ الأُولى فتنوي الجَمْعَ، وتؤخِّرُ الصَّلاةَ إلى وقتِ الثانيةِ؛ لعمومِ حديث عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما «جَمَعَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم(4/321)
في المدينةِ بين الظُّهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ مِن غير خوفٍ ولا مطرٍ، قالوا: ماذا أرادَ بذلك؟ قال: أرادَ أن لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» (1) أي: أنْ لا يَلحقها الحَرَجُ في تَرْكِ الجَمْعِ.
مسألة: الآكلُ للبصلِ؛ هل يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؟
وهل يجوزُ له أنْ يأكلَ البصلَ أم لا؟
الجواب: إنْ قَصَدَ بأكلِ البصلِ أنْ لا يُصلِّيَ مع الجماعةِ فهذا حرامٌ ويأثمُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة، أما إذا قَصَدَ بأكلِهِ البصلَ التمتُّعَ به وأنَّه يشتهيه، فليس بحرامٍ، كالمسافر في رمضان إذا قصد بالسَّفَرِ الفِطْر حَرُمَ عليه السَّفَرُ والفِطر، وإنْ قَصَدَ السَّفَرَ لغرضٍ غيرِ ذلك فله الفِطْر.
وأما بالنسبة لحضُورِه المسجدَ؛ فلا يحضُرُ، لا لأنه معذورٌ، بل دفعاً لأذيَّتِهِ؛ لأنَّه يؤذي الملائكةَ وبني آدم.
أما الأعذارُ التي ذكرها المؤلِّفُ فهي أعذارٌ تُسوِّغُ للإِنسانِ أن يَدَعَ الجُمُعةَ والجماعةَ؛ لأنَّه متَّصفٌ بما يُعذرُ به أمامَ الله، أما مَن أكلَ بصلاً أو ثوماً فلا نقولُ إنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، ولكن لا يحضُر دفعاً لأذيته، فهنا فَرْقٌ بين هذا وهذا، لأن هذا المعذورَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ كاملاً إذا كان مِن عادتِه أن يصلِّي مع الجماعةِ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مَرِضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له مثلُ ما كان يعملُ صحيحاً مقيماً» (2) أما آكلُ البصلِ والثُّومِ
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (705) (50) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة (2996) .(4/322)
فلا يُكتب له أجرُ الجماعةِ؛ لأننا إنما قلنا له لا تحضر دفعاً للأذية؛ كما قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم» (1) .
مسألة: إذا كان فيه بَخْرٌ، أي: رائحةٌ منتنةٌ في الفَمِ، أو في الأنفِ أو غيرهما تؤذي المصلِّين، فإنَّه لا يحضرُ دفعاً لأذيَّتِه، لكن هذا ليس كآكلِ البصلِ؛ لأنَّ آكلَ البصلِ فَعَلَ ما يتأذَّى به النَّاسُ باختيارِه، وهذا ليس باختيارِه، وقد نقول: إنَّ هذا الرَّجُلَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لأنَّه تخلَّفَ بغير اختيارِه فهو معذورٌ. وقد نقول: إنه لا يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لكنه لا يأثمُ، كما أنَّ الحائضَ تتركُ الصَّلاةَ بأمره اللهِ ومع ذلك لا يُكتب لها أجرُ الصَّلاةِ فإنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم جَعَلَ تَرْكَها للصَّلاةِ نقصاً في دينِها (2) .
مسألة: مَن شَرِبَ دُخَّاناً وفيه رائحةٌ مزعجةٌ تؤذي النَّاسَ، فإنَّه لا يَحِلُّ له أنْ يؤذيهم، وهذا لعلَّه يكون فيه فائدةٌ، وهي أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي يشربُ الدُّخَّانَ لما رأى نفسَه محروماً مِن صلاةِ الجماعةِ يكون سبباً في توبته منه وهذه مصلحة.
مسألة: مَن فيه جروحٌ منتنةٌ، وهذا في الزَّمنِ الماضي؛ لعدم وجودِ المستشفيات، فله أن يتخلَّفَ عن الجُمُعةِ والجَماعةِ، ولكن لا نقول: إنه عُذرٌ كعُذرٍ المريض وشبهه، إلا إذا كان يتأخَّرُ عن صلاةِ الجماعةِ خوفاً مِن ازديادِ ألمِ الجُرحِ، لأنَّ الرَّوائحَ أحياناً تؤثِّرُ على الجُروحِ وتزيدها وَجَعاً، فهذا يكون معذوراً، ويدخل في قسم المريض.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها (564) (74) .
(2) تقدم تخريجه (1/476) .(4/323)
…
باب صلاة أهل الأعذار
تَلْزَمُ المَرِيضَ الصَّلاَةُ قَائِماً..........
الأعذار: جمْعُ عُذْرٍ، والمراد بها، هنا: المرض، والسَّفَر، والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصَّلاةُ عند وجودِها.
واختلافُ الصَّلاةِ هيئةً أو عدداً بهذه الأعذار مأخوذٌ مِن قاعدة عامَّةٍ في الشريعة الإِسلامية، وهي قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . فكلَّما وُجِدت المشقَّة وُجِدَ التيسير، ومِن القواعدِ المعروفةِ عند الفقهاءِ: أنَّ المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ.
قوله: «تلزم المريض» المريض: بالنَّصبِ؛ لأنه مفعولٌ به مقدَّمٌ على الفاعلِ، والفاعلُ قوله: «الصلاة» كقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] والمريضُ: هو الذي اعتلَّتْ صحتُه، سواءٌ كانت في جزء مِن بدنِه، أو في جميع بدنِه. فمنِ اشتكى عينُه فهو مريضٌ، ومَن اشتكى إصبعُه فهو مريضٌ، ومَن أخذته الحُمَّى فهو مريضٌ. فإذاً؛ المرضُ اعتلالُ صحَّة البَدَن، سواءٌ كان ذلك كلياً، أم جزئياً. والاعتلالُ الجزئيُّ يكونُ منه الاعتلالُ الكُلّيُّ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل(4/324)
الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى» (1) .
قوله: «الصَّلاة قائماً» : المرادُ بـ «أل» هنا العهد الذهني، وهي الصَّلاة المفروضةُ؛ وذلك لأنَّ صلاةَ النافلةِ لا تلزم الإِنسانَ المريضَ ولا غير المريضِ قائماً، إذ إنَّه يجوزُ للإِنسانِ أن يتنفَّلَ وهو جالسٌ. لكن؛ إنْ كان لعُذرٍ أخذ الأجرَ كلَّه، وإنْ كان لغير عُذرٍ أخذَ نصفَ الأجرِ.
وقوله: «قائماً» أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ، أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان.
والذي كالرَّاكعِ مثل: أن يكون في ظهرِه مَرَضٌ لا يستطيعُ أن يَمُدَّ ظهرَه قائماً فهنا يصلِّي ولو كراكعٍ.
والذي يَعتمدُ كالشخصِ الضعيفِ الذي ليس عندَه قوةٌ، فلا يستطيعُ أن يقفَ إلا معتمداً على عصاً أو معتمداً على جدارٍ أو عمودٍ، أو إنسانٍ؛ يصلِّي قائماً ولو معتمداً.
ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه، والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ؛ لأنَّ الذي يقومُ معتمداً على شيءٍ اعتماداً كاملاً، كأنه غيرُ قائمٍ لا يجدُ مشقَّةَ القيامِ، لكن لو فُرِضَ أن شخصاً إما أن يقومَ معتمداً، وإما
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (6011) ؛ ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586) (66) .(4/325)
أن يجلسَ فنقول: قُمْ معتمداً على عصاً، أو جدار، أو عمودٍ، أو إنسانٍ، ولهذا قال المؤلف: «قائماً» وأطلق.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِداً،...........
قوله: «فإن لم يستطع» ، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقولُ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً» (1) ، فالدَّليلان الأولان عامَّان، والثالث خاصٌّ في نفس الصَّلاةِ.
وقوله: «فإن لم يستطع» ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ، وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ.
ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه القيامُ صلَّى قاعداً؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وكما لو شَقَّ الصَّومُ على المريضِ مع قدرتِه عليه فإنه يُفطِرُ، فكذلك هنا إذا شَقَّ القيامُ فإنه يصلِّي قاعداً، ولكن ما ضابطُ المشقَّة؟؛ لأن بعضَ النَّاسِ أحياناً يكون في تَعَبٍ وسَهَرٍ، فيشقُّ عليه القيامُ.
الجواب: الضَّابطُ للمشقَّةِ: ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو: حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي قاعداً.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (3/292) .(4/326)
ومثل ذلك الخائفُ فإنَّه لا يستطيعُ أن يصلِّي قائماً، كما لو كان يصلِّي خلفَ جدارٍ وحولَه عدوٌّ يرقبه، فإنْ قامَ تبيَّن مِن وراءِ الجدارِ، وإن جلسَ اختفى بالجدارِ عن عدوِّه، فهنا نقول له: صَلِّ جالساً.
ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] فأسقطَ اللهُ عن الخائفِ الرُّكوعَ والسُّجودَ والقعودَ، فكذلك القيامُ إذا كان خائفاً.
وقوله: «فقاعداً» أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟
يجلس متربِّعاً على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه ويُسمَّى هذا الجلوسُ تربُّعاً؛ لأنَّ السَّاقَ والفخذَ في اليمنى، والسَّاقَ والفخذ في اليُسرى كلَّها ظاهرة، لأن الافتراش تختفي فيه الساق في الفخذ، وأما التربُّع فتظهرُ كلُّ الأعضاءِ الأربعةِ.
وهل التربع واجب؟
لا، التربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى محتبياً فلا بأس؛ لعموم قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإنْ لم تستطعْ فقاعداً» ولم يبينْ كيفيَّة قعودِه.
فإذا قال إنسانٌ: هل هناك دليلٌ على أنه يصلِّي متربِّعاً؟
فالجواب: نعم؛ قالت عائشة: «رأيت النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يُصلِّي متربِّعاً» (1) ، ولأن التربُّعَ في الغالبِ أكثرُ طمأنينةً وارتياحاً مِن
__________
(1) أخرجه النسائي، كتاب قيام الليل، باب كيف صلاة القاعد (1662) ؛ والحاكم (1/258) وقال: «حديث صحيح على شرط الشيخين» ووافقه الذهبي.(4/327)
الافتراشِ، ومن المعلومِ أنَّ القيامَ يحتاجُ إلى قِراءةٍ طويلةٍ أطول مِن قول: «ربِّ اغفِرْ لي وارحمني» فلذلك كان التربُّع فيه أَولى؛ ولأجل فائدة أخرى وهي التَّفريقُ بين قعودِ القيامِ والقعودِ الذي في محلِّه، لأننا لو قلنا يفترشُ في حالِ القيام لم يكن هناك فَرْقٌ بين الجلوسِ في محلِّه وبين الجلوسِ البَدَلي الذي يكون بَدَلَ القيامِ.
وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً، والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً؛ لأنَّ الرَّاكعَ قائمٌ قد نَصَبَ ساقيه وفخذيه، وليس فيه إلا انحناء الظَّهر فنقول: هذا المتربِّعُ يبقى متربِّعاً ويركع وهو متربِّعٌ، وهذا هو الصَّحيحُ في هذه المسألةِ.
عَجَزَ فَعَلَى جَنْبِهِ...........
قوله: «فإن عجز» هنا قال: «فإن عجز» ، وفي الأول قال: «فإن لم يستطع» ، ولا فَرْقَ بينهما إلا في اللفظ، فهو اختلافُ تعبيرٍ.
قوله: «فعلى جنبه» أي الجنبين؟ قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين: «فإن لم تستطع فعلى جنب» (1) ولم يبيّن أيَّ الجنبين يكون عليه، فنقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على الأيسر.
والأفضلُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ؛ لأن كثيراً من المرضى، ولا سيَّما المرضى بذات الجَنْبِ، يكون اضطجاعُهم على أحدِ الجنبين أخفَّ عليهم مِن الاضطجاعِ على
__________
(1) تقدم تخريجه ص (326) .(4/328)
الجَنْبِ الآخر. فإذاً؛ يفعل ما هو أيسر وأسهل له، لأن المقامَ مقامُ رُخصةٍ وتسهيل، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل؛ لحديث وَرَدَ في ذلك (1) ، وهو ضعيف. لكن؛ كان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يعجبُه التيامن في تنعُّلِه وترجُّلِهِ وطُهوره وفي شأنِه كله (2) .
فَإِنْ صَلَّى مُسْتَلْقِياً وَرِجْلاَهُ إِلَى القِبْلَةِ صَحَّ، وَيُومِئُ رَاكِعَاً وَسَاجِداً، وَيَخْفِضُهُ عَنْ الرُّكُوعِ،...........
قوله: «فإن صلى» أي: المريض.
قوله: «مستلقياً» أي: على ظهره.
قوله: «ورجلاه إلى القبلة صح» أي: صَحَّ هذا الفعلُ، أي: مع قدرته على الجنب، لكنه خِلافُ السُّنَّةِ؛ لأن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإنْ لم تستطع فعلى جَنْبٍ» وإذا كان مستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ فأين يكون رأسُه؟
يكون إلى عكس القِبلة إلى الشَّرقِ إنْ كانت القبلةُ غرباً، وإلى الغربِ إن كانت القِبلةُ شرقاً، قالوا: لأنَّ هذا أقربُ ما يكون إلى صفة القائمِ، فهذا الرَّجُل لو قام تكون القِبلةُ أمامَه، فلهذا يكون مستلقياً ورِجلاه إلى القِبلة.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه يَصِحُّ مع القُدرة على الجَنْبِ.
والقول الثاني: أنه لا يَصِحُّ مع القُدرةِ على الجَنْبِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعُمرانَ بن حُصين: «فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ» وهذه هيئةٌ منصوصٌ عليها مِن قِبَلِ الشَّرعِ، وتمتاز عن الاستلقاء بأن وَجْهَ المريض إلى القِبلة، أما الاستلقاءُ فوجه المريض إلى
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/42) ؛ والبيهقي (2/307) ، وانظر: كلام الشيخ رحمه الله عن درجة الحديث أعلاه.
(2) تقدم تخريجه في (1/155) .(4/329)
السَّماءِ، فهو على الجَنْبِ أقربُ إلى الاستقبال. وهذا القول هو الرَّاجحُ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه إنْ صَلَّى مستلقياً ورأسُه إلى القِبلة، لا تَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّه لو قامَ لكان مستدبِراً للقِبلةِ.
وكذلك لو صَلَّى مستلقياً ورِجْلاه إلى يسارِ القِبلةِ أو يمين القِبلةِ لا تصِحُّ، لأنه لو قامَ لكانت القِبلةُ عن يمينه أو عن يسارِه، فلا بُدَّ إذن أن تكونَ رِجلاه إلى القِبلةِ. وخِلافُ ذلك أن تكون رِجلاه إلى عكس القِبلةِ، أو إلى يمين القِبلةِ، أو إلى يسارِ القِبلةِ، ففي هذه الصُّور الثَّلاث لا تصِحُّ صلاتُه، فصار ترتيبُ صلاةِ المريضِ كما يلي:
يصلِّي قائماً، فإنْ لم يستطعْ فقاعداً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ، فإنْ لم يستطع فمستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ، فهذه هي المرتبةُ الرابعةُ على القولِ الرَّاجحِ، أما على كلامِ المؤلِّفِ فإنَّها في مرتبة الصَّلاةِ على الجَنْبِ فتدخلُ في المرتبة الثالثة لكنها مفضولةٌ. والصَّحيحُ: أنَّها مرتبة رابعةٌ مستقلَّةٌ، لا تَصِحُّ إلا عند العجزِ عن المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: «ويومئ» أي: المريض المصلِّي جالساً راكعاً وساجداً، أي: في حالِ الرُّكوعِ والسُّجودِ ويخفضه، أي: السجود عن الركوع، أي: يجعل السُّجودَ أخفضَ، وهذا فيما إذا عَجَزَ عن السُّجُودِ، أما إذا قَدِرَ عليه فيومئ بالرُّكوعِ ويسجد؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فإن لم يستطعْ أومأ بالسُّجودِ، مثل: أن يكون المرضُ في عينه، وقال الطبيب له: لا تسجدْ، أو(4/330)
يكون في رأسه، وإذا نَزَلَ رأسُه اشتدَّ الوجعُ وقَلِقَ به، فنقول: هنا تومئ بالسُّجودِ، وتجعل السُّجودَ أخفضَ مِن الركوع؛ ليتميّز السجودُ عن الركوعِ، ولأن هذا هو الحال فيمن كان قادراً، فإنَّ الساجدَ يكون على الأرضِ والراكعَ فوق، هذا إذا كان جالساً.
فإن كان مضطجعاً على الجنبِ فإنَّه يومئ بالرُّكوعِ والسُّجودِ، ولكن كيف الإِيماءُ؟ هل إيماءٌ بالرأسِ إلى الأرضِ بحيث يكون كالملتفت، أو إيماء بالرأس إلى الصدر؟
الجواب: أنه إيماءٌ بالرأسِ إلى الصدرِ؛ لأنَّ الإِيماءَ إلى الأرضِ فيه نوعُ التفاتٍ عن القِبلةِ، بخلاف الإِيماءِ إلى الصدرِ، فإن الاتجاه باقٍ إلى القِبْلة، فيومئُ في حال الاضطجاعِ إلى صَدْرِه قليلاً في الركوع، ويومئُ أكثرَ في السُّجودِ.
فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِعَيْنِهِ،...........
قوله: «فإن عجز أومأ بعينه» يعني: إذا صار لا يستطيعُ أنْ يومئَ بالرأسِ فيومئُ بالعينِ، فإذا أرادَ أنْ يركعَ أغمضَ عينيه يسيراً، ثم إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لمَن حمِده» فتح عينيه، فإذا سَجَدَ أغمضهما أكثر، وفيه حديثٌ عن النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «فإنْ لم يستطعْ أومأ بطَرْفِهِ» (1) لكن هذا الحديثُ ضعيفٌ، ولهذا لم يذهب إليه كثيرٌ مِن العلماءِ، وقالوا: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه الأفعالُ.
وقال بعض العلماء: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه الصَّلاةُ، فهنا ثلاثةُ أقوال:
__________
(1) لم أعثر عليه.(4/331)
القول الأول: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ يومئُ بعينِه.
القول الثاني: تسقطُ عنه الأفعالُ، من دونِ الأقوالِ.
القول الثالث: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، يعني: لا تجبُ عليه الصَّلاةُ أصلاً، وهذا القولُ اختيارُ شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله.
والرَّاجحُ مِن هذه الأقوال الثلاثة: أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛ لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقطُ عنه، لأنه قادرٌ عليها، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فنقول: كَبِّرْ، واقرأْ، وانْوِ الرُّكوعَ، فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ الرُّكوعِ، ثم انْوِ القيامَ وقُلْ: «سَمِعَ الله لمن حمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ» إلى آخرِه، ثم انْوِ السُّجودَ فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ السُّجودِ؛ لأن هذا مقتضى القواعد الشرعيَّةِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ مشلولاً ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟
الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ. هذا هو الرَّاجحُ؛ لأن الصَّلاةَ أقوالٌ وأفعالٌ بنيَّةٍ، فإذا سقطت أقوالُها وأفعالُها بالعجزِ عنها بقيت النِّيةُ، ولأن قولنا لهذا المريض: لا صلاةَ عليك قد يكون سبباً لنسيانه الله، لأنه إذا مرَّ عليه يومٌ وليلةٌ وهو لم يُصلِّ فربَّما ينسى اللهَ عزّ وجل، فكوننا نشعرُه بأن عليه صلاةً لا بُدَّ أن يقومَ بها ولو بنيَّةٍ خيرٌ مِن أن نقول: إنَّه لا صلاةَ عليه. والمذهب في هذه المسألة أصحُّ مِن(4/332)
كلامِ شيخِ الإِسلامِ ابن تيمية رحمه الله، حيث قالوا: لا تسقطُ الصَّلاةُ ما دام العقلُ ثابتاً، فما دام العقلُ ثابتاً فيجبُ عليه مِن الصَّلاةِ ما يقدِرُ عليه منها.
تنبيه: بعض العامة يقولون: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ أومأَ بالإِصبعِ، فينصب الأصبعَ حالَ القيام ويحنيه قليلاً حالَ الركوعِ ويضمُّه حالَ السُّجودِ لأنه لما عَجَزَ بالكلِّ لزمه بالبعض، والإصبع بعضٌ مِن الإِنسانِ، فإذا عَجَزَ جسمُه كلُّه فليكن المصلِّي الإِصبع، والسَّبَّابةُ أَولى؛ لأنها التي يُشار بها إلى ذِكْرِ الله ودُعائِه، فلو أومأ بالوسطى فقياس قاعدتهم أنَّ الصلاةَ لا تصِحُّ؛ لأن السَّبَّابةَ هي المكلَّفة بأن تصلِّي، وهذا لا أصلَ له، ولم تأتِ به السُّنَّةُ، ولم يقلْه أهلُ العِلمِ، ولكن ـ سبحان الله ـ مع كونِه لم يقلْه أحدٌ مِن أهلِ العِلم فيما نعلمُ فمشهورٌ عندَ العامةِ، فيجب على طلبةِ العلمِ أن يبيِّنوا للعامة بأن هذا لا أصلَ له، فالعين وهي محلُّ خِلافٍ بين العلماء سبق لنا أن الصَّحيح أنه لا يصلِّي بها فكيف بالإصبع الذي لم تردْ به السُّنَّةُ لا في حديثٍ ضعيفٍ ولا صحيحٍ؟ ولم يقلْ به أحدٌ مِن أهلِ العِلم فيما نعلم.
مسألة: لو كان يعجَزُ عن القيامِ في جميعِ الركعةِ، لكن في بعضِ القيامِ يستطيع أن يقفَ نصفَ القراءة، فهل نقول: ابدأ الصَّلاةَ قاعداً، ثم إذا قاربت الركوعَ فَقُمْ، أو نقول: ابتدئِها قائماً فإذا شَقَّ عليك فاجلسْ؟
إذا نظرنا إلى فِعْلِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم في قيام الليل أنَّه لما كَبِرَ عليه الصَّلاة والسلام صار يقومُ الليلَ جالساً، فإذا بقيَ عليه مِن(4/333)
السُّورةِ ثلاثون أو أربعون آيةً قامَ فقرأهنَّ ثم رَكَعَ (1) . قلنا: السُّنَّةُ أن يبتدئَها قاعداً ثم يقومُ. وإذا نظرنا إلى أن القيامَ في الفريضةِ رُكْنٌ قلنا: ابدأ بالرُّكنِ أولاً، ثم إذا شَقَّ عليك فاجلسْ بناءً على القاعدةِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
ونقول أيضاً: ربَّما يَظنُّ أنّه يَشقُّ عليه ثم لا يَشقُّ ويُعان عليه، وربَّما يتمكَّن مِن قراءةِ الفاتحةِ ويركع وإن لم يقرأ ما بعدَها مِن السُّور، وهذه المسألةُ تحتاج إلى تحريرٍ، فمَن نظر إلى فِعْلِ الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم في قيامِ الليلِ رجَّح أن يصلِّي جالساً، فإذا قاربَ الرُّكوع قامَ، ومَن نَظَرَ إلى أن القيام رُكْنٌ، قال: الأَولى أن يبدأَ بالرُّكنِ فيقومُ فإذا تعب جَلَسَ وتتميز الصفة الأُولى بأنه يتمكَّنُ مِن الركوع؛ بخلاف الثانية فإنَّه يركع بالإِيماء.
فَإِنْ قَدِرَ أَوْ عَجَزَ فِي أَثْنَائِها انْتَقَلَ إِلَى الآخَرِ،...........
قوله: «فإن قَدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر» إن قَدِرَ المريضُ في أثناءِ الصَّلاةِ على فِعْلٍ كان عاجزاً عنه انتقل إليه.
مثاله: رَجُلٌ مريضٌ عَجَزَ عن القيامِ فشرعَ في الصَّلاةِ قاعداً، وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فنقول له: قُمْ بناءً على القاعدةِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] «صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً» (2) وبالعكس فإذا كان في أول الصَّلاةِ نشيطاً فَشَرَعَ في الصَّلاةِ قائماً، ثم تعبَ فجلسَ، نقول: لا بأسَ للآية
__________
(1) أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب إذا صَلَّى قاعداً ثم صَحّ أو وجد خفة تمم ما بقي (1118) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز النافلة قائماً وقاعداً (731) (111) .
(2) تقدم تخريجه ص (326) .(4/334)
الكريمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وللحديث: «صَلِّ قائماً فإنْ لم تستطعْ فقاعداً» ، وهذا يشمَلُ ما إذا كان العجزُ ابتداءً أو طارئاً.
مسألتان:
المسألة الأولى: لو أتمَّ قراءةَ الفاتحةِ وهو قائمٌ مِن القعودِ في حالِ نهوضِه فهل يجزئه؟
مثاله: مريضٌ يصلِّي قاعداً، فلما وَصَلَ إلى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فقام، وفي أثناء قيامه قرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} .
المسألة الثانية: لو أتمَّها وهو عاجزٌ عن القيامِ حالَ هبوطِه فهل يجزئه؟
مثاله: إنسانٌ يصلِّي قائماً، وفي أثناء القيامِ لما وَصَلَ إلى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} تعب فنزلَ، وفي أثناء نزوله قرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} .
قال الفقهاء: أما في المسألة الأُولى فلا تجزئِه؛ لأنه لما قَدِرَ على القيام صار القيام فرضاً، والفاتحةُ يجب أن تُقرأ وهو قائمٌ إذا كان قادراً على القيام، وقد قرأها في حالِ نهوضِه، والنهوضُ دون القيامِ.
أما في المسألة الثانية فتجزئه؛ لأنَّ حالَ الهبوطِ أعلى مِن حالِ القعودِ.
ولكن؛ لو قيل: إنَّ قولَه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] يشمَلُ الصُّورةَ الأُولى؛ لأنَّ الرَّجُلَ الذي قَدِرَ في أثناء(4/335)
الجلوسِ على القيامِ، نهوضُه هذا هو غايةُ قدرتِه، فإذا كان نهوضُه غايةَ قدرتِه، فقد قرأ الفاتحةَ في الحال التي هي قدرتُه فتجزئه، وهذا أقربُ؛ ولأنَّ الرَّجُلَ الآن شارعٌ فيما يجب عليه، فهذا الشروعُ ثابتٌ بأمرِ الله، فإذا قرأ أجزأه، ولكن احتياطاً لهذا الأمر نقول: إذا قدرتَ على القيامِ فاسكت لا تقرأ حتى تستتمَّ قائماً ثم أكمل.
وَإِنْ قَدِرَ عَلَى قِيَامٍ وَقُعُودٍ دُونَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَوْمَأَ بِرُكُوعٍ قَائِماً وَبِسُجُودٍ قَاعِداً،...........
قوله: «وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجود قاعداً» أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ بالرُّكوعِ قائماً.
والدليلُ قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول: اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن.
والظاهر: أنه لا يستطيع السُّجودَ حسب الطائرات التي نعرفُ، فنقول: اجلسْ على الكرسيِّ، ثم أومئْ إيماءً بالسُّجودِ.(4/336)
كلُّ هذا مأخوذٌ مِن هذه الآية الكريمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فمَن لم يقدِرْ على الرُّكوعِ أومأ به قائماً، ومَن لم يقدِرْ على السُّجودِ أومأ به جالساً.
مسألة: إذا كان لا يستطيعُ السُّجودَ على الجبهة فقط؛ لأنَّ فيها جروحاً لا يتمكَّنُ أن يمسَّ بها الأرض، لكن يقدِرُ باليدين وبالركبتين فماذا يصنع؟
الجواب: نأخذ بالقاعدة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فيضعُ يديه على الأرضِ ويدنو مِن الأرضِ بقَدْرِ استطاعتِه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وأما قولُ مَن قال مِن العلماءِ: إنَّه إذا عَجَزَ عن السُّجودِ بالجبهة لم يلزمه بغيرِها، فهذا قول ضعيفٌ؛ لأننا إذا طبَّقنا الآية الكريمة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} كانت دالةً على أنه يجب أن يسجدَ على الأرضِ بما استطاعَ مِن أعضائِه، فإذا كان يستطيعُ أن يسجدَ على الكفين وَجَبَ.
ولو فَرَضْنا أنه لا يستطيعُ أن يسجدَ أبداً، بمعنى: لا يستطيعُ أن يحني ظهرَه إطلاقاً فحينئذ لا يلزمه أن يضعَ يديه على الأرضِ؛ لأنه لا يقرب مِن هيئةِ السُّجودِ، أما لو كان يستطيعُ أنْ يدنوَ مِن الأرضِ حتى يكون كهيئة السَّاجدِ، فهنا يجب عليه أنْ يسجدَ، ويُقرِّبَ جبهتَه مِن الأرضِ ما استطاعَ.
مسألة: رَجُلٌ مريضٌ يقول: إنْ ذهبتُ إلى المسجدِ لم أستطعْ القيامَ؛ لأني أَصِلُ إلى المسجدِ وأنا متعبٌ فلا أستطيعُ القيامَ، وإن صلَّيتُ في بيتي صلَّيت قائماً؛ لأني لم أتعبْ ولم تحصُلْ عليَّ مشقَّةٌ. وأيضاً: ربَّما يطوِّلُ الإِمامُ تطويلاً يشقُّ عليَّ،(4/337)
وفي بيتي أصلِّي كما شئتُ، فهل نقول: يجبُ عليك أن تذهبَ إلى المسجدِ ثم تصلِّي ما استطعتَ. أو نقول: يجبُ عليك أن تصلِّي في بيتِك؛ لأنَّ القيامَ رُكنٌ وصلاةُ الجماعةِ واجبة، أو نقول: تخيَّر؛ لأنَّه تعارضَ واجبان؟
للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
فمِن العلماءِ مَن قال: إنه يُخيَّر لتعارض الواجبين، واجب الجماعة، وواجب القيام وليس أحدهما أولى بالترجيح مِن الآخر.
ومنهم مَن قال: يقدِّم القيامَ، فيصلِّي في بيتِه قائماً؛ لأنَّ القيامَ رُكْنٌ بالاتفاقِ؛ لقول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلِّ قائماً» (1) ، وصلاةُ الجماعةِ أقلُّ وجوباً لما يلي:
أولاً: وجود الخِلاف في وجوبها.
ثانياً: فإذا وجبت هل هي فرضُ كِفاية، أو فرضُ عين.
ثالثاً: إذا كانت فرضَ عينٍ، فهل هي واجبةٌ في الصلاةِ بحيث تبطل الصَّلاةُ بتركها بلا عُذر، أو واجبة للصَّلاةِ تصحُّ الصلاةُ بدونها مع الإِثم.
ومنهم مَن قال: يجب أن يحضر إلى المسجدِ، ثم يصلِّي قائماً إن استطاعَ، وإلا صَلَّى جالساً؛ لأنَّه مأمورٌ بإجابة النِّداء، والنِّداءُ سابقٌ على الصَّلاةِ فيأتي بالسَّابق فإذا وَصَلَ إلى المسجدِ، فإن قَدِرَ صَلَّى قائماً وإلا فلا، وأيضاً: ربَّما يَظنُّ أنه إذا ذهبَ إلى
__________
(1) تقدم تخريجه ص (326) .(4/338)
المسجدِ لا يستطيعُ القيامَ، ثم يمدُّه الله عزّ وجل بنشاطٍ ويستطيعُ القيامَ.
والذي أميلُ إليه ـ ولكن ليس ميلاً كبيراً ـ هو أنَّه يجب عليه حضورُ المسجد، ويدلُّ لذلك حديث ابن مسعود الثابت في «صحيح مسلم» : «وكان الرَّجُلُ يُؤتى به يُهادى بين الرَّجلينِ حتى يُقامَ في الصَّفِّ» (1) ومثل هذا في الغالب لا يقدِرُ على القيام وحدَه، فيجب أن يحضرَ إلى المسجدِ، ثم إن قَدِرَ على القيام فذاك، وإنْ لم يقدِرْ فقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وَلِمَرِيضٍ الصَّلاَةُ مُسْتَلْقِياً مَعَ القُدْرَةِ عَلَى القِيَامِ لِمُدَاوَاةٍ بِقَوْلِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ.
قوله: «ولمريض الصلاة» اللام هنا للإِباحة، واعلمْ أنَّ العلماءَ قد يعبِّرونَ عن الشيءِ بصورةِ المباحِ دفعاً للمنع لا قصداً للإِباحةِ، فالمعنى: أنَّه لا يمتنع عليه، وحينئذٍ لا يمنع أن يكون ذلك أمراً مطلوباً أو أمراً واجباً، ولهذا أمثلة كثيرة.
منها قولهم في كتاب الحج: «ولمن أحرم مفرداً أن يجعل إحرامه عمرة ليكون متمتعاً» يعني: له أنْ يفسخُ نِيَّةَ الحجِّ إلى العمرةِ؛ ليكون متمتعاً فيأتي بالعمرة، ثم يَحِلُّ منها، وإذا كان في اليوم الثامن مِن ذي الحجَّة أحرمَ بالحجِّ، ومرادهم بقولهم: «له» دفع المنع وإلا فهو سُنَّةٌ.
فالمهمُّ أنَّهم عبَّروا باللام «له» ومرادهم بذلك دَفْعُ قولِ مَن يقول: إنَّ هذا لا يجوزُ، لأنَّ بعضَ العلماءِ رحمهم الله يقول: لا يجوزُ لمَن أحرمَ بالحَجِّ أن يحوِّلَه إلى عُمرة ليكون متمتعاً، ومع
__________
(1) تقدم تخريجه ص (135) .(4/339)
هذا فالذين عبَّروا بقوله: «له» يريدون أنه مستحبٌّ، بل بعضُهم يرى أنَّ مَن أحرمَ بالحَجِّ وليس معه هدي أنه يجب أن يحوِّلَه إلى عُمرة ليصير متمتِّعاً.
قوله: «مستلقياً» يعني: مستلقياً على ظهرِه.
قوله: «مع القدرة على القيام» أي: هو قادر أن يقومَ، لكن قال له الطبيب: لا بُدَّ أن تصلِّيَ مستلقياً ولا تقوم، وهذا يأتي فيما لو كان المرضُ في عينِه فأُجريت له عمليةٌ، وقال له الطبيب: لا بُدَّ أن تكون مستلقياً لمدَّة كذا وكذا، وحينئذٍ نقول: صَلِّ مستلقياً ولو كنت قادراً على القيامِ، وذلك لأمرِ الطبيبِ.
قوله: «بقول طبيب مسلم» اشترط المؤلِّف لجواز الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام أنْ يكون عن قولِ طبيبٍ مسلمٍ فهذان شرطان: أن يكون طبيباً، وأن يكون مسلماً.
والطبيب هو: من يعالج المرضى عن معرفةٍ، والمسلمُ ضِدُّ الكافرِ، فلا بُدَّ أن يكون طبيباً، أي: حاذقاً عنده معرفة، ولا بُدَّ أن يكون مسلماً.
فَوَصْفُ الإِسلامِ يعودُ إلى الأمانةِ، ووَصْفُ الطِّبِّ يعودُ إلى القوة، وهما الرُّكنان في كُلِّ عَمَلٍ، قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] قالته إحدى بنتي صاحبِ مَدْيَن، وقال عِفريتٌ مِن الجنِّ لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] لأنَّ الضعيفَ لا يقوم بعملٍ لضعفِهِ، والخائنُ لا يقومُ بالعملِ لخيانتِهِ، فلا بُدَّ في كُلِّ عَمَلٍ مِن هذين الركنين.(4/340)
وعُلِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لو أمرَه بذلك غيرُ طبيب، يعني: أمرَه إنسانٌ عادي مِن الناس، قال له: أظنُّ أنك إذا قمت تصلِّي قائماً فإن ذلك يضرُّك. فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه إذا عَلِمَ بالتجربة أن مثل هذا المرض يضرُّ المريضَ إذا صلَّى قائماً فإنه يعمل بقول شخص مجرِّبٍ، لأنَّ أصلَ الطِّبِّ مأخوذٌ إما عن طريق الوحي، وإما عن طريق التجربة، فطريقُ الوحي مثل قوله تعالى في النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ومثل قول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» (1) الحبةُ السوداء: التي تُسمَّى عندنا السميراء «إلا السام» يعني: إلا الموت.
وكثيرٌ مِن الأدويةِ معلومةٌ بالتجاربِ، فإذا قال إنسانٌ مجرِّبٌ وإن لم يكن طبيباً: إن في صلاتِك قائماً ضرراً عليك، فله أن يصلِّيَ مستلقياً أو قاعداً.
وعُلم من كلامه أيضاً أنه لو أمره بذلك غير مسلم لم يأخذ بقوله لأنَّ هذه أمانة، وغير المسلم ليس بأمين، فقد يقول الطبيب النصراني للمسلم: إنك إذا صلَّيتَ قائماً فعليك ضررٌ مِن أجل أن لا يصلِّي قائماً، مع القدرة على القيام فتبطل صلاته، ولا شكَّ أنَّ هذا مِن جَهْلِ النصراني فإن الإِسلامَ دين اليُسر، فالمريضُ إذا ضرَّه القيامُ أو شَقَّ عليه أو خافَ ضررَه، صلَّى قاعداً وله أجر القائم.
وذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون
__________
(1) تقدم تخريجه ص (23) .(4/341)
الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً.
واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عَمِلَ بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة (1) ، مع أنَّ الحالَ خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مائتي بعير، ولكن لما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رجل أمين، وإن كان كافراً ائتمنه ليدله على الطريق، فأخذ العلماء القائلون بأن المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله عزّ وجل أو رجاء لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم، فإذا قال طبيب غير مسلم ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله.
وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله.
إذاً يمكن أن يلغز بهذه المسألة فيقال: رجل قادر على القيام صح أن يصلي مستلقياً، فنقول: هذا رجل مريض قادر على
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263) وليس فيه تسمية الدليل.(4/342)
القيام قال له الطبيب: إن القيام يضرك، ولا بد أن تبقى مستلقياً فله أن يصلّي مستلقياً.
وَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ قَاعِداً فِي السَّفِينَةِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى القِيَامِ، وَيَصِحُّ الفَرْضُ عَلَى الرَّاحِلَةِ خَشْيَةَ التَّأَذِّي لاَ لِلْمَرَضِ.
قوله: «ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام» أي: الفريضة، لأن النافلة تصح قاعداً مع القدرة على القيام في السفينة وغيرها، وذلك لأن السفينة ليست كالراحلة، لأن السفينة يمكن للإِنسان أن يصلّي فيها قائماً ويركع ويسجد لاتساع المكان، فإذا كان يمكنه وجب عليه أن يصلّي قائماً، وإذا كان لا يمكنه إما لكون الرياح عاصفة والسفينة غير مستقرة فإنه يصلّي جالساً، وإما لكون سقف السفينة قصيراً فإنه يصلّي جالساً، ولكن سبق أنه إذا أمكن أن يقف ولو كراكع وجب عليه (1) .
قوله: «ويصح الفرض على الراحلة» يعني: البعير أو الحمار أو الفرس أو نحو ذلك.
قوله: «خشية التأذي» أطلق المؤلف فيعم التأذي بأي شيء سواء بوحل أو مطر أو غير ذلك، فالمهم أنه يتأذى لو صلّى على الأرض ولا يستقر في صلاته فله أن يصلّي على الراحلة، وقيد المؤلف الصلاة بكونها فرضاً، لأن النفل على الراحلة جائز، سواء خشي التأذي أم لم يخش؛ لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان يصلي النافلة على راحلته حيثما توجهت به» (2) .
وقوله: «يصح الفرض على الراحلة خشية التأذي» لم يذكر
__________
(1) انظر: ص (325) .
(2) تقدم تخريجه (3/241) .(4/343)
المؤلف شيئاً عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل القبلة في جميع الصلاة؛ لأنه قادر عليه إذ يمكنه أن يتوقف في السير ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلِّي.
أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود، لأنه لا يستطيع، والقيام أولى، هذا على الرواحل التي يعرفها العلماء رحمهم الله، وهي الإِبل والحمير والخيل والبغال وشبهها، لكن الراحلة اليوم تختلف فالراحلة اليوم سيارات، وبعض السيارات كالسفن يستطيع الإِنسان أن يصلي فيها قائماً راكعاً ساجداً متجهاً إلى القبلة، فهل يقال: إنه لا يصلّي على هذه الرواحل إلا بشرط التأذي بالنزول؟ أو نقول إذا أمكنه أن يأتي بالواجب فيها فله أن يصلي؟
الجواب: الثاني، لو كانت السيارة أتوبيساً كبيراً، وفيها مكان واسع للصلاة والإِنسان يستطيع أن يصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فلا حرج عليه أن يصلّي؛ لأن هذه السيارات كالسفينة تماماً، لكن الغالب أنها صغار، أو نقل جماعي كله كراسي، لكن إن أمكن فهو كغيره، وفي الطائرات إذا كان يمكنه أن يصلّي قائماً وجب أن يصلّي إلى القبلة قائماً ويركع ويسجد إلى القبلة، وإذا لم يمكنه فإن كانت الطائرة تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل إلى الأرض، فإن كان لا يمكن أن تصل إلى المطار قبل خروج الوقت، فإن كانت هذه الصلاة مما تجمع إلى ما بعدها كالظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، فإنه ينتظر حتى يهبط على الأرض فيصلّيهما جمع تأخير،(4/344)
وإذا كانت الصلاة لا تجمع لما بعدها صلّى على الطائرة على حسب حاله، ولكن إذا قدرنا أن الطائرة فيها مكان متسع يتسع للإِنسان ليصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فهل يجوز أن يصلِّي الصلاة قبل أن يهبط إلى المطار؟
فالجواب: يجوز، وظن بعض الناس أن ذلك لا يجوز، وقالوا: لأن الفقهاء قالوا: لا تصح الصلاة على الأرجوحة؛ لأنها غير مستقرة، والدليل على أنها غير مستقرة، أنك لو سجدت رجّحت من جانبك، وإذا قمت اعتدلت من الجانب الآخر، قالوا: فالطائرة مثلها فلا تصح الصلاة عليها، ولو تمكن الإِنسان من الركوع والسجود والقيام والقعود واستقبال القبلة، ولكن هذا ليس بصحيح، لأن الفرق بين الأرجوحة والطائرة ظاهر جداً؛ فالطائرة مستقرة تماماً، فالإِنسان يأكل فيها ويشرب وينام ولا يتحرك إذا لم يكن هناك عواصف، ولهذا نرى أن الصلاة على الطائرة صحيحة مطلقاً، ولو كان ذلك مع سعة الوقت، ولكن يجب أن يفعل الواجبات من الاستقبال، والسجود، والقيام، والقعود.
فالرواحل أقسامها أربعة:
1 ـ سيارات.
2 ـ حيوان.
3 ـ طائرات.
4 ـ سفن.
واستدلَّ في «الرَّوض» بقول يعلى بن مُرَّةَ: أنَّهم كانوا مع(4/345)
النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في سَفَر، فانتهوا إلى مَضِيقٍ، فحضرتِ الصَّلاةُ، فَمُطِرُوا، السَّماءُ من فَوقِهِم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فأذَّنَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على راحلتِه، وأقامَ، فتقدَّمَ على راحلتِه فصلَّى بهم، يُومِئُ إيماءً، يجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوعِ.
رواه أحمد والترمذي (1) وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
وفي هذا الحديث أنهم يصلّون جماعة، وعلى هذا فيتقدم الإِمام عليهم حتى في الرواحل؛ لأن هذا هو السنّة في موقف الإِمام.
قال في «الروض» : «وكذا إن خاف انقطاعاً عن رفقة في نزوله، أو على نفسه، أو عجزاً عن ركوب إن نزل وعليه الاستقبال وما يقدر عليه» .
أي: إذا خاف انقطاعاً عن رفقته يصلِّي على الراحلة ولو مع الأمن، لأن الإِنسان إذا انقطع عن رفقته فلربما يضيع، وربما يحصُل له مرض أو نوم أو ما أشبه ذلك فيتضرر، فإذا قال: إن نزلت على الأرض وبركت البعير وصليت فاتت الرفقة، وعجزت عن اللحاق بهم، وإن صلّيت على بعيري فإني أدركهم نقول له: صلِّ على البعير {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
__________
(1) أخرجه أحمد (4/173، 174) ؛ والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر (411) . قال الترمذي: «حديثٌ غريبٌ» تفرّد به عُمر بن الرماح البلخي، لا يُعرف إلا مِن حديثه، وقد روى عنه غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العلم ... والعمل على هذا عند أهل العلم.(4/346)
قوله: «لا للمرض» يعني: لا تصح الفريضة على الراحلة للمرض، لأن المريض يمكنه أن ينيخ الراحلة وينزل على الأرض ويصلِّي، ولكن إذا علمنا أن هذا المريض لو نزل لم يستطع الركوب؛ لأنه ليس عنده من يركبه، وهذا قد يقع فيصلِّي على الراحلة، لأن هذا أعظم من التأذي بالمطر وأخطر.
فقول المؤلف: «لا للمرض» ليس على إطلاقه بل نقول: لا للمرض إذا كان يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن يصلِّي على الراحلة للمرض، لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه.
فَصْلٌ
مَنْ سَافَرَ سَفَرَاً مُبَاحاً..........
قوله: «فصل» ، ذكر المؤلف رحمه الله أن الأعذار التي تتغير بها الصلاة ثلاثة:
1 ـ السفر.
2 ـ المرض.
3 ـ الخوف.
ولما ذكر المؤلف العذر بالمرض أعقبه بذكر العذر بالسفر فقال: «من سافر سفراً مباحاً» «من» : اسم شرط، والمعروف أن أسماء الشرط تفيد العموم، فيشمل كل من سافر من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير.
وقوله: «سفراً مباحاً» «السفر» في اللغة: مفارقة محل(4/347)
الإِقامة، وسمي بذلك؛ لأن الإِنسان يسفر بذلك عن نفسه، فبدلاً من أن يكون مكنوناً في بيته أصبح ظاهراً بيِّناً بارزاً، ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ *} [المدثر] أي: تبين وظهر.
وقال بعض العلماء: إنما سمّي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يوضحها ويبيّنها، فإن كثيراً من الناس لا تعرف أخلاقه ولا حسن سيرته إلا إذا سافرت معه، وكان بعض القضاة من السلف إذا شهد شخص لآخر بتزكية قال له: هل سافرت معه؟ فإن قال: لا، قال: هل عاملته؟ قال: لا، قال: إذن لا تعرفه.
فالسفر يبيّن أخلاق الرجال، وكم من إنسان في البلد تراه كل يوم وتشاهده ولا تعرف عن أخلاقه ومعاملاته شيئاً، فإذا سافرت معه تبين لك من أخلاقه ومعاملاته، لا سيما فيما سبق من الزمان حيث كانت الأسفار تستمر أياماً كثيرة، أما سفرنا اليوم فإنه لا يبيّن عن أخلاق الرجال؛ لأن السفر من الرياض إلى القصيم في الطائرة في خمس وثلاثين دقيقة. ولكن الأسفار الطويلة هي التي تبيّن الرجال.
وقوله: «سفراً مباحاً» هذا هو الشرط الأول للقصر. والمراد بالمباح هنا: ما ليس بحرام ولا مكروه، فيشمل الواجب والمستحب والمباح إباحة مطلقة، لأن الأسفار تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 ـ حرام.
2 ـ مكروه.(4/348)
3 ـ مباح.
4 ـ مستحب.
5 ـ واجب.
فالسفر لفعل المحرم: محرم، ومن السفر المحرم سفر المرأة بلا محرم.
وسفر المرء وحده: مكروه.
والسفر للنزهة: مباح.
والسفر لفريضة الحج: واجب، وللمرة الثانية في الحج مستحب.
وقوله: «سفراً مباحاً» خرج به المحرم والمكروه، وعلى هذا فلو سافر الإِنسان سفراً محرماً لم يبح له القصر؛ لأن المسافر سفر معصية لا ينبغي أن يرخص له إذ إن الرخصة تسهيل وتيسير على المكلف، والمسافر سفراً محرماً لا يستحق أن يسهل عليه ويرخّص له، فلهذا منع من رخص السفر، فمنع القصر، ومنع من المسح على الخفين ثلاثة أيام، ومنع من الفطر في رمضان، ولكن العلاج سهل فنقول: تب إلى الله، فإذا كان في منتصف الطريق في السفر المحرم، وقال: أستغفر الله وأتوب إليه رجعت الآن إلى بلدي ففي رجوعه هنا يقصر، لأنه انقلب السفر المحرم مباحاً.
وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم، وقالوا: إن هذا ليس برخصة، فإن صلاته الركعتين في السفر، ليست تحويلاً من(4/349)
الأربع إلى الركعتين، بل هي من الأصل ركعتان، والرخصة هو التحويل من الأثقل إلى الأخف، أما صلاة المسافر فهي مفروضة من أول الأمر ركعتين، وعلى هذا فيجوز للمسافر سفراً محرماً أن يصلِّي ركعتين، ولا يشترط على هذا الرأي إباحة السفر، وهذا القول قول قوي، لأن تعليله ظاهر، فالقصر منوط بالسفر على أن الركعتين هما الفرض فيه، لا على أن الصلاة حوّلت من أربع إلى ركعتين، كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري» وغيره عن عائشة رضي الله عنها: «أن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ركعتين» (1) وحينئذ تبين أن الركعتين في السفر عزيمة لا رخصة وعليه فلا فرق بين السفر المحرم والسفر المباح.
وقال بعض العلماء: لا قصر إلا في سفر الطاعة كالحج والعمرة، وزيارة الوالدين ونحوها، وأما المباح فلا قصر فيه، وهذا القول مقابل لقول من قال: إنه يقصر حتى في السفر المحرم.
أَرْبَعَة بُرُدٍ...........
قوله: «أربعة برد» هذا هو الشرط الثاني من شروط القصر.
والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم وسمّي بريداً، لأنه فيما سبق كانوا إذا أرادوا المراسلات السريعة يجعلونها في البريد، فيرتبون بين كل نصف يوم مستقراً ومستراحاً يكون فيه خيل إذا وصل صاحب الفرس الأول إلى هذا المكان نزل عن
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (350) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (685) (1) .(4/350)
الفرس لتستريح، وركب فرساً آخر إلى مسيرة نصف يوم، فيجد بعد مسيرة نصف يوم مستراحاً آخر فيه خيل ينزل عن الفرس التي كان راكبها ثم يركب آخر، وهكذا لأن هذا أسرع وفي الرجوع بالعكس، فالبريد عندهم مسيرة نصف يوم فتكون أربعة البرد يومين، وقدروه بالمساحة الأرضية بأربعة فراسخ، فتكون أربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ قدّروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلاً، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف = كيلو وستمائة متر.
وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان قاصدان بسير الإِبل المحملة.
فـ «قاصدان» يعني: معتدلان بمعنى أن الإِنسان لا يسير فيها ليلاً ونهاراً سيراً بحتاً، ولا يكون كثير النزول والإِقامة، فهما يومان قاصدان.
وقوله: «أربعة برد» يقتضي أن ما دونها ولو بشبر واحد لا يبيح القصر، وما بلغها فهو سفر قصر يترخص فيه ولو قطعه بنصف ساعة أو أقل ولو رجع في ساعته، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.
والصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة؛ لأن التحديد كما قال صاحب المغني: «يحتاج إلى توقيف، وليس لما صار إليه المحددون حجة، وأقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، ولأن التقدير مخالف لسنة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولظاهر القرآن، ولأن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي(4/351)
مجرد، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإِجماع على خلافه» .اهـ. والتوقيف معناه الاقتصار على النص من الشارع، والله عزّ وجل يعلم أن المسلمين يسافرون في الليل والنهار ولم يرد حرف واحد يقول: إن تحديد السفر مسافته كذا وكذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة بطلب التحديد في السفر، مع أنهم في الأشياء المجملة يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تفسيرها وبيانها، فلما لم يسألوا علم أن الأمر عندهم واضح، وأن هذا معنى لغوي يرجع فيه إلى ما تقتضيه اللغة وإذا كان كذلك ننظر هل للسفر حد في اللغة العربية؟ ففي مقاييس اللغة لابن فارس: ما يدل على أنه مفارقة مكان السكنى.
وإذا كان لم يرو عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم تقييد السفر بالمسافة، وليس هناك حقيقة لغوية تقيده كان المرجع فيه إلى العرف وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين (1) . ومعلوم أن ثلاثة فراسخ نسبتها إلى ستة عشر فرسخاً يسيرة جداً.
فالصحيح أنه لا حد للمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف، ولكن شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إن المسافة الطويلة في الزمن القصير سفر، والإِقامة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، فالمسألة لا تخلو من أربع حالات:
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (691) (12) .(4/352)
1 ـ مدة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه، كما لو ذهب في الطائرة من القصيم إلى مكة، وبقي فيها عشرة أيام.
2 ـ مدة قصيرة في مسافة قصيرة فهذا ليس بسفر، كما لو خرج مثلاً من عنيزة إلى بريدة في ضحى يوم ورجع، أو إلى الرس أو إلى أبعد من ذلك، لكنه قريب لا يعد مسافة طويلة.
3 ـ مدة طويلة في مسافة قصيرة بمعنى أنه ذهب إلى مكان قريب لا ينسب لبلده، وليس منها، وبقي يومين أو ثلاثة فهذا سفر، فلو ذهب إنسان من عنيزة إلى بريدة مثلاً ليقيم ثلاثة أيام أو يومين أو ما أشبه ذلك فهو مسافر.
4 ـ مدة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مثلاً من القصيم إلى جدة في يومه ورجع فهذا يسمى سفراً؛ لأن الناس يتأهبون له، ويرون أنهم مسافرون.
مسألة: إن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ فهنا يتجاذب المسألة أصلان:
الأصل الأول: أن السفر مفارقة محل الإِقامة، وحينئذٍ نأخذ بهذا الأصل فيحكم بأنه سفر.
الأصل الثاني: أن الأصل الإِقامة حتى يتحقق السفر، وما دام الإِنسان شاكاً في السفر، فهو شاك هل هو مقيم أو مسافر؟ والأصل الإِقامة، وعلى هذا فنقول في مثل هذه الصورة: الاحتياط أن تتم؛ لأن الأصل هو الإِقامة حتى نتحقق أنه يسمى سفراً.(4/353)
سُنَّ لَهُ قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ إِذَا فَارَقَ عَامِرَ قَرْيَتِهِ، أَوْ خِيَامَ قَوْمِهِ.
قوله: «سنّ له قصر رباعيةٍ ركعتين» «سنّ له» السنّة لها اصطلاحان: اصطلاح عند الفقهاء، واصطلاح في لغة الصحابة وسلف الأمة.
فالسُّنَّة عند سلف الأمة وعند الصحابة هي الطريقة التي كان عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء كانت واجبة أم مستحبة، ومن ذلك قول أنس بن مالك رضي الله عنه: «من السنّة إذا تزوج البكر على الثيب أن يقيم عندها سبعاً» (1) فهذه سنّة واجبة.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما حين سئل عن الرجل يصلي مع الإِمام المقيم أربعاً، وإذا صلّى وحده وهو مسافر صلّى ركعتين قال: «تلك هي السنّة» (2) أي: السنّة الواجبة.
أما في اصطلاح الفقهاء فهي: التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقول المؤلف هنا: «سنّ له قصر رباعية» هذه سنّة اصطلاحية يعني: أن الراجح والذي يثاب عليه قصر الرباعية ركعتين.
والرباعية هي: الظهر والعصر والعشاء، ودليل ذلك: كتاب الله، وسنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإجماع الأمة..
أما في القرآن فقال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}
__________
(1) تقدم تخريجه (1/168) وهو في الصحيحين.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/216) .(4/354)
[النساء: 101] فقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} ونفي الجناح هنا لا يعني ارتفاع الإِثم فقط كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] بل معناه انتفاء المانع، أي: ليس بمانع أن يطوف بهما، وليس بمانع أن تقصروا من الصلاة، فإذا انتفى المانع نرجع إلى ما تقتضيه الأدلة الأخرى، فالأدلة الأخرى في الصلاة تقتضي أن القصر راجح على الإِتمام.
والدليل فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سافر صلّى ركعتين (1) ، ولم يحفظ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى أربعاً في سفر قط، بل في كل أسفاره الطويلة والقصيرة كان يصلي ركعتين.
وأما إجماع المسلمين: فهذا أمر معلوم بالضرورة، كما قال ابن عمر: «إنِّي صَحِبتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم في السَّفَرِ، فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ أبا بكرٍ؛ فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ عُمَر فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، ثم صَحِبتُ عثمان فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ» (2) .
ولكن في دليل الكتاب شيء من التوقف والإِشكال، وهو أن الله تعالى قال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقيد الله عزّ وجل هذا بخوف الفتنة من الكفار، والمراد بخوف الفتنة هنا: أن يمنعوكم من إتمام
__________
(1) و (2) أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب من لم يتطوع في السفر (1102) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (689) (8) .(4/355)
صلاتكم، ولكن هذا الشرط مرتفع بسنّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم التي أخبر بها عن ربِّه، فإن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أشكل عليه هذا القيد، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّها صدقةٌ، تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صَدَقَته» (1) ، فصارت إباحة القصر في الأمن صدقةٌ تصدَّق الله بها علينا.
وقال بعض العلماء: إن قصر الصلاة ينقسم إلى قسمين: قصر عدد وقصر هيئة، فإذا اجتمع الخوف والسفر اجتمع القصران، وإن انفرد أحدهما انفرد بالقصر الذي يلائمه، فإذا انفرد السفر صار القصر بالعدد، وإذا انفرد الخوف صار القصر بالهيئة، وإن اجتمعا صار في هذا وفي هذا. وهذه مناسبة جيدة وطلب للعلة والحكمة، ولكن الذي يَفْصِلُ هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنها صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» .
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» الرباعية ثلاث صلوات: الظهر والعصر والعشاء، أما الثلاثية فلا تقصر؛ لأنها لو قصرت لفات المقصود منها وهي الوترية؛ ولأنها لا يمكن أن تقصر على سبيل النصف؛ إذ ليس هناك صلاة تكون ركعة ونصفاً، وأما الثنائية فلا تقصر أيضاً لأنها لو قصرت لكانت وتراً ففات المقصود، وهذا التعليل الذي قلته إنما هو بيان لوجه الحكمة، وإلا فالأصل هو اتباع النص، لأن ركعات الصلاة من الأمور التي لا تبلغها العقول، ولكننا نقول هذا من باب ذكر المناسبة وهي: لماذا لم يشرع القصر إلا في الرباعيات؟
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (686) (4) .(4/356)
وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: «من سافر» أنه لا يمكن قصر بدون سفر حتى لو كان الإِنسان في أشد المرض، فإنه لا يقصر.
فالمرض والشغل والتعب لا يمكن أن يكونا سبباً للقصر، ولهذا لو زار أحدكم مريضاً وسأله كيف تصلي؟ فقال: الحمد لله على كل حال لي مدة أقصر الصلاة من شدة المرض، فنقول للمريض: أعِد صلاتك؛ لأنه ليس للقصر سبب سوى السفر.
ولو زار أحدكم مريضاً فسأله عن حاله وعن صلاته؟ قال: الحمد لله على كل حال لي خمسة عشر يوماً أجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فنقول: فعلك صحيح؛ لأن الجمع يجوز في حال المشقة، فأينما وجدت المشقة في سفر أو حضر جاز الجمع بخلاف القصر.
ولو زار أحدكم مريضاً آخر فقال له: كيف حالك، وكيف صلاتك؟ فقال: الحمد لله على كل حال لست أصلي الصلوات الخمس إلا جميعاً عند النوم؛ لأن ذلك يتعبني ... فماذا نقول له؟
الجواب: نقول له: تب فقط، لأنه لو أعاد صلاته ما استفاد؛ لأنه يصلي الصلاة كاملة، لكنه يؤخر الظهر والعصر عن وقتها، وإذا كان يصلي العشاء أيضاً بعد نصف الليل فإنه أخرج الصلوات كلها عن وقتها، فنقول لهذا أخطأت، ولا يحل لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها، بل صلِّ الصلاة لوقتها على أي حال كانت.(4/357)
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» أفادنا المؤلف أن القصر سنّة، وهذا موضع خلاف، فعلى ما قال المؤلف إن القصر سنّة لو أتم لم يأثم، ولا يوصف بأن عمله مكروه؛ لأنه لا يلزم من ترك السُّنّة الوقوع في المكروه، ولهذا لو أن الإِنسان لم يرفع يديه في الصلاة عند الركوع لم يفعل مكروهاً.
وهذه قاعدة: أنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.
وقال بعض أهل العلم: إن الإِتمام مكروه؛ لأن ذلك خلاف هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم المستمر الدائم فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما أتم أبداً في سفر وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (1) ، وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو قول قوي، بل لعله أقوى الأقوال.
وقال بعض أهل العلم: إن القصر واجب، وأن من أتم فهو آثم.
ودليل هذا ما يلي:
1 ـ حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى» (2) . وهذا قول صحابي يعلم الحكم، ويعلم مدلول الألفاظ وقد صرحت بأن الركعتين فريضة المسافر.
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (3) وهذا كما
__________
(1) تقدم تخريجه (3/27) .
(2) تقدم تخريجه ص (350) .
(3) تقدم تخريجه (3/27) .(4/358)
تدخل فيه الهيئة وهي الكيفية يدخل فيه القدر وهو الكمية، فكما أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في سفر لا يزيد على الركعتين أبداً، وقد أمرنا أن نصلي كما صلّى.
3 ـ أنه فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم المستمر.
4 ـ ورود ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما (1) .
ولكن يعارض القول بالوجوب أصول:
الأصل الأول: أن المؤتم بالمقيم إذا كان مسافراً يصلّي أربعاً تبعاً للإِمام، ومتابعة الإِمام واجبة، والزيادة على الفريضة تبطل الصلاة، ولهذا لو قام إمامك إلى خامسة وأنت تتيقن أنها الخامسة وجب عليك أن تفارقه وأن لا تتابعه، فهنا نقول: لو كان القصر واجباً لكانت متابعة الإِمام في الإِتمام حراماً، كما لو صلى إنسان الفجر خلف من يصلّي الظهر فإنه لا يمكن أن يتابعه على أربع، بل إذا قام إلى الثالثة جلس. ولكن هذا الأصل قد يعارض فيقال: إنما لا تجوز الزيادة على الأربع فيما لو قام الإِمام إلى الخامسة لأن هذا غير مشروع أي لم تشرع صلاة عددها خمس ومتابعة المسافر للإِمام المتم مشروعة، بل هي الأصل في صلاة الحاضر المقيم فبينهما فرق، وكذلك نقول في من صلّى الفجر خلف من يصلي الظهر لا يمكن أن يقوم معه فيتم الأربع، لأن صلاة الفجر لا يمكن أن تكون أربعاً لا في الحضر، ولا في السفر، بخلاف من تابع الإِمام في صلاة مقصورة، والإِمام يتم
__________
(1) انظر: «المصنف» لعبد الرزاق الصنعاني (2/515 ـ 523) ، و «المصنف» لابن أبي شيبة (2/447 ـ 451) .(4/359)
فإن هذه الصلاة نفسها أربع في الحضر، إذن هذا الأصل فيه ضعف.
الأصل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم أتموا خلف عثمان بن عفان رضي الله عنه حينما صلّى في منى، وذلك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان في أول خلافته إلى ست أو ثمان سنين كان يصلي ركعتين ثم صار في آخر خلافته يصلي أربعاً، وكان الصحابة يصلون خلفه مع إنكارهم عليه حتى إن ابن مسعود لما بلغه أنه صلّى أربعاً استرجع قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون» (1) فلو كان القصر واجباً لم يتابعه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه إذا كان واجباً فإن الإِتمام معصية لله، ولا يمكن أن يتابع الصحابة رضي الله عنهم عثمان فيما يرونه معصية لله عزّ وجل، ولكن هذا الأصل أيضاً ربما يعارض بما عورض به الأصل الأول في أنهم إنما يتابعونه فيصلون أربعاً في صلاة تصلى أربعاً فلا غرابة أن يدعوا الركعتين الواجبتين، لا سيما وأنهم لاحظوا معنى آخر وهو الخلاف بين الناس وبين خليفتهم، ولهذا لما سئل ابن مسعود رضي الله عنه: كيف تتم أربعاً وأنت تنكر على عثمان؟ قال: «الخلاف شر» (2) رضي الله عن الصحابة ما أفقههم وأعمق علمهم يتابعون عثمان في أمر عظيم، زيادة عما هو مشروع في العدد، وبعض إخواننا الذين يرون أنهم متبعون للسلف والسنّة يخرجون من المسجد الحرام لئلا يتابعوا الإِمام على دعاء الختمة، وبعضهم لئلا يتابع الإِمام على ثلاث وعشرين ركعة،
__________
(1) تقدم تخريجه ص (62) .
(2) تقدم تخريجه ص (62) .(4/360)
وكأن ثلاثاً وعشرين ركعة من الفسوق والمعصية العظيمة التي يخالف عليها الإِمام، ويخرج من المسجد الحرام من أجلها، وبعضهم يجلس بين المصلين يتحدث إلى أخيه، وربما يجهر بالحديث من أجل أن يشوش ـ والله أعلم ـ على هذه الصلاة البدعية على زعمه!!! على كلٍ أقول: إن هذا من قلة الفقه في الدين، وقلة اتباع السلف والبعد عن منهجهم، فالسلف يكرهون الخلاف، فإنهم وإن اختلفت الأقوال فقلوبهم متفقة، وما أمروا بالاتفاق فيه فعلوه ولو كانوا لا يرونه وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم، وهذه المخالفات التي تقع من قلة الفقه بيننا، وبعدنا عن عصر النبوة عصر النور، ولهذا كلما كانت الأمة أقدم كانت للصواب أقرب بلا شك (1) .
والذي يترجح لي وليس ترجحاً كبيراً هو أن الإِتمام مكروه وليس بحرام، وأن من أتم فإنه لا يكون عاصياً، هذا من الناحية النظرية.
وأما من الناحية العملية فهل يليق بالإِنسان أن يفعل شيئاً يخشى أن يكون عاصياً فيه.
فلا ينبغي من الناحية المسلكية والتربوية، بل افعل ما يكون هو السنة، فإن ذلك أصلح لقلبك حتى وإن كان يجوز لك خلافه، وليس المعنى إما أن يكون الشيء واجباً أو حراماً، أو لك الحرية في فعله أو تركه، فلا ينبغي للإِنسان أن يتم فأقل ما نقول: إنَّ الإِتمام مكروه، لأن النصوص تكاد تكون متكافئة،
__________
(1) انظر أيضاً: ص (62) .(4/361)
فاحرص على أن تصلي ركعتين في سفرك، ولا تزد على ذلك، ولكن إذا أتم الإِمام فإنه يلزمك الإِتمام، لئلا تقع في المخالفة، وهذا من نظر الشرع لاتفاق الأمة، وإن كان ذلك خلاف الأولى بك لو صليت منفرداً.
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» خرج بـ رباعية الثنائية والثلاثية فلا تقصر؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولدينا قاعدة مهمة وهي: كما أن الفعل سنّة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنّة، مع أنه ترك وليس بفعل، ولهذا أمثلة منها: سنية السواك عند دخول المسجد.
فبعض العلماء قال: يسنّ له أن يتسوّك عند دخول المسجد، وبنى ذلك على «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك» (1) ، فقاسوا: دخول المسجد على دخول البيت، وقالوا: إذا كان الإِنسان يتسوّك إذا دخل بيته من أجل أن يقابل أهله بطهارة فم، فكذلك إذا دخل المسجد من أجل أن يناجي ربه بطهارة فم، فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل المسجد ولم يرو عنه أنه كان إذا دخل المسجد بدأ بالسواك، ولو كان هذا سنّة لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالسنّة أن لا يتسوّك إذا دخل المسجد بناء على أن سبب سواكه دخول المسجد، أما لو كان إذا دخل المسجد سيصلي ركعتين فوراً، وأراد أن يتسوّك من أجل الصلاة، لا من أجل دخول المسجد فإن هذا مشروع.
قوله: «إذا فارق عامر قريته» هذا شرط ابتداء القصر، يعني: لا يقصر إلا إذا فارق عامر قريته.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب السواك (253) (43) .(4/362)
والمفارقة: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته؛ لأنها ربما لا تغيب عن نظره إلا بعد مسافة طويلة، وقد ذكر أن زرقاء اليمامة تبصر من مسيرة ثلاثة أيام، بل المراد بالمفارقة: المفارقة البدنية، لا المفارقة البصرية، أي: أن يتجاوز البيوت، ولو بمقدار ذراع، فإذا خرج من مسامتة البيوت ولو بمقدار ذراع فإنه يعتبر مفارقاً.
وقوله: «عامر قريته» لم يقل بيوت قريته؛ لأنه قد يكون هناك بيوت قديمة في أطراف البلد هجرت وتركت ولم تسكن، فهذه لا عبرة بها، بل العبرة بالعامر من القرية، فإذا قدر أن هذه القرية كانت معمورة كلها، ثم نزح أهلها إلى جانب آخر وهجرت البيوت من هذا الجانب فلم يبق فيها سكان فالعبرة بالعامر، فإن كان في القرية بيوت عامرة ثم بيوت خربة ثم بيوت عامرة، فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة الثانية وإن كان يتخللها بيوت غير عامرة.
وقوله: «إذا فارق عامر قريته» أضافها إلى نفسه ليفيد أن المراد قريته التي يسكنها، فلو فرض أن هناك قريتين متجاورتين، ولو لم يكن بينهما إلا ذراع أو أقل، فإن العبرة بمفارقة قريته هو، وإن لم يفارق القرية الثانية الملاصقة أو المجاورة.
قوله: «أو خيام قومه» أي: إذا كانوا يسكنون الخيام فالعبرة بمفارقة الخيام، فإذا فارق الخيام حل له القصر، وعلم من كلامه رحمه الله: أنه لا يجوز أن يقصر ما دام في قريته ولو كان عازماً على السفر ولو كان مرتحلاً، ولو كان راكباً يمشي بين البيوت،(4/363)
فإنه لا يقصر حتى يبرز، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان لا يقصر إلا إذا خرج وارتحل» (1) .
ولأن السفر هو أن يسفر الإِنسان ويبرز ويخرج كما سبق أن السفر مفارقة محل الإِقامة (2) ، ومن كان في محل إقامته فإنه ليس مسافراً.
مسألة: إذا كان في القصيم وخرج إلى المطار، هل يقصر في المطار؟
الجواب: نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار؛ فإنه لا يقصر في المطار، لأنه لم يفارق عامر قريته.
مسألة: وهل له أن يفطر في المطار؟
الجواب: نعم له أن يفطر، فلو أراد أن يسافر في رمضان وخرج وبقي في المطار ينتظر الطائرة، وأقصد بذلك مطار القصيم فإنه يفطر، لأنه فارق عامر قريته، ولو قدر أن الطائرة لم تقلع ولم يحصل السفر ذلك اليوم، هل يعيد الصلاة التي كان قصرها؟
الجواب: لا، لأنه أتى بها بأمر الله موافقة لشرعه، فتكون مقبولة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليها أمرنا فهو رد» (3) فمفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الله ورسوله فهو مقبول.
__________
(1) تقدم تخريجه (352) .
(2) انظر: ص (347) .
(3) تقدم تخريجه (3/5) .(4/364)
مسألة: وهل يلزمه إذا لم تأتِ الطائرة ورجع إلى بلده بعد أن أفطر الإِمساك؟
فيه قولان لأهل العلم.
والصحيح: أنه لا يلزمه، لأنه أفطر بعذر شرعي على وجه مباح، فزالت حرمة النهار في حقه فبقي آخر النهار غير ملزم به. وسيأتي لهذا مزيد بحث في كتاب الصيام إن شاء الله.
مسألة: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص؟
الجواب: لا، لأن السفر حرام حينئذ، ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من أراد التحيُّل على إسقاط الواجب أو فعل المحرم عوقب بنقيض قصده فلا يسقط عنه الواجب ولا يحل له المحرم.
مسألة: إنسان خرج من بلده يتمشّى فهبت رياح أضلته عن الطريق، فصار تائهاً يطلب الطريق، ولم يهتدِ إليه، فهل يقصر الصلاة؟.
الجواب: لا يقصر، لأنه لم ينو مسافة القصر وقد يهتدي إلى الطريق قبل بلوغ المسافة، وكذلك من خرج لطلب بعير شارد لا يقصر؛ لأنه لم ينوِ المسافة.
ولكن الصحيح: أنه يقصر لأنه على سفر.
وَإِنْ أَحْرَمَ حَضَراً ثُمَّ سَافَرَ،...........
قوله: «وإن أحرم حضراً ثم سافر» إلخ تضمن كلامه عدة مسائل يجب فيها الإِتمام:
المسألة الأولى: أحرم ثم سافر، يعني دخل في الصلاة، فالدخول في الصلاة يعتبر إحراماً، ولهذا نسمي التكبيرة الأولى تكبيرة الإِحرام، فهذا رجل كبر للإِحرام وهو مقيم ثم سافر، كما(4/365)
لو كان في سفينة تجري في نهر يشق البلد وكانت راسية فكبّر للصلاة، ثم مشت السفينة ففارقت البلد وهو في أثناء الصلاة فيلزمه أن يتم؛ لأنه ابتداء الصلاة في حال يلزمه إتمامها، فلزمه الإِتمام.
أَوْ فِي سَفَرٍ ثُمَّ أَقَامَ،...........
قوله: «أو في سفر ثم أقام» .
هذه هي المسألة الثانية: أي: أحرم للصلاة في سفر ثم أقام، عكس المسألة الأولى، كما لو كانت السفينة مقبلة على البلد والنهر قد شق البلد فكبّر للإِحرام وهو في السفينة قبل أن يدخل البلد، ثم دخل البلد فيلزمه الإِتمام هذا هو المذهب؛ لأنه اجتمع في هذه العبادة سببان: أحدهما يبيح القصر والثاني يمنع القصر فغلب جانب المنع، فالذي يبيح القصر السفر وهو الذي ابتدأ الصلاة فيه، والذي يمنعه الإِقامة وهو الذي أتم الصلاة فيها فيغلب هذا الجانب؛ لأن الفقهاء عندهم قاعدة وهي: إذا اجتمع مبيح وحاظر فالحكم للحاظر، أو إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر.
ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دَعْ ما يَرِيْبُكَ إلى ما لا يَريْبُكَ» (1) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه (1/32) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52) ؛ ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) (107) .(4/366)
والقول الراجح في هذه المسألة أنه لا يلزمه الإِتمام لأنه ابتدأ الصلاة في حال يجوز له فيها القصر فكان له استدامة ذلك ولا دليل بيّناً على وجوب الإِتمام.
أَوْ ذَكَرَ صَلاَةَ حَضَرٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ عَكْسَهَا، أَوْ ائْتَمَّ بِمُقِيْمٍ،..........
هذه هي المسألة الثالثة: مثاله: رجل مسافر، وفي أثناء السفر ذكر أنه لم يصل الظهر في الحضر فإنه يصلي أربعاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (1) أي: يصلي هذه الصلاة كما هي إذا ذكرها، ولأن هذه الصلاة لزمته تامة فوجب عليه فعلها تامة، وهذا واضح.
قوله: «أو عكسها» .
هذه هي المسألة الرابعة: مثال ذلك: رجل وصل إلى بلده ثم ذكر أنه لم يصل الظهر في السفر، فيلزمه أن يصلي أربعاً، لأنها صلاة وجبت عليه في الحضر فلزمه الإِتمام، ولأن القصر من رخص السفر وقد زال السفر فيلزمه الإِتمام.
هذا هو المذهب، ولكن القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفر في حضر صلاها قصراً لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» أي: فليصلها كما هي، وهذا الرجل ذكر أنه لم يصل الظهر وهي ركعتان في حقه، فلا يلزمه الإِتمام، ونقول: كما قلنا في التي قبلها فهذه صلاة وجبت عليه في سفر، وصلاة السفر مقصورة فلا يلزمه إتمامها.
قوله: «أو ائتم بمقيم» .
__________
(1) تقدم تخريجه (2/15) .(4/367)
هذه هي المسألة الخامسة: إذا ائتم المسافر بمقيم فإنه يتم.
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم به» (1) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (2) ، فيشمل كل ما أدرك الإِنسان وكل ما فاته.
ولأن «ابن عباس سئل: ما بال الرجل المسافر يصلي ركعتين ومع الإِمام أربعاً؟ فقال: تلك هي السنّة» (3) .
ومراده بالسُّنة الشريعة الشاملة للواجب.
ولأن الصحابة رضي الله عنهم: «كانوا يصلون خلف عثمان بن عفان وهم في سفر في منى أربعاً» (4) ، فهذه أدلة أربعة كلها تدل على أن المأموم يتبع إمامه في الإِتمام.
مسألة: إذا أدرك المسافر من صلاة الإِمام ركعة في الصلاة الرباعية فبكم يأتي؟
الجواب: يأتي بثلاث، وإن أدرك ركعتين أتى بركعتين، وإن أدرك ثلاثاً أتى بركعة، وإن أدرك التشهد أتى بأربع؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وما فاتكم فأتموا» .
أَوْ بِمَنْ يَشُكُّ فِيهِ، أَوْ أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا فَفَسَدَتْ وَأَعَادَهَا،.......
قوله: «أو بمن يشك فيه» .
هذه هي المسألة السادسة: إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو
__________
(1) تقدم تخريجه (230) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة، وليأت بالسكينة والوقار (636) ؛ ومسلم، كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (602) (151) .
(3) تقدم تخريجه (354) .
(4) تقدم تخريجه ص (62) .(4/368)
مسافر أو مقيم، وهذا إنما يكون في محل يكثر فيه المسافرون، كالمطار مثلاً، ففيه مقيمون، وفيه مسافرون أحياناً يكونون بعلامة وأحياناً بلا علامة، فإن كانوا بعلامة فالأمر ظاهر، وإن لم تكن علامة لزمه الإِتمام للشك في جواز القصر. وظاهر كلامه لزوم الإِتمام وإن تبين أن الإِمام مسافر.
والقول الراجح: عندي أنه لا يلزمه الإِتمام في هذه الصورة لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، ولا يلزمه الإِتمام خلف الإِمام إلا إذا أتم الإِمام وهنا لم يتم الإِمام.
ولو قال حينما رأى إماماً يصلي بالناس في مكان يجمع بين مسافرين ومقيمين: إن أتمّ إمامي أتممت وإن قصر قصرت، صح وإن كان معلقاً؛ لأن هذا التعليق يطابق الواقع، فإن إمامه إن قصر ففرضه هو القصر، وإن أتم ففرضه الإِتمام، وليس هذا من باب الشك، وإنما هو من باب تعليق الفعل بأسبابه، وسبب الإِتمام هنا إتمام الإِمام والقصر هو الأصل.
قوله: «أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها» .
هذه هي المسألة السابعة: يعني: أن المسافر أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، كما إذا ائتمّ بمقيم فقد أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، فإذا فسدت بحدث أو غيره ثم أعادها فإنه يلزمه الإِتمام، لأن هذه الصلاة إعادة لصلاة يجب إتمامها، فيلزمه أن يصلي أربعاً.
تنبيه: إذا دخل مع الإِمام المقيم وهو مسافر ولما شرع في الصلاة ذكر أنه على غير وضوء، فذهب وتوضأ فلما رجع وجد الناس قد صلوا فلا يلزمه الإِتمام؛ لأن المؤلف يقول: «أو أحرم(4/369)
بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت» فدلّ قوله: «ففسدت» أن الفساد طارئ، أما إذا ذكر أنه على غير وضوء فإن الصلاة لم تنعقد أصلاً، وعلى هذا فلا يلزمه الإِتمام، بخلاف المسألة الأولى إذا فسدت بعد أن انعقدت فإنه يلزمه الإِتمام كما قال المؤلف.
ولكن هذا غير مسلم به؛ وذلك لأن الصلاة الأولى التي شرع فيها إنما يلزمه إتمامها تبعاً لإِمامه لا من حيث الأصل، وبعد أن فسدت زالت التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة، وهذا التعليل أقوى من التعليل الذي ذكروه رحمهم الله، فيكون هذا أرجح إن لم يمنع منه إجماع، أي: أنه إذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حال يجوز له القصر، فإنه لا يلزمه الإِتمام.
مسألة: لو دخل وقت الصلاة وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو في السفر ثم دخل بلده فإنه يتم اعتباراً بحال فعل الصلاة.
أَوْ لَمْ يَنْوِ القَصْرَ عِنْدَ إِحْرَامِهَا، أَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهِ،............
قوله: «أو لم ينوِ القصر عند إحرامها» .
هذه هي المسألة الثامنة: إذا لم ينو القصر عند إحرامها، يعني: دخل في صلاة الظهر وهو مسافر، لكن نوى صلاة الظهر، ولم يستحضر تلك الساعة أن ينويها ركعتين، فهنا يقول المؤلف: يلزمه أن يتم، وهذه المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينوي الإِتمام.
الصورة الثانية: أن ينوي القصر.
الصورة الثالثة: أن ينسى فلا ينوي قصراً ولا إتماماً.(4/370)
فإذا نوى الإِتمام لزمه الإِتمام على رأي من يرى جواز إتمام المسافر.
وإذا نوى القصر قصر، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
وإذا لم ينوِ القصر ولا الإِتمام؛ فالمذهب أنه يتم، وعللوا ذلك: أن الأصل وجوب الإِتمام، فإذا لم ينوِ القصر لزمه الأصل؛ وهو الإِتمام.
والقول الثاني في المسألة:
أنه يقصر وإن لم ينوِ القصر، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، وهذا يقع كثيراً يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر ولا يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى المذهب يجب عليه الإِتمام.
والصحيح: أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر.
قوله: «أو شك في نيته» .
هذه هي المسألة التاسعة: إذا شك في نية القصر، يعني: شك هل نوى القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك
__________
(1) تقدم تخريجه (129) .(4/371)
هل نوى أم لا؟ فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام، لأن الأصل عدم النية.
ومن القواعد المقررة: أن من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم، وإذا لم يتيقن أنه نوى القصر لزمه الإِتمام، ووجوب الإِتمام في هذه المسألة أضعف من وجوب الإِتمام في المسألة التي قبلها وهي: إذا جزم بأنه لم ينوِ، فإذا كان القول الصحيح في المسألة الأولى: أنه يقصر كان القول بجواز القصر في هذه المسألة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إذا شك هل نوى القصر أو لم ينوه؟ فإنه يقصر ولا يلزمه الإِتمام، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر.
أَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ،...........
قوله: «أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام» .
هذه هي المسألة العاشرة: فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أيام في أي مكان كان، سواء نوى الإِقامة في البر أو نوى الإِقامة في البلد، فيلزمه أن يتم.
مثاله: رجل سافر إلى العمرة ونوى أن يقيم في مكة أسبوعاً فيلزمه الإِتمام؛ لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
ومثال الإقامة في غير البلد: رجل مسافر انتهى إلى غدير فأعجبه المكان فنزل، ونوى أن يبقى في هذا المكان خمسة أيام فيلزمه أن يتم؛ لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة في حجة الوداع يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، وخرج يوم الخميس إلى مِنَى، فأقام في مكة(4/372)
أربعة أيام يقصر الصلاة (1) فنأخذ من هذا أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فإنه يقصر لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، ونحن نعلم علم اليقين أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد عزم على أن يبقى هذه الأيام الأربعة؛ لأنه قدم إلى الحج، ولا يمكن أن ينصرف قبل الحج.
فإذا قال قائل: إقامة النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الأيام الأربعة هل وقعت اتفاقاً أم قصداً؟
الجواب: أنها وقعت اتفاقاً بلا شك أي أن رحلته صلّى الله عليه وسلّم صادفت القدوم في اليوم الرابع من ذي الحجة؛ لأنه لم يرد عنه أنه حدد يوماً معيناً للقدوم حتى نقول: إن هذا القدوم وقع عن قصد، لكنه وقع كما يقع للمسافر، فيقدم قبل الحج بيوم أو أقل أو أكثر كما هي العادة.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن نقول: إنه لو أقام خمسة أيام أو أكثر يقصر ما دمتم قلتم: إنه وقع اتفاقاً لا قصداً؟
قلنا: الأصل أن إقامة المسافر في أي مكان تقطع السفر، لأن المعروف أن المسافر يسير ولا ينزل إلا ضحوة أو عشية، أما أن ينزل أكثر من ذلك فإن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن المسافر إذا أقام في البلد أو في المكان غير البلد أن إقامته تقطع السفر، ولكن سمح في الأيام الأربعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقامها وقصر فيبقى ما زاد عليها على الأصل، وهو المنع من الترخص
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب كم أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم في حجته (1085) ؛ ومسلم، كتاب الحج، باب جواز العمرة في أشهر الحج (1240) .(4/373)
ووجوب الإِتمام وامتناع المسح على الخفين أكثر من يوم وليلة، ومنع الإِفطار في رمضان، فجميع أحكام السفر تنقطع إلا حكماً واحداً فإنه يبقى وهو صلاة الجمعة، فإن صلاة الجمعة تلزم هذا الرجل كغيره، ولا يصح أن يكون إماماً فيها، ولا خطيباً، ولا أن يتم به العدد، فصار مسافراً من وجه، مقيماً من وجه، ففي الجمعة ليس من المقيمين؛ لأنه لا تنعقد به الجمعة، ولا يصح أن يكون إماماً فيها ولا خطيباً، ولا تسقط عنه، بل تجب عليه، وفيما عدا ذلك حكمه حكم المقيم، هذا تعليل كلام المؤلف.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي كثرت فيها الأقوال فزادت على عشرين قولاً لأهل العلم، وسبب ذلك أنه ليس فيها دليل فاصل يقطع النزاع، فلهذا اضطربت فيها أقوال أهل العلم، فأقوال المذاهب المتبوعة هي:
أولاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله: كما سبق (1) أنه إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام انقطع حكم السفر في حقه ولزمه الإِتمام، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهذا غير مستوطن، وبناء على هذا القول ينقسم الناس إلى: مسافر، ومستوطن، ومقيم غير مستوطن.
فالمسافر أحكام السفر في حقه ثابتة.
والمستوطن أحكام الاستيطان في حقه ثابتة، ولا يستثنى من هذا شيء.
__________
(1) انظر: ص (372) .(4/374)
والمقيم غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه وتنتفي من وجه آخر، لكن هذا التقسيم يقول شيخ الإِسلام: إنه ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا السنّة.
ثانياً: مذهب الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإِتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول، ويوم الخروج وعلى هذا تكون الأيام ستة، يوم الدخول، ويوم الخروج، وأربعة أيام بينها.
ثالثاً: مذهب أبي حنيفة: إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً أتم، وإن نوى دونها قصر.
وفيها أيضاً مذاهب أخرى فردية، مثل ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما بأنه إذا نوى إقامة تسعة عشر يوماً قصر، وما زاد فإنه لا يقصر.
ولكن إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنّة وجدنا أن القول الذي اختاره شيخ الإِسلام رحمه الله هو القول الصحيح، وهو أن المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها.
وذلك لعموم الأدلة الدالة على ثبوت رخص السفر للمسافر بدون تحديد، ولم يحدد الله في كتابه ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم المدة التي ينقطع بها حكم السفر.
1 ـ فمن القرآن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101] فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} عام يشمل كل ضارب، ومن المعلوم أن الضرب في(4/375)
الأرض أحياناً يحتاج إلى مدة طويلة بحسب حاجته. قال الله تعالى: {مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ} [المزمل: 20] فالذين يضربون في الأرض للتجارة مثلاً، هل يكفيهم أن يقيموا أربعة أيام فأقل في البلد؟
ربما يكفيهم وربما لا يكفيهم، فالتاجر قد يكفيه يوم واحد، وقد يتأخر أربعة أيام أو خمسة أيام أو عشرة أيام، وقد يطلب سلعة لا تحصل له في أربعة أيام؛ لأنه يجمعها من هنا وهناك.
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقام مدداً مختلفة يقصر فيها فأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة (1) ، «وأقام في مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة» (2) وأقام في مكة عام حجة الوداع عشرة أيام يقصر الصلاة، لأن أنساً رضي الله عنه سئل كم أقمتم في مكة ـ أي: في حجة الوداع ـ قال: أقمنا بها عشراً» (3) لأنه أضاف أيام الحج إلى الأيام الأربعة، ومن المعلوم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة في يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وخرج في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة، فتكون إقامته عشرة أيام.
فإن قال قائل: ما تقولون في حجة من رأى أنه إذا أقام أكثر من أربعة أيام لزمه الإِتمام، وهو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقام أربعة أيام قبل أن يخرج إلى منى؟.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/294) ؛ وأبو داود، كتاب الصلاة، باب إذا أقام بأرض العدو يقصر (1235) «وهو حديث صحيح الإسناد» . «نصب الراية» (2/186) .
(2) أخرجه البخاري، أبواب تقصير الصلاة، باب ما جاء في التقصير (1080) .
(3) أخرجه البخاري، الموضع السابق (1081) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (693) (15) .(4/376)
فالجواب: أن هذا دليل عليهم وليس دليلاً لهم، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة في اليوم الرابع اتفاقاً، ولا أحد يشك في هذا، وهل هناك دليل على أنه لو قدم في اليوم الثالث أتم؟ بل نعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم بأن الناس يقدمون للحج قبل اليوم الرابع، وليس كل الحجاج لا يقدمون إلا من الرابع فأكثر، بل منهم من يقدم في ذي الحجة، وفي ذي القعدة وفي شوال، لأن أشهر الحج تبتدئ من شوال، ولم يقل للأمة من قدم مكة قبل اليوم الرابع فليتم، ولو كانت شريعة الله أن من قدم قبل اليوم الرابع من ذي الحجة إلى مكة لزمه أن يتم لوجب على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيّنه لدعاء الحاجة للبلاغ والتبيين، فلما لم يبين ولم يقل للناس من قدم قبل اليوم الرابع فليتم علم أنه لا يلزمه الإِتمام، فيكون هذا الحديث دليلاً على أنه لا يلزم الإِتمام من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
إذاً لا دليل على التحديد بأربعة أيام، لأن بقاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة أربعة أيام وقع مصادفة لا تشريعاً، وهذه قاعدة، ولهذا لا يسن للحاج إذا دفع من عرفات إلى مزدلفة أن ينزل في الطريق، ثم يبول، ثم يتوضأ وضوءاً خفيفاً، لأن هذا وقع منه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الاتفاق (1) .
وأيضاً كيف نقول: من نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة فله أن يقصر، ومن نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر؛ لأن الأول مسافر والثاني مقيم، أين هذا التحديد
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية.. (1280) (266) .(4/377)
في الكتاب والسنّة؟ والصلاة كما نعلم أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين فكيف نقول للأمة: إنَّ هذا الرجل الذي نوى إقامة ست وتسعين ساعة وعشر دقائق لو قصر لكانت صلاته باطلة؟ فمثل هذا لا يمكن أن يترك بلا بيان، وترك البيان في موضع يحتاج إلى بيان يعتبر بياناً، إذ لو كان خلاف الواقع والواجب لبين، وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله من أن المسافر مسافر ما لم ينوِ واحداً من أمرين:
1 ـ الإِقامة المطلقة.
2 ـ أو الاستيطان.
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطناً، والإِقامة المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقاً بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل، لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً، فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم السفر في حقه.
أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا تتخلف أحكام السفر عنه.
ثم إننا إذا تأملنا القول بأنه تنقطع أحكام السفر إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام وجدنا هذا القول متناقضاً.
ووجه التناقض: أنه في الجمعة في حكم المسافرين، وفي غير الجمعة في حكم المقيمين، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل(4/378)
وتوضيح، ولهذا ما أحسن قول صاحب المغني رحمه الله لما ذكر أن تحديد السفر بالمسافة مرجوح قال: إن التحديد توقيف، أي: أنه حد من حدود الله يحتاج إلى دليل، فأي إنسان يحدد شيئاً أطلقه الشارع فعليه الدليل، وأي إنسان يخصص شيئاً عمّمه الشارع فعليه الدليل، لأن التقييد زيادة شرط، والتخصيص إخراج شيء من نصوص الشارع، فلا يحل لأحد أن يضيف إلى ما أطلقه الشارع شرطاً يقيده، ولهذا قلنا في المسح على الخف: إن الصحيح أنه لا يشترط فيه ما يشترطه الفقهاء من كونه ساتراً لمحل الفرض بحيث لا يتبين فيه ولا موضع الخرز، وقلنا: إن ما سمي خفاً فهو خف، سواء كان مخرقاً أو رقيقاً أو ثخيناً أو سليماً.
ولنا في هذا رسالة بيّنّا فيها من اختار هذا القول من العلماء أمثال: شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وعلى كل حال نحن لا نعرف الحق بكثرة الرجال، وإنما نعرف الحق بموافقة الكتاب والسنّة.
أَوْ مَلاَّحاً مَعَهُ أَهْلُهُ لاَ يَنْوِي الإِقَامَةَ بِبَلَدٍ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ..........
قوله: «أو ملاحاً» الملاح قائد السفينة.
قوله: «معه أهله» أي: مصاحبون له، والجملة في محل نصب على أنها صفة لملاح.
قوله: «لا ينوي الإِقامة ببلد» يعني: لا ببلد المغادرة، ولا ببلد الوصول، فهذا يجب عليه أن يتم؛ لأن بلده سفينته.(4/379)
وعلم من قول المؤلف: «معه أهله» أنه لو كان أهله في بلد فإنه مسافر ولو طالت مدته في السفر.
وعلم منه أيضاً: أنه لو كان له نية الإِقامة في بلد فإنه يقصر إذا غادره؛ لأنه مسافر، فمثلاً: إذا كان ملاحاً في سفينة وأهله في جدة، لكنه يروح يجوب البحار كالمحيط الهندي والهادي، ويأتي بعد شهر أو شهرين إلى جدة فهذا مسافر؛ لأنه ليس معه أهل، بل له بلد يأوي إليه.
وكذلك أيضاً: لو فرض أن الملاح ينوي الإِقامة في بلد فهذا نقول له: إنك مسافر إذا فارقته، لأن لك بلداً معيناً عيّنته للإِقامة.
ومثل ذلك أصحاب سيارات الأجرة الذين دائماً في البر نقول: إن كان أهلهم معهم ولا ينوون الإِقامة ببلد فهم غير مسافرين لا يقصرون ولا يفطرون في رمضان، وإن كان لهم أهل في بلد فإنهم إذا غادروا بلد أهلهم فهم مسافرون يفطرون ويقصرون، وكذلك لو لم يكن لهم أهل لكنهم ينوون الإِقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهم مسافرون حتى يرجعوا إلى البلد الذي نووا أنه مأواهم.
فإذا قال قائل: هؤلاء الملاحون أو السائقون لسيارات الأجرة دائماً في سفر، فإذا قلنا: أنتم مسافرون لكم الفطر فمتى يصومون؟
نقول: يمكن أن يصوموا في سفرهم في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة، فالصوم فيها لا يشق، كذلك لو قدموا إلى(4/380)
بلدهم في رمضان فإنه يلزمهم الصوم ما داموا في بلدهم.
فإن قدموا في أثناء اليوم إلى بلدهم ففي لزوم الإِمساك عليهم قولان لأهل العلم، هما روايتان عن الإِمام أحمد رحمه الله (1) .
والصحيح: أنه لا يلزمهم الإِمساك؛ لأنهم لا يستفيدون بهذا الإِمساك شيئاً، وليس هذا اليوم في حقهم يوماً محترماً؛ لأنهم يأكلون ويشربون في أوله وهم مباح لهم ذلك، فهم لم ينتهكوا حرمة اليوم، بخلاف من أفطر أول النهار لغير عذر فإنه يلزمه الإِمساك ولا يقول أفسدت صومي فآكل وأشرب، بل نقول: أنت انتهكت حرمة اليوم فيلزمك الإِمساك.
ومثل ذلك أيضاً: لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك؛ لأن هذه المرأة يباح لها الفطر أول النهار إباحة مطلقة، فاليوم في حقها ليس يوماً محترماً، ولا تستفيد من إلزامها بالإِمساك إلا التعب.
مسألة: من أفطر لإنقاذ معصوم هل يلزمه الإِمساك بقية اليوم كمَن رأى شخصاً غرق في الماء ولا يستطيع أن ينجيه من الغرق إلا إذا أفطر بأكل أو شرب فأفطر ثم أنقذه وأنجاه؟
الجواب: لا يلزمه على القول الراجح؛ لأنه أفطر بسبب مباح.
بخلاف الرجل الذي بلغ في أثناء اليوم فإنه يلزمه الإِمساك.
__________
(1) تأتي هذه المسألة إن شاء الله في المجلد السادس في كتاب الصيام.(4/381)
والفرق بين هذه المسألة والمسائل التي قبلها: أن المسائل التي قبلها زال فيها المانع، وهذه وجد سبب الوجوب، فإذا وجد سبب الوجوب في أثناء النهار لزمه الإِمساك، كالصغير يبلغ، والمجنون يعقل والكافر يسلم، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح وجوب الإِمساك ولا يقضي اليوم.
وَإِنْ كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ فَسَلَكَ أَبْعَدَهُمَا، أَوْ ذَكَرَ صَلاَةَ سَفَرٍ فِي آخِرَ قَصَرَ،.......
قوله: «وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما» يعني: رجل في بلد يريد أن يسافر إلى بلد آخر، وللبلد هذا طريقان: أحدهما بعيد، والثاني قريب، أي: أن أحدهما يبلغ المسافة، والآخر لا يبلغها، فسلك أبعدهما فإنه يقصر، لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر، ولكن لو فرض أنه تعمد أن يسلك الطريق الأبعد في رمضان من أجل أن يفطر فهنا نقول له: لا يجوز لك الفطر؛ لأنه يمكنك أن تسلك طريقاً قصيراً بدون فطر، هذا هو الظاهر ومع ذلك ففي النفس من هذا شيء.
قوله: «أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر» «آخر» صفة لموصوف محذوف، التقدير: في سفر آخر.
مثاله: سافر إلى العمرة وصلّى بغير وضوء ناسياً، ولما رجع من العمرة سافر إلى المدينة وفي أثناء سفره إلى المدينة ذكر أنه صلّى في سفره للعمرة صلاة بغير وضوء، فنقول: يصلّيها قصراً؛ لأن الصلاة وجبت في السفر أداءً وقضاءً، وكذلك لو نسيها في سفر العمرة، ثم ذكرها في سفر زيارة المدينة فإنه يقصر، لأن هذه الصلاة سفرية أداءً وقضاءً.(4/382)
وإن ذكر صلاة سفر في حضر أو صلاة حضر في سفر فقد سبق الكلام فيها.
وإن ذكر صلاة حضر في حضر فإنه يصلّي أربعاً، وعلى هذا فللمسألة أربع صور:
1 ـ ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر.
2 ـ ذكر صلاة حضر في حضر، يتم.
3 ـ ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح.
4 ـ ذكر صلاة حضر في سفر، يتم.
وَإِنْ حُبِسَ وَلَمْ يَنْوِ إِقَامَةً، أَوْ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ بِلاَ نِيَّةِ إِقَامَةٍ قَصَرَ أَبَداً.
قوله: «وإن حبس» أي: منع من السفر.
قوله: «ولم ينوِ إقامة» أي: لم ينوِ أن يبقى مدة محددة فإنه يقصر ولو طالت المدة.
وقول المؤلف: «حبس» لم يبيّن نوع الحبس فيشمل: من حبس ظلماً، ومن حبس بحق، ومن حبس بعدو، ومن حبس بمرض، ومن حبس في تغيرات جوية، ومن حبس بخوف على نفسه، فمن منع السفر بأي سبب كان فإنه يقصر.
ودليل ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنهما: «حبسه الثلج بأذربيجان لمدة ستة أشهر يقصر الصلاة» (1) ، وابن عمر صحابي، والقول الراجح أن فعل الصحابي وقوله حجة بشرطين وهما:
1 ـ أن لا يخالف نصاً.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (2/4339) ؛ والبيهقي (3/152) . قال ابن حجر: «إسناده صحيح» التلخيص الحبير (610) .(4/383)
2 ـ وأن لا يعارضه قول صحابي آخر.
فإن خالف نصاً أخذ بالنص مهما كان الصحابي، وإن عارضه قول صحابي آخر طلب المرجح واتبع ما ترجح من القولين، ثم إن فعل ابن عمر هذا رضي الله عنه مؤيد بعمومات الكتاب والسنّة الدالة على أن المسافر يقصر حتى لو بقي باختياره على القول الراجح.
وقوله: «ولم ينوِ إقامة» هذا شرط لا بد منه، فإن نوى إقامة مطلقة لا إقامة ينتظر بها زوال المانع فإنه يتم.
قوله: «أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة» أي: لم ينوِ إقامة مطلقة.
قوله: «قصر أبداً» ولو بقي طول عمره فإنه يقصر، لأنه إنما نوى الإِقامة من أجل هذه الحاجة، ولم ينوِ إقامة مطلقة، وهناك فرق بين شخص ينوي الإِقامة المطلقة وشخص آخر ينوي الإِقامة المقيدة، فالذي ينوي الإِقامة المقيدة لا يعد مستوطناً، والذي ينوي الإِقامة المطلقة يعد مستوطناً.
فالإِقامة المطلقة: أن ينوي أنه مقيم ما لم يوجد سبب يقتضي مغادرته، ومن ذلك سفراء الدول، فلا شك أن الأصل أن إقامتهم مطلقة لا يرتحلون إلا إذا أمروا بذلك، وعلى هذا فيلزمهم الإِتمام، ويلزمهم الصوم في رمضان، ولا يزيدون عن يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة، فهم في حكم المستوطنين، وكذلك أيضاً الذين يسافرون إلى بلد يرتزقون فيها هؤلاء إقامتهم مطلقة، لأنهم يقولون: سنبقى ما دام رزقنا مستمراً.(4/384)
والإِقامة المقيدة: تارة تقيد بزمن، وتارة تقيد بعمل.
فالمقيد بزمن سبق لنا أن المشهور من المذهب (1) أنه إذا نوى أكثر من أربعة أيام يتم ودونها يقصر، وكما سبق بيان الخلاف فيها أيضاً (2) .
والمقيدة بعمل يقصر فيها أبداً ولو طالت المدة، ومن ذلك لو سافر للعلاج ولا يدري متى ينتهي، فإنه يقصر أبداً حتى لو غلب على ظنه أنه سيطول، لأنه ينتظر هذه الحاجة، وهذا هو عمدة من قال: إنه لا حد للإِقامة؛ لأنهم يقولون: ما دام الحامل له على الإِقامة هي الحاجة، فلا فرق في الحقيقة بين أن يحدد أو لا يحدد، فهو مقيم لشيء ينتظره متى انتهى منه رجع إلى بلده.
وقوله: «قصر أبداً» هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أقام وانتهت المدة المحددة لانقطاع حكم السفر فإنه يجب عليه الإِتمام، وعليه فإذا أقام لحاجة لا يدري متى تنقضي وانتهت أربعة الأيام لزمه الإِتمام.
والأول قول الجمهور ـ حتى إن ابن المنذر حكى الإِجماع عليه ـ وأنه لا يلزمه الإِتمام ما دام ينتظر انتهاء الحاجة.
فَصْلٌ
يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ، وَبَيْنَ العِشَاءَيْنِ فِي وَقْتِ إِحدَاهُمَا فِي سَفَرِ قَصْر......
قوله: «فصل» يعني: في الجمع بين الصلاتين.
والجمع هو: ضم إحدى
__________
(1) انظر: ص (372) .
(2) تقدم تخريجه ص (374) .(4/385)
الصلاتين إلى الأخرى، وهذا التعريف يشمل جمع التقديم وجمع التأخير وقولنا: ضم إحدى الصلاتين للأخرى، يراد به ما يصح الجمع بينهما، فلا يدخل في ذلك ضم صلاة العصر إلى صلاة المغرب مثلاً؛ لأن صلاة المغرب نوع يخالف نوع صلاة العصر، فإن صلاة العصر نهارية، وصلاة المغرب ليلية، ولا يدخل فيه أيضاً ضم صلاة العشاء إلى الفجر، لأن وقتيهما منفصل بعضه عن بعض.
قوله: «يجُوزُ الجمع» التعبير بكلمة «يجوز» يحتمل أن يريد المؤلف رحمه الله: أنه لا يمنع، فيكون المراد بذكر الجواز دفع قول من يقول إنه لا يجوز، فلا ينافي أن يكون مستحباً.
ويحتمل أنه يريد بقوله: «يجوز» الإِباحة أي: أن الجمع مباح وليس بممنوع، ثم هل يستحب أو لا يستحب فيه كلام آخر. وعلى كل فالمعروف من المذهب أن الجمع جائز، وليس بمستحب، بل إن تركه أفضل، فهو رخصة، وتركه أفضل للخلاف في جوازه، فإن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة، والعلة في ذلك عنده: أن هذا من باب النسك، وليس من باب العذر أي: السفر ولكن قوله ضعيف.
والصحيح أن الجمع سنّة إذا وجد سببه لوجهين:
الوجه الأول: أنه من رخص الله عزّ وجل والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه.
الوجه الثاني: أن فيه اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه كان يجمع عند وجود السبب المبيح للجمع.(4/386)
فيدخل هذا في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (1) .
قوله: «بين الظهرين» هما الظهر والعصر، لكنه أطلق عليهما لفظ الظهرين من باب التغليب، كما يقال القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر.
قوله: «بين العشاءين» هما المغرب والعشاء، وهو من باب التغليب كالظهرين.
قوله: «في وقت إحداهما» أي الأولى أو الثانية.
واعلم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فإن شئت فاجمع في وقت الأولى أو في الثانية أو في الوقت الذي بينهما، وأما ظن بعض العامة أنه لا يجمع إلا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، أو آخر وقت المغرب وأول وقت العشاء فلا أصل له.
قوله: «في سفر قصر» هذا أحد الأسباب المبيحة للجمع، وهو سفر القصر، وإذا قال العلماء: في سفر قصر، فمرادهم به السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فيخرج به السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وسفر القصر سبق الكلام عليه، هل هو مقيد بمسافة معينة أو بالعرف (2) .
وقوله: «في سفر قصر» ظاهر كلامه أنه يجوز الجمع
__________
(1) تقدم تخريجه ص (3/27) .
(2) انظر: ص (352) .(4/387)
للمسافر سواء كان نازلاً أم سائراً، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء.
فمنهم من يقول: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائراً لا إذا كان نازلاً.
واستدل بحديث ابن عمر: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جَدَّ به السير» (1) يعني إذا كان سائراً.
وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجمع بين الصلاتين في منى في حجة الوداع؛ لأنه كان نازلاً (2) ، وإلا فلا شك أنه في سفر؛ لأنه يقصر الصلاة.
وأورد عليهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهرين في عرفة (563) وهو نازل.
وأجابوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهرين في عرفة وهو نازل ليدرك الناس صلاة الجماعة على إمام واحد؛ لأن الناس بعد الصلاة سوف يتفرقون في مواقفهم في عرفة، ويكون جمعهم بعد ذلك صعباً وشاقاً، فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجمع بين الظهر والعصر مع أنه نازل من أجل حصول الجماعة على إمام واحد.
ونظير ذلك أن الناس يجمعون بين المغرب والعشاء في المطر من أجل تحصيل الجماعة، وإلا فبإمكانهم أن يصلّوا الصلاة في وقتها في بيوتهم؛ لأنهم معذورون بالوحل.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء (1106) ؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر (703) (43) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب المناسك، باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) (147) .(4/388)
والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر، سواء كان نازلاً أم سائراً.
واستدلوا لذلك بما يلي:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جمع في غزوة تبوك وهو نازل (1) .
2 ـ ظاهر حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان نازلاً في الأبطح في حجة الوداع، وأنه خرج ذات يوم وعليه حلة حمراء فأمَّ الناس فصلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين» (2) قالوا: فظاهر هذا أنهما كانتا مجموعتين.
3 ـ عموم حديث ابن عباس أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر» (3) .
4 ـ أنه إذا جاز الجمع للمطر ونحوه، فجوازه للسفر من باب أولى.
5 ـ أن المسافر يشق عليه أن يفرد كل صلاة في وقتها، إما للعناء، أو قلة الماء، أو غير ذلك.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/237، 238) ؛ وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين (1206) ؛ والنسائي، كتاب المواقيت، باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر بين الظهر والعصر (1/285) . قال ابن عبد البر: «هذا حديث صحيح ثابت» . «التمهيد» (12/194) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب السترة بمكة وغيرها (501) ؛ ومسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي (503) (249) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر (705) (54) .(4/389)
والصحيح أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.
وَلِمَرِيْضٍ يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ مَشَقَّةٌ وَبَيْنَ العِشَاءَيْنِ لِمَطَرٍ يَبُلُّ الثِّيَابِ، وَوَحَلٍ، وَرِيْحٍ شَدِيدَةٍ بَارِدَة،.............
قوله: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة» أي: يجوز الجمع لمريض يلحقه بترك الجمع مشقة أي تعب وإعياء، أيَّ مرض كان، سواء كان صداعاً في الرأس، أو وجعاً في الظهر، أو في البطن، أو في الجلد، أو في غير ذلك، ودليل ذلك ما يلي:
1 ـ عموم قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
2 ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر» (1) قالوا: فإذا انتفى الخوف والمطر، وهو في المدينة انتفى السفر أيضاً، ولم يبق إلا المرض، وقد يكون هناك عذر غير المرض، ولكن ابن عباس: «سئل لماذا صنع ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته» أي: أن لا يلحقها حرج في عدم الجمع، ومن هنا نأخذ أنه متى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة» .
وفهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع وهو كذلك.
__________
(1) تقدم تخريجه ص (389) .(4/390)
فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة.. والمشقات متعددة.
فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإِنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضراً وسفراً.
قوله: «وبين العشائين» أي: بين المغرب والعشاء، للأعذار التالية:
الأول:
قوله: «لمطر يبل الثياب» يعني: إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته وغزارته، فإنه يجوز الجمع بين العشائين، فإن كان مطراً قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز، لأن هذا النوع من المطر لا يلحق المكلف فيه مشقة، بخلاف الذي يبل الثياب، ولا سيما إذا كان في أيام الشتاء، فإنه يلحقه مشقة من جهة البلل، ومشقة أخرى من جهة البرد، ولا سيما إن انضم إلى ذلك ريح فإنها تزداد المشقة.
فإن قيل: ما ضابط البلل؟
فالجواب: هو الذي إذا عصر الثوب تقاطر منه الماء.
الثاني:
قوله: «ووحل» الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من المطر فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل،(4/391)
وذلك لأن الوحل والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه.
وعلم من قوله: بين العشائين أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأسباب وهو المذهب. والراجح أنه جائز لهذه الأسباب وغيرها بين الظهرين والعشائين عند وجود المشقة بترك الجمع، كما يفيده حديث ابن عباس رضي الله عنه.
الثالث:
قوله: «وريح شديدة باردة» اشترط المؤلف شرطين للريح:
1 ـ أن تكون شديدة.
2 ـ وأن تكون باردة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشترط أن تكون في ليلة مظلمة، بل يجوز الجمع للريح الشديدة الباردة في الليلة المقمرة أيضاً.
فإذا قال قائل: ما هو حد الشدة والبرودة؟
فالجواب على ذلك: أن يقال: المراد بالريح الشديدة ما خرج عن العادة، وأما الريح المعتادة فإنها لا تبيح الجمع، ولو كانت باردة، والمراد بالبرودة ما تشق على الناس.
فإن قال قائل: إذا اشتد البرد دون الريح هل يباح الجمع؟ قلنا: لا لأن شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإِنسان بكثرة الثياب، لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل في الثياب، ولو كان هناك ريح شديدة بدون برد فلا جمع؛ لأن الرياح الشديدة بدون برد ليس فيها مشقة، لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به الإِنسان ويشق عليه، فإنها(4/392)
تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة، وحينئذٍ يجوز الجمع.
فإذا قال قائل: ما الدليل على اختصاص الجمع للريح الشديدة والمطر والوحل بالعشائين.
قلنا: الدليل أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «جمع بين العشائين في ليلة مطيرة» (1) ولكن هذا الحديث فيه نظر، والذي رواه النجاد، وليس البخاري كما في بعض نسخ الروض.
وأيضاً كونه جمع في ليلة مطيرة لا يمنع أن يجمع في يوم مطير، لأن العلة هي المشقة، ولهذا كان القول الصحيح في هذه المسألة: أنه يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأعذار، كما يجوز الجمع بين العشائين، والعلة هي المشقة، فإذا وجدت المشقة في ليل أو نهار جاز الجمع.
فأسباب الجمع هي: السفر، والمرض، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ولكن لا تنحصر في هذه الأسباب الخمسة، بل هذه الخمسة التي ذكرها المؤلف كالتمثيل لقاعدة عامة وهي: المشقة، ولهذا يجوز الجمع للمستحاضة بين الظهرين، وبين العشائين لمشقة الوضوء عليها لكل صلاة، ويجوز الجمع أيضاً للإِنسان إذا كان في سفر وكان الماء بعيداً عنه، ويشق عليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ لكل صلاة، حتى وإن قلنا بعدم جواز الجمع في السفر للنازل، وذلك لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة.
__________
(1) انظر: «التلخيص» للحافظ ابن حجر رحمه الله، و «إرواء الغليل» للعلامة الألباني رحمه الله تعالى (3/39) .(4/393)
مسألة: هل من لازم جواز الجمع جواز القصر؟
الجواب: لا، فقد يجوز الجمع ولا يجوز القصر، وقد يجوز القصر ولا يجوز الجمع على رأي من يرى أن الجمع لا يجوز للمسافر النازل فلا تلازم بينهما.
وَلَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ، أَوْ فِي مَسْجِدٍ طَرِيقُهُ تَحْتَ سَابَاطٍ.
قوله: «ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط» يعني: يجوز الجمع بين العشائين للمطر، ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت سقف.
و «لو» هذه إشارة خلاف تشير إلى أن بعض العلماء قال: إذا كان يصلّي في بيته فإنه لا يجوز أن يجمع لأجل المطر، وكذا إذا كان المسجد طريقه تحت ساباط.
والساباط: السقف أي: لو أن الشارع أو السوق الذي يؤدي إلى المسجد طريقه مسقوف بساباط، فإنه لا يجوز له أن يجمع لأنه لا مشقة عليه في الذهاب إلى المسجد.
والراجح أنه يجوز أن يجمع ولو كان طريقه إلى المسجد تحت ساباط لأنه يستفيد الصلاة مع الجماعة. وأما الصلاة في البيت فلها صور:
الأولى: أن يكون معذوراً بترك الجماعة لمرض أو مطر ونحوهما. فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز له الجمع.
الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذر وظاهر كلام المؤلف أنها كالأولى.
الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعواً لحضور الجماعة كالأنثى فيحتمل أن يكون كلام المؤلف شاملاً لها ويحتمل أن لا يكون(4/394)
شاملاً لها فلا تجمع لأنها ليست من أهل الجماعة.
والراجح أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث، أما في الصورة الثانية فإنه لا يستفيد بهذا الجمع شيئاً، وأما في الصورة الثالثة فلأن المرأة ليست من أهل الجماعة.
فمراد المؤلف في قوله: «ولو صلّى في بيته، أو في مسجد طريقه تحت ساباط» ، إذا كان من أهل الجماعة ويصلّي معهم فلا حرج أن يجمع مع الناس؛ لئلا تفوته صلاة الجماعة.
وَالأَفْضَلُ فِعْلُ الأَرْفَق بِهِ مِنْ تَأْخِيرٍ وَتَقْدِيمٍ......................
قوله: «والأفضل فعل الأرفق به من تأخير وتقديم» أي: الأفضل لمن يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم، فإن كان التأخير أرفق فليؤخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم.
ودليل هذا ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الدِّينَ يُسرٌ» (1) .
3 ـ حديث معاذ: «أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان في غزوة تبوك إذا ارتحلَ قبل أن تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهرَ إلى أنْ يجمَعها إلى العصرِ، فيصلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحلَ بعد أن تزيغَ الشَّمسُ؛ عَجَّلَ العصرَ إلى الظُّهرِ، وصَلَّى الظُّهرَ والعصرَ جميعاً، ثم سار ... » (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر (39) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/241 ـ 242) ؛ وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين (1220) ؛ والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين (553) (554) . وقال: «حديث حسن غريب» .(4/395)
4 ـ أن الجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف، فما كان أرفق فهو أفضل.
وكذلك المريض، لو كان الأرفق به أن يقدم صلاة العشاء مع المغرب فإن هذا أفضل، ولو كان بالعكس أن يؤخر المغرب إلى العشاء كان هذا أفضل.
مسألة: الجمع في المطر هل الأفضل التقديم أو التأخير؟
الأفضل التقديم؛ لأنه أرفق بالناس، ولهذا تجد الناس كلهم في المطر لا يجمعون إلا جمع تقديم.
هذا إذا قلنا: إن الجمع للمطر خاص في العشائين. أما إذا قلنا بأنه عام في العشائين والظهرين، فإن الأرفق قد يكون بالتأخير.
واعلم أن كلام المؤلف: لا يعني أنه إذا جاز الجمع فلا بد أن يكون تقديماً أو تأخيراً، بل إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فيجوز أن تصلّي المجموعتين في وقت الأولى، أو في وقت الثانية، أو فيما بين ذلك، وأما ظن العامة أن الجمع لا يجوز إلا في وقت الأولى، أو وقت الثانية، فهذا لا أصل له كما سبق، لأنه متى أبيح الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً.
وقد استثنى بعض العلماء جمع عرفة؛ فقال: الأفضل فيه التقديم، ومزدلفة فالأفضل فيه التأخير، ولكن هذا لا وجه له؛ لأن جمع عرفة تقديماً أرفق بالناس من الجمع تأخيراً، لأن الناس لا يمكن أن يحبسوا إلى وقت العصر مجتمعين، وهم يريدون أن يتفرقوا في مواقفهم، ويدعوا الله؛ فالأرفق بهم بلا شك التقديم،(4/396)
وأما في مزدلفة فالأفضل التأخير؛ لأنه أرفق فإن إيقاف الناس في أثناء الطريق وهم في سيرهم إلى مزدلفة فيه مشقة.
فإن قال قائل: إذا تساوى الأمران عند الإِنسان التقديم أو التأخير فأيهما أفضل؟
فالجواب: قالوا: الأفضل التأخير، لأن التأخير غاية ما فيه تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها تعذر جائزة مجزئة، وأما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها، والصلاة قبل دخول الوقت لا تصح ولو لعذر، ولأنه أحوط حيث منع بعض المجوزين للجمع من جمع التقديم إلا في عرفة.
. فَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الأُولَى اشْتُرِطَ نِيَّةُ الجَمْعِ عِنْدَ إِحْرَامِهَا،........
قوله: «فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها» إذا جمع في وقت الأولى اشترط ثلاثة شروط:
الشرط الأول: نية الجمع عند إحرامها وهذا مبني على اشتراط نية القصر للمسافر؛ لأن الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، ولذلك فلا بد أن تكون نية الضم مشتملة على جميع أجزاء الصلاة، فلا بد أن ينوي عند إحرام الأولى، فلو فرض أنه دخل في الأولى وهو لا ينوي الجمع، ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع، فإن الجمع لا يصح؛ لأنه لم ينوه عند إحرام الأولى، فخلا جزء منها عن نية الجمع والجمع هو الضم، ولا بد أن يكون الضم مشتملاً لجميع الصلاة، ولو نوى الجمع بعد السلام من الأولى لم يصح من باب أولى.
والصحيح: أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي الجمع ولو بعد سلامه من الأولى، ولو عند إحرامه في الثانية ما دام السبب موجوداً.(4/397)
مثال ذلك: لو أن الإِنسان كان مسافراً وغابت الشمس، ثم شرع في صلاة المغرب بدون نية الجمع، لكن في أثناء الصلاة طرأ عليه أن يجمع فعلى المذهب لا يجوز، وعلى القول الصحيح يجوز، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومثال آخر: لو سلم من صلاة المغرب ثم نزل مطر، يبيح الجمع جاز له الجمع.
وَلاَ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِقَدْرِ إِقَامَةٍ وَوُضُوءٍ خَفِيفٍ، وَيَبْطُلُ بِرَاتِبَةٍ بَيْنَهُمَا،.........
قوله: «ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف» هذا هو الشرط الثاني: وهو الموالاة بين الصلاتين.
«ويفرق» بالنصب؛ لأنها على تقدير أن، أي: وأن لا يفرق معطوفاً على مصدر صريح وهو قوله: «نية الجمع» والفعل المضارع إذا عطف على مصدر صريح فإنه ينصب بأن مضمرة ومنه قوله (1) :
ولُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني
أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ
فقوله: «ولبس عباءة وتقر» ، أي: وأن تقر عيني، وتقول: زيارتي زيداً ويكرمني أحبّ إلي من التأخر عنه، زيارتي زيداً ويكرمني أي وأن يكرمني.
إذاً فقوله: «ولا يفرق» أي: يشترط أن لا يفرق بينهما، أي: بين المجموعتين في جمع التقديم إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف.
__________
(1) البيت لميسون بنت بَحْدل الكلبية، وهي زوج معاوية بن أبي سفيان، وأم ابنه يزيد.
انظر: «سر صناعة الإعراب» لابن جني (1/273) ، «شذور الذهب» (156) .(4/398)
وخلاصة هذا الشرط الموالاة بين الصلاتين، أي: أن تكون الصلاتان متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير بمقدار إقامة؛ لأن الإِقامة الثانية لا بد منها، ووضوء خفيف؛ لأن الإِنسان ربما يحتاج إلى الوضوء بين الصلاتين فسومح في ذلك.
قوله: «يبطل» أي: الجمع.
قوله: «براتبة» أي: بصلاة راتبة.
قوله: «بينهما» أي: بين الصلاة الأولى والثانية، أي: لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، فلما صلّى المغرب صلّى راتبة المغرب، فإنه لا جمع حينئذٍ لوجود الفصل بينهما بصلاة.
مسألة: لو فصل بينهما بفريضة، فبعد أن صلّى المغرب ذكر أنه صلّى العصر بلا وضوء فصلّى العصر، فلا جمع؛ لأنه إذا بطل الجمع بالراتبة التابعة للصلاة المجموعة فبطلانه بصلاة أجنبية من باب أولى.
ولو صلى تطوعاً غير الراتبة فمن باب أولى؛ لأنه إذا بطل بالراتبة التابعة للمجموعة فما كان أجنبياً عنها، وليس لها فهو من باب أولى.
واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت أي: ضم وقت الثانية للأولى بحيث يكون الوقتان وقتاً واحداً عند العذر، وليس ضم الفعل، وعلى رأي شيخ الإِسلام: لو أن الرجل صلّى الظهر وهو مسافر بدون أن ينوي الجمع، ولو كان مقيماً ثم بدا له أن يسافر قبل العصر فإنه يجمع إذا سافر ولو طال الفصل، وعلى ما ذكره المؤلف لا يجمع لسببين:(4/399)
أولاً: أنه لم ينوِ الجمع عند إحرام الأولى.
الثاني: أنه فصل بينهما.
وقد ذكر شيخ الإِسلام رحمه الله نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي، والأحوط أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له قوة.
مسألة: رجل سافر بالطائرة، والمطار خارج البلد، وركب الطائرة، فأخذت دورة فمرت من فوق وهو يصلّي فهل يلزمه الإِتمام؛ لأن الهواء تابع للقرار؟
الجواب: الظاهر لي: أنه لا يلزمه الإِتمام؛ لأن هذا المرور مرور سفر عابر، وليس مرور استقرار وانتهاء سفر، ثم إن المدة في الغالب تكون وجيزة.
وَأَنْ يَكُونَ العُذْرُ مَوْجُوداً عِنْدَ افْتِتَاحِهِمَا وَسَلاَمِ الأَوْلَى..........
قوله: «وأن يكون العذر ... » إلى آخره أي: العذر المبيح للجمع. وهذا هو الشرط الثالث.
قوله: «موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى» أي: افتتاح الصلاتين الأولى والثانية، وعند سلام الأولى، وذلك لأن افتتاح الأولى محل النية وقد سبق أنه يشترط في الجمع نيته عند تكبيرة الإِحرام (1) ، فإذا كان يشترط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام لزم من هذا الشرط أن يشترط وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام؛ لأن نية
__________
(1) انظر: ص (397) .(4/400)
الجمع بلا عذر غير صحيحة، فإذا قلنا: لا بد من نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام صار لا بد أيضاً من وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام، إذاً هذا الشرط مبني على الشرط الأول الذي هو نية الجمع عند افتتاح الصلاة الأولى، وقد سبق أن القول الصحيح: عدم اشتراطه، وعلى ذلك لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى، فلو لم ينزل المطر مثلاً إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع على الصحيح، بل لو لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى أي: كانت السماء مغيمة ولم ينزل المطر، وبعد أن انتهت الصلاة الأولى نزل المطر، فالصحيح أن الجمع جائز بناء على هذا القول.
وعند شيخ الإِسلام: لا تشترط الموالاة أيضاً كما سبق (1) ؛ وذلك لأن العذر المبيح للجمع إذا وجد جعل الوقتين وقتاً واحداً، فاندمج وقت الثانية في وقت الأولى وصار الإِنسان إذا فعل الأولى في أول الوقت، والثانية في آخر الوقت فلا بأس، وبناء على هذا القول يكون الشرط وجود العذر فقط، فإذا وجد العذر جاز الجمع سواء كان العذر مرضاً أو سفراً أو مطراً أو ريحاً شديدة باردة أو غير ذلك مما يكون في ترك الجمع معه مشقة.
بقي الشرط الرابع وهو الترتيب، فيشترط الترتيب بأن يبدأ بالأولى ثم بالثانية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (2) ، ولأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب
__________
(1) انظر: ص (400) .
(2) تقدم تخريجه ص (3/27) .(4/401)
أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، ولكن لو نسي الإِنسان أو جهل أو حضر قوماً يصلّون العشاء وهو قد نوى جمع التأخير، ثم صلّى معهم العشاء ثم المغرب، فهل يسقط الترتيب في هذه الأحوال أو لا يسقط؟
المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أنه لا يسقط، وإن كانوا يسقطونه بالنسيان في قضاء الفوائت (1) ، لكنهم هنا لا يسقطونه، ويجعلون الفرق أن الجمع أداء، والقضاء قضاء، فالأول في وقته والثاني خارج وقته، وبناء على هذا لو أن الإِنسان قدم الثانية على الأولى سهواً أو جهلاً أو لإِدراك الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب، فإن الجمع لا يصح فماذا يصنع في هذه الحال؟
الجواب: الصلاة التي صلاها أولاً، لم تصح فرضاً، ويلزمه إعادتها.
مثال ذلك: رجل كان ناوياً جمع تأخير، ثم دخل المسجد ووجد ناساً يصلّون العشاء فدخل معهم بنية العشاء، ولما انتهى من العشاء صلّى المغرب، نقول: صلاة العشاء لا تصح؛ لأنه قدمها على المغرب، والترتيب شرط فيصلّي العشاء مرة ثانية والمغرب صحيحة، ومعنى قولنا: لا تصح، أي: لا تصح فرضاً تبرأ به الذمة، ولكنها تكون نفلاً يثاب عليه.
وفيه شرط خامس: أن لا تكون صلاة الجمعة، فإنّه لا يصح أن يجمع إليها العصر، وذلك لأن الجمعة صلاة منفردة
__________
(1) انظر: المجلد الثاني ص (143) .(4/402)
مستقلة في شروطها وهيئتها وأركانها وثوابها أيضاً، ولأن السنّة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه جمع العصر إلى الجمعة أبداً، فلا يصح أن تقاس الجمعة على الظهر لما سبق من المخالفة بين الصلاتين، بل حتى في الوقت على المشهور من مذهب الحنابلة فوقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى العصر، والظهر من الزوال إلى العصر وأيضاً الجمعة لا تصح إلا في وقتها، فلو خرج الوقت تصلّى ظهراً، والظهر تصح في الوقت وتصح بعده للعذر.
وهذا الشرط يؤخذ من قول المؤلف رحمه الله: يجوز الجمع بين الظهرين، فإن المراد بهما الظهر والعصر فلا يدخل في ذلك الجمعة والعصر.
ولكن لو قال قائل: أنا أريد أن أنوي الجمعة ظهراً؛ لأني مسافر وصلاة الظهر في حقي ركعتان يعني على قدر الجمعة؟
فنقول: هذه النية لا تصح على قول من يقول: إنه يشترط اتفاق نية الإِمام والمأموم، لأنهم لم يستثنوا من هذه المسألة إلا من أدرك من الجمعة أقل من ركعة فإنه يدخل مع الإِمام بنية الظهر لتعذر الجمعة في حقه، أما هذه فهي ممكنة فلا يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلّي الجمعة، وهذا القول واضح أنه لا يصح أن ينويها ظهراً.
أما على القول الراجح: أن نية الإِمام والمأموم (1) لا يضر
__________
(1) انظر: ص (254) وما بعدها.(4/403)
الاختلاف بينهما فإنه يصح، ولكننا نقول: لا تنوها ظهراً؛ لأنك إذا نويتها ظهراً حرمت نفسك أجر الجمعة وأجر الجمعة أكبر بكثير من أجر الظهر، فكيف تحرم نفسك أجر الجمعة، من أجل الجمع؟ والأمر يسير: اُتْرُك العصر حتى يدخل وقتها ثم صلّها.
ولأن في نية صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه الجمعة إذا حضرها نظراً، لأن صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه غير صحيحة.
ووجه اشتراط كون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية: أن افتتاح الثانية هو محل الجمع، أي: الذي حصل به الجمع.
وهذا صحيح، أي: يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية. وهل يشترط أن يكون موجوداً إلى انتهاء الثانية؟ الجواب: لا.
فلو فرض أن الجمع كان لمطر، وأن المطر استمر إلى أن صلّوا ركعتين من العشاء ثم توقف، ولم يكن هناك وحل؛ لأن الأسواق مفروشة بالزفت، فلا يبطل الجمع؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية، ومثل ذلك: لو أن الإِنسان جمع لمرض وفي أثناء الصلاة الثانية ارتفع عنه المرض، فإن الجمع لا يبطل؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية.
وَإِنْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ: اشْتُرِطَ نِيَّةُ الجَمْعِ فِي وَقْتِ الأُوْلَى إِنْ لَمْ يَضِقْ عَنْ فِعْلِهَا، وَاسْتِمْرَارُ العُذْرِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ.
قوله: «وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى» أي: إذا نوى الجمع في وقت الثانية، فيشترط أن ينوي(4/404)
الجمع في وقت الأولى، لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر إلا بنية الجمع حيث جاز.
ودليل عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حدد الصلوات في أوقات معينة (1) ، فلا يجوز أن تؤخر الصلاة الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع حيث وجد سببه، فلا بد من نية الجمع قبل خروج وقت الأولى.
قوله: «إن لم يضق عن فعلها» أي: إن لم يضق وقت الأولى عن فعلها، فإن ضاق عن فعلها لم يصح الجمع؛ لأن تأخير الصلاة حتى يضيق وقتها عن الفعل محرم والجمع رخصة، والرخص لا تستباح بالمحرم، فلو أن رجلاً مسافراً مضى عليه الوقت، فلما بقي عليه من الوقت ما يضيق عن فعل صلاة الظهر نوى جمع الظهر إلى العصر، فلا تصح هذه النية لأنه يحرم تأخير الصلاة حتى يضيق الوقت، إذ إن الواجب أن يصلي الصلاة كلها في الوقت.
فنقول: صلِّ الصلاة الآن حسب ما أدركت من وقتها واستغفر الله عن التأخير، وسيدخل وقت الثانية قبل تمام صلاتك فصلها ولكن لا على أنه جمع، بل على أنه أداء في أول الوقت.
قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» أي: يشترط لصحة الجمع أن يستمر العذر إلى دخول الثانية فإن لم يستمر فالجمع حرام.
__________
(1) انظر: المجلد الثاني ص (100) .(4/405)
وهذا هو الشرط الثاني لجمع التأخير.
مثاله: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى فلا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال فيجب أن يصلّيها في وقتها، وهذه مسألة تشكل على كثير من الناس، فكثير منهم ينوي جمع التأخير، ويقدم بلده قبل أن يخرج وقت الأولى فلا يصلّيها؛ لأنه نوى الجمع وهذا خطأ، بل الواجب أن يصليها في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلاّها، إلا أن يكون مجهداً يشق عليه انتظار دخول الثانية لاحتياجه إلى النوم مثلاً، فيجوز له الجمع حينئذ للمشقة لا للسفر. ولكن هل يصلّيها أربعاً أو يصلّيها ركعتين؟
الجواب: يصلّيها أربعاً؛ لأن علة القصر السفر وقد زال.
فإذا قال: قد دخل عليّ الوقت وأنا مسافر فوجبت علي مقصورة؟
فنقول: نعم وجبت عليك مقصورة؛ لأنك في سفر والآن ذمتك مشغولة بها، وما دامت مشغولة فإنك إذا وصلت البلد وجبت عليك تامة، وبهذا نعرف: أن القول الصحيح أن الإِنسان إذا دخل عليه الوقت وهو في البلد ثم سافر قبل أن يصلّي فله القصر؛ لأنه سافر وذمته مشغولة بها والمسافر يقصر الصلاة، فالعبرة في قصر الصلاة وعدمه ... بفعل الصلاة لا بوقتها على القول الصحيح، فإذا دخل عليك الوقت وأنت مسافر وقدمت البلد قبل الصلاة فصلّها أربعاً، وإذا دخل عليك الوقت وأنت مقيم وسافرت فصلّها ركعتين.(4/406)
وفي قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» ولم يذكر الموالاة إشارة إلى عدم اشتراط الموالاة؛ لأن الموالاة في جمع التأخير ليست بشرط فلو أنه جمع جمع تأخير، ودخل وقت الثانية وصلّى الأولى، وبقي ساعة أو ساعتين ثم صلّى الثانية، فالجمع صحيح؛ لأن الموالاة شرط في جمع التقديم، وليست شرطاً في جمع التأخير.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرط في جمع التأخير كالتقديم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطاً لا في التقديم ولا في التأخير.
فالأقوال إذاً ثلاثة:
الأول: أن الموالاة ليست شرطاً لا في جمع التقديم ولا التأخير، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
والثاني: أنها شرط في الجمعين؛ لأن الجمع هو الضم، وهذا قول بعض العلماء.
والثالث: التفريق، فتشترط الموالاة في جمع التقديم، ولا تشترط في جمع التأخير، وهذا هو المشهور من المذهب.
مسألة: رجل مسافر ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى، وهو في السفر وقدم البلد في وقت الثانية فله الجمع؛ لأنه سوف يصلّي الأولى ثم يصلّي الثانية، لكن لا يقصر؛ لأنه انتهى مبيح القصر وهو السفر.(4/407)
فَصْلٌ
وَصَلاَةُ الخَوْفِ صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم بِصِفَاتٍ كُلّهَا جَائِزَةٌ......
قوله: «فصل: وصلاة الخوف» إلخ، هذا العذر الثالث من الأعذار، فالعذر الأول: السفر، والثاني: المرض ونحوه، والثالث: الخوف، أي: الخوف من العدو أي عدو كان، آدمياً أو سبعاً، مثل: أن يكون في أرض مسبعة فيحتاج إلى صلاة الخوف، لأنه ليس بشرط أن يكون العدو من بني آدم، بل أي عدو كان يخاف الإِنسان على نفسه منه، فإنها تشرع له صلاة الخوف.
قوله: «صحّت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصفات كلها جائزة» أي: وردت في السنّة بصفاتٍ وهي ستة أوجه، أو سبعة أوجه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقول المؤلف: «كلها جائزة» ظاهره: أن كل صفة منها تجوز في أي موضع، ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوع منها إلا في موضعه الذي صلاّها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، ونذكر صفتين منها:
الصفة الأولى: ما يوافق ظاهر القرآن، وهي: أن يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أمام العدو، لئلا يهجم، فيصلّي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم أي: نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم، والإِمام لا يزال قائماً، ثم إذا أتموا لأنفسهم ذهبوا ووقفوا مكان الطائفة الثانية أمام العدو، وجاءت الطائفة الثانية ودخلت مع الإِمام في الركعة الثانية، وفي هذه الحال يطيل الإِمام الركعة الثانية أكثر من الأولى لتدركه الطائفة الثانية، وهذه مستثناة مما سبق في باب(4/408)
صلاة الجماعة (1) : أنه يسنّ تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، فتدخل الطائفة الثانية مع الإِمام فيصلّي بهم الركعة التي بقيت، ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد قامت هذه الطائفة من السجود رأساً وأكملت الركعة التي بقيت وأدركت الإِمام في التشهد فيسلم بهم.
وهذه الصفة موافقة لظاهر القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} إذا سجدوا، أي: أتموا الصلاة {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} وهي التي أمام العدو {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، ولكن الله عزّ وجل قال للطائفة الثانية: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وللطائفة الأولى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} فلماذا؟
الجواب: لأن الطائفة الثانية الخوف عليها أشد، فإن العدو قد يكون قد تأهب لما رأى الجيش انقسم إلى قسمين وأعدّ العدة للهجوم، فلهذا أمر الله بأخذ الحذر والأسلحة.
وهذه الصفة في صلاة الخوف خالفت الصلاة المعتادة في أمور منها:
أولاً: انفراد الطائفة الأولى عن الإِمام قبل سلامه.
ثانياً: أن الطائفة الثانية قضت ما فاتها من الصلاة قبل سلام الإِمام.
__________
(1) انظر: ص (195) .(4/409)
أما الأمر الأول: وهو انفراد المأموم عن الإِمام فهذا جائز في كل عذر طرأ للمأموم فمن ذلك:
إذا أطال الإِمام الصلاة إطالة خارجة عن السنّة فللمأموم أن ينفرد، ودليله: حديث معاذ بن جبل «حينما أمّ قومه فأطال بهم القراءة فانفرد رجل منهم وصلّى وحده» (1) ولم ينكر عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين بلغه ذلك.
ومن ذلك: إذا كان الإِمام يسرع في الصلاة إسراعاً لا يتمكن المأموم معه من الطمأنينة، فإن الواجب أن ينفرد.
ومن ذلك: إذا طرأ على المأموم عذر مثل: احتباس بوله، أو ريح أشغلته أو تقيؤ، أو ما أشبه ذلك، فله أن ينفرد لتعذر المتابعة حينئذٍ بشرط أن يكون في انفراده فائدة، بحيث يكون أسرع من إمامه بدون إخلال بالواجب.
ومن ذلك أيضاً: على القول الراجح إذا تعذرت المتابعة شرعاً مثل: أن تكون صلاة المأموم أنقص من صلاة الإِمام كرجل يصلّي المغرب خلف من يصلّي العشاء، فإن القول الصحيح جواز ذلك فإذا قام الإِمام إلى الرابعة انفرد المأموم وسلم، وإن شاء انتظر في التشهد حتى يصله الإِمام، وأما انفراد المأموم بلا عذر فالقول الصحيح أنه يبطل الصلاة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» (2) .
وأما الأمر الثاني: وهو أن الطائفة الثانية في الصفة التي ذكرنا تقضي ما فاتها من الصلاة قبل سلام الإِمام، فهذا لا نظير
__________
(1) تقدم تخريجه ص (256) .
(2) تقدم تخريجه ص (230) .(4/410)
له في صلاة الأمن، بل إن المأموم في صلاة الأمن يقضي ما فاته بعد سلام إمامه.
الصفة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فإن الإِمام يصفهم صفين ويبتدئ بهم الصلاة جميعاً، ويركع بهم جميعاً ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول فقط ويبقى الصف الثاني قائماً يحرس، فإذا قام قام معه الصف الأول ثم سجد الصف المؤخر، فإذا قاموا تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم صلّى بهم الركعة الثانية قام بهم جميعاً وركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف المقدم الذي كان في الركعة الأولى هو المؤخر، فإذا جلس للتشهد سجد الصف المؤخر، فإذا جلسوا للتشهد سلم الإِمام بهم جميعاً، وهذه لا يمكن أن تكون إلا إذا كان العدو في جهة القبلة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأولى جائزة وإن كان العدو في جهة القبلة، ولكن الصحيح أنها لا تجوز في هذه الحال، وذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة، لأنهم إذا كان العدو في جهة القبلة فلا ضرورة إلى أن ينقسموا إلى قسمين قسم يصلّي معه وقسم وجاه العدو.
أما بقية الصفات فمذكورة في الكتب المطولة ونحن نقتصر على هاتين الصفتين.
ولكن إذا قال قائل: لو فرض أن الصفات الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر؛ لأن الوسائل الحربية والأسلحة اختلفت؟(4/411)
فنقول: إذا دعت الضرورة إلى الصلاة في وقت يخاف فيه من العدو، فإنهم يصلّون صلاة أقرب ما تكون إلى الصفات الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت الصفات الواردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا تتأتى، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
مسألة: إذا اشتد الخوف فهل يجوز أن تؤخر الصلاة عن الوقت؟
في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من يقول: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، ولو اشتد الخوف، بل يصلّون هاربين وطالبين إلى القبلة، وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 236] .
ومنهم من قال: يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا اشتد الخوف، بحيث لا يمكن أن يتدبر الإِنسان ما يقول أو يفعل، أي: إذا كان يمكن أن يتدبر ما يقول أو يفعل في الصلاة فليصل على أي حال، لكن إذا كانت السهام والرصاص تأتيه من كل جانب ولا يمكن أن يستقر قلبه ولا يدري ما يقول، ففي هذه الحال يجوز تأخير الصلاة، وهذا مبني على «تأخير النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة في غزوة الأحزاب» (1) ، هل هو منسوخ أو مُحْكَمْ؟
والصحيح: أنه محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بمعنى أن الناس لا يقر لهم قرار، وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان، وإنما يدركه من كان في ميدان
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر (627) (205) .(4/412)
المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى وقت الصلاة الأخرى، أما إذا كانت صلاة جمع فالمسألة لا إشكال فيها، كتأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء، وأما إذا كانت لا تجمع إلى الأخرى كالعشاء إلى الفجر والفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب، فهذا محل الخلاف.
وذكر في الروض: أنه يشترط لجواز صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً، والقتال المباح: هو قتال الكفار أو قتال المدافعة (1) .
أما قتال الهجوم على من لا يحل قتاله فإن ذلك لا يجيز صلاة الخوف، بل نقول لمن قاتل على هذا الوجه: يجب عليك أن تكف عن القتال.
والقتال المباح أنواع: قتال الكفار، وقتال المدافعة، وقتال من تركوا صلاة العيد، أو الأذان أو الإِقامة، وغير ذلك من شعائر الإِسلام الظاهرة، وقتال الطائفة المعتدية فيما إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فإن الله يقول: {بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى} .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي صَلاَتِهَا مِنَ السِّلاَحِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ يَشْغُلُهُ كَسَيْفٍ وَنَحْوِهِ.
قوله: «ويستحب أن يحمل» أفاد أن حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب وهذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم.
والصحيح أن حمل السلاح واجب، لأن الله أمر به فقال: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ولأن
__________
(1) «الروض المربع» (2/412) .(4/413)
ترك حمل السلاح خطر على المسلمين، وما كان خطراً على المسلمين فالواجب تلافيه والحذر منه.
قال العلماء: وفي هذه الحال لو فرض أن السلاح متلوث بدم نجس فإنه يجوز حمله للضرورة، ولا إعادة عليه، وهو كذلك.
قوله: «في صلاتها» ، أي: صلاة الخوف.
قوله: «ما يدفع به عن نفسه» يفيد أنه لا يحمل سلاحاً هجومياً، بل يحمل سلاحاً دفاعياً، لأنه مشغول في صلاته عن مهاجمة عدوه، لكنه مأمور أن يتخذ من السلاح الدفاعي ما يدفع به عن نفسه.
قوله: «ولا يشغله» يفهم منه أنه لا يحمل سلاحاً يشغله عن الصلاة، لأنه إذا حمل ما يشغله عن الصلاة زال خشوعه، وأهم شيء في الصلاة الخشوع، فهو لبُّ الصلاة وروحها، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان» (1) ، لأن ذلك يذهب الخشوع، ويذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشرها أو ربعها» (2) ، فالخشوع له أثر عظيم في صحة الصلاة، فاشترط المؤلف في حمل السلاح شرطين:
__________
(1) تقدم تخريجه (3/235) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (4/164) ؛ وابن حبان (1889) وصححه.(4/414)
1 ـ أن يكون دفاعياً فقط.
2 ـ ألاّ يشغله.
قوله: «كسيف ونحوه» أي: كالسكين، والرمح القصير، وفي وقتنا كالمسدس.
تم بحمد الله تعالى المجلد الرابع
ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الخامس
وأوله باب صلاة الجمعة.(4/415)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد الخامس
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1423هـ(5/)
باب صلاة الجمعة
تَلْزَمُ كُلَّ ذَكَرٍ حُرٍّ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ.............
قوله: «صلاة الجمعة» أي: الصلاة التي تجمع الخلق، وذلك أن المسلمين لهم اجتماعات متعددة، اجتماعات حي في الصلوات الخمس في مسجد الحي، واجتماعات بلد في الجمعة والعيدين، واجتماعات أقطار في الحج بمكة، هذه اجتماعات المسلمين صغرى وكبرى ومتوسطة، كل هذا شرعه الله من أجل توطيد أواصر الألفة والمحبة بين المسلمين.
وليعلم أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وما طلعت الشمس على يوم خير منه، وأن الله خصّ به هذه الأمة بعد أن أضل عنه الأمم السابقة، فإن اليهود اختلفوا فيه فصارت جمعتهم السبت، والنصارى أشد اختلافاً فصارت جمعتهم الأحد، فصاروا ـ والحمد لله ـ تبعاً لنا ونحن متأخرون عنهم زمناً لكنهم متأخرون عنا رتبة؛ لأن هذه الأمة أفضل أمة عند الله وأكرمها (1) .
وليوم الجمعة خصائص ذكرها ابن القيم في زاد المعاد.
قوله: «تلزم كل ذكر» الضمير يعود على صلاة الجمعة، أي:
__________
(1) روى أبو هريرة، وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ... » .
أخرجه مسلم (856) .(5/5)
تلزم صلاة الجمعة كل من اتصف بالشروط الآتية:
الأول: كونه ذكراً فخرج به الأنثى والخنثى، فلا تلزمهم صلاة الجمعة، [والدليل على اشتراط الذكورية أن صلاة الجمعة صلاة جمع؛ لهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» (1) ، هذا إن لم يصح الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة ... » ، فإن صح فالأمر فيه واضح] .
أما عدم وجوبها على الخنثى فلعدم تحقق الشرط فيه؛ لأنه لا يدرى أذكر هو أم أنثى، والأصل براءة الذمة حتى يتيقن شرط وجوبها، وهذا لم يتيقن.
وأما الأنثى فلأنها ليست من أهل الجماعة.
قوله: «حر» ، هذا هو الشرط الثاني.
وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمر، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة وذلك لما يلي:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» (2) .
2 ـ ولأنه مشغول في خدمة سيده.
وقال بعض العلماء:
__________
(1) أخرجه البخاري (900) ؛ ومسلم (442) (136) عن ابن عمر رضي الله عنهما دون قوله: «وبيوتهن خير لهن» ؛ وأخرجه أحمد (2/76، 77) ؛ وأبو داود (567) ؛ والحاكم (1/209) ؛ والبيهقي (3/131) ؛ وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» .
(2) أخرجه أبو داود (1067) ؛ والدارقطني (2/3) ؛ والطبراني في الكبير (8206) ؛ والبيهقي (3/172) عن طارق بن شهاب.(5/6)
تلزمه الجمعة؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، والحديث الوارد في نفي وجوب صلاة الجمعة عن العبد ضعيف.
والتعليل بأنه مشغول في خدمة سيده أضعف؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقال بعض العلماء:
إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له؛ [لزوال العلة التي هي سبب منع الوجوب] ، وإن لم يأذن له لم تلزمه.
وهذا قول وسط؛ لأن حال العبد في الحقيقة إذا تصوره الإنسان حال شخص ضعيف مملوك، لا يستطيع أن يقول: سأذهب إلى الجمعة يا سيدي رضيت أم كرهت، فيكون في إلزامه بشيء لا يستطيعه حرج، وقد نفى الله سبحانه وتعالى في هذا الدين الحرج عن الأمة فقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه الجمعة مطلقاً، وقول من لا يلزمه مطلقاً، ووجهه قوي جداً، ويمكن أن يحمل الحديث عليه فيقال: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عبد مملوك» ، ليس على إطلاقه، بل العبد المملوك هو الذي يشغل بمالكه، وربما يقال: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مملوك» إشارة إلى علة الحكم، وهي أنه ملك، فسيده يتصرف فيه فيشغله.
والعجيب أن الذين قالوا: إن الجمعة لا تجب على العبد قالوا: إن الجماعة تجب عليه، وعندي أنه لو صح حديث طارق أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم استثنى العبد لكان عدم وجوب الجماعة من باب(5/7)
أولى؛ لأن الجماعة تكرر خمس مرات، فإذا أسقط عنه ما يجب في الأسبوع مرة فما يجب في اليوم خمس مرات من باب أولى، وإذا أوجبنا عليه الجماعة فالجمعة من باب أولى.
قوله: «مكلف» هذا هو الشرط الثالث، والمكلف عند العلماء من جمع وصفين:
أحدهما: البلوغ.
والثاني: العقل.
والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» (1) ، ولكن [الصغير تصح منه الجمعة والمجنون لا تصح منه؛ لأن المجنون لا عقل له، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» (2) ، ومن لا عقل له لا نية له، بخلاف الصبي المميز فإن له نية] .
ولكن هل يؤمر بها الصغير؟
الجواب: يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر؛ لدخوله في عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبناءكم عليها لسبع واضربوهم عليها لعشر» (3) .
قوله: «مسلم» ، هذا هو الشرط الرابع.
وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه، ودليل هذا:
__________
(1) سبق تخريجه (2/13) .
(2) سبق تخريجه (1/194) .
(3) سبق تخريجه (2/14) .(5/8)
1 ـ قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 54] ، فإذا كانت النفقات مع كون نفعها متعدياً لا تقبل منهم، فالعبادات التي نفعها غير متعدٍ من باب أولى لا تقبل منهم.
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذاً إلى اليمن: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة» (1) ، فجعل فرض الصلوات بعد الشهادتين.
فإن قال قائل: إذا كان من شرط وجوب الجمعة الإسلام، فهل يسلَم الكافر من الإثم؛ لأن الجمعة غير واجبة عليه؟
فالجواب: أنه لا يسلَم من الإثم؛ لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الكافر مخاطب بفروع الإسلام، كما هو مخاطب بأصوله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *} [المدثر] ، ووجه الدلالة من الآية: أنهم ذكروا من أسباب دخولهم النار أنهم لم يكونوا من المصلين، ولا من المطعمين للمسكين، بل أقول: إن الكافر معاقب على أكله وشربه ولباسه، لكنه ليس حراماً عليه بحيث يمنع منه إنما هو معاقب عليه.
__________
(1) سبق تخريجه (2/8) .(5/9)
ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ، فقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} يدل بمفهومه على أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، والطعام يشمل الأكل والشرب؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ، ودليل اللباس قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ، فقوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يفهم منه أنها ليست للذين كفروا، وقوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يفهم منه أنها لغير المؤمنين ليست خالصة لهم، بل يعاقبون عليها.
والمعنى يقتضي ما دلت عليه النصوص من معاقبة الكافر على الأكل والشرب واللباس والنعمة والصحة، وكل شيء؛ وذلك لأن العقل يقتضي طاعة من أحسن إليك، وأنك إذا بارزته بالمعصية وهو يحسن إليك، فإن هذا خلاف الأدب والمروءة، وبه تستحق العقوبة، فصارت النصوص مؤيدة لما يقتضيه العقل.
مُسْتَوْطِنٍ..........
قوله: «مستوطن» ، هذا هو الشرط الخامس.
وضد المستوطن المسافر والمقيم.
فالمسافر لا جمعة عليه، ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في أسفاره لم يكن يصلي الجمعة، مع أن معه الجمع الغفير، وإنما يصلي ظهراً مقصورة.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون جمعه وقصره في غير يوم الجمعة، وأنه يقيم صلاة الجمعة في السفر؟(5/10)
فالجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن لدينا نصاً ظاهراً جداً في أنه لا يصلي الجمعة في سفره، وذلك في يوم عرفة، فإن يوم عرفة كان يوم الجمعة في حجة الوداع، وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لما وصل بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذَّن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر» (1) . وهذه الصفة تخالف صلاة الجمعة من وجوه:
1 ـ لأن صلاة الجمعة الخطبة فيها بعد الأذان، وهنا الخطبة قبل الأذان.
2 ـ صلاة الجمعة يتقدمها خطبتان، وحديث جابر ليس فيه إلا خطبة واحدة.
3 ـ صلاة الجمعة يجهر فيها بالقراءة، وحديث جابر يدل على أنه لم يجهر، لأنه قال: «صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر» .
4 ـ صلاة الجمعة تسمى صلاة الجمعة، وفي حديث جابر قال: «صلى الظهر» .
5 ـ صلاة الجمعة لا تجمع إليها العصر، وحديث جابر يقول: «صلى الظهر ثم أقام فصلى العصر» ، وهذا نص صريح واضح في هذا الجمع الكثير الذي سيتفرق فيه المسلمون إلى بلادهم فيقولون: صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة ظهراً يدل دلالة قطعية على أن المسافر لا يصلي الجمعة.
الوجه الثاني: لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي الجمعة في أسفاره
__________
(1) أخرجه مسلم (1218) .(5/11)
لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، ولنقل إلينا.
ولو كانت واجبة لصلاها، بل لو كانت جائزة لصلاها، فإذا صلى الإنسان الجمعة وهو في السفر، فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها ظهراً مقصورة؛ لأن المسافر ليس من أهل الجمعة.
فإذا قال قائل: تَرْك النبي صلّى الله عليه وسلّم للجمعة لا يدل على أنها غير مشروعة؟
فالجواب: بلى؛ لأنها لو كانت مشروعة لكانت عبادة، وهي فريضة واجبة، ولا يمكن أن يدع النبي صلّى الله عليه وسلّم الواجب، فإذا كان سبب الفعل موجوداً، ولم يفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك علم أن فعله يكون بدعة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (1) . وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم (كل شيء سببه موجود في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يفعله، فالتَّعبُّد بِهِ بدعة) ، فالجمعة في السفر سببها موجود في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه لم يفعلها، فإذا فعلها إنسان قلنا له: عملت عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون عملاً مردوداً.
أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة؛ لعموم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، وهذا عام، ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويبقون إلى يوم الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقالت الظاهرية: إن المسافر تلزمه الجمعة.
__________
(1) سبق تخريجه (1/186) .(5/12)
واستدلوا على ذلك: بعمومات الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجمعة، وهذا الاستدلال مردود بالأدلة المخصصة للعمومات.
فالمسافر لا جمعة عليه، والمقيم أيضاً لا جمعة عليه، لكن إن أقامها مستوطنون في البلد لزمته بغيره لا بنفسه، ومعنى قولنا بغيره أنه إذا أقامها من تصح منهم إقامتها لزمته تبعاً لغيره، لكن لا يحسب من العدد المشروط.
وبناء على هذا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ مستوطن.
2 ـ مسافر.
3 ـ مقيم لا مسافر ولا مستوطن.
مثال ذلك:
رجل وصل إلى بلد، ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيامٍ، هذا ليس مستوطناً؛ لأنه لم يتخذ هذا البلد وطناً، وليس مسافراً؛ لأنه نوى إقامة تقطع السفر فهو مقيم، فإن أقيمت الجمعة في البلد بأناس مستوطنين لزمته، وإن لم تقم لم تلزمه، وبناء على هذا لو وُجِدَ جماعة مسلمون سافروا إلى بلاد كفر، وهم مائة رجل يريدون أن يدرسوا فيها لمدة خمس سنوات أو ست أو عشر، فإن الجمعة لا تلزمهم، بل ولا تصح منهم لو صلوا جمعة؛ لأنه لا بد من استيطان، وهؤلاء ليسوا بمستوطنين، فلا تصح منهم الجمعة، ولا تلزمهم، لكن لو وجد في هذه القرية أربعون مستوطناً لزمت الجمعة الأربعين، ثم تلزم هؤلاء تبعاً لغيرهم، هذا هو تقرير المذهب؛ وعليه يكون من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام مسافراً من بعض(5/13)
الوجوه غير مسافر من بعض الوجوه فيلزمه إتمام الصلاة، ولا يترخص برخص السفر؛ لانقطاع حكم السفر في حقه، ولا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها ولا يكمل به العدد المشروط، ولكن تلزمه الجمعة إذا أقيمت، وهذا تناقض.
ولهذا كان الصحيح أن حكم السفر لا ينقطع في حقه، وأنه يصح أن يكون إماماً وخطيباً في الجمعة، ويكمل به العدد المشروط.
بِبِنَاءٍ اسمُهُ وَاحِدٌ، وَلَوْ تَفَرَّقَ. .............
قوله: «ببناء» أي بوطن مبني، ولم يبين المؤلف بأي شيء بني، فيشمل ما بني بالحجر، والمدر، والإِسمنت، والخشب، وغيرها، وهو يحترز بذلك مما لو كانوا أهل خيام كأهل البادية، فإنه لا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بإقامة الجمعة مع أنهم مستوطنون في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، ولهذا إذا ظعنوا عن هذا الموطن ظعنوا ببيوتهم، ولم يبق لها أثر؛ لأنها خيام.
قوله: «اسمه واحد، ولو تفرق» ، أي: أن يكون مستوطناً ببناء، اسم هذا البناء واحد، مثل: مكة، المدينة، عنيزة، بريدة، الرياض، المهم أن يكون اسمه واحداً، حتى لو تباعد، وتفرق بأن صارت الأحياء بينها مزارع، لكن يشملها اسم واحد، فإنه يعتبر وطناً واحداً، وبلداً واحداً؛ ولهذا قال المؤلف: «ولو تفرق» مشيراً بذلك للخلاف في هذه المسألة.
وقال بعض العلماء:
لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فليس بوطن واحد، وعلى هذا القول يكون كل حي وحده مستقلاً.(5/14)
ولكن الصحيح أنه ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد.
لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَسْجِدِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخٍ........
قوله: «ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ» .
هذا الشرط السادس أي: ليس بين الإنسان وبين المسجد أكثر من فرسخ، والفرسخ سبق لنا: أنه ثلاثة أميال، والميل: اثنا عشر ألف ذراع، فعلى هذا لا يلزم الشخص الذي يكون بينه وبين البلد أكثر من فرسخ جمعة، هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.
وذكر علماؤنا أن مسيرة الفرسخ ساعة ونصف الساعة في سير الإبل والقدم، لا بسير السيارة؛ فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ قالوا: فإنها تلزمه بغيره أي: إن أقيمت الجمعة وهو في البلد لزمته وإلا فلا، فصارت الشروط ستة في وجوب الجمعة عيناً.
[فإن قال قائل: ما الدليل على التقييد بالفرسخ؟ فالجواب: يقولون الغالب أن من كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فالغالب أنه لا يسمع النداء، مع أن بعض العلماء قدَّره بالأذان، والذين قدَّروه بالفرسخ قالوا: الأذان يختلف بحسب صوت المؤذن والرياح وارتفاع المؤذن وهدوء الأصوات، فلا يمكن انضباطه، والفرسخ منضبط، إذاً ليس هناك دليل بل هو تعليل، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع الأذان؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تسمع النداء» ؟ قال: نعم، قال: «فأجب» (1) ] .
__________
(1) سبق تخريجه (4/122) .(5/15)
وَلاَ تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ وَلاَ عَلَى عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ، وَمَنْ حَضَرَهَا مِنْهُمْ أَجزَأَتْهُ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ..........
وقوله: «ولا تجب على مسافر سفر قصر» ، الضمير يعود على الجمعة، فلا تجب على مسافر سفر قصر، وقد سبق بيان هذا وذكر الأدلة عليه.
وقوله: «على مسافر سفر قصر» أي: سفراً يحل فيه القصر، فلا تجب عليه، لكن تجب عليه بغيره كما سبق، [ومعنى ذلك أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا] .
فلو أن رجلاً من أهل عنيزة سافر إلى بريدة، فالسفر على المشهور من المذهب ليس سفر قصر؛ لأنه دون المسافة، فإذا أقيمت الجمعة هناك يجب عليه أن يصلي؛ لأن السفر ليس سفر قصر.
ولو أن رجلاً سافر إلى بلد يبلغ المسافة، ولكن سفره محرّم أي سافر ـ والعياذ بالله ـ ليفعل الفواحش، ويشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فلا تسقط عنه الجمعة؛ لأن السفر ليس سفر قصر، لأن من شروط سفر القصر أن يكون السفر مباحاً.
ولو أن رجلاً دخل بلداً ليقيم فيه خمسة أيام مثلاً، ثم يسافر فتلزمه الجمعة بغيره؛ لأنه ليس مسافراً سفر قصر، بل هو مقيم إقامة تمنع القصر، فتلزمه الجمعة.
قوله: «ولا على عبد ولا امرأة» ، لأن من شرط الوجوب أن يكون حراً ذكراً.
وقد سبق الكلام عليه.
قوله: «ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به» ، أي:(5/16)
المسافر سفر قصر، والعبيد، والنساء، من حضر الجمعة منهم، وصلى مع الإمام أجزأته جمعة.
فإن قيل: كيف تجزئهم وليسوا من أهل الوجوب؟
فالجواب: أن إسقاطها عنهم تخفيف، فإذا حضروا وصلوا فهم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم فتصح، ولكن لو قيل بتعليل سوى هذا، وهو: أنهم ائتموا بمن يصلي الجمعة، فأجزأتهم تبعاً لإمامهم، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، لكان أولى.
وقوله: «ولم تنعقد به» أي: لم تنعقد بواحد من هؤلاء، ومعنى لم تنعقد به أي: لا يحسب من العدد المعتبر؛ لأنهم ليسوا من أهل الوجوب، والعدد كما سيأتينا إن شاء الله على المذهب أربعون رجلاً.
مثال ذلك: لو حضر تسعة وثلاثون رجلاً حرّاً، وجاء عبد فإنه لا يتمم به العدد فيصلون ظهراً؛ لأنها لا تنعقد به.
مثال آخر:
قدم شخص قرية صغيرة فيها تسعة وثلاثون رجلاً، وهو مسافر فلا يكمل به العدد؛ لأنه مسافر.
وَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا.......
قوله: «ولم يصح أن يؤم فيها» ، أي لا يصح أن يكون أحد من هؤلاء إماماً في الجمعة.
أما المرأة فلا شك أنه لا يصح أن تؤم فيها، ولا تنعقد بها؛ لأن المرأة لا تكون إماماً للرجال، وليست من أهل الوجوب.
وأما العبد فلا يصح أن يكون إماماً فيها؛ لأنه ليس من أهل الوجوب، فلو كان هذا العبد قارِئاً عالماً فقيهاً عابداً، والذين في(5/17)
القرية أربعون رجلاً كل واحد منهم يحسن القراءة الواجبة، ولكنهم دون العبد في القراءة والعلم والفقه والعبادة فإنه لا يؤمهم في الجمعة.
هذا ما يقتضيه كلام المؤلف؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.
ومذهب أبي حنيفة والشافعية أن العبد يصح أن يكون إماماً في الجمعة.
هذا إذا قلنا: إن العبد لا تلزمه الجمعة، أما إذا قلنا: بأن العبد تلزمه الجمعة فإنها تنعقد به أي: يكمل به العدد، ويصح أن يكون إماماً فيها.
وأما المسافر فلا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها، مثاله:
مسافر قدم إلى بلد أهله كلهم عوام، والخطيب فيهم واحد منهم، فقدم البلد هذا الرجل العالم المتضلع في العلم العابد، وصلى بهم فلا تصح صلاتهم على قول المؤلف؛ لأنه مسافر، ولو خطب بهم وصلى أحدهم، فلا تصح؛ لأن من شرط الخطبة أن تكون ممن تصح إمامته في الجمعة، والعمل الآن على خلاف ذلك، وهو مذهب الأئمة الثلاثة وهو الراجح.
يأتي الرجل الداعية إلى قرية من القرى ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم وينصرفون وهم يعتقدون أن صلاتهم صحيحة، لكن المذهب أن صلاتهم غير صحيحة فيلزمهم أن يعيدوها جمعة إن كان وقتها باقياً وإلا صلوها ظهراً.
والخلاصة أن المرأة كما قال المؤلف لا يصح أن تكون خطيباً، ولا أن تكون إماماً، ولا تحسب من الأربعين.(5/18)
وأما العبد والمسافر، فالصحيح أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمة فيها وخطباء أيضاً؛ لأن القول بعدم صحة ذلك لا دليل عليه، فالعبد من أهل التكليف، والمسافر من أهل التكليف، وكيف يقال: إنه إذا صلى العبد خلف الإمام جمعة صحت، ولو كان هو الإمام لم تصح؟! فلا يظهر الفرق، والقول بأن صلاته صحت تبعاً ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً لا يسلم في كل موضع.
وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ لِعُذْرٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَانعَقَدَتْ بِهِ،.........
قوله: «ومن سقطت عنه» ، أي الجمعة.
قوله: «لعذر» كمرض.
قوله: «وجبت عليه وانعقدت به» ، يعني إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به؛ لأنه من أهل الوجوب، لكن سقط عنه الحضور للعذر، فإذا حضر ثبت الوجوب.
مثال ذلك:
مريض سقطت عنه الجمعة من أجل المرض، ولكنه تحمل المشقة وحضر إلى الجمعة، فإنها تنعقد به، فيحسب من الأربعين ويصح أن يكون إماماً، وأن يخطب فيها؛ لأنه أهل للوجوب، ولكن وجد فيه مانع الوجوب؛ وفرق بين من فقد منه شرط الوجوب، ومن وجد فيه مانع الوجوب؛ لأن من فقد منه شرط الوجوب ليس أهلاً للعبادة أصلاً، ومن وجد فيه مانع الوجوب فهو في الأصل أهل للوجوب، فإذا وصل إلى محل الجمعة زال مانع الوجوب؛ لأن مانع الوجوب مشقة الوصول إلى المسجد فصار الآن من أهل الوجوب فتلزمه، وتنعقد به، ويصح أن يؤم فيها.(5/19)
وكذا الخائف: تسقط عنه الجمعة، لكنه إذا حضرها تلزمه وتنعقد به، ويصح أن يكون إماماً فيها.
فإذا قال قائل: ما الفرق بينه وبين المسافر والعبد؟
فالجواب: أن المسافر والعبد لم يوجد فيهما شرط الوجوب، فليسا من أهله، وأما من سقطت عنه لعذر ففيه مانع الوجوب وهو من أهله، فإذا حضر إلى مكانها زال المانع، فصار كالذي ليس فيه مانع.
وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مِمَّنْ عَلَيْهِ حُضُورُ الجُمُعَةِ قَبْلَ صَلاَةِ الإِْمَامِ لَمْ تَصِحَّ. .......
قوله: «ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح» ، أي: من صلى الظهر وهو ممن يلزمه الحضور، فإن صلاته لا تصح، وتأمل قول المؤلف: «ممن عليه حضور الجمعة» ولم يقل: ممن تجب عليه الجمعة، وذلك من أجل أن يكون كلامه ـ رحمه الله ـ شاملاً للذي تجب عليه بنفسه، والذي تجب عليه بغيره؛ لأن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يقسمون الناس إلى قسمين:
الأول: من تلزمه الجمعة بغيره، وهذا لا تنعقد به ولا يصح أن يكون إماماً فيها.
والثاني: من تلزمه بنفسه، وهذا يصح أن يكون إماماً فيها وتنعقد به.
مثال ذلك: مسافر حلَّ بلداً تقام فيه الجمعة، وأذِّن لصلاة الجمعة، فهذا عليه الحضور، وليست واجبة عليه بنفسه، بل بغيره، فإذا صلى هذا المسافر قبل صلاة الإمام فإن صلاته لا تصح؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به، وترك ما أمر به، فيكون هذا الرجل عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله؛ لأنه مأمور أن يحضر الجمعة ويصليها، وقد صلى ظهراً فلا تقبل منه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، أي مردود عليه؛ ولأن صلاته الظهر مع وجوب الحضور عليه يكون كالذي غصب الزمن؛ لأن هذا الزمن الأصل فيه أن يكون للجمعة.
مثال آخر:
رجل مقيم في البلد، وكان معه أصحابه في البيت فجاء وقت الظهر فصلوا الظهر قبل صلاة الجمعة، فلا تصح.
مثال ثالث:(5/20)
رجل في أقصى البلد، ـ ويعلم أنه لو ذهب لم يدرك الجمعة ـ فصلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فلا تصح على مقتضى كلام المؤلف؛ لعموم قوله: «من صلى الظهر قبل صلاة الإمام» أي: حتى في الحال التي يعلم أنه لو سعى لم يدرك الجمعة، فإنه ينتظر حتى يفرغ الإمام من الجمعة، فيقدر ذلك.
وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها، فلا فائدة في الانتظار.
وَتَصِحُّ مِمَّنْ لاَ تَجِبُ عَلَيه.........
قوله: «وتصح ممن لا تجب عليه» ، أي: تصح الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة، وإن لم يُصلِّ الإمام.
مثال ذلك: مريض مرضاً تسقط به عنه الجمعة صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فتصح؛ لأنه لا تلزمه الجمعة.
مثال آخر:(5/21)
لو صلّت امرأة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة صحت؛ لأن الجمعة لا تلزمها.
وَالأَْفْضَلُ حَتَّى يُصَلِّي الإِمَامُ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ تَلْزَمُهُ السَّفَرُ فِي يومِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ.
قوله: «والأفضل حتى يصلي الإمام» ، أي: أن الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام، وعلى هذا نقول للنساء: الأفضل في يوم الجمعة ألا تصلين الظهر حتى يصلي الإمام. قالوا: ربما يزول عذره فيدرك صلاة الجمعة، وإذا كان هذا هو التعليل، فإنه لا ينطبق على النساء؛ إذ إن النساء لا يمكن أن يزول عذرهن، فالمرأة امرأة، وعليه فنقول للمرأة: الأفضل أن تصلي الظهر في أول الوقت، ولو قبل صلاة الإمام؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخر الوقت، وحينئذٍ نقول: إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها، فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل.
قوله: «ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال» ، السفر: فاعل يجوز، أي: لا يجوز السفر في يوم الجمعة بعد الزوال لمن تلزمه، سواء كانت تلزمه بنفسه، أو بغيره؛ وذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام فيؤذن للجمعة وتصلى، فيحرم أن يسافر.
فإذا قال قائل: ما الدليل على التحريم؟
فالجواب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ(5/22)
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، فأمر بالسعي إليها، وترك البيع، وكذا يترك السفر؛ لأن العلة واحدة، فالبيع مانع من حضور الصلاة، والسفر كذلك مانع من حضور الصلاة، لكن المؤلف علق الحكم بالزوال؛ لأن الزوال هو سبب وجوب الجمعة؛ إذ إنه يدخل به الوقت، ودخول الوقت سبب، فعلق الحكم بالسبب.
والأَوْلَى: أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال، ولا يأتي إلا بعد الزوال بساعة، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، لذلك نقول: المعتبر النداء، وما مشى عليه المؤلف يشبه من بعض الوجوه قولهم: من باع نخلاً بعد أن تشقق فثمرته للبائع، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر ـ أي: تلقح وذلك بوضع اللقاح فيها ـ فثمرتها للبائع» (1) . فعلقوا الحكم على التشقق، قالوا: لأن التشقق هو سبب التأبير فعلق الحكم به.
والجواب: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علق الحكم بالتأبير، فلا يمكن أن نلغي ما علق الشارع الحكم عليه، ونعتبر شيئاً آخر، كذلك هنا علق الحكم بالأذان، فإذا علق الحكم بالأذان، فلا يمكن أن نتجاوز ونعلقه بالزوال، ولكن الغالب أن الإمام يحضر إذا زالت الشمس.
ويفهم من قول المؤلف: «بعد الزوال» أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز وهو كذلك؛ وذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به، فجاز له أن يسافر قبل الزوال.
__________
(1) سبق تخريجه (1/226) .(5/23)
لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، فمن أجل أن لا يفوت فضل الجمعة كرهوا له أن يسافر قبل الزوال، ويستثنى من تحريم السفر مسألتان:
الأولى: إذا خاف فوات الرفقة، أي: أن له رفاقاً يريدون أن يسافروا قبل صلاة الجمعة فزالت الشمس، وخاف أن تفوته الرفقة فإن له أن يسافر؛ لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها، فكذلك يكون عذراً في السفر بعد الزوال.
الثانية: إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه.
فمثلاً: لو قدرنا أن شخصاً يريد أن يسافر من عنيزة إلى حائل، وسيمر ببريدة، فهنا يمكن أن يأتي بها في طريقه، فلا يحرم عليه السفر؛ لأن علة التحريم هي خوف فوات الجمعة، وهنا الجمعة لن تفوت.
مسألة: هل مثل ذلك خوف إقلاع الطائرة؟
الجواب: نعم، فلو فرض أن الطائرة ستقلع في وقت صلاة الجمعة، ولو جلس ينتظر فاتته، فهو معذور وله أن يسافر ولو بعد الزوال.(5/24)
فَصْلٌ
يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا شُرُوطٌ لَيْسَ مِنْهَا إِذْنُ الإِْمَامِ........
قوله: «يشترط لصحتها شروط»
الشروط: جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة.
وفي الشرع: ما يتوقف عليه الشيء، إن كان شرطاً للوجوب فهو ما يتوقف عليه الوجوب، وإن كان شرطاً للصحة فهو ما تتوقف عليه الصحة، وإن كان شرطاً للإجزاء فهو ما يتوقف عليه الإجزاء، هذه ثلاثة أنواع كلها موجودة في شروط الحج.
وهنا يجب أن تعرف الفرق بين شروط الشيء والشروط في الشيء، فمنها:
1 ـ شروط الشيء موضوعة من قبل الشرع، فلا يمكن لأحد إسقاطها، والشروط في الشيء موضوعة من قبل العبد فيجوز لمن هي له أن يسقطها.
2 ـ شروط الشيء ما يتوقف عليه الشيء صحة أو وجوباً أو إجزاء، أو وجوداً في أمور العقليات، والشروط في الشيء ما يتوقف عليه لزوم الشيء.
مثال ذلك: العلم بالمبيع شرط للصحة، فلو باع مجهولاً لم يصح البيع ولو رضي الطرفان؛ لأنه من وضع الشرع.
مثال آخر:
باع شخص بيتاً، واشترط سكناه لمدة سنة، فهذا شرط في البيع لو أسقطه من له الشرط جاز، ولو لم يشترط البائع سكنى الدار لم يثبت له سكنى الدار، فهو لم يثبت إلا من وضع البشر، لمن له الحق أن يسقطه.(5/25)
فشروط صحة الجمعة ما يتوقف عليها صحة الجمعة، أي: إذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة.
قوله: «ليس منها إذن الإمام» ، إذا قال العلماء: (إمام) فهو صاحب أعلى سلطة في البلد، سواء سمي إماماً أو خليفة أو أميراً أو رئيساً أو شيخاً أو غير ذلك.
أي: لو صلى الناس بدون إذن الإِمام فصلاتهم صحيحة.
فإذا قال قائل: لماذا نص المؤلف على نفي هذا الشرط، مع أن السكوت عنه يقتضي انتفاءه؟
فالجواب: لأن في ذلك خِلافاً، فالمذهب: لا يشترط إذن الإمام.
وقال بعض العلماء: لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ وذلك لأنها صلاة جامعة لكل أهل البلد، فلا يجوز أن تقام إلا بإذن الإمام، والإمام إذا استؤذن يجب عليه أن يأذن، ولا يحل له أن يمنع، فلو فرض أنه امتنع ومنعهم من إقامة الجمعة مع وجوبها فحينئذٍ يسقط استئذانه.
ولكن لو قيل بالتفصيل، وهو: أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها، سواء أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام؛ لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع، فلو قيل بهذا القول لكان له وجه، والعمل عليه عندنا لا تقام الجمعة إلا بعد مراجعة دار الإفتاء، وهذا القول لا شك أنه قول وسط يضبط الناس؛ لأننا لو قلنا: إن كل من شاء من أي حي أقام الجمعة بدون مراجعة الإمام، أو نائبه؛ لأصبح الناس فوضى، وصار كل عشرة في حي، ولو صغيراً يقيمون الجمعة.(5/26)
أَحَدُهَا: الوَقْتُ وَأَوَّلُهُ أَوَّلُ وَقْتِ صَلاَةِ العِيدِ وَآخِرُهُ آخِرُ وَقْتِ صَلاَةِ الظُّهْرِ.....
قوله: «أحدها الوقت» ، هذا هو الشرط الأول وبدأ به المؤلف؛ لأن الوقت آكد شروط الصلاة، سواء هنا أو في أوقات الصلوات الخمس، ولهذا إذا دخل الوقت يصلي الإنسان على حسب حاله، ولو ترك ما لا يقدر عليه من الشروط والأركان، فلو دخل الوقت والإنسان عارٍ ليس عنده ما يستر عورته، أو ليس عنده ماء ولا تراب، أو لا يستطيع أن يتطهر، أو لا يستطيع القيام، أو لا يستطيع التوجه إلى القبلة، أو ببدنه نجاسة لا يستطيع غسلها، فلا نقول: انتظر حتى تتحقق الشروط، بل يصلي إذا خاف فوت الوقت على حسب الحال.
والمؤلف قال هنا: «أحدها الوقت» ، وفي شروط الصلاة، قال: «دخول الوقت» ، فهل هذا اختلاف تعبير لا يختلف به الحكم، أو اختلاف تعبير يختلف به الحكم؟
الجواب: الثاني، أي: أنه اختلاف حكم؛ لأن الشرط السابق في شروط الصلاة هو: دخول الوقت، فتصح الصلاة ولو بعد وقتها، أما هنا فلا تصح الصلاة إلا في وقتها، فلو خرج الوقت ولم يصل ولو لعذر كالنسيان والنوم، فإنه لا يصلي الجمعة، بل يصلي ظهراً، والصلاة قبل الوقت في الجمعة وغيرها لا تصح؛ لأنه في غير الجمعة نقول: لم يدخل الوقت، وفي الجمعة نقول: ليست في الوقت، والصلاة بعد خروج الوقت في غير الجمعة صحيحة إما مطلقاً، وإما لعذر على القول الراجح، وصلاة الجمعة بعد الوقت لا تصح مطلقاً.
والدليل على اشتراط الوقت: الإِجماع على أنها لا تصح إلا فيه، فلا تصح قبله ولا بعده.(5/27)
قوله: «وأوله أول وقت صلاة العيد» هذه إحالة على معدم؛ لأن طالب العلم الذي ابتدأ الكتاب، ومشى عليه لم يعرف وقت صلاة العيد، فباب صلاة العيدين بعد صلاة الجمعة، فإذاً تكون الإِحالة على معدم.
وإن قلنا: إن باب العبادات يعتبر شيئاً واحداً فالإحالة على مليء؛ لأن أول العبادات وآخرها واحد.
وعلى كلِّ حال فالذي ينبغي لمن يؤلف أن لا يحيل إلا على شيء معلوم سابق، فلا يحيل على شيء لم يأت بعد.
وعلى كل حال، أول وقت صلاة الجمعة بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح أي: قدر رمح، والرمح حوالي متر، فلنا أن نصليها من حين أن ترتفع الشمس قدر رمح.
ولو قال قائل: لماذا خص الوقت بما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ولم يكن من حين طلوع الشمس؟
فالجواب: لأن الشمس كما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق: «تطلع بين قرني شيطان ـ أي: الشيطان يقارنها حقيقة ـ فإذا رآها المشركون سجدوا» (1) . فاهتز الشيطان طرباً، وقال: سجدوا لي، مع أنهم إنما يسجدون للشمس، لكنهم في الحقيقة إذا سجدوا للشمس فقد أطاعوا الشيطان، فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة حين طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وقدره عشر دقائق إلى ربع ساعة، وفي هذه المدة يكون سجود المشركين
__________
(1) سبق تخريجه (4/115) .(5/28)
للشمس قد انتهى، وكل هذا من أجل البعد عن مشابهة المشركين، حتى في العبادات يجب أن نبتعد عن مشابهتهم، وإن كان الوارد الذي يرد على القلب في المشابهة في العبادات أمراً بعيداً، فإذا كنا نهينا أن نتشبه بالمشركين في العبادات التي يكون التشبه فيها بعيداً، فالعادات من باب أولى؛ ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (1) ، وإسناد الحديث جيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ـ الذي هو من أفيد ما يكون، ولا سيما في الوقت الحاضر ـ «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» : (أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم) ؛ لأنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» فظاهره أنه كافر، لكن هو منهم فيما تشبه به فيهم، فيكون هذا الحديث دالًّا على التحريم، وهو القول الراجح الذي لا شك فيه أن التشبه بالكفار حرام، ولكن لا بد أن نعرف ما هو التشبه، وهل يشترط قصد التشبه؟
فالجواب: أن التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر بناء على لباسه فهذا حرام.
وهل يشترط قصد التشبه أو لا؟
__________
(1) سبق تخريجه (1/168) .(5/29)
الجواب: قد يقول قائل: إنه يشترط قصد التشبه؛ لأنه قال: «من تشبه» وتفعّل تقتضي فعلاً وقصداً، ولكن من نظر إلى العلة عرف أنه متى حصل التشابه ثبت الحكم، ولهذا نص شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ على أنه متى حصلت المشابهة، ولو بغير قصد، ثبت الحكم؛ وذلك لأن العلة لا تختلف بالقصد وعدمه، فالعلة أن من رأى هذا الرجل قال: هذا كافر، وهذا لا يشترط فيه القصد.
لكن لو فرض أن الإنسان في بلد ليس فيه من الكفار من يلبس هذا اللباس، وهو لا يعرف عن لباس الكفار في بلادهم، ولبس لباساً يشبه لباس الكفار في بلادهم، وهو لم يقصد، فهنا قد نقول: إنه لا تشبه؛ لأن العلة قد زالت تماماً.
فإن قال قائل: على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذين يقودونها كفار؟
فالجواب: أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه آلة يقودها الكفار، ويقودها المسلمون، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما فتحوا البلاد ركبوا السفن التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا متشبهين.
قوله: «وآخره آخر وقت صلاة الظهر» ، أي آخر وقت صلاة الجمعة، آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد فيء الزوال.
وعلامة ذلك: أن الشمس إذا طلعت يكون لكل شاخص(5/30)
ـ أي: لكل شيء قائم ـ ظل من جهة المغرب، ثم لا يزال هذا الظل ينقص شيئاً فشيئاً، كلما ارتفعت الشمس نقص إلى أن يقف، فإذا وقف وزاد أدنى زيادة زالت الشمس، فاجعل علامة على المحل الذي بدأ يزيد منه وسيزداد الظل، فإذا كان من العلامة التي زالت عليه الشمس إلى منتهى الظل طول الشاخص، فهنا يخرج وقت الظهر، ويدخل وقت العصر.
فإن قيل: ما هو الدليل على هذا التحديد ابتداء وانتهاء؟ فالجواب: أن عندنا قاعدة مفيدة (أن كل تحديد بمكان أو زمان أو عدد، فإنه لا بد له من دليل) ؛ لأن التحديد يحتاج إلى توقيف، فمثلاً: الذين حددوا الحيض بأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً فلا بد لهم من الدليل، وإلا فلا قبول، والذين حددوا مسافة القصر بيومين لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الإقامة التي تقطع حكم السفر بأربعة أيام لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الفطرة بصاع لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس بقيد رمح نقول: أين الدليل؟ لأن المعروف أن الجمعة تكون عند الزوال، أو بعد الزوال، فحديث أبي هريرة: «من اغتسل، ثم راح في الساعة الأولى، ثم قال: في الثانية، ثم قال: في الثالثة، ثم قال: في الرابعة، ثم الخامسة» (1) ، يدل على أن هناك فسحة طويلة بين طلوع الشمس ووقت الصلاة، وعليه فالدليل على ابتداء وقت صلاة الجمعة أثر عبد الله بن سيدان ـ رحمه الله ـ قال: «شهدت
__________
(1) أخرجه البخاري (881) ؛ ومسلم (850) .(5/31)
الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره» . رواه الدارقطني، وأحمد، واحتج به (1) . ولكن هذا الحديث لا يستقيم الاستدلال به على أن وقت صلاة الجمعة يكون من ارتفاع الشمس قيد رمح لما يلي:
أولاً: الأثر ضعيف كما قاله النووي وغيره، وراويه يقول عنه البخاري: إنه لا يتابع على حديثه.
ثانياً: لو صح هذا الأثر فليس فيه دليل على دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس قيد رمح؛ لأن قوله: «كانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار» ، يدل على أنها قريبة من النصف وهو الزوال، ولو كانت في أول النهار لقال: كانت صلاته وخطبته في أول النهار، فهناك فرق بين أن يقال: قبل النصف وأن يقال: من أول النهار؛ لأن قبل النصف يعني أنها قريبة؛ ولهذا قال: «ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/17) ؛ وابن أبي شيبة (2/107) ؛ وعبد الرزاق (5210) ، ولم نقف عليه في مسند الإمام أحمد ولكن في رواية عبد الرزاق دون قوله: «ثم شهدنا مع عثمان ... » . و «إسناده صحيح إلى ابن سيدان» . وقال البخاري في «التاريخ الكبير» عن عبد الله بن سيدان: «لا يتابع على حديثه» .
انظر: «الجرح والتعديل» (5/68) ؛ و «فتح الباري» (2/387) ؛ و «التعليق المغني» (2/17) .(5/32)
زال النهار» ، وهذا يدل على أن صلاة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ كانت قريبة من الزوال، والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، وهو من المفردات.
القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة استناداً إلى حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «من راح في الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (1) ، فيكون حضور الإمام على مقتضى حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الساعة السادسة، ولهذا رجح الموفق ـ رحمه الله ـ في المغني ـ وهو من أكابر أصحاب الإمام أحمد ـ أنها لا تصح قبل السادسة، ولا في أول النهار كما ذهب إليه كثير من الأصحاب، ومنهم الخرقي، وهذا القول هو الراجح أنها لا تصح في أول النهار، إنما تصح في السادسة، والأفضل على القول بأنها تصح في السادسة، أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء.
فَإِن خَرَجَ وَقْتُها قَبلَ التَّحْرِيمَةِ صَلَّوا ظُهْراً، وَإِلاَّ فَجُمُعَةً.
قوله: «فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة» ، أي: إن خرج وقت الجمعة قبل أن يدركوا تكبيرة الإحرام في الوقت فإنهم يصلون ظهراً، وهذه المسألة تكاد تكون فرضية لا واقعية؛ لأنه يبعد أن يترك أهل بلد كامل صلاة الجمعة إلى ألا يبقى من الوقت إلا مقدار ما يجب من الخطبة وتكبيرة الإحرام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(5/33)
وأيضاً من الذي يقدر أنه بقي مقدار تحريمة قبل أن يصير ظل الشاخص مثله، فهذا صعب جداً، وفي الزمن السابق ليس عندهم دقة هذا الحساب، فهذه المسألة في الحقيقة من الأمور التي تكون فرضية، ولكن الفقهاء ـ رحمهم الله وجزاهم عن أمة محمد خيراً ـ يفرضون المسائل المتوقعة خوفاً من أن تقع ولو في ألف سنة مرة؛ من أجل تمرين الذهن على تطبيق المسائل على أصولها، وهذا من حسن التربية والتعليم أن يذكر المعلم الأصول، ثم يفرع عليها التفريعات، وإن كانت نادرة الوقوع أو فرضية الوقوع، فقول المؤلف: «إذا خرج وقتها قبل أن يكبروا تكبيرة الإحرام صلوها ظهراً» ؛ لأن الظهر تقضى والجمعة لا تقضى، ولكن لا بد أن يتقدم تكبيرةَ الإحرام واجبٌ الخطبة أي: خطبتان بأركانهما، ثم تكبيرة الإحرام، هذا ما ذهب إليه المؤلف بناء على أن إدراك تكبيرة الإحرام معتبر كما هو المذهب. والمذهب جميع الإدراكات تعتبر تكبيرة الإحرام إلا إدراكاً واحداً، وهو إدراك الرجل صلاة الجمعة لا يكون إلا بإدراك ركعة كاملة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والصحيح: أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (1) ، هذا منطوق الحديث، ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا عام في جميع الإدراكات، فمن ذلك:
1 ـ لو حاضت المرأة بعد غروب الشمس بمقدار تكبيرة
__________
(1) سبق تخريجه (2/121) .(5/34)
الإحرام، فعلى المذهب أدركت المغرب، وعلى القول بأنه لا بد من ركعة لم تدرك، وينبني عليه هل إذا طهرت من الحيض تقضي هذه الصلاة أو لا تقضيها؟
والجواب: على المذهب أنها تقضيها، وعلى القول الثاني لا تقضيها.
وهناك قول ثالث في هذه المسألة بالذات: أنه لا قضاء عليها إلا إذا أخرت الصلاة حتى ضاق وقتها، ثم حاضت فحينئذٍ يلزمها القضاء، ويعللون ذلك: بأن هذه المرأة لها الحق في تأخير الصلاة إلى أن يضيق الوقت عن فعلها، فهي إذا أخرت غير آثمة، فإذا جاءها المانع في وقت هي غير آثمة فيه فإنها لا تعد مفرطة، ثم الظاهر من نساء الصحابة أنهن إذا حضن في الوقت لا يقضين صلاة الوقت، وإن كان يحتمل أنهن عند تحري الحيض يقدمن الصلاة في أول الوقت خشية أن يحدث لهن حيض، فالله أعلم.
2 ـ امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام؟
فعلى المذهب يلزمها صلاة العصر، وكذلك الظهر أيضاً؛ لأنها تجمع إليها.
وعلى القول الثاني لا تلزمها صلاة العصر ولا الظهر؛ لأن الظهر تلزمها تبعاً ولا تلزمها صلاة العصر؛ لأنها لم تدرك من الوقت مقدار ركعة.
مسألة: امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار ركعة فتلزمها صلاة العصر على القولين.(5/35)
والصحيح: أن صلاة الظهر لا تلزمها.
قوله: «فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة» ، «إن خرج وقتها» أي: وقت الجمعة.
«قبل التحريمة» أي: قبل تكبيرة الإحرام، فإنهم يصلونها ظهراً؛ لأن الوقت قد فات، فإن الوقت لا يدرك إلا بتكبيرة الإحرام، فمن فاتته تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فقد فاته الوقت، وهذا الذي مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ مبني على أن الإدراك يكون بتكبيرة الإحرام.
والصحيح: أن الإدراك لا يكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» (1) .
وعلى هذا فنقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعة قبل خروجه فإنهم يصلون ظهراً.
مسألة: إذا بقي من الوقت مقدار الواجب من الخطبة فماذا تصلي؟
الجواب: تصلي ظهراً؛ لأنه لا يمكن إقامة الجمعة؛ لأن الجمعة لا بد أن يتقدمها خطبتان، فإذاً لا بد أن يبقى من وقت الجمعة مقدار الواجب من الخطبتين، ومقدار تكبيرة الإحرام على قول المؤلف، أو ركعة على القول الذي رجحناه.
ولو قال قائل: هل يمكن أن يخرج وقت صلاة الجمعة على الناس جميعاً؟
__________
(1) سبق تخريجه ص (34) .(5/36)
فالجواب: يمكن، لكنه نادر، وصورة إمكانه: أن يكون الجو ملبداً بالغيوم، وليس عندهم ساعات، فيظنون أن الوقت مبكر، ثم تتجلى الغيوم وإذا هم قرب صلاة العصر.
الثاني: حُضُورُ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِها.
قوله: «الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها» ، يعني أن الشرط الثاني لصحة الجمعة حضور أربعين، والمراد حضورهم الخطبتين والصلاة، وسبق بيان من هم أهل الوجوب، فلو حضر ثلاثون من أهل الوجوب الخطبة دون الصلاة لم تصح، ولو حضروا الصلاة دون الخطبة لم تصح الصلاة.
وسبق بيان من هم أهل وجوبها، وهو: كل ذكر، حر، مكلف، مسلم، مستوطن ببناء ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ ـ ستة شروط ـ فلا بد أن يكون هؤلاء الأربعون متصفين بهذه الصفات.
فإن حضر تسعة وثلاثون حراً وعبد، فإنها لا تصح؛ لأن العبد ليس من أهل الوجوب، وبه تمام الأربعين، فإن حضر تسعة وثلاثون مستوطناً ومسافر مقيم فلا تصح؛ لأن المسافر المقيم غير مستوطن، ونحن اشترطنا أن يكون مستوطناً، فإن حضرت امرأة وتسعة وثلاثون رجلاً فلا تصح؛ لأنها ليست من أهل الوجوب، ولو اجتمع في بلد من بلاد الكفار طلبة يبلغون مائة، وليس فيهم أحد من أهل البلد، فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين.
واستدلوا على اشتراط الأربعين بما يلي:
1 ـ قال أحمد: «بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين، وكانت أول جمعة جمعت بالمدينة» ، ويجاب: إن صح هذا الأثر فإنه لا يصح(5/37)
الاستدلال به؛ وذلك لأن بلوغهم هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً، فلم يقل: إنهم أمروا أن يجمعوا فلما بلغوا أربعين أقاموا جمعة، فلو كان لفظ الحديث هكذا لكان فيه شيء من الاستدلال.
2 ـ قال جابر: «مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة، وأضحى، وفطراً» (1) .
لكن هذا الحديث لا يصح، وبهذا يتبين أن دليل المؤلف إما صريح غير صحيح مثل حديث جابر، وإما صحيح غير صريح مثل حديث مصعب بن عمير، والحديث الذي تثبت به الأحكام لا بد أن يكون صحيحاً وصريحاً؛ لأن الضعيف ليس بحجة، وكذا الصحيح غير الصريح يكون محتملاً، ومن القواعد المقررة عند العلماء في الاستدلال «أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال» ، وعلى هذا فاشتراط الأربعين لإقامة الجمعة غير صحيح؛ لأن ما بني على غير صحيح فليس بصحيح، ثم يقال: إنه ثبت في صحيح مسلم «أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما قدمت العير من الشام إلى المدينة وكانوا في شفقة لقدومها لشدة حاجتهم انفضوا إليها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً ـ أقل من الأربعين ـ وبقي مقيماً لصلاة الجمعة» (2) .
لكن قالوا: لعل هؤلاء الذين خرجوا رجعوا فوراً قبل أن يمضي النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطبته.
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/4) ؛ والبيهقي (3/177) .
وقال البيهقي: تفرد به عبد العزيز القرشي، وهو ضعيف.
(2) أخرجه مسلم (863) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(5/38)
ويجاب: أن هذا الاحتمال خِلاف الأصل والظاهر.
فهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن من خرج لا يعود حتى يثبت دليل أنه عاد.
وخلاف الظاهر؛ لأنه ليس من الظاهر أنهم يخرجون ينظرون فقط، ثم يرجعون، بل سيبقون هناك يشترون من المتاع الذي حضر؛ ولهذا عاتبهم الله عزّ وجلّ فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] ، فصعبٌ على النفوس أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يترك {قائماً} فيهم يعظهم، ويرشدهم ثم يتركونه قبل فراغ الخطبة، فوبخهم بما هو أشد في قوله: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
القول الثاني: أنه لا بد من اثني عشر رجلاً من أهل الوجوب.
واستدلوا: بحديث جابر السابق (1) ، وأجيب: بأن هذا وقع اتفاقاً فلم يكن قصداً، فربما يبقى أكثر، وربما يبقى أقل، [ولا يصح الاستدلال به] .
القول الثالث: أنه يشترط أربعة رجال، [إمام وثلاثة يوجه إليهم الخطاب] ، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] و «آمنوا» جمع، وأقل الجمع ثلاثة، والإمام هو الذي يُسعى لخطبته.
__________
(1) سبق تخريجه ص (38) .(5/39)
وأجيب: بأن الاستدلال ليس بصحيح؛ لأن قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الجمعة: 9] وإن كان جمعاً، فالمراد به الجنس، ولهذا يؤمر بالحضور إلى الجمعة، ولو كان واحداً.
القول الرابع: أنه يشترط أن يكونوا ثلاثة: خطيب ومستمعان، واستدلوا:
1 ـ أن الثلاثة أقل الجمع.
2 ـ أنه روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان» (1) ، والصلاة عامة تشمل الجمعة وغيرها، فإذا كانوا ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة، فإن الشيطان قد استحوذ عليهم، وهذا يدل على وجوب صلاة الجمعة على الثلاثة، ولا يمكن أن نقول: تجب على الثلاثة، ثم نقول: لا تصح من الثلاثة؛ لأن إيجابها عليهم ثم قولنا: إنها غير صحيحة تضاد، معناه: أمرناهم بشيء باطل، والأمر بالشيء الباطل حرام، هذا القول قوي، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
القول الخامس: أن الجمعة تجب على اثنين فما فوق؛ لأن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/196) (6/446) ؛ وأبو داود (547) ؛ والنسائي (2/106) ؛ وابن خزيمة (1476) ؛ وابن حبان (2101) إحسان؛ والحاكم (1/211) ؛ والبيهقي (3/54) . وقال الحاكم: «هذا حديث صدوق ... متفق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش وقد عرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات» .(5/40)
الاثنين جماعة فيحصل الاجتماع، ومن المعلوم أن صلاة الجماعة في غير الجمعة تنعقد باثنين بالاتفاق، والجمعة كسائر الصلوات، فمن ادعى خروجها عن بقية الصلوات، وأن جماعتها لا بد فيها من ثلاثة فعليه الدليل، وهذا مذهب أهل الظاهر، واختاره الشوكاني في شرح المنتقى، وهو قول قوي، لكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح؛ إذ لا بد من جماعة تستمع، وأقلها اثنان، والخطيب هو الثالث، وحديث أبي الدرداء (1) يؤيد ما قاله الشيخ.
القول السادس: أن الجمعة تصح حتى من واحد؛ لأن الجمعة فرض الوقت، فما الفرق بين الجماعة والواحد، كما أن الظهر فرض الوقت ولا فرق بين الواحد والجماعة، ومن ادعى شرطية العدد في الجمعة فعليه الدليل، ولكن هذا قول شاذ، وهناك أقوال أخرى.
وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم، وعلى هذا فإذا كانت هذه القرية فيها مائة طالب، وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثة فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومائة مسافر مقيم لا تجب عليهم.
مسألة: إذا حضر تسعة وثلاثون، والإمام يرى أن الواجب أربعون، والتسعة والثلاثون يرون أن الواجب ثلاثة فنقول: الإمام لا يصلي بهم، ويصلي واحد من هؤلاء الذين لا يرون الأربعين، ثم يلزم الإمام أن يصلي؛ لأنها أقيمت صلاة الجمعة.
وإذا كان بالعكس الإمام لا يرى العدد أربعين، والتسعة
__________
(1) سبق تخريجه ص (40) .(5/41)
والثلاثون يرون العدد أربعين فلا يصلون جمعة؛ لأن التسعة والثلاثين يقولون: نحن لن نصلي فيبقى واحد، فلا تنعقد به الجمعة فيصلون ظهراً.
وهذه المسألة التي ذكرها العلماء ـ رحمهم الله>;ـ تدلنا على أن الإنسان ينبغي أن يكون واسع الأفق، فالعلماء أسقطوا الجمعة من أجل الخلاف، وأوجبوها من أجل الخلاف، فالمسائل الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي للإنسان أن يكون فيها عنيفاً بحيث يضلل غيره، فمن رحمة الله عزّ وجلّ أنه لا يؤاخذ بالخلاف إذا كان صادراً عن اجتهاد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وأهل السنة والجماعة من هديهم وطريقتهم ألا يضللوا غيرهم ما دامت المسألة يسوغ فيها الاجتهاد، حتى إنهم قالوا: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي من خالف ترتيبهم في الخلافة فهو ضال، أي من قال: إن علياً أولى من أبي بكر بالخلافة فهو ضال، حتى قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: «هو أضل من حمار أهله» ، ومن خالف في التفضيل بين عثمان وعلي، فقال: علي أفضل من عثمان فإنه لا يضلل؛ لأن هذه مسألة فيها خلاف بين أهل السنة، لكن استقر أمر أهل السنة على تفضيل عثمان تبعاً للخلافة، فإذا كان يرى أن الأحاديث الواردة في فضل علي ـ رضي الله عنه ـ تفوق الأحاديث الواردة في فضل عثمان ـ رضي الله عنه ـ فلا يضلل، لكن من فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد قدح في علي نفسه؛ لأن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقول على منبر الكوفة، وهو يخطب الناس: «خير(5/42)
هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» (1) .
الثالث: أَنْ يَكُونُوا بِقَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنِينَ.
قوله: «الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين» ، أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يكون العدد المشروط مستوطنين بقرية، وهذا هو الشرط الثالث لصحة صلاة الجمعة، فإن كانوا في خيام كالبادية، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تصح منهم الجمعة.
ودليل هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر البدو الذين حول المدينة بإقامة جمعة؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، فربما يكونون هذا العام في هذا المكان، وفي العام الثاني أو الثالث في مكان آخر؛ لأنهم يتبعون الربيع والعشب.
والقرية في اللغة العربية: تشمل المدينة والمصر؛ لأنها مأخوذة من الاجتماع.
وانظر إلى مكة أم القرى سماها الله قرية، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] ، مع أن الله قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] .
والقرية في اللغة غير المفهوم في عرفنا.
فالمراد بالقرية: المدينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
وقوله: «مستوطنين» ، أي: لا بد أن يكونوا مستوطنين، أي: متخذيها وطناً، سواء كانت وطنهم الأول أم وطنهم الثاني، فالمهاجرون من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اتخذوا المدينة وطناً ثانياً.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/110) ؛ وابن ماجه (106) .(5/43)
وضد المستوطن: المسافر والمقيم، فالمسافر هو الذي على جناح سفر مرَّ في البلد، ليقضي حاجة ويمشي، والمقيم من أقام يوماً أو ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، أو أكثر لشغل ثم يرجع، ومن أقام بقرية وهو عازم على السفر، فهل هو مقيم أو مسافر؟
الجواب: شيخ الإسلام يرى أنه مسافر، ويقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطن ومقيم ومسافر، وليس فيهما إلا مسافر ومستوطن، والمستوطن هو المقيم.
وَتَصِحُّ فِيمَا قَارَبَ الْبُنْيَانَ مِن الصَّحْرَاءِ....................
قوله: «وتصح» أي: الجمعة.
قوله: «فيما قارب البنيان من الصحراء» .
أي: إن أهل القرية لو أقاموا الجمعة خارج البلد في مكان قريب، فإنها تصح، فلا يشترط أن تكون في نفس البلد، بشرط أن يكون الموضع قريباً، مثل: مصلى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية.
وقول المؤلف ـ رحمه الله ـ: «فيما قارب البنيان من الصحراء» يفهم منه أن ما كان بعيداً لا تصحُّ فيه الجمعة، أي: لو أن أهل القرية خرجوا في نزهة بعيداً عن البلد، وأقاموا الجمعة هناك في مكان النزهة البعيد عن البلد، فإنها لا تجزئ؛ لأنهم انفصلوا عن البلد.
فإذا قال قائل: هل القرب هنا محدد بالعرف أو محدد بالمسافة؟
فالجواب: أن العلماء إذا أطلقوا الشيء، ولم يحددوه يرجع في ذلك إلى العرف، كما (أن الكتاب والسنة إذا أطلق الشيء فيهما، وليس له حد شرعي فإن مرجعه إلى العرف) هذه قاعدة مفيدة، وعلى ذلك قال الناظم:(5/44)
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد (1)
وقول الناظم: (كالحرز) أي حرز الأموال، فمثلاً: أودعتك وديعة، ووضعتها في مكان غير محرز، وسرقت فعليك الضمان، فإذا قال الناس: هذا الرجل مفرط في وضعه المال في هذا المكان، فهذا غير محرز فعليه الضمان، [والذي يدلنا على أن المكان محرز أو غير محرز العرف] .
وفي السرقة أيضاً يشترط للقطع أن تكون من حرز، فلو سرقها من غير حرز فلا قطع عليه؛ لأن المفرط صاحب المال.
مثاله: وضع الدراهم عند باب الدكان، ونسي أن يدخلها الدكان، فجاء رجل بالليل وسرقها فلا تقطع يده؛ لأنه ليس من حرز.
ولو وضعها داخل البيت على الصندوق، لكن لم يدخلها، والبيت دائماً مفتوح الباب فسرقت، فهو مفرط، لا سيما إذا ضعف الأمن، والحرز يختلف باختلاف الأمن، فقد تكون السلطة ضعيفة فيتجرأ السراق، وقد تكون السلطة قوية فيرتدع الناس.
فالمؤلف هنا أطلق القرب من البنيان، وإذا أطلق يرجع فيه إلى العرف، فلو أن أهل القرية ـ مثلاً ـ ذهبوا إلى عشرة كيلومترات وأقاموا الجمعة فإن هذا بعيد، ولا ينسب إلى البلد، لكن لو أقاموها على طرف البنيان، فكل يعرف أن هؤلاء هم أهل البلد.
وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان
__________
(1) «منظومة أصول الفقه وقواعده» ، لشيخنا رحمه الله ص (3) .(5/45)
فلو خرجوا قريباً من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى (1) .
فَإِن نَقَصُوا قَبْلَ إِتْمَامِها اسْتَأْنَفُوا ظُهْراً.......
قوله: «فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً» ، «نقصوا» الضمير يعود على العدد المشترط أي: إن نقصوا واحداً فأكثر استأنفوا ظهراً، أي: بطلت صلاتهم، ووجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً. مثاله:
دخلوا في الجمعة على أنهم أربعون، ثم أحدث أحدهم وخرج فيستأنفون ظهراً؛ لأنه يشترط أن يكون العدد المطلوب من أول الصلاة إلى آخرها.
وقوله: «استأنفوا ظهراً» يستثنى من ذلك ما إذا كان الوقت متسعاً لإعادتها جمعة، فإن اتسع الوقت لإعادتها جمعة بحيث حضر الرجل الذي ذهب ليتوضأ، والوقت متسع فإنه يلزمهم إقامتها جمعة؛ لأن الجمعة فرض الوقت، وقد أمكن إقامتها، فكلام المؤلف ليس على إطلاقه، [بل نقيده بما إذا لم تمكن إعادتها جمعة] .
وقال بعض العلماء: بل يتمونها جمعة؛ لأن الصلاة انعقدت على وجه صحيح، فإبطالها بعد انعقادها يحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن هناك دليل فإنه يبنى آخرها على أولها.
القول الثالث: قول وسط ـ والغالب أن الوسط من أقوال
__________
(1) أخرجه البخاري (956) ؛ ومسلم (889) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(5/46)
العلماء هو الصحيح الراجح ـ أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعة، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعة، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة، وهذا اختيار الموفق ـ رحمه الله ـ، وهذا القول هو الراجح.
ودليله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (1) ، وكما أنه لو أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة مع أنه يصلي الثانية وحده.
أما القول بأنهم يتمونها جمعة مطلقاً؛ لأنهم ابتدؤوا الصلاة على وجه صحيح فنحتاج إلى دليل على بطلانها.
فجوابه: أن هذه الصلاة من شرط صحتها العدد، فإذا فقد الشرط في أثنائها بطلت، كما لو أحدث في أثنائها، أو انكشفت عورته، أو ما أشبه ذلك.
وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ مِنْهَا رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرا...........
قوله: «ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة» «مع الإمام» أي: إمام الجمعة.
«منها» أي: الجمعة.
«ركعة» أي: ركعة تامة بسجدتيها أتمها جمعة.
ودليله: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» (2) .
قوله: «وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً» ، أي: بأن جاء
__________
(1) و (2) سبق تخريجه ص (34) .(5/47)
بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فهنا لم يدرك ركعة فيتمها ظهراً لما سبق من الحديث.
إِذَا كَانَ نَوَى الظُّهْرَ.........
قوله: «إذا كان نوى الظهر» أي: يشترط لإتمامها ظهراً أن ينوي الظهر، وأن يكون وقتها قد دخل، وإنما أضفنا هذا الشرط؛ لأن فيه احتمالاً أن تُصلَّى الجمعة قبل الزوال، فإذا صليت قبل الزوال وأدرك منها أقل من ركعة فإنه لا يتمها ظهراً، بل يتمها نفلاً، ثم إذا دخل وقت الظهر صلى الظهر، فيشترط إذاً لمن أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة لإتمامها ظهراً شرطان هما:
1 ـ أن ينوي الظهر.
2 ـ أن يكون وقت الظهر قد دخل.
فإن لم ينو الظهر بأن دخل مع الإمام بنية الجمعة؛ لأنه يظن أن هذه هي الركعة الأولى، وذلك بأن جاء والإمام قد قال: «سمع الله لمن حمده» في الركعة الثانية، فظن أنها الركعة الأولى، ثم تبين أنها الركعة الأخيرة، فعلى كلام المؤلف يتمها نفلاً؛ لأنه لم ينو الظهر، وعلى هذا يحتاج المسبوق إذا جاء إلى الجمعة وهو لا يدري هل هي الركعة الأولى أو الثانية؟ أن ينتظر فإن جلس الإمام للتشهد دخل معه بنية الظهر، وإن قام دخل معه بنية الجمعة.
القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعة، فلينوها ظهراً بعد سلام الإمام، وهذا هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، خصوصاً العامة؛ لأن العامي ولو علم أنها الركعة الثانية وقد فاته ركوعها، فإنه سينوي الجمعة، ثم إذا سلم الإمام، فمن العامة من يتمها جمعة أيضاً، ومنهم من يتمها(5/48)
ظهراً، لكن لا ينوي الظهر إلا بعد أن يسلم الإمام، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن الظهر فرع عن الجمعة، فإذا انتقل من الجمعة إلى الظهر، فقد انتقل من أصل إلى بدل، وكلاهما فرض الوقت، وفي هذه المسألة قد تنخرم القاعدة التي يقال فيها: (إن الانتقال من معين إلى معين يبطل الأول، ولا ينعقد الثاني به) .
مثاله: إنسان دخل في الصلاة بنية الظهر ناسياً، ثم ذكر أنه في وقت العصر، وأنه قد صلى الظهر من قبل، وفي أثناء الصلاة نواها عصراً.
فنقول: الظهر بطلت؛ لأنك أبطلتها، والعصر لم تنعقد؛ لأنك لم تنوها عصراً من أولها، والمعين لا بد أن تنويه من أوله، ولكن نقول: هذه المسألة يمكن أن تستثنى من القاعدة بناء على أن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت فهي فرع لها، وهو لم ينتقل من شيء مغاير من كل وجه.
مسألة مهمة تعتري الناس في أيام موسم الحج والعمرة في المسجد الحرام وهي:
ما إذا زحم الإنسان عن السجود. قال في الروض: «ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله» .
مثاله: إنسان دخل مع إمام الجمعة، لكن الناس متضايقون، فلما أراد السجود ما وجد مكاناً يسجد فيه، نقول: يجب عليك أن تسجد على ظهر إنسان، أو على رجله.
وقال بعض العلماء: إذا زحم فإنه ينتظر حتى يقوم الناس،(5/49)
ثم يسجد، ويكون التخلف هنا عن الإمام لعذر.
وقال بعض العلماء: يومئ إيماء أي: يجلس ويومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة عند التعذر بخلاف التخلف عن الإمام فإنه لم يأت إلا لعذر، وهذا القول أرجح، ويليه القول بأنه ينتظر، ثم يسجد، بعد الإمام، وأما القول بأنه يسجد على ظهر إنسان أو رجله فإنه ضعيف؛ لما يلزم عليه من التشويش التام على المسجود عليه، وقد يقاتل المسجود عليه الساجد، وقد يكون الذي أمامه امرأة.
وأيضاً السجود على ظهر إنسان لا تتأتى معه صورة السجود، لعلو الإنسان في السجود فيكون وجهه محاذياً لرجليه، وهنا الساجد أيضاً يكون رفيعاً.
قال في الروض: «وإن أحرم، ثم زحم، وأخرج عن الصف فصلى فذاً لم تصح» أي: لو أنه زحم، وعجز عن أن يطيق الوقوف في الصف حتى خرج، فإنه على المذهب لا تصح صلاته؛ لأنه فذ.
والصحيح: أن صلاته تصح؛ لأنه معذور في الفذية.
فإذا كان قد صلى الركعة الأولى في الصف فإنه إذا زحم حتى خرج من الصف ينوي الانفراد ويتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة فيتمها جمعة هذا على المذهب، والقول الراجح أنه يتمها جمعة مع الإمام؛ لأن انفراده هنا للعذر.
وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ خُطْبَتَيْنِ........
قوله: «ويشترط تقدم خطبتين» ، بضم الخاء؛ لأن الخِطبة بالكسر: خطبة النكاح أي: أن يخطب الرجل المرأة، والخُطبة بالضم: خطبة الوعظ، وما أشبه ذلك.(5/50)
أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح.
ولو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح والدليل على اشتراط تقدم الخطبتين ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، فأمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة خطب، إذاً فالسعي إلى الخطبة واجب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب؛ لأن السعي وسيلة إلى إدراكه وتحصيله، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية.
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت» (1) ، وهذا يدل على وجوب الاستماع إليهما، ووجوب الاستماع إليهما يدل على وجوبهما.
3 ـ مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهما مواظبة غير منقطعة، فلم يأتِ يوم من أيام الجمعة لم يخطب فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاءً، شدةً ورخاءً يدل على وجوبهما.
4 ـ أنه لو لم تجب لها خطبتان لكانت كغيرها من الصلوات، ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم أغراض التجمع لهذه الصلاة الموعظة وتذكير الناس.
__________
(1) أخرجه البخاري (934) ؛ ومسلم (851) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(5/51)
مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِمَا: حَمْدُ اللهِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِهِ مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم...........
قوله: «من شرط صحتهما: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم» ، أي: أن الخطبتين لهما شروط لا تصحان بدونها، ذكر منها المؤلف: «حمد الله» ، وهذا هو الشرط الأول بأن يحمد الله بأي صيغة، سواء كانت الصيغة اسمية أم فعلية، أي: سواء قال: الحمد لله، أو قال: أحمد الله، أو قال: نحمد الله، وسواء كان الحمد في أول الخطبة، أم في آخرها، والأفضل أن يكون في أول الخطبة.
والدليل على اشتراط حمد الله تعالى:
1 ـ قول النبي عليه الصلاة والسلام: «كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع» (1) ، والأقطع: الناقص البركة والخير.
2 ـ حديث جابر في صحيح مسلم: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب حمد الله وأثنى عليه» (2) ، وهذا استدلال قد يعارض؛ لأنه مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكن لا شك أنه أفضل وأحسن.
الشرط الثاني: من شروط صحة الخطبة الصلاة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، أي: أن يصلي على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأي اسم من أسمائه أو صفة تختص به فيقول: اللهم صلِّ على محمد، أو اللهم صل على أحمد، أو اللهم صل على العاقب، أو اللهم صل على الحاشر،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/359) ؛ وأبو داود (4840) ؛ وابن ماجه (1894) ؛ وابن حبان (1) الإحسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الدارقطني في «العلل» (8/30) : «الصحيح عن الزهري المرسل» .
(2) أخرجه مسلم (867) (44) .(5/52)
أو اللهم صل على خاتم النبيين، أو المرسل إلى الناس أجمعين.
قال بعض العلماء: ولا بد أن يصلى عليه باسم مُظهر، فإن صلى عليه مضمراً لا مظهراً لم تصح، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مكتفياً بذلك، ولكن هذا غير صحيح فإن المضمر يحل محل المظهر متى علم مرجعه.
والدليل على اشتراط الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن كل عبارة افتقرت إلى ذكر الله افتقرت إلى ذكر رسوله صلّى الله عليه وسلّم، هكذا علل بعض العلماء.
وهذا التعليل عليل، وليس بصحيح، وما أكثر العبادات التي لا تفتقر إلى ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي تفتقر إلى ذكر الله. مثلاً: لو أراد الإنسان أن يتوضأ يقول: باسم الله، ولا يقول: الصلاة والسلام على رسول الله.
ولو أراد الإنسان أن يذبح يقول: بسم الله، دون أن يصلي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل كره بعض العلماء: أن يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الذبح، وقال: لأن هذا يؤدي إلى الشرك، وحتى لا يكون الإنسان يذبح لله ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والأذان يفتقر إلى ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لكن لا يفتقر إلى ذكر الصلاة عليه، فالعلة هنا منتقضة، وانتقاض العلة يدل على بطلانها، ولهذا ليس هناك دليل صحيح يدل على اشتراط الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الخطبة.
والصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم تكون بلفظ الطلب، أو بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب، مثالها بلفظ الطلب: اللهم صل على محمد.(5/53)
ومثالها بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب: صلى الله على محمد.
وَقِرَاءةُ آيَةٍ والوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،........
قوله: «وقراءة آية» .
هذا هو الشرط الثالث لصحة الخطبة، وهو قراءة آية فأكثر من كتاب الله، فإن لم يقرأ آية لم تصح الخطبة، ولكن يشترط في الآية أن تستقل بمعنى، فإن لم تستقل بمعنى لم تجزئ، فلو قرأ {ثُمَّ نَظَرَ *} [المدثر] فلا تستقل بمعنى، من الذي نظر؟ لا يعلم.
ولو قرأ {مُدْهَآمَّتَانِ *} [الرحمن] فلا تجزئ، ما معنى مدهامتان؟ أي: سوداوان، يفهم منها معنى، لكن ما هما الموصوفتان بهذه الصفة؟
ولو قرأ: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] صحت؛ لأنه كلام مستقل مفهوم واضح، والدليل على اشتراط قراءة الآية: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ يوم الجمعة بـ «ق والقرآن المجيد» (1) يخطب بها، ولكن هذا ليس بدليل؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشترط لصحة الخطبة قراءة شيء من القرآن متى تضمنت الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، وهذه الرواية الثانية عن أحمد ـ رحمه الله ـ.
قوله: «والوصية بتقوى الله عز وجل» .
__________
(1) أخرجه مسلم (872) عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة رضي الله عنهما.(5/54)
هذا هو الشرط الرابع لصحة الخطبة، وهو الوصية بتقوى الله عز وجل.
والوصية: هي أن يوصي الخطيب المستمعين بتقوى الله سواء قال: أوصيكم بتقوى الله، أو قال: يا أيها الناس اتقوا الله، فلا بد أن يوصي بتقوى الله؛ لأن هذا هو لبُّ الخطبة الذي يحصل به وعظ الناس، ويذكرهم ويلين قلوبهم، ويوصيهم بما ينفعهم.
فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها بأن قال: يا أيها الناس افعلوا أوامر الله، واتركوا نواهي الله فيصح، أو قال: يا أيها الناس أطيعوا الله، وأقيموا أوامره، واتركوا نواهيه فيجزئ.
وحضور العدد المشترط...........
قوله: «وحضور العدد المشترط» .
هذا هو الشرط الخامس لصحة الخطبة، وهو أن يحضر الخطبتين العدد المشترط، فلا بد أن يحضر أربعون من أهل وجوبها، فإن حضر الخطبة عشرون، ثم لما أقيمت الصلاة قبل أن يشرع في الصلاة تموا أربعين، فإنه لا تجزئ الخطبتان، وعليه إعادتهما.
ولو حضر أربعون نصف الخطبة لم يجزئ.
والصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصواب كما سبق، لكننا إذا قلنا يشترط حضور ثلاثة صار لا بد من حضور الثلاثة.
وقوله: «من شرط صحتهما» ، «من» هذه تدل على التبعيض، والتبعيض يدل على أن بعضاً من الشروط لم يذكر، وأن المذكور بعضها، لا كلها، فهناك شروط أخرى تضاف إلى ما ذكر.(5/55)
الشرط السادس: أن تكون الخطبتان بعد دخول الوقت، فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح الخطبتان، ثم لا تصح الجمعة بعد ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الشرط الأساسي في الخطبة أن تشتمل على الموعظة المرققة للقلوب، المفيدة للحاضرين، وأن الحمد لله، أو الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقراءة آية، كله من كمال الخطبة.
ولكن هذا القول وإن كان له حظ من النظر لا ينبغي للإنسان أن يعمل به إذا كان أهل البلد يرون القول الأول الذي مشى عليه المؤلف؛ لأنه لو ترك هذه الشروط التي ذكرها المؤلف لوقع الناس في حرج، وصار كلٌّ يخرج من الجمعة، وهو يرى أنه لم يصل الجمعة، وإذا أتيت بهذه الشروط لم تقع في محرم، ومراعاة الناس في أمر ليس بحرام هو مما جاءت به الشريعة، فقد راعى النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه في الصوم والفطر في رمضان في حال السفر، وراعاهم عليه الصلاة والسلام في بناء الكعبة حيث قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم» (1) ، وهذه القاعدة معروفة في الشرع.
أما إذا راعاهم في المحرم فهذه تسمى مداهنة لا تجوز، وقد قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ *} [القلم] .
وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُمَا الطَّهَارَةُ...........
قوله: «ولا يشترط لهما الطهارة» أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون على طهارة، فلو خطب وهو محدث فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذكر وليست صلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري (1585) (1586) ؛ ومسلم (1333) .(5/56)
وإذا خطب وهو جنب ففيه مشكلتان:
المشكلة الأولى: اللبث في المسجد، وزوالها أن يقال: إنه يتوضأ فتزول المشكلة بهذا الوضوء.
المشكلة الثانية: قراءة القرآن وهو جنب، والمذهب أن قراءة الآية شرط لصحة الخطبة، وقراءة الجنب للقرآن حرام، فكيف تصح هذه القراءة، وليس عليها أمر الله ورسوله؟ بل الذي عليها النهي، لكن قالوا: إن النهي هنا لا يتعلق بقراءة الآية في الخطبة، بل هو عام، فلو ورد نهي: لا تقرأ القرآن وأنت جنب حال الخطبة، ثم قرأ قلنا: إن الخطبة لا تصح؛ لأنه فعل فعلاً محرماً في نفس العبادة.
وهذا صحيح، لكنه أحياناً ينتقض على المذهب، فقد قالوا: إن الرجل لو صلى بثوب مغصوب فصلاته باطلة، مع أن تحريم لباس المغصوب ليس خاصاً في الصلاة، بل عام، ومع ذلك يقولون: إنها لا تصح الصلاة؛ لأنه ثوب محرم، ولكن الصحيح أن الصلاة تصح بالثوب المغصوب.
ولو توضأ بماء مغصوب فلا يصح الوضوء على المشهور من المذهب؛ لأن الماء المغصوب يحرم استعماله.
والقول الثاني: وهو الراجح: أنه يصح أن يتوضأ بماء مغصوب مع الإثم، وعليه ضمانه لصاحبه.
وهذه المسألة أي: صحة قراءة الآية من القرآن وهو جنب مع الإثم مما يقوي القول الذي رجحناه، وهو صحة الوضوء بالماء المغصوب، وصحة الصلاة بالثوب المغصوب، وصحة الصلاة بالبقعة المغصوبة أيضاً.(5/57)
وقد سبق أن بعض أهل العلم لا يشترط قراءة آية، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.
وَلاَ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا مَنْ يَتَوَلَّى الصَّلاَةَ. .......
قوله: «ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة» أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فهما صحيحتان، والصلاة صحيحة.
لكن هل يشترط أن يتولاهما واحد، أو يجوز أن يخطب الخطبة الأولى واحد والثانية آخر؟
الجواب: يجوز، أي: لا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب رجل، وخطب الثانية رجل آخر صح.
ولكن هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد؟ أي: لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل، ثم قام آخر وأتم الخطبة، لم أر حتى الآن من تكلم عليها، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي: لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان، ثم يكمله الآخر؛ لأنه عبادة واحدة، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة، ويكمل الثاني الركعة الثانية، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر، أما الخطبة فقد يقال: إنها كالأذان أي: لا بد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد، فلا تصح من اثنين، سواء لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح؛ لأن هذا شيء من التلاعب.
وإذا كان لعذر مثل: أن يذكر الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء، ثم ينزل ليتوضأ، فهنا نقول: الأحوط أن يبدأ الثاني(5/58)
الخطبة من جديد، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين.
مسألة: هل يشترط أن يكون العدد الحاضر لهما هو العدد الحاضر للصلاة.
مثلاً: بأن خطب بأربعين، ثم خرج الأربعون، وجاء أربعون غيرهم وصلوا الجمعة.
فالجواب: أنه يشترط؛ لأنه لا بد أن يحضروا الخطبتين والصلاة.
مسألة: لم يذكر صاحب المتن ما يبطل الخطبتين، لكن ذكر الشارح في الروض أنهما تبطلان بالكلام المحرم، أي: لو أن الخطيب في أثناء الخطبة تكلم كلاماً محرماً، كقذف أو لعن، أو ما أشبه ذلك، فإنها تبطل؛ لأن ذلك ينافي مقتضى الخطبة.
فالمقصود بالخطبة وعظ الناس وزجرهم عن الحرام، فإذا كان الخطيب نفسه يفعل الحرام فإنها تبطل.
مسألة: لم يذكر الماتن أيضاً هل يشترط أن تكون الخطبتان باللغة العربية أم لا؟
والجواب: إن كان يخطب في عرب، فلا بد أن تكون بالعربية، وإن كان يخطب في غير عرب، فقال بعض العلماء: لا بد أن يخطب أولاً بالعربية، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده.
وقال آخرون: لا يشترط أن يخطب بالعربية، بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم، وهذا هو الصحيح؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] . ولا يمكن أن ينصرف الناس عن موعظة، وهم لا يعرفون ماذا قال الخطيب؟ والخطبتان ليستا مما يتعبد بألفاظهما(5/59)
حتى نقول: لا بد أن تكونا باللغة العربية، لكن إذا مرَّ بالآية فلا بد أن تكون بالعربية؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية.
وَمِنْ سُنَنِهِمَا: أَنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَر، أَوْ مَوْضِعٍ عَالٍ، وَيُسَلِّمَ عَلَى المَأْمُومِينَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَجْلِسَ إِلَى فَرَاغِ الأَذَانِ..........
قوله: «ومن سننهما أن يخطب على منبر» أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر، والمنبر: على وزن مفعل من النبر، وهو الارتفاع، أي: على شيء مرتفع، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب في أول الأمر إلى جذع نخلة في مسجده، ثم صنع له منبر من خشب الغابة (الأثل) فصار يخطب عليه، ولما خطب عليه أول جمعة صاح جذع النخلة كما تصيح الإبل العشار، حتى نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم وسكته فسكت، والناس يسمعون (1) ، وإنما كان ذلك سنة اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأن ذلك أبلغ في إيصال الخطبة إلى الناس؛ لأنه إذا كان مرتفعاً سمعه الناس أكثر، وكذلك إذا كان مرتفعاً رآه الناس بأعينهم، ولا شك أن تأثر السامع إذا رأى المتكلم أكثر من تأثره وهو لا يراه، وهذا أمر مشاهد، ولهذا كان من هدي الصحابة ـ على ما ذكر ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب استقبلوه بوجوههم (2) ؛ ليكون ذلك أبلغ في حضور القلب والانتفاع بالخطبة، قال العلماء: ينبغي أن يكون المنبر على يمين مستقبل القبلة في المحراب كما هو معمول به الآن؛ من أجل أن الإمام إذا نزل منه ينفتل عن يمينه.
قوله: «أو موضع عال» أي: إذا لم يوجد منبر، خطب على
__________
(1) أخرجه البخاري (918) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه الترمذي (509) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي (ص) شيء، وقال الحافظ في «البلوغ» (472) : رواه الترمذي بإسناد ضعيف.(5/60)
موضع مرتفع، ولو كومة من التراب، من أجل أن يبرز أمام الناس، وكما ذكرنا سابقاً؛ لأن ذلك أبلغ في الصوت، وأبلغ في التلقي عن الخطيب؛ لأن من يُشَاهَدُ يتلقى منه أكثر.
قوله: «ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم» أي: يسن إذا صعد المنبر أن يتجه إلى المأمومين، ويسلم عليهم؛ لأن ذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وإن كان الحديث المرفوع فيه ضعف، لكن الأمة أجمعت على العمل به، واشتهر بينها أن الخطيب إذا جاء وصعد المنبر استقبل الناس وسلم عليهم، وهذا التسليم العام.
أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يمر عليه أولاً، وهذا من السنة بناء على النصوص العامة أن الإنسان إذا أتى قوماً فإنه يسلم عليهم، فيكون إذاً للإمام سلامان:
السلام الأول: إذا دخل المسجد سلم على من يمر به.
والسلام الثاني: إذا صعد المنبر، فإنه يسلم تسليماً عاماً على جميع المصلين.
قوله: «ثم يجلس إلى فراغ الأذان» ، أي: يسن إذا سلم على المأمومين أن يجلس حتى يفرغ المؤذن، وفي هذه الحال يتابع المؤذن على أذانه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (2) ، وهذا عام فينبغي للإمام وهو على المنبر
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1109) ؛ والبيهقي (3/204) من حديث جابر، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6677) ؛ والبيهقي (3/205) عن ابن عمر، وفيه عيسى بن عبد الله وهو ضعيف.
انظر: «لسان الميزان» (4/462) .
(2) سبق تخريجه (2/81) .(5/61)
أن يجيب المؤذن، وكذلك المأمومون يجيبون المؤذن، فيقولون مثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فإنهم يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وَيَجْلِسَ بَيْنَ الخُطْبَتَيْنِ، وَيَخْطُبَ قَائِماً، وَيَعْتَمِدَ عَلَى سَيْفٍ أَوْ قَوْسٍ، أَوْ عَصَا......
قوله: «ويجلس بين الخطبتين» أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين؛ لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان يجلس بين الخطبتين» (1) ، ولأنه لو لم يجلس لم يتبين التمييز بينهما؛ إذ قد يظن الظان أنه سكت لعذر منعه من الكلام، لكن إذا جلس تميزت الخطبة الأولى عن الثانية.
وعلى هذا يكون للخطيب جلستان: الأولى عند شروع المؤذن في الأذان، والثانية بين الخطبتين.
قوله: «ويخطب قائماً» أي: يسن أن يخطب قائماً؛ لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) ؛ ولأن ذلك أبلغ بالنسبة للمتكلم؛ لأن القائم يكون عنده من الحماس أكثر من الجالس؛ ولأنه أبلغ أيضاً في إيصال الكلام إلى الحاضرين، لا سيما في الزمن السابق، إذ ليس فيه مكبر صوت.
قوله: «ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا» أي: يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف، أو قوس، أو عصا.
واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحته نظر (3) ، وعلى تقدير صحته قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء.
__________
(1) و (2) سبق تخريجه ص (52) .
(3) أخرجه أبو داود (1096) عن الحكم بن حزن، وفيه: «فقام متوكئاً على عصا أو قوس» .(5/62)
ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا.
ثم إن تعليلهم بأنه إشارة إلى أن هذا الدين قام بالسيف فيه نظر أيضاً.
فالدين لم يفتح بالسيف؛ لأن السيف لا يستعمل للدين إلا عند المنابذة، فإذا أبى الكفار أن يسلموا أو يبذلوا الجزية فإنهم يقاتلون، أما إذا بذلوا الجزية فإنهم يتركون، وهذا هو القول الذي تدل عليه الأدلة.
ثم إن المسلمين لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن فتحوا القلوب أولاً بالدعوة إلى الإسلام، وبيان محاسنه بالقول وبالفعل، وليس كزمننا اليوم نبيّن محاسن الإسلام بالقول إن بيّناه، أما بالفعل فنسأل الله أن يوفق المسلمين للقيام بالإسلام، فإذا رأى الإنسان الأجنبي البلاد الإسلامية، ورأى ما عليه بعض المسلمين من الأخلاق التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، من شيوع الكذب فيهم، وكثرة الغش، وتفشي الظلم والجور استغرب ذلك، ويقول: أين الإسلام؟! فالإسلام في الحقيقة إنما فتحت البلاد به، لا بالسيف، والسيف يستعمل عند الضرورة إليه، إذا لم يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، كما سبق.
وأيضاً: لا نستعمل السيف إلا بعد القدرة، أما إذا كان(5/63)
أعداؤنا أكثر منا بكثير وأقوى منا فإن استعمال السيف يعتبر تهوراً، ولهذا أباح الله لنا ألا نقابل أكثر من مثلينا قال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ *} [الأنفال] .
وفيه أيضاً: حجة للكفار حيث يقولون: إنكم أنتم أيها المسلمون فتحتم بلادنا في الأول بالقوة، لا بالدعوة.
وَيَقْصِدَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَيَقْصُرَ الخُطْبَةَ، وَيَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ.
قوله: «ويقصد تلقاء وجهه» أي: يسن للخطيب أن يتجه تلقاء وجهه، فلا يتجه لليمين أو لليسار، بل يكون أمام الناس؛ لأنه إن اتجه إلى اليمين أضر بأهل اليسار، وإن اتجه إلى اليسار أضر بأهل اليمين، وإن اتجه تلقاء وجهه لم يضر بأحد، والناس هم الذين يستقبلونه مع الإمكان.
فإن قال قائل: هل من السنة أن يلتفت يميناً وشمالاً؟
فالجواب: أن هذا ليس من السنة فيما يظهر، وأن الخطيب يقصد تلقاء وجهه، ومن أراده التفت إليه.
وهل من السنّة أن يحرك يديه عند الانفعال؟
الجواب: ليس من السنّة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك، لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء.
أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها، أما خطبة الجمعة فإن المغلَّب فيها التعبد، ولهذا أنكر(5/64)
الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في الدعاء (1) ، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «ويقصر الخطبة» أي: يسن أن يجعلها قصيرة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه» (2) ، فالأولى أن يقصر الخطبة؛ لأن في تقصير الخطبة فائدتين:
1 ـ ألا يحصل الملل للمستمعين؛ لأن الخطبة إذا طالت لا سيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب، ولا يبعث الهمم فإن الناس يملون ويتعبون.
2 ـ أن ذلك أوعى للسامع أي: أحفظ للسامع؛ لأنها إذا طالت أضاع آخرها أولها، وإذا قصرت أمكن وعيها وحفظها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه» (3) ، أي: علامة ودليل على فقهه، وأنه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يخطب أحياناً بسورة {ق} (4) وسورة «ق» مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً.
قوله: «ويدعو للمسلمين» أي: يسن أيضاً في الخطبة أن
__________
(1) أخرجه مسلم (874) .
(2) و (3) أخرجه مسلم (869) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
(4) سبق تخريجه ص (54) .(5/65)
يدعو للمسلمين الرعية والرعاة؛ لأن ذلك الوقت ساعة ترجى فيه الإجابة، والدعاء للمسلمين لا شك أنه خير، فلهذا استحبوا أن يدعو للمسلمين.
ولكن قد يقول قائل: كون هذه الساعة مما ترجى فيها الإجابة، وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجود في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله فتركه هو السنة؛ إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا بد من دليل خاص يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به، ولا نقول: إنه من سنن الخطبة، وغاية ما نقول: إنه من الجائز، لكن قد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة» (1) ، فإن صح هذا الحديث فهو أصل في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنّة، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائز، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنّة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه.
__________
(1) أخرجه البزار (2/307) «كشف الأستار» عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
قال البزار: «لا نعلمه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بهذا الإسناد» . وقال الهيثمي في «المجمع» (2/190) : «وفي إسناد البزار يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف» . وقال الحافظ في «البلوغ» (492) : «بإسناد فيه لين» .(5/66)
فَصْلٌ
وَالْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ جَهْراً.......
فصل
قوله: «والجمعة ركعتان» وهذا بالنص، والإجماع.
أما النص: فإن هذا أمر متواتر مشهور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يصلي الجمعة ركعتين فقط.
وأما الإجماع: فهو أيضاً إجماع متواتر لم يختلف أحد من المسلمين فيه.
وفي هذا دليل على أن الجمعة صلاة مستقلة، وليست ظهراً، ولا بدلاً عن الظهر، ومن زعم أنها ظهر مقصورة، أو بدل عنها فقد أبعد النجعة، بل الجمعة صلاة مستقلة لها شرائطها وصفتها الخاصة بها، ولذلك تصلى ركعتين، ولو في الحضر.
وقوله: «يسن أن يقرأ جهراً» هذا مما تختلف فيه عن صلاة الظهر، أنها تسنّ القراءة فيها جهراً من بين سائر الصلوات النهارية، ونحن إذا تأملنا الصلوات الجهرية وجدنا أنها الصلوات الليلة المكتوبة: المغرب، والعشاء، والفجر، وأنها أيضاً الصلاة ذات الاجتماع العام، ولو نهاراً مثل: الجمعة، والعيد، والكسوف، والاستسقاء؛ لأن هذه يجتمع فيها الناس اجتماعاً عاماً، فالسنة في الكسوف مثلاً أن يصليها أهل البلد كلهم في مسجد واحد في الجامع، وكذلك صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد، وصلاة الجمعة.
والحكمة من ذلك ـ أنه يجهر في هذه الصلوات ذوات الاجتماع العام ـ هي إظهار الموافقة والائتلاف التام؛ لأنه إذا كان الإمام يجهر صارت قراءته قراءة للجميع، فكأنه عنوان على ائتلاف أهل البلد كلهم.(5/67)
أما في الليل فالحكمة من ذلك هي أنه قد يكون أنشط للمصلين إذا استمعوا القراءة، لا سيما إذا كان الصوت جيداً، والقراءة لذيذة، ولأجل أن يتواطأ القلب واللسان من جميع الحاضرين.
وقوله: «يسن أن يقرأ جهراً» ، يؤخذ منه أنه لو قرأ سراً لصحّت الصلاة، لكن الأفضل الجهر.
فِي الأُْولَى بِالجُمُعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ.
قوله: «في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين» أي: يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، والمناسبة فيهما ظاهرة.
أما «سورة الجمعة» فالمناسبة أظهر من الشمس؛ لأن فيها ذكر الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة، وأيضاً ذكر الله فيها الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ـ أي: لم يعملوا بها ـ أن مثلهم كمثل الحمار، ففيه تحذير للمسلمين أن يتركوا العمل بالقرآن، فيصيروا مثل اليهود أو أخبث؛ لأن من ميّز عن غيره بفضل كان تكليفه بالشكر أكثر.
وأما «المنافقون» فالمناسبة ظاهرة أيضاً: من أجل أن يصحح الناس قلوبهم ومسارهم إلى الله تعالى كل أسبوع، فينظر الإنسان في قلبه، هل هو من المنافقين أو من المؤمنين؟ فيحذر ويطهر قلبه من النفاق، وفيه أيضاً فائدة أخرى أن يقرع أسماع الناس التحذير من المنافقين كل جمعة؛ لأن الله قال فيها عن المنافقين: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] .
وله أن يقرأ بـ {سَبِّحِ} و {الْغَاشِيَةِ} ثبت ذلك أيضاً في
__________
(1) أخرجه مسلم (877) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/68)
صحيح مسلم (1) ، فالسنة: أن يقرأ مرة بهذا، ومرة بهذا، ولكن لو أن الإنسان راعى أحوال الناس ففي أيام الشتاء البارد يقرأ بسبح والغاشية؛ لأن الناس ربما يحتاجون إلى كثرة الخروج للتبول بسبب البرودة، وكذا في أيام الحر الشديد أيضاً يقرأ بسبح والغاشية، لا سيما إذا كان المسجد ليس فيه تبريد كافٍ؛ لأجل التسهيل على الناس، وذلك أن من هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً (2) .
والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي (التيسير) ، فإذا علمنا أن الأيسر على المصلين أن نقرأ بسبّح والغاشية، وذلك في شدة البرد والصيف، فالأفضل أن نقرأ بهما، وأما في الأيام المعتدلة الجو فينبغي أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً؛ لئلا تهجر السنّة، والمناسبة فيهما ظاهرة؛ لأن في «سبّح» أمر الله تعالى بالتذكير فقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *} [الأعلى] ، والإمام قد ذكر في الخطبة، فينبّه الناس على أنهم إن كانوا من أهل خشية الله فسوف يتذكرون.
وفي «الغاشية» ذكر يوم القيامة وأحوال الناس فيها، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *} [الغاشية] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ *لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ *} [الغاشية] ، وفيها أيضاً التذكير: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *} [الغاشية] .
__________
(1) أخرجه مسلم (878) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (3560) ؛ ومسلم (2327) عن عائشة رضي الله عنها.(5/69)
وَتَحْرمُ إِقَامَتُهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ مِن الْبَلَدِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ.........
قوله: «وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة» أي: تحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، ويأتي دليل ذلك.
وهذا أيضاً من خصائص الجمعة، أما غير الجمعة فإنها تصلى في الدور (الأحياء) ، ففي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب» (1) أي الأحياء، ولهذا يقال: دار بني فلان، ودار بني فلان أي: حيّهم، فالجمعة يجب أن تكون في مسجد واحد؛ لأنها لو فرقت في مساجد الأحياء لانتفى المعنى الذي من أجله شرعت الجمعة، ولتفرق الناس، وصار كل قوم ينفضون عن موعظة تختلف عن موعظة الآخر، فيتفرق البلد، ولا يشربون من نهر واحد.
وأيضاً لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين، وإنما أقيمت في القرن الثالث بعد سنة (276هـ) تقريباً، فكان المسلمون إلى هذا الزمن
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/279) ؛ وأبو داود (455) ؛ والترمذي (594) ؛ وابن ماجه (759) ؛ وابن حبان (1634) الإحسان؛ وابن خزيمة (1294) .(5/70)
يصلون على إمام واحد، حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة؟ فقال: ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة، والإمام أحمد توفي سنة (241هـ) ، إلى هذا الحد لم تقم الجمعة في أكثر من موضع في البلد، وأقيمت في بغداد أول ما أقيمت لما صار البلد منشقاً بسبب النهر في الشرقي منه والغربي، فجعلوا فيها جمعتين؛ لأنه يشق أن يعبر الناس النهر كل أسبوع.
وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أقام صلاة العيد في الكوفة في الصحراء، وجعل واحداً من الناس يقيمها في المسجد الجامع داخل البلد للضعفاء (1) ، فمن هنا ذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إلى أن صلاة الجمعة يجوز تعددها للحاجة.
والدليل على التحريم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (2) ، وحافظ النبي صلّى الله عليه وسلّم على صلاته الجمعة في مسجد واحد طول حياته، والخلفاء من بعده، والصحابة من بعدهم، وهم يعلمون أن البلاد اتسعت، ففي عهد عثمان اتسعت المدينة فزاد أذاناً ثالثاً (3) فصار أذان أول، ثم أذان عند حضور الإمام، ثم الإقامة، ولم يعدد الجمعة، وكانت أحياء العوالي في عهده صلّى الله عليه وسلّم بعيدة عن مكان الجمعة، ومع ذلك يحضرون إلى مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن مع الأسف الآن أصبح كثير من بلاد المسلمين لا يفرقون بين الجمعة وصلاة الظهر، أي: أن الجمعة تقام في كل مسجد، فتفرقت الأمة، وصار الناس يقيمون صلاة الجمعة،
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/184، 185) ؛ والبيهقي (3/310) .
(2) سبق تخريجه (3/27) .
(3) سبق تخريجه (2/63) .(5/71)
وكأنها صلاة ظهر، وهذا لا شك أنه خلاف مقصد الشرع وهدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا جزم المؤلف بتحريم إقامتها في أكثر من موضع في البلد.
وقوله: «إلا لحاجة» ، والمراد بالحاجة هنا: ما يشبه الضرورة؛ لأن هناك ضرورة وحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة:
أن الحاجة: هي التي يكون بها الكمال.
والضرورة: هي التي يندفع بها الضرر؛ ولهذا نقول: المحرَّم لا تبيحه إلا الضرورة، قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء.
وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة، لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.
ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا(5/72)
لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح، وتوحيدهم على إمام واحد.
وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف (1) ، وهو من أشد الناس ظلماً وعدواناً، يقتل العلماء والأبرياء، وكانوا يصلون خلفه، بل الصحيح أنه يجوز أن يكون الإمام فاسقاً، ولو في غير الجمعة، ما لم يكن فسقه إخلالاً بشرط من شروط الصلاة يعتقده هو شرطاً فحينئذٍ لا نصلي خلفه، وإن كان الإخلال بشرط من شروط الصلاة نعتقده نحن شرطاً وهو لا يعتقده فهذا لا يضر.
مثاله: أن نعتقد أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء، والإمام يعتقد أنه لا ينقض فأكل منه ولم يتوضأ ثم صلى بنا، فإننا نصلي خلفه؛ لأن هذا اختلاف اجتهاد.
فَإِنْ فَعَلُوا فَالصَّحيحَةُ مَا بَاشَرَهَا الإِمَامُ،..........
قوله: «فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام» ، أي: صلوا الجمعة في موضعين فأكثر بلا حاجة فالصحيحة ما باشرها الإمام وأذن فيها، وإذا قال العلماء: «الإمام» فمرادهم من له أعلى سلطة في الدولة؛ وذلك لأن الإمام العام فقد منذ نشأ النزاع بين الخلفاء في أول خلافة بني أمية، وصارت الأمة الإسلامية مع الأسف دويلات، فإن تعددت الجمعة في موضع واحد لغير حاجة، فالصحيحة ما باشرها الإمام أي: ما صلى فيها، سواء كان هو الإمام، أو كان مأموماً، وكانوا فيما سبق لا يصلي الجمعة إلا
__________
(1) سبق تخريجه (4/217) .(5/73)
الإمام يتولى الإمامة في صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وقيادة الحجيج.
أَوْ أَذِنَ فِيهَا، فَإِن اسْتَوَتَا فِي إِذْنٍ أَوْ عَدَمِهِ، فَالثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ،.........
قوله: «أو أذن فيها» ، أي: إن لم يباشرها، مثل: أن يكون بلد الإمام في محل آخر وهذا البلد الذي فيه تعدد الجمعة لم يكن فيه الإمام حاضراً، لكنه قال: أذنت لكم أن تقيموا جمعتين فأكثر، وهذه المسألة ليست مبنية على ما سبق في قول المؤلف: «لا يشترط لها إذن الإمام» ؛ لأن إذن الإمام هناك لا يشترط في إقامة الجمعة الواحدة، أما في التعدد فلا بد من إذن الإمام، والفرق بينهما ظاهر، فالأولى لو قلنا: إنه يشترط لإقامة الجمعة إذن الإمام لكانت الفرائض باختيار الأئمة، أما تعدد الجمعة فلا بد من إذن الإمام؛ لئلا يفتات عليه وتتفرق الأمة، وهذا أمر يرجع إلى الدين من جهة، وإلى نظام الدولة من جهة أخرى.
فرجوعه إلى الدين؛ لأن الدين ينهانا عن التفرق في دين الله قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
وأما رجوعه إلى نظام الدولة فإن ولي الأمر هو الذي له الكلمة فيكون في إقامة الجمعة الثانية افتيات على الإمام، فتكون كل طائفة من الناس تود أن تتزعم البلد فتجعل في محلها جمعة.
قوله: «فإن استوتا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة» ، فإن استوتا، أي: الجمعتان في إذن أو عدمه بأن يكون الإمام قد أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً، وبهذا نعرف أن القسمة ثلاثية:(5/74)
1 ـ يأذن في إحداهما.
2 ـ يأذن فيهما.
3 ـ لا يأذن في واحدة منهما.
فإن أذن في إحداهما فهي الصحيحة، سواء تأخرت أو تقدمت.
وإن أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً فالثانية باطلة على ما يقتضيه كلام المؤلف.
والمراد بالثانية ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء، ولكن كيف نعلم ذلك؟
الجواب: أما في الزمن السابق فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون صعباً، أما في الزمن الحاضر فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون سهلاً بوسيلة مكبر الصوت إذا سمعنا قول الإمام في الأولى: «الله أكبر» ، ثم قال الإمام في الثانية بعده مباشرة: «الله أكبر» ، قلنا للثاني: صلاتك باطلة، وللأول: صلاتك صحيحة؛ لأن الأول لما سبق بالإحرام تعلق بها الفرض؛ لأنها سبقت، وعلى المذهب تدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام، فإذا سبقت بتكبيرة الإحرام تعلق الفرض بها وصارت هي الصلاة المفروضة، والثانية باطلة.
وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى، فهي تشبه مسجد الضرار الذي بناه المنافقون عند مسجد قباء، وقال الله لنبيه: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] .(5/75)
وهذا القول هو الصحيح، أن المعتبر السابقة زمناً وإنشاء ولو تأخرت عملاً، فلو فرضنا أن الجديدة ـ التي أنشئت حديثاً، وبدون إذن الإمام ـ صلوا ركعة قبل أن تقام الثانية ـ التي هي الأولى إنشاءً ـ فإن صلاتهم لا تصح جمعة؛ لأن الناس مجتمعون على الأولى، فجاء هؤلاء وأنشؤوا مسجداً جامعاً وفرقوا الناس.
وَإِنْ وَقَعَتَا مَعاً، أَوْ جُهِلَتِ الأُولَى بَطَلَتَا.......
قوله: «وإن وقعتا معاً» أي: إن وقعتا معاً بطلتا معاً، فمثلاً إذا كنا نحن نستمع إلى المسجد الشمالي والمسجد الجنوبي فقال إمام كل مسجد منهما: «الله أكبر» في نفس الوقت فنقول لهم: صلاتكم جميعاً باطلة؛ لأنه لم تتقدم إحداهما حتى يكون لها مزية، وإذا لم يكن لها مزية صارت كل واحدة منهما تبطل الأخرى، كالبينتين إذا تعارضتا تساقطتا، وعلى هذا يلزم الجميع إعادتها جمعة في مكان واحد مع بقاء الوقت، وإلا صلوا ظهراً.
وعلى القول الذي رجحناه نقول: أهل المسجد الشمالي صحت جمعتهم، وأهل المسجد الجنوبي لم تصح جمعتهم؛ لأن الجمعة في الشمالي هي الأولى إنشاءً.
قوله: «أو جهلت الأولى بطلتا» أي: لو أقيمت جمعتان بلا حاجة، واستوتا في إذن الإمام وعدمه. وجهلت الأولى منهما، ولم يعلم أيهما أسبق بتكبيرة الإحرام بطلتا أي: الجمعتان، ولزمهم صلاة الظهر، ولا يصح استعمال القرعة هنا؛ لأنها عبادة، وهنا تلزمهم صلاة الظهر، ولا تصح إعادتها جمعة.
وقد سبق في المسألة التي قبلها أنه يلزمهم إعادتها جمعة إن أمكن.(5/76)
والفرق بين المسألتين ظاهر: لأنه في المسألة الأولى بطلت الجمعتان جميعاً، كل واحدة أبطلت الأخرى فلم تصح واحدة منهما، فيجب إعادة الجمعة إن استطاعوا، وإلا صلوا ظهراً، وفي المسألة الثانية إحداهما صحيحة وهي التي سبقت لكنها مجهولة، والجمعة لا تعاد مرتين، فحينئذٍ لا تعاد الصلاة، ولو اجتمعوا في مسجد واحد، فيجب على الجميع إعادة الصلاة ظهراً.
وَأَقَلُّ السُّنَّةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا سِتٌّ،..........
قوله: «وأقل السنّة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست» ، شرع المؤلف في بيان السنن التوابع للجمعة، فأقلها ركعتان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته» (1) ، ثبت ذلك عنه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ.
وأكثرها ست؛ لأنه ورد عن عبد الله بن عمر بإسناد صححه العراقي (2) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بعد الجمعة ستاً، فقد كان ابن عمر «إذا صلى في مكة تقدم بعد صلاة الجمعة فصلى ركعتين، ثم صلى أربعاً، وفي المدينة يصلي ركعتين في بيته، ويقول: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يفعله» (3) .
أما الأربع فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك فقال: «إذا صلّى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً» (4) .
فصارت السنة بعد الجمعة، إما ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً،
__________
(1) أخرجه البخاري (937) ؛ ومسلم (882) .
(2) «نيل الأوطار» (3/280) .
(3) أخرجه أبو داود (1130) ؛ والبيهقي (3/240، 241) .
(4) أخرجه مسلم (881) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ.(5/77)
ولكن هل هذا مما وردت به السنة على وجوه متنوعة، أو على أحوال متنوعة، فيه أقوال:
القول الأول: أنها على أحوال متنوعة.
وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقال: إن صليت راتبة الجمعة في المسجد فصل أربعاً، وإن صليتها في البيت فصل ركعتين.
القول الثاني: أنها متنوعة على وجوه فصلِّ أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.
القول الثالث: أنها أربع ركعات مطلقاً؛ لأنه إذا تعارض قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعله يقدم قوله.
والأولى للإنسان ـ فيما أظنه راجحاً ـ أن يصلي أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.
أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم «كان يفعلها» . لكن الذي في الصحيحين أنه كان يصلي ركعتين، ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعاً، فهذه ست ركعات: أربع بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأمل.
وعُلم من قول المؤلف: «أقل السنة بعد الجمعة ركعتان» أنه ليس للجمعة سنّة قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما شاء بغير قصد عدد، فيصلي ركعتين أو ما شاء، لكن إذا دخل الإمام أمسك.
فإن قال قائل: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة، أو أشغل وقتي بقراءة القرآن؟
فالجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما، وهما تحية(5/78)
المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس، ويكثر المترددون بين يديك، فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش، فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكراً ودعاء وقياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، فهي روضة من رياض العبادات فهي أفضل.
فمثلاً: المسجد الحرام في أيام المواسم إذا صلى الإنسان تعب بمضايقة الناس، فهنا قد تكون قراءة القرآن بتدبر وتمهل يحصل فيها من خشوع القلب، ورقته، وقوة الإيمان ما لا يحصل بالصلاة، لكن لا بد من تحية المسجد.
والإمام أحمد ـ رحمه الله ـ سئل عن مسألة من مسائل العلم، فقال للسائل: «انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله» ، وهذه كلمة عظيمة، ولا شك أن الإمام أحمد إنما يريد ما لم يرد فيه التفضيل، أما ما ورد فيه التفضيل فالقول ما قال الله ورسوله، لكن مع ذلك نحن نشاهد من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وحاله أنه يقدم أحياناً المفضول على الفاضل، فأحياناً يصوم حتى يقال: لا يفطر، وأحياناً يفطر حتى يقال: لا يصوم (1) ، وكذلك في قيام الليل، وأحياناً يأتيه الوفود يشغلونه عن الراتبة فيجلس معهم، ولا يصلي الراتبة إلا بعد صلاة أخرى، كما أخر راتبة الظهر إلى ما بعد العصر (2) ، فالإنسان العاقل الموفق يعرف كيف يتصرف في العبادات غير الواجبة،
__________
(1) أخرجه البخاري (1969) ؛ ومسلم (1156) (175) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ.
(2) أخرجه البخاري (1233) ؛ ومسلم (834) عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ.(5/79)
فيقارن، ويوازن بين المصالح، ويفعل ما هو أصلح.
وَيُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِلَ،........
قوله: «ويسن أن يغتسل» ، يعبر الفقهاء بيُسن، ويجب، ويشرع.
فإذا قالوا: يشرع فهو لفظ صالح للوجوب، والاستحباب.
وإذا قالوا: يجب فهو للوجوب.
وإذا قالوا: يسن فهو للاستحباب.
والسنّة في تعبير الفقهاء: هي ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه، فهي بين الواجب والمباح.
فقوله: «يسن أن يغتسل» أي: أنه إذا اغتسل ليوم الجمعة فهو أفضل، وإن لم يغتسل فلا إثم عليه.
وقوله: «أن يغتسل» لم يبيّن كيفية الاغتسال، ولكنه إذا أطلق في لسان الشارع، أو في لسان أهل الشرع وهم الفقهاء، فإنه يحمل على الاغتسال الشرعي، لا على مجرد أن يغسل الإنسان بدنه، والغسل الشرعي له صفتان:
1 ـ واجبة: وهي أن يعم جميع بدنه بالماء، ولو بانغماس في بركة أو نهر أو بحر.
2 ـ مستحبة: وهي أن يتوضأ أولاً، كما يتوضأ للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه، ويخلل شعره ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على سائر جسده.
وقول المؤلف: «يسن أن يغتسل» لم يبيّن متى يكون الاغتسال.
فقال بعضهم: إن أول وقته من آخر الليل.(5/80)
وقال آخرون: بل من طلوع الفجر؛ لأن النهار لا يدخل إلا بطلوع الفجر.
وقال آخرون: بل من طلوع الشمس؛ لأن ما بين الفجر وطلوع الشمس وقت لصلاة خاصة، وهي الفجر، ولا ينتهي وقتها إلا بطلوع الشمس، وعلى هذا فيكون ابتداء الاغتسال من طلوع الشمس، وهذا أحوط الأقوال الثلاثة؛ لأن من اغتسل بعد طلوع الشمس فقد أتى على الأقوال كلها. وينتهي وقت الاغتسال بوجوب السعي إلى الجمعة على الأقوال كلها.
وقوله: «يسن أن يغتسل» ، لم يبيّن من الذي يغتسل، هل هم الرجال أو النساء؟
والسنّة تدل على أن الاغتسال خاص بمن يأتي إلى الجمعة؛ لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» (1) ، ولقوله: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (2) ، وكلمة «الجمعة» هنا يحتمل أن يكون المراد بها الصلاة، أو اليوم، لكن قوله: «إذا أتى أحدكم الجمعة» يعين أن المراد بها الصلاة، وعلى هذا فالنساء لا يسنّ لهن الاغتسال، وكذلك من لا يحضر لصلاة الجمعة لعذر، فإنه لا يسنّ له أن يغتسل للجمعة.
وقول المؤلف: «يسنّ أن يغتسل» هو المذهب، وعليه جمهور العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجب.
__________
(1) أخرجه البخاري (877) ؛ ومسلم (844) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) يأتي تخريجه ص (82) .(5/81)
وهذا القول هو الصحيح لما يلي:
1 ـ قول أفصح الخلق وأنصحهم محمد صلّى الله عليه وسلّم: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (1) ، فصرّح النبي صلّى الله عليه وسلّم بالوجوب، ومن المعلوم أننا لو قرأنا هذه العبارة في مؤلف كهذا الذي بين أيدينا لم نفهم منها إلا أنه واجب يأثم بتركه، فكيف والتعبير من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أعلم الخلق بشريعة الله وأفصح الخلق وأنصح الخلق وأعلمهم بما يقول؟
ثم إنه علق الوجوب بوصف يقتضي الإلزام، وهو الاحتلام الذي يحصل به البلوغ، فإذا تأملنا ذلك تبيّن لنا ظاهراً أن غسل الجمعة واجب، وأن من تركه فهو آثم، لكن تصح الصلاة بدونه؛ لأنه ليس عن جنابة.
2 ـ أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ دخل وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة، فأنكر عليه تأخّره، فقال: والله يا أمير المؤمنين كنت في شغل، وما زدت على أن توضأت، ثم أتيت، فقال له ـ موبخاً ـ: والوضوء أيضاً؟ ـ أي: تفعل الوضوء أيضاً ـ، وقد علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بالغسل (2) ، فأنكر عمر ـ رضي الله عنه ـ عليه اقتصاره على الوضوء.
وأما ما روي عن سمرة بن جندب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» (3) ،
__________
(1) أخرجه البخاري (879) ؛ ومسلم (846) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (878) ؛ ومسلم (845) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (5/15، 16) ؛ وأبو داود (354) ؛ والترمذي (495) وحسنه؛ والنسائي (3/94) ؛ وابن خزيمة (1757) .(5/82)
فهذا الحديث لا يقاوم ما أخرجه الأئمة السبعة وغيرهم، وهو حديث أبي سعيد الذي ذكرناه آنفاً: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» ، ثم إن الحديث من حيث السند ضعيف؛ لأن كثيراً من علماء الحديث يقولون: إنه لم يصح سماع الحسن عن سمرة إلا في حديث العقيقة، وإن كنا رجّحنا في المصطلح: أنه متى ثبت سماع الراوي من شيخه، وكان ثقة ليس معروفاً بالتدليس، فإنه يحمل على السماع، على أن الحسن ـ رحمه الله ـ رماه بعض العلماء بالتدليس، ثم إن هذا الحديث من حيث المتن إذا تأملته وجدته ركيكاً ليس كالأسلوب الذي يخرج من مشكاة النبوة «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» ... «بها» أين مرجع الضمير؟ ففيه شيء من الركاكة أي: الضعف في البلاغة «ومن اغتسل فالغسل أفضل» فيظهر عليه أنه من كلام غير النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فالذي نراه وندين الله به، ونحافظ عليه أن غسل الجمعة واجب، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف، وأما ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» (1) ، فإنه مرجوح، لاختلاف الرواة، فبعضهم قال: «من اغتسل» وهذه أرجح، وبعضهم قال: «من توضأ» .
مسألة: بقي أن يقال: إذا لم يجد الماء، أو تضرر
__________
(1) أخرجه مسلم (857) (26) (27) ، وقدم لفظ «من اغتسل» ، وهو عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/83)
باستعماله.. فهل يتيمم لهذا الغسل، أو نقول: إنه واجب سقط بعدم القدرة عليه؟
الجواب أن نقول: الثاني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، ويقول شيخ الإسلام: جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها فإنه لا يتيمم عنها؛ لأن التيمم إنما شرع للحدث؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] .
ومعلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير؛ لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه، وعلى هذا فلو أن الإنسان وصل إلى الميقات وهو يريد العمرة أو الحج، ولم يجد الماء، أو وجده وكان بارداً لا يستطيع استعماله، أو كان مريضاً، فلا يتيمّم بناء على هذا.
والفقهاء رحمهم الله يقولون: يتيمّم، والصحيح خلاف ذلك.
وَتَقَدَّمَ،...........
قوله: «وتقدم» ، أي: سبق ذكر استحباب الغسل ليوم الجمعة.
لكن صاحب الروض قال: «فيه نظر» ، وإذا قال العلماء: «فيه نظر» فيعنون أنه غير مسلم، والعلماء يعبرون أحياناً بقولهم: «فيه شيء» ، إذا نقلوا كلام غيرهم.
وقولهم: «فيه شيء» ، أخف من قولهم: «فيه نظر» ، وقول صاحب الروض: «فيه نظر» ، أي: في قول الماتن: «وتقدم» نظر،(5/84)
وكأن صاحب الروض غفل عن قول صاحب المتن؛ لأن صاحب المتن في أقسام المياه قال: «وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة» ، فهذا صريح في أن غسل الجمعة مستحب، وكأن صاحب الروض إنما قال: «فيه نظر» لما رأى المؤلف لم يذكره في باب الغسل، كما جرت به عادة الفقهاء في ذكر الأغسال المستحبة في باب الغسل.
وَيَتَنَظَّفَ، وَيَتَطَيَّبَ.........
قوله: «ويتنظف» أي: ويسنّ أن يتنظف كما جاءت به السنّة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ... » (1) ، والتنظّف أمر زائد على الاغتسال، فالتنظّف بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها، فمن أسباب الرائحة الكريهة الشعور والأظفار التي أمر الشارع بإزالتها، وعلى هذا فيسنّ حلق العانة، ونتف الإبط، وحف الشارب، وتقليم الأظفار، لكن من المعلوم أن هذا لا يكون في كل جمعة، فقد لا يجد الإنسان شيئاً يزيله، من هذه الأمور الأربعة، وقد وقّت النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الأشياء الأربعة ألا تزيد على أربعين يوماً (2) ، وقد قال الفقهاء: إن حف الشارب في كل جمعة.
قوله: «ويتطيّب» أي: ويسنّ أيضاً أن يتطيّب، كما جاءت به السنة (3) ، بأي طيب سواء من الدهن أو من البخور، في ثيابه وفي بدنه؛ وذلك من أجل اجتماع الناس في مكان واحد؛ لأن العادة
__________
(1) أخرجه البخاري (883) عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ.
(2) أخرجه مسلم (258) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ.
(3) أخرجه البخاري (883) عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ.(5/85)
أنه إذا كثر الجمع ضاق النفس، وكثر العرق، وثارت الرائحة الكريهة، فإذا وجد الطيب، وقد سبقه التنظّف، فإن ذلك يخفف من الرائحة؛ ولهذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام من أكل بصلاً أو ثوماً أن يقرب المسجد (1) ، وكانوا إذا رأوا إنساناً أكل بصلاً أو ثوماً، أمروا به فأخرج من المسجد إلى البقيع، ومن الأسف أن بعض الناس اليوم يأتي إلى الجمعة، وثيابه وجسمه لهما رائحة كريهة، ثم لا يستطيع أحد أن يصلي إلى جنبه، وليس هذا من عند الله، بل من نفسه، فهو الذي يجلب لنفسه الأوساخ والأدران، ولا يهتم بنفسه، وفي هذا أذية للمصلين، وأذية للملائكة.
بل إن العلماء قالوا: إن ما كان من الله، ولا صنع للآدمي فيه إذا كان يؤذي المصلين فإنه يخرج، كالبخر في الفم، أو الأنف، أو من يخرج من إبطيه رائحة كريهة، فإذا كان فيك رائحة تؤذي فلا تقرب المسجد.
فإن قال: هذا من الله؟ فيقال: إذا ابتلاك الله به فلا تؤذ العباد، ولا تؤذ الملائكة، وأنت مأجور على الصبر على هذا الشيء واحتساب الأجر من الله، ولست آثماً إذا لم تصل مع الناس؛ لأنك إنما تركت ذلك بأمر الله.
فإذا قال: هذا ينقص إيماني؛ لأن صلاة الجماعة أفضل؟
قلنا: إنك لا تلام على هذا النقص؛ كما أن الحائض لا
__________
(1) سبق تخريجه (4/323) .(5/86)
تصلي، وينقص إيمانها بذلك ولا تلام على النقص؛ لأن النقص الذي ليس بسبب الإنسان لا يلام عليه.
وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيُبَكِّرَ إِلَيْهَا مَاشِياً،..........
قوله: «ويلبس أحسن ثيابه» أي: ويسنّ لبس أحسن ثيابه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يُعد أحسن ثيابه للوفد والجمعة (1) .
وانظر كيف كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعامل الناس، فإذا جاء الوفد لبس أحسن ثيابه؛ ليظهر أمام الوفد بالمظهر اللائق، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذراً من الكبر: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر» ، قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال» (2) ، أي: يحب التجمل، وليس الجمال الطبيعي الخَلْقي؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنى هذا الكلام على قولهم: «يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً» ؛ ولأن هذا هو الذي يستطيعه الإنسان، فيثاب عليه إذا فعله، أما الجمال الخَلْقي فهذا ليس من اختيار الإنسان.
فدل ذلك على أنه ينبغي أيضاً أن يحسّن الإنسان ثيابه، ويحسّن نعله، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك به إلى الإسراف والفخر والخيلاء، ولهذا وردت أحاديث تدل على فضل التواضع في
__________
(1) لما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ... » .
أخرجه البخاري (886) .
(2) سبق تخريجه (1/157) .(5/87)
اللباس، وهذا في مكانه، أي: لو كان الإنسان يريد أن يأتي إلى قوم فقراء، ويخشى إذا جاء بلباسه الزاهي أن تنكسر قلوبهم، فهنا الأفضل أن يلبس ما يناسب الحال، ويكون مأجوراً على ذلك.
قال في الروض: «وأفضلها البياض، ويعتم، ويرتدي» أي: أفضلها البياض، ولا شك أن أفضل الثياب للرجال البياض، لكن أحياناً لا يجد الإنسان البياض مناسباً للوقت، مثل: أيام الشتاء فإنه يندر أن تجد ثياباً بيضاء تناسب الوقت، فهنا نقول: ارفق بنفسك، ويمكن أن تلبس ثياباً متعددة، ويكون الأعلى هو الأبيض.
قوله: «ويعتم» أي: يلبس العمامة.
والعمامة: هي ما يطوى على الرأس، ويكور عليه.
والدليل: فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يلبس العمامة، ويمسح عليها (1) ، ولكن هل لباسه إياها كان تعبداً، أو لباسه إياها؛ لأنها عُرف؟
الجواب: الثاني هو الصحيح، واتباع العرف في اللباس هو السنة ما لم يكن حراماً؛ لأنّا نعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما لبس ما يلبسه الناس، والإنسان لو خالف ما يلبسه الناس لكانت ثيابه ثياب شهرة.
قوله: «ويرتدي» أي: يلبس الرداء، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان عليه قميص وهذا فيه نظر.
لكن بدل الرداء عندنا المشلح، وأكثر الناس اليوم لا
__________
(1) سبق تخريجه (1/236) .(5/88)
يلبسونه، ولو لبسه الإنسان أمام الناس لاستنكروه، بينما كانوا في الأول يستنكرون من لا يلبسه.
قوله: «ويبكّر إليها» أي: يسنّ أن يبكّر إلى الجمعة.
ودليله: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» (1) .
وهذا يدل على أن الأفضل التبكير، ولكن بعد الاغتسال، والتنظّف والتطيّب، ولبس أحسن الثياب.
قوله: «ماشياً» ، أي: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً على قدميه، ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، ودنا من الإمام، ومشى ولم يركب» (2) . فقال: «مشى ولم يركب» ؛ ولأن المشي أقرب إلى التواضع من الركوب، ولأنه يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة، فكان المشي أفضل من الركوب.
ولكن لو كان منزله بعيداً، أو كان ضعيفاً أو مريضاً،
__________
(1) أخرجه البخاري (881) ؛ ومسلم (850) .
(2) وتمامه: «واستمع، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» .
أخرجه الإمام أحمد (4/104) ؛ وأبو داود (345) ؛ والترمذي (494) وحسنه؛ والنسائي (3/95) ؛ وابن ماجه (1087) ؛ وابن خزيمة (1758) ؛ وابن حبان (2781) الإحسان؛ والحاكم (1/281) وصححه.(5/89)
واحتاج إلى الركوب، فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.
ويدنو مِنَ الإِمَامِ،...............
قوله: «ويدنو من الإمام» ، وهذا أيضاً من السنّة أن يدنو من الإمام.
ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» (1) ، ولما رأى قوماً تأخروا في المسجد عن التقدم قال: «لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله» (2) ، فأقل أحواله أن يكون التأخّر عن الأول فالأول مكروه؛ لأن مثل هذا التعبير يعد وعيداً من النبي عليه الصلاة والسلام وليس في هذا العمل فقط، بل في جميع الأعمال؛ لأن الإنسان إذا لم يكن في قلبه محبة للسبق إلى الخير بقي في كسلٍ دائماً، كما قال الله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [الأنعام] . ولهذا ينبغي للإنسان كلما سنحت له الفرصة في العبادة أن يفعل، ويتقدم إليها، حتى لا يعوّد نفسه الكسل، وحتى لا يؤخّره الله عز وجل.
مسألة: دلّت السنّة على أن يمين الصف أفضل من اليسار، والمراد عند التقارب، أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلّت السنّة على أن اليسار الأقرب أفضل.
ودليل ذلك: أن الناس كانوا إذا وجد جماعة ثلاثة، فإن الإمام يكون بين الرجلين (3) ، ثم نسخ ذلك فصار الإمام يتقدم
__________
(1) سبق تخريجه (2/15) .
(2) أخرجه مسلم (438) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه (3/16) .(5/90)
الاثنين فأكثر، ولو كان اليمين أفضل على الإطلاق لصار مقام الرجلين مع الرجل عن اليمين. وأيضاً لو كان اليمين أفضل مطلقاً لقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكملوا الأيمن فالأيمن» ، كما كان الصف يكمل فيه الأول فالأول.
فلو فرض أن في اليمين عشرة رجال، وفي اليسار رجلين، فاليسار أفضل، لأنه أقرب إلى الإمام.
وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار أفضل من الصف الثاني، وإن كان خلف الإمام.
ودليل ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتراصون، ويتمون الأول فالأول» (1) .
وعلى هذا فنكمل الأول فالأول، فالأول قبل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع ... وهكذا.
وَيَقْرَأَ سُورَةَ الكَهْفِ فِي يَوْمِهَا.........
قوله: «ويقرأ سورة الكهف في يومها» ، أي: يسنّ أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» (2) وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً.
وقد أعل بعض العلماء المرفوع بأن الحديث روي موقوفاً.
__________
(1) سبق تخريجه (3/12) .
(2) أخرجه الحاكم (2/368) وقال: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي؛ والبيهقي (3/249) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
وأخرجه الدارمي (2/454) موقوفاً على أبي سعيد.(5/91)
ونحن نقول: إذا كان الرافع ثقة، فهذه العلة غير قادحة، فلا توجب ضعف الحديث، والذي يوجب ضعف الحديث العلة القادحة، وهذا لا يقدح؛ لأن من روى الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ربما يحدّث به غير منسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يقع كثيراً، لا سيما في غير مقام الاستدلال، أما في مقام الاستدلال فلا بد أن يرفعه، وعلى فرض أنه من قول أبي سعيد، فمثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع؛ لأن أبا سعيد لا يعرف هذا الثواب، فيكون مرفوعاً حكماً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وسورة الكهف لها مزايا منها: أن من قرأ فواتحها على الدجال عصم من فتنته (1) ، والدجال هو الأعور الذي يبعثه الله في آخر الزمان يبقى في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة، والثاني كشهر، والثالث كجمعة، والرابع كسائر الأيام، فتنته عظيمة جداً، ولهذا ما من نبي إلا أنذر قومه منه (2) ، وأمرنا نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن نتعوذ بالله من فتنته في كل صلاة بعد التشهد الأخير قبل السلام (3) ، وجاء في بعض الأحاديث أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنته (4) ، وفي بعض روايات
__________
(1) أخرجه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان وفيه قال رسول الله (ص) : «فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف» .
(2) سبق تخريجه (3/191) .
(3) سبق تخريجه (3/200) .
(4) أخرجه مسلم (809) من حديث أبي الدرداء ولفظه: «من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال» .(5/92)
الحديث: «من آخر الكهف» (1) ، والجمع بينهما: أن يحتاط الإنسان فيقرأ عشراً من أولها، وعشراً من آخرها وفيها عبر:
منها: قصة أصحاب الكهف.
ومنها: قصة الرجلين ذوي الجنتين.
ومنها: قصة موسى مع الخضر.
ومنها: قصة ذي القرنين.
ومنها: قصة يأجوج ومأجوج.
ولهذا ورد الترغيب في قراءتها في يوم الجمعة قبل الصلاة أو بعد الصلاة.
وَيُكْثِرَ الدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم.......
قوله: «ويكثر الدعاء» أي: يسن أن يكثر الدعاء يوم الجمعة؛ وذلك لأن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه؛ [لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه» ] (2) ، فينبغي أن يكثر من الدعاء رجاء ساعة الإجابة.
ولم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ نوع الدعاء الذي يكثره فهو راجع إليك، وكل إنسان له حاجات خاصة إلى ربه، فليسأل ربه ما شاء.
قوله: «ويكثر الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» أي: يسن أن يكثر الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بإكثار
__________
(1) أخرجه مسلم (809) (257) .
(2) أخرجه البخاري (935) ؛ ومسلم (852) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/93)
الصلاة عليه يوم الجمعة (1) ، كما أن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مشروعة كل وقت بالاتفاق؛ لأن الله قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] ، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم معناها: أنك تسأل الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى.
وقال بعض العلماء: صلاة الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم رحمته إياه، وهذا فيه نظر؛ لأن الله تعالى فرق بين الصلاة والرحمة فقال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، والأصل في العطف المغايرة؛ ولأن العلماء مجمعون على أنه يجوز للإنسان أن يدعو بالرحمة لمن شاء من المؤمنين فيقول: اللهم ارحم فلاناً، ومختلفون في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كانت الصلاة هي الرحمة لم يختلف العلماء في جوازها.
إذاً فالصلاة أخص من الرحمة، فإذا صلى الإنسان على النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فلنكثر من الصلاة على نبينا صلّى الله عليه وسلّم حتى يكثر ثوابنا.
وَلاَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ.........
قوله: «ولا يتخطى رقاب الناس» الواو للاستئناف، وليست للعطف على ما سبق؛ لأننا لو جعلناها للعطف على ما سبق لكان تقدير الكلام: «ويسن أن لا يتخطى» ، وليس الأمر كذلك، بل «لا» نافية وليست ناهية؛ لأن الألف لم تحذف، ولو كانت ناهية
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/8) ؛ وأبو داود (1047) ؛ والنسائي (3/91) ؛ وابن ماجه (1085) ؛ وابن خزيمة (1733) ؛ وابن حبان (910) الإحسان؛ والحاكم (1/278) عن أوس بن أوس رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه النووي في «الأذكار» ص (97) .(5/94)
لحذفت الألف للجزم، والنفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافية، فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروه.
والصحيح: أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة وغيرها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: «اجلس فقد آذيت» (1) ، ولا سيما إذا كان ذلك أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذية للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، إشغال لمن باشر تخطي رقبته، وإشغال لمن يراه ويشاهده، فتكون المضرة به واسعة.
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِمَاماً، أَوْ إِلَى فُرْجَةٍ........
قوله: «إلا أن يكون إماماً» أي: فإن كان إماماً، فلا بأس أن يتخطى؛ لأن مكانه متقدم، ولكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط بأن كان في مقدم المسجد باب يدخل منه الإمام، فإنه كغيره في التخطي؛ لأن العلة واحدة، وقد اعتاد الناس اليوم ـ والحمد لله ـ أن يجعلوا للإمام باباً في مقدم المسجد حتى يدخل منه، وكانوا في الزمن السابق لما كانت البيوت ملاصقة للمساجد من القبلة كان الإمام يدخل من الباب الخلفي ويتخطى الرقاب، ولكن الناس لا يرون في هذا بأساً؛ لأنه إمامهم فلا يتأذون بذلك.
قوله: «أو إلى فرجة» أي: مكان متسع في الصفوف المقدمة، فإن كان هناك فرجة، فلا بأس أن يتخطى إليها.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/118، 190) ؛ وأبو داود (1118) ؛ والنسائي (3/103) ؛ وابن خزيمة (1811) ؛ وابن حبان (2790) إحسان؛ والحاكم (1/288) وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه.(5/95)
فإن قال قائل: الحديث عام «اجلس فقد آذيت» (1) ؛ لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة.
ولكن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ استثنوا هذه المسألة، فقالوا: لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول، فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر، وحينئذٍ يكون التفريط منهم، وليس من المتخطي.
ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب، مثل: أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة، ثم مع التزحزح اتسعت، فحينئذٍ لا يكون منهم تفريط، فالأولى الأخذ بالعموم وهو ألا يتخطى إلى الفرجة لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس.
وَحَرُمَ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فَيَجْلِسَ مَكَانَهُ.......
قوله: «وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه» أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ويجلس مكانه.
قوله: «فيجلس مكانه» هذا قيد أغلبي؛ لأن الغالب أن الإنسان يقيم غيره من أجل أن يجلس في مكانه، ومع ذلك لو أقام غيره لا ليجلس في مكانه فقال: قم عن هذا ولم يجلس فيه كان حراماً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (95) .(5/96)
ودليل هذا:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» (1) .
2 ـ نهيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقيم الرجل أخاه فيجلس مكانه (2) .
ففي الحديث الأول بيان الأحقية، وفي الحديث الثاني تحريم أن يقيم غيره فيجلس مكانه.
3 ـ أن ذلك يحدث العداوة والبغضاء بين المصلين، وهذا ينافي مقصود الجماعة، إذ إن من المقصود من الجماعة هو الائتلاف والمحبة، فإذا أقام غيره، ولا سيما أمام الناس، فلا شك أن هذا يؤذيه، ويجعل في قلبه ضغينة على هذا الرجل الذي أقامه.
إِلاَّ مَنْ قَدَّمَ صَاحِباً لَهُ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعٍ يَحْفَظهُ لَهُ.
قوله: «إلا من قدم صاحباً له في موضع يحفظه له» أي: إلا شخصاً قدم صاحباً له في موضع يحفظه له، مثل: أن يقول لشخص ما: يا فلان أنا عندي شغل، ولا ينتهي إلا عند مجيء الإمام، فاذهب واجلس في مكان لي في الصف الأول. فإذا فعل وجلس في الصف الأول فله أن يقيمه؛ لأن هذا الذي أقيم وكيل له ونائب عنه.
وظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائز، أي يجوز لشخص أن ينيب غيره ليجلس في مكان فاضل، ويبقى هذا المنيب حتى يفرغ من حاجاته، ثم يتقدم إلى المسجد.
__________
(1) سبق تخريجه (4/279) .
(2) سبق تخريجه (4/279) .(5/97)
وفي هذا نظر لما يلي:
أولاً: أن هذا النائب لم يتقدم لنفسه، وربما يراه أحد فيظنه عمل عملاً صالحاً، وليس كذلك.
ثانياً: أن في هذا تحايلاً على حجز الأماكن الفاضلة لمن لم يتقدم، والأماكن الفاضلة أحق الناس بها من سبق إليها.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحرم أن يقيم غيره، ولو كان صغيراً.
والمذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه، ولكن الصحيح أنه لا يجوز أن يقيم الصغير لما يلي:
أولاً: لعموم النهي: «لا يقيم الرجل أخاه» (1) .
ثانياً: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به» (2) .
وهذا الصبي سابق فلا يجوز لنا أن نهدر حقه، وأن نظلمه ونقيمه.
ودليل المذهب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» (3) ، وهذا استناد إلى غير مستند؛ لأن المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» حث أولي الأحلام والنهى أن يتقدموا، ولو قال: «لا يلني منكم إلا أولو الأحلام» لكان لنا الحق أن نقيم الصغير.
__________
(1) سبق تخريجه ص (97) .
(2) سبق تخريجه ص (97) .
(3) سبق تخريجه ص (90) .(5/98)
ثم نقول: إن في إقامة الصغير عن مكانه مفسدة عظيمة بالنسبة للصغير؛ إذ يبقى في قلبه كراهة للمسجد والتقدم إليه، وكراهة لمن أقامه من مجلسه أمام الناس، ولا سيما إذا كان له تمييز كالسابعة والثامنة.
وهناك مفسدة أخرى غير ما سبق، وهي أننا إذا أقمنا الصغار من الصف الأول، وجعلناهم في صف واحد مستقل فسيلعبون لعباً عظيماً، لكن إذا أبقيناهم في الصف الأول، وصار كل طفل إلى جنب رجل قلَّ لعبهم بلا شك، وهذا القول الراجح هو الذي صوَّبه صاحب الإنصاف، ومال إليه صاحب الفروع، وصرح به المجد جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله.
وفي الروض يقول ـ رحمه الله ـ: «وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله، وليس لغير المُؤْثَر سبقه» .
مثاله: أن تكون في الصف الأول، فأردت أن تتأخر إكراماً لشخص حضر ليجلس في مكانك، فيقول صاحب الروض: إن هذا مكروه.
والدليل على هذا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» (1) ، فبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أهمية الصف الأول أن الناس لو لم يجدوا إلا المساهمة ـ يعني القرعة ـ لاقترعوا عليه، فكيف تؤثر غيرك بهذا المكان،
__________
(1) سبق تخريجه (2/41) .(5/99)
وتتأخر؛ ولأن هذا يدل على أنه ليس عندك رغبة في الخير ولا اهتمام بالشيء الفاضل.
والصحيح في هذه المسألة: أن إيثار غيره إذا كان فيه مصلحة كالتأليف فلا يكره، مثل: لو كان الأمير يعتاد أن يكون في هذا المكان من الصف الأول وقمت فيه، ثم حضر الأمير، وتخلفت عنه، وآثرت به الأمير فلا بأس، بل ربما يكون أفضل من عدم الإيثار.
وما دمنا في الإيثار فإنه ينبغي أن نتكلم عليه فنقول: الإيثار أقسام هي:
1 ـ الإيثار بالواجب: حرام.
2 ـ الإيثار بالمستحب: مكروه.
3 ـ الإيثار بالمباح: مطلوب.
4 ـ الإيثار بالمحرم: حرام على المؤثِر والمؤثَر.
مثال الإيثار بالواجب: رجل عنده ماء لا يكفي إلا لوضوء رجل واحد، وهو يحتاج إلى وضوء، وصاحبه يحتاج إلى وضوء، فهنا لا يجوز أن يؤثره بالماء ويتيمم هو؛ لأن استعمال الماء واجب عليه وهو قادر، ولا يمكن أن يسقط عن نفسه الواجب من أجل أن يؤثر غيره به.
مثال آخر: لو كان شخص في مفازة، ومعه صاحب له، وأتاهما العدو وسلب ثيابهما ولم يبق إلا ثوب واحد، فهنا لا يجوز أن يؤثر صاحبه به، لكن هذه المسألة ليست كالأولى؛ لأنه من الممكن أن يصلي به أولاً، ثم يعطيه صاحبه.(5/100)
ومثال الإيثار بالمستحب: الإيثار بالمكان الفاضل كما لو آثر غيره بالصف الأول فهذا غايته أن نقول: إنه مكروه، أو خلاف الأولى.
ومثال الإيثار بالمباح: أن يؤثر شخصاً بطعام يشتهيه وليس مضطراً إليه، وهذا محمود؛ لأن الله مدح الأنصار رضي الله عنهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
وقوله: «لا قبوله» أي: لا يكره قبول الإيثار، فلو قلت لشخص: تقدم في مكاني في الصف الأول، فإنه لا يكره له أن يقبل ويتقدم.
وقوله: «وليس لغير المؤثر سبقه» ، أي: لا يحل لغير المؤثر ـ بفتح التاء ـ سبقه، أي سبق المؤثر.
مثاله: لو آثر زيد عمراً بمكانه فسبق إليه بكر، فإنه لا يحل ذلك لبكر؛ لأن زيداً إنما آثر عمراً.
وأشد منه ما يفعله بعض الناس إذا جاء والصف تام جذب واحداً من الصف، فيتأخر المجذوب من أجل أن يصف معه، فيتقدم ذاك في مكانه؛ لأنه سيؤدي إلى بطلان صلاة المجذوب، ثم هو أحسن إليك وتأخر معك فتسيء إليه هذه الإساءة.
وَحَرُمَ رَفْعُ مُصَلًّى مَفْرُوشٍ مَا لَمْ تَحْضُرِ الصَّلاةُ..........
قوله: «وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة» ، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و «المصلى» : ما يصلى عليه، مثل: السجادة.
وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى.(5/101)
التعليل: أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.
ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان؛ لأنه لو كان وضع المصلى وحجز المكان حراماً لوجب رفع المصلى، وإنكار المنكر، فلما جعل المؤلف للمصلى حرمة دل ذلك على أن وضعه جائز، وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة: (ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق) ، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع (لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح) ، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر.
وقوله: «ما لم تحضر الصلاة» أي: فإن حضرت الصلاة بإقامتها فلنا رفعه؛ لأنه في هذه الحال لا حرمة له، ولأننا لو أبقيناه لكان في الصف فرجة، وهذا خلاف السنة. لكن هل لنا أن نصلي عليه بدون رفع؟
الجواب: ليس لنا أن نصلي عليه بدون رفع؛ لأن هذا مال غيرنا، وليس لنا أن ننتفع بمال غيرنا بدون إذنه، ولكن نرفعه.
مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المصلى؛(5/102)
ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآناً، أو يراجع كتاباً، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس.
وكذلك يستثنى أيضاً ما ذكره المؤلف:
وَمَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لِعَارِضٍ لَحِقَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ قَرِيباً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ......
بقوله: «ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به» ، فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به.
ولكن المؤلف اشترط فقال: «ثم عاد إليه قريباً» ولم يحدد القرب؛ وكل شيء أتى ولم يحدد يرجع فيه إلى العرف كما قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد (1)
وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه.
وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح؛ لأن استمرار العذر
__________
(1) «منظومة أصول الفقه وقواعده» . لشيخنا رحمه الله ص (3) .(5/103)
كابتدائه، فإنه إذا جاز أن يخرج من المسجد، ويُبقي المصلى إذا حصل له عذر، فكذلك إذا استمر به العذر، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع.
مسألة: لو فرض أنه رجع قريباً ـ أو بعيداً على قولنا: إنه ما دام العذر فهو معذور ـ، ووجد في مكانه أحداً فأبى أن يقوم، فحصل نزاع، فالواجب أن يدرأ النزاع وله أجر، ويطلب مكاناً آخر إلا إذا أمكن أن يفسح الناس بأن كان الصف فيه شيء من السعة، فهنا يقول: افسحوا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] .
وقوله: «فهو أحق به» دليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» ، رواه مسلم (1) .
قال في الروض: «ولم يقيده الأكثر بالعود قريباً» . أي: أكثر أصحاب الإمام أحمد لم يقيدوه بالعود قريباً، كما هو ظاهر الحديث.
ولكن الذي ذكرناه قول وسط، وهو: أنه إذا عاد بعد مدة طويلة بناء على استمرار العذر فهو أحق به، أما إن انتهى العذر، ولكنه تهاون وتأخر، فلا يكون أحق به.
وَمَنْ دَخَلَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ لَمْ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يُوجِزُ فِيهِمَا. ......
قوله: «ومن دخل والإمام يخطب» ، «من» : هذه شرطية، وجملة «والإمام يخطب» في موضع نصب على الحال.
قوله: «لم يجلس» ، أي: بمكانه.
__________
(1) أخرجه مسلم (2179) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/104)
قوله: «حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما» ، والدليل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (1) ، وهذا عام.
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأى رجلاً دخل المسجد فجلس، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين» (2) ، وفي رواية: «وتجوَّز فيهما» .
3 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين وليتجوز فيهما» (3) . فالسنة في هذا ظاهرة.
وقد استنبط بعض العلماء من هذا أن تحية المسجد واجبة، ووجه الاستنباط أن استماع الخطبة واجب، والاشتغال بالصلاة يوجب الانشغال عن استماع الخطبة، ولا يشتغل عن واجب إلا بواجب، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، ولكن بعد التأمل في عدة وقائع تبين لنا أنها سنة مؤكدة، وليست بواجبة، ويمكن الانفكاك عن القول بأنه ينشغل بأن يقال: قد ينشغل، وقد يسمع بعض الشيء وهو يصلي، والإنسان يسمع وهو يصلي، ويفهم وهو يصلي؛ ولهذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس فإذا سمع بكاء الصبي تجوَّز في صلاته (4) ، وهذا دليل على أن
__________
(1) سبق تخريجه (4/124) .
(2) أخرجه البخاري (930) ؛ ومسلم (875) عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ.
(3) أخرجه مسلم (875) (59) عن جابر رضي الله عنه.
(4) سبق تخريجه (4/192) .(5/105)
المصلي لا ينشغل انشغالاً كاملاً، فالذي ترجح عندي أخيراً أن تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال بعض العلماء: تسن تحية المسجد لكل داخل مسجد إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف لمن دخل ليطوف، فإنه يستغنى بالطواف عن الركعتين؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المسجد الحرام لطواف العمرة والحج لم يصل ركعتين، أما من دخل ليصلي، أو ليستمع إلى علم أو ليقرأ القرآن، أو ما أشبه ذلك فإن المسجد الحرام كغيره من المساجد تحيته ركعتان؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (1) .
وَلاَ يَجُوزُ الكَلاَمُ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ إِلاَّ لَهُ، أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ لِمَصْلَحَةٍ..........
قوله: «ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه» ، إذا قيل: لا يجوز فهي عند العلماء بمعنى يحرم، وعلى هذا فالكلام والإمام يخطب حرام.
وقول المؤلف: «والإمام يخطب» جملة حالية كما سبق في قوله: «ومن دخل والإمام يخطب» .
وقوله: «والإمام يخطب» ، التعبير الدقيق أن يقال: «والخطيب يخطب» ؛ لأنه قد يخطب غير الإمام فربما يكون الإمام لا يجيد الخطبة فيقوم بالخطبة واحد ويصلي آخر، وهذا هو مراد المؤلف ـ رحمه الله ـ لكن ذكر الإمام بناء على الغالب.
__________
(1) سبق تخريجه ص (105) .(5/106)
والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما أخرجه الإمام أحمد: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ـ وهذا التشبيه للتقبيح والتنفير ـ والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة» (1) ، مع أن الذي يقول له: أنصت، ينهى عن منكر، ومع ذلك يلغو، ومن لغا فلا جمعة له.
ومعنى «ليست له جمعة» أي: لا ينال أجر الجمعة، وليس معناه أن جمعته لا تصح، وأجر الجمعة أكثر من أجر بقية الصلوات.
وكذلك أيضاً جاء في الصحيحين: «إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» (2) .
وقوله: «إلا له» أي: للإمام.
وقوله: «أو لمن يكلمه» ، أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.
قوله: «لمصلحة» قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام، فلا يجوز للإمام أن يتكلم كلاماً بلا مصلحة، فلا بد أن يكون لمصلحة تتعلق بالصلاة، أو بغيرها مما يحسن الكلام فيه، وأما لو تكلم الإمام لغير مصلحة، فإنه لا يجوز.
وإذا كان لحاجة فإنه يجوز من باب أولى، فمن الحاجة أن يخفى على المستمعين معنى جملة في الخطبة فيسأل أحدهم عنه، ومن الحاجة أيضاً أن يخطئ الخطيب في آية خطأ يحيل المعنى، مثل: أن يسقط جملة من الآية، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى.
__________
(1) سبق تخريجه (3/231) .
(2) أخرجه البخاري (934) ؛ ومسلم (851) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/107)
والمصلحة دون الحاجة، فمن المصلحة مثلاً إذا اختل صوت مكبر الصوت فللإمام أن يتكلم، ويقول للمهندس: انظر إلى مكبر الصوت ما الذي أخله؟ وكذلك من يكلم الإمام للمصلحة والحاجة يجوز له ذلك. ودليل هذا: «أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا فرفع النبي صلّى الله عليه وسلّم يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» .
يقول أنس راوي الحديث: «والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ـ وسلع: جبل صغير في المدينة تأتي من قبله السحاب أي إن السماء صحو ـ فخرجت من وراء سلع سحابة مثل الترس ـ والترس: هو مثل الصاج الذي يخبز فيه يتخذ من جلد قوي أو من حديد يتقي به المقاتل سهام العدو يتترس به ـ فارتفعت في السماء، وانتشرت ورعدت، وبرقت، ثم نزل المطر فما نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته» .
سبحان الله!! آية من آيات الله، ومن آيات الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
من آيات الله هذه القدرة العظيمة، ومن آيات الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن الله استجاب دعاءه، وبقي المطر ينزل أسبوعاً كاملاً لم يروا الشمس، فلما كانت الجمعة الثانية دخل الرجل أو رجل آخر فقال: يا رسول الله «تهدَّم البناء وغرق المال فادع الله يمسكها» ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يدع الله أن يمسكها، بل قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون(5/108)
الأودية ومنابت الشجر» ، أي: دعا الله تعالى أن يكون المطر على الأماكن التي فيها مصلحة، وليس فيها مضرة، يقول أنس: «فجعل يشير إلى السماء كلما أشار إلى ناحية انفرج السحاب» ؛ لأن الله عز وجل يأمره بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج الناس يمشون في الشمس بعد الجمعة (1) ، فهذا الأعرابي الأول سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الله بالغيث، والثاني سأل الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الله بالإمساك، فهذا لحاجة ومصلحة فلا بأس به.
وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العصر لا تجمع إلى الجمعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجمعها إلى الجمعة مع وجود المبيح للجمع، وهو المطر في الجمعة الأولى، والوحل في الجمعة الثانية.
[مسألتان:
الأولى: إذا عطس المأموم يوم الجمعة فإنه يحمد الله خفية، فإن جهر بذلك فسمعه من حوله فلا يجوز لهم أن يشمِّتوه.
الثانية: إذا عطس الإمام وحمد الله جهراً فهل يجب على من سمعه أن يشمِّته؟
الجواب: على القول بأنه يجب أن يشمِّته كل من سمعه كما قال ابن القيم، فالظاهر أنه إن سكت الإمام من أجل العطاس فلا بأس أن يشمَّت، وإن لم يسكت فلا؛ لأن الخطبة قائمة.
والذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سراً حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهراً فإن استمر في
__________
(1) أخرجه البخاري (933) ؛ ومسلم (897) .(5/109)
الخطبة فلا يشمت؛ لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة، وإلا فلا بأس] .
وَيَجُوزُ قَبْلَ الخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا.
قوله: «ويجوز قبل الخطبة وبعدها» أي: يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب، والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، ولكن ليس هذا الجواز على حد سواء؛ لأن الإنسان لو شرع يتكلم قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة، فربما يستمر به الأمر حتى يتكلم والإمام يخطب، فالأفضل عدم الكلام؛ لئلا يستمر به الكلام والإمام يخطب.
مسألة: بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا شرع الإمام في الدعاء في حال الخطبة يجوز الكلام؛ لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، والكلام في غير أركان الخطبة جائز، ولكنه قول ضعيف؛ لأن الدعاء ما دام متصلاً بالخطبة فهو منها، وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة في الخطبة» (1) .
فالصحيح: أنه ما دام الإمام يخطب، سواء في أركان الخطبة، أو فيما بعدها فالكلام حرام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (66) .(5/110)
باب صلاة العيدين
قوله: «صلاة العيدين» من باب إضافة الشيء إلى وقته وإلى سببه، فهذه الصلاة سببها العيدان، وهي أيضاً لا تصلى إلا في العيدين.
وقوله: «العيدين» تثنية عيد، وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، وكلاهما يقعان في مناسبة شرعية.
أما عيد الفطر ففي مناسبة انقضاء المسلمين من صوم رمضان.
وأما الأضحى فمناسبته اختتام عشر ذي الحجة التي قال عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (1) . فالمناسبة لهذين العيدين مناسبة شرعية، وهناك عيد ثالث وهو ختام الأسبوع وهو يوم الجمعة، ويتكرر في كل أسبوع مرة، وليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة، فليس فيه عيد بمناسبة مرور ذكرى غزوة بدر، ولا غزوة الفتح، ولا غزوة حنين ولا غيرها من الغزوات العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، ناهيك عمّا يقام
__________
(1) أخرجه البخاري (669) عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وأبو داود (2438) ؛ والترمذي (757) وهذا لفظهما. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب صحيح» .(5/111)
من الأعياد لانتصارات وهمية، بل إني أعجب لقوم يجعلون أعياداً للهزائم ذكرى يوم الهزيمة، أو ذكرى احتلال العدو البلد الفلاني، مما يدل على سفه عقول كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لما حصل لهم شيء من البعد عن دين الإسلام صاروا حتى في تصرفهم يتصرفون تصرف السفهاء، وليس هناك أعياد لمناسبة ولادة أحد من البشر، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يشرع العيد لمناسبة ولادته، وهو أشرف بني آدم فما بالك بمن دونه؟!
فإذا قال قائل: هذه المناسبات نقيمها من أجل الذكرى.
قلنا: أما بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين فرض على أعيانهم أن يذكروه في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل، وفرض على الكفاية أن يذكروه أيضاً خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، فالأذان يقول المسلمون فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وفي الصلاة في التشهد يقولون: أشهد أن محمداً عبده ورسوله، بل إن كل عبادة يتعبد بها الإنسان فهي ذكرى للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن المتعبد يجب عليه أن يلاحظ في عبادته شيئين:
1 ـ الإخلاص لله عز وجل، وأنه فعل العبادة تقرباً إليه، وامتثالاً لأمره.
2 ـ المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه فعل العبادة اتباعاً للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه فيها لتتم هذه العبادة، حتى لو تسوك الإنسان اتباعاً للسنة فهذه ذكرى، ولو قدم رجله اليمنى عند دخول المسجد اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى، ولو قدم(5/112)
إدخال يده اليمنى في الكم قبل اليسرى اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى.
فالمسلمون في كل أحوالهم يذكرون النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما الذكرى بهذه الطقوس المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فإنها تدمر أكثر مما تعمر؛ لأن القلب يجد فراغاً واسعاً عندما تنتهي هذه المناسبة، أو الاحتفال بهذه المناسبة، ولهذا فإنه من حكمة الله أنه ما من بدعة تقام إلا وينهدم من السنّة مثلها أو أكثر.
إذاً كل من أقام عيداً لأي مناسبة، سواء كانت هذه المناسبة انتصاراً للمسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو انتصاراً لهم فيما بعد، أو انتصار قومية فإنه مبتدع، وقد قَدِمَ النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فوجد للأنصار عيدين يلعبون فيهما فقال: «إن الله قد أبدلكم بخير منهما عيد الفطر وعيد الأضحى» (1) ، مما يدل على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يحب أن تحدث أمته أعياداً سوى الأعياد الشرعية التي شرعها الله عز وجل.
مسألة: أسبوع المساجد والشجرة ونحوهما مما يقام ما القول فيها؟
أما أسبوع المساجد فبدعة؛ لأنه يقام باسم الدين ورفع شأن المساجد، فيكون عبادة تحتاج إقامته إلى دليل، ولا دليل لذلك.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/103، 178، 235) ؛ وأبو داود (1134) ؛ والنسائي (3/179) ؛ والحاكم (1/294) ؛ والبيهقي (3/377) ؛ والبغوي في «شرح السنة» (4/292) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه البغوي في «شرح السنة» ، والحافظ في «الفتح» (2/442) .(5/113)
وأما أسبوع الشجرة فالظاهر أنه لا يقام على أنه عبادة، فهو أهون، ومع ذلك لا نراه.
وأما أسبوع أو مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا ليس عيداً؛ لأنه لا يتكرر، وفائدته واضحة وهي جمع المعلومات عن حياة هذا الشيخ ومؤلفاته، فحصل فيها نفع كبير.
مسألة: الحفلات التي تقام عند تخرُّج الطلبة، أو عند حفظ القرآن لا تدخل في اتخاذها عيداً لأمرين:
الأول: أنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم.
الثاني: أن لها مناسبة حاضرة، وليست أمراً ماضياً.
قوله: «وهي فرض كفاية» ، أفاد المؤلف ـ رحمه الله ـ أنها فرض، وهذا القول الأول في المسألة، ومعلوم أن الفرض يحتاج إلى دليل، والدليل على هذا ما يلي:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر النساء أن يخرجنَ لصلاة العيد، حتى إنه أمر الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجن يشهدن الخير، ودعوة المسلمين، وأمر الحيَّض أن يعتزلنَ المصلى» (1) ، والأمر يقتضي الوجوب، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر النساء، فالرجال من باب أولى، لأن الأصل في النساء أنهنّ لسن من أهل الاجتماع، ولهذا لا تشرع لهن صلاة الجماعة في المساجد، فإذا أمرهن أن يخرجن إلى مصلى العيد ليصلين العيد ويشهدن الخير ودعوة المسلمين دلّ هذا على أنها على الرجال أوجب، وهو كذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (980) ؛ ومسلم (890) عن أم عطية رضي الله عنها.(5/114)
2 ـ مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخلفائه الراشدين على هذا العمل الظاهر، [وهذا يجعله بعض العلماء دليلاً] على الوجوب، فيقولون: إن مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم على هذا العمل الظاهر، وعدم تخلفه عنه يدل على تأكده ووجوبه، وإن كان هذا فيه نظر؛ لأن الأصل في المداومة على الشيء إذا لم يكن فيه أمرٌ الاستحباب.
3 ـ أنها من شعائر الدين الظاهرة، وشعائر الدين الظاهرة فرض كالأذان، فالأذان والإقامة من فروض الكفاية؛ لأنهما من شعائر الدين الظاهرة المعلنة، هكذا قال بعض أهل العلم.
ولكن أصح طريق للاستدلال على وجوب صلاة العيدين هو أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وأما مواظبته على هذا، وكونها من شعائر الدين الظاهرة فهي تؤيد الوجوب ولا تعينه.
وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.........
قوله: «فرض كفاية» ، فرض الكفاية هو: ما قصد بالذات بقطع النظر عن الفاعل، أي: قصد به الفعل بقطع النظر عن الفاعل كالأذان، وعلى هذا فيكون فرض الكفاية مطلوباً من المجموع لا من الجميع، أي: مجموع الناس يلزمهم أن يقوموا بفرض الكفاية، لا من الجميع، فيلزم كل واحد بعينه إذاً فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فلو أقام صلاة العيد أربعون رجلاً، فإن بقية أهل البلد لا تلزمهم صلاة العيد، هذا معنى كونها فرض كفاية.
القول الثاني: أنها سنّة.
واستدل هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما علم الأعرابي فرائض الإسلام، ومنها الصلوات الخمس، عندما قال الأعرابي: هل(5/115)
عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع» (1) ، وهذا عام فإن كل صلاة غير الصلوات الخمس داخلة في هذا، وقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا» أي: ليست واجبة «إلا أن تطوع» ، أي: إلا أن تفعلها على سبيل التطوع، وهذا مذهب مالك والشافعي.
القول الثالث: أنها فرض عين على كل أحد، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
واستدل هؤلاء بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر النساء حتى الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجنَ إلى المصلى ليشهدن الخير ودعوة المسلمين» (2) ، وهذا يدل على أنها فرض عين؛ لأنها لو كانت فرض كفاية لكان الرجال قد قاموا بها، وهذا عندي أقرب الأقوال [وهو الراجح] .
إِذَا تَرَكَهَا أَهْلُ بَلَدٍ قَاتَلَهُمُ الإِمَامُ..........
قوله: «إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام» أي: إذا ترك صلاة العيد أهل بلد فإن الإمام يقاتلهم، أي: إن لم يفعلوها، فإذا علم الإمام أن هؤلاء تركوها، ودعاهم إلى فعلها، ولكنهم أصروا على الترك، فإنه يجب عليه أن يقاتلهم حتى يصلوا.
والمقاتلة غير القتل، فهي أوسع، فليس كل من جازت مقاتلته جاز قتله، ولا يلزم من وجوب المقاتلة أن يكون المقاتل كافراً، بل قد يكون مؤمناً ويقاتل كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ
__________
(1) أخرجه البخاري (2678) ؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (114) .(5/116)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10] ، فأوجب قتال الفئة الباغية مع أنها مؤمنة لا تخرج عن الإيمان بالقتال.
فإذا قال قائل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (1) ، وهذا يدل على أنهم ما داموا مسلمين فقتالهم حرام، فما الجواب؟
فالجواب: أن قتال المسلم كفر ما لم يوجد في الشرع ما يبيحه أو يوجبه.
وأجاب بعض العلماء: بأن هذه من شعائر الإسلام الظاهرة البارزة التي يتميز بها الشعب المسلم عن غيره، فهي كالأذان، وكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام: «أنه إذا نزل بقوم فسمع الأذان تركهم وإلا قاتلهم» (2) ، هكذا قالوا. والمسألة فيها شيء من النظر؛ لأن القتال قد يستلزم القتل فقد يدافع هؤلاء عن أنفسهم، فيحصل اشتباك وقتل، لكن هذا القتل ليس مقصوداً بالذات. والحديث المذكور لا يدل على المطلوب؛ لأن قتال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن لم يسمع الأذان منهم ليس من أجل ترك الأذان، ولكن من أجل أن عدم أذانهم دليل على أنهم غير مسلمين فيقاتلهم على الكفر لا على ترك الأذان.
__________
(1) أخرجه مسلم (64) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه (2/47) .(5/117)
مسألة: وإن ترك صلاة عيد من ليسوا أَهْلَ بلدٍ أي: جماعة في البر، وهم قريبون من المدينة، فإنهم لا يقاتلون؛ لأنها إنما تجب على أهل القرى والأمصار كالجمعة، أما البدو الرحّل وما أشبههم فلا تقام فيهم صلاة العيد كما لا تقام فيهم صلاة الجمعة.
وقوله: «قاتلهم الإمام» ، المراد بالإمام عند الفقهاء هو أعلى سلطة في البلد، وكان المسلمون فيما سبق إمامهم واحد، لكن تغيّرت الأحوال.
مسألة: هل يقاتلهم غير الإمام؟
الجواب: لا يجوز أن يقاتلهم؛ لأن هذا افتيات على ولي الأمر، ولو فتح الباب للناس، وصار كل من رأى منكراً أنكره بالفعل والتغيير باليد لحصل في هذا فوضى كثيرة؛ لأن كثيراً من الناس، لا يدركون مدى الخطورة في مثل هذا الأمر فربما يعتقد أن هذا الشيء حرام فيحاول تغييره، وهو حلال، ويسطو على من فعله بحجة أنه حرام، وأن من رأى منكراً فليغيره بيده، فيحصل في هذا شر كثير؛ ولهذا قال العلماء: إن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، وكذلك التعزيرات لا يقوم بتقديرها إلا الإمام أو نائبه، والمقاتلة في هذا وشبهه لا يقوم بها إلا الإمام أو نائبه، وليس لكل أحد أن يفعل ما شاء.
وَوَقْتُهَا كَصَلاَةِ الضُّحَى،...........
قوله: «ووقتها كصلاة الضحى» أي: صلاة العيد وقتها كوقت صلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريباً.(5/118)
فإذا قال قائل: لماذا لم يقل المؤلف: ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح، حتى يريح الإنسان من الرجوع إلى وقت صلاة الضحى؟
فالجواب: أن في هذا فائدة، فالعلماء يحيلون على ما مضى، أو على ما يستقبل من أجل أن يحملوا طالب العلم على البحث، فمثلاً هنا قال: كصلاة الضحى؛ لأرجع إلى صلاة الضحى، وأنظر متى وقتها فأجمع الآن بين معلومين: معلوم عن صلاة الضحى، ومعلوم عن صلاة العيد، لكن لو قال: من ارتفاع الشمس قيد رمح لم يحصل ذلك.
فإذا قال قائل: ما الدليل على أن وقتها كصلاة الضحى؟
فالجواب: الدليل على هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفاءه الراشدين لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح (1) . وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
__________
(1) لما روى يزيد بن خمير الرحبي قال: «خرج عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح» .
أخرجه أبو داود (1135) ؛ وابن ماجه (1317) ؛ والبيهقي (3/282) ؛ والحاكم (1/295) وصححه. وقال النووي في «الخلاصة» (2/827) «بإسناد صحيح على شرط مسلم» . وقد علقه البخاري (2/529 فتح الباري) فقال: «وقال عبد الله بن بسر: إنا كنا فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح» . وقوله: «حين التسبيح» أي وقت حل النافلة، وذلك بعد ارتفاع الشمس.
انظر: «نيل الأوطار» (3/293) ؛ و «بذل المجهود» (6/163) .(5/119)
وَآخِرُهُ الزَّوَالُ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِالْعِيدِ إِلاَّ بَعْدَهُ صَلَّوا مِنَ الغَدِ وَتُسَنُّ فِي صَحْرَاءَ وَتَقْدِيمُ صَلاَةِ الأَضْحَى، وَعَكْسُهُ الفِطْرُ،..........
قوله: «وآخره الزوال» أي: آخر وقت العيد زوال الشمس عن كبد السماء، وذلك أن الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص ـ أي: لكل شيء مرتفع ـ ظل من جهة الغرب، وكلما ارتفعت نقص الظل، فإذا انتهى نقصه وبدأ بالزيادة، فهذه علامة زوال الشمس.
قوله: «فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد» أي: فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم لا يصلون، وإنما يصلون من الغد في وقت صلاة العيد، ودليل ذلك ما رواه أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: «غُمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم» ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وحسّنه (1) ، فإذا لم يعلم الناس بالعيد إلا بعد الزوال، فإنه في عيد الفطر يفطرون؛ لأنه تبين أن هذا يوم عيد، ويوم العيد صومه حرام، وفي عيد الأضحى ينتظرون الصلاة فلا يضحون إلا بعدها من الغد، وهنا يتم التقسيم بالنسبة لقضاء الصلوات، فإن الصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:
الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي، مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (5/57، 58) ؛ وأبو داود (1157) ؛ والنسائي (3/180) ؛ وابن ماجه (1653) ؛ والدارقطني (2/170) وقال: «هذا إسناد حسن» ؛ والبيهقي (3/316) وقال: «هذا إسناد صحيح» . وقال الخطابي في «معالم السنن» (1/252) : «وحديث أبي عمير صحيح» . وقال النووي في «المجموع» (5/27) : «إسناده صحيح» ، وصححه الحافظ ابن حجر في «البلوغ» (483) .(5/120)
بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت.
الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة، فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً.
الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.
[الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى] .
قوله: «وتسن في صحراء» أي: يسن إقامتها في الصحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبة؛ لئلا يشق على الناس.
والدليل: فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفائه الراشدين، فإنهم كانوا يصلونها في الصحراء (1) ، ولولا أن هذا أمر مقصود لم يكلفوا أنفسهم ولا الناس أن يخرجوا خارج البلد.
[والتعليل: أن ذلك أشد إظهاراً لهذه الشعيرة] .
قوله: «وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر» أي: ويسنّ تقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، أي: تأخير صلاة الفطر.
ودليل هذا أثر ونظر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (114) .(5/121)
أما الأثر:
1 ـ ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام «أنه كان يصلي صلاة عيد الأضحى إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وصلاة الفطر إذا ارتفعت قيد رمحين» (1) .
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى عمرو بن حزم: «أن عجّل الأضحى، وأخّر الفطر، وذكِّر الناس في الخطبة» (2) .
أما النظر: فلأن الناس في صلاة عيد الفطر محتاجون إلى امتداد الوقت ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت تخرج فيه زكاة الفطر صباح يوم العيد قبل الصلاة؛ لحديث ابن عمر: «أمر أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (3) ، ومعلوم أنه إذا تأخرت الصلاة، صار هذا أوسع للناس.
وأما عيد الأضحى فإن المشروع المبادرة بالتضحية؛ لأن التضحية من شعائر الإسلام، وقد قرنها الله عز وجل في كتابه بالصلاة فقال: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *} [الكوثر] ، وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الأنعام] ، ففعلها مبادراً بها في هذا اليوم أفضل، وهذا إنما يحصل إذا قدمت الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن تذبح الأضحية قبل الصلاة.
وَأَكْلُهُ قَبْلَهَا، وَعَكْسُهُ فِي الأَْضْحَى إِنْ ضَحَّى...........
قوله: «وأكله قبلها، وعكسه في الأضحى إن ضحى» ، أي: يسن أكل الإنسان قبل صلاة عيد الفطر، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه الحسن بن أحمد البناء في كتاب الأضاحي كما في «التلخيص» رقم (144) .
(2) أخرجه الشافعي في «مسنده» ص (74) .
(3) أخرجه البخاري (1509) ؛ ومسلم (986) .(5/122)
«كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهنّ وتراً» (1) لكن الواحدة لا تحصل بها السنة؛ لأن لفظ الحديث: «حتى يأكل تمرات» ، وعلى هذا فلا بد من ثلاث فأكثر: ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، المهم أن يأكل تمرات يقطعها على وتر، وكل إنسان ورغبته فليس مقيداً فله أن يشبع، وإن أكل سبعاً فحسن، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصبّح بسبع تمرات من تمرات العالية ـ وفي لفظ: من العجوة ـ فإنه لا يصيبه ذلك اليوم سم ولا سحر» (2) .
سبحان الله حماية ووقاية بسبع تمرات من تمر العالية ـ مكان معروف بالمدينة ـ أو من العجوة، بل إن شيخنا ابن سعدي ـ رحمه الله ـ يرى أن ذلك على سبيل التمثيل، وأن المقصود التمر مطلقاً، فعلى هذا يتصبّح الإنسان كلَّ يوم بسبع تمرات، فإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أرادها فقد حصل المطلوب، وإن لم يردها فلا شك أن إفطار الإنسان على هذا التمر الجامع بين ثلاثة أمور من أفضل الأغذية: الحلوى، والفاكهة، والغذاء؛ لأن التمر يشتمل على هذا كله: هو حلوى، وفاكهة يتفكّه به الإنسان، وغذاء، ولهذا لا تجد مثل التمر شيئاً من الثمر لا يفسد إذا أبطأ، بل هو دائماً صالح للأكل، إلا إذا أساء الإنسان كنزه، أو ما أشبه ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (953) عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (5445) ؛ ومسلم (2047) (155) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(5/123)
وعلى كلٍّ يأكل تمرات أقلها ثلاث قبل أن يخرج لصلاة عيد الفطر.
وقوله: «وعكسه في الأضحى إن ضحى» أي: عكس الأكل، وهو ترك الأكل في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي؛ لحديث بريدة: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» رواه أحمد (1) .
ولأن ذلك أسرع إلى المبادرة في الأكل من أضحيته، والأكل من الأضحية واجب عند بعض العلماء؛ لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28، 36] ، فبدأ بالأمر بالأكل، فالأفضل إذاً أن يمسك عن الأكل في عيد الأضحى حتى يأكل من أضحيته التي أمر بالأكل منها.
أما الحكمة من تقديم الأكل في عيد الفطر فمن أجل تحقيق الإفطار من أول النهار؛ لأن اليوم الذي كان قبله يوم يجب صومه، وهذا اليوم يوم يجب فطره، فكانت المبادرة بتحقيق هذا أفضل، وعليه فلو أكل هذه التمرات قبل أن يصلي الفجر حصل المقصود؛ لأنه أكلها في النهار، والأفضل إذا أراد أن يخرج.
وقوله: «إن ضحى» ، فُهم منه أنه إذا لم يكن لديه أضحية فإنه لا يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، بل هو بالخيار،
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/352) ؛ والترمذي (542) ؛ وابن ماجه (1756) ؛ وابن خزيمة (1426) ؛ وابن حبان (2812) الإحسان؛ والحاكم (1/294) وصححه. وقال النووي في «الخلاصة» (2/826) : «حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم بأسانيد صحيحة» اهـ.(5/124)
فلو أكل قبل أن يخرج إلى الصلاة فإننا لا نقول له: إنك خالفت السنّة.
وَتُكْرَهُ فِي الْجَامِعِ بِلاَ عُذْرٍ...........
قوله: «وتكره في الجامع بلا عذر» أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر. وظاهر كلام المؤلف أنها تكره في الجامع، سواء في مكة، أو المدينة، أو غيرهما من البلاد.
أما في المدينة فظاهر أن المدينة كغيرها، يسنّ لأهل المدينة أن يخرجوا إلى الصحراء، ويصلوا العيد، هذا هو الأفضل كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعله، ويكره أن يصلوا في المسجد النبوي إلا لعذر، لكن ما زال الناس من قديم الزمان يصلون العيد في المسجد النبوي.
أما في مكة فلا أعلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو أحداً من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في «الروض المربع» مكة المشرفة، ولعل الحكمة من ذلك ـ والله أعلم ـ أن الصلاة في الصحراء في مكة صعبة؛ لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس أن يخرجوا، فلهذا كانت صلاة العيد في نفس المسجد الحرام.
وقوله: «بلا عذر» ، أفادنا ـ رحمه الله ـ أنه إذا صلوا في الجامع لعذر فلا كراهة.
والعذر مثل: المطر، والرياح الشديدة، والخوف كما لو كان هناك خوف لا يستطيعون أن يخرجوا معه عن البلد.
وإذا قال قائل: ما الدليل على الكراهة وأنتم تقولون: إن ترك السنّة لا يلزم منه الكراهة إلا بدليل؟(5/125)
فالجواب على ذلك أن نقول: إنما كره هذا؛ لأنه يفوت به مقصودٌ كبيرٌ، وهو إظهار هذه الشعيرة وإبرازها، وهذا شيء مقصود للشارع، وكما أسلفنا فيما سبق أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالخروج إليها مع المشقة، وهذا يدل على العناية بهذا الخروج.
وَيُسَنُّ تَبْكِيرُ مَأْمُومٍ إِلَيْهَا مَاشِياً بَعْدَ الصُّبْحِ............
قوله: «ويسنّ تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح» ، أي: يسنّ أن يبكّر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر، أو من بعد طلوع الشمس إذا كان المصلى قريباً، كما لو كانت البلدة صغيرة والصحراء قريبة.
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «لا يخرج إلا إذا طلعت الشمس» (1) ، لكن مصلى العيد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي عهد الصحابة كابن عمر كان قريباً يمكن للإنسان أن يخرج بعد طلوع الشمس ويدرك الصلاة.
والدليل على سنية الخروج بعد صلاة الصبح ما يلي:
1 ـ عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخرج إلى المصلى إذا طلعت الشمس، ويجد الناس قد حضروا وهذا يستلزم أن يكونوا قد تقدموا.
2 ـ ولأن ذلك سبق إلى الخير.
3 ـ ولأنه إذا وصل إلى المسجد وانتظر الصلاة، فإنه لا يزال في صلاة.
__________
(1) أخرجه الشافعي في «مسنده» ص (73) .(5/126)
4 ـ ولأنه إذا تقدم يحصل له الدنو من الإمام.
كل هذه العلل مقصودة في الشرع.
وقوله: «ماشياً» ، أي: يسنّ أن يخرج ماشياً، لا على سيارة، ولا على حمار، ولا على فرس، ولا على بعير كما جاء عن علي ـ رضي الله عنه ـ: «السنّة أن يخرج إلى العيد ماشياً» (1) ، ولكن إذا كان هناك عذر كبعد المصلى، أو مرض في الإنسان، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج أن يخرج إليها راكباً.
وقوله: «بعد الصبح» أي: بعد صلاة الصبح، فلا يخرج بعد الفجر؛ لأنه لو خرج بعد طلوع الفجر لم يصلِّ الجماعة مع الناس، وهذا حرام.
وَتَأَخّرُ إِمَامٍ إِلَى وَقْتِ الصَّلاَةِ..........
قوله: «وتأخر إمام إلى وقت الصلاة» أي: يسنّ أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.
ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا خرج إلى العيد فأول شيء يبدأ به الصلاة» (2) ، وهذا يدل على أنه لا يحضر فيجلس، بل يحضر ويشرع في الصلاة.
وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» (3) ، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم؛ لأنه خلاف هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الجمعة
__________
(1) رواه الترمذي (530) وحسنه؛ وابن ماجه (1296) .
(2) سبق تخريجه ص (46) .
(3) سبق تخريجه ص (89) .(5/127)
إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وكذلك أيضاً هنا دليل نظري وهو: أن الإمام يُنتظر ولا ينتظر، أي: الناس ينتظرونه، أما هو فلا ينتظر الناس فإذا جاء شرع في الصلاة.
عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ إِلاَّ المُعْتَكِفَ فَفِي ثِيَابِ اعتِكَافِهِ.
قوله: «على أحسن هيئة» ، أي: يسنّ أن يخرج على أحسن هيئة، وهذا يشمل الإمام والمأموم، في لباسه وفي هيئته كأن يحف الشارب، ويقلّم الأظفار، ويتنظّف، ويلبس أحسن ثيابه. وهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من أحسن ثيابهم القمص، ومن الناس من أحسن ثيابهم الثياب الفضفاضة، ومن الناس من أحسن ثيابهم المشالح مع ما تحتها، وذلك إظهاراً للسرور والفرح بهذا اليوم، وتحدثاً بنعمة الله تحدثاً فعلياً؛ لأن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
قوله: «إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه» أي: ينبغي أن يخرج المعتكف في ثياب اعتكافه، ولو كانت غير نظيفة، [قالوا] : لأن هذه الثياب أثر عبادة فينبغي أن يبقى أثر العبادة عليه، كما يشرع في دم الشهيد أن يبقى عليه؛ لأنه أثر عبادة، ولكن هذا القول في غاية الضعف أثراً ونظراً.
أما الأثر: فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب (1) ، فهذا القول مخالف للسنّة.
__________
(1) لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» .
أخرجه الشافعي في «الأم» (1/206) ؛ وعبد الرزاق (5331) ؛ وابن خزيمة (1766) ؛ والبيهقي (3/247، 280) .(5/128)
وأما النظر: فلأن توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه؛ ولهذا لو لبس ثوباً نظيفاً ليلة العيد، أو في آخر يوم من رمضان ما أثر، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن الشهيد يأتي يوم القيامة، وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
فالصحيح أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظّفاً لابساً أحسن ثيابه.
وَمِنْ شَرْطِهَا: اسْتِيطَانٌ،............
قوله: «ومن شرطها» ، أي: من شرط صلاة العيد.
قوله: «استيطان» ، أي: أن تقام في جماعة مستوطنين، فخرج بذلك المسافرون والمقيمون؛ لأن الناس على المشهور من المذهب ثلاثة أقسام:
1 ـ مسافر.
2 ـ مقيم.
3 ـ مستوطن.
أما المسافر فواضح.
وأما المقيم فهو: المسافر إذا نوى إقامة تقطع حكم السفر، وهي على المذهب أكثر من أربعة أيام، فهذا يسمونه مقيماً لا مسافراً ولا مستوطناً.(5/129)
وأما المستوطن: فهو من كان في وطنه سواء كان وطناً أصلياً أو استوطنه فيما بعد.
فيشترط لصحة صلاة العيد أن تكون من قوم مستوطنين، وعلى هذا فإذا جاء العيد ونحن في سفر فإنه لا يشرع لنا أن نصلي صلاة العيد.
والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقم صلاة العيد إلا في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح، وبقي فيها إلى أول شوال، وأدركه العيد، ولم ينقل أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى، ولم يقم صلاة العيد؛ لأنه مسافر، كما أنه لم يقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنه مسافر.
إذاً المسافرون لا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأن هذا هو هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وأما المقيمون فكذلك على المذهب؛ لأنهم ليسوا من أهل إقامة الجمعة فلا يكونون من أهل إقامة العيد.
فلو فرضنا أن جماعة تبلغ مائتين في بلد غير إسلامي، وكانوا قد أقاموا للدراسة لا للاستيطان، وصادفهم العيد فإنهم لا يقيمون صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، ولكن في هذا القول نظراً، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول، فالذين أقاموا للدراسة في بلاد الكفر التي لا تقام فيها صلاة العيد يقيمون الجمعة، ويقيمون صلاة العيد، ويرون أنهم لو تخلفوا عن ذلك لكان في هذا مطعن عليهم في أنهم لا يقيمون شعائر دينهم في مناسباتها.(5/130)
وَعَدَدُ الجُمُعَةِ، لاَ إِذْنُ إِمامٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْجِعَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ.........
قوله: «وعدد الجمعة» أي: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون رجلاً من المستوطنين أيضاً، وقد سبق لنا أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها.
قوله: «لا إذن إمام» أي: لا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد، فلو أن أهل بلد ثبت عندهم الهلال وأفطروا، فلا يلزمهم أن يستأذنوا الإمام في إقامة صلاة العيد، حتى لو قال الإمام: لا تقيموها. فإنه يجب عليهم أن يقيموها وأن يعصوه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق لنا في الجمعة أنه ينبغي أن يشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضاً نقول فيه ما نقول في الجمعة، أي: أنه لو احتاج الناس إلى إقامة مصلى آخر للعيد فإنه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام، حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد منهم يقيم مصلى عيد.
قوله: «ويسنّ أن يرجع من طريق آخر» ، أي: يسن إذا خرج من طريق لصلاة العيد أن يرجع من طريق آخر اقتداءً بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، «فإنه كان إذا خرج يوم العيد خالف الطريق» (1) .
والحكمة من هذا متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الحكمة أعلى حكمة يقتنع بها المؤمن، أن يقال: هذا أمر الله ورسوله، ودليل
__________
(1) أخرجه البخاري (986) عن جابر رضي الله عنه.(5/131)
ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، أي: يقتنعون غاية الاقتناع، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد سُئلت: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤْمر بقضاء الصلاة» (1) ، ولم تذكر سوى هذا؛ لأن المؤمن لسانه وحاله: سمعنا وأطعنا، [فالخلاصة أن الحكمة بالنسبة لنا اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أما بالنسبة لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمته وعلته:]
فقال بعض العلماء: إن العلة إظهار هذه الشعيرة في أسواق البلد؛ لأن الناس إذا جاؤوا من هذا الطريق زرافات ووحداناً، وهجروا الطريق الثاني لم تتبيّن هذه الشعيرة في الطريق الثاني، وصارت منحصرة في الطريق الأول، فإذا خرجوا من هنا ورجعوا من هناك صار في هذا إظهار لهذه الشعيرة في الطريقين.
وقال بعض العلماء: إنه قد يكون في الطريق الثاني فقراء ليسوا في الطريق الأول فيجودون عليهم ويدخلون عليهم السرور؛ لأنه في يوم العيد ينبغي للإنسان أن يوسع على أهله وإخوانه، ويدخل السرور عليهم، ويبسط لهم في الرزق؛ لأن العيد يوم فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: من أجل أن يشهد له الطريقان الأول والثاني؛ لأن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها، أي: تخبر بما
__________
(1) سبق تخريجه (1/307) .(5/132)
عُمل عليها من خير وشر ـ سبحان الله ـ الأرض التي تطأ الآن عليها يوم القيامة ستكون شهيداً عليك أو لك، تشهد بما عملت من قول مسموع تسمعه وتعبر عنه، ومن فعل مرئي تراه وتعبر عنه، لا أعين لها، ولا آذان، لكن أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.
ولهذا عدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى؛ لأنها صلاة عيد واجتماع، فيسنّ فيها مخالفة الطريق.
وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر.
وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمراً مشروعاً أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر.
فلو ذهبت لعيادة مريض، فإنه يسنّ لك أن تذهب إليه من طريق وترجع من طريق آخر، ولو ذهبت لصلة قريب فكذلك، ولكن التوسع في القياس إلى هذا الحد أمر ينظر فيه، بمعنى أن هذا لا يُسلم لمن قاس، لا سيما وأن هذه الأشياء التي ذكروها موجودة في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينقل عنه أنه خالف الطريق إلا في العيد، ولدينا قاعدة مهمة لطالب العلم وهي: «أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يحدث له أمراً، فإن من أحدث له أمراً فإحداثه مردود عليه» .
لأننا نقول: هذا السبب الذي جعلته مناط الحكم موجود في(5/133)
عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يفعله؟ فترك النبي صلّى الله عليه وسلّم الشيء مع وجود سببه يكون تركه سنّة، والتعبُّد به غير مشروع.
فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يأتي إلى الجمعة ولا يخالف الطريق، وكان يزور أصحابه ويعود المرضى ولا يخالف الطريق، وكان يأتي إلى الصلوات الخمس ولا يخالف الطريق.
فإن قالوا: ورد عنه أنه خالف الطريق في الحج دخل مكة من أعلاها، وخرج من أسفلها (1) ، وفي عرفة ذهب من طريق، ورجع من طريق آخر (2) ؟
فالجواب: أن نقف على ما جاءت به السنّة، فالحج نخالف فيه الطريق؛ لأنه وردت به السنّة، على أن بعض العلماء قال: إن مخالفات الطريق في الحج غير مقصودة، بل لكون ذلك أسهل لخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم ودخوله، كما قالوا في نزول المحصَّب، والمحصَّب حسب وصف الناس أنه في المكان الذي فيه الآن قصر الملك فيصل في مكة، فنزل صلّى الله عليه وسلّم في المحصب ليلة أربعة عشر، وفي آخر الليل أمر بالرحيل فارتحل، ونزل إلى المسجد الحرام وطاف طواف الوداع، وصلى الفجر وقرأ بالطور، ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة.
وهذا النزول قال بعض العلماء: إنه سنّة.
__________
(1) أخرجه البخاري (1533) ؛ ومسلم (1257) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/131) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/134)
وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ليس بسنّة إنما نزله النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه كان أسمح لخروجه» (1) ، فيكون هذا النزول على كلام عائشة ـ رضي الله عنها ـ غير مُتعبّد به، ولكنه أيسر للخروج.
فالصواب مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ؛ لأنه لم يذكر مخالفة الطريق في الجمعة، وذكره في العيدين، فدل ذلك على أن اختياره أنه لا تسن مخالفة الطريق إلا في صلاة العيدين.
وُيَصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ، يُكَبِّرُ فِي الأُْولَى بَعْدَ الإِْحْرَامِ والاسْتِفْتَاحِ وَقَبْلَ التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ سِتّاً،.........
قوله: «ويصليها ركعتين قبل الخطبة» ، أي: يصلى صلاة العيد ركعتين قبل الخطبة، فلا يقدم الخطبة على الصلاة.
قوله: «يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً» ، أي: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد مرّ بنا أن أصح حديث في الاستفتاح، حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من خطاياي كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد» (2) ، فإذا استفتح بهذا أو بغيره مما ورد، فإنه يكبّر ست تكبيرات: الله أكبر، الله أكبر، إلى أن يكمل ستاً، ثم يستعيذ ويقرأ، فالاستفتاح إذاً مقدم على التكبيرات الزوائد.
__________
(1) أخرجه البخاري (1765) ؛ ومسلم (1311) .
(2) سبق تخريجه (3/48) .(5/135)
وَفِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ خَمْساً........
قوله: «وفي الثانية قبل القراءة خمساً» ، أي: يكبّر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، ليست منها تكبيرة القيام؛ لأن تكبيرة القيام قبل أن يستتم قائماً، فلا تحسب، فيكبّر خمساً بعد القيام، ولهذا قال: «وفي الثانية قبل القراءة خمساً» ، أي: وبعد أن يستتم قائماً، أما التكبير الذي عند النهوض من السجود فإنه يكون قبل أن يستتم قائماً، وقد مرّ بنا أن المذهب التشديد في هذه المسألة، وأنهم يقولون: لو أكمل التكبير بعد وقوفه لم يصح التكبير، فلا بد أن يكون التكبير فيما بين الانتقال والانتهاء، وقد سبق لنا بيان الخلاف في هذه المسألة وأنه ينبغي أن يكون الأمر في هذا واسعاً، وأنه لو ابتدأ التكبير قبل أن يستتم قائماً وكمّله بعد أن استتم قائماً فلا بأس.
والدليل على هذه التكبيرات الزوائد: أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فعل ذلك (1) وإسناده حسن كما قال في الروض، ولكن لو أنه خالف فجعلها خمساً في الأولى والثانية، أو سبعاً في الأولى والثانية حسب ما ورد عن الصحابة، فقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: اختلف أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في التكبير، وكله جائز، أي: أن الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسع، وأن الإنسان لو كبّر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة، فإنه
__________
(1) لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كبّر ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى، وخمساً في الأخرى» .
أخرجه الإمام أحمد (2/180) ؛ وأبو داود (1152) ؛ وابن ماجه (1278) ، وقال الحافظ في «التلخيص» (692) : «صححه أحمد، وعلي، والبخاري فيما حكاه الترمذي» .(5/136)
لا بأس به، وهذه جادة مذهب الإمام أحمد نفسه ـ رحمه الله ـ أنه يرى أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل قاطع، فإنه كله يكون جائزاً؛ لأنه ـ رحمه الله ـ يعظم كلام الصحابة ويحترمه، فيقول: إذا لم يكن هناك نص فاصل يمنع من أحد الأقوال فإن الأمر في هذا واسع.
ولا شك أن هذا الذي نحا إليه الإمام أحمد من أفضل ما يكون لجمع الأمة واتفاق كلمتها؛ لأن من الناس من يجعل الاختلاف في الرأي الذي يسوغ فيه الاجتهاد سبباً للفرقة والشتات، حتى إنه ليضلل أخاه بأمر قد يكون فيه هو الضال، وهذا من المحنة التي انتشرت في هذا العصر على ما في هذا العصر من التفاؤل الطيب في هذه اليقظة من الشباب خاصة، فإنه ربما تفسد هذه اليقظة، وتعود إلى سبات عميق بسبب هذا التفرق، وأن كل واحد منهم إذا خالفه أخوه في مسألة اجتهادية ليس فيها نص قاطع ذهب ينفر عنه ويسبّه ويتكلم فيه، وهذه محنة أفرح من يفرح بها أعداء هذه اليقظة؛ لأنهم يقولون: سقينا بدعوة غيرنا، جعل الله بأسهم بينهم، حتى أصبح بعض الناس يبغض أخاه في الدين، أكثر مما يبغض الفاسق والعياذ بالله، وهذا لا شك أنه ضرر، وينبغي لطلبة العلم أن يدركوا ضرر هذا علينا جميعاً، وهل جاءك وحي من الله أن قولك هو الصواب؟ وإذا لم يأته وحي أن قوله هو الصواب، فما الذي يدريه؟ لعل قول صاحبه هو الصواب، وهو على ضلال، هذا هو الواقع، والآن ليس أحد من الناس يأتيه الوحي، فالكتاب والسنّة بين أيدينا، وإذا كان الأمر(5/137)
قابلاً للاجتهاد، فليعذر أحدنا أخاه فيما اجتهد فيه.
ولا بأس من النقاش المفيد الهادئ بين الإخوة، وأُفضِّل أن يكون النقاش بين المختلفين في غير حضور الآخرين؛ لأن الآخرين قد يحملون في نفوسهم من هذا النقاش ما لا يحمله المتناقشان، فربما يؤول الأمر بينهما إلى الاتفاق، لكن الآخرين الذين حضروا مثلاً قد يكون في قلوبهم شيء يحمل حتى بعد اتفاق هؤلاء، فيجري الشيطان بينهم بالعداوة، وحينئذٍ نبقى في بلائنا، فأقول: جزى الله الإمام أحمد خيراً على هذه الطريقة الحسنة: (أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل، فإن الأمر يكون واسعاً كله جائز) .
يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيراً وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيراً،........
قوله: «يرفع يديه مع كل تكبيرة» ، أما تكبيرة الإحرام، فلا شك أنه يرفع يديه عندها؛ لأن هذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وغيره (1) ، وأما بقية التكبيرات فهي موضع خلاف بين العلماء:
القول الأول: يرفع يديه.
القول الثاني: لا يرفع يديه.
والصواب أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً؛ لأن هذا ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، ولم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خلافه، ومثل هذا العمل لا مدخل للاجتهاد فيه؛ لأنه عبادة فهو حركة في عبادة، فلا يذهب إليه ذاهب من الصحابة إلا وفيه أصل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد صح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «أنه
__________
(1) سبق تخريجه (3/26) .(5/138)
كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة مع كل تكبيرة» ، بل إنه روي عنه مرفوعاً، ومنهم من صحّحه مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
تنبيه: لم يبين المؤلف كيفية رفع اليدين وقد سبق ذلك في أول صفة الصلاة، وأما في صلاة العيد فورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ: «أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد» ، وكذلك عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ رواهما الأثرم (1) .
قوله: «ويقول: الله أكبر كبيراً ... » ، أي: ويقول بين كل تكبيرة وأخرى: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ... إلخ.
وهذا الذكر يحتاج إلى نقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه ذكر معين محدد في عبادة، ولم ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول ذلك، وإنما أثر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم» (2) .
والحمد والثناء على الله يمكن أن يكون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} ، هذا حمد، وثناء بنص الحديث الذي جاء فيه: «إذا قال المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} قال الله: «حمدني عبدي» ، وإذا قال: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} قال: «أثنى عليّ عبدي» (3) ، أما بهذا الذكر الطويل فهذا يحتاج إلى نص، ولا نص في ذلك.
وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً.
__________
(1) أما أثر عمر فأخرجه البيهقي (3/293) . وأما أثر زيد بن ثابت فلم نقف عليه.
(2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (95151) ؛ والبيهقي (3/291) .
(3) سبق تخريجه (3/57) .(5/139)
وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير.
وقوله: «الله أكبر كبيراً» ، كلمة «أكبر» هنا مطلقة غير مقيدة، ومعلوم أن دلالتها على الكمال عند الإطلاق أقوى من دلالتها على الكمال عند التقييد، أي: لو قلت: «الله أكبر من كذا» صارت مقيدة، وإذا قلت: «الله أكبر» صارت مطلقة، أي: أكبر من كل شيء مهما بلغ عندك من التصور فالله أكبر ـ عز وجل ـ، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، والسماوات السبع والأرضون السبع في كفه ـ عز وجل ـ كخردلة في كف أحدنا، فلا أحد يتصوره فالله أكبر من كل شيء، أما التقييد فلا شك أنه ينقص من تصور الكمال من هذه الكلمة، ولهذا يوجد في بعض المقررات للصبيان الصغار: الله أكبر من أبيك، أكبر من التلفاز، أكبر من الحجرة، فالصبي إذا قلت له: الله أكبر من التلفاز، يتصور كبر الله داخل الحجرة فقط، وهذا خطأ عظيم قد يكون مخلاً بالعقيدة، وهؤلاء صبيان لا يتصورون الشيء إلا على حسب ما يشاهدون، فليس لهم عقول كبيرة ولهذا ينبغي أن ينظر في المقررات من طلبة العلم، ولا يحقرنّ أحد نفسه، ولكن لا يتكلم حتى يعرضه على من هو أكبر منه في العلم ليتبين الأمر، ودعونا نتعاون، ونعاون المسؤولين على مثل هذه الأمور؛ لأنهم قد يكلون الشيء إلى شخص لا يقدر هذه التقديرات، ويظن أن هذا هو الأسلوب الذي يناسب عقل الصبي، صحيح أنه يناسب عقله من جهة أن تقرن شيئاً بشيء يفهمه، لكن بالنسبة للرب ـ عز وجل ـ لا تجعل عقله يقرن الرب ـ عز وجل ـ بشيء من المخلوقات فيقع في الهاوية.(5/140)
نعم، لو أن أحداً جادلك في كبر شخص، أو كبريائه، وقلت: إن كان صاحبك كبيراً فالله أكبر منه، فهذا لا بأس به كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وكقوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] .
أما عند الثناء المطلق، فهذا لا ينبغي أن يقيد بشيء.
وقوله: «كبيراً» هذه حال من الضمير المستتر في «أكبر» ؛ لأن «أكبر» اسم تفضيل خلافاً لمن قال: «الله أكبر» بمعنى كبير، أي: بمعنى اسم الفاعل، فإن هذا غلط؛ لأن اسم الفاعل أقل في الدلالة على الكمال من اسم التفضيل؛ لأن اسم التفضيل يمنع تساوي المفضل والمفضل عليه في الوصف، واسم الفاعل لا يمنع ذلك، فإذا قلت: «زيد عالم» لم يمنع أن يساويه عمرو في العلم إذا كان عالماً، وإذا قلت: «زيد أعلم من عمرو» دلّ على أنه لا يساويه وأن زيداً أعلم.
وبعض العلماء ـ رحمهم الله ـ: يفسرون الله أعلم، والله أكبر، وما أشبه ذلك باسم الفاعل حذراً من أن يكون هناك مفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا خطأ، فالمفاضلة حاصلة ولا تستلزم تساوي المفضل والمفضل عليه، بل لا تقتضي ذلك بخلاف اسم الفاعل.
قوله: «والحمد لله كثيراً» ، الحمد تفسيره: وصف المحمود بالكمال، وليس الثناء على المحمود بالكمال؛ لأن الثناء إنما يقال عند التكرار، وقد فرّق الله بينهما في الحديث القدسي في قوله: «إذا قال ـ أي المصلي ـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} قال:(5/141)
حمدني عبدي، وإذ قال: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} قال: أثنى عليَّ عبدي» (1) ، فجعل الثناء بتكرار الوصف ـ أي: وصف الكمال ـ.
وقوله: «كثيراً» حال من الحمد، أي: الحمد لله حال كونه أي: الحمد كثيراً، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، والتقدير حمداً كثيراً.
وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً........
قوله: «وسبحان الله» ، «سبحان» بمعنى تسبيح، فهي اسم مصدر، وهنا قاعدة في اسم المصدر يقولون: اسم المصدر هو: (ما دل على معنى المصدر دون حروفه) .
فسبحان مأخوذة من سبّح، والمصدرُ من سبّح (تسبيحٌ) .
إذاً سبحان بمعنى تسبيح، لكن ليس فيه حروف المصدر فيكون اسم مصدر، ومثله (كلام) اسم مصدر، والمصدر (تكليم) ، و (سلام) اسم مصدر، والمصدر (تسليم) .
قوله: «بكرة» ، أي: في الصباح.
قوله: «أصيلاً» ، أي: في المساء.
قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *} [الروم] .
وتنزيه الله يكون بأمور ثلاثة:
الأول: تنزيهه عن كل عيب.
الثاني: تنزيهه عن كل نقص في صفات كماله.
الثالث: تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.
__________
(1) سبق تخريجه ص (139) .(5/142)
مثال الأول: العمى، والصمم، والجهل، وما أشبه ذلك.
ومثال الثاني: التعب عند الفعل، أي: يقدر على الفعل لكن مع تعب، فهذا ينزّه الله عنه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ *} [ق] .
ومثال الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، ولأنه لو ماثل المخلوق لكان ناقصاً، فإلحاق الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل محاولة المقارنة بين الناقص والكامل يجعل الكامل ناقصاً على حد قول الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً،.......
قوله: «وصلى الله على محمد» ، صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، هكذا اشتهر عن أبي العالية ـ رحمه الله ـ.
وفي نسخة: «وصلى الله على سيدنا» ، ولا شك أنه سيد ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم، وأنه سيدنا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا، ولكن لا أعلم حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وصف نفسه بالسيادة في الصلاة عليه، وإذا علمتم بحديث فدلونا عليه جزاكم الله خيراً. فكل الأحاديث: «اللهم صلّ على محمد» ، والصحابة يقولون: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعنا أحداً يقول: قال: سيدنا، ولكن المتأخرين صاروا يقولون: «سيدنا» ونحن نقول: هو سيدنا لا شك، ولكن يحتاج في صيغة الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى توقيف في هذا.
قوله: «النبي» أي: محمد صلّى الله عليه وسلّم.(5/143)
قوله: «وآله» ، آله: أتباعه على دينه؛ لأن الآل إن ذكر معهم الأتباع والأصحاب، فهم المؤمنون من قرابته، وإن لم يذكر معهم ذلك فهم أتباعه على دينه، هذا هو الصحيح.
قوله: «وسلّم تسليماً كثيراً» ، أي: سلامة من كل آفة. والجملة في «صلى وسلم» خبرية بمعنى الدعاء.
وَإِنْ أَحَبَّ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقْرَأُ جَهْراً فِي الأُْولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: بـ (سَبِّحْ) وبـ (الْغَاشِيَةِ) فِي الثَّانِيَةِ........
قوله: «وإن أحب قال غير ذلك» ، أي: أن الأمر واسع، إن أحب قال غير ذلك، وإن أحب أن لا يقول شيئاً فلا بأس، المهم أن يكبّر التكبيرات الزوائد.
قوله: «ثم يقرأ جهراً» ، أي: يقرأ الفاتحة وما بعدها من السور جهراً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك، وهكذا كان يقرأ جهراً في كل صلاة جامعة، كما جهر في صلاة الجمعة، وجهر في صلاة الكسوف؛ لأنها جامعة، وكذلك في الاستسقاء.
قوله: «في الأولى بعد الفاتحة بسبّح، وبالغاشية في الثانية» ، لأنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه كان يقرأ بالأولى بسبّح، وبالثانية بالغاشية» (1) ، كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ *} ، وفي الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ *} (2) ، ولهذا ينبغي للإمام إظهاراً للسنّة وإحياء لها، أن يقرأ مرة بهذا،
__________
(1) أخرجه مسلم (878) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (891) عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه.(5/144)
ومرةً بهذا، ولكن يراعي الظروف، مثل لو كان الوقت بارداً، وكان انتظار الناس يشق عليهم فالأفضل أن يقرأ بسبح والغاشية، وكذلك لو كان الوقت حاراً، وكذلك في عيد الأضحى؛ لأن الناس يحبون العجلة من أجل ذبح ضحاياهم.
وإذا لم يكن هناك مشقة، فالأفضل أن يقرأ بهذا مرة، وبهذا مرة.
فالسنن الميتة أي المهجورة ينبغي لطلبة العلم أن يحيوها، لكن إذا خافوا استنكار الناس لها، فليمهدوا لها أولاً، لا سيما إذا كان طالب العلم صغيراً لا يُهْتَمُّ بكلامه وينتقد، فهنا ينبغي أن يمهد أولاً؛ لأجل أن يروّض أفكار الناس على قبول هذا الشيء.
فمثلاً: لو أن واحداً من علمائنا الكبار المشهود لهم بالثقة والعلم والأمانة في الدين فعل سنّة لا يعلم عنها الناس لوجدت الناس يقولون: سبحان الله! ما كنّا علمنا أن هذه سنّة، جزاه الله خيراً فتح لنا باباً من العلم، لكن لو فعلها أو قالها طالب علم صغير لقالوا: ما هذا الدين الجديد؟ وأخذوه والعياذ بالله بالسب والشتم، فينبغي للإنسان أن يكون حكيماً.
فَإِذَا سَلَّمَ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ..........
قوله: «فإذا سلم خطب خطبتين» ، أي: إذا سلم الإمام من الصلاة يخطب خطبتين، وإن خطب غيره فلا بأس كالجمعة، فيجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر.
وقوله: «خطبتين» هذا ما مشى عليه الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه(5/145)
بإسناد فيه نظر، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين (1) ، ومن نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخطب إلا خطبة واحدة (2) ، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن وهذا احتمال.
ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن ولكن أراد أن يخصهنّ بخصيصة، ولهذا ذكرهنّ ووعظهنّ بأشياء خاصة بهنّ.
كَخُطْبَتَي الجُمُعَةِ..........
قوله: «كخطبتي الجمعة» ، أي: يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام، لا في وجوب الحضور، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ، وأما خطبتا العيد فلا يجب الحضور إليهما؛ بل للإنسان أن ينصرف من بعد الصلاة فوراً لكن الأفضل أن يبقى [لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب» (3) ] وإذا بقي حرم عليه الكلام.
__________
(1) ولفظه عن جابر: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً، ثم قعد قعدة ثم قام» .
أخرجه ابن ماجه في «سننه» (1289) ، وضعفه البوصيري في «زوائده» .
(2) سبق تخريجه ص (114) .
(3) أخرجه أبو داود (1155) ؛ والنسائي (3/185) ؛ وابن ماجه (1290) ؛ وابن خزيمة (1462) ؛ والحاكم (1/295) ؛ والبيهقي (3/301) عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه. وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وصححه ابن التركماني في «الجوهر النقي» (3/301) .(5/146)
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين؛ لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور، ولحرم الانصراف، فكما كان الانصراف جائزاً، وكان الحضور غير واجب، فالاستماع ليس بواجب.
ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حرم الكلام من أجل التشويش، لا من أجل الاستماع، وبناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه؛ لأنه لا يشوش على أحد.
أما على القول الذي مشى عليه المؤلف: فالاستماع واجب ما دام حاضراً.
يَسْتَفْتِحُ الأُْولَى بِتِسْعِ تَكْبِيراتٍ، والثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ..........
قوله: «يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع» ، يعني: يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متتابعات والخطبة الثانية بسبع تكبيرات متتابعات.
والدليل على ذلك ما يلي:
1 ـ روي في هذا حديث، لكنه أعلّ بالانقطاع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع» (1) ، وصارت
__________
(1) لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: «السنّة التكبير على المنبر يوم العيد يبتدئ خطبته الأولى بتسع تكبيرات قبل أن يخطب، ويبدأ الآخرة بسبع» .
أخرجه عبد الرزاق (5672 ـ 5674) ؛ وابن أبي شيبة (2/190) ؛ والبيهقي (3/299) ، وعبيد الله من التابعين. قال النووي في «الخلاصة» (2/338) : «ضعيف الإسناد غير متصل» .(5/147)
الأولى أكثر؛ لأنها أطول، وخُصّت بالتسع والسبع؛ من أجل القطع على وتر.
2 ـ أن الوقت وقت تكبير، ولهذا زيدت الصلاة بتكبيرات ليست معهودة، وكان هذا اليوم يوم تكبير، فمن أجل هذا شُرع أن يبدأ الخطبتين بالتكبير، فصار لهذا الحكم دليل وتعليل.
وقال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه يبدأ خطبه بحمد الله، ويثني عليه.
وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، فيجمع بين التكبير والحمد.
يَحُثُّهُمْ فِي الفِطْرِ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُخْرِجُونَ، وَيُرَغِّبُهُم فِي الأَْضْحَى فِي الأُْضْحِيَةِ وَيُبَيِّن لَهُمْ حُكْمَهَا.
قوله: «يحثهم» الفاعل الخطيب، والمفعول به يعود على الناس، أي: يحث الناس.
قوله: «على الصدقة» أي: صدقة الفطر، فـ (ال) هنا للعهد الحضوري؛ لأن هذا الوقت وقت صدقة الفطر.
قوله: «ويبين لهم ما يخرجون» أي: يبيّن لهم ما يخرجون، فيبيّن لهم النوعية من أنها تخرج من الطعام من البر، والتمر، والرز، والذرة لمن كانت طعامه، والشعير لمن كان طعامه، وما أشبه ذلك.
ويبيّن لهم القدر وهو صاع بالصاع النبوي، وهو أقل من الصاع المعهود عندنا «بخمس وخمس الخمس» ، يقول شيخنا ابن سعدي ـ رحمه الله ـ: إن الصاع النبوي زنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وزنة الصاع عندنا مئة وأربعة ريالات، فيكون الصاع عندنا زائداً على الصاع النبوي «الربع وخُمس الربع» .(5/148)
ويبيّن لهم الصفة فيقول: أخرجوا من الجيد؛ لأنه أفضل، ويبين أن الرديء كالمسوس والمبلول والمعفن لا يجزئ.
هكذا ذكر المؤلف أنه يبيّن زكاة الفطر في خطبة العيد، ولكن الصواب أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعة من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد، وفي الحديث عن ابن عباس في السنن: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعدها فهي صدقة من الصدقات» (1) .
قوله: «ويرغبهم في الأضحى ... » إلخ، أي: يرغِّب الناس في خطبة عيد الأضحى في الأضحية، ويبيّن لهم فضلها، وأجرها وثوابها.
قوله: «ويبيّن لهم حكمها» ، يعني: هل هي سنّة أو واجبة، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في بابه.
وكذلك يبيّن لهم ما يضحَّى به، وهو ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم.
ويبيّن لهم أيضاً مقدار السن مما يضحّى به، وهو أن تكون جذعة من الضأن أو ثنية من الإبل، والبقر، والمعز.
فإن ضحّى بثني من الضأن، فقال جمهور العلماء: إنها تجزئ.
وقال أهل الظاهر: إنها لا تجزئ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا
__________
(1) أخرجه أبو داود (1609) ؛ وابن ماجه (1827) ؛ والدارقطني (1/219) ؛ والحاكم (1/409) وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه» .(5/149)
تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (1) ، والثنية أكبر من الجذعة فلا تجزئ، اتباعاً لظاهر اللفظ.
ويبيّن لهم في خطبة الأضحى وقت الأضحية، وأنه من بعد صلاة العيد إلى تمام أربعة أيام، أي: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي: أيام التشريق على القول الراجح.
وما ذكره المؤلف من أنه يبيّن الأضحية وما يتعلق بها في خطبة عيد الأضحى مناسب؛ كما جاءت به السنّة.
وَالتَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ، والذِّكْرُ بَيْنَهَا، والخُطْبَتَانِ سُنَّةٌ، وَيُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَ الصَّلاَةِ وَبَعْدَهَا فِي مَوْضِعِهَا...........
قوله: «والتكبيرات الزوائد» الزوائد أي: على الواجبة في الصلاة، وهي في الركعة الأولى ست على ما مشى عليه المؤلف، وفي الثانية خمس، وسماها زوائد، لأنها زائدة على الركن في الأولى، وفي الثانية زائدة على الواجب.
والدليل على سنية هذه التكبيرات الزوائد: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث المسيء في صلاته لم يذكر شيئاً من التكبيرات إلا تكبيرة الإحرام (2) .
قوله: «والذكر بينها» سواء في ذلك ما ذكره المؤلف من قوله: «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ... » إلخ، أو أي ذكر آخر يقوله الإنسان من عند نفسه هو سنّة. وقد سبق البحث في كونه سنّة أو ليس بسنة.
قوله: «والخطبتان سنّة» ، يعني: أن خطبتي العيد سنّة.
__________
(1) أخرجه مسلم (1963) عن جابر رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه (3/19) .(5/150)
واستدلوا على كونها سنّة بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخّص لمن حضر العيد أن يقوم ولا يحضر الخطبة (1) ، ولو كانت واجبة لوجب حضورها، هكذا قالوا.
ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب حضورها عدم وجوبها، فقد يكون النبي عليه الصلاة والسلام أذن للناس بالانصراف، وهي واجبة عليه فيخطب فيمن بقي، ثم إن الغالب ولا سيما في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه لا ينصرف أحد إلا من ضرورة، ولهذا لو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً؛ ولأن الناس في صلاة العيد في اجتماع كبير لا ينبغي أن ينصرفوا من غير موعظة وتذكير.
قوله: «ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها» ، أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعها، أي: موضع صلاة العيد، فيكره التنفل قبل الصلاة أو بعدها في الموضع، أما في بيته فلا كراهة.
وقول المؤلف: «يكره» ، ظاهره أنه مكروه للإمام وغير الإمام.
والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مصلى العيد وصلى العيد ركعتين لم يصلِّ قبلها ولا بعدها (2) .
وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى مصلى العيد ليصلي بالناس فصلى بهم، ثم انصرف، كما أنه يوم الجمعة
__________
(1) سبق تخريجه ص (146) .
(2) أخرجه البخاري (964) ؛ ومسلم (884) (13) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/151)
يخرج إلى المسجد ويخطب ويصلي وينصرف ويصلي في بيته، فهل يقول أحد: إنه يكره أن يصلي الإنسان في يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة وبعدها؟ ما سمعنا أحداً قال بهذا، فكذلك نقول في صلاة العيد، ولا فرق، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إمام يُنتظر ولا يَنْتَظِر، فجاء فصلى بالناس، ثم انصرف.
وكوننا نأخذ الكراهة من مجرد هذا الترك فيه نظر، ولو قالوا: إن السنّة أن لا يصلي لكان أهون من أن يقال: إنه يكره؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل نهي؛ إذ إن الكراهة لا تثبت إلا بنهي، إما نهي عام مثل: «كل بدعة ضلالة» (1) ، وإما نهي خاص، ثم إن ترك النبي عليه الصلاة والسلام التنفل قبل الصلاة واضح السبب؛ لأنه إمام منتظر فجاء فصلى وانصرف، لكن نهي المأموم عن التنفل، والقول بكراهته له لا يخلو من نظر.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد لا قبل الصلاة ولا بعدها، وقال: بيننا وبينكم كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأين الدليل على الكراهة؟ وهذا خير وتطوع، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عليك بكثرة السجود» (2) ، وقال: «أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود» (3) ، فكيف تقولون بالكراهة؟
وهذا مذهب الشافعي ـ رحمه الله ـ في هذه المسألة، وهو الصواب.
__________
(1) أخرجه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم (488) عن ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
(3) أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.(5/152)
وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها؛ [لأن المشروع أن ينصرف] .
وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها.
وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي، أعني التفريق بين الإمام وغيره.
والصحيح أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنّة أن تصلي، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبّر الله قبل الصلاة أفضل، إظهاراً للتكبير والشعيرة، وهذا في النفل المطلق.
وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقاً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بها، حتى إن كثيراً من العلماء قال: إنها واجبة، فإذا كانت سنّة مؤكدة كما تدل على ذلك السنّة، فكيف نقول لمن دخل مصلى العيد، لا تصل يكره لك ذلك؟
فإن قال قائل: مصلى العيد ليس بمسجد، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» (1) .
قلنا: بل إن مصلى العيد مسجد، ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلنَ المصلى (2) . والمرأة لا تعتزل إلا المسجد، أما مصلاها في بيتها، أو مصلى رجل في بيته فإن الحائض لا يحرم عليها أن تمكث
__________
(1) سبق تخريجه (4/124) .
(2) سبق تخريجه ص (114) .(5/153)
فيه، فكون النبي صلّى الله عليه وسلّم يعطي مصلى العيد حكم المسجد بالنسبة لمنع الحائض منه دليل على أنه مسجد، وعلى هذا نص فقهاؤنا، فقال صاحب المنتهى (1) : «ومصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز» ، وهو عمدة فقهاء الحنابلة المتأخرين.
قوله: مصلى الجنائز فإنهم كانوا فيما سبق يجعلون للجنائز مصلى خاصاً يصلى فيه على الجنائز، وقد اقترح بعض الناس الآن أن يجعل مصلى خاص عند المقبرة يصلى فيه على الجنائز، وهذا محل دراسة، هل يوافق على هذا، أو يبقى الناس على ما هم عليه يصلون على جنائزهم في مساجدهم؛ لأنه المعتاد؛ ولأنه قد يكثر الجمع، فلا يسعهم المصلى الذي يجعل عند المقبرة.
فالمهم أن مصلى العيد مسجد له أحكام المساجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكال، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.
والسنّة للإمام أن لا يأتي إلا عند الصلاة، وينصرف إذا انتهت فلا يتطوع قبلها ولا بعدها اقتداء بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، أما المأموم فالأفضل له أن يتقدم ليحصل له فضل انتظار الصلاة.
__________
(1) «المنتهى» (1/199) .(5/154)
وَيُسَنُّ لِمَنْ فَاتَتْهُ أَوْ بَعْضُهَا قَضَاؤُهَا عَلَى صِفَتِهَا.
قوله: «ويسنّ لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها» السنّة عند الفقهاء: ما أثيب فاعلها، ولم يعاقب تاركها، فمن فاتته صلاة العيد سُنّ له أن يقضيها، وهذا لا ينافي قولنا: إن صلاة العيد فرض كفاية، لأن الفرض سقط بالصلاة الأولى.
[وقوله: «أو بعضها» بالرفع عطفاً على الضمير المستتر في فاتته.
وقوله: «قضاؤها» نائب فاعل يسنّ] .
وقوله: «على صفتها» ، أي: صفة الصلاة ركعتين بالتكبيرات الزوائد.
هذا هو المذهب أن قضاءها سنّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها.
وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه.
ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب.
والدليل على سنيّة القضاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (1) ، وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (2) . ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأن المراد بالحديثين الفريضة، أما هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت فإنها لا تقضى إلا بدليل يدل على قضائها إذا فاتت، ولهذا إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة لم يقضها، وإنما يصلي فرض الوقت وهو الظهر.
__________
(1) سبق تخريجه (2/15) .
(2) سبق تخريجه (2/313) .(5/155)
ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.
فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟
فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضاً نقول: فات الاجتماع فلا تقضى، وليس لهذا الوقت فرض، ولا سنّة أيضاً.
فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا.
وبناءً على هذا القول يتضح أن الذين في البيوت لا يصلونها، ولهذا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس أن يخرجوا إليها، وأمر النساء العواتق، وذوات الخدور، وحتى الحيَّض أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين (1) ، ولم يقل: ومن تخلف فليصلِّ في بيته.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقضيها فإن كنا مصيبين فهذا هو المطلوب، وإن كنا غير مصيبين فإننا مجتهدون؟
فالجواب: نعم، الإنسان إذا اجتهد وفعل العبادة على اجتهاد فله أجر على اجتهاده وعلى فعله أيضاً، لكن إذا تبيّنت السنّة، فلا تمكن مخالفتها.
__________
(1) سبق تخريجه ص (114) .(5/156)
وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ فِي لَيْلَتَي الْعِيدَيْنِ........
قوله: «ويسنّ التكبير المطلق في ليلتي العيدين» ، أي: يسنّ التكبير المطلق أي المشروع في كل وقت للرجال والنساء والصغار والكبار في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها إلا في الأماكن التي ليست محلاً لذكر الله تعالى.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن التكبير ينقسم إلى قسمين:
1 ـ مطلق.
2 ـ مقيد.
فالمطلق سبق القول فيه.
والمقيد هو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
وقوله: «في ليلتي العيدين» ، أي: عيدي الفطر والأضحى وذلك من غروب الشمس.
ودليل ذلك في ليلة عيد الفطر قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} وإكمال العدة يكون عند غروب الشمس آخر يوم من رمضان، إما بإكمال ثلاثين، وإما برؤية الهلال، فإذا غابت الشمس آخر يوم من رمضان سنّ التكبير المطلق من الغروب إلى أن تفرغ الخطبة، لكن إذا جاءت الصلاة فسيصلي الإنسان ويستمع الخطبة بعد ذلك.
ولهذا قال بعض العلماء: من الغروب إلى أن يكبّر الإمام للصلاة.
ولم يفصح المؤلف ـ رحمه الله ـ بحكم الجهر والإسرار في(5/157)
هذا التكبير ولكن نقول: إن السنّة أن يجهر به إظهاراً للشعيرة، لكن النساء يكبرن سراً إلا إذا لم يكن حولهن رجال فلا حرج في الجهر.
وقوله: «في ليلتي العيدين» أي: عيد الأضحى، وعيد الفطر. والشريعة الإسلامية ليس فيها إلا ثلاثة أعياد فقط:
عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع يوم الجمعة.
وفي كلٍّ منها مناسبة.
أما مناسبة عيد الفطر، فلأن الناس أدوا فريضة من فرائض الإسلام، وهي الصيام، فجعل لهم الله ـ عز وجل ـ هذا اليومَ يومَ عيدٍ يفرحون فيه، ويفعلون فيه من السرور واللعب المباح ما يكون فيه إظهار لهذا العيد، وشكر لله ـ عز وجل ـ لهذه النعمة، لكنهم لا يفرحون بأنهم تخلصوا من الصوم، وإنما يفرحون بأنهم تخلصوا بالصوم، والفرق أن من نوى التخلص من الصوم يشعر أن الصوم ثقيل عليه، وأنه فرح أنه تخلص منه، وأما من نوى التخلص به فيفرح بأنه تخلص به من الذنوب؛ لأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. فالموفق يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص به من الذنوب حيث قد يغفر له ما تقدم من ذنبه، والغافل يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص من الصوم الذي يجد فيه العناء والمشقة، وفرق بين الفرحين.
أما عيد الأضحى فمناسبته أيضاً ظاهرة؛ لأنه يأتي بعد عشر(5/158)
ذي الحجة التي يسنّ للإنسان فيها الإكثار من ذكر الله ـ عز وجل ـ، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر» ؛ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (1) . كما أنه بالنسبة للحجاج مناسبته ظاهرة؛ لأن الواقفين بعرفة يطلع الله عليهم، ويشهد ملائكته بأنهم يرجعون مغفوراً لهم فيتخلصون من الذنوب، فكان يوم العيد الذي يلي يوم عرفة كيوم العيد في الفطر الذي يلي رمضان، ففيه نوع من الشكر لله عز وجل على هذه النعمة.
أما يوم الجمعة فمناسبته ظاهرة أيضاً؛ لأن هذا اليوم فيه المبدأ والمعاد، ففيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، ونزل إلى الأرض لتعمر الأرض ببنيه، وفيه أيضاً تقوم الساعة، فهو يوم عظيم؛ ولهذا صار يوم عيد للأسبوع، وما عدا ذلك فليس في الشريعة الإسلامية أعياد، حتى ما يفعله بعض المسلمين اليوم من عيد لغزوة بدر في السابع عشر من رمضان، وما يفعله بعض المسلمين من عيد لميلاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما يفعله بعض المسلمين من عيد للمعراج ليلة سبع وعشرين من رجب، كل هذا لا أصل له، بل بعضه ليس له أصل حتى من الناحية التاريخية، فإن المعراج ليس في ليلة سبع وعشرين من رجب، بل إنه في ربيع الأول قبل الهجرة بنحو سنة أو سنتين أو ثلاث حسب الاختلاف بين العلماء، والميلاد أيضاً ليس في يوم الثاني عشر من ربيع الأول، بل حقّق
__________
(1) سبق تخريجه ص (111) .(5/159)
الفلكيون المتأخرون بأنه يوم التاسع من ربيع الأول.
أما بدر فالمشهور عند المؤرخين أنها في السابع عشر من رمضان، ولكن مع ذلك لا يهمنا أن يصح التاريخ، أو لا يصح، فالذي يهمنا هل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يتخذون مثل هذه الأيام أعياداً؟
الجواب: لا، إذاً إذا اتخذناها نحن أعياداً، فإن مضمون ذلك أحد أمرين:
الأول: أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه جاهلين ما في هذه الأيام من فضل.
الثاني: أن يكونوا عالمين، ولكنهم لم يظهروا فضلها، وكتموه عن الناس، وكلا الأمرين شر، أي: لو اتهمنا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بأنهم لم يعلموا فضل هذه الأيام لوصفناهم بالجهل، وكان هؤلاء المتأخرون أعلم منهم بما جعل الله تعالى لهذه المناسبات من الفضل، وإن قلنا: إنهم يعلمون، ولكنهم لم يفعلوا ذلك كتماناً للحق وتلبيساً على الناس لكان هذا أيضاً شراً عظيماً، فكيف يعلم الرسول عليه الصلاة والسلام أن لهذه المناسبات أعياداً ثم لا يشرعها للأمة، والله تعالى قد قال له: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ، فإذا كانت هذه المناسبات العظيمة من ولادة النبي عليه الصلاة والسلام وغزوة بدر والمعراج وغيرها، ليس لها أعياد، فما دونها من باب أولى ألاّ يكون لها أعياد، ويكفينا في هذا هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم خير الهدي، كما كان عليه الصلاة والسلام يعلنه في كل خطبة جمعة يقول: «خير الهدي(5/160)
هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم» (1) .
وَفِي فِطْرٍ آكَدُ،...........
قوله: «وفي فطر آكد» ، أي: التكبير في عيد الفطر آكد من التكبير في عيد الأضحى؛ لأن الله نص عليه في القرآن فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] ، وشيء نص عليه القرآن بعينه يكون آكد مما جاء على سبيل العموم.
أما عيد الأضحى فإنه داخل في عموم العمل الصالح الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر» (2) ، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] .
وقال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد من وجهين:
الوجه الأول: أنه متفق عليه بين العلماء، والفطر مختلف فيه.
الوجه الثاني: أن في الأضحى تكبيراً مقيداً عقب الصلوات، والفطر ليس فيه تكبير مقيد على رأي أكثر العلماء.
فكل واحد منهما أوكد من الثاني من وجه؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكور في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفق عليه، وأنَّ فيه تكبيراً مقيداً يقدم على أذكار الصلاة، يكون من هذه الناحية أوكد.
__________
(1) سبق تخريجه ص (52) .
(2) سبق تخريجه ص (111) .(5/161)
وَفِي كُلِّ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ........
قوله: «وفي كل عشر ذي الحجة» ، أي: ويسنّ التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة.
وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً، وهي تسع من باب التغليب.
والدليل على مشروعية التكبير في عيد الأضحى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح ... » ، فتدخل في عموم الحديث.
وكذلك عموم قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} .
ولو قال قائل: الذكر في الآية أعم من التكبير؟
فيقال: الدليل الخاص: حديث أنس «أنه سئل كيف كنتم تصنعون في الدفع من منى إلى عرفات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: منّا المكبِّر ومنّا المُهِلّ» (1) . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرهم على ذلك، فيدل هذا على أن التكبير المطلق سنّة.
ويدل لذلك أيضاً: فعل الصحابة، فقد كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق يكبران فيكبر الناس بتكبيرهما (2) .
قال في الروض: «ولو لم يرَ بهيمة الأنعام» ، و «لو» هنا إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يسنّ التكبير في هذه الأيام إلا إذا رأى بهيمة الأنعام؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]
__________
(1) أخرجه البخاري (1659) ؛ ومسلم (1285) .
(2) أخرجه البخاري معلقاً (2/458 فتح الباري) وقال الحافظ: لم أره موصولاً عنهما.(5/162)
فإذا رأيت بهيمة الأنعام فاذكر الله، وإذا لم ترها فلا.
لكن المشهور عندنا؛ مذهب الحنابلة: أنه يكبر وإن لم يرها.
واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل «اللهم أنت السلام ومنك السلام» ، أو بعدهما؟
قال بعض العلماء: يكون قبل الاستغفار وقبل «اللهم أنت السلام ومنك السلام» ، فإذا سلم الإمام وانصرف، كبّر رافعاً صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام» .
والصحيح أن الاستغفار، وقول: «اللهم أنت السلام» مقدم؛ لأن الاستغفار وقول: «اللهم أنت السلام» ألصق بالصلاة من التكبير، فإنَّ الاستغفار يسنّ عقيب الصلاة مباشرة؛ لأن المصلي لا يتحقق أنه أتقن الصلاة، بل لا بد من خلل، ولا سيما في عصرنا هذا، فالإنسان لا يأتيه الشيطان إلا إذا كبّر للصلاة.
فالشيطان ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ إذا دخل الإنسان في الصلاة فتح عليه باب الوسواس، والعجيب أنه مع انتهاء الصلاة تذهب عنه هذه الهواجيس، ولكن هل لهذا الداء من دواء؟
الجواب: نعم، فلقد شُكي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الداء بعينه، فقال للذي اشتكى: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست به فاتفل عن يسارك ثلاث مرات، وقل: أعوذ بالله من الشيطان(5/163)
الرجيم، ثلاث مرات، فيذهب الله ذلك عنك، ففعل فأذهب الله ذلك عنه» (1) .
والمُقَيَّدُ عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ فِي جَمَاعَةٍ..........
قوله: «والمقيد عقب كل فريضة في جماعة» ، أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أن المقيد يختص بالفرائض، وهي الصلوات الخمس، والجمعة؛ لقوله: «عقب كل فريضة» ، وعلى هذا فالنافلة لا يسنّ بعدها تكبير مقيد.
وأفادنا قوله: «في جماعة» أنه لو صلاها منفرداً، فلا يسن له التكبير المقيد. وكذا النساء في بيوتهن لا يسن لهن تكبير مقيد؛ لأنهن غالباً لا يصلين جماعة.
والإنسان الذي تفوته الصلاة في الجماعة ويصليها منفرداً لا يسنّ له أن يكبر التكبير المقيد.
وكذلك قيدوا ذلك بالمؤداة فخرج به المقضية. فالشروط ثلاثة:
1 ـ أن تكون الصلاة فريضة.
2 ـ أن تكون جماعة.
3 ـ أن تكون مؤداة.
فلو صلى وحده، أو صلى نافلة، أو صلى قضاءً لم يشرع له التكبير المقيد، حتى ولو كانوا جماعة.
وقال بعض العلماء: إن التكبير المقيّد سنّة لكل مصلٍّ،
__________
(1) سبق تخريجه (3/225) .(5/164)
فريضة كانت الصلاة أو نافلة، مؤداة أو مقضية، للرجال وللنساء في البيوت.
والقول الأول أخص، وهذا أعم.
وقال بعض العلماء: إنَّه سنّة في الفرائض، مؤداة كانت أم مقضية، انفراداً كانت أو جماعة، دون النوافل.
والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء رحمهم الله فيها بدون أن يذكروا نصاً فاصلاً فإننا نقول: الأمر في هذا واسع.
فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر في هذا واسع والحمد لله.
مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، ولِلْمُحْرِم مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى عَصْرِ آخِرِ أيَّامِ التَّشْرِيقِ.............
قوله: «من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق» .
بيّن المؤلف في هذا وقت ابتداء التكبير المقيد، فابتداؤه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، فيكبّر ثلاثاً وعشرين صلاة.
أما المُحْرِم فمن ظهر يوم النحر؛ لأن المُحْرِم مشغول قبل ذلك بالتلبية؛ فالفقهاء ـ رحمهم الله ـ يرون أن التلبية ذكر يشرع عقب الفرائض، ويستدلون بعموم ما جاء في الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أهلَّ دبر الصلاة» (1) . فقالوا: إن المحرم إذا سلم من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/285) ؛ والترمذي (819) ؛ والنسائي (5/162) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/165)
الصلاة، ولم يحل التحلل الأول فإنه يسن له أن يلبي تلبية مقيدة دبر الصلاة، ويحل من التحلل الأول ضحى يوم النحر، ولهذا قالوا: التكبير للمحرم من ظهر يوم النحر؛ لأنه إلى فجر يوم النحر وهو لم يحل؛ إذ إن المحرم لا يحل إلا إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق أو قصر، فإذا رمى جمرة العقبة انقطعت التلبية.
وحينئذ إذا صلى الظهر يوم النحر على كلام المؤلف: يبتدئ التكبير المقيد؛ لأن التلبية انتهت.
فالتكبير باعتبار التقييد والإطلاق على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما فيه تكبير مطلق فقط.
الثاني: ما فيه تكبير مقيد فقط.
الثالث: ما اجتمع فيه الأمران المقيد والمطلق.
فالتكبير المطلق: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى في عشر ذي الحجة إلى أن ينتهي الإمام من خطبته.
ويجتمع المقيد والمطلق من فجر يوم عرفة إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد يوم النحر.
والتكبير المقيد: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق.
والصحيح في هذه المسألة: أن التكبير المطلق في عيد الأضحى ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق،(5/166)
وعلى هذا فيكون فيه مطلق ومقيد من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، والدليل على ذلك:
1 ـ قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] والأيام المعدودات هي أيام التشريق.
2 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله» (1) ، ولم يقيده بأدبار الصلوات بل قال: «وذكر لله» فأطلق.
3 ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يكبّر في منى بقبته فيكبّر الناس بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً، وكان ابن عمر يكبّر بمنى تلك الأيام (2) .
فالصواب أن أيام التشريق ويوم النحر فيها ذكر مطلق، كما أن فيها ذكراً مقيداً.
وعلى هذا فالتكبير ينقسم إلى قسمين فقط:
1 ـ مطلق.
2 ـ مطلق ومقيد.
فالمطلق: ليلة عيد الفطر، وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة.
والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
__________
(1) أخرجه مسلم (1141) عن نبيشة رضي الله عنه.
(2) علّقه البخاري بصيغة الجزم في كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة. «الفتح» (2/534) .(5/167)
وإن نَسِيَهُ قَضَاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، أَوْ يَخْرُجْ مِنَ الْمَسْجِدِ..........
قوله: «وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد» وقوله: «نسيه» أي التكبير المقيد، فالضمير هنا يعود على بعض مرجعه؛ لأن مرجعه يعود على التكبير، لكن المراد بعض التكبير وهو المقيد، أي: إن نسي التكبير المقيد بعد الصلاة قضاه، فلو أنه لما سلم من صلاته استغفر، وقال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام» وسبّح ناسياً التكبير، فنقول: يقضيه إلا في ثلاث أحوال:
1 ـ ما لم يحدث.
2 ـ أن يخرج من المسجد.
3 ـ أن يطول الفصل.
فإذا أحدث لا يقضيه، فلو سلم ثم أحدث بعد السلام مباشرة ثم ذكر التكبير فلا يقضيه الآن؛ لأن الحدث يمنع من بناء الصلاة بعضها على بعض، فيمنع من بناء ما كان تابعاً لها عليها.
والصحيح أنه لا يسقط بالحدث، والفرق بينه وبين الصلاة أن الصلاة يشترط لها الطهارة، وأما الذكر فلا تشترط له الطهارة، بل نقول: اقضه ولو أحدثت، إلا إذا طال الفصل، فإن لم يطل الفصل فاقضه.
وكذا إذا خرج من المسجد، فإنه لا يقضيه، وعللوا ذلك بأنه سنّة فات محلها، وهذا أيضاً فيه نظر.
والصحيح أنه إذا خرج من المسجد، فإن كان بعد طول مكث، فإنه يسقط لا بخروجه، ولكن بطول المكث، وإن خرج سريعاً فإنه لا يسقط فيكبر؛ لأنه إذا كانت الصلاة لو سلم منها(5/168)
ناسياً وخرج من المسجد وذكر قريباً رجع وأتم صلاته فبنى بعضها على بعض مع الخروج من المسجد، فهذا من باب أولى.
فالقول الراجح أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل لا بخروجه من المسجد، ولا بحدثه؛ لأنها سنّة مشروعة عقب الصلاة، وقد فاتت بفوات وقتها، ولأنه إذا طال الفصل لم يكن مقيداً بالصلاة.
وَلاَ يُسَنُّ عَقِبَ صَلاَةِ عِيدٍ، وَصِفَتُهُ شَفْعاً: «اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الحَمْدُ» .
قوله: «ولا يسن عقب صلاة عيد» الضمير يعود على التكبير المقيد؛ لأننا نتكلم عن المقيد، فلو صلى العيد، وقال: أريد أن أكبِّر، قلنا: لا تكبر؛ لأنه إذا سلم الإمام من صلاة العيد قام إلى الخطبة وتفرغ الناس للاستماع والإنصات، ولا يكبرون.
ودليل هذا: أنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه أنهم كانوا يكبرون عقب صلاة العيد، وما لم يرد عن الشارع من العبادات، فالأصل فيه المنع؛ لأن العبادة لا بد من العلم بأنها مشروعة.
قوله: «وصفته شَفْعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .
قوله: «صفته» الضمير يعود على التكبير.
وقوله: «شفعاً» ، أي: الله أكبر مرتين، والثانية مرتين، وتختم الأولى بالإخلاص، والثانية بالحمد.
وهذه المسألة ـ أي: صفة التكبير ـ فيها أقوال ثلاثة لأهل العلم:(5/169)
الأول: أنه شفع كما قال المؤلف: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .
وعللوا ذلك أنه بـ «لا إله إلا الله» يختم بوتر، وكذلك إذا قال: «ولله الحمد» .
الثاني: أنه وتر، «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .
وعللوا ذلك بأن يكون تكبيره وتراً، فيوتر التكبير في المرة الأولى والثانية بناء على أن كل جملة منفردة عن الأخرى، ولا يصح أن يقال: إن الوتر حصل بقوله: «لا إله إلا الله» أو بقوله: «ولله الحمد» ؛ لأنه من غير جنس التكبير، أو يقال: إن النوع مختلف.
الثالث: أنه وتر في الأولى، شفع في الثانية، «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» .
وعللوا أن التكبير جنس واحد، والجملتان بمنزلة جملة واحدة، فإذا كبّر ثلاثاً واثنتين صارت خمساً وتراً، فيكون الإيتار بالتكبير بناء على أن الجملتين واحدة.
وهذا القول والذي قبله من حيث التعليل أقوى من قول من يقول: إنه يكبر مرتين مرتين؛ لأننا إذا اعتبرنا أن كل جملة منفصلة عن الأخرى صار الإيتار في الثنتين أولى، وإن اعتبرنا أن الجملتين واحدة صار الإيتار في الأولى والشفع في الثانية هو الذي ينقطع به التكبير على وتر.(5/170)
والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة، إن شئت فكبر شفعاً، وإن شئت فكبر وتراً، وإن شئت وتراً في الأولى وشفعاً في الثانية.
مسألة: قال في الروض: «ولا بأس بقوله لغيره: تقبّل الله منا ومنك كالجواب» ، أي: في العيد، لا بأس أن يقول لغيره: تقبّل الله منّا ومنك، أو عيد مبارك، أو تقبّل الله صيامك وقيامك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا ورد من فعل بعض الصحابة (1) ـ رضي الله عنهم ـ وليس فيه محذور.
قال: «وكذلك لا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار؛ لأنه ذكر ودعاء، وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث» (2) . والتعريف عشية عرفة بالأمصار أنهم يجتمعون آخر النهار في المساجد على الذكر والدعاء تشبهاً بأهل عرفة.
والصحيح أن هذا فيه بأس وأنه من البدع، وهذا إن صح عن ابن عباس فلعله على نطاق ضيق مع أهله وهو صائم في ذلك
__________
(1) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (2/209) ؛ والبيهقي في «سننه» (3/319) عن واثلة بن الأسقع، وقال ابن التركماني في «الجوهر النقي على سنن البيهقي» : «وفي الباب حديث جيد أغفله البيهقي، وهو حديث محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فكانوا إذا رجعوا يقول بعضهم لبعض: «تقبل الله منا ومنك» ، قال أحمد بن حنبل: إسناده جيد» اهـ.
(2) فعل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أخرجه البيهقي في «سننه» (5/118) ، أما عمرو بن حريث فأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (4/1/310 الجزء الملحق) .(5/171)
اليوم، ودعاء الصائم حري بالإجابة، فلعله جمع أهله ودعا عند غروب الشمس، وأما أن يفعل بالمساجد ويظهر ويعلن، فلا شك أن هذا من البدع؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: الصحابة، ولكان هذا مما تتوافر الدواعي على نقله.
والعبادة لا يصح أن يقال فيها: لا بأس بها؛ لأنها إما سنّة فتكون مطلوبة، وإما بدعة فيكون فيها بأس. أمَّا أنْ تكون عبادة لا بأس بها، فهذا محل نظر.(5/172)
باب صلاة الكسوف
قوله: «باب صلاة الكسوف» العلماء يعبرون بكتاب، وباب، وفصل، ولكل واحد منها اصطلاح.
فإذا كان الكلام جنساً واحداً عبروا بكتاب.
وإذا كان الكلام نوعاً من جنس عبروا بباب.
وإذا كانت مسائل من باب واحد عبروا بفصل.
فإذا كان الموضوع الطهارة، والصلاة ... ، يعبر بكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحج لأن كل واحد جنس.
وإذا كان الموضوع باب الوضوء، أو باب الغسل، أو باب التيمم، أو باب الحيض، أو باب إزالة النجاسة، فهذا يعبر عنه بباب؛ لأن الجنس واحد وهو الطهارة، والنوع مختلف لأن هذا وضوء، وهذا غسل، وهذا حيض، وهذه نجاسة.
وإذا كان نوع الموضوع واحداً لكنه مسائل مختلفة، فيعبر بالفصل.
فمثلاً: الغسل تحته مسائل مختلفة يقال:
فصل: موجبات الغسل، ثم يقال: فصل: وصفة الغسل، فصل: والأغسال المستحبة ... وهكذا، هذا هو المعروف من اصطلاح العلماء.
وهنا قال: باب صلاة الكسوف، ولم يقل: كتاب صلاة(5/173)
الكسوف؛ لأن هذا نوع من الصلاة، فالصلاة جنس، وهذا نوع.
وقوله: «صلاة الكسوف» من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي باب الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف.
وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية.
والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.
والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: «انحجاب ضوء أحد النيرين» ، أي: الشمس أو القمر «بسبب غير معتاد» .
فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.
وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف(5/174)
الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس فيحول بينها وبين الأرض.
كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل.
فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال عزّ وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا *} [الفرقان] ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا *} [نوح] ، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ(5/175)
مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *} [الإسراء] .
فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور.
إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس.
لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه.
ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف.
هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.
لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.
والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده» (1) ؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
__________
(1) أخرجه البخاري (1048) ؛ ومسلم (911) .(5/176)
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد.
فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟
فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الروم] ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس(5/177)
أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه (1) ، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة (2) ؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.
آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة ـ مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير ـ تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة
__________
(1) أخرجه مسلم (906) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري (1045) ، ومسلم (910) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(5/178)
والنار في هذا المقام، يقول: «فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم» (1) ؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها (2) ، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.
يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به.
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.
ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟
فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
__________
(1) أخرجه البخاري (1052) ؛ ومسلم (907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم (904) عن جابر رضي الله عنه.(5/179)
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» (1) ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.
تُسَنُّ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى..........
قوله: «تسن جماعة، وفرادى» ، صلاة الكسوف مشروعة بالسنة والإجماع، وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالكتاب أيضاً، واستنبطها من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] ، وقال: إن الناس لا يسجدون للشمس ولا للقمر وهما على مجراهما الطبيعي العادي، وإنما يسجدون لهما إذا حصل منهما هذا الكسوف خوفاً منهما، فأمر الله ـ عز وجل ـ أن يكون السجود له.
وهذا الاستنباط وإن كان له شيءٌ من الوجاهة، لكن لولا ثبوت السنة لم نعتمد عليه.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «تسن» أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا؛ لأن السنة عند الفقهاء هي: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.
وقد جزم المؤلف ـ رحمه الله ـ بهذا، وهو المشهور عند العلماء.
__________
(1) أخرجه البخاري (1058) ؛ ومسلم (901) عن عائشة رضي الله عنها.(5/180)
وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» .
قال ابن القيم في كتاب «الصلاة» : وهو قول قوي (1) ، أي: القول بالوجوب، وصدق ـ رحمه الله ـ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بها وخرج فزعاً، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وإن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع هذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفاً ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي؟ أين الخوف؟
التخويف يستدعي خوفاً، والخوف يستدعي امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
واستدل الذين قالوا بأنها سنة بما يلي:
1 ـ الحديث المشهور في قصة الذي جاء يسأل عن الإسلام؛ وذكر له النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلوات الخمس، قال: «هل عليَّ غيرها؟» ، قال: «لا إلا أن تطوع» (2) .
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن في آخر حياته في السنة العاشرة، وقال: «أخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات» (3) ، ولم يذكر سواها.
__________
(1) ص (15) .
(2) أخرجه البخاري (2678) ؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه ص (9) .(5/181)
قالوا: هذان الحديثان، وأمثالهما يدلان على أن الأمر بالصلاة في الكسوف للاستحباب، وليس للوجوب.
والذين قالوا بالوجوب قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، أما صلاة الكسوف، وتحية المسجد على القول بالوجوب، وما أشبه ذلك، فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب فإنه ليس كالواجب المطلق.
قالوا: ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي ركعتين لوجب عليه أن يصلي مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن وجبت بسبب نذره، فما وجب بسبب ليس كالذي يجب مطلقاً.
وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف.
فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب.
وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: «جماعة وفرادى» ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى.
أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها.
ودليل ذلك: عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك(5/182)
فصلوا» (1) ، فهذا عام، ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: فصلوا في مساجدكم، مثلاً، فدل ذلك على أنه يؤمر بها حتى الفرد، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها في مسجد واحد ودعا الناس إليها، ولأن الكثرة في الغالب تكون أدعى للخشوع وحضور القلب، ولأنها ـ أي: الكثرة ـ أقرب إلى إجابة الدعاء.
فهي تسن في المساجد والبيوت، لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل.
إِذَا كَسَفَ أَحَدُ النَّيِّرين رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى جَهْراً..........
وقوله: «إذا كسف أحد النيرين» ، «إذا» : ظرف متعلقة بـ «تسن» أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: «ركعتين يقرأ في الأولى جهراً ... » ، بيَّن المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
وقوله: «ركعتين» منصوب على الحالية، وهذا من المواضع التي تأتي فيها الحال جامدة مؤولة بالمشتق، أي: تسنّ حال كونها ركعتين.
وقوله: «يقرأ في الأولى جهراً» أطلق قوله: «جهراً» ولم يقل: في الليل، فدل هذا على أن السنّة في صلاة الكسوف الجهر سواء في الليل أو في النهار، وهو كذلك لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جهر في صلاة الخسوف
__________
(1) سبق تخريجه ص (180) .(5/183)
بقراءته» (1) ، وهي مبنية أيضاً على القاعدة التي سبقت لنا: (أن الصلاة الجهرية في النهار إنما تكون فيما يجتمع الناس عليه) .
بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْفَعُ،............
قوله: «بعد الفاتحة سورة طويلة» لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة (2) أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام (3) .
قوله: «ثم يركع طويلاً» أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً.
وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟
فالجواب: يكرر التسبيح «سبحان ربي العظيم» ، «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» ، «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» ، «سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» ، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» (4) ، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: «ثم يرفع» ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.
__________
(1) أخرجه البخاري (1065) ؛ ومسلم (901) (5) .
(2) سبق تخريجه ص (180) .
(3) كما في حديث جابر، وقد سبق تخريجه.
(4) سبق تخريجه (3/87) .(5/184)
وَيُسَمِّعُ، وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً طَوِيلَةً دُونَ الأُْولى، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ،.........
قوله: «ويسمع» ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده.
قوله: «ويحمد» ، أي: يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: «ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى» ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة.
لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟
الجواب: جاء في الحديث «دون الأولى» (1) ، فينظر إلى هذا الدون.
والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: «ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول» ، ونقول هنا في قوله: «دون الأول» كما قلنا في القراءة.
قوله: «ثم يرفع» أي: ويسمع ويحمد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام، بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع؛ لأن هذه عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، قال البراء بن عازب
__________
(1) سبق تخريجه من حديث عائشة ص (180) .(5/185)
ـ رضي الله عنه ـ: «رمقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده قريباً من السواء» (1) ، والمراد بقيامه هنا قيامه بعد الركوع؛ لأن قيام القراءة أطول بكثير من الركوع، ولأجل تناسب الصلاة.
ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالأُْولَى لَكِنْ دُونَهَا فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ،...........
قوله: «ثم يسجد سجدتين طويلتين» ، أي: بقدر الركوع.
وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما؛ لأنه لو أراد إطالة الجلوس بينهما لنبّه عليه، فكونه يقول: «يسجد سجدتين» ويسكت عن الجلوس بينهما، كأنه يقول: والجلوس بينهما معروف، وأنه جلوسٌ لا إطالة فيه.
والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.
قوله: «ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل» أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى.
ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟
الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، فيحتمل أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، وهو إذا جعل القيام
__________
(1) سبق تخريجه ص (180) .(5/186)
الثاني في الثانية دون القيام الأول صارت الركعة الثانية دون الأولى.
لكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
ونضرب لهذا مثلاً: قرأ في القيام الأول من الأولى مائة آية، وفي الثاني ثمانين آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية هل يقرأ ثمانين آية، وفي القيام الثاني ستين آية، أو يقرأ في القيام الأول في الركعة الثانية ستين آية، وفي القيام الثاني أربعين آية؟
الجواب: هذا هو محل التردد والاحتمال، والذي يظهر الثاني، أي: أنه يجعل قراءته في القيام الأول من الركعة الثانية دون قراءته في القيام الثاني من الركعة الأولى؛ لتكون الصلاة بالتنزل كل ركعة دون التي قبلها.
وفي هذا من الحكمة مراعاة حال المصلي؛ لأن المصلي أول ما يدخل في الصلاة يكون عنده نشاط وقوة، ثم مع الاستمرار يضعف؛ فلهذا روعيت حاله، فكان القيام الأول أطول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع.
قوله: «ثم يتشهد ويسلم» ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة.
وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم (1) ، أي: أنه يصلي
__________
(1) سبق تخريجه ص (180) .(5/187)
ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان صح ذلك عن عائشة وغيرها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تكون الصلاة طويلة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان؛ لأنها صلاة رهبة فشرع لها خطبتان كالاستسقاء، ولكن هذا قياس غير صحيح؛ لأن الاستسقاء ليس فيه إلا خطبة واحدة، إلا على قول بعض العلماء الذي قال: إنها كصلاة العيد، وسيأتي إن شاء الله، ولا يصح قياسها على صلاة العيدين؛ لأن صلاة العيدين صلاة فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى من صلاة الكسوف «قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس» (1) . وهذه الصفات صفات الخطبة.
وقولهم: إن هذه موعظة؛ لأنها عارضة. نقول: نعم، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أخرى، ولم يخطب لقلنا: إنها ليست بسنة، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم.
__________
(1) أخرجه البخاري (1053) ؛ ومسلم (905) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.(5/188)
فَإِنْ تَجَلَّى الكُسُوفُ فِيهَا أَتَمَّهَا خَفِيفَةً............
قوله: «فإن تجلى الكسوف فيها» أي: كسوف الشمس، أو القمر؛ لأنَّ الكسوف عند الإطلاق يشمل الشمس والقمر، أما إذا اقترنا فالكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وقوله: «فيها» أي: في الصلاة.
ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: «أتمها خفيفة» ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق.
فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
وحجتهم في هذا:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا حتى ينكشف ما بكم» (1) ، و «حتى» للغاية.
وهذا الحديث كما يمنع ابتداء الصلاة مرة أخرى يمنع أيضاً الاستمرار فيها واستدامتها.
2 ـ أن السبب الذي من أجله شرعت الصلاة قد زال.
مسائل:
الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟
__________
(1) أخرجه البخاري (1060) ؛ ومسلم (915) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(5/189)
الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي (أن كل عبادة مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها) . فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال.
ويعبر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه القاعدة بقولهم: (سنة فات محلها) .
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟
الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.
وَإِنْ غَابَت الشَّمْسُ كَاسِفَةً،..........
قوله: «وإن غابت الشمس كاسفة» ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل:
الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر، أي: لو كسفت الشمس بعد العصر فإننا نصلي؛ لعموم(5/190)
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» (1) ، فيشمل كل وقت.
فإن قال قائل: عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد العصر» (2) يشمل كل صلاة، فعندنا الآن عمومان، وهما: عموم النهي عن كل صلاة في زمن معين وهو العصر مثلاً، وعموم الأمر بصلاة الكسوف في كل وقت، ومثل هذا يسمى العام والخاص من وجه، فأيهما نقدم عموم النهي أو عموم الأمر؟ إذا قلنا: نقدم عموم الأمر، قيل: بل عموم النهي؛ لأنه أحوط، لأنك تقع في معصية.
وذكر شيخ الإسلام قاعدة قال: (إذا كان أحد العمومين مخصصاً، فإن عمومه يضعف) . أي: إذا دخله التخصيص صار ضعيفاً، فيقدم عليه العام الذي لم يخصص؛ لأن عمومه محفوظ، وعموم الأول الذي دخله التخصيص غير محفوظ، وهذا الذي قاله صحيح.
بل إن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ قال: إن العام إذا خصّص صارت دلالتُهُ على العموم ذاتَ احتمال، فأي فرد من أفراد العموم يستطيع الخصم أن يقول: يحتمل أنه غير مراد، كما خصّص في هذه المسألة التي وقع فيها التخصيص.
لكن الراجح: أن العام إذا خصص يبقى عاماً إلا في المسألة التي خصّص فيها فقط.
فحديث الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف لم يخصّص، وحديث الصلاة بعد العصر مخصّص بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا
__________
(1) سبق تخريجه ص (180) .
(2) سبق تخريجه (4/111) .(5/191)
معهم، فإنها لكما نافلة» (1) .
فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذا للرجلين اللذين تخلفا عن صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة الفجر.
كذلك أيضاً مخصّص بركعتي الطواف، فإن الإنسان إذا طاف ولو بعد العصر يسنّ أن يصلي ركعتين.
ومخصّص بقضاء الفريضة إذا نسيها، فمن نام عن صلاة أو نسيها، وذكرها ولو بعد العصر فإنه يصليها.
فعموم النهي إذاً مخصّص بعدة مخصّصات، فيكون عمومه ضعيفاً، ويقدم حديث الأمر، ومن ثمَّ صار القول الراجح في هذه المسألة: أن كل صلاة لها سبب تصلى حيث وجد سببها، ولو في أوقات النهي، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.
__________
(1) سبق تخريجه (2/80) .(5/192)
أَوْ طَلَعَتْ والقَمَرُ خَاسِفٌ، أَوْ كَانَتْ آيَةٌ غَيْرَ الزَّلْزَلَةِ لَمْ يُصَلِّ.
قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟
الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع.
فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟
الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي.
والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.
قوله: «أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل» ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:(5/193)
القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة.
وحجة هؤلاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده الرياح العواصف، والأمطار الكثيرة، وغير ذلك مما يكون مخيفاً ولم يصل، وأما الزلزلة فدليلهم في ذلك أنه روي عن عبد الله بن عباس (1) ، وعلي بن أبي طالب (2) ـ رضي الله عنهم ـ: أنهما كانا يصليان للزلزلة، فتكون حجة الصلاة في الزلزلة هي فعل الصحابة.
القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا رأيتموهما فصلوا» ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف.
وما يروى عن ابن عباس أو علي فإنه ـ إن صح ـ اجتهاد في مقابلة ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ترك الصلاة للأشياء المُخيفة.
القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.
واستدلوا بما يلي:
1 ـ عموم العلة وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده» ، قالوا: فكل آية يكون فيها التخويف، فإنه يصلى لها.
__________
(1) أثر ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه صلّى في الزلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، فسجد، ثم صلّى الثانية كذلك فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات» .
أخرجه عبد الرزاق (4929) ؛ وابن أبي شيبة (2/472) ؛ والبيهقي (3/343) وقال: «هو عن ابن عباس ثابت» .
(2) أخرجه البيهقي (3/343) .(5/194)
2 ـ أن الكربة التي تحصل في بعض الآيات أشد من الكربة التي تحصل في الكسوف.
3 ـ أن ما يروى عن ابن عباس وعلي (1) ـ رضي الله عنهم ـ يدل على أنه لا يقتصر في ذلك على الكسوف وأن كل شيء فيه التخويف فإنه يصلى له.
4 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (2) ، أي: إذا كربه وأهمه؛ وإن كان الحديث ضعيفاً لكنه مقتضى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} [البقرة: 45] .
وأما ما ذكر من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده العواصف، وقواصف الرعد، فإن هذا لا يدل على ما قلنا؛ لأنه قد تكون هذه رياحاً معتادة، والشيء المعتاد لا يخوِّفُ وإن كان شديداً، فمثلاً في أيام الصيف اعتاد الناس أن الرياح تهب بشدة وتكثر، ولا يعدُّون هذا شيئاً مخيفاً.
صحيح أنه أحياناً قد توجد صواعق عظيمة متتابعة تخيف الناس، فهل الصواعق التي وقعت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كهذه؟ لا يستطيع أحد أن يثبت أن هناك صواعق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام خرجت عن المعتاد، لكن لو وجدت صواعق عظيمة متتابعة، فإن الناس لا شك سيخافون، وفي هذه الحال يفزعون إلى ربهم ـ عز وجل ـ بالصلاة.
وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، له قوة عظيمة. وهذا هو الراجح.
__________
(1) سبق تخريجه ص (194) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (5/388) ؛ وأبو داود (1319) .(5/195)
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟
الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
وَإِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلاَثِ رُكُوعَاتٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ خَمْسٍ جَازَ.
قوله: «وإن أتى» ، أي: المصلي.
قوله: «في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز» ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة» ، أخرجه مسلم (1) ، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط» (2) ، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط.
وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات» (3) ، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث
__________
(1) (904) (10) عن جابر رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (180) .
(3) أخرجه الإمام أحمد (1/143) ؛ والبيهقي (3/330) .(5/196)
ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى.
وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل:
الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟
يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟
الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها.
وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع.
وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها.
والقول الصحيح الأول، لأن الركوع الأول هو الركن.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة(5/197)
أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟
والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنها لا تعاد.
القول الثاني: أنها تعاد على صفتها.
القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين.
فمن نظر لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فصلوا حتى ينكشف ما بكم» قال: إن المشروع أن تصلى كسائر النوافل؛ لأن الصلاة الأولى انقضت وامتثل بها الأمر.
ومن نظر إلى قوله: «فصلوا وادعوا..» (1) ، قال: إن الصلاة حصلت فيبقى الدعاء. وعمل الناس على أنها لا تعاد، وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: «الصلاة جامعة» مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا.
وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.
ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان.
__________
(1) سبق تخريجه ص (189) .(5/198)
وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين «الصلاة جامعة» .
لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف؛ لوجهين:
الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول لما كان الناس لا يدرون عنه إلا إذا وقع.
الوجه الثاني: أن الاستسقاء والعيدين لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي لهما؛ وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله ففعله بدعة؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من النداء، ولو كان هذا السبب يشرع له النداء لأمر المنادي أن ينادي لها.
فالصواب: أن العيدين والاستسقاء لا ينادى لهما.
مسألة: تميزت صلاة الكسوف عن بقية الصلوات بأمور هي:
1 ـ زيادة ركوع في كل ركعة على الركوع الأول.
2 ـ أن فيها بعد الركوع قراءة.
3 ـ تطويل القراءة فيها والركوع والسجود.
4 ـ الجهر فيها بالقراءة ليلاً أو نهاراً.
5 ـ يشرع إذا انتهت الصلاة، ولم يتجل الكسوف: الذكر والاستغفار والتكبير والعتق. وهذا فرق خارج عن نفس الصلاة لكنه فرق صحيح.(5/199)
باب صلاة الاستسقاء
إِذَا أجْدَبَتِ الأَرْضُ وَقَحَطَ المَطَرُ..........
قوله: «باب صلاة الاستسقاء» ، من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي: باب الصلاة التي تكون للاستسقاء، وقد يجوز أن تكون من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الصلاة التي سببها استسقاء الناس.
والاستسقاء: استفعال من سقى وهو: طلب السُقيا، سواء كان من الله، أو من المخلوق، فمن الممكن أن تقول لفلان: اسقني ماء فَيُسَمَّى هذا استسقاء أي طلب سُقيا، ومن الله ـ عز وجل ـ تسأل الله أن يغيثك، هذا طلب سُقيا أيضاً، لكن في عُرف الفقهاء إذا قالوا صلاة الاستسقاء: فإنما يعنون بها استسقاء الرب ـ عز وجل ـ لا استسقاء المخلوق.
وصلاة الاستسقاء لها سبب بيّنه المؤلف بقوله: «إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها جماعةً وفرادى» .
قوله: «إذا أجدبت الأرض» أي: خلت من النبات، وضده الإخصاب إذا أخصبت، أي: ظهر نباتها وكثر.
قوله: «وقحط المطر» أي: امتنع، ولم ينزل، ولا شك أنه يكون في ذلك ضرر عظيم على أصحاب المواشي، وعلى الآدميين أيضاً، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء في هذه الحال سنة مؤكدة.(5/200)
قوله: «إذا أجدبت الأرض وقحط المطر» ، ظاهره ولو كان ذلك في غير أرضهم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيداً فإنه لا يضرهم، وإن كان يضر غيرهم، ما لم يأمر به الإمام فتصلى.
والاستسقاء الذي ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ورد على أوجه متعددة منها:
الأول: «أنه دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب الناس، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلّى الله عليه وسلّم يديه، ورفع الناس أيديهم، وقال: اللهم أغثنا ثلاث مرات، وكانت السماء صحواً فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت وأمطرت، ولم ينزل النبي صلّى الله عليه وسلّم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته» (1) .
الثاني: «أنه كان في غزوة ونقص عليهم الماء، فاستغاث الله ـ عز وجل ـ فأنشأ الله مزناً فأمطرت وسقاهم وارتووا» .
الثالث: «دعا الله سبحانه وتعالى بأن يسقيهم فقام أبو لبابة رضي الله عنه ـ وكان فلاحاً ـ فقال: يا رسول الله إن التمر في البيادر» ـ والبيدر ما يجمع فيه التمر لييبس، وكانوا إذا جذُّوا النخل يضعونه في مكان معد لهذا حتى ييبس، ثم يدخلونه في البيوت يسمى «البيدر» ، ويسمى «الجرين» أيضاً ـ فقال
__________
(1) سبق تخريجه ص (109) .(5/201)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة فيسد ثعلب مربده بإزاره» ، أي: الفجوة التي يدخل منها السيل إلى البستان فأمطرت السماء، وخاف الناس من فساد التمر فجاؤوا إلى أبي لبابة، وقالوا: اذهب إلى مربدك وسده بإزارك ليقف المطر، فذهب فسده بإزاره فوقف المطر (1) ، فهذا من آيات الله عز وجل، وحينئذٍ سلم الناس من الضرر الكثير الذي يحصل لهم بالمطر في بيادرهم.
وهناك أيضاً صفات أخرى، وليس لازماً أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام أي: طلب السُقيا، فللناس أن يستسقوا في صلواتهم، فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله عز وجل.
صَلَّوْهَا جَمَاعَةً وَفُرَادَى. وَصِفَتُهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَأَحْكَامُهَا كَعِيدٍ. وَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ الخُرُوجَ لَهَا وَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِي
قوله: «صلوها جماعة وفرادى» ، أي: صلاة الاستسقاء وستأتي صفتها، والأفضل أن تكون جماعة كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم. قوله: «وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد» .
وعلى هذا فتسنّ في الصحراء؛ لأن صلاة العيد تسنّ في الصحراء.
ويكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ بسبّح والغاشية؛ لأن المؤلف قال: «صفتها في موضعها» أي: مكانها «وأحكامها كعيد» .
والدليل على هذا حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
__________
(1) أخرجه الطبراني في «الصغير» (1/137 ـ 138) .(5/202)
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاها كما يصلي العيد (1) .
ولكنها تخالف العيد في أنها سنّة، والعيد فرض كفاية.
قوله: «وإذا أراد الإمام الخروج لها» ، يحتمل أن يريد به الإمام الذي يصلي بهم صلاة الاستسقاء، ويحتمل أن يراد به الإمام الأعظم وهو السلطان، والمعنى الأول أقرب.
قوله: «وعظ الناس» الموعظة هي: التذكير المقرون بترغيب أو تخويف، فيرغبهم في فعل الواجبات، ويحذّرهم من انتهاك الحرمات.
ولهذا قال: «وأمرهم بالتوبة من المعاصي» التوبة: الرجوع إلى الله ـ عز وجل ـ من معصيته إلى طاعته، وقد ذكر العلماء للتوبة شروطاً يحسن أن نذكرها الآن:
الأول: الإخلاص لله ـ عز وجل ـ بأن يقصد بتوبته إلى ربه رضا ربه، لا أن يتوب أمام الناس رياء وسمعة.
الثاني: أن يندم على ما حصل له من الذنب، وهذا الشرط قال بعض العلماء: إنه لا يمكن تحقيقه؛ لأن الندم انفعال في النفس، والانفعال لا يملكه الإِنسان.
ولكن الصحيح: أنه يمكن أن يملكه؛ لأن معنى الندم إظهار الغم والهم لما أصابه ووقع منه من الذنب، وهذا أمر يمكن أن يقع.
__________
(1) يأتي تخريجه ص (212) .(5/203)
الثالث: أن يقلع عن المحرم، فإذا كانت التوبة من ترك الزكاة مثلاً، فلا بد أن يخرج الزكاة، وإذا كانت من التهاون بصلاة الجماعة فلا بد أن يصلي مع الجماعة، وإذا كانت من الغيبة فلا بد أن يقلع عن الغيبة، وإذا كانت أخذ مال لا يستحقه فلا بد أن يرده إلى صاحبه، وإذا كانت من ضرب إنسان اعتدى عليه بالضرب فلا بد أن يستحله أو يقول: اضربني كما ضربتك.
الرابع: أن يعزم على ألا يعود فلا يتوب توبة مؤقتة، وهنا نقول: يعزم على ألا يعود، ولا نقول: ألا يعود؛ لأنه لو فرضنا أن الشروط تمت، ثم بعد ذلك عاد فالتوبة الأولى صحيحة.
الخامس: أن تكون التوبة في الزمن الذي تقبل فيه، وذلك بأن تقع قبل الغرغرة، قبل حضور الأجل، فإن لم تقع إلا بعد حضور الأجل فقد قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] ، وهذا زمن خاص باعتبار كل أحد بنفسه.
وكذلك أيضاً تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وهذا زمن عام، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم، وتابوا ورجعوا لكن {لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] .
قد يقول قائل: أين الدليل على أنه إذا أراد الخروج يعظ الناس، أليس النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المصلى واستسقى (1) ، فهل ورد أنه وعظهم؟
__________
(1) يأتي تخريجه ص (216) .(5/204)
والجواب: أنه يعظهم وعظاً عاماً، كما لو صادف أنه يتكلم في خطبة الجمعة فيعظ الناس فهذا طيب، ولا يقال: إنه وعظهم من أجل الاستسقاء، ولكن من أجل خطبة الجمعة والمناسبة.
وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَتَرْكِ التَّشَاحُنِ،........................
قوله: «والخروج من المظالم» ، من باب عطف الخاص على العام؛ وذلك لأن الخروج من المظالم من التوبة.
والمظالم: جمع مظلمة، فتشمل المظلمة في حق الله، والمظلمة في حق العباد.
مثال المظلمة في حق الله: عدم إخراج زكاته، أو عدم إخراج كفارة كانت عليه، فليبادر بإخراج هذا الحق.
مثال المظلمة في حق العباد: لو كان عنده حق لشخص كدراهم، أو منافع أو غيرها، فإنه يخرج منها أيضاً بإيفائه.
فإن كان الحق غير مالي كالغيبة مثلاً، فإنه يخرج منها بأن يذهب إلى من تكلم فيه، ويقول: إني تكلمت فيك فحللني، ولا يخرج من عُهدتها إلا بذلك.
وقال بعض العلماء: إن كان الذي تكلم فيه قد علم فليذهب إليه ويستحله، وإن لم يعلم فلا يذهب إليه، بل يستغفر له، ويذكره بخير في الأماكن التي اغتابه فيها؛ لأنه ربما لو ذهب إليه وطلب أن يحلله تأخذه العزة بالإثم فيأبى؛ لأن بعض الناس لا يهمه أن يأتي إليه أخوه معتذراً، فيأبى أن يسامحه.
وهذا القول هو الصحيح.
فإن قال: أنا لا أحلك إلا إذا أعطيتني عشرة دراهم(5/205)
فيعطيه؛ لأن هذا حق له حتى لو طلب أكثر يعطيه؛ لأن إعطاءه في الدنيا أهون من إعطائه في الآخرة.
قوله: «وترك التشاحن» أي: يأمر الإِمام الناس أن يتركوا التشاحن فيما بينهم وهو: الشحناء والعداوة، والبغضاء؛ لأن التشاحن سبب لرفع الخير.
ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خرج ذات يوم ليخبر أصحابه بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فرفعت» (1) ، أي: رفع العلم بها، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُنسيها من أجل التشاحن.
قال العلماء: فنأخذ من هذا أنه إذا كنا نطلب الخير من الله فلا بد أن ندع التشاحن فيما بيننا.
فإذا قال قائل: كيف يمكن أن يزيل الإنسان ما في قلبه من الحقد أو الغل على أخيه؟
فالجواب: يستطيع الإِنسان أن يتخلص من ذلك بما يلي:
أولاً: أن يذكر ما في بقاء هذه العداوة من المآثم، وفوات الخير حتى إن الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين والخميس، فإذا كان بين اثنين شحناء قال: «أَنظِروا هذين حتى يصطلحا» (2) ، أي: الرب عز وجل لا ينظر في عملك يوم الاثنين والخميس إذا كان بينك وبين أخيك شحناء.
__________
(1) أخرجه البخاري (2023) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (2565) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/206)
ثانياً: أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، وأنه لا يزيده ذلك العفو إلا عزاً؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً» (1) .
ثالثاً: أن يعلم أن الشيطان ـ وهو عدوه ـ هو الذي يوقد نار العداوة والشحناء بين المؤمنين؛ لأنه يحزن أن يرى المسلمين متآلفين متحابين ويفرح إذا رآهم متفرقين والعداوة والشحناء بينهم.
فإذا ذكر الإنسان المنافع والمضار فإنه لا بد أن يأخذ ما فيه المصالح والمنافع، ويدع ما فيه المضار والمفاسد.
فعليك أن تجاهد نفسك ولو أهنتها في الظاهر، فإنك تعزها في الحقيقة؛ لأن من تواضع لله رفعه، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً.
وجرب تجد أنك إذا فعلت هذا الشيء وعفوت، وأصلحت ما بينك وبين إخوانك تجد أنك تعيش في راحة وطمأنينة وانشراح صدر وسرور قلب، لكن إذا كان في قلبك حقد عليهم أو عداوة فإنك تجد نفسك في غاية ما يكون من الغم والهم، ويأتيك الشيطان بكل احتمالات يحتملها كلامه، أي لو احتمل كلامه الخير والشر قال لك الشيطان: احمله على الشر.
مع أن المشروع أن يحمل الإِنسان كلام إخوانه على الخير ما وجد له محملاً.
فمتى وجدت محملاً للخير فاحمله على الخير، سواء في الأقوال أو في الأفعال، ولا تحمله على الشر.
__________
(1) أخرجه مسلم (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/207)
وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ يحمل الفعل أو القول على الشر ثم يؤزه الشيطان إلى أن يتجسس على أخيه، ويتابع أخاه، وينظر ماذا فعل؟ وماذا قال؟ فتجده دائماً يحلل أقواله وأفعاله، وليته يحمله على الأحسن، أو على الحسن، ولكن على السيء والأسوء، وذلك بإيحاء الشيطان ـ والعياذ بالله ـ.
والذي يجب على المؤمن إذا رأى من أخيه ما يحتمل الخير أو الشر أن يحمله على الخير ما لم توجد قرائن قوية تمنع حمله على الخير، فهذا شيء آخر، فلو صدر مثل هذا من رجل معروف بالسوء ومعروف بالفساد فلا بأس أن تحمله على ما يحتمله كلامه، أما رجل مستور ولم يعلم عنه الشر، فإذا وجد في كلامه، أو في فعاله ما يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير حتى تستريح.
وربما يصاب هذا الرجل الذي يتبع عورات الناس وأخطاءهم القولية والفعلية بأن يسلط الله عليه من يتابعه هو بنفسه، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته.
وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ،........................................
قوله: «والصيام» ، أي: يأمرهم أن يصوموا.
قال بعض العلماء: يأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الثالث.
وقال بعضهم: يجعل الاستسقاء يوم اثنين أو خميس؛ لأن يومي الاثنين والخميس مما يسن صيامهما، فيكون خروج الناس وهم صائمون، والصائم أقرب إلى إجابة الدعوة من المفطر، فإن للصائم دعوة لا ترد، هكذا قال المؤلف ـ رحمه الله ـ.(5/208)
ولكن في هذا نظر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا.
أما ما ذكره المؤلف أولاً من التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم فهذه مناسبة، لكن الصيام طاعة تحتاج إلى إثباتها بدليل، وإذا كان الأمر قد وقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يأمر أصحابه بالصيام، فلا وجه للأمر به.
لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين ـ ولم يجعله سنة راتبة دائماً من أجل أن يصادف صيام بعض الناس، لو قيل بهذا لم يكن فيه بأس.
لكن كوننا نجعله سنة راتبة لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين، أو نأمر الناس بالصوم، فهذا فيه نظر.
قوله: «والصدقة» أي: ويأمرهم أيضاً بالصدقة، والصدقة قد يقال: إنها مناسبة؛ لأن الصدقة إحسان إلى الغير، والإحسان سبب للرحمة لقول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، والغيث رحمة لقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] .
والصدقة هنا ليست الصدقة الواجبة، بل المستحبة، أما الصدقة الواجبة فإن منعها سبب لمنع القطر من السماء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المروي عنه: «وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء» (1) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (4019) عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال في «الزوائد» : «هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلف في ابن أبي مالك وأبيه» .(5/209)
وَيَعِدُهُمْ يَوْماً يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَيَتَنَظَّفُ، وَلاَ يَتَطَيَّبُ، وَيَخْرُجُ مُتَوَاضِعاً، مُتَخَشِّعاً، مُتَذَلِّلاً، مُتَضَرِّعاً.............................
قوله: «ويعدهم يوماً يخرجون فيه» ضمير الفاعل يعود على الإمام وضمير المفعول «هم» يعود على الناس. أي: يقول: سنخرج في يوم كذا، ويحسن أيضاً أن يعيِّن الزمن من هذا اليوم فيقول: في ساعة كذا؛ ليتأهبوا على وجه ليس فيه ضرر عليهم؛ لأن الناس ربما لو خرجوا مبكرين، وتأخر الإِمام حصل عليهم أذية من البرد إن كانوا في زمن شتاء صارم.
قوله: «ويتنظف، ولا يتطيب» ، إذا قال العلماء: «يتنظف» فالمراد إزالة ما ينبغي إزالته شرعاً أو طبعاً.
فإزالة ما ينبغي إزالته شرعاً مثل: الأظفار، والعانة، والإِبط، وما ينبغي إزالته طبعاً مثل: العرق، والروائح الكريهة.
وإنما قالوا: إنه يستحب أن يتنظف؛ لأن هذا مكان اجتماع عام، وإذا كان الناس فيهم الرائحة المؤذية، فإن هذا يؤذي بعض الحاضرين، فلهذا استحبوا أن يتنظف، ولكن لا يتطيب.
وهذا يمكن أن تجعله لغزاً فتقول:
ما الصلاة التي لا ينبغي للإِنسان أن يتطيب لها؟
الجواب: هي صلاة الاستسقاء؛ لأن صلاة الجمعة يستحب لها الطيب، وغيرها لا يؤمر به، ولا ينهى عنه.
والاستسقاء لا يتطيب لها، وعللوا ذلك: بأنه يوم استكانة وخضوع، والطيب يشرح النفس، ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج «متخشعاً متذللاً متضرعاً» (1) .
__________
(1) يأتي تخريجه ص (212) .(5/210)
وهذا أيضاً مما في النفس منه شيء؛ وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعاً مستكيناً لله ـ عز وجل ـ، ولهذا لو أراد الإِنسان أن يدعو الله بغير هذه الحال، لا نقول: الأفضل ألا تطيب من أجل أن تكون مستكيناً لله.
قوله: «ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً» ، هذه أوصاف تدل على أن الإنسان لا يخرج في فرح وسرور؛ لأن المقام لا يقتضيه.
قوله: «متواضعاً» أي: بقوله، وهيئته، وقلبه.
والتواضع معروف، حتى إنك ترى الرجل وتعرف أنه من المتواضعين، وترى الرجل وتعرف أنه من المتكبرين، فيكون متواضعاً للحق وللخلق.
قوله: «متخشعاً» الخشوع: سكون الأطراف، وأن يكون على وقار وهيبة.
قوله: «متذللاً» من الذل وهو الهوان، بمعنى: أن يضع من نفسه، وهو قريب من التواضع لكنه أشد؛ لأن الإِنسان يُري نفسه أنه ذليل أمام الله عز وجل.
وقوله: «متضرعاً» التضرع يعني الاستكانة، أو شدة الإِنابة إلى الله ـ عز وجل ـ، قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ، أي في شدة اللجوء إلى الله ـ عز وجل ـ، ودليل هذه الأوصاف قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «خرج(5/211)
النبي صلّى الله عليه وسلّم للاستسقاء متذللاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً» (1) .
وَمَعَهُ أَهْلُ الدِّينِ وَالصَّلاَحِ، وَالشُّيُوخُ، وَالصِّبْيَانُ المُمَيِّزُونَ وَإِنْ خَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَن المُسْلِمِين لاَ بِيَوْمٍ لَمْ يُمْنَعُوا...........
قوله: «ومعه أهل الدين والصلاح» ، لأن هؤلاء أقرب إلى إجابة الدعوة.
وقوله: «الدين والصلاح» من باب عطف المترادفين؛ لأن كل صاحب دين فهو صاحب صلاح.
قوله: «والشيوخ» ، أي: الكبار الذين أمضوا أعمارهم في الدين والصلاح؛ لأنهم أقرب إلى الإجابة.
قوله: «والصبيان المميزون» أي: الذين لم يبلغوا؛ لأنه لا ذنوب لهم، فيكونون أقرب إلى الإِجابة ممن ملأت الذنوب صحائفهم.
قوله: «المميزون» خرج به الصغار الذين لم يميزوا، فإنهم لا يخرجون؛ لأنه ربما يحصل منهم من الأذية والصياح والبكاء أكثر مما يحصل من المنفعة.
قول المؤلف: «معه» ، ظاهر كلامه أنهم يصحبونه في الممشى؛ لأنه قال: «يخرج ومعه» ، ويحتمل أنه أراد المعية في الصلاة، لا في كونهم يخرجون مصاحبين له في سيره إلى المسجد.
والأقرب: أن المراد بالمعية هنا المعية في الصلاة؛ لأنها هي المقصودة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/230، 355) ؛ وأبو داود (1165) ؛ والترمذي (558) ؛ والنسائي (3/156) ؛ وابن ماجه (1266) ؛ وابن خزيمة (1405، 1419) ؛ وابن حبان (2862) إحسان؛ والحاكم (1/326) . وقال الترمذي: «حسن صحيح» .(5/212)
قال في الروض (1) : «وأبيح التوسل بالصالحين» ، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك ـ رحمهم الله ـ: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين.
ودليل هذه المسألة: ما حصل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين خرج يستسقي ذات يوم فقال: «اللهم إنا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم يا عباس فادع الله فقام فدعا فسقاهم الله» (2) .
والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك.
وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن التوسل فعل ما يكون وسيلة للشيء، وذات الصالح ليست وسيلة للشيء، فلا علاقة بين الدعاء، وذات الرجل الصالح.
وكذلك لا يجوز التوسل بجاه الصالحين؛ لأن جاه الصالحين إنما ينفع صاحبه، ولا ينفع غيره.
وأقبح من ذلك أن يتوسل بالقبور، فإن هذا قد يؤدي إلى دعاء أهل القبور والشرك الأكبر.
قوله: «وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا» ، أهل الذمة هم: الذين بَقُوا في بلادنا، وأعطيناهم العهد
__________
(1) «الروض مع حاشية ابن قاسم» (2/547) .
(2) أخرجه البخاري (1010) عن أنس رضي الله عنه.(5/213)
والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية.
وقد كان هذا موجوداً حين كان الإسلام عزيزاً، أما اليوم فإنه غير موجود، إلا أن يشاء الله وجوده في المستقبل، فإذا طلب أهل الذمة أن يستسقوا بأنفسهم منفردين عن المسلمين بالمكان لا باليوم، فإنه لا بأس به، مثل: أن يقولوا: نحن نخرج شمال البلد، وأنتم إلى جنوب البلد فإننا نمنحهم ذلك، وإن كانت صلاتهم باطلة ودعاؤهم باطلاً، ولكن إذا دعا المضطر ربه ـ عز وجل ـ فإنه يجيب دعاءه، ولو كان مشركاً، ولو علم الله أنه سيشرك بعد النجاة كما قال الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ *} [العنكبوت] ، فينجيهم الله ـ عز وجل ـ؛ لأنه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً.
فلا نمنعهم أن ينفردوا عنَّا بمكان، لا أن ينفردوا بيوم، فلو قالوا: نريد أن ننفرد بيوم الأحد، ونحن بيوم الاثنين، أو بالعكس، فإننا لا نوافقهم؛ لأنه ربما ينزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنة، ويقال: هم على حق.
ومثل ذلك أهل البدع، لو أن أهل البدع طلبوا منَّا أن ينفردوا بمكان أُذِن لهم، فإن طلبوا أن ينفردوا بزمان منعناهم؛ لأنه إذا منعنا أهل الذمة مع ظهور كفرهم فمنعنا لأهل البدع من باب أولى.
فلو جاءنا قوم من الصوفية أو الرافضة، وقالوا: نحن نريد أن نستسقي في يوم الاثنين، وأنتم يوم الأحد نقول: لا؛(5/214)
لأنه لو صادف نزول المطر يوم استسقائهم حصل بذلك مفسدة كبيرة.
فإن قال قائل: هل هذا أمر ممكن، أو أمر فرضي أن ينزل المطر في يوم يستسقي فيه أهل الذمة أو أهل البدع؟
فالجواب: أنه أمر قد يقع.
فإن قال قائل: كيف يقع وفيه فتنة وإغراء بهذا المذهب الباطل، أو هذا الدين الباطل؟
فالجواب: أن ذلك من الفتن التي يفتن الله بها عباده ـ نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن ـ فقد يفتن الله العباد بشيء يكون سبباً في ضلالهم من حيث لا يشعرون، فإن طلب أهل الذمة أن يخرجوا معنا بلا انفراد بالمكان ولا بالزمان فإننا لا نمكنهم؛ لقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الأنفال] .
فإن قيل: كيف نأذن لأهل الذمة بالخروج للاستسقاء، وقد كان اليهود على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكونوا يخرجون للاستسقاء؟
فالجواب: الظاهر أنهم لم يطلبوا الخروج للاستسقاء.
مسألة: هل أهل الذمة كل كافر عقدنا معه الذمة، أو يختص بجنس معين من الكفار؟
الجواب: المذهب: أنه يختص بجنس معين من الكفار، وهم ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس.
والصحيح: أنه عام لكل كافر أبى الإِسلام، ورضخ(5/215)
للجزية، فإننا نعقد معه الذمة؛ لأن حديث بريدة بن الحصيب الذي ثبت في صحيح مسلم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام له من جملة ما ذكر: «أنه إذا نزل على أهل حصن وأبوا الإِسلام فإنه يطلب منهم الجزية» (1) .
فَيُصَلِّي بِهِمْ، ثُمَّ يَخْطُبُ وَاحِدَةً يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، وَيُكْثِرُ فِيهَا الاسْتِغْفَارَ،.........
قوله: «فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة» الفاعل الإِمام، وأفادنا أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد، ولكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة (2) ، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة (3) .
وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة، وبعدها ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين، فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد.
ومن هنا خالفت صلاة الاستسقاء صلاة العيد في أمور منها:
__________
(1) أخرجه مسلم (1731) .
(2) كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه قالت: «فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبّر وحمد الله عزّ وجل ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم ... ونزل فصلّى ركعتين ... » .
أخرجه أبو داود (1173) ؛ وابن حبان (2860) إحسان؛ والحاكم (1/328) ؛ والبيهقي (3/349) . وقال أبو داود: «هذا حديث غريب إسناده جيد» ، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي.
(3) كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج نبي الله يستسقي فصلّى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل» .
أخرجه الإمام أحمد (2/326) ؛ وابن ماجه (1268) ؛ والبيهقي (3/347) ، وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه» : «إسناده صحيح» .(5/216)
أولاً: أنه يخطب في العيد خطبتين على المذهب، وأما الاستسقاء فيخطب لها خطبة واحدة.
ثانياً: أنه في صلاة الاستسقاء تجوز الخطبة قبل الصلاة وبعدها، وأما في صلاة العيد فتكون بعد الصلاة.
ثالثاً: أنه في صلاة العيد تُبَيَّنُ أحكام العيدين، وفي الاستسقاء يكثر من الاستغفار، والدعاء بطلب الغيث.
قوله: «يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد» سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير على المشهور من المذهب، وأن في المسألة خلافاً، فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل في جميع خطبه وهكذا في خطبة الاستسقاء.
بل لو قال قائل: إن خطبة الاستسقاء تُبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهاً؛ لأن خطبة العيد تأتي في الوقت الذي أُمرنا فيه بكثرة التكبير.
قوله: «ويكثر فيها الاستغفار» الاستغفار هو: طلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إننا نستغفرك، وما أشبه ذلك.
والمغفرة هي: ستر الذنب، والعفو عنه. أي: أن يستر الله الذنب ويعفو عنه، فلا يؤاخذك به، مأخوذة من المِغْفَر، وهو الذي يضعه المقاتل على رأسه اتقاء السهام لئلا تصيبه.
ومعلوم أن المغفر يحصل به أمران: الستر، والوقاية.(5/217)
وَقِرَاءَةَ الآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ بِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَيَدْعُو بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «وقراءة الآيات التي فيها الأمر به» أي: مثل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] ، {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61] ، وغير ذلك من الآيات التي يستحضرها في تلك الساعة.
قوله: «ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، أي: يرفع الإمام يديه، لحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: «لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه» (1) . والمراد: أنه حال الخطبة لا يرفع يديه إلا إذا دعا للاستسقاء، وكذلك المستمعون يرفعون أيديهم؛ لأنه ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لما رفع يديه حين استسقى في خطبة الجمعة رفع الناس أيديهم» (2) .
وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبالغ فيه حتى يُرى بياض إبطيه، ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى إنه جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعل ظهورهما نحو السماء» (3) .
واختلف العلماء في تأويله:
فقال بعض العلماء: يجعل ظهورهما نحو السماء.
__________
(1) أخرجه البخاري (1031) ؛ ومسلم (2096) (7) .
(2) أخرجه البخاري (1029) عن أنس رضي الله تعالى عنه.
(3) أخرجه مسلم (896) عن أنس رضي الله عنه.(5/218)
وقال بعض العلماء: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء؛ لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء.
وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.
وَمِنْهُ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيثاً» ............
قوله: «ومنه: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً» . اللهم اسقنا: بهمزة الوصل من سقى يسقي، وبهمزة القطع من أسقى يسقي، وكلاهما صحيح قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] ، وقال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] ، الآية الثانية من سقى الثلاثي، والأولى من أسقى الرباعي.
والغيث: هو المطر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34] .
ومغيثاً أي: مزيلاً للشدة، وذلك لأن المطر قد ينزل ولا يزيل الشدة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «ليست السَّنَةُ ألا تمطروا، بل السَّنَة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً» (1) .
وهذا يقع، فأحياناً تحصل أمطار كثيرة، ولا تنبت الأرض، وأحياناً تأتي أمطار خفيفة، ويكون الربيع كثيراً.
__________
(1) أخرجه مسلم (2904) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/219)
إِلَى آخِرِهِ............
قوله: «إلى آخره» يعني آخر الدعاء، وذكره في «الروض المربع» فقال: «هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، عاماً سَحًّا، طبقاً دائماً، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين» .
الهنيء: ما لا مشقة فيه، وما يفرح الناس به ويستريحون له.
والمريء: ذو العاقبة الحسنى.
والغدق: الكثير، قال تعالى: {وَأَلَّوِِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا *} [الجن] .
والسح: أي: الذي ليس فيه العواصف؛ لأن العواصف مع الأمطار تؤذي وتؤلم، وربما تفسد الجدران، وتهدم البيوت.
عاماً: أي: شاملاً.
طبقاً: أي: واسعاً.
دائماً: أي: مستمراً، ولكن هذا الدوام مشروط بألاَّ يكون فيه ضرر.
مجللاً: أي: مغطياً للأرض، ومنه جلال الناقة الذي يغطى به ظهرها.
اللهم أسقنا الغيث: أي: المطر الذي يكون مغيثاً.
ولا تجعلنا من القانطين: القانط هو: المستبعد لرحمة الله، وهذه حال تعتري الإِنسان، فيستبعد رحمة الله ـ عز وجل ـ؛ لأنه يرى ذنوبه كثيرة، ويرى الفساد منتشراً، فيقول: بعيد أن الله يرحمنا، وهذا خطأ.(5/220)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56] فمن عرف حلم الله ـ عز وجل ـ ورحمته، فإنه لا يمكن أن يقنط حتى لو كانت ذنوبه كثيرة، ومعاصيه كبيرة، فإن عفو الله أوسع.
«اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق» إلخ (1) .
مسألة: يسن على المذهب: أن يقلب رداءه في أثناء الخطبة، ويستقبل القبلة ويدعو.
وقال بعض العلماء: إنما يكون القلب بعد الدعاء؛ تفاؤلاً بأن الله أجاب الدعاء، وأنه سيقلب الحال من الشدة إلى الرخاء.
وَإِنْ سُقُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ شَكَرُوا اللهَ، وَسَأَلُوهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ.........
قوله: «وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله» ، الضمير يعود على الناس، أي: إن سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذه الحال لكانوا مبتدعين؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السُقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله ـ سبحانه وتعالى ـ على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن الشكر يتعلق بهذه الأشياء الثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح.
__________
(1) هذا الدعاء الذي أشار إليه الماتن؛ وذكره في الشرح روي مرفوعاً بنحوه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عزاه السيوطي في «جمع الجوامع» (1/385) إلى الطبراني، وذكره الشافعي في «الأم» (1/251) عن سالم عن أبيه تعليقاً، فقال: «وروي عن سالم عن أبيه وذكره ... » . قال ابن حجر في «التلخيص» (2/99) : «ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه البيهقي في «المعرفة» من طريق الشافعي، قال: ويروى عن سالم به ... » .(5/221)
ـ أما القلب: فأن يوقن الإِنسان بأن هذه النعمة من الله ـ عز وجل ـ تفضل بها.
ـ وأما اللسان: فأن يثني بها على الله، فيقول: الحمد الله الذي سقانا، وما أشبه ذلك من الكلمات.
ـ وأما الجوارح: فأن يقوم بطاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره، وترك نواهيه.
ولهذا قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثةً
يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله: «وسألوه المزيد من فضله» ، أي: سألوا الله أن يزيدهم من فضله، ومن ذلك أن يقولوا: «اللهم اجعله صيباً نافعاً» ، كما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوله (1) .
وَيُنَادَى: الصَّلاَة جَامِعةً.............
قوله: «وينادى الصلاة جامعة» ، ينادى لصلاة الاستسقاء إذا حان وقتها: الصلاة جامعة، ويجوز فيها ثلاثة أوجه:
الأول: الصلاةُ جامعةٌ، مبتدأ وخبر.
الثاني: الصلاةَ جامعةً، فالصلاة مفعول لفعل محذوف، وجامعةً حال من الصلاة، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة.
الثالث: الصلاةُ جامعةً، فالصلاة خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الصلاة، وجامعة حال من الصلاة، لكن هذا الوجه أضعفها.
__________
(1) لحديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رأى المطر قال: صيباً نافعاً» . أخرجه البخاري (1032) .(5/222)
فإذا جاء وقت صلاة الاستسقاء، وارتفعت الشمس قيد رمح يُنادى: الصلاةُ جامعة؛ ليحضر الناس؛ قياساً على صلاة الكسوف.
والمذهب: يرون أنه ينادى للكسوف، والعيد، والاستسقاء.
ولكن ما ذكره الأصحاب في المناداة للعيد، والاستسقاء، ضعيف جداً؛ وذلك لما يلي:
أولاً: أنه خلاف هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالعيد وقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ينادى لها، وصلاة الاستسقاء كذلك لم يكن ينادى لها، وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق: (أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يشرع له شيء من العبادات فشرع شيء من العبادات، من أجله يكون بدعة) ، لأننا يلزمنا الوقوف عند الشرع، عند أسبابه، وعند جنسه، وهيئته.
ثانياً: أن إلحاق ذلك بصلاة الكسوف غير صحيح أيضاً، أي: أنه يمتنع القياس؛ لأن صلاة الكسوف تأتي على غير تأهب بغتة، وصلاة العيد معلومة من قبل، والناس يتأهبون لها، وكذلك الاستسقاء، وقد سبق في كلام المؤلف أنه قال: «إن الإمام يعدهم يوماً يخرجون فيه» ، فالصلاة معلومة الوقت.
ولو قال قائل: إننا اليوم نعلم بالكسوف متى يحصل ابتداء وانتهاء، وفي أي وقت من نهار أو ليل؟
فنقول: حتى في هذه الحال ينادى الصلاة جامعة؛ لأن الحسّابين قد يخطئون، ونحن قد علقت الصلاة منّا بوجود الكسوف لا بالعلم به، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموهما فصلوا وادعوا» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (180) .(5/223)
فالنداء لصلاة الاستسقاء والعيد لا يصح أثراً ولا نظراً، وأما أثراً؛ فلعدم وروده مع وجود سببه في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما نظراً؛ فلوجود الفرق بين الأصل والفرع.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا إِذْنُ الإِْمَامِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ فِي أَوَّلِ المَطَرِ، وَإِخْرَاجُ رَحْلِهِ وَثِيَابِهِ لِيُصِيبَهُمَا المَطَرُ...........
قوله: «وليس من شرطها إذن الإِمام» ، أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة.
بل لو وجد السبب، وقال الإِمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإِمام.
اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.
قوله: «ويسن أن يقف في أول المطر» ، السنة في اصطلاح الفقهاء: هي ما يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركه.
قوله: «أن يقف» ، أي: أن يقف قائماً أول ما ينزل المطر.
قوله: «وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر» ، أي: متاعه الذي في بيته، أو في خيمته إن كان في البر، وكذلك ثيابه يخرجها؛ لأن هذا روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (1) .
والثابت من سنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه» (2) ،
__________
(1) أخرجه الشافعي في «الأم» (1/152) .
(2) أخرجه مسلم (898) عن أنس رضي الله عنه.(5/224)
أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه، ويقول: «إنه كان حديث عهد بربه» (1) .
وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقوله في الحديث: «إنه كان حديث عهد بربه» ، لأن الله خلقه الآن، فهو حديث عهد بخلق الله.
وهل يقال: إن هذا التعليل يتعدى لغيره مما يُحدثه الله ـ عز وجل ـ، أو نقول: إن هذا تعليل بعلة قاصرة على معلولها؟
الجواب: أن نقول: إن هذه علة قاصرة على معلولها، ولهذا لا يمكن أن نقول للإنسان: إنه ينبغي أن يصيب من بدنه ما ولد من حيوان أو نحوه مما هو حديث عهد بالله.
ويستفاد من قوله: «إنه كان حديث عهد بربه» ، ثبوت الأفعال الاختيارية لله ـ عز وجل ـ التي تقع بمشيئته، خلافاً لمن أنكر ذلك، فإن إنكاره عن جهل، وليس عن علم؛ فالرب عز وجل تقوم به الأفعال الاختيارية، ويفعل ما يشاء في أي وقت شاء.
وَإِذَا زَادَتِ المِيَاهُ، وَخِيفَ مِنْهَا سُنَّ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا،...........
قوله: «وإذا زادت المياه وخيف منها سنّ أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا» ، أي: إذا زادت مياه السماء أي: الأمطار، ومثل ذلك لو زادت مياه الأنهار على وجه يُخشى منه، فإنه يسنّ أن يقول هذا الذكر: «اللهم حوالينا ولا علينا» .
__________
(1) أخرجه مسلم (898) عن أنس رضي الله عنه.(5/225)
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ «أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا ـ فلم يدع الله بإمساكها، ولكنه دعا الله بإبقائها على وجه لا يضر ـ فقال: اللهم حوالينا ولا علينا ... إلخ» (1) .
وقوله: «اللهم» ، هذه منادى حذفت منها ياء النداء، وعوض عنها الميم، ولم تجعل الميم في أول الكلمة تيمناً بالبداءة باسم الله، وجُعلت في آخرها ميمٌ؛ لأن الميم تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله عز وجل.
وقوله: «حوالينا» أي: أنزله حوالينا، أي: حوالي المدينة.
وحوالي هنا: ملحق بالمثنى؛ لأنه نُصب بالياء بدلاً عن الفتحة حيث إنه لا يدل على اثنين، بل على واحد أي: حولنا.
وقوله: «ولا علينا» ، أي: ولا على المدينة التي خيف أن تتهدم من كثرة الأمطار.
اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَاب وَالآكَامِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، رَبَّنَا لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» ، الآيَة.
قوله: «اللهمّ على الظراب» هي الروابي الصغار، أي: الأماكن المرتفعة من الأرض، لكن ليس ارتفاعاً شاهقاً؛ وذلك لأن المرتفع من الأرض يكون فيه النبات أسرع نمواً لأنه مرتفع قد تبين للشمس والهواء فيكون أحسن.
__________
(1) سبق تخريجه ص (109) .(5/226)
قوله: «والآكام» الجبال الصغيرة، ولهذا يقال: أكمة للجبل الصغير.
قوله: «وبطون الأودية» أي: داخل الأودية، أي: الشعاب؛ لأن بطون الأودية إذا أمطرت سالت، ونبتت فيها أشجار كبيرة نافعة.
قوله: «ومنابت الشجر» ، هذا عام يعم كل أرض تكون منبتاً للشجر.
فإذا قال قائل: هذه الدعوات هل شملت الأرض كلها؟
فالجواب: لم تشمل الأرض كلها، فخرج منها رؤوس الجبال العالية؛ لأنها ليست آكاماً، ولا ظراباً، وخرج منها الأرض القاحلة السبخة التي لا تنبت؛ لأنها ليست من منابت الشجر، ولا من بطون الأودية، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم دعا الله ـ عز وجل ـ أن يكون نزول المطر على أراضٍ نافعة وهي هذه الأنواع الأربعة: الظراب، والآكام، وبطون الأودية، ومنابت الشجر.
قوله: «ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به» ، هذه لم ترد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لكنها مناسبة.
فإذا قالها الإِنسان لا على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنة فلا.
وهنا قال المؤلف: «ربنا لا تحمِّلنا» . وفي الآية: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا} ، و «الواو» إنما حذفها المؤلف؛ لأنها في الآية حرف عطف على ما سبق، وهنا لم يسبقها شيء تعطف عليه،(5/227)
فلهذا حذف الواو، فقال: «ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به» .
قوله: «الآية» ، أي: إلى آخر الآية، أي: أكمل الآية.
وإكمال الآية: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:286] أربع دعوات:
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، وهذا من باب التخلية.
{وَاعْفُ عَنَّا} ، كذلك من باب التخلية.
{وَاغْفِرْ لَنَا} ، كذلك من باب التخلية.
{وَارْحَمْنَا} ، من باب التحلية أي: من باب إيجاد الشيء.
فهذه الدعوات كلها دعوات مفيدة مناسبة، لكن بشرط ألا يتخذها الإِنسان على أنها سنة.
ذكر في الروض مسألة مفيدة قال: «يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويباح في نوء كذا، وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعاً، قاله في المبدع» .
النوء: هو النجم، أي: مطرنا مثلاً بالنجم الفلاني، بنجم الشولة، أو بنجم النعائم، أو بنجم سعد الذابح، أو بنجم سعد بلع، أو سعد السعود، وما أشبه ذلك.
ودليله: ما ثبت في الصحيح من حديث زيد بن خالد الجهني «أنهم كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديبية على إثر سماء كانت من الليل ـ أي: مطر نزل في الليل ـ فلما انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم من صلاة الصبح قال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال:(5/228)
مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» (1) .
وهذا نص صريح في أن من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر، ولهذا حكى في المبدع إجماع أهل العلم على ذلك (2) .
إذاً قول الإِنسان: مطرنا بنوء كذا محرم، بل هو من كبائر الذنوب، وهل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة؟
الجواب: أنه بحسب عقيدة القائل، إن كان يعتقد أن النوء هو الذي خلق هذا المطر، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ لأنه ادَّعى أَنَّ مع الله خالقاً، وإن كان يعتقد أن النوء سبب فإنه كافر كفراً دون كفر.
وإنما كان كافراً فيما إذا اعتقد أنه سبب؛ لأنه أثبت سبباً لم يثبته الله ـ عز وجل ـ، فإن النجوم ليس لها أثر، وإنما هي أوقات فقط.
مسألة: لو قال: مطرنا في نوء كذا؟
الجواب: هذا جائز؛ لأن في للظرفية، ومن ذلك استعمال العامة عندنا الباء هنا، وهم يريدون الظرفية، يقولون مثلاً: مطرنا بالمربعانية، ومطرنا بالشبط، ومطرنا بالعقارب، العقارب هي: السعود الثلاثة، سعد الذابح، وبلع، والسعود.
فإذا قال: مطرنا بسعد السعود، وهو يقصد في سعد السعود كما هي اللغة العامية عندنا فهنا لا يكون كافراً، والباء قد تأتي بمعنى (في) مثل قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ *} {وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 137، 138] ، أي: في الليل.
__________
(1) أخرجه البخاري (1038) ؛ ومسلم (71) .
(2) «المبدع» (2/212) .(5/229)
صفحة فارغة(5/230)
كِتَابُ الجَنَائِزِ
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ «الجنائز» في كتاب «الصلاة» ولم يذكرها في الوصايا والمواريث؛ لأن الصلاة أهم ما يفعل بالميت، وأنفع ما يكون له، حيث إنه يدعى له فيها.
والجنائز: جمع جنازة، وهي بفتح الجيم وكسرها، بمعنى واحد، وقيل: بالفتح اسم للميت، وبالكسر اسم لما يحمل عليه الميت، فإذا قيل: جَنازة أي ميت، وإذا قيل: جِنازة أي نعش.
وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل والنعش تحت الميت.
وينبغي للإنسان أن يتذكر حاله ونهايته في هذه الدنيا، وليست هذه النهاية نهاية، بل وراءها غاية أعظم منها، وهي الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتذكر دائماً الموت لا على أساس الفراق للأحباب والمألوف؛ لأن هذه نظرة قاصرة، ولكن على أساس فراق العمل والحرث للآخرة، فإنه إذا نظر هذه النظرة استعد وزاد في عمل الآخرة، وإذا نظر النظرة الأولى حزن وساءه الأمر، وصار على حد قول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادّكار الموت والهرم
فيكون ذكره على هذا الوجه لا يزداد به إلا تحسراً وتنغيصاً، أما إذا ذكره على الوجه الأول وهو أن يتذكر الموت، ليستعد له ويعمل للآخرة، فهذا لا يزيده حزناً، وإنما يزيده إقبالاً(5/231)
على الله ـ عز وجل ـ، وإذا أقبل الإِنسان على ربه فإنه يزداد صدره انشراحاً، وقلبه اطمئناناً.
مسائل:
الأولى: هل يُسْأَلُ المريض كيف يصلي وكيف يتطهر، أو نقول: إن هذا من باب التدخل فيما لا يعني؟
الجواب: الذي نرى أنه إن كان المريض من ذوي العلم الذين يعرفون، فلا حاجة أن تذكره؛ لأنه سيحمل تذكيرك إياه على إساءة الظن به، وأما إذا كان من العامة الجُهال فهنا يحسن أن يبين له؛ لأنه قد يخفى عليهم ما يحتاجون من الأحكام وقد عدت مريضاً فسألته عن حاله، فحمد الله وقال: لي شهر ونصف وأنا أجمع وأقصر الصلاة. فمثل هذا يحتاج إلى تنبيه وتعليم؛ لأنه يظن أن القصر مع الجمع، وأن من جمع قصر.
ومما ينبه عليه أيضاً: أنه اشتهر عند العامة أن من لا يستطيع الإيماء بالركوع والسجود فإنه يومئ بأصبعه، وهذا غير صحيح كما سبق بيانه.
الثانية: هل يؤمر المرضى بالتداوي؛ أو يؤمرون بعدم التداوي، أم في ذلك تفصيل؟
الجواب: قال بعض العلماء: ترك التداوي أفضل ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان، واستدلوا لذلك بما يلي:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لما مرض وَلَدُّوه أمر بأن يُلَدَّ جميع من(5/232)
كان حاضراً إلا العباس بن عبد المطلب» (1) ، قالوا: وهذا دليل على أنه كره فعلهم. واللدود: ما يُلَدُّ به المريض وهو نوع من الدواء.
2 ـ أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ «لما مرض، وقيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: إن الطبيب قد رآني، فقال: إني أفعل ما أريد» ، وأبو بكر هو خير الأمة بعد نبيها وهو قدوة وإمام.
وقال بعض العلماء: بل يسنّ التداوي لما يلي:
1 ـ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك.
2 ـ أنه من الأسباب النافعة.
3 ـ أنَّ الإِنسان ينتفع بوقته، ولا سيما المؤمن المغتنم للأوقات، كل ساعة تمر عليه تنفعه.
4 ـ أن المريض يكون ضيق النفس، لا يقوم بما ينبغي أن يقوم به من الطاعات، وإذا عافاه الله انشرح صدره وانبسطت نفسه، وقام بما ينبغي أن يقوم به من العبادات، فيكون الدواء إذاً مراداً لغيره فيسنّ.
وقال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما علم أو غلب على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل.
لأنه إذا كان من باب المخاطرة فقد يحدث فيه ما يضره،
__________
(1) أخرجه البخاري (5712) ؛ ومسلم (2213) عن عائشة رضي الله عنها.
واللدود من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم، ولديدا الفم: جانباه.(5/233)
فيكون الإِنسان هو الذي تسبب لنفسه بما يضره، ولا سيما الأدوية الحاضرة (العقاقير) التي قد تفعل فعلاً مباشراً شديداً على الإِنسان بسبب وصفة الطبيب الخاطئة.
وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه.
والصحيح: أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، فالسرطان الموضعي بإذن الله إذا قطع الموضع الذي فيه السرطان فإنه ينجو منه، لكن إذا ترك انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يقطع ويزول، وقد خَرَّبَ الخَضِرُ السفينةَ بخرقها لإِنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجباً.
وعلى هذا فالأقرب أن يقال ما يلي:
1 ـ أن ما عُلم، أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب.
2 ـ أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.
3 ـ أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر.
الثالثة: التداوي بالمحرم لا يجوز لنهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك حيث قال: «تداووا ولا تداووا بحرام» (1) ، ولعموم
__________
(1) أخرجه أبو داود (3874) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.(5/234)
الأدلة في تحريم المحرم، فهي عامة وليس فيها تفصيل، ولأنه لو كان فيه خير لم يمنع الله العباد منه، بل أحله لهم.
الرابعة: قال في الروض: «ويكره أن يستطب مسلم ذمياً لغير ضرورة، وأن يأخذ منه دواء لم يبيّن له مفرداته المباحة» . أي: يكره أن تذهب إلى ذمي أي: يهودي أو نصراني عقدنا له الذمة لتتداوى عنده؛ لأنه غير مأمون، وإذا كان كذلك فجعل هؤلاء مسؤولين على أطباء مسلمين من باب أولى؛ لأن المسؤول له كلمته، وربما يوجه إلى شيء محرم، أو إلى شيء يضر المسلمين، ولهذا نقول: إن استطباب غير المسلمين لا يجوز إلا بشرطين:
الأول: الحاجة إليهم.
الثاني: الأمن من مكرهم؛ لأن غير المسلمين لا نأمن مكرهم إلا نادراً، ولا سيما في قضية الولادة أي التوليد؛ لأن هؤلاء النصارى في التوليد يحرصون على أن يقتلوا أولاد المسلمين، أو أن يمزعوا أيديهم عند إخراج الطفل في التوليد كما نقل لي بعض الناس، لذلك يجب التحرز منهم وسؤال الله ـ عز وجل ـ أن يرزقنا الاستغناء عنهم؛ لأنهم أعداء للمسلمين فإذا احتاج الناس إليهم وأمنوا منهم فلا بأس، فإن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل دليلاً مشركاً يدله على الطريق من مكة إلى المدينة وقت الهجرة، مع أن هذا من أخطر ما يكون، فإن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ـ رضي الله عنه ـ، ولكن لما أمنه(5/235)
النبي عليه الصلاة والسلام جعله دليلاً له (1) .
الخامسة: اختلفوا في حكم التداوي ببول الغنم، فالمذهب أنه لا يجوز التداوي إلا ببول الإبل، وقيل: يجوز التداوي ببول كل ما يؤكل لحمه، وقيل: لا يجوز التداوي بالبول مطلقاً حتى ببول الإبل؛ لأنه نجس عندهم، وذلك لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول» (2) ، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: «فكان لا يستبرئ من بوله» . والتداوي ببول الإبل ثبتت به السنة في قصة العرنيين (3) ، وقياس ذلك أنه لو ثبت أن في أبوال الغنم فائدة فإنه لا فرق بينهما وبين أبوال الإبل.
تُسَنُّ عِيَادَةُ المَرِيضِ............
قوله: «تسنّ عيادة المريض» ، السنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه. فهي من الأمور المرغب فيها، وليست من الأمور الواجبة.
وقول المؤلف: «عيادة المريض» ولم يقل: زيارة؛ لأن الزيارة للصحيح، والعيادة للمريض، وكأنه اختير لفظ العيادة للمريض من أجل أن تكرر؛ لأنها مأخوذة من العود، وهو: الرجوع للشيء مرة بعد أخرى، والمرض قد يطول فيحتاج الإِنسان إلى تكرار العيادة.
وقول المؤلف: «عيادة المريض» (أل) هنا للجنس أي: من أصابه جنس المرض، وهي أيضاً باعتبار المريض عامة، فهي
__________
(1) أخرجه البخاري (2263) .
(2) سبق تخريجه (1/133) .
(3) أخرجه البخاري (4192) ؛ ومسلم (1671) عن أنس رضي الله عنه.(5/236)
باعتبار المرض للجنس، وباعتبار المريض الذي أصابه المرض للعموم؛ لأنها اسم محلى بأل، والاسم المحلى بأل يفيد العموم، على أن بعض النحويين يقولون: إن أل اسم موصول؛ لأنه إذا كان اسم فاعل أو اسم مفعول مقروناً بأل فإن أل عندهم بمعنى اسم الموصول.
إذاً عندنا عمومان:
الأول: المرض، لأن (أل) للجنس.
الثاني: المصاب بالمرض.
أما المرض فالمراد من مرض مرضاً يحبسه عن الخروج مع الناس، فأما إذا كان لا يحبسه فإنه لا يحتاج إلى عيادة؛ لأنه يشهد الناس ويشهدونه، إلا إذا علم أن هذا الرجل يخرج إلى السوق أو إلى المسجد بمشقة شديدة، ولم يصادفه حين خروجه، وأنه بعد ذلك يبقى في بيته، فهنا نقول: عيادته مشروعة.
فالمرض بالزكام مرض لا شك، فإن حبس الإِنسان دخل في هذا، وإن لم يحبسه كما هو الغالب الكثير فإنه لا يحتاج إلى عيادة، والمريض بوجع الضرس إن حبس في بيته عدناه، وإن خرج وصار مع الناس لا نعوده، لكن لا مانع أن نسأل عن حاله إذا علمنا أنه مصاب بمرض الضرس، والمريض بوجع العين كذلك ينسحب عليه الحكم، إذا كان المرض قد حبسه فإنه يعاد، وإن كان يخرج مع الناس لا يعاد، لكن يسأل عن حاله.
وأما المصاب بالمرض فإن كان غير مسلم فلا يعاد، إلا إذا(5/237)
اقتضت المصلحة ذلك بحيث نعوده لنعرض عليه الإِسلام، فهنا تشرع عيادته إما وجوباً وإما استحباباً، وقد ثبت أنه «كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فمرض فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم فأسلم، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» (1) .
وأما الفاجر من المسلمين أعني الفاسق بكبيرة من الكبائر أو بصغيرة من الصغائر وأصر عليها، ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنا نعوده من أجل أن نعرض عليه التوبة ونرجو منه التوبة، فعيادته مشروعة إما وجوباً وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده، وقد يقال: بل عيادته مشروعة ما دام أنه لم يخرج من وصف الإِيمان أو الإِسلام؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حق المسلم على المسلم خمس» (2) ، وفي رواية: «ست» (3) . وذكر منها عيادة المريض.
وتشمل عيادة المريض القريب والبعيد، أي: القريبَ لك بصلة قرابة، أو مصاهرة، أو مصادقة، والبعيد للعموم؛ لأن هذا حق مسلم على مسلم لا قريب على قريب، ولكن كلما كانت الصلة أقوى كانت العيادة أشد إلحاحاً وطلباً، ومن المعلوم أنه إذا مرض أخوك الشقيق فليس كمرض ابن عمك البعيد، وكذلك إذا
__________
(1) أخرجه البخاري (1356) عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (1240) ؛ ومسلم (2162) (4) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم (2162) (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/238)
مرض من بينك وبينه مصاهرة أي: صلة بالنكاح فليس كمن ليس بينك وبينه مصاهرة، وكذلك الذي بينك وبينه مصادقة ليس كمن ليس بينك وبينه مصادقة، فالحقوق هذه تختلف باختلاف الناس.
وقوله: «تسنّ» ظاهره أنَّه سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت براً أو صلة رحم صارت واجبة لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة، فلا يمكن أن نقول لشخص مرض أبوه: إن عيادة أبيك سنة، بل واجبة؛ لأنها يتوقف عليها البر، وكذا عيادة الأخ؛ لأن الوجوب ليس لأجل المرض، ولكن من أجل الصلة في القرابة، أما من لا يعد ترك عيادته عقوقاً أو قطيعة فإن المؤلف يقول: إنه سنة.
وقال بعض العلماء: إنه واجب كفائي أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعلها من حق المسلم على المسلم (1) ، وليس من محاسن الإِسلام أن يمرض الواحد منا ولا يعوده أحد، وكأنَّه مَرِضَ في برية، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يعوده أحد فإنه يجب على من علم بحاله وَقَدِرَ أن يعوده.
وعيادةُ المريض مَعَ كونها من أداء الحقوق على المسلم لأخيه ففيها جلب مودة وألفة لا يتصورها إلا من مرض ثم عاده إخوانه، فإنه يجد من المحبة لهؤلاء الذين عادوه شيئاً كثيراً، فتجده يتذوقها، ويتحدث بها كثيراً، ففيها مع الأجر تثبيتُ الألفةِ بين المسلمين.
__________
(1) سبق تخريجه ص (238) .(5/239)
قوله: «تسنّ عيادة المريض» ولم يبيِّن المؤلف في أي وقت يعاد المريض، ولم يبيّن هل يتحدث عنده، ويتأخر في المقام، أو لا يتحدث، ويتعجل في الانصراف؟
فنقول: عدم ذكرها أحسن، أما بالنسبة للزمن المناسب فيختلف بحسب ما تقتضيه حالة المريض ومصلحته، ولا نقيدها بأنها بكرة أو عشياً كما قيدها بعض العلماء، بل نقول: إن هذه ترجع إلى أحوال الناس، وهي تختلف بحسب حال المريض، فإذا قدرنا أن المريض قد جعل له وقتاً يجلس فيه للناس فليس من المناسب أن نعوده في غير هذا الوقت؛ لأن تخصيصه لزمن يعوده فيه الناس، يدل على أنه لا يرغب في غير هذا، وإلا لجعل الباب مفتوحاً.
وأما بالنسبة لكونه يتأخر عند المريض ويتحدث إليه، أو يعوده ثم ينصرف بسرعة فهذه أيضاً ينبغي ألا تقيد، وإن كان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تتأخر وأن تبادر بالانصراف؛ لأن المريض قد يثقل عليه ذلك، وكذلك أهل المريض ربما يثقل عليهم البقاء عنده؛ لأنهم يحبون أن يأتوا إلى مريضهم.
ولكن الصحيح في ذلك أنه يرجع إلى ما تقتضيه الحال والمصلحة، فقد يكون هذا المريض يحب من يعوده سواء محبة عامة أو محبة خاصة لشخص معين، ويرغب أن يبقى عنده، ويتحدث إليه، ولا سيما إذا أنس بك المريض، ورأيت أنه يحب أن تتحدث إليه، مثل أن يسألك عن أحوال الناس مثلاً، أو عن أشياء يحب أن يطلع عليها، فهنا ينبغي لك أن تمكث عنده، أما(5/240)
إذا علمت من حاله أنه يرغب ألا تبقى كثيراً، مثل: أن تراه يتململ، وأن صدره ضائق فهنا تخرج ولا تبقى؛ لأنك تعلم أنه لا يريد أن تبقى عنده، والناس يختلفون، لا المرضى ولا العائدون.
ولهذا أنا أرى أن إطلاق المؤلف هذا الإِطلاق بدون تقييد بزمن ولا ببقاء من أحسن ما فعل ـ رحمه الله ـ.
مسألة: الاتصال بالهاتف لا يغني عن العيادة؛ لا سيما مع القرابة، أما إن كان بعيداً يحتاج لسفر فتغني.
وَتَذْكِيرُه التَّوْبَةَ، وَالْوَصِيَّةَ............
قوله: «وتذكيره التوبة والوصية» ، أي: ويسنّ أن يذكره التوبة والوصية، فالتوبة من المعاصي والمظالم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله ـ عز وجل ـ، أو بحقوق العباد، ويؤكد على حقوق العباد، ويبيّن له أنه إن لم يقضها في الدنيا ويتب إلى الله منها في الدنيا، فسوف تؤخذ من حسناته يوم القيامة التي هو أحوج الناس إليها، وأيضاً يذكره بأن الورثة كثير منهم لا يخافون الله ولا يرحمون الميت، فتجدهم يلعبون بالمال، والميت محبوس بدينه؛ من أجل أن يحرص على أداء المظالم قبل أن يموت.
ويذكره أيضاً الوصية، وليس المراد بالوصية ما يفهمه كثير من العامة من أنها الوصية بالعشاء والضحية، كما هو عندنا في نجد، فأكثر الوصايا عندنا هي: أوصى بثلث ماله أو بجزء منه يقدره بعشاء وأضحية، ويستدلون بالحديث الضعيف: «استفرهوا(5/241)
ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط» (1) ، أي: اتخذوا ضحايا فارهة، فإنها مطاياكم، فيقول: أنا أحب أن يكون لي مطية يوم القيامة، فأوصي بالأضحية. وليس هذا هو مراد العلماء.
وأهم شيء أن يوصي بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد، فقد يكون عليه زكاة لم يؤدها، وقد يكون عليه حج لم يؤده، وقد يكون عليه كفارة، وقد يكون عليه ديون للناس فيذكر بالوصية بهذا.
ويذكر بوصية التطوع، فيقال: لو أوصيت بشيء من مالك في وجوه الخير تنتفع به، وأحسن ما يوصي به للأقارب غير الوارثين؛ لأن الذي يترجّح عندي: أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ *} [البقرة] ، وخص الوارث بآيات المواريث، ويبقى ما عداه على الأصل وهو الوجوب.
والصحيح: أن الآية محكمة لا منسوخة، وعلى هذا فيوصي بما شاء، بالخمس مثلاً، فيقول: أنا أوصيت بالخمس يعطي الوصي منه ما يرى لأقاربي غير الوارثين، والباقي لأعمال الخير،
__________
(1) أخرجه صاحب «مسند الفردوس» (267) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب قال عنه الحافظ ابن حجر في «التلخيص» بعد ذكر الحديث (4/138) : «يحيى ضعيف جداً» . ونقل عن ابن الصلاح قوله: «هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه» . وقال ابن العربي: «ليس في فضل الأضحية حديث صحيح» .(5/242)
وإذا كان له أقارب غير وارثين فقراء فهم أحق بالخمس كله.
وظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك، سواء كان المرض مخوفاً أو غير مخوف، وسواء كان المريض يرتاع بذلك أو لا؛ لأن بعض المرضى إذا قلت له: تب إلى الله، واستغفره وانظر إلى المظالم التي عليك فأوصِ، تُدْني إليه الموت وربما يموت؛ لأنه سيقول: هذا رأى فيّ الموت.
وبعض الناس يكون عنده يقين ولا يهتم بهذا الشيء، ويعرف أن الوصية لا تقرب الأجل، وترك الوصية لا يبعد الأجل، وكذلك الأمر بالتوبة.
وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفاً.
وفصل بعضهم فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقاً، ولو كان المرض غير مخوف؛ لأن التوبة مطلوبة في كل حال، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفاً.
والذي يظهر لي أنه يذكره مطلقاً ما لم يخف عليه؛ وذلك لأن التوبة مشروعة في كل وقت، والوصية كذلك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» (1) ، ولو كان صحيحاً ينبغي له إذا ذكره الوصية أن يبيّن له الوصية المشروعة، التي ليس لها آثار سيئة، بأن يقول: أوص بما أراد الله في الأقارب لغير
__________
(1) أخرجه البخاري (2738) ؛ ومسلم (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/243)
الوارثين، على نظر الوصي، ولبناء مساجد، أو شراء كتب، أو ما شابه ذلك، وتكون وصية منجزة لا تتأخر، وكذا إذا عرف من حال المريض أنه متهاون بمظالم الناس، وبما أوجب الله عليه، فينبغي أن يذكره على وجه لا يزعجه؛ لأن المريض ضعفت نفسه.
مثلاً: إذا كان مديناً يحسن أن يقال: كتابة الديون والإِشهاد عليها حسن، والآجال بيد الله، وما أشبه.
ويبيّن له مسألة هامة يهملها كثير من كتّاب الوصايا، فيكتب «وهذه الوصية ناسخة لما قبلها، أو سبقها» ؛ لأننا وجدنا أن بعض الموصين يوصي بوصيتين: وصية سابقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، ووصية لاحقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، غير الأشياء الأولى، فيحصل بذلك تضارب وارتباك عند الأوصياء، ولهذا ينبغي كلما كتب وصية أن يقول: «وهذه الوصية ناسخة لما سبقها» ؛ حتى لا يرتبك الوصي، وحتى لا يحصل تضارب الوصايا ويرتاح الإنسان، وهذه كلمة لا تضر، وإن كان قد يقول قائل: العبرة بالوصية الأخيرة؛ لأن المتأخر ناسخ، ولكن نقول: إذا أمكن الجمع فلا نسخ، وقد تكون الوصايا في الأولى كثيرة وفي الثانية كثيرة ولا يمكن الجمع بينهما.
ويسن إذا عاد مريضاً أن يرقيه، لا سيما إذا كان المريض يتشوف لذلك.
وَإِذَا نُزِلَ بِهِ سُنَّ تَعَاهُدُ بَلِّ حَلْقِهِ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ،............
قوله: «وإذا نزل به» ، أي: نزل به الملك لقبض روحه، والملك الذي يقبض الروح هو ملك واحد يسمى «ملك الموت»(5/244)
لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، وتسميته (عزرائيل) لم تثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما هي من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت من أسماء الملائكة إلا خمسة أسماء، وهي: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، فهذه هي الأسماء الثابتة فيمن يتولون أعمال العباد، فأما (منكر ونكير) اللّذان يسألان الميت في قبره، فقد أنكرهما كثير من أهل العلم، ولكن وردت فيهما آثار.
والمهم: أن ملك الموت لا يسمى عزرائيل؛ لأنه لم يثبت عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من الأمور الغيبية التي يتوقف إثباتها ونفيها على ما ورد به الشرع.
ثم إن ملك الموت له أعوان يعينونه على إخراج الروح من الجسد حتى يوصلوها إلى الحلقوم، فإذا أوصلوها إلى الحلقوم قبضها ملك الموت، وقد أضاف الله تعالى الوفاة إلى نفسه، وإلى رسله أي: الملائكة، وإلى ملك واحد، فقال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وأضافها إلى ملك واحد في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] ، وإلى الملائكة في قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] ، ولا معارضة بين هذه الآيات، فأضافه الله إلى نفسه؛ لأنه واقع بأمره، وأضافه إلى الملائكة؛ لأنهم أعوان لملك الموت، وأضافه إلى ملك الموت؛ لأنه هو الذي تولى قبضها من البدن.
قوله: «سُنَّ تعاهد بلّ حلقه بماء أو شراب» ، أي: يسن أن(5/245)
يتعاهد الإِنسان بلَّ حلق المحتضَر بماء أو شراب، ولكن ليس بالماء الكثير؛ لأن الماء الكثير ربما يشرقه ويتضرر به، ولكن بماء قليل نقط تنقط بحلقه، وذلك من أجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة؛ لأن المقام مقام رأفة بهذا المريض الذي بين يديك، فاسلك كل طريق يكون به أرفق.
وقول المؤلف: «بماء أو شراب» الماء معروف، والشراب: ما سوى الماء مثل العصير أو شبهه، المهم الشيء الذي يصل إلى حلقه ويبلّه.
وَتندَّى شَفَتَاه بِقُطْنَةٍ وَتَلْقِينُهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ مَرَّةً............
قوله: «وتندّى شفتاه بقطنة» ، أي: أن الحاضر ينبغي له مع تنقيط الماء في حلق المحتضَر أن يندي شفتيه بقطنة؛ لأن الشفة يابسة، والحلق يابس فيحتاجان إلى تندية.
قوله: «وتلقينه لا إله إلا الله مرة» ، أي: تعليمه إياها كما يلقن التلميذ.
وهل يقولها بلفظ الأمر، فيقول: قل: «لا إله إلا الله» أو يقولها بدون لفظ الأمر بأن يذكر الله عنده حتى يسمعه؟
الجواب: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قوياً يتحمل، أو كان كافراً فإنه يؤمر فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك.
وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر، وهذا التفصيل مأخوذ من الأثر، والنظر.
أما الأثر فلأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر عمه أبا طالب عند وفاته أن(5/246)
يقول: لا إله إلا الله، قال: يا عم قل: لا إله إلا الله» (1) .
وأما النظر: فلأنه إن قالها فهو خير، وإن لم يقلها فهو كافر، فلو فرض أنه ضاق صدره بهذا الأمر ولم يقلها فهو باق على حاله لم يؤثر عليه شيئاً، وكذا إذا كان مسلماً وهو ممن يتحمل فإن أمرناه بها لا يؤثر عليه، وإن كان ضعيفاً فإن أمرناه بها ربما يحصل به رد فعل بحيث يضيق صدره، ويغضب فينكر وهو في حال فِراق الدنيا، فبعض الناس في حال الصحة إذا قلت له قل: لا إله إلا الله، قال: لن أقول: لا إله إلا الله، فعند الغضب يغضب بعض الناس حتى ينسى، فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله، فما بالك بهذه الحال؟
قوله: «تلقينه لا إله إلا الله» ولم يقل: محمداً رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد فيه الحديث: «لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله» (2) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» (3) . فكلمة التوحيد مفتاح الإِسلام، وما يأتي بعدها فهو من مكملاتها وفروعها.
ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يمنع هذا من أن يكون آخر كلامه من الدنيا «لا إله إلا الله» ؛ لأن الشهادة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة تابع لما قبلها ومتممٌ له،
__________
(1) أخرجه البخاري (1360) ؛ ومسلم (24) عن المسيب بن حزن رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (1916) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) أخرجه أبو داود (3116) ؛ والحاكم (1/351) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(5/247)
ولهذا جعلها النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الشهادة لله بالألوهية ركناً واحداً، فلا يعاد تلقينه، وظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر: أشهد أن محمداً رسول الله، بل لا بد أن يقول: لا إله إلا الله.
وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ إِلاَّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَعْدَهُ، فَيُعِيدُ تَلْقِينَهُ بِرِفْقٍ، وَيَقْرَأُ عِنْدَهُ «يَس» ......
قوله: «ولم يزد على ثلاث» أي: لم يلقنه أكثر من ثلاث؛ لأنه لو زاد على ذلك ضجر؛ لأنه سيقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم يسكت، فلو كرر ربما يتضجر المريض؛ لأنه بحال صعبة لا يدركها إلا من كان على هذه الحال، ولأن من عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم غالباً أنه إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً، فالثلاث عدد معتبر في كثير من الأشياء.
قوله: «إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق» .
«إلا أن يتكلم» الفاعل المريض المحتضَر، فإذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنه يعيد تلقينه، لكن برفق كالأول.
قوله: «فيعيدُ» بالرفع على الاستئناف؛ لأنها لا تصلح للعطف، والاستئناف بالفاء كثير، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] .
والمعنى يفسد فيما لو قلنا: «فيعيدَ» بالنصب عطفاً على «يتكلم» ؛ لأن المعنى يكون إلا أن يتكلم فإنه يعيد، وهذا ليس هو المقصود؛ لأن المقصود إلا أن يتكلم فإذا تكلم أعاد تلقينه برفق.
قوله: «ويقرأ عنده {يس *} » ، أي: يقرأ القارئ عند المحتضَر(5/248)
سورة {يس *} لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا على موتاكم يس» (1) ، هذا الحديث مختلف فيه، وفيه مقال، ومن كان عنده هذا الحديث حسناً أخذ به. وقوله عليه الصلاة والسلام: «اقرؤوا على موتاكم» ، أي: من كان في سياق الموت، وسمي ميتاً باعتبار ما يؤول إليه، وتسمية الشيء بما يؤول إليه وارد في اللغة العربية، ومنه قول الرائي ليوسف: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، وهو لا يعصر خمراً، وإنما يعصر عنباً يكون خمراً.
وقد ذكر بعض العلماء أن من فائدة قراءة يس تسهيل خروج الروح؛ لأن فيها تشويقاً، مثل قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] ، والتشويق للجنة فيه تسهيل لخروج الروح، ولهذا إذا بُشّر ـ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن تبشّر روحه بالجنة ـ إذا بشّر بالجنة سهل عليه، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه. وفيها: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ *هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *} [يس] ، وفي آخرها إثبات قدرة الله ـ عز وجل ـ على إحياء الموتى.
ولكن هل يقرؤها سراً أو جهراً، أو في ذلك تفصيل؟
الجواب: قوله: «اقرؤوا على موتاكم» (2) ، يقتضي أن تكون
__________
(1) و (2) أخرجه الإمام أحمد (5/26، 27) ؛ وابن ماجه (1448) ؛ وابن حبان (3002) إحسان؛ والحاكم (1/565) عن معقل بن يسار رضي الله عنه. قال الدارقطني: «هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث» . وضعفه ابن القطان الفاسي في «بيان الوهم والإيهام» (5/49 ـ 50) ؛ والنووي في «الأذكار» ص (112) . وانظر: «التلخيص» (2/104) .(5/249)
قراءتها جهراً، ولا سيما إذا قلنا: إن العلة تشويق الميت لما يسمعه في هذه السورة، ولكن إذا كان يخشى على المريض من الانزعاج، وأنه إذا سمع القارئ يقرأ سورة {يس *} ، أو كان في شك في كون الإِنسان في النزع فلا يرفع صوته بها، وإن كان جازماً، فالإِنسان الذي يكثر حضور المحتضَرين يعرف أنه احتُضِر أو لا، فإذا عرف أنه في سياق الموت فإنه يقرؤها بصوت مرتفع، ولا حرج في هذا، لأن الرجل يُحْتَضَر.
وهذه القراءة لا يكون معها نفث على المحتضَر؛ لأنه لم يرد.
وَيُوَجِّهُهُ إِلَى القِبْلَةِ فَإِذَا مَاتَ سُنَّ تَغْمِيضُهُ،............
قوله: «ويوجّهه إلى القبلة» أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة، وذلك أن المحتضَر إما أن يستدبر القبلة، أو يكون رأسه نحو القبلة أو بالعكس، أو يستقبلها، والأخيرة أفضل الأحوال. وهذا يقتضي أن يكون على جنبه الأيمن، أو الأيسر حسب ما هو متيسر؛ لأن المجلس الذي يستقبل فيه الإنسان القبلة هو أفضل المجالس، كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أشرف مجالسكم ما استقبلتم به القبلة» (1) ؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» (2) ، وهذا يشمل الميت المحتضر والميت بعد دفنه في
__________
(1) رواه الطبراني في «الكبير» (10781) ؛ والحاكم (4/270) ؛ والبيهقي (7/272) عن ابن عباس. وقال البيهقي: «ولا يثبت في ذلك إسناد» . وقال العقيلي في «الضعفاء» (4/341) : «ليس لهذا الحديث طريق يثبت» .
وانظر: «مجمع الزوائد» (8/59) .
(2) أخرجه أبو داود (2875) ؛ والحاكم (1/59، 4/259) ؛ والبيهقي (3/408)
عن عمير بن قتادة رضي الله عنه. وقال الحاكم: «قد احتج برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان» . قال الذهبي: «لجهالته، وقد وثقه ابن حبان» .(5/250)
القبر، وكلا الحديثين ضعيف، لكن يشهد له ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أن البراء بن معرور أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أصاب الفطرة» (1) . فهذا يشهد للحديثين السابقين، وإلا فإن الذي يظهر من عمل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أنهم لا يتقصدون أن يوجّه المحتضَر إلى القبلة، ومن ذلك ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته حيث مات في حجر عائشة، ولم يُذْكر أنها استقبلت به القبلة (2) ، وإنما هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فربما تصل إلى درجة الحسن فتكون مقبولة.
قوله: «فإذا مات سنّ تغميضه» ، كل ما تقدم من الكلام محله قبل الموت، فإذا مات فإنه تشرع في حق الميت أمور:
أولها: تغميض الميت، أي: إذا تحققنا موته، والإِنسان إذا مات شخص بصره، أي: انفتح يتبع روحه أين تذهب، فإذا مات فإنه سوف يشخص بصره، فيسنّ تغميضه، ولذلك دليلان: أثري، ونظري.
أما الأثري: ففعل النبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي سلمة، «فإنه لما دخل على أبي سلمة ورأى بصره قد شخص قال: إن الروح إذا قبض اتبعه البصر، فسمعه من في البيت فضجوا» ، أي: علموا أن الرجل قد مات، «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن
__________
(1) أخرجه الحاكم (1/353) ؛ والبيهقي (3/384) عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري (4440) ؛ ومسلم (2444) عن عائشة رضي الله عنها.(5/251)
الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» (1) ؛ لأنه من عادة الجاهلية أنه عند المصائب يدعون على أنفسهم بالشر، فيقولون: واثبوراه، وانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك من الكلمات المعروفة عندهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهل أبي سلمة: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» ، وإِنَّ دعاءً تؤمِّن عليه الملائكة لحريٌّ بالإِجابة، ولا سيما في هذه الحال التي يكون فيها الإِنسان مصاباً خاضعاً خاشعاً مفتقراً إلى ربه، عارفاً أنه لا ينجيه من هذه المصيبة إلا الله، فيكون حرياً بالإِجابة، ولهذا سُخِّرت الملائكة لتؤمِّن على دعائه، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه في الغابرين» ، دعوات عظيمة خير من الدنيا وما فيها، دعا له بهذه الدعوات الخمس، والأخيرة منها علمت، فإن الله تعالى خلفه في عقبه حيث سخر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج أم سلمة، ويكون أبناء أبي سلمة ربائب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وما لم نعلمه من المغفرة، ورفع درجته في المهديين، والفسح له في قبره، وتنويره، فإننا نرجو أن يكون كذلك.
وأما النظري: فهو: لدفع تشويه الميت؛ لأنه إذا كان البصر شاخصاً ففيه تشويه، فالذي ينظر إليه يجده مشوهاً، ففي تغميضه إزالة لهذا التشويه.
قال العلماء: وفيه أيضاً حجب الهوام أن تصل إلى حدقة العين، ولكن هذا تعليل بعيد؛ لأن الميت لن يبقى حتى تتسلط
__________
(1) أخرجه مسلم (920) عن أم سلمة رضي الله عنها.(5/252)
عليه الهوام؛ ولأنه سيأتي أنه يغطى، فالذباب وشبهه لن يصل إليه، لكن التعليل الأول الذي ذكرناه هو الأولى، وهو: درء التشويه؛ لأن الميت سوف يغسل، وسوف يكشف فإذا كشف وقد حصل له هذا يكون مشوهاً، وربما يتوجّه ما قاله بعض العلماء في منع الهوام من الوصول إلى الحدقة فيما إذا دفن في القبر؛ لأنه إذا بقي البصر منفتحاً ثم برد الميت لا يمكن أن ينضم بعد هذا فيبقى منفتحاً إلى أن يشاء الله.
وينبغي عند التغميض أن يدعو بما دعا به النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي سلمة فيقول: «اللهم اغفر لفلان، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه» كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيكون هنا سنّة فعلية وسنّة قولية، الفعلية هي: تغميض العينين. والقولية هي: هذا الدعاء.
وَشَدُّ لِحْيَيْهِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ،............
قوله: «وشد لحييه» ، هذا هو الأمر الثاني مما يفعل بالميت، وهو: شد لحييه، أي: ربطهما، واللحيان: هما العظمان اللذان هما منبت الأسنان فليشدهما بحبل، أو بخيط، أو بلفافة؛ لأنه إذا لم يربطهما فربما ينفتح الفم، فإذا شدهما وبرد الميت بقي مشدوداً.
وهذا ليس فيه دليل أثري فيما أعلم، لكن فيه دليلاً نظرياً: وهو: درء تشويه الميت من وجه.
والوجه الثاني: حفظ باطنه من دخول الهوام عليه، ولو في القبر.
قوله: «وتليين مفاصله» ، هذا هو الأمر الثالث، وهو: تليين(5/253)
مفاصل الميت، أي: أن يحاول تليينها، والمراد مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد، ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما.
وكذلك مفاصل الرجلين: بأن يرد الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى البطن، ثم يردهما قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله، فيكون مشتداً لكن إذا ليّنت المفاصل صارت لينة عند الغسل وعند التكفين وربط الكفن، فسهل على الغاسل والمكفن التغسيل والتكفين، وهذا أيضاً لا أعلم فيه سنّة، لكن دليله نظري.
وهو ما فيه من تليين مفاصل الميت وهذه مصلحة، ولكن يجب أن تليّن برفق، وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.
وَخَلْعُ ثِيَابِهِ، وَسَتْرُهُ بِثَوْبٍ وَوَضْعُ حَدِيدَةٍ عَلَى بَطْنِهِ..........
قوله: «وخلع ثيابه» ، هذا هو الأمر الرابع؛ وهو: خلع ثياب الميت، ودليل هذا أثري ونظري أيضاً:
أما الأثري: فهو قول الصحابة حين مات النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل نجرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما نجرد موتانا» (1) ، فينبغي أن تخلع ثيابه.
أما النظري: فلأن الثياب لو بقيت لحمي الجسم، وأسرع إليه الفساد، أما إذا جرّد من ثيابه صار أبرد له، ويسجى كما سيأتي بثوب.
ويجب أن يكون الخلع برفق خلافاً لما رأيناه من بعض
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/267) ؛ وأبو داود (3141) ؛ وابن حبان (6627) إحسان؛ والحاكم (3/59) عن عائشة رضي الله عنها. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.(5/254)
الناس، تجده ينزع الثياب بشدة، لا سيما في ثياب الشتاء إذا كانت على الميت، فهذا خلاف الرحمة والرفق.
قوله: «وستره بثوب» هذا هو الأمر الخامس، وهو: ستر الميت بثوب؛ أي: ستر الميت بثوب يكون شاملاً للبدن كله.
ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «حين توفي سجي ببرد حِبَرة» (1) ، والبُرد: ثوب يلتحف به يشمل كل الجسد، والحبرة: برود يمانية معروفة في ذلك العهد تأتي من اليمن، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجرد من ثيابه، بل بقيت ثيابه عليه وستر بثوب (2) .
وَوَضْعُهُ عَلَى سَرِيرِ غَسْلِهِ مُتَوَجِّهاً مُنْحَدِراً نَحْوَ رِجْلَيْهِ، وَإِسْرَاعُ تَجْهِيزِهِ إِنْ مَاتَ غَيْرَ فَجْأَةٍ..........
قوله: «ووضع حديدة على بطنه» هذا هو الأمر السادس، وهو وضع حديدة على بطن الميت أي: يسن أيضاً أن يوضع على بطنه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.
واستدلوا على هذا: بأثر فيه نظر، وبنظر فيه عِلة.
أما الأثر: فذكروا عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «ضعوا على بطنه شيئاً من حديد» (3) ، وهذا الأثر فيه نظر، ولا أظنه يثبت عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ، والذي يظهر من حال الصحابة أنهم لا يفعلون ذلك.
وأما النظر الذي فيه عِلة فإنهم قالوا: لئلا ينتفخ البطن، إذا وضع عليه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.
ولكن هل هذا يمنع الانتفاخ؟ لا أظنه يمنع؛ لأن الانتفاخ
__________
(1) أخرجه البخاري (5814) ؛ ومسلم (942) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) كما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه البيهقي (3/385) .(5/255)
إذا حصل لا يغني وضع الحديدة شيئاً إلا إن كان سيوضع عليه حديدة وزن الجبل فهذا شيء ثان، أما إذا كانت حديدة مألوفة فإنه إذا انتفخ فإنها سوف ترتفع، ثم إن الزمن ليس طويلاً؛ لأن السنة هي الإِسراع بتجهيز الميت، وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ، لأنه يبقى بارداً فلا يحصل الانتفاخ في بطنه.
قوله: «ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه» هذا هو الأمر السابع، وهو: وضع الميت على سرير الغسل، أي: ينبغي أن يبادر في رفعه عن الأرض؛ لئلا تأتيه الهوام، ولعل ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ لذلك؛ لكثرة الهوام في البيوت في زمانهم فلهذا قالوا: ينبغي أن يبادر فيرفع على سرير الغسل.
والسرير معروف، ويختلف سرير الغسل عند الناس، فمنهم من يكون السرير مختوماً أي: كله ألواح، ومنهم من يكون السرير غير مختوم أي: عبارة عن قطع من الخشب مصفوف بعضها إلى بعض مع الفتحات، كما هو موجود عندنا الآن.
وقوله: «متوجهاً» ، أي: إلى القبلة لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلاً من السنة.
وقوله: «منحدراً نحو رجليه» أي: يكون رأسه أعلى من رجليه لسببين:
الأول: لئلا يبقى الماء في السرير؛ وهذا لأن الأسرَّة كانت(5/256)
عندهم فيما سبق ألواحاً مختومة، أما السرير الموجود الآن فليس كذلك.
الثاني: من أجل أن يسهل خروج ما كان مستعداً للخروج من بطنه؛ لأنه إذا كان مرتفعاً نازلاً نحو رجليه، فالذي يكون متهيئاً للخروج يخرج.
وقوله: «متوجهاً، منحدراً نحو رجليه» هذه صفة للوضع على السرير فلا نعدها أموراً مستقلة.
قوله: «وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة» ، هذا هو الأمر الثامن (1) ، وهو: الإسراع في تجهيز الميت، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (2) ، لكن ظاهره فيما لو كانت محمولة؛ لأن قوله: «فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» ظاهر: في أن المراد بذلك الإِسراع بها حين تشييعها. لكن نقول: إذا كان الإِسراع في التشييع مطلوباً مع ما فيه من المشقة على المشيعين، فالإِسراع في التجهيز من باب أولى.
أما حديث: «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله» (3) ، فهو ضعيف.
وقوله: «إن مات غير فجأة» ، فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإِسراع بتجهيزه؛ لاحتمال أن تكون غشية لا موتاً، والمسألة
__________
(1) وهو آخر ما ذكره المؤلف مما يفعل بالميت.
(2) أخرجه البخاري (1315) ؛ ومسلم (944) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه أبو داود (3159) ؛ والبيهقي (3/386) .(5/257)
خطيرة؛ لأنه لو كانت غشية ثم جهزناه ودفناه، ولم تكن موتاً صار في ذلك قتلٌ لنفس، فالواجب إن مات فجأة أن ننتظر به.
وهذا الذي ذكره العلماء ـ رحمهم الله ـ قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعة؛ لأن لديهم وسائل قوية تدل على موت المريض. لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته.
قال في الروض: «يعرف موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه» ، فهذه أربع علامات:
الأولى: انخساف الصُدْغ؛ لأن اللحيين ينطلقان فإذا انطلقا صار الصدغ منخسفاً.
الثانية: ميل أنفه، فإذا مات يميل الأنف؛ لأن الأنف مستقيم ما دامت الحياة بالإِنسان، ثم إذا مات ارتخى ولان ومال.
الثالثة: انفصال كفيه، أي: عن ذراعه فتنطلق الكف عن الذراع، وتجدها مرتخية.
الرابعة: استرخاء رجليه، فتنفصل الرجل عن الكعب، فترتخي وتميل.
فهذه أربع علامات يعلم بها الموت، وهي علامات حسية بدون آلات، لكن الآن لدى الأطباء آلات تدل على الموت دون هذه العلامات.
ويذكر: أن رجلاً أصيب بغشية فجهَّزوه، وحملوه إلى(5/258)
المقبرة، فمروا برجل ذي خبرة فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: هذه جنازة نريد أن ندفنها، قال: هذا لم يمت أنزلوه، فنزلوه، فأتى بسوط فجعل يضرب هذا الميت حتى تحرك فقالوا: ما الذي حملك على هذا؟ وما الذي أعلمك أنه لم يمت؟ قال: إن الميت تسترخي رجلاه فلا تنتصبان، وهذا الذي حملتم، رجلاه منتصبتان، وأما ضربي إياه بالسوط؛ فلأن الضرب يحمي الجسم، وإذا حمي جسمه زالت عنه البرودة التي هي سبب الغشي، ثم حملوه راجعين به إلى بيته.
فهذا شاهد على ما قاله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن من علامات الموت استرخاء الرجلين.
فإسراع التجهيز بشرط أن يموت غير فجأة، فإن مات فجأة وجب الانتظار، وبهذا التقرير نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه، وأحياناً يكون أقاربه خارج المملكة في أوربا أو غيرها، فينتظرون به يوماً، أو يوماً وليلة من أجل حضور الأقارب، وهذا في الحقيقة جناية على الميت، فالميت إذا كان من أهل الخير، فإنه يود أن يدفن سريعاً؛ لأنه يبشر بالجنة عند موته ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ وإذا خُرِجَ به من بيته تقول نفسه: قدموني تحُثهم أن يوصلوها إلى القبر (1) ، فإذا
__________
(1) لما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق» .
أخرجه البخاري (1316) .(5/259)
حبسناه عما أعد الله له من النعيم صار في هذا جناية عليه مع مخالفة السنة، وأصبحت الآن الجنازة كأنها حفل عرس ينتظر به القادم حتى يحضر.
أما إذا أخر مثلاً لساعة أو ساعتين أو نحوهما، من أجل كثرة الجمع فلا بأس بذلك، كما لو مات بأول النهار وأخرناه إلى الظهر؛ ليحضر الناس، أو إلى صلاة الجمعة إذا كان في صباح الجمعة؛ ليكثر المصلون عليه، فهذا لا بأس به؛ لأنه تأخير يسير لمصلحة الميت.
فإن قال قائل: كيف نجيب عن فعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، حيث لم يدفنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ليلة الأربعاء مع أنه توفي يوم الاثنين؟
فالجواب عن هذا: أنه من أجل إقامة الخليفة بعده، حتى لا يبقى الناس بلا خليفة، فالإِمام الأول محمد صلّى الله عليه وسلّم توفي، فلا نواريه بالتراب حتى نقيم خليفة بعده، وهو مما يحثهم على إنجاز إقامة الخليفة، ومن حين ما بويع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ شرعوا في تجهيز النبي صلّى الله عليه وسلّم ودفنه.
وعلى هذا إذا مات الخليفة، وكان لم يعين من يخلفه فلا حرج أن يؤخر دفنه حتى يقام خليفة بعده.
وَإِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ وَيَجِبُ الإِْسْرَاعُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ.........
قوله: «وإنفاذِ وصيته» ، «إنفاذِ» بالكسر عطفاً على «تجهيز» ، أي: وإسراع إنفاذ وصيته، أما إنفاذ وصيته فهو واجب، لكن إسراع الإِنفاذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب فللإِسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع(5/260)
فلإِسراع الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع.
قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن، سبحان الله إذا رأيت هذا الكلام، ورأيت ما يفعله بعض الظلمة من الورثة الذين يؤخرون وفاء الدين عن الميت لمصالحهم الخاصة، فتجد الميت عليه ديون ووراءه عقارات، فيقولون: لا نبيعها؛ بل نوفيه من الأجرة ولو بعد عشر سنين، أو يقولون: الأراضي ـ مثلاً كسدت الآن فننتظر حتى ترتفع قيمتها، وربما ترتفع قيمتها، وربما تنزل، وهذا ظلم ـ والعياذ بالله ـ، وربما يكون هؤلاء من ذرية الميت، فيكون فيه من العقوق ما لا يخفى على أحد؛ لأن الميت يتأثر بالدين الذي عليه إن صح الحديث: «نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه» (1) ، وإن لم يصح فلا بد أن تتأثر النفس بهذا الدين الذي عليه، فالوصية بالواجب يجب المبادرة بإنفاذها، وبالتطوع يسن، لكن الإِسراع بذلك مطلوب، سواء أكانت واجبة أم مستحبة قبل أن يصلى عليه ويدفن، هذه هي السنة.
قوله: «ويجب الإِسراع في قضاء دينه» ، أي دين الميت، سواء كان هذا الدَّين لله، أو للآدمي.
فالدَّين لله مثل: الزكاة، والكفارة، والنذر، وما أشبه ذلك.
والدَّين للآدمي: كالقرض، وثمن المبيع، والأجرة، وضمان
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/440، 475) ؛ والترمذي (1079) وحسنه؛ وابن ماجه (2413) ؛ وابن حبان (3061) إحسان؛ والحاكم (2/26) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/261)
تالف، وغير هذا من حقوق الآدميين فيجب الإِسراع بها بحسب الإمكان، فتأخيرها حرام.
والدليل: أثري ونظري:
أما الأثري: فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه» ، فهذا الحديث فيه ضعف، لكن يؤيده حديث أبي قتادة «في الرجل الذي جيء به إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فسأل هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فتأخر ولم يصلِّ عليه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله، قال: حقُ الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فتقدم فصلى» (1) .
وأما الدليل النظري: فلأن الأصل في الواجب المبادرة بفعله ولا يجوز تأخير الواجب إلا إذا اقتضى الدليل تأخيره.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/330) ؛ والحاكم (2/58) وصححه؛ والبيهقي (6/75) عن جابر رضي الله عنه؛ وحسّنه الهيثمي في «المجمع» (3/39) .(5/262)
فَصْلٌ
غَسْلُ المَيِّتِ، وَتَكْفِينُهُ، وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ..........
فصل
قوله: «غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه فرض كفاية» .
هذه أربع مسائل:
الأولى: قوله: «غسل الميت» .
ودليل ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي وقصته ناقته يوم عرفة: «اغسلوه بماء وسدر» (1) ، والأمر في الأصل للوجوب، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل واحد من المسلمين أن يغسل هذا الميت، إنما يوجه الخطاب لعموم المسلمين، فإذا قام به بعضهم كفى.
2 ـ قول النبي عليه الصلاة والسلام للنساء اللاتي يغسلن ابنته:
«اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» (2) ، والأصل في الأمر الوجوب.
وهذان دليلان أثريان.
أما الدليل النظري:
فلأنَّ هذا من حقوق المسلم على أخيه، بل هو من أعظم الحقوق أن يقدم الإِنسان أخاه إلى ربه على أكمل ما يكون من الطهارة.
والثانية: قوله: «وتكفينه» ، ودليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كفنوه في
__________
(1) أخرجه البخاري (1265) ؛ ومسلم (1206) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري (1259) ؛ ومسلم (939) (39) عن أم عطية رضي الله عنها.(5/263)
ثوبيه» . وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ومن المعلوم أنه واجب كفاية؛ لأنه لا يمكن أن يؤمر كل واحد من الناس أن يكفن الميت، وإنما المقصود أن يحصل الكفن.
وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، ففرض العين مطلوب من كل واحد، وفرض الكفاية المطلوب فيه وجود الفعل.
الثالثة: قوله: «والصلاة عليه» ، فالصلاة عليه أيضاً فرض كفاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي على الأموات باستمرار، وكان يقول: «صلوا على صاحبكم» (1) ، «وأمر أن يصلى على المرأة التي رجمت» (2) ، وقال الله ـ عز وجل ـ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دل على أن الصلاة على المؤمنين شريعة قائمة، وهو كذلك.
الرابعة: قوله: «ودفنه فرض كفاية» ، فدفن الميت أيضاً فرض كفاية؛ لأن الله تعالى امتن به على العباد فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا *أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا *} [المرسلات] ، فكما أنَّ علينا إيواء المضطر في البيوت، وستره فيها عند الضرورة، فكذلك علينا ستر الميت في قبره.
وكذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *} [عبس] ، فإن هذا سيق على سبيل المنة؛ لأن الله أكرمه بدفنه، ولم يجعله كسائر الجيف تلقى في المزابل والأسواق والأفنية، بل أكرمه بدفنه وستره.
إذاً هذه الأربع كلها فرض كفاية، وسيأتي إن شاء الله بالتفصيل كيفية التغسيل، وكيفية التكفين، وكيفية الصلاة، وكيفية الدفن.
__________
(1) أخرجه البخاري (2298) ؛ ومسلم (1619) (14) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (1695) (1696) .(5/264)
واعلم أن كل فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلا واحد صار في حقه فرض عين.
وقول المؤلف: «دفنه فرض كفاية» ، وما يتوقف عليه الدفن فرض كفاية أيضاً، وكذلك ما تتوقف الصلاة عليه فرض كفاية، فحمله من بيته إلى المصلى فرض كفاية، وحمله من المصلى إلى المقبرة فرض كفاية؛ لأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه الأشياء تحتاج إلى مال، فمن أين يؤخذ هذا المال، فالغسل ـ مثلاً ـ يحتاج إلى مال، والكفن يحتاج إلى مال، والدفن يحتاج إلى مال، والحمل قد يحتاج إلى مال؟
فالجواب: أنه يكون أولاً من تركة الميت، ثم على من تلزمه نفقته، فإن لم يمكن فعلى عموم المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
وَأَوْلَى النَّاسِ بِغَسْلِهِ وَصِيُّهُ،.......................................
قوله: «وأولى الناس بغسله وصيه» ، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت؟
قلنا: أولى الناس بغسله وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.
واستفدنا من قول المؤلف: «وصيه» أنه يجوز للميت أن يوصي ألاَّ يغسله إلا فلان، والميت قد يوصي بذلك لسبب، مثل: أن يكون هذا الوصي تقياً يستر ما يراه من مكروه، أو أن يكون عالماً بأحكام الغسل، أو أن يكون رفيقاً؛ لأن بعض الذين يغسلون الأموات يعاملونهم بشدة عند نزع ثيابهم، وكأنما يسلخون جلد شاة مذبوحة ـ نسأل الله العافية ـ، فيوصي لشخص معين، فإذا كان الميت قد أوصى لشخص معين بأن يغسله، فهو أولى الناس بتغسيله، فإن لم يوص فسيذكره المؤلف.(5/265)
والدليل على استفادة أولوية التغسيل بالوصية: «أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أوصى أن تغسله امرأته» (1) ، «وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين» (2) .
ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ مِنْ عَصَبَاتِهِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ،..........
قوله: «ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته» ، هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع؛ فلو كان للشخص الميت أب وابن ولم يوص أن يغسله أحد، فالأولى الأب لما يلي:
أولاً: أن الأب أشد شفقة وحنواً على ابنه من الابن على أبيه.
ثانياً: أن الأب في الغالب يكون أعلم بهذه الأمور من الابن لصغره، مع أنه قد يكون بالعكس، فقد يكون ابن الميت طالب علم وأبوه جاهلاً.
وقوله: «ثم جده» ، أي: من قبل الأب.
وقوله: «ثم الأقرب فالأقرب من عصباته» ، أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإِخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، ثم الولاء على هذا الترتيب، ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (6117، 6124) ؛ وابن أبي شيبة (3/249) ؛ والبيهقي (3/397) .
(2) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/25) .(5/266)
قوله: «ثم ذوو أرحامه» ، أي: أصحاب الرحم.
وهم: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأب الأم مثلاً من ذوي الأرحام، وأم الأب ليست من ذوي الأرحام، لكن لا تغسل الرجل، فإذاً لا ترد علينا وإن كانت من ذوي الفروض.
وَأُنْثَى وَصِيَّتُهَا، ثُمَّ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى مِنْ نِسَائِها. وَلِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ غَسْلُ صَاحِبِهِ،............
قوله: «وأنثى وصيتها» ، كما قلنا فيما سبق بالنسبة للرجل.
قوله: «ثم القربى فالقربى من نسائها» ، ولم يقل: ثم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأن النساء ليس فيهن عصبة إلا بالغير أو مع الغير، ولهذا قال: «القربى فالقربى من نسائها» وعلى هذا نقول: الأولى بتغسيل المرأة إذا ماتت: وصيتها، ثم أمها وإن علت، ثم ابنتها وإن نزلت، ثم أختها من أب أو أم أو الشقيقة، ثم عماتها، فخالاتها، إلى آخره.
قوله: «ولكل من الزوجين غسل صاحبه» أي: تغسيله، فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.
ودليل هذا ما سبق من حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «أنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس» (1) .
وكذلك بالعكس؛ لأنه يروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لو مُتِّ قبلي لغسلتك» (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (266) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (6/228) ؛ وابن ماجه (1465) ؛ وابن حبان (6552) إحسان؛ والبيهقي (3/378) . وقال البوصيري في «الزوائد» : «إسناد رجاله ثقات» .(5/267)
مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل، ثم وضعت الحمل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟
الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.
وَكَذَا سَيِّدٌ مَعَ سُرِّيَتِهِ، وَلِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ غَسْلُ مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَقَطْ، وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ بَيْنَ نسْوَةٍ، أَوْ عَكْسُهُ يُمِّمَتْ كَخُنْثَى مُشْكِلٍ.
قوله: «وكذا سيد مع سُرِّيَته» المراد: مع أمته، ولو لم تكن سُرِّيته، فلو قدر أنها مملوكة، لكن لم يتسرها أي: لم يجامعها، ثم مات فلها أن تغسله، وله أن يغسلها.
قوله: «ولرجل وامرأة غسل من له سبع سنين فقط» ، أي: من ذكر أو أنثى.
ودليل هذا: أن إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلّم غسلته النساء (1) ؛ لأنه مات في الرضاعة أي قبل أن يفطم؛ ولأن عورة من دون السبع لا حكم لها، فإذا ماتت طفلة لها أقل من سبع سنوات فلأبيها أن يغسلها، وإذا مات طفل له أقل من سبع سنوات فلأمه أن تغسله، فإن ماتت طفلة لها سبع سنوات فأكثر فليس لأبيها أن يغسلها؛ لأنه لا يغسل الرجل المرأة، ولا المرأة الرجل إلا في الزوجين، والمالك وأمته.
قوله: «وإن مات رجل بين نسوة» ، أي إن مات رجل بين نسوة، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة، فإن كان معهن زوجة أو أمة فإنها تغسله
__________
(1) لم نقف عليه.(5/268)
كما سبق، أما إذا لم يكن معهن زوجة ولا أمة فإنه لا يغسل، وإذا كان معهن بنته أو أُمُّه فإنهما لا تغسِّلانه.
قوله: «أو عكسه» أي: أو حصل عكسه؛ بأن ماتت امرأة بين رجال، فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً.
قوله: «يُمِّمت كخنثى مشكل» ، أفادنا المؤلف بقوله: «يممت» أنه متى تعذر غسل الميت فإنه ييمم، وتعذره له صور منها:
أولاً: هاتان الصورتان: أن تموت امرأة بين رجال ليس معهم من يصح أن يغسلها، أو رجل بين نساء، ليس فيهن من يصح أن تغسله.
ثانياً: إذا كان الميت خنثى مشكلاً كما ذكر المؤلف.
ثالثاً: لو عدم الماء بأن مات ميت في البر، وليس عندنا ماء فإنه ييمم.
رابعاً: لو تعذر تغسيله لكونه محترقاً؛ فإنه ييمم كما سيأتي في كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ؛ بناء على أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء.
وقال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم؛ وذلك لأن المقصود بالتيمم التعبد لله تعالى بتعفير الوجه واليدين بالتراب، وهذا لا يحتاجه الميت، إذ إن المقصود من تغسيل الميت هو التنظيف؛ بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم في الرجل الذي وقصته ناقته: «اغسلوه بماءٍ وسدر» (1) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها
__________
(1) سبق تخريجه (1/342) .(5/269)
ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» (1) ، بحسب ما يكون من نظافة جسد الميت أو عدم نظافته، فإذا كان نظيفاً فإنه لا يكرر إلا ثلاثاً، وإذا كان غير نظيف فإنه يكرر بحسب ما يحتاج إليه.
أما على القول بأنه ييمم فإنه يضرب رجل أو امرأة التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه.
وَيَحْرُمُ أَنْ يَغْسِلَ مُسْلِمٌ كَافِراً، أَوْ يَدْفِنَهُ، بَلْ يُوَارَى لِعَدَمٍ..............
قوله: «ويحرم أن يغسل مسلم كافراً، أو يدفنه، بل يوارى لعدم» ، ووجه التحريم: أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، فإذا نهي عن الصلاة على الكافر، وهي أعظم ما يفعل بالميت وأنفع ما يكون للميت، فما دونها من باب أولى، ولأن الكافر نجس، وتطهيره لا يرفع نجاسته لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، ولمفهوم قول النبي (ص) : «إن المسلم لا ينجس» (2) ، فيحرم أن يغسله.
فإن قيل: النجاسة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} نجاسة معنوية؟
فنقول: من لم يطهر باطنه من النجاسة المعنوية فلا يصح أن يطهر ظاهره؛ ولهذا قال العلماء: من شرط صحة الغُسْلِ: الإسلامُ.
__________
(1) سبق تخريجه ص (263) .
(2) سبق تخريجه (1/25) .(5/270)
فالكافر بدنه ليس نجساً، لكنه ليس أهلاً للتطهير.
وكذلك يحرم أن يكفنه، والعلة ما سبق أنه إذا نهي عن الصلاة، وهي أعظم وأنفع ما يفعل للميت فما دونها من باب أولى.
قال في الروض: «أو يتبع جِنَازته» ، يجوز فيها وجهان حسب ما سبق، أي: لا يجوز للمسلم أن يتبع جنازة الكافر؛ لأن تشييع الجنازة من إكرام الميت، والكافر ليس أهلاً للإكرام، بل يهان، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ، فدل هذا على أن غيظ الكفار مراد لله ـ عز وجل ـ، وقال تعالى: {وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ، وتشييع الكافر إكرام له، وإكرام لذويه؛ ولهذا يحرم أن يتبع جنازته.
وقوله: «أو يدفنه» لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، والمراد: يحرم أن يدفنه كدفن المسلم، ولهذا قال: «بل يوارى لعدم» ، ومعنى يوارى: يغطى بالتراب، سواء حفرنا له حفرة ورمسناه بها رمساً، أو ألقيناه على ظهر الأرض وردمنا(5/271)
عليه تراباً؛ لكن الأول أحسن أي: أننا نحفر له حفرة ونرمسه فيها؛ لأننا لو وضعناه على ظهر الأرض وردمنا عليه بالتراب فلربما تحمل الرياح هذا التراب، ثم تظهر جثته.
وقوله: «بل يوارى لعدم» أي يجب مواراة الكافر، ويشمل ذلك ما إذا وُوري بالتراب، أو وُوري بقعر بئر، أو نحوها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر بقتلى بدر من المشركين أن يلقوا في بئر من آبار بدر» (1) .
ولئلا يتأذى الناس برائحته، ولئلا يتأذى أهله بمشاهدته.
وقوله: «لعدم» ، أي: لعدم من يواريه، فإن وجد من يقوم بهذا من أقاربه فإنه لا يحل للمسلم أن يساعدهم في هذا، بل يكل الأمر إليهم.
وَإِذَا أَخَذَ فِي غَسْلِهِ سَتَرَ عَوْرَتَهُ، وَجَرَّدَهُ، وَسَتَرَهُ عَن العُيُونِ،............
قوله: «وإذا أخذ في غسله ستر عورته» ، ابتدأ المؤلف بكيفية تغسيل الميت.
وقوله: «وإذا أخذ في غسله» لا يرضى النحويون بهذا التعبير من الفقهاء؛ لأن أخذ هنا من أفعال الشروع، ولا بد أن يكون خبرها جملة فعلها مضارع، وعلى هذا تكون العبارة على قاعدة النحويين: وإذا أخذ يغسله، ولكن عبارة الفقهاء ليس فيها خلل؛ لأن كل واحد يعرف أن معنى قوله: «وإذا أخذ في غسله» أي: إذا شرع في غسله.
وقوله: «في غسله» أي: في تغسيله.
وقوله: «ستر عورته» وجوباً وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر. والعورة بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة
__________
(1) أخرجه البخاري (3976) عن أبي طلحة رضي الله عنه.(5/272)
للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، وعلى هذا فيجرد الميت من كل شيء إلا مما بين السرة والركبة إن كان رجلاً فهو بالنسبة للرجال، وإن كانت امرأة، بالنسبة للنساء.
فقول المؤلف: «عورته» يريد بها ما بين السرة والركبة.
قوله: «وجرَّده» ، أي: جرَّده من ثيابه فيستر عورته أولاً، ويلف عليها لفافة، ثم يجرده من ثيابه.
ودليل ذلك أثر، ونظر.
أما الأثر: فقول الصحابة حين أرادوا تغسيل النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هل نجرد رسول الله (ص) كما نجرد موتانا» (1) .
وأما النظر: فلأن تجريده أبلغ في تطهيره، والمقام يقتضي التطهير، وكلما كان أكمل فيه كان أفضل.
قوله: «وستره عن العيون» ، أي: ينبغي أن يستره عن العيون، وهذا غير ستر العورة؛ لأن ستر العورة واجب، وهذا مستحب أي: ينبغي أن يغسله في مكان لا يراه الناس، إما في حجرة، أو في خيمة إن كان في بر وما أشبه ذلك؛ لأن ستر الميت عن العيون أولى من كشفه، فإن الميت قد يكون على حال مكروهة، فيكون ظهوره للناس نوعاً من الشماتة به، وأيضاً ربما يكون مفزعاً لمن يشاهده مروعاً له، لا سيما عند بعض الناس؛ لأن بعض الناس يرتاع جداً إذا شاهد الميت، فستره عن العيون أولى وأحفظ.
__________
(1) سبق تخريجه ص (254) .(5/273)
وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ مُعِينٍ فِي غَسْلِهِ حُضُورُهُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى قُرْبِ جُلُوسِهِ، وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ بِرِفْقٍ، وَيُكْثِرُ صَبَّ الْمَاءِ حِينئِذٍ،............
قوله: «ويكره لغير معين في غسله حضوره» .
«حضوره» نائب الفاعل أي: يكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته؛ وذلك لأنه ربما يكون في الميت شيء لا يحب أن يطلع عليه الناس، كالجروح، أو أن فيه عيباً من برص أو نحوه لا يحب أن يطلع عليه الناس.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يحضر ولو كان من أقاربه، مثل أن يكون أباه أو ابنه، أو ما أشبه ذلك، لأنه لا حاجة إليه.
وسبق أنه من حين أن يموت يوضع على سرير تغسيله، فلا يقال: هل نغسله على الأرض أو نقول: نغسله على السرير؟ لأن هذا مفهوم مما سبق.
قوله: «ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفق، ويكثر صب الماء حينئذٍ» ، أي: بعد أن يجرده ويستر عورته يرفع رأسه إلى قرب الجلوس أي: رفعاً بيّناً، ويعصر بطنه برفق؛ لأجل أن يخرج منه ما كان متهيئاً للخروج؛ لأن الميت تسترخي كل أعصابه، فإذا رفع رأسه على هذا النحو، وعصر بطنه لكن برفق فإنه ربما يكون في بطنه شيء من القذر مُتهيئاً للخروج فيخرج، وربما لو تركنا هذا العمل فمع رجّ الميت عند حمله، وتقليبه في غسله، وتكفينه ربما يخرج هذا الشيء المتهيء للخروج، فلهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ: ينبغي أن يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ثم يعصر بطنه برفق، كما قال المؤلف.
أما الحامل فإنها لا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين.(5/274)
وقوله: «ويكثر صب الماء حينئذٍ» ، أي: حين يعصر البطن؛ لأجل إزالة ما يخرج من بطنه حينئذٍ.
ثُمَّ يَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً فَيُنَجّيهِ وَلاَ يَحِلُّ مَسُّ عَوْرَة مَنْ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ. وَيُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَمَسَّ سَائِرَه إِلاَّ بِخِرْقَةٍ، ثُمَّ يُوَضّئهُ نَدْباً،.............
قوله: «ثم يلف على يده خرقة فينجّيه» ، أي: أنه إذا فعل ما ذكر من رفع رأسه وعصر بطنه، وخرج ما كان مستعداً للخروج، يلف على يده خرقة، وإذا كان هناك قفازان كما هو الآن متوفر ـ ولله الحمد ـ فإنه يلبس قفازين، ثم ينجّيه أي: ينجّي الميت فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته، ولكنه لم يستنج منه، فينجيه بها.
قوله: «ولا يحل مس عورة من له سبع سنين» ، أي: يجب أن يضع هذه الخرقة إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة؛ لأن ما دون سبع سنين عند الفقهاء ليس لعورته حكم، بل عورته مثل يده، ولهذا يجوز النظر إليها، ولا يحرم مسها، فإذا تم السبع فإنه لا ينجيه إلا بخرقة.
قوله: «ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة» ، هذه غير الخرقة الأولى، فالأولى واجبة إذا كان له سبع سنين فأكثر؛ لئلا يمس عورته، وهذه خرقة ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده؛ لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت؛ لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده، فيستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة، مع أن الميت الآن بالنسبة للانكشاف كل بدنه مكشوف إلا العورة.
قوله: «ثم يوضئه ندباً» .(5/275)
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» (1) .
وليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال: «اغسلوه بماءٍ وسدر» (2) ، ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.
ولو قال قائل: ألا يدل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» على استحباب الوضوء؛ لأنه قرنه بالبدء بالميامن وهو مستحب؟ فنقول: لا يتم الاستدلال به على ذلك؛ لأن هذا من باب دلالة الاقتران وهي ضعيفة، بل الذي يصح دليلاً على الاستحباب: حديث الذي وقصته ناقته، وقد ذكرنا وجهه.
وَلاَ يُدْخِلُ المَاءَ فِي فِيهِ، وَلاَ فِي أَنْفِهِ، وَيُدْخِلُ إصْبَعَيْهِ مَبْلُوْلَتيْنِ بِالْمَاءِ بَيْنَ شَفَتَيْهِ فَيَمْسَحُ أَسْنَانَهُ،، وَفِي مِنْخَرَيهِ فَيُنَظِّفُهُمَا، وَلاَ يُدْخِلُهُمَا المَاءَ، ثُمَّ يَنْوِي غَسْلَهُ، وَيُسَمِّي،............
قوله: «ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه» ، أي: لا يدخل الماء في فيه بدل المضمضة، ولا في أنفه بدلاً عن الاستنشاق؛ لأن الحي إذا أدخل الماء تمضمض به ومجّه وخرج، والميت لو صببنا الماء في فمه لانحدر لبطنه وربما يحرك ساكناً، وكذلك نقول في مسألة الاستنشاق: الميت لا يستنشق الماء، ولا يستطيع أن يستنثره، وحينئذٍ نقول: لا تدخل الماء في فمه ولا أنفه.
قوله: «ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح
__________
(1) أخرجه البخاري (1256) ؛ ومسلم (939) (42) عن أم عطية رضي الله عنها.
(2) سبق تخريجه ص (269) .(5/276)
أسنانه، وفي منخريه فينظّفهما» ، وهذا يقوم مقام المضمضة، والاستنشاق.
وقوله: «يدخل إصبعيه» ، أي: ملفوفاً عليهما خرقة، وهي الخرقة التي كان يمس بشرته بها فيدخل إصبعيه في فمه ويمسح أسنانه، ويكون ذلك برفق، وكذلك يدخلهما في منخريه فينظّفهما برفق أيضاً.
قوله: «ولا يدخلهما الماء» ، لأنه لو أدخل فمه الماء نزل إلى بطنه، ولو أدخله إلى منخريه كذلك نزل إلى بطنه فيحرك ما كان ساكناً، ويغني عن ذلك ما ذكره المؤلف أن يجعل خرقة مبلولة فينظّف بها أنفه وأسنانه وبقية فمه.
قوله: «ثم ينوي غسله» ثم للترتيب، والنية بمعنى القصد.
وظاهر كلام المؤلف أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظر، بل النية تتقدم الفعل؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، ولعل هذه نية أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنية.
قوله: «ويسمّي» أي: يقول باسم الله، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه، كما هي الحال في طهارة الحي.
__________
(1) سبق تخريجه (1/194) .(5/277)
وَيَغْسِل بِرَغْوَةِ السِّدْرِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ فَقَط. ثُمَّ يَغْسِلُ شِقَّهُ الأَْيْمَنَ، ثُمَّ الأَْيْسَرَ، ثُمَّ كُلَّهُ ثَلاَثاً، يُمِرُّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْقَ بِثَلاَثٍ زِيدَ حَتَّى يَنْقَى..........
قوله: «ويغسل برغوة السّدر رأسه ولحيته فقط» .
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.
وإنما خُصّ الرأس واللحية بالرغوة؛ لأننا لو غسلناهما بالثفل لبقي الثفل متفرقاً في الشعور وصعب إخراجه منها، أما الرغوة فليس فيها ثفل.
وقوله: «ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته» .
إذا قال قائل: ما الدليل على استحباب السدر في تغسيل الميت؟
فالجواب: أن الدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اغسلوه بماءٍ وسدر» (1) ، مع أنه محرِم.
قوله: «ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر» ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ابدأن بميامنها» (2) ، فيغسل الشق الأيمن، ثم الأيسر.
قوله: «ثم كلّه ثلاثاً» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً» (3) .
قوله: «يُمر في كل مرة يده على بطنه» ، من أجل أن يخرج
__________
(1) سبق تخريجه ص (269) .
(2) سبق تخريجه ص (276) .
(3) سبق تخريجه ص (263) .(5/278)
ما كان متهيئاً للخروج، وعلى هذا فإنه يعصر بطنه أربع مرات، المرة الأولى التي قبل الاستنجاء عندما يرفع رأسه إلى قرب الجلوس، وثلاث مرات عند غسله.
قوله: «فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى» ، أي: إن لم ينق الميت بثلاث، فإنه يزيد حتى ينقى؛ لأن المقصود بذلك تطهيره، وعدم النقاء يكون في الغالب إذا كان الرجل صاحب حرفة بالطين والجبس، وما أشبه ذلك، أو كان مريضاً مرضاً طويلاً فإن الأوساخ تتراكم عليه، فإذا غسلوه ثلاث مرات ولم ينق فإنه يزاد حتى ينقى.
ودليل ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» (1) . وهذا يرجع إلى رأي الغاسل، ولكن ليس مجرد رأي وتشهٍّ، وإنما هو الرأي الذي تقتضيه المصلحة.
وضابط تخيير التشهي من تخيير المصلحة هو: أنه إذا كان المقصود التيسير على الفاعل، والأمر يعود له هو لا لغيره فهذا تخيير تشهٍّ. وإذا كان يعود إلى الغير فهو تخيير مصلحة.
مثال تخيير التشهي: قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] .
ومثال تخيير المصلحة: إذا قيل لولي اليتيم: بع مال اليتيم، أو ضارب به.
__________
(1) سبق تخريجه ص (263) .(5/279)
يَنْقَى وَلَوْ جَاوَزَ السَّبْعَ، وَيَجْعَل فِي الغَسْلَةِ الأَْخِيرَةِ كَافُوراً وَالْمَاءُ الحَارُّ، وَالإِشْنَانُ، والخِلاَلُ يُسْتَعْمَلُ إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ............
قوله: «ولو جاوز السبع» أي: زاد عليها، وتعداها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» ، ولأن المقصود من تغسيل الميت التطهير، وقد لا ينقى بسبع مرات، فيزاد حتى ينقى.
لكن ينبغي قطع الغسل على وتر، فلو نقى بأربع زاد خامسة؛ لأن هذا هو الذي ورد به الحديث.
قوله: «ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً» ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور» (1) ، والكافور: طيب معروف أبيض يشبه الشب يدق، ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.
قال العلماء: وإنما اختير الكافور من بين سائر الأطياب لفائدتين:
1 ـ أنه بارد.
2 ـ أن من خصائصه أنه يطرد الهوام عن الميت؛ لأن الميت في القبر تأتيه الهوام، فرائحته تطرد الهوام عنه.
قوله: «والماء الحار والإشنان والخلال يستعمل إذا احتيج إليه» ، الأفضل: أن نغسل الميت بماء بارد، ولكن إذا احتجنا إلى الماء الحار، مثل: أن تكون عليه أوساخ كثيرة متراكمة فإننا نستعمله، ولكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد
__________
(1) أخرجه البخاري (1258) ؛ ومسلم (939) (36) عن أم عطية رضي الله عنها.(5/280)
برخاوة بالغة، ولكنه حار ليكون أنقى من البارد، ويسخن بأي وقود سواء بالكهرباء، أو بالغاز، أو بالحطب، أو بغير ذلك، وعند عوامنا يقولون: إنه لا يسخن الماء الذي يغسل به الميت إلا بسعف النخل فقط، وغير ذلك لا يسخن به، وهذا لا أصل له، بل يسخن بما تحصل به السخونة.
وقوله: «والإِشنان» والإشنان شجر معروف ينبت في البر يؤخذ وييبس ويدق، ويكون من جنس الرمل حبيبات تغسل به الثياب، ويغسل الإِنسان به جلده من أجل النظافة.
والإِشنان يستعمل عند الحاجة للتنظيف؛ لأنه قد يكون على الجلد أوساخ أو دهون لا يزيلها الماء وحده فيزيلها الإِشنان، فإن لم يحتج إليه فلا يستعمله.
وهل مثل ذلك الصابون؟
الجواب: نعم الصابون مثل الإِشنان، بل هو أقوى منه تنظيفاً، فإذا استعمل الصابون من أجل إزالة الوسخ، فلا حرج فيه.
وهل يستعمل مع الصابون ليفة؟
الجواب: لا؛ لأن الليفة تشطب الجلد، وربما هذا الذي يغسله من شدة الحرص على التنظيف يفركه بشدة فيتأثر الجلد، فيكفي أن يمسح باليد.
وقوله: «والخلال يستعمل إذا احتيج إليه» ، أي: خلال الأسنان، إذا كان بأسنانه طعام فإنه يستعمل؛ لأن في ذلك تنظيفاً لأسنانه.(5/281)
وَيَقُصُّ شَارِبَه، وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَه، وَلاَ يُسَرِّحُ شَعْرَهُ، ثُمَّ يُنَشَّفُ بِثَوْبٍ، وَيُضفَرُ شَعْرُهَا ثَلاثَةَ قُرُونٍ، وَيُسْدَلُ وَرَاءَهَا. ..............
قوله: «ويقص شاربه، ويقلّم أظفاره، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوب» .
خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.
أما الختان: فلا يستعمل مع الميت، بل هو حرام؛ لأن الختان أخذ الجلدة، والجلدة جزء حي من الميت، فأخذها تمثيل بالميت ولا حاجة إليه؛ لأن الختان من حكمه أنه يطهر الإِنسان، ولهذا يسمى عندنا بالعامية «الطهار» ، لكن إذا مات الإِنسان فلا حاجة له؛ ولهذا قال العلماء: «يحرم ختان الميت» .
وأما الشارب والأظفار: فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عادية، أو كان الميت أخذها عن قرب فإنها لا تؤخذ، بل تبقى على ما هي عليه.
وأما الإِبط: فكذلك، إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه.
وأما العانة: إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ.
وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة بخلاف الإبط والأظفار، ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرة، وكشف العورة هنا للحاجة.
وقوله: «ولا يسرح شعره» ، أي: أن الغاسل لا يسرح شعر الميت؛ لأن هذا يؤدي إلى تقطع الشعر بالتسريح والمشط.(5/282)
وقوله: «ثم ينشف بثوب» ، أي: بعد أن يغسل يستحب أن ينشف؛ لأنه إذا بقي رطباً عند التكفين أثر ذلك في الكفن، فالأفضل أن ينشف بثوب.
وهذه الطهارة تخالف طهارة الحي من عدة وجوه:
منها: أن طهارة الحي لا تزيد عن ثلاث، وهذه تزيد إلى سبع أو أكثر.
ومنها: أن الأفضل في طهارة الميت التنشيف، وأما طهارة الحي فقيل: الأفضل عدم التنشيف، وقيل: إن التنشيف وعدمه سواء، وإنه مباح إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
قوله: «ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها» ، أي: يجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها.
ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أمر النساء اللاتي يغسلن ابنته أن يضفرن شعرها ثلاثة قرون، ويسدلنه من ورائها» (1) .
مسألة: ما حكم أسنان الذهب وغيرها مما ركبه الإنسان في حياته هل تدفن معه أم تخلع؟
الجواب: أما ما لا قيمة له فلا بأس أن يدفن معه كالأسنان من غير الذهب والفضة والأنف من غير الذهب، وأما ما كان له قيمة فإنه يؤخذ إلا إذا كان يخشى منه المُثلة، كما لو كان السن لو أخذناه صارت المُثلة فإنه يبقى معه. ثم إن شاء الورثة بعد أن يفنى الميت أن يحفروا القبر ويأخذوا الذهب فلهم ذلك.
__________
(1) سبق تخريجه من حديث أم عطية رضي الله عنها ص (263) .(5/283)
وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ بَعْدَ سَبْعٍ حُشِيَ بِقُطنٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَمْسِكْ فَبطِينٍ حُرٍّ، ثُمَّ يُغْسَلُ المَحلُّ، وَيُوَضَّأُ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَكْفِينِهِ لَمْ يُعَدِ الغسْلُ. وَمُحْرِمٌ مَيتٌ كَحيٍّ...........
قوله: «وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطن» ، أي: خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، أو ما أشبه ذلك حُشي بقطن، أي سُد بالقطن من أجل أن يتوقف.
قوله: «فإن لم يستمسك فبطين حر» ، الطين الحر: الذي ليس مخلوطاً بالرمل أي: بطين قوي؛ لأن الطين القوي يسد الخارج، واختاروا الطين، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان؛ حيث إن الإنسان خلق منه، وسيعاد إليه.
قوله: «ثم يغسل المحل ويوضأ» ، يغسل المحل أي: الذي أصابه ما خرج، فيغسل للتنظيف وإزالة النجاسة إن كان نجساً، ثم يوضأ.
قوله: «وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل» ، أي: إن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل؛ لأن في ذلك مشقة؛ إذ إننا لو أزلنا الكفن ثم نظفناه، ثم كفّناه مرة أخرى ربما يخرج شيء، وحينئذٍ يكون فيه مشقة، فإذا خرج بعد التكفين تركناه.
قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ وهو من اجتهادهم ـ: «إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء» ، فله ثلاثة أحوال.
قوله: «ومحرم ميت كحيّ» ، أي: في أحكامه، ودليل ذلك(5/284)
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (1) ، فدل ذلك على أنه باق على إحرامه، وإذا كان كذلك فهو كالحي.
يُغْسَلُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلاَ يُقَرَّبُ طِيباً، وَلاَ يُلْبَسُ ذَكَرٌ مَخِيطاً، وَلاَ يُغَطَّى رَأْسُهُ.......
قوله: «يغسل بماءٍ وسدر» ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي وقصته راحلته: «اغسلوه بماءٍ وسدر» (2) ؛ ولأن استعمال السدر للمحرم ليس بحرام، بل هو جائز.
قوله: «ولا يقرّب طيباً» لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تحنطوه» (3) ؛ ولأن المحرم ممنوع من الطيب.
قوله: «ولا يلبس ذكرٌ مخيطاً» ، أي: لا يلبس الذكر قميصاً أو سراويل أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.
ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (4) .
قوله: «ولا يغطى رأسه» ، أي: لا يغطى رأسه، بل يبقى مكشوفاً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تخمروا رأسه» (5) ، ولكن لا بأس أن يظلل بشمسية أو شبهها، كما يفعل بالمحرم الحي، أما التغطية باللف عليه، فهذا لا يجوز.
وأما وجهه فإنه يغطى، لأنه جائز حال الإحرام في الحياة فجاز بعد الوفاة، وأما رواية «ولا وجهه» (6) في حديث الذي وقصته راحلته فشاذة.
__________
(1) و (2) و (3) و (4) و (5) سبق تخريجه ص (269) .
(6) أخرجه مسلم (1206) (98) (101) (102) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/285)
وَلاَ وَجْهُ أُنْثَى..........
قوله: «ولا وجه أُنثى» ، أي: لو ماتت أُنثى محرمة فإن وجهها لا يغطى، وهذا إن لم يُمر بها حول رجال أجانب، فإن مُر بها حول رجال أجانب فإن وجهها يستر، كما لو كانت حية.
وأما رأسها فيغطى؛ لأنه يجب تغطيته حال الحياة في الإحرام وغيره.
وظاهر كلام المؤلف اجتناب هذه الأشياء حتى بعد التحلل الأول، ولعله غير مراد؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يحرم عليه إلا النساء فقط، وعلى هذا يصنع به كما يصنع بالمتحلل تحللاً أولاً، ويمكن أن يؤخذ ذلك من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ؛ لأنه إذا شرع في التحلل الأول انقطعت التلبية؛ لأنها تنقطع عند رمي جمرة العقبة.
وفي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» (1) ، دليل على أنه لا يُقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضةً خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه يقضى عنه ما بقي من النسك إذا كان الحج فريضة؛ فإننا نقول رداً على هذا القول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقل لهم: اقضوا عنه بقية النسك، ولو كان قضاء بقية النسك واجباً لبيّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأننا لو قضينا عنه بقية نسكه لفوتنا عليه فائدة كبيرة جداً، وهي أنه يبعث يوم القيامة ملبياً؛ لأنه لو قضي عنه بقية النسك لتحلل وانتهى من النسك، فيكون في قضاء بقية النسك عنه إساءة للميت. ونقول: هذا الرجل شرع في أداء النسك ومات قبل إكماله، ومن خرج من بيته
__________
(1) سبق تخريجه ص (269) .(5/286)
مهاجراً إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت فقد وقع أجره على الله، أما بالنسبة لنا فلا نتعرض له.
وَلاَ يُغَسَّلُ شَهِيدٌ وَمَقْتُولٌ ظُلْماً.........
قوله: «ولا يغسل شهيد ومقتول ظلماً» .
«لا» نافية، والنفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم، ولهذا اختلف أصحابنا ـ رحمهم الله ـ، هل تغسيل الشهيد حرام أو مكروه؟
فقال بعضهم: إنه مكروه.
وقال بعضهم: إنه حرام.
والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أمر بقتلى أحد أن يدفنوا بدمائهم ولم يغسلهم» (1) ، ولأن التغسيل واجب، ولا يترك من أجل فعل المكروه، فلا يترك إلا لمحرم.
وقوله: «شهيد» المراد به هنا: شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
أما من قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيد ولو قتل، لكن من قاتل حماية لوطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلاميٌ فقد قاتل لحماية الدين، فيكون من هذا الوجه في سبيل الله، ولهذا يجب أن نبيّن لإخواننا في الجيش أنهم إنما يتأهبون للقتال لا دفاعاً عن وطنهم من أجل أنه وطنهم، ولكن من أجل أنه وطن إسلامي يقاتلون لحماية الإسلام حتى يكونوا عند الموت شهداء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال:
__________
(1) أخرجه البخاري (1347) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(5/287)
«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (1) .
فالذي قاتل حمية نقول له:
لماذا تقاتل حمية؟ هل هو حدب على قومك، أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟
إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد، كما لو قال: أقاتل حدباً على قومي، ليبقى الإسلام في بلادي.
وقوله: «ومقتول ظلماً» ، أي: المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً؛ لأن المقتول ظلماً شهيد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد» (2) .
والصحيح أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الناس؛ لأنه داخل في عمومات الأدلة الدالة على وجوب الغَسْل، وهذه العمومات لا يمكن أن يخرج منها شيء إلاَّ ما دلّ الدليل عليه، وهو شهيد المعركة.
ولا يمكن أن يساوى المقتول ظلماً بشهيد المعركة، وإن كان يطلق عليه اسم شهيد، فالمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحريق شهيد، وليس كل ما أطلق عليه اسم الشهيد يكون حكمه كشهيد المعركة؛ لأن شهيد المعركة مدَّ رقبته إلى عدوه ليقطعها في سبيل الله، والمقتول ظلماً أُكره على المقاتلة حتى قتل، فبينهما فرق عظيم.
__________
(1) أخرجه البخاري (123) ؛ ومسلم (1904) عن أبي موسى رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/190) ؛ وأبو داود (4772) ؛ والترمذي (1421) ؛ والنسائي (7/116) . وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.(5/288)
ولهذا يجب ألا نظن أن الشهداء بمرتبة واحدة، وإن كانوا شهداء، فكل بمرتبته قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] .
فالصحيح أن جميع الموتى من المسلمين يغسلون ويكفّنون ويصلّى عليهم إلا شهداء المعركة فقط، فهؤلاء لا يغسلون، ولا يكفّنون، ولا يصلّى عليهم؛ لأن المقصود بالصلاة عليهم الشفاعة لهم، وكفى ببارقة السيوف على رؤوسهم شفاعة، فيشفع لهم هذا البذل الذي بذلوه، فإنهم بذلوا أغلى ما عندهم وهو النفس لإعلاء كلمة الله.
إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جُنُباً. .......
قوله: «إلا أن يكون جنباً» .
إذا كان المتن: «ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً» فإن مقتضى القاعدة النحوية أن يقال: «إلا أن يكونا جنباً» ؛ لأن العطف بالواو يجعلهما شيئين، فيجب أن يكون الضمير عائداً على شيئين بصيغة المثنى، ولكنه في الروض المربع جعل المقتول ظلماً شرحاً، وهذا هو الذي يناسب العبارة «إلا أن يكون جنباً» ، أي: إلا أن يكون الشهيد جنباً؛ فإن كان الشهيد جنباً فإنه يغسل، وكذلك لو استشهدت امرأة أو قتلت ظلماً على المذهب، وكانت حائضاً ولم تغتسل من الحيض، فإنها كذلك تغسل، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
ولكن ظاهر الأخبار أنه لا فرق بين الجنب وغيره، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يغسل الذين قتلوا في أحد (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (287) .(5/289)
أما ما يذكر من أن حنظلة بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ غسلته الملائكة (1) ، فهذا إن صح فليس فيه دليل على أنه يغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً بماءٍ يطهر، بل إن صح فهو من باب الكرامة، وليس من باب التكليف.
فالصحيح أنه لا يغسل، سواء أكان جنباً أم غير جنب؛ لعموم الأدلة، ولأن الشهادة تكفر كل شيء، ولو قلنا بوجوب تغسيله إذا كان جنباً لقلنا بوجوب وضوئه إذا كان محدثاً حدثاً أصغر؛ ليكون على طهارة، ولم يقولوا به.
وَيُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ بَعْدَ نَزْعِ السِّلاَحِ وَالجُلُودِ عَنْهُ، وَإِنْ سُلِبَها كُفِّنَ بِغَيْرِهَا. ........
قوله: «ويدفن في ثيابه» ، أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها؛ لأنه يبعث يوم القيامة على ما مات عليه من القتل، ولذلك يبعث وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
قوله: «بعد نزع السلاح والجلود عنه» ، أي: إذا كان معه جلود مثل: سير ربط به إزاره أو رداءه، أو ما أشبه ذلك، أو معه سلاح قد حمله فإنه ينزع منه؛ لأن هذا لا يدخل في الثياب؛ ولأنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» (2) .
قوله: «وإن سُلبها كفن بغيرها» ، الضمير «ها» في قوله:
__________
(1) أخرجه ابن حبان (7025) إحسان؛ والحاكم (3/204) ؛ والبيهقي (4/15) . وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ، وأقرّه الذهبي.
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/247) ؛ وأبو داود (3134) ؛ وابن ماجه (1515) ؛ والبيهقي (4/14) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/290)
«سُلبها» مفعول ثانٍ يعود على الثياب، ومعنى سلبه إياها: أن تؤخذ منه. مثل: أن يأخذها العدو ويدعه عارياً، كفن بغيرها وجوباً؛ لأنه لا بد من التكفين للميت؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كفنوه في ثوبيه» (1) .
وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْه.........
قوله: «ولا يصلى عليه» ، أي: لا يصلي عليه أحد من الناس لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصل على شهداء أحد (2) ؛ ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفّعهم الله فيه» (3) ، والشهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدَّين؛ لأن الدين لا يسقط بالشهادة، بل يبقى في ذمة الميت في تركته إن خلف تركة، وإلا فإنه إذا أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.
فإن قال قائل: أليس النبي صلّى الله عليه وسلّم قد خرج في آخر حياته إلى أُحد وصلى عليهم؟ (4) .
فالجواب: أن هذه ليست صلاة الميت؛ لأن صلاة الميت يجب أن تكون قبل الدفن، ولكن هذه إما: صلاة بمعنى الدعاء، وإما صلاة مودع كما مال إليه ابن القيم ـ رحمه الله ـ.
وأما القول: بأنها الصلاة التي تصلى على الميت فغير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يبقى الرسول عليه الصلاة والسلام من
__________
(1) سبق تخريجه ص (269) .
(2) سبق تخريجه ص (287) .
(3) أخرجه مسلم (948) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) أخرجه البخاري (1344) ؛ ومسلم (2296) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.(5/291)
السنة الثانية إلى السنة العاشرة أو الحادية عشرة لم يصلِّ عليهم.
وَإِنْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ وُجِدَ مَيتاً، وَلاَ أَثَرَ بِهِ. أَوْ حُمِلَ فَأَكَلَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفاً غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
قوله: «وإن سقط عن دابته» ، أي: إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو، غسل وصلي عليه. فإن سقط عن دابته بفعل العدو فمات من ذلك فإنه يكون شهيداً لا يغسل كما سبق.
قوله: «أو وجد ميتاً ولا أثر به» ، أي: ليس به أثر جراحة، ولا خنق، ولا ضرب، ووجد ميتاً فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا له دليل نظري، وذلك أن هذا الميت وجب بموته أن يغسل ويكفن ويصلى عليه، وكون موته من فعل العدو مشكوك فيه؛ لأنه ليس فيه أثر، ولا يمكن أن ندع اليقين للشك، بل يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه.
وقول المؤلف: «ولا أثر به» يخرج به ما لو وجد به أثر مثل: جرح، أو خنق، أو ضرب أي ضربات مميتة، فإنه يحكم بالظاهر هنا، وهو أن الذي فعل به ذلك العدو، وعلى هذا يكون شهيداً لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وهنا غلّبنا الظاهر على الأصل؛ لأن الأصل وجوب التغسيل، وهنا أسقطنا هذا الواجب بهذا الظاهر الذي هو الأثر، وكذا إذا علمنا أنه مات بفعل العدو ولا أثر به كما لو استعمل الغازات.
واستثنى بعضهم من الأثر: الدم من الأنف، أو الفم، أو القبل، أو الدبر، قال: لأن هذا قد يقع ممن مات موتاً طبيعياً، فلا يدل على أن العدو هو الذي فعل به هذا، ولكن كلام المؤلف يدل على العموم فمتى وجد به أثر يحتمل أنه من فعل العدو فهو شهيد.(5/292)
قوله: «أو حُمل فأكل» ، أي: من أرض المعركة فأكل، ثم مات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ولو علمنا أنه مات متأثراً بجراحه؛ لأن كونه يأكل يدل على أن فيه حياة مستقرة؛ إذ إن الذي في حكم الميت لا يأكل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكل ومات ولم يطل الفصل فإنه يغسل.
وقال بعض الفقهاء: لا يغسل إذا لم يطل الفصل؛ لأنه قد يأكل بدون شعور وهو في النزع، ولكن هذا في الحقيقة بعيد أي إن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة.
وقول المؤلف: «أو حُمل فأكل» ظاهره: أنه إذا لم يحمل فأكل، ثم مات فإنه شهيد لا يغسل، وعبارة بعض الفقهاء: «أو جرح فأكل» ، وهذه العبارة الأخيرة أعم مما إذا حمل أم لم يحمل.
والأقرب: أنه إذا أكل سواء حمل، أم لم يحمل، فإن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة فيغسل ويكفن.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الشهيد إذا جرحه العدو جرحاً مميتاً وبقي حياً حياة مستقرة أنه يغسل ويكفن؟
فالجواب: قصة سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ فإنه جُرح في أكحله عام الأحزاب، ولكنه سأل الله أن لا يميته حتى يقر عينه ببني قريظة، فاستجاب الله دعاءه، وبقي الجرح ملتئماً حتى حكم في بني قريظة بنفسه لأنه هو حليفهم (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم (1769) عن عائشة رضي الله عنها.(5/293)
وانظر الفرق بين سعد بن معاذ وعبد الله بن أُبي، فعبد الله بن أبي قام يجادل عن حلفائه من اليهود؛ لأنه كافر، أما سعد فسأل الله ألا يميته حتى يقر عينه بهم، فأقر الله عينه بهم، وصار هو الحاكم فيهم، وحكم بهم بالحكم الذي شهد النبي عليه الصلاة والسلام بأنه حكم الله من فوق سبع سموات (1) ، ولما حكم فيهم انبعث الدم ومات ـ رضي الله عنه ـ، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن عرش الرب ـ عز وجل ـ اهتز لموته (2) فرحاً بروحه؛ لأن روحه صعدت إلى الله ـ عز وجل ـ، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:
وما اهتز عرش الله من أجل هالك
سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
والحاصل: أن هذا دليل على أن الشهيد إذا طال بقاؤه، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وألحق العلماء بذلك ما إذا وجد منه دليل الحياة المستقرة مثل الأكل.
قوله: «أو طال بقاؤه عُرفاً غسل وصلي عليه» ، أي: ليس مقدراً بزمان شرعاً بل إذا طال بقاؤه وعرف أنه ليس في سياق الموت فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
والذي يترجح عندي أنه إذا بقي متأثراً كتأثر المُحتضَر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألماً لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو شرب فإن ذلك لا يسقط حكم الشهادة، وهذا هو اختيار مجد الدين ابن تيمية ـ وهو عبد السلام
__________
(1) سبق تخريجه ص (293) .
(2) أخرجه مسلم (2466) (123) عن جابر رضي الله عنه.(5/294)
جد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ؛ لأن الإنسان قد يشرب، وهو في سياق الموت بخلاف الأكل، فكلام الماتن تابع لكلام المجد رحمه الله.
والسِّقْطُ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَعَذَّرَ غَسْلُهُ يُمِّمَ، وَعَلَى الغَاسِلِ سَتْرُ مَا رَآهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَناً.
قوله: «والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه» «السِّقط» بكسر السين، ويجوز الفتح، ويجوز الضم، ومعناه: الساقط، والمراد به: الحمل إذا سقط من بطن أمه.
فإذا بلغ أربعة أشهر من بدء الحمل، أي: إذا تم له أربعة أشهر، وليس المعنى إذا دخل الشهر الرابع.
والمراد بالأشهر هنا: الأشهر الهلالية؛ لأنها هي التي جعلها الله ـ عز وجل ـ مواقيت للناس، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، وهي التي وضعها الله ـ عز وجل ـ للناس جميعاً منذ خلق السموات والأرض، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] .
وأما الأشهر الاصطلاحية التي هي أشهر النصارى ومن تابعهم، فهذه لا أصل لها شرعاً ولا قدراً.
أما الأصل القدري فلأن الله تعالى جعل الأشهر الهلالية هي المواقيت {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .
وأما الأصل الشرعي فإنه لم يرتب عليها لا صيام، ولا حج، ولا أشهر حرم، وكل أحكام الأشهر منفية عن هذه الأشهر الاصطلاحية التي جاءت من النصارى.(5/295)
قوله: «غسل وصلي عليه» أي: وكفن، ودفن، فالمؤلف طوى ذكر الكفن والدفن؛ لأنه معلوم.
وإنما قيده ببلوغ أربعة أشهر؛ لأنه قبل ذلك ليس بإنسان، إذ لا يكون إنساناً حتى يمضي عليه أربعة أشهر، ودليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حيث بين النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن الجنين يكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك» ، فهذه أربعة أشهر، «ثم يرسل له الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات» (1) إلخ.
وعلى هذا فهو قبل هذه المدة يكون جماداً قطعة لحم يدفن في أي مكان بدون تغسيل، وتكفين، وصلاة، لكن بعد أربعة أشهر يكون إنساناً كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] ، فيعامل معاملة من مات بعد خروجه.
قال العلماء: ويسمى؛ لأن هذا السقط يبعث يوم القيامة، فلا بد أن يسمى؛ لأن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة.
قال العلماء: فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ ـ وهو بعيد ـ لكن ربما يقع، فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك.
أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة.
__________
(1) سبق تخريجه (1/509) .(5/296)
قوله: «ومن تعذر غسله يُمم» ، أي: من امتنع غسله، أي: تغسيله، فإنه ييمم.
وكيفية التيميم: أنه يضرب الحي يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه.
ويكون التعذر: إما بعدم الماء، وإما بتعذر استعماله في هذا الميت بأن يكون الميت قد تمزق، أو يكون محترقاً لا يمكن مسه إلا بتمزيق جلده فهنا ييمم؛ لأن تغسيل الميت طهارة مأمور بها، فإذا تعذر تطهيره بالماء عدلنا إلى بدله وهو التراب.
وقيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله؛ لأن هذه ليست طهارة حدث، وإنما هي طهارة تنظيف، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك» وطهارة الحدث لا تزيد على ثلاث، فإذا كان المقصود تنظيف الميت وتعذر الماء، فإن استعمال التراب لا يزيده إلا تلويثاً، فتجنبه أولى.
وهذا هو الراجح. وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه.
قوله: «وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً» ، أي: على غاسل الميت ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسناً، فربما يرى منه ما ليس بحسن، إما من الناحية الجسدية، وإما من الناحية المعنوية، فقد يرى ـ والعياذ بالله ـ وجهه مظلماً متغيراً كثيراً عن حياته، فلا يجوز أن يتحدث إلى الناس، ويقول: إني(5/297)
رأيت وجهه مظلماً؛ لأنه إذا قال ذلك ظن الناس به سوءاً.
وقد يكون وجهه مسفراً حتى إن بعضهم يُرى بعد موته متبسماً فهذا لا يستره.
أما السيء من الناحية الجسدية: فإن الميت قد يكون في جلده أشياء من التي تسوؤه إذا اطلع الناس عليها، كما قال الله تعالى في قصة موسى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] ، أي: قد يكون فيه برص يكره أن يطلع الناس عليه، فلا يجوز للإنسان أن يقول: رأيت فيه برصاً، وقد يتغير لون الجلد ببقع سوداء، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها دموية، فلا يذكرها للناس بل يجب أن يسترها.
قال العلماء: إلا إذا كان صاحب بدعة، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروه، فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة؛ لأن الناس إذا علموا أن خاتمته على هذه الحال، فإنهم ينفرون من منهجه وطريقه، وهذا القول لا شك قول جيد وحسن؛ لما فيه من درء المفسدة التي تحصل باتباع هذا المبتدع الداعية، وكذا لو كان صاحب مبدأ هدّام كالبعثيين والحداثيين.
وذكر في الروض كلاماً حسناً فقال: «فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير» ، أي: ستر الشر واجب، وإظهار الخير ليس بواجب، ولكنه حسن ومطلوب لما فيه من إحسان الظن بالميت، والترحم عليه، ولا سيما إذا كان صاحب خير.
وقال: «ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء» ، أي:(5/298)
بالنسبة للأموات نرجو للمحسن رحمة الله، ونخاف على المسيء، وخوفنا على المسيء يستلزم أن ندعو الله له، إذا لم تكن إساءته مخرجة إلى الكفر.
فإذا مات الإنسان وهو معروف بالمعاصي التي لا توصل إلى الكفر، فإننا نخاف عليه، ولكننا ندعو الله له بالمغفرة والعفو؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
وقال: «ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، أي: بالجنة أو بالنار، والشهادة بالجنة أو بالنار على نوعين:
النوع الأول: شهادة للجنس، أي: يشهد بالجنة لكل مؤمن ولكل متق؛ لأن الله قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وهذا لا يخص شخصاً بعينه، بل يعم الجنس، وكذلك نشهد لكل كافر أنه في النار، قال الله تعالى في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] .
النوع الثاني: شهادة للعين أي: أن تشهد لشخص بعينه، فلا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلّى الله عليه وسلّم، مثل: العشرة المبشرين بالجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وستة مجموعون في بيت:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة
وعامر فهرٍ والزبير الممدح
ومثل: سعد بن معاذ، وثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن سلام، وبلال، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
نشهد لهم بالجنة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد لهم.
وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من اتفقت الأمة أو جُلُّ الأمة على الثناء عليه.(5/299)
مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لمَّا مرَّت جنازة وأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وجبت» ـ أي: وجبت له الجنة ـ ومرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: «وجبت» ثم قال لهم: «أنتم شهداء الله في أرضه» (1) .
وعلى هذا فنشهد لهؤلاء الأئمة الذين أجمعت الأمة، أو جلها على الثناء عليهم بالجنة. لكن ليست شهادتنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمن شهد له الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
قال: «ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة» ، أي: يحرم سوء الظن بمسلم، أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك.
وأما من عُرف بالفسوق والفجور، فلا حرج أن نسيء الظن به؛ لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها؛ لأنه قد يكون متجسساً بهذا العمل.
قال: «ويستحب ظن الخير بالمسلم» ، أي: يستحب للإنسان أن يظن بالمسلمين خيراً، وإذا وردت كلمة من إنسان تحتمل الخير والشر، فاحملها على الخير ما وجدت لها محملاً، وإذا حصل فعل من إنسان يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير ما وجدت له محملاً؛ لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء ويريحك.
__________
(1) أخرجه البخاري (2642) ؛ ومسلم (949) عن أنس رضي الله عنه.(5/300)
فإذا كان الله ـ عز وجل ـ لم يكلفك أن تبحث وتنقب، فاحمد الله على العافية، وأحسن الظن بإخوانك المسلمين، وتعوذ من الشيطان الرجيم.
وأما ما يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام «احترسوا من الناس بسوء الظن» (1) ، فهذا كذب لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل روى أبو داود من حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحدثني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر» (2) .
وهذا هو اللائق بالمسلم، أما من فُتن ـ والعياذ بالله ـ وصار يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها، وإذا رأى شيئاً يحتمل الشر ولو من وجه بعيد طار به فرحاً ونشره، فليبشر بأن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر بيته.
__________
(1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (598) ؛ وابن عدي في «الكامل» (6/2398) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه معاوية بن يحيى وهو ضعيف جداً.
انظر ترجمته في: «الميزان» (8635) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (1/395، 396) ؛ وأبو داود (4860) ؛ والترمذي (3896) .(5/301)
فَصْلٌ
يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي مَالِهِ مُقَدّماً عَلَى دَينٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ.........
فصل
قوله: «يجب تكفينه» الكفن: ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها.
وحكم تكفين الميت الوجوب، والدليل:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي وقصته راحلته: «كفنوه في ثوبيه» (1) ، والأصل في الأمر الوجوب.
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعطى النساء اللاتي غسلن ابنته حقوه، ـ أي: إزاره ـ، وقال: أشعرنها إياه» (2) ، أي: اجعلنه شعاراً، وهو الذي يلي بدنها.
قوله: «يجب تكفينه» الوجوب هنا كفائي، والفرق بين الكفائي والعيني:
أن الكفائي يقصد به حصول الفعل بقطع النظر عن الفاعل.
والعيني يطلب الفعل من الفاعل، أي: يراعى فيه الفعل والفاعل.
وفرض العين أفضل من فرض الكفاية؛ لأنه أوكد بدليل أن الله أمر به جميع الخلق.
قوله: «في ماله» ، أي: في مال الميت.
ودليل كونه واجباً في ماله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كفنوه في ثوبيه» (3) ، فأضاف الثوبين إلى الميت.
ولكن لو فرض أن هناك جهة مسؤولة ملتزمة بذلك، فلا
__________
(1) سبق تخريجه ص (269) .
(2) سبق تخريجه ص (280) .
(3) سبق تخريجه ص (269) .(5/302)
حرج أن نكفنه منها إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك، بأن قال: كفنوني من مالي، فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة، سواء كانت من جهة حكومية، أو من جهة خاصة.
قوله: «مقدماً على دَين» ، «مقدماً» حال من قوله: «تكفينه» أي: حال كون التكفين مقدماً على دين وغيره.
والدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة بيت، أو دكان، أو قرض، أو صداق، أو عوض خلع، وإن كان العامة لا يطلقون الدين إلا على ثمن المبيع لأجل، فهذا عرف ليس موافقاً لإطلاقه الشرعي.
قوله: «وغيره» يعني: الوصية، والإرث.
فالتكفين مقدم على كل شيء، وعموم قول المؤلف: «مقدماً على دين» يشمل ما إذا كان الدين فيه رهن أو لا، وعلى هذا فلو خلف الرجل شاة ليس له غيرها مرهونة بدين عليه، ولم نجد كفناً إلا إذا بعنا هذه الشاة واشترينا بقيمتها كفناً فتباع، ونشتري له كفناً؛ لأن الكفن مما تتعلق به حاجة الشخص خاصة، فيقدم على كل شيء وكذا لو أوصى بها.
قوله: «فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته» ، أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.
وإذا وجدنا ثوباً قد لبسه الميت وغترة، فهل نكفنه بهما أو لا بد أن نكفنه باللفائف؟
الجواب: إذا كانت ثيابه تقوم بالواجب، فإننا لا نلزم الناس أن يكفنوه ما دام في ماله ـ ولو ثيابه التي عليه ـ ما يكفي.(5/303)
قوله: «من تلزمه نفقته» ، أي: الميت حال حياته، وهم الأصول والفروع، فتجب نفقة الوالدين والأولاد بكل حال سواء كانوا وارثين أم لا، وعلى هذا فتجب نفقة الجد على ابن ابنه، وإن لم يكن وارثاً لوجود الابن، أي: وإن كان محجوباً بالابن، وابن البنت تجب نفقته وإن لم يكن وارثاً، وعليه فيجب كفنه على جده من قبل أمه.
أما غير الأصول والفروع، فلا تجب النفقة، إلا على من كان وارثاً بفرض أو تعصيب.
مسألة: الأخ هل يجب أن ينفق على أخيه؟
الجواب: إن كان لأخيه أولاد فإنه لا يلزمه أن ينفق عليه؛ لأنه محجوب بهم، وإن لم يكن له أولاد وجب أن ينفق عليه؛ لأنه وارث.
هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمقام هنا لا يقتضي البسط والترجيح.
إِلاَّ الزَّوْجَ لاَ يَلْزَمُهُ كَفَنُ امْرَأَتِهِ وَيُسْتَحَبُّ تَكْفِينُ رَجُلٍ فِي ثَلاَثِ لَفَائِفَ بِيضٍ......
قوله: «إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته» ، أي: لو ماتت امرأة، ولم نجد وراءها شيئاً تكفن منه، وزوجها موسر، فإنه لا يلزمه أن يكفنها.
وعللوا: بأن الإنفاق على الزوجة إنفاق معاوضة مقابل الاستمتاع، وهي إذا ماتت انقطع الاستمتاع بها، مع أن بعض علائق الزوجية باقية، بدليل أن الزوج يغسل امرأته بعد موتها.
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أنه يلزمه أن يكفّن امرأته.(5/304)
وعللوا: أن هذا من العشرة بالمعروف، ومن المكافأة بالجميل، ولأن علائق الزوجية لم تنقطع.
وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسراً. فإن لم يوجد من تلزمه النفقة، أو وجد وكان فقيراً ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مال منتظم فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
فالمراتب إذاً أربع:
1 ـ في ماله.
2 ـ من تلزمه نفقته.
3 ـ بيت المال.
4 ـ عموم المسلمين.
وإنما قُدم بيت مال المسلمين على عموم المسلمين؛ لأنه لا منّة فيه على الميت؛ بخلاف ما إذا كان من المسلمين، فإن هذا الذي سوف يعطيه سيكون في قلبه منة عليه.
مسألة: لو مات الزوج وكان فقيراً، وكانت الزوجة غنية، فلا يلزمها قيمة الكفن؛ وذهب ابن حزم ـ رحمه الله ـ إلى أنه يلزمها ذلك.
قوله: «ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض» ، الاستحباب هنا ليس منصباً على أصل التكفين؛ لأن أصل التكفين فرض كفاية، لكنه منصب على كون الكفن ثلاث لفائف، وكونها بيضاً.(5/305)
والدليل على ذلك: أن هذا هو كفن النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه: «كفِّن في ثلاث لفائف بيض سحولية (1) ، ليس فيها قميص ولا عمامة» (2) ، وكان من جملة الصحابة الذين كفنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ، وقد أمرنا باتباع سنتهما.
ثم إن بعض العلماء علل بعلة جيدة، فقال: لم يكن الله ليختار لنبيه صلّى الله عليه وسلّم إلا أفضل الأكفان على أيدي الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
وكذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نلبس البياض وأن نكفن فيها موتانا، وقال: «إنها خير ثيابكم» (3) ، ولا شك أن البياض يبهج النفس أكثر من غيره من الألوان؛ ولهذا كان النهار أبيض، وتجد السرور إذا طلع الفجر بخلاف ما إذا جاء الليل.
وإن كفن بغير الأبيض جاز، وإن كفن بلفافة واحدة جاز أيضاً.
تُجَمَّرُ،.........
قوله: «تجمّر» أي: تبخر، وسمي التبخير تجميراً؛ لأنه يوضع في الجمر، ولكن ترش أولاً بماء، ثم تبخر؛ من أجل أن يعلق الدخان فيها.
__________
(1) بضم أوله، ويروى بفتحه نسبة إلى سَحول قرية باليمن، وقال الأزهري: بالفتح: المدينة، وبالضم: الثياب، وقيل: النسبة إلى القرية: بالضم، وأما بالفتح: فنسبة إلى القصار؛ لأنه يسحل الثياب، أي ينقيها. «فتح الباري» (3/140) .
(2) أخرجه البخاري (1264) ؛ ومسلم (941) عن عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه الإمام أحمد (1/247، 274، 355) ؛ وأبو داود (3878) ؛ والترمذي (994) ؛ وابن ماجه (1472) ؛ وابن حبان (5423) إحسان؛ والحاكم (1/354) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حسن صحيح» وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.(5/306)
ثُمَّ تُبْسَطُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَيُجْعَلُ الحَنُوطُ فِيمَا بَيْنَهَا ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا مُسْتَلْقِياً، وَيُجْعَلُ مِنْهُ فِي قُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَيُشَدُّ فَوْقَهَا خِرْقَةٌ مَشْقُوقَة الطّرَفِ كالتُّبَّانِ..........
قوله: «ثم تبسط بعضها فوق بعض» ، أي: تمد الأولى على الأرض، ثم الثانية، ثم الثالثة.
قوله: «ويجعل الحنوط فيما بينها» ، الحنوط: أخلاط من الطيب تصنع للأموات.
ويدل لهذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الذي وقصته راحلته: «ولا تحنطوه» (1) ، فإن هذا يدل على أن من عادتهم تحنيط الأموات.
قوله: «ثم يوضع عليها مستلقياً» ، أي: على اللفائف مستلقياً؛ لأن وضعه مستلقياً أثبت، وأسهل لإدراجه فيها، إِذْ لو وضع على جنبه انقلب، وصار في إدراج هذه اللفائف شيء من الصعوبة.
قوله: «ويجعل منه في قطن بين أَليتيه» ، أي: من الحنوط في قطن بين أَليتيه، فيؤتى بهذا الطيب فيجعل منه ما بين الأكفان الثلاثة، ونأخذ منه بقطنة نجعلها بين أليتيه.
وعللوا: لئلا يخرج شيء من دبره، والغالب أنه إذا خرج شيء من دبره أن تكون رائحته كريهة، وهذا الحنوط يبعد هذه الرائحة الكريهة.
قوله: «ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان» ، أي: فوق الحنوط الذي يوضع في القطن، والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له أكمام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (269) .(5/307)
تَجْمَعُ أَلْيَتَيْهِ وَمَثَانَته، وَيُجْعَلُ البَاقِي عَلَى مَنَافِذِ وَجْهِهِ، وَمَواضِع سُجُودِهِ. وَإِنْ طُيِّبَ كُلُّهُ فَحَسَنٌ،.............
قوله: «تجمع أليتيه ومثانته» أي: الخرقة المشقوقة، فيؤتى بخرقة مشقوقة الطرف من أجل أن يمكن إدارتها على الفخذين جميعاً، ثم تشد، ومعنى تشد، أي: تربط لتجمع بين أليتيه ومثانته.
إذاً تكون على السوءتين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع المثانة مع الأليتين إلا إذا كانت ساترة لهما، وهذا من تمام الستر.
قوله: «ويجعل الباقي على منافذ وجهه، ومواضع سجوده» أي: الباقي من الحنوط الذي وضع في القطن يجعل على منافذ وجهه، وهي: العينان، والمنخران، والشفتان.
وفي الروض زيادة: «الأذنين» ، مع أن الأذنين من الرأس، لكنهما لقربهما من الوجه تلحقان به.
ويجعل الحنوط على المنافذ؛ من أجل أن يَمنع دخول الهوام من هذه المنافذ.
ويُجعل على مواضع السجود، وهي: الجبهة، والأنف، والكفان، والركبتان، وأطراف القدمين.
وعللوا ذلك بأن هذا من باب التشريف لها.
وكل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء، أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط من حيث أصله فقد جاءت به السنّة كما ذكرنا.
قوله: «وإن طيب كله فحسن» ، أي: إن طيب الميت كله(5/308)
فحسن؛ لأنه يكون أطيب، لكن ينبغي أن يطيب بطيب ليس حاراً؛ لأن الحار ربما يمزق البدن، بل يكون بارداً، وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لكن فعله بعض الصحابة (1) .
ثُمَّ يُردُّ طَرَفُ اللِّفَافَةِ العُلْيا عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، وَيردّ طَرَفها الآخر مِن فَوْقِهِ، ثُمَّ الثَّانِيَة، والثَّالِثَة كذَلِكَ. وَيَجْعَلُ أَكْثَر الفَاضِلِ عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا،............
قوله: «ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، والثالثة كذلك» ، أي: نرد طرف اللفافة العليا وهي التي تلي الميت على شقه الأيمن، ثم نرد طرفها من الجانب الأيسر على اللفافة التي جاءت من قبل اليمين، نفعل بالأولى هكذا، ثم نفعل بالثانية كذلك، ثم بالثالثة كذلك.
وإنما قال المؤلف هذا لئلا يظن الظان أننا نرد طرف اللفائف الثلاث مرة واحدة، بمعنى أن نجمع الثلاث ونردها على الجانب الأيمن، ثم نرد الثلاث على الجانب الأيسر، فأولاً أكمل رد اللفافة الأولى، فترد الطرف الذي يلي يمين الميت، ثم الطرف الذي يلي يساره، ثم الثانية، ثم الثالثة على نفس الطريقة.
قوله: «ويجعل أكثر الفاضل على رأسه» ، أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.
قوله: «ثم يعقدها» ، أي: يعقد اللفائف.
__________
(1) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (3/414) ؛ وابن أبي شيبة (3/256) .(5/309)
والحكمة من عقدها لئلا تنتشر وتتفرق.
أما بالنسبة لعدد العقد فيفعل ما يحتاج إليه، ومن المعلوم أنّ أقل ما يحتاج إليه هو عقدتان، عند الرأس، وعند الرجلين، وقد يحتاج إلى عقدتين أو ثلاث في الوسط، وأما أنه لا بد أن تكون سبع عقد فهذا لا أعلم له أصلاً.
وَتُحَلُّ فِي القَبْرِ وَإِنْ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَلِفَافَةٍ جَازَ، وَتُكَفَّنُ المَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ إِزَارٍ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَلِفَافَتَيْنِ.
قوله: «وتحل في القبر» استدل في الروض «بأثر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد» (1) .
ولأن الميت ينتفخ في القبر فإذا كان مشدوداً بهذه العقد تمزق.
ولو فرض أنه نُسي أن تحل، ثم ذكروا عن قرب، فإن القبر ينبش من أجل أن تحل هذه العقد.
وقال في الروض: «وكره تخريق اللفائف» ؛ لأنه إفساد لها.
إذا قال قائل: إذا خرقتها لم تستره؟
فنقول: لا، بل تستره فخرق مثلاً العليا، ثم خرق التي تحتها من جهة أخرى لا تقابل الخرق الذي في العليا، ثم الثالثة كذلك.
وإنما ذكر صاحب الروض هذا؛ لأن بعض أهل العلم قال: إذا خيف من النباش فإنها تخرق اللفائف؛ لأنه كان
__________
(1) لم نقف عليه عن ابن مسعود، ولكن روي مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه وضع نعيم بن مسعود في القبر ونزع الأخلّة بفيه» . والأخلّة: العقد. أخرجه أبو داود في «المراسيل» (419) ؛ والبيهقي في «السنن» (3/407) .(5/310)
هناك سُرَّاقٌ يأتون إلى المقابر ينبشونها ويأخذون الأكفان، فقال هؤلاء: إذا خفت من هؤلاء فخرق اللفائف؛ لكي تفسدها عليهم، كما خرق الخضر السفينة؛ لئلا يأخذها الملك الظالم.
لكن الفقهاء المتأخرين قالوا: لا تخرق.
قوله: «وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز» .
بعد أن ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ المشروع في تكفين الرجل، وأنه يكفن في ثلاث لفائف بيض، كما كفن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) بيّن القدر المجزئ من ذلك. فقال: «وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة جاز» .
والقميص: هو الذي نلبسه، أي: الدرع ذو الأكمام.
والمئزر: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.
واللفافة: عامة. أي: إذا كفن في هذه فلا بأس، ولكن غالب ما يكفن به الناس اليوم اللفائف الثلاث؛ لأن القميص يحتاج إلى خياطة ومدة أو إلى تجهيز أقمصة تكون مهيئة عند الذين يغسلون الموتى ويكفّنونهم.
قوله: «وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين» .
قوله: «إزار» من حيث الإعراب بدل بعض من كل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (306) .(5/311)
والإِزار: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.
والخمار: ما يغطى به الرأس.
والقميص: الدرع ذو الأكمام.
واللفافتان: يعمان جميع الجسد.
وقد جاء في هذا حديث مرفوع (1) ، إلا أن في إسناده نظراً؛ لأن فيه راوياً مجهولاً، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل، أي: في ثلاثة أثواب يلف بعضها على بعض.
وهذا القول ـ إذا لم يصح الحديث ـ هو الأصح؛ لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام الشرعية، إلا ما دلّ الدليل عليه، فما دلّ الدليل على اختصاصه بالحكم دون الآخر، خص به وإلا فالأصل أنهما سواء.
وعلى هذا فنقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما دلّ عليه الدليل.
وَالْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَهُ.
قوله: «والواجب ثوب يستر جميعه» ، أي: الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت.
__________
(1) وهو ما روته ليلى الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أول ما أعطانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند الباب معه كفنها يناولنا ثوباً ثوباً» .
أخرجه الإمام أحمد (6/380) ؛ وأبو داود (3157) ؛ والبيهقي (4/6) وفي سنده نوح بن حكيم، وهو مجهول. وانظر: «نصب الراية» (2/258) .(5/312)
وقول المؤلف: «يستر جميعه» يدل على أنه لا بد أن يكون هذا الثوب صفيقاً بحيث لا ترى من ورائه البشرة، فإن رئيت من ورائه البشرة فإنه لا يكفي.
والدليل على أن هذا واجب: أن الصحابة الذين قصرت بهم ثيابهم عن الكفن «أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعل الكفن من عند الرأس ويجعل على الرجلين شيء من الإذخر» (1) ، وهو: نبات معروف.
فإذا لم يوجد شيء، مثل: أن يحترق بثيابه، ولم يوجد ثياب يكفن بها، فإنه يكفن بحشيش أو نحوه يوضع على بدنه ويلف عليه حزائم، فإن لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه؛ لعموم قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
__________
(1) أخرجه البخاري (3897) ؛ ومسلم (940) عن خباب رضي الله عنه.(5/313)
فَصْلٌ
السُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ الإِْمَامُ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَعِنْدَ وَسَطِهَا
قوله: «السنّة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها» ، لم يفصح المؤلف في هذا الفصل عن حكم الصلاة على الميت؛ لأنه ذكرها في أول الفصل في قوله: «غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، فرض كفاية» .
وعلى هذا فنقول: الصلاة على الميت فرض كفاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بالصلاة على الميت فقال في قصة الرجل الذي عليه الدين: «صلوا على صاحبكم» (1) .
وقال في الذي قتل نفسه بمشاقص: «صلوا على صاحبكم» (2) .
وقال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» (3) .
ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] .
فإن هذا يدل على أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان من هديه أن يصلي على الأموات.
فالصلاة على الميت فرض كفاية، وتسقط بمكلف، أي: لو صلّى عليه مكلف واحد ذكر، أو أنثى، فإن الفرض يسقط.
وقد يقال: كيف لا يوجد إلا رجل واحد أو امرأة واحدة؟
الجواب: هذا ممكن، مثل: أن يموت شخص في مكان
__________
(1) أخرجه البخاري (2295) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (978) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه الدارقطني (2/56) ؛ والطبراني في «الكبير» (13622) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(5/314)
مجهول، ولا يعلم عنه فيصلي عليه واحد من الناس فيكفي.
ومثل ذلك ما يسأل عنه بعض أهل البادية، يقولون: إنا كنا ندفن الأموات الصغار بدون صلاة؟.
فنقول لهم: يصلي واحد منكم على هؤلاء الذين دفنوا ويكفي، حتى لو صلت امرأة واحدة على أحد من الناس كفى؛ لأن فرض الكفاية يسقط بواحد.
واشترطنا أن يكون مكلفاً؛ لأن الصلاة على الجنازة فرض، والفرض لا يقوم به إلا المكلف.
وأمَّا كيفية الصلاة على الميت فبينها المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «السنّة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها» .
فيستحبُّ على هذا أن يقوم الإمام عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.
والصحيح أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره؛ لأن السنّة ثبتت بذلك (1) .
وعند وسطها، أي وسط المرأة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قام على امرأة ماتت في نفاسها عند وسطها» (2) .
والحكمة في ذلك: أن وسطها محل العجيزة والفرج، فكان الإمام عنده ليحول بين المأمومين وبين النظر إليها، هذه من الحكمة، والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد (3/118) ؛ وأبو داود (3194) ؛ والترمذي (1039) ؛ وابن ماجه (1494) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن» .
(2) أخرجه البخاري (1332) ؛ ومسلم (964) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.(5/315)
والوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة مستحب، فلو وقف عند الرجلين أجزأ، ولكن لو لم يكن الميت بين يدي الإمام لم يجزئ.
وقوله: «أن يقوم الإمام عند صدره» ، يفهم منه أن هذه الصلاة كغيرها من الصلوات يكون الإمام هو المتقدم والمأمومون خلفه، وقد جرت عادة كثير من الناس اليوم أن يقوم مع الإمام الذين قربوا الجنازة إلى الإِمام، فيقومون عن يمينه غالباً دون يساره، وأحياناً عن يمينه وعن يساره، وكل هذا خلاف السنة.
بل السنّة أن يتقدم الإمام، وأما الذين قدموا الجنازة إلى الإمام، فإن كان لهم محل في الصف الأول صفوا في الصف الأول، وإن لم يكن لهم محل صفوا بين الإمام وبين الصف الأول من أجل أن يتميز الإمام بمكانه، ويكون أمام المأمومين، ثم إن قدر أن المكان ضيق لم يتسع لوقوف الإمام وصف خلفه فإنهم يصفون عن يمينه وعن شماله وليس عن اليمين فقط؛ لأن صف المأمومين كلهم عن يمين الإمام خلاف السنّة أيضاً.
ودليل ذلك: أن السنّة أولاً إذا كانوا ثلاثة وقاموا جماعة فإن الإمام يكون بين الاثنين دلّ ذلك على أنه متى كان الصف مع الإمام فإنهم يكونون عن يمينه وعن يساره.
فإذا قال قائل: السنّة إذا كانوا ثلاثة أن يتقدم الإمام؟
قلنا: نعم، هذا هو الذي آل إليه الحكم أخيراً، والحكم الأول وهو الصف مع الإمام عن يمينه وشماله نسخ، لكن الذي نسخ من الحكم الأول هو كون الإمام بينهما، أما إذا كانوا لا بد أن يصفوا معه، فإن السنّة باقية، أي: أن يكونوا عن يمينه وعن شماله.(5/316)
تنبيه: لا يشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، فيجوز أن يكون عن يسار الإمام ويمينه. خلافاً لما يعتقد بعض العامة من أنه لا بد أن يكون عن يمينه.
وَيُكَبِّرُ أَرْبَعاً يَقْرَأُ فِي الأُْولَى بَعْدَ التَّعَوُّذِ الفَاتِحَةَ،...........
قوله: «ويكبّر أربعاً» التكبيرات عند الفقهاء هنا كلها أركان؛ لأنها بمنزلة الركعات، فكل تكبيرة عن ركعة.
والتكبيرات في الصلوات الأخرى، منها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو سنّة.
فالركن ـ في غير صلاة الجنازة ـ هي: تكبيرة الإحرام.
والسنّة هو: تكبيرة المسبوق إذا جاء والإمام راكع، فيكبّر تكبيرة الإحرام واقفاً، ثم يركع، والأفضل أن يكبّر للركوع وإن لم يكبر فلا حرج.
والواجب: ما عدا ذلك، هذا هو الراجح.
وذهب بعض العلماء: إلى أن التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام سنّة، وأن الرجل لو تعمد تركها لم تبطل صلاته، لكن ما ذكرناه هو ما مشى عليه أصحاب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ.
قوله: «يقرأ في الأولى بعد التعوّذ الفاتحة» ، أي: في التكبيرة الأولى بعد التعوّذ، أي: بعد قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقرأ الفاتحة.
ودليل التعوذ عموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *} [النحل] .
وعُلم من كلامه أنه لا استفتاح فيها.
وعلل العلماء القائلون بهذا: ـ بأن هذه الصلاة مبنية على(5/317)
التخفيف، ولهذا ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا قراءة مطولة زائدة على الفاتحة، بل ولا قراءة زائدة مطلقاً على قول بعض العلماء، ولا تشهّد، وليس فيها إلا تسليم واحد.
وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح؛ لأنها صلاة، فيستفتح لها كما يستفتح لسائر الصلوات.
وقوله: «بعد التعوذ الفاتحة» ، أفادنا ـ رحمه الله ـ: أن الفاتحة لا بد منها، وهو كذلك.
والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (1) ، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} فسماها الله صلاة، ولأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قرأ الفاتحة على جنازة، وقال: «لتعلموا أنها سنة» (2) .
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فِي الثَّانِيَةِ كالتَّشَهُّدِ، وَيَدْعُو فِي الثَّالِثَةِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا، وَشَاهِدنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرنا وَكَبِيرنَا، وَذَكَرنَا وأُنْثَانَا......
قوله: «ويصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الثانية كالتشهّد» ، أي: يصلي في التكبيرة الثانية «كالتشهّد» أي: كما يصلي عليه في التشهّد. والصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم في التشهّد هي: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
وإن اقتصر على قوله: «اللهم صلّ على محمد» كفى كما يكفي ذلك في التشهّد.
قوله: «ويدعو في الثالثة» أي: في التكبيرة الثالثة يدعو
__________
(1) سبق تخريجه (3/62) .
(2) أخرجه البخاري (1335) .(5/318)
بالدعاء المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاء دعا جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت، أي: يخصه بالدعاء.
والدعاء للميت: عام، وخاص، وقد ذكرهما المؤلف ـ رحمه الله ـ، فبدأ بالدعاء العام أوّلاً.
قوله: «فيقول: اللهم اغفر» ، أي: يا الله اغفر، والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، وليست ستر الذنب فقط، بل ستر وتجاوز، وهي مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند القتال؛ لأنه يتضمن ستراً ووقاية.
قوله: «لحينا وميتنا» ، أي: لحينا نحن المسلمين، وميتنا كذلك نحن المسلمين، وهذا عام؛ لأنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم فيشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والشاهد والغائب.
وإنما قلت هذا لتعتبر هذا فيما يأتي.
قوله: «وشاهدنا وغائبنا» ، هذا أيضاً عموم داخل في العموم الأول، والعموم الأول داخل فيه أيضاً أي: يشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والحي والميت.
قوله: «وصغيرنا وكبيرنا» كسابقه، فهو عام.
قوله: «وذكرنا وأُنثانا» كسابقه، فهو عام.
إذا قال قائل: لماذا التطويل والتفصيل؟
قلنا: لأن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط.
والسنّة في الدعاء أن تبسط وتطول لستة أسباب:(5/319)
الأول: أن إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي؛ لأن الإِنسان إذا أحب شيئاً أحب طول مناجاته، فأنت متصل بالله في الدعاء، فتطويلك الدعاء وبسطك له دليل على محبتك لمناجاة الله ـ عز وجل ـ.
الثاني: أن التطويل يظهر فيه من التفصيل ما يدل على شدة افتقار الإنسان إلى ربه في كل حال.
الثالث: أن ذلك أحضر للقلب.
الرابع: زيادة الأجر والتعبد لله تعالى؛ فالدعاء عبادة يؤجر عليها الإنسان.
الخامس: أن هذا من باب الإلحاح في الدعاء والله يحب الملحِّين في الدعاء.
السادس: أن بالتطويل في الدعاء قد يذكر شيئاً قد نسيه من الدعاء.
واعتبر هذا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، وأوله وآخره» (1) ، «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني» (2) ، «اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» (3) ، فهذا فيه تفصيل وعمومات، لكن فائدته ما أشرت إليه من قبل.
ولو قيل: إن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف؛ ولهذا لا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، فكيف نبسط في الدعاء ونطول؟
فالجواب: أن الدعاء هو مضمون الصلاة، فينبغي البسط
__________
(1) أخرجه مسلم (483) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم (771) عن علي رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (6399) عن أبي موسى رضي الله عنه.(5/320)
فيه، أما دعاء الاستفتاح فإنه لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يستفتح في صلاة الجنازة.
إِنَّكَ تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..........
قوله: «إنك تعلم منقلبنا ومثوانا» ، هذه الجملة تعليل لما سبق، أي: دعوناك بهذا الدعاء، لأننا نعلم أنك تعلم منقلبنا، أي: ما ننقلب إليه، ومثوانا، أي: ما نصير إليه؛ لأن المثوى والمصير معناهما واحد.
قوله: «وأنت على كل شيء قدير» تتمة للدعاء، ولكنها من زيادات بعض الفقهاء؛ لأنها لم ترد في الحديث الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ومعناها: أن الله قادر على كل شيء، قادر على أن يوجد المعدوم، وأن يعدم الموجود، وأن يغير الحال من حسن إلى أحسن أو من حسن إلى أردى، وهذه جملة عامة لا يستثنى منها شيء.
وقول صاحب تفسير الجلالين في قوله تعالى في سورة المائدة: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [المائدة] .
قال: «خصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر» ، فهذا القول منكر، وذلك؛ لأن قوله: «خص العقل ذاته» نقول: أين العقل الذي خصّ ذاته بأنَّهُ ليس قادراً عليها، أليس الله يفعل ما يريد؟!
والفاعل لما يريد يفعل بنفسه؛ فهو قادر على أن يفعل ما شاء وأن يدع ما شاء.
نعم الشيء الذي لا يليق بجلاله لا يمكن أن يكون متعلق القدرة؛ لأن أصل القدرة لا تتعلق به.
كما لو قال قائل: هل يقدر الله على أن يخلق مثله؟
نقول: هذا مستحيل؛ لأن المثلية ممتنعة، فلو لم يكن من(5/321)
انتفاء المماثلة إلا أن الثاني مخلوق والأول خالق.
والأول: واجب الوجود.
والثاني: ممكن الوجود.
ويذكر أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العباد، فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بالواحد من العلماء.
قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السموات في جوف بيضة؟
قال العابد: لا. وهذه غلطة كبيرة.
ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السموات في بيضة؟.
قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسموات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال: انظروا الفرق بين هذا وهذا.
فالمهم أنه يجب أن نطلق فنقول: إن الله على كل شيء قدير.
فإن قال قائل: عبارة ترد كثيراً عند الناس (إنه على ما يشاء قدير) هل هذا جائز؟.
قلنا: لا يجوز إلا مقيداً؛ لأنك إذا قلت: «إنه على ما يشاء قدير» أوهم أن ما لا يشاء لا يقدر عليه، وهو قادر على الذي يشاء والذي لا يشاء.
لكن إذا قُيِّدَتِ المشيئة بشيء معين صح، كقوله تعالى:(5/322)
{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] ، أي: إذا يشاء جمعهم فهو قادر عليه.
وكذلك في قصة الرجل الذي أدخله الله الجنة آخر ما كان فقال الله له: «إني على ما أشاء قادر» (1) ؛ لأنه يتعلق بفعل معين.
اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ والسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَيْهِما، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ،..........
قوله: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفه عليهما» ، هذه الصيغة لم ترد، والوارد: «اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» (2) .
فالوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى أن من أحياه الله يحييه على الإسلام والانقياد التام، ومن أماته فليتوفه على الإيمان.
والحكمة من ذلك: أن الاستسلام الظاهر حين الوفاة قد لا يتمكن الإنسان منه؛ لأنه منهك وفي آخر قواه، فكان الدعاء له بالإيمان في هذه الحال أبلغ؛ ولأن الإيمان هو اليقين، ووفاة الإنسان على اليقين أبلغ.
وأما الإسلام فإنه استسلام ظاهر بالعمل، ويكون من المؤمن حقاً، ومن ضعيف الإيمان، ومن المنافق أيضاً.
مسألة: الدعاء الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمحافظة عليه من الدعاء غير الوارد، وإن كان الأمر واسعاً.
قوله: «اللهم اغفر له وارحمه» ، هذا الدعاء الخاص، وبدأ
__________
(1) أخرجه مسلم (187) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (2/368) ؛ وأبو داود (3201) ؛ والترمذي (1024) ؛ وابن ماجه (1498) ؛ والحاكم (1/358) . وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.(5/323)
بالدعاء العام؛ لأنه أشمل، أما الخاص فهو خاص بالميت.
وقد وردت السنّة بكل من الدعاء العام والخاص، وقد قال العلماء: يجمع بينهما، لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أخلصوا له الدعاء» (1) فلا بد من تخصيصه بدعاء، وإن كان الدعاء العام يشمله.
والمغفرة: محو آثار الذنوب وسترها، والإنسان محتاج إلى ستر ذنوبه حياً وميتاً.
«وارحمه» أي: بحصول المطلوب.
ولهذا يجمع بين المغفرة والرحمة كثيراً؛ لأن بالمغفرة النجاة من المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَأَوْسِع مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ،......
قوله: «وعافه واعف عنه» ، أي: عافه مما قد يصيبه من السوء كعذاب القبر مثلاً.
«واعف عنه» أي: تجاوز عنه ما فرط فيه من الواجب في حال حياته.
فالعفو: التسامح والتجاوز عن مخالفة الأوامر.
والمعافاة: السلامة من آثام المحرم.
والمغفرة: محو آثار الذنوب بالمخالفة.
قوله: «وأكرم نزله» ، «نُزُلَهُ» : بالضم، ويقال: نُزْله بالسكون، وهو القِرى، أي: الإكرام الذي يقدم للضيف، والإنسان الراحل هو في الحقيقة قادم على دار جديدة، فتسأل الله أن يكرم نزله أي ضيافته.
قوله: «وأوسع مدخله» ، يقال: مَدخل، ومُدخل، بالفتح
__________
(1) أخرجه أبو داود (3199) ؛ وابن ماجه (1497) ؛ وابن حبان (3076) (3077) إحسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/324)
وبالضم، فبالفتح: اسم مكان، أي: مكان الدخول، وبالضم: الإدخال، وعلى هذا فالفتح أحسن، أي: أوسع مكان دخوله، والمراد به القبر، أي: أن الله يوسعه له؛ لأن القبر إما أن يضيق على الميت حتى تختلف أضلاعه ـ والعياذ بالله ـ وإما أن يوسع له مد البصر، فأنت تسأل الله أن يوسع مدخله.
قوله: «واغسله بالماء والثلج والبرد» ، الغسل بالماء: أي: استعمال الماء فيما تلوث، وما حصل فيه أذى؛ من أجل إزالة التلويث والأذى.
والمراد بالغسل هنا: غسل آثار الذنوب، وليس المراد أن يغسل شيئاً حسياً؛ لأن الغسل الحسي قد تم بالنسبة للميت قبل أن يكفن.
ولهذا قال: «بالماء، والثلج، والبرد» .
أورد بعض العلماء على هذا إشكالاً فقال:
إن الغسل بالماء الساخن أنقى، فلماذا قال: «بالماء، والثلج، والبرد» ؟.
والجواب عن ذلك: أن المراد غسله من آثار الذنوب، وآثار الذنوب نار محرقة، فيكون المضاد لها الماء والبرودة.
وقوله: «الثلج والبرد» الفرق بينهما: أن الثلج ما يتساقط من غير سحاب، فيتساقط من الجو مثل الرذاذ ويتجمد.
والبرد: يتساقط من السحاب ويسمى عند بعض أهل اللغة: حب الغمام؛ لأنه ينزل مثل الحب.(5/325)
وَنَقِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأبْدِلْهُ دَاراً خَيراً مِنْ دَارِهِ، وَزَوْجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ،...........
قوله: «ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» ، والوارد في الحديث، «ونقه من الخطايا» (1) .
والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما خالف فيها الصواب، سواء كان فعلاً للمحظور أو تركاً للمأمور.
وقوله: «من الذنوب» ، لو صح الحديث بلفظ: «الذنوب والخطايا» كما أورده المؤلف. لقلنا: الذنوب: الصغائر، والخطايا: الكبائر.
ولكن الحديث ورد بلفظ «الخطايا» فقط.
وبناء عليه نقول: «الخطايا» هنا تشمل: الصغائر، والكبائر.
وقوله: «كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» ، هذا التشبيه لقوة التنقية، أي: نقه نقاء كاملاً، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وخص الأبيض؛ لأن ظهور الدنس على الأبيض أبين من ظهوره على غيره.
قوله: «وأبدله داراً خيراً من داره» الدار الأولى دار الدنيا، والثانية دار البرزخ، وهناك دار ثالثة وهي دار الآخرة.
قوله: «وأبدله داراً خيراً من داره» يشمل الدارين؛ دار البرزخ، ودار الآخرة.
قوله: «وزوجاً خيراً من زوجه» ، أي: سواء كان المصلى عليه رجلاً أم امرأة.
__________
(1) أخرجه مسلم (963) .(5/326)
وهناك إشكال؛ لأنه إن كان المصلى عليه رجلاً، وقلنا: «أبدله زوجاً خيراً من زوجه» ، فهذا يقتضي أن الحور خير من نساء الدنيا، وإن كان امرأة فإننا نسأل الله أن يفرق بينها وبين زوجها، ويبدلها خيراً منه. فهذان إشكالان؟
أما الجواب عن الأول: «أبدله زوجاً خيراً من زوجه» ، فليس فيه دلالة صريحة على أن الحور خير من نساء الدنيا؛ لأنه قد يكون المراد خيراً من زوجه في الأخلاق، لا في الخيرية عند الله ـ عز وجل ـ.
وبهذا الجواب يتضح الجواب عن الإشكال الثاني، فنقول: إن خيرية الزوج هنا ليست خيرية في العين، بل خيرية في الوصف، وهذا يتضمن أن يجمع الله بينهما في الجنة؛ لأن أهل الجنة ينزع الله ما في صدورهم من غل، ويبقون على أصفى ما يكون، والتبديل كما يكون بالعين يكون بالصفة، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] .
فالأرض هي الأرض بعينها، لكنها اختلفت، وكذلك السموات.
فإن قيل: إذا كان الميت لم يتزوج فكيف تقول: «وزوجاً خيراً من زوجه» ؟.
فنقول: المراد زوجاً خيراً من زوجه لو تزوج.
وفي الحديث: زيادة «وأهلاً خيراً من أهله» (1) ، لكن حذفها المؤلف ـ رحمه الله ـ.
__________
(1) سبق تخريجه ص (326) .(5/327)
وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ،..........
قوله: «وأدخله الجنة» هي: دار المتقين، كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *} [آل عمران] .
قوله: «وأعذه من عذاب القبر» لأن القبر فيه عذاب، ولكن الله تعالى قد يقي الإنسان عذابه إذا ألح على الله بالدعاء كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» (1) .
ولهذا أمر أن يتعوذ الإنسان في كل صلاة إذا تشهد التشهد الأخير، من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال (2) .
قوله: «وعذاب النار» معروف.
فإن قال قائل: أليس إدخال الجنة يغني عن سؤال أن يعيذه الله من عذاب القبر، وعذاب النار؟
الجواب: لا، فإن الإنسان قد يدخل الجنة بعد أن يعذب في القبر، وبعد أن يعذب بالنار، فأنت تسأل الله أن تدخل الجنة نقياً من عذاب سابق، لا في القبر ولا في النار.
وقوله: «اللهم اغفر له» الضمير للمفرد المذكر، فإذا كان الميت أنثى، فهل نقول: اللهم اغفر له، أو نقول: اللهم اغفر لها بالتأنيث؟
الجواب: بالتأنيث؛ لأن ضمير الأنثى يكون مؤنثاً، فنقول: اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها، واعف عنها..... إلى آخر الدعاء.
__________
(1) سبق تخريجه (3/174) .
(2) سبق تخريجه (3/200) .(5/328)
فإن قيل: الحديث ورد بالتذكير فكيف نؤنث الضمير إذا كان الميت أنثى؟
فالجواب: أن هذا الحديث ورد في الدعاء لميت ذكر، ولو أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا صليتم على الميت فقولوا: اللهم اغفر له ... إلخ» لتوجه عدم التأنيث، فنأخذ بالنص ونؤوله على ما يناسب الحال.
وإن كان المقدم اثنين تقول: اللهم اغفر لهما ...
وإن كانوا جماعة تقول: اللهم اغفر لهم.
وإن كن جماعة إناث تقول: اللهم اغفر لهن.
وإن كانوا من الذكور والإناث، فيغلب جانب الذكورية، فتقول: اللهم اغفر لهم، فالضمير يكون على حسب من يدعى له.
ونظير هذا من بعض الوجوه حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في دعاء الغمّ: «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك....» (1) .
والمرأة تقول: «اللهم إني أمتك بنت عبدك بنت أمتك....» .
وإن كان الإنسان لا يدري هل المقدم ذكر أو أنثى، فهل يؤنِّث الضمير أو يذكِّرُه؟.
الجواب: يجوز هذا وهذا، باعتبار القصد، فإن قلت: اللهم اغفر له، أي: لهذا الشخص، أو للميت، وإن قلت: اللهم اغفر لها، أي: لهذه الجنازة.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/391، 452) ؛ وابن حبان (972) إحسان؛ والحاكم (1/509) عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ وحسّنه ابن القيم في «شفاء العليل» ص (274) .(5/329)
وافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . وَإِنْ كَانَ صَغِيراً قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعلْهُ ذُخْراً لِوَالِدَيْهِ، وَفَرَطاً، وأَجْراً، وَشَفِيعاً مُجَاباً،..........
قوله: «وافسح له في قبره» أي: وسع له؛ لأن الفسحة السعة، وهذا التوسيع ليس توسيعاً محسوساً بحيث يكون قبره متسعاً يملأ المقبرة، لكنه فَسْحٌ غير محسوس إحساساً دنيوياً؛ لأنه من أحوال الآخرة.
وكما ترون في المنام أن الإنسان يرى أنه في مكان فسيح، وفي نخيل، وأشياء تبهج نفسه، وهو لا يزال في فراشه، فعذاب القبر يشبه من بعض الوجوه ما يراه النائم، وإن كان أشد منه في كونه حقيقة.
وإنما قلنا ذلك؛ لئلا يورد علينا مورد بأن الناس في قبورهم لا تتسع القبور أكثر مما هي عليه في الواقع؟
فنقول له: هذا أمر غيبي، وليس أمراً حسياً معروفاً.
قوله: «ونور له فيه» ، أي: اجعل له فيه نوراً.
قال في الروض: «ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت» ، وهذا فيه نظر!!
قوله: «وإن كان صغيراً قال....» ، هذا فيه بيان صيغة الدعاء للصغير إذا صلي عليه.
ولكن هل ثبت هذا الدعاء بهذه الصيغة للصغير؟
الجواب: لا، لم يثبت بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويدعى لوالديه (1) .
__________
(1) لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والطفل يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» .
أخرجه الإمام أحمد (4/247،248، 249، 252) ؛ وأبو داود (3180) ؛ والترمذي (1031) ؛ والنسائي (4/55) ؛ وابن ماجه (1481) ؛ والبيهقي (4/8، 24، 25) . وقال الترمذي: «حسن صحيح» . وقوله: «ويدعى لوالديه» تفرد به البيهقي.(5/330)
ولكن العلماء ـ رحمهم الله ـ استحسنوا هذا الدعاء.
قوله: «اللهم اجعله ذخراً لوالديه» الذخر: بمعنى المذخور، أي: أنها مصدر، بمعنى اسم المفعول، أي: مذخوراً لوالديه يرجعان إليه عند الحاجة.
قوله: «وفرطاً» الفرط: السابق السالف، وهنا إشكال كيف نقول: إنه فرط لوالديه إذا كانا قد ماتا قبله؟
فيقال: إنه فرط لوالديه في الآخرة يتقدمهما؛ ليكون لهما أجرهُ.
قوله: «وأجراً» أي: اجعله لهما أجراً، وهذا ظاهر فيما إذا كانا حيَّين؛ لأنهما سوف يصابان به؛ فإذا أصيبا به فصبرا على هذه المصيبة صار أجراً لهما. أما إذا كانا ميتين، فلا يظهر هذا، لكن لعل الفقهاء ذكروا هذا بناء على الأغلب.
قوله: «شفيعاً» الشفيع: بمعنى الشافع، كالسميع بمعنى السامع.
والشفيع: هو الذي يتوسط لغيره بجلب منفعة، أو دفع مضرة. وسُمي شفيعاً؛ لأنه يجعل المشفوع له اثنين بعد أن كان وتراً، فصار بضم صوته إلى صوت المشفوع له شفيعاً له.(5/331)
قوله: «مجاباً» لأن الشفيع قد يجاب، وقد لا يجاب، فسأل الله أن يكون شفيعاً مجاباً.
اللَّهُمَّ ثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا،..........
قوله: «اللهم ثقل به موازينهما» أي: موازين الأعمال، وذلك في كونه أجراً لهما؛ لأنه كلما كان أجراً ثقلت به الموازين.
والموازين: جمع ميزان، وهو: ما توزن به أعمال العباد يوم القيامة.
واختلف العلماء هل هو ميزان حقيقي أو كناية عن إقامة العدل؟
فذهبت المعتزلة إلى أنه كناية عن إقامة العدل، وأنه ليس هناك ميزان حسي.
والصواب أنه ميزان حسي لحديث صاحب البطاقة «أن ذنوبه تُجعل في كفة، ولا إله إلا الله في كفة» (1) ، وهو ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان» (2) ، فهو ميزان له كفتان، ولكن هاتين الكفتين لا نعلم كيفيتهما؛ لأن ذلك من أمور الغيب التي لم نعلم عنها.
وهل الذي يوزن العمل، أو العامل، أو صحائف العمل؟
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/213، 221) ؛ والترمذي (2639) ؛ وابن ماجه (4300) ؛ وابن حبان (225) إحسان، والحاكم (1/6، 529) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري (6682) ؛ ومسلم (2694) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/332)
على أقوال ثلاثة للعلماء:
القول الأول: أن الذي يوزن العمل.
القول الثاني: أن الذي يوزن العامل.
القول الثالث: أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
وذلك لاختلاف النصوص في ذلك.
فحجة من قال: إن الذي يوزن العمل ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *} [الزلزلة] .
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان» .
وحجة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف: 105] .
2 ـ حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: لما قام فهبت الريح فضحك الناس منه؛ لأنه ـ رضي الله عنه ـ دقيق الساقين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ساقيه في الميزان أعظم من أُحد» (1) .
وحجة من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال: حديث صاحب البطاقة «الذي يؤتى له بسجلات عظيمة كلها ذنوب، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قيل له: إن لك عندنا حسنة واحدة فيؤتى ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/420) ؛ وابن أبي شيبة (12/113) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(5/333)
هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توضع البطاقة في كفة، وبقية الأعمال في كفة، فترجح بهنَّ وتميل» (1) .
فيجاب: إن حقيقة هذا وزن الأعمال؛ لأن الصحائف إنما تثقل وتخف بما فيها من العمل.
وقد يقال: إن الأكثر وزن الأعمال، وقد توزن صحائف الأعمال.
ولكن الراجح والذي عليه الجمهور أن الذي يوزن العمل.
وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا، وَأَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ المُؤْمِنِينَ، وَاجْعَلْهُ فِي كَفَالَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَقِهِ بِرَحْمَتِكَ عَذَابَ الْجَحِيمِ» .
قوله: «وأعظم به أجورهما» ، أي: اجعل أجورهما عظيمة، وهنا إشكال نحوي حيث قال: «أجورهما» مع أن المضاف إليه مثنى أي لم يقل: عظم به أجريهما؟
والجواب على هذا: أن الأفصح في اللغة العربية إذا أضيف إلى المثنى أن يؤتى بالجمع، ثم الإِفراد، ثم التثنية، إلا أن يكون هناك حاجة؛ لأن يؤتى بالتثنية، أو الإفراد، أو الجمع، قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، مع أنه ليس لهما إلا قلبان، كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ، ولم يقل فقد صغى قلباكما، ولم يقل: فقد صغى قلبكما؛ لأن الأفصح الجمع.
قوله: «وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم» ، أي: بصغار المؤمنين الذين سلفوا، وذلك أن الصغار
__________
(1) سبق تخريجه ص (332) .(5/334)
من الولدان يكونون في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ حينما عُرج به ـ عند إبراهيم وسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء ولدان المؤمنين (1) ؛ ولهذا قال: «واجعله في كفالة إبراهيم» .
قوله: «وقه برحمتك عذاب الجحيم» ، «قه» من الوقاية، أي: اجعله سالماً من عذاب الجحيم.
«برحمتك» من باب التوسل بصفة الله ـ عز وجل ـ.
لكن كيف يقول: «قه برحمتك عذاب الجحيم» ، وهو صغير لم يبلغ، فليس عليه عذاب؟
قال بعض العلماء: ما من إنسان إلا ويلج النار، ومن ذلك الصغار؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *} [مريم] ، فيكون هذا دعاء لهذا الصبي أن يقيه الله عذاب الجحيم إذا عرض عليها يوم القيامة.
وَيَقِفُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ قَلِيلاً، وَيُسَلِّمُ وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.....
قوله: «ويقف بعد الرابعة قليلاً» أي: يقف قليلاً؛ ليتميز التكبير من السلام، أو من أجل أن يتراد إليه نفسه.
وقوله: «يقف قليلاً» ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة.
واختار بعض الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أنه يدعو بقوله: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله» .
__________
(1) أخرجه البخاري (1386) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.(5/335)
وقال بعضهم يدعو بقوله: «ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» ؛ لأن هذا الدعاء تختم به الأدعية، ولهذا جعله النبي صلّى الله عليه وسلّم في نهاية كل شوط من الطواف، حيث يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار» (1) .
والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك.
قوله: «ويسلم واحدة عن يمينه» وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن عن اليمين أفضل.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسن الزيادة على تسليمة واحدة وهو المذهب.
والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/411) ؛ وأبو داود (1892) ؛ وابن حبان (3826) إحسان؛ والحاكم (1/455) ؛ والبيهقي (5/84) عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم» ووافقه الذهبي.
(2) لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ثلاث خلال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعلهن تركهن الناس إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة» .
أخرجه البيهقي (4/34) ؛ وقال النووي في «المجموع» (5/239) : «إسناده جيد» .(5/336)
والذين قالوا: إنه يسلم واحدة استدلوا:
1 ـ بأثر في صحته نظر (1) .
2 ـ بالمعنى: أن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، والتسليمة الواحدة أخف.
لكن لو سلم مرتين، فلا حرج، ولا ينكر عليه.
وكذلك إذا سلم الإمام تسليمة واحدة فللمأموم أن يسلم تسليمتين لأنه لا يتحقق به المخالفة.
قوله: «ويرفع يديه مع كل تكبيرة» ، «ويرفع» الضمير يعود على المصلي، أي: يرفع يديه مع كل تكبيرة على صفة ما يرفعهما في صلاة الفريضة، أي: يرفعهما حتى يكونا حذو منكبيه، أو حذو فروع أذنيه.
وقوله: «مع كل تكبيرة» ، هذا هو القول الصحيح والدليل على ذلك ما يلي:
1 ـ ورود السنة بذلك (2) ، بسند جيد، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ، وأعله الدارقطني بعمر بن شيبة (3) ، لكن قال الشيخ عبد العزيز: إن عمر ثقة، والزيادة من الثقة عند علماء الحديث مقبولة، إذا لم تكن منافية وهنا لا تنافي؛
__________
(1) وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى على جنازة فكبّر عليها أربعاً، وسلّم تسليمة واحدة» .
أخرجه الدارقطني (2/72، 77) ؛ والحاكم (1/360) ؛ والبيهقي (4/43) . وقال النووي في «الخلاصة» (2/982) : «غريب الإسناد» .
(2) أخرجه الدارقطني في «علله» كما في «نصب الراية» (2/285) .
(3) «نصب الراية» (2/285) .(5/337)
لأن المسكوت عنه ليس كالمنطوق، ولا منافاة إلا إذا تعارض منطوقان، أما إذا كان أحدهما ناطقاً والثاني ساكتاً فلا معارضة؛ لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم.
2 ـ أنه صح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ موقوفاً (1) ، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يثبت بالاجتهاد.
ولو قيل: لعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قاس ذلك على غيرها من الصلوات؟
فالجواب: أن الصلوات الأخرى ليس فيها رفع في كل تكبيرة، كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر نفسه.
3 ـ أن المعنى يقتضيه؛ لأنه إذا حرك يديه اجتمع في الانتقال من التكبيرة الأولى قول وفعل، كسائر الصلوات، فإن الصلوات يكون مع القول فعل إما ركوع، أو سجود، أو قيام، أو قعود، فكان من المناسب أن يكون مع القول فعل، ولا فعل هنا يناسب إلا رفع اليدين؛ لأن الركوع والسجود متعذران فيبقى رفع اليدين.
وحينئذٍ يكون رفع اليدين في كل تكبيرة مؤيداً بالأثر، والنظر.
وقوله: «مع كل تكبيرة» ، سبق في كتاب الصلاة أنه: إن شاء ابتدأ رفع اليدين مع ابتداء التكبير، وإن شاء إذا كبر رفع، وإن شاء رفع ثم كبر.
__________
(1) ذكره البخاري تعليقاً (3/226) ، ووصله في جزء رفع اليدين في الصلاة (105) ؛ والشافعي في «المسند» (585) ترتيب، وعبد الرزاق (6360) ؛ وابن أبي شيبة (3/296) ؛ والبيهقي (4/44) .(5/338)
وَوَاجِبُهَا: قِيَامٌ، وَتَكْبِيرَاتٌ أَرْبَعٌ،...........
قوله: «وواجبها: قيام» أي: ما يجب فيها، وليس المراد الواجب الاصطلاحي الذي هو قسيم الركن أو الشرط، بل المراد بالواجب هنا: ما يجب فيها فلا ينافي ذلك أن يكون ركناً، كما نقول: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة.
فقوله: «وواجبها» ليس قسيم أركانها؛ لأن هذا الذي ذكره المؤلف أركانها.
وقوله: «قيام» ، أي: واجب إذا كانت فريضة، وعلى هذا فإذا أعيدت صلاة الجنازة مرة ثانية كان القيام في المرة الثانية سنة، وليس بواجب؛ لأن الصلاة المعادة ليست فريضة.
قوله: «وتكبيرات أربع» أي: أركان؛ لأن كل تكبيرة منها كالركعة.
وقوله: «أربعٌ» أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد. لكن الثابت في صحيح مسلم إلى خمس (1) ، ففيه أن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ «صلى على جنازة فكبر عليها خمساً، وأخبر أن ذلك من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، ولهذا ينبغي للأئمة أحياناً أن يكبروا على الجنازة خمس مرات إحياءً للسنة، وسيقول بعض الناس: إن إمامنا نسي فزاد خامسة، لكن إذا فعلها مرة بعد مرة، وبين للناس أن هذا من السنة فذلك حسن.
مسألة: إذا كبرنا خمساً، فماذا نقول بعد الرابعة والخامسة؟
__________
(1) أخرجه مسلم (957) عن زيد رضي الله عنه.(5/339)
الجواب: لا أعلم في هذا سنة، لكنني إذا أردت أن أكبر خمساً جعلت بعد الثالثة الدعاء العام، وبعد الرابعة الدعاء الخاص بالميت، وما بعد الخامسة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة] ، ولهذا قد يعرف النبيه أنني أريد أن أكبر خمساً، إذا صار الدعاء بعد الثالثة قصيراً.
وَالْفَاتِحَةُ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَدَعْوَةٌ لِلْمَيِّتِ، وَالسَّلاَمُ. .....
قوله: «والفاتحة» ، قراءة الفاتحة ركن؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (1) .
وقرأ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الفاتحة، وجهر بها، وقال: «ليعلموا أنها سنة» (2) ، أي: أنها مشروعة، وليس المعنى إن شئت فاقرأها وإن شئت فلا تقرأها.
ولا وجه لمن قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ مع عموم الحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وهذه صلاة بدلالة الكتاب والسنة.
وإذا انتهى المأموم من قراءة الفاتحة قبل تكبير الإمام للثانية فإنه يقرأ سورة أخرى؛ لأن ذلك قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (3) .
قوله: «والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم» ، أي: من واجبات الصلاة على الميت، وهو ركن على المشهور من المذهب، وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلوات.
__________
(1) سبق تخريجه ص (318) .
(2) سبق تخريجه ص (318) .
(3) أخرجه النسائي (4/74) عن طلحة بن عبد الله قال: «صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: سنة وحق» .(5/340)
أما إذا قلنا: بأنها ليست ركناً في الصلوات فهي هنا ليست بركن، لكن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا المقام لها شأن (1) ؛ لأن الفاتحة ثناء على الله، والصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة عليه، والثالثة دعاء فينبغي للداعي أن يقدم بين يديه الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
ولم يبين هنا كيفيته، ولكنه بين فيما سبق أنها كالتشهد، ويكفي أن يقول: اللهم صلِّ على محمد.
قوله: «ودعوة للميت» ، هذا من الأركان أيضاً؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (2) ؛ ولأن هذا هو لبُّ هذه الصلاة، فأصل الصلاة على الميت إنما كانت للدعاء له.
قوله: «والسلام» أي: ركن، لكنه يكفي فيه تسليمة واحدة، كما سبق ذكره.
ودليله: قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «كان يختم الصلاة بالتسليم» (3) ، وهذا وإن لم يكن ظاهراً في عموم صلاة الجنازة،
__________
(1) لما رواه أبو أمامة بن سهل أنه أخبره رجال من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة على الجنازة: «أن يكبّر الإمام، ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات الثلاث ... » .
أخرجه الحاكم (1/360) ؛ والبيهقي (4/39) وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود (3199) ؛ وابن ماجه (1497) ؛ وابن حبان (3076) إحسان؛ والبيهقي (4/40) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه (3/211) .(5/341)
لكن يصح أن يكون متمسكاً؛ ولأنها عبادة افتتحت بالتكبير، فتختتم بالتسليم كالصلاة المفروضة.
والترتيب بين أركان صلاة الجنازة واجب فيبدأ بالفاتحة، ثم الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم الدعاء؛ فلا يقدم بعضها على بعض. وكذلك تكميل التكبيرات الأربع؛ فإن سلم من ثنتين ساهياً أكمل مع القرب، وأعاد مع البعد.
وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَضَاهُ عَلَى صِفَتِهِ.
قوله: «ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته» ، أي على صفة ما فاته؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما فاتكم فأتموا» (1) .
ويستفاد من قول المؤلف: «شيء من التكبير» ، أن التكبيرة بمنزلة الركعة.
مسألة: إذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة هل يقرأ الفاتحة، أو يدعو للميت؛ لأن هذا مكان الدعاء؟
الجواب: الظاهر لي: أنه يدعو للميت، حتى على القول بأن أول ما يدركه المسبوق أول صلاته، فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأننا لو قلنا لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة، ثم كبر الإمام للرابعة، وقلنا: صلِّ على النبي ثم حملت الجنازة فاته الدعاء له.
وقول المؤلف: «ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته» ، ظاهره: الوجوب.
وظاهره أيضاً: أنه يقضيه، سواء أخشي حمل الجنازة أم لم يخش.
__________
(1) سبق تخريجه (4/368) .(5/342)
ووجه ذلك: أنه إذا قدر أن الجنازة رفعت قبل أن يتم، فإنه يدعو لها ولو في غيبتها للضرورة.
ولكن قيده الأصحاب ـ رحمهم الله ـ فقالوا: «ما لم يخش رفعها» ، أي: إذا خشي الرفع تابع وسلَّم.
والغالب في جنائزنا أنها ترفع ولا يتأخرون فيها حتى يقضي الناس، وعلى هذا فيتابع التكبير ويسلِّم.
ومع هذا قالوا: «وله أن يسلم مع الإمام» ؛ لأن الفرض سقط بصلاة الإمام، فما بعد صلاة الإمام يعتبر نافلة، والنافلة يجوز قطعها.
وقيل: بل يقضيها على صفتها، والدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (1) ، فيلزم من هذا أن يتمه على صفته.
إذاً أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالات:
الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «ما فاتكم فأتموا» (2) .
الثانية: أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير، وإن لم يدع إلا دعاء قليلاً للميت.
الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير.
وعلته: أن الفرض سقط بصلاة الإمام، فكان ما بقي مخيراً فيه.
__________
(1) و (2) سبق تخريجه (4/368) .(5/343)
ومع هذا فليس هناك نص صحيح صريح في الموضوع؛ أعني سَلاَمَهُ مَعَ الإمام، أو متابعته التكبير بدون دعاء، لكنَّهُ اجتهاد من أهل العلم رحمهم الله.
وَمَنْ فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى عَلَى القَبْرِ وَعَلَى غَائِبٍ بِالنِّيَّةِ إِلَى شَهْرٍ...........
قوله: «ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر» ، أي: يصلي على القبر إن كانت دفنت، وإلا صلى عليها ولا ينتظر؛ لأن الصلاة على القبر إنما تكون للضرورة إذا لم يمكن حضور الميت بين يديه.
ودليل ذلك: قصة المرأة التي كانت تقمُّ المسجد، أي ترفع قمامته وتنظفه، فماتت ليلاً، ولم يؤذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك تحقيراً لشأنها؛ ولئلا يشق على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما سأل عنها أخبروه أنها ماتت فقال: «هلاَّ كنتم آذنتموني، ـ أي: أخبرتموني ـ، فقال: دلوني على قبرها فخرج بنفسه عليه الصلاة والسلام وصلى على قبرها» (1) .
وفي هذا من عناية الرسول عليه الصلاة والسلام بأهل الخير ما هو ظاهر، إذ ليس لها عمل إلا أنها تقم المسجد، مع أنها امرأة سوداء.
وفيه عناية الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمساجد، كما جاء في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب» (2) .
وفيه تواضع النبي صلّى الله عليه وسلّم للخروج إلى قبرها ليصلي عليه، وإلا فبإمكانه أن يدعو لها في مكانه.
__________
(1) أخرجه البخاري (458) ؛ ومسلم (956) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (70) .(5/344)
وفيه تعظيم شأن هذه المرأة السوداء، والشكر لها على عملها.
مسائل:
الأولى: يصلى على القبر صلاة الجنازة المعروفة، إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة.
الثانية: لو سقط شخص في بئر ولم نستطع إخراجه، فيصلى عليه فيها ثم تطم البئر، ويسقط تغسيله، وتكفينه لعدم القدرة على ذلك.
الثالثة: إذا اجتمعت عدة قبور لم يصل عليها؛ فإن كانت كلها بين يديه فيصلى عليها جميعاً صلاة واحدة. وإلا فيصلى على كل قبر.
قوله: «وعلى غائب بالنية» ، لأن الغائب ليس بين يديه حتى ينوي الصلاة على شيء مشاهد، ولكن يصلي بالنية.
وقوله: «غائب» أي: غائب عن البلد، ولو دون المسافة، أما من في البلد فلا يشرع أن يصلي عليه صلاة الغائب، بل المشروع أن يخرج إلى قبره ليصلي عليه.
ولهذا يخطئ بعض الجهال الذين يصلون على الميت في أطراف البلد وهو ميت في بلده، فإن هذا خلاف السنة، فالسنة أن تخرج إلى القبر وتصلي عليه.
قوله: «إلى شهر» ، أي: يصلى على الغائب، وعلى القبر إلى نهاية شهر.(5/345)
والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلى على قبر إلى شهر» (1) .
ولكن كون الرسول عليه الصلاة والسلام صلى على قبر له شهر لا يدل على التحديد؛ لأن هذا فعل وقع اتفاقاً ليس مقصوداً، وما فعل اتفاقاً فليس بدليل اتفاقاً؛ لأنه لم يقصد.
وخلاف الأصحاب في هذه المسألة لا يقدح في هذه القاعدة؛ لأنهم يخالفون في كونه وقع اتفاقاً، ويقولون: بل وقع قصداً.
والصحيح: أنه يُصلى على الغائب، ولو بعد شهر، ونصلي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر.
إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة.
مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.
مثال آخر: رجل مات قبل ثلاثين سنة، فخرج إنسان وله عشرون سنة ليصلي عليه فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوماً عندما مات الرجل، فليس من أهل الصلاة عليه.
ومن ثم لا يشرع لنا نحن أن نصلي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/78) . وانظر: «التلخيص الحبير» (253) .(5/346)
علمنا أن أحداً من الناس قال: إنه يشرع أن يصلي الإنسان على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو.
وقوله: «وعلى غائب» أطلق فيشمل كل غائب؛ رجلاً كان أو امرأة، شريفاً أو وضيعاً، قريباً أو بعيداً، فتصلي على كل غائب.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يصلى على كل غائب، ولو صلى عليه آلاف الناس.
وبناء على هذا القول اتخذ بعض العلماء عملاً لا يشك أحد في أنه بدعة، فقال: إذا أردت أن تنام فصلِّ صلاة الجنازة على كل من مات في اليوم والليلة من المسلمين تؤجر أجراً كثيراً، فقد يكون مات في هذه الليلة آلاف فيكون لك أجر آلاف الصلوات.
ولكن هذا القول لا شك أنه بدعة؛ لأن أعلم الناس بالشرع، وأرحم الناس بالخلق، وأحب الناس أن ينفع الناس الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، ولا فعله خلفاؤه الراشدون، ولا علم عن أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي: منفعة، كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له ورداً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله.(5/347)
وهذا قول وسط اختاره كثير من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين.
القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصلَّ عليه. حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، فإنه لا يصلى عليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
واستدل لذلك: بأن الصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة لا تشرع إلا من الكتاب والسنة، ولم يحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلى على غائب إلا على النجاشي؛ لأنه مات بين أمة مشركة، ليسوا من أهل الصلاة، وإن كان أحد منهم آمن، فلا يعرف عن كيفية الصلاة شيئاً. فأخبر به النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليوم الذي مات فيه، وهو في الحبشة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة وقال: «إنه مات عبد لله صالح» ، وفي بعض الروايات: «إن أخاً لكم قد مات ثم أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى» (1) ، فالاستدلال بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على النجاشي لا يصح؛ لأنه لا يصح الاستدلال بالأخص على الأعم، لكن يستدل بالأعم على الأخص؛ لأن العام يشمل جميع أفراده، فقضية النجاشي قضية خاصة، وليست لفظاً عاماً.
قوله: (أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى) : إما مصلى الجنائز؛ لأنه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان للجنائز مصلى خاص، وإما مصلى العيد، والحديث محتمل للقولين، وبكل من القولين قال بعض العلماء.
__________
(1) أخرجه البخاري (1245) ؛ ومسلم (951) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/348)
فمن قال: إن المراد مصلى العيد قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك إظهاراً لشرف هذا الرجل، ورداً لجميله؛ لأنه آوى الصحابة الذين هاجروا إليه، وكونه يصلى عليه في مصلى العيد أظهر.
وقال بعض العلماء: المراد مصلى الجنائز؛ لأن «أل» للعهد، وهذه صلاة جنازة، فتحمل على المعهود في صلاة الجنازة، وهو مصلى الجنائز.
المهم: أنه لم يحفظ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه صلى على جنازة غائبة غير النجاشي، ولا عن الصحابة، مع أنه لا شك أنه يموت العظماء وذوو الغناء في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عهد الخلفاء الراشدين.
وهذا القول أقرب إلى الصواب.
وقوله: «إلى شهر» ، أي: وبعد الشهر لا يصلى عليه إن صلي عليه، فإن كان لم يصلَّ عليه صلينا عليه، ولو بعد سنين.
وهذه مسألة تقع كثيراً في البادية في زمن الجهل، فقد يموت عندهم الرجل ويدفنونه بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة. ثم يأتون الآن يسألون عن هذا، فالواجب أن يصلى عليه كما سبق.
وَلاَ يُصَلِّي الإِمَامُ عَلَى الغَالِّ وَلاَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ،..............
قوله: «ولا يصلي الإمام على الغال» ، إذا أطلق الفقهاء الإمام فالمراد به: الإمام الأعظم، أي: رئيس الدولة فلا يصلي على الغال.(5/349)
والغال: هو من كتم شيئاً مما غنمه في الجهاد.
مثاله: أن يغنم مع المجاهدين شيئاً، ويكتمه يريد أن يختص به لنفسه، فهذا قد فعل إثماً عظيماً ـ والعياذ بالله ـ وأتى كبيرة من كبائر الذنوب. قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] . فسوف يأتي بما غله حاملاً إياه على رقبته يوم القيامة، خزياً وعاراً وفضيحة.
ولما كانت المسألة كبيرة ومتعلقة بعموم المسلمين، امتنع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي على الغال، نكالاً لمن يأتي بعده. ولا تسقط الصلاة عن بقية المسلمين، فيجب عليهم أن يصلوا عليه.
ودليل ذلك: ما روى زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم، قال: إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين» (1) .
قوله: «ولا على قاتل نفسه» ، أي: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه نكالاً لمن بقي بعده؛ لأن قاتل نفسه ـ والعياذ بالله ـ أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وسوف يعذب في جهنم بما قتل به نفسه. فإن قتلها بخنجر ففي يده خنجر في نار جهنم يطعن به نفسه. وإن قتلها بسُم ففي فمه سم يتحسَّاه في النار، وإن
__________
(1) أخرجه أبو داود (2710) ؛ والنسائي (1961) ؛ وابن ماجه (2848) .(5/350)
قتلها بالتردي من أعلى جبل، أو جدار، أو ما أشبه ذلك فكذلك يعذب به في نار جهنم، كما جاء ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
وكثير من الناس غير المسلمين إذا ضاقت به الدنيا قتل نفسه والعياذ بالله ـ فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ عجل العقوبة لنفسه ـ والعياذ بالله ـ؛ لأنه يعذب من حين أن يموت.
ودليل ذلك: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» (2) .
ولكن هل يصلي عليه بقية الناس؟
الجواب: نعم، يصلي عليه بقية الناس؛ لأنه مسلم لا يكفر، وإن كان يخلد في النار إلى أن يشاء الله.
ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يعدى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قاضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟
فالجواب: نعم يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغال، ولا على قاتل نفسه.
مسألة: هل يلحق بالغال، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟
__________
(1) أخرجه مسلم (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (314) .(5/351)
الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق.
والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه؛ لأن الشرع إذا جاء في العقوبة على جرم من المعاصي، فإنه يلحق به ما يماثله، أو ما هو أشد منه.
فإذا كان الذي غلَّ هذا الشيء اليسير لم يصل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فما بالك بمن يقف للمسلمين في الطرق، ويقتلهم ويأخذ أموالهم، ويروعهم، أليس هذا من باب أولى أن ينكل به؟
الجواب: بلى، ولهذا فالصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.
مسألة: ما الجواب عن قوله صلّى الله عليه وسلّم فيمن قتل نفسه: «خالداً مخلداً فيها أبداً» (1) .
الجواب: هذا الحديث نظير الآية من بعض الوجوه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء] ، وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها:
أن هذا فيمن كان مستحلاً للقتل، وعرض هذا الجواب على الإمام أحمد فضحك وقال: سبحان الله، إذا استحل القتل فهو كافر سواء قتل أو لم يقتل.
ومنهم من قال: إنه على شرط، أي هذا جزاؤه إن جازاه الله.
__________
(1) سبق تخريجه ص (351) .(5/352)
ومنهم من قال: إن هذا سبب، والسبب قد وجد فيه مانع وهو الإيمان.
ومنهم من قال: إن هذا على ظاهره أن من فعل هذا فإنه يختم له بسوء الخاتمة فإن تاب تاب الله عليه، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» (1) ، وهذا والذي قبله أحسن الأجوبة.
مسألة: إذا وجد بعض ميت فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟
الجواب: إن كان الموجود جملة الميت؛ بأن وجدنا رجُلاً بلا أعضاء فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإن كان الموجود عضواً من الأعضاء؛ فإن كان قد صلي على جملة الميت فلا يصلى عليه، وإن كان لم يُصلَّ عليه فإنه يصلى على هذا الجزء الموجود.
وَلاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ.
قوله: «ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد» ، أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، وإنما قال: «لا بأس» رداً لقول من يقول: تكره الصلاة على الأموات في المساجد؛ لأن المساجد إنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن والذكر، لا لأن تحمل إليها الجنائز؛ ليصلى عليها فيها والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جعل للجنائز مصلى خاصاً بها، ولأنه ربما يحصل من الميت تلويث المسجد فيخرج منه خارج، أو يكون فيه رائحة كريهة، أو ما أشبه ذلك.
والصحيح: أنه لا بأس بذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (6862) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/353)
والدليل عليه: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى على سهل بن بيضاء في المسجد» (1) ، والرسول صلّى الله عليه وسلّم وإن كان له مصلى للجنائز، لكنه أحياناً يصلي على الجنائز في المسجد.
فإذا قال قائل: على القول بالكراهة فأين يصلى على الجنائز؟
الجواب: يعدُّ مصلى خاص للجنائز، كما هو متبع في كثير من البلاد الإسلامية، وينبغي أن يكون قريباً من المقبرة؛ لأنه أسهل على المشيعين؛ فالناس إذا اجتمعوا مثلاً في مسجد في داخل البلد صار في ذلك مضايقة؛ فسينفرون مع الجنازة جميعاً، وقد تكون المقبرة بعيدة، لكن إذا كان مصلى الجنائز قريباً من المقبرة صار الناس يأتون أرسالاً من بيوتهم إلى هذا المصلى، ثم يصلون عليها، ثم يخرجون إلى المقبرة بلا مشقة.
وعندنا في نجد لا يخصصون مصلى للجنائز، بل الجنائز يؤتى بها إلى المساجد، وإذا كان لا بأس به فإننا لا ننهى عنه، ولا نقول: إنه يخشى من الميت على المسجد، إلا إذا كان هناك قضية خاصة بأن يكون الميت مات بحادث، والدم لا زال ينزف منه، فهذا نمنع أن يصلى عليه في المسجد؛ لأنه يلوثه.
__________
(1) أخرجه مسلم (99) (100) .(5/354)
فَصْلٌ
يُسَنُّ التَّرْبيعُ فِي حَمْلِهِ، وَيُبَاحُ بَيْنَ العَمُودَيْنِ...........
قوله: «فصل» .
المؤلف ـ رحمه الله ـ مشى على الترتيب الآتي: تغسيل الميت، ثم التكفين، ثم الصلاة، ثم الحمل، والدفن.
قوله: «يسن التربيع في حمله» ، التربيع في حمل الميت سنة، لحديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وفيه: «من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها فإنه من السنة» (1) ؛ ولأن الإنسان إذا ربع حمل الميت من جميع الجهات.
وصفة التربيع: أن يأخذ بجميع أعمدة النعش، ولهذا سميناه تربيعاً؛ لأن أعمدة النعش أربعة.
فيبدأ بالجهة الأمامية بالعمود الذي على يمين الميت، والميت على النعش، ثم يرجع إلى العمود الذي وراءه، ثم يتقدم مرة ثانية للعمود الذي عن يسار الميت، ثم يرجع إلى الخلف، وبعد ذلك يحمل بما شاء.
هذا ما اختاره أصحابنا رحمهم الله.
وقال بعض العلماء: بل يحمله بين العمودين.
قوله: «ويباح بين العمودين» ، هذا بيان حكم الحمل بين العمودين.
وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين، أي: بأن يكون أحد العمودين على كتفه الأيمن والآخر على كتفه الأيسر، هذا إذا كان النعش صغيراً، أما إذا كان واسعاً فيجعل
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1478) موقوفاً، وضعفه البوصيري لانقطاع إسناده.(5/355)
عموداً على يده اليمنى، وعموداً على يده اليسرى، ولكن لا شك أن فيه مشقة على الحامل، ولا سيما إذا كانت الجنازة ثقيلة.
واستدلوا: بأنه صلّى الله عليه وسلّم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين (1) .
والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسع، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل، ولا يكلف نفسه، فقد يكون التربيع صعباً أحياناً، فيما إذا كثر المشيعون فيشق على نفسه وعلى غيره.
وأما الحمل بين العمودين فهو شاق أيضاً، اللهم إلا إذا كان هناك عمودان يلتقيان عن قرب، بحيث يكون كل عمود على عاتقٍ، فيمكن أن يكون سهلاً.
هذا إذا كان الميت محمولاً على نعش، وإن كان صغيراً فيحمل بين الأيدي إذا كان لا يشق.
مسألة: هل ينبغي أن يوضع على النعش «مِكَبَّة» أو لا؟
والمكبة مثل الخيمة أعواد مقوسة توضع على النعش، ويوضع عليها سترٌ.
الجواب: إن كانت أنثى فنعم، وقد استحبه كثير من العلماء؛ لأن ذلك أستر لها.
وقد ذكر البيهقي ـ رحمه الله ـ: أن فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلّم أوصت بذلك (2) ، وقيل: غير هذا (3) .
وهذا مستعمل في الحجاز، ولكنه في نجد لا يعرف، ولو فعله أحدٌ لكان محسناً، ولا ينكر عليه؛ لأنه تقدم أحياناً بعض
__________
(1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/431) .
(2) أخرجه في «السنن الكبرى» (4/34) .
(3) انظر: «مجمع الزوائد» (3/29) .(5/356)
الجنائز من النساء يشاهد الإنسان أشياء لا يحب أن يشاهدها، فإذا جعلت عليها «المكبة» فإنها تسترها.
قال في الروض: «فإن كانت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة؛ لأنه أستر لها ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها ويجعل فوق المكبة ثوب. وكذا إن كان بالميت حَدَبٌ ونحوه» ؛ لأجل ستر هذا التشويه.
أما الرجل فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه؛ لأنه فيه فائدة، وهي: قوة الاتعاظ إذا شاهده من كان معه بالأمس جثة على هذا السرير، وإن ستر بعباءة كما هو معمول به عندنا فلا بأس.
وَيُسَنُّ الإِسْرَاعُ بِهَا، وَكَوْنُ المُشَاةِ أَمَامَهَا، وَالرُّكْبَانِ خَلْفَهَا، وَيُكْرَهُ جُلُوسُ تَابِعِهَا حَتَّى تُوضَعَ،.........
قوله: «ويسن الإسراع بها» أي: يستحب؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم» (1) ، إلا أن يخشى من تمزق الجنازة كما لو كان محترقاً، فيعمل ما يزول به هذا المحذور.
وليس المراد بالإسراع الخبب العظيم، كما يفعل بعض الناس، فإن هذا يتعب المشيعين، وقد ينزل من الميت شيء فيلوث الكفن، لارتخاء أعصابه، وأيضاً التباطؤ الشديد خلاف السنة؛ ولهذا قال في الروض: «الإسراع بها دون الخبب» ، والخَبَب: الإسراع الشديد.
قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: «بحيث لا يمشي مشيته المعتادة» .
وهذا الإسراع على سبيل الاستحباب؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بَيَّنَ
__________
(1) سبق تخريجه ص (257) .(5/357)
أنّ هذا من باب الشفقة على الميت إذا كان صالحاً، أو الشفقة على الحامل إذا كان غير صالح، ولم نَرَ أحداً قال بالوجوب.
قوله: «وكون المشاة أمامها والركبان خلفها» ، أي: ينبغي إذا كان المشيعون مختلفين ما بين راكب وماش أن يكون المشاة أمامها، والركبان خلفها.
والدليل على ذلك: ورود السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وجاءت السنة أيضاً بتخيير الماشي بين أن يكون أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها، أو خلفها، حسب ما يتيسر (1) .
وأما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم، فإذا كانت أمامها لم يحصل إزعاج منها؛ لأن ذلك أكثر طمأنينة للمشيعين، وأسهل لأهل السيارات في الإسراع وعدمه.
مسألة: حمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذر كبعد المقبرة، أو وجود رياح، أو أمطار، أو خوف، ونحو ذلك؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة؛ ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع.
قوله: «ويكره جلوس تابعها حتى توضع» ، أي: أن المشيع لا يجلس حتى توضع الجنازة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا تبعتم
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/247 ـ 249) ؛ وأبو داود (3180) ؛ والترمذي (1031) ؛ والنسائي (4/55) ؛ وابن ماجه (1481) (عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه) . وقال الترمذي: «حسن صحيح» .(5/358)
جنازة فلا تجلسوا حتى توضع» (1) ، ولأنه مشيع تابع، فإذا كانت الجنازة محمولة فلا ينبغي أن يجلس حتى توضع أي على الأرض للدفن ولحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى إلى قبر ولمَّا يلحد، جلس على الأرض وجلس الصحابة حوله، وكان معه مخصرة ينكت بها الأرض ... إلخ الحديث (2) .
وَيُسَجَّى قَبْرُ امْرَأَةٍ فَقَطْ. وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ...........
قوله: «ويسجى قبر امرأة فقط»
أي: يغطى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر من أجل ألا ترى المرأة، وذلك أستر لها.
وقوله: «فقط» ليخرج قبر الرجل، فإنه لا يسجى؛ لما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ: «أنه مر بقوم يدنون ميتاً رجلاً، وقد سجوه فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا في النساء» (3) .
مسألة: كيف يُدخل الميت القبر؟
الجواب؛ يدخل من عند رجليه، فيؤتى بالميت من عند رجلي القبر، ثم يدخل رأسه سلاً في القبر، هذا هو الأفضل (4) .
والطريقة الثانية: أن يؤتى بالميت من قبل القبر ويوضع فيه بدون سل، وهذا أيضاً جائز، وعليه عمل الناس اليوم، فإن أمكنت الصفة الأولى فهي الأفضل، وإن لم تمكن فإن ذلك مجزئ.
قوله: «واللحد أفضل من الشق» ، أي: القبر إذا كان لحداً فهو أفضل.
__________
(1) أخرجه البخاري (1310) ؛ ومسلم (959) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (1362) ؛ ومسلم (2647) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3) أخرجه البيهقي (4/54) .
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (4/130) .(5/359)
واللحد: أن يحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من جهة خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل؛ وسمي لحداً، لأنه مائل من جانب القبر.
قوله: «أفضل من الشق» ، الشق: أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. ولكن إذا احتيج إلى الشق فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية، فإن اللحد فيها لا يمكن؛ لأن الرمل إذا لحدت فيه انهدم، فتحفر حفرة، ثم يحفر في وسطها ثم يوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت؛ من أجل ألا ينهد الرمل، ثم يوضع الميت بين هذه اللبنات.
وعلم من قوله: «اللحد أفضل من الشق» أن الشق جائز، وهو كذلك، ولكنه خلاف الأفضل.
مسألة: هل يحفر بطول قامة الرجل، أو نصف الرجل، أو أقل، أو أكثر؟
الجواب: التعميق سنة، فيعمق في الحفر، والواجب: ما يمنع السباع أن تأكله، والرائحة أن تخرج منه، وأما كونه لا بد أن يمنع السباع والرائحة: فاحتراماً للميت؛ ولئلا يؤذي الأحياء، ويلوث الأجواء بالرائحة. هذا أقل ما يجب، وإن زاد في الحفر، فهو أفضل وأكمل لكن بلا حد. وبعضهم حده بأن يكون بطول القامة وهذا قد يكون شاقاً على الناس. ثم إنه أحياناً يعترضنا عند الحفر ماء. ففي هذه الحال لا بد أن نتخذ الإجراءات اللازمة لمنع الماء، إما ببناء لبنات، أو ما(5/360)
أشبه ذلك حتى يمتنع الماء عن الميت.
وَيَقُولُ مُدْخِلُهُ: «بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّة رَسُولِ الله» ...........
قوله: «ويقول مدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، أي: يقول مدخله عند وضعه بالقبر: بسم الله؛ لأن البسملة كلها خير وبركة، ودفن الميت أمر ذو بال، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر، وقد جاءت السنة بذلك أيضاً (1) .
ولكن من الذي يتولى إدخاله؟
الجواب: إن كان له وصي، أي: قال قبل موته: فلان يتولى دفني فإننا نأخذ بوصيته، وإن لم يكن له وصي فنبدأ بأقاربه إذا كانوا يحسنون الدفن، وإن لم يكن له أقارب، أو كانوا لا يحسنون الدفن، أو لا يريدون أن ينزلوا في القبر، فأي واحد من الناس.
ولا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص، ولو كان أجنبياً.
ودليل ذلك: [أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ماتت ابنته زوجة عثمان ـ رضي الله عنهما ـ، وخرج إلى المقبرة وحان وقت دفنها، قال: «أيكم لم يقارف الليلة؟» ـ لم يقارف: قال العلماء: أي لم يجامع ـ
__________
(1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وضعتم موتاكم في اللحد، فقولوا: بسم الله، وعلى سنّة رسول الله» .
أخرجه الإمام أحمد (2/27، 40، 59، 69، 127) ؛ وأبو داود (3213) ؛ والترمذي (1046) ؛ وابن ماجه (1550) ؛ وابن حبان (3110) إحسان؛ والحاكم (1/366) ؛ والبيهقي (4/55) . وقال الترمذي: «حسن غريب» وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.(5/361)
فقال أبو طلحة: «أنا، فأمره أن ينزل في قبرها» ] (1) ، مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أبوها، وزوجها عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ كانا حاضرين.
وَيَضَعُهُ فِي لَحْدِهِ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ...........
قوله: «ويضعه في لحده على شقه الأيمن» ، ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن.
وعللوا ذلك: بأنها سنة النائم، والنوم والموت كلاهما وفاة، فإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للبراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: «إذا اتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن» (2) ، فالموت كذلك.
قوله: «مستقبل القبلة» أي: وجوباً؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتاً» (3) ، وهذا الحديث ضعيف، إلا أنَّ له شاهداً من حديث البراء بن معرور ـ رضي الله عنه ـ (4) ، ولأن هذا عمل المسلمين الذي أجمعوا عليه؛ ولأنه أفضل المجالس.
فإن وضعه على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، فإنه جائز، لكن الأفضل أن يكون على الجنب الأيمن.
ولم يذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه يضع تحته وسادة كلبنة، أو حجر، فظاهر كلامه أنه لا يسن، وهذا هو الظاهر
__________
(1) أخرجه البخاري (1342) عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (247) ؛ ومسلم (2710) .
(3) سبق تخريجه ص (250) .
(4) سبق تخريجه ص (251) .(5/362)
عن السلف، فإن من خطب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أنه قال: «إنكم تَدَعُونَ الميت في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد» .
فالأصل: عدم السنية، ولا أعلم في ذلك سنة، ومن ادعى السنية فعليه الدليل، ولهذا عد ذلك بعض العلماء من البدع.
واستحب بعض العلماء: أن يوضع له وسادة لبنة صغيرة ليست كبيرة.
ثم إن المؤلف ـ رحمه الله ـ لم يذكر أنه يكشف شيء من وجهه، وعلى هذا فلا يسن أن يكشف شيء من وجه الميت، بل يدفن ملفوفاً بأكفانه، وهذا رأي كثير من العلماء.
وقال بعض العلماء: إنه يكشف عن خده الأيمن ليباشر الأرض.
واستدلوا: بأن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: «إذا أنا مت ووضعتموني في القبر فأفضوا بخدي إلى الأرض» ، أي: اجعلوه مباشراً للأرض، ولأن فيه استكانة وذلاً.
فأما كشف الوجه كله فلا أصل له، وليس فيه دليل إلا فيما إذا كان الميت محرماً، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تخمروا وجهه» (1) . وإن كانت هذه اللفظة «وجهه» اختلف العلماء في ثبوتها، أما الرأس بالنسبة للمحرم فإنه لا يغطى.
__________
(1) سبق تخريجه ص (285) .(5/363)
مسألة: يسن لمن حضر الدفن أن يحثو ثلاث حثيات لفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
مسألة: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه فيكون من البدع.
وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ عَنِ الأَْرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ مُسَنَّماً. وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُهُ، وَالْبِنَاءُ،..........
قوله: «ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً» ، أي: السنة أن يرفع القبر عن الأرض، وكما أنه سنة، فإن الواقع يقتضيه؛ لأن تراب القبر سوف يعاد إلى القبر، ومعلوم أن الأرض قبل حرثها أشد التئاماً مما إذا حرثت، فلا بد أن يربو التراب.
وأيضاً فإن مكان الميت كان بالأول تراباً، والآن صار فضاءً، فهذا التراب الذي كان في مكان الميت في الأول سوف يكون فوقه.
وقول المؤلف: «قدر شبر» . الشبر: ما بين رأس الخنصر والإبهام، عند فتح الكف، ومعلوم أن المسألة تقريبية؛ لأن الناس يختلفون في كبر اليد وصغرها. فالإنسان الذي يده كبيرة وأصابعه طويلة سيكون شبره طويلاً، والعكس بالعكس.
والغالب: أن التراب الذي يعاد إلى القبر أنه يرتفع بمقدار الشبر، وقد يزيد قليلاً، وقد ينقص قليلاً.
واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1565) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وجوّده النووي في «المجموع» (5/292) . وقال الحافظ في «التلخيص» (165) : «إسناده ظاهر الصحة» ، وصححه البوصيري في «الزوائد» .(5/364)
حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.
وقوله: «مسنماً» أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنَّم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.
والدليل على هذا: أن هذا هو صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وقبري صاحبيه.
قوله: «ويكره» ، المكروه في اصطلاح الفقهاء هو: الذي يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، وهو كراهة التنزيه، لا كراهة التحريم.
قوله: «تجصيصه» أي: أن يوضع فوقه جص؛ لأن هذا داخل في تشريفه، وقد قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» (2) .
قوله: «والبناء» عليه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن ذلك.
والاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظر؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن ذلك، أي: عن تجصيصها، وعن البناء
__________
(1) فعن سفيان التمار «أنه رأى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مسنماً» .
أخرجه البخاري (1390) .
(2) أخرجه مسلم (969) .(5/365)
عليها» (1) ، والأصل في النهي التحريم؛ ولأن هذا وسيلة إلى الشرك، فإنه إذا بني عليها عظمت، وفي النهاية ربما تعبد من دون الله؛ لأن الشيطان يَجُرُّ بني آدم، من الصغيرة إلى الكبيرة، ومن الكبيرة إلى الكفر.
فالصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرام.
وقد قال بعض المتأخرين: إن الفقهاء أرادوا بالكراهة هنا كراهة التحريم، ولكن هذا غير مسلم؛ لأن هذا خلاف اصطلاحهم.
وَالْكِتَابَةُ، والجُلُوسُ، وَالْوَطْءُ عَلَيْهِ، والاتِّكَاءُ إِلَيْهِ، وَيَحْرُمُ فِيهِ دَفْنُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ إِلاّ لِضَرُورَةٍ.........
قوله: «والكتابة» أي: على القبر، سواء كتب على الحجر المنصوب عليه، أو كتب على نفس القبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعظيمه، وتعظيم القبور يخشى أن يوصل صاحبه إلى الشرك.
وظاهر كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ: أن الكتابة مكروهة، ولو كانت بقدر الحاجة، أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءاً للمفسدة.
وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام، فإنها لا تكره.
قوله: «والجلوس والوطء عليه» ، أي: الجلوس على القبر مكروه ـ وعلى كلام المؤلف ـ كراهة تنزيه.
والصواب: أنه محرم.
__________
(1) أخرجه مسلم (970) عن جابر رضي الله عنه.(5/366)
فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الجلوس على القبر وقال: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر» (1) .
وكذلك الوطء عليه، فيرى المؤلف: أنه مكروه.
والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك (2) ؛ ولأنه امتهان لأخيه المسلم.
قوله: «والاتكاء إليه» ، أي: أن يتكئ على القبر فيجعله كالوسادة له؛ لأن في هذا امتهاناً للقبر.
وانظر كيف نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وأن يوطأ عليه» (3) ، حيث جمع في هذا النهي بين ما يكون سبباً للغلو فيه، وسبباً لامتهانه.
فالغلو في البناء، والتجصيص، والكتابة.
والامتهان في الوطء؛ من أجل أن يعامل الناس أهل القبور معاملة وسطاً لا غلو فيها ولا تفريط.
قوله: «ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة» ، أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين أم امرأتين أم رجلاً وامرأة.
والدليل على ذلك: عمل المسلمين من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا أن الإنسان يدفن في قبره وحده.
__________
(1) أخرجه مسلم (971) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه الترمذي (1052) عن جابر رضي الله عنه. وقال: «حديث حسن صحيح» .
(3) سبق تخريجه ص (366) .(5/367)
ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.
قوله: «إلا لضرورة» ، وذلك بأن يكثر الموتى، ويقل من يدفنهم، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد.
ودليل ذلك: «ما صنعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في شهداء أحد حيث أمرهم أن يدفنوا الرجلين في قبر واحد، ويقول: انظروا أيهم أكثر قرآناً فقدموه في اللحد» (1) .
وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة دفن أكثر من اثنين كراهة تنزيه.
وعللوا: بأن مجرد الفعل لا يدل على التحريم: أي: مجرد كون المسلمين يدفنون كل جنازة وحدها لا يدل على تحريم دفن أكثر من واحدة، وإنما يدل على كراهة مخالفة عمل المسلمين.
وذهب آخرون: إلى أن إفراد كل ميت في قبره أفضل، والجمع ليس بمكروه ولا محرم.
ولا يلزم من ترك السنة والأفضل أن يقع الإنسان في المكروه؛ لأن المكروه منهي عنه حقيقة، وترك الأفضل ليس بمنهي عنه.
ولهذا لو أن الإنسان ترك راتبة الظهر مثلاً لا نقول: إنه فعل
__________
(1) أخرجه البخاري (1347) عن جابر رضي الله عنه.(5/368)
مكروهاً، ولو أنه لم يرفع يديه عند الركوع لا نقول: إنه فعل مكروهاً.
والراجح عندي ـ والله أعلم ـ القول الوسط، وهو الكراهة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (1) ، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.
وَيُجْعَلُ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ وَلاَ تُكْرَهُ القِرَاءَةُ عَلَى القَبْرِ...........
قوله: «ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب» ، أي: إذا جاز دفن اثنين فأكثر في القبر الواحد، فإن الأفضل أن يجعل بينهما حاجز من تراب ليكونا كأنهما منفصلان، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية.
قوله: «ولا تكره القراءة على القبر» ، القراءة على القبر لا تكره، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقرأ على القبر، كأنما يقرأ على مريض.
الصفة الثانية: أن يقرأ على القبر أي عند القبر؛ ليسمع صاحب القبر فيستأنس به.
فيقول المؤلف: إن هذا غير مكروه.
ولكن الصحيح: أنه مكروه، فنفي الكراهة إشارة إلى قول من قال بالكراهة، والصحيح أن القراءة على القبر مكروهة، سواء كان ذلك عند الدفن أو بعد الدفن؛ لأنه لم يعمل في عهد
__________
(1) «الاختيارات» ص (89) .(5/369)
النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عُهد عن الخلفاء الراشدين، ولأنه ربما يحصل منه فتنة لصاحب القبر، فاليوم يقرأ عنده رجاء انتفاع صاحب القبر وغداً يقرأ عنده رجاء الانتفاع بصاحب القبر، ويرى أن القراءة عنده أفضل من القراءة في المسجد فيحصل بذلك فتنة.
مسألة مهمة: قراءة (يس) على الميت بعد دفنه بدعة، ولا يصح الاستدلال لذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا على موتاكم يس» (1) ؛ لأنه لا فائدة من القراءة عليه وهو ميت، وإنما يستفيد الشخص من القراءة عليه ما دامت روحه في جسده، ولأن الميت محتاج للدعاء له؛ ولهذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من حضر الميت أن يدعو له، وقال: «فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» (2) .
وَأَيُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِمَيِّتٍ مُسْلِمٍ أَوْ حَيٍّ نَفَعَهُ ذَلِكَ........
قوله: «وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك» ، هذه قاعدة في إهداء القُرب للغير، هل هو جائز، وهل ينفع الغير أو لا ينفع؟
يقول المؤلف في هذه القاعدة: «أي قربة فعلها ـ أي: جميع أنواع القربات ـ إذا فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك» . ولو قال ـ رحمه الله ـ: لمسلم ميت أو حي لكان أحسن؛ لأن قوله: لميت مسلم أو حي.
قد يقول قائل: أو حي مسلم أو كافر.
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .
(2) أخرجه مسلم (919) عن أم سلمة رضي الله عنها.(5/370)
لكن لو قال: لمسلم ميت أو حي، لكان أوضح، وهذا مراده بلا شك.
وقول المؤلف: «أي قربة» لم يخصصها بالقربة المالية ولا بالبدنية بل أطلق.
مثال ذلك: أن يصوم شخص يوماً عن شخص آخر تطوعاً، فهل ينفعه؟
يقول المؤلف: ينفعه ما دام مسلماً.
مثال ثان: رجل تصدق بمال عن شخص فهل ينفعه؟ الجواب: نعم ينفعه.
مثال ثالث: رجل أعتق عبداً ونوى ثوابه لشخص؟
الجواب: ينفعه.
مثال رابع: رجل حج ونوى ثوابه لشخص؟
الجواب: ينفعه.
فإن كان ميتاً ففعل الطاعة عنه قد يكون متوجهاً؛ لأن الميت محتاج ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حياً قادراً على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظر؛ لأنه يؤدي إلى اتكال الحي على هذا الرجل الذي تقرب إلى الله عنه، وهذا لم يعهد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، ولا عن السلف الصالح.
وإنما الذي عهد منهم هو جعل القُرَب للأموات، أما الأحياء فلم يعهد، اللهم إلا ما كان فريضة كالحج، فإن ذلك عُهد على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن بشرط أن يكون المحجوج عنه عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله.(5/371)
فإن قال قائل: ما الدليل على أن ذلك نافع؟
فالجواب: الدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
فإذا نويت أن أتقرب إلى الله لفلان نفعه، ولا دليل على المنع.
وكذلك فبعض هذه المسائل وقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأجازها.
فمن ذلك:
1 ـ أن سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ «تصدق ببستانه لأمه التي ماتت فأجازه النبي صلّى الله عليه وسلّم» (2) .
2 ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم» (3) .
3 ـ أن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم هل يتصدق عن أبيه بعتق خمسين رقبة لأن أباه أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فتصدق أخو عمرو بخمسين، وعمرو سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أيعتق الخمسين الباقية؟ فبين النبي صلّى الله عليه وسلّم له أنه لو كان أبوه مسلماً لنفعه، فترك الإعتاق» (4) لأنه كافر، والكافر لا ينتفع بعمل غيره، حتى عمله الذي عمله من خير، يقول الله فيه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [الفرقان] . فلما وجدت هذه
__________
(1) سبق تخريجه (1/194) .
(2) أخرجه البخاري (2756) .
(3) أخرجه البخاري (1388) ؛ ومسلم (1004) .
(4) أخرجه أبو داود (2883) .(5/372)
المسألة الفردية، قلنا: الأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، أما لو كان هناك دليل على المنع لقلنا: هذه القضايا التي وردت تكون مخصصة للمنع، لكن لم يرد ما يدل على منع التقرب إلى الله تعالى بقربة تكون للغير.
فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} ؟ [النجم] .
فالجواب: أن من قرأ الآيات عرف المراد بها قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى *وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى *أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى *وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} [النجم] ، فكما أن وزر غيرك لا يحمل عليك، فكذلك سعي غيرك لا يجعل لك.
والمعنى: أن سعيك لا يضيع، وأنك لا تحمل وزر غيرك، لكن لو أن أحداً سعى لك فما المانع؟ أليس الذي يظلم غيره يأخذ الناس من حسناته، وتضاف إلى حسناتهم مع أنهم ما سعوا لها؟
فالمعنى: أن الإنسان كما لا يزر وزر غيره، لا يملك سعي غيره؛ فليس له إلا ما سعى، وأما أن يسعى غيره له فهذا لا مانع منه، فالآية لا تدل على منع سعي الغير له، بل تدل على أنه لا يملك من سعي غيره شيئاً، كما أنه لا يحمل من وزر غيره شيئاً.
يبقى النظر: هل عمل العامة اليوم على صواب؟ وعمل العامة أنهم لا يعملون شيئاً إلا جعلوه لوالديهم، وأعمامهم، وأخوالهم، وما أشبه ذلك، حتى في رمضان يقرؤون القرآن وأول(5/373)
ختمة للأم؛ والثانية للأب، والثالثة للجدة، والرابعة للجد، والخامسة للعم، والسادسة للعمة، والسابعة للخال، والثامنة للخالة، فهذا غلط ليس من هدي السلف.
وكذلك في مكة يعتمرون، الأولى له، واليوم الثاني لأمه، والثالث لأبيه، والرابع لجده.
حتى إن بعض الناس يفتيهم، ويقول: لا بأس أن تكرر العمرة كل يوم إذا لم تكن لنفسك.
والذين لا يعتمرون يطوفون، ويكثرون الطواف لموتاهم، مع أنَّ هاديَ الخلق ودالَّهم إلى الله محمداً صلّى الله عليه وسلّم لم يرشد الأمة إلى هذا؛ فإنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (1) .
وسياق الحديث في الأعمال النافعة التي تنفع الإنسان، فلو كان العمل الصالح للإنسان بعد موته نافعاً لقال: أو ولد صالح يعمل له، فعدول النبي صلّى الله عليه وسلّم عن العمل إلى الدعاء، يدل: على أنه ليس من المشروع أن تجعل الأعمال للأموات، وإن كنت تريد أن تنفعهم فادع الله لهم، وهكذا قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
ونحن لا ننكر أن الميت ينتفع، لكن ننكر أن تكون المسألة بهذا الإفراط، فكل شيء يجعل للأموات!!
__________
(1) أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/374)
حتى إنني حُدثت حديثاً عجباً، وهو أنه إذا قُدم الغداء أفاضوا عليه أيديهم وقالوا: اللهم اجعل ثوابه لفلان، والعشاء كذلك، فلم يبق شيء من الأعمال الصالحة إلا جعلوه لهم، وكل هذا من البدع.
لكن مع الأسف أن الناس إذا عملوا عملاً ولم ينبهوا عليه صار هذا العمل البدعي سنة عندهم، وصاحوا بمن ينكر عليهم: أتحسد أمواتنا؟!!
فأمواتنا محتاجون وأعمالهم منقطعة، فنقول: ادع لهم، فبدل أن تجعل العمل الصالح لهم، اجعله لنفسك وادع الله لهم، وهذا خير لك وأفضل، وأخذٌ بتوجيه النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكنا ونحن صغار لا نعرف الأضحية عن الحي أبداً، فكل الضحايا للأموات، ولكن الآن ـ الحمد لله ـ تنَّور الناس، وعرفوا أن الأضحية في الأصل للحي.
وقد يتعلل بعض الناس: بأن الناس في الأول كانوا في شدة فقر وليس عندهم من الأضاحي إلا الوصايا التي أوصى بها الأموات في أموالهم وأملاكهم وعقاراتهم، لكن هذه العلة ساقطة عند العامي.
لأن العامي لا يقول لك: ليس عندي فلوس، بل يقول: الأضحية لا تكون إلا للميت، وأمثال هذا.
وَسُنَّ أَنْ يُصْلِحَ لأَهْلِ المَيِّتِ طَعَامٌ يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ.........
قوله: «وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم» ، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ:(5/375)
«اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم» (1) .
وظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنة مطلقاً، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنة مطلقاً، وإنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله: «فقد أتاهم ما يشغلهم» ، والإنسان إذا أصيب بمصيبة عظيمة انغلق ذهنه وفكره ولم يصنع شيئاً.
فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم.
ومع ذلك غلا بعض الناس في هذه المسألة غلواً عظيماً لا سيما في أطراف البلاد، حتى إنهم إذا مات الميت يرسلون الهدايا من الخرفان الكثيرة لأهل الميت، ثم إن أهل الميت يطبخونها للناس، ويدعون الناس إليها فتجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس، فيضيئون في الليل المصابيح الكثيرة، ويصنعون الكراسي المتعددة، وقد شاهدت ذلك بنفسي.
وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة، فهل نحن مأمورون عند المصائب أن نأتي بالمسليات الحسية التي تختم على القلب حتى ننسى المصيبة نسيان البهائم؟! نحن مأمورون بأن نتسلى بما أرشدنا الله إليه: «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/205) ؛ وأبو داود (3132) ؛ والترمذي (998) ؛ وابن ماجه (1610) ؛ والحاكم (1/372) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .(5/376)
لا بأن يأتي الناس من يمين وشمال؛ ليجتمعوا إلينا ويؤنسونا تأنيساً ظاهرياً.
وإذا لم تكن المصيبة منسية بما أمر الله ـ عز وجل ـ به ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فإنها لا خير فيها، فيكون هذا النسيان سلواً كسلو البهائم.
وقد قال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ: «كنا نعد صنع الطعام والاجتماع إلى أهل الميت من النياحة» (1) . والنياحة من كبائر الذنوب فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لعن النائحة والمستمعة» (2) .
وقد صرح بعض العلماء أن هذا الاجتماع بدعة؛ وهذا إذا خلا من المحاذير الشرعية.
ويُكْرَهُ لَهُمْ فِعْلُهُ لِلنَّاسِ.
قوله: «ويكره لهم فعله للناس» ، أي: صنع الطعام مكروه لأهل الميت، أي: أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ «كانوا يعدون صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة» .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (2/204) ؛ وابن ماجه (1612) . وقال البوصيري: «إسناده صحيح، رجال الطريق الأول على شرط البخاري، والثاني على شرط مسلم» عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/65) ؛ وأبو داود (3128) ؛ والبيهقي (4/63) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(5/377)
فَصْلٌ
تُسَنُّ زِيَارَةُ القُبُورِ..........
فصل
قوله: «تسن زيارة القبور» ، والسنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه. فهي في مرتبة بين المباح والواجب.
القبور: جمع قبر، وليس الجمع مراداً، بل تسن الزيارة ولو كان قبراً واحداً.
فلو أن شخصاً مات في فلاة من الأرض، ومررنا به، وعرجنا على قبره لنزوره فلا بأس به.
ودليل ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «استأذن الرب ـ عز وجل ـ أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له» (1) . لأنها ماتت على الكفر قبل الإسلام، ولا يحل لإنسان أن يستغفر لأي إنسان كافر.
وقوله: «تسن زيارة القبور» وهذه الزيارة زيارة للدعاء لهم، وليست زيارة لدعائهم.
وهل هي زيارة للاعتبار، أو للتبرك بأتربتهم؟
الجواب: زيارة للاعتبار.
وسنية الزيارة ثابتة: بالسنة، والإجماع، كما نقله النووي ـ رحمه الله ـ.
أما السنة فمن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وفعله.
أما قوله فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور
__________
(1) أخرجه مسلم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/378)
فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» (1) .
وأما فعله: فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يخرج إلى البقيع فيسلم عليهم (2) .
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أولاً عن زيارة القبور؛ لأن الناس حديثو عهد بالكفر والشرك، فخاف أن يكون ذلك وسيلة للإشراك، ولما استقر الإيمان في القلوب أذن لهم. فقال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (3) ، ثم بين الرسول صلّى الله عليه وسلّم الحكمة من ذلك فقال: «فإنها تذكركم الآخرة» (4) ، أي: تذكركم بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الإنسان إذا جاء إلى القبور، وتذكر أن فلاناً الذي في القبر الآن كان بالأمس معه، يأكل كما يأكل، ويشرب كما يشرب، ويتمتع بمتع الدنيا كما يتمتع، ويستطيع أن يعمل العمل الصالح كما يستطيع هو الآن، إذا تذكر ذلك فلا بد أن يؤثر على قلبه، وأن يستعد لهذا اليوم الذي آل إليه صاحبه بالأمس، فيتذكر أن مآله إلى هذا القبر، وأنه ربما يكون فيه عن قرب، فيتذكر، ويتعظ ويمتثل، ولهذا ينبغي للزائر أن يستشعر هذا المعنى، لا أن يستشعر مجرد الدعاء لهم؛ لأن هذا المعنى هو الذي علل به النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمر بالزيارة فقال: «فإنها تذكركم الآخرة» .
إِلاَّ لِنِسَاءٍ.........
قوله: «إلا لنساء» ، فليست بسنة، وفي المسألة خمسة أقوال:
__________
(1) و (2) و (3) أخرجه مسلم (977) عن بريدة رضي الله عنه.
(4) أخرجه أبو داود (3235) ؛ والترمذي (1054) عن بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حسن صحيح» .(5/379)
فقيل: إنها سنة للنساء، كالرجال.
وقيل: تكره.
وقيل: تباح.
وقيل: تحرم.
وقيل: من الكبائر.
والمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنها تكره، والكراهة عندهم للتنزيه، أي لو زارت المرأة القبور، فإنه لا إثم عليها.
والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.
ودليل ذلك ما يلي:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لعن زائرات القبور» (1) .
واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا وعيد شديد.
2 ـ من جهة النظر، فلأنَّ المرأة ضعيفة التحمل، قوية العاطفة، سريعة الانفعال فلا تتحمل أن تزور القبر، وإذا زارته حصل لها من البكاء، والعويل، وربما شق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك.
وأيضاً إذا ذهبت وحدها إلى المقابر، فالغالب أن المقابر تكون في مكان خال، يخشى عليها من الفتنة أو العدوان عليها، فكان النظر الصحيح موافقاً للأثر.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/229، 287، 324) ؛ وأبو داود (3236) ؛ والترمذي (320) ؛ والنسائي (4/94) ؛ وابن حبان (3179) إحسان؛ والحاكم (1/374) ؛ والبيهقي (4/78) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/380)
واستثنى الأصحاب من فقهاء الحنابلة: قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبري صاحبيه، وقالوا: إن زيارة النساء لهذه القبور الثلاثة لا بأس بها.
وعللوا ذلك: بأن زيارتهن لهذه القبور الثلاثة لا يصدق عليها أنها زيارة؛ لأن بينهن وبين هذه القبور ثلاثة جدر، كما قال ابن القيم:
فأجاب رب العالمين دعاءه
وأحاطه بثلاثة الجدران
والذي يترجح عندي: أنه لا استثناء؛ لأن وصولهن إلى القبور إما أن يكون زيارة، أو لا يكون، فإن كان زيارة وقعن في الكبيرة، وإن لم تكن زيارة فلا فرق بين أن يحضرن إلى مكان القبر، أو أن يسلمن على النبي صلّى الله عليه وسلّم من بعيد، وحينئذٍ يكون مجيئهن للقبور لغواً لا فائدة منه، بل في زماننا هذا قد يكون هناك مزاحمة للرجال، وأعمال لا تليق بالمرأة المسلمة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قال قائل: ما تقولون في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أنها زارت قبر أخيها» (1) ؟
فالجواب: أن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعارض بقول أحد كائناً من كان، وها هي عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقول: «شبَّهتمونا
__________
(1) أخرجه الترمذي (1055) ؛ وابن أبي شيبة (3/343) ؛ وعبد الرزاق (6711) ؛ والحاكم (1/376) ؛ والبيهقي (4/78) ؛ وعزاه في «مجمع الزوائد» (3/60) للطبراني، وقال: «رجاله رجال الصحيح» ، وصححه الذهبي في «تلخيص المستدرك» .(5/381)
بالحمير والكلاب» (1) ، أي في قطع الصلاة إذا مرت المرأة من بين يدي المصلي مع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صرح بأن: «الكلب الأسود، والحمار، والمرأة تقطع الصلاة» (2) ، فهي ـ رضي الله عنها ـ غير معصومة، ولا يمكن أن يستدل بفعلها مع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فإن قيل: ما تقولون في الحديث الثابت في صحيح مسلم «حيث فقدت عائشة النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، وطلبته، ثم أدركته في البقيع يسلم عليهم، ثم رجع من البقيع ورجعت هي قبله حتى أدركها في البيت،.... قالت يا رسول الله: أرأيت إن خرجت ماذا أقول قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين....» (3) إلخ؟
فالجواب: يفرق بين المرأة إذا خرجت بقصد الزيارة، وإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فلا حرج أن تسلم على أهل القبور، وأن تدعو لهم بما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ.
وأما إذا خرجت لقصد الزيارة فهذه زائرة للمقبرة فيصدق عليها اللعن.
فإن قيل: ما تقولون في اللفظ الوارد في الحديث: «لعن الله زوَّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» (4) ، «زوارات» بصيغة المبالغة؟
__________
(1) سبق تخريجه (3/285) .
(2) سبق تخريجه (3/282) .
(3) أخرجه مسلم (974) (103) .
(4) أخرجه الإمام أحمد (3/442) ؛ وابن ماجه (1574) ؛ والحاكم (1/374) ؛ والبيهقي (4/78) عن حسان بن ثابت رضي الله عنه. وقال البوصيري في «الزوائد» : «إسناده صحيح، ورجاله ثقات» .(5/382)
فالجواب: الحديث ورد بلفظين: «زائرات» ، و «زوارات» .
فإن كانت «زوارات» للنسبة فلا إشكال، وإن كانت للمبالغة فإن لفظ «زائرات» فيه زيادة علم، فيؤخذ به؛ لأن «زائرات» يصدق بزيارة واحدة.
و «زوارات» في الكثير للمبالغة، ومعلوم أن الوعيد إذا جاء معلقاً بزيارة واحدة، ومعلقاً بزيارات متعددة؛ فإن مع المعلق بزيارة واحدة زيادة علم؛ لأنه يحق الوعيد على من زار مرة واحدة على لفظ «زائرات» ، دون لفظ: «زوارات» .
ولو أخذنا «بزوارات» ألغينا دلالة «زائرات» . وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في مجموع الفتاوى (1) كلاماً جيداً ينبغي لطالب العلم أن يراجعه وذكر عدة أوجه في الرد على من قال: إن النساء يسن لهن زيارة القبور.
قوله: «ويقول إذا زارها» ، «يقولُ» بالضم، والفتح، فإن جعلنا الواو للاستئناف فبالضم، وإن جعلناها للعطف على «زيارة» فبالفتح؛ لأن المضارع إذا عطف على اسم خالص نصب بأن مضمرة جوازاً.
قال ابن مالك:
وإن على اسم خالص فعل عُطف تنصبه «أن» ثابتاً أو منحذف (2)
واستشهدوا لذلك بقوله:
ولُبْس عباءة وتقرَّ عيني أحب إلي من لبس الشفوف
تقر: معطوف على «لبس» اسم خالص وهو مصدر.
وَيَقُولُ إِذَا زَارَهَا:.........
و «يقول» عطف على «زيارة» فعليه يكون المعنى: ويسن أن يقول، أما إذا جعلناها بالرفع فإنها مستأنفة، «ويقول: إذا زارها، أو مر بها» .
قوله: «إذا زارها» ، أي: قصد زيارتها وخرج إليها، أو مر بها مروراً قاصداً غيرها.
قوله: «السلام عليكم» السلام: اسم من أسماء الله كما في قوله تعالى: {السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23] ، لكنه في التحية لا يراد به اسم الله، وإنما يراد به التسليم، فهو اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، والمعنى التسليم عليكم، أي: الدعاء بالسلام عليكم.
والسلامة بالنسبة لأهل القبور تكون من العذاب.
__________
(1) «مجموع الفتاوى» (24/344) .
(2) «ألفية ابن مالك» ص (52) .(5/383)
فقد يكون الإنسان معذباً في قبره، ولو عذاباً خفيفاً، فإذا سألت الله له السلامة سلم، ثم أنت تسلم على عموم القبور.
«السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ..........
وقوله: «السلام عليكم» ، أتى بكاف الخطاب، فهل الكاف هذه تدل على أنهم يسمعون؛ لأنه لا يخاطب إلا من يسمع ما لم يكن دليل ظاهر على أن المخاطب لا يسمع، وإنما قلت: ما لم يكن دليل ظاهر؛ لئلا يورد علينا مورد قول عمر ـ رضي الله عنه ـ للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقبِّلك ما قبَّلتك» (1) ، فهنا خاطبه وهو حجر،
__________
(1) أخرجه البخاري (1597) ؛ ومسلم (1270) .(5/384)
لكن أهل القبور هل هم يخاطبون مخاطبة الحجر أو مخاطبة السامع؟.
الجواب: الظاهر الثاني، أي: «مخاطبة السامع» .
وقد ذكر ابن القيم في كتاب الروح (1) حديثاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» ، وقد صححه ابن عبد البر، وأقره ابن القيم عليه، فلا يبعد أن يكون أهل المقبرة عموماً إذا سُلم عليهم يسمعون، ولا نقيسهم بالحجر الأسود؛ لأن الحجر عندنا دلالة حسية ملموسة أنه لا يسمع وهي أنه حجر، وحتى الحجر فإنه قد يسمع أيضاً. قال الله تعالى عن الأرض عموماً: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا *} [الزلزلة] .
«تحدث أخبارها» أي: ما عمل عليها من خير أو شر، سواء قول مسموع أو فعل مرئي فتحدث به يوم القيامة، والجلود تنطق أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فلا تستبعد هذه الأمور؛ لأن قدرة الله ـ عز وجل ـ لا يمكن أن يدركها العقل.
فلا يبعد أنك إذا قلت لأهل المقبرة: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» أنهم يسمعون. وأما قول الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] أي موتى القلوب؛ فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يخرج لأهل القبور يدعوهم.
__________
(1) «الروح» ص (7) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب «القبور» ، وليس في المطبوع منه، وأخرجه ابن عبد البر في «الاستذكار» برقم (1858) ، وصححه عبد الحق الإشبيلي كما في «إتحاف السادة المتقين» (10/365) .(5/385)
قوله: «دار قوم مؤمنين» ، أي: يا دار قوم، والمراد بالدار هنا: أهلها، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] المراد: أهلها.
قوله: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ، لاحقون على ماذا؟
الجواب: إذا قلنا: لاحقون بالموت ورد علينا إشكال، وهو تعليق ذلك بمشيئة الله مع أنه محقق، والمحقق لا يحتاج إلى تعليق بالمشيئة، والتعليق بالمشيئة في أمر لا يدرى عنه فيوكل إلى الله ـ عز وجل ـ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] ، ولم يقل: فإنه لاحقكم؛ لأن اللاحق قد يدرك، وقد لا يدرك، لكن الملاقي مدرك لا محالة.
فقيل في التخلص من هذا الإشكال ما يأتي:
1 ـ أن المراد على الإيمان، فيكون لحوقاً معنوياً لا حسياً، بدليل قوله: «دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» . وحينئذٍ فتعليق ذلك بالمشيئة مشروع.
2 ـ أن المراد اللحاق على أصل الموت، لكن التعليق للتعليل، أي: أن لحوقنا إياكم سيكون بمشيئة الله.
3 ـ أن التعليق هنا ليس على أصل الموت، ولكن على وقت الموت، كأنه قال: وإنا إذا شاء الله أي: متى ما شاء الله، لحقناكم، أي: سنلحق بكم في الوقت الذي يشاء الله أن نلحق، والتعليق بالمشيئة هنا واضح.(5/386)
والمقصود من هذه الجملة: توطين النفس على ما صار إليه هؤلاء من أجل تحقيق التذكر.
يَرْحَمُ اللهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَالمُسْتَأْخِرِينَ. نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ» .
قوله: «يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين» ، جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، أي: نسأل الله أن يرحم المستقدمين منكم، والمستأخرين.
قوله: «نسأل الله لنا ولكم العافية» ، أما بالنسبة لنا فإنها عافية حسية كعافية البدن، وعافية معنوية من الذنوب والمعاصي.
أما العافية لأهل القبور فهي: العافية من عذاب القبر.
قوله: «اللهم لا تحرمنا أجرهم» .
أجرنا على الأموات متعدد:
أولاً: الحزن عليهم، فكم من ميت في هذه المقبرة قد حزنت عليه، إما لقرابة، أو لصداقة، أو نفع، أو غير ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا أصيب بمصاب وتحمل فله أجر.
ثانياً: أجر الزيارة، أي لا تحرمنا أجر الزيارة لهم؛ لأن زيارتنا لهم سنة أمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفعلها بنفسه، فنحن نفعلها امتثالاً واقتداءً.
امتثالاً لأمره، واقتداء بفعله صلّى الله عليه وسلّم.
قوله: «ولا تفتنا بعدهم» هذه جملة عظيمة، فتسأل الله ألاَّ يفتنك بعدهم؛ لأن الإنسان قد يفتن بعد موت أقاربه، وأصحابه، ومشايخه، وغير ذلك، فقد يفارقون هذا الرجل مستقيم الحال،(5/387)
ثم يفتن وبالعكس، فتسأل الله ألاَّ يفتنك بعدهم بشبهات تعرض لك، أو بإرادات سيئة، وهي فتنة الشهوات، والإنسان ما دامت روحه في جسده، فهو معرض للفتنة.
يُذكر أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ، وهو في سياق الموت يغمى عليه ويُسمع يقول: بعد، بعد، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما بعد، بعد، قال: رأيت الشيطان أمامي يعض على يديه، يقول: فُتَّنِي يا أحمد، أي: عجزت أن أدركك وأغويك، فأقول: بعد بعد. أي: ما دامت الروح في الجسد، فالإنسان على خطر، ويدل لهذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيصدق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (1) .
ولهذا أوصي نفسي وإياكم أن نسأل الله دائماً الثبات على الإيمان وأن تخافوا؛ لأن تحت أرجلكم مزالق، فإذا لم يثبتكم الله ـ عز وجل ـ وقعتم في الهلاك، واسمعوا قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أثبت الخلق وأقواهم إيماناً: {ولَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *} ، أي: تميل ميلاً قليلاً، ولو فعلت ذلك {لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74 ـ 75] .
فإذا كان هذا للرسول صلّى الله عليه وسلّم فما بالنا نحن؛ ضعفاء الإيمان، واليقين، وتعترينا الشبهات، والشهوات؛ فنحن على خطر عظيم. فعلينا أن نسأل الله تعالى الثبات على الحق، وألاَّ يزيغ قلوبنا.
__________
(1) سبق تخريجه (1/344) .(5/388)
وهذا هو دعاء أولي الألباب: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ *} [آل عمران] .
قوله: «واغفر لنا ولهم» الغفر: هو ستر الذنب مع العفو، والتجاوز عنه، يدل على ذلك الاشتقاق؛ لأنه مشتق من المغفر، وهو ما يوضع على الرأس أثناء القتال؛ لأجل وقاية السهام، فهو ساتر وواقٍ.
وَتُسَنُّ تَعْزِيَةُ المُصَابِ بِالْمَيِّتِ،.........
قوله: «وتسن تعزية المصاب بالميت» ، السنة: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.
والتعزية: هي: التقوية، بمعنى: تقوية المصاب على تحمل المصيبة، وذلك بأن تورد له من الأدعية، والنصوص الواردة في فضيلة الصبر ما يجعله يتسلى وينسى المصيبة، لا أن تأتي إليه لتثير أحزانه مثل: أن تأتي لتعزيه بابنه، فتقول ـ مثلاً ـ: هذا ولد شاب صالح، فكيف يأخذه الموت، وما أشبه ذلك من الكلام.
ولما خرجوا بعقيل بن علي بن عقيل أحد الفقهاء الحنابلة، وكان هذا الولد طالب علم، وخرج الناس قام رجل وصاح بأعلى صوته: {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] . فزجره ابن عقيل ـ رحمه الله ـ وقال: يا هذا، القرآن نزل لتسكين الأحزان، لا لتهييج الأحزان، وكلامك هذا يهيج الأحزان.(5/389)
وأحسن لفظ قيل في التعزية: ما اختاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عندما جاءه رسول من إحدى بناته يقول: إن عندها طفلاً يُحْتَضَر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» (1) .
قال: «إن لله ما أخذ وله وما أعطى» ، أي: ولدك الذي أصبت به ليس لك بل لله، أبوك الذي أصبت به هو لله ليس لك.
وقال: «وكل شيء عنده بأجل مسمى» ، أي: معين. قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، والمكتوب لا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتغير عما كان عليه إطلاقاً، أي: لا تندم فتقول: ليتني ما فعلت كذا، وكذا وكذا.
قال: «مرها فلتصبر» ، أي: على هذه المصيبة.
والصبر مثل اسمه مر مذاقته
لكن عواقبه أحلى من العسل فالصبر شديد لكن عواقبه حميدة.
قال: «ولتحتسب» ، أي: تحتسب الأجر على الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] .
قوله: «تعزية المصاب» : ولم يقل: تعزية القريب؛ من أجل الطرد والعكس، فكل مصاب ولو بعيداً فإنه يعزى وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزِّه، ومن لم يصب فلا تعزه.
__________
(1) أخرجه البخاري (1284) ؛ ومسلم (923) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.(5/390)
مثال ذلك: إذا قدرنا أن هناك ولداً شريراً قد آذى أباه وأهله، ثم مات، وإذا وَجْهُ أبيه تبرق أساريره، ويقول: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهذا لا يعزى، مع أن الناس يجعلون العلة في التعزية القرابة، وهذا غلط. فالعلة هي: المصيبة.
ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نعزيه؛ لأننا إذا عزيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن.
وَيَجُوزُ البُكَاءُ عَلَى المَيِّتِ،..........
قوله: «ويجوز البكاء على الميت» ، والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى على ابنه ابراهيم وقال: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (1) ، «وبكى عند قبر إحدى بناته وهي تدفن» . وهذا في البكاء الذي تمليه الطبيعة، ولا يتكلفه الإنسان، فأما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة التي يحمل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (2) .
«يعذب» : أي: في القبر، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، إذ كيف يعذب الإنسان على عمل غيره وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7] ؛ ولأن تعذيب الإنسان بعمل غيره ظلم له؛ فإنه عقوبة لغير الظالم بفعل الظالم، وهذا ينافي عدل الله وحكمته ـ عز وجل ـ؟!
__________
(1) أخرجه البخاري (1303) ؛ ومسلم (2315) عن أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (1286) ؛ ومسلم (928) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(5/391)
فقال بعض العلماء: إن هذا في حق من أوصى به، أي: قال لأهله: إذا مت فابكوني.
وقيل: هذا في حق من كانت عادتهم، أي في قوم عادتهم البكاء، ولم ينه أهله عنه، فيكون كأنه أقرهم على ما اعتاده الناس من هذا الأمر.
وقيل: إن هذا في الكافر يعذب ببكاء أهله عليه.
وقيل: إن التعذيب هنا ليس تعذيب عقوبة، ولكنه تعذيب ملل وشبهه، ولا يلزم من التعذيب الذي من هذا النوع أن يكون عقوبة، ويشهد لذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «السفر قطعة من العذاب» (1) ، مع أن المسافر لا يعاقب، لكنه يهتم للشيء ويتألم به، فهكذا الميت يُعلم ببكاء أهله عليه فيتألم ويتعذب رحمة بهم، وكونهم يبكون عليه، وليس هذا من باب العقوبة.
وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة.
ولكن البكاء الذي تمليه الطبيعة، ويحصل للإنسان بدون اختيار، فإن مثل هذا لا يؤلم أحداً؛ لأنه مما جرت به العادة، حتى الإنسان لا يتألم إذا رأى المصاب يبكي هذا البكاء المعتاد، وإنما يتألم ويرحم إذا بكى بكاء متكلفاً أو زائداً على العادة.
مسألة: هل يجوز للمصاب أن يحد على الميت بأن يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟
__________
(1) أخرجه البخاري (1804) ؛ ومسلم (1927) عن جابر رضي الله عنه.(5/392)
الجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل إلا الزوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملاً؛ ودليل هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» (1) .
وإنما جاز هذا الإحداد لغير الزوجة لإعطاء النفوس بعض الشيء مما يهوِّن عليها المصيبة؛ لأن الإنسان إذا أصيب ثم كُبت بأن قيل له: اخرج وكن على ما كنت عليه، فإنه ربما تبقى المصيبة في قلبه، ولهذا يقال: إن من جملة الأدب والتربية بالنسبة للصبيان أنه إذا أراد أن يبكي أن يترك يبكي مدة قصيرة من أجل أن يرتاح؛ لأنه يخرج ما في قلبه، لكن لو أسكتّه صار عنده كبت وانقباض نفسي.
مسألة: هل يجوز أن يحد في أمر يلحقه أو عائلته به ضرر، مثل: أن يكون رجلاً متجراً، لو عطل التجارة لتضررت كفايته؟
الجواب: لا، هذا ليس مباحاً، بل هو إما مكروه، وإما محرم.
وَيَحْرُمُ النَّدْبُ، وَالنِّيَاحَةُ، وَشَقُّ الثَّوْبِ، وَلَطْمُ الخَدِّ، وَنَحْوُهُ.
قوله: «ويحرم الندب» ، الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو «وا» فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن يفعل كذا وكذا.
__________
(1) أخرجه البخاري (1281) ؛ ومسلم (1486) عن أم حبيبة رضي الله عنها.(5/393)
وسمي ندباً؛ كأن هذا المصاب ندبه ليحضر بحرف موضوع للندبة.
كما قال ابن مالك في الألفية (1) : وَوَا لِمَنْ نُدِبَ.
قوله: «والنياحة» وهي: أن يبكي، ويندب برنة تشبه نوح الحمام؛ لأن هذا يشعر بأن هذا المصاب متسخط من قضاء الله وقدره.
فلهذا ورد الوعيد الشديد على من فعل ذلك حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» (2) .
وإنما خص النائحة؛ لأن النياحة غالباً في النساء لضعفهن، وإلا فالرجال مثلهن إذا ناحوا على الميت.
قوله: «وشق الثوب» ، فيحرم شق الثوب، كما يجري من بعض المصابين، فيشقون ثيابهم إما من أسفل، وإما من فوق؛ إشارة إلى أنه عجز عن تحمل الصبر على هذه المصيبة.
قوله: «ولطم الخد» ، أي يحرم لطم الخد، وهو أن يلطم المصاب خد نفسه؛ لأن بعض المصابين من شدة إصابته يأخذ بلطم نفسه، فيضرب الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم الأيمن، ثم الأيسر، وهكذا.
وكذلك أيضاً لو لطم غير الخد، بأن لطم الرأس، أو ضرب برأسه الجدار، وما أشبه ذلك فكل هذا من المحرم.
__________
(1) «ألفية ابن مالك» ص (44) .
(2) أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.(5/394)
قوله: «ونحوه» مثل: نتف الشعر، فيأخذ بشعر رأسه وينتفه؛ لأن هذا كله يدل على تسخطه من المصيبة، وقد تبرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم من أمثال هؤلاء فقال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (1) .
ومثل أن يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبهه؛ لأنه ينبئ عن التسخط.
وليعلم أن الناس إزاء المصيبة على درجات:
الأولى: الشاكر.
الثانية: الراضي.
الثالثة: الصابر.
الرابعة: الجازع.
أمَّا الجازع: فقد فعل محرماً، وتسخط من قضاء رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، له الملك يفعل ما يشاء.
وأمّا الصابر: فقد قام بالواجب، والصابر: هو الذي يتحمل المصيبة، أي يرى أنها مرة وشاقة، وصعبة، ويكره وقوعها، ولكنه يتحمل، ويحبس نفسه عن الشيء المحرم، وهذا واجب.
وأمّا الراضي: فهو الذي لا يهتم بهذه المصيبة، ويرى أنها من عند الله فيرضى رضاً تاماً، ولا يكون في قلبه تحسر،
__________
(1) أخرجه البخاري (2294) ؛ ومسلم (103) عن أبي موسى رضي الله عنه.(5/395)
أو ندم عليها؛ لأنه رضي رضاً تاماً، وحاله أعلى من حال الصابر.
ولهذا كان الرضا مستحباً، وليس بواجب.
والشاكر: هو أن يشكر الله على هذه المصيبة.
ولكن كيف يشكر الله على هذه المصيبة وهي مصيبة؟
والجواب: من وجهين:
الوجه الأول: أن ينظر إلى من أصيب بما هو أعظم، فيشكر الله على أنه لم يصب مثله، وعلى هذا جاء الحديث: «لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (1) .
الوجه الثاني: أن يعلم أنه يحصل له بهذه المصيبة تكفير السيئات، ورفعة الدرجات إذا صبر، فما في الآخرة خير مما في الدنيا، فيشكر الله، وأيضاً أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، فيرجو أن يكون بها صالحاً، فيشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة.
ويُذكر أن رابعة العدوية أصيبت في أصبعها، ولم تحرك شيئاً فقيل لها في ذلك؟
فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
__________
(1) أخرجه مسلم (2963) (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/396)
والشكر على المصيبة مستحب؛ لأنه فوق الرضا؛ لأن الشكر رضا وزيادة.
انتهى بحمد الله تعالى المجلد الخامس
ويليه بمشيئة الله عزّ وجل المجلد السادس
وأوله «كتاب الزكاة»(5/397)
الشرح الممتع
على
زاد المستقنع
لفضيلة الشيخ العلامة
محمد بن صالح العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
المجلد السادس
دار ابن الجوزي
طبع بإشراف مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
الطبعة الأولى 1424هـ(6/)
كِتَابُ الزَّكَاةِ
قوله: «كتاب الزكاة» .
العلماء ـ رحمهم الله ـ يترجمون:
بالكتاب: في الأجناس.
وبالباب: في الأنواع.
وبالفصل: في المسائل.
ومعلوم أن الزكاة جنس غير الصلاة، ففي الصلاة يقال: باب الاستسقاء، وباب الكسوف، وباب التطوع، وهكذا، وهذه أنواع.
وفي الفصول يذكر الوتر مثلاً في باب صلاة التطوع، وإذا انتهى منه، قال: فصل وتسن الرواتب.. وهكذا.
فالفصول للمسائل، والأبواب للأنواع، والكتب للأجناس.
هذا هو الأصل، وقد يختلف الحال.
وقوله: «كتاب الزكاة» ترجم له بكتاب؛ لأنه جنس مستقل.
والزكاة أهم أركان الإسلام بعد الصلاة، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقرنها كثيراً بالصلاة في كتابه، وقد ثبت عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في إحدى الروايات عنه «أن تاركها بخلاً يكفر كتارك الصلاة كسلاً» .
ولكن الصحيح أن تاركها لا يكفر، والذين كفروا مانعها بخلاً قالوا: إن الله ـ تعالى ـ قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ(6/5)
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] فرتب ثبوت الأخوة على هذه الأوصاف الثلاثة: إن تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ولا يمكن أن تنتفي الأخوة في الدين إلا إذا خرج الإنسان من الدين، أما إذا فعل الكبائر فهو أخ لنا، فالقاتل عمداً قال الله فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] .
فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي: المقتول، والضمير يعود على القاتل، فجعل الله المقتول أخاً للقاتل.
وقال الله ـ تعالى ـ في المقتتلين من المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] .
مع أن قتل المؤمن وقتاله من كبائر الذنوب، فلا يمكن أن تنتفي الأخوة في الدين إلا بكفر، فدل على كفر تارك الزكاة.
ولا شك أن هذا القول له وجه جيد في الاستدلال بهذه الآية، لكن دل حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الثابت في صحيح مسلم على أن الزكاة ليس حكمها حكم الصلاة.
حيث ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مانع زكاة الذهب والفضة، وذكر عقوبته، ثم قال: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار» (1) ، ولو كان كافراً لم يكن له سبيل إلى الجنة.
فإذا قال قائل: إذا خصصتم آية التوبة بالنسبة لتارك الزكاة،
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب إثم مانع الزكاة (987) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/6)
فلماذا لا تقولون ذلك في تارك الصلاة؟؛ لأن الحكم واحد {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] .
فالجواب: أن تارك الصلاة وردت فيه نصوص تدل على كفره؛ فمن أجل ذلك حكمنا بكفره، والنصوص الواردة في كفر تارك الصلاة نصوص قائمة، وليس لها معارض مقاوم، وكل ما قيل: إنه معارض، فإنه لا يعارض أدلة كفره، لا ثبوتاً، ولا استدلالاً.
فوائد الزكاة الفردية والاجتماعية وحِكَمُها ما يلي:
الأولى: إتمام إسلام العبد وإكماله؛ لأنها أحد أركان الإسلام، فإذا قام بها الإنسان تم إسلامه وكمل، وهذا لا شك أنه غاية عظيمة لكل مسلم، فكل مسلم مؤمن يسعى لإكمال دينه.
الثانية: أنها دليل على صدق إيمان المزكي، وذلك أن المال محبوب للنفوس، والمحبوب لا يبذل إلا ابتغاء محبوب مثله أو أكثر، بل ابتغاء محبوب أكثر منه، ولهذا سميت صدقة؛ لأنها تدل على صدق طلب صاحبها لرضا الله عزّ وجل.
الثالثة: أنها تزكي أخلاق المزكي، فتنتشله من زمرة البخلاء، وتدخله في زمرة الكرماء؛ لأنه إذا عود نفسه على البذل، سواء بذل علم، أو بذل مال، أو بذل جاه، صار ذلك البذل سجية له وطبيعة حتى إنه يتكدر، إذا لم يكن ذلك اليوم قد بذل ما اعتاده، كصاحب الصيد الذي اعتاد الصيد، تجده إذا كان ذلك اليوم متأخراً عن الصيد يضيق صدره، وكذلك الذي عود نفسه على الكرم، يضيق صدره إذا فات يوم من الأيام لم يبذل فيه ماله أو جاهه أو منفعته.(6/7)
الرابعة: أنها تشرح الصدر، فالإنسان إذا بذل الشيء، ولا سيما المال، يجد في نفسه انشراحاً، وهذا شيء مجرب، ولكن بشرط أن يكون بذله بسخاء وطيب نفس، لا أن يكون بذله وقلبه تابع له.
وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد (1) أن البذل والكرم من أسباب انشراح الصدر، لكن لا يستفيد منه إلا الذي يعطي بسخاء وطيب نفس، ويخرج المال من قلبه قبل أن يخرجه من يده، أما من أخرج المال من يده، لكنه في قرارة قلبه، فلن ينتفع بهذا البذل.
الخامسة: أنها تلحق الإنسان بالمؤمن الكامل «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (2) فكما أنك تحب أن يبذل لك المال الذي تسد به حاجتك، فأنت تحب أن تعطيه أخاك، فتكون بذلك كامل الإيمان.
السادسة: أنها من أسباب دخول الجنة، فإن الجنة «لمن أطاب الكلام، وأفشى السلام، وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام» (3) ، وكلنا يسعى إلى دخول الجنة.
__________
(1) «زاد المعاد» (2/25) .
(2) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه (45) عن أنس رضي الله عنه.
(3) حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ياأيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الإمام أحمد (5/451) ؛ والترمذي في صفة القيامة/ باب حديث أفشوا السلام ... (2485) ؛ وابن ماجه في الأطعمة/ باب إطعام الطعام (3251) ؛ والحاكم (3/13) .
وقال الترمذي: «حديث صحيح» ، وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي.(6/8)
السابعة: أنها تجعل المجتمع الإسلامي كأنه أسرة واحدة، يضفي فيه القادر على العاجز، والغني على المعسر، فيصبح الإنسان يشعر بأن له إخواناً يجب عليه أن يحسن إليهم كما أحسن الله إليه، قال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ، فتصبح الأمة الإسلامية وكأنها عائلة واحدة، وهذا ما يعرف عند المتأخرين بالتكافل الاجتماعي، والزكاة هي خير ما يكون لذلك؛ لأن الإنسان يؤدي بها فريضة، وينفع إخوانه.
الثامنة: أنها تطفئ حرارة ثورة الفقراء؛ لأن الفقير قد يغيظه أن يجد هذا الرجل يركب ما شاء من المراكب، ويسكن ما يشاء من القصور، ويأكل ما يشتهي من الطعام، وهو لا يركب إلا رجليه، ولا ينام إلا على الأسبال وما أشبه ذلك، لا شك أنه يجد في نفسه شيئاً.
فإذا جاد الأغنياء على الفقراء كسروا ثورتهم وهدؤوا غضبهم، وقالوا: لنا إخوان يعرفوننا في الشدة، فيألفون الأغنياء ويحبونهم.
التاسعة: أنها تمنع الجرائم المالية مثل السرقات والنهب والسطو، وما أشبه ذلك؛ لأن الفقراء يأتيهم ما يسد شيئاً من حاجتهم، ويعذرون الأغنياء بكونهم يعطونهم من مالهم، يعطون ربع العشر في الذهب والفضة والعروض، والعشر أو نصفه في الحبوب والثمار، وفي المواشي يعطونهم نسبة كبيرة، فيرون أنهم محسنون إليهم فلا يعتدون عليهم.(6/9)
العاشرة: النجاة من حر يوم القيامة فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة» (1) وقال في الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (2) .
الحادية عشرة: أنها تلجئ الإنسان إلى معرفة حدود الله وشرائعه؛ لأنه لن يؤدي زكاته إلا بعد أن يعرف أحكامها وأموالها وأنصباءها ومستحقها، وغير ذلك مما تدعو الحاجة إليه.
الثانية عشرة: أنها تزكي المال، يعني تنمي المال حساً ومعنى، فإذا تصدق الإنسان من ماله فإن ذلك يقيه الآفات، وربما يفتح الله له زيادة رزق بسبب هذه الصدقة، ولهذا جاء في الحديث: «ما نقصت صدقة من مال» (3) ، وهذا شيء مشاهد أن الإنسان البخيل ربما يسلط على ماله ما يقضي عليه أو على أكثره باحتراق، أو خسائر كثيرة، أو أمراض تلجئه إلى العلاجات التي تستنزف منه أموالاً كثيرة.
الثالثة عشرة: أنها سبب لنزول الخيرات، وفي الحديث:
__________
(1) وتمامه: «حتى يقضى بين الناس» ، أو قال: «حتى يحكم بين الناس» .
أخرجه أحمد (4/147) ؛ وأبو يعلى (1766) ؛ وابن خزيمة (2431) ؛ وابن حبان (3310) إحسان؛ والحاكم (1/416) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة/ باب الصدقة باليمين (1423) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة/ باب استحباب العفو والتواضع (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/10)
«ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء» (1) .
الرابعة عشرة: «أن الصدقة تطفئ غضب الرب» كما ثبت ذلك عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم (2) .
الخامسة عشرة: أنها تدفع ميتة السوء (3) .
السادسة عشرة: أنها تتعالج مع البلاء الذي ينزل من السماء فتمنع وصوله إلى الأرض (4) .
السابعة عشرة: أنها تكفر الخطايا، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الفتن/ باب العقوبات (4019) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ وأخرجه الحاكم (2/126) ؛ والبيهقي (3/346) عن بريدة رضي الله عنه؛ قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي؛ وأخرجه الطبراني في الأوسط (4577) ، (6788) عن بريدة رضي الله عنه؛ وقال المنذري في «الترغيب» (2/63) : رجاله ثقات.
(2) أخرجه الترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في فضل الصدقة (664) ؛ وابن حبان (3309) إحسان؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وصححه ابن حبان، وأخرجه الطبراني في الأوسط (7761) عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه.
(3) أخرجه الترمذي وابن حبان عن أنس رضي الله عنه وقد سبق في الحديث السابق؛ وأخرجه أحمد (3/502) ؛ وعبد الرزاق (20118) ؛ والطبراني في الكبير (4451) عن رافع بن مكين رضي الله عنه؛ قال المنذري: «فيه رجل لم يسم» «الترغيب» (2/144) ؛ وأخرجه الطبراني في «الكبير» (17/22) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه، ولعل هذه الطرق تعطي قوة للحديث، ـ والله أعلم ـ.
(4) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (5643) عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: «باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها» وضعفه الهيثمي في «المجمع» (3/113) ؛ وأخرجه البيهقي (4/189) عن أنس رضي الله عنه موقوفاً، قال المنذري في الترغيب (2/143) : «ولعله أشبه» .(6/11)
«الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (1) .
مسألة: اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ متى فرضت الزكاة؟
فقال بعض العلماء: إنها فرضت في مكة، واستدلوا بآيات الزكاة التي نزلت في مكة مثل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] ومثل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ *} [المعارج] ومثل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ *} [الروم] ، وكقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
وقال بعضهم: ـ وهو أصح الأقوال ـ إن فرضها في مكة، وأما تقدير أنصبائها، وتقدير الأموال الزكوية، وتبيان أهلها فهذا في المدينة، وعليه فيكون ابتداء فرضها في مكة من باب تهيئة النفوس، وإعدادها لتتقبل هذا الأمر، حيث إن الإنسان يخرج من ماله الذي يحبه حباً جماً، يخرج منه في أمور لا تعود عليه ظاهراً بالنفع في الدنيا، فلما تهيأت النفوس لقبول ما يفرض عليها من ذلك، فرضه الله ـ تعالى ـ فرضاً مبيناً مفصلاً، وذلك في المدينة.
تعريف الزكاة:
لغة: النماء والزيادة، يقال: زكا الزرع إذا نما وزاد.
__________
(1) أخرجه أحمد في «المسند» (5/231، 237) ؛ والترمذي في الإيمان/ باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) ؛ والنسائي في «الكبرى» كما في «تحفة الأشراف» (11311) ؛ وابن ماجه في الفتن/ باب كف اللسان في الفتنة (3973) ؛ والحاكم (2/412) ؛ عن معاذ رضي الله عنه؛ وصححه الترمذي، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.(6/12)
وشرعاً: التعبد لله ـ تعالى ـ بإخراج جزء واجب شرعاً في مال معين لطائفة أوجهة مخصوصة.
وحكمها: الوجوب.
ومنزلتها من الدين أنها أحد أركان الإسلام، وأهم أركان الإسلام بعد الصلاة، ومن جحد وجوبها ممن عاش بين المسملين فإنه كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين، سواء أخرجها أم لم يخرجها، ومن أقر بوجوبها، وتهاون في إخراجها، وبخل بها فأصح قولي العلماء: أنه فاسق، وليس بكافر.
ولا تجب في كل مال إنما تجب في المال النامي حقيقية أو تقديراً.
فالنمو حقيقة كماشية بهيمة الأنعام، والزروع والثمار، وعروض التجارة.
والنامي تقديراً كالذهب والفضة إذا لم يشتغل فيهما بالتجارة، فإنهما وإن كانا راكدين، فهما في تقدير النامي؛ لأنه متى شاء اتجر بهما.
والأموال الزكوية خمسة أصناف:
1 ـ الذهب.
2 ـ والفضة.
3 ـ وعروض التجارة.
4 ـ وبهيمة الأنعام.
5 ـ والخارج من الأرض.(6/13)
وهناك أشياء مختلف فيها: كالعسل، هل فيه زكاة أو لا؟ وكالركاز هل الواجب فيه زكاة أو لا؟ وسيأتي البحث فيها إن شاء الله.
ولا تجب إلا بشروط؛ فمن حكمة الله ـ عزّ وجل ـ وإتقانه في فرضه وشرائعه، أنه جعل لها شروطاً؛ أي: أوصافاً معينة لا تجب إلا بوجودها؛ لتكون الشرائع منضبطة، لا فوضى فيها.
إذ لو لم يكن هناك شروط لكان كل شخص يقدر أن هذا واجب، وهذا غير واجب فإذا أتقنت الفرائض بالشروط وحددت لم يكن هناك اختلاف، وصار الناس على علم وبصيرة، فمتى وجدت الشروط في شيء ثبت، ومتى انتفت انتفى.
ثم إن هناك موانع أيضاً تمنع وجوب الزكاة مع وجود الشروط، وجميع الأشياء لا تتم إلا بشروطها وانتفاء موانعها، وسيأتي بيانها إن شاء الله.
تَجِبُ بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ: حُرِّيَّةٌ، وإِسْلاَمٌ، وَمُلْكُ نِصَابٍ، واسْتِقْرَارُهُ، وَمُضِيُّ الحَوْلِ ...
قوله: «تجب بشروط خمسة: حرية، وإسلام، وملك نصاب، واستقراره، ومضي الحول» .
شروط وجوب الزكاة هي:
1 ـ الحرية: وضدها الرق، فلا تجب الزكاة على رقيق، أي: على عبد؛ لأنه لا يملك، فالمال الذي بيده لسيده.
ودليل ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ باع عبداً له مال فماله(6/14)
للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع» (1) .
فقال: «ماله» أي الذي بيده «للذي باعه» أي: لا له، فيكون بمنزلة الفقير الذي ليس عنده مال، والفقير لا تجب عليه بالاتفاق.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «له مال» فاللام في (له) للاختصاص، كما تقول للدابة سَرْج فلا يعارض ما قررناه.
2 ـ الإسلام وضده الكفر فلا تجب على كافر، سواء أكان مرتداً أم أصلياً؛ لأن الزكاة طهرة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] والكافر نجس، فلو أنفق ملء الأرض ذهباً لم يطهر حتى يتوب من كفره.
وأما قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فالمراد بها هنا: زكاة النفس عند أكثر العلماء؛ لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *} [الشمس: 9] . فيكون معنى الآية على هذا: أي لا يؤتون أنفسهم زكاتها بل يهينونها ويغفلون عنها.
وإذا قلنا: إن الكافر لا تجب عليه الزكاة، فلا يعني ذلك أنه لا يحاسب عليها، بل يحاسب عليها يوم القيامة، لكنها لا تجب عليه، بمعنى أننا لا نلزمه بها حتى يسلم.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين بعث معاذاً إلى اليمن بعد أن ذكر التوحيد، والصلاة: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم» (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في البيوع/ باب من باع نخلاً ... (2203) ؛ ومسلم في البيوع/ باب من باع نخلاً عليها تمر (1543) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب وجوب الزكاة (1395) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين (19) .(6/15)
والدليل: من القرآن قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *} [التوبة: 54] .
فإذا كانت لا تقبل فلا فائدة في إلزامهم بها، ولكنهم يحاسبون عليها يوم القيامة، ويعذبون عليها.
ودليل ذلك قوله تعالى عن المجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *} [المدثر] فلولا أنهم عوقبوا على ترك الصلاة، وترك إطعام المسكين لما ذكروا ذلك سبباً في دخولهم النار.
3 ـ ملك نصاب: النصاب هو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة على بلوغه، وهو يختلف، فلا بد أن يملك نصاباً، فلو لم يملك شيئاً كالفقير فلا شيء عليه، ولو ملك ما هو دون النصاب فلا شيء عليه.
ودليل اشتراط ملك النصاب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة» (1) ، وقال في الغنم: «إذا بلغت أربعين شاةً شاةٌ» (2) وغير ذلك من الأدلة، ولأن ما دون النصاب لا يحتمل المواساة.
4 ـ استقراره: أي: استقرار الملك.
__________
(1) - (2) يأتي تخريجهما ص (67) .(6/16)
ومعنى كونه مستقراً: أي أن ملكه تام، فليس المال عرضة للسقوط، فإن كان عرضة للسقوط، فلا زكاة فيه.
ومثلوا لذلك: بالأجرة (أجرة البيت) قبل تمام المدة فإنها ليست مستقرة؛ لأنه من الجائز أن ينهدم البيت، وتنفسخ الإجارة.
ومثل ذلك أيضاً حصة المضارَب ـ بالفتح، وهو العامل ـ من الربح فلا زكاة فيها؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، مثاله: أعطيت شخصاً مائة ألف ليتجر بها فربحت عشرة آلاف؛ للمالك النصف وللمضارب النصف خمسة آلاف، فلا زكاة في حصة المضارب لأنها عرضة للتلف، إذ هي وقاية لرأس المال، إذ لو خسر المال لا شيء له، وحصة المالك من الربح، فيها الزكاة لأنها تابعة لأصل مستقر، فمال رب المال فيه الزكاة وكذا نصيبه من الربح؛ لأن نصيبه تابع لأصل مستقر.
ومثلوا لذلك أيضاً بدين الكتابة أي: إذا باع السيد عبده نفسه بدراهم، وبقيت عند العبد سنة فإنه لا زكاة فيها؛ لأن العبد يملك تعجيز نفسه، فيقول: لا أستطيع أن أوفي، وإذا كان لا يستطيع أن يوفي، فإنه يسقط عنه المال الذي اشترى نفسه به، فيكون الدين حينئذ غير مستقر.
مسألة: إذا حَصَلْتَ على المال الذي كان غير مستقر، فهل تجب فيه الزكاة لما مضى؟
الجواب: لا، ولكن تستأنف به حولاً؛ لأنه لم يكن مستقراً قبل ذلك.
5 ـ مضي الحول: أي: تمام الحول؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:(6/17)
«لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» (1) أخرجه ابن ماجه؛ ولأننا إن لم نقدر زمناً فهل يقال: تجب في كل يوم، أو كل شهر، أو كل أسبوع، أو كل عشرة أعوام، فلا بد من تقدير، ولأننا لو أوجبنا الزكاة كل شهر، لكان ضرراً على أهل الأموال، ولو أوجبناها كل سنتين لأضررنا بأهل الزكاة.
والحول مقدارٌ يكون به الربح المطرد غالباً، ويكون فيه خروج الثمار، ويكون فيه النماء في المواشي غالباً، فلهذا قدر بالحول، والحول هنا باعتبار السنة القمرية لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ... } [البقرة: 189] .
واستثنى المؤلف أشياء لا يشترط لها تمام الحول وهي:
فِي غَيْرِ الْمُعَشَّرِ، إِلاَّ نَتَاجَ السَّائِمَةِ، وَرِبْحَ التِّجَارَةِ،.......
قوله: «في غير المعشر» وهذا هو الأول، يريدالخارج من الأرض من الحبوب والثمار، وسمي معشراًلوجوب العشر أو نصفه فيه، فلا يشترط لها الحول، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فأمر الله تعالى عباده أن يعطوا زكاة الحبوب والثمار عند اجتنائها حيث يتوفر الشيء في أيديهم، ويسهل عليهم إخراجه قبل وصوله إلى المخازن، ولهذا يزرع الإنسان الأرض ويكتمل الزرع في أربعة أو ستة شهور وتجب فيه الزكاة.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الزكاة/ باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال (1793) ؛ والدارقطني (2/90) ؛ والبيهقي (4/103) ؛ وأبو عبيد في الأموال (1132) ؛ عن عائشة رضي الله عنها. قال الحافظ: وفيه حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف «التلخيص» (820) ؛ وأخرجه البيهقي من طريق علي رضي الله عنه موقوفاً عليه (4/103) ، قال الحافظ: حديث لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة «التلخيص» (820) .(6/18)
قوله: «إلاَّ نتاج السائمة» هذا مستثنى من قوله: (ومضي الحول) أي: إلا ما تنتجه السائمة أي: أولادها، هذا هو الثاني، فلا يشترط له تمام الحول، ودليل ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السعاة إلى أهل المواشي، فيأخذون الزكاة مما يجدون مع أن المواشي فيها الصغار والكبار، ولا يستفصل متى ولدت؟ بل يحسبونها ويخرجونها حسب رؤوسها، فمثلاً: رجل عنده أربعون شاة تجب فيها الزكاة، فولدت كل واحدة ثلاثة، إلا واحدة ولدت أربعة، فأصبحت مائة وواحداً وعشرين ففيها شاتان مع أن النماء لم يحل عليه الحول؛ ولكنه يتبع الأصل.
قوله: «وربح التجارة» وهذا الثالث، ولا يشترط له تمام الحول؛ لأن المسلمين يخرجون زكاتها دون أن يحذفوا ربح التجارة، ولأن الربح فرع، والفرع يتبع الأصل، مثاله: لو قدرنا شخصاً اشترى أرضاً بمائة ألف وقبل تمام السنة صارت تساوي مائتين فيزكي عن مائتين، مع أن الربح لم يحل عليه الحول؛ ولكنه يتبع الأصل.
هذا ما ذكره المؤلف، ويضاف إليه ما يأتي:
الرابع: الركاز وهو ما يوجد من دفن الجاهلية، فهذا فيه الخمس بمجرد وجوده، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وفي الركاز الخمس» (1) ولم يقل: بعد الحول؛ ولأن وجوده يشبه الحصول على الثمار
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب في الركاز الخمس (1499) ؛ ومسلم في الحدود/ باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار (1710) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/19)
التي تجب الزكاة فيها من حين الحصول عليها عند الحصاد، وهو زكاة على المشهور من المذهب، وقيل: إنه فيء، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
الخامس: المعدن، لأنه أشبه بالثمار من غيرها، فلو أن إنساناً عثر على معدن ذهب أو فضة واستخرج منه نصاباً فيجب أداء زكاته فوراً قبل تمام الحول (1) .
السادس: العسل على القول بوجوب الزكاة فيه.
السابع: الأجرة على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فتخرج الزكاة عنده بمجرد قبضها؛ لأنها كالثمرة.
وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَاباً، فَإِنَّ حَوْلَهُمَا حَوْلُ أصْلِهِمَا إِنْ كَانَ نِصَاباً، وَإِلاَّ فَمِن كَمَالِهِ....
قوله: «ولو لم يبلغ نصاباً، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً، وإلا فمن كماله» فإذا كان عنده (35) شاة فليس فيها زكاة؛ لأن أقل النصاب (40) وفي أثناء الحول نتجت كل واحدة منها سخلة، فنحسب الحول من تمام النصاب؛ ولهذا قال: «وإلا فمن كماله» .
مثال آخر: لو كان عنده نصف نصاب ثم بعد مضي ستة أشهر كَمُلَ نصاباً، ثم بعد ثلاثة أشهر ربح نصاباً آخر، فالحول يبتدئ من حين كمل نصاباً، والربح يتبع الأصل.
مثال آخر: لو أن رجلاً اتجر بـ (100.000) ريال، وفي أثناء
__________
(1) قال شيخنا رحمه الله: «ولا تجب الزكاة فيما سوى الذهب والفضة من المعادن وإن كان أغلى منهما إلا أن يكون للتجارة فيزكى زكاة التجارة لها» مجالس شهر رمضان ص (118) .(6/20)
الحول ربحت (50.000) ريال فنزكي الخمسين إذا تم حول المائة.
مثال آخر: رجل عنده (100.000) ريال، وفي أثناء الحول ورث من قريب له (50.000) ريال فنزكي الخمسين إذا تم حولها، ولا تضم إلى (100.000) في الحول.
فإذا قال قائل: فما الفرق بين المثالين؟
فالجواب: أن الربح فرع عن رأس المال فتبعه في الحول، كما في المثال الأول، وأما الإرث فهو ابتداء ملك، فاعتبر حوله بنفسه، كما في المثال الثاني.
فالمستفاد بغير الربح كالرجل يرث مالاً، أو يوهب له، أو المرأة تملك الصداق، وما أشبه ذلك، فهذا لا يضم إلى ما عنده من المال في الحول؛ لأنه مستقل وليس فرعاً له، ولكنه يضم في تكميل النصاب.
مثال ذلك: إذا كان شخص عنده من الدراهم أقل من النصاب، وفي أثناء الحول مات له قريب، فورث منه خمسين ألفاً فيبتدئ الحول من وقت ملك الخمسين ألفاً؛ في الخمسين، وفي الدراهم السابقة، ولا يبتدئ الحول في الدراهم السابقة من حين ملكها، وفي الخمسين من حين ملكها؛ لأن الدراهم الأولى أقل من النصاب فليس فيها زكاة، لكن لما تم النصاب بإرث الخمسين ضممنا الأولى إلى الثانية، وصار الحول واحداً من حين تمام النصاب بملك الخمسين.
وبعض الناس تشكل عليه فيظن أنه إذا أتممنا النصاب بنينا(6/21)
على حول ما دون النصاب وليس كذلك، وإنما يبدأ الحول من كمال النصاب في الجميع.
مثال آخر: ملك في شهر محرم نصاباً، ثم ملك بالإرث في شهر جمادى الثانية أقل من النصاب مائة درهم ففيها زكاة ـ وإن كان أقل من النصاب ـ لأن عنده مالاً يبلغ النصاب، لكن حول المائة درهم يكون في جمادى الثانية، وليس في محرم؛ لأنها تضم إلى ما عنده في النصاب، لا في الحول.
وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يشترط البلوغ ولا العقل.
وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي وفي مال المجنون، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم.
وسبب الخلاف أن بعض العلماء جعلها من العبادات المحضة فقال: إن الصغير والمجنون ليسا من أهل العبادة كالصلاة، فإذا كانت الصلاة لا تجب على المجنون والصغير، فالزكاة من باب أولى.
وبعض العلماء جعل الزكاة من حق المال، أي: أنها واجبة في المال لأهل الزكاة، فقال: إنه لا يشترط البلوغ والعقل؛ لأن هذا حكم رتب على وجود شرط وهو بلوغ النصاب، فإذا وجد وجبت الزكاة، ولا يشترط في ذلك التكليف فتجب في مال الصبي ومال المجنون.
وهذا القول أصح، ودليل ذلك ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . فالمدار على المال لا على المتموِّل.(6/22)
فإن قال قائل: قوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} هذا في حق المكلفين؛ لأن التطهير والتزكية يكون من الذنوب؟
فيقال: هذا بناء على الأغلب؛ فالزكاة تجب غالباً في أموال المكلفين فيحتاجون إلى تطهير، على أن الصبي ـ ولا سيما المميز ـ يحتاج لتطهير، لما قد يحصل منه إخلال بالآداب، فإن أخذ الزكاة منه مطهر له ومنمٍّ لإيمانه وأخلاقه الفاضلة.
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» (1) فجعل محل الزكاة المال.
3 ـ ولأن الزكاة حق الآدمي، فاستوى في وجوب أدائه المكلف وغير المكلف، كما لو أتلف الصغير مال إنسان فإننا نلزمه بضمانه مع أنه غير مكلف.
وهذا القول هو مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وخالف أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ في هذا.
فإذا قال قائل: إذا أوجبنا الزكاة في مال الصبي والمجنون فهذا يؤدي إلى نقصه، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ} [الأنعام: 152، الإسراء: 34] .
فالجواب: هذا النقص هو في الحقيقة كمال وزيادة؛ لأن الزكاة تطهر وتنمي المال فهي وإن نقصته حساً، لكنها كمال وزيادة معنى، فالزكاة من قربانه بالتي هي أحسن.
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/23)
ثم إنه منقوض بوجوب النفقة عليهما فلو كان للمجنون ـ مثلاً ـ أولاد وزوجة وأب لوجبت النفقة لهم في ماله مع أنها تنقصه.
فإن قال قائل: إذا قلتم: إن الزكاة من الأحسن فالصدقة أيضاً من الأحسن، فهل تجيزون أن يتصدق بمال اليتيم والمجنون؟
فالجواب: لا؛ لأن الصدقة محض تبرع لا تنشغل الذمة بتركها، والزكاة فريضة تنشغل الذمة بتركها.
ولهذا لو غلت مواد الإنفاق، وصار ثوب الكتان قيمته (100) ريال والثوب من الخيش قيمته (10) ريالات.
فنشتري له ثياب كتان؛ لأن هذا هو المعتاد، فإذا كان كذلك فنقول: الزكاة من باب أولى أن نخرجها من مال اليتيم؛ لأنها أبلغ من أن يخرج من ماله لثوب يلبسه.
وَمَنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ أَوْ حَقٌّ مِنْ صَدَاقٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَلِيءٍ أَوْ غَيْرِهِ أَدَّى زَكَاتَهُ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى،.........
قوله: «ومن كان له دين» الدين: ما ثبت في الذمة من قرض، وثمن مبيع، وأجرة، وغير ذلك.
قوله: «أو حق» أي: الحق المالي فخرج بذلك الحق غير المالي، وقوله: «أو حق» لم أقف عليها عند غيره، والذي يظهر لي أن الحق إن كان ثابتاً فهو دين، وإن كان غير ثابت فلا زكاة فيه أصلاً، ولهذا عبارة الإقناع والمنتهى ليس فيها كلمة حق.
قوله: «من صداق» الصداق للزوجة، وهو ما يبذله الزوج للمرأة في عقد النكاح وإنما نص عليه؛ لأن الصداق قد يسقط بعضه، فإنه إذا طلقها الزوج قبل الدخول سقط النصف، وقد يسقط كله إذا كانت الفرقة من قبلها قبل الدخول.(6/24)
قوله: «وغيره» : أي: غير الصداق كعوض الخُلع الثابت للزوج وأرش جناية، وضمان متلف، وكذا لو كان المال ضائعاً أو مسروقاً ثم عثرت عليه بعد سنين، فالمذهب يجب عليك إخراج زكاته.
تنبيه: تجب الزكاة في العارية والوديعة؛ لأنها على ملك صاحبها فهي كسائر ماله.
قوله: «على مليء أو غيره» المليء: الغني، أو غيره: الفقير.
وسواء كان على باذل أو مماطل، وسواء كان مؤجلاً أو حالاً.
قوله: «أدى زكاته إذا قبضه لما مضى» أي: يجب عليه أن يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنين، وهذا هو المذهب.
مثال ذلك: شخص له (100) درهم على أربعة أشخاص على كل واحد (25) درهماً، وبقيت عندهم سنوات، ولما قبضها إذا زكاتها أكثر منها.
نقول: أدِّ زكاتها ولو كانت أكثر منها، إذا كان عندك مال يكمل النصاب، أما إذا لم يكن لديك مال سواها، فهي في أول سنة تنقص عن النصاب، ولا يجب فيها شيء.
مثال آخر: رجل باع أرضاً على شخص بـ (100.000) ريال والمشتري فقير، وبقيت عنده عشر سنوات ثم قبضها.
فيؤديها لعشر سنوات؛ لقوله: «لما مضى» .
واستفدنا من قوله: «أَدَّى» أن هذه الزكاة أداء، وليست(6/25)
قضاء فـ (100.000) زكاتها في كل سنة (2500) ، فيصير مجموع زكاتها لعشر سنين (25.000) ، فصارت زكاتها الربع كاملاً، وزكاة الدراهم ربع العشر؛ لأنه يؤديها لكل ما مضى.
مثال ثالث: رجل أجر شخصاً بيته لمدة سنة بـ (1000) درهم وانتهت المدة، وماطل المستأجر حتى بقيت عنده عشر سنوات.
فزكاة الألف كل سنة (25) ، في عشر سنوات (250) أي الربع.
مثال رابع: امرأة تزوجها رجل على صداق قدره (20.000) ريال ولم يسلم الصداق، وبقيت الزوجة عنده عشر سنوات ثم أعطاها صداقها.
فتكون زكاته في عشر سنوات (5000) ريال أي الربع.
وكل هذا على ما مشى عليه المؤلف رحمه الله.
وقوله: «أدى زكاته إذا قبضه» أي: لا يلزمه أن يؤدي زكاته قبل قبضه، فهو مرخص له في عدم أداء الزكاة حتى يقبضه.
فإن قال قائل: أليست الزكاة على الفور فلماذا لا تلزمه الزكاة إذا تم الحول، ولو كان في ذمة غيره؟
الجواب: أن فيه احتمالاً أن يتلف مال من عليه الدين، أو يعسر، أو يجحد نسياناً أو ظلماً، فلما كان هذا الاحتمال قائماً رخص له أن يؤخر إخراج الزكاة حتى يقبضه.
فإن أدى الزكاة قبل قبضه ليستريح فله ذلك؛ لأن تأخيرها من باب الرخصة والتسهيل، بل قال أهل العلم: إن ذلك أفضل.(6/26)
هذا هو القول الأول في المسألة.
القول الثاني: إن كان الدين على معسر أو مماطل فلا زكاة فيه، ولو بقي عشرين سنة، وكذلك لو لم يبقَ إلا شهر واحد على تمام الحول ثم أخرج المال ديناً لمعسر فلا زكاة فيه، وإن كان على موسر باذل ففيه الزكاة كل سنة.
القول الثالث: لا زكاة في الدين مطلقاً، سواء كان على غني أو غير غني؛ لأن الدين في ذمة الغير ليس في يدك حتى يكون في جملة مالك؛ فلا زكاة في الدين حتى يقبضه.
القول الرابع: أنه إذا كان يؤمل وجوده فتجب فيه الزكاة، كالدين على الفقير، فيحتمل أن يجده، وإن كان لا يؤمل وجوده كالضائع، والمنسي، والضال فلا زكاة عليه.
والصحيح أنه تجب الزكاة فيه كل سنة، إذا كان على غني باذل؛ لأنه في حكم الموجود عندك؛ ولكن يؤديها إذا قبض الدين، وإن شاء أدى زكاته مع زكاة ماله، والأول رخصة والثاني فضيلة، وأسرع في إبراء الذمة.
أما إذا كان على مماطل أو معسر فلا زكاة عليه ولو بقي عشر سنوات؛ لأنه عاجز عنه، ولكن إذا قبضه يزكيه مرة واحدة في سنة القبض فقط، ولا يلزمه زكاة ما مضى.
وهذا القول قد ذكره الشيخ العنقري في حاشيته عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده (1) رحمهم الله وهو مذهب
__________
(1) انظر: «حاشية العنقري على الروض» (1/361) .(6/27)
الإمام مالك ـ رحمه الله ـ، وهذا هو الراجح لما يلي:
أولاً: أنه يشبه الثمرة التي يجب إخراج زكاتها عند الحصول عليها، والأجرة التي اختار شيخ الإسلام وجوب الزكاة فيها حين القبض، ولو لم يتم عليها حول (1) .
ثانياً: أن من شرط وجوب الزكاة: القدرة على الأداء، فمتى قدر على الأداء زكى.
ثالثاً: أنه قد يكون مضى على المال أشهر من السنة قبل أن يخرجه ديناً.
رابعاً: أن إسقاط الزكاة عنه لما مضى، ووجوب إخراجها لسنة القبض فقط، فيه تيسير على المالك؛ إذ كيف توجب عليه الزكاة مع وجوب إنظار المعسر، وفيه أيضاً تيسير على المعسر؛ وذلك بإنظاره.
ومثل ذلك، المال المدفون المنسي، فلو أن شخصاً دفن ماله خوفاً من السرقة ثم نسيه، فيزكيه سنة عثوره عليه فقط.
وكذلك المال المسروق إذا بقي عند السارق عدة سنوات، ثم قدر عليه صاحبه، فيزكيه لسنة واحدة، كالدين على المعسر.
مسألة مهمة كَثُر السؤال عنها وذلك حين كسدت الأراضي:
مثاله: اشترى إنسانٌ أرضاً وقت الغلاء ثم كسدت، ولم يجد من يشتريها لا بقليل ولا بكثير، فهل عليه زكاة في مدة الكساد أو لا؟
__________
(1) «الاختيارات» ص (98) .(6/28)
الجواب: يرى بعض العلماء: أنه لا شيء عليه في هذه الحال؛ لأن هذا يشبه الدين على المعسر في عدم التصرف فيه، حتى يتمكن من بيعها، فإذا باعها حينئذ قلنا له: زك لسنة البيع فقط.
وهذا في الحقيقة فيه تيسير على الأمة، وفيه موافقة للقواعد؛ لأن هذا الرجل يقول: أنا لا أنتظر الزيادة أنا أنتظر من يقول: بع علي.
والأرض نفسها ليست مالاً زكوياً في ذاتها حتى نقول: تجب عليك الزكاة في عينه.
أما الدراهم المبقاة في البنك، أو في الصندوق من أجل أن يشتري بها داراً للسكنى أو يجعلها صداقاً، فهي لا تزيد لكن لا شك أن فيها زكاة.
والفرق بينها وبين الأرض الكاسدة: أن الزكاة واجبة في عين الدراهم، وأما الزكاة في العروض فهي في قيمتها، وقيمتها حين الكساد غير مقدور عليها، فهي بمنزلة الدين على معسر.
قوله: «ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب» أي: إذا كان عند الإنسان نصاب من الذهب، أو من الفضة، أو من الحبوب، أو الثمار، أو من المواشي ولكن عليه دينٌ ينقص النصاب فلا زكاة فيما عنده.
مثال ذلك: رجل بيده مائة ألف، وعليه تسعة وتسعون ألفاً وتسعمائة، فالفاضل عنده الآن مائة، والمائة دون النصاب فليس فيها زكاة.(6/29)
هذا هو المشهور من المذهب، وهو القول الأول، وقد استدلوا بالأثر، والنظر.
أما الأثر: فما روي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يخطب فيقول: (أيها الناس إن هذا شهر زكاة أموالكم فمن كان عليه دين فليقضه، ثم ليزك) (1) ، وعثمان ـ رضي الله عنه ـ أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم.
وأما النظر: فلأن الزكاة إنما تجب مواساة؛ ليواسي الغني الفقير، ومن عليه دين فهو فقير يحتاج من يعطيه ليوفي دينه.
ولأننا لو أوجبنا الزكاة عليه، لأخذت الزكاة على هذا المال مرتين، مرةً من المدين، ومرة من الدائن.
ولا فرق بين الدين المؤجل والدين الحال، فكله سواء أي: إذا كان عليه دين لا يحل موعده إلا بعد عشر سنوات، وبيده مال ينقصه الدين عن النصاب فلا زكاة عليه.
مثاله: رجل عليه عشرة آلاف درهم تحل بعد عشر سنوات، وبيده الآن عشر آلاف درهم فنقول: لا زكاة عليه.
القول الثاني: أنه لا أثر للدين في منع الزكاة، وأن من كان عنده نصاب فليزكه، ولو كان عليه دين ينقص النصاب، أو يستغرق النصاب، أو يزيد على النصاب.
واستدل هؤلاء بما يلي:
1 ـ العمومات الدالة على وجوب الزكاة في كل ما بلغ النصاب.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك (1/253) ؛ والشافعي (620) ترتيب «المسند» ؛ والبيهقي (4/148) ، وصححه في الإرواء (3/260) .(6/30)
مثل: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «فيما سقت السماء العشر» (1) وحديث أنس بن مالك في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر «وفي الرقة في كل مائتي درهم ربع العشر ـ الرقة هي الفضة ـ وكذلك ذكر في سائمة بهيمة الأنعام في كل خمس من الإبل شاة، وفي كل أربعين شاة شاة» (2) .
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث العمال الذين يقبضون الزكاة من أصحاب المواشي، ومن أصحاب الثمار (3) ، ولا يأمرهم بالاستفصال هل عليهم دين أم لا؟ مع أن الغالب أن أهل الثمار عليهم ديون في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن من عادتهم أنهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فيكون على صاحب البستان دين سلف، ومع ذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرص عليهم ثمارهم، ويزكونها.
3 ـ أن الزكاة تجب في المال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذاً إلى اليمن، وقال: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد
__________
(1) سيأتي تخريجه ص (67) .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب زكاة الغنم (1454) .
(3) ومن ذلك ما رواه ابن الساعدي المالكي: أنه قال: «استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها، وأديتها إليه، أمر لي بعمالة، فقلت: إنما عملت لله وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت، فإني عملت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَعَمَّلَنِي، فقلت مثل قولك، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق» ؛ أخرجه مسلم في الزكاة/ باب جواز الأخذ بغير سؤال ولا تطلع (1045) (112) .(6/31)
على فقرائهم» (1) والدين يجب في الذمة لا في المال؛ ولذلك لو تلف المال الذي بيدك كله لم يسقط عنه شيء من الدين، فلو استقرض مالاً واشترى به سلعاً للبيع والشراء والاتجار، ثم هلك المال لم يسقط الدين؛ لأنه يتعلق بالذمة، والزكاة تجب في عين المال، فالجهة منفكة وحينئذ لا يحصل تصادم أو تعارض.
وأما أثر عثمان ـ رضي الله عنه ـ فإننا نسلم أنه إذا كان على الإنسان دين حال، وقام بالواجب وهو أداؤه فليس عليه زكاة؛ لأنه سيؤدي من ماله، وسَبْقُ الدين يقتضي أن يقدم في الوفاء على الزكاة؛ لأن الزكاة لا تجب إلا إذا تم الحول، والدين سابق، فكان لسبقه أحق بالتقديم من الزكاة.
ونحن نقول لمن اتقى الله، وأوفى ما عليه: لا زكاة عليك إلا فيما بقي، أما إذا لم يوف ما عليه، وماطل لينتفع بالمال، فإنه لا يدخل فيما جاء عن عثمان، فعليه زكاته.
وأما الدليل النظري: وهو أن الزكاة وجبت مواساة، فنقول:
أولاً: نمانع في هذا الشيء، فأهم شيء في الزكاة ما ذكره الله ـ عزّ وجل ـ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فهي عبادة يطهر بها الإنسان من الذنوب، فإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتزكو بها النفوس، ويشعر الإنسان إذا بذلها، بانشراح صدر واطمئنان قلب، فليس المقصود من الزكاة هو المواساة فقط.
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/32)
ثم على فرض أن من أهدافها المواساة فإن هذا لا يقتضي تخصيص العمومات؛ لأن تخصيص العمومات معناه إبطال جانب منها، وهو الذي أخرجناه بالتخصيص، وإبطال جانب من مدلول النص ليس بالأمر الهين الذي تقوى عليه علة مستنبطة قد تكون عليلة، وقد تكون سليمة، وقد تكون حية، وقد تكون ميتة.
لكن لو نص الشارع على هذا، لكان للإنسان مجال أن يقول: إن المدين ليس أهلاً لأن يواسي بل يحتاج إلى من يواسيه.
وأما حاجة المدين فعلى الرحب والسعة، فهو أحد الأصناف الذين تدفع إليهم الزكاة؛ لقضاء حاجتهم، فهو من الغارمين فنقول: نحن نقضي دينك من الزكاة، وأنت تتعبد لله بأداء الزكاة.
وأما قولهم: إن إيجاب الزكاة يقتضي إيجاب الزكاة في المال مرتين.
فالجواب: أن المدين قد لا يكون في يده نفس المال الذي أخذه من الدائن؛ فقد يستدين دراهم، ويكون عنده مواشٍ، أو بالعكس، وهذا كثير، ثم على فرض أن يكون هو نفس المال، فيقال: الجهة منفكة؛ لأن المال الذي بيد المدين ماله يتصرف فيه كيف يشاء، فملكهُ له ملك تامٌ، والدين الذي للدائن في ذمة المدين لا دخل له في هذا المال الذي بيد المدين.
فإن قال قائل: كيف يمكن أن يكون الإنسان مزكياً، وله أن يأخذ الزكاة؟(6/33)
فنقول: ليس فيه غرابة؛ لو كان عند الإنسان نصاب أو نصابان لا يكفيانه للمؤنة، لكنهما يبقيان عنده إلى الحول فهنا نقول: نعطيه للمؤنة ونأمره بالزكاة، ولا تناقض.
القول الثالث: أن الأموال الظاهرة تجب فيها الزكاة، ولو كان عليه دين ينقص النصاب، والأموال الباطنة لا تجب فيها الزكاة إذا كان عليه دين ينقص النصاب.
والأموال الظاهرة هي: الحبوب، والثمار، والمواشي.
والأموال الباطنة هي: الذهب والفضة، والعروض؛ لأن الزكاة تجب في قيمتها وهي باطنة.
واستدلوا بما يلي:
أولاً: العمومات «في كل أربعين شاة شاة» (1) .
ثانياً: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث العمال لقبض الزكاة من الأموال الظاهرة دون أن يأمرهم بالاستفصال مع أن الغالب على أهل الثمار أن تكون عليهم ديون.
ثالثاً: أن الأموال الظاهرة تتعلق بها أطماع الفقراء؛ لأنهم يشاهدونها، فإذا لم يؤد زكاتها بحجة أن عليه ديناً والدين من الأمور الباطنة؛ فإن الناس إذا رأوا أنه لم يؤد الزكاة عن هذه الأموال الظاهرة سيسيئون به الظن، وكما أن في عدم إخراج الزكاة في هذه الحال إيغاراً لصدور الفقراء.
ولكن هذا القول وإن كان يبدو في بادئ الرأي أنه قوي
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/34)
لكنه عند التأمل ضعيف؛ لأن استدلالهم بالعمومات يشمل الأموال الباطنة، ولأن كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم يبعث العمال ولا يستفصلون يدل على أن الزكاة تتعلق بالمال، ولا علاقة للذمة فيها، وهذا لا فرق فيه بين المال الظاهر والمال الباطن؛ ولأن الدَّيْن أمر باطن تستوي فيه الأموال الظاهرة والأموال الباطنة.
وإذا قلنا: إنها مواساة فلا فرق بين هذا وهذا؛ ولأن ما ذكروا أنه أموال باطنة فيه نظر، فالتاجر عند الناس تاجر ومعروف، فقد يكون عنده مثلاً معارض سيارات ومخازن أدوات، وأنواع عظيمة من الأقمشة، ودكاكين كثيرة من المجوهرات، أيهما أظهر هذا، أو غنيمات في نقرة بين رمال عند بدوي لا يُعْرف في السوق؟!
الجواب: الأول.
فالخفاء والظهور أمر نسبي، فقد يكون الظاهر باطناً، ويكون الباطن ظاهراً.
والذي أرجحه: أن الزكاة واجبة مطلقاً، ولو كان عليه دين ينقص النصاب، إلا ديناً وجب قبل حلول الزكاة فيجب أداؤه ثم يزكي ما بقي بعده، وبذلك تبرأ الذمة، ونحن إذا قلنا بهذا القول نحث المدينين على الوفاء.
فإذا قلنا لمن عليه مائة ألف ديناً، ولديه مائة وخمسون ألفاً، والدين حال: أدِّ الدين، وإلا أوجبنا عليك الزكاة بمائة الألف، فهنا يقول: أؤدي الدين، لأن الدين لن أؤديه مرتين.
وهذا الذي اخترناه هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز.(6/35)
والتفريق بين الأموال الظاهرة والباطنة اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.
وهذا الذي رجحناه أبرأ للذمة، وأحوط، والحمد لله «ما نقصت صدقة من مال» كما يقوله المعصوم عليه الصلاة والسلام (1) .
وَلاَ زَكَاةَ فِي مَالِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُنْقِصُ النِّصَاب..........
وقوله: «ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب» ظاهر كلامه ـ رحمه الله ـ أنه لا فرق بين أن يكون الدين من جنس ما عنده، أو من غير جنسه، فإذا كان عليه دين من الذهب، وعنده فضة فلا زكاة فيها، وكذا لو كان عنده دين من الفضة، وعنده مواشٍ فلا زكاة فيها.
وَلَوْ كَانَ المَالُ ظَاهِراً،.........
قوله: «ولو كان المال ظاهراً» «لو» هذه إشارة خلاف، وعادة الفقهاء ـ رحمهم الله ـ إذا جاؤوا بـ «لو» فالغالب أن الخلاف قوي، وإذا جاؤوا بـ «حتى» فالغالب أن الخلاف ضعيف، وإذا جاؤوا بالنفي فقالوا مثلاً: ولا يشترط كذا وكذا، فهذا إشارة إلى أن فيه خلافاً قد يكون ضعيفاً، وقد يكون قوياً، لكنهم لا يأتون بمثل هذا العبارة «ولا يشترط» إلا وفيه خلاف بالاشتراط؛ لأنه لو لم يكن خلاف فلا حاجة إلى نفيه؛ لأن عدم ذكره يعني نفيه، فإذا وجدت في كلام بعد ذكر الشروط والواجبات: «ولا يشترط كذا» ، أو «لا يجب كذا» فاعلم أن في المسألة خلافاً، وقد تقدم بيان القول الذي أشار إليه المؤلف، والمال الظاهر هو الذي يحفظ في الصناديق والبيوت، مثل: الماشية والثمار والحبوب.
__________
(1) سبق تخريجه ص (10) .(6/36)
وَكَفَّارَةٌ كَدَيْنٍ..........
قوله: «وكفارة كدين» يعني لو وجب على الإنسان كفارة تنقص النصاب، فلا زكاة عليه فيما عنده؛ لأن الكفارة كالدين، بل هي دين، لكن الدائن فيها هو الله ـ عزّ وجل ـ.
مثال ذلك: رجل عنده ثلاثمائة صاع من الحبوب، لكن عليه إطعام ستين مسكيناً فيلزمه ثلاثون صاعاً، إذا قلنا: كل صاع لاثنين، وعليه فليس عليه زكاة في الثلاثمائة صاع؛ لأن عليه كفارة تنقص النصاب.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الكفارة وهي حق لله كدين الآدمي؟
قلنا: الدليل «أن امرأة سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت فقال لها: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» (1) فجعل حق الله كحق الآدمي ديناً يقضى.
ووجه نص المؤلف ـ رحمه الله ـ على هذه المسألة، مع أنها داخلة في التي قبلها، أن فيها خلافاً حتى على القول بأن الدين يمنع وجوب الزكاة إذا أنقص النصاب، فمن أهل العلم من يفرق بين الكفارة والدين في منع وجوب الزكاة إذا أنقصت النصاب؛ لأن الكفارة حق لله ـ تعالى ـ متعلق بالذمة، والزكاة حق لله ـ تعالى ـ متعلق بالمال والذمة، وما كان متعلقاً بالمال والذمة أولى بالمراعاة، ولكن المذهب أنهما سواء.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد/ باب الحج والنذور عن الميت ... (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/37)
وَإن مَلَكَ نِصَاباً صِغَاراً انْعَقَدَ حَولُهُ حِينَ مَلَكَهُ وَإِنْ نَقَصَ النِّصَابُ فِي بَعْضِ الحَوْلِ أوْ بَاعَهُ أوْ أبْدَلَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ لاَ فِرَاراً مِن الزَّكَاةِ انْقَطَعَ الحولُ، وإِنْ أَبْدَلَهُ بِجِنْسِهِ بَنَى عَلى الحَوْلِ.
قوله: «وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله حين ملكه» أي: في المواشي، إن ملك نصاباً صغاراً انعقد حوله من حين ملكه؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «في كل أربعين شاة شاة» لكن إن كانت هذه الصغار تتغذى باللبن فقط فلا زكاة فيها؛ لأنها غير سائمة الآن، ومن شروط وجوب الزكاة في الماشية أن تكون سائمة، وهذه الصغار لا ترعى، وإنما تسقى اللبن.
وإنما نص المؤلف ـ رحمه الله ـ على هذه المسألة؛ لأن من أهل العلم من يشترط لانعقاد الحول فيما إذا ملك نصاباً صغاراً من حين ملكه أن يبلغ سناً يجزئ في الزكاة، لكن الصواب ما قاله المؤلف من أجل العموم.
قوله: «وإن نقص النصاب في بعض الحول.... انقطع الحول» . أي: فلا زكاة لنقص النصاب.
مثال ذلك: رجل عنده (200) درهم، وفي أثناء الحول اشترى منها بخمسة دراهم فلا زكاة في الباقي؛ لأنه نقص النصاب قبل تمام الحول.
قوله: «أو باعه» أي: باع النصاب، فإذا باع النصاب في أثناء الحول انقطع فلا زكاة، ويستثنى من ذلك عروض التجارة كما سيأتي.
مثاله: رجل عنده (40) شاة سائمة، وقبل تمام الحول باع شاة بدراهم وهو ليس متجراً، لكن رأى أنها أتعبته في الأكل والشرب والمرعى فباعها، فينقطع الحول، فيبدأ بالدراهم حولاً جديداً حتى لو باعها قبل تمام الحول بيوم أو يومين.(6/38)
قوله: «أو أبدله بغير جنسه لا فراراً من الزكاة انقطع الحول» الحقيقة أن الإبدال بيع، لكن ما دام أن المؤلف ـ رحمه الله ـ قال: «باعه أو أبدله» فيجب أن نجعل البيع بالنقد، والإبدال بغير النقد؛ وذلك لأن الأصل في العطف التغاير، وهذا يقتضي أن يكون المراد بالإبدال غير البيع.
فنقول: إذا باع (40) شاة بدراهم فهذا بيع.
وإذا أبدل (40) شاة بثلاثين بقرة فهذا إبدال، وإلا فالبيع بدل كما قالوا في تعريف البيع: «هو مبادلة مال، ولو في الذمة بمثل أحدهما ... » .
وقوله: «أو أبدله بغير جنسه» أي: إذا أبدله بغير جنسه حقيقة أو حكماً، ومثال إبدال جنس النصاب حقيقة: إذا أبدل نصاب سائمة الغنم بسائمة البقر، فإنه ينقضي الحول؛ لأن الجنس هنا يختلف حقيقة ويمكن أن يقال: يختلف حكماً أيضاً؛ لأن الواجب في البقر يختلف عن الغنم.
ومثال إبدال جنس النصاب حكماً: إذا أبدل نصاب سائمة الغنم بنصاب عروض التجارة من الغنم، فإن الحول ينقطع لأن الحكم يختلف، فهو كما لو أبدله بغير جنسه.
مسألة: إذا أبدل ذهباً بفضة، أي: كان عنده (20) ديناراً وفي أثناء الحول باعها بـ (200) درهم.
فظاهر كلام المؤلف: أن الحول ينقطع؛ لأن الذهب غير الفضة بنص الحديث.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... فإذا(6/39)
اختلفت هذا الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) .
وعلى هذا فيكون كلام المؤلف عاماً، حتى في إبدال الذهب بالفضة.
والمذهب: أن إبدال الذهب بالفضة لا يقطع الحول؛ لأنها في حكم الجنس الواحد، بدليل أن أحدهما يكمل بالآخر في النصاب.
والصحيح: أن أحدهما لا يكمل بالآخر في النصاب، وأن الحول ينقطع؛ لأنها من جنسين، وأيضاً عروض التجارة تجب في قيمتها فلا ينقطع الحول إذا أبدل عروض التجارة بذهب أو فضة، وكذلك إذا أبدل ذهباً أو فضة بعروض تجارة؛ لأن العروض تجب الزكاة في قيمتها لا في عينها، فكأنه أبدل دراهم بدراهم فالذهب والفضة والعروض تعتبر شيئاً واحداً، وكذا إذا أبدل ذهباً بفضة إذا قصد بهما التجارة، فيكونان كالجنس الواحد.
وقوله: «لا فراراً من الزكاة» لا نافية للجنس، وقوله «فراراً» مفعول لأجله، والمعنى أنه إن كان بيع النصاب وتبديله بغير جنسه؛ لأجل الفرار من الزكاة فإنه لا ينقطع الحول؛ لأنه فعل ذلك تحيلاً على إسقاط الواجب والتحيل على إسقاط الواجب لا يسقطه، كما أن التحيل على الحرام لا يبيحه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى
__________
(1) أخرجه مسلم في المساقاة/ باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً (1587) (81) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(6/40)
الحيل» (1) ، لأن العبرة في الأفعال بالمقاصد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) ، وهذه هي قاعدة الحيل.
ومثال هذه المسألة: لو أن إنساناً عنده نصاب من الغنم السائمة فلما قارب الحول على التمام أبدلها بمثلها عروضاً؛ لئلا تلزمه الزكاة في السائمة فهنا لا ينقطع الحول؛ لأنه فعل ذلك فراراً من الزكاة.
مسألة: لو أن إنساناً عنده دراهم كثيرة، وأراد أن يشتري بها عقاراً يؤجره لئلا تجب عليه زكاتها، فهل تسقط عنه الزكاة بذلك؟
ظاهر كلام الفقهاء أن الزكاة تسقط عنه، ولكن لا بد أن نقول: إن كلامهم في هذا الباب يدل على أنها لا تسقط بهذا التبديل، فيقوّم هذه العقارات كل سنة، ويؤدي زكاتها، وإن كان الأصل أنه ليس فيها زكاة، لكن الفار يعاقب بنقيض قصده.
قوله: «وإن أبدله بجنسه بنى على الحول» أي: لو أبدل النصاب بجنسه، فإنه لا ينقطع الحول، مثال ذلك: أن تبيع المرأة ذهبها الحلي بذهب، فإن الحول لا ينقطع؛ لأنها أبدلته بجنسه. ومثاله أيضاً: إنسانٌ عنده مائة شاة أسترالية أبدلها بمائة شاة نجدية، فإن الحول لا ينقطع؛ لأن الجنس واحد والحكم واحد.
__________
(1) أخرجه ابن بطة في «إبطال الحيل» (24) وجوَّد إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في «إبطال التحليل» ، انظر «الفتاوى الكبرى» (3/123) .
(2) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) ؛ ومسلم كتاب الإمارة/ باب قوله «إنما الأعمال بالنيات» (1907) عن عمر ـ رضي الله عنه ـ.(6/41)
أما إذا اتفقا في الجنس واختلفا في الحكم، فإنه ينقطع الحول، مثال ذلك: إذا أبدل ماشية سائمة بماشية عروض تجارة فإنه ينقطع الحول؛ لأن المال في الحقيقة اختلف فالنصاب الأخير، وهو عروض التجارة لا يراد به عين المال، بل يراد به قيمته، ولذلك ينبغي أن يضاف إلى قول المؤلف: «وإن أبدله بجنسه» قيد، وهو «واتفقا في الحكم» «بنى على الحول» بأن كانا عروضاً أو سائمة أو ما أشبه ذلك.
وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِ المَالِ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالذِّمةِ........
قوله: «وتجب الزكاة في عين المال، ولها تعلق بالذمة» اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل الزكاة واجبة في الذمة، أو واجبة في عين المال؟
فقال بعض العلماء: إنها واجبة في الذمة، ولا علاقة لها بالمال إطلاقاً.
بدليل أن المال لو تلف بعد وجوب الزكاة لوجب على المرء أن يؤدي الزكاة.
وقال بعض العلماء: بل تجب الزكاة في عين المال، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه لليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» (1) فالزكاة واجبة في عين المال.
وكلا القولين يرد عليه إشكال؛ لأننا إذا قلنا: إنها تجب في عين المال صار تعلقها بعين المال كتعلق الرهن بالعين المرهونة،
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/42)
فلا يجوز لصاحب المال إذا وجبت عليه الزكاة أن يتصرف فيه، وهذا خلاف الواقع، حيث إن من وجبت عليه الزكاة له أن يتصرف في ماله، ولو بعد وجوب الزكاة فيه لكن يضمن الزكاة.
وإذا قلنا: بأنها واجبة في الذمة، فإن الزكاة تكون واجبة حتى لو تلف المال بعد وجوبها من غير تعد ولا تفريط وهذا فيه نظر أيضاً.
فالقول الذي مشى عليه المؤلف قول جامع بين المعنيين، وهو أنها تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة، فالإنسان في ذمته مطالب بها، وهي واجبة في المال ولولا المال لم تجب الزكاة، فهي واجبة في عين المال.
إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة واحدة، وهي العروض، فإن الزكاة لا تجب في عينها، ولكن تجب في قيمتها، ولهذا لو أخرج زكاة العروض منها لم تجزئه، بل يجب أن يخرجها من القيمة.
فصاحب الدكان إذا تم الحول، وقال: عندي سكر، وشاي، وثياب، سأخرج زكاة السكر من السكر، والشاي من الشاي، والثياب من الثياب؛ فإننا نقول له: يجب أن تخرج من القيمة، فَقَدِّر الأموال التي عندك، وأخرج ربع عشر قيمتها؛ لأن ذلك أنفع للفقراء؛ ولأن مالك لم يثبت من أول السنة إلى آخرها على هذا فربما تُغَيِّرُ السكر ـ مثلاً ـ بأرز، أو بر، أو بغير ذلك، بخلاف السائمة فإنها تبقى من أول الحول إلى آخره، وتخرج من عينها.
فالصحيح أنه لا يصح إخراج زكاة العروض إلا من القيمة.(6/43)
وعلى القول بأن الزكاة تجب في عين المال ولها تعلق بالذمة، فإنه يجوز لمن وجبت عليه الزكاة أن يبيع المال، ولكن يضمن الزكاة، ويجوز أن يهبه ولكن يضمن الزكاة؛ لأن هذا التعلق بالمال ليس تعلقاً كاملاً من كل وجه حتى نقول: إن المال الواجب فيه الزكاة كالموهوب، بل لها تعلق بالذمة.
مسألة: ينبني على الخلاف في تعلق الزكاة بالمال أو بالذمة عدة مسائل ذكرها ابن رجب في القواعد، أوضحها لو كان عند إنسان نصاب واحد حال عليه أكثر من حول، فعلى القول بأنها تجب في الذمة يجب عليه لكل سنة زكاة، وعلى القول بأنها تجب في عين المال، لم يجب عليه إلا زكاة سنة واحدة ـ السنة الأولى ـ لأنه بإخراج الزكاة سينقص النصاب، فإذا كان عند الإنسان أربعون شاة سائمة ومضى عليها الحول ففيها شاة، وبها ينقص النصاب؛ لأن الزكاة واجبة في عين المال، أما إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة، فإنها تجب في كل سنة شاة.
وقد ذكر ابن رجب فوائد أخرى تنبني على هذا الخلاف من أرادها فليراجعها (1) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا إِمْكَانُ الأدَاءِ، وَلاَ بَقَاءُ المَالِ،...........
قوله: «ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء» أي: لا يشترط لوجوب الزكاة أن يتمكن من أدائها؛ ولهذا تجب في الدين مع أنه لا يمكن أن تؤدى منه، وهو في ذمة المدين، وفي المال الضائع
__________
(1) القاعدة 85، 138.(6/44)
إذا وجده، وفي المال المجحود إذا أقر به المنكر، وهكذا، فلا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء، بل تجب وإن كان لا يتمكن من أدائها، ولكن لا يجب الإخراج حتى يتمكن من الأداء.
قوله: «ولا بقاء المال» أي: لا يعتبر في وجوبها بقاء المال، فلو تلف المال بعد تمام الحول، ووجوب الزكاة فيه، فعليه الزكاة سواء فرط أو لم يفرط؛ لأنها وجبت، وصارت ديناً في ذمته.
وعليه لو أن صاحب الزكاة عنده عروض تجارة تم الحول عليها، وزكاتها تبلغ (10.000) ريال ثم احترق الدكان، ولم يبق منه درهم واحد، فعلى كلام المؤلف يضمن؛ لأنه لا يعتبر في وجوبها بقاء المال.
والصحيح في هذه المسألة أنه إن تعدى أو فرط ضمن، وإن لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان؛ لأن الزكاة بعد وجوبها أمانة عنده، والأمين إذا لم يتعد ولم يفرط فلا ضمان عليه.
ولو أن فقيراً وضع عند شخص دراهم له، ثم تلفت عند المودع بلا تعد ولا تفريط فلا يلزمه أن يضمن للفقير ماله، فالزكاة من باب أولى، مع أن الفقير لا يملك الزكاة إلا من جهة المزكي، فكيف يضمن وهو لم يتعد ولم يفرط؟
فإن تعدى بأن وضع المال في مكان يُقَدَّرُ فيه الهلاك، ضمن ما تلف من المال بعد وجوب الزكاة.
وكذلك لو فرط فأخر إخراجها بلا مسوغ شرعي، وتلف المال فإنه يضمن الزكاة.
أما إذا لم يتعد ولم يفرط وكان مستعداً للإخراج وقت(6/45)
الإخراج، ولكن جاءه أمر أهلك ماله فكيف نضمنه؟!
فالصواب أنه لا يشترط لوجوبها بقاء المال، إلا أن يتعدى، أو يفرط (1) .
والزَّكَاةُ كالدَّينِ فِي التَّرِكةِ..........
قوله: «والزكاة كالدين في التركة» أي: إذا مات الرجل وعليه زكاة، فإن الزكاة حكمها حكم الدين، في أنها تقدم على الوصية وعلى الورثة؛ فلا يستحق صاحب الوصية شيئاً إلا بعد أداء الزكاة، وكذلك لا يستحق الوارث شيئاً إلا بعد أداء الزكاة، فإذا قدرنا أن رجلاً لزمه (10.000) زكاة، ثم تلف ماله إلا عشرة آلاف، ومات ولم يخلف سواها فتصرف للزكاة، ولا شيء للورثة.
ودليل ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» (2) .
والزكاة مقدمة على الوصية، وعلى الإرث.
وهذا فيما إذا كان الرجل لم يتعمد تأخير الزكاة، فإننا نخرجها من تركته، وتجزئ عنه، وتبرأ بها ذمته كرجل يزكي كل سنة، وتم الحول في آخر سنواته في الدنيا ثم مات، فهنا نخرجها وتبرأ بها ذمته.
أما إذا تعمد ترك إخراج الزكاة، ومنعها بخلاً ثم مات، فالمذهب (3) أنها تخرج وتبرأ منها ذمته.
__________
(1) انظر كلام فضيلة شيخنا على قول المؤلف: «ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر..» ص (80) .
(2) سبق تخريجه ص (37) .
(3) الروض مع حاشية ابن قاسم (3/294) .(6/46)
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إنها لا تبرأ منها ذمته ولو أخرجوها من تركته؛ لأنه مصِرٌّ على عدم الإخراج فكيف ينفعه عمل غيره؟ وقال: إن نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشرع تدل على هذا (1) .
وما قال ـ رحمه الله ـ صحيح في أنه لا يجزئ ذلك عنه، ولا تبرأ بها ذمته.
ولكن كوننا نسقطها عن المال هذا محل نظر؛ فإن غلبنا جانب العبادة، قلنا: بعدم إخراجها من المال؛ لأنها لا تنفع صاحبها، وإن غلبنا جانب الحق؛ أي: حق أهل الزكاة، قلنا: بإخراجها؛ لنؤدي حقهم، وإن كانت عند الله لا تنفع صاحبها.
والأحوط أننا نخرجها من تركته؛ لتعلق حق أهل الزكاة بها، فلا تسقط بظلم من عليه الحق، وسبق حقهم على حق الورثة، ولكن لا تنفعه عند الله؛ لأنه رجل مصر على عدم إخراجها.
مسألة: لو مات شخص وعليه دين وزكاة فأيهما يقدم؟
مثاله: رجل خلف (100) ريال، وعليه زكاة (100) ريال، ودين (100) ريال فهل يقدم حق الآدمي، أو تقدم الزكاة؟
في المسألة ثلاثة أقوال:
قال بعض العلماء: يقدم دين الآدمي؛ لأنه مبني على المشاحة؛ ولأن الآدمي محتاج إلى دفع حقه إليه في الدنيا، أما
__________
(1) انظر: «بدائع الفوائد» (3/104) .(6/47)
حق الله فالله غني عنه، وحقه سبحانه وتعالى مبني على المسامحة.
وقال بعض العلماء: يقدم حق الله لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» .
وقال بعض العلماء: إنهما يتحاصان؛ لأن كلاً منهما واجب في ذمة الميت، فيتساويان فإن كان عليه (100) ديناً و (100) زكاة، وخلف (100) فللزكاة (50) وللدين (50) .
ويجاب عن الحديث أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم بين دينين أحدهما للآدمي، والثاني لله، وإنما أراد القياس؛ لأنه سأل: «أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيتَهُ؟» قالت: نعم، قال: «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» (1) .
فكأنه قال: إذا كان يقضى دين الآدمي، فدين الله من باب أولى وهذا هو المذهب، وهو الراجح.
__________
(1) سبق تخريجه ص (37) .(6/48)
بابُ زَكَاة بَهِيمَةِ الأنْعَامِ
بدأ بها المؤلف اقتداء بحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في الكتاب الذي كتبه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ، وبين فيه الصدقات، فقد قدم بهيمة الأنعام.
قوله: «بهيمة الأنعام» هي: الإبل، والبقر، والغنم، قال الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] .
وسميت بهيمة؛ لأنها لا تتكلم، وهي مأخوذة من الإبهام، وهو الإخفاء وعدم الإيضاح، ولكنها تتكلم فيما بينها كلاماً معروفاً، ولهذا تحن الإبل إلى أولادها فتأتي الأولاد، وتنهرها فتنتهر، وكذلك بقية الحيوان، قال موسى عليه السلام ـ لما سأله فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [طه: 49]ـ قال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أي: أعطاه خلقه اللائق به، ثم هداه لمصالحه، ولهذا يهتدي كل ما خلقه الله ـ عزّ وجل ـ لمصالحه فيأكل ما يليق به ويشرب ما يليق به، فكل شيء بحسبه.
وبهيمة الأنعام ثلاثة أصناف: الإبل، والبقر، والغنم.
والإبل سواء كانت عراباً، أو بخاتي، وهي التي لها سنامان، وهي معروفة في القارة الآسيوية.
وأما البقر أيضاً فتشمل البقر المعتادة، والجواميس.
والغنم تشمل الماعز والضأن، ولا يدخل فيها الظباء؛ لأن الظباء ليست من أصل الغنم، فلا تدخل في زكاة السائمة.(6/49)
والدليل على وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام: حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في الكتاب الذي كتبه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وفيه: «هذه فريضة الصدقة التي فرضها النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين..» الحديث (1) وذكر الغنم، والإبل، وأما البقر فجاء ذكرها في حديث آخر (2) .
واعلم أن بهيمة الأنعام تتخذ على أقسام:
القسم الأول: أن تكون عروض تجارة، فهذه تزكى زكاة العروض.
فقد تجب الزكاة في شاة واحدة، أو في بعير واحد، أو في بقرة واحدة؛ لأن المعتبر في عروض التجارة القيمة، فإذا كان هذا هو المعتبر فما بلغ نصاباً بالقيمة ففيه الزكاة، سواء كانت سائمة أو معلوفة، مؤجرة كانت، أو مركوبة للانتفاع.
القسم الثاني: السائمة، المعدة للدر والنسل، وهي التي ترعى، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] . اتخذها صاحبها لدرها، أي: لحليبها، وسَمْنِها، والنسل، ولا يمنع كونها معدة لذلك أن يبيع ما زاد على حاجته من أولادها، لأن هؤلاء الأولاد كثمر النخل.
القسم الثالث: المعلوفة المتخذة للدر والنسل، وهي التي يشتري لها صاحبها العلف، أو يحصده، أو يحشه لها، فهذه ليس فيها زكاة إطلاقاً، ولو بلغت ما بلغت؛ لأنها ليست من عروض التجارة، ولا من السوائم.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .
(2) سيأتي تخريجه ص (58) .(6/50)
القسم الرابع: العوامل، وهي: الإبل التي عند شخص يؤجرها للحمل فهذه ليس فيها زكاة، وهذا القسم كان موجوداً قبل أن تنتشر السيارات، فتجد الرجل عنده مائة بعير أو مائتان يؤجرها فينقل بها البضائع من بلد إلى بلد، وإنما الزكاة فيما يحصل من أجرتها إذا تم عليها الحول.
فصارت الأقسام أربعة، وكل قسم منها بينه الشارع بياناً واضحاً شافياً.
وأعم هذه الأقسام: عروض التجارة؛ لأنها تجب فيها الزكاة على كل حال.
تَجِبُ فِي إِبلٍ، وَبَقَرٍ، وَغَنَمٍ إِذَا كَانت سَائِمَةً الحَوْلَ، أوْ أَكْثَرَهُ.........
قوله: «تجب في إبل وبقر وغنم» «تجب» الفاعل الزكاة، أي: تجب الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة: الأول الإبل، والثاني البقر، والثالث الغنم.
قوله: «إذا كانت سائمة الحول أو أكثره» «سائمة» أي: التي ترعى المباح، والمباح هنا ليس ضد المحرم، وإنما الذي نبت بفعل الله ـ عزّ وجل ـ ليس بفعلنا، أما ما نزرعه نحن ونرعاه، فهذا لا يجعلها سائمة، كما لو كان عند الإنسان أمكنة واسعة يزرعها ثم جعل سائمته ترعى هذه الأمكنة الواسعة، فهذه لا تعد سائمة.
قوله: «الحول أو أكثره» الحول ظرف زمان لسائمة، والمعنى أنها ترعى المباح الحول أو أكثره أما كونها سائمة إذا رعت الحول فظاهر، وأما كونها سائمة برعيها أكثر الحول؛ فلأن الأقل يأخذ حكم الأكثر، فالاعتبار بالأكثر.(6/51)
فإذا كان عند الإنسان إبل ترعى خمسة أشهر، ويعلفها سبعة أشهر فلا زكاة فيها، وإذا كانت ترعى ستة أشهر ويعلفها ستة أشهر، فلا زكاة فيها، وإذا كانت ترعى كل الحول ففيها الزكاة، وإذا كانت ترعى سبعة أشهر ويعلفها خمسة ففيها الزكاة.
والدليل على اشتراط السوم، حديث أنس بن مالك في الكتاب الذي كتبه أبو بكر في الصدقات «وفي الغنم في سائمتها في كل أربعين شاة شاة» (1) قال: «في الغنم» ثم قال: «في سائمتها» وهذا عطف بيان، وعطف البيان كالصفة في تقييد الموصوف، فكأنه قال: وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة.
وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وفي كل إبل سائمة» (2) ، وهذا الحديث وإن كان مختلفاً فيه، لكن يدل على اشتراط السوم في الإبل، وكذلك فإن الإبل والبقر تقاسان على الغنم.
ويشترط كذلك أن تكون معدة للدر والنسل؛ ليخرج بذلك المعدة للتجارة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .
(2) أخرجه أحمد (5/2، 4) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب في زكاة السائمة (1575) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب عقوبة مانع الزكاة، وباب سقوط الزكاة عن الإبل ... (5/15، 25) ؛ وابن خزيمة (2266) ؛ والحاكم (1/397، 398) ؛ والبيهقي (4/105) .
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي، «قال أحمد: هو عندي صالح الإسناد» ، انظر «التلخيص الحبير» (829) .(6/52)
تنبيه: قول بعض الفقهاء: هل السوم شرط، أو عدمه مانع؟ قيل: إنه لا فرق بين العبارتين، فالخلاف لفظي.
وقيل: إنه خلاف حقيقي، ويترتب عليه: أننا إذا شككنا في السوم، أو عدمه، وقلنا: إن السوم شرط؛ لم تجب الزكاة؛ لأن الأصل عدم وجود الشرط، وإذا قلنا: إن عدمه مانع، فإنه تجب الزكاة هنا؛ لأننا لم نتحقق المانع؛ لأن الأصل عدم المانع.
فَيَجِبُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِن الإِْبِلِ بِنْتُ مُخَاضٍ، وَفِيمَا دُونَهَا فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ،.......
قوله: «فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، وفيما دونها في كل خمس شاة» هنا بين المؤلف مقدار الزكاة الواجبة، أي يجب في كل خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض، أي: بكرة صغيرة لها سنة، وسميت بنت مخاض؛ لأن الغالب أن أمها قد حملت فهي ماخض، والماخض الحامل، وفيما دون خمس وعشرين في كل خمس شاة، ففي الخمس الأولى شاة، وفي العشر شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه، وفي الخمس والعشرين بنت مخاض.
ولو أخرج خمس شياه عن خمس وعشرين لم تجزئ، ولو أخرج بنت مخاض في عشرين ـ فيها خلاف.
فقال بعض العلماء: لا يجزئ فيما دون خمس وعشرين بعير، ولو كبيراً؛ لحديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي كتبه قال: «وفيما دونها الغنم في كل خمس شاة» (1) أي فيما دون خمس وعشرين، في كل خمس شاة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/53)
وقال بعض العلماء: إذا كانت تجزئ بنت المخاض في خمس وعشرين، فإجزاؤها فيما دون ذلك من باب أولى، والشريعة لا تفرق بين متماثلين، والشارع أسقط الإبل فيما دون خمس وعشرين رفقاً بالمالك، وليس ذلك للتعييب.
وهذا هو الصحيح؛ لأن كل أحد يعلم أن الشريعة الكاملة المبنية على الدلالة النقلية والعقلية لا يمكن أن تقول: من عنده خمس وعشرون من الإبل، وأخرج بنت مخاض أجزأته، ومن عنده عشرون من الإبل وأخرج بنت مخاض لم تجزئه!!
وكذلك تجزئ بنت لبون، أو أكبر من ذلك.
وَفِي سِت وَثَلاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي ست وأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وَفِي إِحْدَى وَستِّينَ جَذَعَةٌ، وَفِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ،.....
قوله: «وفي ست وثلاثين بنت لبون» بنت اللبون: هي ما تم لها سنتان، وسميت بذلك؛ لأن الغالب أن أمها قد ولدت فأصبحت ذات لبن.
والوقص هو: ما بين الفرضين، ليس فيه شيء، فبين خمس وعشرين وست وثلاثين «عشر» ليس فيها شيء، وذلك رفقاً بالمالك.
وأما الذهب والفضة فلو زادت قيراطاً زادت الزكاة.
والحبوب والثمار لو زادت، زادت الزكاة بخلاف المواشي؛ لأنها تحتاج إلى مؤونة كثيرة من رعي وحلب وسقي، وغير ذلك، فجعل الشارع هذه الأوقاص لا زكاة فيها.
قوله: «وفي ست وأربعين حقة» الحقة هي: الأنثى من الإبل التي تم لها ثلاث سنوات، وسميت حقة؛ لأنها تتحمل الجمل،(6/54)
ولهذا جاء في حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ «حقة طروقة الجمل» (1) أي: تتحمل أن يطرقها الجمل فتحمل.
والوقص بينن ست وثلاثين وست وأربعين: «تسع» .
قوله: «وفي إحدى وستين جذعة» والجذعة: ما تم لها أربع سنوات.
والوقص ما بين ست وأربعين وإحدى وستين: «أربع عشرة» ليس فيه شيء.
فالأول أكثر من الثاني والثالث أكثر منهما.
قوله: «وفي ست وسبعين بنتا لبون» أعلى سن يجب في الزكاة الجذعة، وكل هذا السن لا يجزئ في الأضحية؛ لأنه لا يجزئ في الأضحية إلا الثني وهو ما تم له خمس سنوات، والجذعة فما دونها لا تجزئ في الأضحية، ولكن في الزكاة تجزئ.
والوقص: «أربع عشرة» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/55)
فست وسبعون فيها بنتالبون، لكل واحدة سنتان، ولو أخرج بنت لبون وابن لبون لم يجزئ؛ لأن الأنثى أغلى من الذكر وأنفع للناس منه.
قوله: «وفي إحدى وتسعين حقتان» .
والوقص: «أربع عشرة» .
فإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَثَلاَثُ بَنَاتِ لَبُونٍ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ........
قوله: «فإذا زادت على مائة وعشرين واحدةً فثلاث بنات لبون» .
إذاً من إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين وقص قدره «تسع وعشرون» ، فإذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، ثم بعد ذلك تستقر الفريضة.
قوله: «ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة» .
فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون، وبعدها تستقر الفريضة، كلما زادت عشراً تتغير الفريضة، فمثلاً:
مائة وثلاثون فيها حقة وبنتا لبون.
مائة وأربعون فيها حقتان وبنت لبون.
مائة وخمسون فيها ثلاث حقاق.
مائة وستون فيها أربع بنات لبون.
مائة وسبعون فيها حقة وثلاث بنات لبون.
مائة وثمانون فيها حقتان وبنتا لبون.
مائة وتسعون فيها ثلاث حقاق وبنت لبون.
مائتان تتساوى الفريضتان خمس بنات لبون أو أربع حقاق.
مائتان وعشر فيها أربع بنات لبون، وحقة.
وعلى هذا فقس، كلما زادت عشراً يتغير الفرض.
قال في الروض: «ومن وجبت عليه بنت لبون مثلاً وعدمها، أو كانت معيبة فله أن يعدل إلى بنت مخاض، ويدفع جبراناً، أو إلى حقة ويأخذه» .(6/56)
أي: من وجبت عليه بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض أنزل منها فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبراناً، وإذا لم يكن عنده بنت لبون وعنده حقة، فإنه يدفع الحقة ويأخذ الجبران فهو بالخيار.
ويأخذه من المُصَدِّق الذي يبعثه ولي الأمر بقبض الزكاة.
وإذا لم يكن عنده إلا جذعة فلا يستحق جبراناً أكثر مما يستحقه إذا دفع الحقة.
والجبران: شاتان، أو عشرون درهماً، كل شاة بعشرة دراهم، هذا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
فهل العشرون تقويم أو تعيين؟
الظاهر: ـ والله أعلم ـ أنها تقويم.
وبناء على ذلك فلو كانت قيمة الشاتين مائتي درهم، وأراد أن يعدل عنهما فلا يكفي أن يعطيه عشرين درهماً.
وليس في غير الإبل جبران، فالجبران في الإبل خاصة؛ لأن السنة وردت به فقط (1) .
__________
(1) لحديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب فريضة الصدقة التي أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليس عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين» .
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده (1453) .(6/57)
فَصْلٌ
وَيَجِبُ فِي ثَلاَثِينَ مِن البَقَرِ تَبِيعٌ أوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي أرْبعينَ مُسِنَّةٌ، ثُمَّ فِي كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعٌ، وَفي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَيُجْزِئ الذَّكَرُ هُنَا، وابنُ لَبُونٍ مَكَانَ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَإِذَا كَان النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُوراً.
قوله: «فصل» أي: في زكاة البقر.
نقول في زكاة البقر: كما قلنا في زكاة الإبل، أي: أن الأقسام السابقة الأربعة تشمل الإبل، والبقر، والغنم.
والبقر سميت بقراً؛ لأنها تبقر الأرض بالحراثة أي: تشقها.
قوله: «ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة» أي: تبيع ذكر، أو تبيعة أنثى لكل واحد منهما سنة، وفيما دون الثلاثين لا شيء.
والفرق بين الإبل والبقر في باب الزكاة فرق عظيم، فالإبل يبدأ النصاب من خمس، والبقر من ثلاثين، مع أنهما في باب الأضاحي سواء، لكن الشرع فوق العقل، والواجب اتباع ما جاء به الشرع.
قوله: «وفي أربعين مسنة» (1) المسنة: أنثى لها سنتان.
__________
(1) لحديث معاذ رضي الله عنه، وفيه: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» .
أخرجه أحمد (5/230) ، وأبو داود في الزكاة/ باب في زكاة السائمة (1576) ؛ والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في زكاة البقر (623) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب سقوط الزكاة عن الإبل ... (5/25) ؛ وابن ماجه في الزكاة/ باب صدقة البقر (1803) ؛ وابن خزيمة (2268) ؛ وابن حبان (4886) إحسان؛ والحاكم (1/398) ؛ والبيهقي (4/98) .
وحسنه الترمذي؛ وصححه الحاكم على شرطهما؛ ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/275) : «وقد روي هذا عن معاذ بإسناد متصل صحيح ثابت» .(6/58)
وما بين الثلاثين والأربعين، وقص: «تسع» ليس فيها شيء.
قوله: «ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة» .
ففي خمسين مسنة.
وفي ستين تبيعان أو تبيعتان.
من أربعين إلى ستين وقص.
وفي سبعين تبيع ومسنة.
وفي ثمانين مسنتان.
وفي تسعين ثلاث تبيعات.
وفي مائة تبيعان ومسنة.
وفي مائة وعشرين أربع تبيعات، أو ثلاث مسنات، كالمائتين في الإبل.
مسألة: إذا تساوى الفرضان فلمن الخيار للمعطي أو للآخذ؟
الجواب: للمعطي قالوا: لأنه هو الغارم.
قوله: «ويجزئ الذكر هنا» أي: في زكاة البقر ففي ثلاثين من البقر يجزئ تبيع.
قوله: «وابن لبون مكان بنت مخاض، وإذا كان النصاب كله ذكوراً» .
فالذكر يجزئ في ثلاثة مواضع وهي:
1 ـ التبيع في ثلاثين من البقر.
2 ـ ابن اللبون مكان بنت المخاض، إذا لم يكن عنده بنت مخاض.(6/59)
3 ـ إذا كان النصاب كله ذكوراً، فإنه يجزئ أن يخرج منها ذكراً، كما لو كان عنده خمس وعشرون من الإبل كلها ذكور، فعليه ابن مخاض؛ لأن الإنسان لا يكلف شيئاً ليس في ماله؛ ولأن الزكاة وجبت مواساة، فالذكر له ذكر، والأنثى لها أنثى.
وهذا أقرب إلى المعنى والقياس؛ إذ لا يلزم الإنسان إلا بمثل ماله.
وقال بعض العلماء: إذا كان النصاب ذكوراً، فيجب ما عينه الشارع، فلو كان عنده خمس وعشرون من الإبل كلها ذكور وجب عليه بنت مخاض، فإن لم يجد فابن لبون ذكر، وإن كان عنده ستة وثلاثون جملاً ففيها بنت لبون، ولا يجزئ ابن لبون.
وهذا القول أقرب إلى ظاهر السنة، لأن السنة عينت فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « ... بنت مخاض أنثى فإن لم تكن فابن لبون ذكر ... بنت لبون ... حقة ... جذعة ... » (1) فَنَصَّ الشارعُ على الذكورة والأنوثة، فيجب اتباع الشرع.
وهذا القول أحوط، فلا نعدل عما جاء به الشرع لمجرد القياس، والأقيس ما مشى عليه المؤلف.
وقولنا: إن ما مشى عليه المؤلف أقيس، مع أنه لا يتعارض النص والقياس؛ لأن السنة ليست صريحة في الدلالة هنا.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/60)
فَصْلٌ
وَيَجِبُ فِي أَرْبَعينَ مِن الغَنَمِ شَاةٌ، وَفِي مِائةٍ وإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاتَان، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلاثُ شِياهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائةٍ شَاةٌ والخُلْطَةُ تُصَيِّرُ المَالَيْنِ كَالوَاحِدِ.
قوله: فصل «ويجب في أربعين من الغنم شاة» «شاة» فاعل «يجب» ففي أربعين من الغنم شاة، فإذا أخرجها ودار عليها الحول ولم تزد، بل بقيت تسعاً وثلاثين شاة، فليس فيها شيء؛ لأنها نقصت عن النصاب، وأقل نصاب الغنم أربعون شاة، والواجب فيها شاة واحدة.
قوله: «وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان» الوقص: ثمانون.
ففي أربعين شاة، شاة واحدة.
وفي مائة وعشرين: شاة واحدة.
ثمانون شاة لا شيء فيها ـ سبحان الله ـ وهذا من تيسير الشرع، فالحمد لله.
قوله: «وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه» فالوقص: ثمانون.
إذاً الوقص في الفرض الثاني كالوقص في الفرض الأول.
قوله: «ثم في كل مائة شاة» أي: إذا زادت على مائتين وواحدة ففي كل مائة شاة، فتستقر الفريضة على ذلك.
ففي ثلاثمائة: ثلاث شياه.
وفي ثلاثمائة وتسع وتسعين: ثلاث شياه.
لأنها لم تتم المائة الرابعة، وإذا لم يَلْحق الفرضَ الثاني يُلحَقْ بالفرض الأول، والوقص من مائتين وواحدة، إلى ثلاثمائة وتسع وتسعين: مائة وثمان وتسعون.(6/61)
وهذا أكثر وقص يوجد في الغنم.
ففي ثلاثمائة: ثلاث شياه.
وفي أربعمائة: أربع شياه.
وفي خمسمائة: خمس شياه.
وفي الألف عشر شياه، وهكذا (1) .
قوله: «والخُلطة تصير المالين كالواحد» الخلطة: بضم الخاء أي: الاختلاط يصير المالين كالواحد.
وظاهر كلام المؤلف: العموم وليس كذلك، وإنما مراده الخلطة في بهيمة الأنعام فقط، هذا هو المشهور من المذهب، وهو القول الأول في المسألة.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أن الخلطة في الأموال الظاهرة تصير المالين كالمال الواحد عموماً واستدلوا لذلك، بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السعاة لأخذ الزكاة من أهل الثمار، ولا يسألون؛ مع أن الاشتراك وارد فيها.
فعلى هذا القول الخلطة في بهيمة الأنعام تجعل المالين كالواحد.
مثاله: عندي غنم، وأنت عندك غنم، والثالث عنده غنم، والرابع عنده غنم، وخلطناها جميعاً، فتصير الأموال كالمال الواحد.
__________
(1) لحديث أنس في كتاب أبي بكر مرفوعاً: «وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا ازدادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق» . وقد سبق تخريجه ص31.(6/62)
فإذا كان عندي عشرون شاة، وعندك عشرون شاة، فعلينا شاة زكاة.
ولو كان عندي عشرون وحدها، وعندك عشرون وحدها ولم تختلط فلا زكاة؛ لعدم الخلطة، فقد تجب الزكاة فيما لم يجب، وقد تسقط الزكاة فيما وجب، وسيأتي تفصيل هذا.
قال العلماء: والخلطة تنقسم إلى قسمين:
1 ـ خلطة أعيان.
2 ـ خلطة أوصاف.
أولاً: خلطة الأعيان: وهي أن يكون المال مشتركاً بين اثنين في الملك.
مثال ذلك: رجل مات عن ابنين وخلف ثمانين شاة فالثمانون مشتركة بين الاثنين شركة أعيان، فعين الغنم هذه لأحد الابنين نصفها، وللثاني نصفها.
وشركة الأعيان تكون بالإرث، وتكون بالشراء، وغير ذلك.
ثانياً: خلطة أوصاف: وهي أن يتميز مال كل واحد عن الآخر، ولكنها تشترك في أمور نذكرها إن شاء الله.
مثاله: أن يكون لكل منا ماله الخاص، فأنت لك عشرون من الغنم، وأنا لي عشرون من الغنم ثم نخلطها، فلو ماتت العشرون التي لي فلا ضمان عليك؛ لأنها نصيبي.
وفي خلطة الأعيان لو مات نصفها فهي علينا جميعاً؛ لأنه ملك مشترك.
وخلطة الأوصاف تشترك في أمور:(6/63)
1 ـ الفحل: أي: يكون لهذه الغنم فحل واحد مشترك.
والفحل بالنسبة للمعز يسمى تيساً، وفي الضأن خروفاً، وفي الإبل جملاً، وفي البقر ثوراً.
2 ـ المسرح: أي: يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً.
فلا يسرح أحد غنمه يوم الأحد، والثاني يوم الاثنين.
3 ـ المرعى: أي: يكون المرعى لها جميعاً فليس غنم هذا في شعبة الوادي الشرقية، والثاني في الشعبة الغربية.
4 ـ المحلب: أي: مكان الحلب يكون واحداً، فلا تحلب غنمك هناك، وغنمي هنا.
5 ـ المُرَاح ـ وهو: مكان المبيت، أي: يكون المراح جميعاً فلا تكون غنمي لها مراح وحدها، وغنمك لها مراح وحدها.
وقد جمعت هذه الأوصاف في قول الناظم:
إن اتفاق فحلٍ مسرحٍ ومرعى
ومحلبٍ المراح خلط قطعا
فإذا اشتركت في هذه الأشياء الخمسة، فهي خلطة أوصاف، تجعل المالين كالمال الواحد.
وهذه الأوصاف الخمسة أخذت من عادة العرب؛ وأنها إذا اشتركت في هذه الأوصاف صارت كأنها لرجل واحد.
ويشترط في الخلطة أن تكون كل الحول أو أكثره، كالسوم. واعلم أن الخلطة أعم من الشركة فيختلطان ولا يكونان شريكين.
إذا قال قائل: أما النوع الأول من الخلطة فلا إشكال فيه؛ لأنه مال مشترك بين شخصين.(6/64)
لكن الثاني: كيف يجعل المالين كالمال الواحد مع أن مالي يخصني، ومالك يخصك؟
فالجواب: دل على ذلك حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وفيه: «ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» (1) .
والخلطة تؤثر في إيجاب الزكاة، وفي سقوطها؛ ولهذا قال: «لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» .
مثال قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» أن يكون عندي أربعون شاة، والعامل سيأتي غداً، فأجعل عشرين منها في مكان، وعشرين في مكان آخر، فإذا جاء العامل وجد هذه الغنم عشرين، والغنم الأخرى عشرين فلا يأخذ عليها زكاة؛ لأنها لم تبلغ النصاب.
ومثال قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» .
أنا أملك أربعين، وأنت تملك أربعين، والثالث يملك أربعين فالجميع مائة وعشرون، فلو اعتبرنا كل واحد وحده لوجب ثلاث شياه، لكن إذا جمعنا الغنم كلها وعددها مائة وعشرون، فلا يكون فيها إلا شاة واحدة كما سلف.
إذاً جمعنا بين متفرق، لئلا يجب على هذا المجموع ثلاث شياه، بل شاة واحدة.
مسائل:
الأولى: الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام.
مثاله: لو كان لدينا مزرعة ونحن عشرة، لكل واحد منا
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/65)
عُشرها، وهي خمسة أنصبة فقط فلا زكاة فيها؛ لأن كل واحد منا ليس له إلا نصف نصاب.
مثال آخر: رجلان اشتركا في تجارة، وكان مالهما نصاباً، فليس عليهما زكاة؛ لأن نصيب كل واحد منهما لا يبلغ النصاب، فلا زكاة عليهما مع أنهما يتاجران في الدكان؛ لأنه لا خلطة إلا في بهيمة الأنعام وفي غير بهيمة الأنعام لا تؤثر الخلطة.
الثانية: لو كان لرجل عشرون من الشياه في الرياض وعشرون في القصيم، فالجمهور تجب عليه الزكاة لأن المالك واحد، والمذهب لا زكاة عليه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» (1) ، فدل على أنه إذا تفرق ماله لا للحيلة فلا زكاة عليه، والأحوط رأي الجمهور، ويحمل الحديث على خلطة الأوصاف.
الثالثة: لو اختلط مسلم ومن ليس من أهل الزكاة كالكافر خلطة أوصاف، فالزكاة على المسلم في نصيبه إذا بلغ نصاباً؛ لأن مخالطة من ليس من أهل الزكاة كالمعدوم.
الرابعة: لو اختلط اثنان في «ماشية» وأحدهما يريد بنصيبه التجارة، والآخر يريد الدر والنسل، فهذه خلطة غير مؤثرة؛ لاختلاف زكاة كل منهما؛ فأحدهما زكاته بالقيمة، والآخر زكاته من عين المال.
الخامسة: إذا اختلط اثنان وكان لأحدهما الثلثان، وللآخر الثلث فالزكاة بينهما على حسب ملكهما؛ على أحدهما الثلثان وعلى الآخر الثلث.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .(6/66)
بَابُ زَكَاةِ الحُبُوبِ وَالثِّمَار
الأصل في وجوب زكاة الحبوب والثمار، قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] .
و «من» هنا للتبعيض باعتبار الجنس، وباعتبار الفرد، أي: لا كل المخرج، ولا كل ما يخرج.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (1) .
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (2) .
فهذه النصوص تدل على وجوب الزكاة فيما يخرج من الأرض، لكن لا كل شيءٍ، ولا كل نوع؛ بل هو مخصوص نوعاً، ومقدرٌ كماً.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب العشر فيما يسقى ... (1483) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز (1405) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة (979) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(6/67)
تَجِبُ في الحُبوبِ كُلِّهَا، ولَوْ لَمْ تَكنْ قُوتاً، وفِي كلِّ ثمرٍ يكال ويدَّخر، كتمرٍ وزبيبٍ..........
فما هو الضابط في هذا؟
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في هذا اختلافاً غير قليل.
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد ما ذكره المؤلف بقوله: «تجب في الحبوب كلها، ولو لم تكن قوتاً، وفي كل ثمر يكال ويدخر» الحبوب: ما يخرج من الزروع، والبقول، وما أشبه ذلك، مثل: البر، والشعير، والأرز، والذرة، والدخن وغيرها.
وقوله: «ولو لم تكن قوتاً» إشارة خلاف؛ لأن بعض أهل العلم يقول: ما ليس بقوت فلا تجب فيه الزكاة، مثل: حب الرشاد والكسبرة، والحبة السوداء، وما أشبهها، فهذه غير قوت، ولكنها حب يخرج من الزروع.
وقوله: «وفي كل ثمر يكال ويدخر» الثمر: ما يخرج من الأشجار، فكل ثمر يكال ويدخر تجب فيه الزكاة، والثمر الذي لا يكال ولا يدخر لا تجب فيه الزكاة، ولو كان يؤكل مثل: الفواكه، والخضروات، ليس فيها زكاة؛ لأنها لا تكال ولا تدخر.
وقوله: «كتمر وزبيب» التمر يكال ويدخر، والزبيب يكال ويدخر، ولا عبرة باختلاف الكيل والوزن، فإن التمر في عرفنا يوزن، وكذلك الزبيب، لكن لا عبرة بذلك؛ لأن العبرة بما كان في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر في الروض زيادة أمثلة: فقال «لوز، وفستق، وبندق» (1) وما أشبه ذلك.
__________
(1) الروض المربع (3/218) .(6/68)
وأفادنا قوله: «وفي كل ثمر يكال ويدخر» أنه إن كان الثمر يدخر ولا يكال فلا زكاة فيه، وإن كان يكال ولا يدخر، فلا زكاة فيه؛ لأن المؤلف ذكر شرطين: أن يكال، وأن يدخر، وفي هذه المسألة عدة أقوال هذا أحدها:
والمراد بالادخار: أن عامة الناس يدخرونه؛ لأن من الناس من لا يدخر التمر، بل يأكله رُطَبَاً، وكذلك العنب قد يؤكل رطباً، لكن العبرة بما عليه عامة الناس في هذا النوع.
القول الثاني: أنها لا تجب إلا في أربعة أشياء: في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، فقط لحديث ورد في ذلك، ولو صح هذا الحديث لكان فاصلاً في النزاع لكنه ضعيف (1) . وهذا القول رواية عن أحمد.
القول الثالث: أنها تجب في كل ما يخرج من الأرض مما يزرعه الآدمي من فواكه وغير فواكه، واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] ، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر» (2) .
القول الرابع: أنها لا تجب إلا فيما هو قوت يدخر سواء يكال أو لا يكال، وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
__________
(1) حديث أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر» .
أخرجه ابن أبي شيبة (3/138) ؛ والحاكم (1/401) ؛ والدارقطني (2/96) ؛ والبيهقي (4/128، 129) .
(2) سبق تخريجه ص (67) .(6/69)
وأقرب الأقوال هو ما ذهب إليه المؤلف، والدليل قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (1) ، فدل هذا على اعتبار التوسيق، والتوسيق أي: التحميل، والوسق هو الحمل، والمعروف أن الوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي بأصواعنا حسب ما ذكره لنا مشايخنا مائتان وثلاثون صاعاً وزيادة صاع نبوي، وعلى حسب ما اعتبرناه في الوزن ـ إذا جعلنا الصاع كيلوين وأربعين جراماً ـ، فثلاثمائة صاع تعدل ستمائة واثني عشر كيلو بالبر الرزين الجيد، فيتخذ إناء يسع مثل هذا في الوزن، أو عدة أوانٍ، ثم يقاس عليها.
والخلاصة أن الحبوب والثمار تجب فيها الزكاة، بشرط أن تكون مكيلة مدخرة، فإن لم تكن كذلك، فلا زكاة فيها هذا هو أقرب الأقوال، وعليه المعتمد إن شاء الله.
مسائل:
الأولى: اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في العنب الذي لا يزبب؛ لأن بعض العنب لا يكون زبيباً مهما يبسته.
فقال بعضهم: لا زكاة فيه؛ لأنه ملحق بالفواكه، فيؤكل كالفاكهة.
وقال بعضهم: تجب فيه الزكاة، وإن لم يزبب، كما لو كان التمر لا يؤكل إلا رطباً، وهذا هو الذي عليه عمل الناس اليوم، أنهم يأخذون الزكاة من العنب، وإن لم يزبب.
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .(6/70)
والمذهب أنه يخرج عن هذا العنب الذي لا يزبب زبيباً.
والصحيح أن له أن يخرج من نفس العنب، ومثله النخل الذي يأكله أهله رُطَبَاً، فيجوز أن يخرج زكاته منه رُطَباً.
الثانية: التين لا تجب فيه الزكاة على المذهب؛ لأنه لا يدخر غالباً، والصواب أن فيه الزكاة لأنه مدخر.
الثالثة: الادخار الصناعي الذي يكون بوسائل الحفظ التي تضاف إلى الثمار بواسطة آلات التبريد لا يتحقق به شرط الادخار.
الرابعة: تجب الزكاة في الزيتون عند بعض أهل العلم وهو رواية في المذهب لقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
ولكن يلزم على هذا القول أن تجب الزكاة في الرمان، وهي لا تجب فيه عندهم، ومقتضى الآية التسوية بينهما.
وَيُعْتَبَرُ بُلُوغُ نِصَابٍ قَدْرُهُ ألفٌ وستُّمِائَة رَطْلٍ عِرَاقِيٍّ..............
قوله: «ويعتبر بلوغ نصاب قدره ألف وستمائة رطل عراقي» أي: يشترط في وجوب الزكاة بلوغ نصاب، قدره: ألف وستمائة رطل عراقي.
لكن بأي شيء يعتبر هذا الوزن؟ إذ هناك شيء خفيف وشيء ثقيل؟
اعتبره العلماء بالبرِّ الرزين الجيد، فتتخذ إناء يسع هذا الوزن من البر ثم تعتبره به.(6/71)
فإذا قال قائل: لماذا اعتبر العلماء ـ رحمهم الله ـ الكيل بالوزن، والسنة جاءت بالكيل؟
فالجواب: أن الوزن أثبت؛ لأن الأصواع والأمداد تختلف من زمن إلى آخر، ومن مكان لآخر، فنقلت إلى الوزن؛ لأن الوزن يعتبر بالمثاقيل، وهي ثابتة من أول صدر الإسلام إلى اليوم، وهذا أحفظ ويكون اعتبارها سهلاً.
وذكر مشايخنا ـ رحمهم الله ـ أن صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أمداد، وهذا ما جاءت به السنة، بينما الصاع عندنا ثلاثة أمداد مع أنه أكبر من صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم فدل ذلك على أننا لو اعتبرنا الكيل لحصل في هذا اختلاف كثير.
والصاع النبوي بالوزن يساوي كيلوين وأربعين جراماً من البر، فتأتي بإناء وتضع فيه الذي وزنت، فإذا ملأه فهذا هو الصاع النبوي، وعندنا صاع من النحاس وجدناه في خرابات في عنيزة مكتوب عليه من الخارج نقشاً: هذا ملك فلان، عن فلان، عن فلان، إلى أن وصل إلى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ وقد اعتبرته بالوزن، فأتيت ببر رزين، وملأت هذا الإناء ووزنته، فإذا هو مقارب لما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ.
وَتُضَمُّ ثَمَرَةُ العَامِ الواحِدِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَاب، لاَ جِنْسٌ إِلَى آخَرَ..........
قوله: «وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، لا جنس إلى آخر» أي: لو كان عند إنسان بستان بعضه يُجنى مبكراً، والبعض الآخر يتأخر، فإننا نضم بعضه إلى بعض إلى أن يكتمل النصاب، فإذا كان الأول نصف نصاب، والثاني(6/72)
نصف نصاب، وجبت الزكاة، ولا يقال: إنَّ هذا قد جُذَّ قبل جَذَاذِ الثاني، أو حصد إذا كان زرعاً قبل حصاد الثاني؛ لأنها ثمرة عام واحد.
وإذا باع النصف الأول من البستان الذي بدا صلاحه، قبل أن يبدو الصلاح في نصفه الآخر، لم تسقط الزكاة؛ لأنه إذا وجبت الزكاة فأخرج الثمرة عن ملكه بعد وجوب الزكاة لم تسقط.
وأما ثمرة عامين فلا تضم، فلو زرع الإنسان أرضاً في عام «اثني عشر» ، ثم زرعها مرة ثانية في عام «ثلاثة عشر» ، فلا تضم؛ لأن كل واحدة مستقلة عن الأخرى.
وقول صاحب الروض: «وتضم ثمرة العام الواحد....، ولو مما يحمل في السنة حملين» هذا فيه نظر؛ فما يحمل في السنة مرتين يعتبر كل حمل على انفراد؛ لأن هذا من شجرة واحدة.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ أنه إذا كان عند الإنسان بساتين في مواضع متعددة بعيد بعضها عن بعض؛ فإنه يضم بعضها إلى بعض، فلو كان عنده في مكة مزرعة تبلغ نصف نصاب، وفي المدينة مزرعة تبلغ نصف نصاب وجبت عليه الزكاة.
وتضم الأنواع بعضها إلى بعض، فالسكري مثلاً يضم إلى البرحي، وهكذا، وكذلك في البر فالمعية، واللقيمى، والحنطة، والجريبا، يضم بعضها إلى بعض.
لكن لا يضم جنس إلى آخر والدليل على أنه يضم الأنواع بعضها إلى بعض دون الجنس، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوجب الزكاة في الثمر مطلقاً ومعلوم أن التمر يشمل أنواعاً ولم يأمر بتمييز كل نوع عن(6/73)
الآخر، فلو كان عنده مزرعة نصفها شعير، ونصفها بر، وكل واحد نصف النصاب، فإنه لا يضم بعضه إلى بعض؛ لاختلاف الجنس، كما لا تضم البقر إلى الإبل أو الغنم؛ لأن الجنس مختلف.
وسيأتي في زكاة النقدين هل يضم الذهب إلى الفضة؟
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مَمْلُوكاً لَهُ وَقْتَ وُجُوبِ الزَّكَاةَ، فَلاَ تَجِبُ فِيمَا يَكْتَسِبُهُ اللَّقَّاطُ أوْ يأخُذُهُ بِحَصَادِهِ وَلاَ فِيمَا يَجْتَنِيه مِن المُبَاحِ، كَالبُطْمِ، والزَّعْبَل، وَبِزْرِ قَطُونا، ولَو نَبَتَ فِي أرْضِهِ..........
قوله: «ويعتبر أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة» أي: ويشترط أيضاً أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
ووقت وجوب الزكاة في ثمر النخل: ظهور الصلاح في الثمرة بأن تحمر أو تصفر، وفي الحبوب أن تشتد الحبة بحيث إذا غمزتها لا تنغمز تكون مشتدة، فيشترط أن يكون مملوكاً له في هذا الوقت فلو باعه قبل ذلك فإنه لا زكاة عليه، وكذلك إن ملكه بعد ذلك فلا زكاة، ولذلك قال:
«فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط، أو يأخذه بحصاده» اللقاط هو الذي يتتبع المزارع، ويلقط منها التمر المتساقط من النخل، أو يلتقط منها السنبل المتساقط من الزرع، فإذا كسب هذا اللقاط نصاباً من التمر أو نصاباً من الزرع، فلا زكاة عليه فيه؛ لأنه حين وجوب الزكاة لم يكن في ملكه.
وكذلك لو مات المالك بعد بدوِّ الصلاح، فلا زكاة على الوارث؛ لأنه ملكه بعد وجوب الزكاة، لكن الزكاة في هذه الحالة على المالك الأول (الميت) فتخرج من تركته.
وكذك أيضاً لا زكاة فيما يأخذه بحصاده، أي: إذا قيل(6/74)
لرجل: احصد هذا الزرع بثلثه، فحصده بثلثه، فلا زكاة عليه في الثلث؛ لأنه لم يمكله حين وجوب الزكاة، وإنما ملكه بعد ذلك.
فصار عندنا شرطان:
الأول: بلوغ النصاب.
الثاني: أن يكون النصاب مملوكاً له وقت الزكاة.
قوله: «ولا فيما يجتنيه من المباح، كالبطم (1) ، والزعبل، وبزر قطونا» «المباح» أي: الذي يخرج في الفلاة مما يخرجه الله عزّ وجل، فلو جنى الإنسان منه شيئاً كثيراً، فإنه لا زكاة عليه فيه؛ لأنه وقت الوجوب ليس ملكاً له؛ إذ إن المباح، وهو ما يجنى من الحشيش وغيره، لا يملكه الإنسان إلا إذا أخذه.
و «الزعبل» على وزن جعفر، شعير الجبل.
و «بزر قطونا» : يقول مشايخنا: هو سنبلة الحشيش، والحشيش يسمى عندنا: «الرِّبْلة» .
قوله: «ولو نبت في أرضه» «لو» إشارة خلاف فإن بعض العلماء قال:
إذا نبت في أرضه، فإنه ملكه، وإذا كان ملكاً له فقد ملكه حين وجوب الزكاة.
والمذهب: أن ما ينبت في أرضه من فعل الله ليس ملكاً له، وهو أحق به من غيره، فبناء على اختلاف القولين:
__________
(1) البُطْم، ويقال: البُطُم: الحبة الخضراء أو شجرها. «القاموس المحيط» ص (1080) .(6/75)
إن قلنا: بأن ما نبت في أرضه من المباح ملك له، وجبت عليه الزكاة إذا أخذه بعد استكماله.
وإذا قلنا: لا يملكهُ وهو الصحيح، فلا زكاة عليه فيما يجنيه منه؛ لأنَّهُ حين الوجوب ليس ملكاً له، وإنما صححنا أنه ليس ملكاً له؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» (1) ، وهذا من الكلأ.
والخلاصة: أن الزكاة تجب في كل مكيل مدخر من الحبوب والثمار سواء كان قوتاً أم لم يكن، وأنه يشترط لذلك شرطان:
الأول: بلوغ النصاب.
الثاني: أن يكون مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
مسألة: هل يشترط أن يكون الحب والثمر قوتاً؟
المذهب: لا يشترط، فما دام مكيلاً مدخراً ففيه الزكاة.
القول الثاني: يشترط أن يكون قوتاً.
لكن ظاهر عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (2) يشمل ما كان قوتاً، وما كان غير قوت.
__________
(1) أخرجه أحمد (5/364) ؛ وأبو داود في البيوع/ باب في منع الماء (3477) عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ وأخرجه ابن ماجه في الرهون/ باب المسلمون شركاء في ثلاث (2472) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيه عبد الله بن خراش ضعيف، كما قال البوصيري؛ وأخرجه ابن ماجه (2473) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ «ثلاث لا يمنعن ... » الحديث، وصحح إسناده البوصيري في «الزوائد» ، والحافظ في «التلخيص» (1304) .
(2) سبق تخريجه ص (67) .(6/76)
فَصْلٌ
يَجِبُ عُشْرٌ فِيمَا سُقِيَ بِلاَ مَؤُونَةٍ،.........
قوله: «يجب عشر فيما سقي بلا مؤونة» هذا الفصل بين فيه المؤلف مقدار ما يجب إذا بلغ النصاب.
فالواجب: العشر، أو نصف العشر، أو ثلاثة أرباعه، حسب المؤونة.
فإن سقي بلا مؤونة فالواجب العشر؛ لأن نفقته أقل.
والذي يسقى بلا مؤونة يشمل ثلاثة أشياء:
أولاً: ما يشرب بعروقه، أي: لا يحتاج إلى ماء.
الثاني: ما يكون من الأنهار والعيون.
الثالث: ما يكون من الأمطار.
فإذا قال قائل: إذا كان من الأنهار، وشققت الساقية، أو الخليج ليسقي الأرض، هل يكون سقي بمؤونة أو بغير مؤونة؟
فالجواب: أنه سقي بغير مؤونة، ونظير ذلك إذا حفرت بئراً وخرج الماء نبعاً، فإنه بلا مؤونة؛ لأن إيصال الماء إلى المكان ليس مؤونة، فالمؤونة تكون في نفس السقي.
أي: يحتاج إلى إخراجه عند السقي بمكائن أو بسوانٍ، أما مجرد إيصاله إلى المكان، وليس فيه إلا مؤونة الحفر أو مؤونة شق الخليج من النهر، أو ما أشبه ذلك فهذا يعتبر بلا مؤونة.(6/77)
وَنِصْفُهُ مَعَهَا، وَثَلاَثَةُ أَرْبَاعِهِ بِهِمَا، فَإِنْ تَفَاوَتَا فَبِأَكْثَرِهِمَا نَفْعاً، وَمَعَ الجَهْلِ العُشْرُ، وَإِذَا اشْتَدَّ الحَبُّ، وَبَدَا صَلاَحُ الثَّمَرِ وَجَبَت الزَّكَاةُ.........
قوله: «ونصفه معها» أي: مع المؤونة.
ودليل ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وفيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» أخرجه البخاري (1) .
والعثري: هو الذي يشرب بعروقه.
والحكمة من ذلك: كثرة الإنفاق في الذي يسقى بمؤونة، وقلة الإنفاق في الذي يسقى بلا مؤونة، فراعى الشارع هذه المؤونة، والنفقة، وخفف على ما يسقى بمؤونة.
قوله: «وثلاثة أرباعه بهما» أي: ما يشرب بمؤونة، وبغير مؤونة نصفين، يجب فيه ثلاثة أرباع العشر.
مثال ذلك: هذا النخل يسقى نصف العام بمؤونة، ونصف العام بغير مؤونة: أي في الصيف يسقى بمؤونة، وفي الشتاء يشرب من الأمطار، ففيه ثلاثة أرباع العشر.
قوله: «فإن تفاوتا» بمعنى أننا لم نتمكن من الضبط، هل هو النصف، أو أقل، أو أكثر.
قوله: «فبأكثرهما نفعاً» أي: الذي يكثر نفع النخل، أو الشجر، أو الزرع به فهو المعتبر، فإذا كان نموه بمؤونة أكثر منه فيما إذا شرب بلا مؤونة فالمعتبر نصف العشر؛ لأن سقيه بالمؤونة أكثر نفعاً فاعتبر به.
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .(6/78)
فصارت الأحوال أربعاً هي:
1 ـ ما سقي بمؤونة خالصة.
2 ـ وبلا مؤونة خالصة.
3 ـ وبمؤونة وغيرها على النصف.
4 ـ وبمؤونة وغيرها مع الاختلاف.
فإن كان يسقى بمؤونة خالصة فنصف العشر وبلا مؤونة خالصة العشر، وبهما نصفين ثلاثة أرباع العشر، ومع التفاوت يُعتبر الأكثر نفعاً.
قوله: «ومع الجهل العشر» أي: إذا تفاوتا، وجهلنا أيهما أكثر نفعاً، فالمعتبر العشر؛ لأنه أحوط وأبرأ للذمة، وما كان أحوط فهو أولى.
فإذا قال قائل: كيف يكون أحوط، وفيه إلزام الناس بما لا نتيقن دليل الإلزام به؟
فالجواب: لأن الأصل وجوب الزكاة، ووجوب العشر حتى نعلم أنه سقي بمؤونة، فنسقط نصفه، وهنا لم نعلم، وجهلنا الحال أيهما أكثر نفعاً، فكان الاحتياط إيجاب العشر.
قوله: «وإذا اشتد الحب، وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة» سبق أنه يشترط أن يكون النصاب مملوكاً له وقت وجوب الزكاة.
فوقت الوجوب: «إذ اشتد الحب» أي: قويَ الحب، وصار(6/79)
شديداً لا ينضغط بضغطه «وبدا صلاح الثمر» وذلك في ثمر النخيل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموه حلواً أي: بدلاً من أن يكون قاسياً، يكون ليناً متموهاً، وبدلاً من أن يكون حامضاً يكون حلواً.
فإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، وجبت الزكاة، وقبل ذلك لا تجب.
ويتفرع على هذا: أنه لو انتقل الملك قبل وجوب الزكاة، فإنه لا تجب عليه بل تجب على من انتقلت إليه، كما لو مات المالك قبل وجوب الزكاة أي قبل اشتداد الحب، أو بدو صلاح الثمر فإن الزكاة لا تجب عليه، بل تجب على الوارث، وكذلك لو باع النخيل، وعليها ثمار لم يبد صلاحها، أو باع الأرض، وفيها زرع لم يشتد حبه فإن الزكاة على المشتري؛ لأنه أخرجها من ملكه قبل وجوب الزكاة.
ويتفرع على هذا أيضاً: أنه لو تلفت ولو بفعله بأن حصد الزرع قبل اشتداده، أو قطع الثمر قبل بدو صلاحه؛ فإنه لا زكاة عليه؛ لأن ذلك قبل وجوب الزكاة، إلا أنهم قالوا: إن فعل ذلك فراراً من الزكاة وجبت عليه عقوبة له بنقيض قصده؛ ولأن كل من تحيل لإسقاط واجب فإنه يلزم به.
وَلاَ يَسْتَقِرُّ الوُجُوبُ إِلاَّ بِجَعْلِهَا فِي البَيْدَرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ سَقَطَتْ....
قوله: «ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر، فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت» . أي: لا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعلها في البيدر.(6/80)
«البيدر» هو المحل الذي تجمع فيه الثمار والزروع، ويسمى الجرين والبيدر؛ وذلك أنهم كانوا إذا جذوا الثمر جعلوا له مكاناً فسيحاً يضعونه فيه، وكذلك إذا حصدوا الزرع جعلوا له مكاناً فسيحاً يدوسونه فيه، فلا يستقر الوجوب إلا إذا جعلها في البيدر.
والدليل على أن استقرار الوجوب يكون بجعلها في البيدر قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ؛ وإذا حصد الزرع فإنه يجعل في البيادر فوراً.
فإن تلفت بعد بدو الصلاح، واشتداد الحب، وقبل جعلها في البيدر، فإنها تسقط ما لم يكن ذلك بتعدٍ منه أو تفريط، فإنها لا تسقط.
وإذا جعلها في البيدر فإنها تجب عليه، ولو تلفت بغير تعد ولا تفريط؛ لأنه استقر الوجوب في ذمته فصارت ديناً عليه.
وعلى هذا فيكون لتلف الثمار والزرع ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن يتلفا قبل وجوب الزكاة، أي: قبل اشتداد الحب وقبل صلاح الثمر، فهذا لا شيء على المالك مطلقاً، سواء تلف بتعد أو تفريط، أو غير ذلك، والعلة عدم الوجوب.
الحال الثانية: أن يتلفا بعد وجوب الزكاة، وقبل جعله في البيدر، ففي ذلك تفصيل: إن كان بتعد منه أو تفريط ضمن الزكاة، وإن كان بلا تعد ولا تفريط لم يضمن.
الحال الثالثة: أن يتلفا بعد جعله في البيدر، أي: بعد جَذِّهِ ووضعه في البيدر، أو بعد حصاده ووضعه في البيدر، فعليه الزكاة مطلقاً؛ لأنها استقرت في ذمته فصارت ديناً عليه، والإنسان إذا وجب عليه دين، وتلف ماله فلا يسقط عنه.(6/81)
والتعدي: فعل ما لا يجوز.
والتفريط: ترك ما يجب.
فمثلاً لو أن الرجل بعد أن بدا الصلاح في ثمر النخل، وقبل أن يجعله في البيدر، أهمله حتى جاءت السيول، فأمطرت وأفسدت التمر فيقال: هذا مفرط، ولو أنه أشعل النار تحت الثمار فهذا متعدٍّ؛ لأنه فعل ما لا يجوز.
ولو أن الله أتى بعواصف أو قواصف بعد بدو الصلاح، وبعد اشتداد الحب من غير أن يفرط، ويهمل فأتلفت الثمر أو الزرع، فلا شيء عليه؛ لأنه لم يتعد، ولم يفرط.
ولو سرقت الثمار أو الزروع بعد أن بدا الصلاح، واشتد الحب فإن كان بإهمال منه أو تفريط ضمن، وإلا فلا.
والصحيح في الحال الثالثة أنها لا تجب الزكاة عليه ما لم يتعد أو يفرط؛ لأن المال عنده بعد وضعه في الجرين أمانة، فإن تعدى أو فرط، بأن أخر صرف الزكاة حتى سرق المال، أو ما أشبه ذلك فهو ضامن، وإن لم يتعد ولم يفرط وكان مجتهداً في أن يبادر بتخليصه، ولكنه تلف، مثل أن يجعل التمر في البيدر لأجل أن ييبس، ولكن لم يمض وقت يمكن يبسه فيه حتى سرق التمر، مع كمال التحفظ والحراسة، فلا يضمن، اللهم إلا إذا أمكنه أن يطالب السارق، ولم يفعل فهذا يكون مفرطاً.
إذاً القول الراجح أن الحال الثالثة تلحق بالحال الثانية.
وأما القول بأن الرجل إذا كان مديناً، وتلف ماله لم يسقط(6/82)
الدين بتلف ماله، فهذا قياس مع الفارق؛ لأن دينه متعلق بذمته، والزكاة متعلقة بهذا المال.
وَيَجِبُ العُشْرُ عَلَى مُسْتَأْجِرِ الأرْضِ دُونَ مَالِكِهَا.........
قوله: «ويجب العشر على مستأجر الأرض، دون مالكها» أي: أنَّ زكاة الثمر، وزكاة الحبوب تجب على المستأجر دون المالك، ولو قال المؤلف: «وتجب زكاة الثمر، والحبوب على المستأجر دون المالك» لكان أعم من قوله: «ويجب العشر» ؛ لأن العشر قد يكون واجباً، وقد يكون الواجب نصف العشر، لكن المؤلف اختار هذا اللفظ؛ لأن غالب الأراضي بعد الفتوحات الإسلامية تسقى بالأنهار بلا مؤونة، فيعبر أهل العلم عن زكاة الحبوب والثمار بالعشر، ومرادهم وجوب الزكاة سواء كان الواجب العشر أو غيره.
وعلة الوجوب أن المستأجر هو مالك الحبوب والثمار، وأما مالك الأرض فليس له إلا الأجرة.
ولكن قد يقول قائل: وكيف يستأجر النخل؟ وهل يستأجر النخل؟
المذهب: وهو قول أكثر العلماء أن النخل لا يستأجر، أي: لا يمكن أن آتي إلى صاحب البستان، وأقول له: أجِّرني هذا النخل لمدة عشر سنوات مثلاً؛ لأن الثمر معدوم، ولا يعلم هل يخرج من الثمر مقدار الأجرة أو أقل أو أكثر.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» (1) فهذا من باب أولى؛ لأن هذا قبل أن يخرج، فيكون فيه جهالة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من باع ثماره أو نخله (1487) ؛ ومسلم في البيوع/ باب النهي عن بيع الثمار ... (1536) (54) عن جابر رضي الله عنه.(6/83)
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إن استئجار أشجار البساتين كاستئجار أراضيها، فكما أنك تستأجر هذه الأرض من صاحبها وتزرعها، فقد يكون زرعك أكثر من الأجرة، وقد يكون أقل فكذلك النخل، ويجعل النخل أصلاً، كما تجعل الأرض أصلاً بالمزارعة، وقال: إنَّ هذا هو الثابت عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، حين ضمن حديقة أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ الذي لزمه ديون، فَضَمّنَ بستانه من يستأجره لمدة كذا وكذا سنة، ويقدم الأجرة من أجل قضاء الدين، وعمر فعل ذلك والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ متوافرون؛ ولأنه لا فرق بين استئجار النخيل، واستئجار الأرض؛ ولأن هذا أقطع للنزاع بين المستأجر وصاحب الأرض؛ وذلك لأنه يجوز أن يساقي صاحب النخل العامل بجزء من الثمرة، وهذا ربما يحصل فيه نزاع، أما إذا كانت الأجرة مقطوعة، فإن صاحب النخل قد عرف نصيبه وأخذه، والمستأجر قد عرف أن الثمر كله له، لا ينازعه فيه أحد، يتصرف فيه كاملاً.
وهذا هو الذي عليه العمل الآن عند الناس أنه يصح استئجار النخيل بأجرة معلومة لمدة معينة حسب ما يتفقان عليه.
وأجاب شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن استدلالهم بالحديث وهو نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، بأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً؛ ولهذا أجازوا بيع أصل النخل وعليه ثمره قبل بدو صلاحه، وبيع الحيوان الحامل، مع النهي عن بيع الحمل.
إذاً إذا قلنا: إنه لا يصح استئجار النخيل، فإنه يحمل قول(6/84)
المؤلف: «يجب العشر على مستأجر الأرض» فيما إذا كان ذلك في الزرع، أما في الثمار فلا يتصور؛ لأنه على المذهب لا يصح أن تستأجر هذا النخيل بثماره، والراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله.
والناس هنا في القصيم لما ظهرت هذه الفتوى استراحوا وصاروا يؤجرون البساتين، فمثلاً يقول: استأجرت منك البساتين بـ (100.000) فيعطيه المائة ألف، والآخر يستقل بالثمر.
وابن عقيل ـ رحمه الله ـ فصّل، وقال: إذا كان أكثر الأرض بياضاً، لا نخيلاً، يجوز اعتباراً بالأكثر؛ لأن تأجير الأرض جائز فيلحق الأقل بالأكثر.
أما الطريق على المذهب فهو أن تساقي على النخل، وتؤجر الأرض، أي: تقول ساقيتك على هذا النخل بثلث ثمره، وأجرتك هذه الأرض بعشرة آلاف، فيأخذ الأرض ويزرعها، والزرع له والنخل يقوم عليه بثلث ثمرته.
مسألة: لو كانت الأرض خراجية، فالزكاة فيها على المستأجر، والخراج على المالك؛ ووجه ذلك أن الخراج على عين الأرض فيكون على مالكها، والزكاة على الثمار فتكون على مالك الثمار وهو المستأجر، ولو كان المالك هو الذي يزرع الأرض، فعليه الخراج باعتباره مالكاً للأرض، والزكاة باعتباره مالكاً للزرع، أو الثمر.
مسألة: على من تجب الزكاة في المزارعة والمساقاة والمغارسة؟(6/85)
تجب الزكاة في هذه الأحوال على العامل وعلى مالك الأصل بقدر حصتيهما، إن بلغت حصة كل واحد منهما نصاباً، فإن لم تبلغ انبنى على تأثير الخلطة في غير بهيمة الأنعام، وقد تقدم بيان الخلاف في ذلك.
وَإِذَا أخَذَ مِن ملكِهِ أوْ مَوَاتٍ مِن العَسَلِ مِائَةً وَسِتِّينَ رِطْلاً عِراقِيّاً فَفِيهِ عُشْرُهُ.......
قوله: «وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل، مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره» «مائة» مفعول أخذ.
أفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ وجوب الزكاة في العسل، والعسل ليس ما يخرج من الأرض، وإنما من بطون النحل كما قال الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] ولكنه يشبه الخارج من بطون الأرض، بكونه يجنى في وقت معين، كما تجتنى الثمار، وقد ضرب عمر ـ رضي الله عنه ـ عليه ما يشبه الزكاة، وهو العشر (1) .
فاختلف أهل العلم ـ رحمهم الله ـ هل في العسل الزكاة، أو أَنَّ ما ضربه عمر ـ رضي الله عنه ـ في العسل ليس زكاة، ولكنه اجتهاد لحال مخصوصة؛ لأنه لا يصدق عليه قول الله ـ عزّ وجل ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] ؟
فذهب الأئمة الثلاثة إلى عدم وجوب الزكاة في العسل، واختار هذا صاحب الفروع ابن مفلح ـ رحمه الله ـ من
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب زكاة العسل (1600) والنسائي في الزكاة/ باب زكاة النحل (5/46) .(6/86)
الحنابلة (1) ، وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو من أعلم الناس بفقه شيخ الإسلام ابن تيمية حتى إن ابن القيم كان يرجع إليه يسأله عما يقوله الشيخ في المسائل الفقهية.
ووجه هذا القول أنه ليس في القرآن ولا في السنة (2) ما يدل على وجوب ذلك، والأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب، وعلى هذا القول لا حاجة إلى معرفة نصاب العسل.
والمشهور من المذهب الوجوب، ويرون أن نصابه مائة وستون رطلاً عراقياً، وهو يقارب اثنين وستين كيلو في معايير الوزن المعاصر، فإذا أخذ هذا المقدار وجب عليه عشره لما ورد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ، ولأنه يشبه الثمر الذي سقي بلا مؤونة ليس فيه من الكلفة إلا أخذه وجنيه، كما أن الثمر الذي يسقى بلا مؤونة ليس فيه من المؤونة إلا أخذه، فعلى هذا يجب فيه العشر ويصرف مصرف الزكاة.
وقيل: إن النصاب ستمائة رطل عراقي.
وقال في المغني: ويحتمل أن يكون نصابه ألف رطل عراقي؛ وذلك لأنه ليس فيه سنة واردة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاختلف العلماء في تقدير النصاب الذي تجب فيه الزكاة.
ولا يخلو إخراجها من كونه خيراً؛ لأنه إن كان واجباً فقد
__________
(1) «الفروع» (2/450) .
(2) قال البخاري رحمه الله كما في العلل الكبرى للترمذي (1/312) : «وليس في زكاة العسل شيء يصح» اهـ.(6/87)
أدى ما وجب، وأبرأ ذمته، وإن لم يكن واجباً فهو صدقة، ومن لم يخرج فإننا لا نستطيع أن نؤثمه، ونقول: إنك تركت ركناً من أركان الإسلام في هذا النوع من المال؛ لأن هذا يحتاج إلى دليل تطمئن إليه النفس.
قوله: «من ملكه» أي: في أرضه، بأَنْ بنى النحل على شجره الذي بأرضه مَعْسَلَةً، فأخذ العسل منه.
«أو موات» أي: في أرض ليست مملوكة لأحد، مثل أن يأخذه من رؤوس الجبال وبطون الشعاب، وما أشبه ذلك.
مسألة: هل في البترول زكاة؟
الجواب: ليس فيه زكاة؛ لأن المالك له الدولة، وهو للمصالح العامة، وما كان كذلك فلا زكاة فيه.
والركاز: مَا وُجِدَ مِن دِفْنِ الجَاهِلِيَّةِ، فَفِيهِ الخُمسُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ........
قوله: «والركاز: ما وجد من دفن الجاهلية» وقوله: «من دِفن الجاهلية» بكسر الدال بمعنى مفعول، أي: مدفون الجاهلية، ولا يصح فتح الدال لأنها تكون مصدراً.
الركاز: فعال بمعنى مفعول، أي: مركوز، وهو المدفون وقوله: «الركاز» مبتدأ خبره الاسم الموصول ما، ولكن ليس كل مدفون يكون ركازاً، بل ما كان من دفن الجاهلية، ومعنى الجاهلية ما قبل الإسلام، وذلك بأن نجد في الأرض كنزاً مدفوناً، فإذا استخرجناه ووجدنا علامات الجاهلية فيه، مثل أن يكون نقوداً قد علم أنها قبل الإسلام، أو يكون عليها تاريخ قبل الإسلام، أو ما أشبه ذلك.(6/88)
قوله: «ففيه الخمس في قليله وكثيره» فلا يشترط فيه النصاب؛ لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وفي الركاز الخمس» (1) .
ثم اختلف العلماء في الخمس، هل هو زكاة أو فيء؟ بناء على اختلافهم في «أل» في قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «الخمس» هل هي لبيان الحقيقة أو هي للعهد؟
فقال بعض العلماء: إنه زكاة فتكون «أل» لبيان الحقيقة.
ويترتب على هذا القول ما يأتي:
1 ـ أن تكون زكاة الركاز أعلى ما يجب في الأموال الزكوية؛ لأن نصف العشر، والعشر، وربع العشر، وشاة من أربعين، أقل من الخمس.
2 ـ أنه لا يشترط فيه النصاب فتجب في قليله وكثيره.
3 ـ أنه لا يشترط أن يكون من مال معين، فيجب فيه الخمس سواء كان من الذهب أو الفضة أو المعادن الأخرى، بخلاف زكاة غيره.
والمذهب عند أصحابنا ـ يرحمهم الله ـ: أنه فيء فتكون «أل» في الخمس، للعهد الذهني، وليست لبيان الحقيقة، أي: الخمس المعهود في الإسلام، وهو خمس خمس الغنيمة الذي يكون فيئاً يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهذا هو الراجح؛ لأن جعله زكاة يخالف المعهود في باب الزكاة، كما سبق بيانه في الأوجه الثلاثة المتقدمة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (19) .(6/89)
مسائل:
الأولى: إذا وجد الإنسان ركازاً ليس عليه علامة الكفر، ولا أنه من الجاهلية، فحكمه إن علم صاحبه وجب رده إليه، أو إعلامه به، أي: إما أن تحمله إلى صاحبه، أو تعلمه، والأسهل هنا الإعلام؛ لأنه قد يكون ثقيلاً يحتاج إلى حمل، فإذا أعلمته أبرأت ذمتك.
وإن كان صاحبه غير معلوم بحيث لم نجد عليه اسماً، ولم نتوقع أنه لفلان، فإن حكمه حكم اللقطة يعرّف لمدة سنة كاملة، فإن جاء صاحبه، وإلا فهو لواجده.
الثانية: لو استأجرت رجلاً ليحفر بئراً في بيتك أو غيره فحصل على هذا الركاز، ففيه تفصيل:
إذا كان صاحب الأرض استأجر هذا العامل، لإخراج هذا الركاز فهو لصاحب البيت، وإن كان استأجره للحفر فقط، فوجده العامل فهو للعامل لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
الثالثة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» (2) ، هل المراد منه إسقاط الزكاة في هذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (41) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (3/448) وأبو داود في الزكاة/ باب في الخرص (1605) والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في الخرص (643) والنسائي في الزكاة/ باب كم يترك الخارص (5/42) وابن خزيمة (2319) وابن حبان (3280) والحاكم (1/402) عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وله شاهد موقوف عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أخرجه الحاكم (1/402) وصححه وانظر التلخيص (849) .(6/90)
القدر من الثمر، أو المراد أن يجعل الثلث من الزكاة للمالك يتصرف فيه؟
الصحيح أن هذا ليس من باب الإسقاط، بل جعل التصرف فيه للمالك؛ لأنه قد يكون للمالك أقارب وأصحاب، وما أشبه ذلك يعطيهم من الزكاة، ويدل على أن هذا هو القول الراجح، عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .(6/91)
بَابُ زَكَاةِ النَّقدَينِ
قوله: «النقدين» : تثنية نقد، بمعنى منقود؛ لأن النقد هو الإعطاء، والذهب والفضة ليسا إعطاء بل هما معطيان، فهما ينقدان في البيع والشراء.
والمراد بالنقدين الذهب والفضة، وعلى هذا فالفلوس ليست نقداً في اصطلاح الفقهاء؛ لأنها ليست ذهباً ولا فضة، ومن ثم اختلف العلماء هل فيها رباً أو ليس فيها رباً؟ وهل فيها الزكاة مطلقاً؟ أو هي عروض، إن نوى بها التجارة ففيها الزكاة وإلا فلا؟
فهاهنا مسألتان، كلتاهما مسألتان عظيمتان تحتاجان لتحليل عميق.
ومن المعلوم أن الأوراق النقدية تعتبر من الفلوس؛ لأنها عوض عن النقدين يصرف بها النقدان: الذهب والفضة.
فقال بعض العلماء: إن الفلوس عروض، وعليه فلا تجب فيها الزكاة ما لم تعد للتجارة، وعلى هذا فلو كان الإنسان عنده مليون قرش فليس عليه زكاة، ولو أنه أبدل عشرة بعشرين من هذه الفلوس فهو جائز، سواء قبضها في مجلس العقد أو تأخر قبضها، كما لو أبدل ثوباً بثوبين، فإنه جائز ولو تأخر القبض.
لكن هذا القول لو قلنا به لكان أكثر التجار اليوم الذين عندهم سيولة دراهم لا زكاة عليهم، ولكانت البنوك ليست ربوية؛(6/92)
لأنها غالباً تتعامل بهذه الأوراق، ولقد قرأت رسالة عنوانها «إقناع النفوس، بإلحاق عملة الأنواط بعملة الفلوس» .
الأنواط: الورق.
لكن هذا القول لا أظن أن قدم عالم تستقر عليه، لما يلزم عليه من هذا اللازم الباطل، ألاَّ ربا بين الناس اليوم؛ لأن غالب تعاملهم بالأوراق النقدية، وألا زكاة على من يملك الملايين من هذه الأوراق ما لم يعدها للتجارة.
القول الثاني: أنها بمنزلة النقد في وجوب الزكاة، لدخولها في عموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] والأموال المعتمدة الآن هي هذه الأموال.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» (1) ، فهي مال، والناس يجعلونها في منزلة النقد، فالزكاة فيها واجبة ولا إشكال في ذلك، والمعتبر فيها نصاب الفضة؛ لأنها بدل عن ريالات الفضة السعودية، وهذا بالنسبة للريالات السعودية، ولكل قطر حكمه.
المسألة الثانية: هل يجري فيها الربا؟
من قال: إنها عروض فإنه لا يجري فيها الربا، لا ربا الفضل، ولا ربا النسيئة، كما أن العروض كتبديل الثوب بالثوبين، أو بالثلاثة، وتبديل البعير بالبعيرين لا بأس به، سواء تعجل القبض أو تأجل، كذلك هذه الدراهم، تبديل بعضها
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/93)
ببعضها ليس فيه ربا، فيجوز أن آخذ منك مائة دولار بأربعمائة ريال إلى سنة، أو ألف ريال بألف ومائتين إلى سنة؛ لأنه لا يجري فيها الربا، وهذا القول فيه نظر؛ لأن الناس يرون أن هذه العملات بمنزلة النقد، لا يفرقون بينها إلا تفريقاً يسيراً.
وقال بعض العلماء: إنه يجري فيها ربا النسيئة دون ربا الفضل، فإذا أبدلت بعضها ببعض مع تأخر القبض فهذا حرام، سواء أبدلتها بالتماثل أو بالتفاضل، وإذا أبدلت بعضها ببعض مع القبض في مجلس العقد، فهذا جائز مع التفاضل.
وهذا هو أقرب الأقوال في هذه المسألة، لا سيما مع اختلاف الجنس.
مسألة: صرف الريالات من المعدن بريالات من الورق هل يجوز فيه التفاضل؟
اختلف العلماء المعاصرون في ذلك، فقال بعضهم: بالتحريم؛ لأن ريال المعدن هو ريال الورق، ولا فرق بين هذا وهذا، فالمقصود واحد، والدولة جعلت قيمتهما اعتبارية متساوية.
وقال آخرون: بالجواز؛ لأن بينهما فرقاً؛ فالجنس مختلف حقيقة، وقيمة، وتساويهما في القيمة الشرائية فباعتبار تقدير الدولة، ويدل لهذا أنك لو جئت بمائة كيلو من هذا المعدن، ومائة كيلو من الورق فهل تختلف قيمتهما أو لا؟
الجواب: تختلف، فالحديد يشترى لذاته، والورق لولا تقدير الدولة له لم يكن له قيمة إطلاقاً.
وقالوا: لما اختلف الجنس حقيقة وقيمة، جاز التفاضل(6/94)
بينها؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» (1) .
وكان الشيخ ابن باز ـ وفقه الله ـ مع اللجنة الدائمة أصدروا فتوى بالتحريم؛ ثم إن الشيخ حدثنا أخيراً، قال: كنت أقول بالتحريم، ولكني توقفت فيه هل يحرم أو لا؟
أما أنا فنفسي طيبة بجوازه، وليس عندي فيه شك، وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ يجوِّز ذلك، بل يجوز أكثر من هذا، فيرى أنه يجوز التفاضل مع تأخر القبض بشرط ألا يشترطا أجلاً معيناً، فلو أعطيتك مائة، وأعطيتني بعد مدة مائة عوضاً عنها أو أكثر، فإن ذلك لا بأس به بشرط ألا يُشترط الأجل، فيقول: أعطيتك مائة بمائة وعشرة إلى سنة، فإن هذا ممنوع عند شيخنا عبد الرحمن.
لكن الذي يظهر لي: أن تأخير القبض ممنوع، سواء بتأجيل أو بغير تأجيل، وأما التفاضل فلا بأس به.
فالقول الراجح في هذه العملات: أن الزكاة فيها واجبة مطلقاً، سواء قصد بها التجارة أو لا، وعلى هذا لو كان الإنسان عنده مال ليتزوج به، فحال عليه الحول فعليه الزكاة فيه، ولو كان عنده مال من النقود ليشتري به بيتاً، أو ليقضي به ديناً فحال عليه الحول فتجب عليه الزكاة، إلا على قول من يقول: إن الدين يمنع وجوب الزكاة بقدره.
__________
(1) سبق تخريجه ص (40) .(6/95)
ولو كان يجمع دراهم من أجل أن يحج بها، فعليه الزكاة إذا حال عليها الحول.
مسألة: هل يجب عليه أن يجمع مالاً لكي يزكي، وهل يجب عليه إذا تم الحول على نصاب من المال، أن يقوم بما يلزم لإخراج الزكاة؟
الجواب: لا يجب عليه جمع المال ليزكيه، ويجب عليه إذا حال الحول على نصاب من المال أن يقوم بما يلزم لإخراج زكاته.
والفرق بينهما أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وأما ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فتحصيل المال ليزكي تحصيل لوجوب الزكاة وليس بواجب.
ومثله الحج هل نقول: يجب على الإنسان أن يجمع المال ليحج؟ أو نقول: إذا كان عنده مال فليحج؟
الجواب: إذا كان عنده مال فليحج، وأما الأول فلا يجب.
يَجِبُ فِي الذَّهَبِ إِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ مِثْقالاً، وَفِي الفضَّة إِذَا بَلَغَتْ مِائَتَي دِرْهَمٍ رُبْعُ العُشْرِ مِنْهُمَا.........
قوله: «يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما» .
فاعل: «يجب» هو قوله: «ربع» أي: يجب ربع العشر، وهو واحد من أربعين، وفائدة معرفتنا بربع العشر، وأنه واحد من أربعين أن يسهل استخراج الزكاة من النقدين، فإذا أردت أن تستخرجها من النقدين فاقسم ما عندك على أربعين، فما خرج فهو الزكاة.(6/96)
فمثلاً أربعون مليوناً زكاتها مليون، وذلك بقسمتها على أربعين، وهذا أحسن من تعبير العامة الواجب اثنان ونصف في المائة؛ لأنه يوهم أن هناك وقصاً فيظن أن كل مائة فيها اثنان ونصف، وما بين المائتين وقص لا شيء فيه، وهذا أمر خطير.
قوله: «إذا بلغ عشرين مثقالاً» هذا بيان مقدار نصاب الذهب لحديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» (1) وقد وردت أحاديث أخرى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى، وكذلك آثار موقوفة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهي بمجموعها تصل إلى درجة الحسن أو الصحيح لغيره، وأما قول ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ: إنه لم يثبت فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء، فيجاب عنه بأن ذلك قد ثبت بما يكفي كونه حجة.
والدينار الإسلامي زنته: مثقال، والمثقال: أربعة غرامات وربع، وكل عشرة دراهم إسلامية سبعة مثاقيل، وعلى هذا تكون مائتا درهم تساوي مائة وأربعين مثقالاً.
وقد حررت نصاب الذهب فبلغ خمسة وثمانين جراما من الذهب الخالص (2) فإن كان فيه خلط يسير فهو تبع لا يضر؛ لأن
__________
(1) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب في زكاة السائمة (1573) عن علي رضي الله عنه؛ وأخرجه ابن ماجه في الزكاة/ باب زكاة الورق والذهب (1791) ؛ والدارقطني (2/92) عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم؛ وأخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (1683) عن عمرو بن حزم رضي الله عنه، انظر «التلخيص» (851) .
(2) وفي مجالس شهر رمضان للمؤلف ص (117) : «المراد الدينار الإسلامي الذي يبلغ وزنه مثقالاً: أربعة غرامات وربع، فيكون نصاب الذهب: خمسة وثمانين غراماً، يعادل عشرة جنيهات سعودية وخمسة أثمان الجنيه» .(6/97)
الذهب لا بد أن يجعل معه شيء من المعادن لأجل أن يقويه ويصلبه، وإلا لكان ليناً.
وهذه الإضافة يقول العلماء: إنها يسيرة تابعة، فهي كالملح في الطعام لا تضر.
وقوله: «يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر منهما» .
المؤلف ـ رحمه الله ـ اعتبر الذهب بالوزن، واعتبر الفضة بالعدد، والمذهب أن المعتبر فيهما الوزن، وأن الإنسان إذا ملك مائة وأربعين مثقالاً من الفضة ـ وتبلغ خمسمائة وخمسة وتسعين جراماً ـ فإن فيها الزكاة، سواء بلغت مائتي درهم أم لم تبلغ، واستدلوا بقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (1) فاعتبر الفضة بالوزن.
وقال شيخ الإسلام: العبرة بالعدد؛ لحديث أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب فيما كتب في الصدقات: «وفي الرقة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر، فإن لم يكن إلا تسعون ومائة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها» (2) .
ووجه الاستدلال بالحديث عنده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدرها بالعدد، وفي عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليست الدراهم متفقة في الوزن، بل بعض
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .
(2) سبق تخريجه ص (31) .(6/98)
الدراهم أزيد من البعض الآخر، فدل ذلك على أن العدد هو المعتبر؛ لأن الدراهم لم تُوحَّد إلا في زمن عبد الملك بن مروان، فوحدها على هذا المقدار، وجعل كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وبناءً على قول الشيخ ـ رحمه الله ـ لو كانت مائتا الدرهم مائة مثقال فقط ففيها الزكاة، وعلى قول من اعتبر الوزن ليس فيها زكاة، وإذا كانت مائةً وثلاثين مثقالاً، ولكنها مئتان من الدراهم عدداً، ففيها زكاة عند الشيخ، وليس فيها زكاة عند الجمهور.
وعلى هذا، هل الأحوط أن نعتبر العدد، أو الأحوط أن نعتبر الوزن؟
الجواب: إن كانت الدراهم ثقيلة فاعتبار الوزن أحوط، فخمسون درهماً قد تبلغ خمس أواق إذا كانت ثقيلة، فيكون اعتبار الوزن أحوط، وإن كانت الدراهم خفيفة فاعتبار العدد أحوط، فإذا كان الدرهم لا يبلغ إلا نصف مثقال، فلا شك أن العدد أحوط.
والأحاديث متعارضة، فحديث: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ظاهرُهُ سواء بلغت في العدد مائتي درهم أم لم تبلغ، وحديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي كتبه في الصدقات: «في الرقة إذا بلغت مائتي درهم» منطوق، والمنطوق مقدم(6/99)
على المفهوم كما هو معروف في أصول الفقه.
ولو ذهب ذاهب إلى أن المعتبر الأحوط، فإن كان اعتبار العدد أحوط وجبت الزكاة، وإن كان الوزن أحوط وجبت الزكاة. لم يكن بعيداً من الصواب.
والعدد لا حَظَّ فيه للفقراء منذ زمن بعيد؛ لأن زنة النصاب ستة وخمسون ريالاً سعودياً من الفضة، ولو اعتبرنا العدد في الفضة لم تجب الزكاة في ستة وخمسين؛ لأنها لا تساوي مائتي درهم من حيث العدد، ولو اعتبرنا العدد في الذهب لقلنا: لا زكاة إلا في عشرين جنيهاً، ولو اعتبرنا الوزن لقلنا: تجب الزكاة في عشرة جنيهات، وخمسة أثمان الجنيه؛ لأنها تبلغ خمسةً وثمانين جراماً.
مسألة: هل نقول: إذا ملك ستة وخمسين ريالاً من الورق ملك نصاباً من الفضة، أو نقول: إن المعتبر قيمة ستة وخمسين ريالاً من الفضة؟
الجواب: كان الريال السعودي من الورق في أول ظهوره يساوي ريالاً من الفضة، ثم تغيرت الحال فزادت قيمة الريال من الفضة.
فالواجب الأخذ بالأحوط، وهو اعتبار قيمة ستة وخمسين ريالاً من الفضة، وأما إيجاب الزكاة في ستة وخمسين ريالاً من الورق، وهي قد لا تساوي إلا شيئاً قليلاً من ريالات الفضة، فهذا فيه إجحاف بصاحب المال كما أنه لا يعتبر غنياً.(6/100)
وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إِلَى الفِضَّةِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ.........
قوله: «ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب» .
فيه مسألتان:
الأولى: هل يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب؟
في هذا قولان لأهل العلم:
القول الأول: الضم.
القول الثاني: عدم الضم.
وعلة القول الأول: أن مقصود النقدين واحد، فالدنانير يقصد بها الشراء، والفضة يقصد بها الشراء، فهي قيم الأشياء فمقصودهما واحد، فيضم بعضها إلى بعض، فإذا كان عندك عشرة مثاقيل ومائة درهم، فتضم أحدهما إلى الآخر فيكمل النصاب وتجب عليك الزكاة فيهما، وهذا التعليل منقوض بما سيأتي.
واستدل أهل القول الثاني بما يلي:
1 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» (1) ، وهذا يشمل ما إذا كان عنده من الذهب ما يكمل به خمس أواق، أو لا.
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنانير: «إذا كان لك عشرون ديناراً» (2) وهذا يشمل ما إذا كان عنده دون عشرين، وما إذا كان عنده عشرون، فإذا كان عنده دون العشرين فلا زكاة عليه، سواء كان عنده من الفضة ما يكمل به النصاب، أو لا.
3 ـ ومن القياس أن الشعير لا يضم إلى البر في تكميل
__________
(1) سبق تخريجه ص (67) .
(2) سبق تخريجه ص (97) .(6/101)
النصاب، فلو كان عند الإنسان من الشعير نصف نصاب، ومن البر نصف نصاب لم يضم أحدهما إلى الآخر، مع أن المقصود منهما واحد ولا سيما في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو أنهما قوت، ومع ذلك لا يضم أحدهما إلى الآخر حتى على رأي من قال بضم الذهب إلى الفضة، وكذلك لو كان عند الإنسان نصف نصاب من الضأن ونصف نصاب من البقر، فلا يكمل أحدهما بالآخر مع أن المقصود واحد وهو التنمية، وبهذا ينتقض تعليل القول الأول، فالجنس لا يضم إلى جنس آخر، والنوع يضم إلى نوع آخر كأنواع النخيل.
وعليه فإذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم، فلا زكاة عليه؛ لأن الذهب جنس والفضة جنس آخر.
وهذا هو القول الراجح، لدلالة السنة، والقياس الصحيح عليه.
المسألة الثانية: على القول بالضم فهل يضم بالأجزاء أو بالقيمة؟
المذهب: أنه يضم بالأجزاء لا بالقيمة.
وقيل: يضم بالقيمة.
ويظهر الخلاف في المثال: فإذا كان عند الإنسان ثلث نصاب من الذهب، ونصف نصاب من الفضة، وقيمة ثلث النصاب من الذهب تساوي نصف النصاب من الفضة، فعلى قول من يقول: إنه يضم بالأجزاء، لا يضم؛ لأن عنده ثلث نصاب من الذهب، ونصف نصاب من الفضة، فالمجموع نصاب إلا سدساً(6/102)
فلم يبلغ النصاب، وعلى هذا فلا زكاة عليه على المذهب.
وأما من قال: المعتبر القيمة، فإنه يضم الذهب إلى الفضة ويكمل النصاب؛ لأن قيمة ثلث نصاب الذهب تساوي مائة درهم فيكون عنده الآن مائتا درهم فيزكيها.
مثال آخر: إذا كان عنده عشرة دنانير ومائة درهم فإنه يضم على المذهب، وإذا كان عنده ثمانية دنانير تساوي مائة درهم وعنده مائة درهم فعلى المذهب لا يضم.
والصواب من هذين القولين: أنه يضم بالأجزاء لا بالقيمة.
يستثنى من هذه المسألة أموال الصيارف فإنه يضم فيها الذهب إلى الفضة، لا ضم جنس إلى جنس؛ لأن المراد بهما التجارة، فهما عروض تجارة.
وَتُضَمُّ قِيمَةُ العُرُوضِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا..........
قوله: «وتضم قيمة العروض إلى كل منهما» .
عروض التجارة كل ما أعد للتجارة ولا تُخَصُّ بمال معين كالثياب والعقارات إذا أرادها للتجارة، فهذه تضم في تكميل النصاب إلى الذهب، أو الفضة، فإذا كان عنده مائة درهم من الفضة وعروض تساوي مائة درهم، وجبت عليه الزكاة في الفضة والعروض.
فإن قيل: ليس عنده من الفضة نصاب وكذلك العروض؟
قلنا: إنَّ المراد بالعروض القيمة، وإنما الأعمال بالنيات، فصاحب العروض لا يريدها لذاتها؛ لأنه يشتريها اليوم ويبيعها غداً.
ولكن بأي قيمة نعتبر العروض؟ هل بالذهب أو الفضة؟(6/103)
مثاله: إذا كان لشخص ثلث نصاب من الفضة، وثلث نصاب من الذهب، وعروض، إن اعتبره بالفضة بلغ ثلث نصاب، وإن اعتبره بالذهب لم يبلغ ثلث نصاب، فهل يعتبر قيمته بالذهب، أو يعتبر قيمته بالفضة؟
الجواب: قال أهل العلم: إن عروض التجارة تعتبر بالأَحَظِّ للفقراء، فإذا بلغ النصاب من الفضة دون الذهب قومت بالفضة، وإذا كانت تبلغ نصاباً من الذهب دون الفضة قومت بالذهب.
وما ذهبوا إليه من ضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة صحيح، ويكون بالأحظ للفقراء.
مسألة: إذا قلنا: بضم نصاب الذهب إلى الفضة، بضم قيمة العروض إلى الفضة أو الذهب، فهل نخرج من كل جنس زكاته، أو من أحدها؟
الجواب: المذهب، لا بد أن نخرج زكاة كل جنس منه، فنخرج من الذهب ذهباً، ومن الفضة فضة، لأن الحديث «وفي الرقة ربع العشر» (1) ، أي: من الفضة.
وفي حديث الذهب «نصف دينار» (2) أي: من الذهب.
فتكون الزكاة في كل جنس منه، كما قالوا في الحبوب والثمار: تخرج من كل نوع.
والصحيح: أنه لا بأس أن تخرج من أحد النوعين، أي: بالقيمة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (31) .
(2) سبق تخريجه ص (97) .(6/104)
وَيُبَاحُ لِلذَّكَرِ مِن الفِضَّةِ الخَاتَمُ،...........
قوله: «ويباح للذكر من الفضة الخاتم» . ذكر المؤلف ما يباح للرجال والنساء من الذهب والفضة، وهذا له تعلق بالزكاة من جهة الحلي المعد للاستعمال، وإلا فمناسبته لكتاب اللباس أظهر.
والمباح: ما كان فعله وتركه سواء، أي: لا يترتب على فعله أو تركه ثواب أو عقاب، فالمباح الأصل بقاؤه على الإباحة إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل، لكن إذا كان وسيلة لشيء أعطي حكمه.
فالبيع حلال، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] هذا هو الأصل، لكن لو بِعْتَ بعد أذان الجمعة الثاني، وأنت ممن تجب عليه الجمعة صار البيع حراماً؛ لأنه وسيلة إلى ترك الصلاة، ولو بعت سلاحاً في زمن فتنة صار حراماً؛ لأن فيه إعانة على الإثم، ولو بعت عنباً لمن يجعله خمراً كان حراماً، ولو احتجت ماء للوضوء صار الشراء واجباً.
فإن كان المباح وسيلة لمأمور به أُمِرَ به، وإذا كان وسيلة لمنهي عنه نُهِيَ عنه.
وقول بعض الأصوليين: لا وجود للمباح، معللين ذلك بما يلي:
أولاً: أنه ليس فيه تكليف.
ثانياً: أنه لا بد أن يكون له أثر، وأقلَّ ما فيه أنه تضييع للوقت، وتضييع الوقت مكروه.
والصحيح أنه قسم من أقسام الأحكام الشرعية لقوله تعالى:(6/105)
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .
وقوله: «ويباح للذكر من الفضة الخاتم» .
مراد المؤلف بهذا بيان ما الذي يباح من الفضة، وأما حكم لبسه فسنبين.
وقوله: «للذكر» يشمل الصغير والكبير، و (ال) في قوله: «الخاتم» هل هي للجنس فيشمل الخاتم والخاتمين، والثلاثة والأربعة والخمسة، أو هي لِلْوَحْدةِ؟
الظاهر: الثاني؛ وأن الإنسان يباح له اتخاذ خاتم واحد، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله.
وقوله: «ويباح للذكر من الفضة الخاتم» .
الخاتم: نائب فاعل.
أي: إن الله أباح ذلك، وليعلم أنه إذا حذف الفاعل في باب التشريع، أو باب الخلق فإنما يحذف للعلم به؛ لأن الخالق والمشرع هو الله.
وقوله: «ويباح للذكر من الفضة الخاتم» ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اتخذ خاتماً من ورق» (1) أي من فضة، ومعلوم أن لنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، ولا يقول قائل: إن هذا خاص به؛ لأن الأصل عدم الخصوصية، فمن ادعى الخصوصية في شيء فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعليه الدليل.
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس/ باب خواتيم الذهب (5865) ؛ ومسلم في اللباس والزينة/ باب تحريم خاتم الذهب ... (2091) (54) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(6/106)
وظاهر كلام المؤلف: أنه جائز، سواء اتخذ الخاتم لحاجة، أو لتقليد وعادة، أو لزينة، لإطلاقه.
فمثال الذي يتخذه لحاجة: فكمن له شأن في الأمة، كالحاكم، والأمير، والوزير، والمدير، وما أشبه ذلك أي: يحتاج الناس إلى ختمه فهذا اتخذه لحاجة؛ لأن بقاءه في أصبعه أحفظ من جعله في جيبه؛ لأنه إذا جعله في جيبه ربما يسقط، أو يسرق.
ومثال الذي اتخذه تقليداً: فكما يفعل كثير من الناس الآن؛ يتخذ صاحبه خاتماً فيوافقه في ذلك تقليداً، ولا يريد الزينة، ولكن جرت عادة أهل بلده في اتخاذ الخاتم فاتخذه.
ومثال الذي يتخذه زينة: فكمن يلبسه يريد أن يتزين به، ولهذا يختار أحسن الفضة لوناً ولمعاناً وشكلاً.
وقال بعض العلماء: إنه إذا كان للزينة فلا يحل؛ لأن الله جعل التحلي بالزينة للنساء فقال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *} [الزخرف] ، وما كان من خصائص النساء، فإنه لا يجوز للرجال.
والراجح العموم، وأنه جائز للحاجة، والعادة، والزينة.
بل إنه لا يوجد نص صحيح في تحريم لباس الفضة على الرجال، لا خاتماً ولا غيره، بل جاء في السنن: «وأما الفضة فالعبوا بها لَعِبَاً» (1) يعني اصنعوا ما شئتم بها.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/334) ؛ وأبو داود في الخاتم/ باب ما جاء في الذهب للنساء (4236) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال المنذري في الترغيب (1/273) : «وإسناده صحيح» .(6/107)
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من العلماء: الأصل في لباس الفضة هو الحل حتى يقوم دليل على التحريم. وهذا القول أصح؛ لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، فإذا جاء الإنسان، واتخذ غير الخاتم مما يتزين به من فضة فلا نقول: إن هذا حرام على القول الراجح؛ لأن الأصل الحل.
أما السوار، والقلادة في العنق، وما أشبه ذلك، فهذا حرام من وجه آخر، وهو التشبه بالنساء والتخنث، وربما يساء الظن بهذا الرجل، فهذا يحرم لغيره لا لذاته.
وقوله: «يباح للذكر» أفادنا أن اتخاذ الخاتم من فضة من القسم المباح أي: ليس حراماً، فهل هو مشروع؟ أي: هل يسن أن يتخذ الإنسان خاتماً؟
الجواب: الصحيح أَنَّ لبس الخاتم ليس بسنة إلا لمن يحتاجه؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتخذه، حتى قيل له: «إن الملوك لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً فاتخذ الخاتم» (1) .
مسائل:
الأولى: إذا جرت عادة أهل البلد بلبس الخاتم فيجوز لبسه، ولا حرج، وإذا لم تجر العادة فلا يجوز؛ لأنه يكون لباس شهرة يتحدث الناس به.
وهنا مسألة لا بد أن نتفطن لها وهي:
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم/ باب ما يذكر في المناولة ... (65) ؛ ومسلم في الفضائل/ باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته (2092) عن أنس رضي الله عنه.(6/108)
أن موافقة العادات في غير المحرم هي السنة؛ لأن مخالفة العادات تجعل ذلك شهرة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لباس الشهرة (1) ، فيكون ما خالف العادة منهياً عنه.
وبناءً على ذلك نقول: هل من السنة أن يتعمم الإنسان؟ ويلبس إزاراً ورداءً؟
الجواب: إن كنا في بلد يفعلون ذلك فهو من السنة، وإذا كنا في بلد لا يعرفون ذلك، ولا يألفونه فليس من السنة.
الثانية: أين يوضع الخاتم هل هو في الخنصر، أو البنصر، أو السبابة، أو الإبهام، أو الوسطى؟
الجواب: في الخنصر أفضل ويليه البنصر.
الأصابع بالنسبة لوضع الخاتم عند الفقهاء ثلاثة أقسام: قسم مستحب: وهو الخنصر، وقسم مكروه: وهو السبابة والوسطى.
وقسم مباح: وهو الإبهام والبنصر، وبعضهم ألحق الإبهام بالسبابة والوسطى.
الثالثة: هل يسن الخاتم في اليسار أو اليمين؟
الجواب: قال الإمام أحمد: اليسار أفضل، لثبوته، وضعف الأحاديث الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتختم باليمين (2) ،
__________
(1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة تَلَهَّبُ فيه النار» .
أخرجه أحمد (2/92) دون قوله: «تلهب فيه النار» ؛ وأبو داود في اللباس/ باب في لبس الشهرة (4029) ؛ وابن ماجه في اللباس/ باب من لبس شهرة من الثياب (3606) . قال البوصيري في الزوائد: إسناده حسن.
(2) الإنصاف 3/43، الفروع 2/471، أحكام الخواتم 161.(6/109)
فيكون التختم في اليمين جائزاً، والصحيح أنه سنة في اليمين واليسار (1) .
وقال بعض العلماء: إذا كان قد ختم عليه اسم الله، فلا يكون في اليسرى تكريماً لاسم الله؛ ولأنه يحتاج إلى اليسرى في الاستنجاء، والاستجمار وحينئذٍ إما أن يتكلف بإخراج الخاتم، وإما أن يستنجي والخاتم عليه، وهذا فيه نوع من الإهانة.
ويؤخذ من هذه المسألة: أن وضع الساعة في اليد اليمنى ليس أفضل من وضعها في اليد اليسرى؛ لأن الساعة أشبه ما تكون بالخاتم فلا فرق بين أن تضع الساعة في اليمين أو اليسار. لكن لا شك أن وضعها في اليسار أيسر للإنسان، من ناحية التعبئة، ومن ناحية النظر إليها أيضاً، ثم هي أسلم في الغالب، لأن اليمنى أكثر حركة فهي أخطر.
والأمر في هذا واسع، فلا يقال: إن السنة أن تلبسها باليمين؛ لأن السنة جاءت في اليمين واليسار في الخاتم، والساعة أشبه شيء به.
الرابعة: أين يضع فص خاتمه، على ظاهر كفه أو على باطنه؟
__________
(1) أما اليمين، فأخرجه مسلم في اللباس والزينة/ باب في خاتم الورق ... (2094) (62) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله (ص) لبس خاتم فضة في يمينه فيه فص حبشي، كان يجعل فصه مما يلي كفه.
وأما جعله في اليسار فَلمَا رواه مسلم أيضاً في اللباس والزينة/ باب في لبس الخاتم في الخنصر من اليد (2095) عن أنس رضي الله عنه قال: «كان خاتم النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى» .(6/110)
الجواب: يجعله مما يلي باطن كفه، لأنه الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، ولأنه أحفظ له، ولكن عند العمل يقلبه، ويجوز أن يجعله مما يلي ظاهر كفه، فقد روي ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من فعله (2) ، والأمر في هذا واسع.
الخامسة: هل يكون الفص من جنس الخاتم أو غيره؟
الجواب: يجوز أن يكن الفص من جنس الخاتم، أو من غيره لكن الأولى أن يكون متناسباً مع الخاتم وينهى عن تكبيره؛ لأنه قد يدخل في باب الخيلاء ثم إنه قد يكون فيه تشبه بالنساء؛ لأنهن يكبرن الفص في العادة.
السادسة: ما حكم أن ينقش اسم الله على الخاتم؟
الجواب: لا ينبغي ذلك وأقل أحوال الكراهة، لا سيما وأنهم يكتبون اسم الله تعالى مفرداً، ومثله ما يوجد في قلائد النساء، وهذا كله من الأشياء المبتدعة التي توجب أن يكون اسم الله تعالى مبتذلاً، كما أنه إذا جعله في يده اليسرى فإنه يباشر الأذى عند الاستنجاء، وهذا أمر خطير جداً.
فإن قال قائل: يرد عليه خاتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن نقشه «محمد رسول الله» فما الجواب على هذا الإيراد؟
فالجواب: أن هذا النقش لحاجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن هذا هو اسمه وصفته، التي من أجلها اتخذ الخاتم ليكتب للملوك ويخبرهم أنه رسول الله.
__________
(1) سبق تخريجه من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ ص (110) .
(2) أخرجه أبو داود في الخاتم/ باب ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار (4229) .(6/111)
وإذا اتخذ الإنسان خاتماً لحاجة ونقش عليه اسمه وفي اسمه اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فإنه إذا دخل الخلاء فلا بأس أن يبقى الخاتم في يده، ولكن قال العلماء: ينبغي أن يضم يده عليه ويجعل فصه داخل كفه، أما حديث: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» (1) فهو معلول.
السابعة: ما حكم استعمال الدبلة بعد الخطوبة أو عقد القران للرجل والمرأة؟
هذه العادة توجد الآن في بعض البلدان الإسلامية فيأتي الزوج والزوجة بخاتمين يكتب اسم الزوج في خاتم الزوجة، واسم الزوجة في خاتم الزوج، فهذا العمل يحتوي على جملة من المحاذير الشرعية:
أولاً: أنه يقترن بها عقيدة أن هذا من أسباب التأليف بينهما وقد ذكر أهل العلم أن هذا من الشرك؛ لأنه إثبات سبب لم يثبت شرعاً ولا واقعاً، ثم إن هذا أيضاً من التولة.
ثانياً: ذكر الشيخ الألباني أن أصل هذا العمل من النصارى فإنهم يأتون إلى كبيرهم ويضع يده على يد الزوج أو الزوجة ويقول: «باسم الأب باسم الابن باسم الروح» ثم يمر بيده على
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة/ باب الخاتم يكون فيه ذكر الله ... (19) ؛ والترمذي في اللباس/ باب ما جاء في نقش الخاتم (1746) ؛ والنسائي في الزينة/ باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء (8/178) ؛ وابن ماجه في الطهارة وسننها/ باب ذكر الله عزّ وجل (303) عن أنس بن مالك رضي الله عنه. انظر «التلخيص» (140) .(6/112)
يديهما ويضع الدبلة في الأصبع المخصص لذلك، ففيها إذاً محذور عظيم وهو التشبه بالنصارى وهو محرم حتى وإن خلت من الاعتقاد الذي ذكرناه أولاً، فتحرم من هذا الباب.
ثالثاً: أنه غالباً ما تكون من الذهب، والذهب محرم على الرجال، وقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلاً عليه خاتم من ذهب فنزعه من يده وطرحه وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده» فلما انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم قيل له: «خذ خاتمك وانتفع به» فقال: والله لا أخذه آبداً وقد طرحه النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) ، وفي الحديث المشهور: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» (2) .
فهذه العادة محرمة ينبغي محاربتها والإنكار على من يفعلها حيث اشتملت على هذه المحرمات العظيمة، كما يجب الإنكار على أولئك الرجال الذين يلبسون خواتم أو سلاسل من ذهب كما يقع هذا من بعض المائعين، وأقبح من أولئك الذين يلبسون خروصاً من الذهب في آذانهم.
وَقَبِيعَةُ السَّيْفِ.........
وقوله: «وقبيعة السيف» .
القبيعة ما يكون على رأس مقبض السيف، وهي مثل القبع. فيجوز أن تحلى هذه القبيعة بالفضة؛ لآثار وردت في ذلك بعضها مرفوع وبعضها موقوف (3) ؛ ولأن السيف من آلة الحرب، وفي
__________
(1) أخرجه مسلم في اللباس والزينة/ باب تحريم خاتم الذهب ... (2090) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (4/394، 407) والنسائي في الزينة/ باب تحريم الذهب على الرجال 8/161، والترمذي في أبواب اللباس/ باب ما جاء في الحرير والذهب للرجال (1720) عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد/ باب في السيف يُحلّى (2583) ؛ والترمذي في الجهاد/ باب ما جاء في السيوف وحليتها (1691) ؛ والنسائي في الزينة/ باب حلية السيف (8/219) عن أنس رضي الله عنه ورجح الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم أنه مرسل «التلخيص» (50) وله شاهد من حديث أمامة بن سهل رضي الله عنه، أخرجه النسائي (8/219) ، قال الحافظ: إسناده صحيح «التلخيص» (50) .(6/113)
تحليته إغاظة للعدو، ولهذا جازت الخيلاء في الحرب، وجاز لباس الحرير في الحرب، وكل شيء يغيظ الكفار فإن الإنسان له فيه أجر، ومفسدة الكبر ولبس الحرير يقابلها مصلحة إغاظة الأعداء، قال الله تعالى: {وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] ، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] فدل ذلك على أن إغاظة الكفار مرادة لله ـ عزّ وجل ـ وأن فيها أجراً.
إذاً، أغيظ الكفار لأمرين:
أولاً: لموافقة مراد الله.
ثانياً: العمل الصالح الذي فيه الأجر.
ولكن هذا لا يعني ألا ندعوهم إلى الإسلام، بل نفعل ما يغيظهم، وندعوهم إلى الإسلام فنجمع بين الأمرين ونحصل على المصلحتين،(6/114)
ولأن في تحلية قبيعة السيف بالفضة، تقوية في الجهاد في سبيل الله، فإن الكفار إذا رأوا سيوف المسلمين بهذه المثابة عظموهم، وقالوا: إن لديهم قوة مالية.
وَحِليَةُ المِنْطَقَةِ، وَنَحْوِهِ،..........
قوله: «وحلية المنطقة» .
والمنطقة ما يشد به الوسط، فالعمال في الحرث، والاحتطاب يتخذون مناطق لتشدهم وتقويهم من وجه، وترفع ثيابهم من وجه آخر، فهذه المنطقة يجوز أن تحلّى بالفضة؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فعلوا ذلك، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من أن التحلي بالفضة، الأصل فيه الجواز، ما لم يصل إلى حد الإسراف.
وقوله: «ونحوه» .
أي: نحو ما ذكر.
قال في الروض: «كحلية الجوشن، والخوذة، والخف، والران، وحمائل السيف» (1) ؛ لأن هذا يشبه المنطقة، وإذا جاز ذلك في المنطقة فهذه مثلها، كما أن في ذلك إغاظة للكافرين ومن هنا نأخذ أن قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ليست على إطلاقها، بل يكون ذلك عند التساوي أو رجحان المفاسد، أما إذا رجحت المصالح فإنه تغتفر المفاسد بجانب تلك المصالح، ولهذا أجاز الشرع بعض المسائل الربوية من أجل المصلحة، مثل بيع العرايا.
__________
(1) «الروض المربع» (3/251) .(6/115)
مسألة: هل يجوز الشرب والأكل في آنية الفضة؟
الجواب: ورد النص بتحريم الأكل والشرب في آنية الفضة، فلا يجوز للإنسان أن يتخذ ملعقة من فضة يأكل بها، وهذا مما يشترك فيه النساء والرجال بالنسبة لتحريم الذهب والفضة.
مسألة: هل يجوز أن يتخذ قلماً فيه فضة؟
الجواب: لا بأس، بشرط ألا يستعمله لباساً، إن قلنا بتحريم اللباس ما عدا المستثنى.
أما إذا قلنا: الأصل الحل فلا بأس أن يتخذ قلماً غطاؤه من الفضة أو جرابه كله من الفضة؛ لأن الأصل فيه الحل.
وَمِنَ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيفِ، وَمَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَأَنْفٍ وَنَحْوِهِ........
قوله: «ومن الذهب قبيعة السيف» . أي: يباح للذكر من الذهب قبيعة السيف، وقبيعة السيف هي: رأس مقبض السيف، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه: «اتخذ ذهباً على مقبض السيف» (1) ؛ ولأنه من آلات الحرب ففي اتخاذ ذلك إغاظة للكفار، لكن يجب الاقتصار في اتخاذ الذهب في آلات الحرب على ما جاء عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من الشيء اليسير كمسمار الذهب ونحوه.
وقوله: «وما دعت إليه ضرورة، كأنف» . أي: يباح له ما دعت إليه الضرورة كالأنف لو قطع، واحتاج الإنسان أن يزيل التشوه فلا بأس أن يتخذ أنفاً من ذهب.
فإذا قال قائل: لماذا لا يتخذ الفضة؟
__________
(1) لم نقف عليه.(6/116)
فالجواب: أن الفضة تنتن، فإن عرفجة بن أسعد ـ رضي الله عنه ـ قطع أنفه، فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن، ثم اتخذ أنفاً من ذهب بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) .
وهل يشترط أن يضطر إلى كونه من الذهب، بمعنى أنه لو أمكن أن يركب غير الذهب حرم عليه الذهب؟
الجواب: قول المؤلف: «ما دعت إليه الضرورة» يقتضي أنه لا بد أن يضطر إلى عين الذهب، لا إلى وضع الأنف، وبناء على ذلك فإنه في وقتنا الحاضر يمكن أن يقوم مقامه شيء آخر فينقلون من بعض أجزاء الجسم شيئاً يضعونه على الأنف، فيكون كالأنف الطبيعي من اللحم، وهذا أحسن من كونه من ذهب، فإن أمكن أن يجعل من مادة أخرى غير الذهب فإنه لا يجوز من الذهب؛ لأنه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، وإذا رَكَّبَ الإنسان أنفاً من ذهب مع وجود البديل عنه، وكان يتضرر بخلعه، فلا يلزمه ذلك.
قوله: «ونحوه» أي: مثل السن والأذن.
مثاله: رجل انكسر سنه، واحتاج إلى رباط من الذهب، أو سن من الذهب، فإنه لا بأس به.
ولكن إذا كان يمكن أن يجعل له سناً من غير الذهب، كالأسنان المعروفة الآن، فالظاهر أنه لا يجوز من الذهب؛ لأنه ليس بضرورة، ثم إن غير الذهب وهي المادة المصنوعة أقرب إلى السن الطبيعي من سن الذهب، وكذلك إذا اسودّ السن ولم ينكسر
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (5/23) وأبو داود في الخاتم/ باب ما جاء في ربط الأسنان بالذهب (4232) والنسائي في الزينة/ باب من أصيب أنفه ... (8/163) والترمذي في اللباس/ باب ما جاء في شد الأسنان بالذهب (1770) عن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ وصححه ابن حبان (5462) وانظر التلخيص (2/176) .(6/117)
فإنه لا يجوز تلبيسه بالذهب؛ لأنه لا يعتبر ضرورة ما لم يخش تكسره أو تآكله فإنه يجوز.
مسائل:
الأولى: هل يجوز أن يلبس الرجل ساعة محلاة بالفضة، أو بالذهب؟
الجواب: على القول الراجح يجوز أن يلبس ساعة محلاة بالفضة؛ لأن الأصل في الفضة الحل.
أَمَّا لبس ساعة محلاة بالذهب فإنه لا يجوز؛ لأن الذهب حرام على الرجال.
لكن إذا كانت الساعة مطلية بالذهب، والذهب فيها مجرد لون فقط فهي جائزة، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يلبسها لوجهين:
الوجه الأول: أنه يُساء به الظن أنه لبس ساعة من ذهب؛ لأن الناس لا يدرون.
الوجه الثاني: أنه ربما يُقتدى به، فالناس يقتدي بعضهم ببعض.
فنقول للإنسان إذا أتته ساعة مطلية بذهب هدية أو نحو ذلك: الأفضل ألا تلبسها، وإن لبستها فلا حرج.
لكن العلماء اشترطوا في المطلية بالذهب ألا يكون للذهب جرم أي: قشرة، بحيث يخرج منه شيء لو حك أو عرض على النار، فأما مجرد اللون فلا بأس.
فإن قال قائل: إذا كانت الساعة ليست ذهباً ولا مطلية به، لكن في آلاتها شيء من الذهب هل تجوز؟(6/118)
الجواب: نعم لا بأس به؛ لأنه إذا كان في الآلات الداخلية، فإنه لا يرى ولا يعلم به، وإن كان في الآلات الخارجية كالعقرب مثلاً؛ فإنه يصير تابعاً فلا يضر.
ولكن يبقى النظر، هل يجوز للإنسان أن يشتري ساعة فيها قطع من الذهب؟
الجواب: فيه تفصيل: إذا كان لباس مثله لها يعتبر إسرافاً دخلت في حد الإسراف، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] .
وقلنا: هذا ليس لباس مثلك، وإذا كان لا يعد إسرافاً فالأصل الجواز.
الثانية: لو وضع الرجل ساعة الذهب في جيبه ولم يلبسها فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يعد هذا لبساً.
الثالثة: ساعة الألماس جائزة في ذاتها، لكن قد تحرم من باب الإسراف.
الرابعة: القصب الموجود في المشالح، يقولون: إنه محلى بالذهب، وبعض المشالح فيه خيوط بعضها إصبعان وبعضها ثلاثة، وبعضها أربعة من الذهب.
فالمذهب: إن كان ذهباً فحرام، ولا يجوز لبسه.
ولكن هذه المسألة يعتريها أمران:
الأول: أننا لا نسلم أن هذا ذهب، وقد حدثنا شيخنا عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله ـ عن شيخه محمد بن إبراهيم(6/119)
ـ رحمه الله ـ أنهم اختبروا هذا فوجدوا أنه ليس بذهب، وعلى هذا فالمسألة غير واردة من الأصل.
الثاني: لو فرضنا أنها كانت ذهباً، فإن حبر زمانه، وإمام أهل وقته، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، يقول: يجوز من الذهب التابع ما يجوز من الحرير التابع؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم، جعل حكمهما واحداً فقال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها» (1) .
وعلى هذا فالذي يوجد في المشالح لا يصل إلى درجة التحريم؛ لأن المحرم من الحرير هي الثياب الخالصة وما أكثره حرير، وما كان زائداً على أربعة أصابع، أما إذا كان علماً أربعة أصابع فما دون، فلا بأس به من الحرير، وعلى قول الشيخ لا بأس به ولو من الذهب.
ولكن إذا قلنا بجواز شيء فهو جائز لذاته، وقد يصير حراماً من وجه آخر فيكون حراماً لغيره.
مثال ذلك: لو قدرنا أن رجلاً لبس الذهب الخالص بجعله مرصعاً في بشته لقال الناس: هذا مسرف أو مجنون، فحينئذٍ نقول: يحرم من أجل الإسراف، وهذه قاعدة في كل المباحات «كل مباح إذا اشتمل على محرم صار حراماً» .
الخامسة: فراش الحرير هل يجوز للنساء؟ الذي يظهر لي عدم جوازه؛ لأنه لا يتعلق بلباسها الذي أبيح لها فيه الحرير، من أجل التجمل.
__________
(1) سبق تخريجه ص (113) .(6/120)
وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ،.............
وقوله: «ويباح للنساء من الذهب والفضة» أي؛ يحل، والإباحة بمعنى الحل، والمبيح هو الشارع، والحكمة من إباحة ذلك للنساء دون الرجال أنها محتاجة للتجمل به، والتزين، فأبيح لها ما يكمِّل نقصها، بخلاف الرجال فليسوا بحاجة لذلك، وبهذا يظهر أن إباحة ذلك للمرأة رحمة بها وبزوجها.
قوله: «ما جرت عادتهن بلبسه» .
«ما» اسم موصول في محل رفع نائب فاعل، أي: الذي جرت عادتهن بلبسه على أي وجه كان، سواء كان على الرأس أو في اليد أو في الصدر أو في العنق أو في الأذن أو في الرجل، وسواء كثر أو قل لكن بشرط ألا يخرج عن العادة، وإنما قيدنا ذلك؛ لأن ما خرج عن العادة إسراف، والإسراف حرام لقول الله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] .
وقوله: «ما جرت عادتهن» العادة تختلف باختلاف البلدان، والأزمان، والأحوال.
فاختلاف البلدان: قد يكون في هذا البلد جرت العادة أن يلبس النساء هذا النوع من الذهب، بخلاف البلد الآخر.
واختلاف الأزمان: كأن يكون الناس في زمان الرخاء تكثر الأموال عندهم، فيلبس النساء من الذهب شيئاً كثيراً، أو بالعكس، فيكون الجائز في الزمن الأول غير جائز في الزمن الثاني.
وأما اختلاف الأحوال فهذه امرأة فقيرة، وهذه امرأة غنية،(6/121)
وهذه امرأة ملك، وهذه امرأة وزير، وهذه امرأة رئيس، فالأحوال تختلف، فامرأة الفقير التي لا تملك إلا دراهم قليلة ليست كامرأة الملك.
وَلَوْ كَثُرَ.........
قوله: «ولو كثر» ، «لو» إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء قال: يشترط ألا يزيد على ألف مثقال، أو ما أشبه ذلك، وجهه أن ما زاد على ذلك إسراف، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأننا إذا ربطنا الحكم بالإسراف فقد يحرم ما يزيد على خمسمائة مثقال، وقد يباح ما يزيد على ألف مثقال، وذلك باختلاف الأحوال.
وقال آخرون: إنه لا تحديد، بل ما جرت به العادة فهو مباح قلَّ أو كثر، ودليله عموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» (1) ، وهو الصواب.
مسائل:
الأولى: حكم لبس الذهب المحلَّق.
ذهب بعض أهل العلم إلى تحريمه، واستدلوا لذلك بأحاديث، وهو قول ضعيف، والصواب أنه جائز، ويكاد أن يكون إجماعاً من أهل العلم، وقد سلكوا في الجواب عن أحاديث القائلين بالتحريم أحد ثلاثة مسالك:
1 ـ أنها ضعيفة السند.
2 ـ أنها شاذة لمخالفتها الأدلة الصحيحة الكثيرة الدالة على جواز لبس الخواتيم، وهي محلقة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (113) .(6/122)
3 ـ أنها منسوخة فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم لبس المحلق من الذهب أول الأمر ثم أباحه بعد ذلك، وقد كتب الشيخ عبد العزيز بن باز ردّاً على القول بتحريم الذهب المحلق، وكذلك الشيخ إسماعيل الأنصاري له رسالة في ذلك.
الثانية: قال في «الروض» : «ويباح لهما» أي: للذكر والأنثى «تَحَلٍّ بجوهر ونحوه» ، مثل: الألماس «وكره تختمهما بحديد وصفر ونحاس ورصاص» ، قوله: «ويباح لهما ... » . دليل الإباحة عموم قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] واللام في قوله: «لكم» للتعليل وهو أولى من القول بأنها للإباحة، وإذا كان مخلوقاً من أجلنا فلا بد أن يكون مباحاً لنا؛ لأن التعليل يستفاد منه الإباحة، ويستفاد منه رحمة الله بالخلق وأنه خلق من أجلنا ما في الأرض من المنافع.
لكن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] هذه اللام للإباحة بلا شك يعني يباح لكم رؤوس أموالكم.
وقوله في الروض: «يباح لهما.. تحل بجوهر» هذا مشروط في الذكر بألا يتحلى بما يشبه تحلي المرأة، لتحريم تشبه الرجال بالنساء.
وقوله في «الروض» : «وكره تختمهما بحديد» هذا موضع خلاف بين أهل العلم:
قال بعض العلماء: مباح؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التمس ولو خاتماً من حديد» والحديث في الصحيحين (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في النكاح/ باب التزويج على القرآن وبغير صداق (5149) ؛ ومسلم في النكاح/ باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد. (1425) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.(6/123)
وقيل: إنه مكروه؛ لأن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليه خاتم من شَبَه فقال: «مالي أجد فيك ريح الأصنام، فطرحه، ثم جاءه وعليه خاتم من حديد، فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه» (1) قال الخطابي: أي: زي الكفار، وهم أهل النار.
وأجاب القائلون بالإباحة عن هذا الحديث بأنه ضعيف، وشاذ؛ لأنه مخالف لما هو أوثق منه، والأوثق منه ما في الصحيحين «التمس ولو خاتماً من حديد» .
وهذا في سنده نظر، وفي متنه نظر، ومعلوم أن الحديث لا يكون حجة إلا إذا سلم من الشذوذ والعلة القادحة، ثم ينبغي إن صححنا الحديث وجعلناه حجة أن نقول: يحرم لباس الحديد، لأنَّ التحلي بحلية أهل النار لا يجوز.
لكن لهم أن يجيبوا بأننا لا نجزم بالتحريم، لعدم جزمنا بثبوت الحديث، لكن نقول بالكراهة من باب الاحتياط.
وقد ذهب بعض الفقهاء والمحدثين إلى أن الحديث إذا لم يكن مردوداً فإنه يولد شبهة، وإذا ولد شبهة كان في منزلة بين منزلتين، فإن كان أمراً فهو بين الإيجاب وبراءة الذمة فيكون الأمر
__________
(1) أخرجه أبو داود في الخاتم/ باب ما جاء في خاتم الحديد (4223) ؛ والترمذي في اللباس/ باب ما جاء في خاتم الحديد (1785) ؛ والنسائي في الزينة/ باب مقدار ما يجعل في الخاتم من الفضة (8/172) عن بريدة رضي الله عنه.
قال الترمذي: «هذا حديث غريب» وضعفه النووي في المجموع (4/465) ، ومعنى «شبه» في الحديث: النحاس الأصفر، كما في القاموس.(6/124)
للاستحباب، وإن كان نهياً فهو بين التحريم والإباحة فيكون مكروهاً.
وهذه قاعدة قد تؤخذ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (1) .
والراجح عندي إباحة التحلي بالحديد، وغيره إلا الذهب، وعدم كراهة ذلك.
وَلاَ زَكَاةَ فِي حُلَيِّهِمَا المُعَدِّ لِلاسْتِعْمَالِ، أَوِ العَارِيَةِ،.........
قوله: «ولا زكاة في حليهما المعد للاستعمال، أو العارية» (2) .
«حليهما» أي: حلي «الذكر والأنثى» ، ولكن لا بد من قيد وهو الإباحة؛ لأن المؤلف قال في آخر الكلام: «أو كان محرماً ففيه الزكاة» .
فتسقط زكاة الحلي بشرطين:
أولاً: أن يكون مباحاً.
ثانياً: أن يكون معداً للاستعمال، أو العارية، سواء استعمل وأعير، أو لم يستعمل ولم يعر.
أما الشرط الأول وهو الإباحة؛ فلأن سقوط الزكاة عن الحلي من باب الرخصة، ومستعمل المحرم ليس أهلاً للرخصة.
مثاله: لو اتخذ الرجل خاتماً من ذهب لوجبت عليه الزكاة في هذا الخاتم إذا بلغ النصاب، أو كان عنده ما يكمل به النصاب؛ لأنه محرم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/200) والترمذي في صفة القيامة/ باب منه (2518) والنسائي في الأشربة/ باب الحث على ترك الشبهات (8/327) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة (2348) وابن حبان (722) .
(2) راجع رسالة شيخنا في زكاة الحلي، وهي مرفقة في آخر كتاب الزكاة.(6/125)
أو اتخذت امرأة حلياً على شكل ثعبان أو شكل فراشة أو ما أشبه ذلك من صور ذوات الأرواح، فإن عليها فيه الزكاة؛ لأنه محرم؛ إذ يحرم على الإنسان ما فيه صورة حيوان، أو ما صنع على صورة حيوان.
وأما الشرط الثاني: وهو كونه معداً للاستعمال، أو العارية، أي: للاستعمال الشخصي، أو العارية، وهي بذل العين لمن ينتفع بها ويردها، وهي إحسان محض.
ويخرج بهذا التعريف الإجارة، والرهن، وما أشبه ذلك، ولهذا نقول: إن المستعير لا يملك أن يعير غيره، والمستأجر يملك أن يؤجر غيره بشروط معروفة عند العلماء؛ لأن المستعير مالك للانتفاع، والمستأجر مالك للمنفعة، فمالك المنفعة يتصرف فيها، ومالك الانتفاع لا يتصرف.
فالمعد للاستعمال، أو العارية ليس فيه زكاة.
واستدلوا بما يلي:
1 ـ أنه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس في الحلي زكاة» (1) .
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم للنساء يوم العيد: «تصدقن ولو من حليّكن» (2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/107) ، وابن الجوزي في التحقيق (1148) ؛ وضعفه الدارقطني؛ انظر: «نصب الراية» (2/347) ، وقال البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (3/298) : «لا أصل له» .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الزكاة على الزوج (1466) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة والصدقة ... (1000) عن زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما.(6/126)
3 ـ أنه قول أنس (1) ، وجابر (2) ، وابن عمر (3) ،
وعائشة (4) ، وأسماء (5) ، خمسة من الصحابة رضي الله عنهم.
4 ـ أن هذا الحلي معد لحاجة الإنسان الخاصة، ولقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (6) وهذا مثل العبد، والفرس، والثياب، وهي لا زكاة فيها.
5 ـ أن هذا الحلي ليس مرصداً للنماء فلا تجب فيه الزكاة كالثوب والعباءة.
وهذا القول ذهب إليه الإمام أحمد، ومالك، والشافعي ـ رحمهم الله ـ على خلاف بينهم في بعض المسائل، لكن في الجملة اتفقوا على عدم وجوب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال أو العارية.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/154) ؛ وأبو عبيد في الأموال (1277) ؛ والدارقطني (2/109) ؛ والبيهقي (4/138) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (3/155) ؛ وعبد الرزاق (7046) ؛ والشافعي في «المسند» (629) (ترتيب) ؛ وأبو عبيد في الأموال (1275) ؛ والبيهقي (4/138) .
(3) أخرجه مالك (1/250) ؛ وابن أبي شيبة (3/154) ؛ وعبد الرزاق (7047) ؛ والشافعي في «المسند» (628) ؛ وأبو عبيد في «الأموال» (1276) ؛ والدارقطني (2/109) ؛ والبيهقي (4/138) .
(4) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/250) ؛ والشافعي في «المسند» (267) ؛ وابن أبي شيبة (3/154) ؛ وعبد الرزاق (7051) ؛ وأبو عبيد في الأموال (1278) ؛ والبيهقي (4/138) ؛ وصححه ابن حزم في المحلى (6/79) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/155) ؛ والدارقطني (2/109) ؛ والبيهقي (4/138) .
(6) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب ليس على المسلم في عبده صدقة (1464) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (982) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/127)
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة: أنَّ الزكاة واجبة في الحلي من الذهب والفضة، واستدلوا بما يلي:
1 ـ ما رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (1) وهذا عام، والمرأة التي عندها حلي، سواء أكان حلي فضة أو ذهب، صاحبة ذهب أو فضة، وهذا العموم يشمل الحلي وغير الحلي، ومن قال: إن الحلي خارج منه فعليه الدليل.
2 ـ ما رواه أهل السنن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن امرأة أتت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار، فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم» (2) ، ومن أعلّ رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده بالانقطاع فهو مخطئ، فالأئمة كأحمد، والبخاري،
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .
(2) أخرجه الإمام أحمد (2/178) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب الكنز ما هو وزكاة الحلي (1563) ؛ والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في زكاة الحلي (637) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب زكاة الحلي (5/38) ، وصححه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/366) وقال الحافظ في البلوغ (620) : إسناده قوي.(6/128)
ويحيى بن معين يحتجون به، حتى إنَّ بعض المحدثين قال: إذا صح السند إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فهو كمالك عن نافع عن ابن عمر، لكن هذا مبالغة.
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح، وهو ما ذكرناه أولاً وله شاهد أيضاً في غير الصحيح من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.
3 ـ حديث عائشة رضي الله عنها (1) .
4 ـ حديث أم سلمة رضي الله عنها (2) .
ولا شك أن هذه الأدلة أقوى مِنْ أدلة مَنْ قال بعدم الوجوب.
فإن قال قائل: بماذا نجيب عن أدلة القائلين بعدم الوجوب؟
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله، قال: حسبك من النار» .
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب الكنز ما هو، وزكاة الحلي (1565) ؛ والدارقطني (2/105) ؛ والحاكم (1/389) ، والبيهقي (4/139) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ونقل الزيلعي في «نصب الراية» (2/371) عن ابن دقيق العيد أنه قال: «الحديث على شرط مسلم» .
(2) حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: «ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز» .
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي (1564) ؛ والحاكم (1/390) ؛ والدارقطني (2/105) ؛ والبيهقي (4/140) .
وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(6/129)
قلنا: نجيب بما يلي:
أما الحديث: «ليس في الحلي زكاة» (1) فإنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة، فضلاً عن أن يعارض عموم الحديث الصحيح. ثم إن المستدلين به لا يقولون بموجبه، فلو أخذنا بموجبه لكان الحلي لا زكاة فيه مطلقاً، وهم لا يقولون بذلك، فيقولون: إن الحلي المعد للإجارة، أو النفقة فيه الزكاة، وهذا معناه أننا أخذنا بالحديث من وجه، وتركناه من وجه آخر، هذا لو صح الحديث.
وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم للنساء يوم العيد: «تصدقن ولو من حليكن» (2) فلا دلالة فيه على عدم وجوب الزكاة في الحلي؛ كما لو قلت لآخر قد أعد مالاً للنفقة، وقد بلغ نصاباً: تصدق ولو من نفقتك، فلا يدل ذلك على عدم وجوب الزكاة في هذا المال.
وأما ما روي عن الصحابة الخمسة، فهو لا يقاوم عمومات الأحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا سيما أن هناك دليلاً خاصاً في الموضوع، وهو حديث المرأة التي معها ابنتها، فإنه نص في الموضوع، ولا عبرة بقول أحد مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما أنها معارضة بآثار غيرهم من الصحابة.
وأما القياس فهو باطل لوجوه:
الأول: أنه في مقابلة النص، وكل قياس في مقابلة النص فإنه يكون فاسد الاعتبار.
الثاني: أنه قياس مع الفارق لأن الأصل في الذهب والفضة
__________
(1) سبق تخريجه ص (126) .
(2) سبق تخريجه ص (126) .(6/130)
وجوب الزكاة، وليس الأصل في الفرس، والعبد، والثياب، وجوب الزكاة فكيف نقيس ما أصله الزكاة، على شيء الأصل فيه عدم الزكاة؟!
الثالث: أنه متناقض؛ لأنه لو كان له عبد قد أعده للأجرة، فليس فيه زكاة، ولو كان عنده خيل أعدها للأجرة، فليس فيها الزكاة، ولو كان عنده حلي أعده للأجرة، ففيه الزكاة! وأيضاً لو كان عنده حلي أعده للنفقة ففيه الزكاة، ولو كان عنده أثاث ونحوه قد أعده للنفقة كلما احتاج باع منه فليس فيه زكاة.
ولو كان عنده ثياب للاستعمال ثم نواها للتجارة فليس فيها زكاة على المذهب بخلاف الحلي.
إذاً لا يصح القياس، ومن الغريب أنه على قولهم لا تجب الزكاة في حلي امرأة قد أعدته للتجمل مع كونه من الكماليات وتجب الزكاة في حلي امرأة فقيرة قد أعدته للنفقة، وكان مقتضى الحكمة أن تجب الزكاة على من أعدته للكماليات لا على من أعدته للضروريات.
وأما قولهم: إن الحلي غير مرصد للنماء، فالجواب أن الذهب والفضة لا يشترط فيهما الرصد للنماء بدليل أن الإنسان لو كان عنده دراهم أو دنانير قد ادخرها لا يبيع فيها ولا يشتري وإنما يأكل منها، أو أعدها لزواج أو شراء بيت فتجب فيها الزكاة لوجوبها في عينها.
إيرادات على أدلة القائلين بالوجوب:
أولاً: قالوا: يرد على قولكم: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب(6/131)
ذهب ولا فضة» (1) للعموم، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الرقة ربع العشر» (2) والرقة هي الفضة المضروبة؛ لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} فالرقة هي الدراهم، فيحمل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة» على الفضة المضروبة، والذهب المضروب.
فالجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أننا لا نسلم أن المراد بالرقة السكة المضروبة؛ لأن ابن حزم ـ رحمه الله ـ قال: الرقة اسم للفضة مطلقاً، سواء ضربت أم لم تضرب، فإن قلنا: ابن حزم حجة في اللغة فالأمر ظاهر، وإن قلنا: ليس بحجة، قلنا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الرقة في مائتي درهم ربع العشر» وقال: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» (3) ، فهذا دليل على أن المعتبر مجرد الفضة.
الوجه الثاني: أن نقول: لو سلم أن المراد بالورق الفضة المضروبة دراهم، فذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يعتبر تخصيصاً.
أرأيت لو قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم محمداً وهو منهم، فهل هذا يخصص العام أو لا؟.
الجواب: الثاني، فيكرم الجميع، ويكون لمحمد مزية خاصة في الإكرام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (6) .
(2) سبق تخريجه ص (31) .
(3) سبق تخريجه ص (67) .(6/132)
ثانياً: قالوا: إن حديث المرأة وابنتها لا يستقيم الاستدلال به من وجهين:
الوجه الأول: أننا لا نعلم هل بلغ النصاب، أم لا؟ وأنتم تقولون: لا تجب الزكاة فيما دون النصاب.
الوجه الثاني: كيف يقول: «أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار» (1) وهي ـ جاهلة ـ والجاهل معذور لا يهدد.
أجاب عن هذا أهل العلم القائلون بالوجوب بما يلي:
أما الوجه الأول: فأجيب عنه بأجوبة هي:
الجواب الأول: قال سفيان الثوري: تضمه إلى ما عندها، ومعلوم أن الذهب القليل إذا ضم للكثير بلغ النصاب.
الجواب الثاني: قالوا: نحن نوجب الزكاة في الحلي، وسواء بلغ النصاب أم لم يبلغ؛ لظاهر هذا الحديث.
الجواب الثالث: أن في بعض ألفاظ الحديث: «مسكتان غليظتان» ، والمسكتان الغليظتان تبلغان النصاب، فتحمل الروايات الأخرى على هذه الرواية، من أجل أن يتحقق اشتراط النصاب.
وأما عن الوجه الثاني: وهو تهديدها بالعذاب وهي جاهلة فأجابوا عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن المقصود تثبيت الحكم بقطع النظر عن الحكم على هذا المعين، وهذا الجواب عميق جداً، وهو أن من منع زكاة الحلي في السوارين فإنه يسور بهما يوم القيامة بسوارين من نار.
__________
(1) سبق تخريجه ص (128) .(6/133)
الثاني: أن التقدير: أيسرك أن يسورك الله بهما بسوارين من نار إن لم تؤدي زكاتهما، فيكون الحديث على تقدير شرط معلوم من الشريعة، وهو أن الوعيد على من لم يؤد الزكاة، أما من أداها فلا وعيد عليه.
والجواب الأول: وهو أن المراد إثبات الحكم بغض النظر عن هذا المعين، قاعدة مفيدة، ومن أمثلة هذه القاعدة المفيدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ على رجلين في البقيع أحدهما يحجم الآخر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفطر الحاجم والمحجوم» (1) .
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إنه أورد على شيخه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قال: كيف نقول: إن الجاهل لا يفطر، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» ؟
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إن هذا المراد به إثبات الحكم بقطع النظر عن هذين الشخصين المعينين، فإذا ثبت الحكم نظرنا في الشخص المعين، وطبقنا عليه شروط لزوم مقتضى هذا الحكم.
وهذا في الحقيقة قاعدة مفيدة لطالب العلم؛ لأن الشرع ليس شرعاً لزيد وعمرو فقط، بل للأمة جميعاً، ونصوصه لا يصادم بعضها بعضاً.
وهذه المسألة؛ أعني زكاة الحلي اختلف الناس فيها كثيراً، وظهر الخلاف في الآونة الأخيرة؛ حيث كان الناس في نجدٍ
__________
(1) يأتي تخريجه ص (379) .(6/134)
والحجاز لا يعرفون إلا المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ وهو عدم وجوب زكاة الحلي، ثم لما ظهر القول بوجوب الزكاة في الحلي على يد شيخنا: عبد العزيز بن باز وفقه الله، صار الناس يبحثون في هذه المسألة، وكثر القائلون بذلك وشاع القول بها، والحمد لله، وهذا القول مع كونه أظهر دليلاً وأصح تعليلاً هو متقضى الاحتياط.
فَإِنْ أُعِدَّ لِلْكِرَى، أَوْ للنَّفَقَةِ، أَوْ كَانَ مُحَرَّماً فَفِيهِ الزَّكاة............
قوله: «فإن أعد للكرى أو للنفقة، أو كان محرماً ففيه الزكاة» أي: إن أعد الحلي للكرى أي: للأجرة بأن يكون عند المرأة حلي تعده للإيجار، تؤجره النساء في المناسبات ففيه الزكاة؛ لأنه خرج عن الاستعمال الذي أسقط الزكاة، وصار معداً للنماء، وكذلك إذا أعد للنفقة، بأن يكون عند امرأة حلي أعدته للنفقة كلما احتاجت إلى طعام أو شراب أو أجرة بيت، أو غير ذلك، أخذت منه وباعت وأنفقت، ففيه الزكاة؛ لأنه الآن يشبه النقود حيث أعد للبيع أو الشراء، أو نحو ذلك.
وقوله: «أو كان محرماً» كما لو كان على صورة حيوان أو فراشة، أو ثعبان أو بلغ حد الإسراف، أو غير ذلك ففيه الزكاة، أو كان ذهباً على رجل ففيه الزكاة؛ لأنه إنما أسقطت الزكاة في الحلي المعد للاستعمال تسهيلاً على المكلف، وتيسيراً عليه وما كان كذلك فإنه لا يمكن أن يستباح بالمعصية.
وعلى هذه القاعدة مشى أكثر أهل العلم، فقالوا ـ مثلاً ـ: السفر المحرم لا يبيح الرخص، وقالوا: إن الخف أو الجورب المحرم لا يباح مسحه، وما أشبه ذلك بناءً على أن هذه رخص لا(6/135)
تنال بالمعاصي، ويقال للعاصي: تب، فإذا تاب عاد الأمر كما كان عليه.
مسألة: إذا كان محرماً تجب فيه الزكاة، فهل المعتبر وزنه أو قيمته؟
الجواب: المذهب يعتبر وزنه؛ لأن قيمته مبنية على كونه محرماً، والمحرم لا يجوز أن يقوم شرعاً، فنعتبر وزنه نصاباً وإخراجاً.
وبهذا نعرف أن الحلي ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم يعتبر بوزنه نصاباً وإخراجاً.
2 ـ قسم يعتبر بقيمته نصاباً وإخراجاً.
3 ـ قسم يعتبر بوزنه نصاباً، وقيمته إخراجاً.
أما الأول: وهو الذي يعتبر الوزن نصاباً وإخراجاً فهو الحلي المحرم، ومنه أيضاً الأواني المحرمة من الذهب والفضة.
مثال ذلك: رجل عنده كأس من الذهب زنته عشرون مثقالاً، ولكن قيمته عشرون مثقالاً تساوي ألفي ريال، لكن هذا الذهب عندما صنع كأساً من ذهب، أصبحت قيمته ثلاثة آلاف ريال، فهل نعتبر القيمة أو نعتبر الوزن؟
الجواب: نعتبره نصاباً من الذهب غير مصنوع، وقيمته ألفا ريال، وهذا هو المذهب، ويعللون بأن هذه القيمة الزائدة في مقابل صنعة محرمة فلا عبرة بها؛ لأنه يجب عليه أن يغير هذه(6/136)
الصنعة، وإذا قلنا: يجب إخراج الزكاة معتبرين الصنعة فمعنى ذلك ضمناً إقراره على ذلك.
والصحيح في مسألة المحرم أنه ينبغي أن يُعْتَبر بقيمته، مثل الحلي المباح، لكن القيمة الزائدة في مقابل صنعة محرمة تجعل في بيت المال.
وأما الثاني: وهو الذي يعتبر بالقيمة نصاباً وإخراجاً، فهو ما أعد للتجارة من العروض.
مثال ذلك: رجل يتاجر بالحلي، عنده حلي يبلغ عشرة مثاقيل، فهذه لم تبلغ النصاب من الذهب، ولكن قيمة هذه العشرة أربعمائة درهم فقد بلغ النصاب من الفضة، فتجب فيه الزكاة؛ لأنه بلغ النصاب بالقيمة.
وأما الثالث: وهو الذي يعتبر بوزنه نصاباً وبقيمته إخراجاً فهو الحلي المباح.
مثال ذلك: امرأة عندها حلي من الذهب يبلغ عشرين مثقالاً ففيه الزكاة، وقيمتها غير مصنوعة ألفا ريال، وقيمتها مصنوعة ثلاثة آلاف ريال، فهي تزكي ثلاثة آلاف ريال؛ لأن هذه صفة مباحة فتقوم شرعاً.
مثال آخر: امرأة عندها خمسة عشر مثقالاً قيمتها ثلاثمائة درهم، فإنها لا تزكي منها لأنه لم يبلغ وزنها نصاباً.(6/137)
بَابُ زَكَاةِ العُرُوضِ
قوله: «العروض» جمعُ عَرَضٍ أو عَرْض بإسكان الراء، وهو المال المعد للتجارة وسمي بذلك؛ لأنه لا يستقر، يعرض، ثم يزول، فإن المتَّجِرَ لا يريد هذه السلعة بعينها، وإنما يريد ربحها؛ لهذا أوجبنا زكاتها في قيمتها لا في عينها.
فالعروض إذاً كل ما أعد للتجارة من أي نوع، ومن أي صنف كان.
وهو أعم أموال الزكاة وأشملها؛ إذ إنه يدخل في العقارات، وفي الأقمشة، وفي الأواني، وفي الحيوان، وفي كل شيء.
والزكاة واجبة في عروض التجارة عند أكثر أهل العلم، وهو القول الصحيح المتعين، والدليل على ذلك:
1 ـ دخولها في عموم قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ *} [الذاريات: 19] .
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (1) فقال: «في أموالهم» ، ولا شك أن عروض التجارة مال.
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/138)
فإن قال قائل: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (1) .
قلنا: نعم قال ذلك، ولكنه لم يقل: ليس في العروض التي لا تراد لعينها، إنما تراد لقيمتها ليس فيها زكاة.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عبده وفرس» كلمة مضافة للإنسان للاختصاص، يعني الذي جعله خاصاً، يستعمله وينتفع به؛ فالفرس والعبد والثوب والبيت الذي يسكنه، والسيارة التي يستعملها ولو للأجرة، كل هذه ليس فيها زكاة؛ لأن الإنسان اتخذها لنفسه ولم يتخذها ليتجر بها، يشتريها اليوم ويبيعها غداً. وعلى هذا فمن استدل بهذا الحديث على عدم وجوب زكاة العروض فقد أبعد.
2 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (2) وهذا أقوى دليل عندي، ونحن لو سألنا التاجر ماذا يريد بهذه الأموال، لقال: أريد الذهب والفضة، فإذا اشتريت السلعة اليوم وربحت فيها غداً أو بعد غد بعتها، ليس لي قصد في ذاتها إطلاقاً.
3 ـ وكذلك روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه أمر بإخراج الزكاة عما يعد للبيع، ولكن هذا الحديث فيه ضعف (3) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (127) .
(2) سبق تخريجه ص (41) .
(3) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب العروض إذا كانت للتجارة هل فيها زكاة؟ (1562) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال الحافظ في البلوغ (623) : «إسناده لين» .(6/139)
4 ـ وكذلك ثبت عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر رجلاً فقال له: «أَدِّ زكاة مالك، فقال: أما لي مال إلا جعاب وأدم، فقال عمر: قومها ثم أدِّ زكاتها» (1) . وقد استدل أحمد بهذا الأثر.
5 ـ ولأننا لو لم نقل بوجوب الزكاة في عروض التجارة لأصبح كثير من الأغنياء ليس في أموالهم زكاة.
فعلى هذا نقول: زكاة العروض واجبة بالنص والنظر.
ولكن لوجوب الزكاة في عروض التجارة شروط أشار إليها المؤلف.
إِذَا مَلَكَهَا بِفِعْلِهِ، بِنِيَّةِ التجارة، وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَاباً، زَكَّى قِيمَتَهَا.........
بقوله: «إذا ملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً» .
الشرط الأول: أن يملكها بفعله، أي: باختياره، وشمل هذا التعبير ما إذا ملكها بمعاوضة كالشراء، أو غير معاوضة كالاتهاب وقبول الهدية، وما أشبهه، والمعنى: دخلت في ملكه باختياره.
الشرط الثاني: أن يملكها بنية التجارة وذلك بأن تكون نية التجارة مقارنة للتملك، فخرج بذلك ما لو ملكها بغير نية التجارة ثم نواها بعد ذلك فإنها لا تكون عروض تجارة على المشهور من المذهب، وسيأتي الخلاف في ذلك.
الشرط الثالث: أن تبلغ قيمتُها نصاباً.
وقوله: «وبلغت قيمتها نصاباً» أي: لا عينها، فلو كان عند
__________
(1) أخرجه الشافعي في «المسند» (633) ترتيب، والدارقطني (2/125) ؛ والبيهقي (4/147) ، وقال الدارقطني: «رجاله ثقات» انظر: «إتحاف المهرة» (15256) ، و «التلخيص» (2/180) .(6/140)
إنسان عشر شياه سائمة قد أعدّها للتجارة قيمتها ألف درهم، فإن الزكاة تجب فيها مع أنها لم تبلغ نصاب السائمة؛ لأن المعتبر القيمة وقد بلغت نصاباً.
مثال آخر: إنسان عنده أربعون شاة سائمة أعدها للتجارة قيمتها مائة درهم فلا زكاة فيها؛ لأن القيمة لم تبلغ نصاباً.
قوله: «زكى قيمتَها» أي: لا عينها، فلا يجوز إخراج الزكاة من عين ما أعدّ للتجارة؛ لأن العين في عروض التجارة غير ثابتة، فالمعتبر المخرج منه وهو القيمة؛ ولأن القيمة أحب لأهل الزكاة غالباً.
فالشروط إذاً ثلاثة، بالإضافة إلى الشروط الخمسة السابقة في باب الزكاة، فهذه شروط خاصة، وما تقدم في كتاب الزكاة في أول الكتاب شروط عامة.
وأفادنا المؤلف بقوله: «إذا ملكها» أي: بأي وسيلة ملكها، سواء بالشراء، أو بعوض إجارة، أو باتهاب أو بعوض خلع، أو بصداق، أو بغير ذلك من أنواع التملكات، فهو عام.
مثاله: اشترى رجل سيارة ليتكسب فيها، فهذه عروض تجارة إذا بلغت قيمتها نصاباً ونواها حين الشراء، فإن اشترى سيارة للاستعمال، ثم بدا له أن يبيعها فليس عليه زكاة؛ لأنه حين ملكه إياها لم يقصد التجارة، فلا بد أن يكون ناوياً للتجارة من حين ملكه.
ولو اشترى شيئاً للتجارة، ولكن لا يبلغ النصاب، وليس عنده ما يضمه إليه فليس عليه زكاة؛ لأنه من شرط وجوب الزكاة بلوغ النصاب.(6/141)
فَإِنْ مَلَكَهَا بِإِرْثٍ، أَوْ مَلَكَها بِفِعْلِهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ، ثُمَّ نَوَاهَا لَمْ تَصِرْ لَهَا.........
قوله: «فإن ملكها بإرث» . «إن ملكها» أي: العروض «بإرث» بأن مات مورثه، وخلف عقارات أو خلف بضائع من أقمشة، أو أوانٍ أو سيارات، أو غيرها ونواها هذا الوارث للتجارة فأبقاها للكسب، فإنها لا تكون للتجارة؛ لأنه ملكها بغير فعله؛ إذ إن الملك بالإرث قهري يدخل ملك الإنسان قهراً عليه، قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، {وَلأَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] ، ولهذا لو قال أحد الورثة: أنا غني لا أريد إرثي من فلان، قلنا له: إرثك ثابت شئت أم أبيت ولا يمكن أن تنفك عنه، ولكن إن أردت أن تتنازل عنه لأحد الورثة أو لغيرهم، فهذا إليك بعد أن دخل ملكك.
فإذا ملك إنسان عروض تجارة بإرث، ونواها حين ملكها للتجارة، فإنها لا تكون للتجارة.
مثال آخر: وهبه شخص سيارة فقبلها ونوى بها التجارة، فتكون للتجارة لأنه ملكها بفعله باختياره.
قوله: «أو ملكها بفعله بغير نية التجارة، ثم نواها لم تصر لها» أي لم تصر للتجارة، فلو باعها بعد أن ورثها ثم اشترى سواها بنية التجارة صارت للتجارة؛ لأنه ملكها بفعله.
مثال: لو كان عند إنسان عقارات لا يريد التجارة بها، ولكن لو أُعطي ثمناً كثيراً باعها فإنها لا تكون عروض تجارة؛ لأنه لم ينوها للتجارة، وكل إنسان إذا أتاه ثمن كثير فيما بيده، فالغالب أنه سيبيع ولو بيته، أو سيارته، أو ما أشبه ذلك.(6/142)
وقول المؤلف: «ملكها بفعله بغير نية التجارة» هذا الذي مشى عليه، وأنه لو نوى التجارة بعد ملكها فإنها لا تكون للتجارة وهذا هو المذهب.
والقول الثاني في المسألة: أنها تكون للتجارة بالنية، ولو ملكها بغير فعله، ولو ملكها بغير نية التجارة، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) ، وهذا الرجل نوى التجارة، فتكون لها.
مثال ذلك: لو اشترى سيارة يستعملها في الركوب، ثم بدا له أن يجعلها رأس مال يتجر به فهذا تلزمه الزكاة إذا تم الحول من نيته.
فإن كان عنده سيارة يستعملها، ثم بدا له أن يبيعها فلا تكون للتجارة؛ لأن بيعه هنا ليس للتجارة، ولكن لرغبته عنها، ومثله: لو كان عنده أرض اشتراها للبناء عليها، ثم بدا له أن يبيعها ويشتري سواها، وعرضها للبيع فإنها لا تكون للتجارة؛ لأن نية البيع هنا ليست للتكسب بل لرغبته عنها.
فهناك فرق بين شخص يجعلها رأس مال يتجر بها، وشخص عدل عن هذا الشيء ورغب عنه، وأراد أن يبيعه، فالصورة الأولى فيها الزكاة على القول الراجح، والثانية لا زكاة فيها.
أما على ما مشى عليه المؤلف ـ رحمه الله ـ فإنه لا زكاة
__________
(1) سبق تخريجه ص (41) .(6/143)
في المسألتين؛ لأنه اشترط أن تكون نية التجارة مقارنة للتملك.
وَتُقَوَّمُ عِنْدَ الحَوْلِ بِالأحَظِّ لِلفُقَرَاءِ مِنْ عَينٍ أوْ وَرِقٍ.
قوله: «وتقوم عند الحول بالأحظ للفقراء من عين أو ورق» تُقَوَّمُ، الضمير يعود على عروض التجارة، ولم يذكر المؤلف من يقومها، فيقومها صاحبها إن كان ذا خبرة بالأثمان، فإن لم يكن ذا خبرة فإنه يطلب من يعرف القيمة من ذوي الخبرة ليقومها.
فإن قال قائل: كيف نأمنه إن كان ذا خبرة؟
قلنا: إن هذه عبادة، والإنسان مؤتمن على عبادته، كما لو قال المريض: أنا لا أستطيع أن أستعمل الماء، وأريد أن أتيمم، فلا يشترط أن نأتي بطبيب يفحص هذا الرجل، وهل يقدر أو لا يقدر؟
والزكاة أيضاً مثلها، فإذا قال الرجل: أنا أعرف قيم الأشياء، وكان ذا خبرة، قلنا: قومها أنت، أما إذا قال: أنا لا أعرف، قلنا له: تأتي بمن يقومها لك.
وقوله: «عند الحول» أي عند تمام الحول؛ لأنه الوقت الذي تجب فيه الزكاة، فلا يقدم قبله، ولا يؤخر بعده بزمن يتغير فيه السعر؛ لأن في ذلك هضماً للحق إن نزل السعر، أو زيادة عليه إن زاد السعر.
ثم التقويم هل يكون باعتبار الجملة أو باعتبار التفريق؛ لأن الثمن يختلف باعتبار الجملة عن التفريق؟
الجواب: إن كان ممن يبيع بالجملة فباعتبار الجملة، وإن كان يبيع بالتفريق فباعتبار التفريق، وإن كان يبيع بهما فيعتبر الأكثر بيعاً.(6/144)
وقوله: «بالأحظ للفقراء» . المراد: بالأحظ لأهل الزكاة؛ لأن أهل الزكاة فقراء، ومساكين، وعاملون عليها، ومؤلفة قلوبهم، فلو عبر المؤلف بقوله: «لأهل الزكاة» لكان أعم، لكن ذكر الفقراء؛ لأن هذا هو الغالب.
وقوله: «من عين أو ورق» العين: الدنانير، والورق الدراهم، فإذا قومناها وصارت لا تبلغ النصاب باعتبار الذهب (الدنانير) ، وتبلغ النصاب باعتبار الفضة، فنأخذ باعتبار الفضة؛ بمعنى: أن هذه السلعة تساوي مائتي درهم، وخمسة عشر ديناراً. إن اعتبرنا الدينار لم تجب فيها الزكاة، وإن اعتبرنا الدراهم وجبت فيها الزكاة فالأحظ للفقراء أن تقومها بالفضة، والعكس بالعكس، فلو كانت هذه السلعة تساوي عشرين ديناراً أو مائة وخمسين درهماً فنعتبرها بالذهب (بالدنانير) ؛ لأن ذلك الأحظ لأهل الزكاة.
فإن قال قائل: كيف تعتبرون الأحظ والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ رضي الله عنه: «إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم» (1) .
فالجواب: أن بينهما فرقاً، فحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ فيما إذا وجبت الزكاة، فلا تأخذ من أعلى المال، أما هذا فقد وجبت باعتبار أحد النقدين ولم تجب باعتبار الآخر، فاعتبرنا الأحوط وهو ما بلغت فيه النصاب؛ إن كان ذهباً فذهب، وإن كان فضة ففضة.
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/145)
وَلاَ يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيتْ بِهِ وَإِنِ اشْتَرَى عَرَضاً بِنِصَابٍ مِنْ أَثْمَانٍ، أَوْ عُرُوضٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ وَإِنِ اشْتَراه بِسَائِمَةٍ لَمْ يَبْنِ...........
قوله: «ولا يعتبر ما اشتريت به» . أي: لا يعتبر في تقويمها عند تمام الحول ما اشتريت به؛ وذلك لأن قيمتها تختلف ارتفاعاً ونزولاً، ربما يشتري هذه العروض وهي وقت الشراء تبلغ النصاب، وعند تمام الحول لا تبلغ النصاب، فلا زكاة فيها، وربما يشتريها وهي تبلغ نصاباً وعند تمام الحول تبلغ نصابين.
فإن قال قائل: ربحها هذا لم يتم عليه الحول؛ لأنها لم ترتفع قيمتها إلا في آخر شهر من السنة؟
فالجواب: قلنا: إن هذا تابع لأصله كنِتَاجِ السائمة، فكما أن نتاج السائمة لا يشترط له تمام الحول، بل يتبع أصله، كذلك أيضاً ربح التجارة يتبع أصله، ولا يشترط له تمام الحول، وقد سبق هذا في أول كتاب الزكاة.
وقوله: «ولا يعتبر ما اشتريت به» . لو كانت عند الشراء تبلغ النصاب وعند تمام الحول تبلغ النصاب، فهنا يستوي الأمران، ومع ذلك لا نقول: يعتبر ما اشتريت به، حتى في هذه الحال نقول: المعتبر ما كان قيمة لها عند تمام الحول.
قوله: «وإن اشترى عرضاً بنصاب من أثمان، أو عروض بنى على حوله» . الأثمان: جمع ثمن وسميت بذلك؛ لأنها ثمن الأشياء، وهي الذهب والفضة.
فلو اشترى عرضاً بنصاب من أثمان، كرجل عنده مائتا درهم، وفي أثناء الحول اشترى بها عرضاً، فلا يستأنف الحول بل يبني على الأول؛ لأن العروض يبنى الحول فيها على الأول.(6/146)
مثال آخر: عنده ألف ريال ملكها في رمضان وفي شعبان من السنة الثانية اشترى عرضاً، فجاء رمضان فيزكي العروض؛ لأن العروض تبنى على زكاة الأثمان في الحول.
وكذلك أيضاً لو اشترى عرضاً بنصاب من عروض أي عرضاً بدل عرض.
مثاله: رجل عنده سيارة، وفي أثناء الحول أبدلها بسيارةٍ أخرى للتجارة فيبني على حول الأولى؛ لأن المقصود القيمة، واختلاف العينين ليس مقصوداً، ولم يشتر السيارة الثانية ليستعملها، ولكن يريدها للتجارة.
قوله: «وإن اشتراه بسائمة لم يبن» . «اشتراه» أي: العرض بسائمة مثل: الإبل أو البقر أو الغنم، فإنه لا يبني على حول السائمة؛ لاختلافهما في المقاصد والأنصبة وفي الواجب.
مثاله: رجل عنده أربعون شاة سائمة ملكها في رمضان، وفي محرم اشترى بها عروضاً كسيارة أرادها للتجارة فيبتدئ الحول من محرم؛ لاختلافهما قصداً ونصاباً وواجباً، فلا يبني أحد النصابين على الآخر من أجل هذا الاختلاف. والعكس كذلك، كما لو كان عنده عروض ملكها في رمضان، ثم اشترى بها سائمة في محرم فلا يبني على حول العروض لما ذكرنا في المسألة الأولى.
مثال آخر: عنده دراهم ملكها في رمضان وفي محرم اشترى بها سائمة، فلا يبني على حول الدراهم، فإذا جاء المحرم من(6/147)
السنة الثانية وجبت عليه الزكاة؛ وذلك للاختلاف كما قال المؤلف.
مسألتان:
الأولى: إخراج القيمة في الزكاة.
يرى أكثر العلماء أنه لا يجوز إخراج القيمة إلا فيما نص عليه الشرع، وهو الجبران في زكاة الإبل «شاتان أو عشرون درهماً» ، والصحيح أنه يجوز إذا كان لمصلحة، أو حاجة، سواء في بهيمة الأنعام، أو في الخارج من الأرض.
الثانية: زكاة الأسهم:
إن كان يبيع ويشتري فيها، فحكمها حكم عروض التجارة، يقومها عند تمام الحول ويزكيها، وإن ساهم يريد الربح والتنمية فالزكاة على النقود، وأما المعدات، وما يتعلق بها فلا زكاة فيها.(6/148)
بَابُ زَكَاةِ الفِطْرِ
قوله: «باب: زكاة الفطر» هل الإضافة من إضافة الشيء إلى زمنه أو سببه؟ إذا قلنا: إلى سببه، فمعناه أن الصغار لا فطرةَ عليهم، لأنهم لا يصومون، وإذا قلنا: إلى زمنه وجبت على الصغار ومن لا يستطيع الصوم لكبر ونحوه.
وقوله: «الفطر» أي من رمضان، وسميت زكاةً لما فيها من التنمية، تنمية الخُلُق لأنها تجعل الإنسان في عداد الكرماء، وتنمية المال؛ لأن كل شيء بذلته من مالك ابتغاء وجه الله، فهو تنمية له، وتنمية الحسنات لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فِيِّ امرأتك» (1) وأخر المؤلف باب زكاة الفطر عن زكاة الأموال؛ لأن زكاة الفطر لا تجب في المال ولا تتعلق به، إذ ليس هناك مال تجب فيه الزكاة، وإنما تجب في الذمة؛ ولأن تعلقها بالذمة أقوى من تعلقها بزكاة الأموال.
وأضافها إلى الفطر كما جاء في الحديث، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زكاة الفطر» (2) لأنه سبب وجوبها، فالفطر أي: من رمضان، والحكمة من وجوب زكاة الفطر من رمضان ما ذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم «طهرة للصائم من اللغو والرفث» (3) وشكر لله ـ عزّ وجل ـ
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب ما جاء إن الأعمال بالنيات (56) ، ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2) - (3) حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين» .
أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب زكاة الفطر (1609) ؛ وابن ماجه في الزكاة/ باب صدقة الفطر (1827) ؛ والدارقطني (2/138) ؛ والحاكم (1/409) .
وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.
وقال الدارقطني: «ليس فيهم مجروح» ، وحسنه في الإرواء (3/332) .(6/149)
على إتمام الشهر، وطعمة للمساكين في هذا اليوم الذي هو يوم عيد وفرح وسرور فكان من الحكمة أن يعطوا هذه الزكاة؛ من أجل أن يشاركوا الأغنياء في الفرح والسرور.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وطهرة للصائم ... » هذا بناء على الأغلب، وإلا فالصغير ونحوه لا يصوم.
تَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسلمٍ فَضَلَ له يَوْمَ العيدِ وليلَتَهُ صاعٌ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ وَحَوَائِجِهِ الأصلِيَّةِ،.......
قوله: «تجب على كل مسلم» تجب: الفاعل: يعود على زكاة الفطر.
وقوله: «تجب» أي حكمها الوجوب؛ لحديث ابن عمر الآتي، ولحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين» .
وقوله: «على كل مسلم» خرج به من ليس مسلماً كاليهودي والوثني والنصراني وغيرهم، فلا تجب عليهم زكاة الفطر لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى والحر والعبد والكبير والصغير من المسلمين» (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فرض صدقة الفطر (1503) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب زكاة الفطر على المسلمين ... (984) (16) .(6/150)
ولأن الزكاة طهرة والكافر ليس أهلاً للتطهير إلا بالإسلام، فلا يطهره إلا الإسلام.
وظاهر كلام المؤلف: حتى ولو كان عبداً لشخص وهو كافر فلا تجب زكاة الفطر في حقه، وهو كذلك.
ودخل فيه الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد.
قوله: «فضل له يوم العيد وليلته صاع» «فضل له» أي: عنده.
قوله: «ليلته» أي: ليلة العيد، ويوم العيد وليلته، منصوبان على الظرفية.
قوله: «صاع» فاعل «فَضَلَ» وهو مقدار الزكاة، ويأتي بيان المراد بالصاع، وإنما خص الصاع؛ لأنه الواجب إذ لا يجب على الإنسان أكثر من صاع، ولا يسقط عنه ما دون الصاع إذا لم يجد غيره، بل يخرج ما يقدر عليه.
فإذا كان عنده ما يقوته يوم العيد وليلته، وبقي صاع فإنه يجب عليه إخراجه، وكذلك لو بقي نصف صاع فإنه يخرجه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وكما لو وجد ماء لا يكفي إلا لبعض أعضاء الوضوء فإنه يستعمله ويتيمم لما بقي.
قوله: «عن قوته وقوت عياله، وحوائجه الأصلية» .
«قوته، وقوت عياله» أي: مأكله ومشربه.
«وحوائجه الأصلية» هي ما تدعو الحاجة إلى وجوده في(6/151)
البيت كقدر العشاء، وصحن التمر، والإبريق، وكتب العلم، لكن إذا كان عنده كتاب لا يحتاج إليه إلا في العام مرةً واحدة فليس من الحوائج الأصلية، لأن هناك مكتبات عامة، وكذا إذا كان لهذا الكتاب نسخ أخرى فليس من الحوائج الأصلية؛ لأن ما في البيت إما أن يكون ضرورة أو حاجة أو فضلاً وكمالاً، فالضرورة: ما لا يستغنى عنه.
والحاجة: هي ما احتاج البيت إلى وجوده.
والفضل والكمال هو: ما لا يحتاج البيت إلى وجوده.
فإذا فضل عن حوائجه الأصلية، ومن باب أولى ضروراته هذا الصاع وجبت عليه زكاة الفطر شرعاً.
ويستفاد من قول المؤلف: «على كل مسلم فضل له يوم العيد ... إلخ» : أَنَّ زكاة الفطر لا تجب إلا إذا تحقق الشرطان الآتيان:
الأول: الإسلام.
الثاني: الغنى على الوجه الذي ذكره المؤلف، وهو أن يكون عنده يوم العيد وليلته صاع زائد عن قوته وقوت عياله وحوائجه الأصلية.
والغنى في كل موضع بحسبه.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا تم الشرطان، وجبت زكاة الفطر عليه وإن لم يصم لكبر ونحوه.
ودليل ذلك قوله في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ:(6/152)
«والكبير والصغير» (1) فكل مسلم صام أو لم يصم صغيراً كان أو كبيراً، حتى من كان في المهد، وحتى المرأة التي نفست جميع الشهر.
وَلاَ يَمْنَعُهَا الدينُ إلا بِطَلَبِهِ........
قوله: «ولا يمنعها الدين إلا بطلبه» أي: لا يمنع وجوب زكاة الفطر الدين إلا بطلبه خلافاً لزكاة المال، فقد سبق أن الدين يمنع وجوبها على المشهور من المذهب، وعلى هذا فيكون ما ذكره المؤلف هنا من الفروق بين زكاة الفطر وزكاة المال.
وإنّما لم يمنعها الدين؛ لأن الدين تعلق بالمال وزكاة الفطر تتعلق بالذمة، وإنما منعها بطلبه من أجل إيفاء الدين للمطالب به لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مطل الغني ظلم» (2) فلهذا نقول: إذا كان مطالباً به وقال له صاحبه: أعطني ديني، وليس عنده إلا صاع، فإنه يعطيه هذا الصاع، وتسقط عنه زكاة الفطر.
وفي هذه المسألة أقوال ثلاثة:
الأول: لا يمنعها مطلقاً سواء طولب به أم لم يطالب به.
الثاني: أنه يمنعها مطلقاً سواء طولب به أم لم يطالب به.
الثالث: التفصيل الذي ذهب إليه المؤلف، وهو قريب.
ولكن، الأقرب منه هو القول الأول أنه لا يمنعها الدَّيْنُ مطلقاً سواء طولب به أو لم يطالب به، كما قلنا في وجوب زكاة
__________
(1) سبق تخريجه ص (150) .
(2) أخرجه البخاري في الحوالات/ باب الحوالة وهل يرجع في الحوالة؟ (2287) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب تحريم مطل الغني ... (1564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/153)
الأموال، وأن الدين لا يمنعها إلا أن يكون حالاً قبل وجوبها فإنه يؤدي الدين وتسقط عنه زكاة الفطر.
فَيُخْرِجُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ مُسْلِمٍ يَمُونُهُ........
قوله: «فيخرج عن نفسه، وعن مسلم يمونه» أي: يخرج عن نفسه وجوباً؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر على الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، من المسلمين» (1) .
وقوله: «وعن مسلم يمونه» أي: ينفق عليه، مثل الزوجة والأم والأب والابن والبنت، وما أشبههم ممن ينفق عليهم، فيجب عليه الإخراج عنهم لحديث: «أدوا الفطرة عمن تمونون» (2) أي: عمن تقومون بمؤنتهم، ولكن هذا الحديث ضعيف ومنقطع فلا يصح الاحتجاج به.
ولأثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يخرج عن نفسه، وعن أهل بيته، حتى إنه يخرج عن نافع مولاه، وعن أبنائه (3) ، ولكن هذا الأثر لا يدل على الوجوب.
فالصحيح أن زكاة الفطر واجبة على الإنسان بنفسه فتجب
__________
(1) سبق تخريجه ص (150) .
(2) أخرجه الدارقطني (2/141) ؛ والبيهقي (4/161) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال الدارقطني: «والصواب أنه موقوف» .
وقال البيهقي: إسناده غير قوي، وانظر «التلخيص» (869) .
(3) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب صدقة الفطر على الحر والمملوك (1511) عن نافع ولفظه: «فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان يعطي عن بنيَّ» ؛ وأخرجه البيهقي (4/161) ، ولفظه: كان يخرج زكاة الفطر عن كل مملوك له في أرضه وعن كل إنسان يعوله من صغير أو كبير.(6/154)
على الزوجة بنفسها، وعلى الأب بنفسه، وعلى الابنة بنفسها، وهكذا، ولا تجب على الشخص عمن يمونه من زوجة وأقارب لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والكبير والصغير من المسلمين» .
والأصل في الفرض أنه يجب على كل واحد بعينه دون غيره.
ولقول الله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولو وجبت زكاة الفطر على الشخص نفسه وعمن يمونه فإنه سوف تزر وازرة وزر أخرى، لكن لو أخرجها عمن يمونهم وبرضاهم فلا بأس بذلك ولا حرج، كما أنه لو قضى إنسان ديناً عن غيره وهو راض بذلك فلا حرج، ولأنه يجوز دفع الزكاة عن الغير.
وينبني على هذا إذا كان هؤلاء لا يجدون زكاة الفطر؛ فإذا قلنا: إنها واجبة عليه أثم، وإذا قلنا بالقول الثاني لم يأثم وهم لا يأثمون؛ لعدم وجود مال عندهم.
لكن الأولاد الصغار الذين لا مال لهم قد نقول بوجوبها على آبائهم؛ لأن هذا هو المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم.
وفهم من كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أن الزوجة الكافرة، والعبد الكافر لا يخرج عنهما.
مسألة: إذا قلنا بوجوب زكاة الفطر عمن يمونه وعنده عمال على كفالته، فهل تجب عليه عنهم؟(6/155)
الجواب: لا تجب عليه، بل عليهم وهذا هو المذهب؛ إلا إذا كان من ضمن الأجرة كون النفقة عليه، فتجب عليه.
أما زكاة الفطر عن العبد فإنها تجب على سيده لما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر» (1) فيكون هذا الحديث مخصصاً لحديث ابن عمر فيما يتعلق بزكاة الفطر عن العبد، ولأن العبد مملوك للسيد لا يملك فوجب عليه تطهيره؛ لأنه لا يمكن أن يملك.
وقال بعض العلماء: تجب على العبد نفسه، ويلزم السيد بتفريغ العبد آخر رمضان ليكتسب ما يؤدي به صدقة الفطر، وهذا ضعيف لما يأتي:
أولاً: أنه صح الحديث في استثناء الرقيق.
ثانياً: أن من القواعد المقررة أن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو غير واجب، فلا يقال للإنسان: اتجر لتجب عليك الزكاة.
وَلَو شَهْرَ رَمَضَانَ فَإِنْ عَجِزَ عَن البَعْضِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَامْرَأَتِهِ، فَرَقِيقِهِ، فَأُمِّهِ فَأَبِيهِ......
قوله: «ولو شهر رمضان» أي؛ لو كان الإنسان يمون رجلاً في شهر رمضان فقط فإنها تجب عليه زكاة الفطر عنه.
مثال ذلك: لو نزل بك ضيف من أول يوم من شهر رمضان حتى آخر يوم وجبت عليك له زكاة الفطر فتخرجها عنه؛ لأنك تمونه في هذا الشهر، وهذا القول مبني على ما سبق من أن زكاة الفطر تجب على الذي يمون شخصاً آخر، وتقدم أن الصحيح عدم
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (982) (10) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/156)
الوجوب، فيكون الضيف ونحوه من باب أولى ألا تجب زكاة الفطر عليه عنهم.
قوله: «فإن عجز عن البعض بدأ بنفسه فامرأته» «البعض» أي: بعض من يمون، بناء على وجوب الزكاة عليه عنهم، فإن عجز عن فطرة بعض من يمونه فإنه يبدأ بنفسه؛ لأنه مخاطب بذلك عيناً؛ ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ابدأ بنفسك» (1) ، مثال ذلك رجل ليس عنده إلا صاع فاضلاً عن قوته وقوت عياله، وحوائجه الأصلية فهل يقسم الصاع على نفسه وزوجته وأولاده أم لا؟ الجواب: الفطرة أقلها صاع، فيكون هذا الصاع عن الرجل.
«فامرأته» : أي: زوجته، وهي مقدمة على أمه وأبيه؛ لأن الإنفاق عليها إنفاق معاوضة كالبيع، ثمن ومثمن، في حال اليسار والإعسار.
أما الإنفاق على الوالدين فإنفاق تبرع، فكانت المرأة أولى بالفطرة من الأم والأب، وعلى ما صححناه لا ترد هذه المسألة.
قوله: «فرقيقه، فأمه فأبيه» «فرقيقه» أي: لو كان عنده ثلاثة أصواع فواحد لنفسه، والثاني لامرأته، والثالث لرقيقه مقدماً على أبيه؛ لأن نفقة الرقيق واجبة في الإعسار والإيسار، أما نفقة الوالدين فإنها لا تجب إلا في الإيسار، فكان الرقيق أولى من الوالدين.
وعلى ما رجحنا يكون الرقيق مقدماً على الجميع؛ لأن
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الابتداء في النفقة بالنفس ... (997) عن جابر رضي الله عنه.(6/157)
فطرته واجبة على سيده، لكن إن لم يكن عنده إلا صاع واحد ففي هذه الحال يخرج الصاع عن نفسه دون رقيقه.
وقوله: «فأمِّهِ» على كلام المؤلف يكون الصاع الرابع لأمه، وهي مقدمة على أبيه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما سئل من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك، وفي الرابعة قال: أبوك» (1) ، وعلى هذا تقدم الأم؛ لوجوب تقديمها في البر.
وقوله: «فأبيه» فيكون الصاع الخامس لأبيه، وهو مقدم على الأولاد، ولذلك قال:
فَوَلَدِهِ، فَأَقْرَبَ فِي مِيرَاثٍ.......
«فولده» ويشمل الذكور والإناث، فلو كان عنده أربعة أولاد ولم يكن عنده إلا ستة آصع فإنه يخرجها على النحو الآتي: صاع لنفسه، والثاني لزوجته، والثالث لرقيقه، والرابع لأمه، والخامس لأبيه، ويبقى صاع فعمن يخرجه من أولاده؟
الجواب: يقرع بينهم، ويخرجه عمن تكون له القرعة منهم؛ لأنهم متساوون، حيث إنه لا مال لهم.
وأما على القول الراجح فلا شيء عليه إن أدى عنهم أثيب، وإن لم يؤد عنهم فلا شيء عليه، سوى العبد فإن فطرته واجبة على سيده.
قاعدة: إذ تساوت الحقوق نقرع، والقرعة طريقٍ شرعي للمتساويات، وقد وردت في القرآن في موضعين، قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ *} [الصافات] وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب/ باب البر والصلة (5971) ؛ ومسلم في البر والصلة/ باب بر الوالدين وأيهما أحق به (2548) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/158)
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .
وقد وردت في السنة في ستة مواضع؛ منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» (1) .
قوله: «فأقرب في ميراث» أي: إذا أخرج زكاة الفطر عمن سبق ممن يمونهم وكان عنده زيادة، فإنه يخرجها عن الأقرب إليه في الميراث، فإن تساووا في القرابة كأختين شقيقتين فإنه يقرع بينهما، وإن اختلفوا في الميراث كأخ لأم وأخ شقيق وليس عنده إلا صاع، فإن قلنا: يخرج عنهم على حسب النفقة فإنه يكون للأخ للأم السدس، وللأخ الشقيق الباقي؛ لأنهم هكذا يرثونه لو مات عنهم، ولكن إذا أعطينا الأخ لأم السدس، وأعطينا الأخ الشقيق خمسة أسداس فإن الزكاة الواجبة سوق تنقص عن الصاع.
ولذلك فإنه يقرع بينهما؛ لأن الزكاة عبادة شرعية، ومقدارها شرعاً صاع، فلو جعلنا لهذا خمسة أسداس لم تتم له، وكذلك إذا جعلنا لهذا سدساً لم تتم له، والاشتراك هنا اشتراك تزاحم، فيقرع بينهما، بخلاف العبد كما سيأتي.
وهذا على القول المرجوح، أما على القول الراجح فلا ترد هذه المسألة.
وقوله: «فأقرب في ميراث» هذا ليس على إطلاقه، بل يقيد
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب الاستهام في الأذان (615) ؛ ومسلم في الصلاة/ باب تسوية الصفوف وإقامتها ... (437) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/159)
بما إذا كان يجب عليه الإنفاق عليه، أما إذا لم يجب عليه الإنفاق عليه، كالعم الذي له أبناء فلا تجب عليه زكاته؛ لأنه لا يرثه.
وَالْعَبدُ بَيْنَ شُرَكَاءَ عَلَيْهِمْ صَاعٌ، وَيُسْتَحَبُّ عَنِ الجَنِينِ.........
قوله: «والعبد بين شركاء عليهم صاع» أي: إذا كان عبد بين أشخاص هم شركاء، كأن يكون عبد بين ثلاثة لأحدهم نصفه، وللثاني ثلثه، وللثالث سدسه، فهل تجب زكاة الفطر عليهم بحسب رؤوسهم أو بحسب ملكهم؟
الجواب: إن قلنا: تجب بحسب الرؤوس لزم كل واحد ثلث صاع؛ لأنهم ثلاثة.
وإن قلنا: تجب بحسب ملكهم، قلنا: على الأول نصف صاع، وعلى الثاني ثلث صاع، وعلى الثالث سدس صاع؛ لأنها مبنية على الشراكة فيكون على حسب ملكهم، وهذا هو الذي ذهب إليه المؤلف وهو الصحيح.
ولكن قال بعض العلماء: يجب على كل واحد منهم صاع؛ لأن الفطرة واجب لا يتبعض، فكل إنسان مالك فيجب عليه أن يخرج صاعاً، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الصحيح أن الفطرة بالنسبة للغير فرع بمعنى أنها أصلاً واجبة على كل شخص بعينه، ومن تحملها عنه فهو فرع فتكون غرماً، فإذا كان عندنا فروع ثلاثة وهم الشركاء، وعندنا أصل واحد وهو الرقيق فكيف نجعل الأصل ثلاثة؟ فنعتبر الأصل وهو واحد، ونقول: عليهم صاع بحسب ملكهم، كما لو كان الأمر بالعكس بأن يكون ثلاثة أرقاء عند شخص واحد فعليه لهم ثلاثة أصواع لكل واحد صاع.(6/160)
قوله: «ويستحب عن الجنين» أي: يستحب إخراج زكاة الفطر عن الجنين.
والجنين هو الحمل في بطن الأم، وسمي بذلك لاجتنانه أي: استتاره، وأصل مادة الجيم والنون من الخفاء فالجنين مشتق منه، وكذلك الجن؛ لأنهم مستترون، وأيضاً الجنَّة للبستان الكثير الأشجار؛ لأنه يستر من فيه، ومنه الجُنَّة لأنه يستتر بها عند القتال.
وظاهر كلام المؤلف، أنه يستحب الإخراج عن الجنين، سواء نفخت فيه الروح أم لم تنفخ؛ لعموم قوله: «عن الجنين» .
والإخراج عنه قبل نفخ الروح فيه نظر؛ لأنه ليس إنساناً، قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] فهو ميت لا حياة فيه، فالذي يظهر لي أننا إذا قلنا باستحباب إخراجها عن الجنين فإنما تخرج عمن نفخت فيه الروح، ولا تنفخ الروح إلا بعد أربعة أشهر لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق (1) المصدوق (2) قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بكتب أربع كلمات، رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» (3) .
ولذلك قال العلماء: السقط قبل أربعة أشهر لا يغسل ولا
__________
(1) الصادق: صادق فيما أخبر به.
(2) المصدوق: مصدق فيما أخبر عنه.
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة (3208) ؛ ومسلم في كتاب القدر/ باب كيفية خلق الآدمي ... (2643) .(6/161)
يكفن ولا يصلى عليه، وبعد أربعة أشهر يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.
والدليل على استحباب إخراج زكاة الفطر عن الجنين ما روي عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ «أنه أخرج عن الجنين» (1) وإلا فليس فيه سنة عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن يجب أن نعلم أنّ عثمان ـ رضي الله عنه ـ أحد الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم، فإن لم ترد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم سنة تدفع ما سنه الخلفاء، فسنة الخلفاء شرع متبع، وبهذا نعرف أن الأذان الأول يوم الجمعة سنة بإثبات النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) ذلك بقوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» (3) ، أما من أنكره من المُحدَثين، وقال: إنه بدعة وضلل به عثمان ـ رضي الله عنه ـ فهو الضال المبتدع.
لأن عثمان ـ رضي الله عنه ـ سنَّ الأذان الأول بسبب لم يوجد في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو وجد سببه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (3/212) .
وأخرج عبد الله بن أحمد في مسائله (806) عن حميد عن بكر وقتادة: «أن عثمان كان يعطي صدقة الفطر عن الصغير والكبير والحمل» .
وأخرج ابن أبي شيبة (3/173) ؛ وعبد الرزاق (5788) عن أبي قلابة قال: «كانوا يعطون صدقة الفطر حتى يعطوا عن الحبل» .
(2) أخرج البخاري في الجمعة/ باب الأذان يوم الجمعة (912) عن السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء» .
(3) أخرجه الإمام أحمد (4/126) وأبو داود في السنّة/ باب في لزوم السنّة (4606) والترمذي في العلم/ باب ما جاء في الأخذ بالسنّة (1676) وابن ماجه في المقدمة/ باب اتباع سنّة الخلفاء الراشدين (42) عن العرباض بن سارية، قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5) والحاكم (1/96) .(6/162)
يفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم لقلنا: إن ما فعله عثمان ـ رضي الله عنه ـ مردود؛ لأن السبب وجد في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه شيئاً، أما ما لم يوجد في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ السبب الذي من أجله سنَّ عثمان ـ رضي الله عنه ـ الأذان الأول فإن سنتَهُ سنةٌ متبعةٌ، ونحن مأمورون باتباعها.
وَلاَ تَجِبُ لِنَاشِزٍ، وَمَنْ لَزِمَتْ غيرَهُ فِطْرَتُهُ فأخرجَ عن نفسِهِ بغيرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَتْ.......
قوله: «ولا تجب لناشز» أي: لا تجب زكاة الفطر على الزوج للمرأة الناشز؛ لأنه لا تجب عليه لها النفقة، وهذا بناءً على أنه يجب على الإنسان أن يخرج زكاة الفطر عمن يمونه ومن تلزمه نفقته.
والناشز هي التي تترفع على زوجها، وتعصيه فيما يجب عليها طاعته فيه، أو تطيعه ولكن متكرهة متبرمة، فإذا أمرها بأمر فإنها تتمنع وتتأخر عن تنفيذه وما أشبه ذلك؛ لأنه يجب عليها أن تبذل له ما يجب له بانشراح ورضا، كما أنه أيضاً يجب عليه أن يبذل لها ما يجب عليه لها بمثل ذلك.
قوله: «ومن لزمت غيرَهُ فطرته» هذا من باب تقديم المفعول على الفاعل، أي: من وجبت فطرته على غيره، مثل الزوجة تلزم زوجها فطرتها، والابن تلزم فطرته أباه، وما أشبه ذلك.
قوله: «فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت» أي: أخرج من تَلزَمُ فطرته غيره بغير إذن من تلزمه فطرته فإنها تجزئ عنه.
مثال ذلك: الزوجة لو أخرجت عن نفسها بغير إذن زوجها أجزأتها، ومعلوم أن فطرة الزوجة واجبة على زوجها وليست على(6/163)
نفسها، ـ وذلك على رأي المؤلف ـ؛ لأن الواجب أصلاً عليها هي، والزوج وجبت عليه فطرتها تحملاً، فإذا أخرجت عن نفسها فقد أخرج الأصل عن الفرع، سواء أذن الزوج أو لم يأذن.
وهذا تسليم من الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن الإنسان مخاطب بإخراج الزكاة عن نفسه، وقد سبق أن قلنا: إن هذا هو الرأي الراجح الصحيح.
وفهم من قوله: «ومن لزمت غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه أجزأت» أن من أخرج عمن لا تلزمه فطرته فإنه لا بد من إذنه.
مثال ذلك: لو أن زيداً أخرج عن عمرو بغير إذنه، فإنها لا تجزئ؛ لأن زيداً لا تلزمه فطرة عمرو، والزكاة عبادة فلا بد فيها من نية، إما ممن تجب عليه، أو من وكيله.
وهذا مبني على قاعدة معروفة عند الفقهاء يسمونها: (التصرف الفضولي) ، بمعنى أن الإنسان يتصرف لغيره بغير إذنه، فهل يبطل هذا التصرف مطلقاً، أو يتوقف على إذن ورضا الغير؟
هذا المسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
والراجح: أنه يجزئ إذا رضي الغير، والدليل على ذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وكّل أبا هريرة رضي الله عنه في حفظ صدقة الفطر فجاء الشيطان ذات ليلة، وأخذ من التمر فأمسكه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فادعى أنه فقير وذو عيال، وأنه لا يأتي بعد هذه الليلة، فلما جاء الصباح أتى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» فأخبره أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه أعتقه.(6/164)
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنه كذبك وسيعود» كذبك يعني أخبرك بالكذب.
يقول أبو هريرة: فترقبته في الليلة الثانية، فعاد وأمسكه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وقال له: لأرفعنك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقسم له أنه لن يعود، فأخبر أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حدث في الليلة الثانية فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» فأخبره أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه أعتقه، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنه كذبك وسيعود» وفي الليلة الثالثة عاد، وأمسكه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ فأقسم له أنه لن يعود، ولكن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ أصر على أن يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: هل أدلك على شيء يحفظك؟ فقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ بلى، فقال له: اقرأ آية الكرسي كل ليلة فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأخبر أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صدقك وهو كذوب» (1) .
وفي هذا الحديث دليل على أن الكذوب قد يصدق، وأن العدو قد ينصح، لكن نصح الشيطان في هذه الحال ليس نصحاً حقيقياً، وإنما نصح خوفاً من أن يرفع أمره إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والشاهد من ذلك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجاز هذا التصرف من أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وجعله مجزئاً مع أن
__________
(1) أخرجه البخاري في الوكالة/ باب إذا وكل رجلاً ... (2311) معلقاً بصيغة الجزم.(6/165)
المأخوذ منه زكاة، وأبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ وكيل في الحفظ لا وكيل في التصرف.
وقد ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن الإنسان لو ضحّى بأضحية غيره، فإنه تقع عن الغير، وإن لم يأذن له.
مثال آخر: ولد يجب على والده إخراج فطرته فأخرج الولد عن نفسه بدون إذن أبيه أجزأه؛ لأنه الأصل فالخطاب موجه إليه، فإذا أخرج الأصل سقط عن الفرع.
قوله: «وتجب بغروب الشمس ليلة الفطر» .
وَتَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الفِطْرِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَهُ، أَوْ مَلَكَ عَبْداً، أو تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ فِطرَتُهُ........
«تجب» أي: زكاة الفطر.
«بغروب» الباء للسببية.
وقوله: «بغروب الشمس ليلة الفطر» هذا هو وقت الوجوب، أي الوقت الذي يوجه فيه الخطاب إلى الإنسان بإخراجها هو وقت غروب الشمس ليلة الفطر، والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقة الفطر من رمضان» (1) ؛ ولأنها تسمى صدقة الفطر فتضاف إليه، والفطر من رمضان يتحقق بغروب الشمس ليلة عيد الفطر.
ولكن كيف يعرف أن الليلة ليلة عيد الفطر؟
الجواب: نعرف أن الليلة ليلة عيد الفطر بأمرين:
الأول: إن كنا أتممنا ثلاثين يوماً من رمضان، فغروب الشمس يوم الثلاثين هذا وقت ليلة عيد الفطر قطعاً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (150) .(6/166)
الثاني: أن نرى الهلال ليلة الثلاثين فتكون تلك ليلة، عيد الفطر، وإن لم نره فإن الليلة من رمضان لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (1) .
قوله: «فمن أسلم بعده أو ملك عبداً، أو تزوج، أو ولد له لم تلزمه فطرته» .
يترتب على قولنا: إنها تجب بغروب الشمس ليلة الفطر ما يأتي:
1 ـ أن من أسلم بعده فلا فطرة عليه؛ لأنه وقت الوجوب لم يكن من أهل الوجوب.
2 ـ كذلك لو أن رجلاً ملك عبداً فإنه لا فطرة للعبد عليه إذا ملكه بعد غروب الشمس، وتكون فطرته على المالك الأول؛ لأنه وقت الوجوب كان ملكاً له.
3 ـ لو أن رجلاً تزوج أي: عقد ليلة الفطر بعد الغروب، ودخل عليها بعد ذلك؛ فلا تجب عليه فطرتها؛ لأنها حين الغروب لم تكن زوجةً له.
فإن عقد عليها قبل الغروب ودخل عليها بعد الغروب ففطرتها على الزوج، وهذا ظاهر كلام المؤلف؛ لأن قوله: «تزوج» يعني به عَقَدَ الزَّواج.
أما المذهب فلا فطرة عليه لها؛ لأنه لا تجب عليه نفقتها
__________
(1) سيأتي تخريجه ص (308) .(6/167)
حتى يتسلمها، فما دامت عند أهلها فلا نفقة لها عليه؛ لأن الفطرة تابعة للنفقة.
وعلى هذا لو عقد رجل على امرأة في رمضان، ولم يدخل بها إلا بعد صلاة العشاء ليلة العيد فليس عليه فطرتها؛ لأنه لا يلزمه نفقتها إلا بتسلمها.
وعلى القول الراجح لا شيء عليها مطلقاً حتى لو دخل بها في رمضان.
4 ـ كذلك لو ولد للرجل ولد، بعد غروب الشمس ليلة العيد، فإن الفطرة لا تجب عليه، ولكن تسن؛ لأنه جنين، ويستحب الإخراج عنه.
وَقَبْلَهُ تَلْزَمُ، وَيَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ العِيدِ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ...........
قوله: «وقبله تلزم» أي: إذا وجدت هذه الأشياء قبل الغروب ليلة العيد، فإن الفطرة تلزم من تجب عليه نفقة من سبق ذكرهم، فالذي يسلم قبل الغروب بلحظة تلزمه الفطرة؛ لأنه وقت الوجوب صار من أهل الوجوب، والذي ملك عبداً قبل الغروب ولو بدقيقة فإنه تلزمه فطرته، وكذلك الذي ولد له ولد قبل الغروب فإنه تلزمه فطرته، وأيضاً من عقد قبل الغروب فإنه تلزمه فطرة زوجته حتى لو لم يدخل عليها، وهذا على ظاهر كلام المؤلف.
مسألة: لو أُعْطِيَ صباح العيد عدة فطر، فصار عنده ما يزيد على قوت يومه لم تلزمه زكاة الفطر؛ لأن وقت الوجوب غروب الشمس ليلة العيد، ولهذا لو أعطي ذلك في آخر رمضان للزمته.
ثم بَيَّنَ المؤلف ـ رحمه الله ـ وقت إخراج زكاة الفطر،(6/168)
فقال: «ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط» .
أي: يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومين فقط، وقبل اليومين لا يجوز.
ولكن كيف يجوز ذلك وسبب الوجوب؛ وهو غروب الشمس ليلة العيد لم يحصل بعد، كما أن لدينا قاعدة فقهية تقول: «إن تقديم الشيء على سببه ملغى، وتقديم الشيء على شرطه جائز» ؟
مثاله: لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم بدا له أن يلبسه فكفّر، فهنا قدّم التكفير قبل وجود شرطه فهذا جائز، ولو أخرج الكفارة قبل الحلف لم يجزئ لأنه قبل وجود السبب.
وهنا سبب الوجوب، وهو غروب الشمس لم يحصل بعد؟
والجواب: نقول: إن جواز هذا من باب الرخصة؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فعلوا ذلك فقد كانوا يعطونها للذين يقبلونها قبل العيد بيوم أو يومين (1) ، وما دام أن هذه الرخصة جاءت عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهم خير القرون وعملهم متبع، فتكون هذه المسألة مستثناة من القاعدة التي أشرنا إليها.
وقوله: «بيوم أو يومين» أو للتخيير فيجوز أن تخرج قبل العيد بيوم أو يومين، وإن قلنا: للتنويع فالمعنى قبل العيد بيوم إن كان الشهر ناقصاً، وقبله بيومين إن كان تاماً، وعلى هذا تخرج في الثامن والعشرين، لا في السابع والعشرين، وهذا فيه احتمال.
__________
(1) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: «وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» . أخرجه البخاري في الزكاة/ باب صدقة الفطر على الحر والمملوك (1511) .(6/169)
وقال بعض العلماء: يجوز إخراجها من أول الشهر، وهذا ضعيف؛ لأنها لا تسمى صدقة رمضان، وإنما تسمى صدقة الفطر من رمضان.
وقوله: «فقط» أي: لا زيادة، وهذه الكلمة ترد كثيراً، وأصلها «قط» ، كما جاء في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة عليها قدمه فتقول: قط قط» (1) أي: حسبي حسبي، فتكون «قط» اسماً بمعنى حسب، ودخلت عليها الفاء لتحسين اللفظ وهي مبنية على السكون.
مسألة: لو أخرج زكاة الفطر يوم سبع وعشرين وتم الشهر فهل يجزئ؟
الجواب: لا يجزئ، فهو كمن صلى قبل الوقت ظاناً أن الوقت قد دخل.
وَيومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ أفْضَلُ. وَتُكْرَهُ فِي بَاقِيهِ. وَيَقْضِيهَا بَعْدَ يومِهِ آثِماً..........
قوله: «ويوم العيد قبل الصلاة أفضل» أي: إخراج زكاة الفطر يوم العيد قبل صلاة العيد أفضل؛ لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» (2) ، ولأن المقصود منها إغناء الفقراء في هذا اليوم عن السؤال من أجل أن يشاركوا الموسرين في الفرح والسرور، هذا
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله: «وتقول هل من مزيد» (4848) ؛ ومسلم في الجنة ونعيمها/ باب النار يدخلها الجبارون ... (2848) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب فرض صدقة الفطر (1503) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة (986) .(6/170)
من مقاصدها؛ وإلا فإن الأصل فيها أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، ومن ثم قال أهل العلم: ينبغي أن يؤخر الإمام صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر، واليوم الشرعي يبدأ من طلوع الفجر.
ويجب أن تصل إلى صاحبها قبل الصلاة أو إلى وكيله أي: وكيل الفقير، ويجوز للفقير أن يوكل من تلزمه الفطرة في قبضها.
مثال ذلك: أن يقول الفقير لصاحب الصدقة: أنت وكيلي فيما تعطيني من صدقة الفطر، ففي هذه الحال يكيل الرجل زكاة الفطر ويحوزها عنده في مكان حتى يعود الفقير من سفره، إذا كان مسافراً مثلاً أو ما شابه ذلك، وبهذا يكون الرجل قد قبض من نفسه زكاة الفطر لموكله.
فإن قال للفقير: عندي لك فطرةٌ، لم يكفِ، حتى يقبضها، أو يجعله وكيلاً في قبضها.
قوله: «وتكره في باقيه» أي: ويكره أن تخرج زكاة الفطر في باقي يوم العيد وهذا وقت ثالث لإخراجها؛ وهو من بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يوم العيد، فيكون هذا وقت كراهة؛ وذلك لأن إخراجها بعد الصلاة يفوت بعض المقصود من إغناء الفقراء في هذا اليوم، فلا يحصل لهم الغناء إلا بعد الصلاة، والذي يريد أن يعطيهم ليغنيهم فإنه يجب عليه أن يعطيهم إياها قبل الصلاة؛ لأجل أن يشملهم الفرح جميع اليوم.
والدليل على الإجزاء، دخولها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أغنوهم عن(6/171)
السؤال في هذا اليوم» (1) وهذا ضعيف.
والصحيح: أن إخراجها في هذا الوقت محرم، وأنها لا تجزئ، والدليل على ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمر أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة» (2) فإذا أخرها حتى يخرج الناس من الصلاة فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3) .
بل إن حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ صريح في هذا حيث قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» (4) وهذا نص في أنها لا تجزئ، وإذا كانت لا تجزئ فإن الإنسان يكون قد ترك فرضاً عليه بالنص وهو «فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر» (5) فيكون بذلك آثماً، ولا تقبل على أنها زكاة فطر.
فإذا قال قائل: إذا أخرجها بعد الصلاة متعمداً، فهل تجزئ على أنها صدقة؟
الجواب: تجزئ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ومَنْ أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» .
فإن قيل: إنه إذا نوى الفرض بأدائها بعد الصلاة وهي لا تجزئ فهو متلاعب فكيف تجزئ على أنها صدقة؟
__________
(1) سيأتي تخريجه ص (181) .
(2) سبق تخريجه ص (170) .
(3) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم في البيوع/ باب النجش ووصله مسلم في الأقضية/ باب الأحكام الباطلة (1718) عن عائشة رضي الله عنها.
(4) سبق تخريجه ص (150) .
(5) سبق تخريجه ص (150) .(6/172)
فالجواب: أننا نقول ذلك؛ لأن نفعها متعد، والنفع المتعدي يعطى الإنسان أجره على ما انتفع به الناس، كالمزارع التي يزرع فيها شجر، فتأكل منها الطير والسباع، رغم أن صاحبها معه البندقية التي يروع بها الطير؛ لكيلا تأكل إلا نادراً، لكن إذا أكلت منها فله بذلك أجر، فالنفع المتعدي فيه خير حتى لو لم ينو.
أرأيت قول الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .
فجعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الخيرية بهذه الثلاثة مطلقاً، ولو لم ينو الإنسان التقرب إلى الله، وأن الأجر العظيم لمن يتقرب بالفعل إلى الله، فالأشياء التي لها نفع متعدٍ لها حال خاصة.
قوله: «ويقضيها بعد يومه آثماً» أي: يقضي زكاة الفطر بعد يوم العيد ويكون آثماً، وذلك إذا كان متعمداً.
فعلى هذا يكون وقت إخراج زكاة الفطر على أربعة أقسام:
1 ـ جائز: وهو قبل العيد بيوم أو يومين.
2 ـ مندوب: وهو صباح يوم العيد قبل صلاة العيد.
3 ـ مكروه: وهو بعد صلاة العيد إلى غروب شمس يوم العيد.
4 ـ محرم: بعد غروب شمس يوم العيد وتكون قضاء.(6/173)
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أخرجها يوم العيد تقع أداء وبعده تقع قضاء.
والصواب في هذا والذي تقتضيه الأدلة، أنها لا تقبل زكاته منه إذا أخرها ولم يخرجها إلا بعد الصلاة من يوم العيد، بل تكون صدقة من الصدقات، ويكون بذلك آثماً.
وذلك بناءً على القاعدة التي دلت عليها النصوص وهي:
«أن كل عبادة مؤقتة إذا تعمد الإنسان إخراجها عن وقتها لم تقبل» ؛ ولهذا قلنا في الذين لا يصلون في أول أعمارهم، ثم منَّ الله عليهم بالهداية: إنهم لا يقضون؛ لأنهم قد تعمدوا أن يخرجوا الصلاة عن وقتها، وهذا إذا لم نحكم بكفرهم.
أما إذا حكمنا بكفرهم فلا يقضون؛ لأن الكافر إذا أسلم لا يؤمر بالقضاء.
مسألة: إذا أخرها لعذر، بمعنى لو أن الإنسان وكّل إنساناً في إخراج الزكاة عنه بأن كان مسافراً مثلاً، فلما رجع من السفر تبين أن وكيله لم يفعل، فهذا يقضيها غير آثم، ولو بعد فوات أيام العيد، وذلك قياساً على الصلاة لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» (1) .
وكذلك أيضاً لو جاء خبر العيد بغتة ولم يتمكن من إيصالها إلى الفقير إلا بعد صلاة العيد فإنه معذور ويقضيها، ولا يكون آثماً.
__________
(1) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة/ باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر (597) ومسلم في الصلاة/ باب قضاء الصلاة الفائتة (684) (315) عن أنس رضي الله عنه.(6/174)
ومن فعل العبادة بعد وقتها الخاص لعذر، فإنها توصف بأنها أداء؛ إذا فعلها بعد زوال العذر مباشرة، وكذلك لو جاء العيد وهو في البر مثلاً، وليس عنده أحد يؤديها إليه ولم يوكل أحداً يخرجها عنه، فهل تسقط عنه لفوات المحل، كالذي قطعت يده يسقط عنه غسلها، أو نقول: إنها تبقى في ذمته؟
الجواب: الأحوط أن تبقى في ذمته ويخرجها ولو بعد أيام العيد، واحتمال أن تسقط في هذه الحال قوي؛ لأن المحل غير موجود.
مسألة: زكاة الفطر تخرج في البلد الذي فيه الإنسان، ومن الغلط إخراجها في غيره، وكذلك الأضحية؛ لأنهما من الشعائر الإسلامية التي ينبغي أن تكون في كل بيت، وفي إرسال النقود إلى بلاد بعيدة تعطيل لتلك الشعيرة في ذلك البيت.
ثم من الذي يؤمن على اختيار الفطرة والأضحية التي يريدها صاحبها؟! ثم قد تتأخر عن يوم العيد.
مسألة: يجوز دفع الزكاة لجمعيات البر المصرح بها من الدولة، وعندها إذن منها وهي نائبة عن الدولة، والدولة نائبة عن الفقراء، وعلى هذا إذا وصلتهم الفطرة في وقتها أجزأت، ولو لم تصرف للفقراء إلا بعد العيد؛ لأنهم قد يرون المصلحة تأخير صرفها.(6/175)
فَصْلٌ
وَيَجِبُ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ، أَوْ شَعِيرٍ، أو دَقِيقِهِمَا، أوْ سَوِيْقِهِمَا، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أو أقِطٍ.........
قوله: «فصل» بيَّن المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذا الفصل: مقدار الفطرة، ومن أي شيء تخرج.
قوله: «ويجب صاع» أي: يجب إخراج صاع، والصاع مكيال معروف، وهو صاع النبي صلّى الله عليه وسلّم لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «فرض النبي صلّى الله عليه وسلّم صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب ... » (1) والأصواع تختلف باختلاف الأزمان والأماكن والناس، ولذلك اتفق العلماء بأن المراد بالصاع في الفطرة والصاع في الغسل، والمد في الوضوء، ونصف الصاع في فدية الأذى، أن المراد بذلك الصاع والمد النبويان.
والصاع مكيال يقدر به الحجم، نقل إلى المثقال الذي يقدر به الوزن نظراً؛ لأن الأزمان اختلفت والمكاييل اختلفت، فقال العلماء: ونقلت إلى الوزن من أجل أن تحفظ؛ لأن الوزن يحفظ، واعتبر العلماء ـ رحمهم الله ـ البر الرزين، الذي يعادل العدس وحرروا ذلك تحريراً كاملاً، وقد حررته فبلغ كيلوين وأربعين جراماً من البر الرزين.
ومن المعلوم أن الأشياء تختلف خفة وثقلاً، فإذا كان الشيء ثقيلاً فإننا نحتاط ونزيد الوزن، وإذا كان خفيفاً فإننا نقلل، ولا بأس أن نأخذ بالوزن؛ لأن الخفيف يكون جرمه كبيراً، والثقيل يكون جرمه صغيراً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (150) .(6/176)
وعلى هذا نقول: إن أردت أن تعرف الصاع النبوي، فزن ألفين وأربعين جراماً من البر الرزين أي: البر الجيد، ثم ضعه بعد ذلك في الإناء فما بلغ فهو الصاع النبوي.
وقد عُثِرَ على مد نبوي في عنيزة، في إحدى الخربات، وقد اشتريته من صاحبه بثمن غال، وهو من النحاس، وقد كتب عليه: إن هذا المد قدر على مد فلان، عن فلان، إلى أن وصل إلى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ إلى مد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد وجدناه مقارباً لما قاله العلماء من أن زنته خمسمائة وعشرة جرامات؛ لأن المد النبوي ربع الصاع النبوي، وقد اتخذنا مداً وصاعاً نبوياً قياساً على ذلك.
مسألة: إذا وجد نصف صاع من الفطرة هل يلزمه إخراجه؟
المذهب أنه يلزمه، والقول الثاني: لا يلزمه! لأن الفطرة صاع.
ولهذا نظائر: إذا وجد ماء لا يكفي إلا بعض أعضائه، فالمذهب يستعمله ويتيمم؛ لقوله تعالى، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وهذا وجد ما يغسل به بعض الأعضاء فيستعمله، ويتيمم؛ لأن بقية الأعضاء لا يستطيع غسلها، وهذا أقوى الأقوال وأحوطها.
والقول الثاني: يستعمله ولا يتيمم؛ لأن التيمم فيمن عجز عن الوضوء كاملاً، ولا تتركب طهارة من ماء وتراب، فيستعمل الماء، ويسقط عنه الباقي للعجز.
والقول الثالث: لا يستعمله ويتيمم، لأنه لا يجمع في(6/177)
طهارة واحدة بين التراب والتيمم، وهو عاجز عن الوضوء فليتيمم.
مسألة: عندنا الصاع زائد على الصاع النبوي، فالصاع النبوي أقل من الصاع الموجود عندنا بالخمس، وخمس الخمس، فهل يكره إخراج الزكاة به، أو لا يكره ويكون الزائد صدقة؟
الجواب: الصحيح أنه لا يكره ويكون الزائد صدقة، وقد ورد عن الإمام مالك أنه كره ذلك؛ لأن هذه عبادة مقدرة من الشارع، لكن الصحيح أنها عبادة مغلَّبٌ فيها جانب التمول والإطعام فإذا زاد فلا بأس، كما لو وجب عليه أربعون درهماً وأخرج ستين درهماً، لكن الزيادة تحتاج إلى نية لكي تكون صدقة.
قوله: «من بر» البر: حب معروف، وهو من أفضل أنواع الحبوب، وكان قليلاً في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكنه كان موجوداً، لحديث عبادة بن الصامت: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح» (1) . ولقلته وندرته فإنه لم يذكر من الأصناف التي تخرج منها الفطرة كما في حديث أبي سعيد: «وكان طعامنا يومئذٍ الشعير والتمر والزبيب والأقط» (2) وعدم ذكره لا يدل على عدم إجزائه، بل إنه مجزئ بلا شك.
قوله: «أو شعير» وهو: حب معروف ومفيد، ولا سيما إذا
__________
(1) سبق تخريجه ص (40) .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة قبل العيد (1510) .(6/178)
كانت فيه قشوره، وقد ذكر فيه الأطباء منافع كثيرة، لكن فائدته أقل من فائدة البر.
قوله: «أو دقيقهما» أي: دقيق البر أو دقيق الشعير، فلو أنه دفع صاعاً من دقيق أحدهما فإنه يجزئ، ولكن على أن يكون المعتبر في الدقيق الوزن؛ لأن الحب إذا طحن انتشرت أجزاؤه، فالصاع من الدقيق يكون صاعاً إلا سدساً تقريباً من الحب، والصاع من الحب (البر أو الشعير) يكون صاعاً وزيادة من الدقيق؛ لأن الحب في خلقة الله ـ عزّ وجل ـ له منطبق تماماً وإن كان فيه فرجات ما بين الحبة والأخرى.
قوله: «أو سويقهما» أي سويق البر والشعير، والسويق: هو الحب المحموس الذي يحمس على النار ثم يطحن، وبعد ذلك يُلت بالماء، ويكون طعاماً شهياً.
قوله: «أو تمر» معناه أنه لا يجوز أن يدفع الرطب في الفطرة، بل لا بد أن يكون تمراً جافاً، والتمر كان يكال على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو من الأصناف المكيلة، لكنه صار عندنا الآن من الأصناف التي توزن، ولذلك فإنه عند الإخراج يجب على الإنسان أن يلاحظ الخفة والثقل.
قوله: «أو زبيب» والزبيب هو يابس العنب، ولكن العنب ليس كله يصلح أن يكون زبيباً، بل يصلح لذلك أنواع معينة منه والزبيب غذاء وقوت كالتمر.
قوله: «أو أقط» والأقط نوع من الطعام يعمل من اللبن المخيض، ثم يجفف، وتعمله البادية في الغالب.(6/179)
فالواجب أن زكاة الفطر تخرج من طعام الآدميين، وإذا كانت هذه الأطعمة متنوعة فإننا نأخذ بالوسط العام، وفي وقتنا الحاضر وجدنا أكثر شيء هو الرز، وعموم كلام المؤلف ـ رحمه الله ـ أن هذه الأنواع تخرج في زكاة الفطر، سواء كانت قوتاً وطعاماً أم لم تكن؛ لأنها جاءت منصوصاً عليها في الحديث، والفقهاء هنا أخذوا بظاهر النص دون معناه؛ وعليه لو أن أحد الناس في هذا الوقت أخرج شعيراً أو زبيباً أو أقطاً، لأجزأه ذلك رغم أنها ليست بقوت.
وقول المؤلف: «يجب صاع من بر أو شعير» ظاهرهُ أَنَّهُ لا فرق بين البر وما سواه، وأنه يجب إخراج صاع من البر.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أنه يخرج من البر نصف صاع وقال: هذا الذي جرى عليه الناس في عهد معاوية ـ رضي الله عنه ـ، فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ لما قدم المدينة قال: أرى أن مداً من هذه ـ يعني الحنطة ـ يعدل مدين من هذا ـ يعني الشعير ـ فعدل الناس عن الصاع من البر إلى نصف الصاع منه (1) .
وقال شيخ الإسلام: وهو أيضاً قياس بقية الكفارات عند الفقهاء، فإن الفقهاء يقولون: إن الواجب صاع من كذا، أو نصف صاع من البر، أو يقولون: الواجب نصف صاع من كذا أو مد
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب صاع من زبيب (1508) ومسلم في الزكاة/ باب زكاة الفطر على المسلمين (985) (18) عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ.(6/180)
من البر فيجعلون البر على النصف من غيره، ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الواجب صاع من بر أو غيره.
لكن يبقى النظر فيما إذا لم تكن هذه الأنواع أو بعضها قوتاً فهل تجزئ؟
الجواب: الصحيح أنها لا تجزئ ولهذا ورد عن الإمام أحمد: الأقط لا يجزئ إلا إذا كان قوتاً، وإنما نص عليها في الحديث؛ لأنها كانت طعاماً فيكون ذكرها على سبيل التمثيل لا التعيين؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخذري ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا نخرجها في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذٍ التمر والزبيب والشعير والأقط» (1) .
فقوله: «من طعام» فيه إشارة إلى العلة، وهي أنها طعام يؤكل ويطعم.
ويرجح هذا ويقويه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» (2) ، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً لكن يقويه حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «فرضها أي: زكاة الفطرطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين» (3) ، وعلى هذا فإن لم تكن هذه الأشياء من القوت كما كانت في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنها لا تجزئ.
__________
(1) سبق تخريجه ص (178) .
(2) أخرجه الدارقطني (2/152، 153) ؛ والبيهقي (4/175) ؛ وابن عدي (2519) عن ابن عمر رضي الله عنهما وفي إسناده أبو معشر، قال الدارقطني «ضعيف» وقال الحافظ في البلوغ (628) : «إسناده ضعيف» .
(3) سبق تخريجه ص (150) .(6/181)
فَإِنْ عَدِمَ الخمْسَةَ أجْزَأ كُلُّ حب وَثَمَرٍ يُقْتَاتُ لاَ مَعيبٌ، وَلاَ خُبْزٌ..........
قوله: «فإن عدم الخمسة» أي: عدم البر أو الشعير أو التمر أو الزبيب أو الأقط في مكانه أو ما يقرب منه عرفاً، ويشق عليه الإتيان بها، فإنه لا يلزمه أن يسافر للحصول عليها.
قوله: «أجزأ كل حب وثمر يقتات» أي: إنه يجزئ في زكاة الفطر عند عدم الخمسة كل ما يقتات، ويطعم من الحب والثمر.
وعلم من ذلك أنه إذا أخرج من غير الخمسة مع وجودها لم تجزئ، ولو كان ذلك قوتاً، أو كان أفضل عند الناس.
والحب: مثل الأرز والذرة وغيرهما.
والثمر: مثل التين، فالتين في السابق كان يقتات، ويكنز مثل التمر تماماً، وذلك لما كان كثيراً في الجزيرة العربية.
وخلاصة ذلك على كلام المؤلف أنه إن عدم الإنسان أياً من الأصناف الخمسة السابقة أجزأه كل حَبٍّ، بدلاً من الشعير، والبر، أو كل ثمر بدلاً من الزبيب، والتمر.
ولكن إذا كان قوت الناس ليس حباً ولا ثمراً، بل لحماً مثلاً، مثل أولئك الذين يقطنون القطب الشمالي، فإن قوتهم وطعامهم في الغالب هو اللحم، فظاهر كلام المؤلف أنه لا يجزئ إخراجه في زكاة الفطر، ولكن الصحيح أنه يجزئ إخراجه، ولا شك في ذلك.
ولكن يرد علينا أن صاع اللحم يتعذر كيله، فنقول: إن تعذر الكيل رجعنا إلى الوزن مع أن اللحم إذا يبس يمكن أن يكال.
قوله: «لا معيب» معطوف على «كل» أي: لا يجزئ معيب حتى من البر والتمر.(6/182)
والمعيب هو الذي تغير طعمه، أو أحد أوصافه، أو صار فيه دود، أو سوس، لقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] .
قوله: «ولا خبز» أي: ولا يجزئ الخبز في زكاة الفطر؛ لأنه لا يكال ولا يقتات مع أنه إذا يبس يمكن أن يكال ويقتات، لكن يقال: إن العلة في عدم إجزائه أن النار أثرت عليه وغيرته.
والصحيح في الخبز أنه إذا كان قوتاً، بأن يُيَبَّس وينتفع الناس به، فلا بأس بإخراجه، أما إذا كان رطباً فلا يصلح أن يقتات، ولكن يرد علينا سؤال، وهو هل تجزئ المكرونة في زكاة الفطر؟
الجواب: من قال: إن الخبز يجزئ فالمكرونة عند صاحب هذا الرأي تجزئ أيضاً.
ومن قال: لا يجزئ الخبز؛ لأن الخبز أثرت عليه النار، فإن المكرونة إذا أثرت عليها النار في تصنيعها فإنها لا تجزئ كذلك، ولو أن إلحاق المكرونة بالخبز من كل وجه فيه نظر، ولهذا نرى أن إخراج المكرونة يجزئ ما دامت قوتاً للناس ليست كالخبز من كل وجه، وتعتبر بالكيل إذا كانت صغيرة مثل الأرز، أما إذا كانت كبيرة فتعتبر بالوزن.
والصحيح أن كل ما كان قوتاً من حب وثمر ولحم ونحوها فهو مجزئ سواء عدم الخمسة، أو لم يعدمها لحديث أبي سعيد: «وكان طعامنا يومئذٍ الشعير والتمر والزبيب والأقط» (1) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (178) .(6/183)
وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الجَمَاعَةُ مَا يَلْزَمُ الوَاحِدَ، وَعَكْسُهُ...........
قوله: «ويجوز أن يعطَى الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه» هنا يجوز أن نقول: أن يُعْطَى الجماعةُ، ويجوز أن نقول: أن يعطِيَ الجماعةَ.
وقوله: «الجماعة» أي: ممن يستحقون زكاة الفطر.
وهل مصرف زكاة الفطر مثل مصرف بقية الزكاوات أو أن مصرفها لذوي الحاجة من الفقراء؟
الجواب: هناك قولان لأهل العلم، وهما:
الأول: أنها تصرف مصرف بقية الزكوات حتى للمؤلفة قلوبهم والغارمين، وهو ما ذهب إليه المؤلف.
الثاني: أن زكاة الفطر مصرفها للفقراء فقط، وهو الصحيح.
وقوله: «يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه» مثال ذلك: إذا كان إنسان عنده عشر فطر، فإنه يجوز أن يعطيها لفقير واحد.
وإذا كان إنسان عنده فطرة واحدة فيجوز أن يعطيها عشرة فقراء؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدر المعطى، ولم يقدر الآخذ.
قال العلماء: إذا أعطى الفطرة لجماعة فيسن ألا ينقص المعطى عن مدٍ.
ولكن إذا أعطى دون الصاع فيجب أن ينبه المعطى أنه أعطاه دون الصاع؛ لأنه يخشى أن يخرجها المعطى عن نفسه، وهي أقل من صاع.
وعلى هذا التقرير الذي ذكرنا الآن أنه في زكاة الفطر يجوز أن يعطي الجماعةُ ما يلزمهم لفقير واحد، أو يعطي الإنسانُ ما يلزمه لعدة فقراء.(6/184)
يتبين أن ما يجب بذله في هذه الأمور ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
القسم الأول: ما قدر فيه المدفوع بقطع النظر عن الدافع وعن المدفوع إليه، مثل زكاة الفطر، فالمقدر فيها صاع، سواء أعطيتها واحداً أو جماعة، أو أعطاها جماعة لواحد، أو أعطاها واحد لواحد، أو أعطاها جماعة لجماعة؛ لأنه مقدر فيها ما يجب دفعه، وهذا بالاتفاق فيما أعلم.
القسم الثاني: ما قدر فيه المدفوع والمدفوع إليه، كما هي الحال في فدية الأذى، وهي فدية حلق الرأس في الإحرام، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ: «أطعم ستة مساكين، لكن مسكين نصف صاع» (1) وعلى هذا فلا بد أن نخرج نصف صاع لكل واحد من الستة المساكين.
القسم الثالث: ما قدر فيه الآخذ المعطى دون المدفوع، مثل: كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان، {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] .
وبناء على ذلك نقول للمكفر فيها: أطعم مسكيناً ما شئت حتى ولو كان مداً من بر.
ويجوز في هذا القسم أن يغدي المساكين أو يعشيهم؛ لأن الله ذكر الإطعام ولم يذكر مقداره فمتى حصل الإطعام بأي صفة كانت أجزأ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الحصر/ باب الإطعام في الفدية نصف صاع (1816) ، ومسلم في الحج/باب جواز حلق الرأس للمحرم ... (1201) (85) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه.(6/185)
بَابُ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ
وَيَجِبُ عَلَى الفَوْرِ مَعَ إِمْكَانِهِ.........
قوله: «باب إخراج الزكاة» «أل» في الزكاة للعهد الذهني، وإنما قلنا ذلك؛ لئلا يدخل فيها زكاة الفطر، فإن زكاة الفطر قد علمت وبين وقت وجوبها وإخراجها وقدرها، لكن المراد بإخراج الزكاة هنا زكاة المال.
وقوله: «إخراج الزكاة» أي: من ملكه إلى مستحقها.
وأنواع الأموال هي: الذهب، والفضة، وعروض التجارة، وسائمة بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض.
قوله: «ويجب على الفور» أي: المبادرة.
قوله: «مع إمكانه» أي: مع إمكان الإخراج، والمراد بهذا وجوب المبادرة بالإخراج، لا وجوب الإخراج فإنه معلوم مما سبق.
وقوله: «يجب على الفور» دليله أن الأصل في الأوامر الفورية، والدليل على أن الأصل في الأوامر الفورية ما يلي:
1 ـ قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] .
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر الصحابة في حجة الوداع أن يحل من إحرامه من لم يسق الهدي منهم، وتأخروا بعض الشيء رجاء(6/186)
أن ينسخ الأمر غضب النبي صلّى الله عليه وسلّم غضباً شديداً» (1) .
3 ـ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما تأخروا في حلق رؤوسهم في غزوة الحديبية؛ ليتحللوا بذلك، غضب لتأخرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم (2) ولو لم يكن الأصل في الأوامر الفورية لم يغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
4 ـ أن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فهو إذا أخر الواجب يكون مخاطراً، فقد يموت ويبقى الواجب في ذمته، وإبراء الذمة واجب، فهذا دليل نظري أيضاً على أن الواجب يفعل على الفور.
5 ـ أن النظر يوجب إخراجَها على الفور؛ لأن حاجة الفقراء متعلقة بها، وإذا أمهل الناس في إخراجها بقي الفقراء بحاجة.
6 ـ أن تأخير الواجبات يلزم منه تراكمها، وحينئذ يغريه الشيطان بالبخل إذا كان الواجب من المال، أو بالتكاسل إذا كان الواجب من الأعمال البدنية.
وقال بعض العلماء: لا يجب الإخراج على الفور؛ لأن الله لم يوقت لها وقتاً، وهذا ضعيف، بل وقت الله لها وقتاً في قوله تعالى، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] إذا قلنا: إن هذا الحق هو الزكاة.
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب بيان وجوه الإحرام (1211) (130) عن عائشة رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الشروط/ باب الشروط في الجهاد ... (2731) ؛ عن المسور بن مخرمة ومروان رضي الله عنهما.(6/187)
لكن المؤلف اشترط بقوله: «مع إمكانه» أن يكون الإخراج ممكناً، فإذا لم يمكنه الإخراج فإنه لا يلزمه؛ كما لو كان ماله غائباً؛ وكما لو كان له دين في ذمة موسر أو في ذمة معسر، وقلنا بوجوب زكاة الدين في ذمة الموسر أو المعسر، وهو الآن ليس بيده فلا يلزمه الإخراج لعدم إمكانه.
وهل من ذلك إذا وجب على المرأة زكاة الحلي، وليس عندها دراهم لتزكي بها؟
الجواب: ليس من ذلك؛ فيمكن لها أن تزكي على الفور؛ وذلك بأن تبيع من الحلي بمقدار الزكاة وتخرج الزكاة، ما لم يتبرع لها زوجها أو أحد من أقاربها، فإن تبرع فلا بأس.
لكن النساء يقلن: إذا أوجبتم علينا أن نبيع من الحلي لإخراج زكاته فإنه سينفد ولن يبقى عندنا منه شيء، وهذا مما نحتاجه بنص القرآن، قال تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ *} [الزخرف] .
فنقول: إن هذا الإيراد غير وارد؛ لأنه ينقطع الوجوب إذا نقص الحلي عن النصاب، فإذا لم يكن عند إحداهن إلا ثمانون جراماً من الذهب فإنه لا زكاة عليها، ولذلك نقول: إنه لا ينفد؛ لأنك تصبحين عندئذ من الفقيرات، والفقيرات يكفيهن من حلي الذهب ثمانون جراماً.
إِلاَّ لِضَرَرٍ...........
قوله: «إلا لضرر» أي: فإذا كان هناك ضرر على الرجل في إخراج الزكاة فور وجوبها فلا حرج عليه أن يؤخرها حتى يزول الضرر، كأن يخشى أن يرجع الساعي إليه مرة أخرى.(6/188)
مثال ذلك: وجبت على شخص زكاة الماشية في محرم، ويخشى أن يأتي الساعي في صفر ويقول له: أخرج زكاتك، ولا يصدقه إذا قال له هذا الشخص: لقد أخرجتها، فإن له أن يؤخرها إلى أن ييأس من قدوم الساعي.
والواجب أن يصدق صاحب الزكاة في دفع زكاته؛ لأنها عبادة، وهو مؤتمن عليها.
ومن الضرر أيضاً أن يخشى على نفسه أو ماله إذا أخرج الزكاة، وذلك بأن يكون بين قوم من الفقراء لصوص، ولو أخرج الزكاة لقالوا: إنه ذو مال، فيسطون على بيته، ويسرقونه أو يقتلونه، وهذا ضرر يحل له أن يؤخر الزكاة حتى ييسر الله له.
ومثل ذلك إذا كان ماله غائباً، فلا يجب عليه الإخراج عنه، ولو كان عنده مال.
فإن قال قائل: هل يجوز أن يؤخرها لمصلحة وليس لضرر؟
الجواب: نعم يجوز، فمثلاً عندنا في رمضان يكثر إخراج الزكاة ويغتني الفقراء أو أكثرهم، لكن في أيام الشتاء التي لا توافق رمضان يكونون أشد حاجة، ويقل من يخرج الزكاة، فهنا يجوز تأخيرها؛ لأن في ذلك مصلحة لمن يستحقها، لكن بشرط أن يفرزها عن ماله، أو أن يكتب وثيقة يقول فيها: إن زكاته تحل في رمضان، ولكنه أخرها إلى الشتاء من أجل مصلحة الفقراء، حتى يكون ورثته على علم بذلك، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة(6/189)
عنده» (1) والزكاة مما يوصى فيه؛ لأنه حق واجب.
وأيضاً يجوز له أن يؤخر الزكاة من أجل أن يتحرى من يستحقها؛ لأن الأمانة ضاعت في وقتنا الحاضر، وحب المال ازداد فتأخير الزكاة حتى يتحرى من يستحقها جائز؛ لأن في ذلك مصلحة المستحق، والله أعلم بالنيات، فقد يتعلل بعض الناس بهذا، وهو يريد أن ينتفع بماله قبل إخراج زكاته، لكن إذا كان في نيته أن يؤخرها؛ من أجل تحري من يستحق فإن هذا لا بأس به.
والمؤلف ـ رحمه الله ـ لم يذكر جواز تأخير الزكاة لمصلحة المستحق، وإنما ذكرها صاحب الروض، وغيره من العلماء، ويجوز التأخير كذلك، إذا تعذر الإخراج لقوله: «مع إمكانه» ، كما سبق.
فصار التأخير يجوز في الحالات الآتية:
1 ـ عند تعذر الإخراج.
2 ـ عند حصول الضرر عليه بالإخراج.
3 ـ عند وجود حاجة، أو مصلحة في التأخير.
مسألة: لو أخر الزكاة عن موعدها ثم زاد ماله؛ فإن المعتبر وقت وجوبها عند تمام الحول.
فلو كانت تجب في رمضان وماله عشرة آلاف، فأخرها إلى ذي الحجة فبلغ ماله عشرين ألفاً، فلا زكاة عليه إلا في العشرة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا/ باب الوصايا (2738) ؛ ومسلم في الوصية/ باب وصية الرجل مكتوبة عنده (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(6/190)
فَإِنْ مَنَعَهَا جَحْداً لِوُجُوبِهَا كَفَرَ عَارِفٌ بالحُكْمِ.........
قوله: «فإن منعها جحداً لوجوبها كفر عارف بالحكم» .
أي: إن منع إخراج الزكاة، والفاعل يعود على صاحب المال الزكوي، والهاء مفعول به تعود على الزكاة.
وقوله: «كفر» هذا الكفر كفر اعتقاد لا كفر عمل؛ لأنه اعتقد خلاف ما دل عليه الشرع، وكذب الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فإذا انضم إلى الجحد منع، صار أشد وأعظم لأنه كفر بالاعتقاد، وفسق بالعمل.
علة ذلك ـ أي: الحكم بكفره ـ ليس لمنعها، وإنما لجحد كونها فريضة، وأما إذا منعها بخلاً، أو تهاوناً، فسيأتي في كلام المصنف، وعلى هذا فيكون قول المؤلف: «إِنْ مَنَعَهَا جَحْداً لِوُجُوبِها» تصويراً لا تأصيلاً؛ فليس من شرط القول بكفر جاحدها أن يمنعها بل الشرط جحد وجوبها؛ فلو أدّاها وهو جاحد وجوبها فإنه يكفر.
وقوله: «جحداً» مفعول لأجله وهو سابق على الفعل؛ لأن المفعول لأجله إما أن يكون سابقاً للفعل، أو مقارناً له، أو يكون لاَحِقاً له، فهذا الجحد سابق للفعل أو مقارن له، ومعنى سابق أن يقول: ليس علي زكاة، وهي غير مفروضة، ومعنى مقارن أن يجحد الزكاة حين المنع، فإن منعها على هذا الوجه «كفر عارف بالحكم» أي: أنه يكفر إذا جحد الزكاة وهو يعلم أنها واجبة، وذلك لأن وجوب الزكاة مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، فكل مسلم يعلم أن الزكاة واجبة، فإذا جحد ذلك كفر.
وهنا قيد المؤلف ـ رحمه الله ـ الكفر بأن يكون عارفاً(6/191)
بالحكم، فعلم من كلامه أنه لو جحد وجوبها جاهلاً فإنه لا يكفر؛ لأن الجهل عذر بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين في الجملة؛ أي: ليس في كل الصور.
وذلك لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ... } إلى قوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 163 ـ 165] فدل هذا على أنه لو لم يرسل رسلاً إلى الخلق فلهم حجة على الله؛ لأنهم معذورون، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ *} [القصص] ، وقال الله تعالى عن قريش: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى *} [طه] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (1) ، والنصوص الدالة على أن الجهل عذر كثيرة جداً.
ولكن هل تقبل دعوى الجهل من كل أحد؟
الجواب؛ لا، فإن من عاش بين المسلمين، وجحد الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، وقال: لا أعلم، فلا
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الطلاق/ باب طلاق المكره والناسي (2043) عن أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه عن ابن عباس (2045) بلفظ وضع، وصححه ابن حبان (7219) .(6/192)
يقبل قوله؛ لأن هذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ إذ يعرفه العالم والعامي، لكن لو كان حديث عهد بالإسلام، أو كان ناشئاً ببادية بعيدة عن القرى والمدن، فيقبل منه دعوى الجهل ولا يكفر، ولكن نعلمه فإذا أصر بعد التَّبيين حكمنا بكفره، وهذه المسألة ـ أعني مسألة العذر بالجهل ـ مسألة عظيمة شائكة، وهي من أعظم المسائل تحقيقاً وتصويراً.
فمن الناس من أطلق وقال: لا يعذر بالجهل في أصول الدين كالتوحيد، فلو وجدنا مسلماً في بعض القرى أو البوادي النائية يعبد قبراً أو ولياً، ويقول: إنه مسلم، وإنه وجد آباءه على هذا ولم يعلم بأنه شرك فلا يعذر.
والصحيح أنه لا يكفر؛ لأن أول شيء جاءت به الرسل هو التوحيد، ومع ذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] فلا بد أن يكون الإنسان ظالماً، وإلا فلا يستحق العذاب.
على أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع أنكره شيخ الإسلام، وهذا التقسيم لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة في آخر القرن الثالث، وقال شيخ الإسلام: كيف نقول: إن الصلاة من الفروع؟! ـ لأن الذين يقسمون الدين إلى أصول وفروع يجعلون الصلاة من الفروع ـ وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وكذا الزكاة، والصوم، والحج، كيف يقال: إنها من الفروع؟!
ولكن قد لا يعذر الإنسان بالجهل، وذلك إذا كان بإمكانه(6/193)
أن يتعلم ولم يفعل، مع قيام الشبهة عنده، كرجل قيل له: هذا محرم، وكان يعتقد الحل، فسوف تكون عنده شبهة على الأقل، فعندئذٍ يلزمه أن يتعلم ليصل إلى الحكم بيقين.
فهذا ربما لا نعذره بجهله؛ لأنه فرط في التعليم، والتفريط يسقط العذر، لكن من كان جاهلاً، ولم يكن عنده أي شبهة، ويعتقد أن ما هو عليه حق، أو يقول هذا على أنه الحق، فهذا لا شك أنه لا يريد المخالفة ولم يرد المعصية والكفر، فلا يمكن أن نكفره حتى ولو كان جاهلاً بأصل من أصول الدين، فالإيمان بالزكاة وفرضيتها أصل من أصول الدين، ومع ذلك لا يكفر الجاهل.
وبناءً على هذا يتبين حال كثير من المسلمين في بعض الأقطار الإسلامية الذين يستغيثون بالأموات، وهم لا يعلمون أن هذا حرام، بل قد لُبِّس عليهم أن هذا مِمَّا يقرب إلى الله، وأن هذا وليٌّ لله وما أشبه ذلك، وهم معتنقون للإسلام، وغيورون عليه، ويعتقدون أن ما يفعلونه من الإسلام، ولم يأت أحد ينبههم، فهؤلاء معذورون، لا يؤاخذون مؤاخذة المعاند الذي قال له العلماء: هذا شرك، فيقول: هذا ما وجدت عليه آبائي وأجدادي، فإن حكم هذا الأخير حكم من قال الله تعالى فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] .
فإن قيل: كيف يعذر هؤلاء ولم يعذر أهل الفترة، فقد قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «أبي وأبوك في النار» (1) ؟ فيقال: أهل الفترة ليس لنا
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان/ باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار (203) عن أنس رضي الله عنه.(6/194)
أن نتجاوز ما جاءت به النصوص، ولولا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: إن أباه في النار، لكان مقتضى القاعدة الشرعية أنه لا يعذب، وأن يكون أمره إلى الله، كسائر أصحاب الفترة، فإن القول الراجح أن أصحاب الفترة يمتحنون يوم القيامة بما شاء الله، أما هؤلاء فإنهم يعتقدون أنهم على الإسلام ولم يأتهم من يعلمهم، بل قد يكون عندهم من علماء الضلالة من يقول: إنَّ ما هم عليه هو الحق.
إذاً لا بد أن يكون الجاحد لوجوب الزكاة عارفاً بالحكم، فإن جحدها وهو عارف بالحكم صار كافراً، وإن كان جاهلاً وعلمناه وبينا له النصوص وأصر على ما هو عليه، فحينئذٍ يكون كافراً؛ لأنه عالم بالحكم.
وعلى هذا يتبين لنا أنه لا يشترط الإقرار بالحكم، فإذا بلغه الحكم على وجه واضح بين، فقد قامت عليه الحجة سواء أقر أم أنكر، حتى ولو أنكر فإن ذلك لا ينفعه، ولا يرفع عنه الحكم؛ وإلا لكان فرعون ـ الذي أنكر رسالة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع إقراره بها في باطن نفسه ـ مؤمناً محقاً، ولكنه ليس كذلك، فالشرط هو بلوغ الحجة على وجه يتبين به الأمر، فإذا بلغ الإنسان ذلك، فإن إقراره بها ليس بشرط، فيحكم بكفره ولو لم يقر بها.
وإذا أخبرناه فأصر على أنها ليست واجبة، ولكنه يخرجها على أنها تطوع، فإنه يكفر وعلى هذا فإن قول المؤلف: «ومن منعها جحداً لوجوبها» ليس قيداً في الحكم؛ لأن المدار على الجحود، فإذا جحد الوجوب وهو عارف بالحكم، كفر سواء أخرجها أم لم يخرجها.(6/195)
وقد قيل للإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: إن فلاناً يقول في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} : «إن ذلك فيمن استحل قتل المؤمن» ، فتبسم الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقال: «إذا استحل قتل المؤمن فهو كافر، سواء قتله، أم لم يقتله» !! فتبقى الآية لا فائدة منها؛ لأن الآية علقت الحكم على وصف دون هذا الوصف الذي ذكره هذا القائل وهو الجحود.
والذين قالوا: إن النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة محمولة على من تركها جحداً لوجوبها، نقول لهم: إن الذي جحد وجوب الصلاة كافر ولو صلى، فلم تعتبرون وصفاً لم يشر إليه الدليل، وتتركون وصفاً علق عليه الحكم؟ فهذه جناية على النص من وجهين هما:
الأول: إلغاء ما اعتبره الشرع وصفاً موجباً للحكم.
الثاني: استحداث وصف لم يكن في النص.
وهذا البلاء يأتي كثيراً من العلماء؛ لأنهم اعتقدوا قبل أن يستدلوا فحاولوا ليَّ أعناق النصوص إلى ما يعتقدون، أو يكون المستدل قد استعظم الأمر كيف يكفر تارك الصلاة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويؤمن باليوم الآخر، فيحاول أن يُحَرِّفَ النصوصَ من أجل استعظامه أن يكفر.
وَأُخِذَتْ منه وقُتِلَ.........
قوله: «وأخذت منه وقتل» أي: من منع الزكاة جحداً لوجوبها فإنها تؤخذ منه، وتعطى لأهلها، ويقتل؛ لردته.
وهنا يرد سؤال وهو كيف تؤخذ منه، وقد حكمنا بكفره،(6/196)
وهي لا تقبل منه؛ لقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 54] ، وأيضاً هل يكون ماله لبيت المال؟
الجواب: تؤخذ منه؛ لأنها وجبت عليه، وتعلق بها حق الغير، وهم أهل الزكاة.
ولا تدخل الزكاة بيت المال؛ لأن الأخص وهو مال الزكاة، لا يدخل في الأعم وهو بيت المال؛ لأنها ربما تصرف في المصالح العامة، مثل: بناء المساجد، وإصلاح الطرق، وهذا لا يصح أن تصرف الزكاة فيه، ويكون باقي ماله في بيت المال؛ لأن المرتد لا يورث.
قوله: «وقتل» أي: قتل لردته فلا يصلى عليه، وإذا تاب قبلت توبته ولم يقتل، ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بدل دينه فاقتلوه» (1) .
وظاهر كلام المؤلف أنه يقتل ولا يستتاب، وهذا الظاهر قد يكون مراداً، وقد يكون غير مراد، وأن المراد بيان الحكم بقطع النظر عن شروطه.
واختلف العلماء هل كل كفر يستتاب منه أم لا؟ وهل الاستتابة واجبة أو راجعة للإمام؟
والصواب أنها ليست واجبة، وأنها راجعة للإمام، ووجود مصلحة في استتابته، ككون المرتد زعيماً في قومه، ولو أنه عاد
__________
(1) أخرجه البخاري في استتابة المرتدين/ باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6922) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/197)
إلى الإسلام لنفع الله به، فهذا يجب أن يستتيبه الإمام، ولو رأى الإمام أن قتله خير من بقائه لنفسه ولغيره؛ لأن طول عمر الكافر زيادة في إثمه، قال الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ *} [آل عمران: 178] فهذا لا يحتاج إلى استتابته؛ بل يقتله بدونها.
والقول الراجح أن التوبة مقبولة من كل ذنب حتى من سب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن من سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم تقبل توبته ويقتل، ومن سب الله تقبل توبته لو تاب ولا يقتل؛ لأن حق الله لله، وقد بين سبحانه أنه يغفر الذنوب جميعاً، أما سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم فحق له، وقتل الساب حق لآدمي، ولا ندري هل يعفو الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمن سبه أم لا؟ ولكن إذا تاب وقتلناه فإنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدعى له بالمغفرة، ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنَّ قتله حصل به أداء الحق إلى أهله وقد تاب إلى الله.
أو بُخْلاً أخِذَتْ مِنهُ وَعُزِّرَ............
قوله: «أو بخلاً» أي منع الزكاة بخلاً، والبخل منع ما يجب، والشح الطمع فيما ليس عنده.
فالبخيل ممسك، والشحيح مقتطع، يريد أن تكون أموال الناس جميعاً عنده.
قوله: «أخذت منه وعزر» أي: أخذت الزكاة ممن منعها بخلاً، وأدِّبَ.
وقوله: «أخذت» فعل مبني للمجهول والآخذ هو من له حق الأخذ، وهو الذي يلزم الناس بالشرع، والسلطان هو الذي له الحق، ولذلك فإنه يأخذها من البخيل قهراً ويعزره.(6/198)
والتعزير يطلق على معان عدة، منها: التوقير، والنصرة؛ لقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] .
ومنها التأديب كما هو مراد المؤلف، وسمي التأديب تعزيراً مع أن أصل التعزير النصرة، لأن فيه نصرة للإنسان على نفسه؛ لأنه إذا أدب استقام وانتصر على نفسه، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» قالوا: يا رسول الله هذا المظلوم فكيف ننصره ظالماً؟ قال: «تمنعه من الظلم فذاك نصره» (1) فهذا الذي أدبناه يكون تعزيره نصراً في الواقع، لأننا نصرناه على نفسه؛ إذ إن هذا سيردعه عما كان عليه.
مسألة: هل إذا أخذت الزكاة من البخيل تبرأ بها ذمته؟
الجواب: أما ظاهراً فإنها تبرأ بها ذمته فلا نطالبه بها مرة ثانية، وأما باطناً فإنها لا تبرأ ذمته، ولا تجزئه؛ لأنه لم ينو بها التقرب إلى الله، وإبراء ذمته من حق الله، ولذلك فإنه يعاقب على ذلك معاقبة من لم تؤخذ منه؛ لأنها أخرجت بغير اختيار منه، فإذا تاب من ذلك فإن من توبته أن يخرجها مرة ثانية.
ولم يبين المؤلف كيف يعزر؟ بالضرب أم بالحبس أم بالتوبيخ أمام الناس، أم بغير ذلك من وسائل التأديب؟
فقيل: المقصود بالتعزير التأديب، فما يحصل به التأديب هو الواجب، ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يعزر بالمال وهو البخيل، ومنهم من يعزر بالضرب، ومنهم من يعزر بالتوبيخ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإكراه/ باب يمين الرجل لصاحبه ... (6952) عن أنس رضي الله عنه.(6/199)
أمام الناس، أو بالفصل من الوظيفة، ولذلك فإن التعزير لا يرتبط بعقوبة معينة؛ لأن المراد منه الإصلاح والتأديب، وهذا يختلف باختلاف الناس، ولهذا أطلق المؤلف التعزير، فقد يقترف رجلان ذنباً واحداً، أحدهما نعزره بالمال، والآخر بالضرب.
والصحيح أنه يعزر بما ورد في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيمن منعها: «إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» (1) .
ولا شك أن الشرع إذا عين نوعاً من العقوبة، ولو بالتعزير فهي خير مما يفرضه السلطان، فنأخذها وشطر ماله.
وشطر المال أي: نصفه.
ولكن هل هو شطر ماله عموماً أو شطر ماله الذي منع منه زكاته؟
الجواب: في هذا قولان للعلماء:
الأول: أننا نأخذ الزكاة ونصف ماله الذي منع زكاته.
الثاني: أننا نأخذ الزكاة ونصف ماله كله.
مثال ذلك: إذا كان عند رجل مائة من الإبل ومائة من الغنم، ومنع زكاة الغنم.
فعلى القول الأول: نأخذ منه خمسين من الغنم، وزكاة الغنم.
وعلى القول الثاني: نأخذ منه خمسين من الغنم، وخمسين
__________
(1) أخرجه أحمد (5/2، 4) وأبو داود في الزكاة/باب زكاة السائمة (1575) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب عقوبة مانع الزكاة (5/17) ، وصححه ابن خزيمة (2266) والحاكم (1/397، 398) .(6/200)
من الإبل وزكاة الغنم؛ لأن المراد المال كله، والنص محتمل.
فإذا كان محتملاً، فالظاهر أننا نأخذ بأيسر الاحتمالين؛ لأن ما زاد على الأيسر فمشكوك فيه، والأصل احترام مال المسلم.
ولكن إذا انهمك الناس وتمردوا في ذلك ومنعوا الزكاة، ورأى ولي الأمر أن يأخذ بالاحتمال الآخر فيأخذ الزكاة ونصف المال كله فله ذلك.
ودليل ذلك تضعيف عمر ـ رضي الله عنه ـ عقوبة شارب الخمر حيث زاد فيها إلى أخف الحدود، وهو ثمانون جلدة (1) .
وَتَجِبُ فِي مَالِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ........
قوله: «وتجب في مال صبي ومجنون» .
تجب: الضمير يعود على الزكاة.
وقوله: «في مال صبي ومجنون» سبقت الإشارة إليه حيث ذكرنا في شروط وجوب الزكاة الإسلام، ولم نشترط البلوغ والعقل، وذلك لأنها واجبة في المال.
فهي من جهة كونها عبادة تكليفية يرجح فيها جانب السقوط، ولذلك قال بعض العلماء: إنها لا تجب في مال الصبي والمجنون؛ لأنهما غير مكلفين، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة منهم: الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق» (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الحدود/ باب حد الخمر (1706) عن أنس رضي الله عنه وأخرجه البخاري في الحدود/ باب الضرب بالجريد والنعال (6779) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه بمعناه.
(2) أخرجه أبو داود في الحدود/ باب في المجنون يسرق ... (4398) ، والنسائي في الطلاق/ باب من لا يقع طلاقه ... (6/156) ؛ والترمذي في أبواب الحدود/ باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد (1423) عن علي رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1003) وابن حبان (143) .(6/201)
ولكن القول الصحيح والراجح أنها واجبة في المال، وأنها تجب في مال الصبي والمجنون، كما يجب عليهما ضمان ما أتلفاه؛ لأنه حق آدمي، ولو أفسدا عبادة فإنه لا يجب عليهما شيء؛ لأنها حق الله تعالى.
والزكاة فيها شائبة كونها تجب لحق الآدمي لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وفيها أيضاً شائبة أنها تجب في المال؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ *} [المعارج] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ رضي الله عنه: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» (1) .
فَيُخْرِجُهَا وَلِيُّهُمَا، وَلاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلاَّ بِنِيَّةٍ...........
قوله: «فيخرجها وليهما» أي يخرج الزكاة الواجبة في مال الصبي والمجنون ولي كل منهما، فلا ينتظر بلوغ الصغير، وعقل المجنون، أما كونه لا ينتظر المجنون فهذا ظاهر؛ لأننا لا ندري متى يزول جنونه، وأما الصغير فلأن إخراج الزكاة على الفور.
وقال بعض العلماء: لا يخرجها، بل يكتبها، فإذا بلغ الصبي وعقل المجنون أو مات، وانتقل المال إلى وارثه وأخبرهم بعدم الإخراج فقد برئت ذمته، لأنه لا يأمن التبعة.
وقال بعض أهل العلم، وهو رواية عن أحمد: إن خاف من التبعة أخرج الزكاة، وإلا فلا، مثال التبعة أن يخاف أن يطالبه اليتيم بأكثر مما أخرج.
والصحيح أنه يخرج الزكاة كما قال المؤلف، لوجوب
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/202)
إخراجها على الفور، وأما مسألة التبعة فإذا طولب الولي، فالقول قوله؛ لأنه أمين.
ووليهما هو من يتولى شأنهما في المال خاصة، وهو الأب، أو وصيه إن كان ميتاً، أو وكيله إن كان حياً، وأما الأخ والأم فإنه لا ولاية لهما في مال الصبي والمجنون، على المشهور من المذهب، إلا أنهم قالوا: إذا لم يوص لأحد، فالأمر للحاكم، يولي من يشاء.
والصحيح أن وليهما من يتولى أمرهما من الأقربين من أب، أو أم، أو أخ، أو أخت، أو عم، أو خال، أو غيرهم؛ لأن هذا مقتضى الولاية، فقد يكون أبوه ميتاً ولم يوص أحداً.
قوله: «ولا يجوز إخراجها إلا بنية» أي: ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بنية ممن تجب عليه.
والدليل على ذلك أثري ونظري.
أما الأثر فقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 39] ، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) .
وأما النظر؛ فلأن إخراج المال يكون للزكاة الواجبة، والصدقة المستحبة، ويكون هدية، ويكون ضماناً لمتلف، ولا يحدد نوع الإخراج إلا النية؛ فلا بد من النية عند إخراج الزكاة، فينوي إخراجها من ماله المعين، فإذا كانت عروض تجارة نواها عروض تجارة، وإن كانت نقدية نواها نقدية، وهكذا.
__________
(1) سبق تخريجه ص (41) .(6/203)
وبناء على هذا لو أخرج رجل الزكاة عن آخر بدون توكيل فإنها لا تجزئ؛ لعدم وجود النية ممن تجب عليه.
وظاهر كلام المؤلف أنها لا تجزئ، وإن أجاز ذلك من تجب عليه الزكاة وهذا هو القول الأول.
ودليله أن النية إنما تكون ممن خوطب بها، والدافع قبل أن يُوَكَّلَ ليس أصلاً ولا فرعاً، ولذلك فإنها لا تجزئ؛ لأن النية لا بد أن تقارن الفعل.
والقول الثاني: أنه إذا أجاز ذلك من تجب عليه الزكاة، فإنها تجزئ.
ودليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الدفع لمن جاء إليه، وقال: إنه فقير (1) ، مع أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان وكيلاً في الحفظ فقط، وليس في الإعطاء، فأجازه النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولأن منع التصرف لحق الغير، فإذا أجازه ورضي فما المانع من قبوله لكن تبقى مشكلة النية، فيقال: بأن النائب قد نوى، وهذا النائب لو أذن له المالك قبل التصرف صح، فكذا إذا أذن له بعد التصرف كان صحيحاً، وهذا هو الأقرب، ولكن القول الأول هو الأحوط.
وإنما نص المصنف على النية لئلا يقول قائل: إنها كالدين لا تجب النية فيه، فلو كان عليك دين لإنسان عشرة دراهم، ثم أعطيته الدراهم، ولم تنو شيئاً كان وفاء.
__________
(1) سبق تخريجه ص (165) .(6/204)
مسألة: هل يشترط التعيين، أي: عن المال الفلاني؟ مثال ذلك عندي ألف درهم، ومائة دينار، وعروض تجارة فأخرجت عشرة دراهم بنية الزكاة، ولم أعين، ومثال آخر عندي خمس من الإبل، وأربعون شاةً فأخرجت شاة بنية الزكاة، ولم أنوها للإبل أو الغنم، فالفقهاء قالوا بالإجزاء، مع أنهم يقولون: تجب في عين المال، لكن لها تعلق بالذمة.
مسألة: لو قال قائل: إن الله تعالى يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وإذا دفعها شخص عن آخر ليرجع بها لم تؤخذ الزكاة من مال صاحبها؟
فالجواب: أن يقال: إن المقصودَ إخراجُ ما يجب، وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فهو لبيان أن الزكاة فيما يملكه الإنسان.
وَالأَْفْضَلُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ.........
قوله: «والأفضل أن يفرقها بنفسه» أي: الأفضل أن يفرق من تجب الزكاة عليه زكاة ماله بنفسه أي: يباشر ذلك، وذلك لثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن ينال أجر التعب؛ لأن تفريقها عبادة.
الوجه الثاني: أن يبرئ ذمته بيقين، فإن الوكيل قد يتهاون بعض الشيء في إعطائها من لا يستحق أو في المبادرة بصرفها، أو يتهاون فتتلف عنده، أو غير ذلك.
الوجه الثالث: أن يدفع عنه المذمة، لا سيما إذا كان غنياً مشهوراً، ولا يعرف الناس له وكيلاً فيذمونه، ويقولون: إن فلاناً لا يزكي.(6/205)
وقوله: «الأفضل» يُعلم منه أنه يجوز أن يوكل من يخرجها عنه سواء دفعها الوكيل من ماله، أو أعطاها من تجب عليه الزكاة ليخرجها.
فمثال الصورة الأولى: أن يقول من تجب عليه الزكاة لوكيله: عليّ مائة ريال مقدار زكاتي فأخرجها.
ومثال الصورة الثانية: أن يقول من تجب عليه الزكاة لوكيله: خذ هذه المائة مقدار زكاتي فأخرجها عني.
مسألة: ويجوز دفعها للساعي الذي يأتي من قبل الحكومة بشرط أن نثق أنها تصرف في مصارفها، فإن لم نثق فلا ندفعها، إلا أن نخاف رجوعهم علينا وطلبها إذا لم ندفعها لهم، فندفعها وإن غلب على ظننا أنها لا تصرف في مصارفها.
ويكون الإثم في هذه الحالة على الساعي؛ لأنه لم يصرفها في مصرفها.
وقوله: «يفرقها بنفسه» يتفرع عليه مسألتان هما:
المسألة الأولى: هل الأفضل أن يفرقها سراً أو علانية؟
الصحيح أن ينظر للمصلحة، فإذا كانت المصلحة في الإعلان أعلن، وإذا كانت في الأسرار أسر.
وإن كانت المصلحة في أن يعلن عن زكاة بعض ماله حتى يقتدي الناس به، ثم يسر في زكاة باقي ماله فليفعل؛ لأن الأصل في إخراج المال سواء كانت زكاة أو صدقة الإسرار، حتى لا يقع الإنسان في الرياء، وأنه بذلها ليقال: فلان كريم، وعليه فالمراتب ثلاث:(6/206)
الأولى: أن يترجح الإظهار كما إذا كان المقام عاماً كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاءه جماعة من مضر، فجعل الناس يتصدقون علناً وأثنى النبي صلّى الله عليه وسلّم على من ابتدأ بالصدقة، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (1) ولما فيه من تشجيع الأمة على فعل الخير.
الثانية: أن يترجح الأسرار.
الثالثة: ألا يترجح هذا ولا هذا، فالإسرار أفضل لأمرين:
1 ـ أنه أبعد عن الرياء.
2 ـ أنه أستر لحال المعطى والدليل على هذا أن الله أثنى على المتصدقين الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية.
المسألة الثانية: هل يُعلم المزكي الآخذَ أن هذه زكاة أم لا يعلمه؟
الجواب: فيه تفصيل إذا كان الآخذ معروفاً أنه من أهل الزكاة فلا يخبره؛ لأن في ذلك نوعاً من الإذلال، والتخجيل له.
وإن كان الآخذ لا يُعلَمُ أنه من أهل الزكاة فليخبره المزكي بأن هذا المال زكاة، فإذا كان ذلك الفقير لا يقبل الزكاة لأن بعض الناس عنده عفة لا يقبل الزكاة، فهنا نقول له: هذه زكاة لأنه إذا كان لا يقبلها فإنها لا تدخل ملكه؛ لأنه من شرط التملك القبول وهذا لا يقبل، ونقول لمن يريد نفع هذا الفقير العفيف:
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب الحث على الصدقة ... (1017) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.(6/207)
أعطه صدقة تطوع وأنت مأجور، أما أَنْ تدخل ملكه ما لا يريده فهذا لا يجوز.
وَيَقُولُ عِنْدَ دَفْعِهَا هُوَ وآخِذُهَا مَا وَرَدَ.........
قوله: «ويقول عند دفعها هو وآخذها ما ورد» يحتمل أن تكون «ويقول» منصوبة بالفتحة عطفاً على «يفرق» ، ويحتمل الرفع على الاستئناف، أي: يقول المزكي عند دفع زكاته، ومستحق الزكاة عند أخذ الزكاة ـ هو وآخذها ـ فيقول المزكي ما ورد من الآثار والأدعية؛ ومن ذلك:
«اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم» . وقيل: يقول: «اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» (1) وهذا الحديث ضعيف.
أما الآخذ فيقول: «اللهم صل عليك» (2) أو يدعو بما يراه مناسباً؛ وذلك لأن الله تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [براءة: 103] أي: ادع لهم، ثم علل الله سبحانه وتعالى الصلاة بقوله: {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي تسكن قلوبهم ويطمئنون ويرضون.
__________
(1) لما روى أبو هريرة مرفوعاً: «إذا أعطيتم الزكاة، فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» أخرجه ابن ماجه في الزكاة/ باب ما يقال عند إخراج الزكاة (1797) .
وقال البوصيري: «هذا إسناد ضعيف، البختري متفق على تضعيفه، والوليد مدلس» .
(2) لما روى ابن أبي أوفى قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صلِّ على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صلِّ على أبي أوفى» .
أخرجه البخاري في الزكاة/ باب صلاة الإمام ... (1497) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب الدعاء لمن أتى بصدقة (1078) .(6/208)
وَالأَْفْضَلُ إخْرَاجُ زَكَاةِ كُلِّ مَالٍ فِي فُقَرَاءِ بَلَدِهِ وَلاَ يَجُوزُ نَقْلُهَا إِلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ..........
قوله: «والأفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده» وذلك لوجوه:
أولاً: أنه أيسر للمكلف؛ لأن في نقلها من بلد إلى آخر مشقة وكلفة.
ثانياً: أنه أكثر أماناً؛ لأن في السفر عرضة لتلفها.
ثالثاً: أن أهل البلد أقرب الناس إليك، والقريب له حق، الأقربون أولى بالمعروف.
رابعاً: أن فقراء بلدك تتعلق أطماعهم بما عندك من المال، بخلاف الأبعدين، فربما لا يعرفون عنك شيئاً.
خامساً: أنك إذا أعطيت أهل بلدك، يغرس بينك وبينهم بذرة المودة والمحبة، وهذا له أثر كبير للتعاون فيما بين أهل البلد.
وقوله: «في فقراء بلده» ليس على سبيل التعيين بل وغيرهم من المستحقين للزكاة.
وقوله: «الأفضل» يدل على أنَّ إخراجها في غير فقراء بلده جائز، ولكنه مفضول.
وهنا يجب أن تعلم أنه إذا كان الفقراء خارج بلدك أحوج، أو كانوا أقارب فهم أولى، لكن يجب أن تعلم أيضاً أن هذا إذا كان البلد قريباً لا يسمى السَّيْرُ إليه سفراً، أما إذا كان بعيداً فقد قال فيه المؤلف:
«ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة» أي: لا يجوز أن(6/209)
تنقلها إلى بلد بينه وبينك مسافة قصر، وهي على المذهب ثلاثة وثمانون كيلو متراً تقريباً، فالبلد الذي بينك وبينه هذه المسافة لا يجوز أن تنقل زكاة مالك إليه، ولو كان الفقراء فيه أشد حاجة ما دام في بلدك من يستحق الزكاة.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجوز ولو لمصلحة، أو شدة ضرورة، أو ما أشبه ذلك.
فتبين بذلك أن هناك ثلاثة مواضع:
أولاً: بلدك، وهذا هو الأصل، وهو الأفضل بالنسبة لإخراج الزكاة.
ثانياً: البلد القريب من بلدك، وهذا جائز، لكنه مفضول ما لم يترجح لمصلحة أخرى.
ثالثاً: البلد البعيد الذي فوق مسافة القصر، فهذا لا يجوز.
وهذا الأخير ليس فيه دليل واضح فإنهم استدلوا بحديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن وقال له: «أعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» (1) والإضافة تقتضي التخصيص؛ أي: فقراء أهل اليمن؛ ولأن الأطماع تتعلق بهذا المال.
وقال بعض العلماء: يجوز نقلها إلى البلد البعيد والقريب للحاجة أو للمصلحة.
فالحاجة مثل ما لو كان البلد البعيد أهله أشدُّ فقراً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .(6/210)
والمصلحة مثل أن يكون لصاحب الزكاة أقارب فقراء في بلد بعيد يساوون فقراء بلده في الحاجة، فإن دفعها إلى أقاربه حصلت المصلحة وهي صدقة وصلة رحم.
أو يكون ـ مثلاً ـ في بلد بعيد طلاب علم حاجتهم مساوية لحاجة فقراء بلده.
وهذا القول هو الصحيح وهو الذي عليه العمل؛ لعموم الدليل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] أي: للفقراء والمساكين في كل مكان.
أما إضافة الضمير «هم» في حديث معاذ فيحتمل أن تكون للجنس؛ أي: فقراء المسلمين، كما هي في قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ... } إلى أن قال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] ، ويحتمل أن تكون للتعيين والتخصيص، لكن نظراً لأن نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ـ مثلاً ـ فيه شيء من الصعوبة والمشقة فصار توزيعها في اليمن أرفق وأنفع، وأيضاً ما الدليل على التفريق بين مسافة القصر وغيرها، ما دمت نقلتها عن بلد تتعلق فيها الأطماع؟
فإن قالوا: إن ما دون مسافة القصر في حكم الحاضر، فيقال: هذا في حكم الصلاة.
مسألة: حكم زكاة الفطر حكم زكاة المال بالنسبة للنقل إذا كان هناك حاجة أو مصلحة.
مسألة: قبض عمال الإمام للزكاة من أهلها ونقلهم لها إلى بلد آخر، لا بأس به؛ لأنها قبضت في بلد المزكي، والإمام نائب عن الفقراء.(6/211)
فَإِنْ فَعَلَ أجزَأت، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لاَ فُقَرَاءَ فِيهِ فَيُفَرِّقُهَا فِي أقْرَبِ البِلاد إِليهِ........
قوله: «فإن فعل أجزأت» أي: إن نقلها إلى مسافة القصر فأكثر أجزأت، ولكنه يأثم.
فإذا قال قائل: القاعدة عندنا أن المحرم لا يجزئ.
فنقول: التحريم هنا ليس عائداً على الدفع، بل عائد على النقل وإلا فقد دفعت إلى أهلها فتجزئ، ويكون آثماً للنقل.
والتحريم الذي يقتضي الفساد هو ما عاد على عين الشيء مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد العصر» (1) فإن صلى فلا تصح صلاته إلا ما استثني، فهناك فرق بين أن يتعلق التحريم بنفس العبادة، وأن يتعلق بأمر خارج عنها.
قوله: «إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه فيفرقها في أقرب البلاد إليه» هذا مستثنى من قوله: «ولا يجوز نقلها إلى ما تقصر فيه الصلاة» .
والضمير في قوله: «إلا أن يكون» يعود إلى «المال» بدليل قوله: «والأفضل إخراج زكاة كل مال» ، يعني إلا أن يكون المال في بلد لا فقراء فيه.
وقوله: «لا فقراء» هذا مبني على الأغلب، والعبارة العامة أن يقول: إلا أن يكون في بلد لا مستحق للزكاة فيه، من أجل أن يشمل جميع الأصناف؛ لأنه قد لا يكون فيه فقراء، ويكون فيه مستحق بغير الفقر.
__________
(1) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة/ باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس (586) ومسلم في الصلاة/ باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها (827) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(6/212)
وقوله: «فيفرقها» : بالرفع؛ لأن الفاء هنا استئنافية، وليست عاطفة، والمراد به من عليه الزكاة.
وقوله: «في أقرب البلاد إليه» : وجه ذلك أنه عدم المستحق في الموضع الذي يجب فيه دفع الزكاة فسقط الوجوب فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه؛ لأن الأقربين أحق من الأباعد، وكما لو قطعت الكف فإنه يسقط السجود عليه في حال الصلاة؛ لأن المحل الذي يجب السجود عليه قد زال، ويحتمل أن نقول: يجب عليه أن يضع طرف الذراع على الأرض؛ لأن المقصود هو الخضوع لله عزّ وجل.
وظاهر قول المؤلف: «يفرقها في أقرب البلاد إليه» وجوب ذلك، وهذا الذي مشى عليه الأصحاب.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا تعذر في بلده فإنه يفرقها حيث شاء؛ لأنه سقط الأصل، وإذا سقط الأصل لم يتعين شيء، ولأن أهل البلد أغنياء لا تتعلق أطماعهم بالمال، وغير أهل البلد لا يعلمون عنه شيئاً، ونظير ذلك أن المرأة المحد يلزمها البقاء في بيتها، فإذا جاز لها الانتقال عن البيت لضرورة فإنها تعتد حيث شاءت، ولا يلزمها أن تعتد في أقرب بيت إلى بيتها الأول.
وقال بعضهم: تكون في أقرب بيت إلى بيتها الأول، كالزكاة إذا تعذر المكان الأصلي صرفت في أقرب بلد.
والمذهب يفرقون بين المسألتين فالحاد تعتد حيث شاءت، وفي مسألة الزكاة إذا لم يكن في البلد فقراء تفرق في أقرب البلاد، وسبق أن قلنا: إن الراجح في هذه المسألة أنه يجوز نقلها للحاجة أو للمصلحة.(6/213)
وعلم من قوله: «فيفرقها» أن مؤونة النقل على صاحب المال، لا من الزكاة، فإذا قدر أن الزكاة لا تحمل إلى هذا البلد الذي فيه الفقراء إلا بمؤونة، فلا تخصم المؤونة من الزكاة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد وجب عليه إخراج الزكاة فيجب أن يوصلها إلى مستحقيها.
فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِي آخَرَ أخْرَجَ زَكَاةَ المال فِي بَلَدِهِ، وَفِطْرَتَهَ فِي بَلَدٍ هُوَ فِيهِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ لِحَوْلَيْنِ فَأَقَلَّ،.........
قوله: «فإن كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده، وفطرته في بلد هو فيه» أي: إذا كان صاحب المال في بلد، وماله في بلد آخر، ولا سيما إذا كان المال ظاهراً كالمواشي والثمار، فإنه يخرج زكاة المال في بلد المال، ويخرج فطرة نفسه في البلد الذي هو فيه؛ لأن زكاة الفطر تتعلق بالبدن، والمال زكاته تتعلق به، فالذين يذهبون إلى العمرة في رمضان ويبقون إلى العيد الأفضل أن يؤدوا الزكاة في مكة، وكما أنه الأفضل من حيث الإخراج فهو الأفضل من حيث المكان؛ لأن مكة أفضل من كل بلد وأيضاً من حيث الأهل؛ لأن الغالب أن الفقراء في مكة أكثر وأحوج.
مثال ذلك: رجل ساكن في مكة، وأمواله التي يتجر بها في المدينة، فنقول له: أخرج زكاة المال في المدينة، وفطرتك في مكة؛ لأن زكاة المال تبع للمال، والفطرة تابعة للبدن.
قوله: «ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل» الأقل من الحولين هو حول واحد، أي: يجوز للإنسان أن يعجل الزكاة قبل(6/214)
وجوبها، لكن بشرط أن يكون عنده نصاب، فإن لم يكن عنده نصاب، وقال: سأعجل زكاة مالي؛ لأنه سيأتيني مال في المستقبل، فإنه لا يجزئ إخراجه؛ لأنه قدمها على سبب الوجوب، وهو ملك النصاب.
وهذا مبني على قاعدة ذكرها ابن رجب ـ رحمه الله ـ في القواعد الفقهية، وهي (أن تقديم الشيء على سببه ملغى، وعلى شرطه جائز) (1) .
مثال ذلك: رجل عنده (190) درهماً فقال: أريد أن أزكي عن (200) فلا يصح؛ لأنه لم يكمل النصاب فلم يوجد السبب، وتقديم الشيء على سببه لا يصح.
فإن ملك نصاباً، وقدمها قبل تمام الحول جاز؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط؛ لأن شرط الوجوب تمام الحول.
ونظير ذلك لو أن شخصاً كفر عن يمين يريد أن يحلفها قبل اليمين ثم حلف وحنث، فالكفارة لا تجزئ؛ لأنها قبل السبب، ولو حلف وكفر قبل أن يحنث أجزأت الكفارة؛ لأنه قدمها بعد السبب وقبل الشرط.
والدليل على جواز تعجيل الزكاة أثري، ونظري.
أما الأثري: فما رواه أبو عبيد في الأموال بإسناده عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعجل من العباس صدقة سنتين (2) .
__________
(1) قواعد ابن رجب ص (6) .
(2) أخرجه أبو عبيد في الأموال (1885) ؛ انظر: «التلخيص» (833) .
وأخرجه أحمد (1/104) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب في تعجيل الزكاة (1624) ؛ والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في تعجيل الزكاة (678) ؛ وابن ماجه في الزكاة/ باب تعجيل الزكاة قبل محلها (1795) ؛ والحاكم (3/332) ؛ بلفظ: «أن العباس سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك» .
وقال الحاكم: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي.(6/215)
أي: قدم زكاة سنتين، ويعضده ما ثبت في الصحيحين «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث عمر على الصدقة فرجع ومن معه فقالوا: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، أي: أبوا أن يعطوا السعاة الزكاة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله» وهذا من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح وهو أسلوب معروف ومنه قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
«وأما العباس فهي علي ومثلها» (1) .
لكن هذا الحديث هل المعنى فيه أن العباس قد عجل الصدقة سنتين، أو أن المعنى أن العباس ـ رضي الله عنه ـ لما كان ظاهرُ منْعِهِ احتماءَهُ بقرابته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يضاعف الغرم عليه، ويكون هذا مثلَ قولِهِ فيمن منع الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله» (2) ؟
الجواب: الذي يظهر لي هو الثاني؛ لأن العباس ـ رضي الله عنه ـ
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب قول الله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ} (1468) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب في تقديم الزكاة ومنعها (983) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(2) سبق تخريجه ص (200) .(6/216)
لو كان قد عجل الصدقة لقال للسعاة: إنني قد أخرجتها أو قدمتها، ولا يقولون: منع العباس، وكانت هذه السياسةُ سياسةَ عدلٍ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان من سياسته إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله، وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم ـ أي: إن الطير إذا رأى اللحم انقض عليه ـ وإني لا أعلم أن أحداً منكم عمل هذا إلا أضعفت له العقوبة، فيعاقب الناس مرة وقرابته مرتين؛ لأن هؤلاء سوف يحتمون بقرابتهم منه، وفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذا قال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] .
فالحاصل أن الذي يظهر لي: أن قوله في العباس رضي الله عنه: «هي علي ومثلها» من باب التضعيف عليه لكونه احتمى بقرابته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما حديث أبي عبيد فإن صح فهو دليل مستقل لا علاقة له بهذه القصة.
وأما الدليل النظري؛ فلأن تعجيل الزكاة من مصلحة أهل الزكاة، وتأخيرها إلى أن يتم الوجوب من باب الرفق بالمالك، وإلا وجب عليه أن يخرج زكاته من حين ملك النصاب، كما وجب عليه إخراج زكاة الزرع من حين حصاده، فإذا كان هذا من باب الرفق بالمالك، ورضي لنفسه بالأشد، فلا مانع.
وقوله: «لحولين فأقل» يفهم منه أنه لا يجوز تعجيل الزكاة لأكثر من حولين.(6/217)
وَلاَ يُسْتَحَبُّ........
قوله: «ولا يستحب» أي: لا يستحب تعجيل الزكاة؛ لأن الزكاة إنما تجب عند تمام الحول فإخراجها عند تمام الحول أرفق بالمالك؛ ولأنه ربما ينقص النصاب، أو يتلف ماله كله قبل تمام الحول، فلا تجب عليه الزكاة، فكان الأفضل ألا يعجلها.
ولكن نفي الاستحباب لا يقتضي عدم ثبوته لسبب شرعي، مثل أن تدعو الحاجة للتعجيل كمعونة مجاهدين، أو لحاجة قريب، أو ما أشبه ذلك، فهنا استحباب تعجيلها ليس لذاته، وإنما لغيره، وهو السبب الطارئ الذي صارت المصلحة في تقديم الزكاة من أجله.
مسألة: لو عجل الزكاة لعام معين ثم نقص النصاب بعد التعجيل وقبل تمام الحول، فإن ذلك يكون تطوعاً ولا يجزئه عن غيره من الأعوام؛ لأنه نواه لذلك العام.
ولو عجل الزكاة ثم زاد النصاب فإنه تجب الزكاة في الزيادة أيضاً.
مسألة: لو أجبر على دفع المكوس والضرائب فهل يدفعها بنية الزكاة؟
فيه خلاف بين العلماء:
ـ منهم من قال: يجوز أن يدفعها بنية الزكاة.
ـ وقال آخرون: لا يجوز؛ لأن هذا مما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالصبر عليه، وإذا نوى الزكاة فإنه يدفع بذلك عن ماله فلا يتحقق له الصبر، وهذا هو الأقرب.(6/218)
بَابُ أَهْلُ الزَّكَاة
قوله: «أهل الزكاة» .
الأهل بمعنى المستحق أي: المستحقين لها، واعلم أن الله بحكمته قد يعين المستحقَ وما يستحِقُّ، وقد يعين المستحِقَّ دون ما يستحِقُّ، وقد يعين ما يُسْتَحَقُّ دون من يَستَحِقُّ.
مثال الأول: الفرائض فقد عين الله المستحقين وما يستحقون، وكذلك فدية الأذى فقد عين الله المستحقين وما يستحقون «ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع» (1) .
مثال الثاني: أهل الزكاة، فقد عينهم الله، ولم يقل: أعطوا هذا كذا وكذا، أو اقسموها بين جميع الأصناف الثمانية.
مثال الثالث: الكفارات: كفارة اليمين، والظهار وما أشبه ذلك.
ثَمَانِيَةٌ: الفُقَرَاءُ، وَهُمْ: مَنْ لاَ يَجِدُونَ شَيْئاً، أوْ يَجِدُونَ بَعْضَ الكِفَايَةِ،....
قوله: «ثمانية» أي: هم ثمانية أصناف على سبيل الحصر، وجاء هذا الحصر في القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] .
وقوله: «ثمانية» يستفاد منه أنه لا يجوز أن تصرف في غيرهم، لأن الحصر يقتضي إثبات الحكم في المذكور، ونفيه
__________
(1) سبق تخريجه ص (185) .(6/219)
عمن سواه، فلا يجوز صرف الزكاة في بناء المساجد، ولا في بناء المدارس، ولا في إصلاح الطرق، ولا غير ذلك، لأن الله فرضها لهؤلاء الأصناف فقال: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .
قوله: «الفقراء، وهم من لا يجدون شيئاً أو يجدون بعض الكفاية» «الفقراء» بدأ بهم المؤلف اقتداء بابتداء الله بهم، والفقراء هنا من يجدون أقل من النصف أو لا يجدون شيئاً.
وكيف يمكن أن نعرف هذا، فالإنسان قد يقدر أن نفقته في السنة عشرة آلاف ريال، ثم تزداد الأسعار فتكون النفقة خمسة عشر ألفاً أو عشرين ألفاً؟
الجواب: أن الإنسان يقدر الكفاية العرفية حسب ما يظهر الآن، لا بحسب الواقع لأنه مستقبل والمستقبل عند الله، فإذا جد شيء فلكل حادث حديث.
ويمكن أن يقدر ذلك أيضاً براتب شهري، فإذا كان ما يتقاضاه سنوياً خمسة آلاف، وهو ينفق في السنة عشرة آلاف، فإنه في هذه الحال مسكين؛ لأنه يجد نصف نفقته، وإذا كان راتبه السنوي أربعة آلاف ومصروفه عشرة آلاف فهو فقير، فإن لم يكن عنده وظيفة أو عمل فهو فقير.
وسمي الفقير فقيراً؛ لأنه خالي اليد، وأصلها من القفر وهو مطابق للفقر في الاشتقاق الأوسط بموافقة الحروف مع اختلاف الترتيب، وهي الأرض الخالية من السكان.(6/220)
وقوله: «الكفاية» المعتبر ليس كفاية الشخص وحده، بل كفايته وكفاية من يمونه، والمعتبر، ليس فقط ما يكفيه للأكل والشرب، والسكنى، والكسوة، فحسب، بل يشمل حتى الإعفاف، أي: النكاح، فلو فرض أن الإنسان محتاج إلى الزواج، وعنده ما يكفيه لأكله، وشربه، وكسوته، وسكنه، لكن ليس عنده ما يكفيه للمهر، فإننا نعطيه ما يتزوج به ولو كان كثيراً.
وإذا كان رجل عنده ما يكفيه، لأكله، وشربه، وسكنه، وكسوته، ولكنه طالب علم يحتاج إلى كتب تشترى له، فإننا نعطيه ما يحتاج إليه فقط من الكتب؛ لأنه إذا كان يعطى لغذائه البدني، فيعطى أيضاً لغذائه الروحي والقلبي، ولكن لا يعطى ليؤثث مكتبة كبيرة، بل لسد حاجته في طلب العلم فقط.
ولو أن عنده ما يكفيه للأكل، والشرب، والسكن، والنكاح، لكنه يحتاج إلى سيارة فإننا ندفع له أجرة يكتري بها سيارة، ولا نشتريها له؛ لأننا إذا اشتريناها له اشتريناها بثمن كثير، وهذا الثمن يمكن أن نعطيه فقيراً آخر.
مسائل:
الأولى: أن الفقير يعطى كفايته إلى نهاية العام؛ لأن الزكاة تتجدد كل سنة، ولو قيل: إنه يعطى إلى أن يصبح غنياً ويزول عنه وصف الفقر لكان قولاً قوياً، وكذلك القول في المسكين.
الثانية: نص الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ على أن من عنده عقار يتضرر لو باعه ويستغل منه أدنى من كفايته، فإنه يعطى(6/221)
كفايته، ولا يلزم ببيعه؛ لأن زكاة الناس لن تدوم له كل سنة.
وذكر في «الروض» (1) مسألة مهمة وهي:
رجل قادر على التكسب، لكن ليس عنده مال، ويريد أن يتفرغ عن العمل لطلب العلم، فهذا يعطى من الزكاة لنفقته؛ لأن طلب العلم نوع من الجهاد في سبيل الله، هكذا قال الفقهاء هنا، وقالوا: إذا تفرغ قادر على التكسب للعلم فإنه يعطى؛ لأن طلب العلم نوع من الجهاد في سبيل الله.
وهذا يؤيد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من جواز أخذ الرهان في العلم أي: تعايا رجلان في مسألة، فقال أحدهما: سنجعل جعلاً للمصيب؛ فإن أصبت أنا أعطني مائة، وإن أصبت أنت أعطيتك مائة.
فالمشهور عند الفقهاء أنه لا يجوز، وأنه لا يجوز السبق إلا في ثلاثة أشياء: الإبل، والخيل، والسهام، ولكن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قال: ويجوز أيضاً في طلب العلم؛ لأن العلم من أنواع الجهاد، وقد جعله الله قسيماً للجهاد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ *} [التوبة] : والصحيح ما قاله شيخ الإسلام.
مسألة: لو أن رجلاً يستطيع العمل، ولكنه يحب العبادة
__________
(1) الروض مع حاشية ابن قاسم (3/310) .(6/222)
يحب أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن يقوم ثلث الليل وأن يتعبد بالصلاة فهذا لا نعطيه؛ لأن العبادة نفعها قاصر على المتعبد، بخلاف العلم، ولهذا يقال: إن موت عالم أحب إلى الشيطان من موت ألف عابد، وذلك أنه يقال: إن جنود الشيطان قالوا له: لماذا تفرح بموت العالم، ولا تفرح بموت العابد؟ قال: سأريكم، فأرسل إلى العابد وسأله هل يقدر الله أن يجعل السماوات والأرضين في بيضة؟ فقال العابد: لا يقدر.
وأرسل إلى العالم وسأله نفس السؤال، فقال العالم: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون.
وَالْمَسَاكِينُ: يَجِدُونَ أكْثَرَهَا أوْ نِصْفَهَا،.........
قوله: «المساكين» جمع مسكين، ووصفوا بهذا الوصف؛ لأن الفقر أسكنهم أي: أذلهم، وهذا لا يقتضي الخلو، بل يقتضي أن الحاجة أسكنته، والغالب أن الغني يكون له عزة، وحركة، بخلاف المسكين فإنه قد أسكنه الفقر، فأذله، فلا يتكلم، ولا يرى لنفسه حظاً.
قوله: «يجدون» يحسن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير «هم يجدون» ، ولنا أن نقول: «المساكين» مبتدأ و «يجدون» خبر، ولكن يعارض هذا أن «المساكين» خبر لمبتدأ مقدر، وهو «الثاني المساكين» .
قوله: «أكثرها» أي: أكثر الكفاية.
قوله: «نصفها» أي: نصف الكفاية، أما الذي يجدها كلها فهو غني ليس له حق في الزكاة.
مسألة: الفقراء أكثر حاجة من المساكين، ويمكن أن يؤخذ(6/223)
ذلك من أن الله بدأ بهم في الآية وإنما يُبدأ بالأهم فالأهم، ويؤخذ أيضاً من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين دنا من الصفا: «أبدأ بما بدأ الله به» (1) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] وفي هذا دلالة على أن الواو قد تقتضي الترتيب لا باعتبار ذاتها ولكن بتقديم المعطوف عليه ما يدل على أنه أولى.
وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ جُبَاتُهَا وَحُفَّاظُهَا.........
قوله: «والعاملون عليها» هنا قال: «العاملون عليها» ولم يقل: العاملون فيها، أو العاملون بها.
فالعامل مشتق يتعدى بالباء، ويتعدى بعلى، ويتعدى بفي.
ولنضرب أمثلة يتضح بها الفرق:
فمثلاً: شخص قيل له: اتجر بهذه الدراهم، ولك نصف الربح، فهذا عامل بها.
مثال ثانٍ: شخص استؤجر لتنظيف البيت فهذا عامل فيه.
مثال ثالث: شخص وكلناه لتأجير هذا البيت، والنظر فيه، وفعل ما يصلحه، فهذا عامل عليه.
فالعاملون عليها هم الذين تولوا عليها، فالعمل هنا عمل ولاية، وليس عمل مصلحة أي: الذين لهم ولاية عليها، ينصبهم ولي الأمر.
وهم الذين ترسلهم الحكومة لجمع الزكاة من أهلها، وصرفها لمستحقيها، فهم ولاة وليسوا أجراء، وإنما قلت هذا لأجل أن يفهم أن من أعطي زكاة ليوزعها فليس من العاملين
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج/ باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم (1218) عن جابر رضي الله عنه.(6/224)
عليها بل هو وكيل عليها أو بأجرة؛ ولهذا فإن الزكاة إذا تلفت عند العاملين عليها فإن ذمة المزكي بريئة منها، وأما إذا تلفت عند الموكل في التوزيع فلا تبرأ ذمة الدافع.
والمؤلف ـ رحمه الله ـ أطلق، فقال: «العاملون عليها» كما جاء في القرآن، فلا يشترط أن يكونوا فقراء، بل يعطون ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم يعملون لمصلحة الزكاة، فهم يعملون للحاجة إليهم، لا لحاجتهم، فإذا انضم لذلك أنهم فقراء، ونصيبهم من العمالة لا يكفي لمؤونتهم ومؤونة عيالهم، فإنهم يأخذون بالسببين، أي: يعطون للعمالة، ويعطون للفقر.
قوله: «وهم جباتها وحفاظها» وكذلك الموكلون بقسمتها؛ لأنهم كلهم يعملون عليها.
والجباة: جمع جابٍ، وهم الذين يأخذونها من أهلها.
والحفاظ: الذين يقومون على حفظها.
والقاسمون لها: الذين يقسمونها في أهلها.
فالزكاة تحتاج إلى ثلاثة أشياء: جباية، وحفظ، وتقسيم، فالذين يشتغلون في هذه هم العاملون عليها.
أما الرعاة فهم من العاملين فيها، وليسوا من العاملين عليها، ولذلك لا يعطون على أنهم من أهل الزكاة، ولكن يعطون من الزكاة بكونهم أجراء.
مسألة: ما قدر ما يعطى العامل عليها؟
قال أهل العلم: يعطى الأقل من أجرته أو كفايته، والصحيح أنه يعطى قدر الأجرة مطلقاً؛ لأنه يعطى للحاجة إليه فيستحق قدر(6/225)
الأجرة مطلقاً، فإن كانت قدر كفايته فقد كفته وإن كانت أقل من كفايته أخذ للعمالة وأعطي لفقره.
الرابع المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم، مِمَّنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، أَوْ كَفُّ شَرِّهِ، أَوْ يُرجَى بِعَطِيَّتِهِ قُوَّةُ إِيمَانِهِ........
قوله: «الرابع المؤلفة قلوبهم» «المؤلفة» اسم مفعول، و «قلوب» نائب فاعل؛ لأن اسم المفعول بمنزلة الفعل المبني للمجهول، أي: الذين يعطون لتأليف قلوبهم.
قوله: «ممن يرجى إسلامه، أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه» فهم الذين يطلب تأليف قلوبهم على هذه الأمور المذكورة وهي:
الأول: الإسلام؛ بحيث يكون كافراً، لكن يرجى إسلامه إذا أعطي من الزكاة، فيعطى من الزكاة؛ لأن هذا فيه حياة قلبه، وحياته في الدنيا والآخرة، فإذا كان الفقير يعطى منها لإحياء بدنه، فإعطاء الكافر الذي يرجى إسلامه من باب أولى، ولو كان غنياً.
وعلم من قوله: «يرجى إسلامه» ، أن من لا يرجى إسلامه من الكفار فإنه لا يعطى أملاً في إسلامه، بل لا بد أن تكون هناك قرائن توجب لنا رجاء إسلامه، مثل أن نعرف أنه يميل إلى المسلمين، أو أنه يطلب كتباً أو ما أشبه ذلك، والرجاء لا يكون إلا على أساس؛ لأن الراجي للشيء بلا أساس إنما هو متخيل في نفسه.
الثاني: أن يرجى كف شره، بأن يكون شريراً على المسلمين وعلى أموالهم، وأعراضهم، كقطع الطريق أو التحريض(6/226)
عليهم أو إفساد ذات البين وما أشبه ذلك، فيعطى لكف شره، فإن استطعنا كف شره بالقوة فلا حاجة إلى إعطائه.
الثالث: أن يرجى بعطيته قوة إيمانه بحيث يكون رجلاً ضعيف الإيمان عنده تهاون في الصلاة، وفي الصدقة، وفي الزكاة، وفي الحج، وفي الصيام، ونحو ذلك.
والعلة أنه إذا كان يعطى لحفظ البدن وحياته، فإعطاؤه لحفظ الدين وحياته من باب أولى.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، والمذهب أنه يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته.
1 ـ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما أعطى المؤلفة قلوبهم إنما أعطى الكبراء والوجهاء في عشائرهم وقبائلهم ولم يعط عامة الناس.
2 ـ ولأن الواحد من عامة الناس لا يضر المسلمين عدم إيمانه أو ضعف إيمانه، ولا يضر المسلمين شره؛ لأنه من الممكن أن نحبسه أو نضربه أو نقيم الحد عليه، بخلاف الكبراء والوجهاء فإنه قد يتعذر ذلك في حقهم، فيعطون من الزكاة لتأليف قلوبهم.
وهذا ظاهر في بعض المسائل التي عدها المؤلف؛ وهي كف الشر، فمثلاً كف الشر إذا كان من واحد غير ذي أهمية وليس مطاعاً وليس سيداً فإننا لا نحتاج أن نعطيه من الزكاة.
أما قوة الإيمان ورجاء الإسلام، فالقول بأنه يعطى من لم يكن سيداً مطاعاً في عشيرته لذلك، قول قوي ودليل ذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعطي الذين أسلموا وأمن شرهم ليزداد إيمانهم، حتى(6/227)
صرّح بأنه يعطي أقواماً، وغيرهم أحب إليه مخافة أن يكبهم الله في النار (1) .
والعلة فيه أن حفظ الدين وإحياء القلب أولى من حفظ الصحة وإحياء البدن، ورأيت كلاماً لشيخ الإسلام في مختصر الفتاوى المصرية ظاهره، أنه يجوز أن يعطى المؤلف ولو لمصلحته الخاصة، وعلل بأنه إذا كان الفقير يعطى لقوت بدنه فضعيف الإيمان أحوج إلى الإعانة.
وقوله: «ممن يرجى إسلامه» لو قال قائل: ماذا نعطيه؟ هل نعطيه كثيراً أو قليلاً؟
فالجواب: يقال: الحكم معلق بوصف يثبت ما دام الوصف باقياً، فيعطى من الزكاة ما يتحقق تأليفه به، فإذا مال إلى الإسلام مثلاً وعرفنا منه قوة الإيمان، أو كف شره إذا كان من السادة المطاعين في عشائرهم، فإننا لا نعطيه؛ لأن ما علق بوصف يثبت بثبوته، ويزول بزواله.
وهل يُعطى هؤلاء لحاجتهم أو للحاجة إليهم؟
الجواب: منهم من يعطى لحاجته، ومنهم من يعطى لحاجة المسلمين إليه.
فمن يعطى لكف شره هذا ليس لحاجته، بل لحاجتنا لدفع شره.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب من سأل الناس تكثراً (1478) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب تألف قلب من يخاف على إيمانه ... (150) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(6/228)
ومن يعطى لقوة إيمانه أو رجاء إسلامه، فهذا يعطى لحاجته لكن ليست لحاجة النفقة والمال، بل لحاجة أخرى، وهي قوة إيمانه، ورجاء إسلامه.
الخَامِسُ: الرِّقَابُ، وَهُمْ المُكَاتَبُونَ وَيُفَكُّ مِنْهَا الأسِيرُ المُسْلِمُ.
قوله: «الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون» .
لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] والرقاب جمع رقبة، والمراد بها الأرقاء فتصرف الزكاة في الأرقاء.
ولكن هل معنى ذلك أننا نعطي الرقيق مالاً؟
الجواب: لا، معناه ما ذكره المؤلف بقوله: «وهم المكاتبون» ، والمكاتبون هم الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم، وهو مأخوذ من الكتابة؛ لأن هذا العقد تقع فيه الكتابة بين السيد والعبد.
وكم يعطى؟
الجواب: يعطى ما يحصل به الوفاء.
مثاله: اشترى عبدٌ نفسه من سيده بعشرة آلاف، يدفع منها خمسة بعد ستة أشهر، وخمسة بعد ستة أشهر أخرى، فهنا نعطيه خمسة آلاف للأجل الأول، وخمسة آلاف للأجل الثاني.
والمكاتب يجوز أن نعطيه بيده فيوفي سيده، ويجوز أن نعطي سيده قضاء عنه؛ لأن الله تعالى قال: {وَفِي الرِّقَابِ} و «في» ظرفية ولم يقل: وللرقاب، بخلاف الفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، فإن هؤلاء يعطون تمليكاً بأيديهم؛ لأن استحقاقهم كان باللام واللام للتمليك.(6/229)
وأما الرقاب فجاء استحقاقهم بـ «في» الدالة على الظرفية، ولا يشترط فيها التمليك، فيجوز أن نذهب إلى السيد ونقول: قد كاتبت عبدك على عشرة آلاف، فهذه عشرة آلاف، وإن لم يعلم العبد.
فائدة: لو أعطينا المكاتب مالاً ليؤدي دين كتابته ثم اغتنى قبل أن يؤدي الكتابة فإنه يرد المال إلينا.
قوله: «ويفك منها الأسير المسلم» .
الأسير فعيل، أي: مفعول، كجريح بمعنى مجروح، فأسير بمعنى مأسور.
والأسر تارة يكون بالقتال، وتارة يكون بالاغتصاب، وهو ما يسمى في العرف الاختطاف، فمن اختطف فهو أسير يفك من الزكاة.
لكن المؤلف اشترط أن يكون مسلماً، فلو أسر معاهد أو ذمي فإنه لا يجوز أن يعطى من الزكاة في فكه؛ لأن حرمته أدنى من حرمة المسلم.
وقوله: «يفك منها الأسير المسلم» .
إذا قال قائل: هذا خلاف ظاهر الآية؛ لأن الرقيق في اللغة العربية اسم للعبد الرقيق كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فكيف يفك منها الأسير؟
فالجواب: الذين قالوا بجواز ذلك عللوا بما يلي:
أولاً: أن في ذلك دفعاً لحاجته، كدفع حاجة الفقير.(6/230)
ثانياً: أنه إذا جاز أن يفك العبد من رق العبودية، ففك بدن الأسير أولى؛ لأنه في محنة أشد من رق العبودية، وهي محنة الأسر، وأنه معرض للقتل؛ لا سيما إن هدد الآسر بقتله إن لم يدفع إليه مالاً.
ومن الذي يعطى المال عند فك الأسير؟
الجواب: نعطيه الآسرين.
هذان نوعان من الرقاب، وبقي نوعان هما:
النوع الأول: أن نشتري من الزكاة رقيقاً فنعتقه، فهذا جائز؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فيشمل هذه الصورة، ولا سيما إذا كان هذا عند سيد يؤذيه أو عند سيد لا يؤمن عليه فإنه يشترى من الزكاة ويعتق.
النوع الثاني: إذا كان عند الإنسان عبد فيعتقه من الزكاة فهذا لا يجزئ؛ لأنه هنا بمنزلة إسقاط الدين عن الزكاة، أي: بمنزلة أن يكون للإنسان دين عند شخص فقير، فيسقطه عنه ويحسبه من الزكاة، فهذا لا يجوز.
فصار عندنا أربعة أنواع هي:
1 ـ المكاتب.
2 ـ الأسير المسلم.
3 ـ رقيق يشترى فيعتق، هذه الصور الثلاث جائزة.
4 ـ رقيق يعتقه سيده فيحسبه من الزكاة، فهذا لا يجوز.
وكذلك الغريق إذا لم يجد من يخرجه إلا بمال فالظاهر أننا(6/231)
نعطيه من الزكاة لأنه يشبه الأسير؛ لأن المسألة عند أهل العلم لا تختص بالأرقاء، فالظاهر أنها تشمل كل ما فيه إنجاء.
السادس: الغارم لإصلاح ذات البين............
قوله: «السادس: الغارم لإصلاح ذات البين» .
الغارم هو من لحقه الغرم، وهو الضمان والإلزام بالمال، وما أشبه ذلك.
والغارم نوعان هما:
الأول: غارمٌ لإصلاح ذات البين.
والثاني: غارمٌ لنفسه.
فالأول يعطى من الزكاة بمقدار ما غرم، ولو كان غنياً.
وأما الثاني فيوافى عند الدين إذا لم يقدر على وفائه.
وقوله: «لإصلاح ذات البين» .
البين: هو الوصل، وقيل: القطيعة، فيكون من باب الأضداد، واللغة العربية غنية أحياناً، وفقيرة أحياناً.
تكون غنية في الأسماء المترادفة بحيث يكون للمعنى عدة ألفاظ.
وتكون فقيرة في الألفاظ المشتركة إذا كان اللفظ واحداً وله عدة معان، وهذا يعني فقرها حيث تواردت المعاني المتعددة على لفظ واحد.
فالبين: يجوز أن يكون من البينونة، وهي الانفصال، فيكون المعنى إصلاح القطع.(6/232)
ويجوز أن يكون من الوصل يعني إصلاح ذات الوصل، أي: ما يحتاج إلى وصل.
وعلى كل حال «إصلاح ذات البين» أن يكون بين جماعة وأخرى عداوة وفتنة فيأتي آخر ويصلح بينهم، لكن قد لا يتمكن من الإصلاح إلا ببذل المال، فيقول: أنا ألتزم لكل واحدة منكم بعشرة آلاف ريال بشرط الصلح، ويوافقون على ذلك، فيعطى هذا الرجل من الزكاة ما يدفعه في هذا الإصلاح، فيعطى عشرين ألفاً.
وإذا وفى من ماله فإنه لا يعطى؛ لأنه إذا وفى من ماله لا يكون غارماً، فليس عليه دين الآن.
ولكن ينبغي التفصيل فيقال: يُعْطَى من الزكاة في حالين:
1 ـ إذا لم يوف من ماله؛ فهنا ذمته مشغولة، فلا بد أن نفكه.
2 ـ إذا وفى من ماله بنية الرجوع على أهل الزكاة؛ لأجل ألا نسدَّ باب الإصلاح، وقد قال الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ؛ ولأن الحال قد تقتضي الدفع فوراً.
وفي حالين لا يعطى فيهما من الزكاة:
1 ـ إذا دفع من ماله بنية التقرب لله؛ لأنه أخرجه لله فلا يجوز الرجوع فيه.
2 ـ إذا دفع من ماله ولم يكن بباله الرجوع على أهل الزكاة.(6/233)
ولو مع غنى أو لنفسه مع الفقر.
قوله: «ولو مع غنى» .
أي: أن الغارم للإصلاح يعطى من الزكاة، ولو كان غنياً؛ لأننا نعطيه هنا للحاجة إليه؛ ومن أعطي للحاجة إليه فإنه لا يشترط أن يكون فقيراً.
قوله: «أو لنفسه مع الفقر» .
النوع الثاني من أنواع الغارم، الغارم لنفسه؛ أي: لشيء يخصه، فهذا نعطيه مع الفقر، والفقر هنا ليس كالفقر في الصنف الأول، فالفقر هنا العجز عن الوفاء، وإن كان عنده ما يكفيه ويكفي عياله لمدة سنة أو أكثر.
فإذا قدرنا أن شخصاً عليه عشرة آلاف ريال، وراتبه ألفا ريال في الشهر، ومؤنته كل شهر ألفا ريال، فهل ندفع عنه عشرة آلاف ريال؟
الجواب: نعم؛ لأنه الآن فقير بالنسبة للدين فلا نعطيه من الزكاة لفقره؛ لأن راتبه يكفيه وإنما نعطيه من أجل الدين فهو فقير وعاجز عن الوفاء.
وهل يجوز أن نذهب إلى الدائن، ونعطيه ماله دون علم المدين؟
الجواب: نعم يجوز؛ لأن هذا داخل في قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فهو مجرور بـ «في» و «الغارمين» عطفاً على الرقاب، والمعطوف على ما جر بحرف يقدر له ذلك الحرف فالتقدير وفي الغارمين، و «في» لا تدل على التمليك، فيجوز أن ندفعها لمن يطلبه.(6/234)
فإن قال قائل: هل الأولى أن نسلمها للغارم، ونعطيه إياها ليدفعها إلى الغريم، أو ندفعها للغريم؟
فالجواب في هذا تفصيل:
إذا كان الغارم ثقة حريصاً على وفاء دينه، فالأفضل بلا شك إعطاؤه إياها ليتولى الدفع عن نفسه؛ حتى لا يخجل، ولا يذم أمام الناس.
وإذا كان يخشى أن يفسد هذه الدراهم فإننا لا نعطيه، بل نذهب إلى الغريم الذي يطلبه ونسدد دينه.
مسألة: من غرم في محرم هل نعطيه من الزكاة؟
الجواب: إن تاب أعطيناه، وإلا لم نعطه؛ لأن هذا إعانة على المحرم، ولذلك لو أعطيناه لاستدان مرة أخرى.
مسألة: هل يقضى دين الميت من الزكاة؟
الجواب: إذا كان له تركة فهو غني بتركته، ويدفع منها.
والصحيح أنه لا يقضى دين الميت منها، وقد حكاه أبو عبيد في الأموال وابن عبد البر إجماعاً، لكن المسألة ليست إجماعاً ففيها خلاف، إلا أنه في نظرنا خلاف ضعيف، والعجيب أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ جوّز أن تقضى ديون الأموات من الزكاة وحكاه وجهاً في مذهب الإمام أحمد، واستدل بقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} فلم يعتبر التمليك، وإنما اعتبر إبراء الذمة، فالميت أولى بإبراء الذمة من الحي، لكن القول الأول أرجح، فلا يقضى دين الميت من الزكاة للأمور التالية:
أولاً: أن الظاهر من إعطاء الغارم أن يزال عنه ذل الدين؛(6/235)
لأن الدين ذل كما يقال: «الدين هم في الليل وذل في النهار» .
ثانياً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، فكان يؤتى بالميت، وعليه دين فيسأل صلّى الله عليه وسلّم هل ترك وفاء؟ فإن لم يترك لم يصل عليه وإن قالوا: له وفاء، صلى عليه (1) .
فلما فتح الله عليه وكثر عنده المال صار يقضي الدين بما فتح الله عليه عن الأموات، ولو كان قضاء الدين عن الميت من الزكاة جائزاً لفعله صلّى الله عليه وسلّم.
ثالثاً: أنه لو فتح هذا الباب لعطل قضاء ديون كثير من الأحياء؛ لأن العادة أن الناس يعطفون على الميت أكثر مما يعطفون على الحي، والأحياء أحق بالوفاء من الأموات.
رابعاً: أن الميت إذا كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، وإن أراد إتلافها فالله قد أتلفه ولم ييسر له تسديد الدين.
خامساً: أن ذمة الميت قد خربت بموته فلا يسمى غارماً.
سادساً: أن فتح هذا الباب يفتح باب الطمع والجشع من الورثة، فيمكن أن يجحدوا مال الميت ويقولوا: هذا مدين.
مسألة: إبراء الغريم الفقير بنية الزكاة.
صورتها: رجل له مدين فقير يطلبه ألف ريال، وكان على هذا الطالب ألف ريال زكاة، فهل يجوز أن يسقط الدائن عن المدين الألف ريال الذي عليه بنية الزكاة؟
__________
(1) أخرجه البخاري في الكفالة/ باب الدين (2298) ، ومسلم في الفرائض/ باب من ترك مالاً فلورثته (1619) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/236)
الجواب: أنه لا يجزئ قال شيخ الإسلام: بلا نزاع، وذلك لوجوه هي:
الأول: أن الزكاة أخذ وإعطاء قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وهذا ليس فيه أخذ.
الثاني: أن هذا بمنزلة إخراج الخبيث من الطيب قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ووجه ذلك أنه سيخرج هذا الدين عن زكاة عين، فعندي مثلاً أربعون ألفاً، وزكاتها ألف ريال، وفي ذمة فقير لي ألف ريال، والذي في حوزتي هو أربعون ألف ريال، وهي في يدي وتحت تصرفي، والدين الذي في ذمة المعسر ليس في يدي.
ومعلوم نقص الدين عن العين في النفوس، فكأني أخرج رديئاً عن جيد وطيب فلا يجزئ.
الثالث: أنه في الغالب لا يقع إلا إذا كان الشخص قد أيس من الوفاء، فيكون بذلك إحياء وإثراء لماله الذي بيده؛ لأنه الآن سيسلم من تأدية ألف ريال.
مسألة: هل يجوز أن أبرئه من زكاة ما عنده؟
أي: لو كان لي عند رجل أربعون ألف ريال فعلي أن أخرج زكاتها ألف ريال ـ وهذا على القول المرجوح بأن الدين على المعسر فيه زكاة والصحيح خلاف ذلك ـ ولو كان هذا الرجل معسراً، فهل يجوز لي أن أسقط زكاة الألف التي علي من الدين، فيكون الدين الذي عليه مقداره تسعة وثلاثون ألف ريال؟(6/237)
الجواب: المذهب أنه لا يجوز (1) .
وقال شيخ الإسلام: يجوز؛ لأن الزكاة الآن من جنس المال، والمال الآن دين والزكاة دين أيضاً وهي التي أبرأته منها، فالإنسان الآن لم يتيمم الخبيث لينفق، بل زكاه من جنس ماله المزكى وهو الدين، وهذا الصحيح.
أما على القول الراجح وهو أن الزكاة لا تجب في الدين على المعسر فلا ترد هذه الصورة، اللهم إلا إذا وجد هذا الفقير ما يوفي به دينه آخِرَ السنة.
مثلاً: على الفقير أربعون ألفاً، ولم يجد إلا تسعة وثلاثين ألفاً فكان معسراً في هذه الألف، فهذا ربما نقول: يجوز إسقاط الزكاة عن الدين، وفي النفس من هذا شيء؛ لأننا نقول: أتاه الآن تسعة وثلاثون ألفاً نقداً، فليخرج الزكاة من هذا المال الذي أتاه.
فإن قيل هذه المسألة الأخيرة ليس فيها أخذ وإعطاء فكيف أخرجتموها؟
فالجواب: هم رأوا ذلك من جنس المال الذي عليه، فصحيح أنه ليس فيها أخذ وإعطاء ولكن فيها مواساة، صورتها: إذا كان مديناً بأربعين ألفاً فإذا قلنا: بوجوب الزكاة في الدين، ولو على المعسر فالمسألة واضحة؛ لأن هذا الدائن يجب عليه ألف ريال، كل سنة لهذا الدين فصار يبرئ هذا المدين، فأبرأه أول سنة ألف ريال بنية الزكاة عما في ذمته، وفي السنة الثانية
__________
(1) «الإنصاف» (3/234) .(6/238)
يجب عليه ألف ريال إلا خمسة وعشرين ريالاً؛ لأنه لم يبق في ذمته إلا تسعة وثلاثون ألفاً، وهكذا كلما دارت السنوات نقص ما عليه من الزكاة.
وإذا قلنا: بعدم وجوب الزكاة في الدين على المعسر، فلا زكاة أصلاً إلا إذا أيسر في آخر الحول.
وقلنا: إن الدائن إذا قبض الدين من المدين المعسر يزكيه سنة فهنا إذا أيسر في الدين الذي عليه إلا ألف ريال، والدين أربعون ألفاً، وقال الدائن: أريد أن أسقط الألف التي عليك وعجزت عنها بنية الزكاة عن الدين الذي عليك، قلنا: يمكن أن نقول بالجواز، ولكن في النفس منه شيء؛ لأن الدائن الآن استلم الدين عيناً تسعة وثلاثين ألفاً منها، والألف الباقي في ذمة المدين لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه معسر.
والصحيح في زكاة المدين على المعسر أنه لا زكاة في الدين على المعسر إلا إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط.
السَّابِعُ: فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُمُ الغُزَاةُ المُتَطَوِّعَةُ الَّذِينَ لاَ دِيوَانَ لَهُمْ.
قوله: «السابع: في سبيل الله» السبيل هي الطريق، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] .
وسبيل الله في القرآن تطلق على معنيين:
الأول: معنى عام، وهو كل طريق يوصل إلى الله، فيشمل كل الأعمال الصالحة كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] وكقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] أي: دينه.(6/239)
الثاني: خصوص الجهاد، وهذا مثل قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ... {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] .
والسبيل أضيفت إلى الله وإلى المؤمنين، فقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] الآية.
فكيف التوفيق بين الإضافتين؟
الجواب على ذلك أن معنى إضافته إلى الله أنه موصل إلى الله، فمن سلك هذا السبيل أوصله إلى الله؛ ولأن الله هو الذي وضعه لعباده، فهو منه ابتداء، وإليه انتهاء.
أما إضافته إلى المؤمنين؛ فلأنه طريقهم الذي يسلكونه، فبذلك يتبين أنه لا تنافي بين الإضافتين.
وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم
قوله: «وهم الغزاة» جمع غاز هذا هو الشرط الأول.
قوله: «المتطوعة» بخلاف غير المتطوعين، هذا هو الشرط الثاني.
قوله: «الذين لا ديوان لهم» يعني ليس لهم نصيب من بيت المال على غزوهم، فهم متبرعون، هذا الشرط الثالث.
فهؤلاء يكون إعطاؤهم لدفع حاجتهم، وللحاجة إليهم، فيعطون ما يكفيهم لجهادهم.
هذا معنى قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجعل المؤلف هذه الظرفية للمقاتل، لا لنفس الطريق، فالآية معناها على كلام المؤلف: «الغازون في سبيل الله» .(6/240)
فخص المؤلف ـ رحمه الله ـ «في سبيل الله» بالغزاة الذين ليس لهم ديوان، أي ليس لهم شيء من بيت المال يعطونه على غزوهم وهذا هو المذهب، وفي هذا تخصيص للآية من وجوه:
الوجه الأول: أنه جعل في سبيل الله الجهاد فقط.
الوجه الثاني: أنه جعله للمجاهدين فقط.
الوجه الثالث: أنه جعله للمجاهدين المتطوعة الذين لا ديوان لهم.
فأما تخصيصه بالجهاد في سبيل الله فلا شك فيه، خلافاً لمن قال: إن المراد في سبيل الله كل عمل برٍ وخير، فهو على هذا التفسير كل ما أريد به وجه الله، فيشمل بناء المساجد، وإصلاح الطرق، وبناء المدارس، وطبع الكتب، وغير ذلك مما يقرب إلى الله ـ عزّ وجل ـ؛ لأن ما يوصل إلى الله من أعمال البر لا حصر له.
ولكن هذا القول ضعيف؛ لأننا لو فسرنا الآية بهذا المعنى لم يكن للحصر فائدة إطلاقاً، والحصر هو {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} ... } [التوبة: 60] الآية، وهذا وجه لفظي.
أما الوجه المعنوي فلو جعلنا الآية عامة في كل ما يقرب إلى الله ـ عزّ وجل ـ لحرم من الزكاة من تيقن أنه من أهلها؛ لأن الناس إذا علموا أن زكاتهم إذا بني بها مسجد أجزأت بادروا إليه لبقاء نفعه إلى يوم القيامة.
فالصواب: أنها خاصة بالجهاد في سبيل الله.(6/241)
وأما قول المؤلف إنهم الغزاة، وتخصيصه بالغزاة، ففيه نظر.
والصواب أنه يشمل الغزاة وأسلحتهم، وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله، حتى الأدلاء الذين يدلون على مواقع الجهاد لهم نصيب من الزكاة؛ لأن الله قال: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يقل: للمجاهدين، فدل على أن المراد كل ما يتعلق بالجهاد؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله.
وهل يجوز أن يشترى من الزكاة أسلحة للقتال في سبيل الله؟
على رأي المؤلف لا يجوز، وإنما تعطى المجاهد.
وعلى القول الصحيح يجوز أن يشترى بها أسلحة يقاتل بها في سبيل الله، لا سيما وأنه معطوف على مجرور بفي الدالة على الظرفية دون التمليك، بل هي نفسها مجرورة بفي {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
وعلى هذا فيكون القول الراجح أن قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعم الغزاة وما يحتاجون إليه من سلاح وغيره.
أما قول المؤلف: «المتطوعة الذين لا ديوان لهم» فظاهر كلامه أن من لهم ديوان لا يعطون من الزكاة، وهذا حق إذا كان العطاء يكفيهم، وأما إذا كان لا يكفيهم فيعطون من الزكاة ما يكفيهم.
بل لو قال قائل: يعطون من الزكاة مطلقاً لكان له وجه، ولكن وجه ما قاله المؤلف أنهم إذا كانوا يعطون من مال المسلمين على جهادهم فلا حاجة أن نعطيهم من الزكاة؛ لأنهم مستغنون بما يعطون من بيت المال عن الزكاة.(6/242)
هل يعطي من أراد الحج من الزكاة؟
الجواب: المذهب جواز ذلك ليؤدي فرض الحج والعمرة لأن الحج والعمرة من سبيل الله.
والقول الثاني: يجوز في فرض الحج والعمرة ونفلهما للعلة السابقة.
والقول الثالث: لا يجوز وهو مذهب الأئمة الثلاثة لعدم وجوب الحج في حق الفقير.
الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ المُسَافِرُ المُنْقَطِعُ بِهِ.
قوله: «الثامن: ابن السبيل المسافر المنقطع به» .
السبيل الطريق، وابن السبيل أي: المسافر، وسمي بابن السبيل؛ لأنه ملازم للطريق، والملازم للشيء قد يضاف إليه بوصف البنوة، كما يقولون: ابن الماء، لطير الماء، فعلى هذا يكون المراد بابن السبيل المسافر الملازم للسفر، والمراد المسافر الذي انقطع به السفر أي نفدت نفقته، فليس معه ما يوصله إلى بلده.
وابن السبيل هل يعطى لسفره، أو يعطى لحاجته؟
إذا قلت لحاجته أورد عليك مورد أنه إذا كان يعطى لحاجته فهو من الفقراء.
فيقال: يعطى لحاجته، ولكنه ليس شرطاً ألاَّ يكون عنده مال.
أما الفقير فيشترط ألاَّ يكون عنده مال، ولهذا نقول: ابن(6/243)
السبيل نعطيه، ولو كان في بلده من أغنى الناس إذا انقطع به السفر؛ لأنه في هذه الحال محتاج، ولا يقال: أنت غني فاقترض، فيعطى ما يوصله إلى بلده، وهذا يختلف فينظر إلى حاله حتى لا تكون هناك غضاضة وإهانة له.
فإذا كان ممن تعود على الدرجة الأولى، هل يعطى الأولى أو السياحية؟
هذا محل تردد، ويترجح أنه يعطى ما لا ينقص به قدره.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين كون السفر طويلاً أو قصيراً؛ لكونه أطلق، ولم يقل: سفراً قصيراً.
وظاهر كلامه أيضاً أنه لا فرق بين المسافر سفراً محرماً، أو سفراً غير محرم؛ لأنه أطلق.
أما الأول: فنعم، وهو أنه لا فرق بين السفر الطويل والقصير.
فإن قال قائل: السفر القصير يمكن قطعه على قدميه، ويصل؟
قلنا: لكن قد يكون وعراً في جبال وأودية، وقد يكون مخوفاً يحتاج إلى رفقة فهو محتاج إلى نفقة توصله إلى بلده.
وأما الثاني فقال بعض العلماء: إنه وإن كان سفره محرماً يعطى.
فالسفر تثبت به الرخص حتى وإن كان محرماً، فله القصر، وله المسح على الخفين ثلاثة أيام.(6/244)
والمذهب وهو أصح أنه لا يعطى من الزكاة خصوصاً؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولذا قال العلماء: من سافر ليفطر حرم عليه السفر والفطر إلا إذا تاب، وهو سهل بأن نقول له: تب إلى الله ونعطيك، فيستفيد بهذا فائدتين:
الأولى: التوبة.
الثانية: قضاء حاجته.
وأما من سافر في مكروه فلا يعطى؛ لأنه إعانة على المكروه، أما من سافر في مباح كالنزهة أو واجب أو مستحب فيعطى.
دونَ المُنْشِئِ لِلسَّفَرِ مِنْ بَلَدِهِ، فَيُعْطَى مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ.
قوله: «دون المنشئ للسفر من بلده» لأن المنشئ للسفر من بلده لا يصدق عليه أنه ابن سبيل فلو قال: إني محتاج أن أسافر إلى المدينة، وليس معه فلوس، فإننا لا نعطيه بوصفه ابن سبيل؛ لأنه لا يصدق عليه أنه ابن سبيل، لكن إذا كان سفره إلى المدينة ملحاً كالعلاج مثلاً، وليس معه ما يسافر به فإنه يعطى من جهة أخرى، وهي الفقر.
قوله: «فيعطى ما يوصله إلى بلده» ظاهره أنه يعطى ما يوصله إلى غاية سفره، ثم رجوعه، فإذا قدرنا أن رجلاً يريد أن يحج من القصيم عن طريق المدينة وفي المدينة ضاعت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى غاية مقصوده، ثم يرجعه، وليس ما يرجعه فقط؛ لأنه يفوت غرضه إذا قلنا: يرجع.(6/245)
وقول المؤلف: (فيعطى ما يوصله إلى بلده) يفهم منه أنه لا يعطى أكثر، فإن بقي شيء من المال بعد أن وصل رده إلى صاحبه إن كان معلوماً، أو بيت المال إن كان مجهولاً، إلا إذا كان ابن السبيل فقيراً فيأخذه باعتبار الفقر، فإذا وصل إلى بلده لا يرده؛ لأن الفقراء يملكون الزكاة ملكاً مستقراً.
وَمَنْ كَانَ ذَا عِيالٍ أَخَذَ مَا يَكْفِيهِم، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ.
قوله: «ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم» أي: إذا كان ذا عيال فإنه يأخذ ما يكفيهم، ولو دراهم كثيرة، فلو فرضنا أنه ذو عائلة كبيرة، وأن المعيشة غالية، وأنه يحتاج إلى مائة ألف في السنة، فنعطيه مائة ألف؛ وذلك لأن عائلته لازمة له، فيعطى ما يكفيه ويكفي عياله؛ لأن ذلك من باب سد الحاجة.
وقوله: «ذا عيال» مأخوذ من العَيْلَةِ؛ لأن العيال فقراء بالنسبة لمن يعولهم، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] .
والمراد بالعيال شرعاً من يعولهم من زوجات وأولاد وإخوة وليس المراد بهم الأولاد فقط كما اشتهر عند الناس.
قوله: «ويجوز صرفها إلى صنف واحد» أي: من الأصناف الثمانية، الذين ذكرهم الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ... } [التوبة: 60] ، وهذه المسألة مسألة خلاف بين أهل العلم.
فمن العلماء من يقول: يجب تعميم الأصناف في الزكاة، فمن زكاته ثمانون درهماً يجب أن يعطي كل واحد عشرة ـ مثلاً ـ(6/246)
أو ثمانية، المهم أن يعمهم؛ لأن هؤلاء الأصناف ذكروا بالواو الدالة على الاشتراك، وكما أن الغنيمة يجب أن تعطى جميع الأصناف، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} ... } [الأنفال: 41] .
وقد ذكر أهل العلم أن الغنيمة تقسم خمسة أسهم أربعة للغانمين، والسهم الخامس يقسم على خمسة أسهم.
وكما لو قلت: هذا المال لزيد، وعمرو، وبكر، وخالد، أو هذا المال لطلبة العلم والعباد والمجاهدين فهو للجميع، فهذا أيضاً مثله ولا شك أن هذا القول قوي، ولكن إذا وجد ما يخرجه عن هذا المدلول، وجب الأخذ بما يدل على إخراجه عن هذا المدلول.
وقد جاءت الأدلة على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، والصدقات هنا تشمل الزكاة والتطوع، وقد ذكر الله الزكاة بلفظ الصدقات، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] .
ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين بعث معاذاً ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» (1) .
ولأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال لقبيصة رضي الله عنه: «أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» (2) .
__________
(1) سبق تخريجه ص (15) .
(2) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب من تحل له المسألة (1044) .(6/247)
فهذه الأدلة تدل على أن المراد بالآية بيان المستحقين لا تعميم المستحقين، ومعلوم أن الشريعة يبين بعضها بعضاً، وما بينته الشريعة أولى من القياس.
وقوله: «ويجوز صرفها إلى صنف واحد» .
وإذا جاز صرفها إلى صنف واحد، فهل يجب أن نعطي من هذا الصنف ثلاثة فأكثر؛ لأن الآية بصفة الجمع، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} الآية، فهل يجب أن نعمم أو يجب أن نقول: هذا بيان للمستحقين، فيصدق بالواحد؟
الجواب: الثاني، بدليل حديث قبيصة ـ رضي الله عنه ـ «فنأمر لك بها» .
فصار في المسألة أقوال:
الأول: أنه يجوز الاقتصار على واحد من صنف واحد، وهذا أخص ما يكون من الأقوال، وهو الصواب لدلالة القرآن والسنة، فيكون ذكر هذا بالواو لبيان المستحقين لا لوجوب تعميمهم.
الثاني: يجوز أن تقتصر على صنف واحد، بشرط أن يكون جماعة.
الثالث: يجب تعميم الأصناف، ولو على واحد.
والرابع: يجب تعميم الأصناف كل صنف، على جماعة، ثلاثة فأكثر.
وظاهر كلام المؤلف أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد(6/248)
ولو كان غريماً له، مثل أن يكون لك غريم تطلبه دراهم وهو فقير فتعطيه من الزكاة، فهل هو جائز أم لا؟
الجواب: يجوز؛ لأنه يصدق عليه أنه فقير؛ إذ الحكم معلق بهذا الوصف وهو الفقر فيعطى.
هل يجوز أن يعطيه لقضاء الدين؟
الجواب: نعم؛ لأنه غارم لنفسه، وفقير لا يقدر أن يوفي، والله يقول: {وَالْغَارِمِينَ} ، لكن لو قلت: هذه ألف ريال من الزكاة أوفني بها فهذا لا يجوز، ولو قلت: هذه ألف ريال؛ لأنه مدين فقير قد يصرفها في دينه أو في دين غيره، فهذا جائز، ولو ردها لي فهذا جائز؛ لأنه ملكها.
ويُسَنُّ إِلَى أَقَارِبِهِ الَّذِينَ لاَ تَلْزَمُهُ مَؤُونَتُهُم.
قوله: «ويسن إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم» أي: يسن صرف الزكاة في أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم مثل أخيه، وعمه، وخاله، وابن أخيه، وما أشبه ذلك.
فإذا كانوا من أهل الزكاة، فإن السنة والأفضل أن تصرف زكاتك فيهم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة» (1) فيجمع بين أمرين.
__________
(1) حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» .
أخرجه أحمد (4/18، 213) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب الصدقة على الأقارب (5/92) ؛ ابن ماجه في النكاح/ باب فضل الصدقة (1844) ؛ والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (658) ؛ وابن حبان (3344) ؛ وابن خزيمة (2385) ؛ والحاكم (1/407) .
وقال الترمذي: «حسن» ؛ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(6/249)
لكن اشترط المؤلف ألاّ تلزمه مؤونتهم، أي: لا يلزمه الإنفاق عليهم، فإن لزمه الإنفاق عليهم فلا تجزئ؛ لأنه يدفع عن ماله ضرراً؛ لأنه إذا أعطاهم زكاته واغتنوا بها سقطت عنه نفقتهم، فصار ببذله الزكاة مسقطاً لواجب عليه، والقاعدة أنه لا يجوز للإنسان أن يسقط بزكاته أو بكفارته واجباً عليه.
مثال الزكاة: هؤلاء إخوتي فقراء وأنا رجل غني، وتلزمني نفقتهم، وعندي زكاة إذا أعطيتهم إياها كفتهم لمدة سنة أو أقل أو أكثر، فلا يجوز أن أعطيهم إياها؛ لأنهم إذا اغتنوا بها سقط الواجب عني، فأسقطت بها واجباً علي.
مثال الكفارة: علي كفارة إطعام عشرة مساكين، فيجوز أن أغديهم، أو أعشيهم على الصحيح، وهؤلاء الفقراء نزلوا أضيافاً علي، والضيف يجب إكرامه بغدائه وعشائه يومه وليلته، فغديت هؤلاء ونويتها كفارة، فلا يجزئ؛ لأنني بهذا الإطعام أسقطت واجباً علي؛ لأنه يجب علي أن أضيفهم بغداء وعشاء، وبكل ما يلزم في الضيافة، فإذا غديتهم وعشيتهم، ونويته كفارة علي، فقد أسقطت واجباً.
مسألة: إذا كان الأب فقيراً، وعند الابن زكاة وهو عاجز عن نفقة أبيه، فهل يجوز أن يصرفها لأبيه؟
الجواب: يجوز أن يعطيها لوالده؛ لأنه لا تلزمه نفقته؛ لأن الابن لا يملك شيئاً، وهو هنا لا يسقط واجباً، والزكاة إما ستذهب إلى الوالد أو إلى غيره، فهل من الأولى عقلاً فضلاً عن(6/250)
الشرع، أن أعطي غريباً يتمتع بزكاتي ويدفع حاجته وأبي يتضور من الجوع؟
الجواب: لا؛ لأنني لا أستطيع أن أنفق على والدي ففي هذه الحال تجزئ الزكاة للوالد، وربما يؤخذ من قول المؤلف: «الذين لا تلزمه مؤونتهم» ؛ لأن من شرط وجوب النفقة حتى عند المؤلف ومن قال بقوله من الأصحاب غنى المنفق، وهنا المنفق غير غني؛ لأنه لا يجد ما ينفق على هؤلاء، والقاعدة (أنه لا يجوز إسقاط الواجب بالزكاة) ، وهذه القاعدة نافعة، فطبقها على الأخ والعم، إذا وجبت نفقتهما لا تعطيهما من الزكاة.
أما إذا أعطى من تجب عليه نفقتهم لغير النفقة، ولكن لكونهم غزاة أو غارمين أو من العاملين عليها فيجوز.(6/251)
فَصْلٌ
وَلاَ تُدْفَعُ إِلَى هَاشِمِيٍّ..........
قوله: «فصل» أي: في بيان موانع الزكاة.
أي: موانع استحقاق من هو من أهل الزكاة فلا تصرف الزكاة إليه، أي: ما الذي يمنع من إعطائها له وهو من أهلها؟ هذا هو المراد بهذا الفصل، والأصل أن الأشياء لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها.
فالقرابة ـ مثلاً ـ سبب من أسباب الإرث، إذا وجد مانع لاختلاف الدين امتنع الإرث، وهكذا أيضاً الوصف الذي يستحق به الإنسان الزكاة، فقد توجد موانع تمنع من إعطاء الزكاة.
قوله: «ولا تدفع إلى هاشمي» أي لا تدفع الزكاة.
وقوله: «هاشمي» أي ذرية هاشم بن عبد مناف؛ لأنهم من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآل محمد أشرف الناس نسباً، ولشرفهم لا يعطون من الزكاة، لا احتقاراً لهم، بل إكراماً لهم؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ـ رضي الله عنهم ـ حين سألاه الزكاة: «إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» (1) ، فبين الرسول صلّى الله عليه وسلّم الحكم والعلة.
الحكم أنها لا تحل لهم.
العلة أنها أوساخ الناس، وهم أكمل وأشرف من أن يتلقوا أوساخ الناس.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزكاة/ باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة (1072) . عن عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنهما.(6/252)
فالزكاة من أي صنف كان أوساخ ذلك الصنف؛ لأن الزكاة تطهر، والطهور يتسخ بما يطهره؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] .
فإذا كان بين يديك إناء وسخ فغسلته بالماء صار الماء يحمل هذه الأوساخ؛ فلذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هي أوساخ الناس» .
وهاشم منزلته بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجد الثاني، والأب الثالث.
وأجاز بعض العلماء أن يعطى الهاشمي من الزكاة، إذا كان مجاهداً، أو غارماً لإصلاح ذات البين، أو مؤلفاً قلبه، وظاهر النصوص المنع؛ للعموم.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل يصح دفع زكاة هاشمي لهاشمي؛ لقوله: «إنما هي أوساخ الناس» أي: الناس الذين سواهم أو لا؟
قال بعض العلماء: إنه يصح أن تدفع زكاة الهاشمي لهاشمي مثله؛ لأنهما في الشرف سواء، فإذا كانا سواء فإنه لا يعد مثلبة، إذا أعطى زكاته نظيره.
ولكن إذا نظرنا إلى عموم الأحاديث، وجدنا أنه لا فرق بين أن تكون زكاة هاشمي أو غيره؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أوساخ الناس» والهاشميون من الناس فلا تحل لهم.
لكن لو فرض أنه لا يوجد لإنقاذ حياة هؤلاء من الجوع إلا زكاة الهاشميين، فزكاة الهاشميين أولى من زكاة غير الهاشميين.(6/253)
وقال بعض أهل العلم: يجوز أن يعطوا من الزكاة إذا لم يكن خمس؛ أو وجد ومنعوا منه.
والخمس: هو أن الغنائم تقسم خمسة أسهم، أربعة أسهم للغانمين، وسهم واحد يقسم خمسة أسهم أيضاً:
الأول: لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يكون في مصالح المسلمين، وهو ما يعرف بالفيء أو بيت المال.
الثاني: لذي القربى، هم قرابة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب؛ لأن بني عبد المطلب يشاركون بني هاشم في الخمس.
الثالث: لليتامى.
الرابع: للمساكين.
الخامس: لابن السبيل.
فإذا منعوا أو لم يوجد خمس، كما هو الشأن في وقتنا هذا فإنهم يعطون من الزكاة دفعاً لضرورتهم إذا كانوا فقراء، وليس عندهم عمل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح.
وأما صدقة التطوع فتدفع لبني هاشم وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الراجح؛ لأن صدقة التطوع كمال، وليست أوساخ الناس، فيعطون من صدقة التطوع.
والقول الثاني: لا تحل لهم صدقة التطوع؛ لأن صدقة التطوع من أوساخ الناس؛ ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والصدقة تطفئ(6/254)
الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (1) ، والتطهير كما يحصل بالواجب يحصل بالمستحب وهذا القول مال إليه الشوكاني وجماعة من أهل العلم؛ لعموم الحديث.
وبهذا نعرف أن بني هاشم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: من لا تحل له صدقة التطوع، ولا الزكاة الواجبة، وهو شخص واحد، وهو محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم فهو لا يأكل الصدقة الواجبة ولا التطوع.
الثاني: البقية من بني هاشم يأكلون من صدقة التطوع، ولا يأكلون من الصدقة الواجبة.
وَمُطَّلِبيٍّ........
قوله: «ومطلبي» .
والمطلبيون المنتسبون إلى المطلب، والمطلب أخو هاشم وأبوهما عبد مناف، وله أربعة أولاد وهم هاشم، والمطلب، ونوفل، وعبد شمس.
«بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» (2) كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي: في النصرة، حتى إن قريشاً لما حاصرت بني هاشم انضم إليهم بنو المطلب، وقصة المحاصرة في الشعب مشهورة في التاريخ، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما احتج عليه رجال من بني عبد شمس في إعطائه بني المطلب من الخمس ولم يعطهم: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» .
__________
(1) سبق تخريجه ص (12) .
(2) أخرجه البخاري في فرض الخمس/ باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام ... (3140) عن جبير بن معطم رضي الله عنه.(6/255)
وبناء على ذلك قال المؤلف: إنها لا تدفع الزكاة إلى بني المطلب؛ لا لأنهم من آل البيت، ولكن لأنهم مشاركون لآل البيت في الخمس فيستغنون بما يأخذون من الخمس عن الزكاة، وهذا التعليل يدل على أنهم إذا لم يكن خمس فهم يستحقون الزكاة قطعاً، ولا إشكال فيه، خلاف بني هاشم.
إذاً بنو المطلب حكمهم في منع الزكاة حكم بني هاشم، وحكمهم في استحقاق الخمس كبني هاشم.
وبنو عمهم النوفليون والعبشميون كانوا مع قريش على بني هاشم ولذا دعا عليهم أبو طالب في لاميته المشهورة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
عقوبة شر عاجلاً غير آجل
فليس لهؤلاء حق في الخمس، ولهم الأخذ من الزكاة.
وهذا الذي مشى عليه المؤلف رواية عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ والصحيح الرواية الأخرى ـ وهي المذهب ـ أنه يصح دفع الزكاة إلى بني المطلب؛ لأنهم ليسوا من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولعموم الأدلة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} ... } [التوبة: 60] فيدخل فيهم بنو المطلب.
ويجاب عن تشريكهم في الخمس بأنه مبني على المناصرة والمؤازرة بخلاف الزكاة، فإنهم لما آزروا بني هاشم وناصروهم أعطوا جزاءً لفضلهم من الخمس، أما الزكاة فهي شيء آخر.
وَمَوَالِيهِمَا........
قوله: «ومواليهما» أي: عتقائهم، أي: العبيد الذين أعتقهم بنو هاشم، أو أعتقهم بنو المطلب، فلا تدفع الزكاة إليهم؛ لقول(6/256)
النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن مولى القوم منهم» (1) .
فإذا قلنا: بدفع الزكاة لبني المطلب جاز دفع الزكاة إلى مواليهم.
إذا قال قائل: هل هؤلاء موجودون؟ أعني بني هاشم والمطلب؟
قلنا: نعم موجودون، وقد ذكروا أن مِنْ أثبت الناس نسباً لبني هاشم، ملوك اليمن الأئمة، الذين انتهى ملكهم بثورة الجمهوريين عليهم قريباً، فهم منذ أكثر من ألف سنة متولون على اليمن، ونسبهم مشهور معروف بأنهم من بني هاشم.
ويوجد ناس كثيرون أيضاً ينتمون إلى بني هاشم، فمن قال: أنا من بني هاشم! قلنا: لا تحل لك الزكاة؛ لأنك من آل الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَلاَ إِلَى فَقِيرَةٍ تَحْتَ غَنِيٍّ مُنْفِقٍ.......
قوله: «ولا إلى فقيرة تحت غني منفق» .
«فقيرة» هذه صفة لموصوف محذوف، التقدير امرأة فقيرة.
واشترط المؤلف شرطين هما:
الأول: أن تكون تحت غني.
الثاني: أن يكون منفقاً باذلاً للنفقة، فلا تدفع إليها؛ لأنها
__________
(1) أخرجه أحمد (6/8، 10، 390) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب الصدقة على بني هاشم (1650) ؛ والترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في كراهية الصدقة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ... (657) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب مولى القوم منهم (5/107) ؛ وابن خزيمة (2344) ؛ والحاكم (1/404) ؛ وابن حبان (3293) إحسان، عن أبي رافع رضي الله عنه، وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.(6/257)
في الحقيقة غير فقيرة، إذ إن زوجها الذي ينفق عليها قد استغنت به، فإن كانت تحت فقير، فتحل لها، وتحل لزوجها؛ لأن الوصف منطبق عليها، وإذا كانت تحت غني، لكنه من أبخل الناس فتعطى من الزكاة؛ لأنها فقيرة، ولم تستغن بزوجها، فتدخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} ..} .
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون لها: طالبي الزوج وارفعيه إلى المحكمة؟
قلنا: لا نقول لها ذلك؛ لأن هذا يترتب عليه مشاكل، فقد يفضي إلى أن يطلقها، وهذا ضرر عليها، ودفع حاجتها لدفع هذا الضرر لا شك أنه مما جاءت به الشريعة.
وَلاَ إِلَى فَرْعِهِ وأصْلِهِ.........
قوله: «ولا إلى فرعه وأصله» .
فرعه: من كان هو أصلاً له.
وأصله: من كان هو فرعاً له.
فالأصل هم الآباء، والأمهات، وإن علوا.
والفرع هم الأبناء، والبنات، وإن نزلوا، سواء كانوا وارثين أم غير وارثين.
وعلى هذا فلا يدفع زكاته إلى جدته لا من قبل أبيه ولا من قبل أمه، ولا إلى بنته ولا بنت ابنه، ولا بنت ابنته؛ لأن كل هؤلاء أصول وفروع، والمؤلف ـ رحمه الله ـ لم يقيد الأصل والفرع.
أي: لم يقل إلى فرعه الوارث، أو أصله الوارث، فيشمل الوارث وغير الوارث؛ لأن الأصل والفرع تجب النفقة لهما بكل(6/258)
حال إذا كانوا فقراء وهو غني، سواء كانوا وارثين أم غير وارثين.
وقال شيخ الإسلام: يجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم.
ويقال: استحقاق الزكاة مقيد بوصف كالفقر، والمسكنة، والعمالة، فكل من انطبق عليه هذا الوصف فهو من أهل الزكاة.
ومن ادعى خروجه فعليه الدليل، وليس في المسألة دليل، ولهذا فالقول الراجح الصحيح، أنه يجوز أن يدفع الزكاة لأصله وفرعه ما لم يدفع بها واجباً عليه، فإن وجبت نفقتهم عليه، فلا يجوز أن يدفع لهم الزكاة؛ لأن ذلك يعني أنه أسقط النفقة عن نفسه.
وعلى هذا فإذا كان له جد وأب كلاهما فقير، لكن الأب يتسع ماله للإنفاق عليه فهو ينفق عليه، فهنا لا يجوز أن يعطي والده الزكاة.
والجد لا يتسع ماله للإنفاق عليه وهو فقير، فيجوز أن يعطيه منها.
مثال آخر: عنده أم وجدة فهو ينفق على الأم، ولكن لا يتسع ماله للإنفاق على الجدة، فيجوز أن يعطيها من الزكاة.
والمذهب لا يجوز، فتأخذ الزكاة من غيره، وهذا ضعيف جداً؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصدقة على ذي القرابة صدقة وصلة» (1) وأنا الآن لا أسقط عن نفسي واجباً حتى يقال: إني حميت نفسي.
__________
(1) سبق تخريجه ص (249) .(6/259)
مثال آخر: لو كان غنياً ينفق على أبيه، وأبوه مستغن، إما بنفسه، أو بإنفاق ولده، لكن عليه دين يستطيع الولد أن يؤدي الدين عنه، لكن يقول: أنا أؤدي الدين من زكاتي.
فيجوز؛ لأنه لا يجب على الابن وفاء دين أبيه، اللهم إلا إذا كان هذا الدين بسبب النفقة، أي: أن الأب يحتاج، ويشتري في ذمته فلحقه الدين لشراء مؤونته، ففي هذه الحال نقول: لا تقض دين أبيك من زكاتك؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يضيق الإنسان على أبيه، حتى يستدين للنفقة، ثم يقول: أبي عليه دين فأقضي دينه من زكاتي، فيجوز أن يقضي الدين عن أبيه، أو أمه، أو ابنه وابنته، بشرط ألا يكون هذا الدين استدانة لنفقة واجبة على الابن، فإن كان لنفقة واجبة فلا يجوز.
وَلاَ إِلَى عَبْدٍ وَزَوْجٍ.........
قوله: «ولا إلى عبد وزوج» .
أي: لا تدفع الزكاة إلى العبد؛ لأن العبد إذا أعطيناه الزكاة انتقل ملك الزكاة فوراً إلى سيده، فإن مال العبد ملك لسيده، فلا يجوز أن نعطي العبد؛ لأنه لا يملك وملكه لسيده، والله يقول: {لِلْفُقَرَاءِ} .
ويستثنى من هذا المكاتب، وقد سبق أن المكاتب من أهل الزكاة داخل في قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] فيعطى المكاتب ما يقضي به دين الكتابة.
ولكن هل المكاتب عبد؟
الجواب: نعم هو عبد، فيعطى ليعتق، والمكاتبة أن يشتري العبد نفسه من سيده بثمن مؤجل، فيعطى هذا العبد الذي اشترى(6/260)
نفسه من سيده ما يوفي سيده ليعتق، فهو قبل أن يؤدي عبد، ولهذا جاء في الحديث «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» (1) .
واستثنى بعض العلماء ما إذا كان العبد عاملاً على الزكاة، فإنه يعطى على عمالته كما لو كان أجيراً، ومعلوم أنه يصح أن يستأجر العبد من سيده، فيصح أن يجعل عاملاً على الزكاة بإذن سيده.
إذاً يستثنى من ذلك مسألتان:
الأولى: المكاتب.
الثانية: العامل؛ لأنه كأجير، والعبد يجوز أن يستأجر بإذن سيده.
وقوله: «وزوج» فلا يصح أن تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها، لقوة الصلة بينهما، فيشبه الأصل مع الفرع، لكن هذا التعليل عليل.
والصواب جواز دفع الزكاة إلى الزوج إذا كان من أهل الزكاة.
مثال ذلك: امرأة موظفة وعندها مال وزوجها فقير محتاج، إما أنه مدين، أو أنه ينفق على أولاده، أو ما أشبه ذلك، فللزوجة أن تؤدي زكاتها إليه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في العتق/ باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته ... (3926) ؛ والبيهقي (1/324) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، انظر «التلخيص» (2156) .(6/261)
وقولنا أو أنه ينفق على أولاده، المراد بأولاده من غيرها؛ لأن أولاده منها إذا كان أبوهم فقيراً، يلزمها أن تنفق عليهم؛ لأنهم أولادها، لكن إذا كان له أولاد من غيرها وهو فقير، فللزوجة أن تعطيه زكاتها وربما يستدل لذلك بحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «حث على الصدقة، فقال ابن مسعود لزوجته: أعطيني وأولادي أنا أحق من تصدقت عليه» .
فقالت: لا حتى أسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدق عبد الله، زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» (1) فيمكن أن نقول: قوله: «من تصدقت عليهم» يشمل الفريضة والنافلة.
وعلى كل حال إن كان في الحديث دليل فهو خير، وإن قيل هو خاص بصدقة التطوع، فإننا نقول في تقرير دفع الزكاة إلى الزوج: الزوج فقير ففيه الوصف الذي يستحق به من الزكاة، فأين الدليل على المنع؟ لأنه إذا وجد السبب ثبت الحكم، إلا بدليل، وليس هناك دليل لا من القرآن ولا من السنة، على أن المرأة لا تدفع زكاتها لزوجها، وهذه قاعدة: «الأصل فيمن ينطبق عليه وصف الاستحقاق أنه مستحق، وتجزئ الزكاة إليه إلا بدليل» ولا نعلم مانعاً من ذلك إلا مَنْ كان إذا أعطاها له أسقط عن نفسه بذلك واجباً.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الزكاة على الأقارب (1462) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (1000) ، واللفظ للبخاري، عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما.(6/262)
مسألة: هل يجوز أن يعطي الزوج زوجته من زكاته؟
الجواب: أنها تجزئ الزكاة إذا دفعها إلى زوجته على ما اخترناه، أما على المذهب فلا يجزئ أن يدفع الزوج زكاته إلى زوجته لقوة الصلة والرابطة.
ولكن القول الراجح يجوز بشرط ألا يسقط به حقاً واجباً عليه؛ فإذا أعطاها من زكاته للنفقة لتشتري ثوباً أو طعاماً، فإن ذلك لا يجزئ، وإن أعطاها لقضاء دين عليها فإن ذلك يجزئ؛ لأن قضاء الدين عن زوجته لا يلزمه.
وَإِنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ ظَنَّهُ غَيْرَ أَهْلٍ فَبَانَ أهْلاً، أوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يُجْزِهِ،........
قوله: «وإن أعطاها لمن ظنه غير أهل فبان أهلاً أو بالعكس لم يجزه» لأنه حين دفعها يعتقد أنها وضعت في غير موضعها؛ ولأنه متلاعب؛ إذْ كيف يعطي زكاته لشخص يظنه غنياً ثم تبين أنه فقير؟! فلا تجزئه.
وقوله: «أو بالعكس» أي: أعطاها لمن ظن أنه أهل فبان غير أهل فلا تجزئه أيضاً؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر لا بما في ظنه.
مثاله: أعطى رجلاً يظنه غارماً فبان أنه غير غارم، فإنها لا تجزئ؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر، أي: بالواقع، والواقع أنه غير أهل.
مثال آخر: أعطاها لشخص يظنه ابن سبيل فتبين أنه غير ابن سبيل فإنها لا تجزئه.(6/263)
مثال آخر: أعطاها لقريب يظن أنها تجزئه فتبين أنه لا يجزئه إعطاء هذا القريب؛ لوجوب الإنفاق عليه.
إِلاَّ لِغَنِيٍّ ظَنَّهُ فَقِيراً فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ. ...........
قوله: «إلا لغني ظنه فقيراً فإنه يجزئه» . هذا مستثنى من قوله: «أو بالعكس» .
مثل: رجل جاء يسأل؛ وعليه علامة الفقر فأعطيته من الزكاة فجاءني شخص فقال: ماذا أعطيته؟ قلت: زكاة، قال: هذا أغنى منك، فتجزئ؛ لأنه ليس لنا إلا الظاهر، ومثل ذلك الذين يسألون في المدارس والمساجد ثم نعطيهم بناء على الظاهر.
والدليل على ذلك: قصة الرجل الذي تصدق ليلة من الليالي فخرج بصدقته فدفعها إلى شخص فأصبح الناس يتحدثون: تصدق اليلة على غني، فقال: الحمد لله على غني ـ يرى أنها مصيبة ـ ثم خرج مرة أخرى فتصدق على بغي ـ زانية ـ فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي، فقال: الحمد لله؛ على غني وبغي، ثم خرج مرة ثالثة فتصدق فوقعت الصدقة في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على غني وبغي وسارق، فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت؛ أما الغني فلعله يتذكر ويتصدق، وأما البغي فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يكتفي بما أعطيته عن السرقة (1) .
فهذا الرجل نيته طيبة، ولحسن نيته وقعت صدقته في
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم (1421) ومسلم في الزكاة/ باب ثبوت أجر المتصدق ... (1022) ، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.(6/264)
محلها، وصارت مفيدة مقبولة عند الله، ونافعة لمن تصدق عليهم، فيؤخذ منه أنه إذا تصدق على فقير فبان غنياً أنها تجزئه.
وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه إذا دفعها إلى من يظن أنه أهل بعد التحري، فبان أنه غير أهل فإنها تجزئه؛ حتى في غير مسألة الغني؛ أي: عموماً؛ لأنه اتقى الله ما استطاع لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] والعبرة في العبادات بما في ظن المكلف بخلاف المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر، ويصعب أن نقول له: إن زكاتك لم تقبل مع أنه اجتهد، والمجتهد إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.
وهذا القول أقرب إلى الصواب أنه إذا دفع إلى من يظنه أهلاً مع الاجتهاد والتحري فتبين أنه غير أهل فزكاته مجزئة؛ لأنه لما ثبت أنها مجزئة إذا أعطاها لغني ظنه فقيراً، فيقاس عليه بقية الأصناف.
مسألة: إذا جاءك سائل يسأل الزكاة، ورأيته جلداً قوياً، فهل تعطيه أم لا؟
الجواب: نقول: عظه أولاً، وقل: إن شئت أعطيتك ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم في الرجلين اللذين أتيا إليه يسألانه من الصدقة فرآهما جلدين، وقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (4/224) ؛ وأبو داود في الزكاة/ باب من يعطى من الصدقة ... (1633) ؛ والنسائي في الزكاة/ باب مسألة القوي المكتسب (5/99) ، قال الإمام أحمد رحمه الله: «ما أجوده من حديث، هو أحسنها إسناداً» . وصححه الذهبي في «التنقيح» (5/265) ، وانظر «نصب الراية» (2/401) .(6/265)
فإن قال قائل: أحوال الناس اليوم فسدت، فإنك لو وعظته بهذا الكلام لم يتعظ فما الجواب؟
الجواب: أن لنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة فنعظه بما وعظه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أصر ونحن لا نعلم خلاف ما يدعي، فإننا نعطيه، أما إذا أصر على السؤال، ونحن نعلم خلاف ما يدعي فإننا لا نعطيه.
وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ.........
قوله: «وصدقة التطوع مستحبة» هذا من باب إضافة الشيء إلى نوعه، وصدقة التطوع أي: الصدقة التي ليست بواجبة، وإنما يتطوع بها الإنسان، بأن يبذلها لوجه الله.
وقوله: «مستحبة» بمعنى أنها مسنونة مشروعة، ولا سيما مع حاجة الناس إليها.
واعلم أنه لا فرق بين مستحب ومسنون، عند الحنابلة، فالمستحب والمسنون بمعنى واحد، فنقول: يستحب السواك، ويسن السواك، ولا فرق، وذهب بعض العلماء إلى أن ما ثبت بالنص فهو مسنون، وما ثبت بالاجتهاد والقياس فهو مستحب.
والدليل على استحبابها أثري ونظري.
أما الدليل الأثري: فإن الله أثنى على المتصدقين فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى أن قال: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} وقال في آخر الآية: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] ، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} ... } [البقرة: 261] ، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276](6/266)
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ *} [الحديد] .
والسنة مستفيضة كثيرة في الحث على الصدقة، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ما من رجل يتصدق من كسب طيب إلا أخذها الله تعالى بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» (1) ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة» (2) ، ويقول: «الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار» (3) ، ويقول: «إنها تطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء» (4) .
والدليل النظري: أن في الصدقة دفع حاجة الفقراء، والتخلق بأخلاق الفضلاء الكرماء، وأنها من أسباب انشراح الصدر، وجرِّبْ تَجِدْ، وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد عشر فوائد لها، فمن أرادها فليرجع إليها.
ولكن تتأكد في زمان، ومكان، وفي أحوال؛ ولهذا قال المؤلف مبيناً ذلك:
وَفِي رَمَضان وأوقاتِ الحاجاتِ أفضلُ.......
«وفي رمضان، وأوقات الحاجات أفضل» فشهر رمضان من الزمان الذي تتأكد فيه الصدقة، والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان» (5) وهذا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب الصدقة من كسب طيب ... (1410) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب قبول الصدقة ... (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه ص (10) .
(3) سبق تخريجه ص (12) .
(4) سبق تخريجه ص (11) .
(5) أخرجه البخاري في بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي ... (6) ؛ ومسلم في الفضائل/ باب جوده صلّى الله عليه وسلّم (2308) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/267)
يزداد إنفاقه في هذا الشهر، ولكن الراجح أنها في عشر ذي الحجة الأولى أفضل؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (1) .
وهذا عام، والدليل قولهم: «ولا الجهاد» قال: «ولا الجهاد» .
ولو قيل: ألا يعارض هذا أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان أجود ما يكون في رمضان؟
فالجواب: أن حديث عشر ذي الحجة قول، وحديث جود الرسول صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فعل، والقول مقدم على الفعل.
أو يقال: جوده في رمضان جود خاص بالرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: «أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن» ، فيكون هذا الجود مخصوصاً بهذه الحال ـ والله أعلم ـ.
وأما المكان ففي الحرم المكي، والمدني أفضل من غيرهما؛ لشرف المكان.
وأما الحالات فقال المؤلف: «أوقات الحاجة أفضل» وأوقات الحاجات نوعان: دائمة، وطارئة.
فمن أوقات الحاجة الدائمة: فصل الشتاء، فإن الفقراء فيه
__________
(1) أخرجه البخاري في العيدين/ باب فضل العمل في أيام التشريق (969) ، وأبو داود في الصيام/ باب في صوم العشر (2438) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/268)
أحوج من وقت الصيف؛ لأنهم يحتاجون إلى زيادة أكل؛ فالإنسان في الشتاء يأكل أكثر مما يأكل في الصيف، وفي الشتاء يحتاج إلى ثياب أكثر مما يحتاجه في الصيف، فيحتاج إلى تدفئة أكثر مما يحتاجه في الصيف.
والطارئة: مثل أن تحدث مجاعة أو جدب، فيحتاج الناس أكثر، سواء في الشتاء أم الصيف، فهذه أيضاً تكون الصدقة فيها أفضل.
وهل من شرف المكان ما لو كانت جهة من الأرض فيها مجاعة أو لا؟
الجواب: لا؛ لأن هذا ليس من شرف المكان، ولكن للحاجة بدليل أن أهل هذا المكان إذا اغتنوا صارت الصدقة فيهم مثل غيرهم.
لكن مكة والمدينة الصدقة فيهما أفضل من غيرهما مطلقاً لشرف المكان.
مسألة: إذا تعارض شرف المكان وشرف الأحوال، فأيهما يقدم؟
الجواب: يقدم شرف الأحوال؛ لأن الصدقة إنما شرعت لدفع الحاجة، فالفضل فيها باعتبار الحاجات يتعلق بنفس العبادة، وقد سبق قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي:
«أن الفضل إذا كان يتعلق بذات العبادة كانت مراعاته أولى من الفضل الذي يتعلق بزمانها أو مكانها» .
وَتُسَنُّ بِالفَاضِلِ عَن كِفَايَتِهِ وَمَنْ يَمُونُهُ وَيَأْثَمُ بِمَا يَنْقُصُهَا.
قوله: «وتسن بالفاضل عن كفايته ومن يمونه» الفاضل(6/269)
الزائد، أي: يسن أن يكون التصدق بشيء فاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه أي: كفاية من تلزمه مؤونته.
ودليل ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» (1) .
فدل هذا على أن صدقة التطوع تأتي في الدرجة الثانية بعد كفاية من يعولهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» (2) أي: عن فاضل غنى.
فإن قال قائل: فالجواب عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سُئل أي الصدقة أفضل؟ قال: «جهد المقل» (3) ؟
فالجواب: أنه لا منافاة، فإن المراد بجهد المقل ما زاد عن كفايته وكفاية من يمونه، وهو خلاف الغني.
فإذا تصدق رجل بعشرة دراهم، وهي الفاضل عن كفايته فقط، وآخر بعشرة دراهم وعنده عشرة ملايين، أيهما أفضل؟
فالأول أفضل؛ لأن هذا جهده.
__________
(1) - (2) أخرجه البخاري في الزكاة/ باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (1427) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى ... (1034) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(3) أخرجه أحمد (2/358) ، وأبو داود في الزكاة/ باب الرخصة في ذلك (1677) ؛ وابن خزيمة (2444) ، (2451) ؛ وابن حبان (3346) ؛ والحاكم (1/414) عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(6/270)
فإذا تأملت الحديثين لم تجد بينهما منافاة؛ لأن المراد بجهد المقل ما زاد عن كفايته، ولكنه ليس ذا غنى واسع.
قوله: «ويأثم بما ينقصها» «يَنْقُصُهَا» هذا هو الصواب، وقد يقرؤها البعض «يُنْقِصُهُا» من الرباعي، لكنها من الثلاثي، وهي لازمة ومتعدية، بل تتعدى لاثنين، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] فهنا تعدت لاثنين: الكاف، وشيئاً، وتكون لازمة كما لو قلت: نقص المال، ومثلها «زاد» تستعمل متعدية مثل زادني خيراً، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة: 124] نصبت مفعولين، ولازمة مثل: زاد المال.
وقوله: «يأثم» أي: المتصدق.
وقوله: «بما» أي: بصدقة تنقص كفايته وكفاية من يمونه.
ووجه ذلك أنه إذا نقص الواجب أثم، كيف يليق بك أن تترك واجباً وتتصدق بتطوع؟ لهذا لا يليق لا شرعاً، ولا عقلاً، ولا عرفاً، فابدأ أولاً بمن تعول.
ثم اعلم أيضاً أن خير صدقة تتصدق بها ما تصدقت به على نفسك وأهلك؛ لأن الصدقة على أهلك أفضل من الصدقة على البعيد، كما جاء في الحديث (1) ، فإذا قمت بالواجب في مؤونة أهلك كنت قائماً بواجب وصدقة، كما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن
__________
(1) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» . أخرجه مسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة على العيال ... (995) .(6/271)
الإنسان إذا أنفق على أهله فهي صدقة (1) بل لو أنفق على نفسه فهي صدقة، وحينئذ نقول: إنك في الواقع لم تخرج عن مسمى المتصدق إذا أنفقت على أهلك ونفسك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل الإنفاق على الأهل من الصدقة، بل الإنفاق على الأهل واجب تثاب عليه أكثر من الثواب على الصدقة على بعيد.
وقوله: «بما ينقُصُها» .
إن قال قائل: كيف تؤثمون من ينقصها، وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حينما تصدق بجميع ماله (2) ؟ وكيف تؤثمونه، والله تعالى امتدح الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة؟ وكيف تقولون ذلك وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنصاري الذي قدم الضيف على نفسه وأهله قال: «إن الله عجب من صنيعكما بضيفكما البارحة» (3) والقصة مشهورة؟
فهذه الأدلة وغيرها تدل على أنه لا يأثم الإنسان بما ينقص مؤونة نفسه وعياله.
فالجواب على ذلك أن يقال:
__________
(1) لحديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي صدقة» . أخرجه البخاري في الإيمان/ باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة (55) ؛ ومسلم في الزكاة/ باب فضل النفقة والصدقة ... (1002) .
(2) أخرجه أبو داود في الزكاة/ باب الرخصة في ذلك (1678) ؛ والترمذي في المناقب/ باب رجاؤه صلّى الله عليه وسلّم أن يكون أبو بكر ممن يدعى ... (3675) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار/ باب قول الله ـ عزّ وجل ـ {ويؤثرون ... } (3798) ؛ ومسلم في الأشربة/ باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2054) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/272)
إذا كان الإنسان قد عرف من نفسه الصبر والتوكل، وعنده ما يستطيع أن يُحَصِّلَ به، فهذا لا حرج عليه إذا تصدق بما ينقص مؤونته، أما إذا كان لا يعرف من نفسه الصبر والتوكل، وإخلاف ما أنفق، فإن الأمر كما قال المؤلف.
فإذا فرضنا أنه إذا تصدق بما ينقص مؤونته خرج يتكفف الناس، فهذا لا يجوز، لكن إذا علم أنه إذا تصدق بما ينقص مؤونة أهله خرج يشتغل ويبيع ويشتري، كما كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يفعل، فإن ذلك لا بأس به.
أما قصة الضيف فقد يقال: إن أهل الأنصاري رضوا بذلك وصبروا، وإكرام الضيف ليس تطوعاً، بل هو واجب فيدخل في الواجب.
وأما ثناء الله ـ عزّ وجل ـ على الأنصار في قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فهذا كما قلنا فيمن عرف من نفسه الصبر والتوكل وأنه يتحمل وسيجد ما أنفقه.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] أي: مما أوتي المهاجرون.
فالمهاجرون آتاهم الله فضلاً على الأنصار، فهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا فيحسدونهم.
فقوله: {فِي صُدُورِهِمْ} الضمير يعود على الأنصار.
وقوله: {مِمَّا أُوتُوا} الضمير يعود على المهاجرين.
(تم كتاب الزكاة والحمد لله)(6/273)
رسالة في زكاة الحلي (1)
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه (2) ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذه رسالة في بيان حكم زكاة الحلي المباح، ذكرت فيها ما بلغه علمي من الخلاف والراجح من الأقوال وأدلة الترجيح، فأقول وبالله التوفيق والثقة، وعليه التكلال، وهو المستعان:
لقد اختلف أهل العلم رحمهم الله في وجوب الزكاة في الحلي المباح على خمسة أقوال:
أحدها: لا زكاة فيه، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة، مالك والشافعي وأحمد، إلا إذا أعد للنفقة، وإن أعد
__________
(1) قرئت هذه الرسالة على شيخنا ـ رحمه الله ـ أثناء شرحه لزكاة الحلي من «الزاد» ، وعلق عليها، فألحقت بكتاب الزكاة في هذا الموضع؛ تتميماً للفائدة، وحفظاً لتعليقات شيخنا رحمه الله. وهي من مؤلفاته رحمه الله وكانت طباعتها الأولى عام 1382هـ.
(2) قوله: «ونتوب إليه» .
هذا ما درج عليه العلماء، من استفتاح كتبهم بهذه الخطبة، لكني ما رأيت: «ونتوب إليه» في الحديث، بل إن الحديث جاء على هذا النحو «ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله» فإن زادها الإنسان فلا بأس، وإن حذفها فهو أحسن ليطابق الحديث.
أما ما يزيده الناس اليوم «ونستهديه، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً» وما أشبه ذلك، فهذا يظهر لي والله أعلم أنهم لا يريدون أن ينقلوا الخطبة بالنص.(6/274)
للأجرة ففيه الزكاة عند أصحاب أحمد، ولا زكاة فيه عند أصحاب مالك والشافعي وقد ذكرنا أدلة هذا القول إيراداً على القائلين بالوجوب وأجبنا عنها.
الثاني: فيه الزكاة سنة واحدة، وهو مروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
الثالث: زكاته عاريته، وهو مروي عن أسماء، وأنس بن مالك أيضاً رضي الله عنهما.
الرابع: أنه يجب فيه إما الزكاة وإما العارية، ورجحه ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية.
الخامس: وجوب الزكاة فيه إذا بلغ نصاباً كل عام، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وأحد القولين في مذهب الشافعي، وهذا هو القول الراجح لدلالة الكتاب والسنة والآثار عليه، فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ *} [التوبة] .
والمراد بكنز الذهب والفضة، عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق، قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «كل ما أديت زكاته، وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل ما لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهراً على وجه الأرض» .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: وقد روي هذا عن ابن عباس،(6/275)
وجابر، وأبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً (1) اهـ.
والآية عامة في جميع الذهب والفضة ولم تخصص شيئاً دون شيء فمن ادعى خروج الحلي المباح من هذا العموم فعليه الدليل.
وأما السنة فمن أدلتها:
1 ـ ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره» (2) الحديث.
والمتحلي بالذهب والفضة صاحب ذهب وفضة، ولا دليل على إخراجه من العموم، وحق الذهب والفضة من أعظمه وأوجبه الزكاة قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ: الزكاة حق المال.
2 ـ ما رواه الترمذي والنسائي وأبو داود واللفظ له قال: حدثنا أبو كامل، وحميد بن مسعدة، المعنى أن خالد بن الحارث حدثهم، حدثنا حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن امرأة أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: «أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار، قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالت: هما لله ورسوله» (3) قال في بلوغ المرام: وإسناده قوي (4) (5) ، وقد رواه الترمذي من طريق
__________
(1) أي: الذي روي أن الذي لم يؤد زكاته فهو كنز، وما أديت زكاته فليس بكنز، ولا عبرة بكونه مدفوناً أو ظاهراً.
(2) سبق تخريجه ص (6) .
(3) سبق تخريجه ص (128) .
(4) بلوغ المرام (620) .
(5) قال الشيخ ابن باز: (إنه صحيح) وذلك في الرسالة التي ألفها في زكاة الحلي.(6/276)
ابن لهيعة، والمثنى بن الصباح، ثم قال: «إنهما يضعفان في الحديث ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء» (1) ، لكن قد رد قول الترمذي هذا برواية أبي داود لهذا الحديث من طريق حسين المعلم، وهو ثقة احتج به صاحبا الصحيح، البخاري ومسلم، وقد وافقه الحجاج بن أرطاة، وقد وثقه بعضهم، وروى نحوه أحمد (2) عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها بإسناد حسن.
3 ـ ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن إدريس الرازي، حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء، أخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال: دخلنا على عائشة رضي الله عنها فقالت: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار» (3) قيل لسفيان: كيف تزكيه؟ قال: تضمه إلى غيره (4) .
وهذا الحديث أخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي والدارقطني، وقال في التلخيص: «إسناده على شرط الصحيح، وصححه الحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين يعني البخاري ومسلماً،
__________
(1) سنن الترمذي في الزكاة/ باب ما جاء في زكاة الحلي (637) .
(2) المسند (6/461) .
(3) سبق تخريجه ص (129) .
(4) هذا الحديث فيه إشكال، وهو أن الفتخات لن تبلغ نصاباً فالفضة نصابها خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً، والفتخة لا تبلغ ذلك.
وأجاب عن هذا الإشكال سفيان الثوري رحمه الله وقال: تضمه إلى غيره، وهذا أحد الأجوبة عن هذا الحديث.
وقال بعض العلماء: بل هذا يدل على أنه لا يشترط النصاب في الحلي وأن الحلي قل أو كثر فيه الزكاة. ولكن جواب سفيان أولى؛ لأن إيجاب الزكاة فيما دون النصاب في القلب منه شيء، والأصل براءة الذمة.(6/277)
وقال ابن دقيق: إنه على شرط مسلم» (1) .
4 ـ ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا عتاب يعني ابن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز» (2) وأخرجه أيضاً البيهقي والدارقطني والحاكم، وقال: «صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه» وصححه أيضاً الذهبي، وقال البيهقي: تفرد به ابن عجلان، قال في التنقيح: «وهذا لا يضر فإن ثابت بن عجلان روى له البخاري، ووثقه ابن معين والنسائي، وقول عبد الحق فيه: لا يحتج بحديثه، قول لم يقله غيره، قال ابن دقيق: وقول العقيلي في ثابت بن عجلان: لا يتابع على حديثه، تحامل منه» اهـ.
فإن قيل: لعل هذا حين كان التحلي ممنوعاً، كما قاله مسقطو الزكاة في الحلي.
فالجواب: أن هذا لا يستقيم فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمنع من التحلي به، بل أقره مع الوعيد على ترك الزكاة، ولو كان التحلي ممنوعاً لأمر بخلعه وتوعد على لبسه (3) ، ثم إن النسخ يحتاج إلى
__________
(1) «التلخيص الحبير» (2/178) .
(2) سبق تخريجه ص (129) .
(3) هذا أحد الأجوبة التي أجاب بها من قال: إنه لا زكاة في الحلي، قال: هذه الأحاديث محمولة على ما قبل التحليل يعني حين كان التحلي حراماً، وهذا يحتاج إلى أمرين كما تعلمون:
أولاً: يحتاج إلى إثبات أنه وقع التحريم.
ثانياً: يحتاج إلى إثبات النسخ.
فإذا ثبت هذا فيمكن أن يجاب به، ثم إن هذا الحديث يدل على أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أقر اللبس، وإنما أوجب الزكاة، وتوعد من لم يزكِّ، فلا يستقيم هذا الجواب.
(1) النسخ لا يثبت بالاحتمال، فقد يحتمل أنه منسوخ، ولكن هذا لا يكفي، بل لا بد أن نعلم تأخر الناسخ؛ لأن للنسخ شرطين لا بد منهما:
الأول: تعذر الجمع، فإذا أمكن الجمع بأي وجه من وجوه الجمع كالتخصيص مثلاً أو التقييد، أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يصار إلى النسخ؛ لأن النسخ أمره عظيم إذ إنه إثبات ردِّ أحد النصين، وإهداره فليس هيناً.
الأمر الثاني: معرفة أن هذا بعد هذا أي أن ما ادعي أنه ناسخ يكون بعد ما ادعي أنه منسوخ، فإن لم نعلم فإنه لا نسخ.
لكن ماذا يكون موقفنا إذا لم يثبت النسخ، وتعذر الجمع؟
الجواب: نرجع إلى طريق آخر قبل التوقف وهو الترجيح، فننظر أيهما أرجح، وطرق الترجيح معروفة عند الأصوليين، وعند المحدثين.
فإن لم يتبين الترجيح فحينئذٍ يجب التوقف، فنقول: الله أعلم، ولكن هذا علمياً قد يكون مشكلة؛ لأن العامي لا يرضيه أن تقول: أنا متوقف، بل يقول: أفتنا، فماذا نعمل في هذه الحال؟
الظاهر ـ والله أعلم ـ أننا نلجأ إلى الاجتهاد ونأخذ بالاحتياط، أو بما يطابق الشريعة فالذي يطابق الشريعة هو الأسهل، والاحتياط هو الأثقل، على أن الوصول إلى درجة التوقف لا تمكن باعتبار النص «الدليل» ، بل تمكن باعتبار الإنسان، باعتبار «المستدل» ، فتتعارض عنده النصوص، ويكون ذلك إما بسبب قصوره، أو تقصيره، أو سوء قصده، أو رداءة فهمه.
وهنا نكون أجبنا عن قول من قال: إن الوعيد كان حينما كان التحلي ممنوعاً.
فأجبنا: بأن هذا لا يستقيم، وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمنع من التحلي به، بل أقره مع الوعيد على ترك الزكاة، ولو كان حراماً لتوعد على لبسه ومنعه، وحينئذٍ لا يستقيم هذا الجواب.
وأيضاً النسخ إذا قيل: إنه كان حين كان ممنوعاً، ثم نسخ إلى الإباحة، فإنه يحتاج إلى دليل بحيث نعلم المتأخر، ويتعذر الجمع؛ لأن للنسخ شرطين لا بد منهما:
أولاً: تعذر الجمع.
ثانياً: العلم بالمتأخر.
ثم لو فرضنا أن هذا كان حين التحريم فإن الأحاديث المذكورة حديث عائشة وأم سلمة والمرأة تدل على الجواز بشرط إخراج الزكاة، وحينئذٍ نقول: لنفرض أن هذا كان حين التحريم، فإن الأدلة الدالة على الجواز تقيده بإخراج الزكاة، ولا دليل على ارتفاع هذا الشرط وإباحته ـ أي إباحة التحلي ـ إباحة مطلقة، وبهذا سقط هذا التقدير، أي: أن ذلك كان حين التحريم.
إذاً الجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه قد طعن في الحديث، وفي روايه.
الثاني: أنه لو فرض رفع الطعن في الراوي فإنه لا يعارض أحاديث الوجوب، والمعارضة لا بد أن يكون المعارض مقاوماً للأحاديث التي عارضها حتى يمكن أن يعارض به.
الثالث: أنه لو فرض التعارض والتساوي والتقابل فالأخذ بالوجوب أحوط وأبرأ للذمة ولهذا ذهب بعض العلماء كالشيخ الشنقيطي رحمه الله في «أضواء البيان» إلى أن القول بالوجوب أحوط، ويكون من باب الاحتياط.(6/278)
معرفة التاريخ، ولا يثبت ذلك بالاحتمال (1) ، ثم لو فرضنا أنه كان
__________
(1) سبق تخريجه، ص (129) .(6/279)
حين التحريم فإن الأحاديث المذكورة تدل على الجواز بشرط إخراج الزكاة، ولا دليل على ارتفاع هذا الشرط، وإباحته إباحة مطلقة.
فإن قيل: ما الجواب عما احتج به من لا يرى الزكاة في الحلي وهو ما رواه ابن الجوزي بسنده في «التحقيق» عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس في الحلي زكاة» (1) ورواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (2) ؟
قيل: الجواب على هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن البيهقي قال فيه: إنه باطل لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله، وعافية بن أيوب مجهول، فمن احتج به كان مغرراً بدينه. اهـ.
الثاني: أننا إذا فرضنا توثيق عافية كما نقله ابن أبي حاتم
__________
(1) سبق تخريجه، ص (130) .
(2) (3/294) موقوفاً على جابر رضي الله عنه.(6/280)
عن أبي زرعة فإنه لا يعارض أحاديث الوجوب، ولا يقابل بها لصحتها ونهاية ضعفه.
الثالث: أننا إذا فرضنا أنه مساوٍ لها، ويمكن معارضتها به فإن الأخذ بها أحوط، وما كان أحوط فهو أولى بالاتباع؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَرِيبك» (1) وقوله: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» (2) .
وأما الآثار فمنها:
1 ـ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ «أنه كتب إلى أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن مُرْ من قِبَلَكَ من نساء المسلمين أن يَصَّدّقن من حُلِيِّهن» (3) .
قال ابن حجر في التلخيص: «أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار ... وهو مرسل قاله البخاري. وقد أنكر ذلك الحسن فيما رواه ابن أبي شيبة عنه قال: لا نعلم أحداً من الخلفاء قال: في الحلي زكاة» (4) اهـ. لكن ذكره مروياً عن عمر ـ رضي الله عنه ـ صاحب المغني، والمحلى، والخطابي.
2 ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «أن امرأة سألته عن حلي لها؟ فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة» رواه الطبراني والبيهقي ورواه الدارقطني (5) من حديثه مرفوعاً، وقال: هذا وهم،
__________
(1) سبق تخريجه ص (125) .
(2) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه (52) ؛ ومسلم في المساقاة/ باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (3/153) ؛ والبيهقي (4/139) .
(4) «التلخيص الحبير» (2/177) .
(5) أخرجه الدارقطني مرفوعاً (2/108) ؛ والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (2/70) ؛ والبيهقي (4/139) .(6/281)
والصواب عن إبراهيم عن عبد الله مرسل موقوف (1) .
3 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما حكاه عنه ابن المنذر والبيهقي، قال الشافعي: «لا أدري يثبت عنه أم لا» (2) .
4 ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ «أنه كان يأمر بالزكاة في حلي بناته ونسائه» ذكره عنه في المحلى (3) من طريق جرير بن حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه.
5 ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته» (4) رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن عروة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لكن روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة» (5) قال ابن حجر في التلخيص: يمكن الجمع بينهما بأنها كانت ترى الزكاة فيها ولا ترى إخراج الزكاة مطلقاً عن مال الأيتام. اهـ، لكن يرد على جمعه هذا ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: «كانت عائشة تليني أنا وخالي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا
__________
(1) والفرق بين المرفوع والموقوف، أن المرفوع: ما كان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والموقوف: ما كان عن الصحابي.
والمقطوع: ما كان عن التابعي فمن بعده.
والمنقطع: ما سقط من سنده واحد، أو أكثر في موضعين.
(2) «التلخيص الحبير» (2/178) .
(3) (6/75) ، وأخرجه الدارقطني (2/107) ؛ وابن أبي شيبة (3/154) .
(4) أخرجه الدارقطني (2/107) .
(5) الموطأ (1/250) .(6/282)
الزكاة» (1) قال بعضهم: ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنها لا ترى إخراج الزكاة عن أموال اليتامى واجباً فتخرج تارة، ولا تخرج أخرى كذا قال.
وأحسن منه أن يجاب بوجه آخر وهو أن عدم إخراجها فعل والفعل لا عموم له، فقد يكون لأسباب ترى أنها مانعة من وجوب الزكاة، فلا يعارض القول، والله أعلم (2) .
__________
(1) «الموطأ» (1/251) .
(2) هذا الأثر ينبغي أن يتخذ منه قواعد في باب المناظرة، وذلك أن عائشة رضي الله عنها، قالت: «لا بأس من لبس الحلي إذا أعطي زكاته» (1) فدل هذا على أنه لا بد من إعطاء الزكاة، ولكن روى مالك في الموطأ بإسناد أصح من ذلك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة «أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة» ولو كانت ترى الوجوب لأخرجت؛ لأن الولي يجب عليه إخراج الزكاة عن المولّى عليه، ولهذا قال العلماء: «والمجنون والصبي يخرج عنهما وليهما» .
قال ابن حجر في «التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير» ـ وهو كتاب حسن جيد يساوي أو يقارب كتاب الزيلعي: «نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية» وكلاهما جيد في الموضوع ـ: «ويمكن الجمع بينهما: بأنها كانت ترى الزكاة فيها ـ أي في الحلية ـ ولا ترى إخراج الزكاة مطلقاً من مال الأيتام» ، بناءً على أنه يشترط في وجوب الزكاة البلوغ والعقل كما هو مذهب أبي حنيفة، والأيتام لم يبلغوا، فعلى هذا تكون لا تخرج زكاة الأيتام الذين في حجرها؛ لأنها لا ترى وجوب الزكاة على الصغير، وهذا الجواب لا شك أنه سديد، إلا أنه يرد عليه ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال: «كانت عائشة تليني أنا وخالي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة» وهذا يدل على أنها ترى وجوب الزكاة في أموال الأيتام، وأنه لا يشترط لوجوبها البلوغ والعقل.
وأجاب بعضهم فقال: يمكن أن يجاب عن ذلك بأنها لا ترى إخراج الزكاة عن أموالهم ـ يعني أموال اليتامى ـ واجباً، فتخرج تارة ولا تخرج أخرى، كذا قال.
وهذا الجواب فيه نظر؛ لأنها لو كانت لا ترى إخراج الزكاة واجبة، ما جاز لها أن تخرج منها؛ لأنها إذا كانت تطوعاً، فالتطوع لا يجوز من مال الأيتام؛ لأنه تبرع، وليس للولي حق التبرع في مال من ولي عليه.
ولهذا يُفَرَّق بين جواز التبرع، وجواز التصرف، فجواز التبرع أضيق؛ لأن مَنْ جاز تبرعه جاز تصرفه ولا عكس، فالولي يجوز أن يتصرف في مال المولّى عليه، ولا يجوز أن يتبرع منه.
وأحسن منه أن يجاب بوجه آخر، وهو أن عدم إخراجها فعل، والفعل لا عموم له، وهذا ما يعبر عنه أحياناً أنه قضية عين، فإذا كان فعلاً، فقد يكون لأسباب ترى أنها قد تكون مانعة لوجوب الزكاة، وربما يكون عليهما دين مثلاً، والدين عند بعض العلماء يمنع وجوب الزكاة، وربما أنها تخرج ذلك خفية، ولم يطلع عليه أحد، المهم أن الفعل ليس له عموم.(6/283)
فإن قيل: ما الجواب عما استدل به مسقطو الزكاة فيما نقله الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «خمسة من الصحابة كانوا لا يرون في الحلي زكاة أنس بن مالك، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء رضي الله عنهم» .
فالجواب: أن بعض هؤلاء روي عنهم الوجوب وإذا فرضنا أن لجميعهم قولاً واحداً، أو أن المتأخر عنهم هو القول بعدم الوجوب، فقد خالفهم من خالفهم من الصحابة، وعند التنازع يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، وقد جاء فيهما ما يدل على الوجوب كما سبق.
فإن قيل: قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تصدقن يا معشر النساء، ولو من حليكن» (1) وهذا دليل على عدم وجوب الزكاة في الحلي إذ لو كانت واجبة في الحلي لما جعله النبي صلّى الله عليه وسلّم مضرباً لصدقة التطوع.
فالجواب على هذا: أن الأمر بالصدقة من الحلي ليس فيه إثبات وجوب الزكاة فيه ولا نفيه عنه، وإنما فيه الأمر بالصدقة
__________
(1) سبق تخريجه ص (126) .(6/284)
حتى من حاجيات الإنسان، ونظير هذا أن يقال: تصدق ولو من دراهم نفقتك ونفقة عيالك، فإن هذا لا يدل على انتفاء وجوب الزكاة في هذه الدراهم (1) .
فإن قيل: إن في لفظ الحديث: «وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر» (2) وفي حديث علي رضي الله عنه: «وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً» (3) والرقة «هي الفضة المضروبة سِكَّة، وكذلك الدينار هو السِّكَّة» ، وهذا دليل على اختصاص وجوب الزكاة بما كان كذلك والحلي ليس منه.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الذين لا يوجبون زكاة الحلي، ويستدلون بمثل هذا اللفظ لا يخصون وجوب الزكاة بالمضروب من الذهب والفضة، بل يوجبونها في التبر ونحوه وإن لم يكن مضروباً، وهذا تناقض منهم وتحكم، حيث أدخلوا فيه ما لا يشمله اللفظ على زعمهم، وأخرجوا منه نظير ما أدخلوه من حيث دلالة اللفظ (4) عليه، أو عدمها.
__________
(1) ذكرنا في أول الرسالة أننا سنجيب على أدلة القائلين بعدم الوجوب عرضاً، فهنا استدل القائلون بعدم الوجوب بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «تصدقن ولو من حليكن» فجعل الصدقة المأمور بها، وهي تطوع جعلها مضرباً والجواب، أن يقال: إن الأمر بالصدقة من الحلي لا يدل على إثبات وجوب الزكاة في الحلي، ولا على نفيه، كما تقول: «تصدق ولو من ثيابك» فهذا من باب المبالغة أنك تتصدق ولو من حاجياتك، فلو قلت: تصدق من دراهم نفقتك، فهل يعني ذلك أن الدراهم لا تجب فيها الزكاة؟
الجواب: لا؛ لأن وجوب الزكاة فيها من وجه آخر، كذلك هذا الحلي وجوب الزكاة فيه من وجه آخر غير هذا الدليل، فهذا الدليل لا يدل على النفي ولا على الإثبات، إنما يدل على الأمر بالصدقة والحث عليها حتى فيما يحتاجه الإنسان.
(2) سبق تخريجه ص (31) .
(3) سبق تخريجه ص (97) .
(4) ما هو الذي لا يشمله اللفظ في زعمهم؟ . الجواب: التبر ونحوه، يقولون في التبر: تجب فيه الزكاة مع أنهم يستدلون بنفي الزكاة في الحلي بقوله: «في الرقة، والدينار» فنقول: أنتم أوجبتم الزكاة في التبر مع أنه ليس رقة ولا ديناراً على كلامكم.(6/285)
الثاني: أننا إذا سلمنا اختصاص الرقة والدينار بالمضروب من الفضة والذهب، فإن الحديث يدل على ذكر بعض أفراد وأنواع العام بحكم لا يخالف حكم العام، وهذا لا يدل على التخصيص كما إذا قلت: أكرم العلماء، ثم قلت: أكرم زيداً، وكان من جملة العلماء، فإنه لا يدل على اختصاصه بالإكرام، فالنصوص جاء بعضها عاماً في وجوب زكاة الذهب والفضة، وبعضها جاء بلفظ الرقة والدينار، وهو بعض أفراد العام، فلا يدل ذلك على التخصيص (1) .
فإن قيل: ما الفرق بين الحلي المباح وبين الثياب المباحة إذا قلنا: بوجوب الزكاة في الأول دون الثاني؟
فالجواب: أن الشارع فرق بينهما حيث أوجبها في الذهب والفضة من غير استثناء، بل وردت نصوص خاصة في وجوبها في الحلي المباح المستعمل كما سبق، وأما الثياب فهي بمنزلة الفرس، وعبد الخدمة اللذين قال فيهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» (2) فإذا كانت الثياب للبس،
__________
(1) هي السكة المضروبة من الدراهم.
(2) سبق تخريجه ص (127) .(6/286)
فلا زكاة فيها وإن كانت للتجارة ففيها زكاة التجارة (1) .
فإن قيل: هل يصح قياس الحلي المباح المعد للاستعمال على الثياب المباحة المعدة للاستعمال، كما قاله من لا يوجبون الزكاة في الحلي؟
فالجواب: لا يصح القياس لوجوه:
الأول: أنه قياس في مقابلة النص، وكل قياس في مقابلة النص فهو قياس فاسد (2) ؛ وذلك لأنه يقتضي إبطال العمل بالنص؛ ولأن النص إذا فرق بين شيئين في الحكم، فهو دليل على أن بينهما من الفوارق ما يمنع إلحاق أحدهما بالآخر،
__________
(1) نسلم للسنن الكونية، وكذلك للسنن الشرعية، ولما قيل لعائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» (1) فإذا فرق الشرع بين شيئين فليس من حقنا أن نجادل، ونقول لماذا يكون هكذا هنا، وهكذا هنا؟ لأن الله يفعل ما يشاء في الخلق والتقدير، ويحكم بما يشاء في الشرع والتدبير.
(2) يسمي الأصوليون هذا القياس فاسداً أي: غير معتبر، فكل قياس في مقابلة النص قياس فاسد؛ لأن هذا القياس إبطال للنص، وقد قالوا: إن أول من قاس قياساً فاسداً، إبليس، فكل من قاس قياساً فاسداً فهو من ورثته؛ لأن الله أمر إبليس بالسجود، فقال: أنا خير منه، فالقياس يقتضي ألاّ يسجد الخير لمن دونه، وأن الأصغر يسجد للأكبر، وكأن إبليس يقول: أنا أحقُّ أن يسجد لي من أن أسجد له، فهذا الكبر لم ينفع.(6/287)
ويوجب افتراقهما، سواء علمنا تلك الفوارق أم جهلناها، ومن ظن افتراق ما جمع الشارع بينهما أو اجتماع ما فرق الشارع بينهما فظنه خطأ بلا شك، فإن الشرع نزل من لدن حكيم خبير.
الثاني: أن الثياب لم تجب الزكاة فيها أصلاً، فلم تكن الزكاة فيها واجبة أو ساقطة بحسب القصد، وإنما الحكم فيها واحد، وهو عدم وجوب الزكاة، فكان مقتضى القياس أن يكون حكم الحلي واحداً وهو وجوب الزكاة، سواء أعدّه للبس أو لغيره، كما أن الثياب حكمها واحد لا زكاة فيها، سواء أعدها للبس أو لغيره، ولا يرد على ذلك وجوب الزكاة فيها إذا كانت عروضاً؛ لأن الزكاة حينئذ في قيمتها.
الثالث: أن يقال: ما هو القياس الذي يراد الجمع به بين الحلي المعد للاستعمال والثياب المعدة له أهو قياس التسوية أم قياس العكس؟
فإن قيل: هو قياس التسوية.
قيل: هذا إنما يصح لو كانت الثياب تجب فيها الزكاة قبل إعدادها للبس والاستعمال، ثم سقطت الزكاة بعد إعدادها ليتساوى الفرع والأصل في الحكم، وإن قيل: هو قياس العكس قيل: هذا إنما يصح لو كانت الثياب لا تجب فيها الزكاة إذا لم تعد للبس، وتجب فيها إذا أعدت للبس، فإن هذا هو عكس الحكم في الحلي عند المفرقين بين الحلي المعد للبس وغيره (1) .
__________
(1) إن الثياب لم تجب الزكاة فيها أصلاً، فلم تكن الزكاة واجبة، أو ساقطة بحسب القصد، كالذهب والفضة على زعمهم إن قصدت للتحلي سقطت، وإن قصدت لأمر آخر لم تسقط، فكان مقتضى القياس عدم وجوب الزكاة، وأن يكون حكم الحلي واحداً، وهو وجوب الزكاة سواء قصد بها التحلي أو لا؛ لأن القياس ينقسم إلى قسمين هما:
1 ـ قياس تسوية: يسوى بين الفرع والأصل في الحكم.
2 ـ قياس عكس: يعطي الفرع نقيض حكم الأصل.
وقد ثبت قياس العكس بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك لو وضعها في حلال كان له بها أجر» (1) فهذا يسمى قياس العكس.(6/288)
الرابع: أن الثياب والحلي افترقت عند مسقطي الزكاة في الحلي، في كثير من المسائل فمن الفروق بينهما:
1 ـ إذا أعد الحلي للنفقة، وأعد الثياب للنفقة بمعنى أنه إذا احتاج للنفقة باع منهما، واشترى نفقة، قالوا: في هذه الحال تجب الزكاة في الحلي ولا تجب في الثياب، ومن الغريب أن يقال: امرأة غنية يأتيها المال من كل مكان، وكلما ذكر لها حلي معتاد اللبس اشترته برفيع الأثمان للتحلي به غير فرار من الزكاة، ولما افتقرت هذه المرأة نفسها أبقت حليها للنفقة وضرورة العيش، فقلنا لها: في الحال الأولى لا زكاة عليك في هذا الحلي، وقلنا لها: في الحال الأخيرة عليك زكاة فيه، وهذا هو مقتضى قول مسقطي الزكاة في الحلي المباح (1) .
__________
(1) هذا مما يفارق فيه الحلي الثياب عند الذين لا يرون فيه زكاة يقولون: إذا أعد الحلي للنفقة ففيه الزكاة، وإذا أعدت الثياب للنفقة فلا زكاة فيها، فأين القياس؟ وصورة ذلك:
امرأة عندها حلي، كلما احتاجت باعت وأنفقت على نفسها، وأخرى عندها ثياب كثيرة كلما احتاجت باعت، فالأولى عليها الزكاة، والثانية لا زكاة عليها.
أين القياس إذاً؟
إذ مقتضى القياس أن تجب الزكاة في الجميع أو لا تجب في الجميع.
قالوا: الفرق بينهما أن الحلي الأصل فيه الزكاة؛ لأنه ذهب وفضة بخلاف الثياب؛ لأنها عروض، والأصل فيها عدم الزكاة.
قلنا: اعترفتم أن الأصل في الذهب والفضة هو الزكاة، فمن الذي أسقطها؟ وأين الدليل على إسقاطها؟(6/289)
2 ـ أن الحنابلة قالوا: إنه إذا أعد الحلي للكراء وجبت فيه الزكاة، وإذا أعدت الثياب للكراء لم تجب الزكاة فيها (1) .
3 ـ أنه إذا كان الحلي محرماً وجبت الزكاة فيه، وإذا كانت الثياب محرمة لم تجب الزكاة فيها (2) .
4 ـ لو كان عنده حلي للقنية (3) ثم نواه للتجارة صار للتجارة، ولو كان عنده ثياب للقنية ثم نواها للتجارة لم تصر للتجارة.
__________
(1) مقضتى القياس: أن تجب الزكاة في الجميع أو لا تجب في الجميع، أما أن نقول: إذا أعد الحلي للكراء وجبت الزكاة فيه، وإذا أعدت الثياب لم تجب فكيف يصح القياس؟
وهنا قلنا: «أن الحنابلة» إشارة إلى أن غير الحنابلة كالشافعية قالوا: إذا أعد للكراء فليس فيه زكاة كالإبل العوامل، والبقر العوامل ـ الإبل والبقر العوامل هي التي يحمل عليها أو تؤجر ـ ليس فيها زكاة فإذا صارت للتأجير فلا زكاة فيها.
فالشافعية طردوا الباب، فقالوا: ما دام هذا الحلي لا زكاة فيه، فإنه إذا أعد للكراء فلا زكاة فيه.
أما الحنابلة فقالوا: إذا أعد للكراء ففيه الزكاة.
ونحن نخاطب الجميع ونقول: كيف تقيسون الحلي أولاً على الثياب، ثم تقولون بعد ذلك: إذا أعدت الثياب للكراء فلا زكاة فيها، وإذا أعد الحلي للكراء ففيها الزكاة.
(2) وهذا تناقض؛ أي لو أن امرأة عليها حلي محرم كسوار على هيئة ثعبان، فعليها الزكاة فيه، ولو كان رجل عليه ثياب من حرير لم تجب عليه الزكاة فيها، فيقال: مقتضى القياس الطرد إما أن توجبوا الزكاة في الجميع، أو لا توجبوا الزكاة في الجميع.
قالوا: الفرق بينهما: أن الزكاة سقطت عن الذهب والفضة في الاستعمال المباح المأذون فيه، أما المحرم فلا تسقطـ لأنه غير مأذون فيه فيكون إعداده للبس غير معتبر شرعاً.
فنقول: الآن أقررتم أن الأصل في الحلي الزكاة، فأين الدليل على إسقاطها.
(3) «القنية» من الاقتناء وهو الادخار.(6/290)
عللوا ذلك: بأن الأصل في الحلي الزكاة فقويت النية بذلك، بخلاف الثياب، وهذا اعتراف منهم بأن الأصل في الحلي، وجوب الزكاة، فنقول لهم: وما الذي هدم هذا الأصل بدون دليل؟!
5 ـ قالوا: لو نوى الفرار من الزكاة باتخاذ الحلي لم تسقط الزكاة، وظاهر كلام أكثر أصحاب الإمام أحمد، أنه لو أكثر من شراء العقار، فراراً من الزكاة سقطت الزكاة، وقياس ذلك لو أكثر من شراء الثياب فراراً من الزكاة سقطت الزكاة؛ إذ لا فرق بين الثياب والعقار، فإذا كان الحلي المباح مفارقاً للثياب المعدة للبس في هذه الأحكام، فكيف نوجب أو نجوز إلحاقه بها في حكمٍ دلَّ النص على افتراقهما فيه (1) ؟
إذا تبين ذلك فإن الزكاة لا تجب في الحلي حتى يبلغ نصاباً لحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ السابق: «ما بلغ أن تؤدى زكاته فزُكِيَ فليس بكنز» (2) فنصاب الذهب عشرون ديناراً ونصاب الفضة مائتا درهم.
فإذا كان حلي الذهب ينقص وزن ذهبه عن عشرين ديناراً، وليس عند صاحبه من الذهب ما يكمل به النصاب فلا زكاة فيه.
وإذا كان حلي الفضة ينقص وزن فضته عن مائتي درهم، وليس عند صاحبه من الفضة ما يكمل به النصاب فلا زكاة فيه.
__________
(1) هؤلاء أوجبوا أن نلحق الحلي بالثياب أو نجوز إلحاق الحلي بالثياب، فنوجب الزكاة فيه بدون دليل، ونحن لا نرى جواز ولا وجوب إلحاقه بالثياب لأنه لا يصح القياس.
(2) سبق تخريجه ص (129) .(6/291)
والمعتبر وزن ما في الحلي من الذهب أو الفضة، وأما ما يكون فيه من اللؤلؤ ونحوه، فإنه لا يحتسب به في تكميل النصاب، ولا يزكى ما فيه من اللؤلؤ ونحوه؛ لأنه ليس من الذهب والفضة، والحلي من غير الذهب والفضة لا زكاة فيه إلا أن يكون للتجارة.
لكن هل المعتبر في نصاب الذهب الدينار الإسلامي الذي زنته مثقال، وفي نصاب الفضة الدرهم الإسلامي الذي زنته سبعة أعشار المثقال، أو المعتبر الدينار والدرهم عرفاً في كل زمان ومكان بحسبه سواء قل ما فيه من الذهب والفضة أم كثر (1) ؟
الجمهور على الأول، وحكي إجماعاً.
وحقق شيخ الإسلام ابن تيمية الثاني، أي: أن المعتبر الدينار والدرهم المصطلح عليه في كل زمان ومكان بحسبه، فما سمي ديناراً أو درهماً ثبتت له الأحكام المعلقة على اسم الدينار والدرهم، سواء قل ما فيه من الذهب والفضة أم كثر وهذا هو الراجح عندي؛ لموافقته ظاهر النصوص، وعلى هذا فيكون نصاب الذهب عشرين جنيهاً ونصاب الفضة مائتي ريال، وإن احتاط المرء، وعمل بقول الجمهور فقد فعل ما يثاب عليه إن شاء الله (2) .
__________
(1) الدرهم الإسلامي أقل من الدينار بالوزن ـ الدينار مثقال، والدرهم: سبعة أعشار المثقال ـ يعني كل عشرة دراهم إسلامية سبعة مثاقيل، وعشرة دنانير: تساوي عشرة مثاقيل، ومعنى ذلك في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان الدرهم أقل من الدينار، أما في عرفنا الآن فالدرهم أكبر بكثير من الدينار.
والدينار: هو النقد من الذهب، والدرهم هو النقد من الفضة.
والدينار: يسمى عندنا الجنيه، والدرهم يسمى ريالاً.
(2) فالأحوط أن نأخذ بالأقل، بمعنى ما كان يبلغ النصاب أولاً، فمثلاً لو قدرنا أن مائتي درهم لا تبلغ مائة وأربعين مثقالاً، إذا قدرنا بالوزن وهو رأي الجمهور، فالأحوط أن نأخذ بالعدد؛ لأن مائتي درهم تبلغ النصاب بالعدد دون الوزن، وإذا قدرنا أن مائتي درهم تزيد على مائة وأربعين مثقالاً، أي تكون مائتي مثقال، فالأحوط هنا الوزن وهو رأي الجمهور.
والنصاب الآن باعتبار الوزن ستة وخمسون ريالاً، وباعتبار العدد مائتا درهم معناه أنه قريب من ربع النصاب بالوزن، فستة وخمسون نسبتها إلى مائتين قريب من الربع قليلاً، على كل نعمل بالأحوط وذلك لمستحقي الزكاة، فإن بلغ النصاب باعتبار العدد قبل الوزن أخذنا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه الأحوط، وإن بلغ النصاب بالوزن قبل بلوغه بالعدد أخذنا برأي الجمهور؛ لأنه الأحوط.(6/292)
فإذا بلغ الحلي نصاباً خالصاً عشرين ديناراً إن كان ذهباً، ومائتي درهم إن كان فضة ففيه ربع العشر؛ لحديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء ـ يعني في الذهب ـ حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كانت لك عشرون ديناراً، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» (1) رواه أبو داود (2) .
وبعد: فإن على العبد أن يتقي الله ما استطاع، ويعمل جهده في تحري معرفة الحق في الكتاب والسنة، فإذا ظهر له الحق منهما وجب عليه العمل به، وألاَّ يقدم عليهما قول أحد من الناس كائناً من كان، ولا قياساً من الأقيسة، أي قياس كان، وعند التنازع يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة، فإنهما الصراط المستقيم، والميزان العدل القويم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
__________
(1) لأن نصف دينار من عشرين، ربع العشر، وقد صرح بذلك في حديث أبي بكر الذي رواه البخاري وغيره: «وفي الرقة إذا بلغت مائتي درهم ربع العشر» (1) .
(2) سبق تخريجه ص (97) .(6/293)
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته، وهديه حياً وميتاً.
وقال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء: 65] .
فأقسم الله تعالى بربوبيته لرسوله صلّى الله عليه وسلّم التي هي أخص ربوبية قسماً مؤكداً على أنه لا إيمان إلاّ بأن نحكم النبي صلّى الله عليه وسلّم في كل نزاع بيننا، وألاّ يكون في نفوسنا حرج وضيق مما قضى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن نسلم لذلك تسليماً تاماً بالانقياد الكامل والتنفيذ، وتأمل كيف أكد التسليم بالمصدر، فإنه يدل على أنه لا بد من تسليم تام، لا انحراف فيه، ولا توانيَ.
وتأمل أيضاً المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه، فالمقسم به ربوبية الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، والمقسم عليه هو عدم الإيمان إلا بتحكيم النبي صلّى الله عليه وسلّم تحكيماً تاماً، يستلزم الانشراح والانقياد والقبول، فإن ربوبية الله لرسوله تقتضي أن يكون ما حكم به مطابقاً لما أذن به ربه ورضيه، فإن مقتضى الربوبية الخاصة بالرسالة ألا يقره على خطأ لا يرضاه له، وإذا لم يظهر له الحق من الكتاب والسنة وجب عليه أن يأخذ بقول من يغلب على ظنه أنه أقرب إلى الحق بما معه من العلم والدين فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» (1) وأحق الناس بهذا الوصف الخلفاء الأربعة أبو بكر، وعمر،
__________
(1) سبق تخريجه ص (162) .(6/294)
وعثمان، وعلي ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فإنهم خلفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمته في العلم والعمل والسياسة والمنهج، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء.
ونسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فاتبعه، ورأى الباطل باطلاً فاجتنبه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
حرره كاتبه الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين
وذلك في 12 من صفر سنة 1382
والحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات(6/295)
صفحة فارغة(6/296)
كِتَابُ الصِّيَامِ
قوله: «كتاب الصيام» سبق لنا أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يسمون بالكتاب، والباب، والفصل.
فالكتاب للجنس، والباب للنوع، والفصل لمفردات المسائل.
فمثلاً كتاب الطهارة جنس، أنواعه: باب المياه، باب الآنية، باب الوضوء، باب الغسل، باب التيمم، باب الحيض وغيرها.
فكتاب الصيام هذا جنس؛ لأن ما سبقه في الصلاة والزكاة وهذا هو الصيام.
ورتب العلماء ـ رحمهم الله ـ الفقه في باب العبادات على حسب حديث جبريل ـ عليه السلام (1) ـ، وحديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في بعض ألفاظه (2) فقدموا الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج.
وقدمت الطهارة قبل الصلاة لأنها شرط، وهي مفتاح الصلاة فقدموها على الصلاة، وإلا لأدرجوها ضمن شروط الصلاة، أي: في أثناء كتاب الصلاة، لكن لما رأوا أنها مفتاحها، وأن الكلام عليها كثير قدموها على كتاب الصلاة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم ... (50) ؛ ومسلم في الإيمان (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الإيمان/ باب دعاؤكم أيمانكم ... (8) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وتقديم الصيام على الحج رواية مسلم.(6/297)
الصيام في اللغة مصدر صام يصوم، ومعناه أمسك، ومنه قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *} [مريم] فقوله: {صَوْمًا} أي: إمساكاً عن الكلام، بدليل قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} أي: إذا رأيت أحداً فقولي: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَن صَوْمًا} يعني إمساكاً عن الكلام {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} .
ومنه قولهم صامت عليه الأرض، إذا أمسكته وأخفته
وأما في الشرع فهو التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب، وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ويجب التفطن لإلحاق كلمة التعبد في التعريف؛ لأن كثيراً من الفقهاء لا يذكرونها بل يقولون: الإمساك عن المفطرات من كذا إلى كذا، وفي الصلاة يقولون هي: أقوال وأفعال معلومة، ولكن ينبغي أن نزيد كلمة التعبد، حتى لا تكون مجرد حركات، أو مجرد إمساك، بل تكون عبادة
وحكمه: الوجوب بالنص والإجماع.
ومرتبته في الدين الإسلامي: أنه أحد أركانه، فهو ذو أهمية عظيمة في مرتبته في الدين الإسلامي.
وقد فرض الله الصيام في السنة الثانية إجماعاً، فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم تسع رمضانات إجماعاً، وفرض أولاً على التخيير بين الصيام والإطعام؛ والحكمة من فرضه على التخيير التدرج في التشريع؛ ليكون أسهل في القبول؛ كما في تحريم الخمر، ثم(6/298)
تعين الصيام وصارت الفدية على من لا يستطيع الصوم إطلاقاً.
ثم اعلم أن حكمة الله ـ عزّ وجل ـ، أن الله نوع العبادات في التكليف؛ ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، فهل يمتثل ويقبل ما يوافق طبعه، أو يمتثل ما به رضا الله عزّ وجل؟
فإذا تأملنا العبادات: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وجدنا أن بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب، حتى يتبين الشحيح من الجواد، فربما يهون على بعض الناس أن يصلي ألف ركعة، ولا يبذل درهماً، وربما يهون على بعض الناس أن يبذل ألف درهم ولا يصلي ركعة واحدة، فجاءت الشريعة بالتقسيم والتنويع حتى يعرف من يمتثل تعبداً لله، ومن يمتثل تبعاً لهواه.
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة، وما يجب لها مما يحتاج إلى المال، كماء الوضوء الذي يشتريه الإنسان، والثياب لستر العورة تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والزكاة مالية محضة، وما تحتاج إليه من عمل بدني كإحصاء المال وحسابه، ونقل الزكاة إلى الفقير والمستحق فهو تابع، وليس داخلاً في صلب العبادة.
والحج مركب من مال وبدن إلا في أهل مكة فقد لا يحتاجون إلى المال، لكن هذا شيء نادر، أو قليل بالنسبة لغير أهل مكة.
والجهاد في سبيل الله مركب من مال وبدن، ربما يستقل بالمال وربما يستقل بالبدن.(6/299)
فالجهاد من حيث التركيب أعم العبادات؛ لأنه قد يكون بالمال فقط، وقد يكون بالبدن فقط، وقد يكون بهما.
والتكليف أيضاً ينقسم من وجه آخر، إلى: كف عن المحبوبات، وإلى بذل للمحبوبات، وهذا نوع من التكليف أيضاً.
كف عن المحبوبات مثل الصوم، وبذل للمحبوبات كالزكاة؛ لأن المال محبوب إلى النفس، فلا يبذل المال المحبوب إلى النفس إلا لشيء أحب منه.
وكذلك الكف عن المحبوبات، فربما يهون على المرء أن ينفق ألف درهم، ولا يصوم يوماً واحداً أو بالعكس، ومن ثم استحسن بعض العلماء استحساناً مبنياً على اجتهاد، لكنه سيء حيث أفتى بعض الأمراء أن يصوم شهرين متتابعين بدلاً عن عتق الرقبة في الجماع في نهار رمضان.
وقال: إن ردع هذا الأمير بصيام شهرين متتابعين، أبلغ من ردعه بإعتاق رقبة؛ لأنه ربما يعتق ألف رقبة ولا يهون عليه أن يصوم يوماً واحداً.
لكن هذا اجتهاد فاسد لأنه مقابل للنص، ولأن المقصود بالكفارات التهذيب والتأديب وليس تعذيب الإنسان، بل تطهيره بالإعتاق، فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أن من أعتق عبداً فإن الله يعتق بكل عضو منه عضواً من النار» (1) فهو فكاك من النار،
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق/ باب في العتق وفضله (2517) ؛ ومسلم في العتق/ باب فضل العتق (1509) (22) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/300)
فيكون أفضل وأعظم، فالحاصل أنك إذا تأملت الشريعة الإسلامية والتكاليف الإلهية وجدتها في غاية الحكمة والمطابقة للمصالح.
يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُرَ مَعَ صَحْوِ لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ أَصْبَحُوا مُفْطِرِينَ، وَإِنْ حَالَ دُونَهُ غَيْمٌ، أوْ قَتَرٌ فَظَاهِرُ المَذْهَبِ يَجِبُ صَوْمَهُ.........
قوله: «يجب صوم رمضان برؤية هلاله» هذه الجملة لا يريد بها بيان وجوب الصوم؛ لأنه مما علم بالضرورة، ولكن يريد أن يبين متى يجب، فذكر أنه يجب بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلاله: أي هلال رمضان
1 ـ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
2 ـ وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا» (1) .
وعلم منه أنه لا يجب الصوم بمقتضى الحساب، فلو قرر علماء الحساب المتابعون لمنازل القمر أن الليلة من رمضان، ولكن لم ير الهلال، فإنه لا يصام؛ لأن الشرع علق هذا الحكم بأمر محسوس وهو الرؤية.
وقال بعض المتأخرين: إنه يجب العمل بالحساب إذا لم تمكن الرؤية، وبه فسر حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وفيه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له» ، وقال: إنه مأخوذ من التقدير، وهو الحساب ولكن الصحيح أن معنى (اقدروا له) مفسر بكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن المراد به إكمال شعبان ثلاثين يوماً.
وقوله: «برؤية هلاله» يعم ما إذا رأيناه بالعين المجردة أو بالوسائل المقربة؛ لأن الكل رؤية.
__________
(1) سيأتي تخريجه ص (303) .(6/301)
الثاني: إتمام شعبان ثلاثين يوماً؛ لأن الشهر الهلالي لا يمكن أن يزيد عن ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن ينقص عن تسعة وعشرين يوماً، وعلى المذهب يزيد أمر ثالث، وهو أن يحول دون منظره غيم أو قتر، وسيأتي البحث فيه.
قوله: «فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين» أي: من شعبان، فإن لم ير الهلال مع صحو السماء، بأن تكون خالية من الغيم، والقتر والدخان والضباب، ومن كل مانع يمنع الرؤية ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين؛ حتى وإن كان هلَّ في الواقع، وفي هذه الحال لا يصومون إما على سبيل التحريم وإما على سبيل الكراهة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» (1) .
قوله: «وإن حال دونه غيم، أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه» أي: إن حال دون رؤية الهلال غيم، والغيم هو السحاب.
وقوله: «أو قتر» وهو التراب الذي يأتي مع الرياح، وكذلك غيرهما مما يمنع رؤيته.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914) ؛ ومسلم في الصيام/ باب «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (1082) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/302)
وقوله: «فظاهر المذهب» هذا التعبير غريب من المؤلف لأنه ليس من عادته، ولأنه كتاب مختصر فلعله عبر به لقوة الخلاف.
وقوله: «المذهب» المراد به هنا المذهب الاصطلاحي لا الشخصي، وذلك لأن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ليس عنه نص في وجوب صوم هذا اليوم خلافاً لما قاله الأصحاب.
وقوله: «يجب صومه» أي وجوباً ظنياً، احتياطياً.
فالوجوب هنا مبني على الاحتياط والظن، لا على اليقين والقطع؛ لأنه ربما يكون الهلال قد هَلَّ، لكن لم ير، وذلك لوجود الغيم أو القتر، أو غير ذلك ويحتمل أنه لم يظهر.
هذا هو المشهور من المذهب عند المتأخرين (1) حتى قال بعضهم: إن نصوص أحمد تدل على الوجوب، واستدلوا بما يلي:
1 ـ حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له» (2) .
فقوله: (فاقدروا له) من القدر وهو الضيق وبهذا فسره الأصحاب فقالوا: اقدروا له: أي ضيقوا عليه، قالوا: ومنه قوله
__________
(1) «زاد المعاد» (2/42) ، و «غاية المنتهى» (1/343) .
(2) أخرجه البخاري في الصوم/ باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعاً (1900) ومسلم في الصوم/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1080) (8) .(6/303)
تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] أي: من ضُيق عليه، قالوا: والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً.
2 ـ أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: «كان إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان، وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائماً» (1) .
3 ـ أنه يحتمل أن يكون الهلال قد هَلَّ، ولكن منعه هذا الشيء الحاجب، فيصوم احتياطاً.
ويجاب عما استدلوا به:
أما حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيقال: إذا سلمنا ما قلتم فلماذا لا نقول القدر أن يجعل رمضان تسعة وعشرين فتجعل التضيق على رمضان لأنه لم يهل هلاله إلى الآن، فليس له حق في الوجود فيبقى مضيقاً عليه، ولكننا نقول: الصواب أن المراد بالقدر هنا ما فسرته الأحاديث الأخرى، وهو إكمال شعبان ثلاثين يوماً إن كان الهلال لرمضان وإكمال رمضان، ثلاثين يوماً إن كان الهلال لشوال.
أما الاحتياط:
فأولاً: إنما يكون فيما كان الأصل وجوبه، وأما إن كان الأصل عدمه، فلا احتياط في إيجابه.
ثانياً: ما كان سبيله الاحتياط، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه ليس بلازم، وإنما هو على سبيل الورع والاستحباب، وذلك
__________
(1) أخرجه أحمد (2/5، 13) ؛ وأبو داود في الصيام/ باب الشهر يكون تسعاً وعشرين (2320) ؛ والدارقطني (2/161) ؛ والبيهقي (4/204) .
وفي «الإرواء» : (4/9) : «وإسناده صحيح على شرطهما» .(6/304)
لأننا إذا احتطنا وأوجبنا فإننا وقعنا في غير الاحتياط، من حيث تأثيم الناس بالترك، والاحتياط هو ألا يؤثم الناس إلا بدليل يكون حجة عند الله تعالى.
وأما أثر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، فلا دليل فيه أيضاً على الوجوب لأن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قد فعله على سبيل الاستحباب؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر الناس به، ولو أهله على الأقل.
القول الثاني: يحرم صومه (1) واستدل هؤلاء بما يأتي:
1 ـ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» (2) وإن لم يكن يصوم صوماً فصام هذا اليوم الذي فيه شك فقد تقدم رمضان بيوم.
2 ـ وبحديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ الذي علقه البخاري، ووصله أصحاب السنن ـ: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم» (3) ولا شك أن هذا يوم يشك فيه؛ لوجود الغيم والقتر.
__________
(1) انظر: «زاد المعاد» (2/46) ؛ و «الإنصاف» (2/269) .
(2) سبق تخريجه ص (302) .
(3) رواه البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» ووصله أبو داود في الصيام/ باب كراهية صوم يوم الشك (2334) ؛ والترمذي في الصوم/ باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك (686) ؛ والنسائي في الصيام/ باب صيام يوم الشك (4/153) ؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في صيام يوم الشك (1645) ؛ وصححه ابن خزيمة (1914) ؛ وابن حبان (3585) ؛ وأخرجه الدارقطني (2/157) وقال: «هذا إسناد حسن صحيح ورواته كلهم ثقات» وصححه أيضاً الترمذي.(6/305)
3 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» (1) فقوله: «أكملوا العدة ثلاثين» أمر، والأصل في الأمر الوجوب، فإذا وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً حرم صوم يوم الشك.
4 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هلك المتنطعون» (2) فإن هذا من باب التنطع في العبادة، والاحتياط لها في غير محله.
القول الثالث: أن صومه مستحب، وليس بواجب.
واستدلوا: بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (3) .
القول الرابع: أن صومه مكروه، وليس بحرام (4) ولعله لتعارض الأدلة عندهم.
القول الخامس: أن صومه مباح، وليس بواجب، ولا مكروه، ولا محرم ولا مستحب (5) لتعارض الأدلة عندهم.
القول السادس: العمل بعادة غالبة فإذا مضى شهران كاملان فالثالث ناقص، وإذا مضى شهران ناقصان فالثالث كامل، فإذا كان شهر رجب وشعبان ناقصين، فرمضان كامل، وإذا كان رجب وجمادى الثانية ناقصين، فشعبان كامل (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» (1907) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه مسلم في العلم/ باب هلك المتنطعون (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) سبق تخريجه ص (304) .
(4) انظر: «زاد المعاد» (2/46) ؛ و «الإنصاف» (2/270) .
(5) انظر: «الإنصاف» (2/270) .
(6) انظر: «الإنصاف» (2/270) .(6/306)
القول السابع: أن الناس تبعٌ للإمام (1) ، فإن صام الإمام صاموا، وإن أفطر أفطروا، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» (2) .
وأصح هذه الأقوال هو التحريم، ولكن إذا رأى الإمام وجوب صوم هذا اليوم، وأمر الناس بصومه، فإنه لا ينابذ، ويحصل عدم منابذته بألا يظهر الإنسان فطره، وإنما يفطر سراً.
والمسألة هنا لم يثبت فيها دخول الشهر، أما لو حكم ولي الأمر بدخول الشهر فالصوم واجب.
وَإِنْ رُئيَ نَهَاراً فَهْوَ للَّيْلَةِ المُقْبِلَةِ.
قوله: «وإن رئي نهاراً فهو لليلة المقبلة» الضمير يعود على الهلال، والمؤلف لم يرد الحكم بأنه لليلة المقبلة، ولكنه أراد أن ينفي قول من يقول: إنه لليلة الماضية، فإن بعض العلماء يقول: إذا رئي الهلال نهاراً قبل غروب الشمس من هذا اليوم فإنه لليلة الماضية، فيلزم الناس الإمساك.
وفصل بعض العلماء بين ما إذا رئي قبل الزوال أو بعده.
والصحيح أنه ليس لليلة الماضية، اللهم إلا إذا رئي بعيداً عن الشمس بينه وبين غروب الشمس مسافة طويلة، فهذا قد
__________
(1) انظر: «الإنصاف» (2/270) .
(2) أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء في الفطر والأضحى متى يكون (802) عن عائشة رضي الله عنها، وقال: «حسن غريب، صحيح من هذا الوجه» ، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324) ؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون» قال ابن مفلح في «الفروع» (2/14) : و «الإسناد جيد» .(6/307)
يقال: إنه لليلة الماضية، ولكنه لم ير فيه لسبب من الأسباب، لكن مع ذلك لا نتيقن هذا الأمر.
وقوله: «لليلة المقبلة» ليس على إطلاقه أيضاً؛ لأنه إن رئي تحت الشمس بأن يكون أقرب للمغرب من الشمس فليس لليلة المقبلة قطعاً؛ لأنه سابق للشمس، والهلال لا يكون هلالاً إلا إذا تأخر عن الشمس.
فمثلاً: إذا رئي قبل غروب الشمس بنصف ساعة، وغرب قبل غروبها بربع ساعة، فلا يكون للمقبلة قطعاً لأنه غاب قبل أن تغرب الشمس، وإذا غاب قبل أن تغرب الشمس فلا عبرة برؤيته؛ لأن العبرة برؤيته أن يُرى بعد غروب الشمس متخلفاً عنها.
وَإِذَا رَآهُ أَهْلُ بَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ.
قوله: «وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم» المراد بأهل البلد هنا من يثبت الهلال برؤيته، فهو عام أريد به خاص، فليس المراد به جميع أهل البلد، من كبير وصغير وذكر، وأنثى، فإذا ثبتت رؤيته في مكان لزم الناس كلهم الصوم في مشارق الأرض ومغاربها، ويدل على ذلك:
1 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» (1) ؛ والخطاب موجه لعموم الأمة.
2 ـ أن ذلك أقرب إلى اتحاد المسلمين، واجتماع كلمتهم،
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإن رأيتموه فأفطروا» (1909) ؛ ومسلم في الصيام/ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً (1081) (19) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/308)
وعدم التفرق بينهم بحيث لا يكون هؤلاء مفطرين وهؤلاء صائمين، فإذا اجتمعوا وكان يوم صومهم ويوم فطرهم واحداً كان ذلك أفضل وأقوى للمسلمين في اتحادهم، واجتماع كلمتهم، وهذا أمر ينظر إليه الشرع نظر اعتبار.
وعلى ذلك إذا ثبتت رؤيته وقت المغرب في أمريكا وجب الصوم على الموجودين في الصين رغم تباعد مطالع الهلال.
القول الثاني: لا يجب إلا على من رآه، أو كان في حكمهم بأن توافقت مطالع الهلال، فإن لم تتفق فلا يجب الصوم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: تختلف مطالع الهلال باتفاق أهل المعرفة بالفلك، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا، واستدلوا بالنص والقياس.
أما النص فهو:
1 ـ قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال إنهم شاهدوه لا حقيقة؛ ولا حكماً، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده.
2 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» (1) فعلل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال إنه رآه لا حقيقة، ولا حكماً.
__________
(1) سبق تخريجه ص (308) .(6/309)
3 ـ حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيه أن أم الفضل بنت الحارث بعثت كريباً إلى معاوية بالشام فقدم المدينة من الشام في آخر الشهر فسأله ابن عباس عن الهلال فقال: رأيناه ليلة الجمعة فقال ابن عباس: لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقال: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1) .
وأما القياس فلأن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] ، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر.
فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي، فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا قياس جلي
وهذا القول هو القول الراجح، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
ولهذا قال أهل العلم: إذا رآه أهل المشرق وجب على أهل المغرب المساوين لهم في الخط أن يصوموا؛ لأن المطالع متفقة، ولأن الهلال إذا كان متأخراً عن الشمس في المشرق فهو في المغرب من باب أولى؛ لأن سير القمر بطيء كما قال الله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا *} [الشمس] .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام/ باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم (1087) .(6/310)
وإذا رآه أهل المغرب هل يجب الصيام على أهل المشرق؟ الجواب: لا؛ لأنه ربما في سير هذه المسافة تأخر القمر.
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام فإذا صام صاموا، وإذا أفطر أفطروا، ولو كانت الخلافة عامة لجميع المسلمين فرآه الناس في بلد الخليفة، ثم حكم الخليفة بالثبوت لزم من تحت ولايته في مشارق الأرض أو مغاربها، أن يصوموا أو يفطروا لئلا تختلف الأمة وهي تحت ولاية واحدة، فيحصل التنازع والتفرق، هذا من جهة المعنى.
ومن جهة النص: فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس» (1) ، فالناس تبع للإمام، والإمام عليه أن يعمل ـ على القول الراجح ـ باختلاف المطالع.
وعمل الناس اليوم على هذا أنه إذا ثبت عند ولي الأمر لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر، وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي، حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع، ألا يظهر خلافاً لما عليه الناس.
القول الرابع: أنه يلزم حكم الرؤية كل من أمكن وصول الخبر إليه في الليلة، وهذا في الحقيقة يشابه المذهب في الوقت الحاضر؛ لأنه يمكن أن يصل الخبر إلى جميع أقطار الدنيا في أقل من ليلة،
__________
(1) أخرجه الترمذي في الصوم/ باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون (697) ؛ والدارقطني (2/164) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أبو داود في الصيام/ باب إذا أخطأ القوم الهلال (2324) ؛ وابن ماجه في الصيام/ باب ما جاء في شهري العيد (1660) ولفظه عندهما «الفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون» .(6/311)
لكن يختلف عن المذهب فيما إذا كانت وسائل الاتصالات مفقودة.
مسألة: الأقليات الإسلامية في الدول الكافرة، إن كان هناك رابطة، أو مكتب، أو مركز إسلامي؛ فإنها تعمل بقولهم، وإذا لم يكن كذلك، فإنها تخيَّر، والأحسن أن تتبع أقرب بلد إليها.
ويُصَامُ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَلَوْ أُنْثَى. فَإنْ صَامُوا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثَلاثِينَ يَوْماً، فَلَمْ يُرَ الهِلاَلَ، أَوْ صَامُوا لأَجْلِ غَيْمٍ لَمْ يُفْطِرُوا.
قوله: «ويصام» مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى رمضان.
قوله: «برؤية عدل» وبعضهم يعبر بقوله: «برؤية ثقة» وهذا أعم.
والمراد بسبب رؤية العدل يثبت الشهر.
والدليل حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه» (1) .
وكذلك حديث الأعرابي الذي أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى الهلال فقال: أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: نعم فقال لبلال: «قم يا بلال فأذن بالناس أن يصوموا غداً» (2) . فهذان الحديثان وإن كانا ضعيفين لكن أحدهما يسند الآخر. والصيام بشهادة واحد مقتضى القياس؛ لأن الناس يفطرون بأذان
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342) ؛ وصححه ابن حبان (3447) ؛ والحاكم (1/423) .
(2) أخرجه أبو داود في الصيام/ باب في شهادة الوافد على رؤية هلال رمضان (2340) ؛ والترمذي في الصيام/ باب ما جاء في الصوم بالشهادة (691) ؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/132) ؛ وابن ماجه في الصوم/ باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (1652) انظر: «نصب الراية» (2/443) .(6/312)
الواحد ويمسكون بأذان الواحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» (1) .
والعدل في اللغة: هو المستقيم، وضده المعوج.
وفي الشرع: من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرة، ولم يصر على صغيرة.
والمراد بالقيام بالواجبات أداء الفرائض كالصلوات الخمس.
والمراد بالكبيرة كل ذنب رتب عليه عقوبة خاصة، كالحد والوعيد واللعن ونحو ذلك مثاله النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض لقصد الإفساد بينهم، كأن يذهب شخص لآخر فيقول له: فلان قال فيك كذا وكذا، مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بينهم، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة قتات» (2) أي: نمام، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (3) فإذا نم الإنسان مرة واحدة ولم يتب فليس بعدل.
ومن الكبائر أيضاً الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره من عيب خلقي، أو خُلقي، أو ديني.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان/ باب أذان الأعمى ... (617) ؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان أن الدخول في الصوم ... (1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري في الأدب/ باب ما يكره من النميمة (6056) ؛ ومسلم في الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169) ، عن حذيفة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري في الجنائز/ باب الجريدة على القبر (1361) ؛ ومسلم في الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/313)
فالخلقي كأن تقول: إن هذا الرجل أعور، أو أنفه معوج، أو فمه واسع، وما أشبه ذلك.
والديني مثل أن تقول: هذا متهاون بالصلاة، وهذا لا يبر والديه، وما أشبه ذلك.
والخُلُقي كأن تقول: هذا أحمق، سريع الغضب، عصبي، وما أشبه ذلك إذا كان في غيبته أما إذا كان في حضوره، فإنه يسمى سبّاً وليس بغيبة، والفقهاء يزيدون على ذلك في وصف العدل ألا يخالف المروءة، فإن خالف المروءة فإنه ليس بعدل، ومثلوا لذلك بمن يأكل في السوق، وبمن يتمسخر بالناس أي: يقلد أصواتهم أو حركاتهم وما أشبه ذلك.
وقياس كلام أحمد في قوله: إن من ترك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة، أن من ترك عبادة مؤكدة أنه تسقط عدالته.
ولكن ينبغي أن يقال: إن الشهادة في الأموال ليست كالشهادة في الأخبار الدينية، ففي الأموال يجب أن نشدد، لا سيما في هذا العصر لكثرة من يشهدون زوراً، لكن في الشهادة الدينية يبعد أن يكذب الإنسان فيها، إلا أن يكون هناك مغريات توجب أن يكذب.
مثل ما يقال في بعض الدول إذا شهد شخص بدخول رمضان أعطوه مكافأة، أو بشهادة شوال أخذ مكافأة هذه الأشياء ربما تغري ضعيف الإيمان فيشهد بما لا يرى.
ولو قلنا بقول الفقهاء لم نجد عدلاً؛ فمن يسلم من الغيبة،(6/314)
والسخرية بالناس، والتهاون بالواجبات، وأكل المحرم، وغير ذلك؛ ولهذا كان الصحيح بالنسبة للشهادة أنه يقبل منها ما يترجح أنه حق وصدق؛ لقوله تعالى: {مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ؛ ولأن الله لم يأمرنا برد شهادة الفاسق بل أمرنا بالتبين فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .
ويشترط مع العدالة أن يكون قوي البصر بحيث يحتمل صدقه فيما ادعاه، فإن كان ضعيف البصر لم تقبل شهادته، وإن كان عدلاً؛ لأنه إذا كان ضعيف البصر وهو عدل، فإننا نعلم أنه متوهم.
والدليل على ذلك أن القوة والأمانة شرطان أساسيان في العمل، ففي قصة موسى مع صاحب مدين قالت إحدى ابنتيه: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] وقال العفريت من الجن الذي التزم أن يأتي بعرش ملكة سبأ {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] ومن ذلك الشهادة لا بد فيها من الأمانة التي تقتضيها العدالة، ولا بد فيها من القوة التي يحصل بها إدراك المشهود به ففات المؤلف هنا أن يقول: قوي البصر، لكن لو أراد شخص أن يعتذر عن المؤلف، فيقول: إن العدل إذا كان ضعيف البصر فلا يمكن أن يشهد بما لا يرى.
فنقول: هذا ليس بعذر؛ لأن العدل إذا توهم أنه رأى الهلال فسوف يصر على أنه رآه؛ لما عنده من الدين الذي يرى أنه من الواجب عليه أن يبلغ ليصوم الناس أو يفطروا، لذلك فلا بد من إضافة قوي البصر.(6/315)
مسائل:
الأولى: لو تراءى عدل الهلال مع جماعة كثيرين، وهو قوي البصر ولم يره غيره فهل يصام برؤيته؟
الجواب: نعم يصام، وهذا هو المشهور من مذهبنا وعليه أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء: إنه إذا لم يره غيره مع كثرة الجمع فإنه لا يعتبر قوله؛ لأنه يبعد أنه ينفرد بالرؤية دونهم.
والصحيح الأول لعدالته وثقته.
الثانية: من رأى الهلال وهو ممن يفعل الكبيرة، كشرب الخمر يلزمه أن يخبر أنه رأى الهلال، ولا يخبر أنه يفعل كبيرة؛ لأن الأحكام تتبعّض.
الثالثة: على المذهب لا تقبل شهادة مستور الحال؛ للجهل بعدالته.
وعندي أن القاضي إذا وثق بقوله فلا يحتاج للبحث عن عدالته.
قوله: «ولو أنثى» «لو» غالباً تأتي إشارة للخلاف، والمسألة هنا كذلك فإن بعض العلماء قال: إن الأنثى لا تقبل شهادتها لا في رمضان، ولا في غيره من الشهور؛ لأن الذي رأى الهلال في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل (1) ؛ ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (2) والمرأة شاهدة وليست شاهداً.
__________
(1) سبق تخريجه (312)
(2) أخرجه أحمد (4/321) ؛ والنسائي في الصوم/ باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (4/133) ؛ والدارقطني (2/167) عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصححه في «الإرواء» (4/16) .(6/316)
لكن الأصحاب يقولون: إن هذا خبر ديني يستوي فيه الذكور والإناث، كما استوى الذكور والإناث في الرواية، والرواية خبر ديني؛ ولهذا لم يشترطوا لرؤية هلال رمضان ثبوت ذلك عند الحاكم، ولا لفظ الشهادة، بل قالوا لو سمع شخصاً ثقة يحدث الناس في مجلسه بأنه رأى الهلال فإنه يلزمه أن يصوم بخبره.
قوله: «فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» «إن صاموا» أي: الناس «بشهادة واحد» أي: في دخول شهر رمضان ولم يروا هلال شوال، فإنهم لا يفطرون فيصومون واحداً وثلاثين يوماً؛ لأنه لا يثبت خروج الشهر إلا بشهادة رجلين، وهنا الصوم مبني على شهادة رجل فهو مبني على سبب لا يثبت به خروج الشهر، فلو أفطروا لكانوا قد بنوا على شهادة واحد وهذا لا يكون في الفطر، هذا هو المشهور من المذهب (1) .
وقال بعض أهل العلم: بل إذا صاموا ثلاثين يوماً بشهادة واحد لزمهم الفطر؛ لأن الفطر تابع للصوم ومبني عليه، والصوم ثبت بدليل شرعي وقد صاموا ثلاثين يوماً، ولا يمكن أن يزيد الشهر على ثلاثين يوماً، أو يقال يلزمهم الفطر تبعاً للصوم؛ لأنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً وهذا القول هو الصحيح.
__________
(1) «المبدع» (3/9) ؛ و «كشاف القناع» (2/305) .(6/317)
وقوله: «أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا» إذا صاموا لأجل غيم، فإنهم لا يفطرون؛ لأن صيامهم في أول الشهر ليس مبنياً على بينة، وإنما هو احتياط.
وعلى القول الصحيح لا ترد هذه المسألة؛ لأنه لن يصام لأجل غيم، فهذه المسألة إنما ترد على قول من يلزمهم بالصيام لأجل الغيم.
تنبيه: كل الأشياء المعلقة بدخول شهر رمضان لا تحل في ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان غيم أو قتر، وإنما يجب الصوم فقط لأن الشهر لم يثبت دخوله شرعاً، وإنما صمنا احتياطاً، مثال ذلك، لو قال رجل لزوجته: إذا دخل رمضان فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق بتلك الليلة، وكذا الديون المؤجلة إلى دخول شهر رمضان فإنها لا تحل بتلك الليلة، وكذا المعتدة بالأشهر إذا كانت عدتها تنتهي بتمام شعبان فإنها لا تنتهي بتلك الليلة.
مسألة: لو صام برؤية بلد، ثم سافر لبلد آخر قد صاموا بعدهم بيوم، وأتم هو ثلاثين يوماً ولم ير الهلال في تلك البلد التي سافر إليها، فهل يفطر، أو يصوم معهم؟
الصحيح أنه يصوم معهم، ولو صام واحداً وثلاثين يوماً، وربما يقاس ذلك على ما لو سافر إلى بلد يتأخر غروب الشمس فيه، فإنه يفطر حسب غروب الشمس في تلك البلد التي سافر إليها.
وقيل: ـ وهو المذهب ـ إنه يفطر سراً؛ لأنه إذا رؤي في بلد لزم الناس كلهم حكم الصوم والفطر.(6/318)
وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلاَلَ رَمَضَانَ، وَرُدَّ قَولُهُ، أوْ رَأى هِلاَلَ شَوَّالٍ صَام..........
قوله: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله، أو رأى هلال شوال صام» «وحده» أي: منفرداً عن الناس، سواء كان منفرداً بمكان أو منفرداً برؤية.
مثال ما إذا كان منفرداً بمكان، إذا كان الإنسان في برية ليس معه أحد فرأى الهلال، وذهب إلى القاضي فرد قوله إما لجهالته بحاله، أو لأي سبب من الأسباب.
ومثال الانفراد بالرؤية، أن يجتمع معه الناس لرؤية الهلال فيراه هو، ولا يراه غيره لكن رد قوله فيلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (1) وهذا الرجل رآه فوجب عليه الصوم، وكل ما يترتب على دخول الشهر؛ لأنه رآه.
وقال بعض العلماء: لو رأى هلال رمضان وحده لم يلزمه الصوم؛ لأن الهلال ما هلَّ واشتهر لا ما رئي.
وقوله: «أو رأى هلال شوال صام» أي: وجوباً ففرق المؤلف بين من انفرد برؤية هلال رمضان، ورد قوله بأنه يصوم مع مفارقته الجماعة، وبين من انفرد برؤية هلال شوال فإنه يصوم ولا يفطر برؤيته؛ ووجه ذلك أن هلال شوال لا يثبت شرعاً إلا بشاهدين، وهنا لم يشهد به إلا واحد، فلا يكون داخلاً شرعاً فيلزمه الصوم مع أنه رآه.
__________
(1) سبق تخريجه ص (308) .(6/319)
وأما هلال رمضان فيثبت بشهادة واحد وقد شهد به فلزمه الصوم.
وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الفطر سراً لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» وهذا الرجل قد رآه فيلزمه الفطر، ولكن يكون سراً؛ لئلا يظهر مخالفة الجماعة.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هاتين المسألتين أنه يتبع الناس؛ فلو رأى وحده هلال رمضان لم يصم؛ ولو رأى هلال شوال وحده لم يفطر؛ لأن الهلال ما هَلَّ واستهل، واشتهر، لا ما رئي.
والذي يظهر لي في مسألة الصوم في أول الشهر ما ذكره المؤلف أنه يصوم، وأما في مسألة الفطر فإنه لا يفطر تبعاً للجماعة، وهذا من باب الاحتياط، فنكون قد احتطنا في الصوم والفطر، ففي الصوم قلنا له: صم، وفي الفطر قلنا له: لا تفطر بل صم.
مسألة: تبين مما سبق أن دخول رمضان يثبت بشهادة واحد، ودليل ذلك حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه» (1) .
وهلال شوال وغيره من الشهور لا يثبت إلا بشاهدين لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (2) ومثله دخول
__________
(1) سبق تخريجه ص (312) .
(2) سبق تخريجه ص (316) .(6/320)
شهر ذي الحجة لا يثبت إلا بشاهدين، فلو رآه شخص وحده لم يثبت دخول الشهر بشهادته؛ وعلى هذا فإذا وقف رجل بعرفة في اليوم التاسع عنده الذي هو الثامن عند الناس فإن ذلك لا يجزئه. وإن أراد أن يصوم اليوم التاسع عنده الذي هو عند الناس الثامن بنية أنه يوم عرفة، فإن ذلك لا يجزئه عن صوم يوم عرفة، ولو صام اليوم التاسع عند الناس الذي هو العاشر عنده، هل يجوز أن يصومه؟
الجواب: نعم يجوز أن يصومه؛ لأنه وإن كان عنده حسب رؤيته العاشر فإنه عند الناس التاسع، فلم يثبت شرعاً دخول شهر ذي الحجة بشهادة هذا الرجل، وعلى هذا فإذا وقف في العاشر عنده، وهو التاسع عند الناس أجزأه الوقوف.
وقول المؤلف هنا: «ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله» ولم يقل في هلال شوال ورد قوله؟ لأن هلال شوال لا يثبت برؤية واحد مطلقاً حتى لو قبل وصدق، بخلاف هلال رمضان.
وَيَلْزَمُ الصَّوْمُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَادِرٍ. .........
قوله: «ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر» هذا شروع في بيان شروط من يلزمه الصوم قوله (لكل مسلم) اللام زائدة، أي: يلزم كل مسلم.
هذا هو الشرط الأول، والإسلام ضده الكفر، فالكافر لا يلزمه الصوم، ولا يصح منه.
ومعنى قولنا لا يلزمه أننا لا نلزمه به حال كفره، ولا بقضائه بعد إسلامه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ(6/321)
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *} [التوبة] .
فإذا كانت النفقات ونفعها متعد لا تقبل منهم لكفرهم، فالعبادات الخاصة من باب أولى.
وكونه لا يقضي إذا أسلم؛ دليله قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وثبت عن طريق التواتر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان لا يأمر من أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات.
ولكن هل يعاقب على تركها في الآخرة إذا لم يسلم؟
الجواب: نعم، يعاقب على تركها في الآخرة، وعلى ترك جميع واجبات الدين؛ لأنه إذا كان المسلم المطيع لله الملتزم بشرعه قد يعاقب عليها، فالمستكبر من باب أولى، وإذا كان الكافر يعذب على ما يتمتع به من نعم الله من طعام وشراب ولباس، ففعل المحرمات وترك الواجبات من باب أولى.
والدليل ما ذكره الله تعالى عن أصحاب اليمين أنهم يقولون للمجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *} [المدثر] . فذكروا أربعة أسباب منها ترك واجبات
فإن قال قائل: تكذيبهم بيوم الدين كفر وهو الذي أدخلهم سقر؟
فالجواب: أنهم ذكروا أربعة أسباب ولولا أن لهذه(6/322)
المذكورات، مع تكذيبهم بيوم الدين أثراً في إدخالهم النار، لم يكن في ذكرها فائدة، ولو أنهم لم يعاقبوا عليها ما جرت على بالهم.
فالسبب الأول: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الصلاة.
والثاني: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *} الزكاة.
والثالث: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *} مثل الاستهزاء بآيات الله.
والرابع: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *} .
وقوله: «مكلف» هذا هو الشرط الثاني، وإذا رأيت كلمة مكلف في كلام الفقهاء فالمراد بها البالغ العاقل؛ لأنه لا تكليف مع الصغر ولا تكليف مع الجنون.
والبلوغ يحصل بواحد من ثلاثة بالنسبة للذكر: إتمام خمس عشرة سنة وإنبات العانة، وإنزال المني بشهوة، وللأنثى بأربعة أشياء هذه الثلاثة السابقة ورابع، وهو الحيض، فإذا حاضت فقد بلغت حتى ولو كانت في سن العاشرة.
والعاقل ضده المجنون، أي: فاقد العقل، من مجنون ومعتوه ومهزرٍ؛ فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف، وليس عليه واجب من واجبات الدين لا صلاة ولا صيام ولا إطعام بدل صيام، أي: لا يجب عليه شيء إطلاقاً، إلا ما استثني كالواجبات المالية، وعليه فالمهذري أي: المخرف لا يجب عليه صوم، ولا إطعام بدله لفقد الأهلية وهي العقل.
وهل مثل المهذري من أضل عقله بحادث؟(6/323)
فالجواب أنه إن كان كالمغمى عليه فإنه يلزمه الصوم؛ لأن المغمى عليه يلزمه الصوم فيقضيه بعد صحوه، وإن وصل به فقد العقل إلى الجنون، ومعه شعوره فله حكم المجنون، وكذلك من كان يجن أحياناً، ففي اليوم الذي يجن فيه لا يلزمه الصوم، وفي اليوم الذي يكون معه عقله يلزمه.
ودليل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «رفع القلم عن ثلاثة النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حت يبلغ وعن المجنون حتى يفيق» (1) .
وقوله: «قادر» هذا هو الشرط الثالث، أي: قادر على الصيام احترازاً من العاجز، فالعاجز ليس عليه صوم لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
لكن بالتتبع والاستقراء تبين أن العجز ينقسم إلى قسمين: قسم طارئ، وقسم دائم.
فالقسم الطارئ هو الذي يرجى زواله، وهو المذكور في الآية فينتظر العاجز حتى يزول عجزه ثم يقضي لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
والدائم هو الذي لا يرجى زواله وهو المذكور في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] حيث فسرها ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالشيخ والشيخة إذا كانا لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً (2) ، والحقيقة
__________
(1) سبق تخريجه ص (201) .
(2) أخرجه البخاري في التفسير/ باب قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (4505) .(6/324)
أنه بالنظر إلى ظاهر الآية ليس فيها دلالة على ما فسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ؛ لأن الآية في الذين يطيقون الصوم {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وهذا واضح أنهم قادرون على الصوم، وهم مخيرون بين الصوم والفدية، وهذا أول ما نزل وجوب الصوم كان الناس مخيرين إن شاؤوا صاموا، وإن شاؤوا أفطروا وأطعموا، وهذا ما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ قال: «لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها» (1) .
لكن غور فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل يدل على عمق فقهه ـ رضي الله عنه ـ؛ لأن وجه الدلالة من الآية أن الله تعالى جعل الفدية عديلاً للصوم لمن قدر على الصوم، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم نسخ التخيير إلى وجوب الصوم عينا، فإذا لم يقدر عليه بقي عديله وهو الفدية، فصار العاجز عجزاً لا يرجى زواله، يجب عليه الإطعام عن كل يوم مسكيناً.
أما كيفية الإطعام، فله كيفيتان:
الأولى: أن يصنع طعاماً فيدعو إليه المساكين بحسب الأيام
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير/ باب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4507) ؛ ومسلم في الصيام/ باب بيان نسخ قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1145) .(6/325)
التي عليه، كما كان أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ يفعله لما كبر.
الثانية: أن يطعمهم طعاماً غير مطبوخ، قالوا: يطعمهم مد برٍ أو نصف صاع من غيره، أي: من غير البر، ومد البر هو ربع الصاع النبوي، فالصاع النبوي أربعة أمداد، والصاع النبوي أربعة أخماس صاعنا، وعلى هذا يكون صاعنا خمسة أمداد، فيجزئ من البر عن خمسة أيام خمسة مساكين، لكن ينبغي في هذه الحال أن يجعل معه ما يؤدمه من لحم أو نحوه، حتى يتم قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
وأما وقت الإطعام فهو بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه.
وهل يقدم الإطعام قبل ذلك؟
الجواب لا يقدم؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ أن تقدم الصوم في شعبان؟
الجواب: لا يجزئ.
الشرط الرابع: أن يكون مقيماً، ولم يذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ اعتماداً على ما سيذكره في حكم الصوم في السفر، فإن كان مسافراً فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وقد أجمع العلماء أنه يجوز للمسافر الفطر، واختلفوا فيما لو صام، فذهبت الظاهرية وبعض أهل القياس إلى أنه لا يصح صوم مسافر، وأنه لو صام فقد قدم الصوم على وقته وكان كمن صام رمضان في شعبان.(6/326)
وحجتهم في هذا قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] لأن «عدة» مبتدأ خبرها محذوف والتقدير فعليه عدة من أيام أخر، والأخر بمعنى المغايرة وقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» (1) وإذا لم يكن براً صار إثماً.
ولكن قولهم ضعيف، فلقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صام في سفره في رمضان، وثبت أن الصحابة كانوا يصومون في سفرهم في رمضان فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم (2) ، وكذلك حديث حمزة بن عمرو الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنه يصادفني هذا الشهر وأنا في سفر فقال له: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» (3) ، وحيئذ يكون المراد بالآية بيان البدل أن عليه عدة من أيام أخر، لا وجوب أن تكون عدة من أيام أخر.
وعليه فإن المسافر لا يلزمه الصوم، لكن يلزمه القضاء كالمريض.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم/ باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن ظلل عليه واشتد الحر: «ليس من البر الصيام في السفر» (1946) ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية ... (1115) عن جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في الصوم/ باب لم يعب أصحاب النبي (ص) بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار (1947) ؛ ومسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من غير معصية ... (1118) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري في الصوم/ باب الصوم في السفر والإفطار (1943) ؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1121) عن عائشة رضي الله عنها.(6/327)
وأيهما أفضل للمريض والمسافر أن يصوما، أو يفطرا؟
نقول: الأفضل أن يفعلا الأيسر، فإن كان في الصوم ضرر كان الصوم حراماً لقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فإن هذه الآية تدل على أن ما كان ضرراً على الإنسان كان منهياً عنه.
فإذا قال قائل: هذا في القتل فقط لا في مطلق الضرر؟
فالجواب: نعم هذا ظاهر الآية، لكن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ استدل بها على نفي الضرر فأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، وذلك أنه بعثه مع سرية فأجنب فتيمم ولم يغتسل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» فقال: يا رسول الله ذكرت قول الله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ، وكانت الليلة باردة فتيممت، فضحك الرسول صلّى الله عليه وسلّم (1) تقريراً لفعله، وهذا يدل على أن الآية تتضمن النهي عن قتل النفس، وكل ما كان فيه ضرر.
وعليه فنقول: إذا كان الصوم يضر المريض كان الصوم حراماً عليه.
فإذا قال قائل: ما مقياس الضرر؟
قلنا: إن الضرر يعلم بالحس، وقد يعلم بالخبر؛ أما بالحس فأن يشعر المريض بنفسه أن الصوم يضره، ويثير عليه الأوجاع، ويوجب تأخر البرء، وما أشبه ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في التيمم/ باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت ... ، ووصله أبو داود في الطهارة/باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ (334) ، والدارقطني (1/178) وصححه ابن حبان (1315) والحافظ في الفتح.(6/328)
وأما الخبر فأن يخبره طبيب عالم ثقة بذلك، أي: بأنه يضره؛ فإن أخبره عامي ليس بطبيب فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير عالم، ولكنه متطبب، فلا يأخذ بقوله، وإن أخبره طبيب غير ثقة فلا يأخذ بقوله.
وهل يشترط أن يكون مسلماً لكي نثق به؛ لأن غير المسلم لا يوثق؟
فيه قولان لأهل العلم، والصحيح أنه لا يشترط، وأننا متى وثقنا بقوله عملنا بقوله في إسقاط الصيام؛ لأن هذه الأشياء صنعته، وقد يحافظ الكافر على صنعته وسمعته، فلا يقول إلا ما كان حقاً في اعتقاده، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وثق بكافر في أعظم الحالات خطراً، وذلك حين هاجر من مكة إلى المدينة استأجر رجلاً مشركاً من بني الدَيَّل، يقال له: عبد الله بن أريقط؛ ليدله على الطريق (1) وهذه المسألة خطرة؛ لأن قريشاً كانت تبحث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعلت مائة ناقة لمن يدل عليه، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان واثقاً منه، فدل هذا على أن المشرك إذا وثقنا منه فإننا نأخذ بقوله.
مسألة: هل الأولى للمسافر أن يصوم أو الأولى ألا يصوم؟
فالجواب أما مذهب الحنابلة (2) فالأولى ألا يصوم؛ بل كرهوا الصوم للمسافر وقال الشافعية: الأولى أن يصوم، وقال
__________
(1) أخرجه البخاري في الإجارة/ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام (2263) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) «الإنصاف» (3/289) .(6/329)
آخرون: إنه على التخيير، لا نفضل الفطر ولا الصوم.
والصحيح التفصيل في هذا، وهو أنه إذا كان الفطر والصيام سواء، فالصيام أولى لوجوه أربعة:
الأول: أن ذلك فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم شديد الحر حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم، إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة (1) .
الثاني: أنه أسرع في إبراء الذمة.
الثالث: أنه أيسر على المكلف وما كان أيسر فهو أولى.
الرابع: أنه يصادف صيامه رمضان، ورمضان أفضل من غيره وعلى هذا نقول الأفضل الصوم.
وإذا كان يشق عليه الصيام فالفطر أولى، والدليل على هذا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان صائماً في السفر، ولم يفطر إلا حين قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام، وينتظرون ما ستفعل، ولم يفطروا ـ يريدون التأسي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ فدعا الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقدح من الماء بعد العصر ورفعه على فخذه حتى رآه الناس، فشرب، والناس ينظرون إليه ليقتدوا به، فجيء إليه وقيل: إن بعض الناس قد صام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أولئك العصاة أولئك العصاة» (2) ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم (1945) ؛ ومسلم في الصيام/ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122) .
(2) أخرجه مسلم في الصيام/ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114) عن جابر رضي الله عنه.(6/330)
لأنهم صاموا مع المشقة، ولأنهم خالفوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث أفطر وبقوا هم صياماً.
وإن كانت المشقة شديدة يخشى منها الضرر فالصوم حرام لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} .
وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصوم في السفر» (1) الذي استدل به الحنابلة، فهذا خاص بالرجل الذي رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ظلل عليه والناس حوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ فقالوا: هذا صائم، فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» .
فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
فنقول: الخصوصية نوعان:
خصوصية شخصية، وخصوصية نوعية.
فالخصوصية الشخصية: أن يقال: إن هذا الحكم خاص بهذا الرجل لا يتعداه إلى غيره وهذا يحتاج إلى دليل خاص، وهذا هو الذي تقول فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآية اللعان وردت في قصة رجل معين، وآية الظهار كذلك، فالعبرة بالعموم فكل أحد يثبت له هذا الحكم.
والخصوصية النوعية: وإن شئت فقل الخصوصية الحالية، أي: التي لا يثبت بها العموم إلا لمن كان مثل هذا الشخص، أي مثل حاله، فيقال: ليس من البر الصوم في السفر لمن شق عليه، كهذا الرجل، ولا يعم كل إنسان صام.
__________
(1) سبق تخريجه ص (327) .(6/331)