وقوله: {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، أَى فتور عمَّا أُمر به ونُهى عنه. وقيل: مرض أَى ظلمة من قولهم: ليلة مريضة أَى مُظلِمَة. قال أَبو حَيّة النُميرىّ:
وليلة مرِضَتْ من كلِّ ناحية ... فما يُحَسّ بها نجمٌ ولا قمرُ
وقيل: مَرَضٌ أَى حبّ الزنى.
وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، أَى شكٌّ ونفاق. وقيل: ظلمة.
وقال ابن دريد: امرأَة مريضة الأَلحاظ، ومريضة النظر، أَى ضعيفة النظر. وقال غيره: عين مريضة: فيها فتور. وشمس مريضة: إِذا لم تكن صافية.
وقال ابن الأَعرابىّ: أَصل المرض النقصان، يقال: بَدَن مريض أَى ناقص القوّة، وقلب مريض أَى ناقص الدين.
وقيل المرض: إِظلام الطبيعة / واضطرابها، بعد صفائها واعتدالها. وأَرض مريضة: إِذا كثر بها المَرْج والفِتن والقتال، قال أَوس بن حَجَر:
ترى الأَرض منّا بالفضاءِ مريضة ... معضِّلة منا بجمعَ عَرَمْرَمِ
ورأْى مريض: فيه انحراف عن الصواب. وأَمرضه: وجده مريضا. وأَمْرض. إِذا قارب الإِصابة فى الرأْى. والتمريض فى الأَمر: التضجيع فيه ومَرّض فى كلامه: ضعّفه، وفى الأمر: لم يبالغ فيه. والتمريض: حسن القيام على المريض، كأَن المعنى إزالة المرض عنه وإِبعاده منه.(4/493)
بصيرة فى مرا ومرى ومزج ومزن
مَرَأَ أَى طَعِم. ومالك لا تَمْرَأ: أَى لا تطعم. ومرأَنى الطعام يمرؤ مُرُوءًا. ومَرَأَ الطعامُ نفسه، ومَرُؤ، ومرِئ - مثلثة -: صار مَرِيئا. وقال بعضهم: أَمرأَنى الطعام. وقال الفراءُ: هَنَأَنى الطعام ومَرَأَنى إِذا تبعت هنأَنى، فإِذا أَفردوها قالوا: أَمرأَنى. وهو طعام ممرِئ. قال تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} .
والمُرُوءَة: كمال المرءِ، كما أَن الرُجُوليّة كمال الرجل، وهى فُعُولة من لفظ المرءِ؛ كالفُتُوَّة من الفَتَى. وحقيقتها: اتِّصاف النفس بصفات الإِنس التى فارق بها [الإِنسانُ] الحيوان والبهيمة والشيطان الرجيم. فإِن للنفس ثلاثة دواع: داعٍ يدعوها إِلى الاتِّصاف بأَخلاق الشيطان: من الكِبْر والحسد والبغى والفساد؛ وداع يدعوها إِلى أَخلاق الحيوان، وهو داعى الشهوة؛ وداع يدعوها إِلى أَخلاق المَلَك: من الإِحسان والنصح والبِرّ والطاعة والعلم. فحقيقة المروءَة: بِغْضة ذينك الداعيين وإِجابة هذا الداعى الثالث. وقلَّة المروة وعدمُها: الاسترسال مع ذينك الداعييَن [وعدم] إِجابة الداعى الثالث؛ كما قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وخلق الإِنسان وركَّبهما فيه، فمن غلب عقلُه شهوتَه التحق بالملائكة، ومن غلَبت شهوتُه عقلَه التحق بالبهائم، ولهذا قيل فى حدّ المروءَة: إِنها غلَبة العقل للشهوة.(4/494)
وقال الفقهاءُ: هى استعمال مَا يجمِّل العبدَ ويزينه، وترك ما يدنِّسه ويشينه. وقيل: المروءَة: استعمال كل خُلُق حَسن، واجتناب كل خُلُق قبيح. وقيل: حقيقتها: تجنُّب الدنايا والرذائل من الأَقوال والأَخلاق والأَعمال؛ فمروءَة اللسان: حلاوته وطِيبه ولينه، وإِجتناءُ الثمار منه بسهولة ويسر؛ ومروءَة الخُلُق: سعته وبسطهُ وتركُه للخبيث والبغيض، ومروءَة المال: الإِصابة بصرفه فى مواقعه المحمودة عقلا وعُرفاً وشرعاً؛ ومروءَة الجاه بذله للمحتاج إِليه؛ ومروءَة الإِحسان: تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه، فهذه مروءَة البذل.
وأَمَّا مروءَة الترك، فكترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة، والإِغضاءُ عن عَثَرات الناس، وإِشعارهم أَنك لا تعلم لأَحد منهم عثرة.
وهى على ثلاث درجات:
الأُولى: مروءَة المرءِ مع نفسه: أَن يحملها سرًّا على ما يُجَمِّل ويَزِين، وترك ما يدنِّس ويَشين؛ ليصير لها مَلكة فى العلانية، فمن اعتاد شيئاً فى سرّه وخلوته صار مَلَكة فى علانيته وجهره، فلا يكشف عورته فى الخلوة، ولا يُخرج الريح بصوت وهو، يقدر على خلافه، ولا يَنْهَم عند أَكله وحده، / وبالجملة فلا يفعل فى الخلوة ما يستحيى من فعله فى الملأ، إِلاَّ مالا يَحْظُره الشرع والعقل ولا يكون إِلاَّ فى الخلوة؛ كالجماع والتخلىِّ ونحوه.(4/495)
الدرجة الثانية: المروءة مع الخَلْق بأن يستعمل معهم الأَدب. ولْيتَّخذ الناس مِرآة لنفسه، فكل ما كرهه من قول أَو فعل أَو خُلُق فليجتنبه، وما أَحبّه من ذلك فليفعل.
الدرجة الثالثة: المروءَة مع الحق سبحانه: من الاستحياءِ من نظره إِليك واطِّلاعه عليك فى كل لحظة ولمحة، وبإِصلاح عيوب نفسك جَهد الإِمكان؛ فإِنه قد اشتراها منك، وليس من المروءَة تسليم المبيع على ما فيه من العيوب وتقاضى الثمن كاملا، ورؤية شهود مِنَّته فى هذا الإِصلاح؛ فإِنه هو المتولِّى له لا أَنت، فيفنيك الحياءُ منه عن رسوم الطبيعة، وفيما ذكرناه فى الفُتوّة ما يعين فى هذه المنزلة إِن شاءَ الله تعالى.
والمَرْء: الرجل. يقال: هذا مَرْءٌ صالح، ورأَيت مَرْأً صالحاً، ومررت بمرءٍ صالح؛ وضم الميم فى الأَحوال الثلاثة لغة. وتقول: هذا مُرْء بالضمّ، ورأَيت مَرْأً بالفتح، ومررت بمِرْءٍ بالكسر معرباً من مكانين. وهذه مَرْأَة صالحة، ومَرَة أَيضاً بترك الهمز وتحريك الراء بحركتها، فإِن جئت بأَلِف الوصل كان فيها أَيضاً ثلاث لغات: فتح الراء على كل حال، حكاها الفراءُ؛ وضمُّها على كل حال؛ وإِعرابها على كل حال، قال تعالى: {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا} ، فإِن صغَّرت أَسقطت أَلف الوصل فقلت: مُرَىْءٌ ومُرَيْئة، وفى الحديث: "إِنى لأَكره أَن أَرى الرجل ثائراً فرائصُ رَقَبته، قائماً على مُرَيْئته يضربها". تصغيره صلَّى الله عليه وسلم المرأَة استضعاف(4/496)
لها واستصغار، ليُرِى أَن الباطش بمثلها فى ضعفها لئيم. ويقال: المرءُون فى جمع المرء. وتمرَّأَ: تكلَّف المروءَة.
المُِرْية - بالكسر وبالضمّ -: التردّد فى الأَمر. وهو أَخصّ من الشك، قال تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} . وماراه مماراة ومِراءً. وامترى فيه وتمارى: شكَّ، قال تعالى: {بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ، الشىء وقال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} ، وأَصل ذلك من مَرَى الناقةَ يمريها مَسَح ضرعها، فأَمْرَت هى. وهذا أَحد ما جاءَ على فَعَلته فأَفعل.
المِزَاج: ما تَمْزُج به الشىء، أَى تخلِطه، قال تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} .
المُزْن: السحاب. وقيل: المُزْن من السحاب: ما كان أَبيض. وقيل: المزن: السحاب ذو الماءِ، القطعة مُزْنَةٌ. والتمزُّن التَّسَخِّى، والتفضل والتظرف، وإِظهار أَكثر مما عندك.(4/497)
بصيرة فى مس ومسح
المَسّ: جسّ الشىء بيدك. مسِسْته بالكسر أَمَسّه مَسا ومَسِيساً ومِسِّيسَى كخِلِّيفَى. هذه هى اللغة الفصيحة. وحكى أَبو عبيدة: مَسَسْته - بالفتح - أَمُسّهُ - بالضم- وربما قالوا: مَِسْت الشىء يحْذفون منه السين الأُولى ويحوّلون كسرتها إِلى الميم، ومنهم مَن لا يحوّل ويترك الميم على حالها مفتوحة، وهو مثل قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} ، الأَصل ظَلِلْتم. وقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أَى تجامعوهن. وقرئ (تُمَاسُّوهُنَّ) والمعنى واحد.
وقوله تعالى: {الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} ، أَى من الجنون يقال: به مَسٌّ أَلْسٌّ ولَمَم/. وقد مُسّ فهو ممسوس. وقوله تعالى: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} ، قال الأَخفش: جُعل للمسّ مَذَاق؛ كما يقال: كيف وجدتَ طعم الضرب. ويقال: وجدت مسّ الحُمَّى، أَى أَوَّل ما نالنى منها.
وقول العرب: لا مَسَاسِ، مثال قَطامِ، أَى لا تَمَسّ. وقرأَ أَبو عمرو فى الشواذِّ وأَبو حَيْوة: {أَن تَقُولَ لاَ مَسَاسِ} . وقد يقال: مَسَاسِ فى الأَمر كدَرَاكِ وتَرَاك. وأَمَسَّه الشىء فمسّه. والمماسّة كناية عن المباضعة، قرأَ حمزة والكسائىّ وخَلَف (تُماسُّوهُنَّ) .(4/498)
وقوله تعالى: {لاَ مِسَاسَ} بكسر الميم أَى لا أَمَسّ ولا أُمسّ؛ وكذلك التماسّ، ومنه قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} .
المَسْح: إِمرار اليد على الشىء، وإِزالة الأَثَر عنه، وقد يستعمل فى كل واحد منهما. ومسح الأَرضَ: ذَرَعَها. وعبّر عن السير بالمسح؛ كما عبّر عنه بالذَرْع، فقيل: مَسَح البعيرُ المفَازاة وذَرَعها. والمسح فى الشرع: إِمرار الماءِ على العضو، يقال: مَسَحت للصلاة وتمسّحت، قال تعالى: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} . ومسحته بالسيف كناية عن الضرب؛ كما يقال: مَسَحْت. قال تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} .
فأَما المسيح [فهو] لقب عيسى بن مريم صلوات الله عليه أَو اسمه. قال تعالى: {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} .
وهذه لفظة فى صفة نبىّ الله وكلمة الله عيسى عليه السلام، وفى صفة عدوّ الله الدجَّال. وفى تفسير هذه اللفظة وإِيضاح معناها أَقوال كثيرة، ووجوه عديدة، تُنيف على خمسين.
قال القرطبى: اختلف فى لفظة المسيح على ثلاثة وعشرين قولا، ذكرها لحافظ ابن دِحْية فى كتاب مجمع البحرين، فى فوائد المشرقين والمغربين. وقال متبَجِّحاً: لم أَر من جمعها قبلى ممّن رحل وجال، ولقى الرجال، وذكر ثلاثة وعشرين وجهاً، فأَضفت إِليه ما كان عندى من الوجوه الحسنة، والأَقوال البديعة فتمت، خمسون وجها أَو يزيد.(4/499)
بيان ذلك أَن العلماءَ اختلفوا فى هذه: هل هى عربيّة أَم لا، فقال بعضهم: سريانيّة وأَصلها مشيحا بالشين المعجمة فعرّبتها العرب، وكذا ينطق بها اليهود، قاله أَبو عبيد وهذا هو القول الأَول.
والذين قالوا: إِنها عَربية اختلفوا فى مادّتها، فقيل: من سيح، وقيل: من مسح.
ثم اختلف كل فرقة منها:
فقال الأَوّلون: مَفعِل، من ساح يسيح، لأَنه يسيح فى أَقطاع الأَرض كافَّة. وأَصلها مَسْيِح - على مَفْعِل - فأُسكنت الياء ونقلت حركتها إِلى السين لاستثقالهم الكسرة على الياء. وهذا [هو] القول الثانى.
وقال آخرون: مَسِيح، فاعل من مَسَح إِذا سار فى الأَرض وقطعها، فَعِيل بمعنى فاعل. وهذا [هو] القول الثالث. والفرق بين هذا والذى قبله أَن هذا يختص بقطع الأَرض، وذلك بقطع جميع البلاد.
والرابع: عن أَبى الحسن القابسىّ، وقد سأَله أَبو عمرو الدانىّ: كيف يُقرأ المسيح الدجال؟ قال: بفتح الميم وتخفيف السين، مثل المسيح بن مريم؛ لأَن عيسى عليه السلام مُسِح بالبركة، وهذا مُسِحت عينه
الخامس: قال أَبو الحسن: ومن الناس من يقرؤه بكسر الميم مثقَّلا، مثل سكّيت، فيفرق بذلك بينهما، وهو وجه. وأَمَّا أَنا فما أَقرؤه إِلاَّ كما أَخبرتك.
السادس: عن شيخه ابن بَشْكُوَال قال: سمعت الحافظ أَبا عُمَر بن عبد البَرّ يقول: ومنهم من قال ذلك بالخاءِ المعجمة. والصحيح أَنه لا فرق بينهما.(4/500)
السابع: المَسِيح لغة: الذى لا عين له ولا حاجب، سمّى الدجال بذلك لأَنه كذلك.
الثامن: المسيح / لغة: الكذَّاب، والدجَّال أَكذب الخَلْق؛ لأَنه بَلَغ فى الكذب مبلغا لم يبلغهُ غيره، فقال: أَنا الله.
التاسع: المسيح المارد الخبيث، سمّى لذلك.
العاشر: قال ابن سيدهْ: مسحت الإِبلُ الأَرض: سارت فيها سيرًا شديدًا. فيحتمل أَنه سمّى الدجَّال به لسرعة سيره.
الحادى عشر: مسح فلان عُنُق فلان، أَى ضرب عنقه. سمّى به لأَنه يضرب عنق من لا ينقاد له ويكفر به.
الثانى عشر: قال الأَزهرى: المسيح بمعنى الماسح، وهو القتَّال، يقال: مسح القوَم إِذا قتلَهم. وهو قريب من المعنى الذى قبله.
الثالث عشر: المسيح: الدرهم الأَطلس بلا نقش، قاله ابن فارس. وهو مناسب للأَعور الدجَّال، إِذْ أَحد شِقَّىْ وجهه ممسوح، وهو أَشوهُ الخَلْق.
الرابع عشر: المَسَح - محرّكة -: قصر ونقص فى ذَنَب العُقَاب كأَنه سمّى به لنقصه وقصر مدّته.
الخامس عشر: المسيح للدجال مشتقّ من المماسحة، وهى الملايَنة فى القول، والقلوبُ غير صافية. كذا فى المحكم؛ لأَنه يقول خلاف ما يضمر. السادس عشر: المسيح: الذوائب، الواحد مَسِيحة، وهى: ما نزل من الشعر على الظهر؛ كأَنه سمّى به لأَنه يأْتى فى آخر الزمان.(4/501)
السابع عشر: المَسْح: المَشْط والتزيين، والماسحة: الماشطة؛ كأَنه سمّى به لأَنه يزين ظاهره ويموّهه بالأَكاذيب والزخارف.
الثامن عشر: المسيح: الذرَّاع؛ لأَنه يَذْرع الأَرض بسيره فيها.
التاسع عشر: المسيح: الضِلِّيل. وهو من الأَضداد، ضد الصدِّيق. سمّى به لضلالته، قاله أَبو الهيثم.
العشرون: قال المنذرىّ: المسيح من الأَضداد، مسحه الله أَىْ خلقهُ خلقاً حسناً مباركاً، ومسحهُ أَى خلقه [خلقاً] قبيحاً ملعوناً، فمن الأَول يمكن اشتقاق المَسِيح رُوح الله، ومن الثانى اشتقاق المسيح عدوّ الله، لعنه الله وهذا الحادى والعشرون.
والثانى والعشرون: مَسَح الناقة ومسّحها: إِذا هَزَلها وأَدبرها وأَضعفها؛ كأَنه لوحظ فيه أَن منتهى أَمرِه إِلى الهلاك والدبار.
الثالث والعشرون: الأَمسح: الذئب الأَزَلّ المسرع؛ كأَنه سمّى به تشبيها له بالذئب فى خبثه وأَذاه وسرعة سيره فى الأَرض.
الرابع والعشرون: المَسْح: القول الحسن من الرجل، وهو فى ذلك خادِعك؛ سمّى به لخَدْعه ومكره؛ قاله ابن شُمَيل. يقال: مسحه بالمعروف إِذا قال له قولاً وليس له إِعطاء، فإِذا جاءَ ذهب المسح، وهكذا الدجال، يخدع الناس بقوله ولا إِعطاء.(4/502)
الخامس والعشرون: المَسِيح: المنديل الأَخشن، والمِنديل: ما يُمسك للنَدْل وهو الوَسَخ؛ سمّى به لاتِّساخه بالكفر ودَرَن باطنه بالشرك، وكدورة قلبة، ولهوانه وذُلَّه.
السادس والعشرون: المَسْحاء: الأَرض التى لا نبات فيها. وقال ابن شُميل: الأَرض الجرداءُ الكثيرة الحصى التى لا شجر بها ولا تُنبت، وكذلك المكان الأَمسح؛ كأَنه سُمّى به لعدم خيره وعظم شره، وكثرة أَذاهُ وإِضراره، تشبيهاً بالمكان الخشن فى قلَّة نباته وكثرة أَوعاره.
السابع والعشرون: الأَمسح فى اللغة: الأَعور؛ سمّى به لعوره.
الثامن والعشرون: التِمْسَح والتِمساح: دابَّة بحرية كثيرة الضرر على سائر دوابّ البحر؛ سمّى به لضرر إِيذائه وشرّه، وبلائه.
التاسع والعشرون: مسح سيفه وامتسحه: إِذا استلَّه من غِمده؛ سمّى بذلك لاستلاله سيف الظلم والعدوان، وتشهيره رماح البغى والطغيان.
الثلاثون: المسيح والأَمسح: من به عيب فى باطن فخذيه، وهو اصطكاك إِحداهما بالأخرى، سمّى به لأَنه معِيب. ويحتمل أَن يكون به هذا العيب أَيضاً.
الحادى والثلاثون: رجل أَمسح، وامرأَة مسحاء، وصبى ممسوح إِذا لزِقت / أَلْيتاه بالعظم. وهو عيب أَيضاً.
الثانى والثلاثون: يمكن أَن الدجَّال سمّى بالمسيح من قولهم: جاءَ فلان يتمسّح، أَى لا شىء معه كأَنه يمسح ذراعهُ، وذلك لإِفلاسه عن كل خير، وفِقدانه كل بركة وسعادة.(4/503)
الثالث والثلاثون: يمكن أَن عيسى صلوات الله وسلامه عليه سمّى بالمسيح من قولهم: جاءَ فلان يُتمسّح به، أَى يتبرّك به لفضله وعبادته؛ كأَنه يتقرّب إِلى الله تعالى بالدنوّ منه. قاله الأَزهرى.
الرابع والثلاثون: لأَنه كان لا يمسح ذا عاهة إِلاَّ برئ، ولا ميّتاً إِلاَّ حَيِىَ، فهو بمعنى ماسح.
الخامس والثلاثون: قال إِبراهيم النخعى: المسيح الصِدِّيق. وقاله الأَصمعىّ وابن الأَعرابىّ.
السادس والثلاثون: عن ابن عباس رضى الله عنهما فى رواية عطاء عنه: سمّى مسيحاً لأَنه كان أَمسح الرجل، لم يكن لرجله أَخمص. والأَخمص: ما لا يمس الأَرض من باطن الرِجل.
السابع والثلاثون: قيل: سمى مسيحاً لأَنه خرج من بطن أَمه كأَنه ممسوح الرأْس.
الثامن والثلاثون: لأَنه مُسح عند ولادته بالدهن.
التاسع والثلاثون: قال الإِمام أَبو إِسحاق الحربىّ فى غريبه الكبير: هو اسمه خصّه الله به، أَو لمسح زكريا إِيَّاه.
الأَربعون: سمِّى به لحُسْن وجهه، والمسيح فى اللغة: الجميل.
الوجه الحادى والأَربعون: المسيح فى اللغة: عَرق الخيل واشتداده:
إذا الجيادُ فِضْن بالمسيح
الوجه الثانى والأَربعون: المسيح: السيف، قاله أَبو عُمَر المطرِّز. ووجه التسمية ظاهر.(4/504)
الثالث والأَربعون: المسيح: المُكارى.
الرابع والأَربعون: المَسْح: الجِمَاع، مسح جارِيته: جامعها.
الخامس والأَربعون: قال الحافظ أَبو نُعَيم فى دلائل النبوة: سمى ابن مريم مسيحاً لأَن الله تعالى مسح الذنوب عنه.
السادس والأَربعون: قال أَبو نُعَيم فى كتابه المذكور: وقيل: سمّى مسيحاً لأَن جبريل مَسَحه بالبركة، وهو قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} .
السابع والأَربعون: المسيح: القِسِىّ، الواحد مَسِيحة، سمّى به لقوّته واعتداله وعدالته.
الثامن والأَربعون: يمكن أَن يكون من المِسْح وهو الطريق المستقيم لأَنه سالكها. قال الصغانىّ: المُسُوح: الطرق الجادّة، الواحدة مِسْح. وقال قُطْرُب: مسح الشىء: إِذا قال له: بارك الله فيك.
التاسع والأَربعون: قال ابن دريد: هو اسم سمَّاه الله به، لا أَحب أَن أَتكلم فيه.(4/505)
بصيرة فى مسخ ومسد
المَسْخ: تشويهُ الخَلْق والخُلُق وتحويلهما من صورة إِلى صورة. وقد مسخَهم اللهُ مَسْخاً. وما نَسَخه بل مَسَخَه. وفلان مِسْخ من المُسُوخ. وشىء مَسِيخ: لا طعم له. وطعام مَسِيخ، ورجل مسيخ: لا ملاحة فيه، قال:
مَسيخ مليخ كلحم الحُوار
وفى يده ما سِخِيّة، أى قوس نسبت إِلى قوّاس كان يسمّى ماسخة.
وقال بعض الحكماء: المَسْخُ ضربان: مَسْخ خاصّ يحصل فى الفَيْنة، وهو مَسْخ الخَلْق؛ ومَسْخ يحصل فى كل زمان، وهو مسخ الخُلُق، وذلك أَن يصير الإِنسان بخُلُق ذميم من أَخلاق الحيوانات، نحو أَن يصير فى شدّة الحرص كالكلب، أَو الشره كالخنزير، أَو اللُؤم كالقِرْد قال: وعلى هذا فى أَحد الوجهين قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت} ، قال: وقوله {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} يتضمّن الأَمرين، وإِن كان الأَوّل أَظهر. ومسخْتُ الناقة: أَتعبتها حتى أَزلت خِلقتها عن حالها.(4/506)
المَسَد: الليف. يقال: حبل من مَسَد، قال تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} . / وقيل: المَسَد: حبل من خوص. ويقال: حبلٌ مَسَدٌ - بالتحريك - أَى مَمْسود، أَى مفتول قد مُسد وأُجيد فتله. فالمَسْد المصدر، والمَسَد الاسم كالقَبَض والنَفَض.
ودلَّ قوله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أَنَّ السلسلة التى ذكرها الله تعالى فُتلت من الحديد فتلاً محكما، كأَنه جُعل فى جِيدها حبل حديد قد لُوى ليًّا شديدًا. وقال الأَزهرى: قال المفسرون: هى السلسلة التى ذَرْعها سبعون ذراعاً، يعنى أَنَّ امرأَة أَبى لهب تُسلك فى النار فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً. وقال الزجاج: المَسَد فى اللغة: الحبل إِذا كان من ليف المُقْل. وقد يقال لما كان من وَبَر الإِبل من الحبال مَسَد. وقال غيره: وقد يكون المَسَد من جلود الإِبل، قال عُمَارة بن طارق:
ومَسَدٍ أُمِرّ من أَيانِق ... لَيْس بأَنياب ولا حقائقِ
وهو يحتمل المعنيين والله أَعلم.(4/507)
بصيرة فى مسك ومشج
أَمسك الحبلَ وغيره، وأَمسك بالشىء ومَسَك، وتمسّك، واستمسك وامتسك، قال تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ، وقال تعالى: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ} ، أَى يحفظها. واستمسكت بالشىء: إِذا تحرّيت الإِمساك، قال تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} ، وقال تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} .
وأَمسكت عليه ماله: حبسته. وأَمسكت عنه كذا: منعته، قال تعالى {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} .
ومَسَك الثوبَ ومسّكه طيّبهُ بالمِسْك. وثوب مَمسوك ومُمسّك.
ورجل مُسَكة: يمسك بالشىء فلا يكاد يتخلَّص منه. ورجل به إِمساك، وهو مُمْسِك ومِسِّيك: بخيل، وقد مَسُك مَسَاكة. وسقاء مَسِيك: لا ينضح. وإِنه لذو مُسْكة وتماسُك: عقل. والْمَسَك: سِوار من عاج.
مَشَجه يَمْشُجه: مزجه وخلطه؛ قال تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} ، أَى مختلطة، يشير بها إِلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} .(4/508)
بصيرة فى مشى ومصر ومضغ ومضى
مَشَى يَمْشِى مَشْياً ومَشَّى تمشية: مرّ. ومَشَى أَيضاً: اهتدَى. ومنه قوله تعالى: {نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} ، والاسم المِشْية بالكسر. وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} .
والتِمشاء - بالكسر -: المَشْى. والمَشَّاء: النمَّام، قال تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} ، والمُشَاة: الوشاة. والماشية: الإِبل والغنم.
ومشت المرأَةُ مَشَاء: كثرت أَولادها فهى ماشية. والمَشُوّ والمَشْو والمَشِىّ والمشاء - كسماء -: الدواء المُسْهِل. واستمشى، وأَمشاه الدواءُ.
المِصْر: اسم كل بلد ممصور، أَى محدود. ومصّر الأَمصار تمصيراً: بناها. وقد مَصّر عمر رضى الله عنه سبعة أَمصار، منها المِصْران: البصرة والكوفة. ومُصُور الدار: حدودها، قال عَدِىّ:
وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فَصَلا
وناقة مَصُور: بطيئة خروج اللبن لا تُحلَب إِلاَّ مَصْراً، وهو الحلب بأَطراف الأَصابع؛ وقد مَصَرتها، وتمصّرتها، وامتصرتها.
ومِصْر: علم المدينة أمّ خَنُّور. ولم يذكر فى القرآن مدينة باسمها(4/509)
سوى مكَّة والمدينة ومصر، قال تعالى: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} وقال حاكياً عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} ، وقيل المراد بقوله /: {ادخلوا مِصْرَ} بلد من البلدان.
مضَغَ الطعامَ يَمضَغُه ويمضُغه مَضْغاً. والمَضَاغ - كسحاب -: يُمضغ. يقال: ما عندنا مَضَاغ، وما ذقت مَضاغاً، قال:
تزجّ من دنياك بالبلاغ ... وباكر المِعدة بالدِباغ
بكسرة ليِّنة المَضاغ ... بالملح أَو ما خف من صِباغ
والمُضْغة: قطعة لحم، قال الله تعالى: {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} وقلب الإِنسان مضغة من جسده. وفى الصحيحين: "إِن فى الجسد مُضْغة إِذا صلحت صلح الجسدُ كلّه، وإِذا فسدت فسد الجسد كلّه؛ أَلاَ وهى القلب". وقد يكون المُضْغة من غير اللحم، يقال: أَطيب مضغة يأْكلها الناس (صَيْحانيّة مُصَلِّبة) . والماضغان: أَصول اللّحْيَين عند منبت الأَضراس. وأَمضغ النخلُ: صار فى وقت طيبه حتَّى يُمضغ.
مَضَى يمضى مُضِيا ومُضُوّا: خلا، وفى الأَمر مَضَاء ومُضُوَّا: نفذ. وأَمر مَمْضُوّ عليه. ومَضَيت على بيعى وأَمضيته. والماضيان: السيف والقَدَر.(4/510)
بصيرة فى مطر ومطا ومع
مَطَرَتْهُم السماءُ وأَمْطَرَتْهم. وسماء ماطرة ومُمطرة ومِمْطار: مدرار، ووادٍ ممطورٌ ومَطِير. وفى المَثَل: يحسب كلُّ ممطورٍ أَن مُطِر غيره. وخرجوا يستمطرون الله ويتمطَّرونه. وتمطَّر: تعرّض للمطر. وخرج [متمطِّرا] : متنزِّهاً غِبّ المطر. وأَمطر الله عليهم الحجارة. يقال مَطَر فى الخير، وأَمطر فى العذاب، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} .
مَطَا: جَدّ فى السير وأَسرع. وتمطَّى النهارُ وغيره: امتدّ وطال. والاسم المُطَواء. والمَطَا: التمطِّى. وتمطَّى فى مشيته: تبختر. وهو يتثاءَب ويتمطَّى، وبه ثُوَباء ومُطَوَاء. قال تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} أَى يَمُدّ مَطَاه، أَى ظهره. وتمطَّى الليلُ: طال.
مع: اسم بدليل التنوين فى قولك: معاً، ودخولِ الجارّ فى حكاية سيبويه: ذهبت مِن مَعِه، وقراءَة بعضهم: {هاذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} .
وقال محمد بن السَّرِىّ: الذى يدل على أَن مع اسم حركة آخره مع تحرّك ما قبله. وقد يسكّن، وينوَّن، تقول: جاءُوا معا. وقال الليث: مع: حرف من حروف الخفض. وقال الأَزهرىّ: مع: كلمة تضمّ الشىء إِلى الشىء وأَصلها معا. وقال غيره: هى للمصاحبة. وقال الزجَّاج فى قوله(4/511)
تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ} نُصب (مَعَكُمْ) كما يُنصب الظروف، وكذلك فى قوله تعالى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أَى إِن الله ناصرنا.
ونقول: كنَّا معاً، وكنَّا جميعاً، بمعنى واحد. وقيل: إِذا قلت جاءَا جميعاً احتمل أَن فعلهما فى وقت أَو فى وقتين، وإِذا قلت: جاءَا معا فالوقت واحد. وقال أَبو زيد: كلمة (مع) قد تكون بمعنى (عند) ، تقول: جئت مِن مَعِ القوم، أَى من عندهم.
قيل: إِن تسكين عينة لغة غَنم وربيعة، لا ضرورة خلافاً لسيبويه، واسميتها حينئذ ثابتة. وقول النحَّاس: إِنها حرف بالإِجماع، مردود.
وتستعمل مضافة فتكون ظرفاً، ولها حينئذ ثلاثة معان: أَحدها موضع الاجتماع، ولهذا يخبر بها عن الذوات، نحو: {والله مَعَكُمْ} ؛ والثانى زمانه، نحو: جئتك مع العصر؛ والثالث: مرادفةٌ عند، كما تقدّم، وعليه القراءَة السابقة.
وتستعمل مفردًا فتنوّن وتكون حالاً. وقيل: إِنه جاءَت ظرفاً مخبرًا به فى نحو قوله:
أَفيقوا بنى حَزْنٍ وأَهواؤنا معا
وقيل: هى حال والخبر محذوف.(4/512)
بصيرة فى معز ومعن
المَعْز والمَعَز - مثال نَهْر ونَهَر - / من الغنم: خلاف الضأن، قال الله تعالى: {وَمِنَ المعز اثنين} قرأَ أَهل المدينة - على ساكنيها الصلاة والسلام - وأَهل الكوفة وابن فُلَيح، ساكنة العين، والباقون بتحريكها.
وهى ذوات الشعر. وهى اسم جنس. وكذلك المَعِيز والأُمْعوز والمِعْزَى. وقيل: القليل من المعز أَمعاز، والكثير مِعْزَى ومِعزاء ومِعاز ومَعيز. وقيل: واحد المَعْز ماعز، كصحب فى جميع صاحب. وقيل: الماعز الذكر، والأُنثى ماعزة، والجمع مواعز.
ابن عباد مَعَزْت المِعْزى، وضَأَنْت الضأْن: إِذا عزلت هذه من هذه. وأَمعزوا: كثرت مِعْزاهم. وقال سيبويه: معزى منّون مصروف؛ لأَن الأَلف الملحِقة تجرى مجرى ما هو من نفس الكلمة، يدلّ على ذلك قولهم: مُعَيزٍ وأَرَيْطٍ فى تصغير مِعْزى وأَرْطَى فى قول من نوّن فكسر ما بعد ياء التصغير، كما قالوا: دريهم، ولو كانت للتأْنيث لم يقلبوا الأَلف ياءً، كما لم يقلبوها فى تصغير حُبْلى وأُخرى.
وقال الفرّاءُ: المِعزى مؤنئة، وبعضهم يذكِّرها. وحكى أَبو عبيد قال: الذِفرى أَكثر العرب لا ينوّنها، وبعضهم ينونها، قال: والمِعْزى كلّهم ينوّنونها فى النكرة.(4/513)
مَعَن الماءُ [و]- ككرم -: سالَ وجرَى، فهو مَعِين. قال تعالى: {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} ، أَى جارٍ على وجه الأَرض. وقيل: الماءُ المعين من العين، والميم زائدة. وأَمعن فى الأَمر: أَبعد.
والماعون والمَعْن: كل ما انتفعت به، وكل ما يستعار من قَدُوم وفأْس وقِدْر ونحوها. والماعون أَيضاً: المعروف. والماعون: الماء. والماعون: المطر. والماعون: ما يُمنع من الطَّالب، والماعون: مالا يمنع من الطالب فهو من الأَضداد.(4/514)
بصيرة فى مقت ومكك ومكث
مَقَته يَمْقُته مَقْتا. وهو بغض عن أَمر قبيح. ومنه: نكاحُ الرّجل رابَّته نكاح المقت، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} . والمقْتِىّ: ولد الرجل الذى يتزوّج امرأَة أَبيه بعده. ومَقُت فلان إِلى الناس مَقَاتة نحو بَغُض بَغاضة، وهو ممقوت وَمقيت. وتمقَّت إِليه ضدّ تحبّب إِليه. وماقته، وتماقتوا.
مكَّة - شرّفها الله تعالى - قيل: مشتقَّة: من مَكَّهُ: أَهْلَكه. لأَنَّها تُهلك الجبابرة ومنه قوله:
يا مكَّةُ الفاجرَ مُكِّى مَكَّا ... ولا تَمُكى مَذْحِجاً وعَكَّا
وقيل: من قولهم: مكَّ الضرعَ وامتكَّه وتمكَّكه ومكمكه: مصّ جميعه. ومنه قولهم: إِياك والملوك، فإِنهم إِن عرفوك مَكُّوك. سمّيت بها لأَنها تمكّ الذنوب. وقيل: سمّيت بها لقلَّة مائها، من مكَّهُ: مصّه، وقيل: إِنما هى مأْخوذة من المُكَاكة، وهى اللبّ والمخّ الَّذى فى وسط العظم، وسمّيت بها لأَنَّها وسط الدّنيا ولبّها وخلاصتها. هكذا قال الخليل بن أَحمد.
مَكَث يمكُث - كنصر ينصر - ومَكُث يمكُث - ككرم يكرم - مُكْثا ومَكْثا: لبِث مع انتظار، قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} وقرئ بضمّ الكاف.(4/515)
بصيرة فى مكر ومكن ومكا
المَكْر: صرف الغَيْرِ عمَّا يقصده بنوع من الحيلة. مكرته، وماكره، وتماكروا، وهو ماكِر ومَكَّار. وامرأَة ممكورة الساقين: خَدَلَّجتهما.
والمَكْر ضربان: محمود، وهو: ما يُتَحرّى به أَمر جميل، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} ، ومذموم وهو ما يُتحرّى به فعل ذميم، نحو قوله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} .
قالوا: من مكر الله تعالى بالعبد إِمهاله وتمكينه / من أَعراض الدنيا؛ ومنه قول علىّ رضى الله عنه: "من وُسّع عليه فى دنياه ولم يعلم أَنه مُكِر به فهو مخدوع عن عقله".
المَكَان: الموضع، والجمع: أَمكنة وأَماكن. والمَكَانة: المنزلة عند الملِك. مَكُنَ - ككرم - وتمكَّن، وهو مَكِين، والجمع: مُكَنَاء. ومكَّنته من الشىء وأمكنته منه، فتمكَّن واستمكن. وأَمكننى الأَمرُ معناه: أَمكننى من نفسه.
مَكَا مَكْوا ومُكَاء: صَفَرَ بفيه؛ وقيل: شبّك بأَصابعه ونفخ فيها، قال تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} تنبيه أَن ذلك منهم جارٍ مجرى مُكَاء الطَّير.(4/516)
بصيرة فى ملأ ومل
المَلأَ - بالتحريك -: الجماعة. قال أُبَىٌّ الغَنَوِىّ:
وتحدّثوا مَلأَ لتصبح أمُّنا ... عذراءَ لا كهلٌ ولا مولود
أَى ثاروا مجتمعين متمالئين على ذلك ليقتلونا أَجمعين، فتصبح أمّنا كأَنها لم تلد. قال الله تعالى: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ} .
والمَلأُ أَيضاً: الأَشراف، ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "يابن سلمة أولئك الملأ من قريش". والملأُ أَيضاً: الخُلُق، يقال: ما أَحسن مَلأَ بنى فلان أَى عِشرتهم وأَخلاقهم؛ والجمع: أملاء، وفى حديث الحَسَن: أَحسنوا أملاءكم أَيُّها المَرْءُون. وفى حديث الأَعرابىّ الَّذى بال فى المسجد وقاموا ليضربوه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَحسِنوا أَملاءَكم، دَعُوهُ وأَهريقوا على بوله سَجْلا".
والملءَ - بالفتح - مصدر ملأت الإِناءَ. وكوز ملآن، ودلو مَلأَى. والعامّة تقول: كوز مَلاً ماء. والصّواب ملآن ماءً. والمِلء - بالكسر اسم ما يأْخذه الإِناء إِذا امتلأَ، يقال: أَعطنى مِلأَه ومِلأَيه وثلاثة أَملائه.
المِلَّة كالدّين، وهى ما شرع الله لعباده على لسان المرسلين ليتوصَّلوا به إِلى جوار الله. والفرق بينها وبين الدّين أَنَّ الملَّة لا تضاف إِلاَّ إِلى النبىّ(4/517)
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذى تستند إِليه، نحو: {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . ولا تكاد توجد مضافة إِلى الله تعالى، ولا إِلى آحادِ أُمّة النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا تستعمل إِلاَّ فى جملة الشرائع دون آحادها، لا يقال: ملَّة الله ولا ملَّتى ولا مِلَّة زيد؛ كما يقال دين الله ودينى ودين زيد. ولا يقال للصّلاة: مِلَّة الله، كما يقال دين الله.
وأَصلها من أَمللت الكتاب. وتقال اعتباراً بالشىء الذى شرعه [الله] والدّين يقال اعتبارًا بمَن يقيمه؛ إِذ كان معناه الطاعة. والمِلَّة: الطَّريقة المستقيمة [هذا] معناها فى الأَصل.
ومَلِلته وملِلت منه واستمللته واستمللت منه، أَى تبرّمت منه. وبى مَلَل ومَلاَل ومَلاَلة. ورجل مَلُول ومَلُولة.(4/518)
بصيرة فى ملح وملك وملو
ماء مِلْح، ولا يقال: ماء مالح. وقد مَلُح الماءُ وأَملح، قال تعالى {وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} . ومَلَح القِدْر مَلْحاً: أَلقى فيها مِلحاً بقَدَر. وأَملحها وملَّحها: أَفسدها بالمِلْح. ومَلَح الماشية: أَطعمها الملح. وسمك مملوح ومَلِيح. ثمّ استعير من لفظ المِلْح المَلاَحة، فقيل: وجه مليح ووجوه مِلاَح، وما أَملح وجهه وفعله، وما أميْلحهُ، وله حركات مستملَحة، وفلان يتظرّف [ويتملَّح] قال الطِّرِمّاح:
تَمَلَّحُ ما اسطاعت ويغلب دونها ... هوى لك يُنسى مُلْحة المتملِّح
ومالحت فلان ممالحة، وهى المؤاكدة. وهو يحفظ حرمة المِلح والممالحة وهى المراضعة. وما بها مِلْح، أَى شحم. ومَلَّحتِ الشَّاةُ وتملَّحت: أَخذت شيئا من الشحم، قال عروة بن الوَرْد:
/ عشيّة رُحنا سائِرِينَ وزادُنَا ... بَقِيَّة لحم من جَزُور مملح
مَلَك الشىء وامتلكه وتملَّكه، وهو مالكه وأَحد مُلاَّكه، وهذا مِلْكه ومِلْك يده، وهذه أَملاكه. وقال قُشَيرىّ: كانت لنا مُلُوك من نخل، أَى أَملاك. ولله المُلْك والمَلَكُوت. وهو المَلِك والمَلِيك، والجمع: أَملاك ومُلُوك ومُلَكاء، وملاَّك (ومُلَّك فى مالك) . والأُملوك: اسم للجمع.(4/519)
وحقيقة المُلْك هو التصرّف بالأَمر والنهى فى الجمهور، وذلك يختصّ بسياسة الناطقين، ولهذا يقال: ملِك النَّاسِ، ولا يقال: ملِك الأَشياء. وقوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} فتقديره: الملِك فى يوم الدِّين. وذلك كقوله {لِّمَنِ الملك اليوم} .
والمُلْك ضربان: مُلْكُ هو التملُّك والتولِّى، ومُلْك هو القوّة على ذلك توَّلى أَو لم يتولَّ. فمن الأَوّل قوله تعالى: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} ، ومن الثانى قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} فجعل النبوّة مخصوصة، والمُلْك فيهم عامًّا؛ فإِنَّ معنى المُلْك هاهنا هو القوَّة الَّتى بها يُتَرَشَّح للسياسة، لا أَنهم جعلهم متولِّين للأَمر، فذلك منافٍ للحكمة؛ كما قيل: لا خير فى كثرة الرّؤساءِ.
وقال بعضهم: المَلِك اسم لكلِّ من يملك السياسة، إِمّا فى نفسه - وذلك بالتمكُّن من زِمام قواه وصرفها عن هواها - وإِمّا فى نفسه وفى غيره، سواءٌ تولَّى ذلك أَو لم يتولَّ، على ما تقدّم.
واعلم أَن تقاليب هذه المادّة كلَّها مستعملة.. وهى م ك ل، وم ل ك، وك م ل، وك ل م، ول ك م، ول م ك. وقال الإِمام فخر الدّين: تقاليبها الستَّة تفيد القوّة والشدّة، خمسة منها معتبرة، وواحد ضائع. فعدّ كلم وكمل ولكم ومكل وملك، وعدّ لمك ضائعاً، وهذا منه غريب؛ لأَنَّ المادّة الضائعة عنده معتبرة معروفة عند أَهل اللغة، قال صاحب العباب: اللّمْك والِلَّماك: الجِلاء يُكحل به العين. واللَّميك: المكحول(4/520)
العينين. واليَلْمَك: الشاب الشديد. ويقال: ما تَلَمَّكَ بلَمَاك، أَى ما ذاق، والتلمّك: التلمّظ. ولَمَكَت العجين لَمْكًا: عجنته، قلبُ ملكته مَلْكاً، فإِذًا تراكيبه الستَّة مستعملة مُعطِية معنى القوّة والشدّة.
وقرأَ الكسائىّ وعاصم: {مالك يَوْمِ الدين} ، وقرأَ باقى السّبعة (مَلِكِ) كفَرِحٍ. وأَجمع السبعة على جَرّ الكاف والإِضافة: وقرئ (مالك) بنصب الكاف والإِضافة، وروى ذلك عن الأَعمش، وقرئ كذلك بالتنوين وروى ذلك عن اليمانىِّ. وقرئَ (مالِك يومِ) بالرّفع والإِضافة، وروى ذلك عن أَبى هريرة. وقرئ كذلك بالتَّنوين، وروى عن خَلَف. وقرئ، (مالك) بالإِمالة، وروى عن يحيى بن يَعْمَر. وقرئ (مالك) بالإِمالة والتفخيم ونقل عن الكسائىّ. وقرئ (مَلِكى) بإِشباع كسرة الكاف، وروى عن نافع. وقرئ (مَلِك) بنصب الكاف وترك الأَلف، ورُوى عن أَنَس ابن مالك. وقرئ (مَلِك) برفع الكاف وترك الأَلف، وروى عن سعد بن أَبى وقَّاص. وقرئ (مَلْك) كسهل ورُوى عن أَبى عمرو. وأَصله مَلِك ككتف فسكَّن، وهى لغة بكر بن وائل. وقرئ (مَلَكَ) فعلاً ماضياً، وروى عن علىّ بن أَبى طالب. وقرئ (مَلِيك) كسعيد و (مَلاَّك) بتشديد اللام، وهذه القراءَاتِ بعضها يرجع إِلى الملك بضمّ الميم، وبعضها يرجع إِلى المِلك بكسر الميم. وفلان مالك بَيّن المِلْك والمُلْك والمَلْك.(4/521)
وقراءَة جرّ الكاف تعرب صفة / للجلالة، فإِن كان اللفظ مَلِكاً ككتف، أَو مَلْكاً كسهل مخفَّفًا من مَلِكَ، أَو مليكًا كأَمِينٍ بمعناه. فلا إِشكال بوصف المعرفة بالمعرفة. وإِن كان اللفظ مالكاً أَو مَلاَّكاً أَو مَلِيكًا محوّلين من مالك للمبالغة، فإِن كان للماضى فلا إِشكال أَيضاً؛ لأَنَّ إِضافته مَحْضَة، ويؤيّده قراءَة (مَلَكَ) بصيغة الماضى، قال الزَّمخشرى: وكذا إِذا قُصد به زمان مستمرّ فإِضافته حقيقية. فإِن أَراد بهذا أَنَّه لا نظر إِلى الزمن فصحيح.
وقراءَة نصب الكاف على القطع أَى أَمدح. وقيل: أَعنى، وقيل: مُنادى، توطئة لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وقيل فى قراءَة (مالِكَ) بالنَّصب إِنّه حال.
ومن رفع فعلى إِضمار مبتدأ، أَى هو وقيل: خبر الرحمن على رفعه.
ومن قرأَ (مَلَكَ) فجملة لا محلَّ لها من الإِعراب، ويجوز كونها خبر الرّحمن. ومن قرأَ (مَلِكى) أَشبع كسرة الكاف، وهو شاذُّ. وقيل: مخصوص [بالشعر] . وقال المَهْدَوىّ: لغة.
وما ذكر من تخالف معنى مالك ومَلِك هو المشهور وقول الجمهور. وقال قوم: هما بمعنى واحد كفارهٍ وفَرِه، وفاكه وفَكِه؛ وعلى الأَوّل قيل: مالك أَمدح، لأَنه أَوسع وأَجمع، وفيه زيادة حرف يتضمّن عشر حسنات؛ والمالكيّة سبب لإطلاق التَّصرف دون المَلَكيّة. وأَيضاً الملِك ملِك الرَّعيَّة، والمالك مالك العبد وهو أَدْونُ حالا من الرَّعيّة، فيكون(4/522)
القهر والاستيلاءُ فى المالكيّة أَكثر، ولأَنَّ الرعيّة يمكنهم إِخراج أَنفسهم عن كونهم رعيّة، والمملوك لا يمكنه إِخراج نفسه عن كونه مملوكاً، وأَيضاً المملوك يجب عليه خدمة المالك، بخلاف الرّعية مع المِلك. فلهذه الوجوه كان مالك أَكمل من ملِك، وممّن قال به الأَخفش وأَبو عُبيدة.
وقيل: مَلِك أَمدح؛ لأَن كلَّ أَحد من أَهل البلد مالك، والمَلِك لا يكون إِلاَّ واحدًا من أَعظم النَّاس وأَعلاهم، ولإِجماعهم على تعيّن لفظه فى المعوِّذة، ولولا أَنه أَعلى لم يتعيّن، ولأَن سياسة الملوك أَقوى من سياسة المالكين؛ لأَنه لو اجتمع عالَم من المُلاَّك لا يقاومون ملِكًا واحدًا. قالوا: ولأَنه أَقصر، والظَّاهر أَن القارئ يدرك من الزمان ما يدرك فيه الكلمة بتمامها، بخلاف مالك، فإِنَّها أَطول، فيحتمل أَلاَّ يجد من الزَّمان ما يتمّها فيه، فهو أَولى وأَعلى، وروى ذلك عن عمر، واختاره أَبو عبيدة.
والمَلَكُوت والْمَلْكُوَة كالرَّهَبُوت والتَرْقُوة: العزّ والسلطان، وذلك مختصّ بملك الله تعالى، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} والمملكة - مثلَّثة اللام -: سلطان المَلِك وبقاعه التى يتملَّكها. والمملوك فى التَّعَارف يختصّ بالرّقيق من بين الأَملاك، قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً} ، وقد يقال: فلان جواد بمملوكه أَى بما يتملَكه. والمَلَكة يختصّ بمِلك العبيد، يقال: فلان حسن المَلَكة، أَى الصُنْع إِلى مماليكه. وخصّ ملك العبيد فى القرآن فقال تعالى: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . وفلان مملوك: مُقِرّ بالمُلُوكة والمَلَكة والمِلْك بمعنى.(4/523)
ومِلاَك الأَمر ومَلاَكه - بالكسر والفتح -: قِوامه، وما يُعتمد عليه منه. وقيل: القلب ملاك البدن. وشهدنا مِلاَكه ومَلاَكه وإِملاكه، أَى تزوُّجه. وأَملكه إِيّاها حتى ملكها يملِكها مَلْكًا ومُلْكًا ومِلْكًا: زوّجه إِيّاها، شُبِّه الزَّوج بالمالك لكونه يملك شيئاً شهِيَّا. وبهذا النَّظر قيل: كاد العروس يكون ملِكًا. وما لأَحد / فى كذا مِلْك ومَلْك غيرى، قال: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قرئ بالوجهين. ومَلَك العجين: أَحكم عَجْنه.
والمَلَك - محركة - واحد الملائكة والملائك. قيل: أَصله أَلَك. والمَالكَة والمَأْلَكَة والمَأْلُكُ: الرّسالة؛ ومنه اشتق الملائك لأَنَّهم رُسُل الله. وقيل: "من ل أَك". والمَلأَْكة: الرسالة. وأَلِكْنى إِلى فلان أَى أَبلغه عنىِّ، وأَصله أَلْئِكنى، حذفت الهمزة ونُقلت حركتها على ما قبلها. والمَلأَْك المَلَك، لأَنَّه يبلَّغ عن الله تعالى، وزنه مَفْعل، العينُ محذوفة، أُلزِمت التخفيف إِلاَّ شاذًّا. وقال بعض المحقِّقين: المَلَك من المُلْك. قال: والمتولّى من الملائكة شيئاً من السّياسات يقال له: مَلَك - محرَّكة -، ومن البشر يقال له: مَلِك - بكسر اللام -. فكلُّ مَلَك ملائكة، وليس كُلُّ ملائكة مَلَكاً، بل المَلَك هم المشار إِليهم بقوله تعالى: {فالمدبرات أَمْراً} ، {فالمقسمات} ، {والنازعات} ونحو ذلك، ومنه مَلَك الموت، قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} .(4/524)
بصيرة فى ملو ومنع
الإِملاءُ: الإِمهال. وأَملاَه الله: أَمهله، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وقال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} ، ومنه ملاَوة من الدّهر وملْوة - بتثليث ميمها - أَى بُرْهة ومدّة طويلة. وَمَلاَّك الله حبيبك تمليه: مَتَّعك به وأَعاشك معه مدّة طويلة، قال تعالى: {واهجرني مَلِيّاً} .
وقوله تعالى: {سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ} أَى أَمهل. ومن قرأ (وَأُمْلِىَ لَهُمْ) فمن قولهم: أَمليت الكتاب أُملية إِملاءً، وأَصله أَمللت فقُلب تخفيفاً، كما قال: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} .
المنع: خلاف الإِعطاء، يقال منه: مَنَع يَمْنَع مَنْعا، فهو مانع وَمَنَّاع ومَنُوع قال تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
والمانع من صفات الله تعالى له معنيان:
أَحدهما: ما روى فى الدعاءِ الثابت عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "الَّلهمّ لا مانِعَ لما أَعطيت، ولا مُعطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ".(4/525)
وكأَنه يُعطى مَن استحق العطاءَ، ويمنع من استحق المنع، ويعطى من يشاءُ ويمنع من يشاء. وهو العادل فى جميع ذلك.
المعنى الثانى: أَنه يمنع أَهل دينه، أَى يَحُوطهم وينصرهم، ومن هذا قولهم فلان فى عزٍّ ومَنَعة - بالتحريك وقد يسكن النُّون - والمَنَعة: جمع مانع كعامل وعَمَلة، أَى هو فى عزّ ومعه من يمنعه من عشيرته.
وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أَى ما حماك، وقيل: ما الَّذى صدّك وحملك على ترك ذلك.(4/526)
بصيرة فى منّ
مَنَّ عليه مَنًّا ومِنَّة ومِنِّينَى: امتنَ. قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ} ، فالمِنَّة منهم بالقول، ومنَّة الله عليهم بالفعل وهو هدايته إِيَّاهم، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} أَى أَثقلهم بالنعمة الثقيلة. وذلك بالحقيقة لا يكون إِلا لله تعالى.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} المنُّ إِشارة إِلى الإِطلاق بغير عِوَض. وقوله: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ} ، أَى أَنفق. وقوله تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} فقد قيل: هو المِنَّة بالقول، وذلك أَن يَمْتَنَّ به ويَستكثره، وقيل: معناه: لا تعط مبتغياً أَكثر منه. ومنه قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَى غير مقطوع، من قولهم مَنَّ الحبل: قطعه، وقيل: غير محسوب ولا معتدّ به / من قولك: مَنَّ عليه إِذا امَتنَّ، وقيل: غير منقوص، ومنه قيل للمَنِيَّة: المَنُون، لأَنَّها تَنقص العدد، وتقطع المَدَد. وقيل: إِن المنَّة تكون بالقول، وهى من هذا لأَنها تقطع النعمة، وتقتضى قطع الشكر(4/527)
وأَمَّا المَنُّ فى قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} فهو طَلٌّ ينزل من السّماء حُلْو، ينزل على أَصناف من الشجر؛ كالصفصاف ونحوه. وقيل: المنٌّ والسّلوى كلاهما إِشارة إِلى ما أَنعم الله به عليهم، وهما بالذات شىء واحد، ولكن سمَّاه مَنًّا من حيث إِنه امَتنَّ به عليهم، وسمَّاه سَلْوَى من حيث إِنَّه كان لهم به التسلىّ.
والمَنِين: الرجل الضعيف، والرجل القوىّ من الأَضداد.
والمَنَّان من أَسماءِ الله تعالى، ومعناه: المعطِى ابتداء. والمُمِنَّانِ: المَلَوانِ.(4/528)
بصيرة فى من
وهى على خمسة أَوجه:
1- شرطيَّة، نحو {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} .
2- واستفهاميَّة نحو {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} ، {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} . وإِذا قيل: مَن يفعلُ هذا إِلاَّ زيد؟ فهى مَن الاستفهاميّة، أُشْرِبَتْ معنى النَّفى. ومنه: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} . ولا يتقيد جواز ذلك بأَن تقدّمها الواو، خلافاً لبعضهم بدليل قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} .
3- وموصولة، نحو: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} أَى الذى فى السَّماوات والذى فى الأَرض.
4- وموصوفة نكرة، ولهذا دخلت عليها رُبّ فى نحو قوله:
رُبّ مَن أَنضجتُ غيظاً قلبَه ... قد تَمنَّى لِىَ موتا لم يُطَع
ووُصف بالنكرة فى نحو قول كعب بن مالك [وقيل] لحسَّان:
فكَفَى بنا فضلا على مَنْ غيرِنا ... حُبُّ النبىّ محمدٍ إِيّانا(4/529)
فى رواية الجرّ. وقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا} جزم جماعة أَنَّها موصوفة، وآخرون بأَنها موصولة.
5- وزائدة كقول عنترة:
ياشاة مَن قَنصٍ لمن حلَّت له ... حَرُمت علىّ وليتها لم تحرم
المراد بالشَّاة المرأَة.(4/530)
بصيرة فى من
وهى تأْتى على خمسة عشر وجهاً:
لابتداء الغاية، وهو الغالب؛ حتى قيل: إِن سائر معانيها راجعة إِليه. ويقع لذلك فى غير الزَّمان، نحو: {مِّنَ المسجد الحرام} ، {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ}
قيل فى الزمان أَيضاً نحو قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} ، وفى الحديث: "فمُطِرنا من الجُمُعة إِلى الجمعة".
الثَّانى: التبعيض نحو: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} وعلامتها إِمكان سدّ (بعضٍ) مسدّها؛ كقراءَة ابن مسعود {حتى تُنْفِقُواْ بَعْضَ مَا تُحِبُّونَ} .
الثالث، بيان الجنس. وكثيرًا ما تقع بعد ما ومهما. وهما بها أَولى؛ لإِفراط إِبهامهما نحو: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} ، {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} . ومن وقوعها بعد غيرهما {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} ، {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} ، ونحو: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} .
وأَنكر مجئَ (مِنْ) لبيان الجنس قوم، وقالوا: هى فى {مِنْ ذَهَبٍ} و {مِن(4/531)
ْ سُنْدُس} للتبعيض، وفى {مِنَ الأوثان} للإِبتداءِ، والمعنى: فاجتنبوا من الأَوثان الرّجس، وهو عبادتها. وهذا تكلّف.
وقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} للتبيين، لا للتبعيض كما زعم بعض الزنادقة الطاعنين فى بعض الصّحابة. والمعنى: الذين آمنوا هم هؤلاءِ. ومثل قوله تعالى: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ / أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وكلُّهم محسن مُتَّق، {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، والمقول فيهم ذلك كلّهم كفَّار.
الرابع: التعليل، نحو: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} .
وذلك من نبإٍ جاءَنى
الخامس: البدل: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} ، {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} لأَن الملائكة لا تكون من الإِنْسِ، {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} أَى بدل طاعة الله، أَو بَدَل رحمة الله؛ "ولا ينفع ذا الجَدّ مِنْكَ الجَدّ".(4/532)
السّادس: مرادفة عن: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} {ياويلنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هاذا} .
السابع: مرادفة الباء: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} .
الثامن: مرادفة فى، نحو: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} ، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} .
التاسع: موافقة عِنْد: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} قاله أَبو عبيدة. وقد قدّمنا أَنها للبدل.
العاشر: مرادفة على، نحو: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} ، وقيل على التضمين، أَى معناه منهم بالنصر.
الحادى عشر: الفصل، وهى الدّاخلة على ثانى المتضادّين: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} ، {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} .
الثانى عشر: الغايةِ، تقول: رأَيته من ذلك الموضع؛ فجعلته غاية لرؤْيتك أَى محلاَّ للابتداءِ والانتهاءِ.
الثالث عشر: التنصيص على العموم، وهى الزائدة (فى) نحو: ما جاءَنى من رجل.
الرابع عشر: توكيد العموم، وهى الزائدة [فى] نحو: ما جاءَنى من أَحد. وشرط زيادتها فى النَّوعين ثلاثة أُمور.(4/533)
أَحدها: تقدّم نفى أَو نهى، أَو استفهام بهل، أَو شرط، نحو: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} ، {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمان مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} ، وقول الشاعر:
ومهما يكن عند امرئٍ من خليقة ... وإِن خالها تخفى على النَّاس تُعْلَم
الثانى: تنكير مجرورها.
الثالث: كونه فاعلا أَو مفعولاً أَو مبتدأ.
وقيل فى قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} : إِنَّ (من) زائدة. وقال أَبو البقاءِ فى قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} : إِن (مِن) زائدة و (شىءٍ) فى موضع المصدر أَى تفريطاً. وَعدَّ أَيضاً من ذلك قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} فقال: يجوز كون (آية) حالاً و (من) زائدة، واستدلَّ بنحو: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} ، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} ، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} ، {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} . وخرّج الكسائى على زيادتها قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِن مِن أَشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عند الله المصوّرون"، وكذا ابن جِنَّى قراءَة بعضهم: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} بتشديد(4/534)
(لَمَّا) ، والفارسىُّ فى قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} . ويجوِّز كون من ومن الأَخيرتين زائدة، وقال به بعضهم فى: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} .
وأَمّا قوله تعالى: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ} فمِن الأَولى للابتداءِ، والثانية للتعليل. وقوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} ، مِن الأُولى للابتداءِ، والثانية إِمّا كذلك فالمجرور بدل بعض وأَعيد الجار، وإِمّا لبيان الجنس، فالظرف حال، والمنبَت محذوف، أَى مما تُنبته كائناً / من هذا الجنس.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} ، (مِن الأُولى مثلها فى زيد أَفضل من عمرو، و (من) الثانية للابتداءِ. وقوله: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء} من للابتداءِ، والظرف صفة لشهوة أَى شهوة مبتدأَة من دونهنّ. وقوله: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية فيها (مِنْ) ثلاث مرات: الأُولى للبيان؛ لأَن الكافرين نوعان كتابيّون ومشركون، والثانية زائدة، والثالثة لابتداءِ الغاية. وقوله: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} ، {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ} الأُولى فيهما للابتداءِ، والثانية للتبيين. وقوله تعالى: {نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} ، من فيهما للابتداءِ، ومجرور الثانية بدل من مجرور الأُولى بدل اشتمال؛ لأَنَّ الشجرة كانت ثابتة بالشاطىءِ.(4/535)
بصيرة فى موت
الموت أَنواع، كما أَنَّ الحياة أَنواع.
فمن الموت ما هو بإِزاءِ القوّة النَّامية الموجودة فى الإِنسان والحيوان والنبات، نحو قوله تعالى: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} ، لم يقل: مَيْتَة لأَنَّ المَيْتَ يستوى فيه المذكَّر والمؤَنث.
وموتٌ هو زوال القوّة الحسّاسة، قال تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} .
وموت هو زوال القوّة العاقلة، وهى الجهالة، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} ، وإِيّاه قَصَد بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} .
وموت بالتشّبه، وهو كل أَمر جليل يكدّر العيش وينقص الحياة. وإيّاه قَصَدَ بقوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} .
ومنها النوم؛ كما يقال: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، وعلى هذا النحو سمّاه الله توفِّيا، قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، وقد مات يموت ويَمَات أَيضاً. وأَكثر من يتكلَّم بها طيِّىءٌ. وقد تكلَّم بها سائر العرب، قال:
بُنَيَّتى يا خَيْرة البنات ... عيشى ولا تأْمَنُ أَن تماتى(4/536)
وقال يونس: يميت لغة ثالثة فيها، فهو ميّت ومَيْتَ، وقوم مَوْتَى وأَموات وميّتون. وأَصل ميّت مَيْوِت على فيعِل، ثم أدغم، ثم يخفَّف فيقال: مَيْت. قال عَدِىُّ بن الرَّعْلاَءُ:
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا المَيْت مَيِّت الأَحياءِ
إِنما المَيْتُ مَن يَعيش ذليلاً ... كاسفاً بالُه قليل الرَّجَاءِ
قال الفراءُ: يقال لمن لم يمت: إِنه مائت عن قليل وميّت، ولا يقال لمن مات: هذا مائت.
والموت: السّكون، ماتت الرّيح أَى سكنت. ومات الرّجل وهَوّم أَى نام. ومات الثوبُ أَى بَلى. والمَوْتة: الواحدة من الموت. ومَوْت مائت كلَيلٍ لائلِ، والمُواتِ - بالضم -: الموت. والمَوَات - بالفتح -: ما لا روح فيه. والمَوَات أَيضاً: الأَرض لا مالك لها من بنى آدم، ولا يَنتفِع بها أَحد. والمَوَتان: خلاف الحيوان. وفى المثل: اشتر المَوَتَان، ولا تشتر الحَيَوَان. أَى اشتر الأَرضين والدُّور ولا تشتر الرّقيق والدّواب. والمَوَتَان من الأَرض: الَّتى لم تُحْىَ بعد. وفى الحديث: "مَوَتان الأَرض لله ولرسوله، فمن أَحيا منها شيئاً فهو له".
وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} قيل: نفى الموت عنهم والمراد نفيُه عن أَرواحهم، تنبيهاً على ما هم فيه من النعيم. وقيل: نفى عنهم / الحزن المذكور فى قوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ} . وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}(4/537)
المراد زوال القوّة الحيوانيّة، ومفارقة الروّح البدَن. وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} قيل معناه: ستموت تَنْبيهاً على أَنه لابدّ لكلّ أَحد من الموت، وقيل: بل إِشارة إِلى ما يعترى الإِنسان دائماً من التحَلّل والنقص؛ فإِن البشر ما دام فى الدّنيا يموت جزءا فجزءا.
والمَيْتة من الحيوان: ما مات بغير تذكية. والمستميت: المتعرّض للموت الذى لا يُبالى فى الحرب من الموت. والمستميت للأَمر: المسترسل. والمُوتة - بالضمّ - شِبْه الجنون والصَّرْع، كأَنه من موت العلم والعقل. ومنه رجل مَوْتان القلب وامرأَة مَوْتانة. وأَماته الله ومَوّته للمبالغة. وأَمات فلان: إِذا مات له ابن أَو بنون، وكذلك الناقة والمرأَة، فهى مُمِيت ومميتة، وجمعها: مَمَاويت. وأَمات الشىء طبخاً: بالغ فى نضجه، وموّتت الإِبلُ: ماتت، فهو لازم ومتعدّ. قال مجنون عامر:
فعُروةُ مات موتاً مستريحاً ... فها أَنا ذا أُموَّتُ كُلَّ يوم
والمتماوت من صفة الناسك.(4/538)
بصيرة فى موج وميد ومير وميز
ماج البحرُ مَوْجًا: اضطَرَب. وتموّج تموُّجًا. والمَوْج: ما يرتفع من غوارب الماءِ، قال تعالى: {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} .
ماد يميد مَيْدَا وَميَدَانًا: تحرّك بشدّة، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} أَى تضطرب بكم وتدور بكم وتحرّككم حركة شديدة. يقال: مادت الأَرض إِذا تمايلت. وفى الحديث: "المائد فى البحر الذى يصيبه القىءُ له أَجر شهيد، وللغرقِ أَجر شهيدين"، المائد الَّذِى يصيبه الدُّوار. والمَيْدَى كحَيْرَى: الجماعة منهم. وماد الرّجل: تبختر.
والمائدة: خِوَان عليه طعام. فإِذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، وإِنما هو خوان، قال تعالى: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} قال أَبو عبيدة: مائدة فاعلة بمعنى مفعولة نحو عيشة راضية بمعنى مرضيّة. وقال أَبو إِسحاق: الأَصل عندى فى المائدة أَنها بمعنى فاعلة لا بمعنى مفعولة، لكن على معناها فى الفاعلية كأَنها تميد يما عليها أَى تتحرك. والمَيدة لغة فيها، أَنشد الجَرْمِىّ:
ومَيْدَةٍ كثيرة الأَلوان ... تُصنع للإِخوان والجيران
ومادَهُم أَى زادهم، قيل: ومنه المائدة لأَنها يُزاد عليها.(4/539)
المِيرة - بالكسر - طعام يمتاره الإِنسان، وقد مار أَهلَه يمِيرهم، قال تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} .
المَيْز مَصدر قولك مِزْت الشىء أَمِيزه مَيْزًا: عزلته وفَرَزته، قال الله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} ابن الأَعرابى: ماز الرجلُ: انتقل من مكان إِلى مكان. وأَنشد الليث لحسّان بن ثابت رضى الله عنه:
من جوهر مِيزَ فى مَعادنه ... متفضل باللجين والذهب
وأَماز الشىءَ مازهُ، ومنه قراءَة ابن مسعود رضى الله عنه: {لِيُمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} بضم الأُولى وسكون الثَّانية. وميَّز الشىء من الشىء: مثلُ مازه منه وأَمازه. وانماز الشىءُ: انفعل من مِزْته. وامتاز أَى انفصل، ومنه قوله تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} قال ابن عرفة: أَى كونوا فرقة فرقة إِلى النار. وتميّز: تقطع، ومنه قوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أَى تتقطَّع من غَيْظها. واستماز: تنحى. والتمييز فى العرف: القوّة التى فى الدّماغ، وبها يُستنبط المعانى.(4/540)
بصيرة فى ميل وماء
ومال إِليه مَيْلاً ومَمَالاً ومَمِيلاً وتَمْيالاً ومَيَلاناً ومَيْلُولة: عدل، فهو مائل والجمع مُيَّل، ومَالَةٌ. وأَمالَه إِليه ومَيّله فاستمال. ومالت الشمسُ مُيُولاً: ضيَّفتْ للغروب، أَو زالت عن كَبِد السّماء. وقيل: المَيْل: العدول عن الوسط إِلى أَحد الجانبين؛ ويستعمل فى الجَوْر كثيراً. وإِذا استُعمل فى الأَجسام فإِنه يقال فيما كان خِلْقة أَو بناءً: مَيَل بالتحريك، وفيما سواه: مَيْل بالسّكون. ومال إِليه: عاونه، قال تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} ومِلت عليه: تحاملت عليه، قال تعالى: {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} . والمال: سمّى لكونه مائلاً أَبداً وزائلاً، ولذلك سُمّى عَرَضاً، ويقال: المال قحبة، يوما فى بيت عطَّار، ويوما فى بيت بَيْطار.
الماءُ والماهُ والماهة معروف. وهمزة الماء منقلبة عن هاء. وسُمع: اسقنى (مَا) بالقصر، والجمع: أَمواه ومياه. وماهت الرّكيّةُ تَمَاه وتَمُوه وتمِيه مَوْها ومَيْها ومُوُوها ومَاهة ومَيْهة، فهى مَيِّهة وماهة: كثر ماؤها. وهى أَمْيَه ممَّا كانت وأَمْوَه. وحفر فأَماه وأَمْوه: بلغ الماءَ. ومَوّه الموضعُ تمويهاً: صار ذا ماءَ. وأَماهوا رَكِيَّتهم: أَنبطوا ماءَها. وما أَحسن مُوهة وجههِ - بالضم - أَى ماءَه ورونقه. ورجل ماهُ الفؤاد وما هى الفؤاد: جبان.
والمِئَة: الأَصل الثالث من أَصول الأَعداد، فإِن أَصولها أَربعة: آحاد وعشرات ومئات وأُلوف. آخر الميم.(4/541)
الباب السادس والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف النون(5/5)
بصيرة فى النون
وقد ورد على وجوه:
1- حرف من حروف التهجّى ذَوْ لَقِىٌّ، مخرجه قرب مخرج اللام. يذكَّر ويؤنث، والنَسبة نونىّ؛ وقد نوّنت نوناً حسناً وحسنة، جمعه: أَنوان ونُونات.
2- اسٌم لِعدَدَ الخَمْسِين في حِساب الجُمَّل.
3- النون الأَصلىّ؛ مثل نون: نجم، ومنع، وعجن.
4- النون المكرّرة في باب التفعيل؛ نحو: فَنَّن.
5- النون الكافية: الَّتى تكون كناية عن كلمة تامّة نحو: {ن والقلم}
6- نون التنوين، نحو: رَبّ ونبىّ. وهذا لا يكون له في الخطِّ صورة إلاَّ في كَأَيِّنْ.
7- نون التثنية {مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} .
8- نون جمع السّلامة، ويكون مفتوحاً أَبداً: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} {أَيُّها المؤمنُؤنَ} ويكون في جمع التكسير مُعْرَباً نحو إخْوان وجيران.
9- نون الإِعراب الَّذى يكون دليل الرفع فى الأَمثلة الخمسة:(5/6)
{فَآخَرَانِ يَقُومَانِ} ، {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله/ أَفْوَاجاً} ، {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} .
10- نون المطاوعة فى الفعل، كقوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} ، {فانفجرت} ، {فانفلق} .
11- نون الاستقبال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} .
12- نون الضمير: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} ، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} .
13- نون التوكيد: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} .
14- النون الزَّائدة وتكون في الأَوّل نحو: نعلمهم، وفى الثانى نحو: عَنْسَل ومَنْدل، وفى الثالث نحو: جَحَنفل وغَضَنْفر، وفى الرابع نحو: رَعْشن وضَيْفَن، وفى الخامس نحو: فَرَس فَلَتان وفى السادس نحو: زَعْفران وترجمان، وفى السابع نحو: قَرَعْبَلاَنة.
15- النون المبدَلَة من اللام: هَتَلت السّماء وهَتَنت، والمبدَلة من. الهمزة، نحو: صَنْعانّى فى النسبة إلى صَنْعاءَ.(5/7)
16- النون اللُّغوىّ. قال الخليل: النون: الحرف المعروف، والدّواة، وجمع نونة الذَقَن، وشَفرةُ السّيف، والحوتُ؛ وفى الحديث: "دَسِّمُوا نُونَتَه" يعنى نونة الذَقَن، وفى الدّواة مثل: {ن والقلم} ، وقال فى السّيف.
سأَجعلُه مكانَ النُّون مِنِّى ... وما أُعطيت من عزّ الجَلال
وبمعنى الحوت قال الله تعالى: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} .
قال الشّاعر:
عَيْنان عَيْنان ما فاضت دُموعهما ... لِكُلِّ عَيْنٍ من العَيْنَينِ نُونانِ
نُونانِ نُونانِ لم يكتبْهُما قَلَمٌ ... فى كلّ نون من النّونَيْن نُونانِ
وجمع نُون الحوت: نِينانٌ وأَنْوانٌ.
ولو قيل: نُنْ فى الشعرجاز.(5/8)
بصيرة فى نبت
النَّبْت، والنَّبَات بمعنى. ونَبَت البقلُ. والمَنْبِت: موضع النبات. والنَّوابِت من الأَحداث: الأَغمار.
وأَنْبَتَت الأَرضُ النباتَ. وأَنْبَتَ البقلُ، أَى نَبَت ويُروى قول زُهَير بالوجهين:
إِذا السَّنَةُ الغَرَّاُءُ بالناس أَجْحَفت ... ونال كِرامَ المالِ فى الجَحْرة الأكْلُ
رأَيتَ ذَوِى الحاجات فوق بيوتهم ... قطِيناً لهم حَتَّى إِذا أَنْبَتَ البقلُ
هُنالِك إِنْ يُستخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا ... وإن يُسأْلُوا يُعطوا وإِن يَيْسِروا يُغْلوا
وأَنكر الأَصمعّى أَنبت البقلُ وقال: لا أَعرف إلاَّ نبت البقلُ، ولا يقول عربىّ: أَنْبَت فى معنى نَبَت. وأَنْبَتَه اللهُ فهو مَنْبُوت على غير قياس. وأَنْبَتَ الغُلامُ: راهَقَ واستبان شَعَر عانَته.
والنبات عامُّ فى كلّ ما يَنْبُت، لكن صار فى التعارف اسماً لما لا ساق له، بل [اختصّ] بما يأكله الحيوانات، وعلى هذا قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ(5/9)
بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} . ومتى اعتُبرت الحقائق فإِنه يُستعمل فى كلّ نامٍ، نباتاً كان أَو حيواناً أَو إِنساناً، والإِنبات يستعمل فى كلّ ذلك قال تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} قال النحويّون: (نباتاً) موضوع موضع الإِنبات وهو مصدر، وقيل: (نباتاً) حال لا مصدر، ونبّه بذلك أَنّ الإِنسان مِن وجهٍ نباتٌ من حيث إِنّ بدأَه ونشأَه من التّراب. (ونمّوه فيه) ، وعلى هذا نبّه بقوله: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} .
ونَبَّت الشجرَ تنبيتاً: غَرَسَه، والصّبىَّ: ربّاه.
والتَنْبِيت: اسمٌ لما يَنْبت من دِقّ الشجر وكِباره، قال رؤبة:
مَرْتٌ يُناصى خَرْقَها مَرُوتُ ... صَحْراءُ لم يَنْبُت بها تَنْبيتُ:(5/10)
بصيرة فى نبذ ونبر
نَبَذْتُ الشْئَ أَنبِذُه بالكسر نَبْذاً: إِذا أَلقيتَه من يدك، وقوله تعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} ، أَى [أَلْقِ] إِليهم عهدهم الَّذى عاهدتهم عليه. وقال الأَزهرىّ: معناه: إِذا هادنت قوماً فعلمتَ منهم النقض للعهد فلا تُوقع بهم سابقا. إلى النقض، حتّى تُلقى إِليهم أَنك قد نقضت العهد / والموادعة، فيكونوا [معك] فى علم النقض مُسْتوين، ثم أَوْقع بهم.
وقوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} أَى رَمَوه ورفضوا العمل به.
وانْتَبَذَ فلان أَى ذهب ناحيةً، واعتزل اعتزال مَن يقلّ مبالاته بنفسه فيما بين الناس، قال تعالى: {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أَى اعتزلت وتنحَّت.
والنَّبَزُ بالتحريكِ: اللَّقَب جمعه: الأَنباز. والنَبْز بالتسكين: المصدر. نَبَزه يَنْبِزه نَبْزاً: لَقّبه. ورجل نُبَزَة - كَهُمَزَة -: يلقِّب الناس كثيراً. وهو نَبز - ككتف - أَى لئيمٌ فى حَسَبه وخُلُقِه. فلان يُنَبِّز الصّبيانَ تنبيزاً: شدّد للمبالغة.
والتَّنابز: التعاير وقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أَى لا تداعَوا. وقال الزجّاج: أَى لا يقول المسلم لمن كان نصرانياً أَو يهوديّاً فأَسلم لَقَبا يُعَيّره [فيه] أَنه كان نصرانيّا أَو يهوديّاً. قال: وقد يحتمل أَن يكون في كلّ لقب يكرهه الإِنسان.(5/11)
بصيرة فى نبط
نَبَط الماءُ يَنْبِط نَبْطاً ونُبُوطاً: نَبَعَ، قال ابن دريد: نَبَطْتُ البئرَ: إِذا استخرجتَ ماءَها. والنَبَطَ - محركة - أَوّل ما يظهر من ماءِ البئر إِذا حفرتَها.
وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما: نحن معاشرَ قريش حىٌّ من النَبَط من أَهل كُوثَى. وسُمّوا نَبَطاً لأَنهم يَسْتَنِبِطُون المياه.
وأَنْبَطَ الرّجلُ: انتهى إلى النَبَط أَى الماءَ. وأَنبط: استخرج النَبَط. وكلّ شيءٍ أَظهرْتَه بعد خفَائه فقد أَنْبَطْتَه واستنبطته.
وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أَى يستخرجونه.
واستنبط الفقيه: إِذا استنبط الفقه الباطن بفهمه واجتهاده.(5/12)
بصيرة فى نبع
نَبَع الماءُ يَنْبُع ويَنْبِع نُبُوعا ونَبْعا: إِذا خرج من العَين. ومنه قيل العين: يَنْبُوع، قال الله تعالى: {حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} وقال ابن دُرِيد: اليَنْبوع: الجَدْول الكثير الماءِ. ومَنابع الماءِ: مَخارجه.
وانْبَاع العَرَقُ: سال. وكلّ راشح مُنْبَاعٌ.
ومَثَلٌ من أَمثالهم: مُخْرَنْبِقٌ لِيَنْباع، أَى ساكت لينبعث. وانباع الرجل: وثب بعد سكون.(5/13)
بصيرة فى نبأ
النَبَأَ - مُحركةً -: الخَبَر، ونَبَّأَ وأَنْبَأَ: أَخبر، ومنه اشتق [النبى] قال تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل، [و] قال تعالى: {نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} وعلى هذا فهو فعيل بمعنى مفعول. غير أَنهم تركوا الهمزة فى النبىّ، والبَرِيَّة، والذُّرِّية، والخابية؛ إِلا أَهل مكَّة حرَسها الله، فإِنهم يهمزون هذه الأَحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب فى ذلك.
وتصغير النبىّ نُبَيِّئ كنُبَيِّع، وتصغير النبوّة نُبَيِّئة مثال نُبَيِّعة، يقول العرب: كانت نُبَيِّئةُ مُسَيْلِمَةَ نُبَيِّئة سَوْءٍ وجمع النبىّ أَنبئاء ونُبآء. قال العبّاس بن مِرْداس:
يا خاتم النُبَآءِ إِنّك مرسَل ... بالحقّ كلّ هُدَى السبيل هداكا
إِنّ الإِله بَنَى عليك محبَّة ... في خَلْقه ومحمّداً سمّاكا
ويُروى: يا خاتم الأَنْباءِ. ويجمع أَيضاً على نبيّين وأَنبياء؛ لأَن الهمز لَمّا أُبدل وأُلزم الإِبدال جُمِعَ جَمْع ما أَصلُ لامه حرف العلة؛ كعِيد وأَعياد.
ونَبَّأَ تنبئة: أَخبر، وقوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هاذا} أَى لتُجازيَنّهم بفعلهم. ويقول العربىّ للرّجل إِذا توعّده: لأُنبِّئنّك ولأَعُرِّفَنَّك. ونبَّأْته أَبلغ من أَنبأْته. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ(5/14)
مَنْ أَنبَأَكَ هاذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} ولم يقل: أَنبأَنى بل عدل إِلى نبّأَ الَّذى أَبلغ؛ تنبيهاً على تحقيقه وكونِه من قِبَل الله.
/ والنبوّة: سِفَارة بين الله وبين ذوى العقول؛ لإِزاحة عِلَلهم فى أَمر مَعادهم ومَعاشهم.
والنَبْأَة: الصّوت. ونَبَأت أَنْبَأُ نُبُوءَا، أَى ارتفعت، وكلّ مرتفع نابئٌ ونَبِئٌ. وفى بعض الآثار: لا يُصلَّى على النبئِ، أَى المكان المرتفع المحْدَوْدِب.
ونَبَأْت على القوم نَبْأ ونُبُوءاً: إِذا طلعتَ عليهم. ونَبَأت من أَرض إِلى أَرض: إِذا خرجت منها إلى أُخرى وهذا المعنى أَراد الأَعرابىّ بقوله: يا نبئَ الله، أَى يا من خرج من مكَّة إلى المدينة، فأَنكر عليه الهمز وقال: "إِنّا معشرَ قريش لانَنْبِر". ويُرْوَى: لاتَنْبِرْ باسمى فإِنما أَنا نبىّ الله ولست بنَبئِ الله.(5/15)
بصيرة فى: نتق ونثر ونجد
نَتق الشَّئَ: جَذَبَه، قال تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} قال أَبو عبيدة: أَى زَعْزَعْناه واستخرجناه من مكانه. قال: وكلّ شيء قَلَعْتَه فرمَيْت به فقد نَتَقْتَه. وقد نَتَقت المرأَةُ تنتُقُ، ولهذا قيل للمرأة الكثيرة الولد: ناتِقٌ ومِنْتاق؛ لأَنّها ترمى بالأَولاد رميا. ومنه الحديث: "عليكم بالأَبكار، فإِنّهنّ أَعذبُ أَفواها، وأَنْتَقُ أَرحاما، وأَرْضَى باليسير" أَنْتَق أَرَحاماً: أَى أَكثر أَولاداً؛ أُخذ من نَتْق السّقاء وهو نفضه، ونَتَق الجُرُبَ: إِذا نفضها ونثر ما فيها.
نَثْر الشَّىْءِ: نَشْره وتفريقه. نثَره يَنْثُرُهُ نَثْراً فانْتَثَر، قال تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت} .
والنُّثار بالضمِّ: ما تناثر من الشَّىْءِ.
ودُرّ مُنَثَّر، شُدّد، للكثرة. والانتثار والاستنثار بمعنى.
النَجْدة: الشجاعة والنَجْد: ما ارتفع من الأَرض، والجمع: نِجَاد ونُجُود وأَنْجدُ. ومنه قولهم: طَلاَّع أَنْجُد، وطلاّع الثنايا: إِذا كان سامياً لمعالى الأُمور. قال محمّد بن أَبى شحاذ:(5/16)
وقد يَقْصُرُ القُلُّ الفَتَى دجون هَمِّه ... وقد كان لولا القُلّ طَلاَّعَ أَنْجُدِ
وتُجمع النُّجود أَنْجِدَة.
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} أَى طريق الخير والشرّ، وقال مُجاهد: الثَّدْيَيْن.
والنَّجْد: الطريق المرتفع، قال امرؤ القَيْس:
غَداة غَدَوْا فسالكٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وآخَرُ منهم جازعٌ نَجْد كَبْكَبِ(5/17)
بصيرة فى نجس
النَّجْسُ والنِّجْسُ والنَّجَسُ والنَّجِسُ والنَّجُسُ: ضدّ الطَّاهر، قال الله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} وقرئ نَجْسٌ بسكون الجيم وفتح النون، وقرأَ الضحّاك نَجِسٌ مثال كَتِف، وقرأَ الحَسَنُ بن عِمْران ونبيح وأَبو واقِدٍ والجَرّاح وابنُ قُطَيْبٍ: نَجْسٌ مثال رِجْسٍ، وقال الفّراءُ: إِذا قالوه مع الرِجْسِ أَتْبَعُوه إيّاه، وقالوا: رِجْسٌ نِجْسٌ. وكان النبىّ صلَّى الله عليه وسلم إِذا دخل الخَلاءَ قال: "اللهمّ إِنِّى أَعوذُ بك من الرِّجْسِ النِّجْسِ، الخَبِيثِ المُخْبِثِ الشَّيطانِ الرّجيم" وقد نَجِسَ يَنْجَسُ مثال سَمِعَ يَسْمَع، ونَجُسَ يَنْجُس مثال كَرُمَ يكُرِم. وقال ابن الأَعرابىّ: النُجُسُ بَضمتين المُعَوِّذون. وبه داءٌ نَاجِسٌ ونَجِيسٌ: إِذا كان لا يَبْرَأُ منه.
وداءٌ به أَعْيا الأَطباءَ ناجسُ
وقال ساعدة بن جُؤَيّة: -
إِن الشّبابَ رِداءٌ مَنْ يَزِنْ تَرَهُ ... يُكْسَى الجمالَ ويُفْنِدغَيْرَ مُحْتَشم
والشَّيبُ داءٌ نَجِيسٌ لا شِفاءَ له ... للمرءِ كان صحيحاً صائبَ القُحَم(5/18)
وإِذا قلت: رجلٌ نَجِسٌ كَكَتِف ثنّيت وجمعت، وإِذا قلت: نَجَسٌ بفتحتين لم تُثَنِّ ولم تجمع، وقلت: رجلٌ نَجَسٌ، ورجلان نَجَسٌ، ورجالٌ نَجَسٌ، وامرأَة نَجَسٌ، ونساءُ نَجَسٌ. ويُقال: أَنْجَسَه ونَجَّسَه تَنْجيساً.
ثمّ اعلم أَنّ النّجاسة ضربان/: ضرب يُدْرَك بالحاسّة، وضرب يُدْرَك بالبصيرة، وعلى الثانى وَصَف الله به المشركين فى الآية المتقدّمة.
ويقال: نَجَّسَه أَى أَزال نَجَسَهُ، فهو من الأَضْداد. والتَنْجِيسُ شىءٌ كانت العرب تفعله على الَّذى يُخاف عليه من وَلُوع الجنّ به. قال المُمَزّق البَكْرِىّ واسمه شَأس بن نَهارٍ:
ولو أَن عندى حازِيَيْن وراقِياً ... وعَلَّق أَنجاساً علىّ المُنَجِّس
قال ثعلب: قلت لابن الأَعْرابىِّ: لِمَ قيل للمُعوَّذ مُنَجَّس وهو مأْخوذ من النجاسة؟ فقال: للعرب أَفعال تخالف معانيها أَلفاظها، يقال فلان يَتَنَجَّس: إِذا فعل فعلاً يخرج به من النجاسة، كما يُقال يتأَثَّم ويتحوَّب ويتحنَّت: إِذا فعل فعلاً يخرج به من الإِثم والحُوب والحِنْثِ.(5/19)
بصيرة فى نجم ونجو
النَّجْمُ: الكَوْكَب الطالع، والجمع: أَنْجُمٌ وأَنْجامٌ ونُجومٌ ونُجُمٌ. والنَّجم - أيضا من النَّبات: ما نَجَمَ على غير ساقٍ. والنَّجْمُ أَيضا: الثُرَيَّا. وقوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} قيل: أَراد به الكَوْكَب، وإِنّما خَصَّ الهُوىَّ دون الطلوع فإِن لَفْظةَ النَّجم دَلَّت على طُلوعه. وقيل أَراد بالنَّجْم الثُرَيَّا فإِنّ العرب إِذا أَطلقت النجم تُرِيدُ به الثُريَّا كقوله:
طَلَع النَّجْمُ غُدَيَّهْ وابْتَغَى الرّاعى شُكَيَّهْ
وقيل أَراد بذلك القرآن الكريم المنزَّل نَجْماً نَجْماً، ويعنى بقوله هَوَى نُزولَه. وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} فُسّر بالوَجْهَين. وقوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} النَّجْمُ: ما لا ساق له من النّبات.
والنَّجْمُ: الوقتُ المَضْرُوب، والأَصْلُ، وكلّ وَظِيفَةٍ من شىء.
وتَنَجَّم: رَعَى النُّجومَ من سَهرَ أَو عِشْق. والمنجّم والمتنجِّم والنَّجَام، من ينظرُ فيها بحَسَب مَواقيتها وسَيْرها.
نَجَا نَجْواً، ونَجاءً ونَجاةًَ، ونَجايَةً: خَلَصَ. ونَجّاه اللهُ وأَنْجاه،(5/20)
واسْتَنْجَى ونَجَّى لازمٌ مُتعدٍّ. قال تعالى: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ} ، {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} .
ونَجا الشَجَرَةَ نَجْواً وأَنْجاها واسْتَنْجاها: قطَعَها. نَجا الجِلْدَ نَجاً ونجْواً، وأَنْجاه: كَشَطَهُ.
وانْتَجَى منه حاجَته واسْتَنْجَى: خَلَّصها.
والنّجاةُ والنَّجْوَةُ والمَنْجَى: ما ارْتفع من الأَرض.
وناقةٌ ناجِيَةٌ ونَجِيَّةٌ: سريعةٌ، لا يُوصف به البعير.
ونجَّيْتُه تَنْجِيَةً: تركته بنَجْوَة من الأَرض، وعلى هذا قوله تعالى: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} .
وناجاه مُناجاةً ونِجاءً: سارَّه. والنَّجاءُ والنَّجْوَى: السرّ. والنَّجْوَى المُسارُّون: اسمٌ ومصدر. ونَجِىٌّ كَغِنَىٍّ من تُسارُّه، والجمع أَنْجِيَةٌ، قال تعالى: {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} . وقوله {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} تنبيهاً أَنهم لم يُظْهِرُوا بوَجْهٍ لأَنّ النَّجْوَى ربّما تَظْهر بَعْدُ. وقد يوصف بالنجوى فيقال: هو نَجْوَى، وهم نَجْوَى، قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى}(5/21)
والنَّجْوَ: السحاب الذى هَراقَ ماءَه، ويُكْنَى به عمّا يخرج من الإنسان وشَربَ دواءً فما أَنْجاه أَى ما أَقامَه. واسْتَنْجَى: اغتسل بالماءِ منه أَو تَمَسَّح بالحجر.
وانْتَجَى: جلس على نَجْوَة من الأَرض. وفلاناً خصّه بمُناجاته.(5/22)
بصيرة فى نحب ونحت
النَّحْبُ: النَذْر، تَقول منه نَحَبْتُ أَنْحُب بالضم، أَى نَذَرْت وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} كأَنّه أَلْزَم نفسه أَن يموتَ فوَفَّى به ولم يَفْسَخْ. وسار فلانٌ على نَحْب، إِذا سار فاجْتَهد السَّيْر، كأَنّه خاطر على شىء فجدَّ. والنَّحْبُ: المُدّة، والوَقْتُ، والنَّوْمُ، والمَوْتُ، والطُّولُ، والسِّمَنُ، والشِدَّةُ، والقِمارُ، والعَظيمُ من الإِبل، والسَّيْرُ السريع، وقد نظمه بعضُهم فى أَبيات وهى هذه:
طُولٌ وَنَوْمٌ وبُرْهانٌ مُرَاهَنَةٌ ... وحاجَةٌ مُدَّةٌ والسَّيْرُ والخَطَرُ
نَذْرٌ أَشَدُّ بُكاءً شِدَّةٌ أَجَلٌ ... والنَّفْسُ والموْتُ واذْكرْ فعْل مَنْ قُمِرُوا
والوقتُ ثمّ سُعالٌ هِمَّةٌ سِمَنٌ ... ضَخْمُ الجِمال مَعانِى النَّحْبِ فاخْتبِرُوا
النَحْتُ: النِّكاح. ونَحَتَهُ النَّجّار يَنْحِتُ ويَنْحَتُ بكسر الحاءِ وفتحها، أَى بَراهُ. وقرأَ الحسن وأَبو حَيْوة: {وتَنْحَتُون من الجبال} بفتح الحاءِ، وزاد الحسن تَنْحاتُون بإِشباع الفتحة. والنُّحاتَة: البُراية. والمِنْحَتُ والمِنْحاتُ: ما يُنْحَت به. ونَحَتَه السّفرُ: أَنْضاهُ فهو نَحِيتٌ.
والنَّحيتة والِنَّحات والنَّحْتُ: الطبيعة الَّتى نُحتَ عليها الإِنسان.(5/23)
بصيرة فى نحر ونحس
نَحَرَ البعيرَ نَحْراً: طَعَن فى نَحْره. ونَحَّر الإِبلَ، وإِبلٌ مُنَحَّرَةٌ وهذا مَنْحَرُ البُدْنُ. وهم نحَّارُون للجُزر. وفي قراءَة عبد الله: {فَنَحَرُوها وما كادُوا يَفْعلون} . وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} تنبيه وتحريض على فضل هذين الرّكنين وفعلِهما فإِنه لابدّ من تعاطيهما فإِنه واجب فى كلّ ملَّة. وقيل: هو أَمر بوضع اليد على النّحر للصّلاة. وقيل: حثٌّ على قَتْل النفس بقمع الشهوة وظَلَف النفس عن هواها.
وجاءَ فى نَحْرِ النَّهار، ونَحْرِ الشَّهْرِ ونَاحِرَته ونَحِيرتَه، أَى فى أَوَّله، وقيل: فى آخره، كأَنّه ينحر الذى قبله. ونَحَرَ الأُمورَ عِلْماً، ومنه هو نِحْرِيرٌ من النَّحارير.
وانْتَحَرَ السَّحابُ: انْبَعَق بالمطر، قال الرّاعى:
فَمَرَّ على منازِلها فأَلْقَى ... بها الأَثقالَ وانْتَحَر انْتِحاراً
النَّحْسُ: الأَمُر المُظْلم. والنَّحْسانِ: زُحَلُ ومِرِّيخُ، والسَّعْدانِ: الزُّهَرَةُ والمُشْتَرِى. والنَّحْس ضدّ السّعد، قال الله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} وقرأَ الحسنُ البصرىّ فى يَوْمٍ نَحِس بالتنوين وكسر الحاءِ، وَعنه أَيضاً يَوْمٍ نَحْسٍ، ويَوْمِ نَحِسٍ على الصّفة والإِضافة والحاءِ(5/24)
مكسورة، وقرأَ قرّاءُ الكوفة والشام ويزيد {فِى أيّامٍ نَحِساتٍ} بكسر الحاءِ، والباقون بسكونها. وقد نَحِسَ الشيءُ بالكسر فهو نَحِسٌ أَيضاً، قال: أَبْلغ جُذاماً ولَخْماً أَنَّ إِخْوَتَهم طَيّاً وبَهْراءَ قَوْمٌ نَصْرُهم نَحِسُ ومنه قيل: أَيّامٌ نَحِسات، ونُحُسٌ أَيضا بالضمّ، ومنه قراءة عبد الرحمن ابن أَبى بكر: {من نارٍ ونُحِسَ} على أنَّه فعلٌ ماض، أَى نُحِسَ يومُهم أَو حالهم.
والعرب تُسمّى الريح الباردة إِذا أَدبرت نَحْساً. قال عمروُ بن أَحْمَرَ الباهلىّ:
كأَنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ ... يُحِيل شَفِيفُها الماءَ الزُّلالاَ
والنَّحْس: الغُبار في أَقطار السّماءِ يُقال: هاج النَّحْسُ أَى الغبار، قال:
إِذا هاجَ نَحْسٌ ذو عَثانِينَ والْتَقَتْ ... سَبارِيتُ أَغْفالٍ بها الآلُ يَمْصَحُ
والنُّحاسُ: القِطْرُ، عربىٌّ فصيح. وقال ابن فارس: النُّحاسُ: النار، قال البَعِيث:(5/25)
شَياطِينُ يَرْمِى بالنُّحاس رَجيمُها
وقال أبو عبيدة: النُّحاس: ما سَقَط من شِرارِ الصُّفْرِ أَو الحَديد إِذا ضُرِب بالمِطْرقة، قال النابغة الذُّبيانّى يصف الخمر:
كأَن شُواظَهُنَّ بجانِبَيْه ... نُحاسُ الصُّفْرِ تَضْرِبُه القُيونُ
وقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} ، قال أَبو عبيدة: النُّحاس ها هُنا: [الدخان] الذى لا لَهَب فيه، قال النابغة الجَعْدِىّ رضى الله عنه:
أَضاءَتْ لنا النارُ وَجْهاً أَغَرَّ ... مُلْتَبِساً بالفؤاد الْتِباسَا
يُضئُ كضَوْءِ سِراجِ السَّلِيطِ ... لم يَجْعَل اللهُ فيهِ نُحاسا
والنِّحاس بالكسر لغة فيه. وقرأ/ مجاهدٌ من نارٍ ونِحاسٌ بكسر النون ورفع السّين.
والِنُّحاس أَيضاً: الطَّبيعة، والأَصل، قال لبيد رضى الله عنه:
وكَمْ فِينا إِذا ما المَحْل أَبْدَى ... نُحاسَ القَوْمِ من سَمْح هَضُومِ
ابن الأَعرابىّ: النِّحاس: مَبْلَغُ أَصلِ الشَّىْءِ. ويُقَال فلانٌ كريمُ النِّحِاس، أَى كريم النِّجار.
وتَنَحَّسَ الأخبارَ، أَى تَتَبَّعها بالاسْتِخبار، ويكون ذلك سِرّاً وعَلانية.(5/26)
بصيرة فى نحل ونحن
النَّحْلُ: ذُباب العَسَل، واحدته نَحْلَة، قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} أَى أَلْهَمَها. والنَّحْلُ أَيضا: العَطاءُ تَبُرُّعاً بلا عِوَض، وقيل مُطْلق العَطاءِ. والنَّحْلُ أيضاً: الشىُّ المَعْطَى.
والنُّحْلُ بالضمّ: مصدر نَحَلَهُ أَى أَعْطاه. والنَحْلُ أَيضاً: مَهْرُ المرأَة والاسمُ النُّحْلَة بالكسر وبالضم واشتقاقه من النَّحْل كانَّه يقول: أَعطاه عَطاءَ النَّحْلِ، فإِنَّ النَّحل [يقع] على الأَشجار كلِّها ولا تضرُّ شيئا منها بوجْه أَصلاً، وينفع أَعظمَ نَفْع، فإِنَّه يُعطيهم ما شفاؤهم فيه، كما وصفه الله تعالى فى كتابه المجيد. وسُمِّىَ الصِّداقُ نِحْلَةً من حيثُ إِنَّه لا يجب فى مُقابَلَته أَكثر من تَمَتُّعٍ دون عِوَض مالّىٍ. وكذا أُعْطِيَة الرّجل ابنَه، [يقال] نَحَل ابْنَه كذا، وأَنْحَلَه: أَعطاه أَو خصّه بشىءٍ من المال. والنُّحْلان والنُّحْل بضمّهما: اسمُ ذلك المُعْطَى، قال تعالى: {وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
ونَحَلَ جِسْمَه يَنْحَل كجَعَل يَجْعَلُ، وعَلِمَ يَعْلَمُ، وكَرُمَ يَكْرُمُ، ونَصَر يَنْصُر نُحُولاً: ضَعُفَ حتى صار كالنَّحْلِ فى الدِقَّة من سَفَر أَو(5/27)
مرض، فهو ناحِلٌ ونَحِيلٌ، وهِىَ نَاحِلَةٌ. وأَنْحَلَه الهَمُّ. وسيفٌ ناحِلٌ: رقِيقُ الظُّبِةِ، وانْتَحَلَه وتَنَحَّلَه: ادَّعاهُ وهو لغَيْره.
نحن: ضميرٌ يُعْنَى به الاثنان والجَمْعُ المُخْبِروُن عن أَنفسهم.
وما ورد فى القرآن من إِخبارِ الله عزَّ وجلَّ عن نفسه بقوله نَحْنُ فقد قيل هو إِخبارٌ عن نفسه وَحْده، لكن يُخرَّجُ ذلك مَخْرَج الإِخبار الملوكىّ. وقيل: إِنَّ الله تعالى يذكر مثل هذه الأَلفاظ إِذا كان الفعل المذكور بعده يَفْعَلُه تعالى بوساطة بعض ملائكته أَو بعض أَوليائه، فيكون عبارة عنه تعالى وعنهم، وذلك كالوَحْىِ ونُصْرة المؤمنين وإِهلاك الكافرين ونحو ذلك، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} يعنى وقت المُحْتَضر حين يشهده الرُسل المذكورون فى قوله تعالى: {تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} .
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} لَمّا كان ذلك بواسطة القلم واللَّوح وجبريل [فهو] كالوحى ونصرة المؤمنين وإِهلاك الكافرين ونحو ذلك ممّا يتولاه الملائكة المذكورون بقوله: {فالمدبرات أَمْراً} ، {فالمقسمات أَمْراً} ، ولا يتأَتّى ذلك فى قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} فيتعيّن أَن يُقَال هذا على طريق ذكر العظيم نَفْسَه وتنزِيله نَفْسَه مقام الكلّ.(5/28)
ونَحْنُ: حرفٌ مفردٌ مبنى على الضَم، وقيل: إِنَّما هو جمعُ أَنَا من غير لَفْظِها، وحُرِّك آخرُه لالتقاءِ السّاكنين، وضُمَّ لأَنَّه يدلّ على الجماعة، وجماعةُ المُضْمَرين تدلّ عليهم الواوُ نحو: فَعَلُوا، وأَنْتم، والواو من جِنْس الضمّة.(5/29)
بصيرة فى نخر ونخل وندم
نخِرَ الشىء يَنْخَرُ كعِلِمَ يَعْلَم، أَى بَلِىَ وتَفَتَّتَ، قال تعالى: {عِظَاماً نَّخِرَةً} وقُرئ ناخِرَةً بمعناها. ونُخْرَة الرّيحِ بالضمَّ: شِدَّةُ هُبوبها.
وقيل للعَظْم والعُود البالِى ناخِرٌ/ ونَخِرٌ لِنَخِير الرِّيحِ فيه. وما بالدّار ناخِرٌ - أَى أَحدٌ.
النَّخْلُ معروفٌ مؤنّث، ويُذَكِّرُها أَهلُ نَجْد، واحدة نَخْلَةٌ، والجَمْع نَخِِيلٌ قال تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب} .
ونَخَلَ الشئَ وانْتَخَلَهُ وتَنَخَّلَه: صَفَّاه واخْتارَه. وَالْمُنْخُل والمُنْخَل: ما يُنْخَلُ به. والنُّخالَةُ: ما نُخِلَ من الدّقيق، وما بَقِىَ فى المُنْخُل، ضِدٌّ.
النِدُّ والنَّدِيدُ والنَّدِيدَة: النَّظِير والمِثْل، قال جرير:
أَتَيْمٌ تَجْعَلُونَ إِلَّى نِدّاً ... وما تَيْمٌ لِذِى حَسَب نَدِيدُ
قال لبيدٌ رضى الله عنه:
لَماَّ دَعانِى عامِرٌ لأَسُبَّهُمْ ... أَبَيْتُ وإِن كان ابنُ عَيْسَاءَ ظالماً
لِكَيْلا يكونَ السَنْدَرىّ نَدِيدَتِى ... وأَذهب أَقْواماً عُموماً عَماعِمَا(5/30)
وجمعُ النِدِّ أَنْدادٌ، وجمع النَّدِيد: نُدَداءُ، مثل: وَدِيد ووُدَدَاءُ. وجمع النَّديدة: نَدائِدُ. وقال ابنُ شُمَيْل: يقال فُلانَةُ نِدُّ فُلانَةَ وخَتَنُ فُلانَةَ وتِرْبُ فلانةَ، ولا يُقال فلانةُ نِدُّ فلانٍ ولا خَتَنُ فلان فتُشَبِّهُها به، قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} .
والتَنادّ: التفرّقُ والتنافر. وقرأَ ابنُ عبّاسٍ رضى الله عنهما والضحّاك والأَعرج وأَبو صالح {يومَ التَنادِّ} بتشديد الدال أَى يَنِدُ بعضهُم من بعض، {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} ونادَدْتُه: إِذا خالَفْتَه.
نَدِمَ عليه - كَفِرحَ - نَدَماً ونَدامَةً، وتَنَدَّمَ: أَسِفَ، فهو نادِمٌ ونَدْمانُ والجمع: نَدامَى، ونُدّامٌ.
والنَّدِيمُ والنَّدِيمَةُ: المُنادِمُ، والجمع نُدَماءُ. ونادَمَهُ مُنادَمَةً ونِداماً: جالَسَه على الشَّراب. وسُمِّىَ الشَّريبان نَدِيمَيْن لما يَتَعقَّب أَحوالَهما من النَدامة على فِعْلهما.(5/31)
بصيرة فى ندى ونذر
النِّداءُ والنُّداءُ بالكسر والضمِّ: الصّوتُ، وقيل: رَفْعُ الصَّوْتِ، ونادَيْتُه ونادَيْتُ به. والنَّدَى: بُعْدُ الصَّوت. وهو نَدِىُّ الصّوت كَغِنىٍّ أَى بَعِيدُه.
وتَنَادَوْا: نادَى بعضُهم بعضاً، وتَجالسوا في النَّادِى.
وأَنْدى: حَسُنَ صَوْتُه، وأَنْدَى: كَثُرَ عَطاؤه.
ونادِياتُ الشيءِ: أَوائِله.
وقوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} أَى دَعَوْتُم. وقد يقال للصَّوْت المجرّد نِداء قال تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} أَى لا يعرف إِلاَّ الصّوت المجرّد. وقوله تعالى: {أولائك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} فيه تنبيهٌ على بُعْدهم عن الحقّ فى قوله: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} .
وقوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} أَشار بالنِّداءِ إِلى أَنه تَصوَّر نفسه بمكانٍ بَعيدٍ عن حضرة الكِبْرياءِ، كما قال الخليل إِبراهيم: أَنا الخَلِيلُ من وَراءَ وَراءَ.(5/32)
وقوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} إِشارة إِلى العقل والكِتاب المُنْزَل والنبىّ المُرْسَل، وسائر الآيات الدالَّة على وجُوب الإِيمان بالله. وجعلَه مناديا بالإِيمان لظُهوره ظُهور النِّداءِ، وحثّه على ذلك كحثِّ المُنادِى.
ونداءِ الصّلاة فى الشرع مخصوصٌ بالأَلفاظ المشهورة المعروفة.
وأَصل النداءِ من نَدا القوم نَدْواً، أَى اجْتَمَعُوا، لأَنَّ المنادِى يطلب اجتماعَ القوم. وقيل: من النَّدَى وهو الرُّطوبة، لأَنَّ من يَكْثَر رُطوبةُ فَمِه يَحْسُن صَوْتُه، ولهذا يُوصفُ الفصيح بكثرة الرِّيق، وذلك لتسمية المسبَّب باسم سَبَبه وقوله:
كالكَرْمِ إِذ نادَى من الكافورِ
أَى ظهر ظُهورَ صوتِ المُنادِى.
وعُبِّرَ عن المُجالَسة بالنّداءِ حتى قيل فى المجلس: النادِى والنَّدْوَةُ والمُنْتَدَى والنَّدِىّ، وقيل ذلك للجليس أَيضاً، قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} .
والمُنْدِيات/ المُخْزيات لأَنَّها إِذا ذُكِرَتْ عَرِقَ المشارُ إِليه، ونَدِىَ جَبينُه حَياءً، قال الكَمَيْت:
وعادِىّ حِلْمٍ إِذا المنديا ... تُ أَنْسَيْنَ أَهلَ الوَقارِ الوَقارَا(5/33)
وشرب حتى تَنَدّى، أَى تَرَوَّى. ونَدَّيْتُ الفرسَ: سَقَيْتُهُ، ونَدَّيْتُه، أَى رَكَضْتُه حتَّى عَرِق.
وجمع النَّدِىّ: أَنْدِيَة وأَنْدِياتٌ، قال كثيّر:
لهم أَنْدِياتٌ بالعَشِىّ وبالضُّحىَ ... بهَالِيلُ يَرْجُوا الرّاغِبونُ نِهالَها
وما نَدِيتُ منه بشَىْءٍ: ما نِلْتُ منه نَدًى. وهو يَتَنَدَّى، أَى يَتَسَخَّى النُّذْرُ: أَن تُوجِبَ على نفْسك ما ليس بواجب قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمان صَوْماً} ونَذِرَ القومُ بالعَدُوّ: عَلِمُوا به فَحذِرُوه واستعدُّوا له، وأَنذرتُهُم به، وأَنذرتُهم إيّاهُ. وهو نذِير القومِ ومُنذِرهم، وهم نَذُرُ القوم {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أَى إِنْذارى، قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أَى إِنذاراتى. وهو نَذِير القومِ، أَى طَلِيعَتهم الذى يُنْذِرهم العدوَّ. وتنَاذَرُوه: خَوّف منه بعضهم بعضاً قال النَّابغة:
تناذرها الرّاقون من سُوءٍ سَمِّها
وأَعطيتُه نَذْرَ جُرْحه، أَى أَرْشَه، سمّى الأَرْشُ نذراً لأَنَّه ممّا نَذَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أَى أَوجبه كما يُوجِب الرجلُ على نفسه.(5/34)
بصيرة فى نزع
نزعتُ الشئَ من مَكانه أَنْزِعُه نَزْعاً: قلعتُه، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أَى أَحْضَرنا من يَشْهد عليهم. وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أَى أَخْرَجها من جَيْبه. وقولهم: فلانٌ فى النَزْعِ: فى قَلْعِ الحياة. ونَزَع إِلى أَهْلِه يَنْزِعُ نِزَاعاً ونَزاعَةً، أَى اشتاقَ، ومنه حديث عائِشة رضى الله عنها فى بَدْءِ الوحى وفيه: "قَبْلَ أَن يَنْزِعَ إِلى أَهله". وبعيرٌ نازِعٌ، وناقةٌ نازعٌ: إِذا حَنَّت إِلى أَوْطانها ومَرْعاها قال:
لا يَمْنَعَنَّك خَفْضَ العَيْشِ في دَعَة ... نُزوعُ نَفْسٍ إِلى أَهْلٍ وأَوْطان
تَلْقَى بكلّ بلاد إِنْ حَلَلْتَ بها ... أَهلاً بأَهل وجيراناً بجِيرَانِ
ونَزَع عن الأُمور نُزوعاً: انتهى عنها، قال الحطيئة يهجو الزِبْرِقان:
ولقد سَبَقْتُهُمُ إِلَىَّ ... فقَدْ نَزَعْت فأَنت آخِر
قال الليث: يقال للمرءِ إِذا أَشْبه أَخوالَه وأَعمامه: نَزَعَهُم، ونَزَعُوه، ونَزَع إِليهم، أَى أَشبههم، قال الفرزدق:
أَشْبَهْت أُمَّك يا جِريرُ فإِنّها ... نَزَعَتْك والأُمُّ اللَّئِيمة تَنْزعُ(5/35)
أَى أَخبرت شبهك.
ونزَع فى القَوْس: مَدَّها، وفى المَثَل: "صار الأَمر إِلى النَّزَعَةِ": إِذا قام بإِصلاحهِ أَهلُ الأَناةِ، وهى جمع نازِعٍ، ويروى: عاد السّهم إِلى النَّزَعَةِ، أَى رَجَع الحقُّ إِلى أَهله. ويُقال للخيل إِذا جَرَتْ طَلَقاً: لقد نَزَعَت سَنَناً، قال النابغة الذُّبْيانى:
والخَيْلُ تُنْزِعُ غَرْباً فى أَعْنَّتِها ... كالطَّيْرِ تَنْجُو من الشُّؤبُوب ذى البَرَد
وقوله تعالى: {والنازعات غَرْقاً} قال أَبو عبيدة: إِنَّها النجوم تَنْزِعُ أَى تَطْلُع، وقيل: إِنها القِسِىّ. وقال الفَرّاء: تَنْزِعُ الأَنفسَ من صُدور الكفَّار، كما يُغْرقُ النازعُ في القَوْس إِذا جَذَب الوَتَر.
ونَزَعَ الرجلُ، أَى أَسْتَقى، أَى نَزَعَ الدَّلْوَ.
والنَّزِيع: الغَرِيبُ، وكذلك النازِع، وأَصلهما فى الإِبل. وفى الحديث "طُوبَى للغُرَباءِ. قِيلَ مَنْ هم يا رسول اللهِ؟ قال: النُزَّاعُ من القَبائل".
وقيل للغريب نزيعٌ لأَنَّه نزع عن أُلاَّفه، والمراد المُهاجِرُون. ويروى قيل يا رسول الله مَنِ الغُرباءِ؟ قال: "الذين يُصْلِحون ما أَفسد النَّاس". والنَّزِيع: البَعِيدُ. والنزيع: البِئرُ/ القَرِيبَةُ القَعْرِ يُنْزَع منها باليَد.
والتَّنازُع والمُنازَعَة: المُجاذَبَة، ويُعبَّر بهما عن المُخاصَمة والمُجادَلة.(5/36)
بصيرة فى نزع ونزف
قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} النَّزْعُ والهَمْزُ: الوَسْوَسَة، يقول: إِنْ نالك من الشيطان أَدْنَى وَسْوَسَة. وقال الترمذىّ: ينزَغنَّك يَسْتَخِفَنَّك. ويُقال: نَزَغَ بَيْنَنَا، أَى أَفْسَد. وقيل: النَّزْغ: الإِغراء، قال الله تعالى: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} أَى أَغرَى، وقيل: أَفْسَد.
ونَزَغَهُ بكلمةٍ ونَسَغَه ونَدَغَه، أَى طَعَن فيه. والنَّزْغُ: الغِيبة قال:
واحْذَرْ أَقاوِيلَ العُداة النُزَّغِ
ورجلٌ مِنْزَغٌ ومِنْزَغَةٌ ونزَّاغٌ: يَنْزَغ النَّاسَ، والهاء للمبالغة.
نَزَفْتُ البِئْرَ أَنْزِفُه نَزْفاً إِذا نزحتَه كلَّه، ونَزَفَتْ هى يتعدّى، ولا يتعّدى ونُزِفَتْ أَيضا على ما لم يُسمَّ فاعله. ومنه الحديث: "زَمْزَمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمُّ". ويقال أَيضاً نُزفَ الرّجل: إِذا ذهب عقلُه، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ يُنزِفُونَ} أَى لا يَسْكَرُون. وأَنزف الرّجلُ: سَكِر، ومنه قراءَة الكوفيّين في الواقعة: {ولا يُنْزفُون} ، قال الأُبَيْرد اليربوعىّ:
لَعَمْرى لئن أَنْزَفْتُمُ أَو صَحَوْتُمُ ... لبئسَ النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرَا(5/37)
قال أَبو عبيدة: قوم يجعلون المُنْزِف مثل المَنْزُوف الذى قد نُزِفَ دَمُه.
وقال الفرّاء: أَنْزَفَ الرّجلُ إِذا فَنِيَتْ خَمْرُه، أَى خمر أَهل الجنَّة دائمة لا تَفْنَى. وأَنْزَفَ القَومُ: ذهب ماءُ بئرهم، وكذلك ماءُ العَيْن. وأَنْزَفَ الرجل العَبْرَة: أَفْناها بكاء.
والنُزْفَة بالضم: القليلُ من الماءِ والشَّراب، والجمع نُزَف كغُرْفَة وغُرَف.
ويقَال للرّجل إِذا عَطِشَ حتى يَبِسَت عُروقه وَجفَّ لسانُه مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ، قال جميلٌ:
فَلَثَمْتُ فاهَا آخِذاً بقُرونِها ... شُرْبَ النَّزِيف بَبْردِ ماءِ الحَشْرَج
ونُزِفَ في الخُصومة: انقَطعت حُجَّته.(5/38)
بصيرة فى نزل
نَزَل بالمكان، ونَزَلَهُ نَزْلَةً واحدة، ونَزَل من علوّ إِلى أَسفل، ونَزَل في البئر، ونَزَل عن الدابَّة. وهذا مَنْزِلُ القَوْم. واسْتَنْزَلُوهم من صَياصِيهم، وأَنْزَل الله الغَيْثَ، وأَنْزَل الكِتابَ ونَزَّله، وتَنَزَّلَت الملائكةُ، قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} ، قال:
تَنَزَّل من جَوِّ السّماءِ يَصُوب
وقال تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم} . ولا يُقَال فى المُفْتَرَى والكذب، وما كان من الشياطين إِلاَّ التَّنزُّل، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} . وقوله تعالى: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} من أَنْزلَه بالمكان.
وأَنْزَل الله نِعَمه على الخلْق: أَعطاهم إِيّاها، وذلك بإِنزال الشئَ نفسه كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} ، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} ، وقوله: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} ، وقوله:(5/39)
{إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} ، وإِمّا بإِنزال أَسبابه والهداية إِليه، كقَوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحديد} ، وقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} ، {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} . ومن إِنزال العذاب {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هاذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} .
والفرق بين الإِنزال والتنزيل فى وصف القرآن والملائكة أَنَّ التنزيل يختصّ بالموضع الذى يُشير إلى إِنزاله مُفرَّقاً منجّماً، ومرّة بعد أَخرى، والإِنزال عام. وقولُه: {لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ} وقوله/ {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ} فإِنْما ذكر في الأَوّل نزَّل وفى الثانى أَنزل تنبيهاً أَن المنافِقين يقْترحون أَن ينزل شئ فشئ من الحثَّ على القتال ليتولَّوه، وإِذا أُمِروا بذلك دفعة واحدة تحاشَوْا عنه فلم يفعلُوه، فهم يقترحون الكثير ولا يَفُون منه بالقليل. وقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} إِنّما خصّ لفظ الإِنزال دون التَّنزيل لما رُوى أَنَّ القرآن أُنْزِل دُفْعَةً واحدة إِلى السّماءِ الدنيا، ثمَّ نزل نَجْماً نجما بحسب المصالح. وقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هاذا القرآن على جَبَلٍ} ولم يقل نَزَّلنا تنبيهاً أَنَّا لو خوّلناه مَرَّة واحدة ما خوّلناك مراراً لرأَيته خاشعاً. وقوله: {قَدْ أَنزَلَ(5/40)
الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً} أَراد بإِنزال الذِكْرِ بِعْثةَ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وسَمّاه ذِكراً كما سمّى عيسى عليه السلام كَلِمَةً، فعلى هذا يكون رسولاً بدلاً من ذِكراً، وقيل: بل أَراد إِنزال ذِكْره، فيكون رسولاً مفعولاً لقوله ذِكْراً. ونازله في الحرب، وتنازَلُوا: تَداعَوْا نَزَال.
ونَزَل به ضيفٌ ونَزَل عليه، وهو نَزِيلُه وهم نُزَلاؤه، أَى ضيفه قال:
نَزِيلُ القَوْم أَعظمُهم حُقوقاً ... وحَقُّ الله في حَقِّ النَّزِيل
وكنَّا فى نِزالَةِ فلان أَى فى ضِيافَته. وهو حَسَنُ النُّزْل والنِّزالة. وأَعدّ لضيفه النُّزْلَ. وطعامٌ ذو نُزْلٍ ونَزَلٍ وهو رَيْعُهُ. ويُقَال: أَنزلتُ حاجتى على كريم. ونَزَل له عن امرأَته. واستنزلَهُ عن رأَيه. وأَنْزَلَ المُجامِعُ. وفلانٌ من نُزالَةِ سُوء، أَى لئيم. وله منزلةٌ عند المَلِك.
وسحابٌ نَزِلٌ وذو نَزَلٍ، أَى كثير المطرِ، قال النَّمِرُ بن تَوْلَب:
إِذا يجفّ ثَراها بَلَّها دِيَمٌ ... من واكِفٍ نَزِل بالماء سَجّامِ
وقال الكميت:
وكالغَيْثِ إِلاَّ أَنَّ نَوْءَ نُجُومِها ... تُخالِفُ أَنْواءَ الكَواكِب في النَّزْل
ورجلٌ ذو نُزُل: ذو فَضْل. وَخطٌّ نَزِلٌ؛ إِذا وقع فى قرطاس يسير شئ كثير.(5/41)
بصيرة فى نسب
النَّسَبُ: واحد الأَنْساب. والنُّسبة والنِّسبة بالضم والسكر مِثْلُه. ورجلٌ نَسّابة: عالم بالأَنساب، والهاءِ للمبالغة فى المدح كأَنَّهم يريدون به داهِيَةً أَو نِهايةً أَو غايةً. ونَسَبْت الرّجلَ أَنْسُبُهُ وأَنْسِبُه - بالضم والكسر - نِسْبةً ونَسَباً. إِذا ذكرتَ نسبَه، قال أَبو وَجْزَةَ السّعدىّ:
ما زلْنَ يَنْسُبْن وَهْناً كُلَّ صادِقَة ... باتت تُباشر عُرْماً غَيْرَ أَزْواج
حَتَّى سَلكْنَ الشَّوَى منهنَّ فى مَسَكِ ... من نَسْلِ جوّابةِ الآفاقِ مِهْداج
والنَّسَبُ ضربان: نَسَبٌ بالطُّول كالنسب بين الآباءِ والأَبناءِ، ونَسَبٌ بالعَرْض كالنِسّبة بين الإِخوة وبين الأَعمام.
وانتسب إِلى أَبِيه اغْتَرَى وتَنَسّب: ادّعى أَنَّه نسيبُك.
ونَسَب الشاعرُ بالمرأَةِ يَنْسِب ويَنْسُب - بالكسر والضم - نَسِيباً ومَنْسِباً ومَنْسِبَةً. وشِعْرٌ مَنْسُوبٌ فيه نَسِيب، والجمع: المنَاسِيب، قال سَلامةُ بن جَنْدل
هل فى سُؤالِك عن أَسْماءَ من حُوب ... أَم فى السّلام وإِهداء المنَاسِيب(5/42)
بصيرة فى نسأ ونسخ
نَسَأَتُ الشئَ نَسْأْ: أَخَّرته. ونَسأَ الله فى أَجَلِه. وأَنسأْتُ الشئَ أَيضاً أَخَّرته.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} قيل: هو فعيل بمعنى مفعول، من قولك نسأْت الشْئَ فهو مَنْسُوءٌ: إِذا أَخَّرتَه، ثمَّ يُحَوَّلُ مَنْسوءٌ إِلى نَسىءٍ كما يُحوَّل مقتول إلى قتيل. ورجل ناسىءٌ وقومٌ نَسَأَةٌ مثال عامِلٍ وعَمَلَة، وذلك أَنهم كانوا/ إِذا صَدَروا عن مِنىً يقوم رجلٌ من بنى كِنانة ويقول: أَنا الَّذى لا يُرَدّ لى قضاء، فيقولون: أَنْسِئْنا شهراً، أَى أَخّر عنا حُرْمة المحرّم واجعلها فى صَفَر، لأَنهم كانوا يكرهون أن يتوالَى عليهم ثلاثةُ أَشهرٍ لا يُغيرون فيها، لأَنَّ معاشهم كان من الغارة فيُحِلُّ لهم المُحرَّم. وقال الفرَّاءُ: النَّسىءُ مصدرٌ؟ وقال الأَزهرىّ: النَّسئُ بمعنى الإِنساءِ اسمٌ وُضع موضع المصدر الحقيقىّ، من أَنْسأْتُ، قال وقد قال بعضهم نَسَأْتُ فى هذا الموضع بمعنى أَنسأْتُ، ومنه قول عُمَيْر ابن قَيْس:
أَلَسْنا النَّاسِئين على مَعَدٍّ ... شُهورَ الحِلّ نَجْعَلُها حَرامَا
ونَسَأْتُه البَيْعَ: بعتُه [بنُسْأَة بالضَمَّ] ونَسِيئة. ونَسأْتُ عنه دَيْنَه نَساءً بالفتح والمدّ، ومنه قولُ علىّ رضى الله عنه: من سَرَّه النَّسا(5/43)
ولا نَساءَ فلْيُباكر الغَداءَ، ولْيَهْجُرِ النِّساءَ، ولْيُخِّفِفّ الرِداءَ ويُرْوَى: وليُقِلَّ غِشْيان النَّساء. وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} أَى نؤخِّرها إِمّا بإِنسائها، وإِما بإِبطال حُكمها.
والمِنْسَأَةُ: العصا يُهْمز ولا يهمز، قال أَبو طالب بن عبد المطْلب يُخاطب خِداش بن عبد الله بن أَبى قَيْس فى قتله عَمْرو بن عَلْقَمَة:
أَمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لا أَباكَ ضَرَبْتَه ... بمِنْسَأَة قد جَرَّ حبْلُك أَحْبُلاَ
وقال آخر في ترك الهمز:
إِذا دَبَبْتَ على المِنْساةِ من هَرِمَ ... فقد تَباعَدَ عنك اللَّهْوُ والغَزَلُ
قال تعالى: {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} سمّيت العَصا مِنْسَأَة لأَنَّها يُنْسَأُ بها أَى يؤخَّر.
ونَسَأَتُ اللَّبَنَ: خَلَطتُه بماءٍ، واسمُه النَّسْءْ.
النْسْخ: إِزالة شىءٍ بشىءٍ يتعقَّبه، كنَسْخ الشمس الظِلَّ، والشَيْبِ الشَّبابَ، فتارة تُفهم منه الإِزالة، وتارة يُفهم منه الإِثبات، وتارة يُفهم منه الأَمران. ونَسْخُ الكتابِ: إِزالة الحُكم بحُكم يتعقبَّه قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، قيل معناه ما نُزِيل العملَ بها أَو نحذفها عن قلوب العباد، وقيل معناه:(5/44)
ما نُوجِدُه ونُنْزِله، من قولهم: نسختُ الكتابَ، وما نَنْسَؤُه أَى نُوَخَّره ولم نُنْزِله.
ونَسْخُ الكتابِ: نَقْل صورَتِه المجرّدة إِلى كتابٍ آخَر، وذلك لا يقتضى إِزالة الصّورة الأُولَى بل يقتضى إِثبات مِثْلِها فى مادّة أَخرَى، كإيجاد نَقْش الخاتم في شُموع كثيرة.
والاستنساخ: التقَدّم بنسخ الشئ، والترّشُّح للنسخ. وقد يعبّر بالنسخ عن الاستنساخ، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
والقائلون بالتَّناسُخ، هم المُنْكِرون للبَعْث على ما أَثْبَتَتْه الشريعة، ويزعمون أَنَّ الأَرواح تنتقل في الأجسام أَبداً. وتناسُخ القرون مُضِىُّ قومٍ بعد قوم.(5/45)
بصيرة فى نسر ونسف
النَّسْر، طائرٌ. وجمع القلَّة: أَنْسُرٌ، والكثير: نُسورٌ. ويقال: النَّسْر لا مِخْلَبَ له وإِنَّما له الظُفُر كظُفُر الدَّجاجةِ والغُراب.
ونَسْرٌ: صنم كان لذى الكَلاع بأَرض حِمْيَرَ، وكان يُغُوثُ لمَذْحِج، ويَعُوق لَهمْدان من أَصنام قوم نُوحٍ، قال تعالى: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} وقد تدخل فيه الأَلف واللام كقوله:
أَما ودِماءٍ ما ثرات تَخالُها ... على قُنَّة العُزَّى وبالنَّسْر عَنْدَما
والنَّسْرُ أَيضاً: لَحْمَهٌ يابِسَةٌ في بطْن الحافِر كأَنَّها نَواةٌ أَو حَصاة. والنَّسْر أَيضاً: نَتْفُ البازِى/ اللَّحْمَ بِمِنْسرِه، وقد نَسَرَه يَنْسُرُه. وفى النُّجوم: النَّسرُ الطَّائِرُ والنَّسر الواقِعُ.
والمِنْسَرُ - كمنْبَرٍ - لسِباع الطَّير بمنزلة المِنْقار لغيرها. والمَنْسِرُ والمِنْسَر كمَجْلِسٍ ومِنْبر: قطعةٌ من الجيش تمرّ قُدّام الجَيْش الكثير.
النَسْف: قَلْع الشَّئ، نَسَفْتُ البِناء: قلعتُه، قال الله تعالى: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أَى يقلعُها من أُصولها. يقال: نَسَفَ البعيرُ النَّبْتَ: إِذا قَلَعه بفِيهِ من الأَرض بأَصْله. وقيل: نَسْفُ الجبال:(5/46)
دَكُّها وتَذْرِيَتُها ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} أَى ذُهِب بها كلِّها بسرعة.
والمِنْسَفَةُ: آلةٌ يُقْلَع بها البناءُ. والمِنْسَفُ: ما يُنْسَف به الطَّعامُ، ونَسْفُه: نَفْضُه، وهو شئ طويل منصوبُ الصَدْر أَعلاه مرتفعٌ. تقول كأَنَّ لِحْيَتَه مِنْسَف.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} أَى لنُذْرِيَنَّه تَذْرِيَةً.
والنُّسافة: ما يسقطُ من المِنْسف.
وبعيرٌ نَسُوفٌ: يَقْتلع الكلأَ من أَصْلِه بمقَدَّم فِيه. وانْتَسَفْتُ الشَّىْءَ: اقْتَلَعْتُه.
وهما يتَناسَفان الكلامَ، أَى يتسارّان، كأَنَّ كُلاًّ منهما يَنْسِفُ ما عند الآخَر. وانْتُسِفَ لَوْنُه: تَغَيَرّ.(5/47)
بصيرة فى نسك ونسل
نَسَكَ للهِ ينْسِكُ: ذَبَح لوَجْهه نُسُكاً ومَنْسَكاً. وهذه نَسِيكَةُ فلان أَى ذَبِيحَتَهُ، ومنه مناسِكُ الحجِّ، أَى عِباداتُه.
وأَرضٌ ناسِكَةٌ: خضراءُ حديثةُ المَطر.
نَسَلَ الشَّعرُ والرِّيشُ: سَقَط، نُسولاً. وأَنْسَلَه الطَّائرُ والدّابةُ. وهذا نُسالُ الطائر، ونَسِيلُ الدَّابَّة ونُسالَتُها. قال الرّاعى:
أَطار نَسِيلَهُ الشَّتَوِىّ عنه ... تَتَبُّعُه المَذانِبَ والقرارَا
ونَسَلَ الولدُ يَنْسِلُ: إِذا وُلد لأَنَّه يَسقُط من بطنِ أًُمّه إِلى الأَرض. ونَسَلَ يَنْسِل نَسَلاناً: عَدا، قال تعالى: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} . ورجل عسّالٌ نَسَّال: عَدّاءٌ الإِعْناق، قالت الخنساءُ:
حامى الحَقِيقَة نسّالُ الوِدَيقَةِ مِعْـ ... تاقُ الوَسِيقَةِ جَلْدٌ غَيْرُ ثُنْيانِ
وأَنْسَلَ الرّجلُ نَسْلاً كثيراً. وتوالَدُوا وتَناسَلُوا. وماله نَسُولَةٌ، أَى ما يُتَّخَذُ للنَّسل من الإِبل والغنم، قال تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} النَسْلُ: الولَدُ، لأَنَّه يَخرجُ من بطنِ أَمّه.(5/48)
بصيرة فى نسى
النِّسيان: تَرْكُ الإِنسان ضَبْطَ ما اسْتُودِعَ، إِمّا لضَعْف قَلْبه، وإِمّا عن غَفْلةٍ، وإِمّا عن قَصْد حتى يرتفع عن القَلْبِ ذِكْرُه. نَسِيتُه نِسْياناً وتَناسَيْتُه، وأَنْسانِيةُ شَيْطانٌ ونَسّانِيه، قال تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} إِخبارٌ وضَمان من الله تعالى أَنَّه يجعله بحيث إِنَّه لا يَنْسَى ما يسمعه من الحقِّ.
وكلّ نِسْيان من الإِنسان ذَمَّة الله تعالى به فهو ما كان أَصلُه عن تَعَمُّد منه لا يُعْذر فيه، وما عُذِرَ فيه فإِنَّه لا يُؤاخَذُ به نحو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم "رُفِعَ عن أُمَّتى الخَطَأُ والنِّسيانُ"، فهو ما لم يكن سببه منه.
وقوله {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} هو ما كان نسيه عن تعمّد منهم وتركُه على طريقِ الإِهانة. وإِذا نُسِب ذلك إِلى الله تعالى فهو تَرْكُه إِيّاهم استهانةً بهم ومُجازاةً لما تركوه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}(5/49)
تنبيه أَنَّ الإِنسان بمعرفته لنفسه يعرف الله، فنسيانه لله هو من نسيانه نفسه.
ويُقال: نسيتُ الشئَ أَى تركْتُه، ومنه/ قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} .
وقوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال ابنُ عبّاس رضى الله عنهما: إِذا قلتَ شيئاً ولم تقل إِن شاءَ الله فقُلْه إِذا تَذَكَّرْتَه. وبهذا أَجاز الاستثناءَ بعد مدّة. وقال عِكْرِمَةُ: معنَى نَسِيتَ ارتكبتَ ذَنْباً، ومعناه اذكُرِ الله إِذا أَردتَ وقَصَدْت ارتكاب ذَنْب يَكُنْ ذلك دافِعاً لك.
والنِسْىُ أَصله ما يُنْسَى كالنِقْضُ لما يُنْقَض، وصار عُرْفاً اسماً لما يَقِلُّ الاعتدادُ به. ومن هذا يقُول العرب: احْفَظُوا أَنْساءَكم. أَى ما من شَأْنِه أَنْ يُنْسَى.
وقوله تعالى: {نَسْياً مَّنسِيّاً} أَى جارِياً مَجْرَى النِسْى القَلِيل الاعْتداد به، ولهذا عقَّبه بقوله مَنْسِياً لأَنَّ النِسْىَ يُقال لما يَقِلُّ(5/50)
الاعتدادُ به وإِن لم يُنْسَ. وقرئ نَسْياً بالفتح، وهو مصدرٌ موضوعٌ موضِعَ المفعول، نحو عَصَى عَصْياً وعِصْياناً.
وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} فإِنساؤها حَذْفُ ذِكْرها عن القلوب بقوّة إِلهيّة.
والنُّسْوَة بالضمِّ، والنِّسْوة والنِّساءُ والنِّسْوان والنِّسُون، بكسرهنَّ، جُموعُ المرأَةِ من غير لفظها.
والنَّسْوَة بالفتح: التَّرك للعمل، والجُرْعَة من اللَّبْن.
والنَّسا: عِرقٌ ممتد من الوَرك إِلى الكَعْب. ونَسِيَه نَسْياً: ضَرَب نَساهُ.(5/51)
بصيرة فى نشأ
ناشِئَة اللَّيل: أَوّل ساعاتِه. وقال ابنُ عرفة: كلّ ساعة قامها قائم من اللَّيل فهى ناشِئَة، وقيل: كلّ ما حَدَث فى اللَّيل وبدأَ فهو ناشئ، والجمع ناشِئَةٌ. وقال الأَزهرىّ: ناشئة الَّليل مصدرٌ جاءَ على فاعلة، وهو بمعنى النَّشْءِ كالعافِية بمعنى العَفْو، والعاقِبَة بمعنى العَقْب، والخاتِمة بمعنى الخَتْم.
والنَّشأَةُ والنَّشاءَةُ بالفتح فيهما وبالمدّ فى الثانية عن أَبى عَمْرِو بن العَلاءِ اسمٌ من أَنشأَ الله الخَلْق.
وأَنْشَأَ يفعلُ كذا، أَى ابْتَدَأَ. وفلانٌ يُنْشَىءُ الأَحادِيثَ أَى يَضَعُها.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر} قال مجاهد: هى السُفُن التى رُفِعَتْ قُلوعُها، وإِذا لم تُرفع قلوعها فليست بمنُشَآت، وقيل: هى الَّتى ابتدئ بهنّ فى البحر لِتجرىَ فيه. وقرأَ حمزة بن حبيب الزَّيّات وعلىّ بن حمزة الكسائى: المُنْشِئات بكسر الشين، ومعناها المبتدئات في الجَرْى.
وقال أَبو القاسم الأَصفهانىّ: الإِنشاءُ إِيجاد الشىءِ وتربيته، وأَكثر ما يقال ذلك فى الحيوان، قال تعالى: {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} ،(5/52)
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} ، {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} هذه كلِّها فى الإِيجاد المختصّ بالله تعالى. وقوله تعالى {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} فلتَشْبِيه إِيجادِ النار المُسْتخرَجَة بإِيجاد الإِنسان.
وقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} أَى يُرَبَّى تربيةً كتربية النِّساءِ، [وقرئ يَنْشأُ] أَى يتَربّى.
والنَّاشئ الحَدَثُ الذى جاوز حَدَّ الصغَر، والجاريةُ ناشِىءُ أَيضاً.
والنَّشْءُ والنَشْأَةُ: إِحداثُ الشىءُ وتربيتُه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} .
وجمع النَّاشىء نَشَأُ كطالِب وطَلَب، ويُجمع على نَشْءٍ أَيضاً كصاحب وصَحْب.
والنَشْءُ: أَوّلُ ما يَنْشأُ من السّحابِ. ونَشَأْتُ فى بنى فلان نَشْأَ ونُشوءَاً، أَى نُشِّئت فيهم. ونَشَأَتِ السحابةُ ارتفعت.(5/53)
بصيرة فى نشر
نَشَر الثَّوبَ والسَّحابَ والصحيفَةَ والنِّعمة والحديثَ: بَسَطها، قال تعالى: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} . وقوله: {والناشرات نَشْراً} أَى الملائكة الَّتى تَنْشُر الرِّياحَ، أَو الرّياحُ الَّتى تَنْشُر السَّحابَ. ويقال فى جمع الناشر: نُشُرٌ ونُشْر. وقُرِئ: {نُشُراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} فيكون كقوله: {والناشِرات} .
/ ونَشَر المَيِّتُ يَنْشُر نُشوراً، أَى عاش بعد الموت قال الأَعشَى:
حَتَّى يقولَ النَّاسُ ممّا أَوْا ... يا عَجَباً للمَيِّت النَّاشرِ
ومنه يومُ النُّشور، قال تعالى: {وَإِلَيْهِ النشور} . وأَنْشَرَ اللهُ المَيِّتَ فنَشَرَ. وقيل: نَشْرُ اللهِ المَيْتَ من نَشْرِ الثَوْب، وأَنْشرَه: أَحْيَاهُ، ومنه قراءَةُ ابن عبّاس: {كيف نُنْشِرُها} قال الفرّاءُ: [ومن قرأَ نَنْشُرها وهى قراءَة الحَسَن فكأَنَّه] ذهب إِلى النشر والطَّىّ، قال: والوجه أَن يقول أَنْشَرَهم الله فَنَشَرُوا، وأَنشد الأَصمعىّ لأَبى ذُؤَيب الهُذَلّى:(5/54)
لو كانَ مدْحَةُ حىٍّ أَنْشَرَت أَحداً ... أَحْيَا أُبوّتَك الشُمَّ الأَماديحُ
ونَشَر الخشبةَ بالمِنْشار. وله نَشْرٌ طَيِّبٌ، وهو ما انْتَشَر من رائِحته، قال المرقِّش:
النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجُوهُ دَنا ... نيرُ وَأَطْرافُ الأَكُفِّ عَنَمْ
ونَشَرْتُ الخَبر أَنْشُره وأَنْشِرُه: أَذَعْتُه. وصُحُفٌ مُنَشَّرة. شُدِّدت للكثرة.
ونَشَرْتُ عن العليل نَشْراً، ونَشَّرت عنه تَنِشيراً: إِذا رَقَيْتَه بالنُّشْرة؛ كأَنَّك تفرّق عنه العِلَّة. وفى الحديث: "فلعلَّ طَبّاً أَصابَه، أَى سِحْرا، ثم نَشَّرَه بقُلْ أَعوذُ بربّ الناس" سَمَّوا السحْرَ طَبّاً تفاؤلاً بالبراءِ.(5/55)
بصيرة فى نشز
النَشْزُ - بالفتح - والنَشَزُ - بالتحريك -: المكانُ المرتفع، وجمع النَشْزِ فى القِلَّة أَنْشُز، مثال فَلْس وأَفْلُس، قال منظورُ بن حَبَّة:
كأَنَّه فى الرّمل لمّا حَلَّزَا ... أَمارَ مِسْحاهُ يَشُقُّ الأَنْشُزَا
وجمعُ الكثرة: نُشُوزٌ مثل: فَلْس وفُلُوس، وجمع النَّشَز: أَنْشاز ونِشازٌ مثل: جَبَلٍ وأَجْبال وجِبال. وأَمّا النَّشاز بالفتح فهو المكان المرتفع.
ويُقال للرّجل إِذا أَسَنَّ ولم ينقُصْ: فلانٌ والله نَشَزٌ من الرّجال.
ونَشز الرّجُلُ يَنْشُزُ وَيَنْشِزُ نَشْزاً: ارتفع فى المكان. ومنه قوله تعالى: {وإِذا قيل انْشزُوُا فانْشُزُوا} . وقرأَ بالضمِّ المدنّى والشامىّ وعاصم غير حمّاد بن أَبى زياد، والباقون بالكسر، وقيل معناه: انْهَضُوا إِلى حرْب أَو إِلى أَمر من أُمور الله. وقال أَبو إِسحاق معناه: إِذا قيل انْهَضُوا فانهضُوا وقُوموا. وقيل: قُوموا إِلى الصّلاة أَو قضاءِ حقٍّ أَو شهادة. وقال أَبو زيد: نَشَزْتُ بِقِرَبِى أَنْشُزُ به: إِذا حملتَه فصرَعْتَه، وقال شَمِر: كأَنَّه مقلوب شَزِنَ.
ونَشَزَت المرأَةُ تَنْشُز وتَنْشِزُ نُشوزاً: اسْتَعْصَت على بَعْلِها وأَبْغَضَتْه، ونَشَزَ عليها بَعْلُها: إِذا ضَرَبها وجَفاها، ومنه قوله تعالى: {وَإِنِ امرأة(5/56)
خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} ، وقوله تعالى: {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أَى عِصْيانَهنَّ وتعالِيهِنَّ عمّا أَوجب الله عليهنَّ. وقال الأَزهرىّ: والنُّشوز: كراهةُ كلِّ واحد من الزوجين صاحبَه. ونَشَزَتْ نَفْسى: جاشَتْ.
وتَلٌّ ناشِزٌ، وجمعه نَواشِزُ، قال الشَمَّاخ:
عَفا بَطْنُ قَوّمِنْ سُلَيْمىَ فعالِزُ ... فذَاتُ الغَضَا فالمُشْرِفات النَّواشِز
وقلبٌ ناشِزٌ: ارتفع عن مَكانِه من الرُّعبِ. وعِرْقٌ ناشِزٌ: لا يزال مُنْتَبِراً، يَضْرِبُ من وَجَع به. ورَكَبٌ ناشِزٌ.
وإِنشازُ عِظامِ المَيّت: رَفْعُها إلى مواضِعها وتركيبُ بعضها على بعض. ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، قال ثعلب: وهذه هى القراءةُ المختارة.(5/57)
بصيرة فى نشط
نَشِطَ الرّجُلُ - بالكسر - يَنْشَطُ نَشاطاً - بالفتح - فهو ناشِطٌ ونَشِيطٌ، أَى طيّب النَفْس للعَمَل وغيره. والمِنْشَطُ كمِنْبَرٍ: الكثيرُ النَّشاطِ.
وقولُه تعالىَ: {والنَّاشِطاتِ نَشْطاً} أَى النجومُ تَنْشِط من بُرْج إِلى بُرْج، كالثَّوْر الناشِط من أَرض إِلى أَرض، قال ذو الرّمّة:
أَذاكَ أَم نَمِشٌ بالوَشْىِ أَكرُعُهُ ... مُسفَّعُ الخَدِّ هادٍ ناشِطٌ شَبَبُ
النَّاشِطُ: الثورُ الوحشىُّ يخرجُ من أَرضٍ إِلى أَرض. وقال الفرّاءُ: هى الملائكةُ تَنْشِطُ نَفْسَ المؤمن بِقَبْضها. وقال ابن دريد: قال أَبو عبيدة: يَنْشِطُ من بَلَد إِلى بلد. وقال ابنُ عرفة: هى الملائكةُ تَنْشِطُ أَرواحَ المسلمين، أَى تحلُّها حَلاًّ رفيقاً. ويقال: الهمومُ تَنْشِطُ بصاحبها قال هِمْيانُ بن قحافة السَّعْدِىّ:
أَمْسَتْ هُمُومِى تَنْشِطُ المَناشِطا ... الشَّامَ بى طَوْراً وطَوْراً واسِطَا
وقال بعضهم فى: {والنَّاشطات نشطاً} ، إِنَّه أَراد بها النُّجوم الخارجات من الشَّرق إلى الغَرْب مسيرَ الفَلَك، أَو السّائرات من المغرب إلى المشرق بِسَيْر أَنْفُسِها. وقيل: الملائكةُ الَّتى تَعْقِد الأُمورَ من قولهم: نَشَطْت العقدةَ.(5/58)
وتَخْصِيصُ النَشْط وهو العَقْد الَّذى يَسْهُل حلُّه تنبيه على سُهولة الأَمر عليهم، قال أَبو زيد: نَشَطْتُ الحبلَ أَنْشُطُه نَشْطاً: عقدتُه أُنْشُوطَةً. والأُنْشُوطَةُ: عُقْدة يَسْهُل انْحِلالُها مثل عُقدةِ التِكَّة، يقال: ما عِقالُكَ بِأُنْشُوطَة [أَى] ما مَوَدّتُكَ بوَاهِيَة.
والنَّشِيطة ما يَغْنَمُه الغُزاة فى الطَّريق قبلَ وُصولهم إِلى المَقْصد. وقال الَّليث: النَّشِيطة من الإِبل أَن تؤخَذَ فتُساق من غَيْرِ أَن يُعْمَدَ لَها، قال عبد الله بن عَنَمَةَ الضّبىِّ:
لَكَ المِرْباعُ منها والصّفايا ... وحُكْمُك والنَّشِيطةُ والفُضُول
وأَنْشَطْتُ البعيرَ، وأَنْشطتُ العِقال: إِذا مَدَدْتَ أُنْشُوطَتَه فانْحَلَّت.(5/59)
بصيرة فى نصب
النَصْبُ مصدر نَصَبْتُ الشىءَ: إِذا أَقَمْتَه، قال النابغة الذُّبيانى:
ظَلَّت أَقاطِيع أَنْعامٍ مُؤبَّلة ... لَدَى صليبٍ على الزَوْراءِ مَنْصُوب
والنَّصْبُ أَيضاً: المَنْصُوب، قال الله تعالى: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} إِلى عَلَمٍ منصوبٍ لهم.
وهَمٌّ ناصِبٌ: ذو نَصَب مثلُ لابِنٍ وتامِرٍ، فاعلٌ بمعنى مفعول فيه لأَنَّه يُنْصَب فيه ويُتْعَب كقولهم: لَيْلٌ نائِمٌ، أَى يُنام فيه. وهَمٌّ ناصِبٌ، أَى مُنْصِبٌ، قال النابغة الذبيانى:
كِلِينى لِهّمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ ... ولَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكِبِ
وقرأَ زيدُ بن علىّ: {فإِذا فَرَغْتَ فانْصِب} بكسر الصّاد، قيل لغةٌ فى فتحها، ومعنى كَسْرٍ الصّاد وفَتْحها واحدٌ، وقيل: معناها فانْصِبْ نَفْسَك للدّعاءِ. ونَصَبَهُ المرضُ أَيضاً: أَتْعَبَه.(5/60)
والنُّصْبُ والنُّصُبُ: ما عُبِدَ من دُون الله، مثال: يُسْر ويُسُر، قال الأَعْشَى:
وذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَنْسُكَنَّه ... لِعاقِبَةٍ واللهَ رَبَّكَ فاعْبُدَا
أَراد فاعبدَن فوقف بالأَلف كما تقول زيدا [وقوله] وذا النُّصُبَ يعنى إِيّاك وهَذَا النُصُب. والأَنصاب [جَمْعُهُ] قال تعالى: {والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان} .
والنُّصْب بالضَّمِّ: الشَرُّ والبَلاءُ، وكذلك النَصَبُ بفتحتين كرُشْدٍ ورَشَدِ قال الله تعالى: {بِنُصْبٍ وعَذابٍ} ، وقيل: بنُصْبٍ فى بَدنِى، وعَذابٍ فى أَهلى ومالى. وقرأَ عبيد بن عمير وعبد الله بن عبيد الله: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذا نُصُباً} أَى نَصَبا، وقوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَة} أَى ذاتُ نَصَبٍ وتَعَب.
وثغرٌ مُنَصَّبٌ - كمعظَّمٍ: مُسْتَوِى النَّبْتَه كأَنَّه نصب فسُوّىَ. ونَصَّبَت الخَيْلُ آذَانَها؛ شُدّدِ للكثرة أَو المبالغة.
وغُبارٌ مُنْتَصِبٌ: مرتفع. والنُصْبَةُ بالضمِّ: السّارِيَة.(5/61)
بصيرة فى نصت
نصَتَ ينْصِتُ نَصْتاً، وأَنْصَت/ إِنْصاتاً: إِذا سَكَت واسْتَمَع للحديث، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} يقال: أَنْصِتُوهُ، وأَنْصِتُوا له بمعنى، قال لُجَيْم بن صَعْب بن علىّ بن بكر فى حَذام بنت جَسْر بن تَيْم:
إِذا قالَتْ حَذامِ فأَنْصِتُوها ... فإِنَّ القَولَ ما قالت حَذام
ويروى فصدّقوها:
وأَنَصَتَ فلان فلاناً: إِذا أَسْكَتَه قال:
أَبوكَ الَّذى أَجْدَى عَلَىَّ بنَصْرِهِ ... فأَنْصَتَ عنَّى بَعْدَه كُلَّ قائلِ
وانْتَصَتَ: سَكَتَ، قال الطِّرمّاح:
يُخافِتْنَ بعضَ المَضْع من خَشْيَة الرَّدَى ... ويُنْصِتْنَ للسَّمْع انْتِصات القَناقِنِ(5/62)
بصيرة فى نصح
النصيحة: كلمة جامعة مشتقة من مادة "ن ص ح " الموضوعة لمعنيين: أَحدهما الخلوصُ والبَقاءُ، والثانى: الالتئام والرفاءُ. يقال:
نصح الشىءُ: إِذا خَلَص، ويمكن أَن يكونَ النُّصْح والنَّصِيحة من هذا المعنى، لأَنَّ الناصح يَخْلُص للمَنْصوح له عن الغش؛ والمعنى الثانى: نَصَحَ الثوبَ نَصْحاً: خاطَهُ وكذلك تَنْصَّحه، والنَّصَّاح والناصِح والناصِحىّ: الخَيّاط. والنِّصاح ككتاب: الخَيْطُ. والمِنْصَحَةُ: المِخْيَطَةُ. والمِنْصَحُ: المِخْيَطَ. وفيه مَتَنَصَّح لم يُصْلِحْه، أَى موضع خِياطَة ومُتَرَقَّعَ؛ ويمكن أَن تكون النصيحة من هذا المعنى: لأَن الناصح يرفَأُ ويُصْلح حالَ المَنْصوح له، كما يفعل الخَياط بالثوب المحروق، تقول منه: نَصَحَه ونَصَحَ له نُصْحاً ونَصِيحَةً وَنصاحَةً ونَصاحِيَةً، وفى التنزيل {وَأَنصَحُ لَكُمْ} وقال تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} قال:
نصَحْتُ بنى عَوْف فلم يَتَقَبُّلُوا ... رَسُولى ولم تَنْجَح لَدَيْهم وَسائِلى
وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "الدِّينُ النَّصِيحةُ لله ولرسوله ولأَئمَّة المُسْلمين وعامّتهم".(5/63)
قال أَبو سليمان الخطَّابى: النَّصيحةُ كلمةٌ جامعة معناها حِيازَةُ الحظِّ للمَنْصوحِ له، ويقالُ: هو من وَجِيزِ الأَسماءِ ومختصَر الكلام، فإِنَّه ليس فى كلام العرب كلمةٌ مفردة تُسْتوفَى بها العِبارات عن معنى هذه الكلمة حتى يضمَّ إِليها شىء آخر، كما قالوا فى الفلاح إِنَّه ليس فى كلام العرب كلمة أَجمعُ لخير الدنيا والآخرة منه، حتَّى صارلا يَعْدِلُهُ شىءٌ من الكلام فى معناه. قيل: الكلمة مأخوذةٌ من نَصَح: خاطَ، وقيل: من نَصَح العَسَل: صَفَّاه، شَبَّهوا تخليصَ القولِ والعَمل من شَوْب الغِشِّ والخِيانة بتخليص العَسَل من الخَلْط انتهى ملخَّص كلامه وأَقولُ: النُّصْحُ: الخُلوصُ مطلقا ولا تَقْيِيد له بالعسَل ولا بغيره كما قدّمته آنفاً. وإِعادة معنى الكلمة على معنى الخُلوص أَوْضَح.
وأَمّا بيانُ أَنواع النَّصيحة [فقد] قال الشيخ أَبو زكريا: قالوا: مَدارُ الدّين على أَربعةِ أَحاديث، وأَنا أَقول بل مدارُه على هذا الحديث وَحْدَه.
ثمَّ اعلم أَنَّ النَّصيحة أَقسامٌ كما بيّنه صلَّى الله علهي وسلَّم؛ فأَمّا النصيحة لِله عزَّ وجلّ فمعناها منصرفٌ إلى اعتقاد وَحْدانيّته، ووَصْفِه بما هو أَهلُه، وتَنْزِيهِه عَمّا لا يجوز عليه، والرّغبةِ في مَحابّهِ والبعد عن مَساخِطه، والإِخلاص فى عبادته، والحبّ فيه والبغض، ومُوالاة مَنْ أَطاعَه، ومُعاداة من عَصاه، وجهاد من كَفَر به، والاعتراف بنعمه والشكر عليها بالقول والفِعْل، والدّعاءِ إِلى جميع هذه الأَوصاف المذكورة، والحثَّ عليها/، والتلطُّف فى جَمْع جميع الناس أَوْ مَنْ أَمكن منهم عليها. وحقيقة هذه الإِضافة راجعةٌ إِلى العَبْد فى نُصْحِه نفسه لله، ودَعْوة غيره من الخلق إِلى هذه الخصال. والله سبحانه غنىٌّ عن نُصْح كلّ ناصح.(5/64)
وأَمّا نصيحةُ كِتابِه فالإِيمان بأَنَّه كلامُ الله تعالى وتَنْزيلُه، لا يُشْبهُه شىءٌ من كلامِ الخَلْق، ولا يَقْدِرُ على مِثْله أَحدٌ من المخلوقين. ثم من نُصْحِه تِلاوتُه، وحَقُّ تِلاوَتِه إِقامةُ حُروفه وتحسينُها، والخُشوع عند الاستماع لها [و] عند قراءَتها، والذَبُّ عنه من تأَويل الغالِين وتحريفِ المُبْطِلين وطَعْن المُلْحِدين، والتصديقُ بجميع ما فيه، والوُقوفُ عند أَحكامه، والتَفقُّه فيه، والاعتبار بمواعظه، والتفكُّر فى عجائبه، والعلم بفرائضه وسُنَنِه، ونشر عُلومه، والدّعاءِ إِليه، وتعظيم أَهله
وأَمّا النَّصيحةُ لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم فإِنَّما هى فى تصديقهِ على الرّسالة، والإِيمان بجميع ما جاءَ به، وبذلِ الطَّاعة له فيما أَمر به ونَهَى عنه، ومؤَازَرَتِه ونُصْرَتِهِ وحِمايته حَيّاً وميتا، وإِحياءِ سنَّته بالطَلَب لها والذبّ عنها، ونَشْرها وإِثارة علومها والتَّفَقُّه فى معانيها، والدّعاءِ إِليها والتلطُّف فى تعَلُّمها وتعليمها. وإِجلال أَهلها، والإِمساك عن الكلام فيها بغير فَهْم، والتأَدُّب عند قراءَتها.
وأمّا النَّصيحة لأَئمة المسلمين. فإِنَّ الأَئمة هُمُ الوُلاة من الخُلَفاء الرّاشدِين ومَنْ بعدهم ممّن يلى أَمَر الأُمّة ويقوم به. ومن نصيحتهم مُعاوَنَتُهم على الحقّ وطاعتُهم فيه، وأَمرُهُم به، وتنبيهُهم وتذكيرهم برِفْق، وإِعلامُهم بما غَفَلُوا عنه، وتركُ الخروج عليهم، وتأَلُّف النَّاس لطاعتهم، والصّلاةُ خَلْفَهم، والجهادُ معهم، وأَداء الصّدقات إِليهم وأَلاَّ يغُرُّوهم بالثَّناءِ الكاذب عليهم، وأَن يُدْعَى لهم بالصّلاح. وهذا(5/65)
على أَنَّ المراد بأَئمة المسلمين الوُلاة عليهم، وهو الَّذى فهمه جُمهور العلماءِ من الحديث. ويحتمل أَن يكون المرادُ به الأَئمة الذين هم عُلماءُ الدين كما قال جماعةٌ من المفسّرين فى قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} إِنَّ المراد بأُولى الأَمر منكم العُلماء، فتكون نصيحتهم فى قبول ما رَوَوْهُ، وتقليدِهم فى الأَحكام لمن ليست له أَهليّة، وإِحسان الظنَّ بِهِمْ. ويُمكن حمل أَئمة المسلمين على المجموع من الأُمراءِ والعلماءِ، بناءً على القول بحمل المشترك على معنيَيْه. والله أَعلم.
وأَما النَّصيحة لعامَّة المسلمين، وهم من عَدَا وُلاة الأَمْر الأُمراء والعُلماء على هذا الاحتمال، فإِرْشادُهم لمَصالحهم فى آخرتهم ودنياهم، وكفُّ الأَذَى عنهم، وسَتْرُعَوْراتهم وسدُّ خَلاَّتهم، ودفعُ المضارّ عنهم، ورفع المسارّ إِليهم، وأَمْرُهم بالمعروف ونَهْيُهم عن المنكر برفق وإِخلاص، والشفقةُ عليهم، وتنبيهُ غافِلِهم وتبصيرُ جاهلهم، ورَفْدُ مُحتاجهم، وتوقيرُ كبيرهم، ورحمةُ صغيرهم، وتَحَوُّلهم بالمَوْعظة الحسنة، وتركُ غشِّهم وحَسَدِهم، وأَنْ يُحِبَّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكرَه لهم ما يكرهُ لها، فبهذا التفصيل ظهر أَنْ حَصْر الدّين فى النَّصيحة على ظاهره، وإِنْ كان بعضُ ذلك فرضَ عين، وبعضُه فَرْضَ كفاية، وبعضه سُنَّةً، كما هو الدّين أَيضاً/ يشتمل على جميع ذلك. وفى هذا الحديث أَنَّ النصيحة تُسَمَّى دينا(5/66)
وإِسلاماً، وأَنَّ الدّين يقع على العمل كما يقع على القول. والنَّصيحة فرضٌ يُجْزى فيها مَنْ قام به ويسقُط عن الباقين. والنصيحة لازمةٌ على قَدْر الطَّاقة إِذا عَلِم النَّاصحُ أَنَّه يُقبَل نُصْحُه ويُطاعُ أَمرُه، وأَمِنَ على نفسه المكروهَ، فإِن خشى أَذًى فهو فى سَعَة.
وأمّا نصيحة المُلوك فهو على قَدْرِ الجاه والمنزلة عندهم، فإِذا أَمِنَ من ضَرّهِم فعليه نُصحهم، فإِن خشى على نفسه غَيَّر بقَلْبه، وإِنْ علم أَنَّه لا يَقْدِر على نُصحِهم فلا يدخلُ عليهم لأَنَّه يَفْتِنهم ويزيدهم فِتْنةً ويَذْهَبُ دينهُ معهم. قال الفُضَيْل: رُبّما يدخلُ العالِمُ على المَلِكِ ومعه شىءٌ من دِينِه فيخرجُ وليس معه شىءٌ. قيل له: وكَيْفَ ذلك؟ قال: يصدّقه فى كَذِبه، ويمدَحُه فى وَجْهه.
والنَّصيحة واجبة لجميع الخَلْق مسلمين وغيرهم، وهو معنى قولِه وعامَّتهم، فيقال للكافر اتَّقِ الله تعالَى ويُدْعَى إِلى الإِسلام، ويُنْهَى عن ظُلْمه، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} .
قال الآجُرِّى: ولا يكون ناصحاً لله تعالى ولِرَسُوله، ولأَئمة المسلمين وعامَّتِهم إِلاَّ من بدأَ بالنَّصِيحة لنَفْسه، واجتهد فى طلب العِلْم والفِقْه لِيَعْرِف به ما يجب عليه، ويعلم عداوَةَ الشيطان له وكيف الحذر منه، ويعلم قبيح ما تميل إِليه النفس حتى يخالِفَها بعِلْم.
وقال الحَسنُ: مازال لِلهِ تعالى نُصحاء ينصحون للهِ فى عِباده،(5/67)
وينصحون لِعبادِ الله فى حقَّ الله، ويعلمون لله تعالى فى الأَرض بالنَّصيحة، أُولئك خلفاءُ اللهِ فى الأَرْض.
وحاصل الأَمر أَنَّ السّلامة من جِهَة النُّطِق بالنصّيحة فى أَحد أَمْرَيْن:
الأَوّل: أَنْ تتكلم إِذا اشتهيت أَن تَسْكُت، وتَسْكُتَ إِذا اشتهيتَ أَن تتكلَّم.
والأَمر الثانى: أَلاَّ تتكلَّم إِلاَّ فيما إِنْ سكتَّ عنه كنتَ عاصِياً، وإِنْ لم فلا. وإِياك الكلام عندما يُستحسَنُ كلامُك، فإِنّ الكلام فى ذلك الوقت من أَكبر الأَمراضِ، وماله دواءٌ إِلاَّ الصّمت. والله أَعلم.(5/68)
بصيرة فى نصر
نَصَرَه على عَدُوِّه يَنصُرُه نَصْراً: أَعانَه، والاسم النُّصْرَةُ. ونُصْرَةُ الله لنا ظاهرةٌ، ونصرتُنا لِله هو النُّصْرة لِبعاده، أَو القِيام بحفظ حُدُودِه ورِعايَة عهوده، وامتثال أَوامره واجتناب نَواهِيه. قال الله تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} .
والنَّصِيرُ: الناصر، والجمع أَنصارٌ كشَرِيف وأَشْراف، وجمعُ النَّاصِر نَصْرٌ كصاحب وصَحْب، واسْتَنَصَرَه على عدوّهِ: سأَله أَنْ يَنْصُرَه عليه.
وقوله تعالى: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} أَى انْصُر. وإِنَّما قال انْتَصِرْ ولم يقلْ انْصُر تنبيهاً أَنَّ ما يَلْحقُنى يَلْحقك من حيث إِنى جئتهم بأَمرك، فإِذا نصرتَنى فقد انتصرت لنفسك.
والتَّناصر: التعاون، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} .
والنَّصْرُ: العَطاءِ قال رؤبة:
إِنَّى وأَسْطار سُطِرْنَ سَطْراً ... لَقائلٌ يا نَصْرُ نَصْراً نَصْراً
والنَّصارَى جمع نَصْران ونَصْرانَة، مثل النَّدامَى جمع نَدْمان(5/69)
ونَدْمانَة. وقيل: سُمّوا بذلك لقوله تعالى: {كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله} .
ولم يستعمل نَصْران إِلاَّ بياءِ النَّسَب لأَنَّهم قالوا: رجل نَصْرَانِىٌّ وامرأَةٌ نصرانيّة. / ونَصَّرَهُ: جعله نصرانيّاً.
وقيل: سُمُّو بذلك انْتِساباً إِلى قرية بالشَّام يقال لها نصرانة وجمعهُ: نَصارَى.
ونَصَرَ الغَيْثُ الأَرضَ، أَى غاثَها. ونُصِرَت الأَرضُ فهى مَنْصُورة أَى مَمْطُورة.(5/70)
بصيرة فى نصف
النِّصْفُ والنُّصْفُ والنَّصْفُ، بتثليث النون، أَحد شِقَّىِ الشىء والجمع: أَنْصافٌ. والنِّصْفُ أَيضاً النَّصَفَةُ، وأَنشد سيبويه للفرزدق:
ولكِنَّ نِصْفاً لو سَبَبْتُ وسَبَّنىِ ... بنُو عبد شَمْسٍ من مَناف وهاشِمِ
وإِناءٌ نَصْفان: إِذا بلغ الماءُ نِصْفَه، وقِرْبةٌ نَصْفَى. ونَصَفْتُ الشىءَ نَصْفاً بلغتُ نِصفَه. تقول: نَصَفْتُ القرآن، ونَصَفَ عُمْرَهُ، ونَصَف الشَّيبُ رأْسَه، ونَصَف الإِزارُ ساقَه، قال أَبو جُنْدُب:
وكُنْتُ إِذا جارِى دَعا لمَضُوفَة ... أُشَمِّر حَتَّى يَنْصُفَ السّاقَ مِئْزَرِى
ونَصَفَ النَّهارُ: انْتَصَفَ، قال المسيّب بنُ عَلَس يصف غائصاً:
نَصَفَ النَّهارُ الماءَ غامرُهُ ... ورَفِيقُه بالغَيْبِ لا يَدَرِى
يعنى والماء غامِرُه فحذف واو الحال، قال تعالى: {فَلَهَا النصف} وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، وقال تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ، وقال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} ، ونَصَفَهُم يَنْصِفُهم ويَنْصُفُهم نِصافاً، ونصافَةً بكسرهما أَى خَدَمَهم.(5/71)
والمَتْصَفُ والمِنْصَف: الخادم. وقيل لبعضهم: ما حِرْفَتُك؟ فقال: إِذا وصِفْت نَصَفْتُ، وإِذا شَتَوْتُ قَتَوْتَ فأنا، ناصِف قاتى، فى جميع أَوقاتى.
والنَّصِيفُ: النِصْفُ ومنه الحديث: "لَوْ أَنْفَقَ مِلْءَ الأرضِ ذَهَباً ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَه".
والنَّصِيفُ: الخِمارُ، ومنه الحديث فى الحُورِ: "ولَنَصِيفُ إِحداهُنَّ على رَأْسِها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها".
والنَّصَفُ - محرّكة -: المرأَةُ بين الحَدَثَة والمُسِنَّةِ.
والنَّصَفُ: الخُدّام، الواحد ناصِفٌ.
والنَّصَفٌ أَيضا والنَّصَفَةُ: الاسمُ من الإِنصاف، أَى العدل.
وتَناصَفُوا: أَنْصَفَ بعضُهم بعضاً ومنه قوله:
مَنْ ذا رَسُولٌ ناصِحٌ فَمَبَلِّغٌ ... عَنَّى عُلَيَّةَ غيرَ قِيلِ الكاذِبِ
أَنَّى غَرِضْتُ إِلى تَناصُفِ وَجْهها ... غَرَضَ المُحِبّ إِلى الحَبِيبِ الغائبِ
يعنى استواء المَحَاسن كأَنَّ بعضَ أَجزاءِ الوجه أَنْصَفَ بَعضاً فى أَخذ القِسْط من الجَمال.(5/72)
وتَنَصَّف: خَدَمَ: وتَنَصَّفَه: اسْتَخْدَمه، ويُرْوى بَيْتُ حُرَقَةَ بنت النُّعمان بن المُنْذِر بالوجهين:
بَيْنا نَسُوسُ النَّاسَ والأَمْرُ أَمْرُنا ... إِذا نَحْنُ فيهم سُوقَةٌ نَتَنَصَّف
بالفَتْح أَى نخدم، وبالضمَّ أَى نستخدم، والبيت مخروم.(5/73)
بصيرة فى نضو ونضج ونضخ ونضد
الناصِيَةُ والناصاةُ: قُصاصُ الشَّعر. ونَصَوْتُه، وأَنْصَيْتُه، وانْتَصَيْتُه وناصَيْتُه: أَخذتُ بناصِيَتهِ [قال تعالى] : {لَنَسْفَعاً بالناصية * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} . ونواصى الناسِ: أَشْرافُهم ورؤساؤُهم.
نَضِجَ الثمرُ واللَّحم نُضْجاً ونَضَجْاً، أَى أَدرك، فهو نَضْجٌ ونضيج وناضِجٌ، وأَنْضَجْتُه أَنا. ورجلٌ نَضيجُ الرأْىِ: مُحْكَمُه.
ونَضَّجَت النَّاقةُ بوَلَدِها: إِذا جازَت السَّنَةَ ولم تُنْتَجْ فهى مُنَضِّجٌ، ونُوقٌ مُنَضِّجات.
أَصابَهُ نَضْخٌ من كذا وهو أَكثر من النَّضْحِ، وقيل: النَّضْخُ: الرَّشُّ مثل النَضْح بالحاءِ وهما سواءٌ، تقول: نَضَخْتُ أَنْضَخُ بالفتح. وغيثٌ نَضَّاخٌ: غزيرٌ. وعَيْنٌ نَضَّاخَةٌ: كثيرةُ الماءِ، وقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} قال أَبو عبيدة: أَى فَوّارتان.
والنَّضْخَة: المَطَرَة وأَنشد أَبو عَمْرو:
لا يَفْرَحُون إِذا ما نَضْخَةٌ وَقَعَتْ ... وهم كِرامٌ إِذا اشْتَدَّ المَلازيب(5/74)
نَضَدَ/ مَتاعَهُ يَنْضِدُهُ - بالكسر - نَضْداً أَى وَضَع بعضَه على بعض، فهو مَنْضُودٌ ونَضِيدٌ، وقولُه تعالى: {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} أَى يأْتى بعضُه فى إِثْر بعْض كالبَرَد. وفى حديث مَسْرُوق: "شَجَرةُ الجَنَّةِ نَضِيدٌ من أَصْلِها إِلى فَرْعها"، يريد ليس لها سُوقٌ بارزة، ولكنَّها منضودة بالوَرَقِ والثِّمار من أَسْفَلها إِلى أَعْلاها.
والنَّضَدُ: السّرير الَّذى يُنَضَّدُ عليه المتاعُ. والنَضَدُ أَيضاً: مَتاعُ البيتِ المَنْضودُ بعضُه فوق بعض، ومنه استُعِير: طَلْعٌ نَضِيدٌ. وطَلْحٌ مَنْضُودٌ، وهو المَوْز لأَنَّ بعضَه منضودٌ فوقَ بعض.
والنَّضَدُ أَيضاً: الشَّرَفُ. وأَنْضادُ القَوْم: جماعُتهم. وأَنضادُ الرّجل: أَعمامُه وأَخوالُه؛ والمتقدّمون فى الشرف الذين يجتمعون لنُصْرَته. وأَنْضادُ السّحابِ: ما تراكَم وتراكَب منه.
ونَضَّدَ المتاع تَنْضيداً، شُدِّد للمبالَغة.(5/75)
بصيرة فى نضر ونطح
النَّضْرَةُ: الحُسْنُ والرَّوْنَقُ، وقد نَضَرَ وَجْهُه يَنْضُرُ نَضْرَةً، أَى حسُنَ. ونَضَر الله وَجهْهَ يتعدّى ولا يتَعدَّى، ويقال: نَضُرَ نَضارةً ككَرُم كرامَة. وفيه لغةٌ ثالثة: نَضِرَ بالكسر، حكاها أَبُو عُبَيْد.
ونَضَّر الله وَجْهَه بالتشديد وأَنْضَرَهُ. وإِذا قلتَ نَضَّرَ الله امْرأً تَعْنِى نَعَّمَهُ، وفى الحديث: "نَضَّرَ الله امْرَأً سَمعَ مَقالَتِى فوَعاها"، ويقال: أَخْضَرُ ناضِرٌ كقولهم: أَصْفَرُ فاقع.
والنُّضارَ - بالضمِّ - الخالِصُ من كلّ شىءٍ.
والنَّضْر: الذّهب، ويجمع على أَنْضُر قال الكُمَيت:
تَرَى السابِحَ الخِنْذِيذ منها كأَنَّما ... جَرَى بين لِيتَيْهِ إِلى الخَدِّ أَنْضُرُ
والنُّضار أَيضاً: الذَهَبُ، وكذلك النَّضِيرُ. قال:
إِذا جُرِّدَتْ يوماً حَسبْتَ خَميصَةً ... عليها وجِرْيَالَ النَّضِيرِ الدُّلامِصَا(5/76)
نطَحَه الكَبْشُ يَنْطَحُه نَطْحاً. وانْتَطَحَت الكِباشُ: تَنَاطَحَتْ.
والنَّطيحَةُ: المَنْطُوحة التى ماتتْ منه، وإِنَّما جاءَ بالهاءِ لِغَلَبة الاسم عليها، وكذلك الفريسة والأَكِيلَة والرَّمِيّة، لأَنَّه ليس [هو] على نَطَحْتُها فهى منطوحة، وإِنَّما هو الشىء فى نفسه ممّا يُنْطَح، والشىءُ ممّا يُفْرَسُ ومّما يُؤْكَل.
ونَواطِحُ الدَّهرِ: شَدائدهُ.
والنَّطيح والنَّاطِح: الذى يأْتيك منْ أَمامَكَ من الطَّيْرِ والوَحْش. وماله ناطِحٌ ولا خابِطٌ، أَى غَنَم ولا إِبلٌ.(5/77)
بصيرة فى نطف
النُّطْفَة: الماءُ الصّافِى قليلاً كان أَو كثيراً، فمن القليل نُطْفَة الإِنسان. وفى قصّة غَزْوة هَوازِن أَنَّه قال صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً: "هل من وَضُوءٍ؟ فجاءَ رجلٌ بنُطْفَة فى إِداوَة فاقْتَضَّهَا، فأَمر بها صلَّى البله عليه وسلَّم فصُبَّتْ فى قَدَح فتوضَّأْنا كلُّنا ونحن أَربع عشرة مائة نُدَعْفِقُها" دَغْفَقَةً يريد الماءَ القليل. وقال أَبو ذُؤَيْب الهذلّى يصف عَسَلاً:
فَشَرَّجَها من نُطْفَة رَجَبِيَّة ... سُلاسِلَة من ماءِ لِصْب سُلاسِل
أَى خلطها بماءِ سماءٍ أَصابَهم فى رَجَب. قال الله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} ، وقال {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة عَلَقَةً} . ومن الكثير قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يزالُ الإِسلامُ يزيد وأَهلُه، وينقُص الشِرْك وأَهلُه، حتى يسيرَ الرّاكبُ بين النُّطْفَتَيْن لا يَخْشَى إِلاَّ جَوْراً"، يريد البحرين: بحر المَشْرِق وبحر المَغْرِب، فأمّا بَحْر المشرق فإِنَّه يَنْقِطع عند البَصْرة، وأَمّا بحر المَغْرب فمنقطعه عند القُلْزُمِ. وقيل: أَراد بالنُّطْفَتَيْنِ: ماءَ الفُرات وماءَ البحر الَّذى يَلىِ جُدَّة وما والاها، وكأَنَّه أَراد أنّ الرّجل يسيرُ فى أَرضِ العرب(5/78)
بين ماءِ الفُرات/ وماءٍ البَحْرِ لا يخاف شيئاً غَيْرَ الضَّلال والجَوْرِ عن الطَّريق. والجَمْع: نُطَفٌ ونِطافٌ.
ونَطَفانُ الماءِ ونَطْفَه: سَيَلانُه. وليلةٌ نَطُوفٌ: تُمْطِر حتى الصَّباح. ونَطَفَ الماء يَنْطُف كنصر وضرب نَطْفاً ونَطَفاناً وتَنْطافاً ونِطافَةً: سال: قال:
أَلمْ يَأْتِها أَنَّ الدُّمُوع نطافَةٌ ... لِعَيْن يُوافِى فى المنام حَبيبُها(5/79)
بصيرة فى نطق
النُّطْقُ فى العُرْف: الأَصواتُ المُقطَّعة التى يُظهرها اللسانُ وتَعيها الآذان. ولا يكاد يُقال إِلاَّ للإِنسان، وأَمّا لغيره فعلى التبعيَّة، كقولهم: مالٌ صامِتٌ وناطقٌ، فإِنّهم يريدون بالناطق مالَهُ صَوْت، وبالصّامت: ما لا صَوْتَ له. وقد نَطَقَ الرْجلُ يَنْطِقُ نُطْقاً ومَنْطِقاً، زاد ابن عَبّاد نُطُوقاً:
وقوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} قال ابنُ عرفة: إِنّما يقال لغير المخاطبين من الحيوان صَوْتٌ، والنُّطق إِنما يكون لمن عَبَّر عن مَعْنَىً، فلَّما فَهَّم الله سليمانَ صلوات الله عليه أَصوات الطَّير سَمّاه مَنْطِقاً لأَنّه عبّر به عن معنىً فَهِمَه، فهو بالنسبة إِليه ناطق وإِن كان صامتا، وبالنَّسبة إِلى من لا يَفْهَم عنه صامتٌ وإِن كان ناطقاً. قال: فأَمّا قول جرير:
لقد نَطَقَ اليَومَ الحَمامُ لِتَطْرَبَا
فإِن الحمام لا نطق له وإِنّما هو صوتٌ، لكن استجاز الشاعرُ ذلك لأَن عنده أَنَّ الحمام إِنّما صَوَّت شوقاً إلى أُلاَّفِهِ وبكَى، فكأَنّه ناطق إِذ عرف ما أَراد.
والمنطقيُّون يسمّون القوّة الَّتى منها النُطق نُطْقاً، وإِيَّاها عَنَوْا حَيْثُ حَدُّوا الإِنسان بالحَىِّ الناطق المائت، فالنُّطْق لفظٌ مُشْتَرك عندهم بين القوّة الإِنسانية التى [يكون بها] الكلام، وبين الكلام(5/80)
المَبْرَز بالصوت. وقد يُقال الناطقُ لِما يَدُلّ على شىء، وعلى هذا قيل لحكيم: ما الصّامت الناطِق؟ فقال: الدّلائل المُخْبِرَة، والعِبَر الواعِظَة. وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هاؤلاء يَنطِقُونَ} إِشارة إِلى أَنّهم ليسوا من [جنس] الناطقين ذَوى العقول. وقوله: {قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فقد قيل: أَراد الاعتبارَ، ومعلوم أَنَّ الأَشياءَ كلَّها ليست تَنْطِق إِلاَّ من حيث العِبْرة. وقوله تعالى: {هاذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} فإِنّ الكتاب ناطقٌ، لكنْ نُطْقُه تُدْركه العين، كما أَنَّ الكلامَ كتابٌ لكن يُدْرَك بالسَمْع.
وحقيقة النُّطْق هو اللَّفْظُ الذى هو كالنِّطاق للمعنىَ فى ضَمِّه وحَصْره.
والمِنْطَقُ والمِنْطَقَةُ: ما يُشَدُّ به الوَسَط ويُنْتَطَق به. وقول علىّ رضى الله عنه: "مَنْ يَطُلْ أَيْرُ أَبيه يَنْتطقْ به" ضرب طُولَه مثلاً لكَثْرة الوَلَد. والانْتطاق مثلاً للتّقَوِّى والاعْتِضاد، والمعنى: من كَثُرَتْ إِخوته كان منهم فى عِزٍّ ومَنعَة. وقول خِداش بن زُهَيْر:
ولم يَبْرَح طِوالَ الدّهر رَهْطِى ... بحَمْدِ الله مُنْتَطِقِين جُودا
يريد مُؤْتَزِرين بالجُود مُنْتَطقين به.(5/81)
بصيرة فى نظر
النَّظَرُ: تأَمُّل الشىءِ بالعَيْن، وكذلك النَّظَرانُ بالتّحريك، وقد نَظَرْتُ إِلى الشىءِ. والنظر أَيضاً: تقليب البَصِيرة لإِدراك الشىءِ ورؤيته، وقد يُراد به التأَمّل والفَحْص، وقد يُراد به المعرفةُ الحاصلةُ بعد الفَحْص. وقوله تعالى: {انظروا مَاذَا فِي السماوات} أَى تأَمّلوا.
واستعمالُ النَّظَر فى البَصِر أَكثر استعمالاً عند العامّة، وفى البَصِيرة أَكثر عند الخاصّة، ويقال: نَظَرْتُ إِلى كذا: إِذا مَدَدْت طَرْفَك إِلَيْه رَأَيْتَه أَو لم تَرَه، ونظرتُ إِليه: إِذا رأَيتَه وتَدَبَّرته، قال تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} . ونَظَرْت فى كذا: تأَمَّلْته/ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} يراد به الحثّ على تأَمُّل حكمته فى خَلْقها.
ونَظَرُ الله إِلى عباده هو إِحسانُه إِليهم، وإِفاضةُ نِعَمِه عليهم. قال تعالى: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} . وفى الصّحيحين: "ثلاثةٌ لا يكلِّمُهُم الله ولا يَنْظُر إِليهم: شَيْخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّاب، وعَائلٌ مُسْتَكبِرٌ".
والنَّظَرُ أَيضاً: الانْتظارُ قال تعالى: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ، {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ، {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(5/82)
وقوله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} فَنَفَى الإِنظارَ عنهم إِشارةً إلى مانَبَّه عليه بقوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} . وقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أَى غير منتظرين.
وقوله: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} قال الزجّاج: فيه اختصار تقديره: أَرِنى نَفْسَك أَنْظُرْ إِليك. قال ابن عبّاس: أَعْطِنى النَّظر أَنْظُرْ إِليك. فإِنْ قيل كيف سأَل الرؤيةَ وقد عَلِم أَنَّ الله لا يُرَى فى الدّنيا؟ قال الحسن: هاج به الشوقُ فسأَل. وقيل: سأَل ظنّاً منه أَنه يُرَى فى الدنيا فقال الله: لن تَرانى، أَى فى الدّنيا أَو فى الحال، فإِنَّه كان يسأَل الرّؤية فى الحال. ولن ليست للتأْبيد كقوله {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ، ثم أَخبر عنهم أَنهم يتمنَّونْ الموت فى الآخِرة، كما قال: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} {وياليتها كَانَتِ القاضية} ثمّ تعليق الرّؤية بممُكن وهو استقرارُ الجبل يمنع استحالَة الرّؤية.
ويُستعمل النظر أَيضاً فى التَّحَيُّر فى الأَمر نحو قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ، {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكََ} كلّ ذلك نظرٌ عن تَحيُّرٍ دالٍّ على قِلَّة الغَناءِ.
وقوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ، قيل: تُشاهِدُون، وقيل: تَعْتَبِرون، قال:(5/83)
نَظَرَ الدّهرُ إِليهم فابتهل
قال أَبو القاسم: ثانى مفعولى أَرنى محذوف، أَى أَرنى نَفْسَك أَنْظُر إِليك: فإِنْ قلت: الرؤية عن النظر، فكيف قيل أَرنى أَنظر إِليك؟ قلت: معنى أَرِنِى نَفْسَك: اجعلنى متمِكِّنا من رُؤيتك بأَن تَتَدَلَّى لى فأَنظر إِليك وأَراك، ولمَّا علم أَنّ المطلوب الرّؤية لا النظر أُجِيب بِلَنْ ترانى دون لن تَنْظر.
والنَّظِيرُ: المِثْلُ، والجمع: نُظَراءُ، وأَصلُه المُناظِر كأَنّ كلّ واحدِ منهما ينظرُ إِلى صاحبه فيُبارِيه.
والمُناظَرَة: المُباحَثَةُ والمُباراةُ فى النَّظر، واستحْضار كل ما يَراه ببَصِيرته.
والنَّظَر: البَحْثُ وهو أَعمّ من القِياس، لأَنَّ كلّ قياس نَظَرٌ، وليس كُلُّ نَظَر قياساً.(5/84)
بصيرة فى نعج ونعس ونعق
النعَج: الابْيِضاضُ وقد نَعَج نَعَجاً مثلُ طَلَب يَطْلُب طَلَباً. والنَّاعِجَة: البَيْضاءُ من النُّوق، ويُقال: هى التى تُصاد عليها نِعاجُ الوَحْشِ. والنَّواعِجُ من الإِبِل: السِّراع. والنَّعْجَة: [الأَنثى] من الضأْن، والجمع: نِعاجٌ ونََعَجات. ونِعاجُ الرَّمْل هى البقَرُ، واحِدَتُها نَعْجَة. قال أَبو عبيد: ولا يُقال لغير البَقَرِ من الوَحْش نِعاجٌ.
النُّعاسُ: الوَسَنُ، قال الله: {أَمَنَةً نُّعَاساً} وفى المَثَل: "مَطْلٌ كنُعاسِ الكَلْب" أَى دائمٌ متَّصِل، ومن شأَنْ الكَلْب أَن يفتحَ من عَيْنِيه بقدرِ ما يكفيه للحِراسَة، وذلك ساعةً فساعة. وقد نَعَسْتُ أَنْعُس بالضمّ نُعاساً، قال النابغة الجعدىّ رضى الله عنه:
كأَنَّ تَنَسُّمَها مَوْهِناً ... سَنَا المِسْكِ حِين تُحِسُّ النُّعاسَا
/ ويُرْوَى جَنَى النَحْل، والتَنَسُّم: التَنَفُّس.
ونَعَسْت نَعْسَةً واحدة. وأَنا ناعِسٌ، ولا يُقال نَعْسانُ، قاله ثَعْلَب.(5/85)
وقال اللَّيث: سَمِعْناهم يقولون: نَعْسانُ ونَعْسَى، حملُوا ذلك وعلى وسْنان ووَسْنىَ، وربّما حملوا الشىءَ على نظائره، وأَحسنُ ما يكون ذلك فى شعر. وقال ابنُ دريد: رجلٌ ناعِسٌ ونَعْسانُ، ولم يفرّق، وقال الفرّاءُ: لا أَشْتهيها يعنى هذه اللُّغة نَعْسانُ.
وقال الأَزهرىّ: حقيقةُ النُّعاس: السِّنَةُ من غير نَوْم، قال عَدِىُّ ابن زيد بن مالِك بن الرّقاع:
وكَأَنَّها وَسْط النساءِ أَعارَها ... عَيْنَيْه أَحْورُ من جَآذِرِ جاسِم
وَسْنان أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَت ... فى عَيْنِه سِنَةٌ وليس بنائم
وتَناعَس: تَناوَم، وأَنْعَسَ: جاءَ ببَنِينَ كَسالَى.
نَعَقَ الراعِى بغَنَمِه يَنْعِقُ بالكسر نَعِيقاً ونُعاقاً، أَى صاحَ بها وزَجَرها قال الأَخطل: فانْعِق بضَأْنِك يا جَرِيرُ فإنَّما ... مَنَّتْكَ نَفْسُك فى الخَلاءِ ضَلالاً
قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} ، وحكى ابنُ كَيْسان نَعَق الغُرابُ بعين مهملة أَيضاً.
والناعقان: كوكبان من كواكِب الجَوْزاءِ.(5/86)
بصيرة فى نعل
النَّعْل: ما وَقَيْتَ به القَدَم من الأَرضِ، وكذلك النَّعْلَة، والجمع نِعال. ونَعِلَ - كَفَرِحَ - وتَنَعَّل، وانْتَعَل: لَبِسَها، قال تعالى: {فاخلع نَعْلَيْكَ} .
والنَّعْل أَيضاً: حديدٌ فى أَسفل غِمْدِ السَّيْف؛ والقِطْعَةُ الغليظ من الأَرْضِ يَبْرُق حَصاها ولا تُنْبِتُ؛ والرّجلُ الذَّليل؛ والزَّوْجَة، وما وُقِى به حافِرُ الَّدابة.
ونَعَلهم: وَهَب لهم النِّعالَ.
وأَنْعَلَ فهو ناعِلٌ: كَثُرت نِعالُه، والدابَّةَ: أَلْبَسَها النَعْل كنَعَلَها.
وانْتَعَل الأَرضَ: سافرَ راجِلاً. ورجلٌ ناعِلٌ ومُنْتَعِلٌ: غَنِىّ كما يُقالُ الحافِى للفقير.(5/87)
بصيرة فى نعم
نَعَمْ ونَعِمْ ونَعامِِ، ونَحَمْ ونَحِمْ لغاتٌ، وهى حروف تصْديقٍ ووَعْدٍ وإِعْلامِ، فالأَوّل بعد الخَبَر كقامَ زيدٌ وما قام زيدٌ، والثانى بعد افْعَل أَوْ لا تفعل أَو ما فى معناهما، نحو هلاَّ تَفْعَلُ، وهلاَّ لم تَفْعَل، وبعد الاسْتِفْهام نحو هَلْ تُعْطِينى، والثالث بَعْدَ الاسْتفهام فى نحو هَلْ جاءَك زيدٌ، ونحو: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} .
قيل: وتأْتى للتوكيد إِذا وقعت صَدْراً نحو: نَعَمْ هذه أَطلالُهم، والحقُّ أَنها فى ذلك حرْفُ إِعْلام وأَنها جوابٌ لسؤالٍ مقدّر.
وقرأ الكِسائىّ: نَعِم بكسر العَيْن، وهى لغة كِنانة والباقون نَعَم بفتح العين. وقرأَ ابنُ مسعود نحم بإِبْدال العَيْن حاءً.
قال سيبويه: أَمّا نَعَمْ فعِدَةٌ وتصديق، وأَمَّا بَلىَ فيوجب بها بعد النَّفْى، فكأَنَّه رأَى أَنَّه إِذا قيل: قامَ زيدٌ فتصديقُه نَعَمْ، وتكذيبُه لا، ويمتنع دخول بَلَى لعدم النَّفى، وإِذا قيل: ما قامَ فتصديقُه نَعَمْ، وتكذيبهُ بَلىَ، ومنه: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى} . وأَمّا نَعَم فى بيت جَحْدَر:(5/88)
أَلَيْسَ الَّليْلُ يجمعُ أُمَّ عَمْرو ... وإِيّانا فذَاكَ بنا تَدانى
نَعْمَ وأَرَى الهِلالَ كما تراهُ ... ويَعْلُوها النَّهارُ كما عَلانِى
فجوابٌ لغير مذكورٍ، وهو ما قدّره فى اعتقاده من أَنَّ اللَّيل يجمعُه وأُمَّ عمرو، أَو هو جوابٌ لقوله: وأَرَى الهِلالَ. البيت، وقدّمه عليه، أَو لقوله: فذاك بنا تدانِى، وهو أَحسن. والله أَعلم.
ونِعْمَ: كلمةٌ مستوفِيَة لجميع المَدْح، كما أَنَّ "بِئْسَ" كلمةٌ مستوفية لجميع الذمّ، فإِذا وَلِيَهُما اسم جنسٍ [ليس] فيه أَلف ولام انتصبَ، تقول بئس رَجُلاً زيدٌ ونِعْمَ صديقاً أَنتَ على التمييز. وهما فِعْلان ماضِيان/ لا يَتَصَرَّفان لأَنَّهما أُزِيلاً عن موضعهما، فنِعْمَ منقولٌ من قولك: نَعِمَ فلانٌ: إِذا أَصاب نِعْمَةً، وبئس منقولٌ من قولك [بَئسَ] فلانٌ: إِذا أَصاب بُؤساً، فنُقِلا إِلى المدح والذَمّ فشابَها الحروف فلم يَتَصَرَّفا.
وفى نِعْمَ لُغاتٌ: نَعِمَ كعَلِمَ، ونِعِمَ بكسرتين، ونِعْمَ بكسر النون وسكون العين، ونَعْمَ بفتح النون وسكون العين. ويقال: إِنْ فَعَلْتَ كذا فَبِها ونِعْمَتْ، بتاءٍ ساكنة وقفاً ووصلاً أَى نِعْمَت الخَصْلَةُ. وتدخُلُ عليه ما فيُكْتَفَى بهما عن صِلَته، نحو: دَقَقْتُه دَقَّا نِعِمَّا ونِعَمَّا بفتح العين أَى نِعْم ما دَقَقْته.(5/89)
والنِّعْمَة والنَّعِيم والنُّعْمَى: الخَفْضُ والدَّعَةُ، والمالُ. وجمعُ النِّعمة: نِعَمٌ، وأَنْعُمٌ. والتَنَعُّم: التَّرَفُّه. والاسم النَّعْمَة، وقد نَعِمَ بالكسر يَنْعَمُ ويَنْعُمُ ويَنْعِمُ. وهذا منزلٌ يَنْعَمُهُم مُثَلَّنا، ويُنْعِمُهم عن الفَرّاءِ، قال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} الإِنعام: الإِحسان إِلى الغير ولا يُقال إِلاَّ إِذا كان المُحْسَن إِليه من النَّاطِقين، فلا يقال أَنْعَمَ على فَرَسِه.
ونَعَّمَهُ تنعيماً: جعله فى نِعْمَةِ ولينِ عَيْش. وطعامٌ ناعِمٌ، وجارِيةٌ ناعِمةٌ ومُناعِمَة ومُناعَمَة ومُنَعَّمة: حَسَنةُ العَيْش والغذاءِ.
وقيل: النِّعْمَة، والنُّعْمَى بالضمّ، والنَّعْماءُ بالفتح والمدّ: اليَدُ البَيْضاءُ الصَّالحةُ، والجمع: أَنْعُمٌ ونِعَمٌ ونِعِمَاتُ. وأَنْعَمَها الله عَلَيْه، وأَنْعَمَ بها.
ونَعِيمُ الله: عَطِيَّته، ومنه {جَنَّةَ نَعِيمٍ} ونَعِمَ اللهُ، بك ونَعِمَكَ، وأَنْعَمَ بك عَيْناً: أَقرَّ بك عَيْنَ مَنْ تُحِبُّه، أَو أَقرَّ عينَك بِمَن تُحبُّه.
ونَعْمُ عَيْن ونُعْمُ عَيْنٍ، وَنَعْمَةُ، ونُعْمَةُ، ونِعْمَةُ، ونُعْمَى، ونَعامُ، ونُعامُ، ونِعامُ، ونَعِيمُ، ونَعامَى عَيْنٍ، يُنْصَبُ الكُلُّ بإِضمار الفِعْل، أَى أَفعل ذلك إِنْعاماً لعينك وإِكراماً.
والنَّعَمُ مختصٌّ بالإِبل، وقيل: بها وبالشاءِ، قيل: وبالبَقَرِ، والجمع أَنْعامٌ، وأَناعيمُ جمع الجمع، قال تعالى: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً}(5/90)
قيل: ولا يقال الأَنْعام حتى يكونَ فى جملتها الإِبل، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} : وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام} والأَنْعام هاهُنا عامّ فى الإِبل وغيرِها.
والنُّعامَى بالضمّ: ريحُ الجَنُوب، وقيل: ريحٌ بين الجَنُوب والصَّبا.
والنَّعام والنَّعائِم: من مَنازِل القمر.
وتَنَعَّمه بالمكان: طَلَبَه.(5/91)
بصيرة فى نغض. نفث ونفح ونفخ
النَّغْضُ: الظليمِ الَّذى يَنْغُضُ رأَسَه كثيراً، قال العجّاج:
واسْتَبْدلَتْ رُسُومَه سَفَنَّجَا ... أَصَكَّ نَغْضاً لايَنِى مُسْتَهْدَجَا
ونَغَضَ رأَسُه ينغُض ويَنْغِض كينصُر ويضرِب نَغْضاً ونُغوضاً ونَغَضاناً، أَى تَحَرَّكَ، ويقال أَيضاً: نَغَضَ فلانٌ رَأْسَهُ أَى حَرَّكه، لازمٌ ومُتَعَدٍّ، حكاه الأَخْفَش. وكلّ حركةٍ فى ارْتِجاف نَغْضٌ، قال:
سَأَلْتُ هَلْ وَصْلٌ فقالت: مِضِّ ... وَحَّركَتْ إِلّى رَأَسَها بالنَغْضِ
وأَنْغَضَ رَأْسَه، أَى حَرَّكه كالمُتَعَجِّب من الشىءِ قال الله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} أَى يُحرّكونها على سبيل الهزءِ
والنُّغْضُ - بالضمّ وبالفتح - والناغِضُ: [غُرْضوفُ] الكَتِف، وقيل: فَرْعُ الكَتِف لِتَحركه ونَغَضانه.
النَّفْثُ: شبيهٌ بالنَّفْخ، وهو أَقل من التَّفْل. وقد نَفَثَ الراقِى(5/92)
يَنْفُثُ، ويَنْفِثُ. والنفّاثاتُ فى العُقَد: السَّواحِرُ. وفى المثل: "لابُدَّ للمَصْدُورِ أَنْ يَنْفُث". ونُفاثَةُ السِّواك ما بَقِىَ منه فى فِيكَ.
نَفَح الطِّيبُ يَنْفَحُ، أَى فاحَ. وله نَفْحَةٌ طَيِّبةٌ.
ونَفَحَهُ بشَىْءٍ: أَعطاه. ولفُلان نفحاتٌ من المَعْروف، قال:
لَمَّا أَتَيْتُك أَرْجُو فَضْلَ نائِلِكم ... نَفَحْتَنِى نَفْحَةً طابَتْ لها العَرَبُ
/أَى طابت لها النَّفْسُ. ونَفَحت الرّيح: هَبَّت. قال الأَصمعىُّ: ما كان من الرّياح نَفْحٌ فهو بَرْدٌ، وما كان لَفْحٌ فهو حَرٌّ. ونَفْحَةٌ من العَذاب: قطعةٌ منه، قال تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أَى قطعةٌ منه، وهى إِمَّا من نَفَحَت الدّابَّة: إِذا رَمَتْ بحافرها، أَو من نَفَحَهُ بالسَّيْفِ: ضَرَبَه به، أَو من نَفَحَت الرِّيحُ: هَبَّتْ.
ونافَحَهُ: كافحَه وخاصَمَه.
النَّفْخُ: نَفْخُ الرِّيح فى الشىءِ، نَفَخَ فيه ونَفَخَهُ لُغتان، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور} نحو قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} قال الشاعر:(5/93)
لَوْلا ابنُ جَعْدَة لم يُفْتَح قُهُنْدُزُكُمْ ... ولا خُراسانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّورِ
وقال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} .
وانْتَفَخ البَطْنُ: امْتَلأَ ريحاً. وانْتَفَخ النَّهار: عَلا.(5/94)
بصيرة فى نفد ونفذ
نَفِدَ الشَّىْءُ بالكسر نَفاداً: فَنِىَ، وأَنْفَدْتُه أَنا، قال تعالى: {لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر} ، وقال تعالى: {إِنَّ هاذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} .
وأَنْفَدَ القومُ: ذَهَبَت أَموالُهم أَو فَنِيَت أَزْوادُهم. قال إِبراهيم بن على بن محمد بن هَرْمَة:
أَغَرُّ كمِثْلِ البَدْرِ يَسْتَمْطِر النَّدَى ... وَيَهْتَزُّ مُرْتاحاً إِذا هُوَ أَنْفَدَا
وأَنْفَدُوا: صادَفُوا نَفاداً لما كانوا يطلبونَه.
واسْتَنْفَدَ ما عند فلان وانْتَفَدَه: استَوْفاهُ. وفيه مُنْتَفَدٌ عن غَيْرِه، أَى مَنْدُوح وَسَعَةٌ، قال الأَخطل يمدح عبد الله بن مُعاوية بنِ أَبى سُفْيان:
لَقَدْ نَزَلْتِ بعَبْدالله مَنْزِلَةً ... فيها عن الفقر مَنْجاةٌ ومُنْتفَدُ
نَفَذَ السَّهْمُ الرَّمِيّة يَنْفُذ نَفاذاً ونُفوذاً: خَرَج. ونفذَ الأَمْرُ والحُكْمُ والقضاءُ: مَضَى. ورجلٌ نافِذٌ فى أَمْرِه، أَى ماضٍ. وأَنْفَذْتُه أَنا قال تعالى: {فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} .
ونَفَّذَ الأَمَر تَنْفِيذاً: أَمْضاه، وفى الحديث: "نَفِّذُوا جَيْشَ أُسامة"(5/95)
وفى حديث ابنِ مسعودٍ رضى الله عنه: "إِنَّكم مجموعون فى صَعِيد واحد، يُسْمِعُكم الدّاعِى وَيَنْفُذُكم البَصَرُ"، يقال منه: أَنْفَذْتُ القوم إِذا خَرَقْتَهم ومَشَيْتَ فى وَسطهم، فإِن جُزْتَهم حتى تُخَلِّفَهم قلت: نَفَذْتُهم أَنْفُذُهم.
قال أَبو زَيْدٍ: يُنْفِذُهم البَصَرُ إِنفاذاً: إِذا جاوَزَهم.
وقال الكسائى: نَفَذَنى البصُر، أَى بلغنى وجازَنى.
قال أَبو عُبَيْد: معناه أَنَّه يَنْفُذُهم بَصَرُ الرّحمان تبارك وتعالى حتى يأَتِىَ عليهم كلِّهم ويُسمعَهم داعيه.(5/96)
بصيرة فى نفر ونفس
نَفَرت الدَّابَّةُ تَنْفُرُ وتَنْفِر نِفاراً ونُفُوراً، أَى انْزَعَجَت عن شىءٍ فَزِعَتْ منه، قال تعالى: {مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} وفى الدّابة نِفارٌ، وهو اسمٌ مثل الحِران.
ونَفَرَ القومُ فى الأَمْرِ: مَضَوْا فِيه. ونَفَر الحاجُّ من مِنًى نَفْراً.
والنَّفِيرُ: الذين يَتقدَّمُون فى الأَمر. وجاءَتْ نَفْرَةُ بَنِى فُلان ونَفِيرُهم، أَى جماعَتُهم الَّذين يَنْفِرُون فى الأَمْرِ.
والإِنْفارُ عن الشىءِ، والتَّنْفِيرُ [عنه] والاستِنْفارُ كلُّه بمعنىً واحد. والاسْتِنْفارُ أَيضاً مثلُ النُّفُورِ قال الشاعر:
ازْجُرْ حِمارَك إِنَّه مُسْتَنْفِرٌ ... فى إِثْرِ أَحْمِرَة عَمَدْنَ لِغُرَّب
ومنه قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} أَى نافِرَة، وقرئ بفتح الفاءِ، أى مَذْعوَرة.
النَّفْسُ: الرُّوح، يقال: خرجت نَفْسُه، أَى رُوحُه قال:
نَجا سالِمٌ والنَّفْسُ منهُ بشِدْقِه ... ولم يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْف ومِئزَرَا(5/97)
أَى بجَفْنِ سَيْف وبمئزر. والنَّفْسُ أَيضا الدَّمُ. والنَّفْس: الجَسَد. والنَّفْس: العَيْنُ، أَصابَتْه نَفْسٌ أَى عَيْن. والنافِسُ: العائن، "ونهى عن الرُّقَى إِلاَّ فى ثلاث: النَّمْلَة والحُمَة والنَفْس".
وقال تعالى: {ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} قال ابن عَرَفَة: أَى بأَهل الإِيمان/ وأَهلِ شَرِيعَتِهم. وقوله تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} فترك ذكر الخَلْق وأُضِيف إِلى النَّفْسِ وهذه كما قال النَّابغة الذُّبْيانّى:
وقد خِفْتُ حَتَّى ما تَزِيد مَخافَتِى ... عَلَى وَعِلٍ فى ذى المَطَارَةِ عَاقِل
أَى على مَخافةِ وَعِل.
والنَّفْس: العِنْدُ، قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} أَى تعلم ما عِنْدِى ولا أَعلم ما عنْدَك، وقال ابنُ الأَنبارى: أَى تعلم ما فى نَفْسى ولا أَعلم ما فى غَيْبك. وقيل: تعلم حَقِيقتى ولا أَعلم حقيقتك.
ونَفْسُ الشىء: عَيْنهُ، يؤكَّد به يقال: رأَيتُ فلانا نَفْسَه، وجاءََنى المَلِكُ بنَفْسِه.
والنَّفْسُ: قَدْرُ دَبْغَة من القَرَظِ ونحوِه، بعثتْ أَعْرابيّةٌ ابْنتَها إِلى جارَتِها فقالت: تَقُولُ لكِ أُمِّى أَعْطِينى نَفْساً أَو نَفْسيْنِ أَمْعَسُ به(5/98)
مَنِيئَتى فإِنى أَفِدَةٌ. أَى مستعجلَةٌ لا أَتفرَّغُ لاتخاذِ الدِّباغ.
وقال ابنُ الأَعرابىّ: النَّفْسُ: العَظَمةُ، والنَّفْسُ: الكِبْرُ، والنَّفْسُ: العِزَّةُ، والنَّفْسُ: الهِمَّةُ، والنَّفْسُ: الأَنْفَةُ.
والنَّفْسُ بالتحريك: واحدُ الأَنْفاسِ. وفى الحديث: "أَجِدُ نَفَس رَبِّكم من قِبَلِ اليَمَن" وهو مستعار من نَفَسِ الهَواءِ الذى يَرُدُّه المُتَنَفِّس إِلى جَوْفه فيُبْرِد من حرارته ويُعدِّلها، أَو من نَفَسِ الرِّيح الَّذى يَتَنَسَّمُه فيَسْتَرْوح إِليه وينفِّس عنه، أَو من نَفَس الرّوضة، وهو طِيبُ رَوَائجها الَّذى يتشمّمه فينفرج به لِمَا أَنْعَمَ به ربّ العِزَّة من التَنْفِيس والفَرَج وإِزلَة الكُرْبَة. ومنه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تَسُبُّوا الرِّيح فإِنَّها من نَفَسِ الرَّحْمان" يريد بها أَنَّها تفرّج الكرب وتنشر الغَيْثَ وتُنْشِئُ السّحاب، وتُذْهِب الجَدْب. وقوله: من قِبَلِ اليمن أَراد به ما تيسّر له من أَهل المدينة على ساكنيها السّلام من النُّصْرَة والإِيواءِ، ونَفَّسَ الله الكرب عن المؤمنين بأَهْلِها، وهمَ يمانون. ويقال: أَنت فى نَفَس من أَمْرِك، أَى فى سَعَة، واعْمَلْ وأَنْتَ فى نَفَس من عُمْرِك، أَى فى فُسْحَةٍ قبْلَ الهَرَم والمَرَض ونحوهما. قال: الأَزهرّى: النَّفَسُ فى هذين الحديثين اسمٌ وُضِع موضع المصدر الحقيقىّ من نَفَّس يُنَفِّس تَنْفِيساً وَنَفَساً، كما يقال: فَرَّج يُفَرِّجُ تَفْرِيجاً، وفَرَجاً، كأَنَّه قال أَجِدُ تَنْفِيس(5/99)
ربِّكم من قِبَل اليَمَن. وكذلك قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم فإِنَّه من نَفَس الرَحْمنِ، أَى من تَنْفِيس الله بها عن المَكْرُوبين.
والنَّفَسُ: الجُرْعَة، يقال: اكْرَعْ فى الإِناءِ نَفَساً أَو نَفَسَيْن ولا تَزِدْ عليه. وشرابٌ غيرُ ذِى نَفَس، أَى كَرِيه آجِن أَى متغيّر، إِذا ذاقه ذائقٌ لم يَتَنَفَّس فيه، إِنَّما هى الشَّرْبة الأُولى. قال الراعى:
وشَرْبَةٍ من شرابٍ غَيْرِ ذى نَفَس ... فى كَوْكَبٍ من نُجُومِ القَيْظِ وهّاج
سَقَيْتُها صادِياً تَهْوى مسامِعُه ... قد ظَنَّ أَنْ لَيْسَ مِنْ أَصحابِه ناجى
وشَرابٌ ذو نَفَس، أَى فيه سَعَةٌ ورِىٌّ.
وشىءِ نَفِيسٌ ومَنْفُوسٌ: يُتَنافس فيه ويُرْغَب، قال جرير:
لو لم ترد قتلنا جادث بمطرف ... مما يخالط حبّ القلب منفوس
المُطَّرَف: المستطرف. ولُفلان نَفِيسٌ، أَى مالٌ كثير.
ونَفِسْتُ عليه الشىءَ: إِذا ِلم تَطِبْ نَفْسُك له به. ونَفسْتُ به عَنْ فلان: بَخِلْت عليه وعنه، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} .
ونَفُسَ الشىءُ نَفَاسَةً ككَرُم كَرامَةً: صارَ مرغوباً فيه. ومالٌ مُنْفِسٌ ومُنْفَسٌ: كثيرٌ نَفِيسٌ، قال النَّمِر بن تَوْلَب رضى الله عنه:(5/100)
/لا تَجْزَعى إِنْ مُنْفساً أَهْلَكْتُه ... وإِذا هَلَكْتُ فعِنْدَ ذلك فاجْزَعى
ونَهَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن التَنَفُّس فى الإِناءِ، أَى أَنْ يَتَنَفَّس فى الإِناءِ من غَيْرِ أَنْ يُبينَه عن فَمِه. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَنَفَّسُ فى الإِناءِ ثلاثاً، أَى يشرَبُه بثلاثة أَنْفاس فيُبينُ فاهُ عن الإِناءِ فى كلّ نَفس.
وتَنَفَّسَ الصُّبْحَ: تَبَلَّجَ، قال الله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} .
وتَنَفَّسَت القَوْسُ: تَصَدَّعَت. وَتَنَفَّسَ النَّهار: زادَ وطالَ.
ونافَسْتُ فى الشىء: إِذا رَغِبْتَ فيه على وَجْه المُباراة فى الكَرَم. وتَنافَسُوا فيه، أَى رَغِبُوا، ومنه قولُه تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} .(5/101)
بصيرة فى نفش
نَفَشَ القُظْنَ وغيرَه: إِذا شَعَّثْتَه بأَصابِعك حتى يَنْتَشِرَ، قال الله تعالى: {كالعهن المنفوش} وقال رؤبة: كالبُوِه تحت الظُّلَّة المَرْشُوِش ... فى هِبْرِيات الكُرْسُفِ المَنْفُوش
وقال آخر يصف غُباراً:
تَنْفُشُ منه الخَيْلُ مالا تَعْزلُه
ونَفَشَتِ الغَنَمُ فى الزَّرع: إِذا رَعَتْه ليلاً بلا رَاع، عن ابن دريد، قال: ولا يُقال ذلك إلاَّ للغَنم، قال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} ، قال ابن دريد: وأَمّا الإِبِلُ فيقال فيها: عَشَتْ تَعْشُو عَشْواً، وهو أَصل قولهم فى المثل: "العاشِيَة تَهِيجُ الآبِيَةَ"، ولا يُقال للإِبل نَفَشَت. والصَّحيحُ أَنَّه يقال ذلك للإِبل والغَنَم، ومنه حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه عنهما أنَّه قال: "الحَبَّة فى الجنَّة مثْلُ كَرش البعير يبيتُ نافشاً" فجعل النُّفُوشَ للبعير. وهى إِبلٌ نَفَشٌ بالتحريك، ونُفَّاشٌ ونَوَافشُ،(5/102)
وقد نَفَشَ يَنْفُش مثال نَصَر يَنْصُر، ويَنْفِشُ مثال يَضْرِبُ، ونَفَشَتْ تَنْفَشُ مثال سَمِعَت تَسْمَع.
وقال ابنُ الأَعرابىّ: النَّفَشُ - بالتحريك -: الصّوفُ.
والنَّفِيشُ: المَتاعُ المَتَفَرِّق فى الغِرارَة.
وكل شىءٍ تراه مُنْتَبِراً رِخْوَ الجوْف فهو مُنْتَفِشٌ، وُمَتَنَفِّشٌ.(5/103)
بصيرة فى نفع ونفق
النَفْعُ: ما يُستعان به فى الوُصول إلى الخيرات، وما يتوصّل به إِلى الخَيْر [فهو] خَيْرٌ، ومنه قولُه تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} ، وقال تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} ، وقال صلَّى الله عليه وسلًّم: "ما نَفَعَنِى [مالٌ قط ما نفعنى] مال أَبى بكر"، والاسمُ: المَنْفَعَة، والنَّفاعُ كسَحاب، والنَّفِيعَة، عن اللِّحيانى، قال:
وإِنّى لأَرْجُو من سُعادَ نَفِيعَةً ... وإِنِّىَ من عَيْنَى جمال لأَوْجَرُ
أَوْجَرُ، أَى مرتاب. والنُّفُوع: الكثير النَّفع، كالنَّفّاع، أَنشد سيبويه:
كم فى بَنِى سَعْدِ ابنِ بَكْرٍ سيّدٌ ... ضَخْم الدَّسِيعة ماجِدٌ نَفَّاعُ
النَّفَقُ، يدّل على انْقِطاع الشىءِ وذَهابِه، وتارةً على إِخفاءِ الشىءِ وإِغْماضِه، وعلى مُضِىِّ شىءٍ ونَفاذه، ومنه نَفَقَ البيعُ نَفاقاً: راجَ، وفى المثل: "دُونَ هذا ويَنْفُق الحمارُ". ونَفَقَت الدّابةُ نَفوقاً: ماتَتْ.
والنَفَقَةُ: [ما أُنفق] من الدّاهم وغيرها، والجمع نفاقٌ بالكسر،(5/104)
مثل ثَمَرَة وثِمار. ويُقال: نَفقَتْ نفاقُ القَوْم تَنْفَق نَفَقاً بالتَّحريكْ أَى فَنِيتْ نَفَقاتهم. ورجلٌ مِنْفَاقٌ: كثيرُ النَّفَقَةِ. وأَنْفَقَ الرجلُ مالَه، قال تعالى: {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} أى خَشْيَةَ الفَناءِ والنَّفاد، وقال قتادَة: أَى خشْية إِنْفاقه. وقال {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار} . وقال {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} .
وأَنْفَقَ القَوْمُ: نَفَقَتْ سُوقُهم.
ونَفَّق السِّلْعَةَ تَنْفِيقاً: رَوَّجَها.
والنَّفَقُ/: السَّرَبُ فى الأَرضِ له مَخْلَص إِلى مكانٍ [آخر] ، قال الله تعالى: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} ، وفى المثل: "ضَلّ دُرَيْصٌ نَفَقَهُ"، يضرب لمن يُعْنَى بأَمْره ويُعِدُّ حُجّةً لخَصْمه فينسَى عند الحاجة.
والنافِقاءُ: إِحدَى جِحَرَة اليَرْبُوع يكتُمُها ويُظْهِر غَيْرَها، وهو موضعٌ يُرَقِّقه فإِذا أُتِىَ من جِهة القاصِعاءِ ضَرب بَرأْسِه النَّافِقاءَ وخرجَ، ومنه المُنافقُ فإِنَّه يدخل فى الدّين من باب ويخرجُ من بابَ. وعلى هذا نبّه بقوله: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} أَى الخارجُون عن الدّين والشرع. وجعل الله المنافقين شرّاً من الكافرين فقال: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} .(5/105)
وقيل: وردت النَّفَقَةُ فى القرآن على وجوه:
بمَعْنَى فَرْضِ الزَّكاة: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أَى يزكوّن ويَتَصدّقون.
وبمعنى التَطَوُّع بالصّدقات: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار} أَى يتطَّوعُون بالصّدَقَة.
وبمعنَى الإِنْفاق فى الجهاد: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ، {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} ، {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} .
وبمعنى الإِنْفاقِ على العِيال والأَهل: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} ، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} .
وبمعنى الإِنْفاق فى عِمارةِ الدُّنيا والنَّدَم عليه: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} .
وبمعنى الفَقْر والإِمْلاق: {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} .
وبمعنى رزْق الحَقّ الخَلْقَ فى عُموم الحالات: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أَى يرزقُ.(5/106)
وبمعنى نَفَقَةِ المُخْلِصين طَلَباً لمرضاتِ الله تعالى: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} .
وبمعنى نَفَقَةِ اليهودِ أَموالَهم تقويةً للكُفْر: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} ، {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هاذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} .
وبمعنى إِنْفاقِ المُؤمنين أَمْوالَهم انتظاراً للثَّوابِ: {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ، {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ، {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} .
وقال الشاعر:
أَنْفِقْ من الصَّبْرِ الجَمِيلِ فإِنَّهُ ... لم يَخْشَ فَقْراً مُنْفِقٌ من صَبْرِهِ
والمرءُ ليسَ بِبالغ فى أَرْضهِ ... كالصَّقْرِ ليسَ بصائد فى وَكْرهِ
وقال آخر:
زَمَانٌ كُلُّ حبٍّ فيه خبٌّ ... وطَعْمُ الخلّ خَلٌّ لَوْ يُذاقُ
لَهُمْ سُوقٌ بضاعَتُها نِفاقٌ ... فنافقْ فالنِّفاقُ لها نَفاقُ(5/107)
بصيرة فى نفل
النَّفَلُ: الغَنِيمة بعَيْنها لأَنَّها من فَضْلِ الله وعَطائه، قال لَبيدٌ:
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَل
والنَّفَلُ: ما يُنْفَلُهُ الغازِى، أَى يُعطاه زائداً على سَهْمه من المَغْنَم. وقيل: اختلفت العِبارة عن النَّفَل لاختْلافِ الاعْتبار، فإِنَّه إِذا اعْتُبِر بكونه مَظْفُوراً به يُقال له غنيمةٌ، وإِذا اعْتُبِر بكونه مِنْحَةً من الله ابتداءً من غير وُجوبٍ يقالُ له نَفَلٌ. ومنهم من فَرَقَ بينهما من حيثُ العُمومُ والخُصوص، فقال: الغنيمةُ ما حصل مُسْتَغْنَماً بتَعَب كان أَو غير تعب، وباسْتِحقاقٍ كان أَو غَيْرِ اسْتِحقاق، وقَبْلَ الظَّفَرِ كان أَو بَعْدَه؛ والنَّفَل: ما يحصُل للإِنسان قبلَ القِسْمة من جُملة الغَنيمة، وقيل: هو ما يحصُل للمسلمين بَغْير قِتال، وهو الفَىْء. وقيل: هو ما يَفْضُل من المَتاع ونحوه بعد قَسْم الغَنيمة، وعلى ذلك حَمَل بعضُهم قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} أَى عن حكم الأَنْفال. وقيل/ عَنْ بمعنى منْ، أى(5/108)
من الأَنْفال، وقيل: عن صِلَةٌ، أَى يسأَلونك الأَنفالَ وبه قرأَ ابنُ مسعود، وعلى هذا [يكون] سؤال طَلَب، وعلى الأَوّل سُؤال اسْتِخْبار، وهو قولُ الضَّحّاك وعِكْرمَة.
قيل: سُمِّيَت الغَنائم أَنفالاً لأَنَّها زيادةٌ من الله تعالَى لهذه الأُمّة على الخُصوص. وأَكثر المُفَسِّرين على أَنَّ الآية فى غنائم "بَدْرٍ". وقال عَطاءٌ: هى ما شذَّ من المشركين إِلى المسلمين بغيرِ قتال من: عَبْد أَو أَمة أو مَتاع فهو للنَّبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصنعُ به ما شاءَ، وأَصل ذلك من النفل وهو الزيادةُ على الواجب، ومنه قوله تعالى: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} ، وعلى هذا قوله أَيضاً: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، وهو وَلَدُ الوَلَد [وفى الحديث] : "قال الله تعالى لا يَزالُ العَبْدُ يَتَقَرَّب إِلّى بالنَّوافل حتَّى أُحِبَّه، فإِذا أَحْبَبْتُه كنت سَمْعَه وبَصَره" الحديث. وجمعُ الأَنْفال نُفُل بضمّ النون.(5/109)
بصيرة فى نفى ونقب
نَفاهُ يَنْفِيهِ ويَنْفُوه: نَحَّاه، فَنَفَا هُوَ، لازمٌ ومتعدٍّ. وانْتَفَى: تَنحَّى. ونَفَى الريحُ التُرابَ نفْياً ونَفَياناً: أَطارَتْه، قال الله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} .
النَّقْب: الطَّرِيقُ فى الجَبَل، والجمع: أَنْقابٌ.
ونَقَبَ الجِدارَ نَقْباً: ثَقَبَهُ، واسم تلك النَّقْبَةِ نَقْبٌ أَيضا. ونَقِبَ الخُفُّ المَلْبُوس، أَى تَخَرَّقَ.
وقرأَ مُقاتِلُ بن سليمان: {فَنَقِبُوا فى البِلاد} بكسر القاف المخفَّفة، أَى سارُوا فى الأَنْقاب حتَّى لَزِمَهم الوصفُ به.
وقرأَ الأَعْمَشُ والحَسَن البَصرىّ و [أَبو] عبيد: فَنقَبُوا بفتح القافِ المُخفَّفة على أَصْلِ الفِعْل، أَى سارُوا.
وقال ابنُ مُقَسَّم: هو من النَّقابة، أَى اللَّطافة فى النَظَر والحَذاقَةِ فى الأُمورِ.
وأَنْقَب الرّجل فى البلاد، ونَقَّب فيها: سارَ فيها، ومنه قِراءَة الجمهور: {فَنَقَّبُوا فى البلاد} ، وحقيقته ساروا فى نُقُوبها، أَى طُرُقها، الواحد نَقْب، أَى ساروا فيها طلباً للمَهْرَب.
والنُّقْبَة - بالضمّ -: أَوّلُ ما يَبْدُو من الجَرَبِ قِطَعاً متفَّرِّقة، وهى من النَّقْب لأَنَّها تَنْقُبُ الجِلْدَ، والجمع نُقْبٌ، قال دريدُ بن الصِّمَّة:(5/110)
ما إِنْ رَأَيتُ ولا سَمِعْتُ به ... كاليوم هانئ أَيْنُق جُرْبِ
مُتَبَذِّلاً تَبْدُوا مَحاسِنُه ... يَضَع الهَناءَ مَواضِع النُّقْبِ
والنُّقْبَةُ أَيضاً: اللَّوْنُ والوَجْه، قال ذو الرُمَّة يصف ثَوْراً:
ولاح أَزْهَرُ مشهورٌ بنُقْبَته ... كأَنَّه حينَ يَعْلُو عاقِراً لَهَبُ
والنُّقْبَة أَيضاً: ثَوْبٌ كالإِزارِ يُجْعَلُ له حُجْزَة مَخِيطَةٌ من غير نَيْفَقٍ ولا ساقَيْن، ويُشَدُّ كما يُشَدُّ السَّراويلُ.
والنُّقْبَةُ أَيضاً: الصّدَأُ، قال لبيدٌ رضى الله عنه يصف ثوراً:
إِذا وَكَف الغُصونُ على قُراه ... أَدارَ الرَّوْق حالاً بعد حالِ
جُنوح الهالِكِىّ على يَدَيْهِ ... مُكِبّاً يَجْتَلىِ نُقَبَ النِّصال(5/111)
بصيرة فى نقذ ونقر
النَّقَذُ - بالتحريك -: ما أَنْقَذْتَه، وهو فَعَلٌ بمعنى مفعولٌ، مثل نَفَض، وقَبَض، وهَدَم. وقال ابنُ دريد: النَّقَذُ مصدر نَقِذَ بالكسر يَنْقَذُ نَقَذاً - بالتحريك -: إِذا نَجَا.
وقال ابنُ السكِّيت: ما به شَقَذٌ ولا نَقَذٌ، أَى ما به حَراكٌ. وقال اللَّحيانىّ: أَى ماله شىءٌ. قال: ويقال ما فيه شَقَذٌ ولا نَقَذٌ، أَى ما فيه عَيْبٌ.
والنَّقْذ بالفتح: الإِنْقاذُ، قال لُقَيْم بن أَوْس الشَّيْبانِىّ:
أَوْ كان شُكْرُك أَنْ زَعَمْتَ نَفاسَةً ... نَقْذِيكَ أَمْسِ ولَيْتَنِى لم أَشْهَدِ
نَقْذيكَ كما تقولُ: ضَرْبِيك، أَى نَقْذِى إِيّاك. وقوله تعالى: {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} أَى أَنجاكُم وخَلَّصكم. واسْتَنْقَذْتُه، وتَنَقَّذْتُه: خَلَّصْتُه ونَجَّيْنُه، قال الله تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} .
والنَّقائِذُ من الخيل: ما أَنْقَذْتَه من العَدُوِّ وأَخَذَتْه منهم، الواحدة نَقيذَةٌ/. والنَّقِيذَة أَيضاً: الدِّرع لأَنَّها تُنْقِذ لابِسَها من السُّيُوف، قال يَزِيدُ بن الصَّعِق:(5/112)
أَعْدَدْتَ للحِدْثانِ كُلَّ نَقِيذَةٍ ... أُنُف كلائحةِ المُضِلّ جَرُورِ
أُنُفٌ: لم يَلْبَسها غيرُه. لائحةُ المُضِلّ: يَعْنِى السَّراب، جَعَلَه تبرق كالسَّرابِ لجِدَّتها، وقيلُ: أُنُفٌ أَى سابِغَةٌ.
نَقَرَ الطائرُ الحَبَّة يَنْقُرُها نَقْراً: الْتَقَطَها، ونَقَرْتُ الشىءَ: نَقَبْتُه بالمِنْقار.
والنَّاقورُ: الصُّور، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} أَى فى الصُّور.
ونَقَرَ الرَّحَى: نَقَشَها بالمِنْقارِ. واحْتَجَمَ فى نُقْرَةِ القَفا.
ونَقَرتُه: عِبْتُه وغِبْتُه. ونَقَرْتُ عن الخَبَر ونَقَّرْت عنه: بَحَثْتُ. ونَقَرْتُ بالرّجل وانْتَقَرْت به: دَعَوْته من بين القَوْمِ، وهى النَّقَرَى. وهو يُصَلِىِّ النَّقَرَى: إِذا نَقَر فى صَلاتِه نَقْرَ الدّبك. ونَقَر باسْمِه: إِذا سَمَّاه من بين النَّاسِ. وما أَغنى عَنِّى نَقْرَةً، أَى أَدْنَى شَىْءٍ، وأَصلُها النَّقْرَة الَّتى فى ظَهْرِ النَّواةِ، وهو النَّقيرُ، قال تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
والنَّقْرُ: صُوَيْتٌ يُسمع من قَرْع الإِبْهامِ على الوُسْطَى. وما أَثابَهُ نَقْرةً، أَى شيئاً، لا يُستعمل إِلاَّ فى النَفْىِ قال:
وهُنَّ حَرًى أَنْ لايُثِبْنَكَ نَقْرَةً ... وأَنَتَ حَرًى بالنار حِينَ تُثيبُ
والناقِرُ: السَّهْمُ إِذا أَصابَ الهَدَف، وإِذا لم يُصِبْ فليس بناقِر(5/113)
بصيرة فى نقص ونقض
النَّقْصُ: الخُسْرانُ فى الحَظِّ. والنُّقْصان يكون مصدراً ويكون قَدْرَ الشىءِ الذاهب من المنَْقُوص، وهو اسمٌ له، تقول: نَقَصَ يَنْقُص نَقْصاً ونُقْصاناً، وهو مصدر، وتَقُول: نُقْصانُه كذا وكذا، وهو قَدْرُ الذاهب، وتقول: دخلَ عليه نَقْصٌ فى عَقْلِه ودِينهِ، ولا يُقال نُقْصانٌ.
والنَّقِيصَةُ: الوَقِيعَة فى الناسِ، والخَصْلة الدَّنيئةُ فى الإِنسان أَو الضَّعِيفة، قال:
فما وَجَدَ الأَعداءُ فِىَّ نَقِيصَةً ... ولا طافَ لى مِنْهُم بَوَحْشِىَ صائدُ
ونَقُصَ الماءُ نَقاصةً، فهو نَقِيص، أَى عَذْبٌ طَيِّب. والتَّناقُص: النَّقْصُ قال العجّاج:
فالغَدْرُ نَقْصٌ فاحْذَرِ التَناقُصا
وأَنْقَصْتُه لغةٌ فى نَقْصَته، وانْتَقَصَ الشىءُ نَفْسَه وانْتَقَصْتُه، لازم ومتعدٍّ.(5/114)
النَّقْضُ: نَقْضُ البِناءِ قال تعالى: {كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} .
وقولُه: {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} قال ابن عَرفة: أَى أَثْقَلَه حتَّى جعله نِقْضا، وهو الذى أَتْعَبَه السَّفَر والعملُ فَنَقَضَ لَحْمَه. وقال الأَزهرىّ: أَثْقَله حتَّى سُمِعُ نَقِيضُه، أَى صَوْتُه.
والنَّقَضُ بالتحريك، والنَّقِيضُ: صَوْتُ المَحامِل والرِّحال، قال:
شَيَّبَ أَصْداغِى فهُنَّ بِيضُ ... مَحامِلٌ لِقِدِّها نَقِيضُ
يقال: سمعتُ نَقِيض [النِسْع] والرَّحِلِ إِذا كان جَدِيداً. وقال اللَّيْثُ: النَّقِيضُ صَوْتُ المَفاصل والأَصابع والأَضلاع. ونَقِيضُ المِحْجَمَةِ صَوْتُ مَصِّ الحَجّامِ إِيّاها.
وأَنْقَضتِ العُقابُ والدَّجاجُ: صَوَّتَت، قال ذو الرُمّة:
كأَنَّ أَصْواتَ مِنْ إيغالِهِنَّ بِنا ... أَواخِرِ المَيْسِ إِنْقاضُ الفَرارِيج
أَى كأَنَّ أَصْواتَ أَواخِرِ المَيْسِ من إِيغالِهنّ بنا إِنْقاضُ الفَرارِيج، أَى أَنَّ رحالَهم جُدُدٌ.
والمُناقَضة فى القولِ: أَنْ يتكلَّم بما يَتَناقَضُ معناهُ. والتَّناقُض: خلافُ التَّوافُقِ والانْتِقاضُ: الانْتكاثُ.(5/115)
بصيرة فى نقم ونكب ونكث
النِّقْمَةُ والنَّقْمَةُ والنَّقِمَة ككِلْمَةٍ وكَلْمَة وكَلِمَة: المُكافَأَةُ بالعُقوبَة والجمع: نَقِمٌ ونِقَمٌ ونَقِماتٌ.
ونَقَمَ منه، ونَقِمَ كضَرَبَ وعَلِم، نَقْماً وتِنْقَّاماً، وانْتَقَمَ، أَى عاقَبَه. وقيل: أَنْكَرَهُ إِمّا باللَّسان/ وإِما بالعقوبة، قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله} ، وقال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ} .
نَكبَ بِه: طَرَحَه. ونَكَبَ عن الطَّريقِ يَنْكُبُ نُكوباً: عَدَلَ، قال الله تعالى: {عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ} .
والمَنْكِبُ: مَجْمَعُ عَظْمِ العَضُدِ والكَتِف. والمَناكِبُ فى جَناح الطَّائِر: أَربعٌ بعد القَوادِم.
والمَنْكِبُ من الأَرْضِ: الموضعُ المرتفعُ، وقوله تعالى: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَى فى جبالها، وقيل: فى طُرُقها.
والنَّكْبَةُ: واحدةُ نَكَبات الدّهر، وقد نَكَبَتْه نَكْبَةٌ، أَى هَبَّت(5/116)
عليه هُبُوبَ الَّنكْباءِ، وهى الرّيح الناكِبَةُ تَنْكُب عن مَهابِّ الرِّياح القُوَّم.
والنُّكْبُ فى الرِّياح أَربعٌ: فنَكْباءُ الصَّبا والجَنُوبِ تُسَمَّى الأَزْيَب، ونكْبَاءُ الصَّبا والشَّمالِ تُسَمَّى النُّكَيْباءَ، صَغَّرُوها وهم يريدون تَكْبيرها لأَنَّهم يَسْتَبْرِدُونها جدّاً، وَنَكْباءُ الشَّمالِ: الدّبور قَرَّةٌ تُسَمَّى الجِرْبياءَ، وهى نَيِّحةُ الأَزيَب، وَنكْباءِ الجَنُوبِ والدَّبورِ حارَّةٌ وتسمى الهَيْفَ، وهى نَيِّحةُ النُكيبِاءِ، لأَنَّ العَرَب تُناوِحُ بين هذه النُكُبِ كما ناوَحُوا بين القُوَّم من الرِّياح.
النِّكْثُ بالكسر: أَنْ تُنْقَضَ أَخْلاقُ الأَخْبيّة والأَكْسِيَة لتُغْزَلَ ثانيةً.
ونَكَثَ العَهْدَ والحَبْلَ فانْتَكَثَ، أَى نَقَضَهُ فانْتَقَضَ.
والنَّكِيثَةُ: خُطَّةٌ صَعْبَةٌ يَنْكُثُ فيها القومُ.(5/117)
بصيرة فى نكح ونكد
النِّكاحُ: الوَطْء، وقد يكونُ العَقْدَ، تقول: نَكَحْتُها، ونَكَحَتْ هى، أَى تَزَوَّجَتْ. وهى ناكِحٌ فى بنى فُلان، أَى ذات زَوْجٍ منهم. واسْتَنْكَحَها بمعنى نَكَحها، وأَنْكَحها، أَى زَوَّجَها.
ورجلٌ نُكَحَةٌ كهُمَزَة: كثيرُ النِّكاح.
[النُّكْحُ] والنِّكْحُ: كلمةٌ كانت العربُ تُزَوِّج بها.
والنِّكاح استُعْمل فى القرآن بمعان:
الأَوّل: بمعنى بلوغ الصّبِىّ: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أَى الحُلُم.
وبمعنى العَطاءِ والهِبَةِ: {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} ، وكان النبىّ صلَّى الله عله وسلم يجوزُ له النِّكاحُ بلفظ الهبَة.
وبمَعْنَى الصُّحْبَة والمُجامَعَة: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أَى تُجامَع.
وبمعنى التَّزْوِيج والتَزَوُّج: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} أَى لا تَزَوَّجُوهُنَّ، {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} أَى زَوِّجوهنّ، {فانكحوا مَا طَابَ(5/118)
لَكُمْ مِّنَ النسآء} أَى تَزَوَّجُوا بهنَّ.
نَكِدَ عَيْشُهم، بالكسر، يَنْكَدُ نَكَداً: اشتدّ. ونَكِدَت الرَّكِيَّةُ: قلَّ ماؤُها. قال الله تعالى: {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} أَى قَلِيلَ النُّزْلِ والرَّيْع، وهذا مَثَلٌ لقلوبِ الكافرين.
ورجلٌ نَكِدٌ ونَكَدٌ، أَى عَسِرٌ، وقومٌ أَنكادٌ ومَناكِيدُ.
ونَكَدَنى فلانٌ حاجَتِى أَى مَنَعَنى إِيّاها. وعَطاءُ مَنْكودٌ: نَزْرٌ قليل.(5/119)
بصيرة فى نكر
النَّكِرَةُ: ضِدُّ المَعْرفة: وقد نَكِرْتُ الرّجلَ بالكسر نُكْراً ونُكُوَرا، وأَنْكَرْتُه واستَنْكَرْتُه، كلُّه بمعنًى. قال الأَعشى: وأَنْكَرَتْنِى وما كان الَّذِى نَكِرَتْ ... من الحَوادث إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعا
وقد نَكَّرَه فتنكَّر، أَى غَيَّره فتَغَيَّر إِلى مَجْهول. والمنْكَر واحد المَناكِير. [وأَصل الإِنكار أَن يَرِد على القَلْبِ ما لا يتَصَوّرُه وذلك ضربٌ من الجهِل] قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} ، وقال تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} . وقد يستعمل ذلك فيما يُنْكَر باللسان، وسبب الإِنكار باللسان الإِنكار بالقلب، لكن ربّما ينكر اللسان الشىءَ وصورتُه فى القَلْب حاضرة، ويكون [فى] ذلك كاذباً. وعلى هذا قولُه تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} .
والمُنْكَرُ: كلّ فِعْل تحكُم العقولُ الصّحيحة بقُبحه أَو تتوقَّف/ فى استقباحِه العقولُ فتحكم الشَّريعةُ بقُبْحه، وإلى هذا القَصْدُ فى قوله تعالى:(5/120)
{الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} .
وتنكير الشىء من حيث المعنى جعله بحيث لا يُعرف، قال تعالى: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} .
والنَّكير: الإِنْكار، قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَى إِنكارِى والنُكْر: المُنْكَرُ، قال تعالى: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ، وقد يُحرّك مثل عُسْرٍ وعُسُر قال:
وكانوا أَتَوْنى بشىءٍ نُكُر
وقال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} .
والإِنْكارُ: تغيير المنكر. ورجل نَكِرٌ ونَكُرٌ، أَى داهٍ مُنْكَر.
ونَكُر الأَمْرُ ككَرُمَ: اشْتَدَّ وصَعُبَ.(5/121)
بصيرة فى نكس
نَكَسْتُ الشَّىْءَ أَنْكُسُه نَكْساً: قَلَبْتُه على رأسه. وقوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} قال الفرَّاء: أَى رَجَعُوا عمّا عَرَفُوا من الحُجَّة لإِبراهيم صَلَوات الله عليه. وقال الأَزهريّ: أَى قلبوا.
وقرأَ غيرُ عاصِمٍ وحمزة فى قوله تعالى: {ومَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فى الخَلْقِ} بفتح النُّون وتخفيف الكاف، أَى من أَطَلْنا عُمُرَه نَكَسْنا خَلْقَه فصار بعد القٌوّة الضَّعف، وبعد الشَّبابِ الهَرَم.
وفى حديث علىّ رضى الله عنه: "إِذا كان القَلْبُ لا يَعْرفُ مَعْرُوفاً ولا يُنْكِرُ مُنْكَراً نُكِسَ فجُعِل أَعْلاه أَسْفَلَه".
ونَكَّسه تَنْكِيساً: قلبه مثل نَكَسَه نكساً، وإِنَّما شُدّد للمُبالَغة، وقرأَ عاصم وحمزة: {ومن نُعَمِّرْه نُنَكِّسْه} بالتَّشديد.
والنُّكْسُ والنُّكاسُ بالضَمِّ فيهما: عَوْدُ المَرَض بعد النَّقْهِ قال أُمَيَّةُ بن أَبى عائد:(5/122)
خَيالٌ لِزَيْنَبَ قد هاجَ لىِ ... نُكاساً من الحُبِّ بعد انِدِمالِ
وقد نُكِسَ الرّجلُ نُكْساً فهو مَنْكُوسٌ.
والنَّاكس: المُطَأْطِئ رأَسَه، وجُمع فى الشِعْر على نَواكسِ، وهو شاذٌّ.
ونَكَس كذا داءَ المريضِ بعد البُرْءِ، أَى رَدَّه وأَعادَه، قال ذو الرُمَّة:
إِذا قُلْتُ أَسلُوا عنكِ يامَىَّ لَمْ يَزَلْ ... محلٌّ لدائى من ديِاركِ ناكِسُ
والنُّكُسُ بالضَمّ المُدْرَهِمُّون من الشيوخ بعد الهَرَم.
والنِكْس بالكسر: الضعيف، والسّهمُ يُنْكَسِرُ فُوقُهُ فيُجْعل أَعلاه أَسفله.(5/123)
بصيرة فى نكص ونكف
النُّكُوص: الإِحْجام عن الشَّىْءِ، يُقال: نَكَص على عَقِبَيْه يَنْكُص وَيَنْكِصُ. وقال ابن دريد: نَكَصَ الرّجل عن الأَمْرِ نَكْصاً ونُكوصاً: إِذا تَكَأْكَأَ عنه. ونَكَصَ على عَقِبَيْه: رَجَع عمّا كان عليه من خَيْر، وكذا فُسِّر فى التَّنْزيل والله أَعلم. قال: ولا يُقال إِلا فى الرّجوع عن الخَيْر خاصّة ورُبَّما قِيل فى الشَرّ.
وقال أَبو تُراب: نَكَصَ ونَكَفَ بمعنى.
وقال الأَزهرىّ: وقرأَ بعضُ القُرّاء: {تَنْكُصُون} بالضَمِّ، قال الصّغانى، لا أَعرف من قَرأَ بهذه القِراءَة. والمَنْكَصُ: المُتَنَحىَّ.
نَكِفَ الرّجلُ عن الأَمْرِ يَنْكِفُ نَكَفاً كَفَرِح يَفْرَحُ فَرَحاً: إِذا أَنِفَ منه، فهو ناكِفٌ. وقال الفَرّاءُ: نَكَفْت بالفتح لغةٌ فى نَكِفْت بالكسر.
والاسْتِنْكافُ: الاستِكبار. وقال الزّجاج فى قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يكون عَبْداً لله ولاَ الملائكة} ، أَى ليس يَسْتَنْكِف الذى يزعُمون [أَنَّه] إِله أَن يكون عبداً لِله، ولاَ الملائكة المقرّبون وهم أَكبرَ(5/124)
من البشر، قاله الزجّاج، قال: ومعنى لن يَسْتَنْكفَ. لن يَأْنَفَ، وقيل: لن يَنْقَبِض ولن يَمْتَنع عن عبوديّة الله.
والانْتِكافُ: الانْتِكاثُ والانْتقاضُ، قال أَبو النَّجْم:
ما بالُ قَلْبٍ راجَعَ انْتِكافاً ... بَعْدَ التَعَزِّى اللَّهْوَ والإِيجافَا(5/125)
بصيرة فى نكل ونم ونمل
نَكَلَ عنه يَنْكِل ويَنْكُل نُكولا، ونَكِل كعَلِم: نَكَصَ وجَبُن.
ونَكَّل به تَنْكِيلاً: صَنَع به صَنِيعاً يُحَذِّر غيْرَه. وقيل: نَكَلَه: نَحّاه عَمّا قَبِلَهُ.
والنَّكَال والنُّكْلَة بالضَمِّ، والمَنْكَلُ كمقْعَدٍ: مَا نَكَّلْتَ به غَيْرَك كائناً ما كان.
والنِّكْلُ بالكسرِ، القَيْدُ الشديدُ، أَو قَيْدٌ من نارٍ، وضَرْبٌ من اللُّجُم، ولِجام البَرِيد، وحديدةُ اللِّجام، والجمع فى الكلِ أَنْكالٌ، قال الله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً} وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً} .
ونَكِلَ: قَبِلَ النَّكالَ، وإِنَّهُ لَنِكْلُ شَرٍّ: أَى يُنَكَّلُ به أَعداؤُه.
ورَماه بِنُكْلَة، أَى بما يُنَكِّلُه به.
والنَّمُّ: التَّوْرِيشُ والإِغْراءُ، ورَفْعُ الحديث إِشاعَةً له وإِفساداً، وقيل: تَزْيِين الكلام بالكَذب، يَنِمُّ ويَنُمُّ فهو نَمُومٌ ونَمَّامٌ ومِنَمٌّ ونَمٌّ، من قوم نَمِّينَ وأَنِمَّاءَ ونُمٍّ، وهى نَمَّةٌ، والاسم منه النَّمِيمة، قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} .(5/126)
وأَصلُ النَّمِيمة: الهَمْسُ والحركةُ الخَفيّة، ومنه أَسْكَتَ اللهُ نامَّتَه، أَى حِسَّه وما يَنِمُّ عليه من حركته. والنامَّة أَيضاً: حَياة النَّفْسِ.
والنَّمِيمة أَيضاً: صوتُ الكِنانَة، ووَسْواسُ همس الكَلام، وحِسّ الكِتابَة.
ونَمَّ المِسْكُ، سَطَع. والنَّمَّامُ: نبتٌ ينمّ عليه ريحُه.
ونَمْنَمَه: زَخْرَفَه، ونَقَشَه.
النَّمْلُ: واحدة نَمْلَةٌ ونُمْلَة أَيضا بضمّ الميم، والجمعِ: نِمالٌ. وأَرضٌ نَمِلَةٌ كثيرةُ النَّمْل، قال الله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} .
والنَّمْلَةُ مثلثَه: النَّمِيمَةُ؛ وهو نَمِلٌ ونامِلٌ ومُنْمِلٌ ومِنْمَلٌ ونَمَّالٌ: نَمَّامٌ، وقَدْ نَملَ كَعِلم ونَصَرَ، وأَنْمَلَ.(5/127)
بصيرة فى نهج ونهر
النَّهْجُ، والمَنْهَجُ، والمِنْهاجُ: الطَّريقُ الواضِحُ. وأَنْهَجَ الطَّريق: اسْتَبانَ وصار نَهْجاً واضحاً بَيِّناً. قال الله تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} .
ونَهَجْتُ الطَّرِيقَ: أَبَنْتُهُ وأَوْضَحْتَه. ونَهَجْتُه أَيضا: سَلَكْتُه. وهو يَسْتَنْهِج سَبِيل فلان: يَسْلُك مَسْلكه.
النَّهارُ: ضدُّ اللَّيل، ولا يُجمْعَ، كما لا يُجمع العَذَاب والسّراب فإِنْ جمعتَه قلت فى قليلِه أَنْهُرٌ وفى كثيره نُهُرٌ، مثل سَحابٍ وسُحُب وأَنشد ابنُ كيسانَ:
لَوْلا الثَّرِيدانِ لَمْتْنَا بالضُّمُرُ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بالنُّهُرْ
قال الله تعالى: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} والنَّهَار: الوقتُ الذى يَنْتَشِر فيه الضوءُ، وهو فى الشَّرْع: ما بين طُلُوعِ الفَجْر إِلى غُروب الشمِس. وفى الأَصْل ما بين طُلوع الشمسِ إِلى غُروبها، قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} ، وقابل به البياتَ فى قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} .(5/128)
والنَّهْرُ والنَّهْرُ، بالتحريك واحد الأَنْهارِ، وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أَى أَنْهار، وقد يُعَبَّر بالواحد عن الجَمْع كما قال تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدبر} . وقيل: معناه فى ضياءٍ وسَعة.
ونَهَرَ الماءُ: إِذا جَرَى فى الأَرضِ وجعل لنفسه نَهْراً، وكلّ كثيرٍ جَرَى فقد نَهَرَ واسْتَنْهَرَ.
ونَهَرَه وانْتَهَرَه: زَبَرَهُ وزَجَره، قال الله تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} ، وفى الحديث: "من انْتَهَرَ صاحبَ بِدْعَة مَلأَ اللهُ قَلْبَه أَمْناً وإِيماناً، وآمَنَه من الفَزَع الأَكْبر"، قال الشاعر:
لا تَنْهَرَنَّ غَرِيباً طالَ غُرْبَتُه ... فالدَّهْرُ يَضْرِبُه بالذُلِّ والمِحَنِ
حَسْبُ الغَرِيب من البَلْوَى نَدامَتُه ... فى فُرْقَةِ الأَهْلِ والأَحْبابِ والوَطَنِ
وقوله تعالى: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أَراد به نَهْر الأَردنِّ بالشامِ. قال تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ /غَيْرِ آسِنٍ} ، قيل: معناه عُيونٌ. وقوله تعالى: {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} ، أراد بها بَساتِينَ الدُّنْيا وأَنهارَها. وقوله: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} أَى تَجْرِى تحت غُرَفِها وعَلالِيها الأَنهارُ. والله أَعلم.(5/129)
بصيرة فى نهى ونوب
نَهَاهُ يَنْهاه نَهْياً: ضدّ أَمَرَه، فانْتَهَى وتَناهَى، وهو نَهُوٌّ عن المُنْكَرِ أَمُورٌ بالمَعْروف.
والنُّهْيَة بالضمّ الاسمُ منه، والنُّهْيَة أَيضاً والنّهايَةُ والنِّهاءِ مكسورتين: غايةُ الشىء. وانْتَهى الشىءُ وتَناهَى، ونَهَّى تَنْهِيَةً بَلَغ نِهايَتَه.
والنَّهْىُ عن الشىءِ من حيثُ المَعْنَى قد يكون بالقَوْل، وقد يكون بغيره، وما كان بالقول لا فَرْق بين أَن يكون بلَفْظة افْعَلْ كاجْتَنِبْ، أَو بلفظِة لا تَفْعَلْ، ومن حيث اللفظُ هو قولهم: لا تَفْعَلْ كذا، فإِذا قيل لا تَفْعَلْ كذا فَنَهْىٌ من حيثُ اللفظُ والمعنى جميعاً، نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هاذه الشجرة} . وأَمَّا قوله تعالى: {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} فلم يُرِدْ أَن يقولَ لنفسه لا تَفْعَل كذا، بل أَراد ظَلْفَها عن هواها وقَمْعَها عن مُشْتَهاها. وكذا النَّهْىُ عن المُنْكر يكون تارةً باليد وتارة باللِّسان وتارة بالقَلْب. وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ(5/130)
الفحشاء والمنكر} ، أَى يحثُ على فعْل الخير ويَزْجُر عن فعل الشرِّ، وذلك بعضُه بالعَقْل الذى ركَّبه فينا، وبعضُه بالشرع الذى شَرَعه لنا.
والانْتِهاءُ. الانْزِجارُ عن ما نُهِى عنه - قال الله تعالى: {إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} .
والإِنْهاءُ فى الأَصل إِبلاغُ النَّهْى، ثم صار مُتعارفاً فى كلّ إِبْلاغ. قالوا: أَنْهَيْتُ إِلى فلان خَبَر كذا، أَى [بَلَّغت إِليه] النهاية.
والنُّهْيَةُ: العقل وكذلك النُّهَى. والنُّهَى أَيضاً يكون جَمْعَ نُهْيَة، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} ، أَى العُقول. ورَجلٌ مَنْهاة، أَى عاقِلٌ.
ونَهُوَ ككَرُم، فهو نَهِىُّ من أَنْهِياءَ، ونَهٍ من نَهِينَ، ونِه بالكسر على الإِتْباع، أَى مُتناهى العَقْلِ كامِلُ الفِطْنة والكَيْسِ.
وطلبَ حاجَتَه حتَّى نَهِىَ عنها أَو أَنْهَىَ، أَى تركَها ظَفِرَ بها أَوْ لم يَظْفَرْ.
النَّوْبُ: القُرْبُ ضدُّ البُعْد. ونابَ عَنِّى يَنْوبُ نَوْباً ومَناباً، أَى قام مَقامِى. ويقال: لا نَوْبَ بى، أَى لا قُوَّة بِى، وخيْرٌ نائبٌ أَى كَثيرٌ.
والنُّوبُ بالضم: النَّحْلُ، جمع نائب، مثل عائِط وعُوط، وفارِه وفُرْه لأَنَّها تَرْعَى وتَنُوبُ إِلى مكانها. وقال الأَصمعىّ: هى من النَّوْبَة التى تَنوبُ النَّاسَ لوَقْت معروف.
وقال أَبو عُبَيْدة: سُمّيت نُوباً لأَنَّها(5/131)
تَضْرِب إِلى السّواد، يشير إِلى النُّوب جِنْسٌ من السُّودان، يعنى تشبيهها بهم، قال أَبو ذُؤَيْب يصِفُ مُشْتارَ العَسَل:
إِذا لَسَعَتْه النَّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالَفَها فى بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
وأَنابَ إِلى الله: أَقْبَلَ وتابَ، ورَجَعَ إِليه بالتَّوْبة وإِخْلاص العَمَل، قال تعالى: {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، وقال تعالى: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ}
وانْتَابَ القومَ انْتِيابا: أَتاهُمْ مَرَّةً بعد أُخْرى.
واسْتَنابَ فلاناً: جعله نائبَهُ.(5/132)
بصيرة فى نور
النُّورُ: الضِّياء والسَّناءُ الَّذى يُعين على الإِبْصار، وذلك ضربان: دُنْيَوِىّ وأُخْرَوِىُّ، فالدُّنْيوى ضربان: مَعْقولٌ بعين البَصِيرة وهو ما انْتَشَر من الأَنوارِ الإِلهيّة كَنُورِ العَقْل ونُورِ/ القُرْآن، ومَحْسوسٌ بعين البَصَرِ وهو ما انْتَشَر من الأَجْسامِ النَيِّرةِ كالقَمَرَيْن والنُّجومِ [و] والنيّرات.
أَنشد بعض المفسّرين:
ثلاثَةُ أَنْوارٍ تُضِىءُ من السّما ... وفى سرِّ قَلْبِى مِثْلُهنَّ مُصَوَّرُ
فأَوَّلُه بدرٌ وثانِيه كَوْكَبٌ ... وثالِثُهُ شمْسٌ مُنِيرٌ مَدَوَّرُ
عُلُومِى نُجُوم القَلْبِ، والعَقْلُ بَدْرُه ... ومَعْرِفةُ الرَّحمان شَمْسٌ مُنَوَّرُ
إِمامِى كتابُ اللهِ، والبَيْتُ قِبْلَتى ... ودِينِى من الأَدْيانِ أَعْلَى وأَفْخَرُ
شَفِيعى رسولُ اللهِ، واللهُ غافِرٌ ... ولا رَبَّ إِلاَّ اللهُ واللهُ أَكْبَرُ
فمن النُّورِ الإِلهىّ، قولُه تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} ، وقوله: {نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} ، أَنشد بعضهم:
فى القَلْب نُورٌ ونُورُ الحَقِّ يَمْدُدُهُ ... يا حَبَّذا نُورُه من وَاحد أَحَدِ
نورٌ على النُّور فى نُور تَنَوَّرَه ... نُورٌ على النُّور دَلاَّلٌ على الصَّمَد
إِنْ رُمْتَ أَوَّلَه يَهْدى إِلى أَزَل ... أَو رُمْتَ آخِرَه يَطْوى على الأَبَدِ(5/133)
ومن النُّورِ المحسوس الَّذى يُرَى بَعيْن البَصَر نحو قولِه: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} . وتخصيصُ الشمسِ بالضُّوْءِ، والقمَرِ بالنُّورِ من حيثُ إِنَّ الضَّوءَ أَخَصُّ من النَّورِ، وقولُه: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} أَى ذا نُورٍ. وممّا هو عامٌّ فيهما قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} ، {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} . ومن النُّور الأُخْرَوىّ قوله: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} .
وسَمَّى الله نَفْسه نُوراً من حيث إِنَّه المُنَوِّر فقال: {الله نُورُ السماوات والأرض} ، وتسميتُه تعالى بذلك لمُبالَغة فِعْله، وقيل: النُّورُ هو الذى يُبْصِرُ بنُورِه ذُو العَماية ويَرْشُد بُهداه ذو الغَوايَة، وقيل: هو الظاهر الذى به كُلُّ ظُهور، فالظَّاهِرُ فى نفسه المُظْهِر لغَيْره يُسَمَّى نُوراً. وسئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هَلْ رَأَيْتَ رَبَّك؟ فقال: "نورٌ أَنَّى أَراه"! أَى هو نُورٌ كيف أَراهُ! وسُئل عنه الإِمام أَحمد فقالَ: مازِلْتُ مُنْكِراً له، وما أَدْرِى ما وَجْهُه. وقال ابنُ خُزَيْمَة: فى القَلْب من صِحّة هذا الحديث شىءٌ.
وقال بعض أَهل الحكْمة: النُور جسْمٌ وعَرَضٌ، والله تعالى ليس بجسم ولا عَرَض، وإِنما حجابُه النُّور، وكذا رُوى فى حديث أَبى مُوسى، والمعنى كيف أَرَى وحجابُه النُّور! أَى النُّورُ يمنعُ من رُؤيته. وفى الحديث:(5/134)
"اللَّهُمَّ اجْعَل فى قَلْبِى نُوراً" وذَكَرَ سائرَ الأَعضاءِ، والمعنى: اسْتَعْمِل هذه الأَعضاءَ منِّى فى الحقّ، واجْعَلْ تَصَرُّفِى وتَقَلُّبِى فيها على سبيل الصَّواب والخَيْر.
وقوله تعالى: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} يعنى سيِّد المرسَلين محمّدا صلَّى الله عليه وسلَّم. وقولُه تعالى: {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} أَى القرآن، {وَجَعَلَ الظلمات والنور} قيل: أَى الليل والنَّهار. وقولُه: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} يعنى به الإِسلام. وقوله {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} : وقوله: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} المراد به نور العِناية.
والنَّارُ تُقال لِلَّهيب الذى يَبْدُو للحاسَّة نحو قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} ، ولِلْحَرارَةِ المجرَّدة؛ ولنارِ جَهَنَّم المذكورة فى قوله تعالى: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} . وفى حديث شَجر جهنم:
"فتَعْلُوهم نارُ الأَنْيار" يحتمل أَن يكون معناه نار النَّيران فَجمع النار على أَنْيار وأَصلها أَنْوار/ كما جاءَ فى رِيح وعِيد رِياحٌ وأَعْياد، وأَصلُهما واوٌ. ولِنار الحَرْب المذكورة فى قوله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا(5/135)
الله} .
وقال بعضهم: النَّارُ والنُّورُ من أَصْلٍ واحد، وهما كثيراً مّا يتلازَمان، لكنَّ النَّار متاعٌ للمُقْوِينَ فى الدّنيا، والنُّورُ متاعٌ للمُتَّقِينَ فى الدُّنيا والآخِرَة، ولأَجْلِ ذلك اسُتعْمِل فى النُّورِ الاقْتِباسُ، فقال: {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} .
وتَنَوَّرْتُ ناراً: أَبْصَرْتُها.(5/136)
بصيرة فى نوش ونوص
النَّوْشُ: التَّناوُل. قال ابن السِكِّيت: إِذا تَناوَلَ رجلاً بَرأسِه ولِحْيَتِه قيل: ناشَهُ يَنُوشُه نَوْشاً. قال غَيْلانُ:
باتَتْ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِن عَلاَ ... نَوْشاً به تَقْطَعُ أَجْوازَ الفَلاَ
أَىْ تَتَناول ماءَ الحوضِ من فَوْق وتَشرب شُرْباً كثيرا، وتقطعُ بذلك الشربِ فَلَوات فلا تَحْتاج إِلى ماءٍ آخر.
وناشَت الإِبِلُ: أَسْرَعَت: النَهوضَ. وناشَ: طَلَبَ وناشَ: مَشَى. وتَناوَشَ: تناوَلَ، قال الله تعالى: {وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أَى كيف لهم تَناوُل ما بَعُدَ منهم وهو الإِيمان وقد كان قريباً فى الحَياة فضَيَّعوه.
وقال ابنُ عَبّاد: التَّناوُش فى الآية الكريمة الرُّجُوعُ. والانْتِياشُ: التَّناوُل أَيضا. قال:
باتَتْ تَنُوشُ العَنَق انْتِياشاً
والمُنْتاشُ: المُسْتَخْرَج قال:
أَرضاً بأَرْض ومُنْتاشاً بمُنْتاشِ
وانْتاشَه من المَهالِك: أخْرجهُ منها.
النُّوْصُ: التَأَخُّرُ. والنَّوْصُ: مصدر نُصْتُ الشىءَ أَنُوصُهُ نَوْصاً:(5/137)
إِذا طَلَبْتَه لِتُدْرِكه. وقيل: ناصَنِى نَوْصاً، أَى تَنَحَّى عَنِّى وفارَقَنِى وناصُوا نَوْصاً ومَناصاً ونَوِيصاً ونِياصَةً ونَوَصاناً: إِذا تحرَّكُوا.
وأَصلُ نِياصَة نِواصَةٌ صارت الواوُ ياء لانْكِسار ما قَبْلها.
والمَناصُ أَيضا: المَفَرُّ والمَلْجأُ، قال الله تعالى: {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} والأَلف فى مَناص مُحَوَّلة عن الواو.(5/138)
بصيرة فى نوس ونوم
النَّاسُ، قيل أَصلُه من ناشَ يَنُوسُ: إِذا اضْطَرَب، وتصغيرهُ على هذا نُوَيْسٌ. وقيل: أَصلُه فحُذِفَ فاؤه لَمَّا أُدخل عليه الأَلفُ واللام. وقيل من نَسِىَ، وأَصْلُه إِنْسِيانٌ على إِفْعِلان.
وقولُه: {قُلْ أَعُوذُ برَبّ النَّاس} ، [قد يُراد بالناس الفُضلاءُ دون من يَتناوله اسم الناس] تجوُّزاً، وذلك إِذا اعتبر معنى الإِنسانيّة، وهو وجُود العقل والذِكْر وسائر القوى المختصة به، فإِنَّ كلَّ شىءَ عُدِمَ فِعْلُه المختصُّ به لا يكاد يستحقُّ اسْمَه، كاليَدِ فإِنَّها إِذا عَدِمتْ فِعْلَها الخاصّ بها فإِطْلاق اليَدِ عليها كإِطلاقها على يَدِ السرير ورِجْلِه.
وقوله تعالى: {آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس} أَى كما يفعلُ مَنْ وُجِد فيه معنَى الإِنسانِيةِ، ولم يَقْصِد بالإِنسان عَيْناً بل قَصَد المَعْنَى، وكذا قولُه: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أَى من وُجِد فيه معنَى الإِنْسانِيّة أَىَّ إِنسان كان. ورُبَّما قُصِدَ به النَّوْعُ كما هو وعلى هذا قولُه: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} .(5/139)
قال ابن عَبّاس رضىَ الله عنهما: آدَمُ إِنَّما سُمِّىَ إِنْساناً لأَنّه عُهِد إِليه فنَسِىَ، والأُناسُ لغة فى النَّاس. وهو الأَصل، قال ذُو جَدَن:
إِنَّ المَنايَا يَطَّلِعْـ ... ن على الأُناسِ الآمِنِينا
فيَدَعْنَهم شَتَّى وقد ... كانوا جميعاً وافرينا
وكلُّ اثْنَيْنِ من الإِنسان مثل السّاعِدَيْن والزَّنْدَيْن والقَدَمَيْن، فما/ أَقْبَل منهما على الإِنسان فهو إِنْسِىٌّ، وما أَدْبَر عنه فهو وَحْشِىُّ.
والإِنسان: الأُنمُلَة قال:
أَشارَتْ لإِنسان بإِنسان كفِّها ... لِتَقْتُل إِنْساناً بإِنْسانِ عَيْنِها
والإِنسانُ أَيضاً: ظِلّ الإِنْسان. والإِنْسان: رأسُ الجَبَل. والأَرْضُ التى لم تُزْرَع.
وجارِيَةٌ آنِسةٌ: إِذا كانت طَيّبَة النَّفْس تُحِبُّ قُرْبَك وحَدِيثَك، قال الكُمَيْت:
فِيِهنَّ آنِسَةُ الحَدِيث خَرِيدَةٌ ... لَيْسَتْ بفاحِشَة ولا مِتْفالِ
النَّوْمُ: النُّعاسُ أَو الرُّقادُ كالنِّيام، والاسمُ: النِّيَمةُ بالكسر، وهو نائمٌ، ونوؤُمُ، ونُوَمٌ، ونُوَمَة، والجَمْع: نِيامٌ، ونُوَّمٌ، ونُيَّمٌ،(5/140)
ونِيَّمٌ ونُوّامٌ، ونُيَّامٌ، ونوْمٌ كَقومٍ، وقيل: هو اسمُ الجَمْع.
والنَّوْمُ فُسِّرَ على أَوْجُه كُلُّها صحيحةٌ باعتبارات مختلفة، قيل: هو اسْتِرْخاءُ أَعصابِ الدِماغ بُرطوبات البُخار الصّاعد إِليه؛ وقيل: هو أَنْ يَتَوَفَّى اللهُ النَّفْسَ من غير مَوْت كما قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} . وقيل: النَّوْمُ: مَوْتٌ خَفِيفٌ، والموتُ نَوْمٌ ثَقيلٌ.
واسْتَنام فلانٌ إِلى كذا: اطْمَأَنَّ إِليه. وتَناوَمَ: أَراهُ من نَفْسِه كاذِباً.
ونامَ الثَّوْبُ: بَلِىَ. والرجلُ: تواضَع لِله تعالىَ. وإِلَيْه: سَكَنَ واطْمَأَنَّ. والخَلْخالُ: انْقَطَع صَوْتُه من سِمَنِ الساقِ.(5/141)
بصيرة فى نيل ونأى
نِلْتُه أَنالُه نَيْلاً ونالاً: أَصَبْتُه. وأَنَلْتُه إِيّاهُ، وأَنَلْتُ لهُ. والنَّيْلُ والنائل: ما نِلْتَه، قال الله تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} . وما أَصابُ منه نَيْلاً ولا نَيْلَةً ولا نُوْلَةً. شَيْئاً.
والنَّوالُ والنَّالُ والنَّائلُ: العَطاءِ. ونُلْتُه ونُلْتُ لهُ، ونُلْتُ به أَنُولُه، وأَنَلْتُهُ إِيّاه، وَنَّولْتُه عليه، وله: أَعْطَيُتُه.
ورجلٌ نالٌ: جَوادٌ، أَو كثير النائلِ، ونالَ يَنالُ نَيْلاً: صار نالاً. ونَولُك أَنْ تَفْعَلَ كذا، ونَوالُكَ ومِنْوالُكَ: أَى يَنْبَغِى لك.
ناءَ الرجلُ مثالُ ناعَ: لغة فى نَأَى مثل نَعَى: إِذا بَعُدَ، قال سَهْمُ بن حَنْظَلة الغَنَوِىّ:
إِنَّ اتَّباعَكَ مَوْلَى السُّوءِ تَسْأَلُه ... مثلُ القُعُود ولَمَّا تَتَّخِذْ نَشَبا
مَنْ إِنْ رَآك غَنِيَّا لانَ جانِبُه ... وإِن رَآك فَقِيراً ناءَ واغَتَرَبَا
هكذا رواه الكسائىّ وروى غيره:
إِذا افْتَقَرْتَ نَأَى واشْتَدَّ جانِبهُ ... وإِنْ رآكَ غَنِيّاً لان واقْتَرَبا(5/142)
قال الله تعالى: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وقُرِئَ: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} .
ونَاءَ يَنُوءُ نَوْءَاً: نَهَضَ بجَهْد ومَشَقَّة، قال الله تعالى: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} .
وناءَ به الحِمْلُ: أَثْقَلَهُ. والمرأَةُ تَنُوءُ بعَجِيزَتِها، أَى تَنْهَض بها مُثْقَلَةً، وتَنُوءُ بها عَجِيزَتُها، أى تُثْقِلُها.
وناءَ أَى سَقَط فهو من الأَضْداد. وعِنْدِى ما ساءَهُ وما ناءَهُ، أَى ما أَثْقَلَه. وما يَسُوءُه ويَنُوءُه، أَراد ساءَهُ وأَناءَهُ، وإِنَّما قال ناءَهُ وهو لا يتعدَّى لأَجلِ الازْدِواج.
وقال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} : يَبْعُدُون.(5/143)
الباب السابع والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الواو(5/144)
بصيرة فى الواو
وهى ترد فى القرآن وفى اللغة على وجوه كثيرة:
1 - حرفٌ من حُروف الهجاءِ شَفَوِىّ يحصلُ من انْطِباق الشَّفَتَين جِوارَ مَخْرج الفاءِ. [و] النِّسبة [إِليه] واوِىٌّ، والفِعْل منه واوَيْتُ واواً حَسَناً وحَسَنةً، والأَصل وَوَّوْتُ، لكن لمَّا اجتمعت أَربعُ واوات متوالية استثقلوه فقلبوا الواو الثانية أَلفاً والرابعة ياءً فصارت وَاوَيْتُ، وجمعه: واواتٌ.
2 - الواوُ فى حِساب الجُمَّل اسمٌ لعددِ السِتَّة.
3 - الواوُ المكرّرة فى نحو: سَوَّلْتُ وسَوَّيْت.
4 - الواوُ الأَصلىّ كما فى: وَعْد، ورَوْح، ونَحْو.
5 - واوُ الإِعراب كما فى الأِسماءِ الستَّة.
6 - واو الحالِ، كقوله تعالى: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أَى فى تلك الحالة. ومنه أَتَيْتُه والشَّمْسُ طالِعَةٌ.(5/145)
7 - واوُ الاستِئْناف: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} .
8 - الواوُ المقُحمة: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا} .
9 - الواوُ الزائِدَة فى ثانى الاسم، نحو كَوْثَر، وكَوْكَب، أَو فى ثالثه نحو: عَجُوز، وعَرُوس، أَو فى رابعه، نحو: تَرْقُوَة وعَرْقُوَة، أَو فى خامسه، نحو: قَلَنْسُوَة.
10 - الواو المُبْدَلَة من الهمزة إِذا كان ما قبلها مَضْمُوماً نحو: رأَيتُ وَباك، أَو من الأَلف نحو ضَوارِب.
11 - واوُ الثمانية: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً ... } إِلى قوله {وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} . {والناهون عَنِ المنكر} .(5/146)
12 - بمعنى أَوْ: {وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} .
13 - بمعنى إِذْ، نحو: لَقِيتُكَ وأَنْتَ شابٌّ، أَى إِذْ أَنت. {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} أَى إِذْ طائفةٌ.
14 - بمعنى مع: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} .
15 - بمعنى رُبّ، فى مثل قول رؤبة:
وقاتِمِ الأَعْماقِ خَاوِى المُخْتَرَق
16 - واوُ القَسَم: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض} .
17 - واوُ التَفْصِيل: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} ، {وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} .
18 - واوُ التأْكيد والتَقْرِير: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ} {أَوَلَمْ يَسيرُواْ} .
19 - واوُ التِّكْرار: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} .(5/147)
20 - واوٌ صِلَةٌ: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} .
21 - واوُ العَطْفِ، وتكون لمُطْلَق الجَمْع، فتعطِفُ الشىءَ على مُصاحِبه نحو قوله تعالى: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} وعلى لاحقه نَحْو: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} ، وعلى سابِقه، نحو قوله تعالى: {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} .
وإِذا قيل قامَ زَيْدٌ وعَمْرو احتمل ثلاثةَ معانِ، وكونُها لِلْمَعِيَّة راجِحٌ، وللتَّرْتِيب كثير، ولعَكْسِه قليل. ويجوز أَن يكون بين مُتعاطِفَيها تقارُبٌ أَو تَراخٍ نحو: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} .
وقد تخرج الواوُ عن إِفادة مُطْلَقِ الجَمْع وذلك على أَوجه:
أَحدها [تكون] : بمعنى أَوْ، وذلك على ثلاثة أَوْجُه:
أَحدها تكون بمعناها فى التَقْسِيم نحو: الكلمة اسمٌ، وفعلٌ، وحرف؛ وبمعناها فى الإِباحَة، نحو جالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرين، أَى أَحدَهُما؛ وبمعناها فى التَخْيير نحو:
وقالُوا نَأَتْ فاخْتَر لها الصَّبْر والبُكَا
والثانى: بمعنى باءِ الجَرّ نحو: أَنت أَعْلَمُ ومالَكَ، وبعتُ(5/148)
الشَّاة شاةً ودِرْهماً.
الثالث: بمعنى لامِ التَّعْليل، نحو: {ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ} قاله الخَارْزَنْجِىّ.
الرّابع: واوُ الاستئناف نحو: لا تَأْكُلِ السَّمَكَ وتَشْرَبُ الَّلبَنَ، فيمن رفع.
الخامس: واوُ المفعول معه، كسِرْتُ والنِّيلَ.
السّادس: واوُ القَسَم. ولا تَدْخُل إِلاَّ على مُظْهَرٍ، ولا تتعلقَّ إِلا بمَحْذوف، نحو: {والقْرْآنِ الحَكِيمِ} فإِن تَلَتْها واوٌ أُخرَى فالثانية للعطف، وإِلاَّ لاحتاج كلٌّ إِلى جواب، نحو: {والتين والزيتون} .
(السابع) : واو ربّ، ولا تدخلُ إِلاَّ على مُنَكَّر.
(الثامن) الزائدة: {حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} . وقد تقدم.
(التاسع) : واو ضمير الذكور، نحو: الرّجال قاموا، وهو اسمٌ (و) عند الأَخْفَش والمازنى حَرْفٌ.
(العاشر) : واو علامة المُذَكَّرين فى لغة طَيّئ أَو أَزْدِ شَنوُءَةَ أَو بَلْحارث.(5/149)
ومنه قوله صلَّى الله عليه وسلم: "يَتَعاقَبُون فِيكم مَلائكةٌ باللَّيْل ومَلائكةٌ بالنَّهار".
(الحادى عشر) : واو الإِنكار، نحو: الرَّجُلُوه بعد قَوْل القائل: قامَ الرَّجُلُ.
(الثانى عشر) : الواو المُبْدَلة من هَمْزة الاستِفْهام المَضْموم ما قَبْلها كقراءَة قُنْبُل: {وَإِلَيْهِ النشور * أَأَمِنتُمْ} ونحو: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} .
(الثالث عشر) : واو التَّذَكُّر.
(الرابع عشر) : واو القوافى.(5/150)
(الخامس عشر) : واوُ الإِشْباع كالبُرْقُوع.
(السادس عشر) : واوُ مدّ الاسم بالنَّداءِ.
(السابع عشر) : الواو المتحوّلة نحو: طُوبَى، أَصلها طُيْبَى.
(الثامن عشر) : واوات الأَبْنِيَة كالجَوْرَبِ والتَوْرَب.
(التاسع عشر) : واوُ الوَقْت، وتَقْرُب من واوِ الحال: اعْمَلْ وأَنْتَ صحيحٌ.
(العشرون) : واو النسبة كأَخَوِىٍّ فى النِسْبة إِلى أَخ.
(الحادى والعشرون) : واوُ عَمْرٍو لتَفْرِق بينه وبين عُمَر.
(الثانى والعشرون) : الواوُ الفارِقةُ كواو أُولئك وأُولَى لئلاَّ يشتَبِه بإِلَيْكَ وإِلَى.
(الثالث والعشرون) واوُ الهمزة فى الخَطّ كهَذِه نِساؤُكَ وشاؤُك، [و] فى اللَّفْظِ كحَمْراوان وسَوْداوان.
(الرابع والعشرون) : واوُ النِّداءِ والنُّدْبَةِ.(5/151)
(الخامس والعشرون) : واوُ الصّرْفِ وهو أَنْ تَأْتِىَ الواوُ معطوفةً على كلامٍ فى أَوّله حادِثَةٌ لا تَسْتَقِيم إِعادتُها على ما عُطِفَ عليه نحو:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتَأْتِىَ مِثْلَه ... عارٌ عَلَيْكَ إِذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فإِنَّه لا يجوزُ إِعادةُ [لا] على وتأْتى مثله، [فلذلك] سمّى صرفاً إِذْ كان معطوفاً ولم يَسْتَقِمْ أَنْ يُعادَ فيه الحادثُ الَّذى فيما قبله.
(السادس والعشرون) : الواو اللغوىّ، قال الخليل: [الواو] عنْدَهم. البعير الفالِج، قال الشاعر:
وكَمْ مُجْتَد أَغْنَيْتُه بعد فَقْرِه ... فَآبَ بواوٍ جَمَّة وسَوام(5/152)
بصيرة فى وأد ووبل
وَأَدَ بِنْتَهُ يَئِدُهَا وَأْداً، أَى دَفَنَها وهى حَيَّةٌ، قال الله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "أَنَّه نَهَى عن عُقوق الأُمَّهاتِ، وَوَأْدِ البَنات، ومَنْعٍ وهاتِ". وكانت كِنْدَةُ تَئِدُ البَناتِ، قال الفرزدق:
ومِنَّا الَّذى مَنَعَ الوائدا ... تِ وأَحْيَا الوَئِيدَ فلم يُوْأَدِ
والمَوائدُ: الدَّواهِى، وتَوَأَّدَتْ عليه الأَرضُ: غَيَّبَتْهُ.
الوَبْلُ: والوابِلُ: المَطَرُ الشديد الكثيرُ القَطْر. وَبَلَتِ السماءُ تَبِلُ: أَتَتْ بالوَبْل، قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} .
ولمِرُاعاة الثِّقَل قيل لكلِّ شِدَّة ومخَافة وَبالٌ. قال الله تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} .
والوَبيلُ: الشديد؛ والعَصَا الغَلِيظةُ، والقَضِيبُ الذى فيه لِينٌ، وخَشَبةٌ يُضْرب بها النَّاقوسُ؛ والحُزْمَة من الحَطَب، والمَرْعَى الوَخِيم، قال الله(5/153)
تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .
وأَبِيلٌ على وَبِيلٍ، أَى شيخٌ على عَصا.
ورَجُلٌ وابِلٌ: جَوادٌ يَبِلُ بالعَطايا. أَنشد الفَرّاء:
فأَصْبَحت المنازلُ قد أَذاعَتْ ... بها الإِعصارُ بعد الوابِلِينا
أَى بعد الأَجْواد من أَهلها/. ووَبَلَه بالسّياط: تابعَها عليه. واسْتَوْبَلُوا المكانَ: استَوْخَمُوه.(5/154)
بصيرة فى وبر ووبق
الوَبَرُ معروف، وجَمْعه أَوْبارٌ، قال الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا} . وبعيرٌ وَبِرُ وأَوْبَرُ، وناقةٌ وَبِرَةٌ ووَبْراءُ: كثيرةُ الوَبَر. ووَبَّرَتِ الأَرنبُ تَوْبِيراً وهو أَن تَمْشِىَ على وَبَر قوائِمها لئلاَّ يُقْتَصَّ أَثرُها. قال:
مَرَطَى مُقَطِّعَة سُحورَ بُغاتِها ... من سُوسِها التوْبِيرُ مهما تُطْلب
ووَبَّر فلانٌ أَمْرَهُ توبيراً: عَمّاهُ.
الوُبُوقُ: الهَلاكُ. وَبَقَ يَبِقُ، كوَعَد يَعِدُ، ووَبِقَ يَوْبَقُ كوَجِلَ يَوْجَلُ، ووَبِق يَبِقُ كوَثِقَ يَثِقُ. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} أَى جعلنا بينهم من العَذاب ما يُهْلكهم. وقال أَبو عبيدة: المَوْبِقُ: المَوْعِدُ. وقال ابن عَرَفَة: مَوْبِقاً أَى مَحْبِساً. وكلُّ شىء حالَ بين شيئين فهو مَوْبِقٌ. وقيل: المَوْبِقُ: واد فى جهنَّم.
وأَوْبَقَهُ: أَهْلَكه. وقيل: حَبَسَه، قال الله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أَى يَحْبسُ السُفُن فلا تَجْرى عُقوبةً لأَهلها.(5/155)
بصيرة فى وتن ووتد ووتر
الواتِن: الشىء الثَّابِتُ الدّائم فى مكانه؛ والماءُ المَعِينُ الدّائم.
والوَتِينُ: عِرْقٌ فى القَلْب إِذا انقطَعَ مات صاحبُه، والجمع: أَوْتِنَةٌ ووُتْنٌ، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} . ووَتَنَه: أَصابَ وَتِينَهُ. والماءُ: دامَ ولم يَنْقَطِع. واسْتَوْتَنَ المالُ: سَمِنَ وغَلُظَ وَتِينهُ.
الوَتْدُ بالفتح، والوَتِدُ ككَتِفٍ واحد الأَوتاد. وفى المثل: "أَذَلُّ من وَتِد بِقاعِ" لأَنَّه يُدَقُّ أَبداً، قال:
إِنَّ الهَوانَ حِمارُ الأَهل تَعْرِفُه ... والحُرُّ يُنْكِرُه والجَسْرَةُ الأُجُدُ
ولا يُقِيم بدارِ الذُلِّ يَعْرِفُها ... إِلاَّ الأَذَلاَّنِ عَيْرُ الأَهْلِ والوَتدُ
هذا على الخَسْف مربَوطٌ برُمَّتِه ... وذا يُشَجُّ فلا يَرْثِى له أَحَدُ
وكذلك الوَدّ فى لغة من يدغم. قال الله تعالى: {والجبال أَوْتَاداً}(5/156)
وتقول: وَتَدْتُ الوَتْدَ أَتِدُهُ وَتْداً، وأَوْتَدْتُه. وإِذا أَمَرْت قلت: تِدْ وَتِدَكَ بالمِيتَدَةِ أَى بالمُدُقِّ.
الوِتْرُ بالكسر: الَفْردُ. والوَتْرُ بالفتح: الذَّحْل، هذه لغة أَهل العالية فامّا لغةُ أَهلِ الحِجاز فبالضِدّ، قال تعالى: {والشفع والوتر} وأَمّا تميمٌ فبالكَسْر فيهما. والمَوْتُور: الذى قُتِلَ له قَتِيلٌ فلم يُدْرِك بدَمِه، تقول منه: وَتَرَهُ يَتِرُهُ وَتْراً وتِرَةً. وكذلك وَتَرَهُ حَقَّه، أَى نَقَصَه، قال الله تعالى: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أَى لم يَنْقُصْكم من أَعْمالكم.
والتَّواتُرُ: تَتابُع الشىء ولا يُراد به التَّواصُل. ومُواتَرَةُ الصَّوْمِ: أَنْ يصومَ يوماً ويُفْطِرَ يوماً أَو يومين، ويأَتىِ به وِتْراً وِتْراً، ولا يُراد به المُواصَلَة. وكذلك واتَرْتُ الكُتُبَ فتواترَتْ، أَى جاءَ بعضُها فى إِثْرِ بَعْض، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أَى واحداً بعد واحدٍ، وفيها لغتان: التَّنْوينُ، وتَركُ التنوين مثل عَلْقَى، فمن تَرَكَ صَرْفَها فى المعرفةِ جعل أَلِفَها أَلِفَ ثأْنيث وهو أَجود، وأَصلُها وَتْرَى من الوتْر وهو الفَرْد، ومن نَوَّنَها جعل أَلِفَها ملحقةً.
والوَتِيرَةُ: السَجِيَّة. وحَلْقَةٌ من عَقَبٍ يُتَعَلَّم عليها الطَّعن.(5/157)
بصيرة فى وثق ووثن
وَثِقْتُ بفلان، بالكسر، أَثِقُ ثِقَةً ومَوْثِقاً ووُثُوقاً: إِذا ائْتَمَنْتَهُ قال الله تعالى: {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله} ، أَى مِيثاقاً. وقال تعالى: {فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} .
والمِيثاق: عَقْدٌ يُؤكَّد بيمينٍ وعَهْد. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} ، أَى أَخذ العهدَ عليهم بأَنْ/ يُؤمِنوا بمحمّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وأَخْذُ المِيثاق بمعنى الاسْتِحْلافِ.
وأَصلُ المِيثاقِ: المِوْثاق صارت الواوُ ياءً لانكسار ما قَبْلها، والجمعُ: المَواثِيقُ، والمَياثِيقُ أَيضاً على اللفظ، وقد جاءَ فى الشعر المَياثق أَنشد ابنُ الأَعرابىّ لِعياضِ ابن دُرَّةَ الطائىّ.
حِمىً لا يَحُلُّ الدَّهْرُ إِلاَّ بإِذْنِنا ... ولا نَسْأَلُ الأَقْوامَ عَقْدَ المَياثِق
والوَثاق والوِثاقُ: ما يُشدّ به، والجمعُ: وُثُقٌ ككُتُب، قال الله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} . وأَوْثَقَه فى الوَثاقِ: شَدَّه.(5/158)
ووَثَّقْتُ الشَّىءَ تَوْثيقاً؛ ووَثِّقْتُ فُلاناً: إِذا قلتَ إِنَّه ثِقَةٌ، وناقةٌ مُوَثَّقَة الخَلْقِ: مُحْكَمَة.
واسْتَوْثَقْت منه: أَخَذْتُ منه الوَثِيقَة. قال الكُميت يمدح مخلد بن يزَيدَ بن المُهَلَّب:
وخلائقٌ منهُ إِلىّ جميلة ... حَسْبِى ونِعْمَ وَثِيقَةُ المُسْتَوْثِقِ
وواثَقَنِى بالله ليَفْعَلَنَّ. وتَواثَقُوا على كذا، قال كعبُ بن زُهَير:
لِيُوفُوا بما كانُوا عليه تَواثَقُوا ... بِخَيْفِ مِنىً واللهُ راءٍ وسامِعُ
والوُثْقَى قريبةٌ من المَوْثِق، قال الله تعالى: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} .
الوَثَنُ محرّكة: الصَّنَمُ، والجمع وُثْنٌ وأَوْثانٌ.
والواثِنُ: الشىء الدّائم الثابت فى مَكانه كالواتِن بالمُثَنَّاة.
وأَوْثَنَ من المال: أَكْثَرَ منه.
وأَوْثَنَ زيداً: أَجْزَل عَطِيَّتَهُ.(5/159)
بصيرة فى وجب
مادّته تدلّ على سُقوط الشىء ووقوعه، تقول: وَجَبَ الشىء: إِذا لَزِمَ، يَجِبُ وُجُوباً. وفى كتاب يافع ويَفَعة: وَجَبَ البَيْع وَجُوباً بفتح الواو كالقَبُول والوَلُوع وجِبَةً كِعَدة. ووَجَبَ القَلْبُ وَجِيباً: اضْطَرَبَ.
ووَجُبَ الرَّجُلُ ككَرُم وُجُوبَةً: جَبُنَ. والوَجْبُ: الجَبانُ، قال الأَخطل:
عَمُوِس الدُّجَى يَنْشَقُّ عن مُتَضَرِّمٍ ... طَلُوب الأَعادِى لا سَؤُوم ولا وَجْبِ
والوَجْبَةُ: السَّقْطَة قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} ، أَى سقطت إِلى الأَرضِ، ومنه: خرجَ القومُ إِلى مَواجِبِهم، أَى مصارِعِهم.
وَوَجَبَ المَيّتُ: إِذا سَقَطَ ومات، وفى الحديث: "دَعْهُنَّ فإِذا وَجَبَ فلا تَبْكِيَنَّ باكِيَةٌ، فقيل ما الوُجوبُ؟ قال: إِذا مات". ويُقال للقَتِيل واجِبٌ، قال قَيْس بن الخطيم الأَنصارىّ:
أَطاعَتْ بنُو عَوْف أَمِيراً نهاهُمُ ... عن السِّلْمِ حَتَّى كان أَوَّلَ واجِبِ
وأَوْجَبَ الله الشىءَ على عِباده: فَرَضَه.(5/160)
والواجِبُ يقال على أَوْجُه: يقال فى مُقابَلَة المُمْكِن وهو الحاصِلُ الَّذى إِذا قُدّرَ كَوْنُه مرتفعاً حَصَل منه مُحالٌ، نحوُ وجُودِ الواحِد مع وُجودِ الاثْنَيْن، فإِنَّه مُحالٌ أَن يرتفع الواحدُ مع حصول الاثْنين.
الثانى: يُقال الَّذِى إِذا لم يُفْعَلْ يُستحقُّ [به] اللَّوْمُ، وذلك ضَرْبان: واجبٌ من جهة العَقْل كوُجوب معرفةِ الوَحْدانية والنُبُوَّة، وواجبٌ من جهة الشَّرْع كوُجوب العِبادات المُوَظَّفة.
وقيل: الواجِبُ يُقال على وَجْهَين: أَحدُهما يُراد به اللازِمَ الوجوب، فإِنَّه لا يصحّ أَن لا يكون موجوداً، كقولنا فى الله تعالى إِنّه واجبٌ وُجوده. والثانى الواجبُ بمعنى أَنَّ حَقَّه أَنْ يُوجَدَ.
وقولُ الفُقَهاء: الواجِبُ الذى يستحق تارِكُه العِقابَ وصْفٌ له بشىء عارِض له، ويَجْرى مَجْرَى مَنْ يقول: الإِنسانُ الذى إِذا مَشَى مَشَى على رِجْلَيْن.
وأَوْجَبَ الرّجلُ: إِذا عَمِلَ عَمَلاً يُوجِبُ الجنَّةَ أَو النَّار. ويُقال للحَسَنَة والسّيِّئة مُوجبَةٌ. وفى الدُّعاءِ النَّبوىّ: "اللَّهُمَّ إِنَّى أَسأَلك مُوجِباتِ رَحْمَتِك" وقيل/ للنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم "إِن صاحِباً لنا قد أَوْجَبَ فقال: مُرُوهُ فَلْيُعْتِقُ رَقَبَةً" أَى ارتكب كبيرةً وَجَبت له النَّارُ. وفى حديثه الآخر: "أَوْجَبَ ذو الثلاثَةِ والاثْنَين" أَى الذى أَفْرَطَ من وَلَده ثلاثةً أَو اثنين. والكلمة المُوجِبَةُ لا إِله إِلاَّ الله.(5/161)
بصيرة فى وجد
وَجَدَ مطلوبَهُ يَجِدهُ وُجوداً، ويَجْدَه بالضمَّ لغة عامريّة لا نظير لها فى باب المِثال. ووَجِدَ بكسر الجيم لغةٌ، قال جرير:
لَمْ أَرَ مِثْلَكِ يا أُمامَ خَلِيلاً ... أَنْأَى بحاجَتِنا وأَحْسن قِيلاَ
لو شِئْتِ قَدْ نَقَعَ الفؤادُ بَشْربة ... تَدَعُ الصّوادِىَ لاَ يَجِدْنَ غَلِيلاَ
بالعَذْبِ من وَصْفِ القِلاتِ مَقِيلة ... قَضَّ الأَباطحِ لا يَزالُ ظَلِيلاَ
ووَجَدَ ضالَّته وِجْداناً. ووَجَد عليه فى الغَضَب يَجِدُ ويَجُدُ مَوْجِدَةً ووِجْداناً أَيضاً، حكاها بعضهم: ووَجَدَ فى الحُزْن وَجْداً. ووَجَدَ فى المال وُجْداً ووَجْداً وجِدَةً: استغنىَ.
وقرأَ الأَعرج ونافعٌ ويَحْيَى بن يَعْمُرَ وسَعِيد بنُ جُبَيْرٍ وطاوُسُ وابنُ أَبى عَيْلَةَ وأَبو حَيْوَة وأَبو البَرَهْسَم {مِنْ وَجْدِكم} بفتح الواو، وقرأَ أَبو الحَسَن رَوْحُ بنُ عبدِ المؤمِن {مِنْ وِجْدِكم} بالكَسُرِ، والباقون: مِنْ وُجْدِكم بالضَمّ.
ووَجَدَ فى الحُبّ وَجْداً لا غير، قالت شاعرةٌ:
مَنْ يُهْدِ لىِ من ماءِ نقعاءَ شَرْبَةً ... فإِنَّ له مِنْ ماءِ لِينَةَ أَرْبَعا(5/162)
لقد زَادَنا وَجْداً بنَقْعاءَ أَنَّنا ... وَجَدْنا مَطايانا بِلِينَةَ ظُلَّعَا
فمن مُبْلغ تِرْبَىَّ بالرَمْل أَنَّنىِ ... بَكَيْتُ فلم أَتْرُك لِعَيْنَىَّ مَدْمَعَا
قال أَبو القاسم الأَصبهانىّ: الوُجودُ أَضْرُبٌ: وُجودٌ بإِحدَى الحواسِّ الخمس نحو: وَجَدْتُ زيداً، وَوَجدْت طَعْمَه ورائحتَه وصَوْتَه وخُشونَتَه، ووجُودٌ بقوّة الشَهْوة نحو: وَجَدْتُ الشِبَعَ، ووجُودٌ بقوَّةِ الغَضَب، كوُجود الحُزْنِ والسَّخَط، ووجودٌ بالعَقْل أَو بوسَاطَةِ العقل، كمَعْرفة الله تعالى ومَعْرِفة النُبّوة. وما نُسِب إِلى الله تعالى من الوُجودِ فبمعنى العِلْم المجرّد إِذْ كان الله تعالى مُنَزَّها عن الوَصْف بالجَوَارح والآلاتِ نحو قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وكذا المعدوم يُقال على ضدّ هذه الأَوجه.
ويُعَبَّر عن التَمَكُّن من الشىءِ بالوُجود نحو: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أَى حيث رأَيتموهم.
وقوله: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} ، وقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} ، وقوله: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وُجودٌ بالبَصِيرَة، وكذا قوله: {وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} .(5/163)
وقوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ} أَى إِن لم تَقْدِرُوا على الماءِ وقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} أَى من تمكُّنِكم وقَدْرِ غِناكُمْ.
وقال: بعضهم: الموجوداتُ ثلاثةُ أَضْرُبٍ: موجود لامَبْدَأَ له ولامُنْتَهَى، وليس ذلك إِلاَّ البارِى تعالَى، وموجودٌ له مبدأُ ومُنْتَهًى كالجَواهِر الدُّنْيَوِيّة؛ وموجودٌ له مبداٌّ وليس له مُنْتَهًى كالنَّاسِ فى النَّشَأَةِ الآخِرَة.
وأَوْجَدَه اللهُ: أَغْنَاه، وأَوْجَدَه مَطْلُوبَه: أَظْفَرَه به. وأَوْجَدَه على الأَمْرِ: أَكْرَهَه.
ووُجِدَ عن عَدَمِ فهو موجُودٌ، كحُمّ فهو مَحْمُومٌ، ولايُقال وَجَدَه الله، وإِنَّما يقال: أَوْجَدَه الله.(5/164)
بصيرة فى وجس ووجل
الوَجْسُ: الصَّوْتُ الخَفِىُّ/، والوَجْسُ: الهَمُّ. والوَجْسُ: الهَمُّ. والوَجْسُ: الفَزَعُ يَقَع فى القَلْبِ من صَوْتٍ وغيره. والوَجَسان: فَزَعُ القَلْبِ.
والأَوْجَسُ: الدَّهْرُ، يُقال: لا أَفْعَلُه سَجِيسَ الأَوْجَسِ والأَوْجُسِ، بفتح الجيم وضمّها، أَى أَبَداً. وما ذُقْتُ عنده أَوْجَسَ، أَى شيئاً من الطَّعام. وما [فى] سقائه أَوْجَسُ، أَى قَطْرَة. قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} أَى أَحَسَّ وأَضْمَرَ فى نفسه خَوْفاً، وكذلك تَوَجَّس بمعناه. والتَّوَجُّس أَيضاً: التَّسَمُّع إِلى الصَّوْتِ الخَفِىِّ.
الوَجَلُ - مُحرَّكة -: الخَوْفُ ورَجَفان القَلْب وانْصِداعه لذِكْرِ من يُخاف سَطْوَتُه وعُقوبته أَو لِرُؤيته. وقيل: الخوفُ، والخَشْيَة، والرَّهْبة، والوَجَل أَلفاظٌ متقارِبَة المعنى. وَجِلَ كفَرِح ياجَلُ ويَيْجَلُ ويِيجَلُ بكسر أَوَّلهِ، ويَوْجَلُ. ورجُلٌ أَوْجَلُ ووَجِلٌ، والجمع: وِجالٌ ووَجِلُونَ، وهى وَجِلَةٌ. قال الله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وقال تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهو الذى يَسْرق وَيزْنِى ويشربُ الخمر؟ قال: لا يابنة الصّدِّيق، ولكنَّه الرجل يصوم ويُصلّى ويتصدَّق ويخاف أَن لا يَتَقَبَّلَ اللهُ منه.(5/165)
بصيرة فى وجه
الوَجْهُ: مُسْتَقْبَلُ كلِّ شىءٍ، والجمع أَوْجُهٌ ووُجوهٌ. والوَجْهُ: نَفْسُ الشىء، وقيل: أَصْلهُ الجارِحَة قال الله تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} ولمّا كان الوجهُ أَوَّلَ ما يستقبلُك وأَشرفَ ما فى ظاهرِ البَدَن استُعْمِل فى مُسْتَقْبَل كلِّ شىءٍ وفى أَشْرَفه ومَبْدئه.
ووَجْهُ الدّهرِ: أَوَّلهُ ووَجْهُ النَّجْم: ما بَدا لَك منه. ووَجْهُ الكلامِ: السَبِيلُ المقصودُ منه. ووَجْه القومِ: سَيِّدُهم.
والوَجْهُ والوِجْه، والوِجْهَةُ، والوُجْهَةُ: الجاهُ والمَنْزِلَةُ.
وقولُه تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} قيل: إِنَّ الوجه زائدٌ، والمعنى: كلُّ شىء هالكٌ إِلاَّ هو. وقولُه تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} قيل: المعنى ذاتُه، وقيل: الوجهُ زائد، وقيل: المعنى إِلاَّ التَوَجُّه إِلى الله بالأَعمال الصّالحة. ويُرْوَى أَنَّه قيل لأَبى عبد الله الرّضا إِنَّ بعض العلماءِ يقول: الوَجْهُ زائد والمعنى كلّ شىء هالك إِلاَّ هو. فقال: سبحان الله! لقد قالوا قولاً عظيماً، إِنَّما عُنِىَ الوَجْهُ الذى يُؤتَى منه، ومعناه: كلّ شىءٍ من أَعمالِ العِباد هالك إِلاَّ ما أُريد به وَجْهَ الله. وعلى هذا الآياتُ الأُخَرُ. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ(5/166)
كُلِّ مَسْجِدٍ} قيل: أَراد به الجارِحَةَ واستعارَها كقولك: فعلتُ هذا بِيَدِى. وقيل: أَراد بالإِقامَةِ تَحَرِّىَ الاستقامة، وبالوَجْه التَّوَجُّهَ، والمعنى: أَخْلِصُوا العبادةَ لله فى الصلاةِ. وقوله تعالى: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} وأَخواتُه من نحو: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} ، الوَجْه فى كلّ ذلك كما تقدّم أَو على الاستعارة للمَذْهب والطريق.
ويقال: واجَهْتُ فلاناً، أَى جعلت وَجْهَى تلقاءَ وَجْهه.
ووَجَهَهُ: ضَرَبَ وَجْهَه فهو مَوْجُوهٌ.
ووَجَّهَه تَوْجِيهاً: أَرسلَه، وشَرَّفه كأَوْجَهَه. والمَطَرَةُ الأَرضَ: صَيَرَتْها وَجْهاً واحداً.
وقمتُ وَجاهَه وتُجاهَه مثلَّثين، أَى تِلْقاءَ وَجْهه وتَوَاجَها: تَقابَلاً. والمُوَجَّهُ كمعظَّم: ذُو الجاهِ.
وتَوَجَّه: أَقْبَلَ؛ والشيخُ: وَلَّى وأَدْبَرَ، وكَبِرَ؛ والعُمُرُ: تَوَلَّى؛ والجَيْشُ: انْهَزَم.
والوَجِيه/: ذو الجاه، والجمع: وُجَهاءُ، قال تعالى: {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة} ، وقال تعالى: {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} . وأَوْجَهَهُ: صادَفَه وَجِيهاً، وجعله وَجِيهاً. ووَجَّهْتُ: تَوجَّهْتُ.
وَوَجَهْتُكَ عند الناسِ أَجِهُكَ: صرتُ أَوْجَه منك.
والجِهَةُ والجُهَةُ، بالكسر والضمّ، [و] الوَجْهُ: الجانبُ والناحيةُ، والجمع جِهاتٌ.(5/167)
بصيرة فى وجف
وَجَفَ الشىءُ: اضْطَرَبَ، قال الله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قال الزَّجَاج: أَى شديدةُ الاضْطرابِ، فهو يَجِفُ وَجْفاً ووَجِيفاً ووُجُوفاً.
والوَجْفُ والوَجِيفُ: ضَرْبٌ من سَيْرِ الخَيْل والإِبل، قال العجّاج:
ناجٍ طَواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا
وأَوْجَفَها صاحُبَها. قال الله تعالى: {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أَى ما أَعْمَلْتم.
وقال الأَزهرىّ: اسْتَوْجَف الحُبّ فؤادَه: إِذا ذَهَب به، وأَنشد لأَبِى نُخْيَلَةَ:
ولَكِنّ هذَا القَلْبَ قَلْبٌ مُضَلَّلٌ ... هَفا هَفْوَةً فاسْتَوْجَفَتْه المَقادرُ
ويُرْوَى بالخاءِ المعجمة، والمعنَى واحدٌ.(5/168)
بصيرة فى وحد
الوَحْدَةُ: الانْفِرادُ. والواحِدُ: أَوَّلُ العَدَدِ، والجمع: وُحْدان وأُحْدَان، ويُرْوَى بالوجهين بيت قُرَيْط بن أُنَيْف العَنْبَرِىّ:
قَوْمٌ إِذا الشَرُّ أَبْدَى ناجِذَيْه لهم ... طارُوا إِليه زُرافاتٍ ووُحْدانا
مثلُ شابٍّ وشُبَّان، ورَاع ورُعْيان. قال الفرّاءُ: أَنتم حَىٌّ واحِدُون، يقال منه: وَحِدَ يَحِدُ وُحُوداً ووُحُودَةً وَوَحْداً ووُحْدَةً وحِدَةً. وقوله تعالى {إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أَى بخصلة واحدة، وهى هذه: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} ، وقيل: معناه أَعِظُكم بَوحْدَانيّة الله تعالى، أَى بأَن تُوَحِّدوا الله. وقولُه تعالى. {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} ولم يَقُل كواحدة لأَنّ أَحداً نَفْىٌ عامٌّ للمذكّر والمؤنَّث، والواحد والجمع.
ومن صفات الله تعالَى الواحِدُ الأَحَدُ. قال الأَزهرىّ: الفرقُ بينهما أَنَّ الأَحدَ بُنِىَ لنَفْىٍ ما يُذْكَر معه من العَدَد؛ والواحد مُفْتَتَح العَدَد، تقول: ما أَتانى منهم [أَحَدٌ] وجاءَنى منهم واحدٌ. والواحِدُ بُنِى على انْقطاع النَّظِير وعَوَزِ المِثْلِ.(5/169)
وقولهم: رأَيته وَحْدَه منصوبٌ عند أَهلِ الكوفة على الظَّرْف، وعند أَهل البصرة على المصدر فى كلّ حال، كأَنك قلت أَوْحَدْتُه برؤيتى إيحاداً، أَى لم أَرَ غيره، ثم وَضَعْت وَحْدَه موضع هذا. وقال أَبو العباس: يحتمل وَجْهاً آخر وهو أَن يكون الرجلُ فى نفسه منفرداً كأَنَّك قلتَ رأَيت رجلاً منفرداً ثمّ وضعت وحده موضعه. وقال بعض البصريِّين هو منصوب على الحال. قال ابن الأَعرابىّ: يقال جَلَس على وَحْدِه وَجَلَسَا على وَحْدِهما، وجَلَسَا على وَحْدَيْهما كما يقال جَلَس وَحْدَه وَجَلَسا وَحْدَهُما.
ورجلٌ وَحَدٌ، ووَحِدٌ، ووَحِيدٌ: مُنفرِدٌ.
والوَحْدانِيَّةُ: الفَرْدانِيَّة.
ووَحِدَ الرّجلُ - بالكسر - ووَحُد - بالضمّ -، أَى بقى وَحْدَه. وأَوْحَدْتُه برؤيتى، أَى لم أَر غَيرَه.
وقال أَبو القاسم الرّاغب: [الواحِد] فى الحقيقة هو الشىء الَّذى لاجُزْءَ له البتَّة، ثمَّ يُطْلق على كلِّ موجودٍ، حتَّى إِنَّه ما من عَدَد إِلاَّ ويَصحُّ وصفُه به، فيقال: عشرةٌ واحدةٌ، ومائةٌ واحدةٌ. فالواحد لفظ مُشْتَركٌ يُستعمل على سِتَّة أَوجه:(5/170)
الأَوّل: ما كان واحداً فى الجِنْس أَو فى النَّوْع كقولنا: الإِنسان والفَرَسُ واحدٌ فى الجنس، وزَيْدٌ/ وعَمْرٌو واحدٌ فى النَّوْع.
الثَّانى: ما كان واحداً بالاتَّصال إِمّا من حَيْثُ الخِلْقَةُ، كقولك: شخصٌ واحدٌ، وإِمّا من حيثُ الصّناعةُ كقولك: حرفةٌ واحدةٌ.
الثالث: ما كان واحداً لِعَدَم نَظيره، إِمّا فى الخلْقَة كقولك: الشمسُ واحدة، وإِمّا فى دَعْوَى الفضيلة، كقولك: فلانٌ واحِدُ دَهْرِه، وكَقُولِك نَسِيجُ وَحْدِه.
الرابعُ: ما كان واحداً لامْتِناع التَجَزِّى فيه إِمّا لصِغَره كالهَباءِ، وإِمّا لصَلابَته كالأَلْماس.
الخامس: للمبدإِ، إِمَّا لمَبْدَإِ العَدَد كقولك واحدٌ اثْنان، وإِمَّا لمبدإِ الخَطّ كقولك: النُقطةُ الواحدةُ، والوَحْدَة فى كُلِّها عارِضَةٌ.
وإِذا وُصِف الله عزَّ وجلّ بالواحِد فمعناهُ هو الذى لا يصحّ عليه التَجَزِّى ولا التَكَثُّر، ولصُعُوبة هذه الوَحْدَة قال الله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} الآية.
والتَّوحيد الحقيقىّ الَّذى هو سببُ النَّجاة ومادَّة السّعادة فى الدّار الآخرة ما بيَّنه الله تعالى وهَدانا فى كتابه العزيز بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إلاه إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم *(5/171)
إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} والقوم دائرون فى تفسيره بين حَكَمَ وقَضَى، وأَخْبَر وأَعْلَم، وبَيَّن وعَرَفَ.
والتَّوْحِيدُ تَوْحِيدان: تَوْحِيد الرُّبوبيّة، وتَوْحيد الإِلهِيّةِ، فصاحبُ توحيدِ الرُّبوبيّة يشهد قَيُّومِيَّة الربّ فوقَ عَرْشه يدبِّر أَمَر عِباده وَحْدَه، فلا خالِقَ ولارازق، ولامُعْطِىَ ولامانعَ ولامُميت ولامُحْيِىَ ولامُدَبِّر لأَمرِ المملكة ظاهراً وباطناً غيرُهُ، فما شاءَ كان، وما لم يشأْ لم يكن، ولا تتحرّك ذَرّةٌ إِلاَّ بإِذنه، ولا يجرِى حادثٌ إِلاَّ بمشيئته، ولا تسقُط ورقةٌ إِلاَّ بِعلْمه، ولا يَعْزُب عنه مِثْقَالُ ذَرَّة فى السَّمَاوات ولا فى الأَرْض ولا أَصْغَرُ من ذلك ولا أَكبَر إِلاَّ وقد أَحصاها عِلْمُه وأَحاطَتْ بها قُدْرَتُه، ونَفَذت فيها مشيئتُه، واقتضتها حِكْمَتُه.
وأَمَّا توحيدُ الإِلهية فهو أَن يجمع هَمَّهُ وقلبَهُ وعَزْمَه وإِرادتَه وحركاتِه على أَداءِ حقٍّه والقيام بعُبودِيَّتِه، وأَنشد صاحبُ المنازل أَبياتاً ثلاثة ختم بها كتابه ولا أَدرِى هل هى له أَو لغيره:
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ ... إِذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جاحدُ
تَوْحيدُ من ينطق عن نعته ... عارِيَّةٌ أَبْطَلَها الواحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُه ... ونَعْتُ من يَنْعَتُه لاحِدُ
وظاهر معناه أَنَّ ما وحَّد الله عزَّ وجلَّ أَحدٌ سواهُ، وكلّ من أَحَّدَه(5/172)
فهو جاحِدٌ لحقيقة تَوْحِيده، فإِنَّ توحيدَه يتضمّن شُهودَ ذاتِ المُوَحّد وفِعْله، وما قام به من التوحيد وشُهودِ ذات الواحِد وانفرادِه، وتلك بخلاف تَوْحيده لنَفْسه، فإِنَّه يكون هو الموحِّد والموحَّد، والتَّوحيد صِفَتُه وكلامُه القائم، فما ثَمّ غيره فلا اثنينيّة ولا تعدّد. وأَيضاً فمَنْ وَحَّده من خَلْقه فلا بدّ أَنْ يصفَه بصفة، وذلك يتضمّن جَحْدَ حَقِّه الذى هو عدم انصحارِه تحت الأَوصاف، فمَنْ وصفَ فقد جَحد إِطلاقَه من قُيود الصّفات. وقوله:
توحيد مَنْ ينطق عن نَعْته ... عاريّة أَبطلها الواحدُ
يعنى توحيد الناطقين عنه عاريّة مردودة، كما تُستردُّ العَوارِى، إِشارة إِلى أَنَّ توحيدهم ليس مِلْكاً لهم، بل الحقُّ أَعارهم إِيّاه كما يُعِير المعيرُ متاعَه لغيره ينتفع به. وقوله: أَبطلها الواحد، أَى الواحد/ المطلق من كلّ الوجُوه وَحْدَتُه يُبطل هذه العارة. وقوله:
تَوْحِيدُه إِيّاه تَوْحِيدُه
يعنى توحيدُه الحقيقىّ هو تَوْحيدٌ لنَفْسه بَنفْسه من غير أَثَرٍ للسِّوَى بوجه، بل لا سِوَى هناك. وقوله:
ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحِدُ
أَى نعتُ الناعِت له إِلْحاد، أَى عدولٌ عمّا يستحقُّه من كَمال التوحيد، فإِنَّه أَسند إِلى نزاهة الحَقِّ ما لا يَليق إِسناده.
وحاصل كلامه، وأَحسن ما يحمل عليه: أَنَّ الفَناءَ فى شُهود الأَزليّة(5/173)
والحُكم يَمْحُو شُهودَ العبدِ لنفسه وصفاته فضلاً عن شهود غيره، فلا يشهدُ موجوداً فاعلاً على الحقيقة إِلاَّ الله وحده، وفى هذا الشهود تفنى الرّسوم كلُّها، فيمحق هذا الشهودُ من القلب كلَّ ما سوى الحقِّ، إِلاَّ أَنَّه يمحقه من الوجود، وحينئذ يشهد أَنَّ التوحيدَ الحقيقىّ غيرَ المستعارِ هو توحيد الربّ تعالى نفسه، وتوحيد غيره له عاريّة محضة أَعاره إِياها مالك الملوك، والعوارِىُّ مردودة إِلى من تُرَدّ إِليه الأُمور كلَّها، {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} . قال العارفُ عبد الله بن المعمار:
السِرُّ أَنْ تُنْظُرَ الأَشياءُ أَجْمَعُها ... ويُعْرِفَ الواحدُ النَّاشِى به العَددُ
فذاكَ تَوْحِيدُه فى واحِدِيَّته ... وفَوْقَ ذاكَ مقامٌ إِسْمُه الأَحَدُ(5/174)
بصيرة فى وحش
الوَحْشُ والوَحِيشُ واحد، قال أَبو النَّجْم:
أَمْسَى يَباباً والنَّعامُ نَعَمُهْ ... قَفْراً وآجَالُ الوَحِيشِ غَنَمُه
وقيل: وَحْشٌ ووَحِيشٌ كضَأْنٍ وضَئين، ومَعْز ومَعِيز، وكَلْب وكَلِيب، والجمع: الوُحوشُ والوُحْشانُ. وقيل: واحدُ الوَحْش وَحْشىٌّ، كزَنْج وزَنْجىّ، ورُومٍ ورومىّ، وهو حَيوانُ البَرِّ، قال النابغةُ الذّبيانىّ:
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ موشىّ أَكارِعُهُ ... طاوِى المَصِير كسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفرد
وقال الله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} .
والمَكان الذى لا إِنْسَ فيه: وَحْشٌ. [و] بَلَدٌ وَحْشٌ، أَى قَفْرٌ.
ولَقِيتُه بَوْحِشِ إِصْمِتْ، أَى ببلدٍ قَفْرٍ. ورجلٌ وَحْشانُ: مُغَتَمٌّ، والجمع: وَحاشَى كسَكْران وسَكارى، ومنه الحديث: "لا تَحْقِرَنَّ شيئاً ولَوْ أَنْ تُؤنِسَ الوَحْشان".(5/175)
وأَوْحَشْتُ الأَرضَ وجدتُها وَحِشَةً.
وأَوْحَشَ: جاعَ أَوْ نَفِدَ زادُه.
ووَحَّش تَوْحيشاً: رَمَى بِثَوْبِه وسِلاحِه مخافة أَنْ يُلَحْقَ، مثل وَحَشَ وَحْشاً. وكان بين الأَوْس والخَزْرَجِ قِتالٌ فجاءَ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما رآهم نادَى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} حتَّى فرغَ من الآيات، فَوَحَّشُوا بأَسْلِحَتِهم واعْتَنَق بعضُهم بعضاً".(5/176)
بصيرة فى وحى
الوَحْىُ: ما يقعُ به الإِشارةُ القائمة مقامَ العِبارة من غير عبارَة، فإِنَّ العِبارةَ يجوزُ منها إِلى المعنى المقصود بها، ولذا سُمِيّت عِبارةً، بخلاف الإِشارة الَّتى هى الوحى فإِنها ذاتُ المُشار إليه، والوَحْىُ هو المفهومُ الأَوّل، والإِفهام الأَوّل، ولاتعجب من أَن يكون عين الفهم عين الإِفهام عين المفهوم منه، فإِن لم تحصل لك هذه النكتة فلست بصاحبِ وَحْىٍ، أَلا تَرى أَنَّ الوَحْىَ هو السُّرْعة، ولاسُرْعَة أَسْرَعُ ممّا ذكرنا. فهذا الضَّرب من الكلام يُسمَّى وَحْياً، ولما كان بهذه المَثابة وأَنَّه تَجَلٍّ ذاتٌّى، لهذا ورد فى الحديث الذى رَواه ابن حبّان فى صحيحه وغيره "أَنَّ الله إِذا تَكَلَّم بالوَحْىِ سَمع أَهلُ السّماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ/ السِلْسِلَة على الصّفاة فيَصْعَقُون، فلا يزالون كذلك حَتَّى يأَتيَهم جبريل، فإِذا جاءَهم فُزِّع عن قُلُوبهم فيقولون: يا جبريل ماذا قال رَبُّك فيقولُ: الحَقّ: فيُنادُون الحقَّ وهو العَلّىِ الكبير" [وما سَأَلت الملائكة] عن هذه الحقيقة [وإنما عن] السبب من حيث هُوِيَّته.
فالوحى: ما يسرع أَثره من كلام الحق فى نفس السّامع، ولا يَعْرف هذا إِلا العارِفُون بالشؤون الإِلهيَّةِ فإِنَّها عَيْنُ الوحى الإِلهىّ فى العالَم وهم لا يشعرون. فافْهَم.(5/177)
وقد يكون الوَحْىُ إِسراع الروح الإِلهىّ بالإِيمان بما يقع به الإِخبار والمفطور عليه كلُّ شىء ممّا لا كَسْبَ فيه من الوحى أَيضاً، كالمولود يَلْتَقِمُ ثَدْىَ أُمّه، ذلك من أَثر الوحى الإِلهىّ إِليه كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولاكن لاَّ تُبْصِرُونَ} ، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} . وقال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} فلولا أَنَّها فَهِمَت من الله وَحْيَه لما صَدَر منها ما صَدَر، ولهذا لا تُتَصورّ معه المخالفةُ إِذا كان الكلامُ وَحْياً، فإِن سلطانَه أَقوَى من أَن يُقاوَم، {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} ، ولذا فَعَلَت ولم تخالِف، والحالة تُؤذن بالهَلاك ولم تُخالِف ولا تَرَدَّدت، ولا حَكَمت عليها البَشَرِيَّة بأَن هذا من أَخطر الأَشياءِ، فدلَّ على أَنَّ الوحىَ أَقْوَى سلطاناً فى نفس المُوحَى إِليه من طبْعه الذى هو عين نَفْسِه، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} وحَبْلُ الوَرِيد من ذاتهِ. فإذا زعمت ياوَلِىُّ بأَنَّ الله أَوحَى إِليك فانظر نَفْسك فى التردُّد والمُخالَفة، فإِن وجدت لذلك أَثر تَدْبِيرٍ أَوْ تَفْضِيلٍ أَو تَفكُّرٍ فلستَ بصاحبِ وَحْىٍ، فإِن حكم عليك وأَعماكَ وأَصَمَّك وحال بَيْنَكَ وبين فِكْرِك وتَدْبِيرك وأَمضى حكمَهُ فيك، فذلك هو الوَحْى، وأَنت عند ذلك صاحب وَحْىٍ،(5/178)
وعَلِمْتَ عند ذلك أَنَّ رِفْعَتك وعُلُوَّ مرتبتك أَنْ تَلْحَقَ بمن يقول إِنَّه دونك من حيوانِ أَو نبات أَو جماد، فإِن كلّ شىءٍ مفطورٌ على العِلْم بالله إِلاَّ مجموع الإِنس والجانِّ، فإِنَّه من حيث تَفْصِيلُه مُنطوٍ على العلم بالله كسائر ماسِواهُما من المخلوقات من مَلَكٍ وحيوان ونبات وجَماد، فما من شىءٍ فيه من شَعْرٍ وجِلْدٍ ولَحْم وعَصَبٍ ودَمٍ ورُوح ونَفَسٍ وظُفُرٍ ونابٍ إِلاَّ وهو عالم بالله، حتَّى ينظر ويفكِّر ويرجع إِلى نفسه فيَعْلَم أَنَّ له صانعاً صَنَعه وخالِقاً خَلَقَه، فلو أَسمعه الله نُطْق جِلْدِه أَو يَدهِ أَو لسانِه أَو عَيْنِه لَسَمِعه ناطقاً بمعرفته بربّه، مُسَبِّحاً لجلالهِ، مُقَدِّسا لِجَماله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} الآية {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ} ، {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} . فالإِنسان من حيث تَفْصيِلُه عالمٌ بالله، ومن حيث جُمْلَتُه جاهِلٌ بالله حتَّى يتعَلَّم، أَى يَعْلَم بما فى تَفْصِيله، فهو العالم الجاهلُ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} .
قال أَبو القاسم الأَصْفهانىّ: الوَحْىُ: الإِشارَةُ السَّرِيعة، ولِتَضَمُّن السُّرْعَة قيل: أَمرٌ وَحِىٌّ، وذلك يكونُ بالكلام على سَبيل الرمْزِ أَو التَعْرِيض. وقد يكون بصَوْت مُجَرَّد عن التركيب، وبإِشارةٍ ببعضِ الجوارح وبالكِتابة، وقد حُمِلَ على كل ذلك قولُه/ تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ(5/179)
أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فقد قيل: رَمَزَ وقيل: أَشارَ، وقيل: كَتَبَ. وحُمِل على هذه الوُجوه أَيضاً قولُه تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} ، وقوله: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} فذلك بالوَسْواس المشار إِليه بقوله: {مِن شَرِّ الوسواس الخناس} وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ للشَّيْطان لَمَّةً" الحديث.
ويُقالُ للكلمة الإِلهيّةِ الَّتى تُلْقَى [إِلى] أَنْبِيائه وأَوْلِيائه وَحْىٌ، وذلك أَضْرُبٌ حَسْبَ ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} وذلك إِمّا برَسُولٍ مشاهَدٍ تُرَى ذاتُه ويُسْمَعُ كلامُه كتَبْليغ جبريلَ عليه السّلامُ للنبىِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فى صُورةٍ مُعَيَّنة، وإِمّا بسَماع كلامٍ من غير مُعايَنَةٍ كسَماع مُوسَى عليه السّلامَ كلامَ الله تعالى، وإِمّا بإِلقاءٍ فى الرُّوْع كما ذَكَرَ صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فى رُوْعِى"، وإِمّا بإِلْهامٍ نحو قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ، وإِمَّا بتَسْخِير نحو قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} ، وإِمّا بمَنامٍ كما قال صلىَّ الله عليه وسلم: "لم يَبْقَ من النُبُوَّة إِلاَّ المُبشِّرات". فالإِلهام(5/180)
والتَّسخير والمَنام دلَّ عليه قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْياً} ، وسَماعُ الكلام من غير مُعَاينة دلَّ عليه: {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ، وتَبْليغُ جبريل عليه السّلام فى صورة معيّنة دلَّ عليه: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، فذلك ذمّ لمن يدَّعِى شيئاً من أَنواع ما ذكرنا من الوَحْى، أَىّ نوعٍ ادَّعاه من غير أَنْ حَصَلَ له.
وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ} فهذا الوَحْىُ هو عامٌّ فى جميع أَنواعِه، وذلك أَنَّ معرفةَ وَحْدانيّةِ الله تعالى، ومعرفةَ وُجوب عبادتِه ليست مقصورةً على الوَحْىِ المختصّ بأُولِى العَزْم من الرّسل بل ذلك يُعْرف بالعقل والإِلهام، كما يعرف بالسّمع، فإِذاً القصدُ من الآية تنبيهٌ أَنَّه من المُحالِ أَن يكون رسولٌ لا يَعرِف وَحْدانيّة الله تعالى ووُجوبَ عبادتهِ.
وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} فذلك وَحْىٌ بوَساطة عيسى عليه السّلام. وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} فذلك وَحْىٌ إِلى الأُمم بوَساطة الأَنبياءِ عليهم السّلام.
ومن الوَحْى المختصّ بالنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ(5/181)
مِن رَّبِّكَ} . وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ} فوحْيُه إِلى موسَى بِوسَاطة جبريل، وإِلى هارون بوَساطة مُوسَى عليه السّلام.
وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} فذلك وَحْىٌ إِليهم بوسَاطة اللَّوح والقَلَم فيما قيل.
وقولُه: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} فإِن كان الوَحْىُ إِلى أَهل السماءِ فقط فُالمُوحَى إِليه مَحْذوفٌ ذِكْره كأَنَّه قال: أَوْحَى إِلى الملائكة، لأَنَّ أَهل السّماءِ هم الملائكة، ويكون كقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة} ، وإِن كان المُوحَى إِليه هى السَّماوَات فذلك تسخيرٌ عند من يجعل السّماءَ غير حَىٍّ، ونُطْقٌ عند من يجعله حَيّاً.
وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} قريبٌ من الأَوّل.
وقوله: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} فحَثٌّ له على التثبتِ فى السّماع، وعلى تَرْك الاسِتعْجال فى تَلَقِّيه وتَلَقُّنه.(5/182)
بصيرة فى ود
تقول: وَدِدْتُ لو تَفْعَل ذاكَ، ووَدَدْتُ لو أَنَّك تفعل/ ذاك، أَوَدُّ وَدّاً ووُدّاً. وَوَدَاداً ووَدَادَةً بالفتح فيهما، أَى تمنَّيْت ومنه قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} أَى يتمنَّى، قال:
وَدِدْتُ ودادَةً لو أَنَّ حَظِّى ... من الخُلاَّنِ أَلاَّ يَصْرِمُونِى
وَدِدْتُ الرّجلَ أَوَدُّه وُدّاً ومَوَدَّة ومَوْدِدَةً، عن الفرّاءِ، بإِظهار التَّضْعِيف [و] قال: وَدَدْتُه أَوَدُّه مثال وَضعْتُه أَضَعُهُ لغة فيها، وأَنكرها البصريّون قال العجّاج:
إِنَّ بَنِىَّ لِلَّئام زَهَدَهْ ... لا يَجدُون لِصَدِيق مَوْدِدَهْ
وقوله تعالى: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أَى بالكُتُب. وقولُه عزَّ وجلّ {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أَى وَدَّ المُنافٍِقون ما عَنِتَ المؤمنون فى دِينِهم. وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمان وُدّاً} ، قال ابنُ عبّاسِ رضى الله عنهما: أَى مَحَبَّةً فى قلوبِ الناس. وقال عُثمان بنُ عفَّان رضى الله عنه: "ما أَحَدٌ(5/183)
من الناسِ يعملُ خيراً أَو شَرّاً إِلاَّ وَدّ أَنَ الله يُرِى عَمَلَه"، يعنى أَنَّه يُظْهِر ذلك عليه فيجعله لِباساً له فيُعرَف به.
والوِدُّ بالكسر والوَدِيدُ واحدٌ والجمع أوُدّ، مِثالِ قِدْحٍ وأَقْدُح وذِئْبٍ وأَذْؤْبِ، وهنم أَوِدّاءُ.
والوَدُودُ: المُحِبّ. ورجالٌ وُدَدَاءُ. والوَدُودُ فى صفاتِ الله تعالى، قال ابن الأَنْبَارِىّ: هو المُحِبُّ لِعباده. ويستوى فى الوَدُود المذكَّرُ والمؤنَّث لكَوْنه وَصْفاً داخلاً على وَصْف للمُبالغة.
والتَوَدُّد: التَحَبُّبُ. والتَوادُّ: التَحابُّ، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} إِشارة إِلى ما أَوْقَع بينهم من الأُلْفَة المذكورة فى قوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولاكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . ومن المَوَدّة الَّتى هى المحبَّة المجرَّدة قولُه تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} .
قال أَبو القاسم الراغب فى قوله تعالى: {وَهُوَ الغفور الودود} : الوَدُودُ يتضمَّن ما دَخَل فى قوله {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقد تقدّم معنى مَحبَّةِ الله تعالى لعباده ومَحَبَّةِ العِباد له فى بصيرة الحُبّ. وقال بعضُهم: محبَّة الله لِعباده هى مُراعاتُه لَهُم، رُوِىَ أَنَّ الله تعالى قال لِمُوَسى عليه السّلام: "أَنا لا أَغْفَلُ عن الصَّغِير لِصِغَرِه، ولاعن الكَبِيرِ لِكِبَرِهِ، فأَنا الوَدُودُ الشَّكُور". ويصحَّ أَن يكون، معنى(5/184)
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمان وُدّاً} معنى قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} .
ومن المَودَّة التى تقتضى معنى التمنى قوله تعالى: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} .
وقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} نَهْىٌ عن مُوالاة الكُفَّار ومُظاهَرَتِهم كقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أَى بأَسْباب المَحبَّة من النَّصيحة ونحوها، وتقدّم عن بعضهم تفسيرُه بالكُتُبِ.
والوُدّ بالضمّ وبالفتح: اسمُ صَنَم كان لقومِ نُوح عليه السلام، ثم صار لكَلْب، وكان بدُومَة الجَنْدل، ومنه سُمِّىَ عَبْدُ وُدٍّ. وقرأَ أَبو جعفرٍ ونافعٌ {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً} بالضمّ، والباقون بالفتح.
والوَدّ: الوَتِدُ.(5/185)
بصيرة فى ودع
المادّة تدلُّ على التَّرْك والتَخْلِيَة. وَدُعَ الرجلُ فهو وَدِيعٌ ووادِعٌ، أَى ساكنٌ، مثلُ حَمُضَ فهو حامِضٌ، يُقال: نالَ المكارِمَ وادعاً، أَى من غير كُلْفَةِ ومَشَقَّة. وعليك بالمَوْدُوع أَى بالسَّكينة والوَقار. ووَدَّعْتُ فلاناً تَوْدِيعاً من وَداع السَّلام.
والدَّعَةُ: الخَفْضُ والرّاحةُ، والهاءُ عِوَضٌ من الواو، وقال:
لا يَمْعَنَّك خَفْضَ العَيْشِ فى دَعَةٍ ... نُزُوعُ نَفْسٍ إِلى أَهْلٍ وأَوْطانِ
تَلْقَى بكُلِّ بِلادٍ إِنْ حَلَلْتَ بها ... أَهْلاً بأَهْلٍ وجِيراناً بجيرانِ
والوَداعُ: اسمٌ من التَّوْدِيع، قال القَطامىّ:
قِفِى قَبْلَ التَفَرُّق يا ضُباعَا ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنكِ الوَداعَا
أَراد ولايَكُنْ مِنكِ مَوْقِف الوَداعِ، ولكن لِيَكُنْ مَوْقِف غِبْطَةٍ وإِقامة، لأَنَّ موقفَ الوَدع يكون للفِراق، ويكون مُنَغَّصاً بما يَتْلُوه من التَبارِيحِ والشَّوْق.
وقولُهم: دَعْ ذَا، أَى اتْرُكْه، وأَصلهُ وَدَعَ يَدَعُ، ومنه قولُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "دَعْ ما يَريبك". قال عَمْرُو بن مَعْدِيكرب:(5/186)
إِذا لم تَسْتَطِعُ أَمراً فدَعْهُ ... وجاوِزْهُ إِلى ما تَسْتَطيعُ
قال اللغويون: أُمِيتَ ماضِيهِ، لا يُقال: وَدَعَهُ إِنَّما يُقال تَركَه ولا وادِعٌ ولكن تَارِكٌ. قالوا: ورُبَّما [جاءَ] فى ضرورة الشِّعر وَدَعَه وهو مَوْدُوع على أَصْلِه، قال أَنَسُ بن زُنَيْم:
لَيْتَ شِعْرِى عن خَلِيلِى ما الَّذى ... غالَهُ فى الوَعْدِ حَتَّى وَدَعَه
وقال سُوَيْدُ بن أَبى كاهِل اليَشْكُرِىّ يصفُ نَفْسه:
وَرِثَ البِغْضَة عن آبائه ... حافِظُ العَقْلِ لِما كان اسْتَمَعْ
فَسَعَى مَسْعاتَهُم فى قَوْمهِ ... ثمّ لم يَظْفَرْ ولا عَجْزاً وَدَعْ
وقال آخر:
وكانَ ما قَدَّمُوا لأَنْفُسِهم ... أَكْثر نَفْعاً من الَّذِى وَدَعُوا
وقد اختارَ النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَصلَ هذه اللغة فيما رَوَى عنه ابنُ عبّاسٍ رضى الله عنهما أَنَّه قرأَ: {ما وَدَّعَك رَبُّكَ وما قلىَ} بتخفيف الدَّال، وكذلك قرأَ بهذه القِراءَة عُرْوة ومُقاتل وأَبو حَيْوَةَ، وأَبو البَرَهْسَم وابنُ أَبِى عَيْلَةَ ويَزِيدُ النَّحْوَىّ. وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقوامٌ عن وَدْعِهِم الجُمُعات أَوْ لَيَخْتِمَنَّ الله على(5/187)
قُلُوبهم ثمّ لَيكُونُنَّ من الغافِلين"، وقرأَ الباقون ما وَدَّعك بالتشديد، أَى ما تَرَكك من اخْتارَك، ولا أَبْغَضَك منذ أَحَبَّك. وفى الحديث: "إِذا لم يُنْكِرِ الناسُ المُنْكَرَ فقد تُوُدِّع منهم" أَى أُسْلِمُوا إِلى ما استحقُّوه من المنكر عليهم، وتُرِكُوا [و] ما استَحبُّوه من المَعاصى حتى يُكْثِرُوا منها فيَستوجِبُوا العقوبةَ.
وفى الحديث: "دَعْ داعِىَ اللَّبَن" أَى اتركْ منه فى الضَرْع شيئا يَسْتَنْزِلُ اللَّبَنَ.
ووادَعَ بَنِى فُلان: صالَحَهُم.
والتَّوْديع عند الرّحيل معروفٌ، وهو تخليف المسافِرِ الناسَ خافِضين وادِعين، وهم يُوَدِّعُونَه إِذا سافَر تَفاؤلاً بالدَّعَة التى يصير إِليها إِذا قَفَل، أَى يتركونه وَسَفَره، قال الأَعشى:
ودِّعْ هُرَيْرَة إِنَ الرَكْبَ مُرْتَحِلْ ... وهَلْ يُطِيقُ وَداعاً أَيّها الرّجُلُ
واستَوْدَعْتُه وَديعَةً: استْحْفَظْتُه إِيّاها قال:
اسْتُودِع العلْمَ قرطَاسٌ فضَيَّعَه ... فِبئْسَ مستودَعُ العِلْم القَراطيسُ(5/188)
وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أَى مستودَعٌ فى الصلب فى وقيل فى الثَّرَى.
والمُسْتَوْدَعُ فى قول عبّاس بن عبد المطَّلب رضى الله عنه:
مِنْ قَبْلِها طِيبَ فى الظِّلال وفىِ ... مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ
المكانُ الذى جُعِلَ فيه آدم وحَوّاءُ عليهما السلام من الجنَّة واستُودعاهُ، وقيل: الرَّحمُ.(5/189)
بصيرة فى ودق
الوَدْقُ: المَطَرُ، قال الله تعالى: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} وقد وَدَقَ يَدِقُ وَدْقاً، أَى قَطَرَ قال عامر بن جُوَيْن الطَّائىّ:
فلا مُزْنَة وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... ولا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقالَهَا
هكذا أَنشده سيبويه، وفى شعره: ولا رَوْضَ فلا يحتاج إِلى تأَويل. وذاتُ وَدْقَيْن: الدّاهيَة، قال علىُّ بن أَبى طالب رَضىَ الله عنه:
تلْكُم قُرَيْشٌ تَمَنَّانِى لِتَقْتُلَنِى ... فلا وَرَبِّك ما بَرُّوا ولا ظَفِرُوا
فإِن هَلَكْتُ فرهنٌ ذِمَّتِى لَهُمُ ... بذات وَدْقَيْنِ لا يَعْفُوا لها أَثَرُ
قال المازنىّ: لم يصحّ أَنَّ عليّاً تكلَّم بشىءٍ من الشعر [غير] هذين البيتين، ويروى بذات رَوْقَين أَى ذات قَرْنَيْن.
وأَوْدَقَت السّماءُ: جاءَت بوَدْق مثل وَدَقَتْ، وقال غيرُه: وَدَقَت ذاتُ الحافِر ووَدَّقَتْ واسْتَوْدَقَت: اشتهَتِ الفَحْلَ.
ووَدَقْتُ بِه وَدْقاً: اسْتَأَنْسَتُ بِهِ.
والوَدِيقَةُ: شِدَّةُ الحَرِّ، قال رَبِيعَة بن مَقْرُوم.(5/190)
كَلَّفْتُها فرأَتْ حَقّاً تَكَلُّفَهُ ... وَدِيقَةً كأَجِيج النار صَيُخودا
وقال أَبو المُثَلَّمِ الهُذَلّى يرثى صَخْرَ الغَىِّ:
حامى الحَقِيقَة نَسّالُ الوَدِيقَةِ مِعْـ ... تَاقُ الوَسِيقَةِ جَلْدٌ غَيْرُ ثُنْيان
وقيل: الوَدْق شىءٌ يكون خِلالَ المَطَر كأَنَّه غُبارٌ، لكن قد يُعَبَّر به عن المَطَر.(5/191)
بصيرة فى ودى ووذر
الدِّيَةُ بالكسر: حَقُّ القَتِيل. ووَداهُ كوَعاهُ: أَعْطَى دِيَتَه. قال الله تعالى: {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} .
والوَادِى: كلَّ مَفْرَج بَيْنَ جِبال أَوْ تِلال أَوْ آكام. وكلُّ مَسيلِ ماءٍ وادٍ، والجمعُ. أَوْداءٌ وأَوْدِيَة، وأَوْداةٌ، وأَوْدايَةٌ. قال تعالى: {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} وهو وادٍ بجانبِ الطُّور من الأَرض المقدَّسة.
[و] يقال: أَنا فى وادٍ وأَنت فى وادٍ. وفلانٌ فى وادٍ غير واديكَ، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أَى من أَوْدِيَة الكَلامِ.
والوَدَى كفَتىً: الهَلاكُ. وكغَنِىٍّ: صِغارُ الفَسِيل، الواحدة وَدِيَّة.(5/192)
وأَوْدَى: هَلَكَ، وتَكَفَّرَ بالسَّلاح وبه المَوْتُ: ذهَبَ به. واسْتَوْدَى بحَقِّى: أَقَرَّ به، وفى الحديث الصّحيح: "لَوْ كان لابْنِ آدَمَ وادِيانِ من مالِ، ويُرْوَى من ذَهَب، ويُرْوَى من نَخْلٍ، لابْتَغَى إِليهما ثالثاً".
والمُودِى: الأَسَدُ.
وذَرْه أَى دَعْهُ، وهو يَذْرُه أَى يَدَعُه. والأَصل وَذِرَهُ يذَرُه مثالُ وَسِعَهُ يَسَعُه، ولكن قد أُمِيتَ مَصْدرُه [والفعل الماضى] ، فلا يُقال وَذِرَهُ ولا واذِرٌ استَغْنَوْا عنهما بَتركَه وتارِك.
وَذَّرْت اللحمَ تَوْذِيراً: قَطَّعْتُه، والجُرْحَ: شَرَّطْتُه. قال الله تعالى {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} وقال تعالى {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} .
والوَذْرَةُ: قطعةٌ من اللحم، سمّيت بذلك لِقلَّة الاعْتِداد بها، والجمع: وَذْرٌ كتَمْرَة وتَمْر.
ومِنْ سَبّ العرب: يا ابْنَ شامَّةِ الوَذْرَة.(5/193)
بصيرة فى ورث وورد
وَرِثْتُ أَبى، ووَرِثْتُ المالَ من أَبِى، أَرِثُه بالكسر فيهما، وِرْثاً ووِرَاثَةً، وإِرْثاً، الأَلف منقلبةٌ عن الواو، ورِثَةً كَعِدَة الهاء عوضٌ عن الواو، وإِنَّما سقطت الواو من المستقبل لوُقوعها بين ياءٍ وكَسْرَة وهما مُتجانِسان، والواوُ مُضادَّتُهما فحُذِفَت لاكْتنافهما إِيّاها، ثم جُعل حُكمهما مع الأَلف والياءِ والنون كذلك لأَنهِنّ مبدلات منها، والياءُ هى الأَصل، يدلُّ على ذلك أَنَّ فَعِلت وفَعِلْنا وفَعِلْتَ مبنيّات على فَعِلَ، ولم تَسْقَط الواو من يَوْجَلُ لوُقوعِها بين ياء وفتحة، ولم تَسْقُط الياء من يَيْسَر لِتَقَوِّى إِحْدَى الياءَيْن بالأُخرى.
والميراث: أَصلهُ موْراثٌ صارت الواو ياءً لسكونها وكَسْرِ ما قَبْلها.
والوارِثُ فى أَسماءِ الله تعالى: الَّذى يَرِث الخَلائِق، ويَبْقَى بعد فَنائهم، لما رُوِى أَنَّه يُنادَى لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟ فيُقال: لِله الواحِدِ القَهَّار، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} وقال تعالى: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} ، وقال تعالى: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} وقال: / {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} . وكُلّ من حصل له شىءٌ من غير تعبٍ يقال فيه قد وَرِثَ كذا.
ويُقال لمن خُوّل شيئاً مُهَنِّئا: أُورِثَ، قال تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا} ، وقولُه: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ(5/194)
آلِ يَعْقُوبَ} فإِنه يُريد ورِاثة النُبُوَّة والعِلْم والفضيلة دُون المال، فالمال لا قَدْرَ له عند الأَنبياءِ عليهم السّلام حتى يَتَنافَسوا فيه، بل قَلَّما يَقْتَنُون المال وَيَتَمَلَّكُونَه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "نَحْنُ مَعاشرَ الأَنْبياءِ لا نُورَثُ ما تَرَكْناه صَدَقَة" وقيل أَيضاً: ما تركناه هو العِلْم وهو صَدَقَة تشتركُ فيها الأُمَّة. وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "العُلَماءُ وَرَثَةُ الأَنْبِياءِ" إِشارة إِلى ما وَرثُوه من العِلْم، وليس لَفْظ الوراثة إِلا لكون ذلك بغير ثَمَنٍ ولا مِنَّة. وقال صلَّى الله عليه وسلم لعلىّ: "أَنْتَ أَخِى ووَارثى. قال: وما أَرِثُك؟ قال: ما وَرَّثَت الأَنبياءُ قَبْلى، كِتاب الله وسُنَّتى".
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللَّهُمَّ مُتِّعْنَى بسَمْعِى وبَصَرى واجْعَلهما الوارِثَ مِنِّى أَى أَبْقهِما صحيحن سليمين إِلى أَن أَموت". وقيل: أَراد بَقاءَهما وقُوَّتَهما عند الكِبَرِ وانحلال القُوَى النَّفسانِيّة، فيكون السّمعُ والبصرُ وارثَىْ سائرِ القُوَى والباقِيَيْن بعدها. وقيل: أَراد بالسّمْع وَعْىَ ما يَسْمَعُ والعملَ به، وبالبصرِ الاعتبارَ بما يَرَى". وفى رواية: "واجعله الوارِثَ منّى" فردَّ الهاء إِلى الإِمتاع، فلذلك وَحَّدَه.
ويُقال: وَرِثْتُ من فلانِ عِلْماً، أَى استَفَدْت منه. قال تعالى:(5/195)
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وقال تعالى: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} . والوراثَةُ الحقيقية أَنْ يحصلَ للإِنسان شَىءٌ لا يكون عليه فِيه تَبِعةٌ ولا عليه مُحاسَبَةٌ. وعبادُ الله الصّالحون لا يتناولونُ شيئاً من الدُّنيا إِلاَّ مالا يُحاسَبُون عليه، فمَنْ حاسَب نَفْسَه فى الدّنيا لم يُحاسَبْ فى الآخرة.
الوَرْدُ: الَّذِى يُشَمُّ، الواحِدَة وَرْدَةٌ، وقوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} قال ابن عَرَفَة: سمعت أَحمد بن يَحْيىَ يقول: هي المُهْرَة تنقلب حمراءَ بعد أَنْ كانت صفراءَ. وقال الأَزهرىّ: أَى فصارتْ وَرْدَةً أَى كلَوْن الوَرْد تَتَلَوَّنُ أَلْواناً يومَ الفَزَع الأَكبر، كما تَتَلَوّن الدِّهانُ المختلفة، وهى جمع دُهن. وقيل: إِذا احمرّت السّماءُ كالوَرْد قامت القيامة.
وعَشِيَّةٌ وَرْدَةٌ: إِذا احمرَّ أُفُقها عِنْدَ غُروب الشمسِ وكذلك عند طُلُوعِها، وذلك عَلامةُ الجَدْب.
والوِرْدُ: خلاف الصَّدَرِ، والوِرْدُ أَيضاً: الوُرّادُ وهم الذين يَرِدُون الماءَ.
وقولُه تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال ابن عرفة: الوُرُود عند العرب مُوافاة المكانِ قبلَ دخوله، وقد يكون الوُرُود دُخولاً، ويبيّن ذلك حديث عائشة رضى الله عنها عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّه ليس(5/196)
بدخول، ويؤيّد ذلك القرآن، أَلاَ تَسمعُ قولَه: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولائك عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} وقولُه تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} أَى بلغه.
وقولُه: {ونحن أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} ، حبلُ الوَرِيد: عِرْقٌ يَزْعُم العربُ أَنَّه من الوَتِينِ/، وهُما وَرِيدان مُكْتَنِفا صَفْقَىِ العُنُقِ مِمَا يَلِى مَقَدَّمهُ غَليظان.
والمَوْرِدُ: الطَّرِيقُ، قال جرير يمدح هِشامَ بنَ عَبْدِ المَلِك:
أَمَيرُ المُؤمنين على صِراط ... إِذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مُسْتَقِيمِ
والمَوارد: الشَّوارِعُ. وقولُ أَبى بكرِ مشيراً إِلى لِسانِه: "إِن ذا أَوْرَدَنى المَوارد"، أَى موارِد الهَلَكاتِ فاختصر لوُضوحه.(5/197)
بصيرة فى ورق
الوَرِقُ، والِوَرْقُ مثال كَبِد وكِبْد وكَبْدِ: الدِّرْهم، هكذا قال الفرّاء، وزاد غيره: الوَرَقُ بفتحتين: والوُرْقُ بالضمّ. وقرأَ أَبو عَمْرٍو وأَبو بَكْرٍ وحَمْزَةُ وخَلَفٌ: {بِوَرْقِكم} بفتح الواو وسكون الراءِ، وعن أَبى عمرو أَيضاً وابن مُحَيْصِن: (بوِرْقِكم) بكسر الواوِ وسكون الراءِ، وقرأَ أَبو عبيدة: (بَوَرَقِكم) بفتح الواو والرّاءِ، وقرأَ أَبو بكر: (بوُرْقكم) بضمّ الواو وسُكون الرّاءِ.
والرِّقَةُ كِعدَة: الوَرِقُ أَيضا، والهاءُ عوضٌ من الواو، وفى الحديث "فى الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ" ويجْمع على رِقِين، مثل إِرَة وإِرين. ويقال: "إِنَّ الرِّقينَ تُعَطِّى أَفْنَ الأَفِين".
ورجلٌ وَرَّاقٌ: صاحبُ الدّراهم، ومنه قراءَة علىّ بن أَبى طالب رضى الله عنه {فابْعَثُوا أَحَدَكُم بَوَرَّاقكم} أَى بصاحب دراهمكم، قال جرير:(5/198)
جارِيةٌ من ساكِنى العِراق ... كَأَنَّها فى القُمُصِ الرِّقاقِ
مُخَّةُ ساق بين كَفَّى ناقِ ... تَأْكُل منِ كيسِ امْرِئ وَرّاقِ
[والوَرَقُ] من أَوراق الشجرِ والكِتاب الواحدة وَرَقَةٌ. وشجرةٌ وَريقَةٌ ووَرِقَةٌ: كثيرةُ الأَوْراق، قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} .
ووَرَّقَ الشجرُ: خَرَجَ وَرَقُه. والوارِقَةُ: الشجرةُ الخضراءُ الورَقِ الحسنة. ووَرَقْتُ الشجرةَ أَرِقُها: أَخذتُ وَرَقَها.
والوَرَقُ أَيضاً: المالُ من دَراهِمَ وإِبِل وغير ذلك، قال العَجّاج:
إِيّاكَ أَدْعُو فتَقبَّل مَلَقِى ... واغْفِرْ خَطاياىَ، وثَمِّرْ وَرَقى(5/199)
بصيرة فى ورى
وَرَى الزَّنْدُ كوَعَى، ووَرِىَ كوَلِىَ وَرْياً ووُرِيّاً وَرِيَةً، وهو وارٍ ووَرِىٌّ: خَرَجَتْ نارُهُ. وأَوْرَيْتُه واسْتَوْرَيْتُه قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} وأَصلُه من التَّوارِى وهو الاستِتارُ، كأَنَّما تُصُوِّر من خُروج النَّارِ من وَراءِ المُقْدَحِ اسِتتارُها فيه، كما قال:
كَكُمُون النار فى حَجَرِه
ووَاراهُ: أَخْفاه، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} . وتَوارَى: اخْتَفَى، قال تعالى: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} ووَرّاهُ توْرِيَةً: أَخْفاه، ومنه الحديث: "إِذا أَراد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم غَزَوْاً وَرَّى بغَيْرِه".
الوَرَى: الخَلْقُ. وقال الخليل بن أَحمد: الوَرَى: الأَنامُ الَّذِين هم على وَجْه الأَرِض فى الوَقْتِ، ليس مَنْ مَضَى ولا مَنْ يَتَناسلُ بعدَهم، فكأَنَّهم الذين يَسْتُرُون الأَرضَ بأَشْخاصِهم.
ووَراءُ ووَراءَ ووَراءِ مثلثة الآخر مبنِيّة. والوَراءُ معرفة يكون بمعنى خَلْف وبمعنى قُدّام، فمما هو بمعنى ما خَلْفَه قولُه تعالى: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، ومما هو بمعنى قدّام قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} أَى(5/200)
أَمامَهم. وقوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} يحتمل الوَجْهَين، فإِنَّه يقال فى أَى جانب من الجِدار هو وَراءَه باعتبار الذى فى الجانب الآخَرِ.
وقوله تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أَى خَلَّفتموه بعد مَوْتكم، وذلك تبكيتٌ لهم فى أَنْ لَمْ يعملوا بموجبه/. ولم يَتَدَبَّروا آياتِه. وقوله: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ} أَى أَكثر ممّا بيّناه وشَرَعْناه من تَعَرُّض لمن حُرِّم التعرّض له فقد تَعَدَّى طَوْرَه وخَرَق سِتْرَه. وقوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} اقتضَى معنَى ما بعده. والوَراءُ أَيضا: وَلَدُ الوَلَد.
وفلانٌ وارِى الزَّنْدِ: إِذا كان مُنِجِحاً.
ووَراءَك للإِغراءِ أَى تأَخَّر. ويُقال: وَراءَك أَوْسَعَ لك، أَى تأَخَّر وائت مكاناً أَوْسعَ لك.
والتَّوْراة: الكتابُ الَّذى وَرِثوه عن موسَى عليه السّلام، تَفْعِلَةٌ من وَرِىَ الزَّنْد، أَصلْه وَورَاةٌ، والتَّاء بدلٌ من الواو.
وفى حديث الشَّفاعة: "يقول إِبْراهيم كُنْتُ خَلِيلاً من وَراءَ وَراءَ" هكذا يُرْوَى مبنيّاً على الفتح، أَى من خَلْفِ حجاب.(5/201)
بصيرة فى وزر
الوَزَرُ: المَلْجأُ الذى يُلْتَجَأُ إِليه من الجَبَل، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} .
والمُؤازَرَة: المُعاوَنَة، ومنه الوَزِير، قال تعالى: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} وهو الذى يُؤازِرُه فيَحْمِل عنه ما يَثْقُل عليه.
والوَزيرُ: الَّذى يَلْتَجِئ الأَميرُ إِلى رَأَيه، فهو وَزَرٌ له، أَى مَلجأُ ومَفْزعٌ، أَو لأَنَّه يَحمل ثِقْلَ أَمِيرِه.
وقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} كقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} .
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أَى ما كنت فيه من أَمْر الجاهليّة فأُعْفِيتَ بما خُصِصْت به عن تعاطِى ما كان عليه قَوْمُك.
وأَعَدَّ أَوْزارَ الحرب، أَى آلاتِها، قال الأَعْشَى:
وأَعْدَدْتَ للحَرْب أَوْزارَها ... رمَاحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً(5/202)
ووَضَعَتِ الحربُ أَوْزارها، أَى انقضىَ أَمْرُها وخَفَّت أَثقالُها، ولم يَبْقَ قِتال.
ووَزَرَ فلانٌ: أَذْنَبَ فهو وازِرٌ، ووَزِرَ، يَوْزَرُ، ووُزرَ، فهو مُوْزُورٌ [يقال: فلانٌ موزورٌ] غير مَأَجُورٍ.
واتَّزَرَ فهو مُتَّزِرٌ، قال مَرّارُ بن سَعِيد:
أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ جِدّىِ ومِنْ لَعِبِى ... وِزْرِى فكُلُّ امرئ لا بُدَّ مُتَّزِرُ
وعليهِ فى هذا وِزْرٌ وأَوْزارٌ، قال تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} .
ووَزَرَ فلانٌ للأَمِيرِ يَزِرُ له وِزارَةً، واسْتُوزِرَ اسْتِيزاراً.
وعن النَّضْرِ: سمعتُ فَصِيحاً من جُذام يقول: نحن أَوْزارُه أَجمعُون أَى وُزراؤه، وأَنصارُه، نحو أَشراف وأَيْتام.
ووَزرَ الحِملَ يَزِرُه: حَمَلَه، وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أَى لا يُحْمَلُ وزْرُه من حيثُ يَتَعَرَّى منه المحمولُ عنه. وحَمْلُ وزْر الغَيْر فى الحقيقة هو على نحو ما أَشار إِليه النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كان له أَجُرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِل بها من(5/203)
غيرِ أَنْ يَنْقُضَ من أَجْرِه شَىْءٌ، ومن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها"، أَى مثلُ وِزْرِ مَنْ عمل بها.
وفى الحديث: "ارْجِعْنَ مأْزورات غير مأْجورات" للازدواج فإِنَّ الأَصل مَوْزُورات.(5/204)
بصيرة فى وزع
الوَزْع: الكَفُّ، يقال: وَزَعْتُه أَزَعُه وَزْعاً، أَى كَفَفْتُه، قال الله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} ، أَى يُحْبَسُ أَوّلُهم على آخِرهم، إِشارة إِلى أَنَّهم مع كثرتِهم لم يكونُوا مُهْمَلِين ومُبْعَدِين كما يكون الجَيْشُ الكثير، بل كانوا مَسُوسِين مَقْمُوعين عن المَعَزَّة والإِيذاءِ.
وفى حديث أَبى بكرٍ رضى الله عنه: "إِنَّ المغيرة [رجلٌ] وازِعٌ" الوازِعُ: الذى يُدَبِّر أَمْرَ الجيشِ ويردُّ مَنْ شَذَّ منهم، ولا يُقْتَصّ من مِثْلِه إِذا أَدَّبَ.
/ وفى حديث الحسن البصرىّ أَنَّه قال حين وَلِىَ القضاءَ: "لابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعَة" أَى من يَكُفُّه عن الشرّ، ويَزَعُون الناسَ بَعْضَهم من بَعْض، وهم شرطة السلْطانِ. [وفى الحديث: "من يَزَعُ السُلْطَان] أَكْثَرُ ممّن يَزَعُ القَرْآنُ" أَراد مَنْ يكُفُّ عن ارتكابِ العظائم من مَخافة السّلطانِ أَكثرُ ممّن يَكُفُّه الخوفُ من الله تعالى.(5/205)
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} هذا وَزْعٌُ على سبيل العقوبة.
ووَزَعَ نَفْسَه عن الجَهل والهَوَى، قال:
إِذا لم أَزَعْ نَفْسِى عن الجَهْل والهوَىَ ... لِيَنْفَعَها عِلْمِى فقد ضَرَّها جَهْلى
وأَوْزَعَهُ اللهُ كذا: أَلْهَمَه قال الله تعالى: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أَى أَلْهِمْنَى، وتحقيقهُ أَوْلِعْنَى بذلك، واجْعلنى بحيثُ أَزَعُ نَفْسِى عن الكُفران.
واستوزعتُ اللهَ شُكْرَه: استَلْهَمْتُه.
والتَّوْزِيعُ: القِسْمَة والتَّفرِيق. وتَوَزَّعُوه فيما بَيْنَهُم، أَى تَقَسَّموه.
والمُتَّزعُ: الشَّدِيدُ النَفْس.(5/206)
بصيرة فى وزن ووسوس
الوَزْنُ: التَّقْدِير: وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} قال أَبو الدّرداءِ وعَطاءٌ: أَقِيمُوا لِسَانَ المِيزانِ بالعَدْل، وقال ابنُ عُيَيْنَةَ: الإِقامةُ باليَدِ، والقِسْطُ بالقَلْبِ، والمِيزانُ: القَبّان، والقِسْطاسُ.
وقولُه تعالى: {وَوَضَعَ الميزان * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} قيل: أَراد بالميزان العَدْلَ، أَى لا تٌجاوِزوُا العَدْل. قال الحسنُ وقَتادَةُ والضَحّاكُ: أَراد به الَّذى يُوزَنُ به لِيُوصَلَ به إِلى الإِنْصاف والانْتِصاف؛ ولا تُخْسِرُوا الميزان، أَى لا تُطَفِّفُوا فى الكَيْل والوَزْن.
وقوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} فقد قيل: هو المعادِنُ كالذَّهبِ والفِضْة، وقيل: بل ذلك إِشارةٌ إِلى كلّ ما أَوْجَده الله، وأَنَّه خَلَقَه باعتدالِ كما قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
وقوله تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} إِشارةٌ إِلى العَدْل فى مُحاسَبة النَّاسِ، كما قال: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} .
وذكر فى مواضعَ الميزان بلفظ الواحدِ اعتباراً [بالمُحاسَب، وفى مواضع بالجَمُعِ اعتبارا] بالمحاسَبِينَ.(5/207)
ويُقال: استفهام مِيزانُ النَّهار، أَى انْتَصَف. وكَلامٌ مَوْزُونٌ وزِنْ كَلامَكَ. ووَازَنَهُ: ساواهُ فى الوَزْن. ودارِى تُوازِنُ دارَه، أَى بحذائها. وهو راجِحُ الوَزْن، أَى ذو عَقْل ورأَى سديد. ووازَنَه: كافأَه على فَعاله.
الوَسْواسُ: اسْمُ الشيطانِ والوَسْوَسَةُ والوِسْواسُ بالكسر: حديثُ النَّفْس، والوَسْواس بالفتح: الاسمُ كالزِلزال والزَّلزال، يُقال: وَسْوَسَ له، ووَسْوَسَ إِليه، قال الله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} . وقال جلّ ذكره: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم} ، والعربُ تُوصِل بهذه الحروف كلِّها الفِعْل.
قال أَبو عبيدة: الوَسْوَسَةُ فى التنزيل: هى ما يُلْقِيه الشَّيْطان فى القَلْب.
والوَسْواس: صَوْتُ الحَلْى، قال الأَعشى:
تَسْمعُ لِلْحَلْى وَسْواساً إِذا انْصَرَفَتْ ... كما اسْتعَان برِيح عِشْرقٌ زَجلُ(5/208)
بصيرة فى وسط
الوَسَطُ من كلِّ شىءٍ: أَعْدَلُه. قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أَى عَدْلاً خِياراً. وفلانٌ وَسيطٌ فى قومه: إِذا كان أَوْسَطَهم نَسَباً وأَرْفَعَهم محلاًّ، قال عبد الله بن عَمْرِو بن عُثْمان رضى الله عنه، (عن عثمان) .
/أَضاعُونى وأَىّ فَتىً أَضاعُوا ... لِيَوْم كَرِيهَة وسِدادِ ثَغْرِ
وصَبْر عند مُعْتَرَكِ المَنايا ... وقد شُرِعَتْ أَسِنَّتُها بنَحْرِى
أُجَرَّرُ فى الجَوامِع كُلَّ يَوْم ... فياللهِ مَظْلمَتِى وصَبْرِى
كأَنِّىَ لم أَكُنْ فيهم وَسِيطاً ... ولم يَكُ نِسْبَتىِ فى آلِ عَمْرِو
والوَسِيطُ أَيضاً: المتوسِّط بين القوم.
وجلست وَسَطَ الدّار بالتَّحريك لأَنه اسمٌ. وكُلُّ موضع صَلُحَ فيه بَيْنَ فهو وَسْط بالتسكين، وإِلاَّ فهو وَسَطٌ بالتحريك. وقال ثعلب: الفرقُ بينهما أَنَّ ما كان يَبينُ جزءٌ من جزءِ، فهو مثل الحَلْقَة من الناس والسُبْحَة والعِقْد فهو وَسْطٌ بالتسكين، وما كان مُصْمَتاً لا يَبينُ جزءٌ من جزءٍ فهو وَسَطٌ بالتحريك، مثلُ وَسَطِ الدّار، والرّاحةِ والبُقْعَة. وقد تُسكَّن السين مِن الوَسَط وليس بَجَيّد.(5/209)
والوُسْطَى من الأَصابع معروفةٌ. والصّلاة [الوُسُطى] فى قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} قيل: الصُّبح؛ وقيل: الظُّهر؛ وقيل: العَصْرُ؛ وقيل: المَغْرِب؛ وقيل: العِشاءُ، وقيل: الوِتْرُ؛ وقيل: صلاةُ عِيد الفِطُر؛ وقيل: صلاةُ عِيدِ الأَضْحَى؛ وقيل: صلاةُ الضُّحَى؛ وقيل: صلاة الجَماعة؛ وقيل: الصَّلواتُ جميعاً؛ وقيل: الصبحُ والعصرُ معا؛ وقيل: غير مُعَيَّنة؛ وقيل: العِشاءُ والصُّبْحُ معاً؛ وقيل: صلاةُ الخَوْف، وقيل: صلاةُ الجُمُعة يوم الجمُعة، وفى سائر الأَيّام صلاةُ الظُّهر؛ وقيل: المتوسّطة بين الطُّول والقِصَر؛ وقيل: كلَّ واحدة من الخَمْس لأَنَّ قَبْلَها صلاتين وبعدَها صلاتين.
قال ابنُ سيده: هى صلاةُ الجُمعة لأَنَّها أَفضلُ الصّلوات، قال: ومن قال خِلافَ هذا فقد أَخطأَ.
أَوْرَدُوا عليه قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم فى يوم الأَحزاب: "شَغَلُونا عن الصّلاةِ الوُسْطَى صلاةِ العَصْر مَلأَ اللهُ بُيوتَهُم وقُبُورَهم ناراً" قيل: لا يَردُ عليه، لأَنَّ المذكورة فى الحديث ليس المراد بها المذكورة فى التنزيل. ولكلّ قائل من ذوى الأَقوال المذكورة دليلٌ وتوجيهٌ لا نُطَوِّل بشرِحه. وأَقوى الأَقوالِ ثلاثة: العصرُ، والصّبحُ، والجُمُعَة.
ووَسَطَ القَوْمَ يَسِطُهُمْ وَسْطاً وسِطَةٌ: تَوَسِّطهم.(5/210)
ووَسَّطَه تَوْسِيطاً. قَطَعَه نصفين، أَو جعله فى الوَسَطِ.
وقرأَ علىُّ بن أَبى طالبٍ رضى الله عنه وعَمْرُو بن مَيْمُون وَقتادَة وزَيْدُ ابنُ علىّ وابنُ أَبى لَيْلَى وابنُ أَبِى عَيْلَة وأَبو البَرَهْسَمِ: {فوَسَّطْن به جَمْعاً} بالتشديد، والباقون بالتخفيف.
والتَّوسُّط بين النَّاس من الوَساطة، وتَوَسَّط: أَخَذَ الوَسَطَ بين الجَيِّد والرّدِىءِ، قال إبراهيمُ بن علىّ بن هَرْمَةَ يصف سَخاءَه:
واقْذِفْ بحَبْلِك حيثُ نال بأَخْذِهِ ... من عَوْدِها واغْنَمْ ولا تَتَوَسَّطِ(5/211)
بصيرة فى وسع
وَسِعَهُ الشىءُ بالكسر يَسَعُه سَعَةً وسِعَة كدَعَة وزِنَةٍ. وقرأَ زَيْدُ بن علىّ: {وَلَمْ يُؤْتَ سِعَةً} بالكسر.
والواسِعُ من صِفات الله تعالى الَّذى وَسِع رِزْقُه جميع خَلْقِه، ووَسِعَت رحمتُه كلَّ شىءِ. وقال ابن الأَنبارىّ: هو الكثيرُ العطاءِ، والَّذى يَسَعُ لما يُسْأَل. ويقال: معناه: المُحيط بكلّ شىءٍ من قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} . ويقال: إِنَّه لَيَسْعُنَى/ ما وَسِعَكَ. ويُقال: ما أَسَعُ ذلك، أَى ما أُطِيقُه. وفى النَّوادر: الَّلهُمَّ سَعْ عَلَيْه، أَى وَسّع عليه. ويقال: لِيَسَعْكَ بَيْتُك، معناه: القَرارُ فيه.
وهذا الوعاءُ يَسَعه عِشْرون كَيْلاً على مِثال: أَنا أَسَعُ هذا الأَمرَ.
وهذا الأَمرُ يَسَعُنْى. قال أَبو زُبَيْد حَرْمَلَة بن المُنْذِر الطَّائىّ:
حَمّالُ أَثْقالِ أَهْلِ الوُدِّ آونَةً ... أُعْطِيهُمُ الجَهْدَ منِّى بَلْهَ ما أَسَعُ
ويقال أَيضاً: هذا يَسَعُ عِشْرِين كَيْلاً، معناه: يَسَعُ لِعشرين، أَى يتَّسِع لذلك. ومِثْلُه: هذا الخُفُّ يَسَعُ رِجْلِى، أَى يتَّسع لَها(5/212)
وعليها. وتقول: هذا يَسَعُه عشرون كَيْلاً، أَى يَسَعُ فيه عِشْرِين كَيْلاً، ويقال: وَسِعَتْ رحمةُ اللهِ كلّ شىءٍ ولكلّ شىءٍ وعلى كلِّ شىءٍ. وفى حديث النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنكم لن تَسَعُوا النَّاسَ بأَمْوالِكم فَلْيَسَعْهم منكم بَسْطُ وَجْه وحُسْنُ خُلُق".
والوُسْعُ والوَِسْعُ بالحركات الثلاث: السَّعَةُ والجدَةُ والطَّاقَةُ. وقرأَ ابن أَبِى عَيْلة: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وَسْعَها} بالفتح، وقرأَ عِكْرِمَةُ: (وسِْعَها) بالكسر. والهاءُ فى السَّعَةِ عِوَضٌ عن الواو. وشىْءٌ وَسِيعٌ، أَى واسِعٌ.
ويَسَع: اسمٌ من أَسماءِ العَجَم، وقد أُدْخِل عليه الأَلفُ واللاَّم، وهما لا يَدْخلان على نظائره، نحو يَعْمُرَ ويَزيدَ ويَشْكُرَ. وقرأَ حَمزة والكسائىّ وخَلَف. واللَّيْسَع بِلامَيْن، وقرأَ الباقون والْيَسَع بلامٍ واحدة.
وأَوسع الرّجلُ صارَ ذا سَعَة وغِنىً، قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(5/213)
أَى أَغنياءُ قادِرون. وأَوْسَعَ الله عليك، أَى أَغْناك. وأَوْسعْتُ المكانَ: وجدتُه واسِعاً، يقال: "أَوْسَعْتَ فابْنِ" والتَّوّسِيعُ: خلاف التَّضْيْيق وتَوَسَّعُوا فى المَجْلس أَى تَفَسَّحوا. واسْتَوْسَعَ: اتَّسع. وقولُ النابغة:
تَسَعُ البلادُ إِذا أَتَيْتُكُ زائراً ... وإِذا هَجَرْتُك ضاقَ عَنِّى مَقْعَدِى
أَى تتَوَسَّع لى البِلادُ.
واعلم أَنَّ السَّعَة تكونُ فى الأَمكِنَة وفى الحال، وفى الفعل، كالقُدْرة والجُودِ ونحو ذلك، ففى المكان نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً} ، وفى الحال: نحو {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} .
قال أَبو القاسم: الوُسْعُ من القُدْرَة: ما يَفْضُل عن قَدْرِ المكلَّف، قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} تنبيهاً أَنَّه يكلِّف عبدَه دون ما تَنُوءُ به قُدْرَته. وقيل: معناه: يُكلِّفه ما يُثْمِرُ له السَّعَة، أَى جَنَّة عرضُها السماوات والأَرض.
وقوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} وقوله: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، {وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً} عبارة عن سَعَةِ عِلْمه وقُدْرته وأَفضْاله ورَحْمَته، كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} .(5/214)
بصيرة فى وسق
الوَسْقُ: مصدر وَسَقْتُ الشَّىْءَ: إِذا جَمَعْتَه وحَمَلْتَه، ومنه قوله تعالى: {والليل وَمَا وَسَقَ} أَى جَمَع وضَمَّ. وقيل المعنى: جَمَع، وضَمَّ ما كان بالنَّهارِ منتشراً من الدّوابّ، لأَنَّه إِذا أَقبلَ الليلُ آوَى كلّ شىءٍ إِلى مَأْواه، قال ضابِئ بن الحارث البُرْجُمِىّ:
فإِنِّى وإِيّاكم وشَوْقاً إِليكم ... كقابِضِ ماءٍ لم تَسِقْهُ أَنامِلُه
يقول: ليس فى يدى من ذلك شىءٌ، كما أَنَّه ليس فى يد القابضِ على الماءِ شىء، فإِذا جَلَّلَ اللَّيلُ الجِبال والأَشجارَ والبحارَ والأَرضَ فاجتمعت له فقد وَسَقَها.
والوَسْقُ أَيضاً: الطَّرْدُ. وقيل: فى اللَّيل وما وَسَقَ، أَى ما جَمَعَ من الظَّلام مُقاتِلُ بن حَيّان: ما أَقْبَلَ من ظُلْمَةٍ وكَوْكب، سَعِيدُ بن جُبَيْر: وما عُمِل فيه. وقيل: عبارةٌ/ عن طَوارِقِ اللَّيل.
وعنده وَسْقٌ من تَمْر، ووُسوق وأَوْساقٌ. ووَسَّق مَتاعَه: جعله وُسوقاً.(5/215)
وناقةٌ واسِقٌ: حاملٌ. ونخلةٌ مُوسِقَة وقد أَوْسَقَت، قال لبيد:
يَوْمَ أَرْزاقُ مَنْ يُفَضِّل عُمٌّ ... مُوسَقَاتٌ وَحُفَّلٌ أَبكارُ
واتَّسَقَ القَمَرُ، واتَّسَقَ أَمْرُه: كَمُلَ وتَمَّ، واجْتَمَعَ، واطَّرَدَ، قال تعالى: {والقمر إِذَا اتسق} ، قال قتادة: اسْتدارَ، افْتَعَل من الوَسْقِ. وقال غيره: اجتمعَ واسْتَوَى وتَمَّ نُورُه، وذلك فى الأَيّامِ البيضِ.(5/216)
بصيرة فى وسل ووسم
وَسَلَ إِليه: تَقَرَّبَ قال لَبِيدٌ:
بَلَى كُلُّ ذِى دينٍ إِلى الله واسِلُ
والوَسِيلَةُ: التَوَصّل إِلى الشىء برغبة، وهى أَخَصُّ من الوَصِيلَة لتضمُّنها معنى الرَّغْبة، قال الله تعالى: {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} .
وحقيقةُ الوَسِيلة إِلى الله: مُراعاةُ سبيلهِ بالعِلْم والعِبادة، وتَحرّىِ مكارِم الشريعة، وهى كالقُرْبَة.
قال صاحب العُباب: الوَسِيلَةُ، والواسِلَةُ: المنزلة عند المَلِك، والدَّرَجةُ، والقُرْبَةُ. ووَسَّلَ إِلى الله وَسِيلَةً: عَمِل عَملاً تقرَّب به إِليه، كتَوَسَّل. والواسِلُ: الواجِبُ، والرّاغِبُ.
الوَسْمُ أَثَرُالكَىّ، والجمع: وُسُومٌ. وَسَمَهُ يَسِمُهُ وَسْماً وسِمَةً فاتَّسَمَ.
والوِسامُ والسِّمَة: ما وُسِمَ به الحيوانُ من ضُرُوب الصُّوَر، قال الله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} أَى يُعَلَّم عليه علامة يُعْرف بها(5/217)
وقال أَبو العالِيَةِ ومُجاهِدٌ: أَى يُسَوَّدُ وَجههُ فيُجْعَل له عَلَماً فى الآخرة يُعرف به، وهو سَوادُ الوجه. وقال ابنُ عبّاس: سنحْطمه بالسيف، وفُعِل ذلك يوم بَدْر. وقال قتادة: سيُلْحِق به شيئاً لا يُفارِقُه.
وقال القُتَبِىّ: يقول العرب [إِذا] سَبَّ الرّجلُ فُلاناً سَبّةً قبيحة: قد وَسَمَه مِيسَم سُوء، يريد أَلْصَق به عاراً لا يُفارقُه، كما أَنَّ السِّمَة لا يَمَّحِى ولا يَعْفُو أَثَرُها.
وقال الضَحّاك والكِسائى: سنكويه على وَجْهِه.
وتَوَسَّمَه: تَخَيَّله. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَى للمُعْتَبِرين العارِفين المتَّعِظين. وهذا التَّوَسّم هو الَّذى سمّاه قومٌ الزَّكانة، وقومٌ الفِطْنة، وقوم الفِراسَة.(5/218)
بصيرة فى وسن ووشى
الوَسَنُ محرّكة، والوَسَنة والوَسْنَة والسِّنَة كعِدَةِ: ثِقَلُ النَّوْم، وقيل: أَوّل النَّومِ، وقيل: النَّعاس، وقد وَسِنَ كفَرِح فهو وَسِنٌ ووَسْنانُ، ومِيسانٌ كمِيزان. واسْتَوْسَنَ: كَثُرَ نُعاسُه، قال تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ، قيل: السِّنة: ما يتقدّم النَّوْمَ من الفُتُور وهو النُّعاس، قال عدىّ بن الرّقاع:
وَسْنانُ أَقْصَدَهُ النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ ... فى عَيْنِه سِنَةٌ وليس بنائِم
أَى لا يَأْخُذه نُعاسٌ ولا نَوْم، وهو تأَكيدٌ للقَيُّوم، لأَنّ من جاز عليه ذلك استحال أَن يكون قَيُّوماً.
ويُقال: وَسِنَ الرجلُ وأَسِنَ: إِذا غُشِىَ عليه من ريحِ البِئر، قيل له ذلك لتصوُّر النَّوم فيه لا لتَصَوُّر الغَشَيان.
وَشَيْتُ الشَّىْءَ وَشْياً: جعلتُ فيه أَثَراً يُخالِف مُعظمَ لَوْنِه.
ووَشَى الثَّوْبَ وَشْياً وشِيَةً حَسَنةً: نَمْنَمَهُ ونَقَشَه وحَسَّنَه، كوَشَّاهُ.
قال الله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} ، أَى لا لُمْعَةَ فيها من لَوْن آخَر سِوَى الصُّفْرَة/ فهى صَفْراءُ كُلُّها حتى قَرْنها وظِلْفها،(5/219)
وهى فى الأَصل مصدرُ وَشَاه وَشْياً وِشِيَةً: إِذا خَلَط بلَوْنِه لوناً آخر؛ ومنه ثَوْرٌ مَوْشِىُّ القَوائِم.
ووَشَى فلانٌ كلامَهُ، أَى كَذَبَ فيه.
ووَشَى به إِلى السّلطان وَشْياً ووِشايَةً: نَمَّ وسَعَى.
وشِيَةُ الفَرَسِ كعِدَةٍ: لونُه. وفَرَسٌ حَسَنُ الأُشِىّ كصُلِىّ أَى الغُرَّة والتَحَجْيل.
وتَوَشَّى فيه الشَيْبُ: ظَهَر كالشِّيَةِ.(5/220)
بصيرة فى وصب ووصد
وَصَبَ الشىءُ يَصِبُ وُصُوباً، أَى دامَ. ووَصَبَ الرّجلُ على الأَمر: إِذا واظَبَ عليه. قال الله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِباً} أَى حقّ الإِنسان أَنْ يطيعَه دائماً فى جميع أَحوالهِ، كما وَصَف به الملائكة حيث قال: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ، قال ابنُ عَرَفَة: أَى ثابِتاً دائماً، فالمعنى له الحُكْم دائماً أَبداً، وحُكم غَيْره زائل، فذلك ثُبوتُ دينِ الله أَنَّه باق وما سِواهُ مُضْمَحِلّ، وكذلك قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أَى مُوصِبٌ مُوجع، وهذا تَوَعُّدٌ لمن اتَّخذ إِلهَيْن، وتنبيهٌ أَنَّ جَزاءَ من فَعَل ذلك لازمٌ شديد.
قال الفرّاء، مَفازَةٌ مُوصِبَةٌ: بعيدةٌ ولا غايةَ لها.
وقيل: الوَصَبُ: السُّقْم اللازِمُ. وأَوْصَبَه: أَسْقَمَه، وهو يَتَوَصَّبُ: يَتَوَجَّع.
والوَصِيدُ: الفِناءُ، والجمع وُصُدٌ ووَصائدُ. والوَصِيدُ: العَتَبَةُ والوَصِيدُ: كَهْفُ أَصحابِ الكَهْفِ فى بعض الأَقوال، وبالوُجوه الثلاثة فُسِرّ قولُه تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} .(5/221)
والوَصِيدُ أَيضاً: الذى يُخْتَنُ مَرَّتَيْن. والوَصِيدُ: الجَبَلُ. والوَصِيدُ: النَّباتُ المُتقارِب الأُصولِ. والوَصِيدُ: الضَيِّقُ.
ووَصَدَ: ثَبَتَ. وبالمكانِ: أَقامَ.
وأَوْصَدَ الباب، وآصَدَه: أَطْبَقَه وأَغْلَقه، ومنه قولُه تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} أَى مُطْبَقة، هَمَزَهَا أَبو عَمْروٍ وحمزةُ وخلفٌ وحَفْص، واختلف على يعقوب، والباقون بغير هَمْز.
وأَوْصَدَ، واسْتَوْصَدَ: اتَّخَذَ حَظِيرَةً.(5/222)
بصيرة فى وصف
وَصَفْتُ الشىءَ وَصْفاً وصِفَةً، والهاء عِوَض عن الواوِ. وقوله تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أَى جَزاءَ وَصْفِهم الذى هو كَذِبٌ. وقوله تعالى: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} ، أَى تَكْذِبُون.
وفى حديث عُمَرَ: "لا تُلْبسوا نِساءَكمُ الكتَّانَ أَو القَباطِىّ، إِلاَّ يَشِفَّ فإِنَّه يَصِفُ" أَى يَصِفُها الثوبُ الرّقيق كما يَصِفُ الرّجلُ سِلْعَته.
والصّفة كالعِلْم والجَهْل والسَّواد والبَياض. وقيل: الصّفة الحالةُ التى عليها الشىءُ من حِلْيَتِه ونَعْتِه. والْوَصفُ قد يكون حَقّاً وباطلاً، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} تنبيهاً على كون ما يذكرونَه كَذِباً.
وقول الشمّاخ يصف ناقته:
إِذا ما أَدْلَجَت وَصَفَت يَداها ... لها الإِدلاجَ لَيْلَةَ لا هُجُوعُ
يريد أَجادت السَّيْر. وقيل: معناه: إِذا أَدْلَجَت سارت اللَّيلَ كلَّه، فذلك وَصْفُها يديها.(5/223)
والوَصِيفُ: الخادِمُ غلاماً كان أَو جارِية، وربّما قالوا للجارِية وَصِيفَةٌ، والجمع الوَصائِف.
والإِيصافُ: الوصافة، يقال: جارية بيّنة [الوصافة والإِيصاف] .
وتَواصَفُوا الشىءَ من الوصف. واتَّصَفَ الشىءُ: صار موصوفاً بالحُسْن قال طَرَفَة بنُ العَبْد:
إِنَّى كَفانِىَ من أَمْر هَمَمْتُ بهِ ... جارٌ كجار الحُذاقىّ الذى اتَّصَفا
أَى موصوفاً بحُسْن الجِوارِ.
ونُهِىَ عن بيع/ المُواصَفَة، وهو أَن يبيع ما ليس عندَه، ثم يَبْتَاعَهُ فيَدْفَعَه إِلى المشترى، قيل له ذلك لأَنَّه باعَه الصّفَةِ.(5/224)
بصيرة فى وصل
وصلَ الشَّىْءَ بغَيْرِه فاتَّصَلَ. ووَصَّلَ الحِبالَ وغيرها تَوْصِيلاً: وَصَلَ بعضَها ببَعْضِ، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} أَى أَكْثَرْنا لهم القَوْلَ موصولاً بعضُه ببعضٍ. وخَيْطٌ مُوَصَّلٌ: فيه وَصْل كثيرٌ. وغُصْنٌ مٌوَصَّلٌ: فيه غُصْنٌ غَرِيبٌ، قال:
وإِذا ما نَكَحْت فانْكح غَرِيباً ... ومن الأَقْرَبِين لا يَتَوَصَّلْ
فأَلَذُ الثِّمار حُسْناً وطِيباً ... ثَمرٌ غُصْنُه غَرِيبٌ مُوَصَّلْ
ووَصْلَنِى بعد الهَجْر وواصَلَنِى، وصَرَمَنى بعد الوَصْل والصِّلة والوِصال. ووَصَلَت شَعْرَها بشَعر آخر، "ولَعَنَ الله الواصِلةَ والمستوصِلَة". وقطع اللهُ أَوْصالَه، أَى مَفاصِلَه.
والوَصْلُ يكون فى الأَعْيان وفى المَعانِى قال الله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} . وقوله تعالى: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} أَى يَنْتَسِبُون، يقال: فلانٌ مُتَّصِلٌ بفلان: إِذا كان بيْنَهما نِسْبة أَو مُصاهرة. وقولُه تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ}(5/225)
قيل هى التى وَصَلَت أَخاها من أَولاد الغنم فلم تُذْبَح. كان إِذا وَلَدَت لهم شاةٌ ذَكَراً وأُثْنَى قالوا وَصَلَتْ أَخاها. وقيل: الوَصِيلة: الناقَةٌ الَّتى وَصَلَتْ بين عشرة أَبْطُن، ومن الشاءِ الَّتى وَلَدَت سبعَة أَبْطُن عَناقَيْن عناقَيْن، فإِن ولدت فى السَّابعة عَناقاً وجَدْياً قيل: وصلت أَخاها فلا يَشْرَب لَبَنَ الأُمّ إِلاَّ الرّجالُ دون النِّساءِ، ويجرى مجرى السّائبَةِ. وقيل: الوَصِيلَةُ خاصّة بالغَنَم، كانت الشَّاةُ إِذا ولدت الأُنْثَى فهى لهم، وإِذا وَلَدَت ذكراً جعلوه لآلِهَتِهم، فإِن ولدت ذكراً وأُنْثى قالوا: وصلت أَخاها فلم يَذْبَحُوا الذَكَر لآلهتهم. وقيل: الوصيلةُ: شاةٌ وَلَدت ذكراً ثم ولدت أُنْثَى، فتصل أَخاها فلا يذبحون أَخاها من أَجْلِها، فإذا ولدت ذكراً قالوا هذا قُرْبانٌ لآلهتنا.
وَوَصِيلُك: من يَدْخُلُ مَعَكَ ويَخْرُجُ معك.
والاتِّصال ضدّ الانفصال، وهو عند العارفين على ثلاث مراتب:
اتصال العلم والعمل، واتصال الحال والمعرفة، واتصال الوِجْدانِ والوُجود، وهو أَنْ يَجِدَ العبدُ رَبَّه بعد أَن كان فاقداً، فهو بمنزلة من كان يطلُب كَنْزاً ولا وُصُول له إِليه فظفر به بعد ذلك ووَجَدَه واستَغْنَى به غايةَ الغِنى، فهذا اتِّصال الوجود، كما فى الأَثر: "اطْلُبْنى تَجِدْنى، فإِنّ وَجَدْتَنِى وَجَدْت كُلُّ شَىْءٍ، وإِنْ فُتُّكَ فاتَكَ كلُّ شَىء". وهذا الوُجود من العبد لِرَبِّه يتنوّع بحسب حال العبد ومَقامه، فالتائب الصّادق(5/226)
فى تَوْبته إِذا تاب إِليه وَجَده غفوراً رحيماً، والمتوكِّلُ إِذا صَدَقَ فى تَوَكُّله وَجَده كَافِياً حسيباً، والدّاعِى إِذا صَدَق فى الرَّغْبة إِليه وَجَده قرِيباً مُجِيباً، والمحبّ إِذا صَدَق فى مَحَبَّتِهِ وَجَده وَدُوداً حبيباً، والملهوف إِذا صَدَق فى الاستِعانة وَجَده كَاشِفاً للكرْب مُخَلِّصاً منه، والمضطرُّ إذا صَدَق فى الاضْطِرار إِليه وَجَده رَحِيماً مُعِيناً، والخائفُ إِذا صَدَق فى الَّلَجإِ إِليه وَجَده مُؤَمِّناً من الخوف، والراجى/ إِذا صَدَق فى رَجائه وَجَده عند ظَنِّه به؛ فمُحِبُّه وطالِبُه ومريدُه ومن لا يَبْتَغِى به بَدَلاً ولا يرضَى بسِواهُ عِوَضاً إِذا صَدَق فى محبّته وإِرادتِه وجَده أَيضاً وُجُوداً أَخصّ من تلك الوجودات، فإِنَّه إذا كان المُريدُ منه يَجدهُ فكيف مُرِيدُه ومُحِبُّه! فيظفر هذا الواجِدُ بنَفْسِه وبِرَبِّه، أَمَّا ظَفَرُهُ بنَفْسه فتَصِير مُنقادةً له، مطيعةً تابعةً مَرْضاتِه، غيرَ أَبِيَّةٍ ولا أَمَّارة، بل تَصِير خادمةً له ومملوكةً بعد أَنْ كانت مخدومةً مالكةً. وأَمّا ظَفَرُه بربّهِ فقُرْبُه منه وأُنْسُه به، وعِمارَةُ سِرِّه به، وفَرَحُهُ وسُرُورُه أَعظم فَرَح وسرور. فهذا حقيقة اتصال الوُجود.
وأَمّا اتصالُ العِلْمِ والعملِ قد يُسَمُّونَه اتَّصال الاعْتِصام، فهو بتصحيح القَصْد، ثمَّ تصفيته الإِرادة، ثم تحقيق الحال. وتصحيح القصد يكون بشيئين: إِفرادُ المقصود، وجمعُ الهمِّ عليه؛ وحقيقته توحيدُ القصد والمقصود، فمتى انْقسم قصده أَو مقصوده لم يكن اتّصاله صحيحاً. وأَمّا تصفية الإِرادة فهو تخليصُها من الشوائب وتعلُّقِها بالسِّوى أِو بالأَعْراض، بل(5/227)
تكون إرادةً صافية عن ذلك كله، بحيث يكون تعلُّقه بالله وبمراده الدّينِىّ الشرعىّ.
ثم تحقيق الحال بأَن يكون له حالٌ محقَّق لا يكتِفى بمجرّد العِلْم حتَّى يصحبَهُ العملُ، ولا لمجرّد العملِ حتى تصحبَه الحالُ، فتصير الإِرادة والمحبَّةُ والإِنابةُ والتوكُّلُ وحقائقُ الإِيمان حالاً لقلبه، بحيث لو انقطعت جوارِحهُ كان قَلْبُه فى العمل والسَّيْر إِلى الله، وربّما يكون عملُ قلبِه أَقْوَى من عملِ جَوارحِه.
وأَمّا اتَّصالُ الحال والمعرفة الَّتى يسمّونه اتصالَ الشهُّود، فهو الخَلاصُ من الاعْتِلال، والفَناءُ عن الاستِدْلال، وهذه المنزلة أَعْلَى من اتِّصال الاعْتصام، لأَنَّ الأُولَى اتصالٌ بصحة المقصود والأَعمال، وهذا اتِّصالُ برؤيةِ مَنِ العَمَلُ له، فيتخلَّصُ العبدُ بذلك مِنْ عِلَل الأَعمالِ واستِكْبارها واسْتحْسانها والسُّكون إِليها.(5/228)
بصيرة فى وصى
وَصّاه تَوْصِيَةً: عَهِدَ إِلَيْه، والاسمُ: الوَصاةُ والوَصِيَّةُ والوِصاية. (والوصيَّة) : المُوصَى به أَيضاً.
والوَصِىُّ: المُوصِى والمُوصَى. والمرأَةُ وصِىٌّ أَيضاً، والجمع أَوْصِياءُ، وقيل: لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع. قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله} أَى يَفْرِضُ عليكم. وقوله تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} ، قرئ: وأَوْصَى وهما بمعنًى.
وتَواصَى القَوْمُ: وَصَّى بعضُهم بعضاً، قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} .
ووَصَى الشىءَ بالشىْءِ: وَصَلَه به، قال ذو الرّمَة:
نَصِى اللَّيْلَ بالأَيّام حَتى صَلاتُنا ... مقاسمةٌ يشتق أَنصافها السَّفْرُ
ووَصَى النَبْتُ: اتَّصَل وكَثُر. وأَرضٌ واصِيَةُ النباتِ.
وواصَى البلدُ البَلَدَ: واصَلَه.
وأُوصِيكَ بتَقْوَى الله. واسْتَوْصِ بفُلان خَيْراً.(5/229)
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} . وقال: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} . وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب} وقال: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} . وقال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} . وقال: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله} . وقال: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} ، وقال: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} /وقال {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} .(5/230)
بصيرة فى وضع
الوَضْعُ أَعمّ من الحَطِّ، وهو ضدّ الرّفع، ومنه المَوْضِعُ، قال الله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} ، [و] يقال ذلك فى الحَمْلِ والحِمْل، وَضَعْتُ الحمل فهو موضوعٌ، وقال تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} .
وقوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} هذا الوضعُ عِبارة عن الإِيجاد والخَلْق.
ووَضَعَت المرأَةُ الحَمْل، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} . [و] وَضْعُ البَيْتِ: بناؤُه، قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} .
وقوله: {وَوُضِعَ الكتاب} هو إِبرازُ أَعمالِ العباد، نحو قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} .
ووَضَعَت الدّابَّةُ وَضْعاً: أَسْرَعَت، ودابَّة حَسَنَةُ المَوْضُوع. وأَوْضَعْتُها أَنَا، قال الله تعالى: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} قال طَرَفَة بن العَبْد:(5/231)
مَرْفُوعها زَوْلٌ ومَوضُوعُها ... كَمَرّ غَيْث لَجِب وَسْطَ رِيحْ
ووَضْعَت الشىءَ من يَدِى وَضْعاً ومَوْضَعاً بفتح الضَّاد ومَوْضُوعاً. وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللَّهُمَّ ارْفَعْنَا ولا تَضَعْنا". ارْفَع دَرَجَتنا ولا تضعها، وقوله صلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ رَفَع السِلاح ثمَّ وَضَعَه فَدمُه هَدَرٌ" أَى قاتَلَ فى الفِتْنة، وليس معنى قولِه ثمَّ وَضَعه أَنَّه وَضَعَه مِنْ يَدِه، قال سُدَيْف:
فضَعِ السَّوْطَ وارْفَعِ السّيفَ حَتَّى ... لا تَرَى فَوْقَ ظَهْرِها أُمَوِيَا
معناه ضَع السَوْطَ على بَدَن من تَبْسطه عليه، وارفع السّيف له ليُقْتَلَ به.
ووَضَعَ منْه: حَطَّ مِنْ قَدْرِه. ووَضَع عن غَرِيمه: نَقَص ممّا له عليه ومنه الحديث: "مَنْ أَنْظَر مُعْسِراً أَو وَضَع له أَظَلَّه اللهُ تحت ظِلِّ عَرْشه".
ووضع يَدَه فى الطَّعام: إِذا أَخَذَ فى الأَكْل.
ووَضَع يَدَه عن فلان: كَفَّ عنه، ومنه الحديث: "واضِعٌ يَدَه لِمُسِىءِ اللَّيْلِ لِيَتُوبَ بالنَّهارِ" أَى لا يُعاجل المُسىءَ بالعقوبة بل يُمْهِلُه لِيَتُوبَ.(5/232)
وامرأَةٌ واضِعٌ: لاخِمارَ عليها.
ووَضَعت المرأَةُ حَمْلَها وَضْعاً بالضَّمِّ وتُضْعاً بالضمّ، وتُضُعاً بضمَّتين، أَى حَمَلت فى آخِرِ طهرها فى مُقْتَبَلِ الحَيْضِة فهى واضِعٌ.
ووُضِعَ فى تجارته كَعُنِىَ: خَسِرَ. قال ابنُ دُرَيْد: وَضِعَ يَوْضَعُ كوَجِلَ يَوْجَل لغةٌ فيه.
وفى حَسَبِهِ ضَعَةٌ وضِعَةٌ بالكسر أَى انْحطاطٌ، والهاء عوض عن الواو. وقد وَضُع الرَّجُل ككرُم يَوْضُع ضَعة وضِعةً.
قال الفرّاءُ: يُقال: له فى قَلْبِى مَوْضِعَةٌ ومَوْقِعَةٌ، أَى مَحَبَّةٌ.
ووضَعْتُ عنده وَضِيعاً، أَى استَوْدَعتُه وَدِيعَةً.
وقوله تعالى: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} أَى حَمَلُوا ركابَهم على العَدْوِ السّريع. ومنه الحديث: "أَنَّه أَفاضَ من عَرَفَةَ وعليه السَّكِينَة وأَوْضَعَ فى وادِى مُحَسِّر". وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَيّها الناس عليكم بالسَّكِينَة فإِنَّ البِرَّ ليس بالإِيْضاع".
ورَجُلٌ مُوَضَّع كمعظَّم: فيه تَخَنُّثٌ.
وتَواضَعَ: تَذَلَّلَ؛ وما بيننا: بَعُدَ. وإِنَّ بَلَدَكم لمُتواضِعٌ عنَّا: مُتَباعِدٌ، قال ذو الرّمَة:
فَدعْ ذا وَلكن رُبّ وَجْناءَ عِرْمِس ... دَواءٌ لِغَوْل النازِحِ المُتواضِع(5/233)
بصيرة فى وضن ووطر، ووطؤ
وَضَنَهُ يَضِنُه فهو مَوْضُونٌ ووَضِينٌ: ثَنَى بعضَه على بعضٍ، وضاعَفَه أَو نَضَّدَهُ، قال الله تعالى: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} ، وقيل: موضونة، أَى/ مَنْسُوجة بالجَواهر. ووَضَنَ النِسْعَ: نَسَجَهُ.
والوَضِينُ: بِطانٌ عريضٌ منسوجٌ من سُيورٍ أَوْ شَعر. وقيل لا يكون إِلاّ من جِلْد، والجمع: وُضُنٌ.
والمَوْضُونَة: الدِّرع، وقيل الدِّرْع المُقارِبَة النَسْج، أَو المَنْسُوجةُ حَلْقَتَيْن.
والتَوَضُّنُ: التَذَلًُّل. واتَّضَنَ: اتَّصَلَ.
الوَطَرُ: الحاجَةُ المُهِمّة ولا يُبنَى منه فِعْلٌ، والجمع الأَوطار، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} .
وَطِئْتُ الشَىْءَ برِجْلِى وَطْأ، ووَطِىءَ زَوْجَتَه يَطَأُ فيهما، سقطت الواوُ من يَطَأُ سُقوطها من يَسَعُ لتعدِّيهما، لأَنَّ فَعِلَ يَفْعَل ممّا اعتلّ فاؤه لا يكون إلاَّ لازماً، فلما جاءَا من بين أَخواتهما متعدّيَيْن خُولفَ بهما نظائرهما.(5/234)
قال الله تعالى: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً} . والمَوْطَأُ بفتح الطاءِ: مَوْضِعُ وَطْءِ القَدَم. قال اللَّيث: هو المَوْطِئ بكسر الطَّاءِ. قال: وكلُّ شىءٍ يكون منه الفِعْلُ على فَعِلَ يَفْعَل مثل سَمِعَ يَسْمَع فإن المَفْعَل منه مفتوحُ العَيْن، إِلاَّ ما كان من بَنات الواو على بِناءِ وَطِىء يَطَأُ وَطْأَ.
ووَطُؤَ المَوْضِعُ يَوْطُؤ، وَطاءَةً أَى، صار وَطِيئاً، وكذلك الطِّئة والطَّأَة مثال الطِّعَة والطَّعَة فى المصدر، فالهاء عِوضٌ عن الواو كما قال الكميت:
أَغْشَى المكَارِهَ أَحياناً ويَحْمِلُنِى ... منهُ على طَأَةٍ والدَّهْرُ ذُونُوَبِ
أَى على حال لَيّنة، ويروى على طِئة بالكسر.
وقولُه تعالى: {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ} ، أَى تنالُوهم بمكروه. وبنو فلان يَطَؤُهم الطَّريقُ أَى ينزلون قريبا منه، والمعنى: يَطَؤُهم أَهلُ الطَّريق.
وأَوطأْتُه الشىءَ فوَطِئَهُ. ورجلٌ مُوَطَّأُ العَقِب، أَى سلطانٌ يُتَّبَعُ، وتُوطَأُ عَقِبُه ووطَّأَه تَوْطِئَة: جعله وَطِيئا. ووَطَّأَهُ فتَوَطَّأَ، وهَيَّأَهُ فتَهَيَّأَ.(5/235)
وقوله تعالى: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أَى لِيُوافِقٌوا ويُماثِلُوا قاله الأَخفش.
وقولُه تعالَى: {هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} بالكسر والمدّ وهى قراءَة أَبى عمرو وابن عامر، أَى مُواطَأَة، وهى المواتاة، أَى مواتاةُ السمع والبصر إِيّاه، وذلك أَنَّ اللَّسان يُواطِئُ العملَ، والسّمْعَ يُواطئ فيها القَلْبَ.
وقرأَ [غير] أَبى عمروٍ وابن عامر: (أَشَدُّ وَطْأ) بسكون الطَّاءِ أَى قِياماً، أَى هى أَبلغ فى القيام وأَوطأُ للقائم، وهى أَبلغ فى الثواب. ويجوز أَن يكون معناه أَغلظ على الإِنسان من القيام بالنَّهار لأَنَّ اللَّيل جُعِل سَكَناً.
وتَواطَؤُوا عليه: تَوافَقُوا.(5/236)
بصيرة فى وعد
الوَعْدُ يُسْتعمل فى الخَيْر والشرّ. قال الفرّاءُ: يُقال وَعَدْتُه خَيْراً ووَعَدْتُه شَرّاً، قال القطامى:
أَلاَ عَلِّلانِى كُلُّ حَىٍّ مُعَلَّلُ ... ولا تَعِدانِى الشَرَّ والخَيْر مُقْبِلُ
والعِدَةُ: الوَعْدُ، وفى الحديث: "العِدَةُ عَطِيَّة"، و "العِدَةُ دَيْن" قال الرّاعى يمدح سَعِيدَ بنَ العاصِ:
وأَنْضاءٍ أَنَخْنَ إِلى سَعِيدٍ ... طُرُوقاً ثُمَّ عَجَّلْن ابْتِكارَا
على أَكْوارِهنَّ بَنُو سَبيل ... قليلٌ نومُهم إِلاَّ غِرارَا
حَمَدْنَ مَزارَهُ فلَقِينَ منهُ ... عَطاءً لم يكنْ عِدَةً ضِمارَا
والمَوْعِدَةُ، والمِيعاد: المُواعَدَة، والوَقْت، لأَنَّ ما كان فاءُ الفعل منه واواً أَو ياءً ثمَّ سَقَطَتا فى المستقبل مثل يَعِدُ ويَزِنُ ويَهَبُ، ويَضَعُ، ويَئل، فإِنَّ المَفْعِل منه مكسورٌ فى الاسم والمصدر جميعاً، ولا تُبالى مفتوحاً كان يَفْعلُ منه أَو مكسوراً بعد أَن تكون الواوُ منه ذاهبة، إِلاَّ أسماء/ جاءَت نوادِرَ، والقياس الكسر. فإِن كانت الواو من يَفْعَلُ ثابتة(5/237)
نحو يَوْجَلُ ويَوْجَعُ ويَوْسَنُ ففيه الوجهان، فإِن أردت به المكان أَو الاسم كَسَرْت، وإِن أردتَ به المصدرَ فتحتَ، فقلت: مَوْجَل ومَوْجِل.
وقوله تعالى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} قال مجاهد: عَهْدك، وكذلك قوله تعالى: {أَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} أَى عهدى. وقوله تعالى: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ، رِزْقكم: المطر، وما تُوعَدُون: الجَنَّة. وقوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} أَى يَخَوِّفكم به فيَحَمِلكم على مَنْع الزَكَوات.
قال الفرّاءُ: إِذا أَسْقَطُوا الخيرَ والشَرَّ قالوا فى الخَيْر: المَوْعِد والعِدَة، وقالوا فى الشرّ: الوَعِيدُ والإِيعاد. قال عامِر بن الطَّفْيل:
ولا يَرْهَبُ ابنُ العَمِّ ماعشت صَوْلَتىِ ... ولا أَخْتَتِى من صَوْلَة المُتَهَدِّد
وإِنَّى وإِن أَوْعَدْتُه أَو وَعَدْته ... لَمُخْلِفُ إِيعادِى ومُنْجزُ مَوْعِدِى
وتَواعدَ القومُ: وَعَد بعضُهم بعضاً فى الخَيْر، وأَمّا فى الشَرِّ فيقال اتَّعد: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} . وقال تعالى فى الوَعْد بالخير: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} . ومن الوعد بالشَرّ قولُه تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} . وممّا يتضمّن الأَمرَيْن جميعاً قولُه تعالى: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولاكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فهذا وعدٌ بالقيامة وجَزاء العِباد إِنْ خَيْراً فَخيْرٌ وإِنْ شَرّاً فشرٌّ.(5/238)
والمُواعَدَة معروفة، قال الله تعالى: {ولاكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} أَى نِكاحاً، وقال: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ، {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} فثلاثين وأَرْبَعِين مفعولٌ لا ظرف، أَى انقضاءَ ثلاثين. قال الزجّاج: كان من الله الأَمر ومن موسى القَبولُ، فلذلك ذكر بلفظ المُفاعَلَة. وقرأَ أَبو عَمْرٍو وأَهلُ البصرة: وَعَدْنا من الوَعْد. وقال تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} وقوله: {واليوم الموعود} يعنى القِيامَة، كقوله تعالى: {إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} .
ومن الإيعاد قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أَى أَوْعَدْت مَن عَصانى من العَذاب. قال ابن عباس قالوا يا رَسُولَ اللهِ لَوْ خَوَّفْتَنا فنزلت: {فَذَكِّر بالقرآنِ من يخافُ وَعِيدِ} .
وقوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} .
فقولُه: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسيرٌ للوَعْد، كما أَنَّ قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} تفسيرٌ للوَصِيَّة. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} فقولُه: أَنَّها لكم بدلٌ من إِحدَى الطَّائفتين.(5/239)
بصيرة فى وعظ ووعى
الوَعْظُ والعِظَةُ والمَوْعِظَة مصادر قولك: وَعَظْتُه أَعِظَه، وهو زَجْرٌ مقتَرِنٌُ بتخويف. وقال الخليل: هو التَّذْكِير بالخَيْر، ومنه قولُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "السَّعِيدُ من وُعِظَ بغَيْره" قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} قال رؤبة ويروى للعجّاج:
لما أَوْنا عَظْعَظَتٍْ عِظْعاظَا ... نَبْلُهُم وَصَدَّقُوا الوَعّاظَا
يقولُ: كان وَعَظَهُم النُوَبَ واعِظٌ وقال لهم إِنْ ذهبتم هلكتهم، فلمّا ذهبوا أَصابهم ما وَعَظَهم به فصدّقوا الوُعّاظ [حينئذ] . وفى الحديث: "يأْتِى على النَّاسِ زَمانٌ يُستَحَلُّ فيه الرِبّا بالبيع، والقَتْلُ بالمَوْعِظة" وهو أَنْ يُقْتَل البَرِىءُ ليتَّعظ به المُرِيب.
/الوَعْىُ مصدر وَعاه يَعِيه: حَفِظَه، وجَمَعَه كأَوْعاهُ، قال الله تعالى: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} . ومالى منه وَعْىٌ، أَى بُدٌّ.(5/240)
والوِعاءُ، والوُعاءُ - بالكَسْرِ والضَمِّ - والإِعاءُ: الظَّرفُ، والجمع: أَوْعِيةٌ. وأَوْعاهُ، وأَوْعىَ [عليه] : قَتَّرَ عَلَيْه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تُوعِى فَيُوعِى اللهُ عَلَيْك".
والإِيعاءُ: حِفظُ الأَمْتعة فى الوِعاء، قال الله تعالى: {وَجَمَعَ فأوعى} ، قال:
والشَرُّ أَخْبَثُ ما أَوْعَيْتَ مِنْ زادِ
وقال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} .
والواعِيَةُ: الصُّراخ والصّوت لا الصّارخة.
ولا وَعْىَ عن ذلك الأَمر، أَى لا تَماسُكَ دوُنه.(5/241)
بصيرة فى وفد
وَفد فلان على الأَمِيرِ يَفِدُ وَفْداً ووفُوُداً ووِفادة (أَى، ورد رَسولا، فهو وافِدٌ، والجمع وَفْد، مَثل صَاحِب وصَحْب. وجمع الوَفْد: أَوْفادٌ ووُفُود.
والوافِدُ من الإِبل والقطا: ما سَبَق سائرها، قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمان وَفْداً} .
والوافِدان فى قول الأَعشى:
رَأَتْ رَجُلاً غائبَ الوافِدَيْـ ... ـنِ مُخْتَلِفَ الخَلْقِ أَعْشَى ضَرِيرا
هما الناشِزان من الخَدَّيْن عند المضغ، فإِذا هَرِمَ الإِنسانُ غاب وافِداه.
وأَمْسَيْنا على أَوْفاد، وأَوْفاز، أَى على سَفَرٍ قد أَشخصنا، أَى أَقْلَقنا.
وأَوْفَدْتُه إِلى الأَميرِ أَى أَرْسَلْتُه. والإِيفادُ على الشىء: الإِشرافُ عليه، قال حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالّى رضى الله عنه:
تَرَى العِلافِىَّ عَليْها مُوفِداَ ... كأَنَ بُرْجاً فَوْقَها مُشَيَّدَا
والإِيفاد أَيضاً: الإِسْراعُ. وَفَّدْتُهُ إِلى الأَمير تَوْفِيداً: مثلُ أَوْفَدْتُه. واسْتَوْفَدَ الرجلُ فى قِعْدَتِه: مثل اسْتَوْفَزَ.(5/242)
بصيرة فى وفر ووفض
شَىْءُ وافِرٌ ومَوْفُورٌ ومُوَفَّر ومُتَوَفِّر: كثيرٌ، وقد وَفَرَ ووَفُر.
ووَفَرْتُه ووَفَّرْته: كَثَّرْتُه. ووَفَّرْت عليه حَقَّهُ فاسْتَوْفَره، نحو وَفَّيْتُه إِيّاه فاسْتَوْفاه. وهذه أَرضٌ فى نَبْتها وشَجَرها وَفْرَةٌ (وَفِرَةٌ) أَى وُفُورٌ لم يُرْعَ.
ولفُلان وَفْرٌ، أَى مالٌ وافِرٌ، قال الله تعالى: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} .
وسِقاءٌ أَوْفَرُ، ومَزادَةٌ وَفْراءُ: لم يُنْقَص من أَدِيمها شىءٌ.
وجاريةٌ ذاتُ وَفْرَة: ذات لِمَّة إِلى أُذَنَيْها. ووفَّر شَعْرَه: أَعْفاهُ.
وتَوَفَّر على صاحِبه: رَعَى حُرُماتِه.
وَفَضَ يَفِضُ وَفْضاً، وأَوْفَضَ، واسْتَوْفَضَ: عَدَا وأَسْرَعَ، قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} ، أَى كأَنَّهم نُصِبَ لهم شىء فهم يُسرعون إِليه ويسبقون.
ولَقِيتُه على أَوْفاض، أَى على عَجَلَة، الواحد وَفْضٌ، ووَفَضٌ، قال رؤبة:
تَمْشِى بنا الجِدَّ على أَوْفاضِ
واسْتَوْفَضَه: طَرَدَه واسْتَعْجَلَه. واستَوْفَضت الإِبلُ: تَفَرَّقت. وفى الحديث: "واسْتَوْفضوه عاما"، أَى غَرَّبُوه.(5/243)
بصيرة فى وفق ووفى
الوَفْقُ من المُوافَقَة بين الشَّيْئين كالاْلتِحام، يقال: حَلُوبَتُهُ وَفْق عِيالِه، أَى لها لَبَنٌ قَدْر كِفايتهم لا فَضْلِ فيها، قال الرّاعِى:
أَمّا الفَقِيرُ الَّذى كانت حَلُوبَتُه ... وَفْقَ العِيال فلم يُتْرك لَه سَبَدُ
وأَتيتك لِوفْقِ الأَمْرِ وتَوْفاقِه وتَيْفاقِه، ونِيفاقِه.
والمُوافَقة معروفة، قال الله تعالى: {جَزَآءً وِفَاقاً} أَى جازيتُهم جزاء وافَق أَعمالَهم قال مقاتل: وافَق العَذابُ الذَنْب، فلا ذَنْبَ أَعظم من الشِّرك، ولا عَذاب أَعْظَم من النَّارِ.
واسْتَوْفَقْتُ الله: سأَلُته التَّوفيق. ووَافَقْتُه: صادَفْتُه. والتَّوافُق: الاتِّفاق. ولا يَتَوفَّقُ عبد حتى يوفِّقَه الله.
ووَفِقَ الأَمرُ/ يَفِقُ: كان صواباً مُوافِقاً للمراد. ووُفِّقْتَ أَمْرَك: أُعْطِيتَه موافِقا لمُرادِك. وإِنَّك لمُوفَّقٌ، أَى رَشِيدٌ.
الوَفاءُ: التَّمام. ودِرهمٌ واف، وكيلٌ واف، وشعرٌ واف. وصار هذا وَفاءً لذاك، أَى تماماً له. ومات فلان وأَنت بوَفاءٍ، أَى بتمام عُمر.(5/244)
ووَفَى بالعَهْدِ وأَوْفَى به: حفظَه وتَمَّمه. وهو وَفِىٌّ من قومٍ أَوْفياء، ووَفاةٌ. ووَفَّاه حَقَّه وأَوْفاهُ. قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} ، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} .
وقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} ، توفِيَتُه أَنَّه بذل المجهود فى جميع ما طُولِب به ممّا أَشار إِليه فى قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، بَذَل مالَه فى الإِنفاق فى طاعة الله، وبَذَل وَلَده الذى هو أَعزُّ من نفسه للقُرْبان، وإِلى ما نبّه عليه بقوله وفَّى أَشار بقوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} .
ووافَيْتُه بمكان كذا أَتَيْتُه وفاجأْتُه.
وتَوْفِيَةُ الشَّىْءِ: بَذْلُه وافِياً، واستِيفاؤه: تناوُلُه وافيا، قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} ، وقال تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} .
وقد عَبِّرَ عن الموت والنَّوم بالتَوَفِّى، قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} .
وقولُه تعالى: {ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقد قيل: تَوَفِّىَ رِفْعة واختصاص لا تَوَفِّىَ موت. وقال ابن عبَّاس رضى الله عنهما: تَوَفِّىَ مَوْت لأَّنَّه أَماتَه ثم أَحياه.(5/245)
بصيرة فى وقب ووقت
وَقَبَت الشمسُ: إِذا غابَتْ ودخلتْ موضِعَها. ووَقَبَ الظلامُ: دَخَل على الناس، قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} ، قال الحسن: إِذا دخلَ على الناسِ. وقالت عائشة رضى الله عنها: أَخذ بيدى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم نظر إِلى القَمَر فقال: "يا عائشة تَعَوَّذِى بالله من هذا فإِنَّه الغاسِق إِذا وَقَبَ"، ووُقُوبُه: دُخولُه فى الكسوف. أَراد تَعَوّذِى بالله منه عند كسوفه. ووَقَبَتْ عيناه غارَتا.
والوَقْبُ فى الجبل: نُقْرَة يجتمع فيها الماءُ؛ والثَّقْبُ من المَحَالَة؛ والرجلُ الأَحمقُ، قال الأَسْودُ بن يَعْفرُ:
أَبَنى نُجَيْحٍ إِنَّ أُمَّكمُ ... أَمَةٌ وإِنَّ أَبَاكمُ وَقْبُ
أَكَلَتْ خَبِيثَ الزاد فاتَّخَمَت ... عنه فَشَمَّ خِمارَها الكَلْبُ
ووَقْبَة الثَّريد: أُنقُوعَتُه.
والمِيقابُ: الحَمْقاء.
الوَقْتُ: نهايةُ الزَّمان المفروض للعَمَل، ولهذا لا يكاد يُقال إِلاَّ مُقَيَّداً نحو: وقتُ العَصْر، وقت الراحة [و] نحوه.(5/246)
ووَقَتُّ كذا كوَجَدْتُ: إِذا جعلتَ له وَقْتاً يُفْعَل فيه، قال الله تعالى: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} .
والتَّوْقيت: تَحْديد الأَوقات، تقول منه: وَقَّتُّه ليَوْم كذا، مثل أَجَّلْتُه.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} قرأَ أَهل البصرة: وُقَّتَتْ بتشديد القاف، وقرأَ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف، وقرأَ الباقون بالألف وتشديد القاف، وهما لغتان فصيحتان؛ والعرب تُعاقِب بين الواو والهمزة كقولهم: وَكَّدْتُ وأَكَّدْتُ، ووَرَّخْتُ وأَرَّخْتُ. ومعناهما جُمِعَت لمِيقات يوم معلوم، وهو يومُ القِيامة لِيَشْهَدُوا على الأمم.(5/247)
بصيرة فى وقد
وَقَدَت النارُ تَقِدُ وَقْداً، ووُقوداً، ووَقوداً بالفتح. /وهذا شاذٌّ ووَقَدا بالتحريك، وقِدَةً كِعدَة، ووَقَداناً بالتحريك. وقرأَ الحسنُ البصرىّ وأَبو رَجاءٍ العطاردىّ ويَزِيدُ النحوىُّ: {النار ذَاتِ الوقود} بالضمَّ والوَقُود بالفتح أَيضاً.
والوِقادُ بالكسر، والوَقِيدُ: الحَطَب، وقرأَ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {أُولئك هم وقاد النَّار} . وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: {وَقِيدُها الناسُ والحِجارة} . وقال ابن فارس: الوَقَد بالتحريك نَفْس النار. والمَوْقِدُ: مَوْضِع الوُقود، مثال مَجْلِس لموضع الجُلوس.
واسْتَوْقَدَتِ النارُ: أَتَّقَدَتْ، واسْتَوْقَدْتُ النَّارَ: أَوْقَدْتُها لازم متعد؛ قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} قال بعضهم:
نحن حَبَسْنا بنى جَدِيلَة فى ن ... رٍ من الحرب جَحْمَة الضَرَمِ
نَسْتَوقد النَّبْلَ بالحَضِيض ونَصْـ ... طاد نُفوساً بُنيت على الكَرَم
ويقال: أَوْقَدْتُ النارَ فاتَّقَدَت وتَوَقَّدَت، قال الله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} .(5/248)
بصيرة فى وقذ ووقر
وَقَذَه يَقِذُهُ وَقْذاً: ضَرَبَه حتى اسْتَرْخَى وأَشْرَف على الموت. وقوله تعالى: {والموقوذة} ، وهى التى تُقْتل بِعَصاً أَو بحجارةٍ لاحَدّ لها فتموت بلا ذَكاة.
ويقال: وَقَذَهُ النُّعاس: إِذا غَلَبَه. وَوَقَذَهُ الحِلْمُ، أَى سَكَّنَه. ورجلٌ وَقِيذُ الجَوانح، أَى حَزِينُ القَلْبِ كأَنَّ الحزنَ ضَعَّفَه وكَسَرَ قَلْبَه.
ووَقَذْتُه وأَوْقَذْتُه: تركتُه عَلِيلاً.
الوَقْرُ: الثِّقَلُ فى الأُذُن، وقد وَقِرَتْ أُذُنُه بالكسر تَوْقَرُ وَقْراً، أَى صَمَّت، وقياس مصدرِه التحريك إِلاَّ إِنَّه جاءَ بالتسكين. ووَقَر اللهُ أُذُنَه يَقِرُهَا وَقْراً. يقال: اللَّهمّ قِرْ أُذُنَه. ووُقِرَتْ أُذُنُه على ما لم يُسمَّ فاعله فهى مَوْقُورَة.
ووَقَرْتُ العَظْمَ أَقِرُه وَقْراً: صَدَعْتُه، قال الأَعشى:
يا دَهْرُ قد أَكْثَرْتَ فَجْعَتَنا ... بِسَراتِنا ووَقَرْتَ فى العَظْمِ
والوَقارُ: الرّزانةُ، وقد وَقَرَ الرّجلُ يَقِرُ وَقَاراً وقِرَةً، فهو وَقُورٌ، قال الرّاجز:
ثَبْتٌ إِذَا مَا صِيحَ بالقَوْم وَقَرْ(5/249)
وقال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وقرئ: وَقَرْن بالفتح فهذا من القَرار كأَنَّه يريد اقْرَرْن فتُحْذَفُ الراء الأُولى للتَّخْفِيف وتُلقى فتحتُها على القاف، فيستغنى عن الأَلف بحركة ما بعدَها.
ويحتمل قراءَةُ من قرأَ بالكسر أَيضاً أَن يكون من اقْرِرْن بكسر الراءِ على هذا، كما قرئ {فَظَلْتُم تَفَكَّهُون} بكسر الظاءِ وفتحها، وهو من شواذ التخفيف.
والتَّوْقِيرُ: التعظيم والتَّرْزِينُ أَيضا. وقوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أَى لا تخافون لله عَظَمَةً، هكذا عن الأَخفش.
ورجلٌ مُوَقَّرٌ: مجرَّب.
والتَّيقُورُ: الوقارُ، وأَصلُه الوَيْقُورُ، قُلِبت الواو تاءً.
وأَوْقَرَهُ الدَّيْن: أَثْقَلَه. وفَقِيرٌ وَقِيرٌ: إِتْباعٌ.(5/250)
بصيرة فى وقع
الوُقوع: مصدر وَقَعَ الشىءُ يَقَعُ وُقوعاً أَى هُوِيّاً. والوَقْعُ: وَقْعةُ الضَرْبِ بالشىءِ.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} أَى واجب على الكفار، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} أَى وجب وقيل: ثَبَتَت الحُجَّة عليهم، وقيل معناه: إِذا ظهرت أَماراتُ القِيامة التى تقدّم القول فيها. وكذلك قوله تعالى: {فَوَقَعَ الحق} أَى ثَبَتَ.
وفى الحديث: "اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرة، فإِنَّها تَقَعُ من الجائع مَوْقِعهَا من الشَبْعان"، قال بعضهم: أَراد أَنْ شِقّ التمرة لا يُغْنِى من الجُوع ولا يتبيّن له موقع على الجائِع إِذا تناوله، كما لا يتبيّن على الشبْعان إِذا أَكله، فلا تَعْجِزُوا/ أَن تَتصدّقوا به. وقيل: لأَنَّه يَسْأَل هذا شِقَّ تَمْرة وذا شِقَّ تمرة، والثالثَ والرابعَ، فيجتمع له ما يَسُدَّ جَوْعته.
ويقال للطَّير على شجر أَو على أَرض: هنّ وُقوعٌ ووُقَّعٌ، قال المَرَّار بن سعيد الفَقْعَسِىّ:
أَنا ابْنُ التارك البَكْرى بشْر ... عَلَيْه الطَيْرُ تَأكُلُه وُقُوعا(5/251)
والواقِعَةُ لا تُقال إِلاَّ فى الشّدة والمكروه.
وأَكثر ما جاءَ فى القرآن من لفظ وَقَعَ جاءَ فى العذاب والشدائد، نحو: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أَى القيامة.
ووُقوع القَوْل: حُصُول مُتضمَّنِه، قال تعالى: {وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ} أَى وجب العذاب الَّذى وُعِدُوا لظلمهم، وقوله تعالى: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} استعمالُ لفظ على مع الوقوع هاهنا تأكيد للوُجوب كاستعمال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} . وقوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} عبارةٌ عن مُبادَرَتِهم إِلى السُجود.
والوَقْعَةُ فى الحَرْب: صَدْمَةٌ بعد صَدْمة. والاسمُ الوَقِيعَة والواقِعَة. ووقائع العَرَب أَيّامها التى كانت فيها حُروبهم.
والواقِعَة: النازِلَة من شدائد الدّهر.
ومَواقِعُ الغَيْث: مُساقِطُه، وفى الحديث: "يُوشِكُ أَن يكون خَيْرُ مالِ المُسْلم غَنَماً يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبال ومَواقِعَ القَطْر، يَفِرّ بدِينه مِن الفِتَن".
والوَقْع [و] بكسر القاف: السّحاب الرّقيق. وبالتحريك: الحِجارَةُ والحَفاءُ، وقد وَقِعَ كَفَرِحَ.
ورجلٌ وَقَّاعٌ ووَقَّاعَةٌ: يَغْتابُ النَّاسَ كثيراً.(5/252)
وأَوْقَعَ بالقوم: بالَغَ فى قِتالهم. والرّوضة: أَمسكت الماءَ.
وطريقٌ مُوَقَّع: مُذَلَّل، ورجُلٌ مُوقَّع: أَصابته البَلايا.
ووَقعَ القَوْمُ: عَرَّسُوا قال ذو الرّمة:
إِذا وَقَّعُوا وَهْناً كَسَوْا حَيْثُ مَوَّتَتْ ... من الجَهْد أَنْفُاسُ الرّياح الحَواشِكِ
والاسْتِيقاع: تخوُّف ما يَقَع به، وهو شبه التَوَقُّع.
[والوِقاعُ] والمواقَعَةُ: المُحاربة، قال القطامىّ:
ولو يُسْتَخْبَرُ العُلَماء عَنَّا ... ومَنْ شَهِدَ المَلاحِمَ والوِقاعا
بِتَغْلِبَ فى الحُروب أَلم يَكُونوا ... أَشدَّ قَبائِلِ العُرْب امتناعا
وقال:
وكُلُّ قبيلةٍ نَظَرُوا إِلَيْنا ... وخَلَّوْا بَيْنَنا كَرِهُوا الوِقاعا
وواقع المرأَة: خالطها وباضَعها.
وتوقَّعه: انتظر كَوْنَه.(5/253)
بصيرة فى وقف
الوَقْفُ لازمٌ مُتَعَدّ، تقول: وَقَفَتِ الدابّةُ والرَّجُلُ وُقُوفاً، ووَقَفْتُه أَنا وَقْفاً، قال امُرؤ القيس:
قِفانَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيب ومَنْرِلِ ... بسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فحَوْمَلِ
وقال الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} ، وقال ذُو الرُّمَّة:
وَقَفْتُ على رَبْعٍ لِمَيَّةَ ناقَتِى ... فما زِلْتُ أَبْكِى عِنْدَهُ وأُخاطِبُه
ووَقَفْتُه على ذَنْبِه: أَطْلَعتُه عليه.
والمَوْقِفُ: المَوْضِع الذى تَقفُ [فيه] حيث كانَ.
والواقِفُ: خادِم البِيعَة لأَنَّه وَقَفَ نَفْسَه على خِدْمتها. والوقِّيفَى مِثالُ خِصِّيصَى: الخِدْمَةُ.
وأَوْقَفْتُ وَقْفاً للمَساكِين لغةٌ رديئة، وليس فى الكلام أَوْقَفْتُ إِلاَّ حرف واحد، يُقال: أَوْقَفْتُ عن الأَمِر الَّذى كنتُ فيه، أَى أَقْلَعْت، قال الطِرِمّاح:
فتَطَرَّبْتُ لِلْهَوَى ثمَّ أَوْقَفْـ ... تُ رِضاً بالتُقَى وذُو البِرِّ رَاضِى(5/254)
وحكَى أَبو عَمْرو: وكَلَّمْتُهم ثم أَوْقَفْتُ، أَى سَكتُّ.
وقال أَبو عمرو بن العَلاءِ: لَوْ مَرَرْت برجل واقف فقلت: ما أَوْقَفَك ها هُنا لرأَيته حَسَناً. وعن الكسائىّ: أَىُّ شَىْءٍ أَوْقَفَكَ ها هُنا، أَى أَىّ شَىْءِ صَيَّرَك إِلى الوُقُوف؟
وتَوَقَّفَ: تَلَبَّثَ. وفى الشىءِ: تَلَوَّم.
/وتَواقَفَ الفَرِيقان فى القِتال ووَاقَفا مُواقَفَةً ووقافاً.
واسْتَوْقفه: سأَلَهُ الوُقوف. ويقالُ: امرُؤ القَيْسِ أَوَّلُ من اسْتَوْقَفَ الرَّكْبَ على رسْم الدّارِ بِقِفَا نَبْك.(5/255)
بصيرة فى وقى
وَقاهُ الله كُلَّ سُوءٍ وِقايَةً ووَقْياً وواقِيَةً، ووَقّاه تَوْقِيَةً: صانَهُ، وفى المثل: "الشُّجاع مُوقًّى".
والوَقاءُ والوِقاءُ بالفتح والكسر، والوقايَةُ والوَقايَةُ والوَقايَةُ: ما وَقَيْت به.
والتَّوْقِيَةُ: الكَلاءةُ والحِفْظ ممّا يؤذيه ويضرّه، قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} واتَّقَيْتُ الشَّىءَ أَتَّقِيهِ وتَقَيْتُه (أَتْقيه تُقىً وتَقِيَّةً) وَتِقاءً كَكِساء: حَذِرْتُه، والاسم التَّقْوَى، قال الله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التقوى} أَى أَهل أَنْ يُتَّقَى عِقابُه.
رجلٌ تَقِىٌّ من أَتقِياءِ وتُقَواء. وفيه تُقَيَّا تصغير تَقْوَى، قال النَّمر ابن تَوْلَب.
وإِنَّى كما قَدْ تَعْلَمِين لأَتَّقِى ... تُقَيَّا وأُعْطِى من تِلادِىَ لِلْحَمْدِ
وأَصل التَّقْوَى وَقْوَى، أُبدلت الواو تاءً كما أُبدلت فى تُراث وتُخَمَة وتُجاه. وكذلك اتَّقَى يَتَّقِى أَصلُه إِوْتَقَى يَوْتقِى، فقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، وأُبْدِلت منها التاء وأُدْغمت، فلمّا كثر استعمالهُ على(5/256)
لفظ الافِعال توهمّوا أَنَّ التَّاءَ من نفس الكلمة، فجعلوه إِتَقَى يَتَقَى بفتح التاءِ فيهما، ثمَّ لم يجدوا له مثالاً فقالوا: تَقَى يَتْقِى مثل قَضَى يَقْضِى. وتقول فى الأَمر: تَقْ، والمرأَة تَقِى ومن ذلك قوله:
زيادتُنا نُعْمانُ لا تَقْطَعَنَّها ... تَقِ اللهَ فينا والكِتابَ الَّذى تَتْلُو
بنى الأَمر على المُخفَّف "ومن عَصَى اللهَ لم تَقِهْ منه واقِيةً".
قال أَبو عبد الله التُّونُسى: حقيقةُ التَّقْوَى عبارةٌ عن امتِثال المأْموراتِ واجتنابِ المَنْهِيّات.
وقال الغزالى: التَّقْوَى فى قول شُيوخنا: تنزيهُ القَلْب عن ذَنْب لم يسبق منك مِثْلُه حتى يَحْصُلَ للعبدِ من قُوّة العَزْم على تركِه وِقايةٌ بينه وبين المعاصى. وأَمّا تفصيلاً فإِنَّ التقْوَى تُطْلق فى القرآن الكريم على ثلاثة أَشياء:
أَحدها: بمعنى الخَشْيَة والهَيْبة، قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فاتقون} وقال تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} .
والثانى: بمعنى الطَّاعة والعِبادَة، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ، قال ابنُ عبّاسٍ: أَطيعوا الله حَقَّ طاعَتِه. قال مُجاهد: هو أَن يُطاع ولا يُعْصَى وأَن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأَن يُشْكَر فلا يُكْفَر.(5/257)
الثالث: بمعنى تنزيه القَلْبِ عن الذُّنوب، وهذه هى الحقيقة فى التَّقْوَى دُون الأَوَّلَيْن، أَلا ترى إِلى قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولائك هُمُ الفآئزون} ، ذكر الطَّاعة والخشيةَ ثمّ ذكر التَّقْوَى، فعلمت بهذا أَنّ حقيقة التقوَى بمعنى غير الطاعة والخشية، وهى تنزيه القلب عمّا ذكرناه.
ومَنازِل التقوَى ثلاثةٌ على ما ذكره الشيوخ الجِلَّة: تَقْوَى عن الشِّرْك، وتَقْوَى عن البِدْعَة؛ وتقوَى عن المعَاصِى الفرعيّة. وقد ذكرها الله سبحانه فى آية واحدة وهى قوله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} ، التَّقْوَى الأُولَى تَقْوَى عن الشِّرْك، والإِيمانُ فى مقابَلَة التوحيد؛ والتَّقْوَى الثانية عن البِدْعَة، والإِيمانُ المذكورُ معها إِقرارُ السُنَّةِ والجمَاعة؛ والتَّقْوَىَ الثالثة عن المعاصِى الفرعيّة، والإِقرار فى هذه المنزلة قابَلَها بالإِحْسانِ وهو الطَّاعة والاستِقامة عليها.
قال الغزالى: ووجدت التَّقْوى بمعنى اجْتِناب فُضولِ الحلالِ، وهو ما فى الخَبَر المشهور عن النبىّ صلَّى الله علهي وسلَّم أَنَّه قال: "إِنَّما سُمِّىَ المُتَّقُونَ متقين لِتَرْكِهِم مَالاَ بأَسَ حَذَراً عمّا به بَأسٌ" فأَحببت أَن أَجمع بين ما قالَه عُلماؤنا وبين ما فى الخبر النَّبوىّ فيكون حَدّاً جامِعاً، ومعنى بالِغاً فأَقول: التَّقْوَى اجْتِناب ما تَخاف ضرراً فى دِينِكَ وذلك(5/258)
قسمان: مَحْضُ الحَرام، وفُضُول الحَلال، لأَنَّ استِعْمال فُضُول الحَلال قد يُخْرِج صاحِبَه إِلى الحرامِ ومَحْضِ العِصْيان، وذلك لِشِرَّةِ النَّفْسِ وطُغْيانِها، فمن أَراد أَنْ يَأْمَن الضَّررَ فى دِينه اجْتنبَ المحظورَ وامتنعَ عن فُضُول الحلالِ حَذَراً أَن يَجُرَّه إِلى مَحضِ الحَرام. وحَصل من ذلك أَنَّ التَّقْوَى على قسمين: فَرْضٌ ونَفْلٌ، فالفَرْضُ ما تَقَدَّم من أَنَّها تنزيهُ القلبِ عن شَرٍّ لم يَسْبِق عَنْك مثلُه لِقُوَّة العَزْم على تَرْكِه حتىّ يصير ذلك وِقايَةً بينك وبين كُلّ شرٍّ. والنَّفْل: ما نُهِىَ عنه نَهْىَ تأدِيب، وهو فُضُول الحَلال، فالمباحاتُ المأَخوذات بالشُّبُهات؛ فالأُولَى يلزمُ بِتَرْكِها عذابُ النار، والثَّانية خَيْرٌ وأَدَب يلزم بتركها الحَبْسُ والحِساب، والتَّعْيير والَّلوْم. فمن أَتَى بالأُولى فهو فى الدّرجة الأَدْنَى من التَّقْوَى، ومن أَتَى بالأُخْرَى فهو فى الدّرجة العُلْيا.
واعلم أَنَّ التَّقْوَى كَنْزٌ عزيزٌ، إِنْ ظَفِرْتَ به فكم تجد فيه من جَوْهَرٍ شريف وعِلْقٍ نفيس، وخير كثيرٍ، ورِزْقٍ كريم، وغُنْمٍ جسيم ومُلْك عظيم. فهى الخَصْلة الَّتى تجمع خَيْرَ الدّنيا والآخِرة. وتأَمَّل ما فى القرآن من ذِكْرِها كم عَلَّق بها من خير، وكم وَعَدَ عليها من ثَواب، وكم أَضاف إِليها من سَعادة، قال الله تعالى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} وقال تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا(5/259)
والذين هُم مُّحْسِنُونَ} ، وقال: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} وقال: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} . وقال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فوَعَدَ فيها بإِصْلاح العَمَلِ ثم بغُفْرانِ الذُّنوب فقال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} . وبَشَّر بمَحَبَّةِ الله تعالى بقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} ، ولو لم يكن فى تَقْوَى الله تعالى إِلاَّ هذه الخصلة الَّتى هى محبَّةُ الله تعالى لَكَفَتْ عمّا عَداها. ومنها أَنَّ العَمَلَ لا يُتَقَبَّل إِلاَّ منهم {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} ، ومنها الإِكرامُ والإِعْزاز، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} ، ومنها البِشارةُ عند الموت، قال الله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} . ومنها النَّجاةُ من النار، قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} ، {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} ، ومنها الخُلُود فى الجَنَّة، قال الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} .
ثمّ تأَمَّلْ أَصلاً واحداً، هب أَنَّك جاهَدْتَ وثابرت جميعَ عُمرك فى العِبادة، وعِشْتَ ما عشت، وحصل لك من العِنايات ما حصل، أَلَيْسَ ذلك كلُّه مُتَوقِّفاً على القَبول؟ وإِلاَّ كان هَباءً(5/260)
منثوراً. وقد علمنا أَنَّ الله تعالى إِنَّما يَتَقَبَّل من المتَّقين، فَرَجَعَ الأَمرُ كلُّه إِلى التَّقْوَى. وقال بعضُ المُرِيدين لَشْيخِه: أَوْصِنِى قال: أُوصِيكَ بما أَوْصىَ الله تعالَى الأَوَّلِين والآخِرِين/ وهو قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} . قال الشيخ أَبو حامد رحمه الله: أَلَيْسَ اللهُ سبحانه أَعلمُ بصَلاح العَبْد من كلِّ أَحدٍ، ولَو كانت فى العالَمِ خصلةٌ هى أَصلحُ للعبد وأَجْمَعُ للخير، وأَعظمُ للأَجْرِ، وأَجَلُّ فى العُبوديّة، وأَعظمُ فى القَدْرِ، وأَوْلَى فى الحالِ، وأَنجحُ فى المآلِ من هذه الخَصْلَة الَّتَى هى التقوىَ لكان الله سبحانه أَمَرَ بهَا عِبادَه وأَوْصَى خَواصّه بذلك؛ لِكمال حِكْمَته، ورحمته، فلمّا أَوْصَى بهذه الخَصْلة جميعَ الأَوْلين والآخِرين [من] عِبادِه واقتصر عليها عَلِمْنا أَنَّها الغايةُ التى لا مُتجاوَزَ عنها، وأَنَّه عزَّ وجلّ قد جمع كُلَّ مَحْضِ نُصْح، ودَلالة، وإِرشادِ، وتأَدِيبٍ، وتعليم، وتَهْذيب فى هذه الوصيّة الواحدة كما يَلِيقُ بحِكْمَته ورحمته، فهى الخَصْلة الجامِعةُ لخير الدُّنيا والآخرة، الكافِيَة لجميع المهمات، المُبْلِغَة إِلى أَعلَى الدّرجات. وهذا أَصلٌ لا مَزيدَ عليه، وفيه كِفايَةٌ لمن أَبصرَ النُّورَ واهْتَدَى، وعَمِلَ واستَغْنَى، والله وَلِىُّ الهِداية والتَّوْفيق. ولقد أَحسن القائل:
مَنْ عَرَفَ الله فلم تُغْنهِ ... مَعْرِفَةُ اللهِ فَذاك الشَّقِى
ما يَصْنَعُ العَبْدُ بِعِزّ الغِنَى ... والعِزُّ كُلُّ العزِّ للمُتَّقِى
رَوَى الثَّعلبىّ بسَنَده عن ابنِ عبّاس رضى الله عنهما قال: "قَرَأَ(5/261)
النبىُّ صَلَّى الله عليه وسلَّم {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} قال: مَخْرجاً من مهمّات الدُّنيا، ومن غَمرات المَوْت، ومن شدائد يوم القيامة".
وقال الحسنُ بن الفَضْل: ومَنْ يَتَّقِ اللهَ فى أَداءِ الفَرائض يجعلْ له مخرجاً من العُقوبة، ويَرْزُقه الثَّواب من حيثُ لا يحتسب.
وقال عَمْرُو بن عثمان الصوفىّ: ومَنْ يَقِفْ عند حدوده ويجتنب مَعاصِيَه يُخْرِجه من الحَرام إِلى الحَلال، ومن الضِّيق إِلى السَّعَة، ومن النَّارِ إِلى الجَنَّة.
وقال أَبو سعيد الخَرّاز: ومَنْ يَتَبرّأ من حَوْله وقُوَّته بالرّجوع إِليه يجعلْ له مخرجاً ممّا كلَّفه بالمَعُونة له. وقيل: ومَنْ يَتَّق الله فى الرِّزق وغيره بقَطْع العلائق، يَجْعَلُ له مَخْرجاً بالكِفاية، ويرزقْه من حيثُ لا يحتسب.
ورَوَى الثَّعْلَبىّ مُسْنِداً عن أَبى الدّرداءِ، قال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "إِنِّى لأَعْلَم آيةً لَوْ أَخَذ الناسُ بها لكَفَتهمْ: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فما زال يقولُها ويُعيدُها.
وقال عِكْرِمة والشَّعبىّ والضَّحَّاك: من يُطَلِّق [طلاق] السُّنَّة يجعلْ له مَخْرجاً إِلى الرّجعة، ويرزقه من حيثُ لا يرجُو ولا يتَوقَّع.(5/262)
ورُوى عن ابن عَبّاس قال: "جاءَ عوفُ بن مالِكٍ الأَشجعىّ إِلى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ الله إِنَّ ابْنِى أَسَرَهُ العَدُوُّ وجَزَعَتِ الأُمُّ فما تأْمُرُنى؟ قال: آمُرُك وإِيّاها أن تَسْتَكْثِرا من قَوْلِ: لا حَوْل ولا قُوَّة إِلاَّ بالله. فانصرف إليها فقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، قالت: نِعْمَ ما أَمَرَك به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فجعلا يقولان ذلك، فغَفَل العدوُّ فاستاق غَنَمَهم، فجاءَ به إِلى أَبيه وهى أَربعةُ آلاف شاةٍ {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} وقال/ مُقاتل: أَصابَ غَنَماً ومَتاعاً فرجع إِلى أَبيه، فانْطَلَق أَبُوه فأَخَبر النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخبره، فسأَله أَن يُحِلَّ له أَنْ يأْكل ممّا أَتاه ابنُه. فقال له النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: نَعَمْ: فأَنْزَل الله عزَّ وجلّ هذه الآية.(5/263)
بصيرة فى وكد ووكر
وَكَدَ بالمَكان يَكِدُ وُكُوداً: أَقام به. وقولُهم: وَكَدَ وَكْدَهُ، أَى قَصَد قَصْدَه.
والوَكائد: السُّيور التى يُشَدُّ بها القَرَبُوس إِلى دَفَّتَى السَّرْج، الواحدُ وِكادٌ وإِكادٌ.
قال ابن عَبَّاد: الوُكْدُ بالضم: الجُهْدُ والسّعى، يقال كان وُكْدِى من الأَمرِ ما فعلته، أَى كان جهدى.
والتَّواكِيدُ والتَّآكيد، والمَياكِيد: الوكائد.
والتَّوْكيد والتَّأكِيد واحد، وبالواو أَفصح، قال الله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} .
والتَّوْكيد دخل فى الكلام على وجهين: تكريرٌ صريح، وغير صريح، نحو قولك: رأَيتُ زيداً زيداً، وغير الصّريح نحو قولك: فَعَلَ زيدٌ نفسُهُ وعَيْنُه، والقَوْمُ أَنْفُسُهم وأَعْيانُهم. والرَّجُلان كِلاهُما والمرأَتان كِلْتاهُما، والرِّجال أَجْمَعُون، والنساءُ جُمَع.
وجَدْوَى التوكيد أَنَّك إِذا كرّرت فقد قَرَّرت المؤكَّد، وما عَلِقَ به فى نفس السّامع ومَكَّنْتَه فى قلبه، وأَمَطْت شبهَةً رُبَّما خالَجَتْه، أَوْ تَوَهَّمتَ غفلةً وذَهاباً عما أَنت بصَدَدِه فأَزَلْتَه.(5/264)
الوَكْزُ: الدَفْعُ، والطَّعْنُ، والضَّرْبُ بِجُمع الكَفّ، يقال: وَكَزَهُ يَكِزُه وَكْزاً.
قال الزَّجّاج فى قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ موسى} : أَى ضربه بِجُمْع كفِّه، وقد قيل: ضَرَبَه بالعَصا، يقال: وَكَزَه بالعَصا أَى ضَرَبَه بها.
وقِرْبَةٌ مُوْكُوَزَةٌ أَى مَمْلُوءَة، وقد وَكَزْتُها وَكْزاً.
وتَوَكَّزَ لكَذا وَتَوفَّزَ وتَوَشَّزَ، أَى تَهَيَّأَ له وتَوَكَّزَ على عَصاهُ، أَى تَوكَّأَ.(5/265)
بصيرة فى وكل
التَّوْكِيل: أَن تَعْتَمِدَ غَيْرَك وتَجْعَله نائباً عنك. والوَكِيلُ: فعيلٌ بمعنى مفعول، وقوله تعالى: {وكفى بالله وَكِيلاً} أَى اكْتَفِ به أَنْ يَتَوكَّل أَمْرَك ويَتَوكَّل لك، وعلى هذا حَسْبُنا الله ونِعْمَ الوَكيل. وقوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أَى بمُوَكِّلٍ عليهم وحافِظَ لهم، كقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} . وقوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} : أَى مَنْ يَتَوَّكَل عنهم. قال الله تعالى: {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، وقال: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} ، وقال: عن أَوليائه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} ، وقال: {قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، وقال لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} ، وقال: {وَتَوَكَّلْ على الله وكفى بالله وَكِيلاً} ، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} ، وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} وقال عن أَنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا(5/266)
سُبُلَنَا} ، وقال عن أَصحاب نبيّه: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} وقال: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . وفى الصّحيحين حديث السبعين أَلْفا الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب: "هُم الَّذين لا يَسْتَرْقُون ولا يَتَطَيَّروُن وعَلَى رَبِّهِم يَتَوكَّلُون". وعن الترمذى يرفعه: "لوْ أَنَّكم تَتَوَكَّلُون عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُم كما يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِماصاً وتَرُوح بِطاناً".
ثمّ التَّوَكُّل نِصْف الإِيمان، والنِّصف الثانِى الإِنابَة، فالتَّوَكُّلُ هو الاستِعانَةُ، والإِنابَةُ هو العِبادة.
(فصل) مَنْزِلة التوكُّلِ من أَوسع المَنازِل وأَجَلِّها وأَجمعها، ولا تَزال معمورة بالنازلين، فلنذكر معنى التوكلّ ودرجاته.
قال الإِمام أَحمد رحمه الله: التوكُّل عملُ القَلْب، ومعنى ذلك أَنَّه عملٌ قلبىّ ليس للجوارح فيه مَدْخَل، وهو من باب الإِدراكات والعُلوم. ومن الناس من يجعلُه من باب المعارِف فيقول: هو علْمُ القَلْب بِكفاية(5/267)
الربِّ عنده. ومنهم من يفسّره بسُكون حركة القَلْب فيقول: التَّوكُّل هو انْطِراح القَلْب بين يَدَىِ الله، كانْطِراح الميّت بين يدى الغاسِل يُقَلِّبه كيف يشاءُ، أَو تَرْكُ الاختيار والاسترسالُ مع مجارِى الأَقدار.
قال سَهْلٌ: التوكُّل: الاسترسالُ مع الله على ما يريد. ومنهم من يُفَسِّرهُ بالرِّضَا، سئل يَحْيَى بنُ مُعاذٍ، مَتَى يكون الرّجلُ مُتَوَكِّلاً؟ قال: إِذا رَضِىَ بالله وَكِيلاً. ومنهم من يفسّره بالثقة بالله والطُّمأْنينة إِليه. وقال ابنُ عَطاء: التوكُّل: أَن لا يَظْهَرَ فيكَ انزِعاجٌ إِلى الأَسباب مع شدّة فاقَتِك إِليها.
وقال ذُو النُّون: هو تَرْك تدبير النَّفْسِ، والانْخِلاعُ من الحَوْل والقُوَّة. وإِنَّما يقوِّى العقد على التوكُّل إِذا عَلِم أَنَّ الحقَّ سبحانه يعلم ويَرَى ما هو فيه. وقيل: التَّوكُّل: التَّعَلُّق بالله فى كلَّ حال. وقيل: التوكُّل: أَن تَرِدَ عليك مَوارِدُ الفاقاتِ فلا تَسْمُو إِلاَّ إِلى من له الكِفايات. وقيل نَفْى الشُّكوك والتَّفْوِيض إِلى مالِك المُلُوك. وقال ذُو النُّون: خَلْعُ الأَرْباب، وقَطْعُ الأَسباب، يريد قَطْعَها من تعلُّقِ القلب بها لا من مُلابَسةِ الجوارح لها.
ومنهم من جعله مُرَكباً من أَمرين، قال أَبو سَعِيد الخرّاز: التَّوكُّل. اضطِرابٌ بلا سُكُون، وسُكُونٌ بلا اضْطراب. وقال أَبو تُرابٍ النخشبى(5/268)
هو طَرْح البَدَن فى العُبوديّة، وتعلُّق القَلْب بالرُّبُوبيّة، والطمأْنينة إِلى الكفاية، فإِنْ أُعْطِىَ شَكَر، وإِنْ مُنِعَ صَبَرْ، فجعله مُرَكَّبا من خمسة أُمورٍ: القِيامُ بحركات العُبوديّةِ، وتعلُّق القَلْب بتدبير الربِّ، وسُكونٌ إِلى قضائه وقدَرِه، وطُمأْنينةٌ بكفايته، وشكرٌ إِذا أُعْطِى، وصَبْرٌ إِذا مُنع.
وقال أَبو يعقوب النهرجورىّ: التوكُّل على الله تعالى بكمال الحقيقة وَقَع لإِبراهيمَ الخليل، فى الوقت الذى قال لجبريل عليه السلام: "أَمّا إِلَيْكَ فَلاَ".
وأَجمع القومُ على أَنَّ التوكُّل لا يُنافِى القيام بالأَسباب، بل لا يصحّ التوكُّل إِلا مع القيام بها، وإِلاَّ فهو بَطالَةٌ، وتَوكُّلٌ فاسد. قال سَهْل: من طَعَن فى الحركة فقد طَعَن فى السُنَّة، ومن طَعَن فى التَّوكُّل فقد طعن فى الإِيمان. فالتوكُّل حالُ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والكَسْب سُنَّتُه، فمن عَمِلَ على حالِه فلا يتركنَّ سُنَّتَه، وسُئِل سهلٌ عن التَّوكل فقال: قلبٌ عاش مع اللهِ بلا عَلاقَة. وقيل: التوكُّل: قَطْعُ العلائق ومُواصَلَة الحَقائق. وقيل: هو أَنْ يستوى عندك الإِكثار والإِقْلال، وهذا من مُوجِباتِه وآثارِه لا أَنه حقيقته. وقيل: هو ترك كلِّ سَبَبٍ يوصل إِلى سَبَبٍ حتَّى يكون الحقُّ تعالَى هو المتولِّى لذلك. وهذا صحيحٌ من وَجْهٍ باطِلٌ من وجه، فَترْك الأَسباب/ المأْمور بها قادِحٌ فى التوكُّل، وقد تولَّى الحقُّ إِيصالَ العبدِ بها، وأَمّا تَرْكُ الأَسباب المُباحة فإِنََّ تَرْكَها لما(5/269)
أَرجح منها مَصْلَحةً فممدوحٌ، وإِلاَّ فمذمومٌ. وقيل: هو إِلقاء [النَّفس فى] العبودية وإِخراجها من الرُّبوبيّة. وقيل هو التسليم لأَمر الربّ وقضائه. وقيل: التَّفْوِيضُ إِليه فى كلّ حال. وقيل: التوكّل بِدايةٌ، والتَّسْلِيمُ وَساطَةٌ، والتفويض نِهاية.
قال أَبو عَلِىّ الدّقَّاق. التوكُّل ثلاث درجات: التوكُّل، ثم التَّسْليم، ثمّ التَّفْويض، فالمتوكِّل يسكن إِلى وَعْدِه، وصاحبُ التسليم يكتفى بِعلْمه، وصاحب التَّفويضِ يَرْضَى بحُكْمه. فالتَوَكُّل صفةُ المؤمنين، والتَّسْلِيم صفةُ الأَولياءِ، والتَّفْويضِ صفة المُوَحِّدين. التَوَكُّل صفةُ الأَنبياءِ، والتَسْلِيمُ صفةُ إِبراهِيمَ الخليل، والتَّفْويضِ صفة نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم.
وحقيقة الأَمرِ أَنَّ التوكُّل حالٌ مركَّبة من مجموع أُمورِ لا يتمُّ حقيقةُ التوكُّل إِلاَّ بها، وكُلٌّ أَشَارَ إِلى واحد من هذه الأُمور أَو اثنين أَو أَكثر، فأَوّل ذلك معرفةُ الربِّ تعالَى وصفاتِه من: قُدْرَته، وكفايَتِه، وقَيُّومِيَّته؛ وانتهاءِ الأُمور إِلى عِلْمه وصُدورها عن مشِيئته وقدرته، وهذه المعرفة أَوّل درجة يضع بها العبد قَدَمه فى مقام التوكُّل.
الدّرجة الثانية: إِثبات الأسباب والمُسبَّبات، فكلّ من نفاها فتوكُّله مدخولٌ؛ وهذا عكس ما يظهر فى بادئ (الرأى) أَن إِثبات(5/270)
الأَسباب يقدح فى التوكُّل، وأَنَّ نَفْيَها تمامُ التوكُّل، فاعلم أَنَّ إِثبات الأَسباب فى [حصول المُتَوَكَّل به لا يناقض التوكل] فهو كالدُّعاءِ الذى جعلَه الله سَبَباً فى حصول المدعُوِّ به، فإِذا اعتقد العبدُ أَنَّ التوكُّل لم يَنْصِبْه الله سبباً ولا جعلَ دَعاءَه سبباً لنَيْل شيءٍ، لأَنَّ المتوكَّل فيه المدعُوَّ بحُصوله إن كان قُدِّر فَسَيْحْصُل، تَوَكَّل أَوْ لم يَتَوكَّلْ، دعا أَو لم يدْعُ، وإِنْ لم يُقَدَّر فلن يحصل، توكَّل أَيضاً أَو ترك التوكُّل [فهذا العبد مراغم لحكمة الله جاهل بسنته] [وقد] صرّح هؤلاءِ أَنَّ التوكُّلِ والدّعاءَ عُبُوديّةٌ محضة، لا فائدة فيه إِلاَّ ذلك، ولو ترك العبد التوكُّلَ والدعاءَ لَمَا فاته شيءٌ ممّا قُدِّر له، [بل] مِنْ غلاتهم مَنْ يجعلِ الدُّعاءَ بعدم المؤاخذة على الخطإِ والنِّسيان عدِيمَ الفائدة إِذ هو مضمون الحصول، حتى قال بعضهم فى تصنيف له: لا يجوز الدُّعاءُ بهذا وإِنَّما يجوز تلاوة لا دعاء، قال: لأَنَّ الدّعاء يتضمّن الشَّكَّ فى حُصُوله ووُقوعِه، لأَنَّ الدّاعِىَ بين الخوف والرّجاء، والشكُّ فى وقوع ذلك شكٌّ فى خبر الله. فانظروا إِلى ما أَفاد إِنكار الأَسْباب من العظائم وتحريم الدّعاءِ بما أَثْنَى الله به على عِباده وأَوليائه بالدُّعاءِ به وبطلبه. ولم يزل المسلمون من عند نبيّهم وإِلى الآن يدعون به فى مَقامات الدُّعاءِ، وهو من أَفضل الدَّعوات.(5/271)
هو وجوابُ هذا الوَهْم الباطل هو أَن يقال: بَقِىَ قسمٌ آخر غير ما ذكرتم من القسمين، هو أَن يكون قَضَى بحصول الشىء عند حصول سَبَبه من التوكُّل والدّعاءِ، فنصب الدّعاءُ والتوكُّل سببين لحُصول المطلوب، وقضى بحصوله إِذا فعل العبدُ سَببه، فإِذا لم يأْتِ بالسبب امْتَنَع المسبَّب، وهذا كما إِذا قضَى بحُصول الولدِ إِذا جامع الرّجلُ من يحبلها فإِذا لم يُجامع لم يَحْصُل الولدُ. وقَضَى بحصول الشِبَع والرِىّ إِذا أَكَل/ وشرب، فإِذا لم يفعل لم يَشْبَعْ ولم يَرْوَ. وقَضَى بحصول الحجِّ والوصول إِلى مكَّة إِذا سافر وركبَ الطَّريقَ، فإِذا جلس فى بيته لا يصل إِلى مكَّة أَبداً. وقضى بدخول الجنَّة إِذا أَسْلَم وأَتَى بالأَعمال الصّالحة، فإِذا لم يُسْلمْ مادخلها أَبداً. فوزان ما قاله منكرو الأَسباب أَن يترك كلٌّ من هؤلاءِ السببَ المُوصِّل ويقول: إِن كان قُضِى لى وسبق لى فى الأَزل حُصول الوَلَدِ والشِّبَع والرِىّ والحَجِّ ونحوِه فلابّد أَن يصل إِلَّى، تحرّكتُ أَو لم أَتحرّكْ، تزوّجتُ أَو تركتُ، سافرتُ أَو تركتُ، وإِن لم يكن قُضِىَ لى لم يحصُل لى أَيضاً، فعلتُ أَو تركتُ، فهل يَعُدُّ أَحدٌ هذا القائلَ من جملة العُقلاءِ؟ وهل البهائم إِلاَّ أَفْهَم منه، فإِنَّ البهيمة تَسْعَى فى السّبب. فالتوكُّل من أَعْظم الأَسباب الَّتى يحصل بها المقصود ويندفع بها المكروه. فمن أنكر الأَسباب لم يستقم منه التَّوكُّل، (ولكن من تمام التوكُّل عدم الرُّكُونِ (إِلى) الأَسباب وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال(5/272)
قلبه قيامه بالله لابها، فلا تقوم عبوديّة الأَسباب إِلاَّ على ساقِ التوكُّل، ولا تقوم ساقُ التوكُّل إِلى على قَدَمِ العُبودية.
الدّرجة الثَّالثة: رُسوخُ القلبِ فى مقام التَّوحيد؛ فإِنَّه لا يستقيم توكُّل العبدِ حتى يصحَّ له توحيدُه، بل حقيقة التوكُّل توحيدُ القلب، فما دامت فيه علائقُ الشِّرْك فتوكُّله معلولٌ مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد يكونُ صحة التَّوكُّل، فإِنَّ العبد متى التفت إِلى غير الله أَخذ ذلك الالتفاتُ شُعْبةً من شُعَب قلبِه فنقص من توكُّله على الله بقدر ذهاب تلك الشُّعْبة.
الدّرجة الرابعة: اعتماد القلب على الله واستناده إِليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأَسباب ولا سكون إليها، بل يخلع السكونَ إِليها من قلبه ويَلْبَسُ السّكون إِلى مسبّبها.
الدّرجة الخامسة: حسن الظَّنّ بالله تعالى، فعلى قَدْرِ حسنِ ظنَّك به ورجائك له يكون توكُّلك عليه.
الدّرجة السّادسة: استسلامُ القلب له وانحداثُ دواعِيه كلِّها إِليه، وقطعُ منازعاته، وبهذا فسّره من قال: أَنْ يكون كالميّت بين يدى الغاسِل.
الدّرجة السّابعة: التفويضُ، وهو رُوح التوكُّل وحقيقتُه ولُبُّه، وهو إِلقاء أُمورِه كلِّها إِلى الله تعالى، وإِنزالُها به رَغَباً واختياراً لاكَرْها واضطرارا، بل كتفويض الابنِ العاجز الضعيف المغلوب أُمورَه إِلى(5/273)
أَبيه [و] الغُلامِ بشَفَقَته عليه ورحمته، وتَمام كِفايَته وحُسْنِ وِلايَتهِ له، فإِذا وضع قَدَمَه فى هذه الدّرجة انتقل منها إِلى درجة الرضا، وهى ثمرةُ التوكُّل. ومن فسّر التوكُّل بها فإِنَّما فسّره بأَحَد ثَمَراته وأَعظم فوائده، فإِنه إِذا توكَّل حقّ التوكُّل رضى بما يفعله وكيله.
والمقدور يكتنفه أَمران: التَوَكُّل قَبْلَه، والرِّضا بعده، فمن توكَّل على الله قَبْلَ الفِعْل، ورَضِىَ قَضَى له بعد الفِعْل فقد قام بالعبوديّة.
واعلم أَنَّ التوكُّل من أَعمّ المقامات تعلُّقا بالأَسماءِ الحسنى، فإِنّ له تعلُّقا خاصّاً بعامَّة أَسماءِ الأَفعال، وأَسماءِ الصّفات، فله تعلُّق باسمه الغفَّار، والتَّواب، والغَفُور، والرَّحيم، وتعلّق باسمه الفَتَّاح، والوهَّاب، والرزَّاق، والمُعْطِى؛ وتعلّق باسمه المُعزِّ والمُذِلّ، والخافض والرَّافع، والمانع من جهة توكُّله عليه فى إِذلال أَعداءِ دينه ومنعهم أَسباب النصر وخفضهم؛ وتعلُّق بأَسماءِ القُدْرة والإِرادة، وله تعلُّق عام بجميع الأَسماءِ الحسنى، ولهذا فسّره من فسّره من الأَئمة بأَنَّه من المعرفة بالله، وإِنما أراد أَنَّه بحسب معرفةِ العبد يصحّ له مقام التَّوكُّل، فكلَّما كان بالله أَعرف كان توكُّله عليه أَقْوَى. وكثير من المتوكِّلين يكون مغبوناً فى توكُّله، وقد توكَّل حقيقة التوكُّل وهو مغبون، كمن صرف توكُّله إِلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوّةَ توكُّله ويمكنه فعلها بأَيسر شىءٍ، وتفريغُ قلبه للتوكُّل فى زيادة الإِيمان والعلم ونُصْرة الدّين والتأْثير فى العالم خيراً، فهذا توكُّل العاجز القاصر الهمَّة؛ كما يصرف بعضهم توكُّله ودُعاءَه(5/274)
إِلى وَجَع يمكنُ مُداواتُه بأَيسر شىء، أَو جوع يمكن زوالُه بنصف درهم، ويَدَعُ صَرْفَه إِلى نُصرة الدِّين وقَمْع المبتدعين ومصالح المسلمين.
وقال الشيخ أَبو إِسماعيل عبد الله الأَنصارىّ: هو على ثلاث درجات:
الأُولى: التوكُّلُ مع الطَلَب، ومعاطاة السَّبَب على نيّة شغل النَّفس، ونَفْع الخَلْق وترك الدَّعْوى.
الثَّانية: التوكُّل مع إِسقاط الطَلَب وغَضِّ العين عن السَّبَب اجتهاداً فى تصحيح التوكُّل وقمع تشرّف النفس، وتفرّغا إِلى حفظ الواجبات.
الثالثة: التوكُّل النازع إِلى الخَلاص من عِلَّة التوكُّل، وهو أَن تعلم أَنَّ ملْكيَّة الحقِّ عزَّ وجلَّ للأَشياءِ مِلْكيَّة عِزَّة لا يشاركه فيها مُشارك، فيَكل شركته إِليه، فإِنَّ من ضرورة العُبودِيَّة أَنْ يعلم العبد أَنَّه تعالى هو مالك الأَشياءِ كلِّها وَحْدَه. قال بعض السالكين:
رُؤيَةُ السّالِك التَّوَكُّلَ ضَعْفٌ ... وخلاصُ الفُؤاد منه اسْتِقامَهْ
هو بابٌ للمبتدئ، وطريق ... للمنتهى، والوقوف عنه ندامه(5/275)
بصيرة فى وكأ وولج
رَجُلٌ تُكَأَةٌ مثال تُؤدَة، أَى كثير الاتِّكاءِ، وأَصلُها وَكَأَةٌ. والتُّكأَة أَيضاً: ما يُتَّكَأَ عليه، وهى المُتَّكَأُ، قال الله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} ، قال الأَخفش: هو فى معنى مَجْلِس.
وطَعَنَه حَتَّى أَتْكَأَهُ على أَفْعَلَهُ، أَى أَلْقاه على هَيْئَة المُتَّكِئ. وأَؤكَأْتُ فُلاناً إِيكاءً: إِذا نصَبْتَ له مُتَّكَأً.
وفى نوادر أَبى عُبَيْدة: أَوْكَأْتُ عَلَيه، وتَوَكَّأْتُ عليه، بمعنىً واحد، قال الله تعالى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} . وتَوَكَّأَتِ الناقةُ، وهو تَصَلُّقُها عند مَخاضِها، أَى أَنِينُها عند الوِلادة.
الوُلُوج: الدُّخولُ فى مَضِيقٍ وغيره، قال تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} . ووَلَجَ فى البيت وتَوَلَّجَ. وأَمرأَةٌ خَرّاجَةٌ ولاَّجَةٌ.
وَدَخَلُوا الوَلَجَ والوَلَجَة، وهو ما كان من كَهْف أَو غار يُلْجَأُ إِليه. والْتَجؤُوا إِلى الوَلَجَاتِ والأَوْلاجِ.
وأَوْلَجَهُ: أَدْخَلَه، قال الله تعالى: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أَى يُدْخل الليلَ فى النَّهارِ حتى يكُون النهارُ خَمْسَ عَشَرَة ساعةً، ويولج النَّهارَ فى اللَّيْل حتَّى يكونَ اللَّيْلُ خَمْسَ عَشَرةَ ساعة، والنَّهارُ تسع(5/276)
ساعاتِ، فما نَقَص من أَحدهما زاد فى الآخَرِ/، وفيه تَنْبِيهٌ على ما رَكَّب الله عليه العالَمَ من زِيادة اللَّيلِ فى النَّهارِ وزيادةِ النَّهار فى اللَّيلِ، وذلك بحسب مَطالع الشمس ومغارِبها.
والوَلِيجَةُ: كلّ ما يَتَّخِذه الإِنسان مُعْتَمَداً، وليس من قولهم: فلانٌ وَليجَةٌ فى القوم: إِذا دَخَل فيهم وليس منهم، إِنساناً كان أَوغيره، قال الله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} ، وذلك مثلُ قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} .
ورجلٌ خُرَجَةٌ وُلَجَة - كهُمَزَة -: كثير الخُروج والوُلُوج.(5/277)
بصيرة فى ولد
الوَلَدُ يكون واحِداً وجمعاً، وكذلك الوُلْدُ بالضمّ كالعَرَب والعُرْب، والعَجَم والعُجم. ومن أَمثال بنى أَسَد: "وُلْدُكَ من دَمَّى عَقِبَيْكْ". ويقال ما أَدرى أَىُّ وَلَدِ الرَّجُل هو، أَى أَىَّ الناسِ هو.
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، يعنى آدَم صلواتُ الله عليه، وما وَلَد من صِدِّيق ونَبِىٍّ وشَهِيد ومُؤمنٍ.
والوَلِيدُ: الصّبِىُّ. وفى دعاءِ النبىّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ واقِيَةً كواقِية الوَلِيد" لأَنَه لا يعلم المعاطب وهو يتعرض لها، ثم يحفظه الله تعالى، أَو لأَنَّ القَلَم مرفوع عنه فهو محفوظٌ من الآثام. والوَلِيدُ أَيضاً: العَبْدُ، والجمع وِلْدَانٌ وَوِلْدَةٌ.
ويُجمع الوَلُد على أَولادٍ ووِلْدان، قال الله تعالى: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ} فجعل كُلَّهم فتنةً وبعضَهم عَدُوّاً. وقال تعالى: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} . ويقال للمُتَبَنَّى أَيضاً ولدٌ، قال تعالى: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} .
ويطلق الولد على الابْن والابْنَة.
والوالِدُ: الأَبُ، وهى والدةٌ وهُما الوالِدان. وقد وَلَدَ وِلادَا ووِلادَةً ولدَةً ومَوْلداً.(5/278)
والمَوْلِد أَيضاً والمِيلادُ: وقتُ الوِلادَة، والمَوْلد أَيضاً: الموضعُ الَّذى فيه المَوْلُود، قال تعالى: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} .
وفعل ذلك فى وَلُودِيَّتِه ووُلُودِيَّته، أَى فى صِغَره. ورجلٌ فيه وُلُودِيّة، أَى جَفاءٌ وقِلَّة رِفْق وعلم بالأُمور.
والمُوَلِّدة: القابِلَة. وجاءَنا ببيّنة مُوَلَّدَة، أَى ليست بمحقَّقَة. وكتابٌ مُوَلَّدٌ. مُفْتَعَلٌ.
وممّا حَرَّفَتْه النَّصارَى فى الإِنجيل: يقول الله تعالى يا عيسى أَنت نَبِيِّى وأَنا وَلَّدْتك، أَى رَبَّيْتك، فقال النَّصارى: أَنت بُنَيِّى وأَنا وَلَدْتُك، تعالى الله عمّا يقول الظَّالمون عُلُوّاً كبيراً.
وقال ابن الأَعرابىّ فى قول الشاعر:
إِذا ماوَلَّدُوا شاةً تَنادَوْا ... أَجَدْىٌ تحت شاتِكَ أَمْ غُلامُ
رماهم بأَنَّهم يأْتُون البهائم.
وتَوالَدُوا: كَثُرُوا ووَلَد بعضهم بعضاً.
والوَليدُ يقال لمن قَرُبَ عهدُه بالوِلادة، وإِنْ صَحَّ فى الأَصل لمَنْ قَرُب عهده أَو بَعْد. والوَليدَة مختصّةٌ بالإِماءِ فى عامّة كلامهم.
وتولُّدُ الشىء من الشىء: حُصوله منه بسبب من الأَسباب.(5/279)
بصيرة فى ولق وولى
الوَلْقُ: الإِسراعُ، يقال: جاءَت الإِبِلُ تَلِقُ، أَى تُسْرِع، قال القُلاخ ابن حَزْن:
جاءَتْ به عَنْسٌ من الشامِ تَلِقْ
والوَلْقُ أَيضاً: أَخفُّ الطَعْنِ، وقد وَلَقَهُ وَلْقاً، يُقال: وَلَقْتُه بالسَّيْف وَلَقات، أَى ضربات. والوَلْقُ أَيضاً: الاستمرارُ فى السّير وفى الكَذِب، ومنه قراءَةُ عائشة رضى الله عنها، ويَحْيَى بن يَعْمُر وعُبَيْد بن عُمَيْر، وزيد بنِ علىّ، وأَبى مَعْمَر: {إِذْ تَلِقُونَه بأَلْسِنَتِكم} / وناقةٌ وَلَقَى: سريعةٌ.
والأَوْلَقُ: شِبْهُ الجُنون. قال:
لَعَمْرُكَ بِى مِنْ حُبِّ أَسْماءَ أَوْلَقُ
وَلِيَهُ وَلْياً: دَنَا منه، وأَوْلَيْتُه أَنا: أَدْنَيْتُه. وكُلْ ممَّا يَلِيكَ: ممَّا يَقْرُبُكَ.
وسَقَطَ الوَلِىُّ، وهو المَطَر الذى يَلِى الوَسْمِىَّ. وقد وُلِيَتِ الأَرضُ وهى مَوْلِيَّةٌ.
ووَلِىَ الأَمرَ وتَوَلاَّه. وهو وَلِيُّه ومَوْلاهُ، وهو وُلِىُّ اليَتِيم وأَوْلياؤُهُ.
ووَلِىَ وِلايَةً. وهو وَالِى البَلَدِ، وهم وُلاتُهُ.(5/280)
والوَلاءُ والتَّوالِى؛ أَنْ يَحْصُل شيئان فصاعداً حُصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويُستعار ذلك للقُرْب من حيثُ المكانُ، ومن حيثُ النِّسبةُ، ومن حيثُ الدِّينُ، ومن حيثُ الصّداقةُ والنُّصْرةُ والاعتقادُ.
والوِلايَةُ: النُّصْرَةُ. والوَلُّىِ والمَوْلَى يُستعملان فى كلّ ذلك، وكلّ واحِدٍ منهما يُقال فى معنى الفاعِل أَى المُوالِى، وفى معنى المفعول أَى المُوالَى.
ويُقال للمُؤمِن وَلِىُّ الله ولا يُقالُ مَوْلاهُ ويُقال: اللهُ وَلِىُّ المُؤمِنِ ومَوْلاهُ. فمن الأَوَّل: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} وقوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} ، ومن الثانى: {قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت} وقوله: {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} .
والوَالِى: المَوْلَى فى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} .
ونَفَى الله الوِلايَةَ بين المؤمنين والكافرين فى غير آية: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} وجعل بين الكافرين والشَّياطين مُولاةً فى الدنيا ونَفَى عنهم المُوالاة فى الآخِرة، قال تعالى فى المُوالاة بينهم فى الدنيا: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، وكما جعل بينهم وبين الشَّيطان مُوالاةً جعل للشَّيْطان عليهم فى الدّنيا سلطاناً فقال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ}(5/281)
ونَفَى المُولاة فى الآخرة، فقال فى مُوالاة الكُفَّارِ بعضِهم بعضاً {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} .
قالوا: تَوَلَّى إِذا عُدِّىَ بنفسه اقتضَى معنَى الوِلاية وحُصُولَه فى أقرب المَواضع، يُقال: وَلَّيْتُ سَمْعى كذا، ووَلَّيْتُ عَيْنِى كذا، أَى أَقبلت به عليه، قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ؛ وإِذا عُدِّىَ بِعَنْ لَفْظاً أَو تقديراً اقْتَضَى معنى الإِعْراض وتَرْك قُرْبه، فمن الأَوّل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ومن الثَّانى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} .
والتَوَلِّى قد يكون بالجسْم، وقد يكون بتَرْك الإِصْغاءِ والائتمار، قال تعالى: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أَى لا تفعلُوا ما فعل المَوْصُوفون بقوله: {واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ} ، ولا تَرْتَسِمُوا قولَ من حُكِىَ عنهم {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهاذا القرآن والغوا فِيهِ} .
وقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} قيل: أَبْناءُ العَمِّ، وقيلَ: مَواليه من أُمَّته.
ويُقال: وَلاَّه دُبُرَه: إِذا انْهَزَمِ، قال تعالى: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} .
وقوله تعالى: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} ، أَى ابْناً يكون من أَوليائكَ. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} فيه نَفْىُ الوَلِىّ بقوله من الذُّلِّ(5/282)
إِذْ كان صالِحُوا عِبادِهِ هُمْ أَوْلِياءُ الله كما تقدّم، لكن مُوالاتُهم لِيَسْتَوْلِىَ هو تعالىَ بهم.
والمَوْلَى/: المُعْتِقُ، والمالِكُ، والعَبْدُ، والصّاحِبُ، والناصِر، والقَرِيبُ كابنِ العَمّ ونحوه، والجار، والحليف، والابن، والعَمُّ، والنَّزيلُ، والشَّرِيك، وابنُ الأُخْت، والوَلِىّ، والربّ، والمُنْعِم، والمُنْعَم عليه، والتَّابع، والصِّهر.
وفيه مَوْلَوِيَّةٌ أَى يُشْبِه المَوالى. وهو يَتَمَوْلَى: يَتَشَبّه بالسادَة.
وتَوَلاَّه: اتَّخَذَه وَلِيّاً. والأَمْرَ: تقلَّده. وإِنَّه لَبَيِّنُ الوَلاءَة والوَلِيِّةِ والتَوَلِّى والوَلاءِ والوَلاية والوِلاية.
ووَالَى بين الأَمْرَيْن مُوالاةً ووِلاءً: تابَعَ. وتَوالَى: تَتابَع.
وهو أَوْلَى بكذا أَى أَحْرَى وأَخْلَق، قال الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . وهُمُ الأَوْلَى والأَوْلَوْن، وفى المؤنَّث: الوُلْيَا، والوُلْيَيان، والوُلَى، والوُلْيَيَات.
وأَوْلَى لك: تهدّدٌ ووعيدٌ، أَى قارَبَهُ ما يُهْلِكُه، وقيل: معناه: العقابُ أَولَى لَك وبكَ، وقيل: معناه انْزَجرْ.(5/283)
وَولَّى تَوْلِيَةً: أَدْبَرَ كَتَوَلَّى. والشىءَ وعن الشَّىْءِ: أَعْرَضَ.
واسْتَولَى على الأَمرِ: بَلَغ الغايةَ.
ودارُه وَلْىُ دارى: قريبةٌ منها. وأَوْلَى على اليتيم: أَوْصَى.
وأَوْلِياءُ الله خَواصُّ عِباده، قال تعالى: "أَوْليائى تحت قبائِى، لا يعرفهم غيرى". قال تعالى: "من عادى لى ولياً فقد بارزنى بالمُحاربة". وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِنَّ من عباد الله رجالاً ما هم بأَنبياءَ ولا شهداءَ بل يَغْبِطُهم الأَنبياءُ، والشُّهداءُ لمكانهم من الله. فقال رجل: من هم يا رسول الله؟ قال رجال يتحابّون فى الله من غير أَرْحام بينهم ولا أَموال يتعاطى بعضهم بعضاً، وإِنَّ على وجوههم لنوراً، وإِنهم لعلَى مَنابِرَ من نور، لا يخافون إِذا خافَ الناس: ولا يَحْزَنُون إِذا حزن النَّاس" ثم تَلاَ قوله: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} .
والوِلايَةُ: السَّلْطَنة، قال: العلم من أَشْرف الوِلايات، يأتِى إِليه الوَرَى ولا يَأتِى.
وقيل فى قوله تعالى: {مَأْوَاكُمُ النار هِيَ مَوْلاَكُمْ} أَى أَوْلَى بكم.
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ} أَى مُحَرَّروكم.(5/284)
بصيرة فى وهب
وهَبْتُ له شيئاً وَهْباً ووَهَباً وهِبَةً، والاسم المَوْهِبُ والمَوْهِبةُ بكسر الهاءِ فيهما، وهو أَن تجْعَلَ ملْكَك لغيرك بغير عِوَض، وقوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} نسب المَلَكُ إِلى نفسه [الهِبة] لَمّا كان سَبباً فى إِيصالِه إِليها. وقد قرئ: {لِيَهَبَ لَكَ} بإِسناد الفعل إِلى الله تعالى، وهذا على الحقيقة، والأَوّل على التوسُّع.
وتقول: هَبْ زَيْداً مُنْطَلِقاً، أَى احْسِب، يتعدَّى إِلى مفعولَيْن ولا يُستعمل منه ماضٍ ولا مُستَقْبل فى هذا المعنى.
ورجلٌ وَهَّابٌ، ووهّابة: كثير الهِبَة لأَموالِه، والهاء للمبالَغة. ووَهَبَنِى الله فِداكَ، أَى جعَلَنى.
والمَوْهَبة: بفتح الهاءِ: نُقْرَة فى الجَبَل يَسْتَنْقع فيها الماءُ، قال:
ولَفُوك أَشْهَى لو يَحِلُّ لَنَّا ... من ماءِ مَوْهَبَةٍ على شَهْدِ
والمَوْهَبَة أَيضاً: السّحابَة. وأَوهبَ له الشىءُ: دام، قال:
عَظِيمُ القَفا رِخْوُ المَفاصِل أَوْهَبَتْ ... لَهُ عجوةٌ مَسْمُونةٌ وخَمِيرُ
وأَصبح فلانٌ مُوهِباً بكسر الهاءِ أَى مُعِدَّا قادِراً.(5/285)
والواهِبُ والوهّاب من الأَسماءِ الحُسْنَى. بمعنى أَنَّه يُعْطِى كُلاًّ على قدر استحقاقِه.
وقد ذُكرت الهِبَةُ فى عشرة مواضع من التنزيل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي} فى موضعين، {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ، {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ، {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} ، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} ، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} ، {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} ، {وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي} .
والاستِيهابُ سُؤال الهِبة. والاتِّهابُ: قَبُولُها، ومنه قول النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "لقد هَمَمْتُ أَلاَّ أَتَّهِبَ إِلاَّ من قُرَشِىٍّ أَو أَنْصارِىّ أَو ثَقَفىّ"، ومعناه أَنَّ فى أَخلاق أَهلِ البادِية جَفاء وذَهاباً عن المروءَة، وطَلَباً للزِيادة، وأَهل الحَضَر هم أَعرفُ بمكارم الأَخلاق.(5/286)
بصيرة فى وهج ووهن ووهى
الوَهَجُ: حُصول الضوءِ، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أَىْ مُضِيئاً مُتَوَقِّداً. وقد وَهِجَت النارُ تَوْهَج، ووَهَجَ يَهِجُ. وتَوَهَّج الجوهر: تَلأْلاَ.
الوَهْنُ والوَهَنُ مُحرّكة: الضَّعْف فى العمل، وقيل الضعف من حيثُ الخَلْقُ والخُلُق، وقد وَهَنَ يَهِنُ، كوعَد يَعِدُ، ووَهِنَ يَهِنُ كوَرِثَ يَرِثُ، ووَهِنَ يَوْهَنُ كوَجِلَ يَوْجَلُ قال تعالَى: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} . وقوله تعالى: {وَهْناً على وَهْنٍ} أَى ضعْفاً على ضَعْف، أَى كلّما عَظُم فى بَطْنها زادَها ضَعْفاً. وقال تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} ، وقال: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} .
والوَهْنُ: الرّجل القَصِيرُ الغَلِيظ. والوهْنُ والمَوْهِنُ: نَحْوٌ من نِصْفِ اللَّيل أَو بقدْرِ ساعة منه. ووَهَنَ وأَوْهَنَ: دخل فيه.
وأَوْهَنَه ووَهَّنَه: أَضْعَفَه. وهو واهِنٌ ومَوْهُونٌ: لابَطْشَ عنده، وهى واهِنَةٌ، والجمع: وُهْنٌ.(5/287)
وَهَى يَهِى كوَعَى يَعِى، ووَهِىَ يَهِى كوَلِىَ يَلِى: تَخرَّق وانْشَقَّ واسْتَرْخَى رِباطُه. والسحابُ: انْبَثَق بالمَطَر شديداً. قال الله تعالى: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، ووَهَت عَزالى السّحاب بمائها: انْفَجرت.
ووَهَى الرَّجُلُ: حَمُقَ، وَسقَطَ.(5/288)
بصيرة فى وى وويل
وَىْ كلمة تَعَجُّبٍ، تقول: وَيْكَ، ووَىْ لِزَيْدٍ. وتدخلُ على كأَنْ المخفَّفةِ وعلى كأَنَّ المشدّدة. ووَىْ يُكَنَّى بها عن الوَيْل قال الله تعالى: {وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} وقيل: وَىْ لزَيْد. وقيل: وَيْكَ كان وَيْلَك فَحُذِف منه الَّلامُ.
الوَيْلُ: حُلُول الشَرِّ. والوَيْلَةُ: الفَضِيحَة، وقيل: هو تفجيع.
ووَيَّلَهُ ووَيَّلَ له: أَكْثَر له من ذِكْر الوَيْلِ.
وتَوَيَّل هو: دَعا بالوَيْل لما نَزَل به. وتقول: وَيْلُ الشَّيْطانِ مثلَّثة اللام مضافة، ووَيْلاً [له] ، ووَيْلٌ له، ووَيْل له، منوّنة مثلَّثة.
ووَيْلٌ وَئيلٌ ووَئِلٌ مبالغَة.
وويلٌ: كلمةُ عذاب؛ ووادٍ فى جهنَّم أو بئر فيها، أَو بابٌ من أَبواب جهنَّم. ومن قال بهذه الأَقوال لم يُرِدْ أَنَّ وَيْلاً فى اللَّغة موضوعٌ لهذا، وإِنما أَراد مَنْ قال الله تعالى ذلك له فقد استَحَقَّ مَقَرّاً فى النَّار،(5/289)
وثبت له ذلك، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} ، وقال: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} قال الشاعر:
إِذا خانَ الأَميرُ وكاتِباه ... وقاضِى الأَرض دَاهنَ فى القضاءِ
فويلٌ ثمّ وَيْلٌ ثم وَيْلٌ ... لقاضِى/ الأَرْضِ مِنْ قاضِى السَّماءِ
وقد وردت فى التنزيل على وُجوه:
منها لليهود: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هاذا مِنْ عِنْدِ الله} ، ولهم أَيضا لتَبْديل نعت النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ، ووَيْلٌ على المعاصِى: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} أَى من الذنوب.
الرّابع: على أَبى جهل: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} .
الخامِسُ: لعُقْبَة بن أَبى مُعَيْط: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} .
السّادس: للظَّالمين: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} .
السّابع: للكفَّار والمشركين: {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
الثَّامِنُ: للكاذِبين: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} .(5/290)
التَّاسع: لمن كَذَّبَ المرسلين: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} وله نظائر فى سورة المرسَلات.
العاشر: للمُذْنبين الخَطَّائين: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} .
الحادى عشر: للعَيَّابين والمُغْتابِين: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} .
الثانى عشر: للغافِلِين فى صلاتِهم.
الثالث عشر: لأَصحاب التَّطْفِيف فى الموازين: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .(5/291)
الباب الثامن والعشرون - فى الكلم المفتتحة بحرف الهاء(5/293)
بصيرة فى الهاء
ويرد على نحوٍ من عشرين وجهاً:
1 - حرفٌ من حُروف الهجاءِ، مَخْرَجُه من أَقصَى الحَلْق من جِوار مخرج الأَلف، يُمَدُّ ويُقْصَر، والنسبة هائىٌّ وهاوِىٌّ وهَوِىٌّ، والفعل منه هَيَّيْتُ هاءً حسنةً. ويجمع على أَهْياءٍ، وأَهْواءٍ، وهاءَات، كَأَدْوَاءٍ وأَحْياءٍ وراءَات.
2 - فى حساب الجُمَّلِ الصّغير اسمٌ لعدد الخمسة.
3 - الهاء الأَصلى ويكون فى [أَوَّل] الكلمة نحو: هَبَط، أَو فى وسطه نحو سَهُل، أَو فى آخره نحو وَجُه.
4 - الهاء المكرّرة ويكون: مخفَّفا نحو: مَهِهَ؛ ومُشَدَّدا نحو: سَهَّل ومَهَّلَ.
5 - الهاء الكافِيَة، نحو طه، وكهيعص، فالطَّاء من طاهر، والهاء من هادِى.
6 - هاءُ التَّذْكير، وتكون للمبالغة، نحو عَلاَّمةِ ونَسّابةِ، {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} .(5/295)
7 - هاءُ التأَنيث، نحو قائمة وقاتمة؛ ويكون: للوَحْدَة نحو حَمامَة وغَمامة، وللجمع: نحو أَبْنِيَة وأَفْنِيَة، ويكون للتَّشْبِيه بالمُؤنَّث كغُرْفَة وظُلْمَة؛ أَو لِلمَرَّةِ، نحو: جَلْسَةٍ وسَجْدة؛ أَو للحالَة والهَيْئَة نحو: قَعْدَة ورِكْبَة؛ أَو للمصدر، نحو: رَحْمةٍ وكَرامَةٍ؛ أَو لِلْعِوَضِ نحو: عِدَة وزِنَةٍ. أَو للمصدر على زِنَةِ فاعِلَة، كقوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} ، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} ، {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ} أَو لَغْو، وكَشْف، وخيانَة.
8 - هاءُ الكنايَة، نحو: هُوَ، وهِىَ، قال الله تعالى: {هُوَ الله الخالق} ، وقال تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} ، وقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى} .
9 - هاءُ العِمادِ: {إِنَّ اللهَ هُو الرّزَّاقُ} ، {إِنْ كانَ هَذا هُوَ الحَقَّ} {إِنَّه هو يُبْدىءُ ويُعِيدُ} .(5/296)
10 - هاء الأَداة: ويكون للاستِبْعاد، نحو: هَيْهات؛ أَو للاستزادة، نحو: إِيهِ؛ أَو/ للانكفاف نحو إِيهاً، أَى كفَّ؛ أَو للتحْضيض نحو: وَيْهاً؛ أَو للدّعاءِ: نحو {هَآؤُمُ اقرؤا} ؛ أَو للاستدعاءِ، نحو هاتِها؛ أَو للإِعطاءِ نحو: هاكَها، أَو للاستِعْجال، نحو: هَلاً وحَيَّهَلاً؛ أَو للمُسارَعَة نحو هَلُمّ؛ أَو للتوجّع نحو: آهِ وأَوْه؛ أَو للتعجُّب نحو: واهٍ، وهاهٍ؛ أَو للإِشارة إِلى المكان القريب نحو: هُنا وهاهُنا؛ أَو إِلى المكان البعيد نحو هُناكَ وهُنالِك؛ أَو للإِشارة إِلى الشخص الحاضر نحو: هَذا وهَذِه.
11 - الهاءُ الزَّائدة فى الأَوّل نحو: هذا وهَذه؛ وفى الآخر، وهو الَّذى يكون بعلَّة الوَقْف والتَّنفُّس؛ ولا تكون الزَّائدة فى الوسط أَبداً.
12 - الهاءُ المُبْدَلَة من الياءِ، نحو: هَذِه فى هذى، أَو من الهمز نحو: هِيَّاك فى إِيّاك، وهَنَرْتُه وأَنَرْتُه، وهَرَقْتُ الماءَ وأَرَقْتُه، ومُهَيْمِنٌ(5/297)
ومُؤَيْمِن، أَو من الأَلف نحو إِنَّهْ فى إِنَّا، ولَمَّهْ فى لَمَّا، وهنهْ فى هُنَا.
13 - هاءُ الاستراحة: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ، {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ} ، {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} .
14 - هاءُ النَّداءِ نحو: أَيَا زَيْدُ، وهَيا زَيْدُ.
15 - هاءُ النُّدْبَة نحو: وَاأُمَّاه، وَاأَبَتاهُ.
16 - هاءُ الأَمرِ: نحو قِهْ، أَوشِهْ، وعِهْ، {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} .
17 -هاءُ الزَّجْر: {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ} ، {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ} .
18 - الهاءُ اللُّغَوِىّ، قال الخليل: الهاءُ عندهم بياضٌ فى وَجْهِ الظَبْى، قال الرّاجز:
كَأَنَّ خَدَّيْه إِذا لَثَمْتها ... هاءُ غَزال يَافع لَطَمْتها
وقال النَّحويُّون: هاءُ التَّنْبِيهِ تدخل على أَربعة:
أَحدُها: الإِشارة غير المختصّة بالبَعِيد نحو هَذا، بخلاف ثَمَّ وهَنَّا بالتشديد. وهُنالِك.(5/298)
والثانى: ضميرُ الرّفع المُخْبَر عنه باسم الإِشارة، نحو: {هَآأَنْتُمْ أولاء} ، وقيل: إِنما كانت داخلة على الإِشارة فقدّمت، فَرُدَّ بنحو: ها أَنْتُم هؤلاءِ، فُّاجيب بأَنها أُعِيدَت توكيداً.
والثالث: بعد أَى فى النِّداءِ، نحو: يا أيُّها الرّجلُ، وهى فى هذا واجبةٌ للتنبيه على أَنَّه المقصودُ بالنداءِ، قيل: وللتّعويض عمّا تُضاف إِليه أَىّ، ويجوز فى هذه عند بنى أَسَد أَنْ تُحْذَفَ أَلِفُها وأَن تُضَمَّ هاؤُها إِتْباعاً، وعليه قراءَة ابنُ عامر: {أَيُّهُ الثَّقَلان} بضمّ الهاءُ فى الوَصل.
والرّابع: اسمُ اللهِ فى القسَمِ عند حذف الحرف، يقال: ها ألله بقطع الهمزة ووصلها، وكلاهما مع إِثبات أَلفها وحذفها.
وها تكون: اسماً لفعل وهو خُذْ، ويجوز مَدُّ أَلِفها، ويستعملان بكاف الخطابِ وبِدُونها، ويجوز فى الممدودة أَن يُسْتَغْنَى عن الكاف بتصريف همزتها تصاريف الكافِ فيقال هاءَ للمذكَّر بالفَتْح، وهاءِ للمؤنَّث بالكسر وهاؤُما وهاؤُنَّ وهاؤُمْ. ومنه قولُه تعالى: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} .
الثانى: أَن تكونَ ضميراً للمؤنَّث فتُستعمل مجرورةَ المَوْضع ومنصوبَتَه، نحو: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .(5/299)
بصيرة فى هبط وهبو
الهُبُوطُ: الانحدار على سبيل، القَهْرِ، هَبَطَ يَهْبِطُ - كضَرَبَ يَضْرِب - هُبوطاً.
وهَبَطَ يَهْبُط كنَصَر يَنْصُر لغة، ومنه قراءَة الأَعْمش: {وإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبُطُ من خَشْيَةِ اللهِ} بضم الباء.
قال لبيدٌ رضى الله عنه:
كُلُّ بَنِى حُرَّةٍ مَصِيرُهُم ... قُلُّ وإِنْ أَكْثَرُوا من العَدَدِ
إن يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وإِن أَمِرُوا ... يَوْماً يَصيرُوا للهُلْكِ والنَّكَد
وهَبَطَهُ يَهْبُطُه بالضمّ، أَى أَنْزَلَه، فهَبَطَ لازمٌ ومتعدٍّ، إِلاَّ أَنَّ مصدرَ اللازِم الهُبُوط، ومصدر المتعدِّى الهَبْطُ.
وفى دعاءِ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "الَّلهُمَّ غَبْطاً لاهَبْطاً" أَى نَسْأَل/ الغِبْطَةَ ونَعُوذ بك أَن نَهْبِطَ عن حالِنا إِلى حال سَفَالٍ.(5/300)
وهَبَطَ الرّجلُ بَلَدَ كذا (ومن بلد كذا) ، وهَبَطْتُه أَنا، قال الله تعالى: {اهبطوا مِصْراً} يعنى فإِنْ أَبيتم إِلاَّ ذلك فانْزِلُوا مِصْراً من الأَمصار. وقال الله تعالى: {وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أَى انْزِلُوا إِلى الأَرْضِ، يعنى آدَمَ وحَوَّاء والحَيَّة وإِبْليِس، فهبط آدَمُ بسَرَنْدِيبَ على جبل بُوذ، وحَوّاءُ بجُدَّة، وإِبليس بالأَبُلَّة، والحَيَّة بإِصْبَهان. وقال تعالى: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} قيل: الهُبوطُ الأَوّل من الجنَّة إِلى السّماءِ الدّنيا، والهُبوط الثانى من السَّماءِ الدنيا إِلى الأَرْضِ.
وهَبَطَه هَبْطاً: ضَرَبه؛ والمَرَضُ لَحْمَهُ: هَزَلَه. وثَمَنُ السِّلْعَة: نَقَضَ.
وقول العَبّاس للنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لابَشَرٌ ... أَنْتَ ولامَضغَةٌ ولا عَلَقُ
أراد لما أَهْبَط الله آدمَ صلوات الله عليه إِلى الأَرْض كنتَ فى صُلْبه غيرَ بالغ هذه الأَحوال.(5/301)
الهَبْوَةُ: الغَبَرَةُ. والهَباءُ: الغُبار، أَو شىءٌ يشبه الدُّخانَ، وقيل: دُقاق التُّراب فلا يَبْدُو إِلاَّ فى أَثناءِ ضوءِ الشمس فى الكُوَّة، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} .
والهَباء أَيضاً: القَلِيلُو العُقولِ من الناس، والجمع: أَهباء.
وهَبَا هُبُوَّاً: سَطَع. وهَبَا: فَرَّ. وهَبا: ماتَ.
وأَهْبَى الفَرَسُ: أَثار الهَباءَ.(5/302)
بصيرة فى هجد وهجر
هَجَدَ، أَى نام، وهَجَدَ، أَى سَهِرَ، وهو من الأَضداد قال المُرَقِّش الأَكبر:
سَرَى لَيْلاً خَيالٌ من سُلَيْمَى ... فأَرَّقَنِى وأَصْحابِى هُجُودُ
وهَجَّدَ البعيرُ: أَلْقَى جِرانَهُ، وأَهْجَدَ أَيضاً بمعناه.
وأَهْجَدَ صاحِبَه: أَنامَهُ، وأَهْجَدَه أَيضاً: وَجَدَه نائماً وأَهْجَدَ نام: مثلُ هَجَدَ.
والتَّهْجِيدُ: التَّنْوِيمُ، قال لبيد رضى الله عنه:
ومَجُودٍ من صُبابات الكَرَى ... عاطِفِ النُّمْرُقِ صَدْقِ المُبْتَذَلْ
قال هَجِّدْنى فقد طالَ السُّرَى ... وقَدَرْنا إِنْ خَنَا الدَّهْرِ غَفَلْ
أَى نَوِّمْنى. والتَّهْجِيدُ أَيضاً: الإِيقاظُ، وهو من الأَضداد أَيضاً، قال الله تعالى: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} أَى تَيَقَّظْ بالقرآن، وهو حث له على إِقامةِ صَلاةِ اللَّيْل المذكور فى قوله تعالى: {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً}(5/303)
الهَجْرُ: صدّ الوَصْلِ، وقد هجَره هجرا بالفتح وهِجْراناً بالكسر، والاسمُ الهِجْرَةُ.
والمُهاجَرَةُ من أَرض إِلى أَرض: تركُ الأولى للثانية.
والتَّهاجُرُ: التَّقاطُعُ.
وقد هَجَرَ المريضُ يَهْجُر هُجْراً بالضَمِّ فهو هاجِرٌ، والكلام مَهْجُورٌ. قال أَبو عبيد: يُرْوَى عن إِبراهيمَ ما يُثَبِّتُ هذا القولَ فى قوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هاذا القرآن مَهْجُوراً} قال: قالوا فيه غيرَ الحَقِّ أَلم تَرَ إِلى المريض إِذا هَجَرَ قال غَيْرَ الحَقِّ، وعن مُجاهِدٍ نَحْوه.
والهُجْرُ بالضَمّ: الاسمُ من الإِهْجارِ، وهو الإِفحاشُ فى المَنْطِق والخَنَا.
والهَجْرُ والهِجْران يكُونُ بالبَدَن وباللِّسان وبالقَلْب، وقوله تعالَى: {واهجروهن فِي المضاجع} أَى بالأَبْدانِ؛ وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هاذا القرآن مَهْجُوراً} باللِّسان أَو بالقلب؛ وقوله تعالى: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} محتمل للثلاثة، وقوله تعالى: {والرجز فاهجر} حَثٌّ على المُفارَقة بالوُجوه كلّها.
والمُهاجَرَةُ فى الأَصل: مُصارَمَة الغَيْرِ ومُتارَكَتُه. والمهاجرة فى(5/304)
قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} ، و {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} وغيرهما من الآيات فالظَّاهر منه أَنَّ المراد الخروجُ من دار الكُفْرِ إِلى دار الإِيمان، كمن هاجَرَ من مكَّة إِلى المدينة، /وقيل مُقْتَضَى ذلك تركُ الشَّهَوات والأَخلاقِ الذَّميمة والخَطايا. وقوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} أَى تاركٌ لِقَوْمى وذاهبٌ إِليه. وكذا المُجاهَدَة تَقْتَضِى مع مُجاهَدَةِ العِدَى مُجاهَدَة النَفْسِ. ورُوِىَ: "هَاجِرُوا ولا تَهَجَّرُوا" أَى كونوا من المُهاجرين ولا تَتَشَّبهوا بهم فى القَوْل مِن دُونِ الفعْل.
والهُجْرُ: الكلامُ المَهْجُور لقُبْحِه. وفى الحديث: "ولا تُقُولوا هُجْراً". وأَهْجَرَ فلان: إِذا أَتَى بِهُجْرٍ من الكلام عن قَصْد. وهَجَر المريضُ: إِذا أَتَى بذلك من غَيْر قَصْدٍ، قال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} وقُرئَ تُهْجِرُون.: وقد يُشَبَّه المبالِغُ فى الهَجْرِ بالمُهْجِر [فيقال: أَهْجَرَ] إِذا قَصَدَ ذلك. ورماهُ بها جِراتٍ ومُهْجِراتٍ أَى بفضائح.
والهَجْرُ والهاجِرَةُ: نصفُ النَّهارِ عند اشتدادِ الحَرِّ، وقيل: السّاعةُ(5/305)
يَمْتَنِع فيها الناسُ من الحَرَكة والسَّيْر لشدّة الحرِّ، كأَنها هَجَرَت الناسَ أَو هجرَها الناسُ لذلك، تقولُ منه: هَجَّرَ النَّهارُ، قال امرؤ القيس:
فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عنكَ بجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إِذا صامَ النَّهارُ وَهجَّرَا
وتقول: أَتَيْنَا أَهْلَنَا مُهْجِرِين، أَى فى وَقْت الهاجِرَة، ومُؤْصِلِين أَى فى وَقْتِ الأَصيل.
والهَجِير يَبيسُ الحَمْضِ؛ والحَوْضُ الكَبير.
والهِجِّير كسِكيّت والإِهجيراءُ والإِهْجِيرى والهِجْرِيّا بمعنًى، وهو الدَأْب والعادة. وقيل: لا يكاد يُستعمل إِلاَّ فى العادة الذميمة، اللهمّ إِلاَّ أَن يستعمله فى ضِدِّه من لا يُراعِى مَوْرِد هذه الكلمة عن العرب.
والمَهْجُورُ: الفرس يُشَدُّ رأَسُه إِلى رِجْله.(5/306)
بصيرة فى هجع
الهُجُوع والتهجاعُ: النَّوْمُ ليلاً. وفرّق بعضُهم بين الهُجوع والتَّهجاع فقال: الهُجوع مُطْلَق النَّوْم، والتَّهْجَاع: النَّوْمَة الخفيفة، قال أَبو قَيْس بن الأَسْلَت:
قد حَصَّت البَيْضَةُ رَأْسى فَما ... أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجاع
وقوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} ، وذلك يصحُّ أَن يكون معناه كان هُجوعُهم قليلاً من أَوْقات اللَّيل، ويجوز أَن يكون معناه: لم يكونُوا يَهْجَعُون، فالقليل قد يُعبَّر به عن النَفْى والمُشارِفِ لِنَفْيه.
والهَجِيعُ من الَّليْلِ مثل الهَزِيع. ويقال: أَتَيْتُه بعد هَجْعَة من اللَّيل، أَى بعد نَوْمَة خفيفة من أَوّل اللَّيْل. والهِجْعَةُ منه كالجِلْسَة من الجُلُوس.
والهِجْعَةُ أَيضا، والهِجْعُ، والهُجَعُ كضرد، والهَجِعُ ككَتِفٍ والمِهْجَعُ كمِنْبِر: الغافِلُ الأَحمقُ.
وهَجَعَ جُوعُه: انْكَسَرَ. وهَجَع فلانٌ غَرَثَهُ: كَسَرَهُ، لازمٌ ومتعدٍّ.
وطريقٌ تَهْجَعُ: واسِعٌ.(5/307)
بصيرة فى هد
هَدِّ البناء يَهُدُّه هَدّاً: كَسَرَه وضَعْضَعَه. وهَدَّتْهُ المُصِيبةُ: أَوْهَنَتْ رُكْنَه. وفى دعاء النبىّ صلَّى النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللَّهُم إِنِّى أَعُوذ بك من الهَدَّة". الهَدُّ: الهَدْمُ الشديد كحائط مُنْهَدِمٍ. والهَدَّة: الخُسوفُ. والهَدَّةُ أَيضاً: صوتُ وَقْع الحائط ونحوه، تقول منه: هَدَّ يَهِدُّ بالكسر هَدِيداً، قال الله تعالى: {وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} .
والهادُّ: صوتٌ يسمعُه أَهلُ السّاحل يأْتيهم منْ قِبَل البَحْر له دَوِىٌّ فى الأَرِض، ورُبّما كانت منه الزَلْزَلَة، ودُوِيُّهُ: هَدِيدُة.
ويقال: فلانٌ يُهَدُّ: إِذا أُثْنِىَ عليه بالجَلَدِ والقُوَّة.
وتقول: مررتُ برَجُل هَدَّكَ من رجل، معناه: / أَثْقَلَكَ وَصْفُ محاسِنه. وفيه لُغَتان: منهم مَنْ يُجرِيه مُجْرَى المصدَرِ فلا يُؤَنِّثُه ولا يُثنِّيه ولا يَجْمعه؛ ومنهم مَنْ يجعلُه فِعْلاً فيُثَنَّى ويُجْمَع، فتقول: مررتُ برجل هَدَّكَ مِنْ رجلٍ، وبامرأَة هَدَّتْك من امرأَة، وبرجلين هَدّاكَ، وبرجال هَدُّوكَ، وبامرأَتين هَدَّتاك، وبنسوة هَدَدْنَك.
ولمّا نزل قولُه تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} جمعَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بَنِى عبد المُطَّلب وأَنْذَرَهم، فقال أَبو لَهَب: لَهَدَّ(5/308)
ما سَحَرَكم صاحِبُكم. الهَدُّ كلمةٌ يُتَعَجَّب بها. وقال الأصمعىّ: لَهَدَّ الرّجلُ، أَى ما أَجْلَدَه.
والهُدْهُدُ: والهُداهِدُ: الطائر المعروف، قال الرّاعِى يصف نفسه وحالَه:
يَدْعُو أَميرُ المؤمنين ودُونَه ... خَرْقُ تَجُرُّ به الرِّياحُ ذُيولا
كهُداهِد كسرَ الرُّماةُ جَناحَهُ ... يَدْعُو بقارِعَةِ العَقِيق هَدِيلا
والجمعُ: هَداهِدُ. قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} قال ابنُ دريد: يُقال هُدْهُدٌ وهُداهدُ للحمَام الكثير الهَدْهَدَة أَى الصّوت، قال: والهُداهِدُ أَيضاً: الحَمام الذَّكَرَ. وقال اللَّيْث: الهُداهِد: طائرٌ يُشْبِهُ الحَمام، وكِلاهُما أَنشد بيتَ الراعى. وقال الأَصمعىّ: الهُداهِدُ فى هذا البيت الفاخِتَةُ أَو الوَرَشانُ أَو الدُّبْسِىُّ أَو الدُّخَّلُ أَو الهُدْهُد، ولا أَعرفُه تصغيرَ هُدْهُد كما رُوِىَ عن الكسائىِّ. وقال القُتَيْبِىُّ: لم يُرِدِ الرّاعى بالهُداهِد هَذا إِلا حمامةً ذكراً يُهَدْهِدُ فى صَوْته. والذى يحتجُّ للكسائىّ يقول: هو تصغيرُ هُدْهُدِ قَلَبُوا ياءَ التصغير أَلفاً كما قالوا: دُوابَّة فى تصغير دَابَّةٍ.(5/309)
ورجل هَدادَةٌ: جَبانٌ، والجمع هَدادٌ، قال أُميّة بنُ أَبى الصَّلْت يمدح عبد الله بن جُدْعان:
لَهُ داعٍ بمكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخَرُ فَوْق دارَته يُنادِى
إِلى الخَيْرِ ابن جُدْعانَ بن عَمْرو ... طَويل السَّمْك مُرْتَفع العِمادِ
إِلى رُدُحٍ من الشِّيزَى ملاءٍ ... لُبابَ البُرِّ يُلْبَكُ بالشهادِ
فأَدْخَلَهَم على رَبِذٍ يَداهُ ... بفعْل الخَيْر ليس من الهَداد
وقيل الهَدادُ: الطَّاشَةُ، الواحِدُ: هَدادَة.
وهَدْهَد الطِّفلَ: حَرّكَهُ ليَنام.(5/310)
بصيرة فى هدم
الهَدْمُ: نَقْضُ البِناءِ وإِسْقاطُه، وكذلك التَّهْدِيم، قال الله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} .
وهَدَمَ فلاناً يَهْدِمه: كسر ظَهْرَه.
والهَدْم والهَدَم بالتَّحريك: المُهْدَرُ من الدّماءِ.
والهِدْمُ - بالكسر -: الشيخُ الكبير: والثَّوْبُ البالِى أَو المُرَقَّع، وقيل: خاصّ بالكساءِ من الصُّوفِ، والجمعٌ: أَهْدامٌ، وهِدَمٌ.
والهَدَمُ محرّكة: ما تَهَدَّمَ من جَوانب البئْر فسَقط فيها.(5/311)
بصيرة فى هدى
الهُدَى بضَمّ الهاءِ وفَتْحِ الدّال: الرَّشادُ، والدَّلالةُ، يذكَّر ويُؤنَّث. هَداهُ هُدىً، وهَدْيا [وهِدايَة] وهِدْيَة بكسرهما: أَرشده، فاهْتَدَى وتَهَدَّى، وهَداهُ الله الطَّريقَ وللطَّرِيقِ، وإِلى الطَّريقِ. ورجلٌ هَدُوٌّ كعدوّ: هادٍ. وهو لا يَهْدِى الطريقَ ولا يَهْتَدِى، ولا يَهَدِّى ولا يِهِدِّى.
قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} والمعَنى أَرْشِدْنا، وقيل: أَى قَدِّمنا إِليه، وقيل: ثَبِّتْنا عليه؛ وقيل: وَفّقنا؛ وقيل: ارزُقْنا، وكلُّها أَقوالٌ متقاربة.
قال ابنُ عَطِيَّة: الهِدايةُ فى اللُّغة: الإِرشاد لكنَّها تتصرّف على وُجوه يُعبّر عنها/ المفسّرون بغير لَفْظ الإِرشاد، وكلُّها إِذا تُؤُمِّلت رجعت إِليه. انتهى كلامُه، وهو صحيح، ولم يذكر أَهل اللغة فيها إِلاَّ أَنَّها بمعنى الإِرشاد، والأَصل عدمُ الاشتراك.
وأَصلُ هَدَى أَن يَصل ثانى مَفْعُولَيْه بإِلى أَو اللاَّم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، {اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} . وقد يُتَّسع فيه فيُحْذَف الحرفُ ويُعَدَّى بنفسه، ومنه: {اهدنا الصراط المستقيم} ، {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} .(5/312)
وقال أَبو النَّصر: هَدَيْته الطَّريقَ لغةُ أَهلِ الحجاز، وهَدَيْتُه إِلى الطريق لغةُ غيرهم، حكاه الأَخفش. قال الزمخشرىّ: هَداهُ لِكذا أَو إِلى كَذا إذا لم يَكُن فيه فيَصل إِليه بالهِدَاية، وهَداهُ كذا يحتمل كونُه فيه وكونه ليس كذلك، فلا يجوز {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} كون أَصله باللام أَو إِلى، هكذا قال، والمشهور ما قدّمناه.
وقال الراغب: الهِدَايَةُ: دَلالةٌ بُلْطف، ومنه الهَدِيَّة. وهَوادِى الوَحْش أَى المتقدِّمات الهادِيَةُ لغيرِها. وخُصَّ ما كان دلالةً بَهَدَيْتُ وما كان إِعطاءً بأَهْدَيْتُ، نحو أَهْدَيْتُ الهديَّةَ، وهَدَيْتُ إِلى البَيْت.
إِن قيل كيف جعلت الهداية دَلالةً بلُطْفِ والله تعالَى يقول: {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} ؟ قيل: ذلك على سبيل التَهَكُّم مبالغةً فى المَعْنَى نحو قوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ومنه قوله:
تَحيّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وهِدايةُ الله تعالى للإِنسان على أَربعةِ أَضرب:
الأَوّل: الهِداية التى عَمَّ بها كُلَّ مكلَّفٍ من العَقْل والفِطْنَة والمَعارف الضروريّة، بل عمّ بها كلَّ شىءٍ حَسَبَ احتمالِه، كما قال تعالى: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} .(5/313)
الثانى: الهِداية التى جُعلت للنَّاسِ بدُعائه إِيّاهم على أَلْسِنَةِ الأَنبياءِ وإِنْزالِ القرآن ونحوِ ذلك، وهو المقصودُ بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} .
الثالث: التَّوفيقُ الذى يختصّ به من اهْتَدى، وهو المعنِىُّ بقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} ، وقوله: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} .
الرّابع: الهدايَةُ فى الآخرة إِلى الجنَّة، وهو المعنىُّ بقوله: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهاذا} .
وهذه الهداياتُ الأَربعُ مُتَرتِّبة فإِنَّ من لم تَحْصُلْ له الأُولَى لا تَحْصُلُ له الثانية، بل لا يَصِحُّ تكليفُه. ومن لم تَحْصُلْ له الثانيةُ لا تحصل له الثالثة والرابعةُ.
والإِنسان لا يَقْدِرُ أَن يَهْدِىَ أَحداً إِلا بالدُّعاءِ وتعريف الطُّرُق دون سائِر الهِدايات، وإِلى الأَوَّل أَشار بقوله: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، وبقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} أَى داع، وإِلى سائر الهِدايات أَشار بقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . وكُلّ هدايةٍ ذَكَرَ الله تعالى أَنَّه منَع الكافِرين والظَّالِمين فهى الهِدايَةُ الثالثة، التى هى التَّوْفيق الذى يختصّ به المهتدون، والرّابعة التى هى الثوابُ فى الآخرة، وإِدخالُ الجنَّة المشار إِليها بقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ... } إِلى قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} .(5/314)
وكلّ هِداية نَفاها عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعن البشر وذكر أَنَّهم غيرُ قادِرين عليها فهى ماعَدا المُخْتصّ به من الدّعاء وتعريفِ الطريق، وذلك/ كإِعطاءِ العَقْل والتوفيق، وإِدخال الجنَّة، وإِلى هذا المعنَى أَشار بقوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} . وقوله: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أَى طالبُ الهُدَى ومُتَحرِّيه هو الَّذى يُوَفِّقه ويَهْديه إِلى طريق الجَنَّة لامَنْ ضادَّهُ فتحرَّى طريقَ الضَلالَة والكُفْر كقوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الكاذِبُ الكَفَّار هو الَّذى لا يَقْبلُ هِدايَتَه؛ فإِنَّ ذلك راجعٌ إِلى هذا وإِنْ لم يكن لفظُه موضوعاً لذلك، ومن لم يَقْبل هِدايَتَه لم يَهْدِه كقولك: من لم يَقْبل هَدِيَّتِى لم أُهْدِ لَهُ، ومن لم يقبل عَطِيَّتِى لم أُعْطِه، ومن رَغِب عنِّى لم أَرْغَبْ فيه. وقولُه {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} فقوله: لا يَهِدِّىِ أَى لا يَهْدِى غَيْره ولكن يُهْدَى، أَى لا يعلم شيئاً ولا يَعْرِفُ. وقرئ إِلاَّ أَن يُهَدَّى أَى لا هِدايةَ له ولو هُدىَ أَيضاً لم يَهْتَد لأَنَّها مَواتٌ من حِجَارة ونحوِها.(5/315)
وظاهرُ اللَّفظ أَنَّه إِذا هُدِىَ اهْتَدَى لإِخْراج الكلام على أَنها أَمْثالُكم كقوله تعالى: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} وإِنَّما هى مَواتٌ، وقد قال فى موضِع [آخَرَ] : {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} .
وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} ، وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} ، وقوله: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} إِشارةٌ إِلى ما عَرَّفَ من طريق الخَيْر والشرّ، وطريقِ الثَّواب والعِقاب، والعَقْل والشَّرْع. وقولُه: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} إِشارةٌ إِلى التَّوْفيق المُلْقَى فى الرُّوْع فيما يَتَحرّاه الإِنسانُ، وإِياه عَنَى بقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} .
ولما كانت الهِدايةُ والتَّعليم يَقْتَضِى شيئين: تعريفاً من المُعَرِّف وتَعَرُّفاً من المُعَرَّف، وبهما يتمّ الهدايةُ والتَّعلُّم، فإِنَّه متى حَصَل البَذْلُ من الهادى والمعلِّم ولم يَحْصُل القبولُ صَحَّ أَنْ يُقال لم يَهْدِ ولم يُعَلِّم اعتباراً بعدَم القَبُول، وصَحَّ أَنْ يقال: هَدَى وعَلَّم اعتباراً بَبذْلِه، فإِذا كان كذلك صحّ أَن يُقالَ إِنَّ الله لمِ يَهْدِ الكافرين والفاسقين من حيثُ إِنَّه لم يَحْصُل القَبولُ الَّذى هو تَمامُ الهِداية والتَّعلِيم. وصحّ أَنْ يُقال قد هَداهم وعَلَّمَهُم من حيث إِنَّه حَصَل البَذْلُ الذى هو مَبْدأُ الهِداية، فعلى الاعتبار الأَوّل يصحّ أَن يُحْمَلَ قولُه: والله لا يهدى القومَ(5/316)
الكافِرين والظالمين، وعلى الثانى قولُه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} والأَوْلَى حيثُ لم يحصُلِ القَبُول أَن يُقَيَّد فيقالُ هَدَاهُ اللهُ فلم يَهْتَدِ وقوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} وهم الذين قَبِلُوا هُدَاهُ فاهْتَدَوْا به.
وقولُه: {اهدنا الصراط المستقيم} فقد قيلَ عنى به الهِدايَة العامَّة، التى هى العقلُ وسنّة الأَنبياءِ، وأُمِرْنا بأَن نُقول ولكن بأَلْسِنَتِنا، وإِن كان قد فَعَلَ، ليُعْطِيَنا ثَواباً، كما أُمِرْنا بأَن نَقُولَ: الَّلهُمَّ صَلِّ على محمّد وإِنْ كان قد صَلَّى الله عليه بَقولُه: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} . وقيل إِنَّ ذلك دُعاءٌ بحفْظِنا عن اسْتِغْواء الغُواةِ واسْتِهْواء الشَّهَوات. وقيل: هو سُؤالٌ للتَّوْفيق المَوْعُود فى قوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} .
والهِدايةُ والهُدَى فى مَوْضُوع الُّلغة واحدٌ كما تقدَّم، لكن قد خَصَّ الله لَفْظَ الهُدَى. بما تَوَلاَّه وأَعْطاه، واخْتَصَّ هو به دون ما هو إِلى الإِنسان، نحو: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} وغيرها.
والاهْتِداءُ يختصُّ بما يَتَحرّاه الإِنسانُ على طريقِ الاختيارِ إِمّا فى الأًمور الدنيويّة أَو الأُخرويّة، قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا} ويُقال ذلك لِطَلَب الهِدايَة نحو قوله: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ(5/317)
مِنَ المهتدين} ولِتَحَرِّى الهِداية نحو قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
ويُقالُ الْمُهْتَدِى لِمَنْ يَقْتدى بِعَالِم نَحْو: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} ، تنبيهاً أَنَّهم لا يعلمون بأَنْفُسِهم ولا يَقتَدون بعالِم.
وقولُه: {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فالاهْتِداءُ ها هُنا يَتَناول وجُوه الاهتداءِ من طَلَبِ الهِداية ومن الاقْتِداءِ ومن تَحَرِّيها.
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} معناه ثمّ أَدام طَلَبَ الهِداية ولم يَفْتُرْ عن تَحَرِّيه ولم يرجع إِلى المعصية.
وقوله: {أولائك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولائك هُمُ المهتدون} ، أَى الذين تَحَرُّوا الهداية وقَبِلُوها وعملوا بها، وكذلك قوله: {ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ ... } إِلى قوله {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} .
والهدْىُ مختصٌّ بما يُهْدَى إِلى البَيْت، قال الأَخفش: واحِدُه هَدِيَّةٌ، قال: ويُقال للأُنْثَىَ هَدْىٌ كأَنَّه مصدرٌ وُصف به، قال الله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي} .
والهَدِيَّة مختصَّه بالُّلطَفِ الَّذِى يُهْدَى بعضُنا إِلى بَعْض، قال تعالى(5/318)
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} .
والمِهْدَى: الطبقُ الَّذى يُهْدَى عليه. والمِهْداءُ من يُكْثِر إِهداءَ الهَدِيَّة، قال:
وإِنَّكَ مِهْداءُ الخَنا نَظِفُ الحَشَا
والهَدِىُّ يُقال فى الهَدْىِ وفى العَرُوس. يقال: هَدَيْتُ العَرُوسَ إِلى زَوْجِها هِداءً.
وما أَحْسَنَ هِدْيَةَ فُلانٍ [وهَدْيَهُ] ، أَى طريقتَه.
وفلانٌ يُهادِى بين اثنَيْن: إِذا مَشَى بينهما مُعْتَمداً عليهما.
وتَهادَت المرأَةُ: إِذا مَشَتْ مَشْىَ الهَدْى.(5/319)
بصيرة فى هرب وهرع وهرت
الهُروبُ، والهَرَبُ، والهَرَبان: الفِرارُ. وقد هَرَبَ يَهْرُبُ.
ويقال: مالَهُ هارِبٌ ولا قارِبٌ، أَى صادِرٌ ولا وارِدٌ. وَقيل معناه: ليس أَحدٌ يَهْرُبُ منه ولا أَحَدٌ يَقْرُبُ منه، أَى ليس هو بشىء. قال الله تعالى: {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} .
هُرِبَ كعُنِىَ أَى هَرِمَ. وأَهْرَبَه: اضْطَرَّه إِلى الهُرُوب.
الإِهْراعُ: الإِسراعُ. وقوله تعالى: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال أَبو عبيدة يُسْتَحَثُّون إِليه كأَنَّه يَحُثُّ بعضُهم بعضاً.
وأُهْرِع الرّجلُ على ما لم يُسَمَّ فاعله: إِذا كان يُرْعَدُ من غَضَب أَو حُمىًّ أَو فَزَع، قال مهلهل:
فَجاءُوا يُهْرَعُون وهم أُسارَى ... يَقُودُهُم عَلَى رَغْمِ الأُنُوفِ
وقوله تعالى: {فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} ، قيل: كأَنَّهم يَزْعَجُون من الإِسراع. وقيل: يتبعونَهُم مُسْرعين.
والمُهْرِع كمُحْسِن، والمِهْراعُ: الأَسَد لأَنَّه فيما يُقال/ لا تُفارِقُه الرِّعْدَة والحُمَّى.(5/320)
والهرَعُ بالتحريك: والهُراع: مَشْىٌ مضطربٌ مُسْرِع. وأَقْبَلَ الشيخُ يُهْرَع: إِذا أَقبلَ يُرْعَدُ ويُسْرِع.
والمَهْرُوع: المَجْنون الذى يُصْرَع.
هارُوتُ: اسمٌ أَعجمىٌّ بدليل منع الصّرف، ولو كان من الهَرْت كما زَعَم بعضُ أَهلِ اللَّغة لانصرف.
وأَسَدٌ أَهْرَتُ وهَرِتٌ وهَرِيتٌ وهَرُوتٌ وهَرّاتٌ: واسعُ الشِدْقَيْن.
قال تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} قيل: هما المَلَكان، وقال بعض المفسّرين: هما اسما شَيْطانَيْن من الإِنْس والجِنِّ، وجعلهما نصبا بدلاً من قوله: {ولاكن الشياطين} بدل البعضِ من الكُلّ، كقولك: القوم قالوا كذا زيدٌ وعَمُروٌ.(5/321)
بصيرة فى هز
هَزَزْتُ الشىءَ هَزّاً: حَرَّكْتُه، يقال: هَزَّهُ وهَزَّ به، وهو كقولهم خُذِ الخِطامَ وخُذْ بالخِطام، وتَعَلَّقَ زَيْداً وتَعَلَّقَ بزَيْد، قال الله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} ، قال تأَبَّطَ شَرّاً:
إِنِّى لَمُهْد مِنْ ثَنائى فقاصِدٌ ... به لابْن عُمّ الصِدْق شَمْسِ بن مالِكِ
أَهُزُّ به فى نَدْوَة الحَىِّ عِطْفَهُ ... كما هَزَّ عِطْفِى بالهِجان الأَوارِكِ
وهَزَّ الحادِى الإِبِلَ هَزِيزاً: نَشَّطَها بحُدائه. وهَزَّ الكَوْكَبُ: انْقَضَّ. وهَزِيزُ الرِّيح: دَوِيُّها عند هَزِّها الشَّجَر، قال:
إِذا جَرَى شَأْوَيْنِ وانْبَلَّ عِطْفُه ... نًقٌولُ: هَزِيزُ الرّيح مَرَّت بأَثْأَبِ
والهِزَّةُ بالكسر: النَّشاط والارْتِياح، وصوتُ غَلَيانِ القِدْر. [و] من الرَّعْدِ: تَرَدُّدُ صَوْتِهِ.
وماءٌ هُزَهِزٌ [و] هُزاهزٌ وهَزْهازٌ وهُزْهُزٌ: كثيرٌ جار يَتَهَزْهَزُ. واهْتَزَّ: تحرّك، قال الله تعالى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ}(5/322)
أَى تحرَّكَت بالنَّبات عند وُقوع الماء عليها.
وأَمّا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اهْتَزَّ العَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ"، فقيل: سَرِيُره الَّذى حُمِلَ عليه إِلى قَبْرِه. ويُرْوَى: "اهتَزَّ عًَرْشُ الرّحمان"، أَى ارْتاح بُروحِه حين صُعِد بها واستَبْشر لِكَرامته على ربّه. وكلَّ من خَفَّ لأَمر وارْتاح له فقد اهْتَزَّ له. وقال الأَزهرىّ: أَراد فَرِحَ أَهلُ العرشِ بمَوْته.
وهَزْهَزَهُ: حَرَّكه، وقيل: ذَلِّلَهُ.
وتَهَزْهَز إِليه قلبى، أَى ارْتاح للسّرور، قال الرّاعى:
إِذا فاطَنَتْنَا فى الحَدِيث تَهَزْهَزَتْ ... إِليها قُلُوبٌ دُونَهُنَّ الجَوانحُ(5/323)
بصيرة فى هزل وهزم
الهَزْلُ: كلّ كلام لا تَحْصِيلَ له ولا رَيْعَ. وهَزَلَ معه وهازَله، قال:
ذو الجِدِّ إِنْ جَدَّ الرِجالُ به ... ومُهازلٌ إِن كان فى هَزْلِ
وقال القطامىّ:
يُهازِلُ رَبّاتِ البَراقِع بالضُّحَى ... ويَخُرج من بابٍ ويَدْخل باباً
قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بالهزل} وهو تشبيهٌ بالهُزال ضدّ السّمن. وقد هُزِلَ بالضمِّ هُزالاً، وهَزَل كنَصَر، هَزْلاً وهُزلاً، وهَزَلْتُه وهَزَّلْتُه.
وأَهْزَلَ القومُ: هُزِلَتْ أَموالُهم. وجَمَلٌ مَهْزُولٌ وإِبِلٌ مَهازِيلُ.
وهُزِلَتْ حالُ فلان: [و] تقول: له فَضْلٌ جَزِيلٌ وحالٌ هَزِيل.
هُزِمَ الجَيْشُ وانْهَزَم، وجيشٌ مَهْزُومٌ وهَزِيمٌ، وقد هَزَمتُه. واسْتَهْزَمْتُه قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} . وهو يَسْتَهْزِم الجيوشَ. وهو هَزَّامٌ فَرّاسٌ. ووقعتْ عليهم الهَزِيمَةُ.
وهَزَمْتُ البئرَ: حَفَرْتُها، والبطِيخَ والقِرْبَة: غَمْزْتُها بِيَدِى فانهزَمَت إِلى جَوْفها. وسمعتُ هَزْمَةَ الرعد وهَزِيمَهُ: صَوْتَه. وغيثٌ هَزِيمٌ: مُنْبَعِقٌ.(5/324)
بصيرة فى هزء
الهُزْءُ: مَزْحٌ فى خِفْيَة، هَزِئْت من فُلان/، وبِهِ، عن الأَخفش هُزْءاً وهُزُؤاً، سَخِرْتُ. وهَزَأْتُ به أَيضاً هُزْءاً ومَهْزَأَةً ومَهْزُءَةً. وقد يُقال الهُزْؤ لما هو كالمَزْح؛ فمِمّا قُصِدَ به المَزْحُ قولُه تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} وقولُه: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتخذها هُزُواً} ، عَظَّمَ تَبْكِيتَهم ونَبَّه على خُبْثهم من حيثُ إِنَّه وصَفَهم بأَنَّهم بعد العِلْم بها والوُقوف على صِحَّتها يَهْزَؤُون بها.
واسْتَهْزأْتُ به، وتَهَزَّأت به، أَى هَزِئْتُ. والاستِهْزاءُ أَيضاً: ارْتِياد الهُزْءِ، وإِن كان قد يُعَبرَّ به عن تَعاطِى الهُزُءِ، كالاستِجابَةِ فى كَوْنِها ارْتِياداً للإِجابة، وإِن كان قد يَجْرِى مَجْرَى الإِجابة. وقال الله تعالى: {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} .
والاستِهْزاءِ من الله فى الحقيقة لا يَصِحّ، كما لا يَصِحُّ منه اللَّهو واللَّعب، فقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أَى يجازيهم جَزاءَ الهُزُءِ. ومعناه أَنَّه أَمْهَلَهم مُدَّةً ثمَّ أَخذهم مُغافَصةً فسَمَّى إِمهالَهُ إِيّاهم اسِتْهزاء من حيث إِنَّهم اغْتَرُّوا به اغترارهُمْ بالهُزُءِ، فيكونُ ذلك كالاستِدْراج من حَيْثُ لا يَعْلمون، أَولأَنَّهم استْهْزَءُوا فَعَرف ذلك منهم فصار كأَنَّهُ يَهْزَأُ بهم، كما قيل:(5/325)
مَنْ خَدَعَك ففطِنْتَ له فقد خَدْعْتَه. وقد رُوِى: "أَنَّ المُسْتَهْزِئين يُفْتَح لهم بابٌ من الجنَّة فيُسْرِعون نحوَه، فإِذا انتهوا إِليه سُدَّ عليهم". فذلك قوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} .
وعلى هذه الوُجوهِ قوله تعالى: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} وقيل: هو أَن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشُون به على الصّراط فإِذا وَصَل المنافِقون إِليه حِيلَ بينهم وبين المؤمنين، كما قال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، وكما قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} الآية. وقال الحَسَن: معناه: يُظْهِر الله المؤمنين على نِفاقهم.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أَى بمحمّد وأَصحابه، قرأَ أَبو جعفر: مَسْتَهْزُون ويَسْتَهْزُون، وقل استَهْزُوا بترك الهمزة فيهنَّ.(5/326)
بصيرة فى هش
هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّه وأَهِشُّه: خَبَطْتُه بِعَصاً لِيتَحاتّ، قال الله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} بكسر الهاءِ. وقال جابر: "لا يُعْضَد حِمَى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولكنْ يُهَشُّ هَشَّا".
والهَشاشَةُ: الارْتِياح والخِفَّة والنَّشاط، يقال هَشِشْتُ أَهَشُّ كسَمِعْتُ أَسْمَع، وهَشَشْتُ أَهُشُّ كدَبَبْتُ أَدُبُّ. وفى الحديث: "لمَّا سَبَق فَرَسُه - سَبْحَةُ - هَشَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لذلك وأَعْجَبَه". وقالت عائشةُ للنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "دَخَلَ أَبو بَكْر فلم تَهَشَّ له" ويروى "فلم تَهْتشَّ" وكان علقمةُ إِذا رأَى من أَصحابه هَشاشَةً ذكَّرهم. قال أَبو زيد: هَشَشْتُ به أَهُشُّ هَشاشةً. وأَنَا بِهِ هَشٌّ بَشٌّ.
والهشِيشُ: الرّجلُ الذى يَفْرَحُ إِذا سأَلْتَهُ.
وهَشَّ الخُبْزُ يَهِشُّ بالكسر هُشوشَة: صار هَشّاً وهَشاشاً. ورجلٌ هَشُّ المَكْسَر، أَى سَهْلُ الشَّأْن فيما يطلَب عنده من الحوائِج.
وهشَّشَهُ: نَشَّطَهُ وفَرَّحَهُ: والمُتَهَشْهِشَةُ: الفَرحَةُ المُتَحَبِّبَةُ إِلى زَوْجها.(5/327)
بصيرة فى هشم وهضم وهطع
الهَشْمُ: كَسْرُ الشَىْءِ اليابِس، وقيل: الشىءُ الرِخْوُ كالنَّباتِ وقيل: كسر الشىءِ الأَجْوَف، وقيل: كَسْرُ الرأَسِ خاصّة، وقيل: كسرُ العظامِ، وقيل: كسر الوجهِ والأَنْفِ، وقيل: الكَسْرُ فى كل شىءٍ/ هَشَمَهُ يَهْشِمهُ، فهو مَهْشُومٌ وهَشِيمٌ: كَسَرَه، فانْهَشَمَ وتَهَشَّمَ.
وهَشَمَ الرّجلَ وهَشَّمَه: أَكرَمه وعظَّمه؛ والناقةَ حَلَبَها أَو هو الحَلْبُ بالكَفِّ كلِّها كاهْتَشَمَها.
والهَشِيمُ: نَبْتُ يابِسٌ متكسّر، وقيل: يابسُ كلِّ كَلإِ، قال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح} . والهَشِيمَةُ: الأَرضُ التى يَبِسَ شَجَرُها.
وهَشَمَ الخُبْزَ: ثَرَدَه، وهَشَمَ الثَّرِيدَ أَيضا، قال:
عَمْرُو الذى هَشَم الثَّريدَ لِقَوْمِه ... ورجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجافُ
والهاشِمَةُ من الشَّجاج: التى تَهْشِم عَظْمَ الرّأْسِ.(5/328)
واهْتَشَمْتُ نَفْسِى لفلان: اهْتَضَمْتُه له.
وهاشِمٌ أَبو عبد المُطَّلِب لأَنَّه أَوّل مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ.
الهَضْمُ: شَدْخُ ما فيه رَخاوَةٌ، يقال: هَضَمْتُه فانْهَضَمَ، قال الله تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أَى مُنْهَضِمٌ مُنْضَمٌّ فى جوف الجُفِّ قد أُدخل بعضُه فى بَعْض، كأَنَّما شُدِخَ.
وهَضَمَ فلاناً واهْتَضَمَهُ وتَهْضَّمَه: ظَلَمَه وغَصَبَه، فهو هَضِيمٌ، قال الله تعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} ، والاسمُ: الهَضِيمَةُ.
والهَضَّامُ والهاضُومُ: كلُّ دواءٍ هَضَم طَعاماً.
والهَضْمُ والهِضْم: المُطمئنّ من الأَرضِ؛ وبَطْنُ الوادِى.
هَطَعَ الرّجلُ: إِذا أَقْبَلَ ببَصَرِه على الشىءِ لا يَقْلِعُ عنه، يَهْطَعُ هَطْعاً وهُطوعاً، قال ابن دريد: إِذا أَسْرَعَ مُقْبلاً خائفا، لا يكونُ إِلاَّ مع خَوْفِ.
والهَطِيعُ: الطَّريقُ الواسع.
وأَهْطَعَ: إِذا مَدَّ عُنُقَهُ وصَوّبَ رأسَه، قال:(5/329)
تُعَبَدّنِى نِمْرُ بنُ سَعْد وقد أَرَى ... ونِمْرُ بن سَعْد لى مُطِيعٌ ومُهْطِعُ
قال الله تعالَى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} ، قال ثعلب فى تفسيره اللفظةَ: المُهْطِع: الَّذى يَنْظُر فى ذُلّ وخُشُوع لا يُقْلِع بصَرَه. وقيل: المُهْطِع: السّاكِتُ المُنطلِق إِلى من هَتَف به.
وقال الزَّجّاج: مُهْطِعين، أَى مُسْرِعين، وأَنشد ليزيد بن ربيعةَ ابن مفرّغ:
بدِجْلَةَ أَهلُها ولقد أَراهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِين إِلى السَّماعِ
وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ: فى عُنُقِه تَصْويبٌ خِلْقَةً.
واسْتَهْطَعَ، أَى أَسْرَع مثلُ أَهْطَعَ. وقال تعالى: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} .(5/330)
بصيرة فى هلال
الهِلالُ: غَرَّةُ القَمَرِ، أَو لِلَيْلَتَيْنِ، أَو هلالٌ إِلى ثلاثِ ليال، وقيل: إِلى سَبْع من أَوّل الشهر، وفى غير ذلك قَمَرٌ. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} ، وكانوا قد سأَلُوه عن عِلَّةِ تَهَلُّلِه وتَغَيُّره. والعربُ تقول: أَيّام الشهرِ: ثَلاثٌ منه غُرَرٌ، وثلاث نُفَلٌ، وثلاث زُهْرٌ، وَثلاثٌ بُهْرٌ، وثلاثٌ بِيضٌ، وثلاث دَآدِئ، وثلاثُ حَنادِسُ، وثلاثٌ مِحاقٌ.
وشُبِّه بالهِلال فى الهيئة: السِنان الَّذى يُصَادُ به، وله شُعْبَتان كطَرَفَى الهِلال؛ وضربٌ من الحَيّاتِ، وسِلْخها؛ والجَمَلُ المهزُول؛ وحديدةٌ تضمّ بين حِنْوَى الرَّحْل؛ وذُؤابة النَّعْلِ؛ وسِمَةٌ للإِبل؛ والماءُ القليل المستدير؛ وطرف الرّحى؛ وشىء يُعَرْقَبُ به الحميرُ؛ والغلام الحسن الوَجْه.
وهَلَّ الهِلالُ وأَهَلَّ وأُهِلَّ واسْتَهَلَّ: ظَهَر. وهلّ الشَّهر: ظَهَرَ هِلالُه ولا تقل أَهَلَّ. واسْتَهَلَّ أَيضاً: طَلَبَ رُؤَيته. ثم قد يُعبّر عن الإِهْلال(5/331)
بالاسْتِهْلال نحو الاستجابة والإِجابة.
والإِهلالُ: رفعُ الصَّوْتِ عند رُؤية الهِلال، ثم استُعْمِل لِكُلِّ صوت، وبه شُبِّه إِهْلالُ الصَّبِىّ.
وقوله تعالى: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله} أَى ما ذُكرَ عليه غيرُ اسمِ الله/ وهو ما كان يُذْبَحُ لأَجل الأَصنام.
وقيل: الإِهلالُ والتَّهَلُّلُ والتَّهْلِيلُ: أَنْ يقولَ: لا إِله إِلاَّ الله.
وتَهلَّل السّحابُ بِبَرْقِهِ: تَلأْلأَ، وتَشَبَّه فى ذلك بالهلال.
وأَتَيْتُه فى هَلَّةِ الشهر، وهِلِّه وإِهْلالِه، أَى اسْتِهْلالِهِ.
والمُهَلِّلَةٌ من الإِبلِ: الضامِرَةُ المُتَقَوِّسَةُ.(5/332)
بصيرة فى هل
وهى كلمةُ استفهامٍ، وقيل: حرفُ استِخْبارٍ، أَمّا على سبيل الاستِفْهام فذلك لا يكونُ من اللهِ تعالى.
وقيل: حرفٌ موضوع لِطَلَب التصديق الإِيجابِىّ دون التَصَوُّرِ ودُونَ التَّصْدِيق السَّلْبىّ، فيمتنع نحو هَلْ زَيْداً ضَرَبْتَ، لأَن تقديم الاسمِ يُشْعِر بحصول التَّصديق بنفس النِّسْبة. ونحو: هل زيدٌ قائم أَم عَمْروٌ، إِذا أَريد بأَمْ المتَّصلة، وهلْ لم يَقُمْ زيدٌ.
ونظيرها فى الاختصاص بطَلَب التَّصْدِيق أَمْ المنقطعة، وعكسها أَمْ المتَّصِلة، وجميع أَسماءِ الاستفهام فإِنهنَّ لطَلَبِ التصورّ ليس غير.
وأَعمّ من الجميع الهمزةُ فإِنَّها مشتركة بين الطلبين.
وتفترق "هَلْ" من الهمزة من عشرة أَوجه:
أَحدها: اختصاصُها بالتَّصديق.
والثانى: اختصاصُها بالإِيجاب، تقول: هل قامَ دون هل لم يقم، بخلاف الهمزة نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} ، {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} ، {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} .(5/333)
الثالث: تخصِيصُها المضارعَ بالاستقبال نحو: هل يُسافر.
الرّابع والخامس والسّادس: أَنَّها لا تدخلُ على الشرط، ولا على "إِنَّ" ولا على اسمٍ بعده فِعْل، بخلاف الهمزة، بدليل: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} ، {أَإِن ذُكِّرْتُم} ، {أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} ، {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} .
والسّابع والثامن: أَنها تقع بعد العاطِف لا قبله، وبعد أَم نحو: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} ، وقال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} .
التاسع: أَنها يُراد بالاستفهام بها النَّفْىُ، ولذلك دخلت على الخبر بعدها إِلاَّ نحو: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} ، {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} ، {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} .
العاشر: أَنَّها تأْتى بمعنى قَدْ، وذلك مع الفعل، وبذلك فَسَّر قولَه تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} جماعةٌ منهم ابنُ عباسٍ والفرّاءُ والكسائىّ والمَبَرِّدُ، وبالغ الزمخشرىّ أَنَّها بمعنى قد أَبداً، وأَن الاستفهام هو مستفادٌ من همزة مقدّرة معها، ونقله عن سيبويه فقال فى المفَصَّل:(5/334)
وعند سيبويه أَنَّ هل بمعنى قد، إِلاَّ أَنَّهم تركوا الأَلف قبلَها لأَنَّها لا تَقَع إِلاَّ فى الاستفهام. وقد جاءَ دخولُها عليها فى قَوْله:
سائل فوارِسَ يَرْبُوع بشدّتِنَا ... أَهَلْ رأَونا بسَفْح القاع ذى الأَكَمِ
وقال فى الكشَّاف: هل أَتى، أَى قد أَتَى على معنى التقرِيرِ والتقريب جميعاً، أَى أَتَى على الإِنسان قبل زمان قريب طائفةٌ من الزمّان [الطويل] الممتد لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، بل شيئاً منسيّاً، نطفة فى الأَصلاب. والمراد بالإِنسان الجِنْس بدليل: {إِنَّ خَلَقْنا الإِنْسانَ من نُطْفَة} . وفَسَّرها غيرُه بقَدْ خاصّةً ولم يحمِلُوا قد على معنى التقريب بل على معنى التحقيق. وقال بعضهم: معناها التَوَقُّع، كأَنَّه قيل لقوم يتوقَّعُون الخبرَ عن ما أَتَى على الإِنسان/ وهو آدمُ. والحِين: زَمَن كان طِيناً. وعكس قومٌ ما قاله الزمخشرىّ وقالوا: إِنَّ هل لا تأْتِى بمعنى قد أَصْلاً، وهذا هو الصّواب عند كثيرين. وأُدْخِلَت عليها الأَلفُ والَّلام، قيل لأَبى الدُّقَيْشِ: هَلْ لَكَ فى زُبْد وتَمْر فقال: أَشَدُّ الهَلِّ. وثَقَّلَه لتَكْمُلَ عِدَّةُ حُروف الأُصول. وأَلْ لغة فى هَلْ.(5/335)
وهَلاَّ كلمةُ تَحْضِيض مركَّبة من هَلْ و "لا"، وتدخلُ على الفعل، وإِنْ دخلت على اسم فلا بدّ من تقديرٍ كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "فهلاَّ بِكْراً" أَى هَلاَّ تَزَوَّجْتَ.
وحَيَّهَلَ الثَّرِيدَ، أَى هَلُمَّ. وحَىَّ هَلَ الصّلاة، أَى ائتوهَا. وَحَىَّ هَلكَ، أَى رُوْيدك. قالوا: وتصغيره هُلَيْل وهُلَيّة، وهُلَىّ.
قال بعضُ المفسّرين: "هل" ترد فى التنزيل على سبعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى قَدْ، وهو كلُّ موضع يكون بعده أَتَى كما تقدّم فى {هَلْ أتى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} ، {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} ، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} ، وله نظائر.
الثَّانى: بمعنى ما النافِية، وهذا فى كلِّ موضع يتلوه إِلاَّ، نحو {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} .
الثالث: بمعنى لَمْ وهذا فى كلِّ محلٍّ يكون بعده لا، نحو: هَلاَّ فَعَلْتَ كذا، وهَلاَّ قُلْتَ كذا.(5/336)
الرّابع: بمعنى النَّفْى نحو: {هَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} .
الخامسُ: لِتَقْرِيرِ القَسَمِ نحو قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} .
السّادس: بمعنى الأَمْر إِذا اقْترن بفِعْل يدلُّ على معنى الأَمْرِ نحو قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ، أَى انْتَهْوا، {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أَى أَسْلِموا.
السّابع: بمعنى السّؤال والاستفهام: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} .(5/337)
بصيرة فى هلك
يقال: هَلَك يَهْلِكُ كضَرَبَ يَضْرِبُ، وهَلَكَ يَهْلَكُ كجَعَلَ يَجْعَل هَلاكاً، وهُلُوكاً وهُلَكاً بضمّهما، ومَهْلكاً ومَهْلِكاً، وتُهْلوكاً، وتَهْلُكَةً: مات.
وأَهْلَكَهُ، وهَلَّكَهُ، واسْتَهْلَكَه، وهَلَكَهُ أَيضاً لازِمٌ ومُتَعَدّ، فهو هالِكٌ، والجمعُ: هَلْكَى وهُلَّكٌ، وهُلاَّكٌ، وهَوالِكُ شاذٌّ.
والهَلْكاءُ، والهَلَكَة: [الهَلاَكُ] .
والهلاك على ثلاثة أَوجه:
افْتِقادُ الشىءِ عنك وهو عند غَيْرِك موجودٌ، كقوله تعالى: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} .
الثانى: هَلاكٌ باستحالَة وفساد، كقوله تعالَى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} .
الثالث: المَوْتُ، نحو قوله تعالى: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}(5/338)
{وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} ، {حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} .
الرّابعُ: بُطلانُ الشىءِ من العالَم وعَدَمُه رأساً، ودلك المسمّى فناءً، وقد أَشير إِليه بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} .
ويُقال لِلَعذاب والخَوْفِ والفقْرِ الهلاكُ، وعلى هذا قوله تعالى: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} .
وقولُه: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} ، هو الهَلاك الأَكبر الَّذى دَلّ عليه النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: "لا شَرَّ كَشَرٍّ بعدَهُ النَّار".
وقُرِئ: {لِمَهْلِكِهِم} ومُهْلَكِهم، فمَهْلَكهم من الهُلْك، ومُهْلَكِهم من الإِهْلاك.
والتَهْلُكة ما يُؤَدّى إِلى الهلاك، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} .
والمَهْلَكَةُ مثلثة اللام: المَفازَة.
والهَلَكُ: السُّنُون الجَدْبَة، جمع: هَلَكَة بالتحريك.(5/339)
والهَلُوكُ: الفاجِرَة المتساقِطة على الرّجال/، لأَنَّها تتهالَكُ فى مِشْيَتها، أَى تتمايل.
والاهْتِلاكُ والإِنْهِلاكُ: رَمْىُ الإِنسانِ نَفْسَه فى تَهْلُكه.
والمُهْتَلِكُ مَنْ لاهَمَّ له الاَّ أَن يَتَضَيَّفَهُ الناسُ.
والهُلاَّكُ. الَّذين يَنْتابُون النَّاسَ لابْتِغاءِ مَعْروفهم.
ووادى تُهُلِّكَ بضمّتين وكسر اللام المشدّدة ممنوعاً: الباطِلُ.(5/340)
بصيرة فى هلم
وهى كلمة مركّبة من ها التنبيه ومن لمَُّ، واستُعْمِلت استعمالَ البَسيطة، ويستوِى فيه الواحدُ والجمعُ والتأْنيثُ والتذكيرُ. وبنو تَمِيم يُجْرُونها مُجْرَى رُدَّ.
وقيل: أَصْلُهُ هَلْ أُمَّ، كأَنَّه قيل: هَلْ لَكَ فى كَذا أُمَّهُ أَى اقْصده، فَرُكِّبا.
قال تعالى: {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} فمنهم من تَرَكه على حالته فى التثنية والجمع، ومنهم من قال هَلُمَّا وهَلُمُّوا وهَلُمِّى وهَلْمُمْنَ.(5/341)
بصيرة فى همد وهمر
هَمَدَت النارُ تَهْمُدُ هُمُوداً: طُفِئتْ وذَهَبت البَتَّة.
والهامِدُ: الرَّمادُ البالِى المُتَلَبِّدُ بعضُه فوقَ بعض.
والهَمْدَةُ: السَّكْتَةُ. وهَمَدَتْ أَصواتُهم: سَكَتَتْ. وهَمَد الثَّوْبُ يَهْمُدُ هُموداً: بَلِىَ.
ونَباتٌ هامِدٌ: يابسٌ، قال تعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} أَى جافَّةً ذات تُراب.
وهَمَدَ شَجَرُ الأَرْضِ: إِذا بَلِى.
وهُمودُ الأَرْضِ: أَنْ لا يَكُونَ فيها حياةٌ ولا نَبْتٌ ولا عُودٌ ولم يُصِبْها مَطَرٌ.
والإِهْمادُ: التَّسْكِينُ؛ والإِقامةُ؛ والسُّرْعَةُ فى السّير، كأَنَّه من الأَضْداد، أَو مثل الإِشْكاءِ فى كونه تارةً لإِزالةِ الشَكْوَى، وتارة لإِثْبات الشَكْوَى.
وأَهْمَدُوا فى الطعامِ انْدَفَعُوا.
الهَمْرُ: صَبُّ الدَّمْعِ والماءِ، يُقال: هَمَرْتُه فانْهَمَرَ، قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} .
وهَمَرَ ما فى الضَّرْع: حَلَبَه كُلَّهُ.(5/342)
بصيرة فى همز وهمس
الهَمْزُ: مثلُ الغَمْزِ والضَغْطِ والنَّخْس، قال الله تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} . قال ابنُ الأَعرابىّ: الهمّاز: العَيَّاب بالغَيْبِ يَأْكُل لُحومَ الناس. وقال الحَسَن: هو الَّذى يَغْمِزُ بأَخيه فى المَجْلِس. قال مُقاتِل: يعنى الوَلِيد بن َ المُغِيرَة؛ وقيل: الأَسْوَدُ بن عَبْدِ يَغُوثَ؛ وقال عطاء: الأَخْنَس بن شَرِيق.
والهامِزُ والهُمَزَة: الغمّاز وأَنشد ابنُ فارس:
تُدْلِى بِوُدّىَ إِذْ لاقَيْتَنِى كَذِباً ... وإِنْ أُغيَّبْ فأَنْتَ الهامِزُ اللُّمَزَهُ
ورجلٌ هُمَزَةٌ، وامرأَةٌ هُمَزَةٌ.
وَهَمَزهُ أَيضا: دَفَعَهُ وَضَرَبَهُ، قال:
ومَنْ هَمَزْنا عِزَّهُ تَبَرْكَعا ... على اسْتِه رَوْبَعَةً أَوْرَوْبَعَا
وهَمَزاتُ الشَّياطين: خَطَراتها التى تُخْطِرُها بقَلْب الإِنسان.
وهَمَزَتْه إِليه الحاجَةُ: دَفَعَتْه. قال ابن الأَعرابىّ: الهَمْزُ: الغَضُّ،(5/343)
والهَمْزُ: الكَسْرُ. وهَمَز القَناةَ: ضَغَطَها بالمهامِزِ إِذا ثُقِّفَت.
قال الله تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} .
والمِهْمَزُوالمِهماز: حديدة تكون فى مؤُخِّرِ خفّ الرائض. والمهامز أَيضا: مَقارِعُ النَّخَّاسين يَهْمِزُون بها الدّوابَّ لِتُسْرِع، الواحدة مِهْمَزَةٌ وهى المِقْرَعَة. والمَهامِزُ: العِصِىُّ أَيضا.
الهَمْسُ: الصوْت الخَفِىُّ، ومنه قوله تعالى: {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} أَى صوتاً خفيّاً مِنْ وَطْءِ أَقدامِهم إِلى المَحْشَر. وكُلُّ خَفِىّ، أَو أَخْفَى ما يَكُون من صَوْتِ القَدَم، والعَصْرُ، والكَسْرُ؛ ومَضْغُ الطَّعام [والفم مُنْضَمٌّ] وقال صُهَيْبُ رضى الله عنه: "كان النبىُّ صَلَّى الله عليه وسلَّم إِذا صلَّى هَمَسَ بشَىْءِ لا نَفْهَمُه". وقيل الهمس: السَّيْرُ باللَّيْلِ. وقال الليث: الهمس: حسُّ الصّوتِ فى الفم ممّا لا إِشْرابَ لَهُ من صَوْتِ الصَّدْرِ ولا جَهارَةَ/ فى المنطقِ، ولكنَّه كلام مهموس.
ويقال: اهْمِس وصهْ، أَى امْشِ خَفِيّاً واسْكُتْ.
والهَمِيسُ: صوْتُ نَقْل أَخفافِ الإِبل، قال ابن عبّاس رضى الله عنهما:
وهُن يَمْشِين بنَا هَمِيسا ... إِنْ يَصْدُق الطَيْرُ نَنِكْ لَمِيسا(5/344)
بصيرة فى هم
الهَمُّ: الحَزَنُ، والجمع هُمُومٌ؛ وماهَمَّ به الإِنسان. وقد هَمَّهُ الأَمْرُ هَمّاً، ومَهَمَّةً، وأَهْمَّه: حَزَنَه.
وهَمَّ السُّقْمُ جِسْمَه: أَذَابَه وأَذْهَب لَحْمه. وهم الشحْمَ فَانْهَمَّ: أَذَابَهُ فذاب. وهَمَّ الغُزْرُ الناقَةَ: جَهَدَها.
وهمَّ به: قَصَدَ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} وأَهَمَّنِى كذا: حَمَلَنى على أَنْ أَهُمَّ به، قال الله تعالى: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} .
وهذا رجلٌ هَمُّك وهِمَّتُك من رَجُل، أَى حَسْبُك من رَجُل.
والهِمَّة والهَمَّة بالكسر والفتح: ما هَمَّ من أَمْر ليُفْعَل.
قال المحقِّقون: الهِمَّةُ: فِعْلَةٌ من الهَمّ، وهو مبدأُ الإِرادة، ولكن حصولها بنهاية الإِرادة. والهَمُّ مبدؤها. والهِمَّةُ نِهايتُها. وفى بعض الآثار الإِلهيّة: إِنّى لا أَنظر إِلى كلام الحَكيم وإِنَّما أَنظر إِلى هِمّته.(5/345)
والعامّة تقول: فهِمَّةُ كلّ امرئ ما يُحْسِنُه. والخاصَّة تقول: فهِمَّة كلِّ امرئ ما يَطْلُب. يريد أَن قيمة المرءِ هِمَّتُه ومَطْلُبه.
قال الشيخ عبد الله الأَنصارىّ: الهِمَّةُ ما يَمْلِك الانْبِعاثَ للمقصود صِرْفاً، لا يَتمالك صاحبُها ولا يلتفت عنها. وقوله: تَمْلِك الانبعاثَ للمقصود، أَى يستَوْلِى عليه كاستيلاءِ المالِكِ على المملوك، وصِرْفاً أَى خالِصاً. والمراد أَنَّ هِمَّة العبْدِ إِذا تعلَّقَت بالحقِّ تعالى طَلَبه خالصاً صادقاً ومَحْضاً، فتملِكُ الهِمَّةُ العاليةُ التى لا يَتمالك صاحِبُها، أَى لا يقدر على المُهْلَة، ولا يتمالك لِغَلَبة سلطان الهِمَّة وشدّة إِلزامِها إِيّاه بطَلَب المقصود ولا يلتفتُ عنها إِلى ما سِوَى أَحكامها، وصاحبُ هذه الهمّة سريعٌ وصولُه وظَفَرُه بمطلوبه ما لم تَعُقْهُ العوائق، وتقطعه العلائق. وهى على ثلاث درجات:
الدّرجةُ الاُّولى: هِمَّةٌ تصونُ القلبَ عن وَحْشةِ الرَّغبة فى الدّنيا وما عليها، فيزهد القلبُ فيها وفى أَهلها. وسُمِّيت الرغبةُ فيها وَحْشَةً لأَنَّها وأَهلَها تُوحِش القلبَ والرّاغبين فيها، فأَرواحُهم وقلوبُهم فى وَحْشة من أَجسامهم إِذْ فاتَها ما خُلِقت له. وأَمّا الزاهدون فيها فإِنَّهُمْ يَرَوْنَها مُوحِشَةً لهم؛ لأَنَّها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم، ولا شىءَ أَوحشَ عند القلب من شىءٍ يحولُ بينه وبين مطلوبه ومحبوبه، ولذلك كان مَنْ نازع النَّاس أَموالَهم وطلَبها منهم أَوْحَشَ شىءٍ إِليهم(5/346)
وأَبْغَضَه. وأَيضاً فالزاهدون فيها إِنما ينظرون إِليها بالبصائر، والرّاغبون ينظرون إِليها بالأَبصار، فيَتَوَحَّش الزَّاهد ممّا يَأْنَسُ به الراغِبُ كما قيل:
وإِذا أَفاقَ القَلْبُ وانْدَمَل الهَوَى ... رَأَتِ القُلُوبُ ولم تَرَ الأَبْصارُ
ولذلك [فإِنَّ] الهمّة تحملُه على الرَّغبة فى الباقى لِذاتِه، وهو الحقّ سبحانه، والباقى بإِبقائه وهو الدّارُ الآخرة، وتُخَلِّصه وتُمَحِّصه من آفات الفُتور والتَّوانى وكُدوراتها التى هى سبب الإِضاعة والتفريط.
والدّرجة الثانية: هِمَّةٌ تورِث أَنَفَةً من المبالاة بالعِلَل والنُّزُول على العمل، والثِّقة بالأَمل. والعِلَل ها هُنا الاعتمادُ على الأَعمال ورؤية ثمراتها ونحو ذلك، فإِنَّها عندهم عِلَلٌ، فصاحبُ هذه الهِمَّة تَأْنَفُ هِمَّتُه وقَلْبُه من أَن يُبالِىَ بالعِلَل، فإِنَّ همّته/ فوقَ ذلك، ففكرتُه فيها ومبالاتُه بها نزولٌ من الهمّة. وعدمُ هذه المبالاة إِمّا لأَنَّ العِلَل لم تحصل له؛ لأَنَّ علوَّ هِمّته حال بينه وبينها فلا يُبالى بما لا يحصل له، وإِمّا لأَنّ همّته وسَعَة مطلبِه وعلوّه تأْتى على تلك العِلَل وتستأْصلها، فإِنَّه إِذا عَلَّق همّته بما هو أَعلَى منها تضمّنَتها الهمّة العالية، واندرج حكمُها فى حكم الهمّة العالية. وهذا محلّ عزيز جدّاً.
وأَمّا الأَنَفَة من النُّزول على العمل فمعناه أَنّ العالِىَ الْهِمَّة مَطْلَبُه فوقَ مطلَب العُمّال والعُبّاد وأَعلى منه، فهو يَأْنَفُ أَن ينزل من سماءِ(5/347)
مطلَبِه العالِى إِلى مجرّد العَمَل والعِبادة دون السّفر بالقلب إِلى الله ليحصلَ له ويفوزَ به فإِنَّه طالبٌ لربّه تعالى طلباً تامّاً بكلّ مَعْنَىً واعتبار فى عَمَله، وعِبادَتِه ومناجاتِه، ونَوْمِه ويَقَظَته، وحَرَكَته وسكُونه، وعُزلته وخُلْطته وسائر أَحواله، فقد انصبغ قلبُه بالتوجُّه إِلى الله تعالى أَىّ ما صِبْغَة. وهذا الأَمر إِنما يكون لأَهل المحبّة الصّادقة، فهم لا يقنعون بمجرّد رُسوم الأَعمالِ وبالاقتصار على الطلب حال العَمَل فقط. وأَمَّا أَنَفَتُه من الثَّقة بالأَمَل، فإِن الثقة تُوجب الفُتور والتَّوانى، وصاحبُ هذه الهمّة من أَهل ذلك، كيف وهو طائرٌ لا يُصاد.
والدّرجة الثالثة: هِمَّة تتصاعد عن الأَحوال والمعاملات، وتزول بالأَعواض والدّرجات، وتَنْحُو عن النُّعوتِ نحو الذات. والتَّصاعُد عن المعاملات ليس المراد به تعطيلها بل القيام بها مع عدم الالتفات إِليها. ومعنى الكلام أَنَّ صاحب هذه الهمَّة لا يقف على عِوَض ولا درجة، فإِنَّ ذلك نزولٌ من هِمَّته، ومطلَبُه أَعلَى من ذلك. فإِن صاحبَ هذه الهمّة قد قَصَر همّتَه على المطلب الأَعلَى الَّذى لا شىء أَعلى منه، والأَعواضُ والدرجات دونه، وهو يعلم إِذا حصل هناك حصل له كلُّ درجة عالية، وأَعْواضٌ شَتىَّ. وأَمّا نَحْوُها نَحْوَ الذات، فالمراد به أَنَّ صاحب هذه الهمّة لا يقتصر على شُهودِ الأَفْعال ولا الأَسْماءِ والصِفات بل ينحو نَحْو(5/348)
الذَّات الجامعة لمتفرّقات الأَسماءِ والصّفات والأَفعال. أُنْشِدنا لبعض الأَفاضل:
وقائلة لِمْ غَيَّرتْكَ الهُمومُ ... وأَمْرُك مُمْتَثَلٌ فى الأُمَمْ
فقلتُ ذَرينى على غُصَّتِى ... فإِنَّ الهُمومَ بقَدْرِ الهِمَمْ
وفى الحديث: "مَنْ هَمَّ بذَنْب ثمَّ ترَكَهُ كانت له به حَسَنَة" وقال أَيضا: "من اهْتَمَّ لأَمْر دينه كَفاه الله أَمْرَ دُنْياه"، وقال: "من أَصْبَحَ وأَكثر هَمِّه الدُّنْيا فلَيْسَ من اللهِ فى شىءِ".
وقيل: الطَّيرُ يطير، بجَنَاحِه والمرءُ يطير بهِمَّتِه وقال:
أَهُمّ بشىءٍ والليالى كأَنَّها ... تُطارِدُنى عن كَوْنِها وأُطارِدُ
فَريدٌ عن الخِلاَّن فى كلّ بلدة ... إِذا عَظُم المَطْلُوب قَلَّ المُساعِدُ
وقد ذُكر الهمّ فى القرآن فى ثمانية مواضع: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} ، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} ، {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} ، {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ} ، {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} ، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ} .(5/349)
بصيرة فى هنا وهناك
تقول: هُنَا/ وهاهُنا: إِذا أَرَدْتَ القُرْبَ، وهَنَّا وهاهَنَّا وهَنَّاك وهاهَنَّاك مشدّدات إِذا أَردتَ البُعْد. وجاءَ من هَنِى بكسر النُّون ساكنة [الياءِ] أَى من هُنا وهُنا. ويُقال للحَبيب: هاهُنَا وهاهُنا، أَى تَقَرَّبْ وادْنُ. وللبغيضِ هاهَنَّا وهَنَّا أَى تَنَّحَّ بعيداً.
وقال الأَصفهانىّ: هُنا يقع إِشارة إِلى الزَّمان القريب أَو المكان القريب، والمكانُ أَمْلَكُ به، يقال: هُنا وهُنالِكَ وهُناكَ كقولك: ذَا وذَلِكَ وذَاكَ. قال اللهُ تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} ، وقال تعالى: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، وقال تعالى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} وقال تعالى: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ} ، وقال تعالى: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ} ، وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ، وقال تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} . وقال تعالى: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} .(5/350)
بصيرة فى هنئ
الَهنِئُ: أَكْل ما لا يَلْحَق الآكِلَ فيه مَشَقَّةٌ ولا وَخامة عاقِبَة، قال الله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} . وهَنُؤَ الطعامُ يَهْنُؤ، وهَنِئَ، هَناءَةً، أَى صار هَنِيئاً. وقال الأَخفشُ: هَنَأَنِى يَهْنَؤُنِى ويَهْنِئُنِى هَنْأً وهِنْأً بالفتح والكسر.
وهَنِئْتُ الطَّعامَ، أَى تَهَنَّأْتُ به. ولك المَهْنَأُ، والمَهْنَأَةُ، والمَهْنُؤَة قال أَبو حِزام غالِبُ بن الحارِث العُكْلِىّ:
إِمامَ الهُدَى ارْتَحْ لنا بالغِنَى ... وتَعْجِيل خَيْر له مَهْنَؤُهْ
وهَنِئْتُ به: فَرِحْتُ.
[وقوله تعالى] : {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} ، أَى من غَير تَعَب وكذلك كُلّ يأْتيك من غير تَعَب. وقيل: أَكْلاً هَنِيئاً بطِيب النَّفْس. وهَنِيئاً: لا إِثْمَ فيه؛ ومَريئاً: لا داءَ فيه. وقال ابن الأَعرابىّ: هَنَأَنِى الطَّعامُ وهَنِئَنى فهو هَنِئٌ. والهَنِئُ: الطَّعامُ.
وهَنَأَهُ: نَصَرَهُ. وهَنَأَتُ الرّجلَ أَهْنَؤُه وأَهْنِئُه أَيضاً هَناءً: إِذا أَعْطَيْتَه.(5/351)
والتَّهْنِئَةُ: خِلافُ التَّعْزِيَة: يُقال: هَنَّأْتُه بالوِلاية تهنئةً وتَهْنِيئاً وهذا مُهَنَّأُ قد جاءَ، وهو اسمُ رجل.
واسْتَهْنَأَ: استَنْصَر؛ واسْتَهْنَأَ أَيضا: استَعْطَى قال أَبو حِزام غالبُ بن الحارث العُكْلىّ:
أُلَزّىءُ مُسْتَهْنِئاً فى البَدِىءِ ... فَيرْمَأُ فيه ولا يَبْذَؤُه
واهْتَنَأْتُ مالِى: أَصْلَحْتُه.
وَهَنَأْتُ البَعِيرَ أَهْنَؤُه وأَهْنِئُه: إِذا طَلَيْتَه بالقَطِران. قال ابن مسعود رضى الله عنه: "لأَنْ أَزاحِمَ جَمَلاً قَدْهُنِئَ بالقَطِران أَحَبُّ إِلىّ من أَنْ أَزاحِمَ امرأَةً عَطِرَةً"، قال المُتَنَبِّى:
إِنَّما التَّهْنِئاتُ للأَكْفاءِ ... ولِمَنْ يَدَّنى من البُعَداءِ
وأَنا مِنْكَ، لا يُهَنِّئُ عُضْوٌ ... بالمَسَرَّاتِ سائِرَ الأَعْضاءِ(5/352)
بصيرة فى هود
هادَ يَهُودُ هَوْداً: تابَ ورَجعَ إِلى الحقّ، قال الله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أَى تُبْنَا، وقال ابن عرفة أَى سَكَنَّا إِلى أَمْرِك.
وتقول: هذه هودٌ إِذا أَردتَ سورةَ هودٍ، وإِنْ جعلت هُوداً اسمَ السورة لم تَصْرِفْه، وكذلك نوحٌ، ونونٌ.
[والهُودُ: اليَهُودُ، وأَراد باليَهُود] اليهوديِّين، ولكنهم حذفوا ياءَ الإِضافة كما قالوا: زَنْجِىٌّ وزِنْجٌ ورُومِىٌّ ورُومٌ، وإِنَّما عُرِّفَ على هذا الحَدّ فجُمعَ على قِياس شَعِيرَة وشَعير، ثم عُرّف الجمعُ بالأَلف واللاَّم، ولولا ذلك لم يَجُز دُخول الأَلف واللاَّم عليه لأَنَّه معرفةٌ مؤنَّثٌ، فجرَى فى كلامهم مَجْرى القَبيلة ولم يُجْعَل كالحَىِّ، قال الأَسْوَدُ بن يَعْفر النَهْشَلّى:
فَرَّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمُوا جِيرانَهُمْ ... صَمِّى لِما فَعَلَتْ يَهُودُ صَمامِ
وقد يُجْمع اليَهُودُ على / يُهْدان قال حَسّانُ رضى الله عنه يَهْجُو الضحّاك ابن خليفة رضى الله عنه فى شَأْن بنى قُرَيْظَةَ وكان، أَبو الضحّاك منافِقاً.
أَتُحِبُّ يُهْدان الحجاز ودِينُهُمْ ... عَبَدَ الحِمارَ ولا تُحِبُّ مُحَمَّدَا
وقيل يَهُود فى الأَصْلِ من قولهم: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} وصار اسمَ مَدْح،(5/353)
ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازِماً لهم وإِن لم يكن فيه معنى المدح، كما أَنَّ النَّصارى فى الأَصل من قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} ثمّ صار لازِماً لهم بعد نسخ شريعتهم.
وهادَ فلانٌ: تَحَرَّى طريقةَ اليَهُودِ فى الدّين، قال الله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} ، وقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} أَى اليَهُود. قال الفرّاء، حُذِفت الياءُ الزائدةٌ، ورجع إِلى الفِعْل من اليَهُودّية. وقال الأَخْفش الهُودُ: جمع هائِد مثل عائد وعُود. وكذا قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً} .
وَالْهَوَادَةُ: الصُّلْح، والمحاباة، والرُّخصة، والحُرْمَةُ.
والتَّهِويد: المَشْىُ الرُّوَيْد مثلُ الدَّبيب، والسّكونُ فى المنطق؛ والنَّوْم؛ وأَن يصير الإِنسان يَهودياً، وفى الحديث: "كلُّ مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرَة فأَبواه يُهَوِّدانِه أَو يَنَصِّرانِه أَو يُمَجِّسانه".
والتَّهَوُّد: التَّوْبةُ والعَمَلُ الصّالح. وتَهَوَّد فى مِشْيَته: مَشَى مَشْياً رَفيقاً تشبّها باليَهُود فى حركتهم عند القراءَة. وتَهَوَّد أَيضاً: صار يَهُودِيّاً، وهذا يُعَدُّ من الأَضداد.(5/354)
والمُتَهَوِّد: المتوصِّل بَرحِمٍ أَو حُرْمة، المتقرّب بإِحْداهما، قال زُهَيْرُ بنُ أَبى سُلْمَى:
تَقِىٌّ نَقِىٌّ لم يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذى قُرْبَى ولا بَحَقَلَّدِ
سِوَى رُبَعٍ لم يأْتِ فيه مخافةً ... ولا رَهَقاً من عابِدٍ مُتَهَوِّدِ
الرُّبَع: جمع ربعة، وهى المِرْباع.
والمُهاوَدَة: المُعاوَدَةُ، والمُصالَحَةُ، والمُمايَلَة.(5/355)
بصيرة فى هود وهون
هارَ البِناءُ، وهَوَّرْتُه فَتَهَوَّر: إِذا سَقَط، وكذلك انْهارَ، قال الله تعالى: {على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} ، وقُرِئ جُرُفٍ هائر. يقال: بئرٌ هارٌ. وهارٍ وهائرٌ ومُنْهارٌ.
وهارَ الجُرْفُ وانْهارَ وتَهَوَّر: سقط؛ (وتهوّر الليلُ: اشتدَّ ظَلامه) وتهوّر الشتاءُ: أَدْبَر.
وفلانٌ يَتَهَوَّر فى الأُمُورِ: يَقَع فيها بغير فِكْر. وإِنَّ فيه لَهَوْرَةٌ، وإِنَّه لَهَيِّر.
هانَ يَهُونُ هُوْناً وهَواناً ومَهانَةً: ذَلَّ، فهو هَيِّنٌ وهَيْن، وأَهْوَنُ.
وهانَ يَهُونُ هُونا بالضمّ: سَهُلَ، قال الله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أَى هَيِّنٌ.(5/356)
والهَوْنُ: السَّكِينة والوَقار؛ والحَقير.
والهُون بالضم: الخِزْىُ.
وهَوَّنَه اللهُ: سَهَّلَه وخَفَّفه.
وَهَوَّنَهُ واسْتهانَ به وتَهاوَن به: أَهانَهُ.
وَهَيْنٌ وهَيِّن: ساكنٌ مُتَّئد. وقيل: بالتشديد من الهَوان، وبالتخفيف من اللِّين.
وقيل: الهَوانُ على وَجْهَيْن: أَحدُهما: تذلُّل الإِنسان فى نَفْسِه لما لا يُلْحِق به غَضاضة فيُمدح به، نحو قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرحمان الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} ، وفى الحديث: "المُؤمِنُون هَيِّنُونَ لَيِّنونَ". والثَّانى: أَن يكون من متسلِّط مستَخِفّ به فيُذَمُّ به، وهذا قولُه تعالَى: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} ، وقوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} .
وقولُه تعالى: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} ، أَى سَهْل. وقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ، أَى ضعيف. وقوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً} ، أَى حقيراً يسيراً.(5/357)
وعَلى هَوْنِك/ وهَيْنَتِكَ، أَى على رِسْلك.
والمُهْوَئنُّ: المكانُ البَعِيدُ، أَو الوَهْدةُ. واهْوَأنَّت المفازةٌ: اطْمَأَنَّت فى سَعَة.
وهو يُهاوِنُ نَفْسَه: يَرْفُقُ بها، قال الشَّمَرْدَل شَرِيك اليَرْبُوعىّ:
دَخَلَتْ هَوادجَهُنَّ كُلّ رِبْحَلَة ... قامَتْ تُهاوِنُ خَلْقَها المَمْكُورا
ويقال: إِذا عَزَّ أَخُوك فَهُنْ. وإِنَّه لَهَوْنُ المَؤُونَة، وهَيْنُ المَؤُونةِ، للشَّىءِ الخفيف.(5/358)
بصيرة فى هوى
الهَوَى: مَيْلُ النَّفس إِلى الشَّهْوَة. ويُقال ذلك للنَّفْس المائلةِ إِلى الشَّهْوة، قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} . وقال بعض العارفين:
إِنِّى بُليتُ بأَرْبَعٍ يَرْميِنَنِى ... بالنَّبْل من قَوْسٍ لها تَوْتيرُ
إِبْلِيسُ والدُّنيا ونَفْسِىَ والهَوَى ... يا رَبّ أَنتَ على الخَلاصِ قَدِيرُ
وقيل: الهَوَى: العِشْقُ، ويكون فى الخَيْر والشرّ. والهَوَى أَيضا: إِرادةُ النَّفْس. والهَوَى: المحَبَّة، هَوِيَهُ يَهْوَاه، وهو هَوٍ، وهى هَوِيَةٌ، قال:
أَرَاك إِذا لم أَهْوَ أَمْراً هَوِيتَهُ ... ولستَ لما أَهْوَى من الأَمرِ بالهَوى
وهو من أَهلِ الأَهواء، ذَمٌّ.
وقد عَظَّم اللهُ تعالَى ذَمَّ اتِّباعِ الهَوَى فى قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلاهه هَوَاهُ} ، وقوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} وقال بلفظ الجَمْع تَنبيهاً على أَنَّ لكل واحد هَوًى غيرَ هَوَى الآخَرِ، ثمّ هَوَى كلِّ واحد لا يَتناهَى، فإِذاً اتِّباعُ أَهوائهم نهايةُ الضلال والحَيْرَة. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} .
وهَوَى الْعُقابُ هُوِيّاً: انقَضَّتْ على صَيْد أَو غيره. وَهَوَى الشىءُ(5/359)
وأَهْوَى وانْهَوَى: سَقَط.
وهَوَتْ يَدى له، وأَهْوَت: ارْتَفَعَت؛ والرِّيحُ: هَبَّت؛ وفلانٌ: ماتَ.
وهَوَى يَهْوِى هَوِيّاً وهُوِيّاً وهَوَياناً: سَقَط من عُلْو إِلى سُفْل.
وهَوَى الجَبَلَ وإِلَيْه: صَعِدَهُ هُوِيّاً. قال الشَّمَّاخُ:
على طَرِيقٍ كظَهْرِ الأَيْم مُطَّرِد ... يَهْوِى إِلى قُنَّةٍ فى مَنْهَل عالى
وقال آخر:
يَهْوِى مَخارِمَها هُوِىَّ الأَجْدَل
والناقةُ تَهْوِى براكبها: تُسْرِع.
واسْتَهْوَتْهُ الشَّياطينُ: ذَهَبَتْ بِهَواهُ وعَقْلِه، وقيل: اسْتهامَتْه وحَيَّرَتْه، وقيل: زَيَّنَت له هَواهُ.
وهذه هُوّة عَمِيقة، وهُوًى.
والهاوِى: الجرادُ. وهاوِيَةُ والهاوِيَةُ: جَهَنَّم أَعاذَنا الله منها.
وطاحَ فى المَهْواة والهاوِيَة، وهى ما بين الجَبَلَيْن. وتَهاوَوْا فيها: تَساقَطوا.(5/360)
والهَوِيَّة كغَنِيّة: البَعِيدَةُ القَعْر.
وسَمعَ لأُذْنِهِ هَوِيّاً، أَى دَوِيّاً. وهاواهُ: دَاراه.
والهَواءُ بالمدّ: الجَوُّ، قيل: ومنه قولُه تعالَى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} إِذْ هى بمنزلَة (الهواء) فى الخَلاءِ.
وأَهْواهُ: رَفَعَه فى الهَواءِ وأَسْقَطَه، قال تعالى: {والمؤتفكة أهوى} .
ويقال للجبَان: إِنَّهُ لَهَواءٌ، أَى خالِى القَلْبِ من الجُرْأَة، والأَصل الجَوُّ.
وهَوَت الدَّلْوُ فى البئر هَوِيّاً، بالفتح: نَزَلَتْ.(5/361)
بصيرة فى هيت
قولهم: هَيْتَ لَكَ أَى هَلُمَّ، قال زَيْدُ بن علىّ بن أَبى طالب رضى الله عنه:
أَبْلِغْ أَمِيرَ المُؤْمِنينَ ... أَخا العراق إِذا أَتَيْتَا
إِنَّ العِراقَ وأَهْلَه ... سِلْمٌ إِليكَ فهَيْتَ هَيْتا
يستوِى فيه الواحدُ والجمعُ والمؤنَّث، إِلاَّ أَنَّ العددَ فيما بَعْدَه، تَقُولُ: هَيْتَ لَكَ، هَيْتَ لكُما، وهَيْتَ لَكُنَّ، وهَيْتِ لَكَ بكسر التاءِ لُغَةً فيها. وقرأَ ابنُ عبّاس رضى الله عنهما وأَبو الأَسْوَد الدؤلىّ وابنُ مُحَيْصِن والجَحْدَرِىّ وابنُ إِسحاق، وعيسى بنُ عُمَرَ: {وَقَالَتْ هَيْتَ} بكسر التاءِ.
والهيتُ بالكسر: الموضعُ الغامِضُ من الأَرض، قال رؤبة يذكر يُونُس/ صَلوات الله عليه:
وصاحبُ الحُوتِ وأَيْنَ الحُوتُ ... فى ظُلُمات تَحْتَهُنَّ هِيتُ
ويقال هاتِ يا رجلُ بكسر التاءِ، أَى اعْطِنى وللاثنين: هاتِيَا مثل آتِيا، وللجَمْع: هاتُوا، وللمرأة: هاتِى، وللمرأتين: هاتِيا، وللنساءِ(5/362)
هَاتِينَ، قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} .
وتقولُ: هاتِ لاهاتَيْتَ [وهاتِ إِنْ كان بك مُهاتاةٌ. وما أُهاتِيك كما تقول: ما أُعاطيك. ولا يُقال منه: هاتيت] .
قال الخليل: أَصل هاتِ من آتَى يُؤتِى فقلبت الهمزة هاء.
وهَيّتَ به وهَوَّت به، أَى صاحَ ودعا، قال:
قد رابَنِى أَنَّ الكَرِىَّ أَسْكَتَا ... لَوْ كان مَعْنِيّاً بِنَا لَهَيَّتا
وهَيْهاتَ، وأَيْهاتَ، وهيهان وأَيْهانَ، وهايهاتَ، وهايهان وآيهات وآيْهان، مثلَّثاتٌ مبنيّات [و] معربات. وهَيْهاهْ ساكنةَ الآخِرِ، وأَيْهَا وآيآت، إِحدى وخمسونَ لغة كُلٌّ يُستعمل لتبعيد الشىء، وتقول منه: هَيْهَيْتُ هَيْهاءً وهَيْهاتاً، ومنه قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ، قال الزَّجاج: أَى البُعْدُ لِما تُوعَدُون، وقال غيره: غَلِط الزَجّاج وإِنَّما غَلَّطَه اللاَّمُ، فإِنْ تقديره بَعُدَ الأَمْرُ والوَعْدُ لما تُوعَدُون لأَجْله.(5/363)
بصيرة فى هيج وهيم
يقال: هاجَ به الدَّمُ والمِرَّةُ، وهاجَ الغُبار: سَطَع.
وهاجَهُ غَيْرُهُ وهَيَّجَه، وهايَجُوه فلم يَجِدوا مَحِيصاً.
وهاجت لَه الدارُ الشَوْق فاهْتاجَ، قال:
هِيه وإِنْ هِجْناك يابْنَ الأَطْوَلِ ... ضَرْباً بكَفَّىْ بَطَلٍ لم يَنْكُلِ
وهَيَّجْتُ الناقَةَ فانْبَعَثَتْ. وناقةٌ مِهْياجٌ: نَزُوعٌ إِلى أَوْطانِها.
وشَهِدْتُ الهَيْجَ والهَيْجاءَ والهِياجَ، أَى الحَرْبَ.
وهاجَ الشَرُّ بين [القوم] ، وهَيَّجَه فُلانٌ.
وهاجَ الفَحْلُ هَيْجاً وهِياجاً: هَدَر. وإِذا اسْتَقَلَّ الرّجلُ غَضَباً قيل: هاجَ هائجُهُ.
وهاجَ البَقْلُ: أَخَذَ فى اليُبْس، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} وأَهْيَجْتُ الأَرضَ: صادَفْتُها كذلك. وهاجَت الأَرْضُ فهى أَرضٌ هائجةٌ(5/364)
هامَ يَهيمُ هَيْماً وهَيَماناً: أَحبَّ امرأَةً.
والهِيمُ: الإِبِلُ العِطاش. قال الله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} .
ورجُلٌ هائِم وهَيُومٌ: مُتحَيِّر. ورجلٌ هَيْمانُ: عَطْشان، [وهى هَيْمىَ] والجمعُ هِيمٌ.
والهُيَّامُ: العُشَّاقُ المُوَسْوِسُون.
والهُيامُ كغرابٍ: كالجُنون من العِشْق. والهُيام: العَطَشُ.
والهَيام كسحابٍ: ما لا يَتمالَكُ من الرَّمْل يَنْهارُ أَبداً، وقيل: هو من الرَّمْلِ ما كان تُراباً يابِساً.
والهِيامُ ككتاب الجَمْعُ؛ وما كان دُقاقاً يابساً من التراب.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أَى فى كلّ نوع من أَنواع الكَلامِ، أَى يُغالُون فى المَدْح والذَمِّ وسائر ما يتحرَّوْنَه من صُنوف الكلام، ومنه الهائم على وجْهه.(5/365)
بصيرة فى هيأ
الهيئة الشَّأْنُ. وفلانٌ حَسَنُ الهَيْئَة والهيئةَ بالفتح وبالكسر. والهَيِّئُ على فَيْعِل: الحَسَنُ الهيئة من كلِّ شَىءٍ. قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} .
وقوله: ياهَىْءَ مالى: كلمة تأَسُّف وتَلَهُّف، وأَنشد الكسائىّ لنُوَيْفع ابن لَقِيط الأَسَدِىّ:
يا هَىءءَ مالى من يُعَمَّرْ يُفْنِهِ ... مَرُّ الزَّمانِ عليه والتَّقْلِيبُ
قال أَبو زيد: هِئْتُ للأَمْرِ أَهِىءُ هَيْئَةً.
وقرأَ علىّ بن أَبى طالب وابنُ عبّاس رضى الله عنهم، وشقيق بن سَلَمة والسّلمّى، ومُجاهد، وعِكْرِمة، وابن وَثَّاب، وقَتادَةُ، وطَلْحَةُ، بن مَصَرِّف، وابنُ أَبى إِسحاق: {وقَالَتْ هِئْتُ لك} بكسر الهاءِ وبالهَمْز، أَى تَهَيّأَتُ لك.(5/366)
وهَيَّأَتُ الشىءَ فتَهَيَّأَ، أَى أَصْلَحتُه فصَلَحَ. قال الله تعالى: {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} .
والمُهايَأَةُ: أَمرٌ يَتَهايَأُ القَوْمُ عليه فَيَتراضَوْن.
وهِيّاكَ أَنْ تَفْعَل كذا لغة فى إِيّاكَ.(5/367)
الباب التاسع والعشرون - فى الكلمات المفتتحة بحرف الياء(5/369)
بصيرة فى الياء
وهى حرف هجاءٍ شَجْرِىٌّ مخرجُه من مفتتح الفم جوار مخرج الصّاد، والنسبة إِليه يائِىٌّ وياوِىٌّ ويَوِىٌّ. والفعل منه يَاءَيْتُ ياءً حسنةً وحَسْناءُ، والأَصل يَيَّيْتُ، اجتمعت أَربعُ ياءَات متوالية قلبوا اليائين المتوسطتين أَلفاً وهمزة طلبا للتخفيف.
2 - الياءُ فى حساب الجُمَّل: اسمٌ لعدد العَشَرَة.
3 - الياءُ الأَصلىّ: الذى يكون تارةً فى أَوَّل الكلمةِ، نحو يُمْن، وتارة فى وسطها، نحو: مَيْن، وتارة فى آخرها نحو: ظَبْى ولَحْى.
4 - الياءُ المكرّرة، نحو: حَىٍّ وطَىٍّ فى الأَسماءِ، وعَيَّن وبَيَّنَ فى الأَفعال.
5 - الياءِ الكافية عن كلمة نحو: يس، وكهيعص، الياءُ من اليُمْنِ، والسّين من السّيّد، وهكذا باقى الحروف.
6 - ياءُ الوَقْف، فى نحو: حُبْلَى وكِسْرَى إِذا وقفوا عليها جعلوا الأَلف المقصورة ياء.(5/371)
7 - ياءُ التَّثْنِيَة [نحو] : رأَيت الزَّيْدَين، {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} ، {إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} ، {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} .
8 - ياءُ الجمع: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} .
- ياءُ الإِعراب فى الأَسماءِ نحو: رَبِّ اغْفِرْ لىِ ولأَبِى: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} .
10 - ياءُ الاستقبال فى حال الإِخبار، نحو؛ يدخُلُ، ويَخْرج.
11 - الياءُ الفارِقة المميّزة بين الخطاب والتأْنيث، نحو: تضرِبِى وتَدْخُلى.
12 - ياءُ الإِضافَةِ، وتكون مخفَّفة، نحو: دارِى وغُلامِى {قُلْ ياعبادي} .
13 - ياءُ النسبة، وتكون مُشدّدة، نحو: عَرَبِىٍّ وقرَشىٍّ.
14 - ياءُ المؤنَّث: {فادخلي فِي عِبَادِي * وادخلي جَنَّتِي} .
15 - ياءُ التصغير: {يابني اركب مَّعَنَا} ، {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} ، ونحوه: أُخَىٌّ وأُخَيَّة، ورُجَيْل ومُرَيَّة.
- ياء النِّداءِ: يا رَبَّنا.(5/372)
17 - الياءُ الزائدة، وهذه قد تكون فى أَوّل الكلمة نحو: يرمع، ويَعْسُوب؛ أَو فى ثانيها نحو: حَيْدَر وصَيْقَل؛ أَو فى ثالثها، نحو: خَطِيب وخَطِير؛ أَو فى رابِعها نحو: قِنْدِيل ومِنْدِيل؛ أَو فى خامسها نحو: خَنْدَرِيس وعَنْتَرِيس.
- الياءُ المبْدَلة، وهذه إِما أَن تكون من أَلف: كحِمْلاق فى حمليق أو من باءٍ: كالثَّعالِى فى ثَعالِب، أَو من ثاءٍ: كالثَّالِى فى الثَّالِث، أَو من راءٍ: كقِيراط فى قِرّاط، أَو من سين: كالسّادِى والخامِى فى السّادس والخامس، أَو من صاد: نحو قصَّيْتُ أَظفارى فى قَصَّصْت، أَو من ضاد نحو: تَقَضَّى البازى أَى تَقَضَّضَ، أَو من عين: كالضَّفادِى فى ضَفادع، أَو من كاف: كالمَكاكِى فى جمع مَكُّوك، أَو من لام نحو: أَمْلَيْتُ فى أَمْللت، أَو من ميم نحو: دِيماس فى دِمّاس، أَو من نون نحو: دِينار والأَصلُ دِنَّارٌ؛ أَو من واو نحو: ميزانٍ، والأَصل مِوْزان؛ أَو من هاءٍ نحو: دَهْدَيْتُ الحجر فى دَهْدَهْتُه.
19 - الياءُ اللُّغَوِىّ، قال الخليل: الياءُ عندهم النَّاحِيَة.
تَيَمَّمتُ ياءَ الحَىِّ حين رَأَيْتُها ... تُضِىءُ كبَدْر طالِعٍ ليلَةَ البَدْرِ(5/373)
بصيرة فى يئس
اليَأْسُ واليأسَةُ: القُنوط. ابن فارس: اليأَسُ: قَطْع الأَملِ/ وليس فى كلام العرب ياءٌ فى صدر الكلام بعدها همزةٌ إِلاَّ هذه، يقال: يَئِسَ من الشىءِ يَيْأَسُ، مِثال عَلِمَ يَعْلَمُ، وفيه لغة أَخرى: يِئِسَ يَيْئِسُ بالكسر فيهما، وهى شاذة، وقرأَ الأَعرج ومجاهدٌ {لا تِيْئَسُوا من رَوْحِ الله} بكسر التاءِ. وقرأَ ابن عبّاس رضى الله عنهما {إِنَّه لا يِيْئَسُ من رَوْحِ الله} وهذا على لغة تميم وأَسَد وقَيْسٍ ورَبِيعة، يكسرون أَوّل المستقبَل إِلاَّ ما كان فى أَوّله ياءٌ نحو يَعْلم لاستثقالهم الكسرة على الياءِ، وإِنَّما يكسرون فى يَِيْأَس ويَِيْجَل لتَقَوِّى إِحدى الياءَيْن بالأُخْرَى. ورجل يَؤُسٌ ويَوؤُسٌ مثل حَذُر وصَبُورٍ. وقال المبرّد: منهم من يبدل فى المستقبل من الياءِ الثانية أَلِفاً فيقول ياءَس. قال: ويُقال يَئِسَ يَيْأَس كَحَسِبَ يَحْسَب، ونَعِمَ يَنْعَمُ، ويَئِسَ يَيْئِسُ بالكسر فيهنّ. وقال أَبو زَيْد: عُلْيا مُضَر يقولون: يَحْسِبُ وَينْعِمُ وَيَيَئْسُ بالكسر، وسُفلاها بالفتح. وقال سيبويه: وهذا عند أَصحابنا يجىءُ على لُغَتَيْن، يعنى يَئِسَ يَيْأَسُ وَيأَسَ يَيْئِسُ، ثم يركّب منهما لغة ثالثة. وأَمّا وَمِقَ يَمِقُ ووَثِقَ يَثِقُ ووَرمَ يَرمُ ووَلِىَ يَلِى ووَفِقَ يَفِقُ ووَرثَ يَرثُ فلا يجوز فيهنَّ إِلاَّ الكسر لغة واحدة.(5/374)
ويَئِسَ أَيضا بمعنى عَلِمَ فى لغة النَخَع، ومنه قوله: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} . كان علىّ بن أَبى طالبِ رضى الله عنه ومُجاهِدٌ وأَبو جَعْفر والْجَحْدِرىّ وابنُ كَثِيرٍ وابنُ عامرٍ يقرأُون: (أَفَلَمْ يتبيّن الَّذين آمَنُوا) ، فقيل لابن عبّاس: إِنَّها يَيْأَس، فقال: أَظنَّ الكاتب كتَبها وهو ناعِسٌ. وقال سُحَيُمُ بن وَثِيل اليَرْبُوعى الرِّياحىّ.
وقُلْتُ لهم بالشَّعب إِذْ يَيْسِرُونَنِى ... أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّى ابنُ فارِسِ زَهْدَمِ
وقال الفَرّاء فى قوله تعالى: {أَفلَمْ يَيْئَسِ الَّذِين آمَنُوا} أَفَلَمْ يَعْلَم قال: وهو فى المعنى على تفسيرهم، لأَنّ الله تعالى قد أَوْقَع إِلى المؤمنين أَنْ لَوْ شاءَ لَهَدَى النَّاسَ جميعاً فقال: أَفلم ييأَسوا علماً، يقول: يُؤيسُهم العلم، فكان العلم فيه مضمرا، كما تقول فى الكلام: قد يَئِستُ منك أَلاَّ تُفْلح، كأَنَّك: قلت [قد] عَلِمْتُه عِلْماً. وقيل معناه: أَفلَمْ يَيْأَس الَّذين آمنوا من إِيمان من وَصَفَهم الله بأَنَّهم لا يؤمنون، لأَنه قال: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} .
وقوله: {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} قال ابن عرفة:(5/375)
مَعْنَى قَوْلِ مجاهد: كما يئس الكفّار فى قبورهم من رحمة الله تعالى، لأَنَّهم آمنوا بعد المَوْت بالغَيْب فلم ينفعُهم إِيمانُهم حينئذ، وعلىّ قال: كما يَئِسُوا أَنْ يُحْيَوْا ويُبْعَثُوا.
وأَيْأَسْتُه وآيَسْتُه: قَنَّطْتُه، قال طَرَفَة بنُ العَبْد:
وأَيْأَسَنى من كُلِّ خَيْرٍ طَلَبْتُه ... كَأَناً وَضَعْناه إِلى رَمْس مُلْحَدِ
واتّأَسَ على افْتَعَل، واسْتَيْأَسَ بمعنى تأَيَّس، قال الله تعالى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} .(5/376)
بصيرة فى يبس
اليُبْسُ بالضَمِّ مصدرُ قولك: يَبِسَ الشىءُ بالكَسْر يَيْبَسُ ويابَسُ، وفيه لغة أُخرَى: يَبِسَ يَيْبِسُ بالكسر فيهما، وهو شاذٌ.
واليَبْسُ: اليابِسُ، يُقال: حَطَبٌ يَبْسٌ بالفتح قال ابن عَبَدَةَ:
تُخَشْخِشُ أَبْدانُ الحَدِيدِ عَلَيْهِمُ ... كما خَشْخَشَتْ يَبْسَ الحَصادِ جَنُوبُ
وقال ابن السكيت: هو جَمْع يابِسٍ مثل راكِب ورَكْب. وقال أَبو عُبَيْد فى قول ذى الرّمَّة:
ولَمْ يَبْقَ بالخَلْصاءِ مِمَّا عَنَتْ به ... من الرُّطْبِ إِلاَّ يُبْسُها وهَجِيرُها
ويُروَى بالفَتْح، قال: وهما لُغتان.
/وقرأَ الحسن البصرىّ: {طَرِيقاً فى البَحْرِ يَبْساً} بالفتح وسكون الباءِ، وقرأَ الأَعْمَش: يَبِساً بكسر الباءِ، وهى [لغة فى فتح] الباءِ.
والعرب تقول فيما أَصلُه اليُبُوسة ولم يُعْهَد رَطْباً قطُّ: هَذا شىءٌ يَبَسٌ بفتح الباءِ، فإِن كان يعهد رَطْباً ثمَّ يَبِسَ فبسُكُونها، يقال: هذا حَطَبٌ يَبْسٌ وموضِعٌ يَبْسٌ أَى كانا رَطْبَيْن ثم يَبِسا. والطريق الَّذى ضَربَهُ الله لموسَى عليه السّلام وأَصحابه لم يُعْهَد قطّ طريقاً لا رَطْباً ولا يابِساً إِنما أَظهره الله تعالى(5/377)
لهم جَسَداً مخلوقاً على ذلك لتعظيم الآية وإِيضاحها. وأَمّا قِراءَة إِسكان الباء فذهابا إِلى أَنَّه وإِنْ لم يكن طريقاً فإِنَّه موضعٌ قد كان فيه ماءٌ فيَبسَ. وحرّك العجّاج الباء، للضرورة فى قوله:
تسمعُ لِلْحَلْىِ إِذا ما وَسْوَسا ... والْتَّجَّ فى أَجْيادِها وأَخْرَسَا
رَفْرَفَةَ الرّيحِ الحَصادَ اليُبَّسا
ويقال: شاةٌ يَبَسٌ: إِذا لم يكن بها لَبَنٌ، ويَبْسٌ أَيضاً بالتسكين، حكاهما أَبو عبيدة. وقال ابنُ عبّاد: اليَبْسة: التى لا لَبَنَ لها من الشَّاءِ، والجمع اليَبَساتُ واليباس.
والأَيْبَسانِ: مالا لَحْمَ عَلَيْه من السّاقين، وقيل: ما ظهر من عَظْمَى وَظِيفِ الفَرَس وغيره، وهو اسمٌ لا نَعْت، ولهذا جُمِع على أَيابِس.
واليَبِيسُ من النَّبات: ما يَبِس منه، يقال يَبِسَ فهو يَبيسٌ مثال سَلِمَ فهو سَلِيمٌ.
ويَبيسُ الماءِ: العَرَقُ، قال بشْرُ بن أَبى خازِم يصف حِجْراً.
تراها من يَبيس الماءِ شُهْباً.
إِنَّما قال شُهْباً لأَنَّ العَرَق يجفّ عليها فتَبْيَضُّ.(5/378)
وأَيْبِسْ يا رجلُ، أَى اسْكُتُ. وأَيْبَسَتِ الأَرضُ: يَبِسَ بَقْلُها.
وأَيْبَسَه، وَيَبَّسَهُ تَيْبِيساً: جفَّفه قال جريرٌ:
فلا تُوبِسُوا بَيْنِى وبَيْنَكُمُ الثَّرىَ ... فإِنَّ الَّذِى بَيْنِى وبَيْنَكُمُ مُثْرِى
واتَّبَسَ على افْتَعل: يَبِسَ.(5/379)
بصيرة فى اليتم
اليُتْم: انْقِطاعُ الطِّفل عن الأَبِ قبلَ بُلوغه، وفى سائر الحيوان مِنْ قِبَلِ أُمِّه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} والجمع: يَتامَى، وأَيْتامٌ، ويَتَمَةٌ، وَميْتَمةٌ، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} .
وقال اللغويّون: اليَتْمُ: الانْفرادُ؛ والهَمُّ.
واليَتِيمُ: الفَرْدُ من كلِّ شىءٍ.
واليُتْمُ بالضمِّ، والْيَتَمُ بالتحريك: فِقْدَانُ الأَبِ، يَتَمَ يَيْتِمُ كضرب يَضْرِب، ويَتِم يَيْتَمُ، كعَلِمَ يَعْلَم، يُتْما ويَتْماً، وهو يَتِيمٌ ويَتْمانُ ما لَمْ يَبْلُغ الحُلُمَ. وامرأَةٌ مُوتِمٌ، ونِسوَةٌ مَياتِيم.
ويَتِمَ كفَرِحَ: قَصَّرَ؛ وفَتَرَ؛ وأَعْيَا؛ وأَبْطَأَ.
ويقال: دُرَّةٌ يَتِيمَةٌ تنبيهاً أَنَّه قد انقطعَ مادَّتُها التى خَرجت منها. ويقال: بَيْتٌ يَتِيمٌ تشبيهاً بالدُّرَّةِ الْيَتِيمة.(5/380)
بصيرة فى اليد
اليَدُ: الكَفُّ، وقيل: اليَدُ من أَطْرافِ الأَصابع إِلى الكَتِفِ وأَصلُها يَدْىٌ، والجَمْعُ يُدِىٌّ، وجمع الجمع أَيادٍ. وفيها لُغات: اليَدُ بالتخفيف، واليَدُّ بالتشديد، واليَدَى كفَتَى، واليَدَه. وإِنمّا قلنا أَصلها يَدْىٌ لأَنهم يجمعونها على أَيْدٍ، وأَيْدٍ أَفْعُلٌ، وأَفعُلٌ فى جمع فَعْلٍ أَكثرُ نحو أَظْبٍ وأَفْلُس، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} ، وقوله تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} وقولُهم: يَدَيان يدلّ على أَنَّ أَصلَه فَعْلٌ. ويَدَيْتُه: ضربتُ يَدَه.
واستُعِير اليَدُ للجاهِ، والوَقارِ، والطَّرِيق، ومَنْع الظُلْم، والقُوَّةِ، والقُدْرَة، والسُّلْطانِ، والمِلْكِ - بكسر الميم - والجماعَةِ، والأَكل، والنَّدَم، والغِياثِ، والإِسْلامِ، والذُلِّ، والنِّعْمَة، والإِحسان، والجمع: يُدِىٌّ مثلَّثة الأَوّل، وأَيْدٍ.
ويُدِىَ كعُنَى، ويَدِىَ كرَضِىَ، وهذه ضعيفة: أُولِىَ بِرّاً.
ويَدَيْتُه: أَصَبْتُ/ يَدَه؛ واتْخَذْت عنده يَداً كأَيْدَيْتُ عِنْدَه، وهذه أَكثر، فأَنا مُودٍ، وهو مُودًى إِليه.(5/381)
ويقال: هذا فى يَدِ فُلان، أَى فى حَوْزه ومِلْكه، قال الله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} .
ولفُلان يَدٌ على كذا، أَى قُوَّةٌ وتسلُّطٌ. ومالِى بكذا يَدٌ، وَمالى به يَدانِ..
وَيدُهُ مُطْلَقَة، عبارة عن بَثِّ النِّعْمة، ويَدُه مَغْلُولَة، عبارة عن إِمْساك النِّعَم، قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} تنبيها على التوسُّط بين طَرَفى التبذير والتَّقتير.
ويُقال: نَفضْتُ يَدِى عن كذا، أَى خَلَّيْتُه وَتَركتُه.
وقولُه تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} أَى قَوَّيْتُ يَدَك وقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تنبيه أَنَّهم اخْتَلَقُوه، وذلك كنسبة القول إِلى أَفْواهِهم فى قوله: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} تنبيهاً على اختلاقِهم.
وقوله تعالى: {أُوْلِي الأيدي والأبصار} إِشارَة إِلى القُوَّةِ الموجودة لهم. وقولُه: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد} أَى القَوىّ.
وقوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَى يُعْطُون ما يُعْطُون عن مُقابَلَةِ نِعْمَة عليهم فى مُقارَّتِهِم. ومَوْضِعُ قولِه عن يَد(5/382)
حالٌ. وقيل: بعد اعْتِرافِ أَنَّ أَيْدِيَكم فَوْق أَيْدِيهم، أَى يُلْزَمون الذُل.
ويقال: فلانٌ يَدُ فُلان، أَى وَلِيُّه وناصِرُهُ. ويقال لأَولِياءِ الله هم أَيْدِى الله، وعلى هذا الوجه قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فإِذا يَدُه صلَّى الله عليه وسلَّم يَدُ الله، وإِذا كان يَدُه فوق أُيْدِيهم فيَدُ الله فوق أَيْدِيهم. ويؤيّد ذلك ما فى الصّحيحين من الحديث القدسىّ: "لا يزال العَبْدُ يَتَقَرّب إِلّى بالنَّوافل حَتَّى أُحِبَّه، فإِذا أَحْبَبْتُه كنتُ سَمْعَه الَّذى يَسْمَع به، وبصره الذى يُبْصر بهِ، ويَدُه الَّتى يَبْطِشُ بها".
وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عبارةٌ عن تَوَلِّيهِ لِخَلْقه باختراعه الذى ليس إِلا له تعالى. وخُصَّ لفظُ اليَد إِذ هى أَجَلُّ الجوارح الَّتى يُتَوَلَّى بها الفعل فيما بيننا لِيُتَصَوَّر لنا اختصاصُ المعنَى، لا لنَتَصَوَّر منه تَشْبِيهاً. وقيل: معناه بنِعْمَتى التى رشَّحْتُها لهم. والباءُ فيه ليس كالباءِ فى قَطَعْتُه بالسِكين، بل هو كقولهم: خرجَ بسَيْفه، أَى ومَعَه سَيْفُه، أَى خلقتُه ومعه نِعْمتاىَ الدُّنْيَويّة والأُخَروِيّة الَّلتان إِذا رعاهُما بلغ بهما السّعادة الكبرى.
وقولُه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ، قيل: نِعْمَتُه ونُصْرَتُه وقُوَّته.(5/383)
ورجُلٌ يَدِىٌّ، وامرأَةٌ يَدِيَّةٌ، أَى صَناعٌ.
وقولُه: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أَى نَدِمُوا، يقال: سُقِط (فى يده وأُسْقِط) ، وذلك عبارة عن المُتَحَسِّر أَو عمّن يُقَلِّب كَفَّيْه كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} .
وقوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أَى كَفُّوا عمّا أُمِرْوا بقَبُوله من الحقَّ، يقال رَدَّ يَدَه فى فَمِهِ، أَى أَمْسَك ولم يُجبْ. وقيل: رَدُّوا أَيْدِى الأَنبياءِ فى أَفْواههم، أَى قالوا ضَعُوا أَنامِلَكم على أَفواهكم واسْكُتُوا. وقيل: رَدُّوا نِعَمَ الله بأَفْواههم، أَى بتكذيبهم. وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، أَى يد نِعْمَته ويَد مِنَّتِه. وفى الحديث "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ من اليَدِ السُّفْلَى".
وقيل فى قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِنَّها على الأَصل، لأَنَّ يَدَا لغة فى اليَد، أَوْ هى الأَصلُ وحُذِف أَلِفُه كما قدّمناه، وقيل بل هى تَثْنِيَة اليَدِ.(5/384)
بصيرة فى يسر
/اليُسْرُ ضدّ العُسْر، قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} . وقوله تعالى: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ، أَى تَسَهَّل.
ويَسَرَ الأَمْرُ ويَسُرَ وتَيَسَّرَ واسْتَيْسَرَ. ويَسَّرَه اللهُ تعالَى وياسَرَهُ: سَهَّلَهُ. وفى الدُّعاءِ للحُبْلَى: أَيْسرَتْ وأَذْكَرَتْ، أَى يُسِّرَتْ عليها الوِلادَةُ، وتَيَسّر له الخُروج. وتَيَسَّر له فَتْحٌ جليل.
وخُذْ بِمَيْسورِهِ ودَع معْسُورَهُ. ويُسِرَ الأَمرُ كعُنِىَ، فهو مَيْسُورٌ، قال الله تعالى: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} .
وفَرَسٌ يَسَرٌ بفتحتين: لَيِّنُ الانْقياد، قال:
إِنَّى على تَحَفُّظِى ونَزْرى ... أَعْسَرُ إِنْ ما رَسْتَنِى بعُسْرِ
ويَسرٌ لمنْ أَراد يُسْرى
وإِنَّ قوائِم هذه الدّابَّة يَسَراتٌ، أَى خِفاف، قال كَعْب بنُ زُهَيْر:
تَخْدِى على يَسَرات وهى لاحِقَةٌ ... ذَوابلٌ وَقْعُهُنَّ الأَرْضَ تَحْلِيلُ
ووِلادَةٌ يَسْرٌ. ويَسَّرَه اللهُ فتَيَسَّر.(5/385)
وفى الحديث: "إِنّ هذا الدِّينَ يُسْرٌ" أَراد أَنَّه سَهْلٌ سَمْحٌ قليل التشديد. وفى حديث آخر: "يَسِّروُا ولا تُعَسِّرُوا". وفيه أَيضا: "مَنْ أَطاعَ الإِمامَ وياسَرَ الشَّريكَ"، وفيه: "كَيْفَ تَركْتَ البِلاد؟ فقالَ: تَيَسَّرَتْ" أَى أَخْصَبَت. وفيه: "لنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن" أَى أَنَّ العُسْر بين يُسْرَيْن، إِمّا فَرَجٌ عاجلٌ فى الدّنيا، وإِمّا ثوابٌ آجلٌ فى الآخرة. وقيل: أَراد أَنَّ العُسْرَ الثانى هو الأَوَّل لأَنه ذكره مُعرَّفاً بالَّلام، وذكر اليُسْرَين نكرتين وكانا اثنين، تقول: كسبت دِرْهَماً ثمّ تقول: أَنْفَقْت الدّرهم، فالثانى هو الأَوّل المُكْتَسب. وفى الحديث أَيضاً: "تَياسَرُوا فى الصَّداق" أَى تساهَلُوا فيه ولا تُغالُوا. وفيه: "اعْمَلُوا وسَدِّدُوا وقارِبُوا، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لمِا خُلِقَ له". وفيه: "وقد يُسِّر له طَهورٌ"، أَى هُيِّئ ووُضع. وفيه: "وقَدْ تَيَسَّر للقِتال": تَهَيّأَ له واسْتَعَدَّ.
وفى حديث علىّ رضى الله عنه: "اطْعَنُوا اليَسْر" بالفتح وسكون السّين وهو الطِّعن حِذاءَ الوَجْه. وقال أَيضاً: "الشِّطْرنج مَيْسِرُ العَجَم" شَبَّه اللَّعِبَ به بالمَيْسَر، وهو القِمارُ بالقِداح. وكلُّ شىءٍ فيه قِمارٌ فهو من المَيْسر حتى لعب الصِبيان بالجَوْز.
وَكان عُمَرُ رضى الله عنه أَعْسَرَ أَيْسَرَ هكذا يُرْوى، والصّواب(5/386)
"أَعْسَرَ يَسرَ"، وهو الَّذى يعمل بِيَدَيْه جميعاً ويُسمَّى الأَضبَط أَيضاً.
واليَسِيرُ يقال فى الشىءِ القليل. وفى الشىءِ السّهل، فعلىَ الأَوّل قولُه تعالى: {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً} ، وعلى الثانى قوله تعالى: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} .
والمَيْسَرة واليَسارُ عِبارةٌ عن الغِنَى، قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} .
واليَسار: أُخْتُ اليَمِين، واليِسارُ بالكسر لغة فيها، وليس فى الكلام له نظير سِوى هِلالُ بن يِسار، على أَنَّ الفتح لغة فيها.
ويَسَّرَت الغَنَم: كَثُرَ لَبَنُها.(5/387)
بصيرة فى يقظ
رجل يَقِظٌ ويَقُظٌ، مثال حَذِر، وحَذُرٍ، ونَدِس ونَدُسٍ: خِلافُ النائِم؛ يُقال: يَقِظَ بالكسر يَيْقَظُ، كعَلِمَ يَعْلَمُ، يَقَظاً ويَقَظَةً بالتحريك فيهما، فهو يَقْظانُ وامْرأَةٌ يَقْظَى، ورجال ونِسْوة أَيْقاظٌ، قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} ، قال رؤبة ويُرْوَى للعجّاج:
ووَجَدُوا إِخْوَتَهم أَيْقاظا
ونِساءٌ يَقاظَى.
وقال اللِّحيانى: يَقُظَ الرّجلُ يَقاظَةً ويَقَظاً بيِّنا فهو يَقُظٌ بالضَّم. ورجلٌ يَقِظٌ ويَقُظٌ أَيضا: خلاف الغافِل السّاهى، وإِنَّما ذلك من الحَذَر.
وقال أَبو عمرو: إِنَّ فلاناً لَيَقِظٌ: إِذا كان خفيفَ الرأَس/ ويقال ما رأَيت أَيْقَظَ منه.
ويَقَّظْتُه من مَنامِهِ وأَيْقَظْتَهُ، أَى نَبَّهْته، فَتَيَقَّظَ واسْتَيْقَظَ. وفى الحديث "إِذا اسْتَيْقَظَ أَحدُكم من مَنامِه فلا يَغْمِسَنَّ يَدَه فى الإِناءِ حتَّى يَغْسِلَها ثلاثاً".
واليقظة عند القوم أَوّلُ مَنازل العبوديّة، وهى انْزعاج القَلْبِ. لِرَوْعَة الانْتِباه من رَقْدَةِ الغافلين. ولِلهِ ما أَنَفْعَ هذه الرّوعة، وما أَعظم(5/388)
قَدْرها وخَطَرَها، وما أَقْوَى إِعانَتها على السُّلوك، فمن أَحسن بها فقد أَحسَّ واللهِ بالفَلاح، وإِلاَّ فهو فى سَكَراتِ الغَفْلة، فإِذا انْتَبَه وتَيَقَّظَ شَمَّر بهِمَّتِه إِلى السّفَرِ إِلى مَنازِله الأُولَى، فأَخذ فى أُهْبَة السّفر، وانتقل إِلى مَنْزِلَة العَزْم، وهو العَهْدُ الجازم على الشىءِ، ومُفارقَة كلّ قاطِع ومُعَوِّق، ومُرافَقَة كلّ مُعِينٍ ومُوَصِّل، وبحَسَب كمالِ انْتِباهِه ويَقَظَتِه تكون عَزِيمتُه، وبحسب قوّة عَزْمه، يكون استعدادُه، فإِذا استيقَظ أَوْجَبَتِ اليقظةُ الفِكْرَةَ وهى تحديقُ القَلْب نحو المطلوب الَّذى قد سَعِدَ به مُجْمَلا، ولم يَهْتَدِ إِلى تفصيله، وطريق الوصول إِليه، فإِذا صحّت فِكرَتُه أَوْجَبَتْ له البَصيرَةَ، وهى نُورٌ فى القَلْب يَرَى به حقيقة الوَعْدِ والوَعِيد، والجنَّة والنَّار، وما أَعّدّ الله فى هذه لأَوليائه، وفى هذه لأَعدائه، فأَبْصَر النَّاسَ وقد خرجوا من قُبورِهم مُهْطِعِين لِدَعْوَه الحَقِّ، وقد نَزَلَت ملائكة السماوات فأَحاطت، وقد جاءَ الله ونَصَبَ كرسيَّه لفَصْل القَضاءِ، وقد أَشرقت الأَرض بنوره، ووضع الكتاب، وجاءَ بالنبيين والشهداءِ، وقد نُصِبَ المِيزان، وتَطايَرَت الصُّحُف، واجْتمعتِ الخصومُ، وتعلَّق كلُّ غَرِيم بغَرِيمه، ولاح الحوضُ وأَكوابُه عن كَثبٍ، وكثر العِطاش، وقَلَّ الوارِد، ونُصِبَ الجسْرُ للعُبور عليه، والنار تَحْطِمُ بعضُها بعضاً تحته والسَاقطون فيها أَضعاف أَضعاف الناجين، فينفتح فى قلبه عَيْنٌ ترى ذلك، ويقوم بقَلْبه شاهدٌ من شواهدِ الآخرة يُرِيه الآخرة ودَوامَها،(5/389)
والدّنيا وسُرْعة انقضائها. والبصيرةُ نورٌ يقذفه الله فى القَلْب يَرى به حقيقة ما أَخبرتْ به الرُّسُل كأَنَّه شاهدٌ رَأْىَ عَيْنٍ، فيتحَقَّق مع ذلك انْتِفاعُه بما دَعَتْ إِليه الرّسل وتَضرُّرُه بمُخالَفَتهم. وهذا معنى قَوْلِ بعضِ العارفين: البصيرَةُ تَحَقُّقُ الانْتِفاع بالشَّىءِ، والتَّضَرُّر به. والله تعالى أَعلم.(5/390)
بصيرة فى يقت
الياقوتُ فارسىٌّ مُعَرَّبٌ نَطَق به القرآنُ المَجِيد، قال الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} ، الواحد ياقُوتَةٌ، والجمع اليَواقِيتُ. وسَكَتَ عن ذكِره أَكثرُ أَهلِ اللُّغَةِ. وقال أَرِسْطاطالِيس: الياقُوت ثلاثةُ أَجناس: أَصْفَرُ وأَحْمَر وكُحْلِىّ، فالأَحْمرُ أَشْرَفُها وأَنْفَسْها. وهو حجرٌ إِذا نُفِخ عليه النارُ ازْداد حُسْناً وحُمْرة، فإِن كانت فيه نُكْتَة شديدةُ الحُمْرَة وأُدْخِل النارَ انبسطت فى الحجر فسَقَتْه من تلك الحُمْرة وحَسَّنَتْه، وإِن كانت فيه نُكْتة سوداءُ قَلَّ سَوادُها ونقص. والأَصفرُ منه أَقلّ صبراً على النار من الأَحمر، وأَمّا الكُحْلِىّ فلا صَبْرَ له على النار البَتَّة.
وجميع أَنواع الياقوت/ لا تَعمل فيه المَبارِدُ. وأَمّا طبعُه فيُشْبِه أَن يكون معتدِلاً. وأَمّا خاصِّيَّته فى تفريح النفس وتقوية القلْب ومُقاوَمَة السُّموم فأَمرٌ عظيم، ويُشبه أَن تكون هذه الخاصيّة فيه قوة قابضة منه كقبضانها من المغناطيس، ولذلك يجذِبُ المغناطيس الحديدَ من بعيد.
وممّا ينفعُ فى هذا الباب من أَمر الياقوت أَنَّه يبعد أَنْ يقال إِن(5/391)
حرارتها الغريزيّه تفعل فى الياقوت المَسْرُوب إِحالةً وتحليلاً وتمزيجاً لجوهره بجواهرِ البُخار الرُّوحى كما يفعل الزَّعْفران أَو غيره، ثمَّ يحدث منه فعله، فإِنَّ جوهره كما يظهر جوهرٌ بعيدٌ عن الانفعال، فيُشبِه أَن يكون فعل الحرارة الغريزية غير مؤثِّر فى جوهره ولا فى أَعراضه اللازمة لصورته، ولكن فى أَقصَى أَيْنِه ومكانه، وفى عَرَضِيَّتهِ، أَمّا فى أَيْنِه فبأَنْ يَنْفُذَ مع الدّم إِلى ناحيةِ القلب فيصير أَقْرَبَ من المُنْفَعِل فيفعل فِعْلَه أَقوى؛ وامّا فى كيفيّته فبتسخينه، ومن شأْن السخونة أَن تُبَيّن الخواص وتُنَبِّهَها مثل الكهرباءِ، فإِنَّه إِذا قَصَّر فى جَذْب التِّبْن حُكَّ حَتى يَسْخن ثمَّ قُوبِل به التِبن فيجذبه.
وما يشهد به الأَوّلون من تفريح الياقوت إِمساكُه فى الفَمِ، وهذا دليلٌ على أَنَّه ليس يحتاج فى تفريحه إِلى استحالة من جوهره وأَعراضِه اللازمة له، ولا إِلى مُماسَّة المُنْفَعِل عنه، بل قوّته المفرّحة قابضَةٌ عنه، إِلاَّ أَنَّه يَقْوَى فعلُها بالتسخين والتقريب كما فى سائر الجواهر، ويشبه أَن يبيّن فعل هذه الخاصيّة ما فيه من التنوير.
وقال البَصْرِىُّ: الياقوت أَجناسٌ، فالأَحمر منه أَقربُ إِلى الحَرّ من الأَزرق، والأَبيضُ أَبردُ من الأَزْرَق. ومَنْ علَّق على بَدَنِه من أَجناس(5/392)
الياقوت الثلاثة أَو تَخَتَّم وكان فى بَلَد قد وقع [فيه] الطاعونُ أَمِن من الطاعُونِ إِن شاءَ الله.
وأَجْود الياقوت الأَحمرُ الرُمّانّى، مانعٌ للوَسواس والخَفَقان وضَعْف القلب شُرْباً، وقيل يَمْنَع جُمُود الدِّم تعليقا.(5/393)
بصيرة فى يم
اليَمُّ: البَحْرُ، وقيل: لُجَّةُ البَحر. وهو معرّب، سُرْيانِيَّة أَصلها يَمَّا. لا يُكَسَّر ولا يُجْمع جمع السَّلامة، قال الله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} .
والتَّيْمُّمُ: التَّوَخِّى والتَعَهُّد. ويَمَّمَهُ: قَصَدَه.
ويَمَّم المريضَ للصَّلاة فَتَيَمَّم هُو.
ويُمَّ فهو مَيْمُومٌ: طُرِحَ فى البَحْرِ. ويُمَّ الساحلُ: غَلَبَهُ البحرُ فطَما عليه.
وتيَمَّمْتُه بُرُمْحِى: قَصَدْتُه دون غيره.(5/394)
بصيرة فى يقن
اليَقِينُ من صِفة العِلْم فوق المعرفة والدِّراية وأَخواتهما، يقال: عِلْمُ يَقِين، ولا يُقال: معرفةُ يَقِينِ؛ وقد يَقِنَ زيدٌ الأَمرَ كفَرِح يَقَناً ويَقْنا وأَيْقَنَهُ وأَيْقَن بِه، وتَيَقَّنَهُ، واسْتَيْقَنَه واسْتَيْقَنَ به: عَلِمَه وتَحَقَّقَهُ.
وهو يَقِنٌ ويَقُنٌ ويَقَنَةٌ ومِيقانٌ: إِذا كان لا يَسْمع شيئاً إِلاَّ أَيْقَنَه، وهى مِيقانَةٌ.
قال المحقِّقون: اليَقين من الإِيمان بمنزلة الرّوح من الجسد، وفيه تفاضَلَ العارِفون وتنافَسَ المتنافِسون، وإِليه شَمَّرَ العاملون، وعَمَلُ القومِ إِنَّما كان عليه، وإِشارتهم كلُّها إِليه. وإِذا تزوّج الصبرُ باليقين وُلِدَ بينهما حُصُول الأَمانةِ فى الدِّين، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . وخصّ تعالى أَهلَ اليقين بانتفاعهم بالآيات والبراهين، قال وهو أَصدق القائلين/ {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} ، وخصّ أَهل اليقين بالهُدَى والفَلاح من بين العالمين فقال: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ * أولائك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولائك هُمُ المفلحون} وأَخبر عن أَهل النارِ بأَنهم لم يكونوا من أَهل اليقين(5/395)
فقال: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} .
فاليقين رُوح أَعمال القُلوب الَّتى هى أَرْواحُ أَعمال الجَوارح، وهو حقيقة الصِدّيقيّة، وقُطْبُ رَحَى هذا الشأْن الَّذى عليه مَدارُه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تُرْضِيَنَ أَحَداً بسخط اللهِ، ولا تَحْمَدَنّ أَحداً على فَضْلِ الله، ولا تَذُمَّنَّ أَحداً على ما لم يُؤتِكَ اللهُ، فإِنَّ رِزْقَ الله لا يَسُوقُه حِرْصَ حِرْيصِ، ولا يَرُدُّه عنك كَراهِيَةُ كارِه، فإِنَّ الله بَعْدِله وقِسْطِه جعل الرَّوْح والفَرَح فى الرّضَا واليَقِين، وجعل الهَمَّ والحُزْنَ فى الشَكِّ والسّخط".
واليَقِينُ قَرِينُ التوكّل، ولهذا فُسِّر التوكُّل بقوّة اليقين. والصّواب أَنَّ التوكُّلَ ثمرةُ اليقين ونتيجتُه، ولهذا حَسُنَ اقْتِران الهُدَى به، قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} فالحقُّ هو اليَقِين. وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} ، ومتى وَصَل اليقينُ إِلى القلب امتلأَ نوراً وإِشراقاً، وانتفَى عنه كلُّ رَيْبٍ وشَكٍّ وسُخْط وغَمٍّ وهَمٍّ، وامتلأَ محبّةَ اللهِ وخَوْفاً منه ورِضاً به، وشُكراً له، وتوكُّلاً عليه، وإِنابةً إِليه، فهو مادَّة جميع المقامات، والحامل له.
واخْتُلِفَ هل هو كَسْبِىٌّ أَو مَوْهِبِىٌّ. فقيل: هو العِلْم المُسْتودَع فى القُلوب، فيشير إِلى إِنَّه غيرُ كَسْبّى.(5/396)
وقال سَهْلٌ: اليقين من زِيادة الإِيمان، ولا رَيْب أَنّ الإِيمان كسْبِىّ باعتبار أَسبابِه، مَوْهِبىّ باعتبار نفسه وذاته. وقال سهل أَيضا: ابتداؤه المُكاشَفَة كما قال بعض السلف: لو كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتُ يقيناً.
وقال ابنُ خفيفٍ: هو تَحقُّقُ الأَسرار بأَحكامِ المُغَيَّبات.
وقال أَبو بَكْرِ بنِ طاهِر: العلمُ يعارضه الشُّكوك، واليقين لا شَكَّ فيه. وعند القوم: اليقين لا يُساكِنُ قلباً فيه سُكُونٌ إِلى غير الله.
قال ذُو النُّون: اليقين يدعُو إِلى قَصْرِ الأَمَل، وقَصْرُ الأَملِ يدعُو إِلى الزُّهْد، والزُّهْدُ يُورِثُ الحكمةَ، وهى تُورث النَظَر فى العَواقِب.
وثلاثةٌ من أَعْلام اليقين: قِلَّةُ مُخالطة الناس فى العِشْرَة؛ وتَرْكُ المدحِ لهم فى العِطيَّة؛ والتَنَزُّه عن ذَمِّهم عند المنع. وثلاثةٌ من أَعلامه أَيضاً: النَّظر إِليه فى كل شىءِ؛ والرّجوع إِليه فى كلّ أَمر؛ والاستعانة به فى كلّ حال.
وقال الجُنيْد رحمه الله: اليقينُ هو استقرارُ العِلْم الذى لا يَحُول ولا ينقلب ولا يتغيَّرُ فى القَلْب.
وقال ابن عطاءٍ رحمه الله: على قَدْرِ قُرْبهم من التَّقْوَى أَدْرَكُوا من اليقين. وأَصل التَّقْوَى مُبايَنَة المَنْهِىّ عنه، فعلى مفارقتهم النفس وصلوا إِلى اليَقِين.(5/397)
وقيل: اليَقِين هو المُكاشَفة، وهى على ثلاثة أَوجه: مكاشَفَةٌ بالأَخْبارِ، ومكاشَفَةٌ بإِظهار القُدْرَة، ومكاشَفَةُ القُلوب بحقائِق الإِيمان. ومرادُ القَوْمِ بالمكاشَفَة ظهور الشَّىْءِ بالقلب بحيث تصير نِسْبَتُه إِليه كنِسْبة المرئىّ إِلى العين، فلا يَبْقَى معه شكٌّ ولا رَيْب أَصلا، وهذا نهايةُ الإِيمان، وهو مَقامُ الإِحسان. وقد يريدون بها أَمراً آخر وهو ما يَراهُ أَحدٌ فى برْزَخٍ بين النَّوْم واليَقَظة عند أَوائل تجرُّد الرُّوح عن البَدَن ومن أَشار إِلى غيرِ هذَيْن فقط غَلِط، ولُبِّس عليه.
وقال السّرىُّ: اليقين سُكُونُك عند جَوَلان الموارِد فى صَدْرك، لِيَقِينِك أَن حَرْكَتَك فيها لا تَنْفعك ولا تردّ عنك مَقْضِيّاً.
وقال أَبو بكرٍ الورّاق: اليقين مِلاكُ القَلْب، وبه كمالُ الإِيمان. وباليَقِين عُرِفَ الله، وبالعقل عُقِلَ عن الله.
وقال الجُنَيْد رحمه الله: قد مَشَى رجالٌ باليَقين على الماء، ومات بالعَطَشِ من هو أَفضل منهم يَقِيناً.
وقد اختلف فى تفضيل اليقين على الحُضور، والحضور على اليقين، فقيل: الحضور أَفضل. وبعضهم رَجَّحَ اليَقِين وقال هو غايَةُ الإِيمان. والأَوّل رأَى أَنَّ اليقينَ ابتداءُ الحضور، وكأَنه جعل اليقينَ ابتداءً والحضُورَ دواماً، وهذا الخلاف لا يتبيّن، فإِنَ اليقين لا ينفكَّ عن الحضور، والحضورَ لا ينفكَّ عن اليقين، بل فى اليقين من زيادة(5/398)
الإِيمان ومعرفة تفاصيله وتنزُّلها منازلها ما ليس فى الحضور، فهو أَكمل منه من هذا الوجه، وفى الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدّخول فى الفناءِ ما قد ينفكُّ عنه اليقين، فاليقين خُصّ بالمعرفة، والحضور خصّ بالإِرادة. والله أَعلم.
وقال النَّهْرجُوِرىِّ رحمه الله: إِذا استكمل العبُد حقائِقَ اليقين صار البلاءُ عنده نِعْمة، والرّخاء مصيبة.
وقال أَبو بكرٍ الورّاق رحمه الله: اليقين على ثلاثة أَوْجُه: يَقِينُ خَبَر، ويقين دَلالَة، ويقين مُشاهدة. يريد بيقين الخَبَر سُكُون القلب إِلى خَبَرِ المُخْبِر ووُثوقُه به؛ ويقين الدّلالة ما هو فوْقَه، وهو أَن يُقِيم له مع وثُوقِه بصدْقهِ الأَدلَّةَ الدّالَّة على ما أَخبر به، وهذا كعامة الأَخبار بالإِيمان والتوحيد فى القرآن، فإِنَّه سبحانه مع كونه أَصدق القائلين الصّادقين يُقِيم لِعبادِه الأَدلَّةَ والبراهين على صِدْق أَخبارِه، فيحصل لهم اليقين من الوَجْهَيْن، من جهة الخَبرِ ومن جهة الدّليل، فيرتفعون من ذلك إِلى الدّرجة الثالثة وهى يقين المكاشفة بحيث المُخْبَرُ به كالمرئِى لعيونهم، فنِسْبَة الإِيمان بالغيب هى إِلى القلب كنسبة المرئى إِلى العين وهذا أَعلى أَنواع المُكاشَفة، وهى الَّتى أَشار إِليها عامر بن عبد القيس فى قوله: لو كشف الغِطاءُ ما ازددت يَقينا. وليس هذا من كلام رسول الله(5/399)
صلَّى الله عليه وسلَّم ولا من كلام علىّ بن أَبى طالب كرّم الله وجهه كما يظنه من لا عِلْمَ له بالمنقولات.
وقال بعضهم: رأَيت الجنَّة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأَيته بعَيْنَىْ رسولِ الله/ صلَّى الله عليه وسلَّم، ورؤيتى لهما بعينَيْه أَوثق عندى من روْيتى لهما بعينى، فإِنَّ بصرى قد يُخْطِئ بخلاف نصره صلَّى الله عليه وسلَّم.
واليَقِينُ يَحمِلُ على مُباشَرَة الأَهوال ورُكوب الأَخطار، وهو يأْمرُ بالتقدّم دائما، فإِن لم يقارِنْه العِلْم حَمَل على المعاطِب، والعلم يأْمرُ بالتأّخُّر دائما وبالإِحِجام، فإِنْ لم يُصِبْه اليقينُ فقد [يَصُدّ صاحبه] عن المكاسب والغنائم.
وقال الشيخ أَبو إِسماعيل الأَنصارىّ رحمه الله: اليقين مَرْكَبُ الآخِذِ فى هذا الطَّريق، وهو غاية درجات العامّة وأَوّل خطوة للخاصة، لمَّا كان اليقين هو الَّذى يحمل السّائر إِلى الله، كما قال أَبو سعيد الخرّاز رحمه الله: العلمُ ما اسْتَعْمَلك، واليَقِينُ ما حَمَلَك وسَمّاهُ مَرْكباً يركبه السائر إِلى الله، فإِنَّه لولا اليقين ما سار الراكب إِلى الله، ولا ثَبَتَ لأَحدِ قَدَمٌ فى السّلوك؛ وإِنَّما جعله آخِرَ درجات العامّة لأَنَّهم إِليه ينتهون. ثم حكى قول من قال: إِنَّه أَوّل خطوة للخاصّة، يعنى أَنَّه ليس بمقام له، وإِنَّما هو مُبْتدَأْ سُلوكه، وهذا لأَنَّ الخاصّة عنده سائِرون إِلى الجَمْع والفَناءِ فى شهُود الحقيقة، لا يَقِف لهم دُوَنَها هِمَّة، فكلُّ ما دُونَها فهو(5/400)
عندهم مِنْ مُشاهَدَة العامّة ومَنازلهم ومَقاماتهم حتَّى المَحَبّة، وحَسْبُك بجَعْل اليَقِين نهايةً للعامة وبداية لهم.
قال: وهو على ثلاث درجات:
علمُ اليَقِين: وهو ما ظَهَرَ من الحَقِّ، وقَبُول ما غابَ للحْقّ، والوُقُوف على ما قام بالحَقّ، فذكر رحمه الله ثلاثة أَشياء هى مُتَعَلَّق اليقين وأَركانه
الأَوّل: هو ما ظهر من الحقَّ تعالى، والَّذى ظهر منه سبحانه أَوامرُه ونَواهِيه وشَرْعُه ودِينُه الَّذى ظهر لنا منه على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فيتلقَّاه بالقَبول والانْقياد والإِذعان والتَّسْليم للرّبوبيّة، والدّخول تحت رقّ العبوديّة.
الثانى: قَبُولُ ما غابَ للحقِّ وهو الإِيمانُ بالغيب الَّذى أَخبر به الحقُّ سبحانه على لسان رُسُلِه من أَمورِ المَعاد وتَفاصيله، والجنَّة والنَّار، وما قبل ذلك من الصّراط والميزان والحساب، وما قبل ذلك من تَشَقُّق السّماءِ وانفطارها وانتثار الكواكب ونَسْف الجبال وطَىِّ العالم، وما قبل ذلك من أَمور البَرْزَخ ونَعِيمه وعَذابه، فقبولُ هذا كلِّه تصديقاً وإِيماناً هو اليقين بحيث لا يُخالج القَلْبَ فيه شُبْهَةٌ ولا شكٌّ ولا رَيْب، ولا تَناس ولا غَفْلَة عنه، فإِنَّه إِن لم يستملك يَقِينَه أَفْسَدَه وأَضْعَفَه. الثالث: الوقوف على ما قام بالحقِّ سبحانه من أَسمائه وصفاته وأَفعاله، وهو عِلْمُ التَّوحيد الَّذى أَساسهُ إِثبات الأَسماءِ والصّفات، وضدّه التَّعْطِيل والنَّفْىُ والتَّجْهِيم. فهذا التَّوحيد يقابله التَّعطيل. وأَما التوحيد القصدى(5/401)
الإِرادى الَّذى هو إِخلاص العمل لله وعبادته وحده فيقابله الشِّرك، والتعطيل شرّ من الشرك، فإِنَّ المعطل جاحِدٌ للذَّات أَو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإِلهية، فإِنَّ ذاتاً لا تسمعُ ولا تُبْصِر ولا تَتَكَلَّم ولا ترضَى ولا تَغْضَب ولا تَفْعَل شيئاً، وليست داخلَ العالَمِ ولا خارجه ولا متَّصِلَة بالعالَمِ ولا مُنْفَصِلَة ولا مُجانِبَة ولا مُباينة ولا فَوْقَ العَرْشِ ولا تَحْته ولا خَلْفَه ولا أَمامَه ولا عن يَمِينهِ ولا عن شِمالِه، سواءٌ والعَدَم. والمشرك مقرّ بالله وصفاته/ ولكن عنده معه غيره، فمُعَطِّل الذات والصّفات شَرٌّ منه. فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحَقِّ سبحانه من أَسمائه وصفاته ونُعُوتِ كَمالِه وتوحيده وهذه الثلاثة هى أَشرفُ عُلُوم الخلائِق، عِلْمُ الأَمْرِ والنَّهْىِ، وعِلْمُ الأَسماءِ والصّفات والتَّوْحِيد، وعِلْمُ المعَاد واليَوْم الآخر.
قال: الثانية: عين اليَقين وهو المَعْنِىّ بالاسْتِدْراك عن الاسْتِدْلال، وعن الخَبَرِ بالعَيان، وخَرْق الشُّهود حجابَ العِلْم.
والفَرْقُ بين عِلْم اليَقِين وعَيْن اليقين كالفَرْقِ بين الخَبَر الصادِق والعَيان، وحَقُّ اليَقين فَوْقَ هذا. وقد مُثِّلَت المراتب الثلاثة بمن أَخبرك [أَنَّ] عنده عَسَلاً وأَنت لا تَشُكَّ فى صِدْقه، تمَّ أَراك إِيّاه فازددت يقينا، ثم ذُقْت منه، فالأَوّل عِلْمُ يَقِين، والثانى عَيْنُ يَقِينٍ؛ والثالث حَقُّ يَقِين. فعِلْمُنا الآن بالجنَّة والنَّار عِلْمُ يَقينٍ، فإِذا أَزْلِفَتِ الجنَّة(5/402)
فى المَوْقف وشاهَدَها الخلائِقُ، وبُرِّزت الجَحيم وعاينها الخلائِق، فذلك عَيْنُ اليَقين، فإِذا دخل أَهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ وأَهلُ النَّار النَّارَ فذلك هو حَق اليقين.
وقوله المَعْنَىُّ بالاسْتدراك عن الاسْتدلال، يُريد بالاسْتدراك الإِدْراكَ والشُّهودَ، يعنى أَنَّ صاحبَه قد استغنَى به عن طَلَب الدّليل، فإِنَّه إِنَّما يَطْلُب الدَّليلَ ليحصلَ له العلَمُ بالمَدْلُول فإِذا كان المدلولُ مُشاهَداً له وقد أدركه بكَشْفه، فأَىّ حاجة به إِلى الاستدلال؟ وهذا معنى الاستغناء عن الخَبَر بالعَيان.
وأَمّا قوله وخَرْق الشهود حجابَ العلم، فيريد به أَنَّ المعارف التى تحصُل لصاحب هذه الدرجة هى من الشُّهود الخارق لحجاب العلْم، فإِنَّ العلْم حجابٌ على المَشْهُود، ففى هذه الدّرجة يرتفع الحجابُ ويُفْضى إِلى المعلوم بحيث يُكافحُ قَلْبَه وبَصيرَتَه.
ثمّ قال: والدّرجة الثالثة حَقُّ اليَقين، وهو إِسْفارُ صُبْح الكَشْف، ثم الخلاصُ من كُلْفَة اليَقين، ثم الفناءُ فى حَقّ اليقين. انتهى كلامه.
والحق إِنَّ هذه الدّرجة لا ينالها فى هذا العالم إِلاَّ الرّسلُ صلوات الله وسلامه عليهم، فإِنَّ نبيّنا صلَّى الله منه رأى بعينه الجنَّة والنَّار، ومُوَسى عليه السّلام سَمعَ كلامَ الله إِليه بلا واسطة وكَلَّمة تكليماً، وتَجَلَّى للجبل وموسى ينظر فجَعَلَه دكّاً هشيماً، فحصل لهما حقُّ اليقين، وهو ذَوْقُ ما أَخبر به الرّسولُ من حقائق الإِيمان المتعلِّقة بالقلوب، وأَنَّ القلبَ إِذا باشرها وذاقَها صارت فى حقِّه حَقَّ يقين. وأَمّا فى أُمُور(5/403)
الآخرةَ والمعاد، ورُؤية الله جَهْرَةً عياناً، وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة، فحظُّ المُؤمن منه فى هذه الدّار الإِيمانُ به.
وعلْمُ اليَقين وحَقُّ اليقين يتأَخَّر إِلى وقت اللِّقاءِ، لكنَّ السّالك عند القوم ينتهى إِلى الفناءِ ويتحقَّق شهود الحقيقة، ويصل إِلى عين الجمع.
قال: حقّ اليقين هو إِسفار صبح الكَشْف، يعنى تحقُّقه وثُبُوته وغَلَبَة نوره على ظُلْمَة ليل الحجاب، فينتقل من طَوْر العلم إِلى الاسْتِغْراق فى الفَناء عن الرّسْم بالكُلِّيَّة. وقولُه ثُمّ الخلاصُ من كلفة اليقين، يعنى أَنَّ اليقين له حقوق يجب على صاحبه أَن يؤدِّيَها ويقومَ به ويَتَحَمَّل كُلَفَها ومَشاقَّها، فإِذا فَنِىَ فى التَّوْحيد حَصَل له أُمورٌ أُخرَى رفيعةٌ عالية جدّاً يصير فيها محمولاً بعد أَن كان حاملاً، وظاهراً بعد أَن كان ساتراً، فتزول عنه كلفةُ حَمْل تلك الحقوق. وهذا أَمْرٌ التَحاكُمُ فيه إِلى الذَّوْق والإِحساس، فلا تَذْهَب إِلى إِنكاره، وتأَمَّلْ حالَ ذلك الصّحابىِّ الَّذى أَخذ تَمَراتٍ وقعد يَأْكُلها على حاجَةٍ وفاقَةٍ إِليها، فلمَّا عايَنَ سُوقَ الشهادة قد قامت أَلْقَى قُوتَه منْ يَده وقال: إِنها لحياةٌ طويلة إِنْ بَقيتُ حَتَّى آكُل هذه التَّمرات وأَلْقَاها من يده، وقاتَلَ حتى قُتلَ، وكذلك أَحوال الصَّحابة رضى الله عنهم كانت مطابقةً لما أَشار إِليه. لكن بَقيَتْ نُكتةٌ عظيمة، وهى مَوْضعُ السجدة، وهى أَنَّ فَناءَهم لم يكن فى توحيد الرُّبُوبيَّة وشهود الحقيقة التى يشير إِليها أَرباب الفناءِ، بل فى توحيد الإِلهيّة،(5/404)
فعَنوا بحُبّه تعالى عن حُبّ ما سواه، وبُمراده منهم عن مرادهم.. وحظوظهم، فلم يكونوا عاملين على فناءٍ ولا استغراق فى الشُّهود، بحيث فَنُوا به عن مُراد محبوبهم، بل فَثُوا بمُراده عن مُرادهم، فهم أهل فَناءٍ فى بَقاءٍ، وفَرْق فى جَمْع، وكَثْرَة فى وَحْدَة، وحقيقةٍ كَوْنِيَّة فى حقيقة دينيَّة.
هم القَوْمُ لا قَوْمَ إِلاَّ هُمُ ... ولولاهُمُ ما اهْتَدَينا السَّبيلا
فنسبة أَحوالهم إِلى أَحوال غيرهم كنسبة ما يَرشَحُه الظَّرْفُ والقرْبة إِلى ما فى داخلها، والله أَعلم. قال بعض العارفين:
اليقين الصّريح رُؤيَتُك الَشْى ... ءَ وما للفْؤاد فيه هُيامُ
لم يُغَيِّرْكَ فيه ذَمٌّ ولا يَطعَنْـ ... كَ مَدْحٌ ولا عَلَيْه كَلامُ(5/405)
بصيرة فى يمن
اليُمْنُ بالضَمِّ: البَرَكَةُ كالمَيْمَنَة، وقد يَمَنَ الشىءُ يَيَمْنُ كعَلِمَ يَعْلَمُ، ويُمِنَ يُومَنُ كعُنى يُعْنَى، (ويَمَنَ يَيْمَنُ كمَنَع) وَيَمُنَ يَيْمُنُ ككَرُمَ يَكْرُم، فهو مَيْمُونٌ وأَيْمَنُ ويامِنٌ ويَمِينٌ، أَى مُبارَكٌ، والجمعُ أَيامِنُ ومَيامِينُ.
وتَيَمَّن به، واسْتَيْمَنَ: تَبَرَّك.
وقَدِمَ على أَيْمَن اليَمين، أَى اليُمن.
واليَمينُ: الجارِحَةُ، وضدُّ اليَسار، واستعماله فى وصف الله فى قوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} على حدّ استعمال اليَد فيه.
واليَمينُ أَيضا: البَرَكَةُ، واليمين: المَنْزِلَةُ الجَليلَة، والجَمْع: أَيْمُنٌ وأَيْمانٌ، وأَيا مِنُ، وأَيامينُ.
ويَمَنَ به يَيْمِنُ ويا مَنُ، ويَمَّنَ، وتَيامَنَ: ذهَبَ به ذاتَ اليَمين وقولُه تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أَى كنتم تَخْدَعُوننا(5/406)
بأَقْوَى الأَسْباب، أَو من قبل الشَّهْوَة؛ لأَن اليمينَ موضعُ الكَبد، والكَبد مَظنَّةُ الشَّهْوَة والإِرادة. وقيل: عن الناحية التى كان منها الحَقُّ فَتَصْرفونَنَا عَنْهَا.
وأَخَذَ يَمْنَةً وَيَمَناً، أَى ناحية اليَمِين. وقيل لبلاد اليَمَن يَمَناً لأَنَّها من يَمين الكَعْبَة. وفى الحديث: الإِيمانُ يَمان والحكْمَةُ يَمانية" وقال: "إِنّى لأَجدَ نَفَسَ الرَّحْمان من قِبَل اليَمَن" وقد تقدّم معناه فى بصيرة "نفس".
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يُحبُّ التَّيامُنَ فى كلّ شَىْءٍ حتى فى تَنْعُّله وتَرَجُّله وفى شأْنهِ كلِّه.
والأَيْمَنُ: من يَصْنَعُ بيُمْناهُ.
واليَمينُ: القَسَمُ لأَنَّهم كانوا يَتماسَحُون بأَيْمانهم فيتحالُفون وفى الحديث: "مَنْ حَلَفَ على يَمينٍ فرأَى غَيْرَها خَيْراً منها فَلْيٌكَفِّر عَنْ يَمِينه ثمَّ ليَفْعَل الَّذى هو خَيْرٌ"، والجمعُ: أَيْمُنٌ وأَيْمانٌ، قال/ الله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} .
وأَيْمُنُ الله بضَمّ المِيمِ وفَتْحها، والهمزة تُفْتَح وتكسر، وأَيْمُ الله(5/407)
وأَِيمُ الله بفتح الهمزة وكسرها. وإِذا كُسِرَت فالأَلفُ أَلِفُ قَطْع. وأَمُ الله وأُم اللهِ، وأَمَ اللهِ، وإِمَ الله، وإِمُ الله بكسر الهم وضمّ الميم (وفَتْحِها) ومَ الله، ومِ الله، وَمُ الله، ومَنَ الله بفتحهما، ومُنُ الله بضمّهما، ومِنِ الله بكسرهما؛ ومُنِ الله بضم الميم وكسر النون. ولَيْمُ الله بفتح اللاَّم، ولَيْمَنُ اللهِ، وهَيْمُ الله، كلّ ذلك بمعنى اسم وُضِعَ للقَسَم. والتَّقدير أَيْمُنُ الله قَسَمى.
وهمزة أَيْمُنُ همزة وَصْل عند سيبويه. وقال الفراءُ: جمع يَمينٍ وهمزته همزةُ قطع، ويحذفونها لكثرة الاستعمال. وقال الزجّاج والرُّمّانىّ: أَيْمُن حرفٌ لا اسمٌ. وعند سيبويه أَمُ وَمُ ومُنُ وبقيّة اللغات أَصلها أَيْمُن، وزعم بعضهم أَنَّ مُ المفردة بدل من واو القسم. وزعم آخرون أَنَّ مُنُ ومُ بلغاتهما حرفان وليستا بلُغَتَىْ أَيْمنُ.
والمُيَمَّنُ كمُعَظَّم: الذى يأْتى باليُمْن والبَرَكة.
وقوله تعالى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} أَى منعناه ودَفَعْناه، فعبَّر عن ذلك بالأَخْذ باليَمِين، كقولك: أَخَذ بيمِينِ فُلان.
وقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} أَى أَصحابُ السّعادات والمَيامن وذلك على حسب تعارُف الناس فى العِبارة عن المَيامن(5/408)
باليَمِين، وعن الأَشائم بالشمال، وعلى ذلك قوله: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} الآيةِ.
وقال بعض المفسّرين: اليَمينُ ورد فى القرآن على عشرة أَوجه:
الأَوّل - بمعنى القُوَّة، قال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} أَى بالقوة، قيل: ومنه قوله تعالى: {لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِين} .
الثانى - بمعنى القُدْرَة، قال الله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أَى بقُدْرَته.
الثالث - بمعنى القَسَم: قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} ، {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} ، {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ ... } ، {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} .
الرّابع - بمعنى العَهْد: قال الله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} أَى عهود.
الخامس - بمعنى الجَارِحة: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} ، {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} .
السّادس - للصّلة ولزيادة توكيد: قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أَى ما مَلَكَتْ، {وما مَلَكَتْ يَمِينُك} أَى مَلَكْتَ.(5/409)
السّابع - بمعنى الدِّين والمِلَّة. قال تعالى: {تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أَى من جهة الدّين.
الثَّامن - بمعنى ناحية الشيء {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} ، {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} ..
التَّاسع - بمعنى البرهان والحجّة: قال تعالى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} قيل أَى بالحجّة، قيل: ومنه الحديث: "الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِينُ الله فى أَرْضِه" أَى حجّة الله.
العاشر - بمعنى الجنة: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} أَى الجنَّة، {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} .
واسْتَيْمَنَه اسْتَحْلَفه.(5/410)
بصيرة في ينع
يَنَعَ الثَّمَر يَيْنَع ويَيْنِع كيَعْلَم ويَضْرِبُ يَنْعاً بالفتح، ويُنْعاً بالضمّ ويُنُوعاً، ولم تَسْقُط الياءُ فى المستقبل لِتقَوِّيها بأُخْتها، قال الله تعالى: {إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} وقرأَ قَتادةُ ومُجاهدٌ وابن مُحَيْصن وابنُ أَبى إِسحاق، وأَبو السَمَّال: "ويُنْعه" بالضَمّ، وهما مثل النَّضج والنُّضْج، قال:
فى قِبابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَها الزَّيْتُون/ قَدْ يَنعا
واليَنِيعُ واليانعُ مثلُ النَّضِيج والنَّاضج، ومنه الحديثُ: "وابْعَث راعِيها فى الدَّثْر بيانع الثَّمَر"ُ قال عَمْرُوا بن مَعْدِ يكَرِبَ رضى الله عنه:
كَأَنَّ على عَوارِضِهِنَّ رَاحاً ... يُفَضُّ عَلَيْه رُمّانٌ يَنِيعُ
وقرأَ أَبو رجاءٍ العُطارِدِىّ وابن مُحَيْصن واليَمانِىُّ وابنُ أَبِى عَبْلَة "ويانِعِه"؛ واليانعُ: الأَحْمَرُ من كلّ شىءٍ، ويقال: إِمرأَةٌ يانِعَةُ الوَجْنَتَيْن قال رَكَّاض الدُّبَيْرِىّ:
ونَحْراً عليه الدُّرُّ تَزْهُو كُرُومُه ... تَرائِب لاشُقْراً يَنَعْنَ ولا كُهْبَا
ويُقال: دَمٌ يانعٌ، قال سُوَيْدُ بن كُراع العُكْلِىّ:(5/411)
وأَبْلَخ مُختال صَبَغْنا ثِيابَهُ ... بأَحْمرَ مِثْلِ الأُرْجُوانىّ يانعِ
وقال ابنُ كَيْسان: جمعُ يانع الثَمَرِ يَنْعٌ كصاحِب وصَحْب.
وأَيْنَع الثَمَرُ إِيناعاً [فهو مُونِع، وهِى] مُونِعَة مثل يَنَعَ. وفى كلام الحَجّاج أَنَّه خَطَبَ حين دَخَل العراقَ فقال فى خُطْبته: إِنِّى أَرَى رُءُوساً قد أَيْنَعَتْ وحانَ قِطافُها. يريد استحقاقَها لِلْقَطْع.
واليُنْع بالضَمِّ: شجرة من جُلِّ الشَّجَر. وبالتَّحْرِيك: ضَرْبٌ من العَقِيق معروفٌ. وقيل: اليَنَعَة: خَرَزَةٌ حمراء.
وفى حديث المًُلاعَنَة "إِنْ ولَدَتْه أَحْمَرَ مِثْل اليَنَعَة فهُوَ لأَبِيه الَّذى انْتَفَى منه".(5/412)
بصيرة فى يوم
اليَوْمُ يُعَبِّر به عن وَقْت طُلُوع الفجر إِلى غروب الشمس، وقيل: يُعبَّر به عن مدّة من الزَّمان أَىَّ مدّة كانت، والجمع: أَيَّامٌ.
ويَوْمٌ أَيْوَمُ، ويَوِمٌ كفَرحٍ ووَوِمٌ، وذُو أَيَّام، وذُوا أَياويمَ: آخِرُ يَوْم فى الشَّهْر، أَو معناه شَدِيدٌ، مثلُ لَيْلٍ أَلْيَلَ.
وأَيّام الله: نِعَمة.
وياوَمَهُ يِواماً ومُياوَمَةً: عامَلَهُ لِلْيَوْم.
وقيل: ليس للدِّين عِوَضٌ، ولا لِلْبَدنِ خَلَفٌ، ولا لِلْيَوْم بَدَلٌ، ومن كانت مَطِيَّتُه اللَّيل والنَّهار، فإِنَّه يُسارُ به وإِنْ لم يَسِرْ. وفيه يقول القائل:
ومنْ عَجَب الأَيَّام أَنَّكَ قاعِدٌ ... عَلَى الأَرْضِ فى الدُّنْيا وأَنْتَ تَسِيرُ
فَسَيْرك يا هذا كَسَيْرِ سَفِينَةِ ... بقَوْمٍ قُعودٍ والقُلُوع تَطِيرُ
وقال آخر:
حَتَّى مَتَى أَنْتَ فى الأَيام تَحْسَبُها ... وإِنَّما أَنْتَ فيها بَيْنَ يَوْمَيْن
يَوْمٌ تَوَلَّى ويَوْمٌ أَنْتَ تأْمُلُه ... لعلَّه أَجْلَب الأَيَّام لِلحَيْن
وقال آخر فى ذلك:
وما الدَّهْرُ إِلاَّ ما مَضَى وهْوَ فائِتٌ ... وما سوْفَ يَأتِى وهْوَ غَيْرُ مُحصَّل(5/413)
فحظكَ يَوْمٌ أَنْتَ فيه فَإِنَّه ... زمان الفَتَى منْ مُجْمَل ومُفصَّل
وقيل: الأَيّام خمسةٌ: يَوْمُ المِيثاق، وهو يوم الشهادة؛ ويَوْمُ دُخُولك فى الدُّنْيا، وهو يَوْم الوِلادَة؛ ويومُ خُرُوجك منها، وهو يوم ظهور الشَّقاوَة والسَّعادة؛ ويومُ خُروجِك من القَبْر، وهو يوم الإِعادَة؛ ويَوْمُ نُزولِك فى الجَنَّة أَو النَّار، وهو يَوْمُ الزِيادة، فلأَهل النار {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} ، ولأَهل الجنَّة {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} .
وفى بعض الآثار: "ما مِنْ يَوْمٍ طَلَعَت شَمْسُه إِلاَّ ويَقُول: يَابْنَ آدَمَ، أَنا يَوْمٌ جَدِيدٌ، وإِنِّى على ما تَعْمَلُ شَهِيد، فاغْتَنِمْ طُلوع شَمْسِى، فلو غابَتْ وغَرَبَتْ لمْ تَرَنى إِلى يوم القيامة".
/وذُكِرَ اليومُ فى القرآن على قسْمَين: الأَول أَيّام مخْتَلِفاتٌ، والثانى مُقْتَرناتٌ بأَسماءِ القيامة. أَمّا المختلفات.
1 - فقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} ، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} .
2 - قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور ... } إلى قوله: {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض} .
3 - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} .(5/414)
4 - {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} .
5 - {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} .
6 - {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} .
7 - {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} .
8 - {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} .
9 - {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} .
10 - {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} .
11 - {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} .
12 - {وَقَالَ هاذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} .
13 - {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} .
14 - {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} .
15 - {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ} .
16 - {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} .(5/415)
17 - {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمان صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} .
18 - {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
19 - {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} .
20 - {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} ، {هاذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
وأَمّا اليوم المُقْتَرِن بأَسماءِ القِيامة وصفاتها:
فقوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ} ، وقولُه تعالَى: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} . وقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} وقوله تعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وقوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} وقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} وقوله تعالى: {عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} وقوله(5/416)
تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} ، وقال تعالى: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} وقال تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} وقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار} ، وقال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} ، وقال تعالى: {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} وقال تعالى: {لِيَوْمِ الفصل * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} وقال تعالى: {إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} ، وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} ، وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} ، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ(5/417)
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} وقال تعالى: {إلى يَوْمِ البعث فهاذا يَوْمُ البعث} وقال تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} ، وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} وقال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} وقال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح} وقال تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} وقال تعالى: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} قال تعالى: {واليوم الموعود} وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} ، وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ التناد} وقال تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ، وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد} قال تعالى: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} وقال تَعالَى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ(5/418)
أَخْبَارَهَا} ، وقال تعالى: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} ، وقال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم} ، وقال تعالى: {هاذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} ، وقال تعالى: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، وقال تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} ، وقال تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} ، وقال تعالى: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ، وقال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمان وَفْداً} وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} ، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} ، {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} ، وقال تعالى: {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} ، وقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} وقال(5/419)
تعالَى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} ، وقال تعالى: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} وقال تعالى: {يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} ، وقال تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} ، وقال تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} ، وقال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ القيامة} وقال تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، وقال تعالى: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً} ، وقال تعالى: {اليوم نَنسَاكُمْ} ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} وقال تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} ، وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، وقال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ}(5/420)
وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} ، وقال تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم} وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون} {يَوْمَ تبلى السرآئر} ، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} وقال تعالى: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} .(5/421)
بصيرة فى يا ويا أيها
يا حَرْفٌ/ لِنداءِ البَعيد حقيقةً أَو حُكماً، وقد يُنادَى بها القريبُ توكيداً، وقيل هى مشتركةٌ بينهما أَو بَيْنَهُما وبين المتوسِّط، وهى أَكْثَرُ حروف النِّداءِ استعمالاً، ولهذا لا يُقَدَّر عند الحَذْف سِواها. نحو: [قوله تعالى] : {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هاذا} . ولا يُنادَى اسْمُ الله تعالى إِلاَّ بها، وكذلك الاسمُ المُسْتَغاث؛ وأَيُّها وأَيَّتُها لا يُنادَى إِلاَّ بها، ولا المندوب إِلاَّ بها أَو بِوَا.
وَإِذَا وَلِىَ يا ما لَيْسَ بمنادى كالفعل فى [قوله تعالى] : {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} وقولُه:
أَلا يَا اسْقِيانى قَبْلَ غارَة سنجالِ
والحَرْف فى نحو: [قوله تعالى] : {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ} و"يا رُبَّ كاسِيةٍ فى الدنيا عارِية يوم القيامة". والجُمْلَة الاسْمية نحو:(5/422)
يا لَعْنَة الله والأَقْوام كلِّهم ... والصَالحين على سَمْعان منْ جار
فهىَ للنِّداءِ والمُنادَى محذوف؛ أَو لمُجَرَّدِ التَّنْبيه لئلاَّ يلزم الإِجحاف بحذف الجمْلة كلِّها، أَو إِنْ وَلِيَها دُعاءٌ أَو أَمْرٌ فللنِّداءِ.
وأَيّها وأَيّتها ويأيّتها متضمّنة معنى النِّداء إِذا كان المنادى معرّفاً بأَل كقوله تعالى: {أَيُّهَ المؤمنون} {أَيَّتُهَا العير} {يَاأَيُّهَا الناس} {ياأيتها النفس المطمئنة} . ويجوز أَن يَجْعل هذا موضع أَىّ فتقول يا هذا، ويجوز أَن يُجْمَع ين الصيغتين فتقول: يا أَيُّهذا الرّجل، والفرق بينهما أَنه يجوز الوقف على هذا من غير ذكر وصف، ولا يجوز الوقف على يا أَيّها، ويجوز أَن يحذف حرف النِّداءِ من يا أَيّها الرّجل. فتقول أَيُّها الرّجُل، ولا يجوز حذفها من هذا لأَنَّه يبقى غيْر مُفيد للمَعْنَى.
وحروف النِّداءِ خمسة: يا، وأَيا، وهيا وأَى، والهمزة، "يَا" و "أَيَا" و "هَيَا" للبعيد، و "أَىْ" للقريب المُعرض عن المنادى، "والهَمْزَة" للقرِيب المُقْبِل، "ويا" صالحةٌ للقريب والبعيد، والمقبل والمعرض، فلذلك جعلوه أَصلَ حروف النِّداءِ.(5/423)
والمُنادى المفرد المعرفة مبنىٌّ على الضمّ، قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن} ، {ياإبراهيم أَعْرِضْ} .
ونَعْتُ المُنادَى المفرد إِذا كان مُفْرداً فأَنت مُخَيَّر بين الرَفْع على الَّلفْظ والنَّصْبِ على المعنى، فتقول: يا زَيْدُ الظَّريفُ والظَّريف. وأَمّا إِذا كان النعت مُضافاً فلا يجوز إِلاَّ النَّصبُ، نحو يا زَيْدُ أَخانا، ويا عَمْرُو صاحِبَ الدّار.
وأَمّا المَعْطوف على المنادَى المفردِ فجائزٌ فيه الوَجْهان كقوله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير} والطَّيْرُ، وقُرئ بهما.
والمنادَى المُضافُ ونَعْتُه وشِبْهُ المُضافِ والمُنادَى المُنْكَّرُ منصوباتٌ، فالمضاف: يا عَبْدَ اللهِ، ونَعْتُه يا عَبْدَ اللهِ الكَرِيمَ، وشبْهُ المُضاف نحو: يا خَيْراً من زَيْد، ويا حسناً وَجْهُه. قال الله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} ويجوز خُلُوّ المضاف من أَداةِ النداءِ كقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ، {فَاطِرَ السماوات والأرض} أَى ياذُرِّيَّة ويا فاطِرَ.(5/424)
وقولُهم فى الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ من صِيَغ النِّداءِ أَيضاً لكن حَذَفوا أَداة النِّداءِ من أَوَّلِه وعَوَّضُوا عنها المِيمَ المُشَدَّدَة فى آخره. ويجوز فى مثل هذا حَذْف همزة الله فتقولُ: لاَهُمَّ، وذلك فى ضرورة الشعْر، وفى الحديث: "لاهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَة، فاغْفر للأَنْصار والمُهاجِرَة".
ويجوز إِلحاق "ما" بها قال:
وما عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِى كُلَّما ... سَبَّحْتِ أَوْ صَلَّيْت يا الَّلهُمَّما
ويمتنع أَن تقول: يا أَيُّها الله؛ لأَن هذه الصيغة/ موضوعة للتنبيه والإِشارة، والله سبحانه مُنَزّه عن ذلك.
وإِذا كان المنادَى الاسم الربّ يَكْثُرُ حَذْف النِّداءِ منه لكثرة الاستعمال كقوله: {رَبَّنَآ آتِنَا} .
وفى إِضافته إِلى المتكلِّم خمسةُ أَوْجٌهٍ: حذف ياءِ الإضافة نحو: رَبِّ أَعوذ بك، وإِثبات الياءِ ساكنة: رَبِّى، ومتحرّكة: رَبِّىَ، وإِلحاق الأَلف فى آخره: رَبَّا، وإِلحاق هاءٍ بعد الأَلف: يا رَبّاه.
والمنادى بحرف يا ويا أَيّها فى التنزيل على خمسين وجهاً.
1 - {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا} .(5/425)
2 - {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} {فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هاذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} .
3 - {ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} .
4 - {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} .
5- {ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} .
6 - {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} .
7- {يابني اركب مَّعَنَا} .
8 - {ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ} ، {ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} .
9- {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} .
10- {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} .
11 - {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} .
12 - {ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} .
13- {ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} {ياأبانا مَا نَبْغِي هاذه بِضَاعَتُنَا} .
14- {يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} .(5/426)
15- {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ} .
16 - {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} .
17 - {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هاذا} .
18 - {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} .
19 - {ياموسى إني أَنَا الله} .
20 - {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} .
21 - {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ} .
22 - {قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني} .
23 - {ياهامان ابن لِي صَرْحاً} .
24 - {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} .
25 - {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} .
26 - {يايحيى خُذِ الكتاب} .
27 - {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ} ، {ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ} .(5/427)
28 - {يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ} ، {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} ، {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} .
29 - {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} .
30 - {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} ، {يابني أَقِمِ الصلاة} .
31 - {يانسآء النبي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} ، {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} .
32 - {ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ} ، {ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} ، {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} .
33 - {ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} .
34 - {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير} .
35 - {يانار كُونِي بَرْداً وسلاما} .
36 - {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} .
37 - {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} ، {يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ} .(5/428)
38 - {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} ، {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} .
39 - {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} .
40 - {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} ، {ياعبادي الذين آمنوا} .
41 - {ياحسرة عَلَى العباد} .
42 - {يابشرى هاذا غُلاَمٌ} .
43 - {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} .
44 - {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} .
45 - {ياقوم إِنَّمَا هاذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} . ولهذا نظائر.
46 - {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} .
47 - {ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} .
48 - {ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} .
49 - {ياأيتها النفس المطمئنة} .(5/429)
50 - {ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} ، {ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} .
قال ابن مَسْعود: متى سمعتَ فى التَّنْزيل كلمة: يا أَيّها الذين آمَنُوا، فاعلم أَنَّ الذى يَتْلُوه من تمام الخطاب إِمَّا أَمرٌ يجب/ امتثالُه، وإِمّا نَهْىٌ عن أَمرٍ يجب اجْتِنابُه، وإِمّا كلامٌ يتضمّن معنَى أَمر أَوْ فَحْوَى نَهْى.
وقد ذكر الله عبادَه المؤمنين فى كلامه المجيد بهذا النِّداءِ فى تسعة وثمانين موضعاً، وهى منقسمة على ثلاثة أَقسام كما ذكرنا: أَمرٌ صريحٌ أَو نَهْىَ فصيح، أَو متضمِّن لأَحدهما بتعريض لابتصريح. وتفصيل ذلك:
فى سورة البقرة سَبَعة، وفى سورة آل عمْرانَ تسعة، فى سورة النِّساءُ ستَّةَ عَشَر، وفى سورة المائدة ستَّة، وفى سورة الأَنفال ستَّة، وفى سورة بَراءة ستَّة، وفى سورة الحجّ واحدةٌ، وفى سورة النَّور ثلاثة، وفى سورة الأَحزاب سَبْعة، وفى سورة محمّد صلَّى الله عليه وسلم اثْنان، وفى سورة الحُجُرات خمسة، وفى سورة الحَديد واحد، وفى سورة المُجادَلة ثَلاثَة، وفى سورة الحَشْر واحد، وفى سورة المُمْتَحَنَة ثَلاثة، وفى سورة الصفّ ثلاثة، وفى سورة الجُمْعة واحد، وفى سورة المنافقين واحد، وفى سورة التَّغابُن واحد، وفى سورة التَّحريم واحد، ومن هذه الجملة ثلاثة وأَربعون أَوامر صريحة، وثمانية وعُشرون نَواهى، وثمانية عَشَر متضمّنة مَعْنَى أَمْر أَو نَهْى.(5/430)
أَمّا الأَوامر فقوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر} .
2 - {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .
3 - {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} .
4 - {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} .
5 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} .
6 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}
7 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ} .
8 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} .
9 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} .
10 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} .
11 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} وقرئ فَتَثَبَّتُوا.
12 - {ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} .
13 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} .
14 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} .(5/431)
15 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} .
16 - {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط} .
17 - {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} .
18 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} .
19 - {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر ... } . إِلى قوله {فاجتنبوه}
20 - {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} .
21 - {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ} .
22 - {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا}
23 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} .
24 - {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} .
25 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} .
26 - {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} .
27 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} .(5/432)
28 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} .
29 - {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
30 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} .
31 - {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} .
32 - {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا} .
33 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} .
34 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} .
35 - {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا} .
36 - {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} .
37 - {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} .
38 - {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن} .
39 - {ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله} .(5/433)
40 - {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} .
41 - {ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} .
42 - {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ} .
43 - {ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} .
وأَمّا النَّواهى فثمانيةٌ وعشرون موضعاً:
1 - {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} .
2 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} .
3 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} .
4 - {يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا} .
5 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} .
6 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ} .
7 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} .
8 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} .(5/434)
9 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} .
10 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} .
11 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} .
12 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} .
13 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .
14 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} .
15 - {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} .
16 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} .
17 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} .
18 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} .
19 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} .
20 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى} .
21 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله} .(5/435)
22 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} .
23 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} .
24 - {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان} .
25 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} .
26 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} .
27 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} .
28 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} .
وأَمّا القسم المتضمن بمعنى أَمر ونهى ففى ثَمَانيَةَ عَشَرَ موضعا:
1 - {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} .
2 - {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} .
3 - {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ... } إلى قوله: {فاكتبوه} وهذا أَمر صريح ينبى أَن يلحق بالقسم الأَوّل.
4 - / {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على(5/436)
أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} وقال: {ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} أَى لا تطيعوهم.
5 - {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} إِلى قوله: {خَاسِرِينَ} وهذا أَيضاً نهى.
6 - {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} .
وهذا على سبيل النَّهى أَيضاً.
7 - {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} .
8 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} ، أَى لا تَصْطادوا
9 - {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ} وهذا أَمرٌ أَى، اشْتَغِلُوا بأَنْفُسكم.
10 - {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} أَى أَقيمُوها
11 - {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} .
12 - {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} وهذا نهْى، والمعنى لا تُمَكِّنوهُم من الدُّخول.(5/437)
13 - {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} وهذا نَهْىٌ أَى لا تَأْكُلُوا.
14 - {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} وهى نهى، أَى لا تَتَثاقَلُوا.
15 - {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} وهذا أَمرٌ أَى انْصُروا دِينَ الله.
16 - {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وهذا نَهْىٌ، أَى لا تَقُولوا.
17 - {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم} وهذا أَمْر، أَى تاجِرُوا الله فإِنَّ مَنْ تاجَرَه لا يَخْسَر. وفى بعض الآثار عن الرب تعالَى فى بَعْض كُتُبه المُنَّزَلة: "عَبيدى وإِمائى خَلَقْتُكُمْ لتَرْبحُوا عَلَىَّ لا لأَرْبَحَ عَلَيْكُم، فتاجرُونى، فمَنْ كان رَأْسُ ماله الطَّاعَةَ تأْتيه الأَرْباح بغير بضاعَة".(5/438)
الباب الثلاثون - فى بصائر أسماء الأنبياء عليهم السلام وبصائر الأعداء عليهم الغرام(6/7)
بصيرة فى ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم
ذكر المعينىّ فى تفسيره أنَّ الله تعالى لمّا أَراد إِيجادَ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم من مَعْدِن الشَّرف أَوْقَفَ جَوْهَر وجوده فى مائة مَقامٍ من مَقامات العِزّ، ثمّ جَلاهُ على الخَلْق ودعاهُ بمائةِ اسمٍ شريف، وجَلاه بمائةِ مُعْجِزَةٍ، وذَكَر له فى الكتاب العزيز مائةَ شىءٍ ممّا يتعلَّق بذاتِه وصفاتِه، وخَلَع عليه فى الدّارَيْن مائة خِلْعَة، وقَرَنَ اسمه باسمه العظيم فى خَمْسِين شَيْئاً، وأَقْسَم بخَمْسِين شيئا من ذاتِه وصفاتِه ومضافاتِه، وحَلَّى ظاهرَه بخمسين حِلْيَة وحَلَّى قَلْبَه بخمسين حِلْيَة.
أَمّا المَقاماتُ المائةُ فمنها اثْنَا عَشَرَ حِجاباً، وأَربعون بَحْراً، وخَمْسُون صُلْباً، وهى أَصلابُ آبائه.(6/8)
/أَمّا الحُجُب فرُوِىَ عن جَعْفَر بن مُحَمَّدٍ أَنَّه قال: خَلَقَ اللهُ قَبْلَ خَلْق العالَم اثْنَىْ عَشَر حِجاباً، أَوّلها: حِجابُ الإرادة، ووقف فيه نورُ محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم اثْنَى عَشَرَ أَلْف سَنَة، وكان تسبيحه فى ذلك الحِجاب: سُبْحانَ عالِم السِرِّ وأَخْفَى. ثم نَقَلَه إِلى حِجاب المَشِيئَة وأَوقفه فيه أَحَدَ عَشَرَ سَنَة، وكان تسبيحه فيه: سُبْحانَ الرَّفِيع الأَعْلَى. ثمّ نَقَلَه إِلى حجاب الرَّحْمة، وبقى فيه عَشَرَة آلاف سَنَةٍ، وتسبيحُه: سُبْحانَ اللهِ وتَعالى. ثم انتقل إِلى حِجابِ الكَرامة، ولَبثَ فيه تسعةَ آلافِ سَنَة، وتَسْبيحُه: سُبْحانَ مَنْ هُوَ عَدْلٌ لا يجُورُ. ثمّ انتقل إِلى حجاب السّعادَة، ولبث فيه ثمانية آلافِ سَنَة، وتسبيحُه سُبْحانَ مَنْ هو عالِمٌ لا يَسْهُو. ثمّ انتَقَل إِلى حِجاب الفَضْل، وبقى سبعة آلافِ سَنَة، وتسبيحُه: سُبحان من هُوَ غَنِىٌّ لا يَفْتَقِرُ. ثم صار إِلى حِجابِ المِنَّةِ، وبقى فيه ستةَ آلافِ سنة، وتسبيحه، سُبْحان العَلِيم الحَكِيم. ثمّ انتقل إِلى حِجابِ الهِدَايَة، وبقى فيه خَمْسَةَ آلافِ سٍَنَة، وتسبيحُه سُبْحانَ رَبّ العَرْشِ العظيم. ثم انتقل إِلى حِجاب اللُّطْف، ولَبِثَ أَربعةَ آلافِ سَنَة، وتسبيحُه: سُبحان الأَوَّل المُبْدِئ. ثم صار إِلى حِجابِ الكَرَم ولبث فيه ثلاثةَ آلافِ سَنَة، وتسبيحُه: سُبْحانَ الباقِى المُغْنِى. ثمّ دَخَل فى حِجاب العِنايَة ومكث أَلْفَىْ سنة، وتسبيحه: سُبْحانَ الحَىِّ الَّذى لا يَمُوت. ثمّ انتقل إِلى حِجاب الكِفايَة وبقى أَلفَ سنة، وتسبيحُه سُبْحَان المَلِكِ الذى لا يَزُول.
ثمّ أَخرجَه من الحُجُب وعَرَضه على أَرْبعين بَحراً: وهى: بَحْرُ العَظَمة، وبحر القُدْرةِ، وبحر العِزَّةِ، وبحر الجَلالِ، وبحر الجَمالِ، وبحر الكَمالِ، وبحر الرَّأْفَةِ، وبحر الجُود، وبحر الزَّيْنِ، وبحر الصِّدق، وبحر الصّفاء، وبحر الرِّضاء، وبحر الرَّجاء، وبحر الوَفاء، وبحر السَّخاء، وبحر الخُشُوع، وبَحْر الخُضُوع، وبحر التَّواضُع، وبحر المَعْرِفَة، وبحر العِبْرة، وبحر الحِكْمَة، وبحر المَحَبّةِ، وبحر العِصْمة، وبحر السَّكِينة، وبحر العِلْم، وبحر العَقْل، وبحر الرِّفْق، وبحر الصَّبْر، وبحر الخَوْفِ، وبحر التَّقْوَى، وبحر اليَقين وبحر الكَرَم، وبحر اللُّطْفِ، وبحر الشَّرَفِ، وبحر الإِيمانِ، وبحر العِبْرَة، وبحر الفِطْنَة، وبحر الفِكْرَة، وبحر الشُكْرِ، وبحر الرَّحْمَة، فلمّا عرضه على هذه البحار انتقل خصالها إِلى جبلَّته، وتحلَّى بحَلالِها. وحين خرج من البحار نَفض نفسَه انتفاضةً انفصلت منه(6/9)
بها قطراتٌ نحوٌ من مائةِ أَلفِ وأَرْبَع وعشرين أَلف قَطْرة، خلق الله تعالى من كلّ قطرة منها رُوحَ نبىٍّ من الأَنبياء.
ثم جعل الله تعالى ذلك النورَ بعَينيه فى العناصر الأَربعة.
ثمّ نقله إِلى صُلْبِ آدمَ، وانتقل منه إِلى صُلْبِ شِيث، ومنه إِلى أَنُوش، ومنه إِلى قَيْنانَ، ومنه إِلى مَهْلاَئِيل، ومنه إِلى يَرَد وقيل يَارِدْ، ومنه إِلى خَنُوخَ ويقال أَخْنُوخ، وهو إِدريس عليه السّلام، ومنه إِلى مَتُّوشِلَحْ. ويقال مَتُوشَلخْ، ومنه إِلى لامَكْ ويقال لَمَك، ومنه إِلى نُوحٍ عليه السّلام، ومنه إِلى سام، ومنه إِلى أَرفَخْشَذْ ويقال الْفَخْشَذ، ومنه إِلى راعُو ويقال أَرْغُو، ومنه إِلى عابَرَ، ويقال عَبير، ومنه إِلى شالَخْ ومنه إِلى ايشوع ومنه إِلى ناحُورَ؛ ومنه إِلى تارَحْ ويقال تيرح، ومنه آزرْ ومنه إِلى إِبْراهِيم ومنه إِلى إِسْماعِيل / ومنه إِلى قَيْذَارَ ومنه إِلى حَمَل، ومنه إِلى نابت، ومنه إِلى يَشْجُب ومنه إِلى يَعْرب، ومنه إِلى أُدَد، ومنه إِلى أُدّ، ومنه إِلى عدنان جدّ العرب، ومنه إِلى مَعَدّ، ومنه إِلى نِزارٍ، ومنه إِلى مُضَرَ، ومنه إِلى الْياس، ومنه إِلى هَمَيْسعَ ومنه إِلى طَابخَة ومنه إِلى مُدْرِكَة، ومنه إِلى خُزَيْمَة، ومنه إِلى كِنانَة، ومنه إِلى النَّضْرِ واسمه قَيْس، وقيل إِنَّه قُرَيْش، ومنه إِلى مالِك، ومنه إِلى فِهْر، ومنه إِلى غالِبٍ، ومنه إلى لُؤىٍّ، ومنه إِلى كَعْبٍ، ومنه إِلى مُرَّةَ، ومنه إِلى كِلابٍ، ومنه إِلى قُصَىٍّ واسمُه زَيْدٌ ويُدْعَى مُجَمْعا،(6/10)
ومنه إِلى عَبْد مَناف واسمُه المُغِيرة، ومنه إِلى هاشِمٍ، ومنه إِلى عَبْد المطلب واسمُه شَيْبَة الحَمْدِ، ومنه إِلى عَبْدِ الله، ومنه إِلى صحراء العالم. قال:
مُحَمَّدٌ أَفْدِيه من سَيِّدٍ ... يَسْتَعْبِدُ العالَمَ من فِطْنَتِهْ
آدَمُ لَوْ صُوِّر فى حُسْنِه ... لَمَا زُهِى إِبْلِيسُ عن سَجْدَتِه
لَوْ أَنَّ يَعْقُوبَ رَأَى وَجْهَهُ ... أَسْلاهُ عَنْ يُوسُفَ فى غَيْبَتِه
امْتَحَن اللهُ بهِ خَلْقَه ... والنَّارُ والجَنَّةُ فى قَبْضَتِه
وأَمّا الأَسماء المائة التى ذكرها الله فى القرآن: نَبِىُّ {ياأيها النبي} ، رَسولٌ {ياأيها الرسول} ، خاتَم {وَخَاتَمَ النبيين} ، أُمِّىٌّ {النبي الأمي} ، رَءُوفٌ رحِيمٌ {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، مُبَشِّرٌ ونَذِيرٌ وشاهِدٌ ودَاعِى {شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ} ، سِراجٌ منِيرٌ {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ، بَشِيرٌ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً} ، منْذِرٌ وهادٍ {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، صاحِبٌ {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} ، عَبْدٌ {أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} ، كَرِيمٌ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، وَلىٌّ ونَصِيرٌ {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} ، الأَوْلَى {النبي أولى بالمؤمنين} ، العَزيز {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، الرَّحْمَة {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً} ، نورٌ {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} ،(6/11)
شَهِيدٌ {على هاؤلاء شَهِيداً} ، مُبينٌ {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، مُرْسَلٌ {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} ، مُدَّثِّرٌ {ياأيها المدثر} ، مُزَّمِّلٌ {ياأيها المزمل} ، مُذَكِّرٌ {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} ، أَمِينٌ {رَسُولٌ أَمِينٌ} ، ذِكْرٌ {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً} ، أُذنٌ {قُلْ أُذُنُ} بَيِّنَةٌ {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} هدًى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} ، حَقُّ {فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} ، صِدْقٌ {والذي جَآءَ بالصدق} ، حاكمٌ {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قَاضِى {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} طه {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} يس {يس * والقرآن الحكيم} سَلامٌ {سُبُلَ السلام} ، عالِمٌ {فاعلم أَنَّهُ لاَ إلاه إِلاَّ الله} ، مُسْتَقِيمٌ {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} مُسْلِمٌ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} شاكرٌ {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} مُصْطَفَى {اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} ، مُجْتَبَى {واجتبيناهم} ، مُخْتارٌ {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} ، زَرْعٌ {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} ، نِعْمَة {اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} ، مُرْشِدٌ {وَلِيّاً مُّرْشِداً} ، سَعِيدٌ {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} حَبِيبٌ {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ} مُطَهَّرٌ {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} طَيِّبٌ {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} ، شَفِيعٌ {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} مُبارَكٌ {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} ، مُصَدِّقٌ {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ، أَنْفس {جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ، بُرْهانٌ {قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ} ، ناسٌ {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله}(6/12)
، تالِى {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله} ، مُخْرِجٌ {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور} ، رَجُلٌ {أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} ، قَدَمُ صِدْقٍ {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} ، حَمِيدٌ ومَحْمُودٌ {حم} ، عَزِيرٌ وسَيِّدٌ وقادِرٌ {عسق} ، تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ، مَبْعُوثٌ {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين} ، مَعْصُومٌ {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} ، مُؤَيَّدٌ {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} ، مَنْصُورٌ {وَيَنصُرَكَ الله} ، مَغْفُورٌ {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} ، غالِبٌ {هُمُ الغالبون} ، مَعْفُوُّ {عَفَا الله عَنكَ} ، مُنْبئٌ {نَبِّىءْ عِبَادِي} ، رَضِئُ {لَعَلَّكَ ترضى} ، مُسَبِّح {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، ساجِدٌ {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} ، عابِدٌ {واعبد رَبَّكَ} ، مُقْتَدِى {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} ، مَحْفُوظٌ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} ، مُنادِى {سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ} ، مُجاهِدٌ {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} مُسْتَغْفِرٌ {واستغفر لِذَنبِكَ} ، مَرْفُوعٌ {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، مُصَلٍّ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، آمِرٌ ونَاهٍ {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} مُتَهَجِّدٌ {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ} ، مُهْتَدِى {وَإِنِ اهتديت} ، مُتَوَكِّلٌ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} ، حاشِرٌ وعاقِبٌ ومَاحى وفى الحديث "أَنا الحاشِر يَحْشُر اللهُ الخَلْقَ على قَدَمِى، وأَنا العاقِبُ كُنْتُ عَقِيبَ الأَنْبِياءِ، وأَنا الماحِى مَحَى الله بِىَ الكُفْرَ" أَوَّلُ {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أَحْمَدُ {يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} ، مُحَمَّدٌ {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} .(6/13)
واسمه صَلَّى الله عليه وسلَّم فى الإِنجيل: طاب طاب، أَى طَيِّب، وفى التوراة: ماذماذ، أَى المرْجُوّ، وفى الزَّبُورِ: فارْقَلِيطا، أَى الفارِقُ بين الحقّ والباطل، وفى صحف إِبراهيمَ: "اخرايا قدماً" أَى السابِق الآخر، وفى صُحُفِ شِيت: "صام صام" أَى القَطَّاع بالحُجَّة، وفى صُحِفِ آدم: "مُقَنَّع"، وفى صحف شِعْيا وأَرْمِيا: قانِعٌ، وبين طوائِف الطيور عَبْد الجبّار، وبين البَهائِم: "عَبْدُ الغَفَّار"، وعند الجِنّ: "نبىُّ الرَّحْمة"، وعند الشَّياطين: "نَبِىّ المَلْحَمة".
وأَمّا مُعْجِزاتُه صلَّى الله عليه وسلَّم فقد حَصَرها جماعة فى مائة معجزة، وهى أَكثر من ذلك، وقال بعضُهم هى أَكثر من الأَلف، وهو الصّحيح، وقد ذكرنا أكثَرها فى مَحَلِّهَا من المبسوطات.
وأَمّا المائة المذكورةُ فى نَصّ القرآن من أَقوالِه وأَفعالِه وأَحواله: فأَقْسَمَ بِعُمْرِهِ بقوله تعالى {لَعَمْرُكَ} ، وذكر عينيه بقوله: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، وَنَظَرَه بقوله: {مَا زَاغَ البصر} ورُؤْيَته بقوله: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} ، وأُذُنه بقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} ، وكَلامه بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} ولِسانه بقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} ، وَوَجْهَه بقوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} ، وعُنُقَه بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} ، وقَلبه بقوله: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} ، وصَدْرَه بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، وظَهْره بقوله: {الذي أَنقَضَ ظَهْرَك} ، وَيَدَه بقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} ، ويَمِينَه بقوله: {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، وجَنْبَه بقوله: {واخفض(6/14)
جَنَاحَكَ} ، وقامَتَه بقوله: {حِينَ تَقُومُ} ، وتَقَلُّبَه بقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} وصَوْتَه بقوله: {فَوْقَ صَوْتِ النبي} ، ورجْلَه بقوله: {طه * مَآ أَنَزَلْنَا} ، وأَيّام نبوّته / بقوله: {والعصر} ، وحَياتَه وممَاتَه وصلَواتِه وعِبادَتَه بقوله: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} ولِباسَه ومَلْبَسَه بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، وعِلْمَهُ بقوله: {رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وأَمْرَهُ وحُكْمَه بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وذِكْرَه بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ونَوْمَه بقوله: {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} ، ولَيْلَه وتَهَجُّدَه بقوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} ونَهارَه بقوله: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} وضَحْوَتَه بقوله: {والضحى} وصُبْحَه بقوله: {والفجر} ، وغُدْوَته بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} ، ودُخولَه بقوله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} ، وخُروجَه بقوله: {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ، ونَفْسَه بقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ودِينَه بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} ، وقَوْلَه بقَوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً} وكتابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ، وأُمَّتَهُ بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ، وأَصحابَه بقوله: {والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ} ، وأَنْصارَه بقوله: {والأنصار} ، وأَهلَ بَيْته بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} ، وأَهلَه وأَزْواجَه بقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وبَناتِه بقوله: {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} ، ومَسْجِدَه بقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} ومَقامَهُ بقوله: {مَقَاماً مَّحْمُوداً} ، وقِبْلَتَه بقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ، وبَيْعَتَه(6/15)
بقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} واسْتِغَاثَتَه بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} ، واسْتِعانَتَه بقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، واستقامَتَه بقوله: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} ، ومَعادَه بقوله: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ} ، وبَلَدَه بقوله: {والبلد الطيب} {وهاذا البلد الأمين} ، وعطاءه بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ، وحُكْمَه بقوله: {حتى يُحَكِّمُوكَ} ، وقضاءه بقوله: {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ} ، وجُنْده وَعَسْكَرَه بقوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} وأَحِبَّاءه بقوله: {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} ، واسْتِغْفارَه بقوله: {استغفر لَهُمْ} ، وحُكْمَه وعِلْمَه ومِنْبَرَه وسِنانَهُ وقَدْرَه بقوله: {عسق} ، وكِفايَتَه وهِدايَتَه ويَمِينَه وعِصْمَتَه وصِدْقَهُ بقوله: {كهيعص} ، ونزولَه بقوله: {والنجم إِذَا هوى} ، ونورَه بقوله: {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} ، وجَرْىَ خَيْله بقوله: {والعاديات ضَبْحاً} وعِزَّهُ بقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} ، وولايَتَهُ بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} وعِصْمَتَه بقوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} ، وغِناه وفَقْرَه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} ، ورضاه بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ومَأْواه بقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} ، ودَعْوَتَه بقوله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} ومِيثاقَه بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} ، ورِجالَه بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُواْ} ، وقَرَابَتَه بقوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} ، وتَواضعه بقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وسلامَه بقوله: {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ، وتَرتِيلَ تِلاوَتِه بقوله: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} ، وخُلُقَه {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وقَدَّه وقامَتَه(6/16)
بقوله: {في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ونِعْمَتَه بقوله: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وأَجْره بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً} وتَذْكِيرَه بقوله: {وَذَكِّرْ} ، ومجاهَدَته بقوله: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار} ، ووَحْيَهُ بقوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ / مَآ أوحى} ، وقُرْبَتَه بقوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} ، ووُصْلَتَه بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} ، ومُعَلِّمَه بقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} ، ووَعْظه وحِكْمَتَه بقوله: {بالحكمة والموعظة الحسنة} ، وجِدالَه بقوله: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} ، وحَياءهُ بقَوْلِه: {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} ، وبَيْتَه ومَنْزِلَه بقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} ، ورَحْمَتَه بقوله: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} ، وعُبُودِيَّتَه بقوله: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله} ، ومِعْراجَه بقوله: {أسرى بِعَبْدِهِ} ، وتَحوُّل أَحْوالِه بقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} ، وعَجائِبَه بقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} ، وعَفْوَهُ بقوله: {خُذِ العفو} ، وصَفْحَه بقوله: {فاصفح عَنْهُمْ} ، وشَرِيعَتَه بقوله: {جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر} ، وسُنَّتَه بقوله: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} وكذا على هذا ذكره الله تعالى فى سبعة آلافِ مَوْضع من هذا الكتاب الكريم، الَّذى هو أَفضل الكتب، تصريحاً وتعريضاً وكناية، وإِشارة وإِخباراً وخطاباً وحكاية، لِيَعْلَم العالِمُون أَنه أَفضلُ الأَنبياء، وأَشرف الأَصفياء، ومالِكُ ممالِكِ الاصطِفاء والاجْتِبَاء، قال:
مِنَ النَّاسِ بين النَّاسِ ما سار سائِرٌ ... أَجَلّ وأَعْلَى قِمَّةً من مُحَمَّدِ
وما وَطِئتْ رِجلان هامَةَ أَرْضِنَا ... أَجَلّ وأَهْدَى هِمَّةً من مُحمَّدِ
وما حَمَلَتْ من ناقةٍ فَوْق كُورِها ... أَعزّ وأَوْفَى ذِمَّةً من مُحَمَّدِ
وما مِنْ إِمامٍ أَمَّه النَّاسُ بُرْهةً ... أَبرّ وأَرْبَى أُمَّةً من مُحَمَّد(6/17)
وأَما الخمسون التى أَقْسَم الله تعالى بها من ذاتِه وصفاته وأَحواله: فبعُمره بقوله: {لَعَمْرُكَ} وبَعَصْرِه بقوله {والعصر} وبِنُون جَمالِه بقوله {ن والقلم} ، وبقَدْره وكَمالِه بقوله: {ق والقرآن} ، وبِصِدْقِه وصَفائِه {ص والقرآن} ، وبُحُكْمِه وعِلْمِه وسَنائه ومِنْبَرِه وقَهْرِه وقَدْرِه {حم* عسق} ، وبِكفايَتَهِ وهدايَتهِ ويُمْنِه وعِزِّه وصدْقه {كهيعص} ، وببلَدِه ومَحَلّه ووالِدِه ووَلَدِه {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} إِلى قوله {وَمَا وَلَدَ} ، وبلَيْلِهِ ونَهاره {والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى} ، وبَوْجْهِه وشَعَرِه {والضحى * والليل إِذَا سجى} وبدِينهِ وانْتِشَار شَرْعِهِ {والشمس وَضُحَاهَا} ، وبسَناءِ سنَّتِه {والقمر إِذَا تَلاَهَا} ، وبصبْح دَعْوتِه {والفجر} وبنُجوم كِتابه المنَزَّل {والنجم} ، وبَجَرْى جِيادِه {والعاديات ضَبْحاً} وبإِغارة صَباح أَصْحابه {فالمغيرات صُبْحاً} ، وبَنَزْعِ غُزاتِه أَقْواسَهم {والنازعات غَرْقاً} وبِطهارَتهِ وهَيْبَتِه {طه} ، وبمَلائكة وَحْيِه {والمرسلات عُرْفاً} ، وبِرياح نَصْرِه {فالعاصفات عَصْفاً} ، وبآياتِ كِتابه {فالفارقات فَرْقاً} ، وبصفوف جَماعَتِه {والصافات صَفَّا} ، وبمحْتَسِبِى أُمَّتة {فالزاجرات زَجْراً} ، وبالتَّالينَ والقرَّاء من صَحابَتِه: {فالتاليات ذِكْراً} ، وبجوامِع كِتابه {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} وبِحُجَرِ مخَدّراته {والبيت المعمور} ، وببَحْر علْمِه أَعنى صَدْرَه {والبحر المسجور} ، وبسَقْف مَسْجِده {والسقف المرفوع} .
وأَمّا الخمسون الَّتى اقترن فيها ذِكْرهُ بذكر الله عزَّ وجلّ فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} ، {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِه} ، {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ(6/18)
الله وَرَسُولِهِ} ، / {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} ، {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} ، {يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} ، {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ} ، {أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} ، {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} ، {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} ، {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} ، {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ} ، {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ} ، {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ، {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ، {فالله أولى بِهِمَا} ، {النبي أولى بالمؤمنين} ، {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} ، {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ} ، {يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله} ، {حتى يُحَكِّمُوكَ} ، {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا} ، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، {والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، {وَجِئْنَا بِكَ على هاؤلاء شَهِيداً} ، {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ} ، {فاعف عَنْهُمْ} ، {فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول} ، {الله نُورُ السماوات} ، {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} ، {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} ، {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ، {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} ، {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} ، {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} ، {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} ، {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} ، {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ،(6/19)
{قَدْ جَآءَكُمُ الحق} ، {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} ، {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ} ، {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} ، {فاعف عَنْهُمْ} ، {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ} ، {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} ، {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} ، {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} ، {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} ، {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ، {إنني أَنَا الله} ، {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} ، {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ} ، {مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} ، {شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} ، {نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} ، {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} ، {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} .
وأَمّا الخصالُ المائة التى كانت زينةَ أَفعالِه وأَحواله وسِيرَته وسريرته، فخمسون منها خِصالٌ ظاهرةٌ محسوسة، وخمسون منها حِلْيَة قَلْبِه الطَّاهِر.
فأَمّا الظَّاهِرُ منها: الخِدْمة، والطَّاعة، والعِبَادةُ، والطَّهارة، والصَّلاةُ، والتَيَمُّم، والصَّوْمُ، والزكَاةُ، والصَّدَقَة، والحَجُّ، والعُمْرَةُ، والجُمُعَةُ، والجَماعَةُ، والثَّباتُ، والأَناةُ، والقرآن، والوَقار، والسَّكِينة، والدُّعاء، والتَّضَرُّع، وحُسْنُ السِّيرَة، والغَزْوُ، والجِهادُ، والشجاعة والقُوَّة، والقُدْرة، والجَلادَةُ، ونَظر العِبْرة، واستماعُ الحِكْمَة، والنُّطْقُ والبَيانُ، والعِبارَةُ، والفَصاحَة، والجُودُ، والسَّخاء، وقَضاءُ حاجاتِ الناسِ، والمشْىُ إِلى العِبادَة، وتَحْصِيلُ الزِّيادَة، وحُسْنُ الصُّحْبَة، والحُرْمة، والمُجَامَلة فى المعامَلَة، وصِلَةُ الرَّحِم، والنَّذْرُ، والقُرْبانُ، ونَصْرُ دِين الحَقِّ.
وأَمّا الخمسون التى هى حِلْيَةُ قَلْبه الطَّاهر: فالعَقْلُ، والعِلْمُ، والأَدَبُ، والحِلْم،(6/20)
والرِّفْقُ والخُلقُ، والمُداراةُ، والمَجْدُ، والشَّرَفُ، والدِّيانَةُ، والصِّيانَة، وإِنْجازُ الَوْعدِ، وإِكْرامُ الضَّيْفِ، والصَّمْتُ، وكِتْمَانُ السِرِّ، والمُرُوَءة، والفُتُوَّةُ، والحَياء، والكَرَمُ، والجُودُ، والسَّخاءُ، والعَزْمُ، والحَزْمُ، والرأى الصّائب، والنَّصيحَة، والهَيْبَةُ والمُراقَبَةُ واغْتِنامُ وقْتِ التَّوْبَة، والإِنابة، والقَناعَةُ، والزُّهْدُ، والتَّوَكُّل، والرّضا بالقَضاءِ، ومُجاهَدة النَفْس / والتَّقْوَى، والخَوُف، والخَشْيَةُ، والخُشُوعُ، والخُضُوعُ، والبُكاء، والحُزْنُ، والرَّجاءُ، والذِّكْرُ، والشُّكْرُ، والصَّبْر، والإِرَادَةُ، والشَّوْقُ، والتَّوْق، والصِّدْقُ، واليَقِينُ، والإِخْلاصُ، والأُنْسُ، والقُرْبُ، والحِيرَةُ، والمَحَبّة، والمَوَدَّةُ، وتَعْظِيم أَمْرِ الله، والشَّفَقَة على الأُمَّة.
وقال بعضُ المحدّثين:
كان النَبىّ جَمِيعَ اللَّيل أَوَّاهَا ... والخَوْفُ يَسْكُبُ من عَيْنَيْهِ أَمْواهَا
باليومِ يَدْعُو عِبادَ الله فى لَطَفٍ ... بِاللَّيْلِ يَبْكِى عَلَى إِشْفاقِه الله
تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ فى تَقَدُّمِه ... عَلَى قِيامِ اللَّيالِى يَطْلُب الجاهَا
يا جبْرَئيلُ أَجبْ وَحْيَا وطِرْ عَجِلاً ... وقُلْ لسَيِّد سادات الوَرَى طَاهَا(6/21)
بصيرة فى ذكر آدم عليه السلام
له أَسماءٌ خمسة: الإِنسان، والبشرُ، وأَبُو البَشَرِ، وآدَمُ، والخَلِيفَةُ.
أَمّا آدم فمشتقٌّ من الأُدْمَة، وهى بَياضُ اللَّوْن. وقيل: لَوْنٌ بين البَياض والسَّوادِ كلَوْن الحِنطة، وقيل: لأَنَّه خُلِقَ من أَدِيِم الأَرْضِ.
وأَمّا الخَليفة فلقوله تعالىَ: {جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} والخَلِيفَةُ والخَلِيفُ مَن يخلف مَنْ تقدّمَه. وكان آدمُ خَلَفَ قوماً من الخَلْق يسمَّوْن الجانَ بن الجان، ولكونه ناب مَناب ملائكة السّماء.
وأَمَّا البَشَرُ فلقوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} قيل: وسُمّىَ بَشَراً لمبُاشَرته عظائِمَ الأُمور. وقيل: لما كان فى وَجْهِه من البِشْرِ والبَشاشة.
وسُمِّىَ إِنساناً لأُنْسه بجنْسه، فالإِنسان من اجْتَمَع فيه إِنسان أُنْسه بالغَيْر وأُنْسِ الغَيْرِ به، وقيل: اشتقاق من النَّوْسِ وهو الحركَة لكثرة حَرَكَته فيما يَتَحَرّاه، وقيل: من الإِيناس وهو الإِبْصارُ، لأَنَّه ببَصرِه الظَّاهر وبَصِيرَته الباطنة يَرَى رُشْدَه ويَصِل إِليه. وفى بعض الآثار أَنَّ آدم عليه السّلام قيل له: كَيْفَ وَجَدْت نَفْسَك عند الزَلَّة؟ قال كرَجُلٍ انكسرت أَعضاؤه فلم يَبْقَ مَفْصِلٌ مع مَفْصِلٍ، فقيل له: كيف وَجَدت نَفْسَك عند الخُروج من الجنَّة؟ فقال: الموتُ أَهْوَن علىّ من ذلك. وفى الحديث أَنَّ مُوسَى قال له ليلة المِعْراج: "يا آدَمُ أَخْرَجْتَنا من الجنَّة! فقال: يا مُوسَى هو شْئٌ كَتَبَه الله علىّ(6/22)
أَمْ شئ من ذات نفسى؟ فقال: لا بل شئ كتب الله عليك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: "فعند ذلك حَجَّ آدمُ موسَى"، أَى غَلَبه.
وقد ذكره الله تعالى فى القرآن فى عشرين مَوْضِعاً، ففى سبعةِ مواضعَ مختصٌّ بالذِكْر وَحْدَه، وفى سبعة مواضع مُقْتَرِن بذكر بنِيه.
أَمّا ذِكْره منفرداً ففى قوله تعالى: {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ، {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} ، {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} ، {اسجدوا لأَدَمَ} ، {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} ، {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ} ، {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} ، {يآءَادَمُ إِنَّ هاذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} ، {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ} .
وأَمّا المُقْتَرِن بِبَنِيه ففى قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ} ، {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} ، {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} ، {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} ، {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} ، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ} ، أَنشد بعض المحدَثين:(6/23)
/مَنَّتْكَ نَفْسُكَ ضلّة فأطَعْتَها ... سُبُلَ الرَّشَاد وهُنَّ غَيْرُ قَواصِدِ
تَضَعُ الذُّنُوبَ على الذُّنُوب وتَرْتَجِى ... دَرْكَ الجِنانِ بها وفَوْزَ العابِدِ
أَنَسِيتَ أَنَّ الله أَخْرَج آدَماً ... من جَنَّةِ المَأْوَى بذَنْب واحدِ
قال أَبو إِسحاق الزّجّاج: اختلفت الآيات فيما بدئ به خَلْقُ آدَمَ، ففى موضع: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ، وفى موضعٍ: {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} ، وفى موضعٍ: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، وفى موضع: {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} قال: وهذه الأَلفاظ راجعة إِلى أَصل واحد، وهو التُّراب الذى هو أَصل الطِّين، فأعلمنا الله عزّ وجلّ أَنّه خُلِقَ من تراب جُعِلَ طيناً، ثمّ انتقل فصار كالحَمَأِ المَسْنُون، ثمّ انتقل فصار صَلْصالاً كالفخّار.
وقال الثعالبى فى قوله تعالى حكاية عن إِبْلِيس أَنّه قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} . قال الحكماء أَخْطَأَ عَدُوُّ الله فى تَفْضِيله النّارَ على الطِّين، لأنّ الطِّين أَفضلُ من النّارِ لوُجوهٍ:
أَحَدُها: أَنَّ من جَوْهَر الطِّين الرّزانة، والسُّكون، والوَقارُ، والحِلْمُ، والأَناةُ، والحَياءُ، والصَّبْر، وذلك سبب تَوْبةِ آدم وتواضُعِه فأورثَه المَغْفِرة والاجْتِباء والهِداية، ومن جَوْهَر النّار الخِفَّةُ والطَّيْشُ والحِدَّةُ والارتفاع والاضْطِراب، وذلك سببُ اسْتِكْبار إِبْلِيس، فأَوْرَثَه اللَّعْنَةَ والهَلاكَ.
والثَّانِى: أَنَّ الجَنَّة موصوفةٌ بأنَّ تُرابَها المِسْك، ولم يُنْقَل أَنَّ فيها ناراً.
الثالِثُ: أَنَّها سبب العذابِ بخلاف الطِّين.
الرّابع: أَنَّ الطّين مُسْتَغْنٍ عن النار، والنَّارُ محتاجةٌ إِلى مكانٍ وهو التّراب.
الخامس: أَنَّ الطّين سببُ جمْع الأَشياء، والنَّار سببُ تَفْريقها. وفى صحيح مُسْلم عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: "إِنَّ الله تعالَى خَلَق آدم يومَ الجُمعة". وفى تاريخ دِمشْق(6/24)
عن عائشة رضى الله عنها، قالت: كان النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقُول: أَنّا أَشْبهُ الناسِ بأَبِى آدم عليه السّلام، وكان أبى إِبراهِيم أَشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً، خَلَقَه الله عزَّ وجلَّ بيده، وأَسْجد له ملائكتَه، وأَسْكَنَه جنَّتَه. واصطفاه، وكَرَّمَ ذُرِّيَّتَه، وعلَّمه جميع الأَسماء، وجعله أَوَّل الأَنْبِياء، وعلَّمهُ ما لم يَعْلَمه الملائكة المقرَّبون، وجعل من نسْله الأَنْبِياء والمُرْسلين والأَوْلِياء والصِّدِّيقين.
واشْتَهَر فى كتب التواريخ أَنَّه عاشَ أَلْفَ سنة، وأَنَّه توفِّىَ بمكَّةَ، ودُفِنَ فى جبل أَبِى قُبَيْسٍ، وحجَّ على رِجْلَيْه سِتِّين حجّةً من أَقصى بِلادِ الهِنْد.(6/25)
بصيرة فى ذكر نوح عليه السلام
ونُوحٌ اسمٌ أَعجمىٌّ، والمشهور صُرْفُه لسُكُونِ وسطِه، وقيل: يجوزُ صرْفُه وتَرْكُ صرْفِه، قال الله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} . وقيل: عَرَبِىٌّ واشتقاقُه من النَّوْح، ناحَ يَنُوحُ نَوْحاً ونُوَاحاً ونِيَاحاً ونِياحَةً، فقيل له نُوحٌ لأَنَّه أَقْبَلَ على نَفْسه باللَّوم وناح عليها، واختلفوا فى سبب ذلك، فقِيل: سببه أَنَّه عابَ على صورةِ كَلْبٍ وقَبَّحه، فأوحى إِليه هل تَعِيبُ الصُّورَةَ أَو المُصَوِّر؟ فعرف أَنَّه قد أَخْطأَ، واشتغل بلَوْمِ نفسه، وقيل: لأَنَّه دَعا على قومِه بقوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} ، وقيل: بل لأَنَّه كان يَنُوح على قومه ويتأَسَّفُ لكونهم غَرِقُوا بلا تَوْبَةٍ ورُجوع إِلى الله، وقيل غير ذلك. وفى الحديث: "إِذا أَرادَ اللهُ بعَبْد خَيْراً أَقامَ فى قَلْبِه نائحَة". قال:
سِرْ فى بلاد الله سَيّاحا ... وكُنْ على نفسك نوّاحَا
وامْشِ بنُورِ فى أَرْضِه ... كَفَى بنُور الله مِصْباحَا
وفى الحديث: "النِّياحَةُ من عَمَلِ الجاهليّة" وفيه: "مَنْ نِيحَ [عليه] يُعَذَّب بما نِيحَ عَلَيْه" يعنى إِذا أَوصَى به. قال:
وفَتًى كأَنَّ جَبِينَه قَمرُ الضُّحَى ... قامت عليه نَوائِحٌ ورَواجسُ
غرسَ الفَسيل مؤمِّلا لِثماره ... فما الفَسِيلُ ومات [قَبْلُ] الغارِسُ
وقد ذكر اللهُ تعالىَ نُوحاً فى القرآن العظيم وسمّاه بثلاثين اسماً، فسمّاه: مُرْسَلاً بقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} ، ورَسُولاً: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ونَذِيراً ومُبِينا:(6/26)
{إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، ومُسَلَّماً: {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} ، ومُبارَكاً: {وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} ، ومُحْسِناً: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، ومُؤْمِناً: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} ، ومُنَجًّى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} ، ومُنادِى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} ، ومُسْتَجابَ الدَّعْوَة: {فاستجبنا لَهُ} ، وداعِياً، {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} ، ومُنْذِراً: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} ، ومَنْصوراً: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، وصانِعَ الفُلْكِ: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} ، وحامِداً: {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا} ، ومَحْمُولاً: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} ، {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ، وبَشَراً: {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} ، ورَجُلاً: {على رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} ، وخائفاً: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وعَبْداً: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} ، وشَكُوراً: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} ، ومَغْلوباً: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} ، وناصِحاً: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} ، ومُجادِلاً: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا} ولابِثاً: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} ، وهابطاً: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} ، ومُعْلِناً ومُسِرًّا: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} ، وقَوْمُهُ سَمَّوْه مَجْنوناً.
وذكره الله تعالى باسمه فى ستة وثلاثين موضعا من القرآن: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} ، {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} ، {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً(6/27)
هَدَيْنَا} ، {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} ، {خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} ، {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} ، {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ} ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} ، {ونادى نُوحٌ ابنه} ، {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} ، {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} ، {وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ} ، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ، {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} ، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} ، {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} ، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} ، {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} ، {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} .
قال الثعلبىُّ: هو نوح بن لامكْ أَو لَمكْ بن متوشَلْح بن أَخْنوخَ بن يرْد بن مهْلائيل بن أَنوشِ بن قَيْنان بن شِيث بن آدم. أَرسله الله إِلى ولَدِ قابيل ومن تابعُهم من ولَد شيث.
قال ابن عبّاسٍ وكان بطْنان من ولدِ آدم أَحدُهما يسْكن السّهل والآخر يسكن الجَبَلَ، وكان رِجال / الجبل صِباحا وفى النّساء دَمامَة، وكانت نِساء السَّهْل صِباحا وفى الرجال دَمامةٌ،(6/28)
فكثرت الفاحشة من أَوْلاد قابِيلَ، وكانوا قد كَثروا فى طولِ الأَزْمانِ وأَكْثَرُوا الفساد، فأَرْسلَ الله تعالى إِليهم نوحا وهو ابن خَمْسِينَ سَنَة، فلبث فيهم أَلْفَ سَنَة إِلاَّ خَمْسِين عاما يدعوهم إِلى الله تعالَى كما أَخْبر الله تعالى به فى كتابه العزيز، وَيُحذِّرهم ويُخوِّفهم فلم يَنْزَجِرُوا ولهذا قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} ، وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} ، فلمّا طال دُعاؤه لهم وإِيذاؤهم له، وتَماديهم فى غَيّهم سأَلَ اللهَ تعالَى فأَوْحَى إِليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} ولمّا [أَخبره] أَنَّه لم يَبْقَ فى الأَصلابِ ولا الأَرْحامِ مؤمنٌ دَعا عليهم فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} ، فأَمره الله تعالَى بإِيجادِ السفينة فقال: يا رَبِّ وأَيْنَ الخَشَب؟ فقال: اغْرِس الشَجَر. فغرَسَ السّاجَ، وأَتى على ذلك أَربعون سنة، وكَفَّ عن الدعاء عليهم، وأَعْقَم الله تعالى أَرْحامَ نسائِهم فلم يُولَدْ لهم وَلَد.
فلمّا أَدرك الشَجَر أَمر الله تعالى بقَطْعِه وتَجْفِيفه وصُنْعِهِ الفُلْكَ، وأَعلمه كيف يصنعه وجعل بابَهُ فى جنْبِه. وكان طول السَّفِينة ثمانين ذِراعا وعرْضها خَمْسِين، وسَمْكها إِلى السّماء ثلاثين ذراعا، والذِراع من اليد إِلى المَنْكِب. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أَنّ طولَها كان ستمائة ذِراعٍ وستُّون ذِراعا، وعرْضها ثلاثمائةٍ وثلاثين ذِراعا، وسَمْكها ثلاثةً وثلاثين ذراعا. وأَمر الله تعالى أَن يَحْمِل فيها من كلّ جِنْسٍ من الحيوان زَوْجَيْن اثنين، وحَشَرها الله تعالى إِليه من البَرِّ والبَحْر. قال مجاهد وغيره: كان التَّنّور الذى ابتدأَ فَوَران الماء منه فى الكوفَةِ، ومنها رَكِب نوحٌ السّفينة. وقال مُقاتلٌ: هو بالشام فى قَرْيةٍ يقال لها عَيْن الوركة قريبٌ من بَعْلَبَكّ. وعن ابن عَبّاسٍ أَنَّه بالهِنْد.(6/29)
قالوا: وأَوّل ما حُمِلَ فى السّفينة الذَرَّة وآخِرُه الحِمارُ، وجعل السِّباع والدوّابَّ فى الطَّبَقة السُّفْلَى، والوُحوشَ فى الطبقة الثانية، والذَرَّ والآدميين فى الطَّبقَة العُلْيا. قيل: كان الآدَمِيّون فى السّفينة سَبْعَةً: نوحٌ وبنو نُوحٍ: سَامٌ، وحامٌ، ويافِثٌ، وأَزْواج بَنِيه. وقيل ثمانية، وقيل عَشَرة، وقيل اثنان وسَبْعُون، وقيل: ثَمانون من الرِجّال والنّساء، حكاه ابن عبّاس.
وعن ابن عبّاس أَيضا أَنّ الماء ارْتَفَع حين صارت السّفِينَة أَعْلَى من أَطْوَل جَبَل فى الأَرضِ خمسةَ عَشَر ذِراعا.
قالوا: وطافت السّفينة بأَهْلها الأَرض كلَّها فى ستَّة أَشْهُر، ثمّ استقرّت على الجُودىِّ - جَبَلٌ بالمَوْصل - وكان رُكوبُهم السَّفينة لعَشْرٍ خَلَوْنَ من رَجَب، ونَزَلوا منها يوم عاشوراء من المُحَرّم. وبَنَى هو من مَعَه فى السفينة، حين نَزَلوا، قرى فى أَرض الجَزِيرة. ولَمّا حَضَرَتْه الوفاة وَصّى إِلى ابْنِه، وكان سام قد وُلِدَ قبلَ الطُوفان بثمانٍ وتسعين سنة، ويقال إِنَّه كان بِكْرَهُ.
وكان نوحٌ أَطولَ الأَنبياء عُمْرا حتى قال بعضهم كان عُمْرُه أَلفا وثلثمائة سنة. ولمّا نزل الوَحْىُ عليه كان عمره ثلثَمائة وخمسين سنة، فلبث أَلف سَنَةٍ / إِلا خمسين عاما يَدْعُوهم. وقالوا ما أَسْلَمَ من الشياطين إِلاَّ شيطانان، شيطان نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلَّم. وشَيْطان نوح عليه السّلام.
وقال إِبْلِيسُ لنوحٍ عليه السّلام: خذْ مِنىِّ خَمْسا، فقال لا أُصَدِّقك، فأُوحِىَ إِليه أَنْ صَدِّقْه فى الخَمْس. قال: قلْ. قال: إِيّاك والكِبْرَ فإِنِّى وقعت فيما وقعت بالكِبْرِ. وإِيّاكَ والحَسَدَ، فإِنَّ قابِيلَ قَتَلَ هابِيلَ أَخاه بالحَسَد. وإِيّاكَ والطَّمَعَ، فإِنّ آدم أَوْرثَه ما أَورثَه بالطَّمع، وإِيَّاكَ والحِرْص فإِنّ حوَّاء وقعت فيما وقعت بالحِرْص، وإِيَّاكَ وطولَ الأَمل فإِنَّهما وقَعا فيما وقعا بطولِ الأَمل.(6/30)
مُر النَّاس بالمعْرُوفِ واغْدُ صَبُوحَا ... وحافِظْ عليهم رَوْحةً وصَبُوحا
عِظْ بعضهم وارْفُق وأَعْرِضْ ولا تَخَفْ ... بصَبْرٍ ومِمَّنْ تَسْتَمِيل جُموحا
أَلَمْ تَرَ نُوحاً أَلفَ عامٍ دعاهُمُ ... تأوّب أَبْواباً لهم وسُطوحا
يُلاطِفهُم قَوْلاً ويَدْعُوهْم إِلى ... مَواعِيدِ صِدْقٍ فالْتَقَوه كُلُوحا
يهدّونه صرْحا ويرْمُونَه حصىً ... وعِنْد الدُّعا زادوا أَذًى وجُموحا
فدمَّرهُم طُوفان أَمْر عُقُوبةً ... مِنَ اللهِ للإِنْذار أَرْسلَ نوحا(6/31)
بصيرة فى ذكر ابراهيم عليه السلام
وإِبراهِيمُ اسمٌ أَعْجمِيٌّ، وفيه لغاتٌ: إِبْراهامُ، وإِبْراهُوم، وإِبْراهَمُ، وإِبراهُم، وإِبْراهِم، وأَبْرَهَم، وإِبْرُهُم، قال عبد المطَّلب:
عُذْت بما عاذَ به إِبْراهِمُ ... [مُسْتَقْبِلَ القبلة وهْوَ قائم]
انْفِى لِوَجْهِ القُدْسِ عانٍ راغِم ... مهما تُجَشِّمْنِى فإِنّى جاشِمُ
والجمعُ أَبارِه وأَبارِيهُ وأَبارِهة وبَراهِمُ وبَراهيمُ وبَراهمة وبِراهٌ وتصغِيرهُ بُرَيْهٌ، وقيل أُبَيْرِه، وقيل بُرَيْهِيم. وأَكثر المحقِّقين على هذا أَنَّه اسم جامدٌ غير مُشْتَقٍّ. وقال بعض المتكلِّفين، قال: إِنَّه اسمٌ مركَّب من البراءِ والبُرْء والبراءة، ومن الهَيَمانِ والوهْم والهمّة، فقالوا: برِئ من دُونِ اللهِ، فهام قَلْبُه بذكْرِ الله. وقال بعضهم: برأَ من عِلَّة الزَلَّة فهمَّ بالحُلُول فى محَلَّة الخُلَّة. وقيل بَرَأَهُ الله فى قالَبِ القُرْبَة فَهَّم بصدق النيَّةِ إِلى مَلَكوت الهِمَّة. قال بعضهم:
وكنتُ بلا وَجْدٍ أَموتُ من الهَوَى ... وهامَ عَلَىَّ القَلْبُ بالخَفَقانِ
فَلَّما أَرانِى الوَجْدُ أَنَّك حاضِرِى ... شَهِدْتُك مَوْجُوداً بكلِّ مَكانِ
وقال بعضهم: إِبْ بالسُّرْيانِيّة معناه الأَبُ، وراهيم معناه الرَّحِيم، فمعناه أَبٌ رَحِيمٌ.(6/32)
وقد ذكر الله سبحانَه إِبْراهِيمَ بالتَّعريض والتصْريح فى كتابه بخمسين اسما، منه: المُبْتَلَى بقوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} ، والمُتِمّ بقوله: {فَأَتَمَّهُنَّ} . والإِمامُ بقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} ، والمُطَهِّرُ بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} والرَّافع بقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} ، والحنِيفُ والمُسْلِمُ بقوله: {حَنِيفاً مُّسْلِماً} ، والصّالح بقوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} ، والمُطْمَئِنّ: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، والأُمَّةُ والقانِتُ: {أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} والشاكِرُ والمُجْتَبَى والمَهْدِىُّ: {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ} ، والرّائى: {رَأَى كَوْكَباً} ، والبَرِئ: {إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ، والمُتَوَجِّه إِلى الله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} ، والحَلِيمُ، والأَوّاهُ، والمُنِيبُ بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ، والمُتَبرِّئُ عَمَّا دُونَ الله بقوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ} ، والمُبَشِّرُ بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} ، والبَعْلُ والشَّيْخُ: {وهاذا بَعْلِي شَيْخاً} ، ومُبارَكٌ: {وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} ، والمُضِيفُ بقوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ / إِبْرَاهِيمَ} ، والمَذْكُور: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} ، والصّدِّيق والَّنبِىُّ: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} ، والرَّشِيدُ بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} والفَتَى بقوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} ، والوافِى: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} ، والطَّامِع بقوله: {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} ، ووارثُ الجَنَّة: {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} ، وأَبو المِلَّة: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، ومُؤَذِّنُ الحَجِّ: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ} ، وسَقِيمُ الحُبّ: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وشِيْعة الأَنبياء: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} ،(6/33)
والذاهِب إِلى الله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} ، والمُهاجرُ إِلى ربّه: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} ، ومُنادَى الحَقِّ: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم} ، والمُحْسِنُ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، والمُؤْمِنُ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} ، والمُرْسَلُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} ، والحامِدُ: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، والمَوْهُوب [لَهُ] : {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} : والخَلِيل وإِبْراهيم: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .
وذكر الله تعالى إِبْراهِيم باسمه فى بِضْعٍ وخمسين موضعا من الكتاب العزيز منها: {نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} ، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} ، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ} ، {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} ، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} ، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} ، {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} ، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} ، {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهاذا النبي والذين آمَنُواْ} ، {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة} ، {رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} ، {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} ، {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} ، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هاذا البلد آمِناً} ، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} ، {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} ، {آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} ، {بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} ،(6/34)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} ، {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} ، {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم} ، {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} ، {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} ، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} ، {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .
قالوا وكان لإِبراهيم عليه السّلام فى طريق الحقّ عشر مقاماتٍ نال بها غاية المرامات: الأَوّل مقام الطَّلَب: {هاذا رَبِّي} ، الثَّانى مقامُ الدَّعْوة: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} ، الثالث مقام الفضيلة: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، الرابع مقام الفَقْر والفاقة: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة} ، الخامِسُ مقامُ النِّعمة: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} ، السّادِس مقام المغفرة: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} ، السّابع مقام المحبَّة: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} ، الثامن مقامُ المعْرِفَة: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} ، التَّاسع مقام الهيئة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، العاشر مقام الوِراثة: {واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} ، وفى هذا المقام حصل له الاستِغناء عن الواسطة والوسِيلة فقال: حسْبِى من سُؤَاله عِلْمُه بحالى.
هاج نَسِيمُ الوصْلِ فاسْتَعَرتْ ... نارٌ إِليهِ تحسن المطْلَبا
ما ذكراى له مطَّرحا ... وغَيْره سُراىَ له مَشْربا
بيْت جمالٍ رامه مسْكَناً ... حبْل وِصالٍ راضَهُ مرْكبا
لا يبْتَغِى غَيْر رضا ربِّهِ ... لا يدَّعِى دُون الوفا مذْهبا
هذا خليل اللهِ فى غارة ... غار على الكَوْنَيْن فاسْتَغْربا(6/35)
أرسلَ طَيْر الفِكْر مُسْتَغْنيا ... عن عالمِ العِزَّة حتَّى كَبا
/جَنَّ عليه اللَّيْل فى ظلْمةٍ ... راود بدْرا ورأَى كَوْكَبا
قال المُؤرّخون؛ هاجر إِبراهيمُ عليه السّلام من العِراق إِلى الشام، وبلغ عُمْرُه مائة وخَمْسا وسبعين سنة، وقيل مائتى سنَة ودُفِن بالأَرض المُقَدَّسة، وقبره مقطوعٌ به أَنَّه فى تلك المربعة، ولا يقطع بقَبْر نبىّ وماكنه غير قبر نبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم ومكان قبر إِبراهيم عليه السّلام:
وروَيْنا فى الصّحيحين قال رُسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: اخْتَتَنَ إِبراهيمُ عليه السّلام وهو ابن ثمانِين سنة بالقَدُومِ". وفى الصّحيحين مرفوعا: "أَوّل الخلائِق يُكْسَى يوم القيامَة إِبراهيم وفى صحيح مسلم: قال صلَّى الله عليم وسلَّم: حِينَ أُسْرِىَ بِى ورأَيت إِبراهِيمَ وأَنا أَشْبَهُ وَلَدِه به" وفيه أَيضا: أَنّ رَجُلا قال للَّنبِىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يا خَيْرَ البَرِيَّة، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ذاكَ إِبراهيم". وهذا محمولٌ على التَّواضع لقَوْلِه صَلَّى الله عليه وسلَّم: "أَنا سَيّد وَلَدِ آدم". وعند البُخارِىّ عن ابن عباسِ قال: "كان آخرُ قَوْلِ إِبراهيم حين أُلْقِىَ فى النَّارِ حَسْبِىَ الله ونعْمَ الوَكيل" وفى الصّحيحين فى حديث الإِسراء ورُؤْيَته الأَنْبِياء، وَأَنَّه رأَى إِبراهيمَ فى السَّماء السّادسَة وأَنَّهُ رآه مُسْنداً ظَهْرَهُ إِلى البَيْت المَعْمُور.
ورَوَيْنا فى المُوَطَّإِ عن سَعيد بن المُسَيَّب قال: "كان إِبراهيمُ النبىّ صلى الله عليه وسلَّم أَوَّلَ النَّاس ضيّفَ الضَيْفَ، وأَوَّل النَّاس اخْتَتَن، وأَوَّل النَّاس قَصَّ شارِبَه، وأَوّل(6/36)
النَّاس رأَى الشَيْبَ. فقال يا ربّ ما هذا؟ فقال الله تعالى: وَقارٌ، فقال: يا ربّ زِدْنى وَقاراً". ورَوَيْنا فى تاريخ دمَشْق بزيادةٍ وأَوَّل من اسْتَحَدَّ وَقَّلمَ أَظفارَهُ".
أَخبرنى المُسْند المُعَمَّر الشيخ مُحْيِى الدّين أَبو زكريّا يَحْيى بن محلى بن الحَدّاد عن الشيخ أَبى زكريّا يَحْيَى النَّواوِىّ عن أَبى محمَّد بن قُدامَهَ عن أَبى حَفْص بن طَبَرْ زَدْ، عن أَبى فَتْحِ الكروخىّ، عن القاضى ابن عامرٍ، عن أَبى محمّد الجَرّاحىّ، عن أَبى العباس المحتوى، عن أَبى عيسَى التِّرْمذىّ، عن عبد الله بن أَبى زِيادٍ عن يَسارٍ، عن عبد الواحد بن زِيادٍ، عن عبد الرحمن ابن إِسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أَبِيه عن ابنِ مَسْعُودٍ رضى الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "لَقيتُ إِبْراهيمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بى فقال يا محمَّد أَقْرِئ أَمّتَك منى السّلام وأَخبرهم أَنَّ الجنَّة طيِّبَةُ التُّرْبَة، عَذْبَة الماءِ، وأَنَّها قِيعانٌ، وأَنَّ غِراسَها سُبحانَ الله، والحَمْدُ للِه، ولا إِله إِلاَّ الله، والله أَكبر". قال الترمذىّ: حديثٌ حَسَنٌ.
وفى تاريخ دمشق: وُلد إِبْراهيم بغُوطَة دِمَشْق بقرية يقال بها بَرْزَةُ هكذا فى هذه الروّاية، والصحيح أَنَّه وُلد بكوثَى من أَرض العراق بإِقْليم بابل، وإِنما نٌسب إِليه هذا للْمُقام بَبْرزَة، لأَنه صلَّى فيه لما جاء مُعيناً للوط عيله السلام.
وفى التاريخ المذكور: أَنّ أَبا إِبراهيم آزَرَ كان من أَهل حَرّان، وأَنّ أمّ إِبراهيم اسمُها بونا وقيل نونا، وأَنّ نُمْرُوذَ حَبَسَهُ سَبْعَ سنين ثم ألْقاه فى النار. وأَنَّه كان يُدْعَى أَبا الضِّيفان، وتجارته كانت فى البُرِّ، - وأَنَّ النارَ لم تَنَلْ منه إِلاّ وَثاقه لتَنْطَلق يَداهُ. ولمّا قال الله تعالى: {يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} بَرَدَت النارُ فى ذلك الوقت على أَهْلِ المَشْرِق والمَغْرِب، وأَنَّ جِبْرِيلَ مَرَّ به حين أُلْقى فى الهَواء فقال: / "يا إِبراهيمُ(6/37)
أَلَكَ حاجَة؟ فقال: أَمَّا إِلَيْك فَلاَ". وعن علىّ رضى الله عنه، أَنّ البغَال كانت تَتَناسَل وأَنَّها كانت أَسْرَعَ الدّوابِ فى نَقْلِ الحَطَبِ لنارِ إِبراهيمَ فدَعا عليها فقَطَع الله نَسْلَها. وعن الحَسَنِ البصرىّ فى قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابْتلاهُ بالكَوْكَبِ فوَجَدُه صابراً، وابْتلاهُ بالقَمَر فوَجَده صابراً، وابْتلاه بالشَّمْس فوَجَده صابِراً، ثمّ ابتلاه بالنَّار فوجده صابراً، ثمّ ابتلاه بَذْبحِ وَلَده فوجده صابراً.
وعن مجاهدٍ أَنَّ إِبراهيم وإِسْماعيل حَجَّا مَاشِيَيْن. وعنه فى قوله تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} إِكرامُهم أَنَّه خَدَمَهم بنَفْسه. وفى حديثٍ مرفوع أَنَّه كان من أَغْيَرِ النَّاس. وكان سَبَب وفاة إِبراهيم أَنَّه أَتاه مَلَكٌ فى صورة شَيْخ كبير يُضَيِّفه، وكان يأْكل كل ويُسيلُ طعامَه على لحْيَته وصدره، فقال إِبراهيم: يا عبدَ الله: ما هذا؟ قال: بلغتُ الكِبَرَ الذى يكون صاحبُه هكذا، قال وكم أَتَى عَلَيْك؟ قال مائتا سنة، - ولإِبراهيم يومئذ مائتا سنة، فكره الحياة لئلا يصير إِلى هذه الحال، فمات بلا مرض.
وقال بعض العلماء توفِّىَ إِبراهيمُ وداودُ وسليمانُ صلوات الله عليهم فَجْأَةً، وكذلك موت الصّالحين. وهو تخفيف على المؤمن المراقب.(6/38)
بصيرة فى ذكر اسماعيل بن ابراهيم الخليل
وهو اسمٌ أَعْجَمىّ كسائرِ أَسماء الأَعْلام الأَعْجَميّة، وهو أَوّل من يُسَمَّى بهذا الاسم من بنى آدَمَ، واحْتَرَزْنا بهذا القَيْد عن الملائكة فإِنّ فيهم إِسماعيل وهو أَمين الملائكة. وتَكَلَّف بعضُ النَّاس وجعل له اشتقاقاً من سَمِعَ، وتركيباً منه ومن إِيل، وهو اسمُ الله عزَّ وجَلَّ، قال: فإِنْ كان وَزْنه إِفْعاليل فمعناه: أَسْمَعَه الله أَمَرَه فقامَ به. والَّذى قال: وَزْنُه فُعاليل لأَنّ أَصله سُماعيل قال: معناه سمع من الله قولَه فأَطاعه.
وكان له عليه السّلام عَشْرُ خَصائصَ: الأَوّل أَنّ لغتَه كانت لُغَة العَرَب، وإِليه يرجع أَنْسابُهم، وكان مَرْكَزَ نُورِ النَّبىِّ المصطفَى، ووَلَدَ الخَليلِ، وجَدَّ الحَبِيب، وشَرِيكَ إِبراهيمَ فى بناء الكَعْبَة، ومُسْتَسْلماً مُنْقاداً للذَّبْح عند امتحان إِبراهيم به. واختصّ بخِلْعَة {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . ومن مفاخر قول النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أَنا ابْنُ الذَّبِيحَيْن، والثانى عَبْدُ الله بن عَبْدِ المُطَّلِب.
وقد دعاه الله فى القرآن باثْنَىْ عَشَرَ اسْماً: غُلامٌ، وعَليمٌ، وحَليمٌ، ومُسْلَمٌ، ومُسْتَسْلِمٌ {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، آمرٌ {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة} ، وصابرٌ {إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} ، مَرْضِىٌّ {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} ، صادقُ الوَعْد {كَانَ صَادِقَ الوعد} رَسُولٌ نَبِىٌّ {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} ، مَذْكُورٌ {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} .(6/39)
وذكره الله تعالى باسمه فى عشرة مواضع فى القرآن:
{وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} ، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} ، {نَعْبُدُ إلاهك وإلاه آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} ، {وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} ، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} إِلى قوله {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ، {وَإِسْمَاعِيلَ واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} ، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} ، {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ} ، {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} ، وفى صحيح البخارى: " كان النَبِىُّ يُعوّذ الحسنَ والحُسيْنَ رضى الله عنهما؛ أُعِيذُكُما بكَلِماتِ الله التامَّةِ من كُلِّ شَيْطانٍ وهامَّة، ومِنْ كُلِ عيْنٍ / لامَّةٍ، ويقول: إِنّ أَباكُما كان يُعوِّذ بها إِسماعيل وإِسحاق"، وفى البخارى: "أَن النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ على قَوْم وهم يَنْتَضِلون، فقال: "ارْمُوا بنِى إِسماعيل فإِنَّ أَباكُم كان رامِيا".
وكان أَكْبر من إِسْحاقَ، واخْتُلِف فى الذَّبيح منهما، والأَكْثَرون على أَنَّه إِسْماعِيل. وفى الصّحيح: "إِن الله اصطفَى من ولد إِبراهيم إسماعيل، واصْطفى من ولَدِ إِسماعِيل بنى كنانة، واصْطَفَى من بنِى كِنانَة قريشا، واصْطَفَى من قُريْشٍ بنِى هاشِم، واصْطفانِى من بنِى هاشم".(6/40)
وقصّة إِسماعيل وأُمِّه وزَمْزَم ذكرناها فى موْضعه من غير هذا الكتاب.
قال:
لا نَسْتَطيعُ لما قَضاهُ ربُّنا ... مِمَّا عَلَيْنا أَوْ لَنَا تَبْدِيلاَ
لِقَضائه نَبْكى ونَحْزَنُ والبُكا ... ء وحُزْنُنا لا يُغْنيانِ فَتِيلاَ
أَبْصِرْ خَلِيلَ الله جاءَ مُشاوِراً ... فى أَمْرِ رُؤْيا الذّبْحِ إِسْماعِيلاَ
فاسْتَعْصَما واسْتَسْلَمَا لِقَضائه ... وَعلَى المُهَيْمِن عَوَّلاَ تَعْوِيلاَ
طِبْ يا بُنَىَّ فلا مَرَدَّ لِحُكْمه ... واصْبرْ عليه واتَّخِذْه وَكِيلاً(6/41)
بصيرة فى ذكر اسحاق عليه السلام
هو اسمٌ أَعجمىٌّ غير منصرف للعُجْمَة والعَلَميَّة، وهى سُرْيانيَّة، وقيل: مشتقٌّ من السَّحْقِ. والإِسْحاقُ: الإِبْعاد، والسَّحْقُ: البُعْد ومَكانٌ سَحيقٌ: بَعيدٌ. والسَّحْقُ بالفتح: السَّهْل، أَو هو الدَقُّ، ومسْكٌ سَحيقٌ: مَسْحوقٌ.
وقد ذكره الله تعالى فى مواضعَ من التَّنْزِيل فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} ، وقال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} ، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} ، {عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ، {وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ} ، {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} ، {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ، وعلى قول من قال هو الذَّبِيح، يكون مُبَشّرٌ، وغُلامٌ، وعَلِيمٌ، وحَليمٌ، وصابِرٌ، وآمِرٌ، ومُسْلَمٌ، من أَسمائه عليه السّلام.
عاش مائة وثمانين سنة، وقبرُه عند قبر أَبِيه، ووُلد قبل إِسْماعيل بأَربَعةَ عَشَر سنةً. قال:
اللهُ [ربى] كافل الأَرزاقِ ... وهو الحَسيبُ لقِسْمة الأَخْلاقِ
قَسَمَ السّوائل والمآكل بَيْنَنَا ... فأَتى الخَلائقَ كُلَّهم بخَلاقِ
فالخَلْقُ من حَسَناته والرِّزْقُ منْ ... بَرَكاته والكُلأُّ باسْتحْقاقِ
عَجّل وقسّم إِنْ تَشَأ تصديقَها ... فاقْرأَ: وبارَكْنَا عَلَى إِسْحاقِ(6/42)
بصيرة فى ذكر يعقوب عليه السلام
وكان اسمه إِسرائيل، وكلاَ الاسمين أَعْجَمىٌّ غير مُنْصَرِف للعُجْمة والعلمية، هذا هو الَّذى عليه الأَكثرون. وتكلَّف بعضُهم فى القول باشتقاقهما، فقال فى إِسْرائيل إِسْر بالسّريانية: الصَّفىّ والخاصَّة، وإِيل بلغتهم: اللهُ، فمعناه صَفىُّ الله وخاصَّتُه. وقيل: أَسْرا مَعناه: الأُسْرَة، وإِيل بمعنى الآل، أَى هو نَبِىٌّ وآلُهُ وأَقارِبُه أَنْبِياءُ. وقيل: أَسْر من الأَسْر، وإِيل اسم شَيْطانٍ. وسُمِّىَ به لأَنَّه عليه السّلام كان خادماً للمَسْجد الأَقْصَى والمَسْجد الحرام على اختلافِ القولَيْن، وكان يُوقِدُ فيه السُّرُجَ للعابدين والمُصَلِّين، وكان الشيطان المسمّى إِيل مُسَلَّطاً عليها يأتيها ويُطْفئُها، فلمّا اطَّلع على ذلك يعقوبُ تَرَصَّد له وأَسَره ورَبَطه إِلى سارِيَةٍ حتى رآه الناسُ عَياناً، فقالوا أَسَرَ إِيل أَى أَسَرَ الشيطان، فخفَّفوه وقالوا أَسْر إِيل. وأَمّا يعقوبُ فإِنَّه سُمِّىَ به لأَنه كان يعقب أَوامَر الله تعالى ونَواهيَه من كتابه فيَعْمَل بها. وقيل: سُمِّىَ يعقوبَ لأَنَّه عاقَبَ شَيْطانَه المتقدّم ذكْرُه. وقيل: لأَنَّه يَعْقُبُه / ذُرِّيَّتُهُ. وقيل: لأَنَّه خرجَ من بَطْنِ أُمِّه متعلِّقا بعَقب أَخيه عيصو، وسُمِّىَ أَخوه عيصُو لأَنَّه عَصَى بالتَّقَدُّم عَلَيْه. وفى بعض الآثار القُدْسيّة أَنَّ الله تعالَى قال: لَوْ عَلمْتُ شيئاً أَبْلَغَ فى عُلُوِّ دَرَجَةٍ من الهَمِّ والحُزْنِ لابْتَلَيْتُه. وأَوْحَى الله إِليه لمّا أَكْثَر من البُكاءِ على فراقِ يوسف، يا يَعْقُوبُ هذا بُكاؤك على فِراقِ الوَلَدِ، فكيف بكاؤك على فِراقِ الوَاحِدِ الأَحَد! وقِيلَ لمَّا قَدِمَ البشيرُ على يَعْقُوبَ يُبَشِّرُه ببَقاءِ يُوسُفَ ولِقائه قال يَعْقُوب: على أَىِّ دِين تَرَكْتَه؟ قال عَلَى الإِسْلام. فقال: الآن تَمَّتِ النِّعْمة.
وكان يَعْقوبُ حَفِيدَ الخَلِيل، ووَلَدَ الذَّبِيحِ، ووالِد الصدِّيق، ومُقْدَّمَ الأَسْباط وشَيْخَهم، وجَدَّ أَنْبِياءِ بنى إِسْرائِيلَ، وابن أَخى إِسماعيل، ووارِثَ جَمالِه. واعتكف فى بيت الأَحْزان أَرْبَعِينَ سَنَةً، وقيل: سَبْعِين سنةً. واسْتَنْشَقَ ريحَ ثَوْب يوسفَ من مسافةِ ثمانين فَرْسَخاً.(6/43)
وقد ذكره الله تعالَى فى مواضِعَ من القرآن المجيد: الأَوّل فى وَصِيَّةِ الذرِّيَّة بمُحافَظَتِهم على المِلَّة {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} .
الثَّانى: فى الخَبَرِ من الحال وَقْت الترحال: {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} .
الثالث: فى موافقة الدَّعْوةِ مع أَبْناءِ النُّبُوَّة: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} .
الرّابع: نسبة الأَسباطِ إِليه للشَّرَف والمَنْزلة {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} إِلى قوله {وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ} .
الخامس: البِشَارة بوجُودِه قَبْلَ مَوْلودِه: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} .
السّادِسُ: المِنَّة على إِبراهيمَ به وبكَوْنه نافِلَةً {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} .
السّابع: إِخْلاصُه فى طَريق الدِّيانَة. {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} .
الثامِنُ: فى وَعْدِ يُوسُفَ بتَمام النِّعْمة عليه {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ}
التَّاسع: فى حُصُول المَقْصُود وقَضاءِ الحِاجَة: {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} .
قيل ثمانِيَةُ أَنْفُس ابْتُلُوا بِفراق ثمانِيَةٍ فوقعُوا بإِثْرها فى مِنْحَة أَو مِحْنَة: ابْتُلِىَ آدمُ بِفراق الجَنَّة فوقع على إِثْرها فى مِحَنِ الدُّنْيا {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} . وابْتُلِىَ نوحٌ بفراق كَنْعان فوقَع فى أَثره فى المَلامَة بسَبب شَفاعَته فيه: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} . وابْتُلِىَ يُونُس بِفراقِ القَوْمِ فَوقَع فى أَثَرِه فى ظُلْمَة البَحْرِ وظُلْمَة بَطْن الحُوت {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إلاه إِلاَّ أَنتَ} . وابْتُلِىَ سُلَيْمان بفِراق المُلْكِ فَوقَع على أَثَرِه(6/44)
فى الابْتلاءِ والمَلاَمة، لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً} . وابْتُلِىَ مُوسَى بِفراقِ أُمِّه فوقع على أَثَره فى قَبْض فِرْعَوْنَ لقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ} . وابْتُلىَ صَلَّى الله عليه وسلَّم بفراقِ مكَّة فصار على أَثَره فى دار الهِجْرة والمُهاجَرَة: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} . وابْتُلِىَ يُوسُفُ بِفراقِ أَبِيه فوقع على أَثَرِه فى بِئْر الوَحْشَة وحَبْس البَليَّة: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} . وابْتُلى يَعْقوب بِفراق يُوسُفَ فوقَع فى بَيْت الأَحْزانِ وزَاوِيَة الهُموم وتوظَّفَتْه الآلام والغُموم: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} ، ثم انتقل من زاويَة المحْنة إِلى بَسْط المِنْحَة وعالَم البُشْرَى والمَسَرَّة. قال:
وَرَدَ البَشِيرُ مُبَشِّراً بقُدُومهِ ... فمُلِئْتُ من قَوْل البَشِير سُرُورا
/واللهِ لَوْ قَنع البَشِيرُ بمُهْجَتِى ... أَعْطَيْتُه ورَأَيْتُ ذاك يَسِيرا
لَوْ قالَ هَبْ لىِ ناظِرَيْكَ لَقُلْتُهَا ... خُذْ ناظِرَىَّ فما سَأَلْتَ كَثِيرَا
وكَأَنَّنِى يَعْقُوبُ مِن فَرَحِى بِهِ ... إِذْ عادَ من شَمِّ القَمِيصِ بَصِيرا(6/45)
بصيرة فى ذكر يوسف عليه السلام
ويُثَلَّثُ سِينُه، وهو اسمٌ أَعْجَمِىٌّ غَيْر مُنْصَرِفٍ للعِلَّتَيْن. وقيل: مُشْتَقّ من الأَسَف، فيُوسف بكسر السِّين يُفْعِل من آسَفَ يُوسفُ إِذا أَحْزَنَ وأَهَمَّ وأَغْضَبَ، لأَنَّه آسَفَ أَباهُ بفِراقه. ويُوسَف بفتح السّين لأَن إِخْوته حَزَّنوه بفراق أَبِيه. وقيل: أَصله يَأسَفُ بفتح الياء والسّين، يَفْعَل من الأَسَف، لأَنه أَسِفَ فى الغُرْبة والمِلْكة. وفى بعض الآثار: لمّا أَخْرَج الله الذُرِّيَّة من ظَهْرِ آدَمَ وعَرَض عليه أَمْثال الذر، أَراه فى الطبقة السّادسة شخصاً مَهيباً من الرِّجال، على وَجْهِه بَهْجَةُ الجمال، قد تُوِّج بتاج الوَقار، وهو مُرْتَدٍ برداءِ الكَرامَة، مُتَّزِزٌ بإِزار الشَرَف، عليه قميصُ البَهاءِ، وفى يَدِه قضيبُ المُلْكِ، وعلى يَمِينه سبعون أَلْفَ مَلك، وعلى يساره هكذا، وخَلْفَه أُممٌ الأَنْبِياءِ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح، وبين يَدَيْه شَجَر السَّعادة يَدُور معه حَيْثما دارَ. فقال آدمُ يا ربّ مَنْ هذا الَّذى أَبَحْت له بحبوحَةَ الكَرامة، وأَنْزَلْته هذه الدّرجةَ العالية؟ قال الله تعالى: هذا ابْنك المَحْسُود من إِخْوَته؛ يا آدَمُ انْحَلْهُ وسَمِّه، فنَحَلَه ثُلُثَىْ جَمالِ أَوْلاده، وضَمَّه إِلى صَدْره، وقَبَّل ما بَيْن عَيْنَيْه وقال: يا بنىّ لا تَأسَف [فأَنت يوسف] ، فأَوّل من سَمّاه بهذا الاسْم آدَمُ. وقيل إِنَّ يُوسُفَ ورث الجَمالَ من إِسحاقَ، وإِسحاقَ وَرِثَهُ من أُمِّه سَارة، وسارة وَرِثَتْ من أُمِّها حَوّاء.(6/46)
وقال كَعْبٌ. قُسّم الجمالُ عَشَرَة أَجْزاء، تسعةٌ منها ليُوسُف وواحدٌ لجميع أَولاد آدم. وقال النبىّ صلَّى الله عليه وسلم: "رَأَيْت يُوسف لَيْلَة أسْرىَ بى فى السَّماءِ الرّابعَة، فقيل: كيف رَأَيْتَه يا رسولَ الله؟ فقال: كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْر"، وقال: أُعْطِىَ يُوسُف وأُمُّهُ شَطْرَ الحُسْنِ. وقال: جاءنى جِبْريلُ وقال: "يا مُحَمّد إِنَّ الله تعالَى أَلْبَس يُوسُفَ الجَمالَ من نورِ الكرْسىِّ وأَلْبَسَكَ جَمالَك من نور الْعَرْش" ولَمَّا قرأَ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبّ إِلَىَّ ممّا يَدْعُونَنى إِلَيْه} قال: "رَحم الله أَخى يُوسُفَ هَلاّ سَأَل الله العَفْوَ والعافيَة" ولمّا قرأَ قوله {فَاسْأَلْهُ ما بالُ النِّسْوَة اللاّتى} قال: "رحم الله يُوسُفَ لَوْ كنْتُ أَنَا لبادَرْت البابَ" قال:
إِذا ما أَتاكَ الدَّهْرُ يَوْماً بنَكْبَةٍ ... وأَصْبَحْتَ منها فى حُزون من الحُزْنِ
فلا تَيْأَسَنْ فالله مَلَّك يُوسُفاً ... خَزائنَه بعد الخَلالص من السِّجْن
فرّقت قصص الأَنبياء فى القرآن، وجَمَعَ الله قصّتَه جميعها فى سورة واحدة، وسمّاه فى هذه السّورة بثلاثةٍ وثلاثين اسْماً: المُجْتَبَى: {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} ، والمُعَلَّم: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} ، غلامٌ: {يابشرى هاذا غُلاَمٌ} ، مُكرَمٌ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} ، نافعٌ: {عسى أَن يَنفَعَنَآ} ، وَلَد: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ، مُخْلَصٌ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} ، مُحْسِنٌ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} ، راءٍ: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، فَتًى: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} ، أَحَبّ: {وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} ، مَلَكٌ كَرِيمٌ: {إِنْ هاذآ / إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} ،(6/47)
مُسْتَعْصِمٌ: {فاستعصم} ، صِدِّيقٌ: {أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} ، مُسْتَخْلَص {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ، حَفيظٌ وعَليمٌ: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، أَمينٌ ومَكِينٌ: {لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ، مُمَكَّنٌ: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} ، مُرْسَلٌ: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} ، رَسُولٌ: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ} ، إِلى قوله: {رَسُولاً} ، أَخٌ: {إني أَنَاْ أَخُوكَ} ، زَعِيمٌ: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} ، عَلِيمٌ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، رَفِيعٌ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} ، رافِعٌ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} ، عَزِيزٌ: {ياأيها العزيز} ، مُتَصَدِّقٌ: {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} ، تَقِىٌّ وصابِرٌ: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ} ، صالِحٌ ومُسْلِمٌ: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} .
وذكره تعالى باسْمِه فى خمسةٍ وعشرين موضعاً من التَّنْزِيل:
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} ، {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} ، {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا} ، {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه} ، {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} ، {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} ، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا} ، {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} ، {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً} ، إِلى قوله: {وَيُوسُفَ} ، {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هاذا} ، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} ، {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ، {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} ،(6/48)
{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} ، {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ} ، {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} ، {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا} ، {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} ، {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} ، {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ، {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ} ، {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} ، {قالوا أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} ، {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} .
مَحَنَهُ الله تعالى بعَشْرِ مِحَنٍ، وكافأَه بعَشْرِ مِنَحٍ: الأَوَّل بِفراقِ أَبِيهِ، وختم بمَسَّرةِ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} ، وابْتُلِىَ بجَفاءٍ الإِخْوة وخَتم بمَسَرَّةِ: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} ، وابْتُلِىَ بوَحْشَةِ الجُبِّ، وجُوزِىَ بفَرْحَة: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هاذا} ، وابْتُلِىَ بمَلكَة عَزِيزِ مِصْرَ وكُوفئ بمَلِكَة أَهْلِ مِصْرَ قاطِبَة: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} ، وابتُلِىَ بقَصْدِ زليخا، ونجا بشهادة طِفْلٍ لم يَنْطق بعدُ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} ، وابْتُلِىَ بِحيلَة نِساءِ مِصْرَ، وخُتِمَ ببراءتِه وقَوْلهنّ: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} ، وابْتُلِىَ بدَعْوة الشَّيْطان، وصِينَ بِعصْمَة الرّحْمان: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء} ، وابْتُلِىَ بالسّجن والحَبْسِ، وكُوفئ بالمُلْكِ والسَّلْطَنَة: {ياأيها العزيز} ، وابْتُلِىَ بالزُّورِ والبُهْتان وصار ذلك أَظْهَر من كلّ عَيانٍ: {الآن حَصْحَصَ الحق} ، وابْتُلِىَ بالمالِ والمُلْكِ واتِّساع الدّنيا، وأُبْعِد عنه ضَرُّها بولاية المَوْلَى فى الآخِرَة والأُولَى: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة} .(6/49)
قال:
كَمْ نِعْمَةٍ مَسْتُورَة فى الظَّلام ... كَمْ نِعْمَةٍ مغمورَة فى الكَلامْ
آدَمُ فى الجَنَّة نالَ النَّوَى ... ونالَ فى الطُّوفان نُوحٌ سَلامْ
يَعْقُوبُ قد عُوقِبَ فى هَجْره ... بَيْتَ أَحزان رَهِين اغْتمام
ثم ابنه قد صُرّ من بئره ... فقيل يا بُشْرَى هذا غلام(6/50)
بصيرة فى ذكر ادريس عليه السلام
واسمه بالسّريانية خنوخ ويُقال أَخْنوخ، ومعناه كثير العِبادة - وأَمّا إِدريس فاسمٌ أَعجمىٌّ غير مُنْصَرِف. وقيل: مشتق من الدّرْس والدّراسة بمعنى القِراءة، سمّى به لكثرة ما دَرَس من كُتب الله عزَّ وجلّ، فإِنَّه كان يحفظ صُحُفَ آدم وصُحُفَ شِيثٍ / على ظَهْرِ قَلْبه، وكانت صحفُ آدَمَ واحداً وخمسين صحيفةً، وصحفُ شيثٍ عِشْرِينَ، وصحفهُ خاصّة ثلاثين، وكان يفحظ الجميع ويُدَرِّسه.
قال النَّبِىُّ صلَّى الله عليه وسلم: "ما اجْتَمَع قَوْمٌ فى مَسْجِدٍ من مَساجِدِ اللهِ يَتْلُون كتابَ اللهِ ويَتدارَسُونَه إِلاَّ نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَة وغَشِيَتْهُم الرَّحْمَة، وذَكَرَهُم الله فِيمَن عِنْدَه".
قال:
العِلْمُ أَنْفَسُ عِلْقٍ أَنْتَ ذاخِرُهُ ... مَنْ يَدْرُس العِلْم لم تَدْرُس مَفاخِرُهُ
فاجْهَدْ لِتَعْلَمَ ما أَصْبَحْتَ تَجْهَلُه ... فأَوَّلُ العِلْمِ إِقْبالٌ وآخِرُهُ
وكان إِدْرِيسُ أَوَّلَ من خَطَّ، وأَوّلَ من خاطَ، وأَوّلَ من أَخَبْرَ عن عِلْم الهَيْئَة والحِساب وأَحْكام النُّجُوم وتأْثِير الكواكب بالتَّأْييد السَّماوىّ والمدد الرّبّانىّ، رفع الله عنه بدُعائه إِحساسَ حَرارَة الشمْسِ، وعَبَدَ الله حتَّى تمنَّت الملائكةُ المقَرَّبون صُحْبته.
ودعاه الله فى التَّنْزيل باثْنَىْ عَشَر اسْما: السَّاجِدُ، والباكِى {خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} مُجْتَبًى ومَهْدِىٌّ {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ} ، رفَيعُ الشَّأْن عَلِىُّ المَكان {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} . صالحُ {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} ، صابِرٌ {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} ، صِدِّيقٌ ونَبىٌّ(6/51)
{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} ، مَذْكُور وإِدْرِيسُ {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} .
وذكره باسمه فى موضعين:
{وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} ، {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} .
أَنْشَدنا بعضهم:
اصْدُق ولا تأْتِ قَطُّ تَلْبِيسا ... ولا يَرَى اللهُ مِنْكَ تَدْلِيسا
إِدْرِيس فى عِلْمِه وحِكمَته ... بالأَنْجُمِ الزُّهْرِ كان نِقْرِيسَا
مَكانُه عزَّ مِنْ مَكانَتهِ ... أَنْزَلَه صِدْقُه الفَرادِيسا
وآيةُ إِجْلالِه وعِزَّتهِ ... فى "واذْكُرْ فى الكتابِ إِدْرِيسَا"(6/52)
بصيرة فى ذكر يونس عليه السلام
وفيه ثلاثُ لُغاتٍ: ضَمُّ نُونِه وفَتْحهُ وكَسْرُه، وهو اسمُ علمٍ أَعجمىّ ممتنع من الصَّرْف، وقيل: مُشْتَقٌ وَزْنُه يُفْعِل من آنَس يُؤْنِسُ إِيناساً بمعنى أَبْصَر، قال الله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} ، وقيلَ من الأُنْسِ ضدّ الوَحْشة، سُمِّىَ بِه لأُنْسِهِ بطاعةِ الله، أَو لأَنَّه أَبصر رُشْدَه فى العبادة. قيل: أَوْحَى الله تعالى إِلى يُوْنُسَ أَنْ قُلْ لأُمَّتِكَ قولُوا لا إِله إِلاَّ الله ثم اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.
وقال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تُفَضِّلُونى على يُونُسَ بنِ مَتّى" وقال: مَنْ قال أَنا خَيْرٌ من يُونُسَ بنِ مَتّى فَقَدْ كَذَب".
ودعاه الله تعالَى فى القُرْآن بأَحَدَ عشر لَقباً: ذوُ النُّونِ ومُغاضِبٌ فقال {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} ، ومُنادِى الحَقّ {فنادى فِي الظلمات} ، ومُسْتَجابُ الدَّعْوة {فاستجبنا لَهُ} والمُنَجَّى {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} ، والمُرْسَل {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} والآبِقُ إِلى الحَقِّ {إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون} ، والمُدْحَضُ {فَكَانَ مِنَ المدحضين} ، مُلِيمٌ {وَهُوَ مُلِيمٌ} ، مُسَبِّحٌ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ} ، صاحِبُ الحُوت {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} ، مَكْظُومٌ {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، مُجْتَبَى وصالِح {فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} .(6/53)
وذكره الله تعالى باسمه فى مواضع من التَّنْزيل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} . {فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} ، {وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} . ويُرْوَى أَنَّه لَمَّا الْتَهمَهُ الحُوتُ جعل يُسَبِّح الله تعالى فى بَطْنِه فقالت ملائكة السَّماءِ يا رَبَّنا إِنَّا نَسْمَع صوتَ عبدِ معروفٍ من مكانٍ مَجْهولٍ، فقال الله تعالَى: ذاك صوتُ عَبْدِى يونُس قَنَّط عبادى / من رَحْمَتِى فأَوْقَعْتُه فى ظُلْمة البحر وبَطْن الحوت. وكان يُونُس يَنُوحُ على نفسه فى جَوْف الحوت ويقول: إِلهِى من الجِبال انْزَلْتَنِى، ومن بين العِباد أَخْرَجْتَنِى، وفى البحار صَيَّرْتَنِى، وفى بَطْنِ الحُوتِ حَبَسْتَنِى، وبشُؤْم الزَلَّةِ ابْتَلَيْتَنِى، فلو نَجَّيْتَنِى من سِجْنِك لأَعْبُدَنَّك عِبادَةً لم يَعْبُدْك أَحَدٌ من العالمين، {لاَّ إلاه إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} .
قال:
آثَرَ اللهُ فارْضَ بالقُوتِ ... لا تَسَخَّطْ قَضاءَ مَوْقُوتِ
إنَّما الصَّبْرُ والرِّضَا عَقدا ... عِقْدَيْن من لُؤْلُؤٍ ويَاقُوتِ
أَخُور الرِّضا صائرٌ إِلى مِقَةٍ ... وصاحِبُ السُّخْط شَرُّ مَمْقُوتِ
قيلَ لصَدْر الأَنامِ ارْضَ ولا ... تكُنْ جَزُوعا كصاحِب الحُوتِ(6/54)
بصيرة فى ذكر لوط عليه السلام
وهو اسم أَعجمىّ مقال نُوح يجوز صرْفُه، وهو أَوّل من سُمّى بهذا الاسم، وهو لُوطُ ابن هارون بن تارَح ويقال تِيرَح، وهو ابن أَخى إِبراهيمَ الخليل عليه السّلام.
وقد ذكره الله فى القرآن بعَشَرَة أَسماءِ: النَّاجِى {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} ، الشَّاكر {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} ، نَذِيرٌ {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} ، مُنْذِرٌ {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} مُرْسَل {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} ، الأَخُ {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} ، رَسُولٌ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، مُتَطَهِّر {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .
ودعاه باسمه فى عَشَرة مَواضِعَ من القرآن: {وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا} ، {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ، {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} ، {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} ، {جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ} ، {يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} ، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} ، {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} .
خرج لوطٌ من أَرض عراق مع عمّه إِبراهيم تابِعاً له على دِينه مهاجِراً إِلى الشَّام،(6/55)
ومعهما سارة امرأةُ إِبراهيم، وخرج معها آزَرُ أَبو إِبراهيم مخالِفاً لإِبْراهِيم فى دينه، مُقِيما على كُفْره، حتَّى وصلوا حَرَّانَ، فمات آزرُ ومضى إِبراهيم ولُوطٌ وسارة إِلى الشَّام، ثمّ مَضَوْا إِلى مِصرَ ثمّ رجعوا إِلى الشَّام، فنزل إِبراهيم فلسطين، ونزل لوطٌ الأُرْدُنَّ، فأَرسله الله تعالى إِلى أَهْلِ سَدُومَ وما بينهما، وكانوا كُفَّاراً يَأْتونَ الفَواحِشَ، ومنها إِتْيانُ الذُكْرانِ ما سَبَقَهم بها من أَحَدٍ من العالَمِين، ويَتضارَطُون فى مجالسهم، فلمّا طال تمادِيهم فى غَيّهم ولم يَنْزَجِروا دعَا عليهم لُوطٌ وقال: {رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} فأَجاب الله دُعاءَه وبعث جبريلَ وميكائيلَ وإِسرافيل عليهم السّلام لإِهلاكهم وبِشارَة إِبْراهيم بالوَلَد، فأَقبلوا فى صورة رِجالٍ مُرْدٍ حِسانٍ، فنزلوا على إِبراهيم ضيفاناً وبَشَّروه بإِسحاق ويعقوب. ولمّا جاء آلَ لُوطٍ العذاب فى السَّحر اقتلع جبريلُ قَرَياتِ لُوطٍ الأَربع، فى كلّ قرية مائة أَلف، ورفعهنَّ على جَناحه بين السَّماءِ والأَرض حتى سمع أَهلُ الدّنيا نُباحَ كِلابِهم وصِياحَ دِيَكَتِهِنَ ثمّ قَلَبَهُنَّ فجعل عالِيَها سافِلَها وذلك قوله تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} . وهلكت امرأَة لوط مع الهالِكين.
قال أَبو بكر بن عَيّاش: استَغْنَتْ رِجالُهم بِرجالهم، ونِساؤهم بِنسائهم، فكان عليهم من العذاب ما كان. قال بعضهم:
طَهِّرْ فُؤادكَ واحْتَضِنْه مَحُوطَا ... لا تَمْنَحَنْه قَساوَةً وقُنوطَا
/إِنَّ الَّذِين اسْتَبْدَلوا مِنء طَيِّب ... خُبْثاً رَأَوْا فى إِثْر ذاكَ حُبُوطَا
بحِجارة مَنْظُودَة مَوْسُومَة ... اللهُ أَمْطَرَها فشَدَّ سُقُوطَا
جُعِلَتْ أَعالى دراهمْ كأَسافِلٍ ... وأَبادَ خَضْراهُم ونَجَّى لُوطَا(6/56)
بصيرة فى ذكر شعيب عليه السلام
وهو شُعَيْبُ بن يَصْهُر، قال عطاءٌ وغيره: هو شُعيْبُ بن ميكيل بن يَشْجُر بن مدْين ابن إِبْراهِيم الخليل. وكان يُقال لشُعيْبٍ خَطِيب الأَنْبياء، وكان رسولاً إِلى أَهل مَدْين أَصحاب الأَيْكَة، وكان كثير الصّلاة والعِبادة، وكان عذاب قَوْمه بالنَّار، وكان عصى مُوسى تَذْكِرةً منه إِلَيْه. وقد ذكره الله تعالى فى مواضع من التَّنْزيل، ودعاه بأَربعة عشَر اسْما: مُرْسَلٌ {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين} ، أَخٌ {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ، رسُولٌ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، أَبٌ وشَيخٌ كبيرٌ {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، صادِقٌ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ، صالِحٌ {إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، خائفٌ {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} ، حلِيمٌ ورشِيدٌ: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} ، مُتَوَكِّل ومُنِيبٌ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
وذكره باسمه فى مواضع: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} ؛ {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب} {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً} ، {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين} ، {ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ} ، {ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} ، {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} .(6/57)
ولم يكن فى الأَنبياء بعد نبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلم أَفصح ولا أَبْلَغَ من شعيب. قرأَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قِصَّته فى سورة وما كان مِنْه ومن قومه وتأَمّل فى أَلفاظ تَذْكِيرِه لِقَوْمه فقال: "رحِم الله أَخِى شعيْباً، ذاك خَطِيب الأَنْبياء، كان يُحْسِن مراجعة قَوْمه".
قال بعضهم:
أَصاحِ انَّ الفَصاحةَ خَيْر خِلِّ ... تُكُلِّفَ حَوْلَها سَيْفٌ وسَيْبُ
فما فِى مُبْتَداهُ عُمْرُ وَعْىٍ ... وما فى المنْتَهَى شَكٌّ ورَيْبُ
حديثٌ جاءنا حسنٌ صحِيحٌ ... رَواه عن الرَّسولِ لنا خُبَيْبُ
فقال لقَوْلِه لمَّا تَلاهُ ... خَطِيبُ الأَنْبياء أَخِى شُعَيْبُ(6/58)
بصيرة فى ذكر أيوب عليه السلام
وأَيّوبُ اسمٌ أَعجمىّ غير منصرف كسائر نظائره، وقيل: عربىٌّ معناه الرّجاع إِلى الحقِّ فى جميع أَحواله من المِحْنَة والبلاء، والمِنْحة والرَّخاء، مِنْ آبَ يَؤُوبُ أَوْباً وإِياباً، فهو آيِبٌ وأَوَّابٌ. وقيل: هو فى اللَّغة العبرية معناه أَيضا الرَّجَّاع إِلى الله فى كُلِّ حال. وروينا فى الصّحيحين عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "بيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِل عُرْياناً خَرَّ عليه رِجْلُ جَرادٍ من ذَهبٍ، فجعل يَحْثِى فى ثَوْبه، فناداه ربُّه: يا أَيّوبُ أَلَمْ أَكنْ أَغْنَيْتك عمّا تَرى؟ قال بلَى يا ربِّ ولكن لا غِنَى لِى عن بركَتك": ويُرْوى أَنَّ أَيّوب ناجَى ربَّه وقال: إلهى ما رأَيتَ عُرْياناً إِلاَّ أَلْبَسْتَه، ولا جائعاً [إِلا] أَشْبعْتَه، فَلِمَ ابْتَلَيْتَنى؟ فنُودِىَ صدقْتَ، ولكنَّك لو أَصْبحْتَ أسيراً فى يدِ عبْدٍ من عبيدى يُحكِّم فيك ما يُرِيد لأَصْبحْتَ فى بلاءٍ أَشَدَّ مِنْ هذا، ولكنَّك أَصبحت فى يدِى وأَنا أَرحمُ الرّاحمين. وقيل: لمّا اشتدّ البلاءُ بأَيّوب قِيل له لَوْ دعوْتَ الله حتَّى يَشْفِيك! فقال: قد أَتَى علَىّ فى الرّخاء سبعون، لأَصْبِرنَّ إِلى أَنْ يأتِىَ علىّ فى البلاء سبْعون، فإِن زاد البلاءُ على الرّخاء، فحينئذ أَدْعُو ربّى. وقيل: لَمَّا قَدّم أَيّوبُ فى البلاء جِسْمه قَدَّم الله فى الثَّناءِ اسْمه، إِشارة إِلى أَنّ أَسماء جمِيع الأَنبياء فى / أَثناء قِصصِهم واسْمُ أَيُّوب فى صدْرِ قِصّته.
وقد دعاه الله تعالى فى القرآن بأسماء: صابِرٌ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد} ، أَوّابٌ: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} مُنادى: {إِذْ نادى رَبَّهُ} ، وهو أَوّلُ من دعا الله بأْرَحَمِ الرّاحِمِين.
وذكره الله تعالى باسمه فى كتابه العزيز قال تعالى: {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً} إِلى قوله: {وَأَيُّوبَ} ، {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} ، {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ} ،(6/59)
ويُرْوَى أَنَّ الله تعالى أَوْحى إِلى أَيّوب بأَنَّ هذا البلاء قد اختاره سبعون نبيًّا قَبْلَك، فما اخترتُه إِلاَّ لك، فلمّا أَراد الله كَشْفَه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} حتَّى زال عنه ما اختاره الله له. قال بعضهم:
اسْتَصْحِبِ الصَّبْر يوْماً ظَلُّ منْكوبا ... إِنْ كنتَ ذا قدْرةٍ أَو كنْت مغْلوباً
الصَّبْرُ لِلْفَرج المَرْجُوِّ مُنْعَرَجٌ ... الصَّبْرُ صَبْرٌ أَمَرّ المُرِّ مَقْلوبَا
يَعْقوبُ فى أَسَفٍ يَرْثِى لِصاحِبِه ... فالصَّبْر جاء بِه أَعْطاه يَعْقوبَا
أَيُّوب فى صَبْرِه يَشْكو مَضَرَّتَهُ ... أَشْفَى عليه الشفا فانْتابَ أَيُّوبَا
وكان أَيّوبُ ببلاد حَوْران من الشَّام، وقبره فى قرية بقرْب نَوَى، عليه مَشْهَدٌ ومَسْجِد وقريةٌ موقوفةٌ على مصالحه، وعينٌ جارية فيها قَدَمٌ فى حَجَرِ يقولون إِنَّه أَثَرُ قَدَمه، والناس يغتسلون من العَيْن ويشربون متبرّكين، ويقولون إِنَّها المذكورة فى القرآن، وهناك صخرة عليها مَشْهَدٌ يقولون إِنَّه كان يستند إِليها.(6/60)
بصيرة فى ذكر موسى عليه السلام
وموسى اسمٌ مُعَرَّبٌ أَصله مُوشا، ومُو بالعِبْرِيَّة الماء، وشا الشَّجَر، سمّى به لأَنَّه وجد فى الماء والشجر الذى كان حول قصر فرعون فى عين الشمس، وهى موضع معروفٌ بمصر لا يَنْبُت شجر البَلَسان إِلاَّ فيه. قيل: سُئِل النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما بَال الله أَكْثَرَ ذِكْرَ موسى فى القرآن؟ فقال: لأَنَّ الله يُحِبُّه، ومنْ أَحبَّ شَيْئاً أَكثر ذِكْرَه. قال كعبٌ: سَمِع موسى كلام الله يوم الطُّور غير ما سمِعه قبل ذلك، فقال موسى: يا ربّ وكيف هذا؟ قال الله تعالى: إنما كلَّمتك على قَدْر طاقَتِك، ولو كلَّمتك أَشدَّ من هذا لَذُبْتَ.
وقد دعاه الله تعالى فى القرآن بخمسين اسْما تصريحاً وتعريضاً، هادِى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} ، دَاعِى: {ادع لَنَا رَبَّكَ} ، نَاجِى: {وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ} ، ساقى: {وَإِذِ استسقى موسى} ، نَاسِى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} ، صادقٌ: {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} ، صاعِقٌ: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} ، مُصْطَفَى: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس} ، شاكِرٌ: {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} ، صَابِرٌ: {إِن شَآءَ الله صَابِراً} ، آمِرٌ: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} ، غَضْبانُ وأَسِفٌ: {إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} ، مَذْكُور: {واذكر فِي الكتاب موسى} ، مُخْلَص: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} ، رَسُولٌ ونَبِىٌّ: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} ، مُنادى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} ، مُقَرَّبٌ ونَجِىٌّ: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، مُختارٌ: {وَأَنَا اخترتك} ، مُسْتمِع: {فاستمع لِمَا يوحى} ، مُسَبِّح: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً}(6/61)
مَحْبُوبٌ: {عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} ، مُصْطَنَع الحقّ: {واصطنعتك لِنَفْسِي} ، قُرَّةُ عين: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} ، {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} ، أَعْلَى: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} ، كَبِيرٌ: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} ، مُسْتَعْجل: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} ، رَسُولٌ كريمٌ: {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} ، مُرْسَلٌ: {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} ، ولِيدٌ: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} ، لابِثٌ: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} ، مُبَرَّأٌ: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا / قَالُواْ} ، مُبارَكٌ: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} ، وَجِيهٌ: {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} ، بالِغٌ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ، ظَهيرٌ: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} ، خائفٌ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً} ، فَقِيرٌ: {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، قَوِىٌّ وأَمينٌ: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} ، أَجير: {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ، قاضى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} ، مُقْبِل: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} ، آمِنٌ: {إِنَّكَ مِنَ الآمنين} ، مَنْصُورٌ: {وَنَصَرْنَاهُمْ} ، غالِبٌ: {فَكَانُواْ هُمُ الغالبين} ، مَهْدِىٌّ: {وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم} ، مُحْسِنٌ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، مُؤْمِنٌ: {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} ، رَجُلٌ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} .
وذكره الله تعالى فى القرآن باسْمه فى مائة وثلاثين موضعاً، منها: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى} ، {آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} ، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى} ، {وَقَالَ موسى يافرعون} ،(6/62)
{وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} ، {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ} ، {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} ، {ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ} ، {ياموسى اجعل لَّنَآ إلاها} ، {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني} ، {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا} ، {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} ، {ياموسى إِنِّي اصطفيتك} ، {واتخذ قَوْمُ موسى} إِلى قوله: {جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} ، {رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ} ، {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} ، {واختار موسى قَوْمَهُ} ، {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} ، {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ} ، {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ} ، {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ} إِلى قوله: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} ، {وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} ، {آتَيْنَا موسى تِسْعَ} ، {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} ، {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} ، {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ} ، {واذكر فِي الكتاب موسى} ، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} ، {نُودِيَ ياموسى} ، {أَلْقِهَا ياموسى} ، {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} ، {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} ، {جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} ، {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} ، {قَالَ لَهُمْ موسى} ، {ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} ، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} ، {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} ، {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} ، {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} ، {هاذآ إلاهكم وإلاه موسى} ، {وَأَنجَيْنَا(6/63)
موسى} ، {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} ، {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} ، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى} ، {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} ، {قَالَ لَهُ موسى} ، {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} ، {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} ، {ياموسى إني أَنَا الله} ، {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى} ، {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} ، {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} ، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} ، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} ، {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى} .
قيل لمّا سأَل موسى الرّؤية أَتاه من كلّ سماءٍ سبعون أَلف مَلَكٍ، وبيد كلّ واحد شعلة نار، ويقولون يا ابن النِّساء الُحيَّضِ، أَتطمع فى رؤية ربِّ العزَّة؟! وقال السُّدّىُّ لمّا قال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} أَحفّ الله الطور نيراناً، وأَحفَّ النيران ملائكةً، وأَحفَّ الملائكة بالبرْق، والبرْقَ بالظُّلْمة، والظُّلمة بالزَّلْزلَة، ونُودِى لَنْ تَرانِى.
وقال وهبٌ وابن إِسحاق: لمّا سأَل موسى الرّؤية أَرسل الله تعالى الضَّباب / والصّواعق والظُّلمة والرَّعْد والبَرْقَ وأَحاطَتْ بالجبل الذى عليه موسى أَربعة فراسخ من كلّ جانبٍ، وأَمر الله تعالَى ملائكة السَّماوات أَن يُعْرَضوا عليه، فمرّت به ملائكة السّماء الدّنيا كثيران البقر تتابع أَفواههم التسبيح والتَّقديس بأَصوات عظيمة كصوت الرّعد الشديد، ثم أَمر الله تعالى ملائكة السّماء الثانية أَن اهبطوا على مُوسى فاعترضوا عليه، فهَبطُوا عليه أَمْثال الأُسُودِ لهم لَجَبٌ بالتَّسبيح والتَّقديس، ففَزِع العبْدُ الضَّعِيفُ ممّا رأَى وسمِع، واقشعرّت كلّ شعرة(6/64)
فى رأْسِه وجسده، ثم قال: لقد نَدِمْت على مسْألتِى، فهل يُنْجِيِنى من مكانى الَّذى أَنا فيه شئ؟ فقال له خير الملائكة ورئيسهم: يا موسى اصْبِرْ لما سأَلت، فقليلٌ من كثير ما رأَيت. ثمّ أَمر الله تعالى ملائكة السّماء الثَّالثة، أَن اهبطوا على مُوسى واعترضوا عليه فَهَبطُوا أَمثال النُّسورِ لهم قَصْف ورجْفٌ ولَجبٌ شَدِيدٌ، وأَفواههم تتابُع التسبيح والتقديس كلَجَبِ الجيْش العظيم، أَلوانهم كلَهَب النَّار، ففزع موسى واشتدَّ نَفَسُه وأَيِس من الحياة، فقال له خير الملائكة: مكانَك يا ابْنَ عِمْرانَ حتى ترى ما لا تَصْبِرُ عليه. ثمّ أَمر الله تعالى ملائكة السّماء الرّابعة أَن اهْبِطوا على موسى فاعْتَرِضوا عليه، فهبطوا وكان لا يشبههم شئ من الذين مرّوا به قبلهم، أَلوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثَلْجِ الأَبيض، أَصواتُهم عالية بالتسبيح والتَّقْديس، لا يُقاربهم شئ من أَصوات الَّذين مرُّوا به قبلهم، فاصطكت رُكْبتاه وأُرْعِد قلبُه، واشتدّ بُكاؤه، فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا بْنَ عِمْران اصبر لما سأَلت، فقليل من كثير ما رأَيت. ثمّ أَمر الله تعالى ملائكة السّماءِ الخامسة أَنِ اهبطوا فاعترِضوا على موسى، فهَبطوا عليه لهم سبعةُ أَلوان فلم يستطع موسى أَن يُتْبِعهم بصره، لم ير مثلَهم ولم يسمع مثل أَصواتهم، فامتلأَ جوفُه خوفا، واشتدّ حزنه وكثر بكاؤه، فقال له خير الملائكة ورأسهم: يا بن عِمْران اصبر حتى تَرى بعض مالا تصبر عليه، ثمّ أَمر الله ملائكة السّماء السادسة أَن اهْبِطوا على عبدى الَّذى طلب يرانى فاعترِضُوا عليه، فهبطوا عليه فى يد كلّ ملَكٍ منهم مثل النَّخلة الطَّويلة ناراً أَشدّ ضوءًا من الشمس ولِباسُهم كلَهَبِ النار، إِذا سبحوا وقَدّسوا جاوبهم من مكان قبلهم من ملائكة السّماوات كلّهم يقولون بشدّة أَصواتهم سبّوح قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والرُّوح، ربُّ العِزَّة أَبداً لا يمُوت، فى رأس كلّ ملَكٍ منهم أَربعةُ أَوْجُه. فلمّا رآهم موسى، رفع صوته يسبّح معهم حين سبّحوا وهو يبْكى ويقول: ربّ اذكُرْنى ولا تَنْس عبْدك، لا أَدرى أَنْفَلِتُ ممّا فيه أَم لا؟ إِن خَرَجْت احْتَرقْت، وإِن مكَثْت مِتُّ! فقال له خير الملائكة ورأسهم: اسكت يا بنَ عِمْران: [أَوْشك] أَنْ يشتدّ خَوْفُك وينخلع قَلْبُك فاصبر(6/65)
للذى سأَلت. ثم أَمر الله تعالى أَن يحمل عرشه فى ملائكة السَّماء السّابعة، فلمّا بدا نورُ العِزَّة انفرج الجبل من عظمة الرّب تعالَى، ورفعت ملائكة السماوات أَصواتَهم جميعاً يقولون: سبحان المِلك القُدُّوسُ ربُّ العِزَّة أَبداً لا يمُوت، بشدّة أَصواتهم، فارتجَّ الجبل، وانْدَكَّ. كُلّ شجرة كانت فيه / وخَرَّ العبد الضَّعيف موسى صعِقاً على وجْهِه وليس معه رُوحه، فأَرسل الله تعالى برحْمتَه الرُّوح فتَغَشّاه، وقَلَب عليه الحجر الَّذى كان عليه موسى وجعله كهَيْئة القُبَّة لئلاّ يحْتَرِق موسى، فأَقامه الرُّوح مثل الأُمّ، فقام موسى يسبِّحُ الله تعالى ويقول: بِكَ آمنت ربِّى وصدَّقْتُ أَنَّه لا يراك أَحدٌ فيَحْيا، ومن نظر إِلى ملائكتك انْخَلَع قلبُه، فما أَعظَمكَ وأَعْظَم ملائكتك، أَنت ربُّ الأَرْباب وإِله الآلهة، ومَلِكُ المُلوك، لا يعْدِلُك شئٌ، ولا يقُوم لك شئٌ، ربِّ تُبْتُ إِليك، الحمدُ لَكَ لا شريك لَكَ، ما أَعْظَمك وما أَجلَّك ربُّ العالمين. أَنشد بعض الأَدباء:
لِلْحُبّ نورٌ مُنَوّرْ ... فى عَرْصة الجِنانِ
للَّذِكر حُسْنُ أُنْسٍ ... يُنْسِى جَنَى الجِنان
الحُبُّ فى كَمالٍ ... والحُبُّ فى جمالٍ
أَضحى أَخا كَلالٍ ... عن وصفه لِسانى
الشَّوْق فى الْتِهابِ ... والدَّمْع فى انْسِكابِ
السِرُّ فى اضْطراب ... يَنْبُو عن البَيان
فيهم لَقِيتُ كَرْبا ... حتىّ انْتَشَيْت شرباً
ثمّ اشْتَهَيْت قرْباً ... من سُكْرٍ اعْترانىِ
نادَيْت يا حَبِيبِى ... ارحَمْ عَلا نحيبى
اسْمَع من الغَرِيب ... انْظرْ إِلى المُهانِ
بادِرْ إِلَىَّ عَطْفاً ... اصْبُبْ لَدَىّ لطْفاً
وامْننْ عَلَىّ كَشْفاً ... فى مَجْلس التَّدانى
نُودِيتُ يا ابْن آدَمْ ... نسيتَ عِلْمَ عالِمْ
يا سيّدى إِلى كَمْ ... من قَهْر لَنْ تَرانى(6/66)
بصيرة فى ذكر هارون عليه السلام
وهارُونُ اسمٌ أَعجمىٌّ غير منصرف، وقيل: مُعَرَّب أَرُون، والأرَنُ: النَّشاطُ، سُمِّىَ به لِنَشاطه بالطَّاعة، ثم قيل: هارون، كما قالوا فى إِيّاك هِيّاك، وفى إِبْرِيّة هِبْرّية.
وقد سمّاه الله تعالى فى التنزيل بعشرة أَسماء تَصرِيحاً وتعريضاً: وَزِيرٌ {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ} ، أَخٌ: {اغفر لِي وَلأَخِي} ، رَسُولٌ: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} مُرْسَلٌ: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} ، نَبِىٌّ: {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ، رِدْءٌ: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} ، أَفْصحُ: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} ، مُصَدِّقٌ: {يُصَدِّقُنِي} ، خَلِيفةٌ: {اخلفني فِي قَوْمِي} .
وهارُون اسْمُه العَلَم، وقد ذكره الله تعالى بهذا الاسم فى مواضع من التنزيل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} ، {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} ، {لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي} ، {هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} ، {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} ، {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ، {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} ، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعلىٍّ رضى الله عنه "يا عَلِىُّ أَنتَ مِنِّى بمنزلة هارُونَ من مُوسَى".(6/67)
وقال الثَّعْلَبِىّ: كان هارُون فصيحَ اللِّسان بَيّنَ الكلام، وكان أَطولَ من مُوسَى وتُوفِّىَ قَبْلَ مُوسَى.
وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم أَنَّ مُوسَى دَفَنَ أَخاه هارونَ عليهما السّلام فى شِعْب أُحُدٍ. أَخرجه الإِمام ابن عَساكر.
وفى حديث الإِسراء من تاريخ دمشق عن أَبى سَعِيدٍ الخُدْرِىّ عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "ثم صعدت إِلى السّماء الخامِسة فإِذا أَنَا بهارون ونِصْف لِحْيَته أَبيض ونِصْفُها أَسْوَدُ، تكاد لحْيَتُه تَضْرِب سُرَّتَه من طُولِها، قلت يا جِبْرائيل من هذا؟ قال: هذا المَحُبَّبُ فى قَوْمِهِ، هذا هارُون بنُ عِمْران". وفى الصّحيحين: "فإِذا بِهارُون فرَحَّب ودَعا لى بخير".(6/68)
بصيرة فى ذكر فرعون
وفِرْعَونُ اسمٌ أَعجمىٌّ ممنوعٌ من الصّرف، والجمع فَراعِنَةٌ كقَياصِرة وأَكاسِرَة / وهو اسمٌ لكلّ من مَلَك مِصْرَ، فإِذا أُضِيفَت إِليها الاسكَنْدرِيّةَ سُمِّىَ عَزِيزاً.
واختلف فى اسمه، فقيل: مُصْعَب بن الولِيد، وقِيل رَيَّانُ بن الوَلِيد، وقيل الوَلِيدُ ابن رَيّان. وكان أَصله من خُراسانَ من مدينة بسورمان، وقيل من قرية مجهولة تسمّى نوشخ. ولما قَعَد على سرير الملك قال: أَين عجائِز نُوشَخ.
وقد صدر منه ما لَمْ يَصْدُر من أَحَدٍ من الكُفَّار والمتمرِّدين، ولا من قائِدهم إِبْليس، منها: إِنكارُ العبوديّة ودَعْوَى الرُّبُوبِيّةِ بقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} ، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إلاه غَيْرِي} ، ومنها: نَكالُ زَوْجَته وقَتْلُها أَشدَّ قِتْلَة بسبب إِيمانها بالله؛ ومنها: جَمْعُ السَحَرة لمُعارَضةِ الأَنْبِياء.
وقد دعاه الله تعالَى فى القرآن بأَسماءٍ تُشْعِر بخِذْلانِهِ وذُلِّهِ وخِزْيه، منها: المُكَذِّب والعاصى: {فَكَذَّبَ وعصى} ، مُدْبِرٌ وساعِى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} ، حاشِرٌ، ومُنادِى: {فَحَشَرَ فنادى} ، مُدَّعِى ومُعْتَدِى: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} ، مُسْتَعْلِى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ} مُفْسِدٌ: {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} ، مُجْرِمٌ: {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} ، مُسْرِفٌ: {وَأَنَّ / المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} ، كَيّادٌ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} ، مَكَّار: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} ، مُتَكَبِّر وجَبَّارٌ: {يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ(6/69)
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، عَدُوٌّ: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ، فِرعَونُ وطاغِى: {إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} .
وقد ذكره الله تعالى باسمه مقرونا بأَنواع فساده:
1- إِلزام الحجّة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ} .
2- إِتيانُ موسى ببيان الحَقِّ له: {يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} .
3- تسميتهم مُوسى بالسّاحِر: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هاذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} .
4- إِصرارُهم على الكُفْرِ وقَسَمُهُم بعزَّته: {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} .
5- فى جَمْعه السَّحَرة للمَكْر والحِيلة: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} .
6- استدعاؤه السّحرة فى حال الخَلْوة: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ} .
7- تهديدُه السَّحرة لَمّا آمنُوا: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} .
8- {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى} .
9- الإِخبارُ بهلاكه ودماره: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} .
10- الإِخبارُ عن كَيْدِ بعد الهرب والهزيمة: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} .
11- الإِخبار عن إِضلاله قومه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ}(6/70)
12- الإِخبار عن مُوافَقَتِه لأَهل الكُفْرِ لشَقاوته: {وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} .
13- الإِخبارُ عن مُجادلته موسى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} .
14- الإِخبارُ عن تَمرُّده وتجبُّره: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} .
15- الإِخبارُ عن كونه فى الخَطأ ليلاً ونَهاراً سِرّاً وجهاراً: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} .
16- الإِخبارُ عن إِظْهار القُدْرةِ بجعْل تَرْبية موسى على يد فِرْعون: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} .
17- الإِخْبارُ عن مُلاطفات آسِيةَ ومساعِيها فى نَجاة مُوسى وسلاَمته: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} .
18- تَشَبُّه كفَّار مكة فى قُبْح سيرتهم بفِرْعَوْن {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} .
19- الإِخبار عن هلاكهم وسُوء عاقِبَتِهم: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} .
20- الإِخبار بأَن يجرى عليهم نظيرُ ما جَرَى على قومِ عادٍ وثمود: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد} إِلى قوله: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} قال:
تَكَبَّر فِرْعَوْنُ القُبَيْطىّ عاتِياً ... فصارَ غَرِيقَ البَحْرِ فى قَعْرِ يَمِّهِ
كما تاه / إِبْليسُ اللَّعِين تَجَبُّراً ... وكانَ وَقوداً للسَّعِير بغَمّه(6/71)
بصيرة فى ذكر هامان
وهو اسمٌ أَعجمىٌّ، وقد تقدّمت نظائره، وكان وزيرَ فِرْعَوْنَ، وأَصله من خراسان من قرية يقال لها بوشنج، وكان قد قَرأَ كتبَ المتقدّمين، وكان له اليَدُ الطُّولَى فى حساب النُّجوم وكان يستدلّ مِنْ طالِعِه على مُجْمَل أَحوالِه وأَحوالِ فِرْعَوْن، فاتَّفقَا وسافرا جميعا من خراسان إِلى أَن بَلَغَ أَمرُهما ما بَلَغ. وذِكْرُ شواهد شَقاوَته وخذْلانه فى مواضِع من الكتاب العزيز، قال الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} ، {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} ، {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ} ، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} إِلى قوله {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} ، {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} ، {ياهامان ابن لِي صَرْحاً} .
يقال: خمسةُ وُزراء ما لَهُمْ سادِسٌ، اثنان مُسْلِمان وثلاثة كُفَّار، امّا المُسْلِمان فهارونُ وزير مُوسَى {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} ، والثَّانى آصِفُ بن بَرْخِيا وَزِيرُ سليمان عليه السّلام. وأَمّا الثلاثة الكَفَرة: فبُزُرْجُمُهْر وزير نُوشروان، وأَرِسْطاطالِيس وزيرُ ذِى القَرْنَيْن، وهامانُ وزيرُ فِرْعَوْن. قال:
مَنْ كان فى وِدادِه خَوّانَا ... فارَق مِنْ فَساده الإِخْوانا
زادَ على عُدْوانه عُدْوانَا ... كأَنَّه مُعاقِلٌ هامانَا(6/72)
بصيرة فى ذكر قارون
وهو اسمٌ عِبْرِىٌّ غير مُنْصَرِف، وقيل مشتقّ من قَرَنَ، فاعُول منه للمُبالَغَة، سُمِّىَ به لأَنَّه قُرِنَ بالمُلْكِ ثم قُرِنَ بالهُلْك. وكان ابنَ عَمِّ موسىَ ومتزوّجا بأُختْهِ، وكان عامِلاً لِفِرْعَوْنَ على بنى إِسرائيل قبل مجِئِ مُوسَى، وكان فى الجَمال على حدِّ الكَمال، بحيث كانوا يُلَقِّبُونه بالمُنَوَّرِ، لأَنّ المجلس كان يُنَوَّرُ بجَمالِه.
وسبب جمعه للمال العظيم اطَّلاعُه على صَنْعَةِ الكِيمِياء، يقال كان يعلم مِنْه ثُلُثَه، وأَخذ ثُلُثاً من هارُونَ وثُلُثاً من أُخْتِ مُوسَى، فكَمُلَ له وكَثُر مالُه حتى صارت مفاتِيح خَزائنه تُحْمَلُ على ثمانِين بَعيراً. قال:
وَعَدْتَنِى وَعْدَكَ حَتَّى إِذا ... أَطْمَعْتَنِى فى كَنْز قارُونْ
جئْتَ من اللَّيْل بغَسَّالَة ... تَغْسِلُ ما قُلْتَ بصابُونْ(6/73)
بصيرة فى ذكر السامرى
وكان رجلاً من بنى إِسرائيل، وكان غريباً بينهم، ويُقال إِنَّه كان من أَهْلِ كَرْمان، وقيل: من باجَرْمَى وكان اسْمُه مِيخا، وقيل مُوسَى بن ظَفَر، وقيل له السّامِرىّ نسبة إِلى قبيلة كبيرة من بنى إِسرائيل اسمها سامِرَة، وكانت صنعتُه الصّياغَة، وصحب قوماً كانوا يَعْبُدون العِجْلَ وكانت مَحَبَّته فى قَلْبِه. ولمّا غَرِق فرعون وخرجت بنو إِسرائيل من البَحْرِ سالِمين مَرُّوا على قَوْمٍ من عَبَدَةِ العِجْل فقالوا لِمُوسَى: {اجعل لَّنَآ إلاها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ومن هُنا طَمع السّامرىّ فى أَنْ يَدْعُوَهم إِلى عِبادة العجل، وتذكّرَ أَنَّ اليوم الَّذى كان جبريل مقدّمة جُنودِ فرعون ليُدْخِلَهم فى البَحرِ، كان على فَرَسِ الحيوان، فرأَى السّامرىُّ طَرَف حافِرِ فَرَسِهِ، فقبض من أَثَرِ وَطْئِه قَبْضَةَ تُراب وجعله فى صُرَّةٍ، وكان معه إِلى اليوم الذى طَرَحَ بنو إِسرائيل ذَهَبَهُمْ وحُلِيَّهم، ووَقَعَت فيها النارُ وذابَتْ، فأَلْقَى السّامِرىُّ تلك التُّربةَ على ذلك الذهبِ الذَّائب وقال: كُنْ عِجْلاً / فصار عِجْلاً جَسَداً له خُوارٌ، وكان ذلك العجْلُ سببَ فِتْنَة بنى إِسرائيل. وفى بعض الآثار النبويَّة: "إِنَّ لِكُلّ أُمَّةٍ فتْنَةً، وإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِى وعِجْلَها المال".(6/74)
وقد ذكر الله تعالَى فى التنزيل ضَلالَ السامِرىّ وإِضْلالَه فقال:
{وَأَضَلَّهُمُ السامري} {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} ، {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} ، {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} .
قال بعضهم:
أَلاَ مَنْ رامَ أَسْبابَ الرِيّاسَةْ ... يُرَى بين الرِيّاسَة والسِّياسَةْ
ومن طَلَب الرِيّاسة مِنْه شَوْقاً ... إِلَيْها يَطْلبُ الرؤُساءُ رَاسَهْ(6/75)
بصيرة فى ذكر الخضر عليه السلام
وفيه لُغَتان: فَتْح الخاء وكَسْر الضَّاد: وكَسْر الخاء وسُكُون الضَّاد، وهو لقبٌ له، واسمه: بَلْيا، بفتح الباء الموحدة وسكون اللام بعدها مثنَّاة تحتيّة، ابن مَلْكان، بفتح الميم وسكون اللاَّم، ابن فالغ بن عابَر بن شالَخ بن ارْفَخْشَذْ بن سامِ بن نُوحٍ. وكان أَبوه من الملوك. واختلفوا فى سبب تلقيبه بالخَضِر، فقال الأَكثرون: لأَنَّه جلس على فَرْوةٍ بيضاء فصارت خضراء، والفروة وجه الأَرض، وقيل الهَشِيم من النَّبات. وقيل لأَنه كان إِذا صلَّى اخْضَرّ ما حولَه. والصّحيح الأَول لما فى الحديث الصحيح من سند البخارى "إِنَّما سمّى الخَضِرُ خَضِراً لأَنَّه جلس على فَرْوَةٍ بيضاء فإِذا هى تهتزّ تَحْتَه خَضْراء"، وهذا نصّ صريح فى سبب تلقيبه. وكنية الخضر: أَبو العبّاس، وهو صاحبُ موسى النبىّ عليه السّلام الذى سأل السبيل إِلى لقائه، وقد أَنبأَ الله عز وجلّ، فى كتابه بقوله {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} ، وأَخبر الله تعالى فى باقى الآيات بتلك العجائب والغرائب. وموسى الَّذى صحبه هو موسى بنى إِسرائيل كَلِيمُ الله تعالى، كما جاء به الحديث المشهور فى صحيحى البخارى ومسلم.
واختلف العلماء فى حياة الخَضِر وفى نبوّته، فقال الأَكثرون: هو حىٌّ موجود بين أَظْهُرِنا، وذلك مُجْمَعٌ عليه عند المشايخ والصّوفية وأَهل الصّلاح والمعرفة، وحكاياتهم فى رويته والاجتماع به والأَخذ منه وسؤاله وجوابه ووجوده فى المواضع الشريفة ومواطن الخير أَكثر من أَن تحصر، وأَشهر من أَن تذكر. قال الشيخ أَبو عَمْرِو بن الصّلاح فى فَتاوِيه: هو حىٌّ عند جَماهِير العلماء والصّالحين والعامّة معهم فى ذلك، وإِنمّا شذَّ بإِنكاره بعض المحدِّثين، قال: هو نبىٌّ، واختُلِف فى كونه مرسلاً. وقال أَبو القاسم القُشَيْرِىُّ(6/76)
فى الرِسّالة: لم يكن الخَضِر نبيّاً وإِنَّما كان وَلِيّاً. وقال قاضى القضاة الماوَرْدِىّ فى تفسيره: "قيل: هو وَلِىٌّ، وقيل: نَبىٌّ، وقيل: من الملائكة، وهذا الثالث غريبٌ ضعيف أَو باطلٌ. وفى صحيح مسلم فى حديث الدَّجَّال أَنَّه يَقتل رَجُلاً ثمّ يُحْييه، قال إِبراهيم بن سُفْيان صاحب مُسْلِم: يقال إِنَّ ذلك الرّجلَ هو الخَضِر. وكذا قال مَعْمَرٌ: إِنَّه يقال إِنَّه الخَضِر.
وقال الثَّعْلَبِىّ: اختلفوا فى أَنّ الخضر كان فى زَمَن إِبراهيم الخليل أَو بعده بقليل أَو بكثير، ثم قال: والخضر على جميع الأَقوال نبىٌّ مُعَمَّرٌ محجوبٌ عن الأَبصار. قال: وقيل إِنَّه لا يمُوتُ إِلاَّ فى آخر الزمان حِينَ يُرْفع القرآن. وقيل: إِنّ الخضرَ على طبع الناس / إِنسىٌّ مَلَكىٌّ، أَرْضِىٌّ سماوىّ، موكَّل على البحارِ لِغْوث الغريق، مستغن عن الطعام والشَّراب، وفى الشريعة والعِبادة موافق لأُمّة النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويعتكف فى شَهر رمضان هو وإِلياس فى الجامع الأَقصى من بيت المقْدِس، ويحضرانِ عرفةَ مع الحاجّ، ويجتمعان فى السّنة مرتين: مرة فى الحج، ومرّة فى أَيّام الاعتكاف.
ولمّا قال لموسى {هاذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} واضطر موسى إِلى المفارقة قال له: يا نبىَّ الله أَوْصِنى. فقال: كن بشَّاشاً ولا تكن غَضّاباً، وكن نافِعاً ولا تكن ضاراً، وانْزِعْ عن اللَّجاجة، ولا تَمْشِ فى غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تُعيِّر الخَطَّائِين بخَطاياهُم، وابْكِ على خطيئتك يا بْن عِمْران. قال بعضهم:
تَعاوَنْ فى التُّقَى والبِّر (م) فى أَوْقات إِمْكان
صدِيقُ الخَيْرِ والصِدِيق عِند الله سِيّان
قَرينُ الشَرِّ بالإِجْماع مِنْ أَقْران هامانِ
[وصديق] الصِّدْق مَقْرُنٌ ... كخِضْر وابن عِمْران(6/77)
بصيرة فى ذكر الياس عليه السلام
وإِلياس اسم أَعجمىّ كسائر أَشكاله، لا مجال للعربية فيه، وإِلْياسِين المذكور فى التَّنزيل إِشارة إِلى إِلْياس وأَتباعه، والَّذى يقرأُ آل ياسين المُراد إِلْياس وأَتْباعه أَيضاً لأَن نسبه: إِلْياس بن ياسِين بن فِنْحاص بن عيْزار بن هارُون بن عِمْران، وقيل: آل ياسِين المراد به آلُ المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكن فيه ضعف من حيث المعنى، فإِنَّه لا مناسبة بينه وبين ما قبله.
وكان إِلْياسُ من أَنبياء بنى إِسرائيل، أرسل إِلى قوم كانوا ببعْلَبَكَّ، وكانوا يعبدون صنماً سمَّوْه بَعْلاً. وبلغ قومُه فى إِيذائه وجفائه الغايةَ، وعاقبهم الله تعالى أَنواعاً من العقوبة، وكانوا يلْجؤون إِلى إِلْياس، فكان يسأَلُ الله لهم العفْو فيأتيهم الفَرجُ بدُعائه إِلى أَن ملّ إِلياسُ من أَذاهُمْ ونَقْضِ عهْدِهم، فتضرّع إِلى الله تعالى وسأَله الخلاص من مُقاساتهِم فأَذِنَ له فى مفارقَتِهم، وسلبه شهوةَ الطَّعام والشراب حتى يطَّبع كطَبْع المَلَك، فصار إِنسيّاً مَلَكِيّاً أَرْضِيّاً سماوِيّاً، شرقيّاً غَرْبِيّاً، برِّيّاً، مثل أَخيه الخَضِر.
وقد دعاه الله تعالى فى القرآن بخمسة أَسماءٍ: مُؤْمِنٌ {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} ، مُحْسِنٌ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} ، إِلْياسِين {سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ} ، إِلْياسٌ ومُرْسَلٌ، {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} . قال:
يا منْ تنزّه عن صِفاتِ النَّاسِ ... يا منْ بلذَّةِ ذِكْرِه اسْتِئْناسِى
ما كُنْتُ للذِّكرَى زماناً ناسِى ... فى ذِكْرِكم قد مِلْتُ نحو الْياسِ(6/78)
بصيرة فى ذكر اليسع عليه السلام
وهو اسمٌ أَعجمىٌّ ممنوعٌ من الصّرف، وقيل عربىّ وزنه لفع وكان فى الأَصل يسْعى، وقيل: وزنه يَعَلُ وكان فى الأَصل يوْسع، وقيل: وزنه فَعَل والياء من أَصل الكلمة. وقيل له يَسَعُ لِسَعَةِ عِلمه، أَو لسعْيه فى طلب الحقّ وطاعته.
ويَسَعُ كان خليفة إِلْياس. ولمّا خرج إِلْياس من بين الناس وركب المركب الَّذى بعثه الله تعالى له كان يَسَعُ معه، فلمّا رأَى المركب ارتفع فى الهواء علم أَنَّه آخر عهده به، فقال: يا إِلْياس بِمَ تأَمرنى؟ وكان معه كساء فطرحه إِليه، فعلم أَنَّه جعله ولىَّ عهده، فاشتغل بدعوة قوم / إِلْياس. وقام بشرائط شرعه.
وذكر الله تعالى الْيسَعَ فى التنزيل مع جملة الأَنْبِياء: {واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار} .(6/79)
بصيرة فى ذكر ذى الكفل
اختُلِفَ فيه، كان نَبيّاً أو وَليّاً، فقيل: كان عبداً صالحاً يَكْفل بَعَملِ عبد صالحٍ، وقيل كان نائبَ نَبىٍّ، ولمّا خرج ذلك النبىّ من بين قَوْمه أَوْصَى إِليه، ووصّاه بقيام اللَّيل وصيام النَّهار، والعدل فى الحكم بالحق بين الأمّة. وقيل: بل كان نبيّاً ونائب نبىّ بأَن يَدْعُوَ الخَلْق إِلى الحقّ ويُعينَهم على الحق، فلما قام بذلك حَقَّ القيام وصَبَر على مُعاناة الخَلْقِ ومُقاساتهم، ذَكره الله تعالى فى جُمْلة المُرْسَلين، وعَدَّه من الأَنبياء الصّابرِين، فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} ، ثمّ ذكره مع الكُمَّل الخيِّرين فقال: {وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار} .(6/80)
بصيرة فى ذكر عزير عليه السلام
وعُزَيْرٌ اسمٌ عبْرانىّ على زِنَة فُعَيْل وليس بتَصْغير شَئْ، بل هكذا موضوعٌ، وفى لغتهم لهذا الاسم اشتقاقات كثيرةٌ نحو: عازَر، وَعَيْزَر، وعَيْزار، وعُزَيْر. وعازُوراء. وكان عُزَيْرٌ من أَنبياء بنى إِسرائيل، وكان فى زمن بُخْتَنصّر فهرَب منه وساح، فمرّ على بيت المقدس وكان بختنصّر قد خرّبه، فتعجّب من خَرابه، وجرى على لسانه أَنّى يُحْيِى هذه الله بَعْدَ مَوْتها، فقبض الله تعالى رُوحَه على سبيل التأدِيب والتَّهْذِيب، وأَحياه بعد مائةِ سنة على ما هو مذكور فى القرآن والقَصَص، ثمّ صارت حياته بعد موته سبباً لضلال قَوْمٍ جُهّالٍ حتى سَمَّوْه ابنَ اللهِ، كما قال تعالى {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} وفى الأَثر: "أَوحى الله تعالى إِلى عُزَيْرٍ إِذا عَصانى مَنْ عَرَفَنِى سَلَّطْت عليه من لا يَعْرِفُنى". قال:
تَأَهَّبْ لِلمَنِيّة وانْوِ خَيْرا ... فلَيْس اللهُ يَأْخُذُ فيكَ غَيْرا
فإِنّ الله يُحْيى كُلَّ شَخْصٍ ... كما أَحْيَا بقُدْرَته عُزَيْرا(6/81)
بصيرة فى ذكر طالوت
وهو اسمٌ أَعجمىّ لُقِّب به، وكان اسمه فى الأَصل سارا وقيل ساوا، فقيل له: طالُوت لطول قامَته. ومعنى طالوت فى اللُّغة العِبْرِية طَوِيلٌ. وكان مَلِكَ بنى إِسرائيل، وكان صفَّى أَشمويل وخاصَّته، وخصّه الله تعالى بزيادة بَسْطة فى العِلْم والجِسْم. وبسببه انتقل تابوت آدمَ الَّذى كان مِيراثَ إِسرائيل وإِسماعيل من العَمالِقة إِلى بَنِى إِسرائيل.
وأَجرى الله تعالَى نهر الأُرْدُنِّ بسبب تجربة قومه وابتلائهم، وأَهلك الله جالوتَ الجبّارَ وثلثمائة وثلاثة عشر نفراً من أَصحابه، وأَعْدَمَهُمْ بالقتل والقهر على يَدَىْ داوُد نُصْرةً لطالوت.
وذكره الله تعالى فى موضعين من كتابه العزيز: قال تعالى {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} ، ثم قال لإِظهار كرامته: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} ، ثم قال بيانا لخاتمة أَمره وأَمرِ المؤمنين ونَصْرهم، وخاتمة أَمرِ أَعدائه من الكافرين وهزيمتهم وقهرهم: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} .(6/82)
بصيرة فى ذكر داود عليه السلام
ودَاوُدُ اسمٌ أَعجمىٌّ ممنوع من الصّرف، وقيل: داوُدُ معناه قصير العمر، وكان داود أَقصر الأَنبياء عُمْراً، وقيل: معناه داوى جُرحَه بوْدّ. وقيل: إِنّما سُمّىَ داود لأَنَّه داوَى الذُّنوب بوُدّه الودود، وقيل داوَى ذَنْبَه ووَدَّ رَبَّه. وهو أَبو سُلَيْمان / داوُد ابن إِيْشا بهمزة مكسورة ومثنَّاة تحتيّة ساكنة بعدها شين معجمة وأَلف. وقد تظاهرت الآيات والأَحاديث الصّحيحة على عِظَم فضل الله تعالى عليه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} وقال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} الآيات، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} . وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ * ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} الآية، وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ، وقال تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآيات، وقال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} وقال تعالى: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق * والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} وقال تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} ، {كُلاًّ هَدَيْنَا} إِلى قوله {دَاوُودَ} ، وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، {إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ} ، {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} . وفى الأثر "إِنّ داودَ كان يقول فى مُناجاته: إِلهى أَتَيْت أَطباء عبادِك لِيُداوُونى(6/83)
وكلُّهم عَلَيْك دَلَّونى". وفى الصّحيحين: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: "أَحَبُّ الصّيام إِلى الله صِيامُ داوُدَ، كان يصوم يوما ويُفْطِرُ يوما، وأَحبُّ الصّلاة إِلى الله صَلاةُ داوُدَ، كان يَنام نصفَ اللَّيْل ويَقُوم ثُلُثَه، وَينام سُدُسَه"، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لأَبى مُوسَى الأَشعرىّ: "لو رَأَيْتَنِى وأَنا أَسْتَمِع قِراءتَك البارِحَة لَقَدْ أُوتيتَ مِزْماراً من مَزامِير آل داوُدَ". وعند البخارىّ قال صَلَّى الله عليه وسلَّم: "خُفَّف على داوُدَ القرآن فكان يأْمُرُ بدوَابِّهِ أَن تُسْرَج فَيقْرَأَه قبل أَن تُسْرَج دَوَابُّهُ، وكان لا يأْكل إِلاَّ من عَمَل يَدَيْه"، المُراد بالقرآن الزَّبور. وعن أَبى الَّدرْداء يرفعه: "كان من دُعاءِ داودَ الَّلهم إِنىّ أَسأَلُكَ حُبَّكَ وحُبَّ مَنْ يُحبّك، والعَمْلَ الَّذى يُبَلِّغنى حُبَّك، الَّلهُمّ اجعل حُبَّكَ أَحَبَّ إِلىّ من نَفْسى وأَهْلِى ومن الماء البارِد". وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إِذا ذَكَر داودَ قال: "كان أَعْبَدَ البَشَر" حسّنه الترمذىّ. وعن الفُضَيْلِ بن عِياض قال: قال داود: إِلهى كنْ لابْنِى سُلَيْمان كما كُنتَ لى، يكن لك كما كنت لك.
قال العلماء: لمّا استُشْهِد طالوتُ أَعطت بنو إِسرائيل داودَ خزائنَ طالوت ومَلَّكوه على أنفسهم، وذلك بعد قتل جالوتَ بسبع سِنين، ولم يجتمِع بنو إِسرائيل [بعد يوشعَ ابن نون] على ملِك إِلاَّ داوُدَ.
قال كعبُ بنُ مُنَبّه. كان داودُ أَحْمَرَ الوَجْه سَبْطَ الرَأْسِ، أَبيضَ الجِسْم، طويل اللِّحية، فيها جعودة، حَسَنَ الصَوت والخَلْق، طاهر القلب. وقال: وممّا أُعْطِىَ من الفضائل والخصائص الزَّبُورُ وحُسْنُ الصّوت، فلم يُعْطَ أَحدٌ مثل صَوْته. وحكى من آثارِ صوتِه أَشياء عجيبة حتَّى إِنّ وحوش الصّحراءِ وطُيُور الهواء وسُكّان الأَرض والسّماء كانوا يَطْرَبُون لسماع صَوْتِه / ويَتَلَذَّذُون بِحُسْنِ أَلْحانِهِ؛ ومنها تَسْخِير الجِبال والطَّير للتَّسبيح(6/84)
معه، ومنها الحِكْمَةُ وفَصْلُ الخطاب، قيل: معرفة الأَحكام وإِيقانُها وتسهيلها، وقيل: بيانُ الكلام، وقيل: قوله أمّا بعد، وقيل: الشُّهودُ والأَيمْان؛ ومنها السّلسلة المشهورة؛ ومنها القُوَّة فى العِبادة والمُجاهَدَة؛ ومنها قوّةُ المُلْكِ وتمكينه؛ ومنها قُوّة بَدَنِه وشجاعةُ قلبه؛ ومنها إِلانَةُ الحديد، ومنها صَنْعَةُ الَّلبُوس الباقى إِلى يوم القيامة تُجاهِدُون بهِ الغُزاة فى سبيل الله.
قال أَهل التاريخ: كان عُمْرُ داودَ مائةَ سنة، مُدّة ملكه منها أَربعون سنة. صلوات الله على نبيِّنا وعليه. قال بعضهم:
الله رازقُنا بالفَضْلِ والجُودِ ... فاسْتَغْنِ فى جُودِهِ عن كلّ مَوْجُودِ
نحن العبيد سِراعٌ فى عِبادَتِه ... بلا اعْتِراض على تقْدِير مَعْبُودِ
فاطلب مَبَرَّتَه وامْدُدْ مَوَدَّتَه ... وانْظُر إِلى عَبْده ذِى الأَيْدِ دَاوُد(6/85)
بصيرة فى ذكر سليمان عليه السلام
وسليمانُ اسمٌ أَعجمىّ غير منصرف، وقيل مشتقٌّ من السَّلامة، سمّى به لاستسلام أَعدائه له، ولسلامته من غوائلهم. وفى بعض الأَخبار أَنَّ النمل قال: أَتدرى لمَ سُمِّيت سليمان؟ قال: لا. قال: معناه يا سُلَيْم آنَ لَكَ أَنْ تَتُوبَ. وكان فى الأَصل يا سليم فَخُفِّفَ.
ودعاه الله عزَّ وجلّ فى التنزيل بأَحدَ عَشَر اسماً تصريحاً وتعريضاً: مُفَضَّلٌ {الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} ، مُعَلّم {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} ، ضاحِكٌ {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} ، شاكِرٌ {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} ، صالح {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} ، ناظِر {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ} ، مَلِك {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} ، مُتَفَقِّد {وَتَفَقَّدَ الطير} ، حاكِمٌ {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، فَهِيمٌ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ، عَبْدٌ وأَوّابٌ {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، مُنِيبٌ {ثُمَّ أَنَابَ} ، مَوْهوبٌ وسُلَيْمان {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} .
وذكره الله تعالى فى التَّنْزيل فى خمسةَ عَشَر موضعا باسمه، غير المكرّر: {كُلاًّ هَدَيْنَا} إِلى قوله: {وَسُلَيْمَانَ} ، {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} ، {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} ، {وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} ، {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} ، {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ(6/86)
جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس} ، {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} ، {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمان الرحيم} ، {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} ، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} ، {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} ، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} ، {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} .
قال الثَّعْلبىّ وورث سليمانُ داودَ أَى نُبُوَّتَه وعِلْمَه وحكمته دون سائر أَولاد داود. قال: وكان لداود اثنَا عشرَ ابنا. وكان سليمان ملك الشام إِلى اصْطَخْر، وقيل: ملك الأَرض. وقد رُوِى عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: مَلَكَ الأَرضَ مُؤْمنان سليمانُ وذو القَرْنَيْن، وكافران نُمْروذ وبُخْتَنَصَّر.
وقال كعبٌ وابن منبّه: كان سليكان أَبيضَ جسيما وسيما وَضَّاءً جميلا خاشعاً متواضعاً، يلبس الثبابَ البيض، ويُجالِس المساكينَ ويقول: مِسْكِينٌ جالسَ مِسْكِيناً، وكان أَبوه يشاورُه فى كثير من أُموره مع صِغَرِ سِنَّهِ لوفور عَقْلِه وعلمه.
ولمّا ملك سليمان / كان كثير الغَزْو والجِهاد لا يكاد يتركه، فتَحْمِلُه الريحُ هو وعسكره ودوابّهم حيث أَراد، وتَمُرّ به وبعسكره الريح على المزرعة فلا يتحرَّكُ الزرعُ.
قال محمّد بن كعب القرظىّ: بلغنا أَنّ معسكر سليمان كان مائة فرسخ، خمسة وعشرون للإِنس، ومثلها للجنّ، ومثلها للطَّير، ومثلها للوحش.
قال: وقال أَهل التاريخ وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة؛ وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وابتدأَ بناء بيت المقدس بعد ابتداء ملكه بأَربع سنين.(6/87)
قال بعضهم:
أعْطَى سُلَيْمَانَ فى دُنْياه مَمْلَكَةً ... لَمْ يُعْطِ قَطُّ كما أَعْطاه إِنْسانا
طَيْرٌ بأَجنحةٍ ظلَّت مِظَلَّته ... رِيحٌ رُخاءٌ أَتَتْه حَيْثُ ما كانَا
آتاه من كلّ شئ ما يُلائمه ... حَتَّى لِمَنْطِق طيرٍ زادَ تِبيانا
فصار يَنْصُره يوماً ويَذْكُره ... لَيْلاً ويَشْكُره قَلْباً وقُرْبانا
أَفْدِيه من مَلِك أَقوالُه حِكَمٌ ... والله قال: "فَفَهَّمْنا سُليْمانا"(6/88)
بصيرة فى ذكر ذى القرنين
وذو القَرْنَيْن كُنْيَته وإِنَّما اسمه اسكندر بن فِيلَفُوس، وقيل له ذو القرنين لأَنه ملَكَ قرنين، وقيل لأَنَّه وصل طَرَفَى العالَم، وقيل لأَنَّه كان على جانبَىْ جَنينه طمس وقيل لأَنَّه كان فى رأْسه ذؤابتان من الشعر، وقيل لأَنه جمع بين مُلْكَيْن: ملك الدُّنيا ومُلْكَ الآخرة، وقيل لفضله مع الأَولياء، وعدله مع الأَعداء، وقيل لأَنه ضربوا رأْسه حين دَعا إِلى الله. وكان مَلِكاً فى صورة إِنسان وسِيرَة مَلَك، وكان عالِماً عامِلاً عادلاً حكيماً عاقلاً مؤيّداً مُلْهَماً من الحقّ، صائبَ الرأْى واقفاً على أَسرار الطِّلِّسْمات، مشرفاً على دقائِق الأُمور، والنُّور والظُّلْمة تحت طاعته، ناصِحاً للرّعيّة، فاضحاً للفَجَرة وأَهل المعصية. وذهب بعض النَّاس إِلى أَنَّه كان مَلِكاً وكان نبيّاً، سار من الشرق إِلى الغرب، ومن الجنوب إِلى الشمال وبَنَى السدَّ فى وجوه يأْجُوج ومأْجوج لمصلحةٍ كلِّيَّة، ونفعها باق إِلى آخر الزمان.
وقد دعاه الله تعالى فى التنزيل بثلاثة أَسماء: مُمَكَّنٌ {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} ، مُعانٌ {فَأَعِينُونِي} ، بالِغٌ {بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} وذكره فى ثلاثة مواضع بكُنيته فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} ، {قُلْنَا ياذا القرنين} ، {قَالُواْ ياذا القرنين} آتاه الله المُلْكَ والمَلَكيّة فقال {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قال بعضهم:
يا ذاهِلَ الذِهْنِ كَلِيلَ العَيْنِ ... بادرْ فَدَنْياك مدارَ البَيْن
انْظُر بعَيْنَيْك إِلى هذَيْن ... فى المُلْكِ سُليمانَ وذى القَرْنَيْن(6/89)
بصيرة فى ذكر لقمان عليه السلام
اتفقوا على أَنه اسمٌ أَعجمىّ ممنوع من الصّرف، قيل عِبْرانىّ، وقيل سُرْيانىّ. قيل هو عادٌ من قوم هُودٍ الذى سأَلَ اللهَ تعالى طولَ العُمْر فاستجاب دُعاءه وعُمِّر ثلاثة آلاف وخمسمائة نسة إِلى أَن أَدْرَك سُلَيْمانَ، وكان له من الحِكَمِ والتجارب ما لم يكن لأَحد. قال وَهْبُ بن منبّه: خُيِّر لُقمانُ بَيْنَ الحِكمة والنبوّة فاختار الحِكْمَة على النبوّة، كأَنه استعظم احتمال أَعباء النبوّة. وقيل لم يكن هذا لقمان عاد، بل كان عبداً أَسْوَدَ أَطاع الله تعالى وأَطاع مالِكَه فارتضاه الله تعالى ورَزقه الحِكْمَة. ومن الدّليل على علوّ قدْره ورِفْعة شأْنه أَنّ الله تعالى ذكر مواعِظه فى أَشرف الكُتب السماويّة الذى هو القرآن، ونقلها / على لسان أَشرف الرّسل إِلى أَشرف الأُمم، وذكر اسمه فى موضعَيْن من التنزيل قال، تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} ، الثانى عند ذكر مَواعِظه {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} ، {يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} ، {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} ، {واقصد فِي مَشْيِكَ} .
قال الثعلبىّ: كان لقمان مَمْلُوكاً، وكان أَهْوَنَ ممولكِى سَيّدِهِ عليه، وأَوّل ما ظهر من حِكْمته أَنَّه كان مع مولاه فدخل مولاه الخَلاء فأَطالَ الجُلوسَ فناداه لُقْمان: إِنَّ طُولَ الجلوس على الخَلاءِ يَضُرّ بالكَبِد ويُورِث الباسور، ويصَعِّد الحرارة إِلى الرأْس، فاجلس هُوَيْنا وقم، فخرج مولاه وكتب حكمته على باب الخَلاء. ورُوِىَ أَنَّه حبشيّاً نجَّاراً.
وقال أَبو هريرة: مرّ رجل بلُقْمان والنَّاس مجتمعون عليه فقال: أَلَسْتَ العَبْدَ الأَسْود الذى كنتَ ترعَى بموضع كذا؟ قال: بلى. قال: فما بَلَغ بك ما أَرَى؟ قال: صِدْقُ الحديث، وأَداءُ الأَمانة، وتَرْكُ ما لا يَعْنِينى.(6/90)
ويُرْوَى عن لقمانَ أَنَّه قال: ضَرْبُ الوالِدِ [وَلَدَهُ] كالسّماد للزَّرع.
وقال لابنه: من يُقارِنْ قَرِينَ السّوء لا يَسْلَمْ، ومن لا يَمْلِكْ لِسانَه يَنْدَم. يا بنىّ كُنْ عبداً للأَخيار [ولا تكن خَليلاً للأَشْرار] . با بنىّ كن أَمينا تكن غنيّاً، جالِس العُلَماء وزاحِمْهم برُكْبَتَيْك، خُذْ مِنْهم والْطُفْ بهم فى السُّؤال ولا تُضْجِرْهم. إِنْ تأَدَّبْتَ صغيراً انْتَفَعْت به كبيراً، كن لأَصْحابِك مُوافقاً فى غير مُعْصِيَة، ولا تَحْقِرَنّ من الأُمور صِغارَه، فإِنّ الصّغار غداً تصير كِباراً. إِيّاك وسوء الخُلق والضَّجَرَ وقِلَّة الصّبر. إِنْ أَردت غِنَى الدُّنيا فاقطع طَمَعَك ممّا فى أَيْدِى النَّاس.
قال بعضهم:
لقمان أُلْقِمَ حِكمةً مَحْكِيَّةً ... عَنْهُ إِلى يومِ القيامة فى الأُمَمْ
اللهُ فى القرآن عَظَّمَ شَأْنَه ... ويَقُول [قد] آتيْتُ لُقْمانَ الحِكَمْ(6/91)
بصيرة فى ذكر زكريا عليه السلام
وزَكَرِيّا اسمٌ أَعجمىٌّ يُقْصَر ويُمدّ وقرئَ بهما فى السَّبْع. ويقال زَكَرِيا بتخفيف الياء وتشديدها، وزَكَرٌ كَقَلمٍ، خمس لغات.
أَرسله الله تعالى إِلى بنى إِسرائيل، وكان عالماً بالتوراة والإِنجيل، وكان إِمامَ علماء بيت المقدس ومُقدّمهم، وكان فى تلاميذه أَربعة آلاف عالم قارئ التوراة، وقد استجاب الله دعاءه فى حصول ولده يحيى بعد أَن كان زكريا عقيماً وزوجته آيساً عاقراً. ودعاه الله فى التَّنزيل بأحَدَ عَشَر اسْماً: كَفِيلٌ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ، داعٍ {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ، منادِى {إِذْ نادى رَبَّهُ} ، مُنادَى {فَنَادَتْهُ الملائكة} ، قائم ومُصَلِّى {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي} ، مُبَشَّر {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} ، مُسْتجابُ الدّعوة {فاستجبنا لَهُ} ، مُسارِعٌ فى الخَيْر {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} ، راغبٌ وراهبٌ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، خاشِعٌ {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} ، ذاكِرٌ {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً} ، مُسَبّح {وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} ، عَبْدٌ وزكريّا {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} .(6/92)
وذكره باسمه فقال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} ، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا} ، {وَزَكَرِيَّا ويحيى} إِلى قوله: {مِّنَ الصالحين} ، {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ} ، {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} ، {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} .
وثبت فى صحيح مسلم أَنّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "كان زكريّا نَجّاراً" وهذه من الفضائل لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "أَفْضَلُ ما أَكَلَ الرَّجلُ مِنْ عَمَلِ يَدِه".
/وذكر المؤرخون أَنّ زكريّا كان من ذرّيّة سلمان بن داود عليهم السّلام، وقُتِلَ زكريّا، بعد قتل ابنه يحْيى صلواتُ الله وسلامه عليهما.
قال [بعضهم] :
قال النبىُّ المُسْتجاب دُعاؤه ... ما كُنْتُ رَبّى بالدُّعاء شَقِيَّا
هب لِى بفَضْلك وارِثاً متَعبِّداً ... واجْعَلْه يا ربَّ العِباد رَضِيّا
فأَجاب دَعْوَتَه وأَنْجَزَ وَعْدَه ... بفَتاهُ أَعْنِى عَبْدَهُ زَكريّا(6/93)
بصيرة فى ذكر يحيى عليه السلام
ويَحْيىَ اسمٌ على زنة يَفْعل مشتق من الحَياة، وأُطلق عليه هذا الاسم لأَنه [جاء] فى حال شيخوخة الوالدين، وغالبا لا يطول عمر من كان كذلك، فوهبه الله هذا الاسم اطمئناناً لقلبهما وشرحاً لصدرهما أَنَّه يَحْيَا كبيراً، وأَنَّه وُلِدَ حَىَّ القلب بالمَحَبَّة، حىَّ الجسم بالطاعة، حَىَّ اللِّسان بالذِّكْر، حىّ السِرِّ بالمعرفة، معصوماً من الزَّلَّة.
وقد دعاه الله تعالى بخمسة عشر اسْماً فى التنزيل، طيّب: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ، مُصَدِّقٌ {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} ، وسيّد وحَصورٌ ونَبِىٌّ وصالِحٌ قال، {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين} هِبَةُ الله {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ، وَلىٌّ {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} ، وارثٌ {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ، رَضِىٌّ {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} غُلام {نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} ، زَكِىٌّ {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} ، تَقِىٌّ {وَكَانَ تَقِيّاً} قوىٌّ {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} ، حَكَمٌ صَبىٌّ {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} ، بارٌّ {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} . وذكره باسمه يَحْيَى فى مواضع منها: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} ، {نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} ، {وَزَكَرِيَّا ويحيى} ، {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ، {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} .
قال المفسّرون أَوّل من آمَن بعيسى يَحْيَى. وقُتِل يَحْيَى قبل أَبيه زكريّا، وثبت فى(6/94)
الصّحيحين أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ثم عُرِجَ بى إِلى السَّماءِ الثانية فاستَفْتَح جبريلُ ففُتح لنا، وإِذا أَنا بابْنَى الخالَة عِيسَى بن مَرْيَم ويَحْيَى بن زكريّا، فرحَّبا ودَعَوا لى بخير". وفى مسند أَبى يَعْلَى الموصلىّ بسند عن ابن عبّاس أَنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما أَحدٌ من وَلَدِ آدَمَ إِلاَّ قد أَخطأَ أَوْ هَمَّ بخطيئة، ليس يَحْيَى بن زكريا" فى سنده علىّ بن زيد بن جُدْعان وهو ضعيف، ويوسف بن مهران وهو مُخْتَلَفٌ فيه.
قال الثعلبىّ كان مولد يحيى قبل مولد عيسى بستَّة أَشهر. وقال الكلبىّ: كان زكرّيا يوم بُشِّرَ بالوَلَد ابن ثنتين وتسعين سنة، وقيل تسع وتسعين سنة، وعن ابن عبّاس: كان ابن عشرين ومائة، وكانت امرأَته بنتَ ثمانٍ وتسعين سنة.
قال كعب الأَحْبار: وكان يحيى حَسَنَ الصورة والوَجْه، ليِّن الجَناحِ، قليل الشَّعَر، قصير الأَصابع، طويلَ الأَنف، مقرون الحاجبين، رقيق الصّوت، كثير العبادة، قويّاً فى طاعة الله تعالى، وساد النَّاس فى عبادة الله تعالى وطاعته. وقالوا فى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} قيل إِنَّ يحيى قال له أَتْرَابُهُ من الصبيان اذهب بنا نلعب، فقال: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْتُ. وقيل إِنَّه نُبِّئَ صغيراً، وكان يعظ الناسَ ويقف لهم فى أَعْيادهم ومجامعهم ويدعوهم إِلى الله تعالى، ثمّ ساح يدعو الناسَ.
واتفقوا على أَنَّه / قُتِل ظُلْما شهيداً. وغضب الله على قاتليه وسَلَّط عليهم بختنصر وجيوشَه، وكان وعد الله مَفْعولاً. قال بعضهم:
أَلاّ طَهِّرْ فؤادكَ واقضِ سَعياً ... وعارضْ بالنُّهَى أَمراً ونَهْياً
طَوَى كَشْحاً عن الكَوْنَينِ طُرّاً ... نَبِىُّ الله فى مَوْتٍ ومَحْيَا
حياةٌ كله حَيّاً ومَيْتاً ... لِذاكَ اللهُ سَمّاهُ بيَحْيَى(6/95)
بصيرة فى ذكر هود عليه السلام
وهو هُودُ بن عابَر بن شالَخ بن فالغ بن ارْفَخْشَذْ بن سام بن نُوح. قيل اسمٌ أَعجمىٌّ كنوح ولُوط ممنوع من الصّرف، وأَكثرون على أَنَّه عربىّ من هَادَ إِذا رَجَع، فهو هائدٌ والجمع هُودٌ. وهود أَيضا اسم جِنْسٍ لليَهُود. وأُضيفت سورة هود إِليه لاشتمالها على خطاب الله تعالى إِيّاه بقوله: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} .
وقد دعاه الله تعالى فى نصّ التنزيل باثنى عَشر اسْماً منها: مُرْسَلٌ {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} ، رَسُولٌ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، ناصِحٌ وأَمِينٌ {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} ، مُبَلِّغ {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} ، رَجُلٌ {جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ} ، مُنْذِرٌ {لِيُنذِرَكُمْ} ، أَخٌ {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} ، واعِظُ {أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} ، نَاجِى {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} ، مُتَوكّل {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} ، بَرِئٌ {أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} .
وذكره تعالى باسمه هود فى مواضع من القرآن أَيضاً فقال: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} ، وأَكَّدَ أُخوَّته بقوله: {واذكر أَخَا عَادٍ} ، {ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} {نَجَّيْنَا هُوداً} ، {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ، {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} ، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ}(6/96)
وكان عليه السّلام من أَشْبَه الناس بآدَمَ بعد نبيّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم. وأَهلك اللهُ بدعائه قومَه بالرِّيح، ووسم سُورَةً من القرآن باسمه. قال بعضهم:
أَهُزْءاً بالمواعِظِ والوَصايا ... أَرَدّاً للشَّواهِدِ والشُّهود
إِلى كَم ذا المُرُون على المُرودِ ... وكَمْ مِنْكَ الخيانة فى العُهُودِ
قديماً قِيل فى مَثَلٍ أَجيدُوا ... بَضَرْبِ الكلب تأْديبَ اليَهُود
فما أَجْداك قَوْلُ الله رَدْعاً ... "أَلاّ بُعْداً لِعاد قَوْم هُودِ"(6/97)
بصيرة فى ذكر عاد
وهو اسمٌ عربىٌّ لأَن العادِين كانوا يتكلَّمون بلغة العرب، مشتقٌّ من العُدوان والاعتداء. وأَصله عادِى مثل قاضى. وعادٌ كان أَبا هذا القَوْم، وكان من أَحفاد نُوح عليه السّلام، وهو عادُ بن عَوْص بن إِرَم بنِ سامِ بن نُوحٍ، وسَمَّوْه عادِيا وقومَه عادين؛ لاعتدائهم وتجاوزهم مُدَّة الحياة، الثانى فى زيادة القهر والقوة؛ الثالث فى زِيادة المال والنِّعمة؛ الرابع فى زيادة المُلْكِ والمَكِنَةِ، الخامس فى زِيادَة القَدِّ والقامَة، السّادس فى زيادة الفَساد والمَعْصِيَة.
قال ابن عبّاس كان طول أَطولهم مائة ذِراعٍ، وطول أَقصرهم متّين ذراعاً.
وقد ذكرهم الله تعالى فى القرآن فى مواضع: قال تعالى {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} وقال تعالى {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} إِلى قوله {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} ، {وَعَادٍ وَثَمُودَ} {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ، {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} ، {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} ، {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ} ، {وَأَنَّهُ / أَهْلَكَ عَاداً الأولى} ، {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد} .
قال بعض المحدثين:
دَعا لَوْمِى فَلَوْمُكما مُعادُ ... ومَوْتُ العاشِقِين له مَعادُ
فلو قَتَلَ الهَوَى أَهلَ التَّصابىِ ... لمَا ماتُوا ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا
فَمَوْلانا أَرانَا فى عِداه ... نَكالاً حِين سِيمَ الخَسْفَ عاد(6/98)
بصيرة فى ذكر صالح عليه السلام
وصالح اسم علَم عربىّ. وهو أَوّل من سُمِّىَ بهذا الاسم. قال الثعلبى: هو صالح بن عبيد ابن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود بن عَوْص بن إِرَم بن سام بن نُوح. قال أَبو عمرو بن العلاء: سُمِّيت ثَمُود لقلة مائها. والثَّمَدُ: الماءُ القليل.
وكانت مساكن ثَمُود الحِجْر بين الحِجاز والشام، وكانوا عَرَباً، وكان صالحٌ عليه السّلام من أَفضلهم نَسَباً، فبعثه الله إِليهم رسولاً وهو شابّ، فدعاهم إِلى أَنْ شَمِطَ ولم يتَّبعه منهم إِلاَّ قليل مستضعَفون. ولمّا طال دعاؤه إِيّاهم اقترحوا أَن تَخْرُجَ له النَّاقةُ من الحَجَرِ آية، وكان من أَمرها وأَمرهم ما ذكره الله عزّ وجلّ فى كتابه، وكان عَقْر النَّاقة يَوْم الأَربعاء.
وانتقل صالحٌ بعد هلاك قومه إِلى الشام بمن أَسْلَم معه، فنزلوا رَمْلَة فِلَسْطِين، ثم انتقل إِلى مَكَّة، فتوفِّىَ صالحٌ بها، وهو ابن ثمانٍ وخمسين سنة، وكان أَقام فى [قومه] عشرين سنة وقيل صار بقيّة المؤمنين من قوم صالح بمدينة جَابَلْص من ناحية المشرق، وبقية المؤمنين من قوم هود بمدينة جَابَلْق من ناحية المغرب. والعامة تلحن وتقول: جابَلْقا وجابَلْصا. وعُرِضَ القَوْمان على النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليلة المعراج، فدعاهم إِلى دِينه وشَريعته فآمنوا به وصاروا من أُمّته، وسيدخلون يوم القيامة فى شفاعته.
ودَعا الله تعالى صالحاً فى القرآن بعشرة أَسماء: مُرْسَلٌ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} رَسولٌ وأَمِينٌ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} ، أَخٌ {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} ، مُبَلِّغ {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} ، صادِقٌ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}(6/99)
ناجِى {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} ، بَشَرٌ وواحد {فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} ناصِح {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} ، صالِحٌ {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} ، وقال تعالى {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} ، {يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} ، {نَجَّيْنَا صَالِحاً} {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} إِلى قوله: {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} .
قال [بعضهم] :
يَعِيبُك قَومٌ حين لُقِّيْتَ صالِحا ... ولاَمك قَوْمٌ حين سُمِّيت طالِحَا
لَقِيتَ البَلايا إِنْ عُدِدْتَ محارِباً ... وجُرْتَ العَطايا إِن أَتَيْت مُصالحا
أَلَمْ يُنْجِيَنَّ الله بيت نبيّه ... وأَرْدَى ثَمُوداً حين كَذَّبَ صالِحا(6/100)
بصيرة فى ذكر ثمود
وهم قومُ صالح، وقد قدّمنا أَنَّهم سُمُّوا بهذا الاسم لقلَّة مائهم. والثَّمَدُ: الماء القليلُ، وكانوا سَبْعَمائة قبيلة، كُلّ قبيلة لها عددٌ لا يحصيه إِلاَّ الله تعالى، وكان لهم بئرٌ واحدة بوادِى القُرَى من ديار الحِجْر، قال تعالى {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} ، وقال تعالى {جَابُواْ الصخر بالواد} . وكانوا من القوّة والمَهارة والحَذاقة بحدٍّ يَبْنُون من الصَّخْر الأَصمّ والجَبل الراسى بَيْتاً عظيماً مَنْحُوتاً. وهم كانوا أَيضاً شَعْباً من عاد قوم هُود، وهم الَّذين قيل لهم عادٌ / الأُولَى. وقيل لثَمُودَ عادٌ الأخْرَى.
ولمّا دعاهم صالح إِلى الله طلبوا منه المعجزة، فقالوا عَيِّنُوا لى ما شئتم. فقالوا: على سبيل الاستهزاء أَخْرِج لنا ناقةً من هذا الحجر. فأَوحى الله إِليه إِنَّا قد خلقنا ناقةً فى قلب هذه الصَّخْرة منذ أَربعة آلافِ سنةٍ، وقد ضاق صَدْرها وضاق مكانُها، فادع الله بخلاصها من هذا المَضيق، فدَعاه تعالى فانشقت الصّخرةُ من ساعته، وخرجت ناقةٌ ونُتِجَت فى الحال. ولم يترك القوم تَمَرُّدَهم وتكذيبهم فأَشْرَكها الله معهم فى الماء، وظنُّوا أَنَّها تضيّق عليهم فقصدوها وعقروها، وكان سببَ دَمارهم وخرابَ ديارهم. فذكرهم الله عزَّ وجلّ فى مواضع من القرآن. وقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} ، وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} ، وقال: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} ، وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، وقال: {وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ *(6/101)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} ، وقال: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} وقال: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} ، وقال: {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} .
قال بعضهم:
أَإِخْوانِى إِلى الرّحمان عُودُوا ... يَنَلْكُم من كَرامَتِه السُّعودُ
ومَنْ يَعْصى الإِله به اغْتِراراً ... لَهُ فى القَبْرِ من نارٍ مُهُودُ
يُقالُ له عَدا من كُلّ خَيْر ... أَلاّ بُعْداً كما بَعدَتْ ثَمُودُ(6/102)
بصيرة فى ذكر ابليس
وهو اسمٌ أَعجمىّ ممنوعٌ من الصّرف. وقيل عربىّ واشتِقاقُهُ من الإِبْلاس؛ لأَنَّ الله تعالى أَبْلَسَه من رَحْمته، وآيسه من مغفرته. قال ابن الأَنبارىّ: لا يجوز أَن يكون مُشْتَقّاً من أَبْلَس لأَنه لو كان مشتقاً لصُرِف، قال أبو إِسحاق: فلمّا لم يُصرَف دلّ على أَنَّه أَعْجَمِىٌّ. قال: ابن جَرير: لم يُصْرَف وإِن كان عربيّاً لقلَّة نظيره فى كلامهم فشبّهوه بالأَعجمىّ. وقال الواحدىّ: الاختيار أَنه ليس بمشتق لاجتماع النحويين على أَنَّه يُمْنع من الصرف للعُجْمَة والعَلَمِيّة.
واختلفوا هل هو من الملائكة أَم لا، فرُوِىَ عن طاوُس ومُجاهد عن ابن عبّاس أَنَّه من الملائكة. وكان اسمه عزازيل فلمّا عَصَى اللهَ تعالَى لَعَنَه وجعله شَيطاناً مريداً، وسَمّاه إِبْليسَ وبهذا قال ابنُ مسعودٍ وسعيدُ بن المُسَيِّب وقتادةُ، وابن جُرَيْج وابنُ جَرِير، واختاره ابن الأَنبارىّ والزّجّاج، قال: وهو مستثنىً من جنس المشتثنَى منه، قالوا: وقولُ الله تعالى: {كَانَ مِنَ الجن} أَى طائفة من الملائكة يقال لهم الجنّ. وقال الحسنُ وعبد الرحمن ابن زيد ومسهر، وابن حَوْشَب: ما كان من الملائكة قط، والاستثناء منقطع، والمعنى عندهم أَنَّ الملائكةَ وإِبليسَ أُمِرُوا بالسُّجود فأطاعت الملائكةُ وعصى إِبْليس. والصَّحيح أَنَّه كان من الملائكة لأَنَّه لم يُنْقَل أَنَّ غيرَ الملائكة أُمِرَ بالسُّجود، والأَصل فى المستثنى أَن يكون من جنس المستثنى منه. وعن ابن عبّاس رضى الله عنهما أَنَّ الله تعالى أَمَرَ إِبْليس أَن يأَتِىَ محمّداً صلى الله عليه وسلَّم فى صُورَة إِنسان ويجيبه عن كلّ ما سأَل. قال: فجاء اللَّعين(6/103)
إِلى باب المسجد وعليه لباسٌ من صُوف وبيده عكَّازه مثل شيخ كبير، / فنظره النَّبى صلَّى الله عليه وسلَّم فأَنْكَرَه إِذ لم يسلِّم عليه، فقال عليه السّلام ما أَنت يا شيخ؟ فقال: أَنا إِبْليس أَمرنى الله تعالَى أَنْ أُجيبَك عن كلّ ما تسأَل، فسَلْ ما تريد. فقال صلى الله عليه وسلَّم: كَمْ أَعداؤكَ من أُمَّتِى؟ قال: خمسة عشر، وأَنت رأْسهم وأَوّلهم، والإِمام العادل، والغنىُّ المتواضعُ، والتَّاجر الصَّدُوق، والعالم المتخشع، والمؤمن النَّاصح، والمؤمن الرّحيمُ القلب، والمتورّع عن الحرام، والمُدِيمُ على الطَّهارة، والَّذى يؤدّى حَقَّ مالِه، والمؤمن السّخىّ، والمؤمن الكثير الصّدقة، وحامل القرآن، والقائم بالليل، والقائم على التَّوبة! قال: فكم رُفَقاؤك من أُمّتى؟ قال: عشرة: السّلطان الجائر، والغَنِىُّ المتكبّر، والتاجر الخائن، وشارب الخمر، وصاحب الزِّنَى، وصاحب الرِّبا، والقَتَّال، وآكلُ أَموال اليتامى، ومانعُ الزكاة، والطويل الأَمَل، هؤلاء خواصِّى. قال: كيف موضع صلاة أُمّتى منك؟ قال: تأْخذنى الحُمَّى! قال فموضع خَوْضِهم فى العلم؟ قال: أَذُوب كما يذوب الرّصاص! قال: فالصوم؟ قال: أَصير أَعْمَى. قال: فقراءة القرآن؟ قال: أَصير أَصَمّ! قال: الحج؟ قال: إِذاً قَيَّدُونى. قال: الجهاد؟ قال: يجمع يداى إِلى عُنُقى بالغُلّ. قال: الصَّدقة؟ قال: مِنْشارٌ يُوضَع على رأْسى فأُقطع نصفين نصف إِلى المشرق ونصف إِلى المغرب. قال: فَلِم ذاك يالعين؟ قال لأَنَّ لهم فى الصّدقة ثَلاثَ خِصال. يكون الله غريماً لهم، وأَن يكونوا من وَرَثة أَهلِ الجَنَّة. وعُصِمُوا منى أَربعين يوماً، وأَىّ مصيبة أَعظم من ذلك! فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ أَبْغَضُ الخلقِ إِليك؟ فقال: العالِمُ النَّاصح لنفسه ولأَئمة المسلمين. فقال: مَنْ أَحَبُّهم إِليك؟ فقال: العالِم البخيل بعِلْمه، الشحيحُ بِدرْهَمِه. فقال: كم لك من الأَعوان؟ فقال: أَكثر من قَطْر المَطَر ووَرَق الأَشجار، ورَمْل القِفار. فقال صلَّى الله عليه وسلم: اللهم اعْصِمْ أُمَّتِى. قال: فولَّى اللَّعينُ هارباً.
وقد دعاه الله تعالى فى القرآن العظيم بسبعين اسماً قَبِيحاً.
الأَوّل: الشَّيطان {كَمَثَلِ الشيطان} ، وَوَسْواس وخَنَّاس {مِن شَرِّ الوسواس الخناس}(6/104)
مُوَسْوِسٌ {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} ، رَجِيمٌ {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ، عَدُوٌّ {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} ، فاتِنٌ {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} ، مُضِلٌّ {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ} ، مُزَيِّنٌ {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان} ، كَيّاد {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} ، خادِعٌ {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ، كاذِبٌ كَفَّار {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، خَتَّارٌ وكَفُورٌ {كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ، هامِزٌ {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} حاضِرٌ {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} ، مُغْو {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، غَاوِى {لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} ، جِنٌّ {كَانَ مِنَ الجن} ، آبى ومُسْتَكْبر {أبى واستكبر} ، مُزلٌّ {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} ، لَعِينٌ {عَلَيْكَ اللعنة} ، مُنْظَرٌ {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} ، مُمَنِّى {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} ، آمِرٌ {وَلأَمُرَنَّهُمْ} ، وَلِىّ الكَفَرَة {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} ، واعِدٌ بالفَقْر {الشيطان يَعِدُكُمُ / الفقر} ، مَرِيدٌ {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} ، مارِدٌ {مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} ، مَقْذُوفٌ مَدْحُورٌ {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً} ، خاطِفٌ: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} ، مَرْجُومٌ {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ}(6/105)
، دَاعِى {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ} ، باطِلٌ، {والذين آمَنُواْ بالباطل} ، نازِعٌ {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} ، نازِغٌ {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} ، ماسٌّ وطائف {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} ، مُتَخَبِّطٌ {يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} ، مُخْلِفٌ {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} ، مُتَفَحِّشٌ {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} ؛ كافِرٌ {وَكَانَ مِنَ الكافرين} ، مَذْءُومٌ {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً} ، خَذُولٌ {وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} ، مَلُومٌ {فَلاَ تَلُومُونِي} ، سَفِيهٌ {يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} ، أَسْفَل {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} ، بئس القرين {فَبِئْسَ القرين} ، بَدَلٌ للظَّالمين {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، بَرِئٌ {إِنِّي برياء مِّنكَ} ، رَائى {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} ، رجْزٌ {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} ، خالِدٌ فى النار {خَالِدِينَ فِيهَا} ، عفْرِيتٌ {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن} ، فاسِقٌ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ، مُسْتَحْوذٌ {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} ، مُسْتَرِقٌ {إِلاَّ مَنِ استرق السمع} . مُنْسِى {فَأَنْسَاهُ الشيطان} ، {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} ، مُسَوِّلٌ ومُمْلِى {سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ} ، مُدَلِىّ {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} ، مُقْسِمٌ {وَقَاسَمَهُمَآ} ، مُلْقِى {أَلْقَى الشيطان(6/106)
في أُمْنِيَّتِهِ} ، مُبْدِى {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} ، مُبِينٌ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، مُحْتَنكٌ {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} ، مُشارِكٌ {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} ، مُسْتَفْزِرٌ {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} ، جالِبُ الشَرّ {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ} ، نارِىٌّ {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} ، خارجٌ {فاخرج مِنْهَا} ، مُخْرِجٌ {أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ} ، خَبِيثٌ {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} . قيل: البلد الطَّيِّبُ آدم، والَّذِى خَبُثَ إِبْليس. قال:
عَجِبْت مِنْ إِبْلِيسَ فى خُبْثِه ... وقُبْح ما أَظْهَر من طِيَّتِه
تاهَ على آدَمَ فى سَجْدَةٍ ... وصار قَوّاداً لِذُرِّيَّتِهِ
وذكره الله عزّ وجلّ باسمه المخبر عن إِبلاسه، المنبى عن حرمانه ويأْسه فى مواضع من كتابه العزيز. قال {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر} ، وقال تعالى على طريق إِلزام الحجّة وقَهرٍ ممزوج بلطيفة اللُّطْف {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} ، ثم جعله مُقَدَّم أَهل الفساد والمعصية، قال {اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} ، الآية. فقام المتمرّد فى معرض المناظَرة مع ربّ الأَرباب، وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، فقال الربُّ مراغماً لعدُوّه ومحابياً لأَوليائه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ، ثم جعله مخْدُوعَ المهْلَة بقوله {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} ، ونبَّه آدم وأَولاده بشدّة عداوته لهم فقال {إِنَّ هاذا عَدُوٌّ لَّكَ(6/107)
وَلِزَوْجِكَ} ، وقال {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} ، ثم وسمه بوسْم اللَّعْنَة الأَبديّة فقال {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} ، وبشَّره بخُلود النَّار ومنْ تبعه من سائر الشياطين فقال {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} .
قال بعض المحدثين:
وجاوَرَنا عدُوٌّ ليس ينْسَى ... لَعِينٌ ما يمُوت فَنَسْتَريحُ
فيالَهَفِى على قَلبِى وخَضْمِى ... لَئِيمٌ يسْتَعِدُّ ويسْتَبيحُ(6/108)
بصيرة فى ذكر مريم عليها السلام
ومرْيمُ اسمٌ أَعجمىٌّ غير منصرف للعجمة والعلمية والتأْنيث. وقيل: معناه بالعِبْرانىّ خادمةُ الله، وقيل /: أَمةٌ الله. وقيل: معناه المُحرَّرة. وشَذَّ بعضُهم فقال: عربىٌ معناه مَرَتْ ورامتْ، أَى حلَبتْ وطَلَبت، أَى استخرجت طاعة الله وطلبت مرضاة الله. وقيل: إِشارة إِلى أَنَّها مرّت على يمِّ الطَّاعة مرور السّفينة والحوت باليمّ.
ومن فضائلها: إِتيانُ الملَكِ بفاكهة الجنَّة لأَجْلها، ونَيْلُها فى الشتاء فاكهة الصّيف؛ وتكليمُ الملائكة لها، وإِتيانُ جبريل إِليها، ووِلادتُها لِعيسى رُوحِ الله وكَلِمته من غير مَسِّ الّرجال؛ وبيان براءتها على لسان الطِّفل الرَّيع، وتساقط الرُّطَب الجنِىِّ عليها من النَّخل اليابس، وإِجراء النَّهر السَّرِىّ من تحت قدمها، وتفضيلها على نساء العالَمين، وتطهيرُها من الحيْض والعيْب والعصيان، وتَكْفيلُها لزكريا شيخ الأَنبياء، وقبول الحقّ تعالى إِيّاها بالإنعام والإحسان، وتربيتها بفُنون الإكرام والامْتنان، وتكرار ذكرها بالمدح فى نصّ القرآن.
ودعاها الله باثنى عشر اسماً منبئةً بفضلها أَتمّ البيان، دعاها بالمُحرَّر {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} ، ومُصْطَفاة {إِنَّ الله اصطفاك} ، ومُطَهَّرَة {وَطَهَّرَكِ} ، وقانتَة {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} ، وساجدة وراكعة {واسجدي واركعي} ، ومُحصَنَة {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} ، وآية {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} ، وأُمُّ وصدّيقة {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ، ووالدَةٌ {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} ، ومَرْيَمُ وبِنْت عِمْران {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ}(6/109)
وذكرها باسمها فى مواضع من القرآن {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} ، {يامريم أنى لَكِ هاذا} ، {يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ} ، {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} ، {يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} ، {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ} ، {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} ، {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} ، {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ، {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} .
أُنشدنا لبعضهم:
تَوَكَّلْ على الرَّحْمان فى كُلّ حالَة ... ولا تَتْرُكِ الخَلاَّقَ فى كَثْرة الطَّلَبْ
أَلَمْ تَر أَنَّ الله قال لِمَريَمٍ ... وهُزّى إِليكِ الجِذْعَ تَسَّاقَطِ الرُّطَبْ
ولو شاء أَنْ تَجْنِيه مِن غَير هَزّها ... جَنتْهُ ولكن كُلُّ أَمْرٍ له سَبَبْ(6/110)
بصيرة فى ذكر عيسى عليه السلام
وعيسى اسمٌ أعجمىٌّ غير منصرف للعجمة والعلميّة. وقيل: اشتقاقه من العَيَس وهو البَياضُ، والأَعْيَسُ: الجَمَلُ الأَبيض، وجمعه عِيسٌ. قيل له عِيسَى لِبَياضِ لَونه، وقيل من العَوْس وهو السّياسة، وأَصله عِوْساً قلبت الواو ياءً لكسرة ما قبلها، وقالوا عِيسا لأَنَّه ساسَ نفسه بالطَّاعة، وقَلْبَه بالمحبّة، وأُمَّته بالدّعوة إِلى ربّ العزَّة.
وقد دعاه الله تعالى فى القرآن بخمسة وعشرين اسماً دالاًّ على مَدْحه وفضله، منها: مُؤَيَّدٌ {وَأَيَّدْنَاهُ} ، مَسِيحٌ {اسمه المسيح} ، رُوحُ الله {وَرُوحٌ مِّنْهُ} ، كَلِمَة {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} ، وَجِيهٌ {وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين} ، صالِحٌ {وَمِنَ الصالحين} ، وَلَدٌ {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} ؛ غُلامٌ وزَكِىٌّ {لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} ، مُعَلَّم {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} ، رَسُول {وَرَسُولاً} ، مُبَشِّرٌ {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي} ، مُنَبِّئ {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ} ، مُصَدِّقٌ {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ، آيَةٌ {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ، مُحَلِّلٌ {وَلأُحِلَّ لَكُم} ، مَرْفوعٌ {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ، مُطَهّر {وَمُطَهِّرُكَ} ، سَرِىٌّ {تَحْتَكِ سَرِيّاً} ،(6/111)
قُرَّة عَيْن {وَقَرِّي عَيْناً} ، صَبِىٌّ / {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} ، عَبْدٌ {عَبْدُ الله} ، نَبِىٌّ {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} ، مُبارَكٌ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} ، وصِىٌّ {وَأَوْصَانِي بالصلاة} ، بارٌّ {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} ، عِلْمٌ {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} ، بفتح العَينْ وكَسْرها، وقرئ بالوجهين.
وذكره تعالى باسمه فى مواضع منها قوله تعالى {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين * وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين} ، وقال تعالى {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} ، وقال الله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحق مِن رَّبِّكَ} ، وقال تعالى {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} إِلى قوله {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} ، وقال تعالى {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} ، وقال تعالى {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} وقوله {وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى} ، {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} ، {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات} ، {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلاهين} ، {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} ، وثبت فى الصّحيحين عن أَبى هريرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ما مِنْ(6/112)
بنى آدَمَ من مولود لا يَمَسُّه الشيطانُ حين وُلِدَ فَيَسْتَهِلُّ صِارخاً من مَسّه إِيّاه إِلاَّ مَرْيَم وابْنَها"، وروياه من طرق بأَلفاظ متقاربة، ثم يقول أَبو هريرة: اقرءُوا إِن شئتم {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} ، وعنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: "أَنا أَوْلَى الناسِ بابْنِ مَرْيَمَ فى الدّنيا والآخرة، ليس بينى وبينه نبىّ، الأَنْبِياءُ إِخْوَة، أَبْناءُ عَلاَّت أُمَّهاتهم شَتَّى ودِينُهم واحد" رواه الشيخان فى الصّحيحين. وَرَوَيا أَيضا فى حديث الإِسراء عن أَنس أَن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأَى فى السّماء الثَّانية ابْنَىِ الخالَة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريّا" وفى الصّحيحين عن أَبى هريرة أَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم حِينَ أُسْرِىَ به قال "لَقِيتُ عيسى فإِذا ربْعة أَحْمر كأَنَّما خرج من ديماس" يعنى حمَّاماً. وفى الصحيحين عنه عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "رأَى عيسى بن مريم رجُلاً يسرق فقال له: أَسرقْت؟ قال كّلا والَّذى لا إِله إِلاَّ هو. فقال عيسى: آمنت بالله وكَذَّبْت عينى" وفى الصّحيحين عنه عن النبىّ صلى الله عليه وسلَّم قال "ليُوشِكَنَّ أَنْ ينْزِل فيكم ابن مرْيم حَكَما عدْلاً فيكسر الصّلِيب ويقْتل الخنْزِير، ويضَع الجِزْية، ويفيض المال حتى لا يقبله أَحدٌ حتَّى تكون السَّجْدة الواحدة خيراً من الدُّنيا وما فيها" ثم يقول أَبو هريرة: واقْرءُوا إِن شئتم {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} وفى الصّحيحين عن عبادة بن الصّامت عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال "من شهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأَنّ محمّداً عبدُه ورسوله، وأَن عيسى عبدُ الله ورسُوله وكَلمته أَلقاها إِلى مرْيم ورُوحٌ منه، والجنَّة حقٌّ والنار حقٌّ أَدخله الله الجنَّة على ما كان من العمل"، / وفي صحيح مسلم أَنّ رسول الله صلَّى الله عليه(6/113)
وسلَّم قال: "ينزل عيسى من مرْيم على المنارة البيْضاء شَرْقىَّ دمشْق".
وقال إِسحاق الثعلبى: اختلف العلماء فى مدّة حمل مريم بعيسى بن مريم، فقيل: سبعة أَشهر، وقيل: ثمانية، وقيل: ستَّة، وقيل: ساعة، وقيل: ثلاث ساعات، ووضعته عند الزوال وهى بنت عشر سنين، وكانت حاضت قبله حيضتين، وقيل: بل كانت بنت خمس عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة، وأَنَّه كلَّم الناس وهو ابن أَربعين يوماً، ولم يتكلَّم بعدها حتى بلغ زمن كلام الصبيان.
وكان صلَّى الله عليه وسلَّم زاهداً لم يتَّخذ بيتاً ولا متاعاً، وكان قوته يوماً بيوم، وكان سيّاحا فى الأَرض، وكان يمشى على الماء ويُبْرِئُ الأَكْمه والأَبرص ويُحْيِ الموتَى بإِذن الله، ويُخْبرهم بما يأْكلون ويدَّخرون فى بيوتهم، وكان له الحواريّون الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه، وكانوا أَثْنَىْ عشر رجلاً، وكانوا أَصفياءه وأَنصاره ووزراءه، قيل كانوا أَوّلاً صيّادين، وقيل قصّارين، وقيل ملاَّحين.
وممّا أَكرمه الله به تأْييده بُروح القُدُس، قال الله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} قيل: هو الرّوح الذى نفخ فيه، وقيل جِبْرِيل كان يأْتيه ويسير معه، وقيل: هو اسم الله الأَعظم، وبه كان يُحْيِى الموْتى ويُرِى النَّاس العجائب، ومنها علَّمهُ التوراةَ والإِنْجِيل وكان يقْرؤهما حفظا. ومنها أَنَّه يخْلق من الطِّين كهيْئة الطَّيْر فَيْنفخ فيه فيكون طيراً بإِذن الله. قال الثعلبى: قالوا إِنَّما يخلق الخفَّاش خاصَّة لأَنه أَكمل الطَيْر خلْقَةً، له ثَدْىٌ وأَسنان ويَلدُ ويَحيض ويَطير. قال: وقال وهب بن مُنَبّه: كان يطيرُ حتى يغيب عن النَّاس ثم يقع ميّتا ليتميّز خَلْقُ الله من فعْل غيره. ومنها إِبْراؤه الأَكْمه والأَبرص - والأَكمه: الذى وُلد أَعمى - وإِنَّما خصّ هذين لأَنَّه لا يُرْجَى زوالهما، ولا حيلة للمخلوقين فيها، وكان زمنَ الأَطبّاء وظهرت بهما معجزته. ومنها إِحياؤه الموتىَ، قالوا فأَحْيا جماعةً منهم(6/114)
العازر أَحياه بعد موته ودفنه بثلاثة أَيّام، فقام وعاش مدّة ووُلد له ولد. ومنهم بنْت العاشر، أَحياها وولَدتْ بعد ذلك؛ ومنهم سامُ بن نوح وعُزَيْر وقِصصُهم مشهورة، ومنها إِخباره بالمغيِّبات، قال الله عزَّ وجلّ إِخباراً عنه {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ومنها مشيُه على الماء، ومنها نزول المائدة عليه من السّماء، ومنها رفْعُه إِلى السّماء. وقد ثبت فى الصّحيحين أَنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "ينْزِل عيسى بن مريم من السَّماء ويقْتل الدَّجَّال بباب لُدّ"، وأَحاديثه فى قصّة الدجّال مشهورة فى الصّحيح. وينزل عيسى حَكَماً عدْلاً رسُولاً، وإِنَّما يُصلِّى وراء الإِمام منَّا تَكْرِمة الله لهذه الأُمة. وجاء أَنه يتزوّج بعد نزوله ويُولَد له، ويُدْفن عند النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال بعضهم:
هذا ابْن مرْيم فى مجال الجاه ... فى عِزِّه مُتكاملٌ مُتناهى
فى مهْده للأُمّ أَوْحى شاهداً ... مُتَكَلِّماً بأَوامرٍ ونَواهى
فالطِّين فى يده كهيْئة طائرٍ ... يرْمى بها طَيْراً يطير كما هى
والأَكْمهُ المكْفوف عند دُعائه ... عيْناه تُبْصرُ والبصيرَ يُضاهى
/أبْرى من ابْرصَ ما يشين جمالَه ... لَيْس الطبيب بما يليه يُباهى
كم ميّت متفتِّت فى قبره ... أَحْيا بإِذن الله رُوحُ الله
ولنجعل هذا آخر ما تيسّر من الكلام على لطائف التنزيل العزيز. وإِيراد المعانى الجّمة فى اللَّفظ الوجِيز. وقد وفق الله تعالى لإِكماله وإِتمامه، بمنَّة وجُوده وأَفضاله وإِنعامه فى أَسرع زمان، وأَقرب مدّة الإِمكان. والحمد لله ربّ العالمين على فضله الموفور. وقبوله منَّا عفو خاطرنا المبرور، وصلاته وسلامه على سيّد المرسلين. وخاتم النبيّين، وحبيب ربّ العالمين. وعلى آله وعترته الطاهرين الطيِّبين. وأَصحابه السّادة الغرّ المحجَّلين. وعلى من تعلَّق بحبّهم وتبعهم بإِحسان إِلى يوم الدّين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(6/115)